يُختم بالمسك أَى يصبع فليس بشئ لأَنَّ الشَّراب يجب أَن يطيب فى نفسه. فأَمّا ختمه بالطِّيب فليس ممّا يفيده ولا ينفعه طيب خاتمه ما لم يطب فى نفسه. وقال المتنبىّ.
أَروح وقد ختمتُ على فؤادى ... فليس يحلُّها أَحد سواها
وقال آخر:
لا يكتم السّرّ إِلاَّ كُلُّ ذى كرم ... والسرُّ عند كرام الناس مكتوم
والسِرُّ عندى فى بيت له غلَقٌ ... قد ضاع مفتاحُه والبابُ مختوم(2/528)
بصيرة فى الخداع
وهو إِنزال الغير عمّا هو بِصَدَده بأَمر يبديه على خلاف ما يخفيه.
والخداع ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: خداع الكفار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأَن يعقدوا معه عهداً فى الظَّاهر وينقضوه فى الباطن {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} .
الثَّانى: خداع اليهود مع أَهل الإِيمان يصالحونهم فى الظَّاهر ويتهيّئون لحربهم فى الباطن {يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} .
الثالث: خداع المنافقين مع المؤمنين بإِظهار الإِيمان وإِبطان الكفر {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله} .
الرّابع: خداع الله الكفَّار والمنافقينَ بإِسبال النِّعمة عليهم فى الدّنيا. وادّخار أَنواع العقوبة لهم فى العُقْبَى {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وقيل فى قوله تعالى: {يُخَادِعُون اللهَ} أَى يخادعون رسول الله وأَولياءَه. ونُسب ذلك إِلى الله من حيث إِنَّ معاملة الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كمعاملته، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وجُعل ذلك خداعاً تفظيعاً لفعلهم، وتنبيهاً على عظم الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم وعظم أَوليائه.(2/529)
وقول أَهل اللُّغة إِنَّ هذا على حذف المضاف وإِقامة المضاف إِليه مُقامه فيجب أَن يعلم أَنَّ المقصود بمثله فى الحذف لا يحصل لو أَتى بالمضاف المحذوف لِمَا ذكرنا من التنبيه على أَمرين:
أَحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحرّوه من الخديعة، وأَنَّهم بمخادعتهم إِيّاه يخادعون الله.
والثانى: التنبيه على عظم المقصود بالخداع وأَنَّ معاملته كمعاملة الله. وقوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} قيل: معناه: مجازيهم بالخداع.
وخَدَع الضبُّ أَى استتر فى جُحره. واستعمال ذلك فى الضبّ لِمَا اعتقدوا فى الضبّ أَنَّه يُعِدّ عقرباً تلدغ من يُدخل يده فى جُحْرِه حتَّى قيل: العقرب بوّاب الضَّبِّ وحاجبُه. ولاعتقاد الخديعة فيه قيل: أَخدع من ضبّ. وطريق خادع وخَيْدَعٌ: مُضِلّ كأَنَّه يخدع سالكه. وقيل: المؤمن يُخدع عن درهمه ولا يُخدع عن دينه، والمنافق يُخدع عن دينه ولا يُخدع عن درهمه. وفى الحديث "إِنَّ بين يدى السّاعة سنين خَدَّاعة" قيل معناه أَنَّ النَّاس فيها خُدّاع. وقيل: من قولهم سنة خادعة إِذا مضت سريعة، أَى سنون تمرّ سريعة لقربها من القيامة، ولغفلة النَّاس فيها عن مرور الأَيّام.
قال:
أَلا إِنَّ دنياك مثل الوديعه ... جميعُ أَمانيك فيها خديعهْ
فلا تغتررْ بالَّذى نِلْته ... فما هى إِلاَّ سراب بِقِيعهْ(2/530)
وقول الشَّاعر:
أَبيضَ اللَّون لذيذا طعمه ... طيِّبَ الرّيق إِذا الرّيقُ خَدَع
أَى فسد، أَى خفى طِيبُه.
بصيرة فى الخدن والخذل والخرور
الخِدْن والخَدِين: الصّاحب المُحَدِّث. ومن يخادنك فى كلّ أَمر ظاهرٍ وباطن. وأَكثر ما يستعمل الخِدْن فيمن يصاحب بشهوة. قال {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} .
الخَذْل ترك النُّصرة. خَذَله خَذْلاً وخِذْلاناً: ترك نُصْرته وكان يَظنّ به أَن ينصره. لذلك قيل خَذَلت الظَّبْية وغيرها إِذا تخلَّفت عن صواحبها أَو تخلَّفت فلم تَلْحَق، وتخاذلت رجلاه: ضعفتا.
والخُرُور: السّقوط. خرّ الرجل يَخُرّ بالضمّ خَرّاً وخُروراً: سقط. وخرّ الماء يخِرّ بالكسر خَرِيراً إِذا صَوّت. والخرير يقال لصوت الماءِ والرّيح وغير ذلك ممّا يسقط من علوٍّ.
وقوله تعالى: {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فيه تنبيه على اجتماع أَمرين: السّقوط من علوٍّ، وحصول الصّوت بالتسبيح. وقوله من بعد: {وَسَبَّحُوا بحَمْدِ رَبِّهِمْ} تنبيهٌ على أَنَّ ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا بشئ آخر.(2/531)
بصيرة فى الخرب والخروج
خَرِب المكانُ خراباً ضِدّ عَمَر. وقد أَخربه غيره وخَرَّبه. قال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} فتخريبهم بأَيديهم إِنما كان لئلا تبقى للنَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأَصحابه، وقيل: بل بإِجلائهم عنها.
والخروج: البُرُوز. يقال: خرج إِذا برز من مقرّه وحاله، سواء كان مقرّه دارا أَو بلدا أَو ثوبا، وسواءٌ كان حاله حالاً فى نفسه أَو فى أَسبابه الخارجة. والإِخراج أَكثر ما يقال فى الأَعيان. ويقال فى التكوين الَّذى هو من فعل الله تعالى نحو {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى} والتخريج أَكثر ما يقال فى العلوم والصّناعات. وقيل لِمَا يخرج من الأَرض ومن كراءِ الحيوان ونحو ذلك: خَرْج وخَرَاج. قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} فإِضافته إِلى الله تنبيه أَنَّه هو الذى أَلزمه وأَوجبه. والخَرْج أَعمّ من الخراج. وجُعِل الخَرْج بإِزاءِ الدَّخْل. والخَرَاج مختصّ فى الغالب بالضَّريبة على الأَرض. وقيل: العبد يؤدّى خَرْجه أَى غَلَّته، والرّعِيَّةُ تؤدّى إِلى الأَمير الخَرَاج. وقيل: الخراج بالضَّمان، أَى(2/532)
ما يخرجُ من مال البائع فهو بإِزاءِ ما سقط عنه من الضمان. والخارجىّ: الذى يَخْرج بذاته عن أَحوال أقرانه. والخوارج سُمّوا به لكونهم خارجين عن طاعة الإِمام.
بصيرة فى الخرص والخرق
الخَرْص: حَرْزُ الثمرة، والاسم الخِرْص بالكسر. والخَرْصُ أَيضاً: الكذب وكلّ قول قيل بالظَّنّ. والخِرص - بالكسر - بمعنى المخروص كالنِّقْض بمعنى المنقوض.
وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} قيل: معناه يكذبون. وقوله تعالى: {قُتِلَ الخراصون} قيل: لُعن الكذَّابون. وحقيقة ذلك أَنَّ كُلَّ قول عن ظنٍّ وتخمين يقال له خَرْص، سواءٌ كان ذلك مطابقاً للشئ أَو مخالفاً له، من حيث إِنَّ صاحبه لم يقُله عن علمٍ ولا غلبة ظن ولا سماعٍ، بل اعتَمَد فيه على الظنّ والتخمين كفعل الخارص فى خَرْصه. وكلُّ من قال قولاً على هذا النَّحو يسمّى كاذباً وإِن كان مطابقاً للقول المخبَر به(2/533)
كما حكى عن المنافقين فى قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} إِلى قوله {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .
والخَرْق: قطع الشَّئ على سبيل الفساد من غير تفكّر ولا تدبّر. وهو ضدّ الخَلْق فإِنَّ الخلق هو فعل الشئ بتقدير ورِفق، والخَرْق بغير تقدير. قال تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَى حكموا بذلك على سبيل الخَرْق. وباعتبار القطع قيل: خَرْق الثوب وتخريقه.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} فيه قولان: أَحدهما لن تقطع، والآخر لن تَنْقُب الأَرض إِلى الجانب الآخر اعتباراً بالخرق فى الأُذن، وباعتبار ترك التقدير قيل: رجل أَخرق وخَرِق وامرأَة خرقاءُ. وشُبّه بها الرّيح فى تعسّف مرورها فقيل: رِيح خرقاءُ. وفى الحديث "ما كان الخُرْق فى شئ قَطّ إِلاَّ شانه، وما كان الرّفق فى شئ قطٍّ إِلاَّ زانه".(2/534)
بصيرة فى الخزن والخزى
الخَزْن: حفظ الشَّئ فى الخِزَانة، ثمّ يعبّر به عن كلِّ حِفظٍ كحِفظ السِّرِّ ونحوه.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} إِشارة منه إِلى قدرته تعالى على ما يريد إِيجاده، أَو إِلى الحالة الَّتى أَشار إِليها بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم "فرغ ربّكم من الخَلْق والخُلُق والأَجَلِ والرّزق" وقوله تعالى: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} قيل معناه: حافظين له بالشُّكر، وقيل: هو إِشارة إِلى ما أَنبَأَ عنه قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ. أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} . والخَزَنة جمع الخازن. وقوله تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} أَى مَقْدوراته الَّتى مُنِعَ النَّاسُ عنها، لأَنَّ الخَزْن ضرب فى المنع. وقيل: جوده الوسيعُ وقدرته. وقيل هو قوله: كن. والخَزْن فى اللَّحم: الادّخار فكُنى به عن نَتْنِهِ.
الخِزْى: الانكسارُ من الوقوع فى بَلِيّةٍ وشُهْرة. وقد خزِىَ كرضى خِزْياً - بالكسر - وخَزىً، واخْزَوَى: بمعناهُ. وأَخزاه الله: فَضَحَهُ. والخَزْية والخِزْية(2/535)
بالفتح والكسر: البلية. وقيل الخِزْى: انكسار يلحق الإِنسان إِمّا من نفسه وإِمَّا من غيره. فالَّذى يلحقه من نفسه هو الحياءُ المفرِط ومصدره الخَزاية، ورجل خَزْيان وامرأَة خَزْيا. وفى الحديث: "اللَّهمّ احشُرنا غير خَزَايَا ولا نادمين" والَّذى يلحقه من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخِزْى ورجل خَز. وأَخْزَى يقال من الخَزَاية والخِزْى جميعاً.
وقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ} هو من الخِزْى أَقربُ، وإِن جاز أَن يكون منهما جميعاً. وقوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} فمن الخِزاية. ويجوز أَن يكون من الخِزْى. وقوله تعالى: {إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} أَى قتل وإِهلاك لهم. قوله: {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي} أَى العذاب {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} من عذابه. وقوله تعالى: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين} أَى الرّدّ والطَّرد. {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي} أَى الطَّرد. وقوله: {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أَى لا تفضحون. {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} أَى نفتضح. {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي} أَى لا يهينه. {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} أَى لا تُهِنَّا. ومنه: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} وقوله {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} .(2/536)
بصيرة فى الخسر
والخُسْر والخُسْران فى البيع: انتقاص رأْس المال، خَسِر يَخْسَرُ خسْراً بالضمّ، وخُسُرا بضمَّتين، وخَسَراً بالتَّحريك وخَسَارا وخسارة وخَسْراً - بفتحهنّ - وخُسْرَاناً.
وقوله تعالى: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أَى خَسِرت أَعمالها، وقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} أَى لفى عقوبة بذنوبه، قاله الفراءُ. وقرأَ الأَعرج وعيسى بن عُمَر وأَبو بكر بن عيّاش {لَفِى خُسُر} بضمّتين. وفيه لغة شاذَّة: خَسَر يَخْسِر مثال ضرب يضرب. ومنه قراءَة الحسن البصرىّ {وَلاَ تَخْسِرُواْ الميزان} وقرأَ بلال بن أَبى بُرْدة {ولا تَخْسَروا} بفتح التاءِ والسّين.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً} قال الأَخفش: واحِدهم الأَخسر مثل الأَكثر، وقوله {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} لأَنه خسر سعيُهم فى جمعهم الحَطب.
والخسران ينسب إِلى الإِنسان فيقال: خسِر فلان، وإِلى الفعل فيقال: خسِرت تجارتُه. ويستعمل ذلك فى المقتنيات النَّفسيّة كالصّحّة والسّلامة(2/537)
والعقل والإِيمان والثَّواب. وهو الَّذى جعله الله الخسرانَ المبين. وقوله: {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} يجوز أَن يكون إِشارة إِلى تحرّى العدالة فى الوزن وترك الحَيْف فيما يتعاطاه من الوزن، ويجوز أَن يكون إِشارة إِلى تعاطى مالا يكون ميزانه فى القيامة خاسراً فيكون ممّن قال فيه {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} وكلا المعنيين يتلازمان. وكلّ خسران ذكره الله تعالى فى القرآن فهو على هذا المعنى الأَخير دون الخسران المتعلِّق بالمقتنيات الدّنيويّة والتجارات الماليّة.
وقيل: ورد الخاسر فى القرآن على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى العجز والعاجز {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} أَى لعاجزون.
الثَّانى: بمعنى الغَبْن والخاسر المغبون {إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} أَى غَبَنُوها.
الثالث الخسران بمعنى: الضلالة {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} أَى ضلّ {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} أَى فى ضلال.
الرّابع: بمعنى نقصان الكيل والميزان {ولا تُخْسِروا الميزَانَ} {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَى ينقصون.(2/538)
الخامس بمعنى: ضِدّ الربْح {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولائك هُمُ الخاسرون} .
السّادس بمعنى: العقوبة {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أَى عقوبة {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} أَى من الباقين فى العقوبة.
السّابع بمعنى: الهلاك {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} أَى الهالكين {ذلك هُوَ الخسران المبين} اى الهلاك البيِّن قال:
إِذا لم يُكنْ لامْرِئ نِعْمَةٌ ... لدىّ ولا بَيْنَنَا آصِرَهْ
وَلاَ لِىَ فى وُدّهِ حاصل ... ولا نَفْعُ دنْيا ولا آخره
وأَفْنَيْتُ عُمْرِى على بَابِه ... فتلك إِذاً صَفْقَةٌ خاسره(2/539)
بصيرة فى الخسف والخسأ والخشب
قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} وقرأَ حَفْص ويعقوب وسهم قوله تعالى: {لَخَسَفَ بِنَا} والباقون {لخُسِفَ بنا} من خَسَف المكانُ يخسِف خُسوفاً أَى ذهب فى الأَرض، وخسف الله به الأَرض اى غيّبه فيها. وخسوف العين: ذهابها فى الرأْس، وخسوف القمر: كسوفه. وقال ثعلب كسفت الشمس وخسَف القمر، هذا أَجود الكلام. وقال أَبو حَاتم إِذا ذهب بعضها فهو الكسوف، وإِذا ذهب كلُّها فهو الخسوف. والخسف: النقصان.
والخَسءُ الزجر مع استهانة، خَسَأت الكلب فخسأَ أَى زجرته مستهيناً به فانزجر.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} شُبّهوا بذلك لقلَّة غَنَائهم.(2/540)
بصيرة فى الخشع
والخشوع والاختشاع: الخضوع. وقيل: قريب من الخضوع. وقيل: الخضوع فى البدن والخشوع فى الصوت والبصر. والخشوع: السّكون والتذلُّل والضراعة والسّكوت. وقيل: أَكثر ما يستعمل فيما يوجد فى الجوارح، والضَّراعة أَكثر ما يُستعمل فيما يوجد فى القلب. ورُوى: إِذا ضَرَع القلبُ خشع الجوارح.
وقوله تعالى: {تَرَى الأرض خَاشِعَةً} كناية عنها وتنبيها على تزعزُعها. وقوله تعالى: {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} أَى خائفين منَّا. وقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} أَى المتواضعين. وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أَى ذليلة. وقوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} و {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أَى مُطْرِقة فى نظرها.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} قال ابن مسعود: ما كان بين إِسلامنا وبين أَن عاتبنا الله بهذه الآية إِلاَّ أَربع سنين. وقال ابن عباس: إِن الله استبطأَ قلوبَ المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاثَ عشرة من نزول القرآن. وقال تعالى:(2/541)
{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون. الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمان} أَى سكنتْ وذلت وخضعت. ورأَى النبىُّ صلّى الله عليه وسلَّم رجلاً يَعْبَثُ بلحيته فى الصّلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" وكان بعض الصّحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النِّفاق فقيل: ما خشوع النفاق؟ فقال: أن يرى البدن خاشعاً والقلب غير خاشعٍ. وقال حذيفة: أوّل ما تفقدون من دينكم الخشوعُ، ويوشك أَن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً. وقال سهل: مَنْ خشع قلبه لم يقرُبْ منه الشيطان. قال عبد الله بن المعمار:
رقة فى الجَنَان فيها حياءٌ ... فيهما هَيْبَةٌ وذاك خشوعُ
ليس حال ولا مقام وإِنْ فا ... ضَتْ عليه من العيونِ دموع
وقيل: الخشوع الاستسلام للحُكْمين، أَعنى الحكم الدّينىّ الشَّرعىّ فيكون معناه عدم معارضته برأى أو غيره، والحُكْم القَدَرِىّ وهو عدم تلقِّيه بالتسخُّط والكراهة والاعتراض؛ والاتِّضاعُ أعنى اتِّضاع القلب والجوارح وانكسارَها لنظر الرّبّ إِليها واطِّلاعِه على تفاصيل ما فى القلب والجوارح. فخوف العبد فى هذا المقام يوجب خشوع القلب لا محالة. وكلَّما كان أَشدّ استحضاراً له كان أَشدّ خشوعاً. وإِنَّما يفارق القلبَ الخشوعُ إِذا غفل عن اطِّلاع الله تعالى ونظره إِليه.(2/542)
وممّا يورث الخُشَوع ترقُّبُ آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كلّ ذى فضل عليك، وتنسّم العناءِ، يعنى انتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبهما؛ فإِنَّه يجعل القلب خاشعاً لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأَعمالها ونقائِصها: من العجْب والكِبْر والرّياء وضعف الصّدق وقلَّة اليقين وتشتت النيّة وعدم إِيقاع العمل على الوجه الَّذى ترضاه لربّك وغير ذلك من عيوب النَّفس. وأَمّا رؤية فضل كلِّ ذى فضل عليك فهو أَن تراعى حقوق النَّاس فتؤدّيها ولا ترى أَنَّ ما فعلوه معك من حقوقك عليهم فلا تعاوضهم عليها فإِنَّ ذلك من رعونات النَّفس وحماقاتها، ولا تطالبهم بحقوق نفسك فالعارف لا يرى له على أَحد حَقّاً، ولا يشهد له على عيره فضلاً. فلذلك لا يعاقِب ولا يطالب ولا يضارب.(2/543)
بصيرة فى الخشية
وهى خوف يشوبه تعظيم. وأَكثر [ما يكون] ذلك عن علم بما يُخْشَى منه، ولذلك خُصّ العلماءُ بها فى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وقوله {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} اى ليستشعروا خوفاً عن معرفة. وقولُه {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أَى لا تقتلوهم معتقدين لمخافة أَن يلحقهم إِملاق. وقوله: {لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} اى لمن خاف خوفاً اقتضاه معرفته بذلك عن نفسه. وقال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} .
ومدح الله تعالى أهله {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ. والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ. والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ. والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أولائك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وعند الإِمام أحمد فى مسنده، وفى جامع الترمذى "عن عائشة رضى الله عنها قالت قلت: يا رسول الله، الذين يؤتون ما آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، أَهو الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصّدّيق، ولكنه الرّجل يصلِّى ويصوم ويتصدّق(2/544)
ويخاف أَلا يُقبل منه". قال الحسن رحمه الله: عمِلوا لِلهِ بالطَّاعات واجتهدوا فيها وخافوا أَن تُرَدّ عليهم. إِنَّ المؤمن جمع إِيماناً وخشية، والمنافق جمع إِساءَة وأَمْناً. والخشية والخوف والوجَل والرّهبة أَلفاظ متقاربة غير مترادفة.
فالخوف: تَوقُّع العقوبة على مجارى الأَنفاس، قاله جنَيد. وقيل: اضطراب القلب وحركته من تذكُّره المَخُوف. وقيل: الخوف هَرَب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.
والخشية أَخصّ من الخوف؛ فإِنَّ الخشية للعلماءِ بالله تعالى كما تقدّم. فهى خوف مقرون بمعرفة. قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلم "إِنِّى أَتقاكم لله وأَشدُّكم له خشية" فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإِنَّ الَّذى يرى العدوّ والسّيل ونحو ذلك له حالتان: إِحداهما حركة الهرب منه، وهى حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره فى مكان لا يصل إِليه وهى الخَشْية، ومنه الخَشُّ: الشئ [الأَخشن] والمضاعف والمعتل أَخوان؛ كتقضَّى البازى وتقضَّض.
وأَمّا الرّهبة فهى الإِمعان فى الهرب من المكروه، وهى ضدّ الرَّغبة الَّتى هى سَفَر القلب فى طلب المرغوب فيه. وبين الرّهب والهَرَب تناسب فى اللفظ(2/545)
والمعنى يجمعهما الاشتقاق الأَوسط الَّذى هو عَقْد تقاليب الكلمة على معنى جامع.
وأَمّا الوَجَلُ فَرَجَفَانُ القلب وانصداعُه لذكْر مَنْ يُخَافُ سلطانُه وعقوبته أَو لرؤيته.
وأَمّا الهيبةُ فخوفٌ مقارِنٌ للتعظيم والإِجلال. وأَكثر ما يكون مع المحبة والإِجلال.
فالخوف لعامّة المؤمنين، والخشية للعلماءِ العارفين، والهيبةُ للمحبّين، والوَجَل للمقرَّبين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخشية، كما قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "إِنى لأَعلمكم بالله وأَشدّكم له خشية" وقال: "لو تعلمون ما أَعلم لضحكتم قليلاً ولَبَكَيْتُم كثيراً، ولَمَا تلذَّذتم بالنِّساءِ على الفُرُش، ولخرجتم إِلى الصّعدات تجأَرون إِلى الله تعالى" فصاحب الخوف يلتجئ إِلى الهَرَب والإِمساك، وصاحب الخشية إِلى الاعتصام بالعلم، ومَثَلهما كَمَثل مَن لا علم له بالطِّب ومثل الطَّبيب الحاذق. فالأَوّل يلتجئ إِلى الحِمْية والهرب، والطَّبيب يلتجئ إِلى معرفته بالأَدْوية والأَدواءِ. وكلّ واحد إِذا خفته هَرَبت منه، إِلا الله، فإِنك إِذا خفته هربت إِليه. فالخائف هاربٌ من ربّه إِلى ربه.(2/546)
بصيرة فى الخصوص والخصف والخصم
الخصوص: التفرّد ببعض الشئ ممّا لا يشاركه فيه الجملةُ، وذلك خلاف العموم. خصّه بالشَّئ خَصَّا وخُصوصاً وخُصوصِيَّة وخِصِّيصَى وخِصِّيصاءَ وخَصِّيَّةً وتَخِصَّة: فضَّله به وميّزه. قال تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} أَى بل تعمّكم.
والخَصْف مصدر خَصَف الورق على بدنه خَصْفاً أَى أَلزقها وأَطبقها عليه ورقة ورقة. قال الله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} أَى يجعلان علهيما خَصَفة وهى الجُلَّة تعمل من الخُوص للتمر.
والخَصْم مصدر خَصَمته أَى نازعته. والخَصْم: المخاصِم المنازع، والجمع خُصوم وخِصَام وأَخصام. وقد يكون للاثنين والجمع والمذكَّر والمؤنَّث. قال تعالى: {هاذان خَصْمَانِ اختصموا} أَى فريقان. والخصيم: الخَصْم الكثير المخاصمة، والجمع خُصَماءُ وخُصْمان. والخُصم - بالضَّمِّ - الجانب والزاوية. وأَصل المخاصمة أَن يتعلَّق كلُّ واحد بخُصْم الآخر أَى بجانبه وان يَجْذب كلُّ واحد خُصْم الجُوَالق من جانبه.(2/547)
بصيرة فى الخضد والخضر
الخَضْد: الكسر. وأَكثر ما يستعمل فى الشئ اللَّيّن قال: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أَى مكسور الشَّوك. خضدته فانخضد فهو مخضود. والخَضَد - محرّكة - المخضود، كالنَقَض والمنقوض.
والخُضْرة: لون الأَخضر هى بين البياض والسّواد: قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً} جمع أَخضر. والخضرة فى أَلوان الإِبل والخيل: غُبْرة تخالطها دُهْمة، وفى أَلوان النَّاس: السمرة. والأَخضر لقب الفضل ابن العبّاس بن عتْبة بن أَبى لهب. قال:
وأَنَا الأَخْضَرُ من يعرفُنى ... أَخضر الجِلْدةِ فى بَيْتِ العَرَبْ
مَنْ يُسَاجِلْنى يُسَاجِلْ ماجداً ... يملأُ الدلو إِلى عَقْد الكَرَبْ
وربما سموا الأَسود أَخضر، ويسمَّى الليل أَخضر لسواده.
وقول أَهل التفسير فى قوله تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} : خضراوان؛ لأَنهما تضربان إِلى السواد من شدَّة الرىّ. وذكر علماءُ أَهل الكتاب أَن الخضِر(2/548)
سُمِّى خَضِراً لأَنَّه كان إِذا قعد فى موضع قام عَنْه وتحته روضة تهتزّ. قاله ابن درَيد. وكان فى غنى عن ذكر أَهل الكتاب بما صحّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: "إِنما سمّى الخضر لأَنَّه جلس على فَرْوة بيضاءَ فاهتزَّت تحته خضراءَ" ويقال فيه الخِضْر بالكسر أَيضا.
وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} قال الأَخفش: يريد الأَخضر، أَى وَرَقاً أَخضر. ويقال أَخضر وخَضِر: كما يقال: أَعور وَعَوِرَ. وكلّ شئ ناعم فهو خضِر. يقال: أَخذ الشَّئ خِضْراً مِضْرا أَى غضّاً طَرِيّاً، وخذه خِضْراً مِضْراً أَى هنيئاً مريئاً.(2/549)
بصيرة فى الخضوع والخط والخطب
الخضوع: التَّطامن والتَّواضع والسّكون والتسكين الدّعوة إِلى السّوءِ وخَضَع النجم: مال للغروب. وخضعت الإِبل جدَّت فى السّير. والخط: الكَتْب: {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} والخَطُّ: المدّ. ويقال لما له طول. والخطوط أضربٌ فيما يذكره أَهل الهندسة من مبطوح [ومسطح] ومستدير ومقوَّس وممال. ويعبّر عن كلّ أرض فيها طول بالخَطِّ كَخَطِّ اليمن، وإِليه ينسب الرّمح الخَطِّىّ. (وكلّ) مكان يخُصُّه الإِنسان لنفسه ويحْصره يقال له خِطُّ وخِطَّة.
والخَطْب والمخاطبة والتخاطب: المراجعة فى الكلام. ومنه الخُطْبَة والخِطْبة، لكن بالضمّ يختصّ بالوعظة، وبالكسر يختصّ بطلب المرأة. وأصل الخِطْبة الحالة الَّتى عليها الإِنسان إِذا خَطَب، نحو الجِلْسَة والقِعدة. ويقال من الخُطبة: خاطِبٌ وخَطِيب، ومن الخِطبة: خاطب لا غير. الفعل منهما خَطَب كنصر. وفَصْل الخطاب: ما ينفصل به الأَمر من الخطاب.(2/550)
بصيرة فى الخطف والخطأ
خطِف الشئ كعلم، وضرب لغة قليلة أوْ رديئة: استلبه بسرعة. والخاطف: الذِّئب. وخاطفُ ظِلِّه: طائر إِذا رأَى ظِلَّه فى الماءِ أقبل ليَخطَفه. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} وصف للشَّياطين المسترِقة للسّمع. وقوله: {وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} أَى يُقتَلون ويُسلبون.
والخُطَّاف لِلطَّائر الذى كأَنه يخطف شيئا فى طيرانه، ولِمَا يُخْرَج به الدَّلوُ من البئر فإِنَّه يتخطَّفه. والْخَيْطَفُ: سرعة انجذاب السير. وأَخطفُ الحَشَى ومُخْطَفة كأَنَّه اختُطِف حَشَاه لضموره.
والخطأُ: العدول عن الجهة. وذلك أَضرب:
أحدها: أَن يريد غير ما يحسُن فعله وإِرادته فيفعلَه. وهذا هو الخطأُ التَّامّ المأخوذ به الإِنسان، ويقال فيه خَطِئ يخطأُ خَطَأَ وخِطْأً.
والثَّانى: أَن يُريدَ ما يحسُن فعلُه، ولكن يقع منه بخلافِ ما يريد، فيقال: أَخْطَأَ إِخْطَاءً فهو مخطئ. وهذا قد أَصاب فى الإِرادة وأَخطأَ فى الفعل، وهذا هو المعْنِىُّ بقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفع عن أُمتى الخطأُ والنِّسيان" وبقوله: "من اجتهد فأَخطأَ فله أَجرٌ".(2/551)
والثالث: أَن يريدَ ما لا يَحْسُنُ فعلُه ويتفق منه خلافه، فهذا مخطئ فى الإِرادة ومُصيبٌ فى الفعل، فهو مذموم لقَصْدِه، غير محمود بفعله. وهذا المعنى هو الذى أراد الشاعر بقوله:
أَردت مساتى فاجتررتَ مسرَّتى ... وقد يُحسن الإِنسان من حيث لا يدرى
وجملة الأَمر [أَنَّ] من أَراد شيئاً واتفق منه غيرُه يقال: أَخطأَ، وإِن وقع منه كما أَراده يقال: أَصاب. وقد يقال لمن فعل فعلاً لا يَحْسُنُ، أَو أَراد إِرادة لا تجْمُل: إِنه أَخطأَ، ولهذا يقال: أَصاب الخطأُ، وأَخطأَ الصواب، وأَصاب الصّواب وأَخطأَ الخطأ. وهذه اللَّفظة مشتركة كما يرى، متردّدة بين معان يجب لمن يتحرّى الحقائق أَن يتأَمّلها.
وقوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} فالخطيئة والسيّئة يتقاربان، لكن الخطيئة أَكثر ما يقال فيما لا يكون مقصوداً إِليه فى نفسه، بل يكون القصد شيئاً يولِّد ذلك الفعل، كمن يرمى صيداً فأَصاب إِنساناً، أَو شرب مسكراً فجنى جناية فى سكره. ثمّ السّبب سببان: سبب محظورٌ فعله كشرب المسكر، وما يتولَّد من الخطإِ عنه غير مُتجافىً عنه؛ [وسبب غير محظور، كرمى الصيد. والخطأ الحاصل عنه متجافىً عنه] . قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولاكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} وقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً} فالخطيئة (هى التى) لا تكون عن قصد إِلى فعله،(2/552)
والجمع الخطيئات والخطايا. وقوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} هى المقصود [إِليها] والخاطئ هو القاصد الذَّنب. وعلى ذلك قوله: {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} .
وقد يسمّى الذَّنْب خاطئة فى قوله تعالى: {والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ} أَى الذَّنب العظيم. وذلك نحو قولهم: شعر شاعر. وأَمّا ما لم يكن مقصوداً فقد ذكر النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه مُتَجاوَزٌ عنه.
وأَمّا الخَطْو - بالواو - فهو المَشْى، خَطَا خَطْواً واختطى واختاط على القلب: مشى. والخُطْوة - بالضَّمّ وقد يفتح -: مسافة ما بين القدمين. والجمع خُطاً وخُطُوات بضمّتين. والخَطْوة بالفتح: المرّة. والجمع خَطَوَات.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أَى لا تتبعوه.(2/553)
بصيرة فى الخفيف والخفض والخفى
الخِفّ - بالكسر - والخفيف: ضدّ الثقيل. ويقال تارة باعتبار المضايفة بالوزن وقياس شيئين أَحدِهما بالآخر. نحو: درهم خفيف ودرهم ثقيل، وتارة باعتبار مضايفة الزَّمان نحو فرس خفيف وفرس ثقيل إِذا عَدَا أَحدهما أَكثر من الآخر فى زمان واحد، وتارة يقال خفيف فيما يستحليه النَّاس، وثقيل فيما يستوخمونه، فيكون الخفيف مدحاً والثَّقيل ذمّاً. ومنه قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} والظَّاهر أَنَّ قوله: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} من هذا النَّمط. وتارة يقال: خفيف فيمن فيه طيْش، وثقيل فيمن فيه وقار، فيكون الخفيف ذمّاً والثَّقيل مدحاً. وتارةً يقال: خفيف فى الأَجسام الَّتى من شأْنها أَن ترجَحنّ إِلى أَعلى كالنار والهواء، والثَّقيل فى الأَجسام الَّتى من شأْنها أَن ترجحِن إِلى الأَسفل كالأَرض والماءِ.
وقد خفَّ يخِفُّ خَفّاً وخِفَّةً، وخفَّفه تخفيفاً، وتخفَّف تخفَّفاً، واستخفَّه ضدّ استثقله. واستخفَّ فلاناً عن رأْيه حمله على الجهل والخِفَّة. وقوله تعالى: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أَى حملهم على أَن يخِفُّوا معه، أَوجدهم خفافاً فى أَبدانهم وعَزائمهم. وقيل: معناه: وجدهم طائشين. وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ... وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} فإِشارة إِلى كثرة الأَعمال(2/554)
الصّالحة وقلَّتها وقوله: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} أَى لا يزعجُنَّكَ ولا يزيلُنَّك عن اعتقادك بما يوقعون من الشُّبه. وخفّوا من منازلهم: ارتحلوا عنها فى خِفَّة.
والخَفْض: ضدّ الرّفع. والخَفض: الدَّعَة، ومنه عَيْش خافض. والخفض: السّير اللَّيّن. والخفض: الإِقامة، خَفَض بالمكان أَقام.
وقوله تعالى: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} حثّ على تليين الجانب والانقياد، كأَنَّه ضدّ قوله {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} وقوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أَى ترفع أَقواماً إِلى الجنَّة وتخفض آخرين إِلى النَّارِ، وهى إِشارة إِلى قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} .
والخُِفْية: الاستتار، وقد خَفِى خُِفْيَة وخَفَاء فهو خاف وخفِىّ. وخَفَاه هو وأَخفاه: سترُه وكتمه. والخافية: ضدّ العلانية. وخَفَاه يَخْفِيه خَفْياً وخُفِيّاً: أَظهره واستخرجه، كأَنَّه من الأَضداد.
وقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا} وقال {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} .(2/555)
بصيرة فى الخلل
وهو ضِدّ الفُرْجة بين الشَّيْئين، وجمعه خِلاَل. نحو خلل الدّار والسّحاب وغيره.
وقوله تعالى: {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} وقوله {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} أَى سَعَوا نحوكم [و] وسطكم بالنميمة والفساد. والخَلَلُ فى الأَمر كالوَهْن تشبيهاً بخَلَل الدِّيار. والخَلَّة - بالفتح - الحاجة والخَصْلة والفقر والخَصَاصَة. خَلَّ الرّجلُ وأُخِلَّ به. احتاج. ورجل مُخلٌّ ومختلٌّ وخليل وأخَل: مُعْدِم فقير. واختلَّ إِليه: احتاج. والخُلَّة - بالضمّ -: الصّداقة المختصّة الَّتى لا خلل فيها تكون فى عفاف الحبّ ودَعَارته. والجمع خِلاَل. وهى الخلالة أَيضاً - بتثليث الخَاءِ - والخُلولة أَيضاً بالضمَّ. وقد خالَّه مُخَالَّة وخِلالاً، وإِنه لكريم الخِلِّ والخِلَّة - بكسرهما - أَى المصادقة والإِخاء. والخَلُّ - بالكسر والضَّمّ -: الصَّديق المختصّ، والجمع أَخلال. والخليل: مَن أَصفى المودّة وأَصَحّها، وهى بهاءٍ، جمعها خليلات.
وقوله تعالى: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} قيل سَمَّاه بذلك لافتقاره إِليه تعالى فى كلِّ حال، وهو الافتقار المعنىّ بقوله {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ(2/556)
مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وعلى هذا الوجه قيل: اللهمّ أَغْننى بالافتقار إِليك، ولا تُفقرنى بالاستغناء عنك. قال أَبو القاسم، هو من الخَلَّة لا من الخُلَّة. قال: ومَنْ قَاسَهُ بالحبيب فقد أَخطأَ لأَنَّ الله تعالى يجوز أَن يحبّ عبده فإِنَّ المحبّة منه الثناء ولا يجوز أَن يُخَالَّهْ. وهذا القول منه تَشَهٍّ ليس بشئ، والصّواب الَّذى لا محِيد عنه إِن شاءَ الله أَنَّه من الخُلَّة وهى المحبّة التى قد تخلَّلت رُوح المحبّ وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه، كما قيل:
قد تخلَّلتِ مسلك الروح منى ... وبذا سمّى الخليل خليلا
وهذا هو السّر الذى لأَجله - والله أَعلم - أُمر الخليلُ بذبح ولده وثمرة فؤاده وفِلْذَةَ كبده، لأَنَّه لمّا سأَل من الله الولد وأَعطاه تعلَّقت به شُعْبَة من قلبه، والخُلَّة منصب لا يقبل الشركة والقِسمة، فغار الخليلُ على خليله أَن يكون فى قلبه موضع لغيره، فأَمره بذبح الولد ليُخرج المُزاحم من قلبه، فلمّا وطَّن نفسه على ذلك وعزم عليه عزماً جازما حصل مقصود الآمر، فلم يبق فى ذبح الولد مصلحة، فحال بينه وبينه وفداه بالذِّبح العظيم، وقيل له: {ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} أَى عملت عمل المصدّق {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} مَن بادر إِلى طاعتنا أَقررنا عينه كما قَرَّت عيناك بامتثال أَوامرنا وإِبقاءِ الولد وسلامته {إِنَّ هاذا لَهُوَ البلاء المبين} وهو اختيار المحبوب مُحبّه وامتحانه إِيَّاه ليُؤثر مَرضاته فيتمّ نعمته عليه، فهو بلاءُ مِحْنة ومنْحة معاً.(2/557)
والخُلَّة آخر درجات الحبّ وخاتمة أَقسامه العشرة الَّتى أَوّلها العَلاَقة، وثانيها الإِرادة، وثالثها الصبابة، ورابعها الغرام، وخامسها الوداد، وسادسها الشَّغَف، وسابعها العشق، وثامنها التتَيمّ، وتاسعها التعبّد. فحقيقة العبوديّة الحبّ التَّامّ مع الذلِّ التامّ والخضوع للمحبوب. وعاشرها الخُلَّة الَّتى انفرد بها الخليلان إِبراهيم ومحمّد عليهما السّلام كما صحّ عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "إِنَّ الله تعالى اتَّخذنى خليلاً كما اتَّخذ ابراهيم خليلاً" وقال صلى الله عليه وسلَّم "لو كُنت متَّخذاً خليلاً غير ربِّى لاتخذت أَبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم" والحديثان فى الصّحيحين، وهما يبطلان قول من قال: الخُلَّة لإِبراهيم والمحبّة لمحمّد عليهما السّلام فإِبراهيم خليله ومحمّد حبيبه.
وقوله تعالى: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} أَى لا يمكن فى القيامة ابتياع حَسَنة ولا اجْتلابها بمودّة. وذلك إِِشارة إِلى قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} وقوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} فقد قيل: هو مصدر من خاللت، وقيل: هو جمع. يقال خليل وأَخلَّة وخلال، والمعنى كالأَول.(2/558)
بصيرة فى الخلود والخلوص والخلط والخلع
الخلود هو تبرّؤ الشئ من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة الَّتى هى عليه. وكلّ ما يتباطأُ عنه التغيير والفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأَثافىّ: خوالد. وذلك لطول [مكثها] لا لدوام بقائها. يقال: خَلَد يخلُد خُلُوداً. والخَلَد - بالتَّحريك - اسم للجُزْءِ الَّذى يبقى من الإِنسان على حالته فلا يستحيل ما دام الإِنسان حيّاً استحالة سائر أَجزائه. وأَصل المخلَّد الذى يبقى مدّة طويلة. ومنه مخلَّد لمن أَبطأَ عنه الشَّيبُ ثمّ استعير للمُبْقَى دائماً.
والخلود فى الجنَّة: بقاءُ الأَشياءِ على الحالة التى هى عليها من غير اعتراض الكون والفساد عليها، قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أَى مُبَقَّون بحالتهم لا يعتريهم استحالةٌ. وقيل: مقرَّطون بخِلَدة. والخِلَدة: ضرب من القِرَطَة. وإِخلاد الشئ: جعله مبَقّىً أَو الحكم بكونه مبَقًّى. وعلى هذا قوله تعالى: {ولاكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} أَى ركن إِليها ظانّاً أَنَّه يَخْلُد فيها.(2/559)
والخالص الصّافى الذى زال عنه شَوْبه الَّذى كان فيه.
وقوله {خَلَصُواْ نَجِيّاً} أَى انفردوا خالصين من غيرهم. وقوله {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} اخلاصُ المسلمين أَنَّهم تبرَّءُوا ممّا يدَّعيه اليهود من التشبيه، والنَّصارى من التَّثليث، فحقيقة الإِخلاص التبرّى من دون الله.
والخَلْط: الجَمْع بين أَجزاءِ الشيئين فصاعداً، سواء كانا مائعين أَو جامدين، أَو أَحدهما مائعاً والآخر جامداً. وهو أَعمّ من المَزْج. قال تعالى: {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} ويقال للصّدِيق والمجاور والشريك. خَلِيط. والخليطان فى الفقه مِن ذلك، وجمعه خُلَطاء. قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء} . وقوله تعالى {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} أَى يتعاطَون هذا مرّة وهذا مرّة.
والخَلْع: النَّزع. خلع زيد ثوبه. والفرس جُلَّه وعِذَاره.
وقوله {فاخلع نَعْلَيْكَ} قيل هو على الظَّاهر لأَنَّه كان من جِلد حمار ميّت. وقال بعض الصّوفية: هذا مَثَل، وهو أَمر بالإِقامة والتمكُّن كقولك لمن رُمتَ أَن يتمكَّن: انزع ثوبك وخُفَّك ونحو ذلك. وإِذا قيل: خلع فلان على فلان كان معناه: أَعطاه ثوباً. واستُفيد معْنى العطاءِ من هذه اللفظة بأَن وصل به لفظة (على) لا من مجرّد الخَلْع.(2/560)
بصيرة فى الخلف والخلق
خَلْفٌ - وقد يقال بأل - نقيض قُدّام. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وخَلَف. نقيض تقدّم وسَلَف. فالمتأَخِّر لقصور منزلته يقال له: خَلْف. ولهذا قيل: خلْف سوء. والمتأَخر لا لقصور منزلته يقال له: خَلَف، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} وقيل: "سكت أَلْفا، ونطق خَلْفاً" أَى رديئا من الكلام. وهو خَلَف صِدق من أَبيه إِذا قام مقامه. وقيل: الخَلَفُ والخَلْف سواء. وقال اللَّيث: السّاكن للأَشرار خاصّة والمتحرّك لضدّهم.
وتخلَّف: تأَخَّر أَو جاءَ خَلْف آخر أَو قام مقامه. ومصدره الخِلاَفة. وخلف خَلاَفة فهو خالف أَى رَدِئ أَحمق. والْخِلْفة - بالكسر -: الاسم من الاختلاف أَى التردّد {جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} أَى يجئ هذا فى إِثر هذا. ويقال: هنّ يَمشين خِلْفة أَى تذهب هذه وتجئ هذه. قال زهير ابن أَبى سُلْمَى:
بها العِين والآرام يمشين خِلفة ... وأَطلاؤها ينهضن مِن كلِّ مَجْثَم
ويقال أَيضاً: القوم خِلْفة، وبنو فلان خِلْفة، أَى نصفهم ذكور ونصفهم(2/561)
إِناث. وخلف فلاناً يخلُفه إِذا كان خليفته وقائماً بالأَمر عنه إِمّا معه وإِمّا بعده. قال تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ} .
والخِلاَفَة: النِّيابة عن الغير. إِمّا لغَيْبَة المَنُوب عنه وإِمّا لموته وإِمّا لعجزه وإِمّا لتشريف المستخلَف. وعلى هذا الوجه الأَخير استخلَف اللهُ أَولياءَه فى الأَرض. قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض} والخلائف جمع خليفة والخُلفاءُ جمع خليف، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} والخليفة: السّلطان الأَعظم. وقد يؤنَّث. أَنشد الفَرَّاء.
أَبوك خليفة ولدته أُخرى ... وأَنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ
زاد ابن عبّاد الخليف والجمع الخلائف، جاءوا به على الأَصل مثل كريمة وكرائم. وقالوا أَيضا: خُلَفاء من أَجل أَنَّه لا يقع إِلاَّ على مذكَّر وفيه الهاءُ، جمعوه على إِسقاط الهاءِ فصار مثل ظريف وظرفاء، لأَن فَعِيلة بالهاءِ لا يجمع على فُعَلاء. وقوله تعالى: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي} أَى كن خليفتى وقم مقامى فيهم.
والاختلاف والمخالفة: أَن يأْخذ كلُّ واحد طريقاً غير طريق الآخر فى حاله أَو فعله. والخلاف أَعمّ من الضدّ، لأَنَّ كلَّ ضدّين مختلفان وليس كلّ مختلفين ضدّين. ولمّا كان الاختلاف بين النَّاس فى القول قد يقتضى(2/562)
التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} وقوله تعالى: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب} قيل: معناه خَلَفوا نحو كسب واكتَسَب. وقيل: أَتَوْا فيه بشئ خلاف ما أَنزل الله. وقوله: {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} من الخِلاف أَو من الخُلْف. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار} أَى فى مجئ كلَّ واحد منهما خَلْف الآخر وتعاقبهما.
والخُلْف: الاسم من الإِخلاف. يقال: وعدنى فأَخلفنى أَى خالف الميعاد، قال تعالى: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} . وأَخلفه: ردّه إِلى خَلْفه. وأَخلف النبتُ: أَخرج الخِلْفة، وهى ورق يخرج بعد الورق الأَوّل فى الصّيف. وأَخلف الثوب: أَصلحه. ويقال لمن ذهب له ولد أو مال أَو شئ يستعاض: أَخلف الله(2/563)
عليك. أَى ردّ الله عليك مثل ما ذهب. وأَخلف فلان لنفسه إِذا كان قد ذهب له شئ فجعل مكانه آخر. قال تميم بن أُبى [بن] مقبل:
أَلم تر أَن المال يخلُف نسله ... ويأْتى عليه حقّ دهر وباطلُهْ
فأَخلفْ وأَتلفْ إِنما المالُ عَارَةٌ ... وكُلْهُ مع الدهر الذى هو آكلهُ
يقول استفد خَلَف ما أَتلفت. وخَلَف اللهُ عليك أَى كان لك منه خليفةٌ.
وقوله تعالى: {لاَّ يَلْبَثُونَ خِلفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَى بعدك، وقرئ (خِلاَفَكَ) أَى مخالَفة لك. وقوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} أَى إِحداهما من جانب والأُخرى من جانب آخر.
وخلَّفته تخليفاً: تركته خلفى، قال تعالى: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} أَى مخالفين. والخالف: المتأَخِّر عنك لنقصان أَو قصور كالمتخلِّف، قال تعالى: {مَعَ الخالفين} . والخالفة: عمود الخيمة المتأَخِّر، ويُكْنى بها عن المرأَة لتخلُّفها عن المرتحلين وجمعه خوالف. قال تعالى: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أَى مع النِّساءِ. والخالفة: الأَحمق، وهو خالفة بيّن الخَلاَفة أَى أَحمق. والخالفة: الأَمّة الباقية(2/564)
بعد الأُمّة السّالفة. وهو خالفة أَهل بيته وخالفهم إِذا كان لا خير فيه ولا هو نجيب.
وقول عمر: لو أُطيق الأُذان مع الخِلِّيفى لأَذَّنتُ. كأَنَّه أَراد بالخِلِّيفى كثرة جهده فى ضبط أُمور الخلافة وتصريف أَعِنَّتها؛ فإِن هذا النَّوع من المصارد يدل على معنى الكثرة.(2/565)
بصيرة فى الخلق
وهو التقدير، وقيل: التقدير المستقيم. ويستعمل فى إِبداع الشئ من غير أَصل ولا احتذاء. قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض} أَى أَبدعهما بدلالة قوله: {بَدِيعُ السماوات والأرض} . ويستعمل فى إِيجاد الشئ من الشئ. قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} .
وليس الخلق بمعنى الإِبداع إِلاَّ لله تعالى. ولهذا قال تعالى فى الفصل بينه وبين غيره: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} وأَمّا الَّذى يكون بالاستحالة فقد جعله الله لغيره فى بعض الأَحوال كعيسى عليه السّلام حيث قال: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} والخَلْق لا يستعمل فى جميع النَّاس إِلاَّ على وجهين:
أَحدهما فى معنى التقدير كقوله:
ولأَنت تفرِى ما خلقتَ وبعض الـ ... ـقوم يخلق ثم لا يفرى
والثانى: فى الكذب نحو قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} .
إِن قيل: قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} يدل على أَنَّه يصحّ أَن يوصف به غيره، قلنا: إِن ذلك معناه: أَحسن المُقدِّرين، أَو يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أَنَّ غير الله يُبدِعُ، فكأَنَّه(2/566)
قيل: فاحسَب أَنَّ ههنا مبدعين وموجِدين فالله تعالى أَحسنهم إِيجاداً على ما يعتقدون، كما قال: {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} . وقوله تعالى: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} قيل: هو إِِشارة إِلى ما يشوِّهونه من الخِلْقة بالخِصاءِ ونَتْف اللِّحية وما يجرى مجراه. وقيل: معناه يغيّرون حكمه. وقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} إِشارة إِلى ما قدّره وقضاه. وقيل: معنى لا تبديل نهى: لا تغيّروا خلقة الله. وقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} كناية عن فروج النساءِ.
وكلّ موضع استعمل فيه الخَلْق فى وصف الكلام فالمراد به الكذب. ومن هذا الوجه امتنع كثير من الناس من إِطلاق لفظ الخَلْق على القرآن وعلى هذا قوله: {إِنْ هاذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} وقوله: {مَا سَمِعْنَا بهاذا فِى الملة الآخرة إِنْ هاذا إِلاَّ اختلاق} .
والخَلْق فى معنى المخلوق. والخَلْق والخُلْق فى الأَصل واحد. كالشَّرب والشُّرْب والصَّرم وَالصُّرْم، ولكن خُصّ الخَلْق بالهيئات والأَشكال والصّور(2/567)
المدرَكة بالبصر، وخُصّ الخُلْق بالقُوَى والسّجايا المدركة بالبصيرة. قال تعالى: لنبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال: ابن عباس رضى الله عنهما: لعَلَى دِين عظيم لا دين أَحبُّ إِلىّ ولا أَرضى عندى منه وهو دين الإِسلام. وقال الحسن: هو أَدب القرآن. وقال قتادة: هو ما كان يأْتمر به مِن أَمر الله ويَنْتَهى عنه من نَهْى الله. والمعنى: إِنَّك لعلى الخُلُق الَّذى آثرك الله تعالى به فى القرآن. وفى الصّحيحين أَنَّ هشام ابن حَكِيم سأَل عائشة عن خُلُق رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فقالت: كان خُلُقه القرآن.
واعلم أَنَّ الدّين كلَّه خُلُق. فمن زاد عليك فى الخُلُق زاد عليك فى الدين، وكذا التصوّف. قال الكتَّانى: هو خُلُق، فمن زاد عليك فى الخُلُق زاد عليك فى التصوّف. وقيل: حسن الخُلُق: بَذْل النَّدى، وكَفُّ الأَذَى. وقيل: فَكُّ الكفِّ، وكفُّ الفكِّ. وقيل: بذل الجميل وكفُّ القبيح. وقيل: التخلى من الرذائل، والتحلِّى بالفضائل. وهو يقوم على أَربعة أَركان لا يُتصوّر قيام ساقِه إِلاَّ عليها: الصّبر والعفَّة والشَّجاعة والعدل.
فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وإِماطة الأَذى والحلم والأَناة والرِّفق وعدم الطَّيش والعجلة.(2/568)
والعفَّةُ تحمله على اجتناب الرذائل والقبيح من القول والفعل. وتحمله على الحياءِ وهو ركن كلَّ خير، وتمنعه من الفحش والبخل والكذب والغيبة والنَّميمية.
والشجاعةُ تحمله على عِزَّةِ النَّفس وإِيثار معالى الأَخلاق والشِّيم، وعلى البذل والنَّدى الذى هو شجاعة النفس وقوّتها على إِخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كَظْم الغيظ والحلم فإِنَّه بقوّة نَفْسه وشجاعتها يمْسك عِنَانها ويكبحها بلجامها عن السّطوة والبطش؛ كما قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "ليس الشَّديد بالصُّرَعة إِنَّما الشديد الَّذى يمسك نفسه عند الغضب" وهذه هى حقيقة الشجاعة. وهى مَلكة يقتدِر معها على قهر خصمه.
والعدل يحمله على اعتدال أَخلاقة وتوسّطه بين طرفى الإفراط والتَّفريط فيحمله على خُلُق الجود والسّخاءِ الَّذى هو توسّط بين الإِمساك والتَّقتير، وعلى خُلُق الحياءِ الَّذى هو توسّط بين الذِّلة والقِحة، وعلى خُلُق الشَّجاعة الَّذى هو توسّط بين الجُبْن والتَّهوّر، وعلى خلق الحلم الذى هو توسّط بين الغضب والمهانة. والتوسّط منشأُ جميع الأَخلاق الفاضلة من هذه الأَربعة.
والخَلْق ورد فى القرآن على ثمانية أَوجه:
الأَوّل: بمعنى دين الحقّ {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} أَى لدين الله {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} أَى دين الله.(2/569)
الثانى: بمعنى الكذب {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أَى تكذبون {إِنْ هاذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} .
الثالث: بمعنى التَّصوير {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} أَى تصوّر.
الرابع: بمعنى التقدير {لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أَى يقدَّرون.
الخامس: بمعنى الإِنطاق {أَنطَقَنَا الله} إِلى قوله {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرَّةٍ} أَى أَنطقكم.
السّادس: الخَلْقُ بمعنى الجعل {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
السّابع: بمعنى الإِحياءِ فى القيامة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} أَى بعثنا {بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} أَى يبعث.
الثَّامن: بمعنى حقيقة الخِلْقة {خَلَقَ السماوات والأرض} {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} وله نظائر.(2/570)
بصيرة فى الخلد والخمود والخمر
خلا المكانُ خُلُوّاً وخَلاَءً. وأَخْلَى واستخلى: فَرَغ. ومكانٌ خلاءٌ؛ ما فيه أَحد. وأَخلاه: جعله أَو وجَدُه خالياً. وخلا: وقع فى مكان خال.
والخُلُوُّ يستعمل فى الزَّمان والمكان، لكن لمّا تُصوّر فى الزَّمان المضىّ فسر أَهل اللُّغة قولهم "خلا الزَّمان" بقولهم: مَضَى وذهب. قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} وقوله {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أَى يتحصّل مودّة أَبيكم وإِقباله عليكم. وخلا الإِنسان: صار خاليا. وخلا فلان بفلان: صار معه فى خلاءٍ. وخلا إِليه: انتهى إِليه فى خَلْوة، قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} وخلَّيتُ فلاناً: تركته فى خلاء، ثمّ قيل لكلّ تَرْك: تخلية. قال تعالى: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} .
والخُمُود. والانطفاءُ. خَمَدت النَّار تَخْمُد: طفِئ لهيبُها.
وقوله تعالى: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} كناية عن موتهم. ومنه قولهم: خَمَدت الحُمّى أَى سكنت.
والخمر مادّتها موضوعة للتغطية والمخالطة فى سَتْر. وسمّيت الخمر خمراً لأَنَّها تُركت فاختمرت. واختمارها تغيُّر رِيحها، وفى الحديث "الخمر ما خمر العقل" قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} والخِمار - بالكسر -(2/571)
اسم لما يستر به. وصار فى التعارف اسماً لما تغطِّى به المرأَة رأْسها والجمع الخُمُر، قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} واختمرت المرأَة وتخمّرت: لبَسَتْها. وخَمَرت الإِناءَ غطَّيته.
بصيرة فى الخير
وهو ضدّ الشرّ. وهو ما يرغب فيه الكلّ كالعقل مثلا والعدل والفضل والشئ النَّافع. وقيل: الخير ضربان. خير مطلق وهو ما يكون مرغوباً فيه بكلّ حال وعند كلِّ أَحدكما وصف صلى الله عليه وسلَّم به الجنَّة فقال: "لا خير بخير بعده النَّار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنَّة".
وخير وشرّ مقيَّدان وهو أَنَّ خير الواحد شرّ الآخر كالمال الَّذى ربّما كان خيرا لزيدٍ وشراً لعمرو. ولذلك وصفه الله تعالى بالأَمرين فقال فى موضع: {إِن تَرَكَ خَيْراً} وقال فى موضع آخر {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} فقوله {إِنْ تَركَ خَيْراً} أَى مالاً. وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن كان طيب، كما رُوِى أَنَّ عليّاً رضى الله عنه دخل على مولًى له فقال: أَلا أُوصى يا أَمير المؤمنين؟ قال: لا، لأَنَّ الله تعالى قال {إِن ترك خيراً} وليس لك مال كثير.(2/572)
وعلى هذا أَيضاً قوله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} . وقال بعض العلماء: إِنما سمّى المال ههنا خيراً تنبيهاً على معنى لطيف، وهو أَنَّ المال [الذى] يحسن الوصيَّة به ما كان مجموعاً من وجه محمودٍ. وعلى ذلك قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} وقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قيل: عنى به مالاً من جهتهم، [و] قيل: إِن علمتم أَن عتقهم يعود عليكم وعليهم بنفع أَى ثواب.
وقوله تعالى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي} أَى آثرت حبّ الخير عن ذكر ربِّى. والعرب تسمِّى الخيل الخير لما فيها من الخير. وقوله تعالى: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} أَى لا يَفْتُر من طلب المال وما يُصلح دنياه. وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أَى بخير لكم فإِن يكن تخفيفا كان خيراً فى الدّنيا والآخرة. وإِن يكن تشديداً كان خيراً فى الآخرة لأَنَّهم أَطاعوا الله - تعالى ذِكرُه - فيه.
وقال ابن عرفة فى قوله تعالى: {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} لم يكن على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خير من نسائه، ولكن إِذا عصينه فطلَّقهن على المعصية فمن سواهنَّ خير منهنّ.
وقال الرَّاغب: الخير والشَّرّ يقالان على وجهين:
أَحدهما: أَن يكونا اسمين كما تقدّم.(2/573)
والثَّانى: أَن يكونا وصفين وتقديراهما تقدير أَفعل، نحو هو خير من ذلك وأَفضل. وقوله {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يصحّ أَن يكون اسماً وأَن يكون صفة. وقوله {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} تقديره تقديرُ أَفعل منه.
والخير يقابَل به الشرّ مرّة والضر مرّة، نحو: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} .
وقوله: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قرأ الحسن البصرى وأَبو عثمان النَهْدِىّ والخليل بن أَحمد وطاووس وبكر بن حبيب {فيهنّ خيِّرات} بتشديد الياءِ، والتشديد هو الأَصل. وامرأَة خيّرة وخَيْرة بمعنى. وكذلك رجلٌ خيّر وخَيْر كميّت وميْت. وقوله تعالى: {وأولائك لَهُمُ الخيرات} جمع خَيْرة وهى الفاضلة من كل شئ. وقال الأَخفش: وقيل لَمَّا وُصِفَ به، وقيل: فلان [خير]- أَشبه الصّفات، فأدخلوا فيه الهاء للمؤنَّث ولم يريدوا أَفعل. وأَنشد أَبو عُبَيْدة:
ولقد طعنتُ مجامع الرَبَلاتِ ... رَبَلات هند خيرةِ الملِكات
فإِن أَردت معنى التفضيل قلت: فلانة خير النَّاس ولم تقل خيرة الناس وفلان خير النَّاس ولم تقل: أَخْير، لا يثنَّى ولا يجمع لأَنَّه فى معنى أَفعل.(2/574)
وقال شمر: يقال ما أَخيره وخَيْره وأَشرّه وشَرّه وهذا أَخير منه وأَشرّ منه. وقال ابن بُزُرْج قالوا: هم الأَخيرون والأَشرّون من الخَيَارة والشَّرَارَة بإِثبات الأَلف. وتقول فى الخير والشرّ هو خير منك وشرّ منك وخُيير منك وشُرَير منك.
واستخار اللهَ العبدُ فخار له أَى طلب منه الخير فأَولاه. وخايرته فى كذا فخِرْتُه: غلبته. والخِيرة الحالة التى تحصل للمستخير والمختار. والاختيار: طلب ما هو خير فعله. وقد يقال لما يراه الإِنسان خيراً وإِن لم يكن خيراً.
وقوله تعالى: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ} يصحّ أَن يكون إِشارة إِلى إِيجاده تعالى إِياهم خيراً، وأَن يكون إِشارة إِلى تقديمهم على غيرهم. والمختار قد يقال للفاعل والمفعول.
والخُوَار مختصّ بالبقر وقد يستعار للبعير.
والخوض: الشروع [فى الماءِ والمرور فيه. ويستعار فى الأُمور] . وأَكثر ما ورد فى القرآن ورد فيما يُذمّ الشروع فيه.
والخَيْط معروف وقوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} أَى بياض النَّهار من سواد اللَّيل.(2/575)
بصيرة فى الخوف
وهو توقُّع مكروه عن أَمارة مظنونة أَو معلومة، كما أَن الرجاءَ والطمع توقع محبوب عن أَمارة مظنونة أَو معلومة، ويضادّ الخوف الأَمن. ويستعمل ذلك فى الأُمور الأَخروية والدّنيويّة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} قد فسّر بعرفتم. وحقيقته: وإِن وقع لكم خوف من ذلك لمعرفتكم. والخوف من الله لا يراد به ما يخطِر بالبال من الرّعب كاستشعار الخوف، بل إِنَّما يراد به الكفّ عن المعاصى وتحرّى الطَّاعات. ولذلك قيل: لا يعدُّ خائفاً من لم يكن للذُّنوب تاركاً.
والخوف أَجلّ منازل السّالكين وأَنفعها للقلب. وهو فرض على كلِّ أَحد. قال تعالى: {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقال: {وَإِيَّايَ فاتقون} ومدح الله تعالى أَهله فى كتابه وأَثنى عليهم فقال: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ. والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ. والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ. والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أولائك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} فى مسند الإِمام أَحمد وجامع التِّرمذى "عن عائشة رضى الله عنها قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "الذين يؤتون ما آتَوْا وقلوبهم وجلة" أَهو الَّذى يسرق ويشرب الخمر ويزنى؟ قال: لا يا ابنة الصّديق: ولكنَّه الرّجل يصوم ويصلِّى ويتصدّق(2/576)
ويخاف أَن لا يقبل منه" وقال الحسن: عملوا والله الصَّالحات واجتهدوا فيها، وخافوا أَن تُردّ عليهم. وقال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجرى الأَنفاس. وقيل: الخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكُّر المَخُوف. وقيل: الخوف: هرب القلب من حلول المكروه وعند استشعاره. وقيل: الخوف العلم بمجارى الأَحكام. وهذا سبب الخوف لا نفسه. وقال أَبو حفص: الخوف سوط الله يقوِّم به الشاردين عن بابه. وقال: الخوف سراج فى القلب يبصر به ما فيه من الخير والشرّ. وكلّ واحد إِذا خِفْته هربت منه إِلاَّ الله فإِنَّك إِذا خفته هربت إِليه. وقال إِبراهيم بن سفيان: إِذا سكن الخوفُ القلب أَحرق مواضع الشَّهوات منه وطرد الدّنيا عنه. وقال ذو النُّون: الناس على الطَّريق ما لم يَزلْ عنهم الخوف، فإِذا زال عنهم الخوف ضَلُّوا عن الطَّريق.
والخوف ليس مقصوداً لذاته بل مقصود لغيره. والخوف المحمود الصَّادق: ما حال بين صاحبه ومحارم الله، فإِذا تجاوز ذلك خيف منه اليأْس والقنوط. وقال أَبو عثمان: صِدْق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهراً وباطناً. وقال الأَنصارى: الخوف هو الانخلاع عن طمأْنينة الأَمن بمطالعة الخَبر يعنى الخروج من سكون الأَمن باستحضار ما أَخبر اللهُ به من الوعد والوعيد.
وأَمّا التخويف من الله فهو الحَثُّ على التحرُّز. وعلى ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ونهى الله تعالى عن مخافة الشيطان والمبالاة(2/577)
بتخويفه، فقال {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} أَى لا تأْتمروا للشيطان وأْتمروا لله تعالى. ويقال تخوّفناهم أَى تنقَّصناهم تنقُّصا اقتضاه الخوف منهم.
وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} فخوفه منهم أَلاَّ يراعوا الشريعة ولا يحفظوا نظام الدّين، لا أَن يرثوا ماله كما ظنَّه بعض الجهلة. فالقُنْيات الدّنيويّة أَخسُّ عند الأَنبياءِ من أَن يُشفقوا عليها.
والخيفة: الحالة الَّتى عليها الإِنسان من الخوف. قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} واستعمل استعمال الخوف. قال تعالى {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} وتخصيصُ لفظِ الخيفة تنبيه أَنَّ الخوف منهم حالة لازمة لا تفارقهم. والتخوّف: ظهور الخوف من الإِنسان. قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} .
وقد ورد فى القرآن الخوف على خمسة وجوه:
الأَوّل: بمعنى القتل والهزيمة {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف} {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف} أَى القتل.
الثَّانى: بمعنى الحرب والقتال {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ(2/578)
حِدَادٍ} أَى إِذا انجلى الحرب {فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أَى الحرب.
الثالث: بمعنى العلم والدّراية {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} أَى عِلم {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} أَى يعلما {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} أَى علمتم.
الرّابع: بمعنى النقص {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أَى تنقُّص.
الخامس: بعنى الرُّعب والخشية من العذاب والعقوبة {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} .
وفى مواضع كثيرة قُرِن الخوف فى القرآن بـ "لا" النَّافية وبـ "لا" النَّاهية، نحو {لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} {لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ} {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} {لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} {أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} .(2/579)
بصيرة فى الخيل والخول
الخيال والخَيَالة بمعنى: وأَصله الصّورة المجرّدة كالصّورة المتصوّرة فى المنام وفى المِرآة وفى القلب بُعَيد غيبوبة المرئىّ. قال الشاعر البحتّرى:
ولستُ بنازل إِلاَّ أَلمّتْ ... برَحلى أَو خَيَالتُها الكَذُوب
ثمّ يستعمل فى صورة كلّ أَمر متصوّر، وفى كلّ شخص دقيق يجرى مجرى الخيال.
والتَّخييل: تصوير خَيال الشئ فى النَّفس، والتَّخيُّل: تصوّر ذلك. وخِلْت بمعنى ظننت، يقال اعتباراً بتصوُّر خيال المظنون. ويقال خيّلت السَّماءُ: أَبدت خيالاً للمطر. وفلان مَخِيل لكذا أَى خلِيق، وحقيقته أَنَّه مَظْهر خيال ذلك.
والخُيلاء: التكبّر عن تخيّل فضيلة تراءَى للإِنسان من نفسه. وفى الحديث [قال النبىّ - صلَّى الله عليه وسلم - لأَبى بكر رضى الله عنه: إِنك لست تصنع ذلك خُيلاء] ومنها تنوول لفظ الخيل، لِمَا قيل: إِنَّه لا يركب أَحد فرساً إِلاَّ وَجَد فى نفسه نَخْوة. والخيل فى الأَصل اسم للأَفراس والفرسان جميعاً. قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} ويستعمل فى كلّ واحد منهما منفرداً؛ نحو ما روى (يا خيل الله اركبى) فهذا للفرسان. وكذا قوله(2/580)
تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أَى بفرسانك ورَجَّالتِك. وقوله صلى الله عليه وسلَّم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل" يعنى الأَفراس وكذا قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} والخيّالة: أَى أَصحاب الخُيُول.
وخُيِّل إِليه أَنَّه كذا على ما لم يسمّ فاعله من التَّخييل والوَهْم. قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} قال أَبو زيد: خيّلت على الرّجل إِذا وجّهتَ التُّهمة إِليه.
وقوله {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} أَى أَعطيناكم ومكنَّاكم. والتخويل فى الأَصل: إِعطاءُ الخَوَل وهو العطيّة، قال لَبِيد رضى الله عنه:
ولقد تَحْمد لما فارقت ... جارتى والحمدُ من خير خَوَلْ
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ} [أَى] أَعطاه وملَّكه. قال أَبو النَّجم:
الحمد لله الوهُوب المجْزِل ... أَعطى فلم يَبْخل ولم يبخَّل
كوم الذُرَا من خَوَل المخُوِّل
والخاءُ لنيِّف وعشرين معنى ذكرته فى القاموس.(2/581)
بصيرة فى الخون
وهو أَن يؤتمن الإِنسان فلا ينصح، خانه خَوْناً وخيانة ومَخَانة، واختانه، فهو خائن وخائنة وخؤون وخَوَّان والجمع خانة وخَوَنَةً وخُوَّان. قال الرَّاغب: الخِيانة والنِّفاق واحدٌ، إِلاَّ أَنَّ الخيانة يقال اعتباراً بالعهد والأَمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدّين، ثمّ يتداخلان. فالخيانة: مخالفة الحقّ بنقض العهد فى السرّ. ونقيض الخيانة الأَمانة. يقال خُنْت فلاناً وخُنْت أَمانة فلان قال تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} وقوله {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} أَى على جماعة خائنة، وقيل على رجل خائن فإِنَّه يقال: رجل خائن وخائنة كداهية ورَاوية. وقيل: خائنة موضوعة موضع المصدر؛ نحو قم قائماً.
وقوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} فالاختيان مراودة الخيانة.
ولم يقل: تخونوا أَنفسكم، لأَنه لم يكن منهم الخيانة، بل كان منهم الاختيان فالاختيان تحرّك شهوة الإِنسان لتحرِّى الخيانة وذلك هو المشار إِليه بقوله تعالى: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} . وخائنة الأَعين: ما يُسارِق من النظر إِلى ما لا يحلّ أَو أَنْ ينظر نظرة بريبة. وخوّنه: نسبه إِلى الخَوْن ونقصه.(2/582)
الباب التاسع - فى الكلمات المفتتحة بحرف الدال
بصيرة فى الدال
وهى ترد فى القرآن واللغة والعرف على عشرة أَوجه:
الأَوّل: حرف من حروف التهجّى مخرجه من طرف اللسان قرب مخرج التاءِ، يجوز تذكيره وتأْنيثه. تقول منه: دوّلت دالاً حسناً وحسنة. وجمع المذكَّر أَدْوال كمال وأَموال، وإِذا أَنَّثت جمعت دالات كحال وحالات.
الثَّانى: الدّال فى حساب الجُمَّل اسم لعدد الأَربعة.
الثَّالث: الدّال الكافية وهى الَّتى تقتصر عليها من كلمة أَوّلها الدّال؛ كقول الشاعر:(2/583)
أَتيت إِبراهيم فى حاجة ... فقال لى خذها أَخى دالا
فقلت دال درهم أَم دال دينا ... رٍ فبيّن قال لى لالا
الرّابع: الدّال المكرّرة فى مثل عَدد ومدَد.
الخامس: الدال المدغمة فى مثل عدّ ومدّ.
السّادس: دال العَجْز والضَّرورة كما يأْتى الأَلْكَنُ بالدّالات الزَّائدة فى أَثناءِ كلامه.
السّابع: الدّال المشتقّ من الدّلالة. والدّلال تقول فى اسم الفاعل: دال دالاَّن.
الثامن: الدّالُ الأَصلى فى نحو دبر وبدر وبرد.
التَّاسع: الدّال المبدلة من التَّاءِ إِذا كان بعد جيم، نحو قوله تعالى: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} وقرئ فى الشاذِّ (يَجْدَبيك) وقال الشاعر:
فقلت لصاحبى لا تَحْبسَنَّا ... بنَزْع أُصولِه واجدزّ شيحَا
أَى اجتزَّ.
العاشر: الدّال اللغوى. قال الخليل: الدّال عندهم: المرأَة السّمينة.
قال الشاعر:
مهفهفة حوراءُ عطبولة ... دال كأَن الهلال حاجبها(2/584)
بصيرة فى الدب
الدّب والدّبيب: مَشْى خفيف على الهينَة. ويستعمل ذلك فى الحيوان وفى الحشرات أَكثر. وقد يقال: دَبّ الشَّرابُ فيه ودبّ السُّقْم فى الجسم ودَبَّ البِلا فى الثوب أَى سرى. ويقال: دبّت عقاربُه أَى سَرَتْ نمائمه وأَذاه.
والدّابة: ما دبّ من الحيوان، وغلب على ما يُركب. ويقع على المذكَّر والمؤنَّث. وقوله تعالى: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} قال أَبو عبيدة: المراد الإِنسان خاصّة. والأَولى إِجرَاؤها على العموم. وقوله تعالى: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ} قيل عنى بها الأَشرار الذين هم فى الجهل بمنزلة الدّواب، فيكون الدّابّة جَمْعا لكلِّ شئ يدِبّ، نحو خائنة فى جمع خائن. وقيل: هى حيوان بخلاف ما نَعرفه يختصّ خروجه بقرب القيامة (أَو أَوَّلها) تخرج بتهامة. وقيل: تخرج بثلاثة أَمكنة ثلاث مَرّات. وقيل: تخرج من الصَّفَا، وقيل: من عند الحَجَر الأَسْود. وقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب} عامٌّ فى جميع الحيوانات.(2/585)
بصيرة فى الدبر
الدُّبُرُ والدُّبْر: الظَّهر، قال الله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدبر} جعله للجماعة كقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} والجمع أَدبار. قال تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أَى قُدّامهم وخَلْفهم. وقال {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} أَى لا تنهزموا. والدُّبُر والدُّبْر أَيضا: خلاف القُبُل والقُبْل. ودُبُر الأَمر ودُبْره: آخره. قال الكُميْت:
أَعهدَكَ من أولَى الشَّبيبَةِ تطْلُبُ ... على دُبُرٍ هيهات شَأْوٌ مُغَرِّبُ
وأَدبار السّجود: أَواخر الصّلوات.
وقرئ {وإِدبار النُّجوم} بالفتح والكسر، فالبكسر مصدر مجعول ظرفاً نحو مَقْدَم الحاجّ وخُفُوق النجم، وأَدبار بالفتح جمع.
ويشتقّ منه تارة باعتبار دُبُر الفاعل كقولهم: دَبَر فلان، وأَمس الدابر {والليل إِذْ أَدْبَرَ} وباعتبار [دبر] المفعول، دَبَر السّهم الهَدَفَ أَى سقط خَلْفه، ودَبر فلان القوم: صار خلفهم. والدّابر يقال للمتأَخِّر والتَّابع إِمّا باعتبار المكان وإِمّا باعتبار الزَّمان أَو باعتبار المَرْتبة. وأَدبر: أَعرض(2/586)
وولَّى دُبُره. قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} قال صلَّى الله عليه وسلَّم "لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إِخواناً" وقيل: لا يذكر أَحدكم صاحبه مِن خلفه. والاستدبار طلب دُبُر الشَّئ. وتدابر القوم إِذا ولَّى بعضهم عن بعض، والدِّبار: مصدر دابرته أَى عاديته مِن خلفه.
والتَّدبير: التفكُّر فى دُبُر الأَمور. قوله تعالى: {فالمدبرات أَمْراً} يعنى: ملائكة موَكَّلة بتدبير أُمور. ودابِرُ كلِّ شئٍ: آخره. ويقال: قطع الله دابرهم، أَى آخر من بَقِىَ منهم. وقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أَى استأصل الله شأْفتهم. ودابرهم: أَصلهم. ومثله قوله تعالى {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أَى لا يُبقى منهم باقية. ومثلة قوله عزَّ وجلّ {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أَى آخرهم. ودابِر الرّجل: عقبه. والدَّبار: الهلاك الذى يقطع دابرهم. ودَبَر اللَّيل: أَدبر، قال تعالى: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} وهى قراءَة غير نافع وحمزة وحَفص ويعقوب وخَلَف. ودَبَر فلان القوم أَى كان آخرهم، ومنه قول عمر: ولكنَّنى كنت أَرجو أَن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلَّم حتَّى يَدْبُرنا. والدَّبُور. الرّيح الَّتى تقابل الصَّبا. ودُبِر كعنى: أَصابته ريحُ الدَّبور. وأَدبر: خلاف(2/587)
أَقبل، قال تعالى: {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} وأَدبر النهار: ولَّى، قال: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} وهى قراءَة من تقدّم ذكره.
والتدبّر: التفكُّر، يقال: تدبّرت الأَمر إِذا نظرت فى أَدباره. ومنه قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} أَى أَفلا يتفكَّرون فيعتبروا، وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} أَى أَفلم يتفهَّموا ما خوطبوا به فى القرآن. والدَّبْر: النَحْل والزنابير ونحوهما مما سلاحها فى أَدبارها.
بصيرة فى الدثر والدخر والدحض والدحر
قال الله تعالى: {ياأيها المدثر} أَى المتدثِّر، وهو المتلفِّف فى الدِّثار، وهو ما كان من الثياب فوق الشِّعار. يقال ادّثَّر الرجل يَدَّثَّرُ ادَّثُّراً أَى تَدَثَّر يتَدَثَّرُ تدثُّراً، فأدغمت التَّاءُ فى الدّال وشُدّدت أَى تلفَّف فى الدِّثَار. وتدثَّر الفحلُ النَّاقة: تسنَّمها، وَزَيْدٌ فَرسَه: وثب عَليه فركبه. وأَدْثَرَ مثل أَكرمَ: اقتنى دَثْراً من المال. ودَثَر الرّجُلُ: عَلته كَبْرَة واستِشنان. والسّيفُ: صدئ لبُعْد عهده بالصِّقال، والثوبُ: اتَّسخ. والدَّثْر: المال الكثير وهو دِثْر مال - بالكسر - أَى حَسَن القيام به. ويقال: مالٌ دَثْر ومالان دَثْر وأَموال دَثْرَ. ومنه قيل للمنزل الدّارس: داثر لذهاب أَعلامه.(2/588)
والدَّحر: الإِبعاد والطَّرد.
والدّحْض: الزَلِق، والفَحْص والبحث والزوال. و {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} : باطلة. ومكان دَحْض ودَحَض ودَحُوض: ذَلِق.
والدَحْو: إِزالة الشَّئ عن مكانه ومَقَرّه {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أَى أَزالها عن مقرّها. وهو من قولهم: دَحَا المطرُ الحَصَى عن وجه الأَرض أَى جَرَفها.
ودَخِرَ يَدْخَر دَخَراً: صَغُر وذلَّ {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون.(2/589)
بصيرة فى الدخل
الدّخول: نقيض الخروج. ويستعمل ذلك فى الزَّمان والمكان والأَعمال. قال تعالى: {ادخلوا هاذه القرية} .
وقوله: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} فَمَدْخل من دخل، ومُدْخل من أَدخل. وقوله تعالى: {مُّدْخَلاً كَرِيماً} قرئ بالوجهين أَيضاً. فمن قرأَ (مَدْخلاً) بالفتح فكأَنه إِشارة إِلى أَنَّهم يَقصدونه ولم يكونوا كمن ذكرهم فى قوله تعالى: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} ومَنْ قرأَ بالضَّمّ فكقوله: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} وادَّخل: اجتهد فى دخوله، قال تعالى: {أَوْ مُدَّخَلاً} والدّخَل: كناية عن الفساد والعداوة المستبطَنة، وعن الدّعوة فى النَسَب. يقال: دَخِل دَخَلاً، قال تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً} أَى: مكرا وخديعة وغِشّاً وخيانَةً. والدّخْل - بسكون الخاءِ - العيب والرِّيبة. قالت عَثْمَة بن مطرود:
ترى الفتيان كالنخْل ... وما يدريك بالدخْل(2/590)
يُضْرب فى ذى منظر لا خير عنده. ويقال دُخل فلان فهو مدخول كناية عن بلهٍ فى عقله، وفساد فى أَصله.
وقوله تعالى: {فادخلي فِي عِبَادِي} تدخل كلّ نَفْس فى البدن الذى خرجت منه.
وقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} أَى هى مثل الدّخان إِشارة إِلى أَنه لا تماسك لها.
بصيرة فى الدر
وهو فى الأَصل تولُّد شئ من شئٍ، ويدل على اضطراب فى شئ أَيضاً. قال تعالى: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} وأَصله من الدَّرّ والدِّرة أَى اللَّبن. ويستعار ذلك للمطر استعارة أَسماء البعير وأَوصافه. يقال في المدح: لله دَرّه: أَى عمله، ولله دَرّك من رجل، وفى الذمّ: لا دَرَّ دَرُّهُ، قال المتنخِّل:
لا دَرَّ دَرّىَ إِن أَطعمتُ نازلكم ... قِرف الحَتىِّ وعندى الْبُرّمكنوزُ(2/591)
بصيرة فى الدرج
الدَّرَجة نحوُ المنزلة، لكن يقال للمنزلة، دَرَجة إِذا اعتُبرتْ بالصّعود دون الامتداد على البسيطة كدرجة السّطح والسُّلَّم. ويعبّر بها عن المنزلة الرّفيعة. قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} تنبيهاً لرفعة منزلة الرجال عليهنّ فى العقل والسّياسة ونحوِ ذلك من المشار إِليه بقوله تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} وقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله} أَى ذَوُو درجاتٍ. ودرجات النجوم تشبيهاً بما تقدّم وهى ثلاثمائة وستون درجة لأَنهم قسّموا الفلك ثلاثمائة وستِّين قسماً، ووزعوه على اثنى عشر بُرجاً، كلّ بُرْجٍ ثلاثون درجة، كل درجة ستون دقيقة، كل دقيقة ستُّون ثانيةً، كلَّ ثانية ستُّون ثالثة، [و] هكذا إِلى العاشرة. ولا يجئُ فى الحساب أَكثر من هذا. والفعل من هذه المادة درج يدرج دُرُوجاً فهو دارج أَى صعد.
والإِدراج: لفّ شئ فى شئ يقال أُدرج فلان فى أَكفانه. ودَرَّجهُ فى الأَمر تدريجاً أَى جَرّه إِليه قليلاً قليلاً. واستدرج الله المرء: جَرُّه قليلاً قليلاً إِلى العذاب. قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} كلما جدّدوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة وأَنسيناهم شكر النِّعمة واستغفار الذَّنب.(2/592)
والدّرجات وردت فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: درجة الرّجال على النِّساء بما ذكرنا {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .
والثَّانى: درجة المجاهدين على القاعدين {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} .
والثَّالث: درجة الصّحابة بالسّبق والصّحبة {أولائك أَعْظَمُ دَرَجَةً} .
الرّابع: درجة أَصناف الخَلْق بعضِهم على بعض بزيادة الطَّاعة ونقصانها. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} .
الخامس: درجات خواصّ العباد {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله} .
السّادس: درجات العلماء والمروءَة {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} .
السّابع: منازل المطيعين وزيادة درجاتهم فى الجنَّة {فأولائك لَهُمُ الدرجات العلى} .
الثامن بمعنى: رافع درجات المطيعين على تفاوت أَحوالهم {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش} .(2/593)
بصيرة فى الدرس والدرك
الدّرس: دَرَسَ الشئ معناه بقى أَثره. ومنه دَرَس الكتاب ودرست العلم أَى تناولْت أَثره بالحفظ. ولمَّا كان تناول ذلك بمداومة القرآن عُبِّر عن إِدامة القرآن بالدّرس. وقوله تعالى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أَى: جاريت أَهل الكتاب فى القراءَة. وقيل: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} تَركوا العمل به، من قولهم: درس القومُ المكان أَى أَبلَوْا أَثره، ودرسَتِ المرأَة كناية عن حاضت. ودرس البعيرُ: صار فيه أَثَرُ الجرب.
والدّرَك: اسم فى مقابلة الدَّرَج بمعنى: أَنَّ الدّرج مراتب اعتباراً بالصّعود، والدّرك مراتب اعتباراً بالهبوط. ولهذا عبّروا عن منازل الجنِّة بالدّرجات، وعن منازل جهنَّم بالدّركات. وكذلك بتصوّر الحُدُور فى النَّار سمّيت هاوية. والدَّرْك أَقصى قَعْرِ البحر. ويقال للحَبْل الَّذى (يوصل به حبل آخر) ليدرِك الماءَ: دَرَكٌ، ولِمَا يلحق الإِنسان من تَبعة: دَرَك كالَّذى فى البيع. قال تعالى: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} . وأَدرك:(2/594)
بلغ عِلمُه أَقصى الشئ. ومنه المدرِكات الخمس والمدارك الخمس يعنى الحواسّ كالسّمع والبصر والشمّ والذّوق واللَّمس. وأَدرك الصّبىُّ: بلغ أَقصى غاية الصبا وذلك حين البلوغ. والتدارك: إِدراك الغائب، والاستدراك: إِصلاح الخطأ، قال:
تداركنى من عَثْرة الدّهر قاسمٌ ... بما شاءَ من معروفِهِ المتدارك
وقال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} منهم من حمل ذلك على البصر الَّّذى هو الجارحة، ومنهم من حمله على البصيرة منبّها على قول الصّديق: يا من غايةُ معرفته القصور عن معرفته، إِذ كان غاية معرفته تعالى أَن تعرف الأَشياءَ فتعلم أَنَّه ليس بشيءٍ منه ولا بمثله بل هو موجِد كلّ ما أَدركته. والتدارك فى الإِغاثة والنِّعمة أَكثر.
وقوله تعالى: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً} أَى لحِق كلٌّ بالآخر. وقال: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ} أَى تدارك، فأُدغمت الدّال فى التَّاءِ وتُوصِّل إِلى السّكون بأَلف الوصل. وقرئ {بَلْ أَدْرَكَ علمهم} قال الحسن: معناه جهلوا أَمر الآخرة، وحقيقته: انتهى علمهم فى لحوق الآخرة فجهلوها. وقيل: معناه بل يُدْرِكُ علمُهم ذلك فى الآخرة، أَى إِذا حصلوا فى الآخرة؛ لأَنَّ ما يكون ظنونا فى الدّنيا فهو فى الآخرة يقين.
وقد ورد الإِدراك فى القرآن على وجوه. كقوله تعالى لموسى عليه السّلام(2/595)
{لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وبلوغ فرعون الغرق {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} وبمعنى منازل أَهل النَّار {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} وبمعنى أَنَّ الكفَّار كانوا فى تشارك الشَّكِّ ولم يكن لعلمهم رسوخ بتحقُّق القيامة {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} وبمعنى أَنَّهم فى دخول النَّار يلحق آخرهم أَولَهم {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً} وبمعنى أَنَّ الأَفهام والأَوهام والأَبصار والبصائر لا تطَّلع على حقيقة الذَّات المقدّسة، تعالى عن ذلك.(2/596)
بصيرة فى الدرى والدرء
يقال دَرَيته ودَرَيت به أَدرِى دَرْياً ودَرْية ودِرْيا ودِرْية ودَرَياناً ودُرِيّاً كحُلِىّ أَى علِمته. وقيل: علمته بضربٍ من الحيلة، وادّريت بمعناه. قال الشاعر:
وماذا تدَّرِى الشعراءُ منِّى ... وقد جاوزتُ حَدّ الأَربعينِ
وأَدْرَاه به: أَعلمه. ودَرَى الصيدَ دَرْياً: ختَله وكذا تدرَّاه وادَّرَاه. ودَرَى رأْسه: حَكَّه بالمِدْرَى.
وكلّ موضع فى القرآن (وما أَدراكَ) فقد عُقِّب ببيانه؛ نحو قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} ، وكل موضع ذكر بلفظ (وما يدريك) لم يعقَّب ببيانه، نحو قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} والدّراية لا يستعمل فى حق الله تعالى. وأَمّا قول الشاعر:
لاهُمّ لا أَدرى وأَنت الدارى
فمِن تعجرف أَجلاف العرب.
والدرْءُ بالهمز: الدفع إِلى أَحد الجانبين، يقال: قوّمت درأَه؛ ودرأْت عنه دَرْءًا ودَرْأَةً: دفعت عن جانبيه، ورجل ذوتُدرأ تُدْرَأَةٍ: ذو عزٍّ ومَنَعة(2/597)
قوى على دفع أَعدائه. ودارأته: دافعته ولاينته. وفى حديث: "ادرءُوا الحدود بالشُّبهات" وفيه تنبيه على تطلب حيلةٍ يُدفع بها الحدّ.
وقوله تعالى: {فادارأتم فِيهَا} هو تفاعلتم، فأَدغم التاء فى الدّال واجتلب أَلف الوصل كما تقدّم فى ادَّارك. وقال بعض العلماءِ: ادّارأْتم: افتعلتم. وهو غلط من أَوجه:
الأَوّل: أَنَّ ادّرأَتم على ثمانية أَحرف وافتعلتم على سبعة أَحرف.
الثَّانى: أَن الَّذى يلى أَلف الوصل تاءٌ فَجَعَلها دالاً.
الثالث: أَنَّ الذى يلى التاءَ دالٌ فجعلها تاء.
الرّابع: أَن الفعل الصّحيح العين لا يكون ما بعد تاء الافتعال منه إِلاَّ متحرّكا وقد جعله ههنا ساكناً.
الخامس: أَنَّ ههنا قد دخل بين التاءِ والدّال زائد وفى افتعلت لا يدخل ذلك.
السادس: أَنَّه أَنزل الأَلف منزلة العين وليست بعين.
السّابع: أَن افتعل قبل تائه حرفان وبعده حرفان، وادّارأْتم بعد التاءِ ثلاثة أَحرف.(2/598)
بصيرة فى الدس والدسر والدسى
الدّسُّ: إِدخال شئ فى شئ بضرب من الإِكراه فى إِخفاء. يقال: دسسته فدُسَّ. قال تعالى: {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} .
والدّسْر الدّفع الشَّديد، تقول: دَسَرت المسمار أَدسُره دَسْراً، وهو أَن تُدخله فى الشئ بقوّة. والدّسار: المسمار، والجمع دُسُرٌ ودُسْرٌ مثال ظُفُر وظُفْر، وقيل الدُّسُر: خيوط تُشَدُّ بها أَلواح السّفينة. وبكليهما فُسّر قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} وقيل: الدَسْر: خَرْز السفينة، وقيل: هى السّفن بعينها تَدْسُر الماء. والدَّسراءُ أَيضاً: السّفينة. والدّوْسَر: الأَسَد الصُّلب الموثَّق، الخَلْق قال:
عَبْلَ الذراعين شديدُ دَوْسُرِ
وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أَى دَسَّسَهَا فأَبدل من إِحدى السّينين ياء؛ نحو تظنَّيت وأَصله تظنَّنت.
والدّعُّ: الدّفع الشديد قال تعالى: {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} .(2/599)
بصيرة فى الدعاء والدفع والدفق
الدّعاء: الرّغبة إِلى الله تعالى. وقد دعا يدعو دُعاء ودَعْوَى، والدعاءُ كالنداءِ أَيضاً. لكن النداءُ قد يقال إِذا قيل يَا وَأَيَا ونحو ذلك من غير أَن يُضمّ إِليه الاسم، والدّعاءُ لا يكاد يقال إِلاَّ إِذا كان معه الاسم نحو يا فلان، وقد يستعمل كلُّ واحد منهما موضع الآخر. ويستعمل أَيضاً استعمال التَّسمية نحو: دعوت ابنى زيداً، أَى سمّيته. قال الله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} حثَّا على تعظيمه صلى الله عليه وسلَّم. وذلك مخاطبة لمن يقول: يا محمد. ودعوته: إِذا سأَلته، وإِذا استغثته. قال الله تعالى: {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} تنبيهاً أَنَّكم إِذا أَصابتكم شدّة لم تفزَعُوا إِلاَّ إِليه. وقوله: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} وهو أَن يقول: يا لهفاهْ واحسرتاهْ ونحو ذلك من أَلفاظ التَّأَسف. والمعنى: يحصل لكم غموم كثيرة. وقوله تعالى: {ادع لَنَا رَبَّكَ} أَى سَلْه.
والدعاءُ إِلى الشئ: الحثُّ على قصدهِ. وقوله {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة} أَى رفعة وتنويه. {ولهم الدَّعْوَة على غيرهم} أَى يُبدأَ بهم فى الدّعاءِ. و (تداعَوْا عليهم تجمّعوا) . والداعية: صريخ الخيل فى الحروب. ودعاه اللهُ بمكروه: أَنزله به. وادّعى كذا زعم أَنَّه له، حقّاً كان أَو باطلاً.(2/600)
والاسم الدَّعوة والدَّعاوة والدِّعوة والدِّعاوة. والدَّعوة الْحِلْف، والدّعاء إِلى الطَّعام ويضمّ كالمَدْعاة. والدَّعوى: الادّعاءِ. قال {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} والدّعوى أَيضاً الدّعاء كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلاً} أَى ما تطلبون.
والدّعاءُ يَرِدُ فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى القول: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أَى قولهم.
الثانى: بمعنى العبادة {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا} أَى أَنعبدُ. {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أَى يعبد، وله نظائر.
الثالث: بمعنى النِّدَاء {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء} أَى النِّداءَ {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ} أَى نادى {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أَى بندائك.
الرّابع: بمعنى الاستعانة والاستغاثة {وادعوا شُهَدَآءَكُم} أَى استعينوا بهم {وادعوا مَنِ استطعتم} أَى استعينوا بهم.
الخامس: بمعنى الاستعلام والاستفهام {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا} أَى استفهم.
السّادس: بمعنى العذاب والعقوبة {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} أَى تُعذّب.(2/601)
السّابع: بمعنى العَرْض {وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة} أَى أَعرضها عليكم {وتَدْعُونَنى إِلى النَّارِ} أَى تعرضونها علىَّ النارَ.
الثامن: دعوة نوحٍ قومه {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} .
التَّاسع: دعوة خاتم الأَنبياءِ لكافَّة الْخَلْقِ {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة} .
العاشر: دعوة الخليل للطيور {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً} .
الحادى عشر: دعاءُ إِسرافيل بنفخ الصّور يوم النشور لساكنى القبور {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} .
الثانى عشر: دعاء الخَلْق ربَّهم تعالى {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
قال الشاعر:
وصبراً فى مجال الموت صبراً ... فما نيلُ الخلود بمستطاع
سبيل ُ الموت مَنْهَجُ كل حىّ ... وداعيه لأَهل الأَرض داع
وممّا ورد فى القرآن أَيضاً من وجوه ذلك دعوة إِبليس {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} ودعوة الهادين من الأَئمّة الأَعلام {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(2/602)
ودعوة إسرافيل {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض} ودعوة الكَفَرة الضَّالِّين {وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ودعوة الحق تعالى إِلى الجنَّةِ ذات الظِّلال {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} {والله يدعوا إِلَى الجنة} {فَاطِرِ السماوات والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ} .
بصيرة فى الدفع والدفق والدفء والدك
الدّفع إِذا عدّى بإِلى اقتضى معنى الإِنالة كقوله تعالى: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وإِذا عُدِّى بعن اقتَضى معنى الحماية، قال تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} وقال تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. مِّنَ الله} أَى حامٍ. والدُّفَّاع كرمّان: طَحْمة السّيل والموجِ والشئُ العظيم يُدفع به مثله. واندفع فى الحديث: أَفاض، والفرسُ: أَسرع فى سيره. وتدافعوا فى الحرب: دفع بعضُهم بعضاً. واستدفع اللهَ الأَسْواءَ: طلب منه أَن يدفعها عنه.(2/603)
والدّفق الصبّ، دَفَق الماءَ يدفُقه، وَيَدْفِقه: صبّه فهو ماء دافق أَى مدفوق؛ لأَنّ دفق متعدّ عند الجمهور. ودفق الله رُوحه وأَدْفقه: أَماته.
والدِّفء -بالكسر - والدّفَأ - بالتحريك - نقيض حِدّة الْبَرْدِ، والجمع أَدْفاء، وقد دفِئ ودفُؤ وتدفَّأَ واستدفأَ وادَّفأَه: أَلبسه ما يُدفِئه. قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} وهو اسم لما يُدْفِئ. والدِّفءْ أَيضاً: نِتَاج الإِبل وأَوبارُها والانتفاعُ بها، وما أَدْفأَ من الأَصواف والأَوبار.
والدّك: الأَرض الليِّنة والسّهلة. والدَّك. الدَقّ والهَدْم وما استوى من الرّمل.
وقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أَى دُقَّت حتى جُعِلت بمنزلة الأَرض اللَّينة.(2/604)
بصيرة فى الدل والدلو والدلك والدم والدمر
الدَّلُّ كالهْدى وهما من السّكينة والوقار وحسْنِ المنظر. والدّلالة مثلثة. والدّال والدُّلُولة: ما يُتوصل به إِلى معرفة الشَّئِ كدلالة الأَلفاظ على المعانى ولادلة الرُّموز والإِشارات والكتابة والعُقُود فى الحساب، وسواء كان ذلك بقصد ممّن يجعله دلالة أَولم يكن. كمن يرى إِنسان فيعلم أَنَّه حَىّ، قال تعالى: {مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} والدّالُّ والدَّلِيلُ: مَن حصلت منه الدّلالة، ثمَّ يسمّى الدّال والدّليل دلالة كتسمية الشَّئ بمصدره.
والدّلو يذكَّر ويؤنَّث والجمع أَدْلٍ ودِلاَء ودُلِىُّ ودِلِىُّ ودَلًى كَعَلَى. ودلَوت الدّلو: (أَرسلتها فى البئر، وأَدْليتها أَخرجتها) قال تعالى: {فأدلى دَلْوَهُ} واستعير للتوصّل إِلى الشئِ، قال الشاعر:(2/605)
وليس الرّزقُ عن طلب حَثِيثٍ ... ولكنْ أَلْقِ دَلوك فى الدّلاءِ
وأَدلى فلان برحِمِه: توسّل، وبحجّته: أَحضرها، وإِليه بماله: دفعه، ومنه قوله تعالى: {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} . وتدلَّى: دنا وقرب، ومن الشجر: تعلَّق.
ودُلُوك الشَّمس: غروبها، وقيل: ميلها للغروب، وقيل: اصفرارها، وقيل: زوالها عن كَبِد السّماءِ.
والدّمّ: الطَحْن والإِهلاك، دَمَّ القوم ودمدمهم: طَحَنهم وأَهلكهم. والدمْدمة أَيضاً: حكاية صوت الهَدّة.
والتَّدمير: إِدخال الهلاك على الشَّئِ، قال تعالى: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} وقوله تعالى: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} مفعول دمّر محذوف.(2/606)
بصيرة فى الدمع والدمغ والدنو والدهر
الدّمْع ماءُ العين من حُزن أَو سرور. والجمعُ دموع وأَدْمُع. والدَّمعة: الْقَطْرة منه. ودَمَعت العينُ ودَمِعَتْ كمنع وفَرِحَ دَمْعاً ودَمَعَاناً.
والدّمغْ: الهَشْمُ والشَّج. وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} أَى يهشمه ويكسر دماغه. وشجّة دامِغة كذلك.
والدّمُ أَصله دَمَىٌ وجمعه دِمَاء ودُمِىّ. وتثنيته دَمَان ودَمَيان. والقطعة منه دَمَة. وقيل: الدّمة لغة فى الدّم. ويشدّ ميم الدّم لغة فيه. وقد دَمِىَ كرضى وأَدميته.
والدّينار فارسى معرب أَصله (دين آر) أَى الشَّريعةُ جاءَت به.
الدُّنُوّ والدَّنَاوة: القُرْب، دنا وأَدْنى: قرب، ودنَّاه تَدْنِية وأَدناه: قرّبه. واستدناه: طلب منه الدُّنوَّ، ويستعمل فى المكان والزَّمان والمنزلة، قال تعالى: {مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} وقال: {دَنَا فتدلى} هذا بالحكم. ويعبّر بالأَدنى(2/607)
تارة عن الأَصغر ويقابل بالأَكبر؛ نحو {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ} وتارة عن الأَرذل ويقابل بالخير، نحو قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} وعن الأُولى فيقابل بالآخرة نحو قوله تعالى: {خَسِرَ الدنيا والأخرة} وتارة عن الأَقرب فيقابل بالأَقصى، نحو قوله تعالى: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} والدّنيا قد ينّون وجمعه دُنًى نحو الكبرى والكُبَر.
وقوله تعالى: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة} أَى أَقرب لنفوسهم أَن تتحرّى العدالة فى إِقامة الشهادة. قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدنيا والآخرة} متناول للأَحوال الَّتى فى النَّشأَة الأُولى وما يكون فى النشأَة الآخرة.(2/608)
بصيرة فى الدهر
الدّهر: الزَّمان، قاله شمر وأَنشد:
إِن دهرا يلُفُّ شَمْلِى بجُمْل ... لزمان يَهُمّ بالإِحسان
وقيل: الدّهر الأَبَد لا ينقطع. قال الأَزهرى: الدّهر يقعِ عند العرب على بعض الدّهر الأَطول، ويقع على مُدّة الدّنيا كلِّها، وقيل: الدّهر مدّة [الدنيا] كلَّها من ابتدائها إِلى انقضائها. وقال آخرون: بل دَهْر كلِّ قوم زمانهم، قال الله تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} .
وقول النبىّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "لا تسبوا الدّهر فإِن الدّهر هو الله" وروى "فإِنَّ الله هو الدّهر" قِيل: الدّهر اسم من أَسماءِ الله تعالى. وقال الزَّمخشرى: الدّهر هو الزَّمان الطَّويل، وكانوا يعتقدون فيه أَنَّه الطَّارق بالنَّوائب، ولذلك اشتَقُّثوا من اسمه دَهَر فلاناً خَصْبٌ إِذا دهاه، وما زالوا يَشْكونه ويذُمُّونه، قال حُريثُ بن جَبَلة وقيل أَبو عُيينة المهلبى:
هو الرَّمْسُ تعفوه الأَعاصير ... والدّهر أَيَّتَمَا حالٍ دهادير(2/609)
أَى دواهٍ وخطوب مختلِفة. وهو بمنزلة عباديد فى أَنَّه لم يستعمل واحدُه. وقال رجل من كلب:
لَحَى الله دهرا شرُّه قبل خيره ... تقاضى فلم يُحسن إِلينا التقاضيا
وقال يحيى بن زياد:
عَذِيرىَ من دهر كأَنى وتَرْته ... رهين بحبل الوُدّ أن يتقطَّعا
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذمّ الدّهر، وبيّن لهم أَنَّ الطَّوارق الَّتى تنزِل بهم مُنْزلها الله عَزَّ سلطانه دون غيره، وأَنَّهم متى اعتقدوا فى الدّهر أَنَّه هو المُنْزِل ثمَّ ذمّوه كان مرجع المذمّة إِلى العزيز الحكيم، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. والَّذى يُحقِّق هذا الموضع ويَفصل بين الرّوايتين هو قوله "فإِنَّ الدّهر هو الله" حقِيقتُه: فإِن جالبَ الحوادث هو الله لا غيره، فوضع الدّهر موضع جالب الحوادث، كما تقول: إِن أَبا حنيفة أَبو يوسف، تريد أَنَّ النهاية فى الفقه هو أَبو يوسف لا غيره، فيضع أَبا حنيفة موضع ذلك لشهرته بالتناهى فى فقهه، كما شُهِر عندهم الدهر بجَلْب الحوادث. ومعنى الرّواية الثانية: إِنَّ الله هو الدّهر، فإِنَّ الله هو الجالب للحوادث. لا غيره الجالب، ردّا لاعتقادهم أَنَّ الله ليس مِن جَلْبها فى شئ وأَنَّ جالبها هو الدّهر، كما لو قلت إِنَّ أَبا يوسف أَبو حنيفة كان المعنى أَنَّه النِّهاية فى الفقه لا المتقاصر. "هو" فصل أَو مبتدأُ خبره اسم الله أَو الدّهر فى الرّوايتين.(2/610)
وقال بعضهم: الدّهر الثانى فى الحديث غير الأَوّل وإِنما هو مصدر بمعنى الفاعل ومعناه أَنَّ الله هو الداهر أَى المصرِّف المدبّر المُفِيض لما يَحْدُث.
وقال الأَزهرى فى قول جَرِير:
أَنا الدّهر يَفْنى الموتُ والدّهر خالد ... فجئنى بمثل الدّهر شيئاً يطاوله
جعل الدّهر الدّنيا والآخرة لأَنَّ الموت يَفنى بعد انقضاءَ الدّنيا. وقال تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} وقد يستعار الدّهر للعادة الباقية مدّة الحياة، فقيل: ما دهرى بكذا. والدّهر أَيضاً الغَلَبة.(2/611)
بصيرة فى الدهق والدهم والدهن
دَهَق الكاس يَدْهَقها: مَلأَهَا. ودَهَق الماءَ: أَفرغه إِفراغاً شديداً، فهو من الأَضداد. والدِّهاق - ككتاب - الممتلئ، قال الله تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً} والدِّهَاق أَيضاً: الكثير يقال: ماء دِهاقٌ.
والدّهمة - بالضمّ -: سواد اللَّيل. ويعبّر بها عن سواد الفَرَس، وعن الخُضرة التامّة اللون، كما يعبّر عن الدّهمة بالخُضرة إِذا لم تكن تامّة اللَّون، وذلك لتقاربهما فى اللون، قال تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} وبناؤهما من الفعل مُفْعالٌّ، وقد ادهامّ ادهِيماماً.
والدُّهن معروف والجمع أَدْهان ودِهَان. والطَّائفة منه دُهْنة. قال تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} أَي ملتبسة به. وقوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} قيل: هو الأَديم الأَحمر، وقيل هو دُرْدِىّ الزَّيت. والإِدهان فى الأَصل مثل التَّدهِين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ كما جعل التقريد - وهو نزع القُرَاد عن البعير - عبارة عن ذلك، قال تعالى: {أفبهاذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} . والإِدهان أَيضاً والمداهنة بمعنًى وهو إِظهار خلاف ما تضمر.(2/612)
بصيرة فى الدأب والدور والدول
الدَأْب والدّأَب: الشَّأن والعادة والسَّوق الشَّديد والطَّرْد. قال الله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} وَدَأَبَ فى عمله - كمنع - دأْباً ودَأَباً ودُءُوبا جَدَّ وتعِب. وأَدْأَبه الدّائبان: الليل والنَّهار.
والدّار مؤنَّثة وإِنَّما قال الله تعالى {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} وذكَّر على معنى المَثْوى والمنزل، كما قال تعالى: {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} فأَنَّث على المعنى. وأَدنى العدد أَدؤر، والهمزة مبدلة من واو مضمومة، ولك أَن تقول: أدْوُر بالواو. وجمع الكثير ديار ودُور كجبال وأُسْد. ويجمع أَيضاً على آدُر مقلوب أَدُورٍ وعلى دُوران وديران وأَدْوِرة.
وقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} قال مجاهد أَى مصيرهم فى الآخرة. وقال غيره: مدينة مصر.
ثم سمّيت كلُّ مَحَلَّة اجتمعت فيها قبيلة دارا وتسمّى البلدة داراً والصُّقْع داراً والدنيا كما هى داراً. والدّار الدّنيا والدّار الآخرة إِشارة إِلى المَقَرَّين(2/613)
فى النَّشأَة الأُولى وفى النَّشأة الآخرة. قال الله تعالى {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} أَى الجنَّة، و {دَارَ البوار} أَى الجحيم. والدَّورة والدّائرة فى المكروه كما يقال الدّولة فى المحبوب، قال تعالى: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أَى حادثة قاله ابن عرفة. وقال الأَزهرى: معنى الدّائرة الدّولة تدور لأَعداءِ المسلمين عليهم. وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} أَى يحيط بهم السُّوء إِحاطة الدائرة بمن فيها فلا سبيل إِلى الانفكاك عنها بوجه. وقوله: {تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} أَى تتداولونها وتتعاطونها من غير تأْجيل. وقوله تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أَى الموت والقتل.
والدّولة والدُّولة واحدة. وقيل: بالضمّ فى المال، وبالفتح فى الحرب والجاه. وقيل: الدُّولة بالضمّ اسم الشئ الَّذى يُتداوَل بعينه، والدولة المصدر، قال تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} . وتداول القومُ كذا أَى تناولوه من حيث الدّولة. وداول اللهُ بينهم، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} .
والدّوام: السّكون فى الأَصل. دام يدوم ويَدَام دَوْماً وَدَوَاماً وَدَيْمُومَةً، ودِمْتَ تدُومُ نادرة، وأَدامَه واستدامَه: تأَنَّى فيه، أَو طلب دوامه. والدّوْم والدَّيُّوم: الدّائم.(2/614)
بصيرة فى الدون والدين
يقال للقاصر عن الشئ: دُون. وقال بعضهم: هو مقلوب من الدنوّ. والأَدون الدّنئ. وقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} أَى ممّن لم تبلغ منزلتُه منزلتكم فى الدّيانة، وقيل فى القرابة. وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} أَى ما كان أَقلَّ من ذلك. وقيل: ما سوى ذلك. والمعنيان يتلازمان.
وقوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين مِن دُونِ الله} أَى غير الله، وقيل: معناه إِلهين متوسَّلاً بهما إِلى الله. وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ} أَى ليس لهم من يُواليهم من دون الله.
وقد يُغْرَى بلفظ دون فيقال: دونك كذا أَى تناوله. وقال بعض أَئمة اللغة: دون نقيض فوق، ويكون ظرفاً، وبمعنى أَمَامَ ووراءَ وفوق، وبمعنى الشريف والخسيس، وبمعنى الأَمر وبمعنى الوعيد. وقال بعضهم: الدُون: الحقير الخسيس، وقد دان وأُدِين.
أَمّا الدِّين فيقال للطَّاعة والجزاء واستعير للشريعة. والدّين كالملة لكنه يقال اعتباراً بالطَّاعة والانقياد للشريعة.(2/615)
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} أَى طاعة وقوله {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} حَثّ على اتِّباع دين النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذى هو أَوسط الأَديان وخيرها، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} . وقوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} قيل يعنى فى الطَّاعة، فإِنَّ ذلك لا يكون فى الحقيقة إِلاَّ بالإِخلاص، والإِخلاصُ لا يتأَتَّى فيه الإِكراه. وقيل إِنَّ ذلك مختصّ بأَهل الكتاب الباذلين للجزية. وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} يعنى الإِسلام كقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وقوله {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أَى غير مَجْزيِين.
وقال بعضهم: الدِّين: الجزاءُ، دِنتُه دَيْناً ودِيناً، والإِسلام [وفد] دِنتُ به، والعادة، قال:
تقول إِذا دَرَأتُ لها وضِينى ... أَهذا دينُه أَبداً ودينى
والطاعة كالدينة فيهما بالهاءِ، والذّلّ، والداءُ، والحساب، والقهر والغلبة، والسّلطان والحكم، والتَّوحيد، واسم لجميع ما يُتعبّد اللهّ به، والمِلَّة، والوَرَع، والمعصية، والإِكراه، ومن الأَمطار: ما تعاهد موضعاً فصار ذلك له عادة.(2/616)
وفى الحديث "إن الدّين يسرٌ" وفيه "إِنَّ دين الله الحنيفية السّمحة" وقال "إِنَّ الدّين متين فأَوْغِل فيه برفق" ومن كلام العلماءِ كُلْ من كَدّ يمينيك. ولا تأْكل بدِينك وقال الشاعر:
عجبتُ لمبتاع الضَّلالة بالهدى ... وللمشترى دنياه بالدّين أَعجب
وأَعجبُ من هذين مَن باع دينه ... بدنياه سواه فهْو من ذين أَخيب
والدّين ورد فى القرآن بمعنى التَّوحيد والشهادة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} أَى التوحيد وله نظائر، وبمعنى الحساب والمناقشة {مالك يَوْمِ الدين} {الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين} {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} أَى الحساب وله نظائر أَيضاً، وبمعنى حكم الشريعة {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} أَى فى حكمه، وبمعنى الإِيالة والسّياسة {فِي دِينِ الملك} أَى فى سياسته، وبمعنى المِلَّة {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أَى الملَّة المستقيمة، وبمعنى الإِسلام {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} .(2/617)
الباب العاشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الذال
بصيرة فى الذال
وهى ترد على أوجه:
الأول: حرف من حروف التهجِّى، (لِثويّة) مخرجها من أُصول الأَسنان قرب مخرج الثّاءِ، يجوز تذكيره وتأنيثه. وفعله من الأَجوف الواوىِّ، تقول: ذَوَّلت ذالاً حسنة. وجمعهُ أَذوالٌ وذَالات.
الثانى: فى حساب الجُمّل عبارة عن سبعمائة.
الثالث: الذَّال الكافية الَّتى تقتصر عليها من جملة الكلمة؛ كقول الشَّاعر:
ونحن على العَلاَّت بالعزِّ ننتمى ... وقومُك ساروا بالهَوان وبالذَّالِ
أَى بالذُّلّ.(3/3)
الرابع: الذال المكرَّرة نحو عذَّرَ، وعذَّبَ.
الخامس: الذَّال المدغمة مثل حذَّ، وقذَّ.
السَّادس: ذال العجز والضَّرورة، فإنَّ بعض النَّاس ينطق بها فى صيغة الزَّاى، وبعضهم يعكس فينطق بالزَّاى فى صيغة الذَّال.
السَّابع: ذال أَصل الكلمة: نحو ذَمَرَ، ومرذ، ورذم.
الثامن: الذَّال المبدلة من الثَّاءِ، نحو: تلعثم فى كلامه، وتلعذم.
التَّاسع: [الذال] اللُّغوى، قال الخليل: الذال: عُرْف الدِّيك، [قال] :
به برصٌ يلوح بحاجبَيْهِ ... كذالِ الديك يأتلق ائتلاقا(3/4)
بصيرة فى الذب
وهو الدَّفع والمنع. وذَبَّ: اختلف فلم يستقم فى مكان، ومنه الذُّباب، وهو يقع على المعروف من الحشرات الطَّائرة، وعلى النَّحْل والزنابير ونحوهما، قال:
فهذا أَوان العِرْض حَىٌّ ذُبَابه ... زنابيره والأَزرق المتلمِّس
ويروى طَنَّ ذبابه. والعِرْض: وادٍ باليمامة. والمتلمِّس: لقب جرير بن عبد المسيح، لُقّب بهذا البيت.
وقوله تعالى: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} هو الذباب المعروف. وذباب العين: إِنسانها، سمّى به لتصوّره بهيئته، أَو لطيران شُعاعه طيرانَ الذباب. وذباب السيف: طرَفه أَو حدّه / تشبيها به في إيذائه.
وذبّ جسمُه: هُزل فصار كذُباب.
والذبذبة: تردّد الشىءِ المتعلِّق في الهواءِ، وقِيل: حكاية صوت حركته، ثم استعير لكلِّ اضطراب وحركة. رجل مذبذِب ومذَبْذَب: متردِّد بين أمرين، قال تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} أَي مضطربين مائلين تارة إلى المؤمنين وتارة إِلى الكافرين.(3/5)
بصيرة فى الذبح والذخر والذر
ذَبَحَه ذبْحًا وذُبَاحًا: شقَّ حَلْقه وفتقه. وذبحه: نَحَرَه. وذبحه: خَنقه. وقوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} على التَّكْثِيرِ، أى يُذبَّحُ بعضُهم إِثر بعض.
والذَّبيح: المذبوح، وما يصلح أَن يذبح للنِّسك.
واذَّبَح على افتعل: اتَّخذ ذبيحاً. والذِّبْح - بالكسر -: ما يُذْبح.
والذُخْر: مصدر ذخرته إِذا أَعددتَهُ للعُقبى. وكذا ادَّخرته، قال تعالى: {وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . والمذاخِر: الجَوف، قال:
فلمّا سَقَيْناها العَكِيسَ تملأتْ ... مَذَاخِرُها وامتدّ رَشْحًا وَرِيدُها
والذَرّ، جمع ذَرَّة: وهى أَصغر النَّمل، كلُّ مائة منها زِنة شَعيرة، قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أَى لا يظلم أَبداً.(3/6)
بصيرة فى الذرع والذرء والذرية
(الذراع) : ذراع اليد، ويذكَّر ويؤنث، والجمع أَذرع وذُرْعان. وذَرَع الثوبَ: قاسه بها.
وضاق به ذَرْعُك مثل قولهم: ضاقت به يدك.
وذَرَع عنده: شَفَع.
والذَّرْءُ: إظهار الله ما أَبدأَه، يقال: ذَرَأَ الله الخَلْق أَى أَوجد أَشخاصهم، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً} أَى خلقنا.
الذُرْأَة بالضمّ: الشيب، وقيل: أَوّل بياضه فى مقدّم الرّأْس.
وذَرَأَ الشَّىءَ: كثَّره. قيل: ومنه الذُّرِّيّة مثلثة الذَّال، وهو اسم لنسل الثَّقَلين. وقيل: أَصلها الصّغار أَى الأَولاد، وإن كان يقع على الصِّغار والكبار معًا فى التعاريف، ويستعمل للواحد والجمع، وأَصله الجمع، قال اللهُ تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} .(3/7)
وفيها ثلاثة أَقوال، أَحدها: من ذرأَ بالهمزة كما تقدَّم فتُرِك همزهُ نحو بَرِيَّة. وقيل: أَصله ذُرُّوبَة، وقيل: هى فُعْليّة من الذَّر نحو قُمْرِيَّة. وقال أَبو القاسم البَلْخىّ فى قوله تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} من قولهم ذَرَّيت الحنطة، ولم يعتبر أَنَّ الأَوَّل مهموز.(3/8)
بصيرة فى الذكر
قال الله تعالى: {ص والقرآن ذِي الذكر} أَى ذُكر فيه قصص الأَوّلين والآخرين. وقيل: ذى الشَّرف. وقوله تعالى: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أى شرفكم وما تُذكرونَ به. وكذلك كقوله عزَّ وجلَّ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أى بما فيه شرفُهم.
والذِّكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن الإِنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إِلاَّ أَنَّ الحفظ يقال اعتبارًا بإِحرازه، والذِّكرُ يقال اعتباراً باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشىءِ القلب أَو القولَ، ولِهذَا قيل: الذِّكر ذِكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وكلُّ واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل [عن] إِدامة الحفْظ. وكلُّ قول يقال له ذِكْر.
فمن الذِّكْرِ باللِّسان قوله: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} أَى القرآن، وقوله: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر} أَى الكتبِ المتقدّمة.
وقوله: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً} فقد قيل: الذِّكْرُ هنا وصف للنبىِّ صلىَّ اللهُ عليه وسلَّم، كما أَنَّ الكلمة وصف لعيسى عليه السّلام من(3/9)
حيث إنَّه بشِّر به فى الكتب المتقدِّمة، فيكون قولُهُ (رَسُولاً) بدلاً منه. وقيل: (رسولاً) منتصب بقوله (ذكرًا) ، كأَنَّه قيل: قد أَنزلنا كتابًا ذاكرًا ورسولاً يتلو.
ومن الذكر عن النِّسيان قوله تعالى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} .
ومن / الذِّكر بالقول واللِّسان قوله: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ} وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} أَى من بعد الكتاب المتقدّم.
وقوله: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} أَى موجودًا بذاته وإِن كان موجودًا في علم الله. وقوله تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أَى أَوَلا يذكر الجاحد للبعث أَوَّل خلقه، فيستدِلّّ بذلك على إِعادته؟! وقوله: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} أَى ذكر الله لعبده أَكبر من ذكر العبد له، وذلك حَثٌّ على الإِكثار من ذِكره. وقيل: إِن ذكر الله إِذا ذكره العبدُ خير للعبد من ذكر العبد للعبد. وقيل: معناه أَنَّ ذكر الله ينهى عن الفحشاءِ والمنكر أَكثرَ ممَّا تَنْهَى الصلاة. وقوله تعالى: {أهاذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} يريد: يَعيب آلهتكم. كذلك قوله: {فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ(3/10)
لَهُ إِبْرَاهِيمُ} من قولك للرّجل: لئن ذكرتنى لتندمنَّ، وأَنت تريد: بسوءٍ، فيجوز ذلك، قال عنترة بن شدَّاد يخاطب امرأَته:
لاتذكرى فَرَسى وما أَطعمتُه ... فيكونَ جِلْدُك مثلَ جِلْد الأَجرب
أَى لا تعيبى مُهْرى، فجعل الذكر عيباً. وأَنكر أَبو الهيثم أَن يكون الذكر عيبًا، وقال فى قول عنترة: "لا تذكرى فرسى": لا تولَعى بذكره وذكر إِيثارى إِيّاه على عيالى باللَّبن.
وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} معناهُ: ذكر ربك عبده برحمته. وقوله تعالى: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} أَى تذكُّرًا. وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين} أَى لو جاءَنا ذكر كما جاءَ غيرنا من الأَوّلين. وقوله تعالى: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} أَى ادرُسوا ما فيه. وقوله: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} أَى احفظوها ولا تضيِّعوا شُكرها، كما يقول العربىُّ لصاحبه: اذكر حَقىِّ عليك، أى احفظه ولا تضيّعه.(3/11)
وتقول: ذكرته ذِكْرَى غير مجراة. وقوله تعالى: {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} الذِّكرى اسم أُقيم مُقام التذكير، كما تقول: اتَّقيت تَقْوى، ومنه قوله تعالى: {وذكرى لأُوْلِي الألباب} أَى وعبرة لهم. وقوله عزَّ وجلَّ: {ذِكْرَى الدار} أَي يُذكَّرُون بالدار الآخرة ويزَهَّدون في الدنيا. ويجوز أَن يكون المعنى: يكثرون ذكر الآخرة. وقوله تعالى: {فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} يقول: فكيف لهم إِذا جاءَتهم السَّاعةُ بذكراهم. وقوله تعالى: {يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} أَى يَتُوب ومن أَين له التَّوبة.
والتذكِرة: ما يُتذَكَّرُ به الشىءُ، وهو أَعمّ من الدَّلالة والأَمارة. وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} قيل معناه: تعيد ذكره، وقيل: تجعلها ذَكَرًا فى الحكم. وقال بعض العلماءِ فى الفرق بين قوله تعالى: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} وبين {اذكروا نِعْمَتِيَ} أَنَّ قوله (اذكرونى) مخاطبة أَصحاب النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذين حصل لهم فضلُ قوَّة بمعرفته تعالى، فأَمرهم بأَن يذكروه من غير واسطة، وقوله {اذكروا(3/12)
نِعْمَتِيَ} مخاطبة لبنى إِسرائيل الَّذين لم يعرفوا الله إِلا بالآية، فأَمرهم أَن يتصوّروا نعمته فيتوَصَّلوا بها إِلى معرفته تعالى.
والتذكير: الوعظ، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} ، وفى الحديث: "إنَّ القرآن ذَكَرٌ فذكِّرُوه"، أَى جليل نَبيه خطير فأَجِلُّوه، واعرفوا له ذلك وصِفُوه به. قالوا: رجل ذَكَرٌ للشهم الماضى فى الأُمور.
وقال بعضهم: ذَكر اللهُ الذِّكر فى القرآن على عشرين وجهًا:
الأَوّل: ذِكْر اللِّسان {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} .
الثانى: ذِكْر / بالقلب {ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} .
الثَّالث: بمعنى الوعظ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى} .
الرّابع: بمعنى التوراة {فاسئلوا أَهْلَ الذكر} .
الخامس: بمعنى القرآن {وهاذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} .
السّادس: بمعنى اللَّوح المحفوظ {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} .(3/13)
السَّابع: بمعنى رسالة الرّسول {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى رسالة.
الثَّامن: بمعنى العِبْرة {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} أَى العِبَر.
التَّاسع: بمعنى الخَبَر {هاذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} .
العاشر: بمعنى الرّسول {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً} .
الحادى عشر: بمعنى الشَّرف {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أَى شرف.
الثانى عشر: بمعنى التَّوبة {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} .
الثالث عشر: بمعنى الصَّلوات الخمس {فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم} .
الرابع عشر: بمعنى صلاة العصر خاصّة {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي} .
الخامس عشر: بمعنى صلاة الجمعة {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} .
السّادس عشر: بمعنى العُذْر من التَّقصير {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله} .(3/14)
السَّابع عشر: بمعنى الشَّفاعة {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} .
الثامن عشر: بمعنى التَّوحيد {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} .
التَّاسع عشر: بمعنى ذكر المنَّة {اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ} ، {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} .
العشرون: بمعنى الطَّاعة والخِدمة {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} أَى اذكرونى بالطَّاعة أَذكركم بالجنَّة.
والذَّكَرُ: خلاف الأُنثى، وجمعه ذكور وذُكْرَان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} أَى ومَنْ خلق، وقال: {خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} أَى آدم وحَوَّاء. وقال: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} وقال: {خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} .
وقال بمعنى التَّوأَمين {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} .
وبمعنى مَرْيم البتُول: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} .(3/15)
وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} وقال: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} وقال: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين} وقال {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} وقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} .(3/16)
بصيرة فى الذكو والذل والذم
ذَكَتِ النَّارُ تذكُو ذُكُوًّا وَذَكًا وذَكَاءً - بالمدّ عن الزَّمخشرى - واستَذكت: اشتدَّ لَهَبُهَا، وهى ذكيَّةٌ. وذكَّاها وأَذكاها: أَوقدها. والذَكْوة والذَكْيَة: ما ذَكَّاهَا به.
وذُكاءُ - غيرَ مصروفة -: الشمس. وابن ذُكاءَ - بالمدِّ - الصُّبح.
الذُّلُّ والذِّلَّة والذُّلالة والمذَلَّةُ: ضدُّ العِزِّ، ذلَّ يذِلّ فهو ذَليل، والجمع أَذِلاَّءُ، وذِلال، وذُلاَّن. وقيل: الذُّلُّ - بالضمِّ -: ما كان عن قهر، والذِّلَّ - بالكسر: ما كان بعد تصعُّب وشِماس من غير قهر، يقال: ذلَّ يذلُّ ذِلاًّ فهو ذَلُول، والجمع ذُلُل وأَذِلَّة.
وقوله تعالى: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} أَى لِنْ كالمقهور لهما، وقرىء (جَنَاح الذِّلِّ) بالكسر، والمعنى: لِنْ وانْقَدْ لهما.
ويقال: الذُّلَ والقُلُّ، والذِّلة والقِلَّة. والذُّلُّ: ما كان من جهة الإِنسان نفسه(3/17)
لنفسه [فمحمود] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} . وقوله تعالى: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} أَى منقادَةً غير مُستصْعِبة. وقوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} أَى سُهِّلَتْ. وقيل: الأُمور تجرى على أَذلالها أَى على مسالكها وطُرقِهَا.
والذَّمّ: ضد المدحِ. ذَمَّه ذَمًّا / ومَذَمَّة فهو مذموم وذَميم وَذَمٌّ، وذِمٌّ. وأَذمّهُ: وجده ذميما.
والذِّمام والمَذَمَّة: الحقُّ والحُرْمة، والجمع أَذِمًّة. والذمَّةُ: العهد والكَفَالة كالَذِمامة والذِّمِّ.(3/18)
بصيرة فى الذنب
الذَّنب في الأَصل: الأَخْذ بالذَنَب. يقال: ذَنبته أَى أَصبْتُ ذَنَبه. ويستعمل فى كل فعل يُستوخَم عقباه اعتباراً بذّنَبه. ولهذا سُمِّى الذَنْب تَبعة اعتبارًا بما يحصل من عاقبته.
والذَّنوب: الفرس الطَّويل الذَنَبِ، والدَّلو الَّذى له ذَنب. واستعير للنصيب كما استعير له السَّجْلُ، قال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً} ، وقال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أَى بكفره. وقال: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} أَى بعَقْرهم النَّاقة، وقال - تعالى - {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} ، وقال: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} ، وقال: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وقال {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} : وقال، {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ(3/19)
المجرمون} وقال: {ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} وقال: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} ، وقال: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} وقال:
أَذنبتُ كلَّ ذُنوب لستُ أُنكرها ... وقد رجوتك يا ذا المنّ تغفرُها
أَرجوك تغفرها فى الحشر يا سندى ... إِذ كنتَ يا أَملى فى الأَرض تسترُها(3/20)
بصيرة فى الذهب
وهذه الكلمة فى القرآن - على سبيل الإِجمال - على نوعين.
إِمَّا بمعنى الذَّهب الذى هو قرين الفضَّة {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} . {والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} .
وإِمَّا بمعنى المُضِى، ويرد فى القرآن على عشرين وجهًا. فى حقِّ المنافقين: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} . وقال {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، وقال {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} . {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} {يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} . {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} {اذهب إلى فِرْعَوْنَ} {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} . {فاذهب أَنتَ(3/21)
وَرَبُّكَ} {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي} {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} {اذهبوا بِقَمِيصِي هاذا} {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} أَى لتفوزوا بشىءٍ من المهر أَو غير ذلك ممَّا أَعطيتموهنَّ.
والذهاب يستعمل فى الأَعيان وفى المعانى كما تراه فى الآيات المذكورة.(3/22)
بصيرة فى الذوق
ذاقَه ذَوْقًا وذَوَقًا وَمَذَاقًا: اختبر طعمه. وأصله فيما يقلّ تناوله دون ما يكثر؛ فإِن ما يكثر من ذلك يقال له الأَكل. واختير فى القرآن لفظ الذَّوق للعذاب لأَنَّ ذلك وإِن كان فى التعارف للقليل فهو مستصلَح للكثير، فخصَّه بالذِّكْر لِيُعلم الأَمرين. وكثر استعماله فى العذاب، وقد جاءَ فى الرّحمة نحو: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا} . ويعبَّر به عن الاختبار، يقال: أَذقته كذا فذاق، ويقال: فلان ذاق كذا وأَنا أَكلته، أَى خَبَرته أَكثر ممّا خبره.
وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} فاستعمال الذَّوق مع اللِّباس من أَجْل / أَنه أُريد به التجربة والاختبار، أَى جعلها بحيث تمارس الجوع، وقيل: إِنَّ ذلك على تقدير كلامين كأَنَّه قيل أَذاقها الجوعَ والخوف وأَلبسها لباسهما. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} استُعمل فى الرَّحمة الإِذاقة وفى مقابلتها الإِصابة فى قوله {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} تنبيهاً على أَنَّ الإِنسان بأَدنى ما يعطَى من النعمة يبطَر ويأشَر.(3/23)
وقال بعض مشايخنا: الذَّوق: مباشرة الحاسّة الظَّاهرة أَو الباطنة، ولا يختصّ ذلك بحاسة الفم فى لغة القرآن، بل ولا فى لغة العرب، قال: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} ، وقال تعالى: {هاذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} ، وقال: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . فتأَمَّلْ كيف جمع الذَّوق واللِّباس حتىََّ يدلَّ على مباشرة الذوق وإِحاطته وشموله، فأَفاد الإِخبارُ عن إِذاقته أَنَّه واقع مباشر غير منتظر؛ فإنَّ الخوف قد يُتوقَّع ولا يباشر، وأَفاد الإِخبارُ عن لباسه أَنَّه محيطٌ شامل كاللِّباس للبدن.
وفى الصحيح عن النَّبى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ذاقَ طعم الإِيمان مَن رَضِىَ باللهِ ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمّد رسولاً" فأَخبر أَنَّ للإِيمان طعمًا، وأَنَّ القلب يذوقه كما يذوق الفم طعمَ الطَّعام والشَّراب. وقد عبّر النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن إِدراك حقيقة الإِيمان والإِحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذَّوق تارة، وبالطعامِ والشراب تارةً، وبوِجدان الحلاوة تارة، كما قال: ذاق طعم الإِيمان ... "الحديث"، وقال: "ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإِيمان".
والذَّوق عند العارفين: منزل من منازل السّاليكن أَثبتُ وأَرسخ من منزلة الوَجْد عندهم. وسيأتى الكلام فيه فى فنِّ علم التصوّف إِن شاءَ الله.(3/24)
بصيرة فى ذو وذا
ذا إِشارة إِلى المذكر، نقول: ذا وذاك، ويزاد لامًا فيقالُ: ذلك، أَو همزًا فيقال ذائك، وتصغَّر فيقال: ذيَّاك وذيَّالِك. وقد تدخل ها التنبيه على ذا فيقال: هذا (وتقول في المؤَنث ذاة وفى التثنية ذواتاً وفى الجمع ذوات. وذاتَ بينِكم أَى حقيقة وصلِكم، وقيل: ذاتُ البيْنِ: الحالُ الَّتى يُجمع بها المسلمون) . وذُوا على وجهين: أَحدهما ما يتوصّل به الوصف بأَسماء الأَجناس والأَنواع، ويضاف إِلى الظَّاهر دون المضمر، ويثنَّى ويجمع. والثَّانى لغة طيّىءٍ يستعملونها استعمال (الَّذى) ، ويجعل الرَّفع والنَّصب والجرّ والجمع والتأنيث على لفظ واحد، نحو قوله:
وبئرى ذو حَفَرْتُ وذو طويت
أَى التى حفرت
وأَمَّا ذا فى (هذا) فإشارة إِلى شىءٍ محسوس أو معقول. ويقال فى(3/25)
المؤَنث ذِه وذى وتا، [وقد تدخل ها التنبيه] فيقال: هذه وهذا وهاتا. ولا يثنّى منهن إِلا هاتا، فيقال: هاتان. ويقال بإِزاء هذا فى المستبعد بالشِّخص أَو بالمنزلة: ذاك وذلك، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الكتاب} .
وقولهم: [ماذا] يستعمل على وجهين، أَحدهما: أَن يكون [ما] مع (ذا) بمنزلة اسم واحد. والآخر: أَن يكون [ذا] بمنزلة الَّذى.
فالأَوّل نحو قولهم: عمّا ذا تسأَل؟ فلم يحذف الأَلف منه لمَّا لم يكن (ما) بنفسه للاستفهام، بل كان مع (ذا) اسما/ واحداً، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} فإِنَّ من قرأَ (قل العَفْوَ) بالنصب جعل الاسمين اسما واحدا، كَأَنَّه قال: أَىَّ شىءِ ينفقون؟ ومن قرأ الرّفع فإِنَّه يمنزلة الَّذى، وما للاستفهام، أَى ما الَّذى ينفقون؟(3/26)
بصيرة فى الذود والذئب
الذَّوْد: الطَّرد والدّفع، ذاده عن كذا ذَوْدًا وذِيادًا. قال الله تعالى: {امرأتين تَذُودَانِ} .
والذَوْدُ إِلى الذَوْدِ إِبِلُ. الذُوْد من الإِبل إِلى العشرة.
والذِّئب: الحيوان المعروف وهو كلب البرّ، والجمع أَذْؤب وذئاب وذُؤْبان، والأُنْثى ذئبة. وأَرض مَذْأَبة: كثيرة الذِّئاب. ورجل مذؤُوب: قد وقع الذِّئب فى غنمه. قال تعالى: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} .
وذّؤُب الرّجل وذَئِب ككرُم وفرح: خَبُث وصار كالذِّئب. وذَأَبه: جمعه، وخوّفه، وساقه، وحَقره، وطَرَده، وسوَّاه.
واستَذْأب النَّقَد، مثل للذُلاَّن إِذا عَلَوْا.
آخر حلف الذَّال ولله الحمد.(3/27)
الباب الحادى عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الراء(3/28)
بصيرة فى الرب
وهو اسم الله تعالى. وقد يخفَّف. والاسم الرِّبَابَة، والرُّبُوبيَّة. وعِلْم رَبُوبىٌّ: نسبة إِلى الرّبِّ تعالى على غير قياس. ولا ورَبِيك لا أَفعل، أَى ولا وربك، أَبدل الباءَ ياءً للتّضعيف. ورَبِّ كلِّ شىءٍ: مالكه ومستحقُّه وصاحبه، والجمع: أَرباب ورُبُوب. والرَّبّانِىُّ: المتأَلِّه العارف بالله عزَّ وجلَّ، والحَبْر، منسوب إِلى الرَّبَّان، وفَعْلان يُبنى من فَعِل كثيرًا كعطشان وسكران، ومِن فَعَل قليلا كنعْسان، أَو منسوب إِلى الربِّ تعالى فهو كقولهم: إِلَهىّ، ونونُه كنون لِحْيانىٍّ، أَو هو لفظة سريانيّة.
وأَصل الرّبِّ، التَّربية: وهى إِنشاءُ شىءٍ حالا فحالاً إِلى حدِّ التمام، يقال: رَبَّه وربّاه وربّبه، فالربُّ مصدر مستعار للفاعل. ولا يقال الربّ مطلقاً إِلا للهِ تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، قال تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} .
وقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} أَى آلهة، وتزعمون أنها البارى تعالى مسبِّب الأَسباب والمتولىِّ لمصالح العباد. وبالإِضافة يقال لله تعالى ولغيره: نحو ربّ العالمين، وربِّ الدَّار.(3/29)
وقوله: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} قيل: إِنه عنى به الله تعالى، وقيل: عنى به المَلِك الذى ربّاه، والأَول أَليق بقوله.
ويجمع على أَرباب، وكان من حقه ألاَّ يُجمع إِذ كان إِطلاقه لا يتناول إِلاَّ الله تعالى، لكن أُتى بلفظ الجمع فى قوله: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ} على حسب اعتقادتهم، لا على ما عليه ذاتُ الشىءِ في نفسه.
والرَّبَاب سُمِّى بذلك لأَنَّه يَرُبُّ النبات. وبهذا النظر سُمّى المطر دَرًّا.
ورُبَّ لاستقلال الشىءِ، ولاستكثاره، ضدّ. قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} .
وفيها لغات: رُبَّ / ورَبَّ ورُبَّت ورَبَّت - ويخفِّف الكلَّ - ورُبُ ورُبْ كمُذْ، ورُبَّمَا، ورَبَّمَا، ورُبَّتما، ويخفِّف الكلُّ. وهى حرف خافض لا تقع إِلاَّ على نكرة.(3/30)
بصيرة فى الريح والربص والربط
وهو الزِّيادة الحاصلة فى المبايعة، ثم يتجوّز به فى كلِّ ما يعود من ثمرة عمل. وينسب الربح إِلى صاحب السّلعة تارة، وتارة إِلى السِّلعة نفسها نحو قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} والرِّبْح - بالكسر - والرَّبَح - بفتحتين - والرَّباحُ - كسحاب - اسم ما ربحه.
والرَّبْص: الانتظار بالشَّىءِ، سلعة كانت يَقصد بها غَلاءً أَوْ رُخْصًا، أَو أَمرًا ينتظر زواله أَو حصولَه، خيرًا كان أَو شرًّا. ورَبَص به رَبْصًا: انتظر به كتربَّص. قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} .
وربط الفرسَ: شدّه فى مكان للحفظ. ومنه (رابط الجأش) وسُمِّى المكان الذى يُخصّ بإِقامة حَفَظَة [فيه] ربَطًا.
والمرابطة: المحافظة. وهى ضربان: مرابطة فى ثغور المسلمين(3/31)
، ومرابطة النَّفس فإِنها كمن أٌقيم في ثغر وفُوّض إِليه مراعاته فيحتاج أَن يراعيه غير مخلٍّ به، وذلك كالمجاهدة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "من الرّباط انتظار الصَّلاة بعد الصّلاة". وقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} إِشارة إِلى نحو قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} .(3/32)
بصيرة فى ربع وربو
أَربعة وأَربعون ورُبُع ورُبَاع كلُّه من أَصل واحد. ورَبَعْتُ القومَ أَرْبَعُهم: كُنْتُ لهم رابعًا. وَرَبَع وَتَره: فتله من أَربع طاقات، والإِبلُ: وردت الرِّبْع، والرَّجلُ: وقف، وتحبَّس، وانتظر، وأَخصب، والحجرَ: أشالَه، وأَخذ رُبُع الغنيمة، وعليهِ الحُمَّى: أَخذته يومًا بعد يومين، وقد رُبع كعُنى فهو مربوع، والحِمْلَ: رفعه على الدَّابة.
والمِرْبع والمِرْبَعة: العصا. والمَرْبع: المنزل. والرَّبْع: الدَّار بعينها. والرَّبيع: رابع الفُصُولُ الأَربعة. ورَبَع فلان وارتبع: أَقام في الرّبيع. ثم تجوّز به في كلِّ إِقامة، [وإِن كان ذلك] في الأَصل [مُختصاً بالربيع] .
والرُّبَع والرِّبعىّ: ما نُتج فى الربيع، و [جمع الرُبَع] الرِّباع.
والرَبَاعِيتان سُمِّيَتا لكون أَربع أَسنان بينهما.(3/33)
والرَّبوة والرباوة - مثلَّثتى الرّاءِ - والرَّابية والرباة: ما ارتفع من الأَرض، قال تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} ، قيل: هى الرّبوة المعروفة بدمشق. وقوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} أَى شديدة قويَّة. وربا فلان: حصل فى ربوة. وسمّيت الرّبوة رابية كأَنها رَبَتْ بنفسها. ومنه ربَا إِذا زاد وعلا، قال تعالى: {اهتزت وَرَبَتْ} أَى زادت زيادة المُتربىَّ. وأَربى عليه: أَشرف عليه. ورَبَّيت الولدَ فربا، من هذا، وقيل: أَصله من المضاعف فقلب تخفيفاً نحو تظنَّيت وتظننت.
والرّبا: زيادة على رأس المال، لكن خُصَّ فى الشريعة بالزيادة على وجه دون وجه. وباعتبار الزيادة قال: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} . ونبَّه بقوله: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} أنَّ الزِّيادة المعقولة المعبَّر عنها بالبركة مرتفِعة عن / الربا. ولذلك قال فى مقابلته: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولائك هُمُ المضعفون} .(3/34)
بصيرة فى الرتع والرتق والرتل
الرَّتعة والرَّتَعة: الاتِّساع فى الخصب. ورَتعَ يَرْتَع رَتْعًا ورُتوعاً، ورِتاعًا أَكل بشرهٍ، أَو أَكل وشرب رَغَدًا فى الرّيف. وإِبلٌ رِتَاع ورُتَّع ورُتوع ورُتُع. أَصل ذلك فى البهائم، وقد يستعار للإِنسان إِذا أُريد به الأَكل الكثير: قال تعالى، عن إِخوة يوسف، {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} .
والرَّتْق: الضمُّ والالتحام، خِلْقة كان أَو صَنْعة، قال تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً} أَى منضمَّتين. وامرأَة رَتْقَاءُ: بيّنة الرَّتَق، وهى التى لا يُستطَاع جِماعُها، وقيل: الَّتى لا خَرْق لها إلاَّ المبال، وقيل: المنضمَّة الشُّفْرين. وفلان راتِق فاتِقٌ فى كذا أَىْ هو عاقِد حالٌّ.
والرَّتَل: اتِّساق الشىءِ وانتظامه على استقامة. يقال: رجل رتِل الأَسنان، وهو حُسْن تناسقها وبياضُها وكثرة مائها. والرَّتَل والرَّتِل: الطَّيِّب من كلِّ شىءٍ. ورتَّل الكلام ترتيلا: أَحسن تأليفه. وترتَّل فيه: ترَّسل.(3/35)
بصيرة فى الرج والرجز والرجس
الرَّجّ: تحريك الشىءِ وإِزعاجه. رَجَّه فارْتجَّ. قال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} . والرّجرجة: الاضطراب. وكتيبة رَجْراجة، وجارية رجراجة. وارتجَّ كلامُه: اضطرب.
والرجز أَصله الاضطراب، ومنه قولهم: رَجِز البعيرُ يَرْجَز رَجَزا فهو أَرْجز، [وناقة] رجزاءُ: إِذا تقارب خَطْوه واضطرب لِضعفٍ فيه. وشُبِّه الرَجَز به فى الشعر لتقارب [أَجزائه] وتصوّر رَجَزٍ فى اللسان عند إِنشاده، ويقال لنحوه من الشعر: أُرجوزة وأَرَاجيز. ورَجَز فلان وارتجزَ: إِذا عمل ذلك، أَو أَنشده. وهو راجز ورَجَّاز.
وقوله تعالى: {عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} فالرِّجز ههنا كالزَّلزلة. وقوله: {والرجز فاهجر} قيل: هو صَنم، وقيل: هو كناية عن الذَّنب فسمّاه بالمآل كتسمية النَّدَى شحمًا. وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان}(3/36)
الشيطان، هنا عبارة عن الشُّهوة، فإِن كلَّ قوَّة ذميمة تسمى شيطاناً. وقيل: بل أَرَاد برجْز الشيطان ما يدعو إِليه من الكفر والبهتان والفساد.
والرِّجس: الشىءُ القَذِر. يقال: رجل رِجْسٌ، ورجال أَرجاس.
وهو على أَربعة أَوجه: إِمَّا من حيث الطَّبع، وإِمّا من جهة العقل، وإِمّا من جهة الشرع، وإِمّا من كلِّ ذلك، كالمَيتة فإِنَّها تُعاف طبعًا وعقلاً وشرعاً.
والرّجس من جهة الشرع: الخمر والمَيْسِرِ، وقيل: إِنَّ ذلك رِجْسٌ من جهة العقل، وعلى ذلك نبَّه بقوله {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} لأَنَّ كلَّ ما يزيد إِثمُه على نفعه فالعقل يقتضى اجتنابَه. وجعل الكافرين رجساً من حيث إِنَّ الشرك أَقبح الأَشياء.
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} ، قيل: الرّجس: النَتْن، وقيل: العذاب، وذلك كقوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} .(3/37)
وقوله: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} وذلك من حيث الشرع. والله أَعلم.
وقوله تعالى: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} أَى عذاب.
وقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} أَى نِفاقًا إِلى نِفاقهم.
وقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} ، الرّجس بمعنى الصَنم.
قال الشاعر:
الغَدْرُ فى الشِيمة رِجْسٌ نِجْسُ ... وإِنما الغادر جِبْسٌ نِكْسُ
فلا تمبلنَّ إِليه النفس ... فإِنما ذلك خُلْق بَخْسُ(3/38)
بصيرة فى الرجع
وهو الإِعادة، والرَجْعةُ المرَّة منه. والرَِّجعة - بالفتح والكسر - فى الطَّلاق، وفى العَود إِلى الدُّنيا بعد الممات، يقال: فلان يؤمن بالرَِّجعة. والرّجوعُ: العود إِلى ما كان منه البدءُ، أَو تقديرُ الْبَدْءِ، مكانًا كان أَو فعلاً أَو قولاً، وبذاته كان رجوعه، أَو بجزءٍ من أَجزائه، أَو بفعل من أَفعاله، وقد رجع يرجع رُجوعًا ومَرْجِعًا ورُجْعَى: عاد. ورَجَعَهُ رَجْعًا وأَرجعه: أَعاده. قال:
تذكَّرت أَيَّامًا لنا ولياليًا ... مضت فجرت من ذكرهنَّ دموعُ
أَلا هل لها يومًا من الدَّهر أَوْبةٌ ... وهل لى إِلى أَرض الحبيب رُجوع
وهل بعد تفريق النِّدام تواصلٌ ... وهل لنجوم قد أَفَلْن طُلوع
ووردت هذه المادّة فى القرآن على عشرة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى المطر {والسمآء ذَاتِ الرجع} أَى المطر.
الثَّانى: بمعنى الردّ {رَبِّ ارجعون} أَى رُدُّونى، {فارجع البصر} أَى رُدَّه.
الثالث: بمعنى العود {لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} أَى أَعود، {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة} أَى عُدْنَا. ونظائرهما كثيرة.(3/39)
الرَّابع: بمعنى رجعة الطَّلاق {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} .
الخامس: بمعنى الموت {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} .
السَّادس: بمعنى الرّجوع إِلى الدُّنيا بعد الموت {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أَى لا يُرَدُّون إِلى الدُّنيا فإِنا حرّمنا عليهم أَن يتوبوا ويرجعوا عن الذَّنب، تنبيها أَنَّه لا توبة بعد الموت.
السَّابع: بمعنى الإِقبال على الشىءِ {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} أَى أَقبلوا عليها.
الثَّامن: بمعنى التوبة {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَى يتوبون.
التَّاسع: بمعنى مصير الخَلْق إِلى الله تعالى، ومصير أمُور العالَم إِلى كلمته تعالى {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} .
العاشر: رجوع إِخْوة يوسف إِليه {إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ} .
وقوله تعالى: {بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} من الرّجوع أَو من رَجْع الجواب. وقوله: {فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} من رَجْع الجواب لا غير.(3/40)
بصيرة فى الرجف والرجل
رَجَف لازمٌ ومتعدٍّ، رَجَف رَجْفًا ورجَفَانًا ورُجُوفاً: تحرَّك. ورَجَفَهُ رَجْفًا: حَرّكه. وَرَجَفَت الأَرْضُ وأَرْجَفتْ: زُلزلت. و {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} ، فالراجفة: النفخة الأُولى - والرَّادفة: النفخة الثانية. والرَّجَّاف: يومُ القيامة، والبحر لاضطرابه. والإِرجاف: إيقاع الرَّجْفة إِمَّا بالفعل وإِما بالقول. وأَرْجف القومُ: خاضوا فى الأَخبار السَّيِّئة من أَمر الفِتَن ونحوها.
والرَّجُل: مختص بالذَّكَرِ من النَّاس، ويقالُ: الرَّجُلَة للمرأَة إِذا كانت متشبِّهةً بالرّجل فى بعض أَحوالها، و [هو] بَيِّنُ الرُّجولة والرَّجولية والرُّجْلة والرَّجُليّة والرُّجوليَّة.
وقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فالأَوْلَى به / الرُّجوليّة والجلادة. وقيل: لا يُسمَّى الإِنسان رجلاً إِلاَّ إِذا احتلم وشَبَّ، وقيل: يسمّى رجلا ساعة تلدُهُ أُمّه. تصغيره: رُجَيلٌ ورُوَيجِلٌ، وجمعه: رِجَال ورجالات، ورَجْلَة، ومَرْجَلٌ، وأَراجِل. وهو أَرجَل الرَّجُلين: أَشدَّهما.
وورد الرّجل فى القرآن على وجوه:(3/41)
الأَول: بمعنى الشخص {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أَى لشخص من البشر.
الثانى: بمعنى ابن مسعود الثَقَفى: {على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} .
الثالث: بمعنى النبىِّ صلىَّ اللهُ عليه وسلَّمَ: {إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} ، {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} .
الرَّابع: بمعنى حزبيل مذكِّر قوم فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} .
الخامس: بمعنى رجلين من بنى إِسرائيل مؤمن وكافر، يهودا وفُطروس: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا} .
السَّادس: بمعنى يُوشَعَ بن نُون وكالِب بن يُوفِنا من قرابة موسى الكلِيم {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} .(3/42)
السّابع: بمعنى حَبيبٍ النَّجار: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} .
الثامن: بمعنى حزبيل مخبر موسى من مكر فرعون: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} .
التَّاسع: بمعنى الصَّنم: {مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} .
العاشر: بمعنى المؤمن والكافر: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} يعنى المؤمن والكافر.
والرِّجْل - بالكسر -: العضو المخصوص بأَكثر الحيوان. واشتق من الرِّجْل، راجِلٌ، ورَجُلٌ، ورَجِيلٌ، ورَجْلٌ، ورَجْلانُ: إِذا لم يكن له ظهر يَركبه، بل يمشى على رجليه، وقد رَجِل. والجمع: رِجال، ورَجَّالة، ورُجَّال ورَجَالَى، ورُجالَى، ورُجْلانٌ، ورَجْلة، ورِجْلة، وأَرْجِلة، وأَراجِل، وأَراجيل. ورجَلْت الشاة: علَّقتها بالرِّجل. واستعير الرِّجْل للقطعة من الجراد، ولزمان الإِنسان، يقال: كان ذلك على رِجْل فلان، كقولك: على رأس فلان.(3/43)
بصيرة فى الرجم (والرجا)
والرِّجام: الحجارة. والرَّجْم: الرّمى بالرِّجام، يقال: رُجمٍ فهو مرجوم. والرَّجْم أَيضاً: القتل، والقَذْف، والغيب، والظَنُّ، واللَّعن، والشَّتم، والخليل، والنَّديم، والهِجران، والطَّرد، واسم ما يُرجَم به. والجمع رُجُوم.
والرَّجَم - بالتَّحريك -: البئر، والتَّنوُّر، والقبر كالرَُّجْمة، والإِخوان واحدهم رَجْم.
والرُّجُم - بضمتين -: النُّجوم يُرْمى بها كالرُّجُوم، وحجارة تُنصب على القبر.
وقد ورد فى القرآن على خمسة معان.
الأَوّل: بمعنى القَتْل: {لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} أَى المقتولين أَقبح قتلة، {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أَى لنقتلنكم.
الثانى: بمعنى السّبِّ والشَّتم: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} أَى لأَشتمنَّك.
الثالث: بمعنى الرّمى بالحجارة: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} .(3/44)
الرَّابع: بمعنى الظَّنّ: {رَجْماً بالغيب} .
الخامس: بمعنى [الطرد] : {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} قيل: سُمِّى رجيما لكونه مطروداً ملعوناً مسبوباً، وقيل: لكونه مطرودًا عن الخيرات وعن منازل الملأ الأَعلى.
وقوله صلىَّ الله عليه وسلَّم: "لا تَرْجُموا قبرى" أَى لا تضغوا عليه رِجَامًا.
ورَجَا البئرِ والسَّماءِ وغيرهما: جانبها. والجمع أَرْجاءٌ.
والرّجاءُ: ظن يقتضى حصول ما فيه مَسَرَّة. وقوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قيل: ما لكم لا تخافون. وأنشد:
إِذا لَسَعَتْه النحل لم يَرْجُ لسعَهَا ... وحالفها فى بيت نُوبٍ عوامِلُ
ووجه ذلك أَن الرجاءَ والخوف يتلازمان، قال تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} .(3/45)
بصيرة فى الرجاء
رَجَا البئْرِ والسّماءِ وغيرهما: جانبهما. والجمع / أَرْجاءٌ.
والرجاءُ: الاستبشار بوجود فضل الربِّ تعالى، والارتياحُ لمطالعة كرمه، وقيل: هو الثِّقة بوجود الربّ. وقيل: الرّجاءُ ظن يقتضى حصول ما فيه مسرّة. وهو من أَجلِّ منازل السّالكين وأَعلاها وأَشرفها، وقد مدح الله تعالى أَهله وأَثنى عليهم فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر} . وأَخبر تعالى عن خواصّ عباده الذين كان المشركون يزعمون أَنهم يتقربون بهم إِلى الله أَنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أولائك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} ، وفى الحديث الصَّحيح فيما يروى عن ربِّه تعالى: "ابنَ آدمَ إِنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالى".
فالرّجاءُ عبوديّة وتعلق بالله من حيث اسمه البَرّ المحسن. فذلك التعبد(3/46)
والتعلق بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الَّذِى أَوجب للعبد الرّجاءَ من حيث يدرى ومن حيث لا يدرى. فقوّة الرّجاءِ على حسب قوّة المعرفة بالله وأَسمائه وصفاته وغلبة رحمته على غضبه. ولولا رُوح الرّجاءِ لعطِّلت عبوديّة القلب والجوارح، وهُدّمت صوامِعُ وبيَعٌ وصَلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. بل لولا روح الرّجاءِ لما تحرّكت الجوارح بالطَّاعة، ولولا رِيحه الطِّيبة لما جرت سُفُن الأَعمال فى بحر الإِرادات، قال بعض مشايخنا:
لولا التعلُّق بالرجاءِ تقطَّعت ... نفسُ المحبّ تحسُّرًا وتمزُّقا
وكذلك لولا بَرْدهُ لحرارة الْـ ... ـأكباد ذابت بالحجاب تحرّقا
أَيكون قطُّ حليفُ لا يُرى ... برجائه لحبيبه متعلِّقا
أَم كلَّما قويت محبَّته له ... قوى الرّجاءُ فزاد فيه تشوّقا
لولا الرّجا يحدو المطىّ لما سرت ... بحُمولها لديارهم ترجو اللَّقا
وعلى حسب المحبّة وقوّتها يكون الرّجاءُ. وكلُّ محبٍّ راج وخائف بالضرورة، فهو أَرجى ما يكون بحيبيه أَحبَّ ما كان إِليه. وكذلك خوفه فإِنَّه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإِبعاده واحتجابه عنه. فخوفه أَشدّ خوف. فكلّ محبّة مصحوبة بالخوف والرّجاء، وعلى قدر تمكُّنها من قلب المحبِّ يشتدّ خوفه ورجاؤه. ولكن خوف المحب لا يصحبه خشية بخلاف خوف المسىء، ورجاءُ المحبِّ لا يصحبه غاية بخلاف(3/47)
رجاء الأجير. فأَين رجاءُ المحبِّ من رجاءِ الأَجير؟! بينهما كما بين حاليهما.
وبالجملة فالرّجاءُ ضرورى للسّالك والعارف، ولو فارقه لحْظه لتلف أَو كاد، فإِنَّه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إِصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها أَو دوامها، وقربٍ من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إِليها. ولا ينفكُّ أَحد من السَّالكين من هذه الأُمور أَو من بعضها.
والفرق بين الرّجاءِ والتَّمنِّى أَن التمنى يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طُرُق / الجدّ والاجتهاد، والرّجاءُ يكون مع بذل الجهد وحسن التَّوكُّل، ولهذا أَجمع العارفون على أَنَّ الرّجاءَ لا يصحُّ إِلاَّ مع العمل.
والرّجاءُ ثلاثة أَنواع: نوعان محمودان، ونوعُ غُرورٍ مذموم. فالأَولان رجاءُ رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راجٍ لثوابه، ورجل أَذنب ذنباً ثم تاب منه، فهو راج لمغفرته. والثالث رجل متماد فى التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغُرور والتَّمنِّى والرّجاءُ الكاذب.(3/48)
وللسّالك نظران: نظر إِلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه بابَ الخوف، ونظر إِلى سعة فضل ربّه وكرمه وبرِّه يفتح عليه بابَ الرّجاءِ، "وهما كجناحى الطائر إِذا استويا استوى الطَّائر وتمَّ طيرانه".
واختلفوا أَىّ الرّجاءَين أَكمل، رجاء المحسن ثواب إِحسانه، أَو رجاء المذنب التائب عفو ربِّه وعظيم غفرانه؟ فطائفة رَجَّحت رجاءَ المحسن لقوّة أَسباب الرّجاء معه. وطائفة رجَّحت رجاءَ المذنب، لأَنَّ رجاءَه مجرّد عن علَّة رؤية العمل، مقرون برؤية ذِلَّة الذَّنب. قال يحيى بن مُعاذَ: "إِلهى أَحلى العطايا فى قلبى رجاؤُك، وأَعذب الكلام على لسانى ثناؤُك، وأَحبُّ السّاعات إِلىَّ ساعةٌ يكون فيها لقاؤُك". وقال أَيضاً: "يكاد رجائى لك مع الذُّنُوب يغلب على رجائى لك مع الأعمال، لأَنى أَجدنى أَعتمد فى الأَعمال على الإِخلاص، وكيف أُحرزها وأَنا بالآفات معروف. وأَجدنى في الذنب أَعتمد على عفوك. وكيف لا تغفرها وأَنت بالجود موصوف".
فإِن قلت: ما تقول فى قول من جعل الرّجاء من أَضعف [منازل] المريدين؟ قلت: إِنما أَرادوا بالنسبة إِلى ما فوقه من المنازل، كمنزلة المحبَّة والمعرفة والإِخلاص والصِّدق والتَّوكُّل والرِّضا، لا أَن مرادهم ضَعف هذه المنزلة فى نفسها وأَنها منزلة ناقصة. فافهم، فقد أَوضحنا لك أَنَّها من أَجلِّ المنازل وأَعلاها وأَشرفها. والله أَعلم.(3/49)
وقال بعض المفسِّرين: ورد الرّجاءُ في القرآن على ستَّة أَوجه:
أَوّلها: بمعنى الخوف: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} ، أَى ما لكم لا تخافون. قال:
إِذا لسعته النَّحل لم يَرْجُ لسعها ... وخالفها فى بيت نُوب عوامل
ومنه: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} ، وقوله: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله} .
الثانى: بمعنى الطمع: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} ، {أولاائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله} .
الثالث: بمعنى توقُّع الثواب: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} .
الرَّابع: الرّجا المقصور بمعنى الطَّرَف: {والملك على أَرْجَآئِهَآ} .
الخامس: الرّجاء المهموز: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أَى احبسه.
السَّادس: بمعنى التَّرك والتأْخير: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} : تؤَخّره، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} .(3/50)
بصيرة فى الرحب والرحق والرحل
رَحُب المكانُ ورَحِب، ككَرُم وسَمِعَ، رُحْبًا ورَحَابة، فهو رَحْبٌ ورَحِيبٌ ورُحاب: اتَّسعَ، كأَرحَبَ. ومَرْحَبًا وسهلاً، أَى صادفتَ سعة وسهولة. ومَرْحَبك اللهُ ومَسْهلك، ومرحباً بك الله ومَسْهَلاً.
ورحّب به: دعاه إِلى الرُّحب.
والرَّحِيق: الخمر، وقيل: أَطيب الخمور وأَفضلها /، وقيل: الخمر الصّافى، وقيل: الخالص، والشُهْد. والرُّحاقُ: لغة فى الكلِّ. والرّحيق أَيضاً: ضرب من الطِّيب.
والرّحْل: ما يوضع على البعير المركوب، ثم يعبَّر به تارة عن البعير، وتارة عمّا يُجْلَس عليه في المنزل، وجمعه: رِحَالٌ، وأَرْحُلٌ. والراحُول: لغة في الرّحْلِ. والرّحل أَيضًا: مسكنك وما تستصحبه من الأَثاثِ.
والرِّحالة: السَرْج، وقيل: سَرج من جلود لا خشب فيه، يتَّخذ للرَّكض الشديد.(3/51)
رَحَل البعيرَ وارتحله: حَطَّ عليه الرَحْل، فهو مرحول ورحيل. والمُرَحَّلة: إِبلٌ عليها رِحالها، والَّتى وُضعت عنها رحالُها، ضدّ.
وارتحل البعيرُ: سار فمضى. والقومُ عن المكان: انتقلوا كترحَّلوا. والاسم الرِّحلة والرُّحْلة، وقيل: بالكسر: الارتحال، وبالضمِّ: الوجه الذي يأَخذه.
والرَّاحلة: البعير الذى يصلح للارتحال.
وراحَلَهُ: عاونه [على رحلته] .(3/52)
بصيرة فى الرحمة والرحمان والرحيم
الرّحمة: رِقَّةٌ تقتضى الإِحسان للمرحوم وقد تُستعمل تارة فى الرقّة المجرّدة، وتارة فى الإِحسان المجرّد عن الرقَّة، نحو: رحم الله فلانًا. وإِذا وُصف به البارىءُ تعالى فليس يراد به إِلاَّ الإِحسان المجرّد دون الرقَّة. وعلى هذا رُوى أَنَّ الرحمة من الله إِنعام وإِفضال، ومن الآدميِّين. رقَّة وتعطُّف.
وقوله صلىَّ الله [عليه وسلم] مخبرًا عن ربِّه - سبحانه: "لمّا خلق الرّحم قال تعالى: أَنا الرحمان وأَنت الرّحِم، شققت اسمك من اسمى، فمن وصلك وصلتُه، ومن قطعكِ قطعته" ويروى بتتُّه. وذلك إِشارة إِلى ما تقدم، وهو أَنَّ الرَّحمة منطوية على معنيين: الرقة والإِحسان، فركَّب تعالى فى طباع النَّاسِ الرِّقَه، وتفرّد بالإِحسان.
ولا يطلق الرّحمان إِلاَّ على الله تعالى مطلقاً ولا مضافاً، وقولهم: رَحْمان اليمامة لمسيلمة الكذَّاب فبَابٌ مِن تعنُّتهم فى كفرهم. ولا يصحّ الرّحمان إِلاَّ له تعالى؛ إِذ هو الَّذى وَسِعَ كلَّ شىءٍ رحمة وعلماً. والرّحيم يستعمل فى غيره، وهو الَّذى كثرت رحمته. وقيل: الرَّحمان عامّ والرّحيم خاصّ، فالرحمان العاطف بالرِّزق للمؤمنين والكافرين، والرّحيم(3/53)
خاصّ بالمؤمنين. وقيل: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وقيل رحمان المعاش ورحيم المعاد، وقيل: رحمان الأَغنياءِ ورحيم الفقراءِ، وقيل: رحمان الأَصحَّاءِ ورحيم المرضى. وقيل: رحمان المصطفَيْنَ ورحيم العاصِين. وقيل: رحمان الأَشباح ورحيم الأَرواح. وقيل: رحمان بالنعماءِ ورحيم بالآلآء. وقيل: الرّحمان: الذى الرّحمة وصفه، والرّحيم: الرّاحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، ولم يجىء رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين، مع ما فى اسم الرّحمان الذى هو على زنة فعلان، أَلا ترى أَنهم يقولون: غضبان للممتلىءِ غَضَبًا، وندمان وحَيران وسكران ولهفان لمن ملىءَ بذلك، فبناءُ فعلان للسّعة والشمول، ولهذا يقرن استواؤه على عرشه بهذا الاسم كثيرا، كقوله تعالى: {الرحمان عَلَى العرش استوى} ، {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ، فاسْتوى على عرشِه باسم الرّحمان؛ لأَنَّ العرش محيط بالمخلوقات قد وسِعها / والرّحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ، وفي الصّحيح عن أَبى هريرة يرفعه: "لما قضى الله الخَلْق كتب في كتاب، فهو موضوع على العرش: رحمتى تغلب على غضبى" وفى لفظٍ: "سبقت رحمتى على غضبى" وفى لفظةٍ: "فهو عنده وضعه على العرش".(3/54)
فتأَمّل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرّحمة ووضعه عنده على العرش، وطابِق بين ذلك وبين قوله: {الرحمان عَلَى العرش استوى} ، وقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمان فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} ينفتح لك بابٌ عظيم من معرفة الرّب تبارك وتعالى، لا يغلقُه عنك التعطيل والتَّجسيم.
واعلم أَنَّ صفات الجلال أَخصّ باسم الله، وصفات الإِحسان والجُود والبِرِّ والحَنَان والرّأْفة واللّطف أَخصُّ باسم الرَّحمان. وكرَّره فى الفاتحة إِيذانًا بثبوت الوصف. وحصول أَثره، وتعلُّقه بمتعلّقاته.
والرَّحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أَرسل إِليهم رُسُله، وأَنزل عليهم كُتُبه، وبها هداهم، وبها أَسكنهم دار ثوابِه، وبها رزقهم وعافاهم.
وقد ورد الرّحمة فى القرآن على عشرين وجهاً:
الأَوّل: بمعنى منشور القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} .
الثانى: بمعنى سيّد الرُسُل: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، وقال صلىَّ الله عليه وسلَّم: "إِنَّما أَنَا رَحْمَة مُهْدَاة".
الثالث: بمعنى توفيق الطَّاعة والإِحسان: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} .(3/55)
الرَّابع: بمعنى نبوّة المرسلين: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} .
الخامس: بمعنى الإِسلام والإِيمان: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} .
السّادس: بمعنى نعمة العِرفان: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أَى معرفة.
السّابع: بمعنى العصمة من العصيان: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} .
الثامن: بمعنى أَرزاق الإِنسان والحيوان: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} .
التاسع: بمعنى قَطَرَات ماءِ الغِيثان: {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} .
العاشر: بمعنى العافية من الابتلاءِ والامتحان: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} .
الحادى عشر: بمعنى النجاة من عذاب النيران: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} .
الثانى عشر: بمعنى النُصْرَةِ على أهل العدوان: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} .(3/56)
الثالث عشر: بمعنى اللأُلْفة والموافقة بين أَهل الإِيمان: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} .
الرابع عشر: بمعنى الكتاب المنزل على موسى بن عمران: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} .
الخامس عشر: بمعنى الثناء على إِبراهيم والوِلدان: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} .
السّادس عشر: بمعنى إِجابة دعوة زكريا مبتهلا إِلى الله المَنَّان: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} .
السّابع عشر: بمعنى العفو عن ذوى العصيان: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} .
الثامن عشر: بمعنى فتح أَبواب الرَّوْحِ والرَّيْحان: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} .
التاسع عشر: بمعنى الجنَّةِ دار السّلام والأَمان: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} .(3/57)
العشرون: بمعنى / صفة الرّحيم الرحمان: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} . وفي الخبر: "إِنَّّ الله تعالى خلق الأَرواح قبل الأَجساد بأَربعة آلاف سنة، وقدَّر الأَرزاق قبل الأَرواح بأَربعة آلاف سنة، وكَتب الرَّحمة على نفسه قبل الأَرزاق بأَربعة آلاف سنة. ولهذا قال: سبقت رحمتى غضبى، وعفوى عقابى".
والرَّحِم: رَحِم المرأة. وامرأَةُ رَحُومٌ: تشتكى رحمها. ومنه استعير الرّحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة، ويقال: رَحِمٌ ورُحْم، قال تعالى: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} ، وقال: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} .(3/58)
بصيرة فى الرخاء والرد
شىءٌ رِخْوٌ - بالكسر - أَى لَيِّن. ومنه اشتقَّت الرُّخاءُ، وهى الريح اللَّيِّنة، يقال: نُقيم فى رَخَاءٍ ونسيمٍ رُخاء.
والردّ: صرف الشىءِ بذاته أَو بحالة من حالاته، يقال: رددته فارتدّ. فمن الرَدّ بالذَّات قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} . ومن الرَدَّ إِلى حالة كان عليها قوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ} ، وقولُه: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} ، أَى لا دافع ولا مانع له. والرد كالرَجْع. ومنهم من من قال: في الردِّ قولان: أَحدهما: ردّهم إِلى ما أشار إِليه بقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} ، والثَّانى: رَدّهم إِلى الحياة المشار إِليها بقوله: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} ، فذلك نظر منهم إِلى حالتين كلتاهما داخلة فى عموم اللفظ.
وقوله تعالى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} قيل: عَضُّوا الأَنامِلَ غيظاً، وقيل: أَوْمَئوا إِلى السّكوت، فأَشاروا باليد إِلى الفم، وقيل: ردّوا أَيديهم(3/59)
فى أَفواه الأَنبياء فأَسكتوهم. واستعمال الردَّ فى ذلك تنبيه أَنَّهم فعلوا ذلك مرّة بعد مرَّة أُخرى. وقوله: {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ، أَى يرجعونكم إِلى حال الكفر بعد أن فارقتموه.
والارتداد والرِدّة: الرّجوع فى الطريق الَّذى جاءَ منه، لكن الرِدّة تختصّ بالكفر، والارتداد فيه وفى غيره، قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} ، وقال: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} . وقوله: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} ، أَى إِذا تحققتم أَمرًا وعرفتم خبرًا فلا ترجعوا عنه. وقوله: {فارتد بَصِيراً} ، أَى عاد إِليه البصر.
ويقال: رددت الحكم فى كذا إِلى فلان: فوّضته إِليه. وفى الحديث الصّحيح: "يقول الله تعالى ما تردّدت فى شىءٍ أَنا فاعله ما تردَّدت فى قبض روح عبدى المؤمن، يكره الموت، وأَنا أَكره مساءَته". وعن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ ردَّ سائلا خائباً لم تَرِد الملائكة ذلك البيت سبعة أَيَّام"، وقال: "لَوْلا أَنَّ السّؤَّال يكذبون ما قُدِّس مَن ردّهم". وقال:(3/60)
"إِذا أَتاكُمُ السُّؤّال فأَعطوهم يسيرًا أَو ردّوهم ردّا جميلاً، فإِنَّه يأتيكم مَنْ ليس بإِنس ولا جانّ يختبرونكم فيما خُوّلتم من الدُّنيا". قال الشاعر:
إِلى كم ذا التخلّف والتوانى ... وكمْ هذا التمَّادى فى التَّمادى
فما ماضى الشَّباب بمسْتَردّ ... ولا يومٌ يمر بمستعاد
وفي الحديث: "البَيّعان يترادَّان"، أَى / يرُدُّ كلّ واحد منهما ما أَخَذَ.(3/61)
بصيرة فى الردف
قال تعالى: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} ، قال ابن عرفة: أَى دنا لكم، وقال غيره: جاءَ بعدكم. وقيل معناه: رَدِفكم وهو الأَكثر. وقال الفرّاءُ: دخلت اللام لأَنَّه بمعنى [قرب] لكم، واللام صلة كقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} . وقال الأَعرج: (رَدَف لكم) فتح الدال.
والرِّدْف - بالكسر -: المرتَدَف، وهو الذى يركب خلف الراكب. وكلّ ما تبع شيئاً فهو رِدْفه. والرِّدْف أَيضاً: الكَفَل.
لها خصور وأَرْداف تنوء بها ... رمل النقا وأَعالى متنِها رُودُ
وأَرداف النجوم: تواليها. والرِّدْفان: اللِّيل والنهار.
ورِدْف الملِك: الَّذى يجلس عن يمينه، فإِذا شرب الملك شرب الرِّدْف قبل النَّاس، وإِذا غزا الملِك قعد الرِّدف موضعه. والرّديف: المرتدَف كالرِّدْف. والرَّدَافة: فعل رِدْف الملك كالخِلافة. وكانت الرِّدفة لبنى يربوع فى الجاهليّة، لأَنَّه لم يكن فى العرب أَحد أَكثر غارة على ملوك الحيرة من بنى يربوع(3/62)
فصالحوهم على أَن جعلوا لهم الرِّدافة ويكفُّوا عن أَهل العراق.
ورَدِفه - بالكسر - أَى تبعة. والرَّادفة فى قوله تعالى: {تَتْبَعُهَا الرادفة} : النفخة الثانية. وأَردفته معه أَى أَركتبه معه. وأَردفه أَمرٌ: لغة فى رَدِفَه، مثال تبعه وأَتبعه.
وقوله تعالى: {مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} ، قال الفرّاءُ: أَى متتابعين. وقال غيره: أَى جائين بعد. وقال بعضهم: معناه مُرْدِفِين ملائكة أُخرى، فعلى هذا يكونون ممَدّين بأَلْفين من الملائكة. وقيل: عنى بالمردفِين المتقدِّمين للعسكر يُلْقُونَ فى قلوب العِدَا الرُّعْب. وقال أَبو جعفر ونافع، ويعقوب، وسهل: (مُرْدَفين) بفتح الدّال، أَى فُعل ذلك بهم، أَى أَردفهم الله بغيرهم. وقيل: مردَفين أَى أُردِف كلُّ إِنسان مَلَكًا. قال خزيمة (من بنى) نهد:
إِذا الجوزاءُ أَرْدَفَتْ الثريَّا ... ظننتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا
ظننت بها وظَنُّ المرْء حُوبٌ ... وإِن أَوفَى وإِن سَكَن الحَجُونا
وحالت دون ذلك من همومى ... همومٌ تُخرج الداءُ الدّفينا(3/63)
قال الخليل: سمعت رجلاً بمكَّة، يزعمون أَنه من القُرَّاء، وهو يقرأ (مُرُدِّفِينَ) بضمّ الميم والرّاءِ وكسر الدَّال المشدّدة، وعنه فى هذا الوجه كسر الرّاء. فالأُولى أَصلها مُرْتدفِين، لكن بعد الإِدغام حركت الرّاءُ بحركة الميم. وفى الثانية حرّكت الرّاءُ السّاكنة بالكسر. وعنه فى هذا الوجه [و] عن غيره فتح الراء، كأَن حركة التاءِ ألْقِيت عليها. وعن الجَحْدرىّ: بسكون الراءِ وتشديد الدّال جمعاً بين الساكنين.
يقال: أَتينا فلانا فارتدفناه، أَى أَخذناه من ورائه أَخْذًا. واستردفه: سأَله أَن يُردفه. وترادفَا: تعاونَا.(3/64)
بصيرة فى الردم والردء والرذالة والرزق
الرَّدْم: ما يسقط من الجدار المتهدِّم. والرَّدْم أَيضاً: السّد الذى بيننا وبين يأجوج ومأجوج. ورَدَم البابَ والثُلْمَة وردَّمه: سدَّه كلَّه، وقيل: سدّ ثُلُثَه أَو هو أَكثر من السدّ. والاسم الرَّدَم بالتَّحريك.
وتردَّم ثوبَه: رَقَعَه. والمتردَّم: الموضع الَّذى يُرْقَع من / الثَّوب.
والرِّدءُ - بالكسر -: العَوْن، ورَدأه به: جعله له رِدْءًا وقوَّة وعماداً. والرّدِىءُ فى الأَصل مثله، لكن تعورف فى المتأَخِّر المذموم والفاسد، وقد رَدُؤ - ككرم - رَداءَة، فهو ردىء من أَرْدئاء.
والرَّذْل والرَّذِيل والرُّذَال والأَرذل: الدُّون المرغوب عنه لرداءته. والجمع: أَرذالٌ ورُذلاءُ ورُذُول ورُذَالٌ والأَرذلون، وقد رَذُل ورَذِل - ككرُم وعلِمَ - رَذَالة ورُذُولة. وَرَذَله غيرُه وأَرْذله. والرُّذَال والرُّذالة: ما انتُقِىَ جَيِّده.
والرّزق - بالكسر -: ما ينتفع به. ويقال للعطاءِ الجارى تارة، دنيويّا كان أَو أخرويًّا، وللنصيب تارة، ولما يصل إِلى الجوف ويُتغذَّى به تارة. والجمع: أَرزاق.(3/65)
والرَّزْقُ - بالفتح المصدر الحقيقى، والمرَّة الواحدة رَزْقه، والجمع رَزَقات، وهى أَطماع، يقال: أَعطى السّلطان رِزقَ الجند، ورُزِقْت علما. قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} أَى من المال والجاه والعلم.
وقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَى أَتجعلون نصيبكم من النِّعمة تحرّى الكذب. وقوله: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ} قيل: عنى به المطر الَّذى به حياة الحيوان، وقيل: هو كقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} ، وقيل: تنبيه أَنَّ الحُظوظ بالمقادير. وقوله: {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أَى بطعامٍ يُتَغَذَّى به. وقوله: {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} ، قيل عنى به الأَغذية، ويمكن أَن يحمل على العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل. وقال فى العطاء الأخروىِّ: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ} أَى يفيض عليهم النّعم الأُخروية. وقوله: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} محمول على العموم.(3/66)
والرازق يقال لخالق الرِّزق ومعطيه والمسبِّب له، وهو الله تعالى، ويقال للإِنسان الَّذى يصير سببًا فى وصول الرّزق. والرزَّاق لا يقال إِلاَّ للهِ تعالى. وقوله: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أَى بسبب فى رزقه ولا مدخل لكم فيه. {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} الآية أَى ليسوا بسبب فى رزقهم بوجه من الوجوه، وبسبب من الأَسباب.
وارتزق الجندُ: أَخَذوا أَرزاقهم. والرَّزقة: ما يُعطَوْنه دفعة واحدة.(3/67)
بصيرة فى الرسخ والرس والرسل
رَسَخ رَسُوخًا: ثبت. ورسَخ الغديرُ: نَشَّ ماؤُه ونَضَب فذهَب، والمطرُ: نَضَبَ نداهُ فى الأَرض فالتقى الثَرَيان. وأَرسخه: أَثبته. والرّاسخ فى العِلْم: المتحقِّق به الَّذى لا يعترضه شبهة. والراسخون في العلم: هم الموصوفون بقوله: {الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} .
والرَّسّ: وادٍ بأَذْرَبِيجان فيه أَربعة آلاف نهر جارٍ، قال:
فهو لوادى الرسّ كاليَدِ لِلْفَمِ
وأَصل الرسّ: الأَثر القليل الموجود فى الشىءِ، يقال: سمعت رَسًّا من خَبَر. وَرَسَّ الحديثَ في نفْسه. ووجد رَسًّا من الحُمَّى. ورُسَّ(3/68)
الميْتُ: دُفِن وجُعل أَثرًا بعد عين.
والرِّسْلُ - بالكسر - والرِّسْلَةُ: الرِفْق والتُؤَدة، والانبعاث على مَهَل. والرَّسْل /- بالفتح -: السَّهْل من السّيرِ، وقد رَسِل - بالكسر - رسَلاً ورَسَالةً. والإِرسال: التَّسليط، والإِطلاق، والإِهمال، والتَّوجيه. والاسم الرِّسالة، والرَّسالة، والرّسول، والرّسيل. والرسول: المرسَل أَيضاً، والجمع: أَرْسُلٌ ورُسُلٌ ورُسَلاءُ. والرّسول أَيضاً: الموافق لك من النِّضال ونحوه. وإِبل مَراسيل: منبعثة انبعاثاً سهلا، ومنه الرَّسول: المنبعِث. وتُصُوِّر منه تارة الرّفق فقيل: على رِسْلك: إِذا أَمرته بالرِّفق. وتارة الانبعاث فاشتُقَّ منه الرّسول.
والرَّسول تارة يقال للقول المتحمَّل كقوله:
أَلا أَبلِغْ أَبا حفصٍ رسولاً(3/69)
وتارة لمتحمِّل القول. الرَّسول يقال للواحد والجمع، قال تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} ، وقال: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} ، ولم يقل رُسُل لأَنَّ فعولا وفعيلاً يستوى فيهما المذكَّر والمؤَنَّث والواحد والجمع؛ مثل عَدُوٍّ وصديق. وقيل: معناه: إِنَّا ذَوُو رسالة ربٍّ العالمين، لأَنَّ الرّسول يذكر ويراد به الرِّسالة كما تقدّم، قال كُثَيِّر:
لقد كذب الواشون ما بُحتُ عندهم ... بليلَى ولا أَرسلتهم برسول
أَى برسالة. وأَمَّا الرّسول بمعنى الرُّسُل فكقول أَبى ذُؤَيب:
أَلِكْنى إِليها وخَيْرُ الرسُو ... لِ أَعْلَمهُم بنواحِى الخَبَر
أَى وخير الرُّسُل.
وقوله: {مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} أَى على أَلسنة رُسُلِك.
والمراسيل: الإِبل الخِفاف التى تعطيك ما عندها عَفْوًا، الواحدة رَسْلة. قال كعب بن زهير:
أَمْسَت سعاد بأرضٍ لا تبلِّغها ... إِلاَّ العِتاقُ النَّجيبات المراسيلُ(3/70)
وقوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} [أَى الرياح] أُرسلت كعُرْف الفَرَسِ، وقيل: الملائكة. وقيل: الخيل.
والرَّسَل - بالتَّحريك - من الإِبل والغنم ما بين عشر إِلى خمس وعشرين، وقيل: القطيع من الإِبل والغنم.
والرِّسْل - بالكسر - الّلبَن لنزوله على تؤدة، وهو من القول: الليِّنُ الخَفِيضُ، قال الأَعشى:
فقال للمَلْك سرِّح منهم مائةً ... رِسْلاً من القول مخفوضًا وما رَفَعا
ورُسُل الله تارة يراد بها الملائكة، وتارة يراد بها الأَنبياءُ، فمن الملائكة قوله تعالى: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} ، ومن الأَنبياءِ قوله تعالى: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} . وقوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} ، قيل: عنى به الرّسول وصَفوةَ أَصحابه، فسمّاهم رُسُلا لضمّهم إِليه، كتسميتهم المُهَلَّب وأَولاده المهالبة.
والإِرسال يقال فى الإِنسان وفى الأَشياء المحبوبة والمكروهة. وقد يكون ذلك بالتسخير كإِرسال الريح والمطر. وقد يكون ببعث مَن يكون له اختيار، نحو إِرسال الرّسل، وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} .(3/71)
والإِرسال يقابل بالإِمساك قال تعالى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} . قال:
ياحبيبى وخليلى ... ومُنَى قَلْبِى ورسُولِى
فتبيّنْ وتَيقَّن ... أَنا فى إِثْرِ الرسولِ
والرسول فى القرآن ورد على اثنى عشر وجهًا:
الأَوّل: بمعنى جبريل وميكائيل والمصطَفَين منهم: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً} .
الثاني: بمعنى الأَنبياء: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} .
الثَّالث: بمعنى صالحٍ النبى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله} .
الرَّابع: بمعنى نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} .
الخامس: بمعنى هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ} .
السادس: بمعنى موسى الكليم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} .
السَّابع: بمعنى شُعَيب: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ} ، {ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} .(3/72)
الثامن: بمعنى يوسف الصّدِّيق: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ} إِلى قوله: {مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} .
التَّاسع: بمعنى رُسُل بِلْقِيس إِلى سليمان: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} .
العاشر: بمعنى شخص غير معيَّن: {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} .
الحادى عشر: بمعنى عيسى: {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم} .
الثاني عشر: بمعنى سيِّد المرسلين: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ} ، {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} ، {والرسول يَدْعُوكُمْ} ، {مَالِ هاذا الرسول} . وله نظائر.(3/73)
بصيرة فى الرسو والرشد والرص
رَسَا رَسْوًا وَرُسُوًّا، وأَرْسَى: ثَبَتَ. والسَّفِينةُ: وقفت على البحر، وأَرسيته أَنا.
قوله تعالى: {رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} أَى جبالاً ثابتاتِ. وقوله: {والجبال أَرْسَاهَا} إِشارة إِلى قوله: {والجبال أَوْتَاداً} .
قال:
وَلاَ جبال إِذا لم تُرْسَ أَوتادُ
وأَلقت السّحاب مراسيَها: استقرَّت وجادت، وقيل: أَلقت طُنُبها.
وقوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} : متى وقوعها ومتى زمان ثبوتها. وقوله: {بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} بضم ميميهما وفتحهما من أَجريت وأَرسيت(3/74)
أَو من جَرَت ورَسَت. وقرىءَ: مُجرِيها ومُرْسيها على النَّعت لله عزَّ وجلَّ. ورَسَوت بين القوم، أَى أَثْبَتَ بينهم الصّلح.
والرُّشد - بالضمّ - والرَّشَد - بالتَّحريك -: خلاف الغىِّ. ويستعمل استعمال الهداية، رَشِدَ كعَلِمَ ورَشَد كنصر. وقيل: المحرّك أَخصّ من المضموم؛ فإنَّ المضموم يقال فى الأُمور الدّنيوية والأُخروية، والمتحرِّك يقال فى الأُمور الأُخرويّة لا غير.
ورَصُّ الشىءِ: إِلصاق بعضِه ببعضٍ وضمُّه. ومنه قيل للبخيل: الرَّصَّاصة.
والمرصوصة: البئر المطويّة بالرّصاص.
وتراصُّوا: تلاصقوا. قال تعالى: {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} أَى محكَم متقَن كأَنما بُنى بالرَّصاص.(3/75)
بصيرة فى الرصد والرضاع
وهو اسم للرّاصد وللمرصود، وللرّاصدين والمرصودين، يستوى فيهما الواحد والجمع. وقوله تعالى: {يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} يحتمل كلّ ذلك.
والمادّة موضوعة للتَّرقّب أَو لاستعدادٍ لِلتَّرقّب، (رَصَد له وتَرَصَّد) وأَرصدته أَنا. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} : إِنَّه لا ملجأ ولا مهرب من الله إِلا إِليه. والمِرصاد والمَرْصَد: موضع الرّصْد. وقوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} تنبيه أَنَّ عليها مَجَاز النَّاسِ.
رضِع الصّبىُّ أُمّه، ورَضَع - كسمع وضرب - رَضاعًا ورَضْعًا ورَضَاعة، وأَرضعته أُمُّه. وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} أَى تسوموهنَّ إِرضاع أَولادكم.
ورضُع - ككرم - ورضَع - كمنع - رَضَاعة: لَؤُمَ، فهو راضع ورَضيع. ورَضَّاع: نهاية فى اللُّوْم. وأَصله رجل كان يرضع إِبله لئلا يُسمع صوت حلبه فيُسأَل. وسمّى الثنيّتان من الإِنسان الراضعتين لا ستعانة الطفل بهما فى المسترضع.(3/76)
بصيرة فى الرضا
رَضِىَ الله عنه، ورضى عليه، يَرْضى رِضًا ورِضْوانًا ورُضًا ورُضْواناً ومَرْضاة: ضد سَخِط، فهو راضٍ من رُضاةٍ، و [ورَضِىٌّ] من أَرضياء ورُّضاة، ورَضٍ من رَضِين.
وأَرضاه: أَعطاهُ ما يُرضيه. واسترضاه وترضَّاه: طلبَ رِضاهُ. ورضيته وبه، فهو مَرْضُوٌّ ومَرْضِىٌّ.
ورِضا العبدِ عن الله تعالى أَلاَّ يكره ما يجرى به قضاؤُه. ورضا الله تعالى عن العبد أَن يراه مؤتمرًا لأَمر منتهيًا عن نهيه. والرّضوان: الرّضا الكبير. / ولما كان أَعظم الرضا رضا اللهِ تعالى خُصّ لفظ الرِّضوان فى القرآن بما كان من الله تعالى.
وقوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} أَى أَظهر كلُّ واحد منهم الرِّضا بصاحبه ورضيه. قال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} وقال: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} ، وقال: {مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} ، وقال: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ}(3/77)
وقال: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} ، وقال: {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} ، وقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} ، وقال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين} وقال لنبيِّه: {لَعَلَّكَ ترضى} . قال: {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} وقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} ، وقال: {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} وقال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أَى مرضيّة. وقال: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} وقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} .
واعلم أَنَّ العلماء قد أَجمعوا على أَنَّ الرِّضا مستَحبٌّ، مؤَكد استحبابُه. واختلفوا فى وجوبه على قولين. والأَكثر على تأَكُّد استحبابه، فإِنه لم يرد الأَمر به كما ورد فى الصبر، وإِنَّمَا جاءَ [الثناءُ] على أَصحابه. وأَمَّا ما يروى من الأَثَر: "من لم يرض بقضائى، ولم يصبر على بلائي، فلْيتَّخذ ربًّا سِوَاىَ" فهذا أَثر إِسرائيلىٌّ لم يصحّ عن النبى صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا سيّما عند من يَرَى أَنَّه من جملة الأَحوال الَّتى ليست مكتسبة، وأَنه موهِبة محضة. فكيف يؤمر به وليس مقدورًا!
وهذه مسأَلة اختلف فيها السّالكون على طرق ثلاث: فقال شيوخ خُراسان: إِنَّه من جملة المقامات وهو نهاية التوكل، وقال آخرون:(3/78)
هو من جملة الأَحوال، يعنى هذا لا يمكن أَن يتوصّلَ إِليه العبدُ، بل هو نازلة تحُلُّ بالقلب كسائر الأَحوال. والفرق بين المقامات والأَحوال، أَن المقامات عندهم من المكاسب، والأَحوال مجرّد المواهب.
وحكمت فرقة ثالثة بين الطَّائفتين، منهم الشيخ القدوة صاحب الرِّسالة وغيره. فقالوا: يمكن الجمع بينهما بأَن يقال: مبدأُ الرّضا مكتسَب للعبد فهو من جملة المقامات، ونهايته من جملة الأَحوال، فليست مكتسبة.
واحتج شيوخ خراسان ومن قال بقولهم بأَنَّ الله تعالى مَدَح أَهله وأَثنى عليهم ونَدَبهم إِليه، فدلَّ على أَنَّه مقدور لهم. وقال النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "ذاقَ طعم الإِيمان مَن رضى باللهِ ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمد رسولاً". ورأَيت من أَصحابنا مَن نزَّل هذا الحديث على جميع معانى سورة الأَنبياءِ حرفًا حرفًا. وقال: "من قال حين يسمع النِّداءَ: رضيتُ بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمّد رسولاً غُفرت له ذنوبهُ". وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدِّين، وقد تضمّنا الرّضا بربوبيّته سبحانه وأُلوهيته، والرّضا برسوله والانقياد له. والرّضا بدينه والتسليم له. ومن اجتمعت له هذه الأَربعة فهو الصّدّيق حقًّا. وهى سهلة بالدَّعوى واللِّسان، ومِن أَصعب الأُمور عند الحقيقة والامتحان، ولا سيّما إِذا ما خالَفَ هَوَى النَّفس ومرادَها، فحينئذ يتبين أَنَّ الرّضا كان على رسالة لا على حالة.(3/79)
فَالرِّضا بإِلاهيَّته متضمّن للرّضا بمحبَّته وحده، وخوفه ورجائه والإِنابة إِليه، والتبتّل إِليه، وإِنجذاب قُوَى الإِرادة والحبّ كلّها إِليه، فِعل الرَاضى بمحبوبه كلَّ الرّضا، وذلك يتضمّن عبادته والإِخلاص له. والرضا بربوبيته / يتضمّن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إِفراده بالتَّوكُّل عليه والاستعانة والثقة به والاعتماد عليه، وأَن يكون راضيًا بكلِّ ما يفعله. فالأَوّل يتضمن رضاه بما يأمر به، والثَّانى يتضمّن رضاه بما يُقدِّرهُ عليه.
وأَمَّا الرّضا بنبيّه رسولاً فيتضمّن كمالَ الانقياد له والتسليم المطلَق إِليه، بحيث يكون أَولى به من نفسه، فلا يتلقىَّ الهُدى إِلاَّ من مواقع كلماته، ولا يحاكِم إِلاَّ إِليه، ولا يحكِّم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا [فى] شىء من أَسماء الرّب وصفاته وأَفعاله، ولا فى شىءٍ من أَذواق حقائق الإِيمان ومقاماته، ولا فى شىءٍ من أَحكامه ظاهره وباطنه، ولا يرضى إِلاَّ بحكمه. فإِن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاءِ المضطرِّ إِذا لم يجد ما يُقيت إِلاَّ من الميْتة والدّم، وأَحسن أَحواله أَن يكون من باب التراب الَّذى إِنما يُتيمَّمُ به عند العجز من استعمال الماء للطُّهور.
وأَمَّا الرضا بنبيّه فإِذا قال أَو حكم أَو أَمر أَو نهى رضِىَ كلّ الرضا، أو لم يبق فى قلبه حَرَج من حكمه، وسلَّم لله تسليما ولو كان مخالفًا لمراد(3/80)
نفسه وهواها، وقولِ مقلَّده وشيخه وطائفته. وههنا توحشك النَّاس كلّهم إِلاَّ الغرباء فى العالم. فإِيّاك أَن تستوحش من الاغتراب والتفرّد، فإِنَّه - والله - عين العزِّ والصّحبة مع الله تعالى ورسوله، وروح الأُنس به، والرضا به ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإِسلام دينا. بل الصّادق كلَّما وجد سرّ الاغتراب وذاق حولاته وتنسّم رَوْحه قال: اللهم زدنى اغترابًا أَو وحشةً في العالمَ وأُنْساً بك. وكلَّمَا ذاق حلاوة هذا الاغتراب والتفرّد رأَى الوحشة عين الأُنْس بالنَّاس، والذلَّ عين العِزَّ بهم، والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزُبالة أَذهانهم، والانقطاع عين التعبُّد برسومهم وأَوضاعهم، فلم يُؤثر بنصيبه من الله أَحدًا من الخلق، ولم يَبعْ حَظَّه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدى عليه إِلاَّ الحرمان. وغايته مودَّة بينهم فى الحياة الدُّنيا. فإِذا انقطعت الأَسباب، وحَقَّت الحقائق، وبُعْثر ما فى القبور، وحُصِّل ما فى الصُّدور، تبيَّنَ له حَدُّ مواقع الرِّبح من الخسران. والله المستعان.
والتحقيق فى المسأَلة: أَنّ الرّضا كسبىّ باعتبار سببه، وَهْبىّ باعتبار حقيقته، فيمكن أَن يقال بالكسب لأَسبابه، فإِذا تمكَّن فى أَسبابه وغَرَس شجرته اجتنى منها ثمرة الرِّضا أَخو التَّوكُّل. فمن رسخ قَدَمُه فى التوكُّل والتسليم والتفويض حصل له الرّضا ولا بدّ، ولكن لعزَّته وعدم إِجابة أَكثر النُّفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خَلْقه رحمة(3/81)
بهم وتخفيفاً عنهم، لكن ندبهم إِليه وأَثنى على أَهله، وأَخبر أَنَّ ثوابه رضاه عنهم الَّذى هو أعظم وأَكبر وأَجلُّ من الجنَّاتِ وما فيها، فمن رضى عن ربه رضى الله عنه. بل رضا العبد عن الله علامة رضا الله عنه ومن نتائجه، فهو محْفوف بنوعين من رضا الله عن عبده: رضًا قَبْله أَوجب له أَن يرضى عنه، ورضا بعده وهو ثمرة رضاه عنه، ولذلك كان الرّضا بابَ الله الأَعظم، وجَنَّة الدُّنيا، ومحلَّ راحة العارفين، وحياة المحبِّين، ونعيم العابدين، وقُرَّة عين المشتاقين.
/ ومن أَعظم أَسباب حصول الرِّضا أَن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإِنَّه يوصِّله إِلى مقام الرضا ولا بدَّ. قيل ليحيى بن مُعاذ رحمه الله: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إِذا أَقام نفسه على أَربعة أُصول فيما يعامل به ربِّه، فيقول: إن أَعطيتنى قَبِلْت، وإِن منعتنى رضيت، وإِن تركتنى عبدت، وإِن دعوتنى أَجبت. وليس الرِّضا والمحبة كالرجاء والخوف، فإِن الرضا والمحبة حالان من أَحوال أَهل الجنة، لا يفارقان فى الدُّنيا ولا فى البَرْزَخ ولا فى الآخرة، بخلاف الخوف والرَّجاءِ فإِنهما يفارقان أَهل الجنَّة لحصول ما كانوا يرجونه، وأَمنِهم مّما كانوا يخافونه. وإِن كان رجاؤهم لما ينالون من كراماته دائماً، لكنَّه ليس رجاءً مَشُوبًا بشكٍّ، بل رجاء واثقٍ بوعدٍ صادق من حبيب قادر. فهذا لون، ورجاؤهم فى الدنيا لون.(3/82)
واعلم أَنه ليس من شروط الرِّضا أَلاَّ يحسَّ بالأَلم والكاره، بل أَلاَّ يعترض على الحكم ولا يسخط؛ فإن وجود التَّأَلُّم وكراهة النَّفس لا ينافى الرِّضا، كرضا المريض بشرب الدَّواءِ الكريه، ورضا الصَّائم فى اليوم الشديد الحرّ بما يناله من أَلم الجوع والظمإِ.
وطريق الرِّضا طريق مختصرة قريبة جدًّا موصلة إِلى أَجلِّ غاية، ولكنَّ فيها مشقة، ومع ذلك فليست مشقَّتها بأَصعب من مشقَّة طريق المجاهدة، ولا فيها من المفاوز والعَقَبات ما فيها، وإِنما عقبتها همّة عالية ونفس زكيّة، وتوطين النفس على كلِّ ما يَرِدُ عليها من الله، ويسهِّل ذلك على العبد علمُه بضعفه وعجزه، ورحمة ربِّه وبرّه به، فإِذا شهد هذا وهذا ولم يطرح نفسه بين يديه، ويرض به وعنه، وينْجَذِبْ دواعى حبّة ورضاه كلّها إِليه، فنفسه نفس مطرودة عن الله، بعيدة عنه، غير مؤَهَّلة لقربه وموالاته، أَو نفس ممتحنَة مبتلاة بأَصنافِ البلايا والمحن. فطريق الرضا والمحبّة تُسيِّر العبد وهو مستلْقٍ على فراشه، فيصبح أَمام الرّكب بمراحل. وثمرة الرّضا الفرح والسّرور بالله تعالى.
وقال الواسطى: استعمل الرضا جهدك، ولا تدع الرّضا يستعملك فتكون محجوبًا بلذَّته ورؤيته عن حقيقته. وهذا الَّذى أَشار إِليه عقبة(3/83)
عظيمة عند القوم، ومقطع لهم، فإِن السّكون إِلى الأَحوال والوقوفَ عندها استلذَاذًا ومحبّة حجابٌ بينهم وبين ربهم، وهى عقبى لا يقطعها إِلاَّ أولو العَزائم. ومن كلامه: إِيّاكم واستحلاء الطَّاعات فإِنها سُمُوم قاتلة. فهذا معنى قوله: استعمِلْ الرّضا ولا تَدَع الرّضا يستعملك، أَى لا يكون عملك لأَجل حصول حلاوة الرّضا، بحيث تكون هى الباعثة لك عليه، بل اجعله آلةً لك وسببًا موصّلا إِلى مقصودك ومطلوبك، وهذا لا يختصّ بالرّضا، بل هو عامّ فى جميع الأَحوال والمقامات القلبيّة الَّتى يسكن إِليها القلب.
وسئل أَبو عثمان عن قول النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَسأَلُك الرِّضا بعد القضاءِ": فقال: لأَن الرضاء قبل القضاء عزم على الرّضا، والرّضا بعد القضاءِ هو الرضا. وقيل: الرضا: ارتفاع الجَزَع فى أَىِّ حكم كان. وقيل: رفع / الاختيار. وقيل: استقبال الأَحكام بالفرح. وقيل: سكون القلب تحت مجارى الأَحكام. وقيل: نظر العبد إِلى قَدَم اختيار الله تعالى للعبد.
وقيل للحسين بن على رضى الله عنهما: إِن أَبا ذرٍّ يقول: الفقر أَحبُّ إِلىّ من الغنى، والسّقم أَحبُّ إِلىَّ من الصحّة. فقال: رحم الله أَبا ذرٍّ، أَمَّا أَنا فأَقول: من اتَّكل على حسن اختيار الله له لم يُحِبَّ غير ما اختَارَهُ الله له.(3/84)
وكتب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إِلى أَبى موسى الأَشعرىِّ: أَمّا بعد، فإِن الخير كلَّه فى الرضا، فإِن استطعت أَن ترضى وإِلاَّ فاصبر.
والرِّضا ثلاثة أَقسام: رضا العوامِّ بما قسمه الله، ورضا الخواصّ بما قدَّره الله وقضاه، ورضا خواصّ الخواصّ به بدلاً عن كلِّ ما سواه. والله أَعلم.(3/85)
بصيرة فى الرطب والرعب والرعد
الرَّطْب: ضدّ اليابس، ومن الغُصْنِ والرِّيش وغيره: النَّاعم منه. رَطُب ورَطِبَ - ككرم وسمع - رُطُوبة ورَطابة فهو رَطِيب. والرُطَب - كصُرَد -: نَضِيج البُسْر، واحدته رُطَبة، والجمع أَرطاب، قال تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً} . وأَرطب النَّخلُ: حان أَوان رُطَبه. ورَطَب القومَ ورطَّبهم: أَطعمهم الرُّطَب قال:
توكَّل على الرّحمان فى كل حالةٍ ... ولا تترك الخُلاّن فى كثرة الطَّلبْ
أَلم تر أَنَّ الله قال لمريمٍ ... وهزِّى إِليك الجذع تسَّاقط الرُّطَب
والرّعبُ - بضمّة وبضمتين -: الفزع، وقيل: الانقطاع من امتلاء الخوف. رَعَبَه كمنعه: خوّفه، فهو مرعوب ورَعِيب. وكذا رعَّبه ترعيباً وتَرْعاباً فَرَعَب هو رُعْبًا وارتعب. والتِرْعابة - بالكسر -: الفَرُوقة.
ولتصوّر الامتلاء منه قيل: رعَبت الحوضَ أَى ملأْته، وسيل راعب: يملأُ الوادى. ولتصوُّر الانقطاع قيل: رَعَب السَّنَامَ وغيره: إِذا قطعه، والتِرعيبة - بالكسر -: القطعة منه.(3/86)
وجاريةٌ رُعْبوبةٌ ورُعْبوب ورِعْبِيب: شَِطْبة تارَّة، أَو بيضاءُ حسنة رَطْبة حُلْوةٌ ناعمة.
والرّعد: صوت السّحاب، أَو صوت مَلَك يسوق السَّحاب. وقد رَعَدَت السماءُ وبَرَقَت، وأَرْعدت وأَبرقت. ويكنى بهما عن التهدُّد. وقولهم: صَلَفٌ تحت رَاعِدَة، يقولون ذلك لمن يقول ولا يحقِّق.(3/87)
بصيرة فى الرعن والرغبة والرغد والرغم
الرُّعونة: الحمق. والأَرعن: الأَهوج فى منطقه، الأَحمق المسترخى. وقد رَعَنَ - مثلثة العين - رُعُونة ورَعَانة ورَعَنًا.
وقوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} كان ذلك قولاً كانوا يقولونه للنبىِّ صلَّى الله وعليه وسلَّم تهكُّمًا، يقصدون به رميه بالرُّعونة، ويُوهمون أَنَّهم يقولون: راعنا أَى احفظنا، من قولهم: رعن رعونة: حَمُِق.
والرَّعْناءُ: المرأَة المغنِّجة فى مشيها وكلامها، واسم للبصرة لما فى هوائها من تكسّر وتغيُّر. قال:
لولا ابن عُتبة عمرو والرَّجاء له ... ما كانت البصرة الرَّعناءُ لى وَطَنَا
والرِّعْى - بالكسر -: الكلأُ، والجمع أَرْعاء. والرَّعْى المصدر. وهو فى الأصل حفظ الحيوان إِمّا بغِذائه الحافظ لحياته، أَو بذَبّ العدوّ عنه. رَعَيْتُهُ أَى حفظته. وأَرعيته: جعلت له ما يَرْعى. والمرْعَى: الرِّعْى، والمصْدر، والموضع كالمَرْعاة. والرَّاعى: كلُّ مَن وَلِىَ أَمر قوم، والجمع رُعاة ورُعْيان ورُعاء ورِعاء، قَال تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أَى ما حافظوا عليها حقَّ المحافظة، فيسمَّى كُلّ سائس لنفسه أَو لغيره راعياً.(3/88)
وفى الصّحيح: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئول عن رعيَّته".
ومراعاة الإِنسان الأَمر: مراقبته إِلى ماذا يصير وماذا منه يكون. ومنه راعيت النُّجوم. وقال: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا} .
وأَرْعيته [سَمْعى] : استمعت لمقالته. وأرْعنى سمعك، وراعنى [سمعك] : استِمْع لمقالى. ويقال: أَرْعِ على كذا - مَعدَّى بعلى - أَى أَبْقِ عليه، وحقيقته: أَرعهِ متطلِّعاً عليه.
والرَغْبة والرَّغَب فى الشىءِ: إِرادته، يقال: رَغِبَ فيه رَغَبًا ورَغْبة: أراده، ورَغِب عنه: لم يُرِده، ورَغِب إِليه رَغَبًا. وقيل: توسَّع فى إِرادته، اعتباراً بأَن أَصل الرغبة السّعة فى الشىءِ، ومنه حَوضٌ رَغِيب، ورجلٌ رغِيبُ الجوف.
ورَغِب إِليه رَغَبًا ورَغْبَى ورُغْبَى ورَغْبَاءَ ورَغَبُوتًا ورَغَبوتَى ورُغْبة بالضَّم - ورَغَبة - بالتَّحريك - ورَغبانًا: ابتهل، وقيل: هو الضَراعة والمسأَلة، قال تعالى: {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} . وإِذا قيل: رَغِب عنه اقتضى الزُّهد فيه، قال: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} .(3/89)
وعيش رَغْد ورَغِيد: واسع. وأَرغدوا: حصلوا فى رَغِيد من العيش.
والرَّغْم والرَّغام: التُّراب، وقيل: الدَّقيق منه. ورَغم أَنفى لله - بفتح الغين وضمِّها وكسرها -: ذَلَّ عن كُرْهٍ. والرّغم - مثلثة - والمَرْغمة: الكُرْهُ، وأَرغمه غيرُه. ويعبَّر بذلك عن السّخط كقول الشاعر:
إذا رغمت تلك الأَنوف لَمُ ارْضِها ... ولم أَطلب العُتْبَى ولكن أَزيدها
فمقابلته بالإِرضاءِ تدلُّ على الإِسخاط، وعلى هذا قيل: أَرغم الله أَنفه وأَدْغمه - بالدال - أَى سوّده. وأَرْغمه: أَسخطه. وراغمهُ: ساخطه.
وقوله تعالى: {يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً} أَى مَذْهَبًا يذهب إِليه إِذا رأَى منكرا يلزمه أَن يغضب منه. والمُراغَم أَيضاً: المهرب، والحصن، والمضطَرَب.(3/90)
بصيرة فى الرف والرفت والرفث والرفد والرفع والرق
الرَّفّ: الَّذى يتَّخذ فى البيوت يُجعل عليه طرائِف البيت، عربىٌّ معروف. وفى حديث عائشة رضى الله عنها: "لقد مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وما فى رَفىِّ إِلاَّ شَطْر شعير".
والرَّفوف: الرَفُّ. والرفْرَف أَيضاً: ثيابٌ خُضْر يتَّخذُ منها المحابس، الواحدة رَفْرَفَة، وبعضهم يجعله واحدًا، قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ، وقرىءَ (رَفَارِفَ خُضر) . وقيل: الرّفوف: فُضُول المحابس. وقال أَبو عبيدة: الرَّفوف: الفُرشُ. وقيل: الرّفوف: ما فضل فثُنى. وفى حديث ابن مسعود رضى الله عنه أَنَّه قال فى قوله تعالى: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} : رأَى رفرفًا أَخضر سدّ الأُفُق، أَى بِسَاطًا. ورفرفُ الدِّرعِ: ما فضل من ذيلها. ورفوفُ الأَيكةِ: ما تهدَّل من أَغصانها.
والرَّفْت: الكسر والدَّق، رَفَته يَرْفِته ويَرْفُتُه: كسره ودقَّة، وانكسر واندقَّ لازم متعدٍّ، وانقطع كارفَتَّ ارفِتاتًا. والرُّفَات: الحُطامُ والفُتَات، وما تكسّر وتفرَّق من التِّبن ونحوه.(3/91)
والرَفَثُ: كلام متضمِّن لما يُستقبح ذكره من ذِكْر الجِماع ودواعيه. وقال ابن عبَّاس: ما وُوجِه به النِّساءُ من ذلك. وجُعِلَ كناية عن الجماع فى قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} تنبيهًا على جواز دُعائهن إِلى ذلك ومكالمتهن. وعُدِّى بإِلى لتضمُّنه لمعنى الإِفضاء.
وقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} يحتمل أَن يكون نهياً عن تعاطى الجماع، وأَن يكون / نهياً عن الحديث فى ذلك لأَنَّه من دواعيه، والأَوّل أَصحّ. يقال: رَفَثَ وأَرفث؛ فرفث فَعَلَ، وأَرفث صار ذا رفَثٍ، وهُما كالمتلازِمين، ولهذا يستعمل كلُّ موضع الآخر.
والرِفْد: المعُونة والعطِيَّة. والمِرْفد: ما يجعل فيه الرِّفد من الطعام. رَفَدته رَفْدًا: أَنلتُه بالرّفد. وأَرْفدته: جعلت له رِفْدًا يتناوله شيئاً فشيئاً.
والرَّفْع: ضدّ الوضع كالتَّرفيع والارتفاع. ورَفَعَ البعيرُ رَفْعًا ومرفوعًا: بالغ فى سيره. ورفعته أَنا، لازم متعدٍّ. والرّفع يقال تارة فى(3/92)
الأَجسام الموضوعة إِذا أَعْلَيْتُها عن مَقَرِّها، وتارة فى البناءِ إِذا طوّلته، وتارة فى الذكر إِذا نوَّهته، وتارة فى المنزلة إِذا شَرَّفتها؛ نحو: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} ، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} ، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} . وقوله: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ، [قيل] فيه: رفعه إِلى السّماء، و [قيل] فيه: رفعهُ من حيث التَّشريف. وقوله: {وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ} إِشارة إِلى المعنيين: إِلى اعتلاءِ مكانها، وإِلى ما خصّ به من الفضيلة وشرفِ المنزلة. وقوله: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أَى شريفة. وقوله: {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} أَى تُشرّف.
والرِّقَّة كالدِّقة، لكن الدقة يقال اعتبارا بمراعاة جوانبه، والرِّقة اعتبارًا بُعمْقه. فمتى كانت الرّقة فى جسم يضادّها الصَفَاقة، نحو: ثوب رقيق وصفيق، ومتى كانت فى النفس يضادّها الجَفْوة والقسْوة، نحو: رقيق القلب وقاسى القلب.
والرَّقُّ: ما يكتب فيه، شبه كاغد وجلد مدبوغ.
والرِّقّ: مِلْك العبيد. والرَّقيق: المملوك منهم، والجمع أَرِقَّاء. واسترقَّه: جعله رقيقًا.(3/93)
بصيرة فى الرقبة والرقد والرقم والرقى والركب
الرَّقيب: من أَسماءِ الله عزَّ وجلَّ، والحافظ، والمنتظر، والحارس، وأَمين أَصحاب الميْسر، وابن العَمّ، ونوع من الحيّات.
والرَّقَبة: العُنق، وقيل: أَصل مؤَخَّره، والجمع، رقابٌ، ورَقَب، وأَرْقُبٌ ورَقَباتٌ. ثمَّ جعل فى التعارف اسماً للمماليك، كما عُبِّر بالرَّأْس وبالظَّهْرِ عن المركوب، يقال: فلان يربط كذا رأْساً وكذا ظهرًا. وقوله تعالى: {وَفِي الرقاب} أَى المكاتبين منهم، وهم الَّذين يُصرف إِليهم الزَّكاة. والمَرْقَب: المكان العالى. وترقَّب: انتظر واحترز راقبًا، قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} .
وَرَقَبهُ رِقْبة ورِقْبَانًا - بسكرهما - ورَقَابة ورَقُوبة ورَقْبة - بفتح الكلِّ -: انتظره، كارتقبه، والشىءَ: حرسه، كراقبه مراقبة ورِقَابًا. والرَّقُوب: المرأَة ترقُب موت بعلها، والَّتى لا يَبقى لها ولد، أَو الَّتى مات ولدها.
والرُّقَاد: المستطابُ من النوم القليل. رقد فهو راقد، والجمع رُقُود، قال تعالى: {وَهُمْ رُقُودٌ} ، وصفهم بالرُّقود مع طول منامهم اعتبارًا بحال الموت، فإِنه اعتُقد فيهم أَنَّهم أَموات، وكان ذلك النوْم قليلاً فى جَنْب الموت.(3/94)
والرّقْم: الكتابة، وقيل: الخَطُّ الغليظ. والرَّقْم أَيضاً: تعجيم الكتاب وتبيينه. وقوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} حُمل على الوجهين. والمِرْقَم: القلم. وهو يرقُم فى الماءِ، أَى حاذق فى الأُمور.
والرَّقِيم: قَرْيَة أَصحاب الكهف، وقيل: جَبَلهم، وقيل: كلبهم، وقيل: الوادى، وقيل: لَوح رصاصٍ نقش فيه نسبهم وأَسماؤُهم ودينهم ومِمَّ هربوا. والرَّقيم أَيضاً: الدَّواة واللَّوح.
/ ورَقِىَ إِليه كرضى رُقِيًّا: صَعِدَ، [كا] رتقى وتَرَقَّى. والمَرقاة - وبكسر الميم -: الدَّرجة. وارْقَ على ظَلْعه: أَى اصعد وإِن كنت ظالعًا. والرُّقْية: العُوذَة، والجمع رُقًى. ورَقَاه يرقِيه رَقْيًا ورُقِيًّا ورُقْية، فهو رَقَّاءٌ: نَفَث فى عُوذته.
وقوله تعالى: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أَى لرُقْيتك. وقوله: {وَقِيلَ(3/95)
مَنْ رَاقٍ} أَى من يرْقيه تنبيهاً أَنَّه لا راقى يرقيه، وذلك إِشارة إِلى نحو ما قال:
وإِذا المنيَّة أنشبت أَظفارها ... أَلفيتَ كلّ تميمة لا تنفعُ
وقال ابن عبّاس: معناه: مَن يَرْقَى بروحه؟ أَملائكة الرحمة أَم ملائكة العذاب؟
والتَرْقَوَة: مقدَّم الحَلْق فى أَعلى الصّدر حيثما يترقَّى فيه النَفَس.
الرُّكُوب فى الأَصل: كون الإِنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل فى السّفينة وفى مباشرة بعض الأُمور. رَكِبَ الذَّنْبَ: اقترفه، وركب أَمرًا عظيما: باشره. والرَّاكب اختصَّ فى التعارف بممتطى البعير، جمعه: رَكْبٌ، ورُكْبانٌ، ورُكوبٌ، ورُكَّاب، ورِكَبَةٌ كفِيَلَةٍ. واختصَّ الرِّكاب بالمركوب. وقيل: الرَّكْب: رُكبان الإِبل، اسم جمع، وقيل: جمع وهم العشرة فصاعداً، وقد يكون للخيلِ، والجمع أَركُبٌ ورُكُوب. والرُّكْبة معروفة. ورَكَبْتُه: أَصبت رُكْبته، ورَكبته أَيضاً. أَصبته بركبتى، [نحو] عِنْته ويَديته: أَصبته بعينى وبيدى.(3/96)
بصيرة فى الركد والركز والركس والركض والركع والركم والركن والرم
الرّكود: السّكون، يستعمل فى الماءِ والرِّيح والسفينة.
والرِّكْز: الصَّوْت الخفىّ، وسُمِّى المال المدفون رِكازاً لأَنَّه دُفن فى خفاءٍ، وذلك قد يكون بفعل إِنسان كالكنز، أَو بخلْقٍ إِلَهىّ كالمعدن، والرِّكاز يتناول الأَمرين جميعاً.
والرَّكْس: قلب الشَّىءِ على رأسه ورَدّ أَوّله على آخره. أَركسته فَرَكَسَ وارتَكَسَ. وقوله تعالى: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} أَى رَدَّهم إِلى كفرهم.
والرّكض: تحريك الرِّجْل، والدفع. وتحرك الجناح، واستحثاث الفَرَس للْعَدْو. وقيل: إِذا نسب إِلى الراكب فهو إِعداءُ مركوب، وإِذا نسب إِلى ماشٍ فهو وَطْءُ الأَرض، نحو قوله تعالى: {اركض بِرِجْلِكَ} . وقوله: {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا} نهى عن الانهزام(3/97)
والركوع: الانحناءُ عبادة وتواضعًا ونحوه. قال:
أُخبِّر أَخبرا القرون الَّتى مضت ... أَدبُّ كأَنى كلَّمَا قمت راكع
والرَّكْم: جمع شىءٍ فوق شىءٍ آخر حتى يصير رُكَامًا مركومًا، كركام الرّمل والسّحاب. والرَكَمَ - بفتحتين -، والرُكام: السّحاب المتراكم.
والرُّكْن: الجانب الأَقوى الَّذى يُسكن إِليه. ويستعار للقُوَّة، وقال تعالى: {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} . والرَكين: الرّجل الرَّزين، ومن الجبال: العالى الأَركان. ورَكَن إِليه يركُن كنصر ينصر وركِن يركَن، كعلم يعلم؛ ورَكَن يَرْكَن، كمنع يمنع، ركونًا: مال وسكن.
والرِّمّ - بالكسر -: ما يحمله الماءُ، أَو [ما] على وجه الأَرض، أَو الشىءُ البالى. والرِّمَّة يختص بالعظم البالى، والرُّمَّة - بالضمَّ - يختصَّ بالحبْل البالى. وجاءَ بالطِّمِّ والرِّمِّ: بالبحر والثَرَى، أَو الرَّطْب واليابس، أَو التراب والماءِ، أَو بالمال الكثير.(3/98)
بصيرة فى الرمح والرق والرمز والمرض والرمى والهرب والرهط
رَمَحه: أَصابه بالرُّمْح. ورَمَحَتْه الدَّابةُ: رَفَسَتْهُ تشبيهًا بذلك.
رَمَادٌ رِمْدِدٌ وأَرْمَدُ وأَرْمِدَاء. ويعبَّر عن الهلاك بالرَّمْد كما يعبَّر عنه بالهُمود.
والرَّمْز: الصَّوت الخفىّ، والغمزُ بالحاجب، والإِشارة بالشفة. ويعبَّر عن كلِّ كلام كإِشارة بالرّمز، كما عبّر عن السّعاية بالغمز.
والرَّمَض - بالتحريك - شدَّة حَرِّ الشَّمس على الرّمل وغيره. وقد رَمِض يومُنا - كعلم - رَمَضًا - بالتحريك -: اشتدّ حرّه. وقَدَمُه: احترقت من الرّمضاءِ للأَرض الشديدة الحرِّ.
وشهر رمضان معروف. والجمع: رمضانات، ورمضانون، وأَرْمِضة، وأَرْمُضٌ شاذٌّ.(3/99)
والرُّمى: الإِلقاءُ. رَمَى الشىءَ ورمَى [به] وأَرْمَى: أَلقاه، فارتمى.
والرَّمْى فى المقال كناية عن الشتم والقذف، {والذين يَرْمُونَ المحصنات} : يقذفونهن.
رَهِبَ - كعَلِم - رَهْبَةً ورُهْبًا ورَهْبًا ورُهْبَانًا - بالضم - ورَهَبانًا - بالتَّحريك -: خاف مع تحرُّز واضطراب. قال تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} أَى من الفزع. والاسم الرَّهْبى والرُهْبَى - ويمدّان - والرَّهَبُوتىَ. ورَهَبُوتٌ خير من رَحَمُوت: أَى لأَن تُرْهَب خير من أَن تُرْحَم. وأَرهبَه واسترهبه: أَخافه. وترهَّبه: توعَّده. قال تعالى: {واسترهبوهم} أَى حملوهم على أَى أَن يرهبوا.
والرّهبانيّة: غُلُوٌّ فى تحمّل التعبّد من فَرْط الرهبة. والرَّاهِب: واحد رُهْبان النَّصارى، ومصدره الرَّهْبة والرَّهْبانيّة. وقيل: الرُّهْبان قد يكون واحدًا، والجمع: رَهَابِين، ورَهَابِنة، ورَهْبانون.
والرَّهْطُ: العِصابة، وقوم الرّجل، وقبيلته، أَو من ثلاثة أَو من سبعة إِلى عشرة. وقيل: ما دون العشرة وما فيهم امرأَة. ولا واحد له من لفظه. ويجمع على أَرْهُطٍ، وأَراهِطَ، وأَرْهاطٍ، وأَراهيط.(3/100)
بصيرة فى الرهق والرهن والرهو
رَهِقَه - كعلمه - رَهَقًا - بالتَّحريك -: غَشِيه أَو لَحِقه. وقيل: دَنَا منه، سواء أَخذه أَو لم يأخذه. وقيل: هو غِشْيان بقهر.
والرَّهَق (محرّك) : السَفَه. والنُّوك، والخِفَّة، وركوبُ الشرِّ والظلم، وغِشْيان المحارم، والكذب، والعجلة، واسم من الإِرهاق وهو أَن تحمل الإِنسان على ما لا يطيقه.
والرَّهْن: ما وُضِعَ عندك لينوب مَنَابَ ما أُخِذ منك، والجمع رِهانٌ ورُهُون، ورُهُنٌ، ورَهِين. رَهَنه الشىءَ، ورَهَن عنده، وأَرهنه: جعله رَهْنًا. وارتهن منه: أَخذه رَهْنًا. ورهنته لسانى ولا تقل: أَرهنته. وكلُّ ما احتُبس به شىءٌ فرهينهُ ومُرْتهَنُه.
والرِّهان والمُراهنة: المخاطرة والمسابقة على الخيل.
وقرىءَ {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} (ورُهُنٌ) . وقيل في قوله تعالى:(3/101)
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} : إِنها بمعنى الفاعل أَى ثابتة مُقيمة، وقيل: بمعنى المفعول، أَى كلّ نفس مُقاَمَة فى جزاءِ ما قَدَّم من عمله.
ولمّا كان الرَّهْن يُتصوّر منه حَبْسه استعير ذلك للمحتبِس أَىَّ شىءٍ كان، قال تعالى: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} .
والرَّهْو: السَّيْر السهل، والفتْح بين الرِّجْلين، والمكان المرتفِع، والمكان المنخفض، ضدُّ، والسّكون، قال تعالى: {واترك البحر رَهْواً} أَى ساكِنًا. وقيل: سعة من الطَّريق، ومنه الرَّهَاءُ كسماءٍ للمكان المتسع. ويقال لكلِّ جَوْبة مستوية يجتمع فيها الماءُ: رَهْوٌ. والرَّاهية: النَحْلة.(3/102)
بصيرة فى الروح
الرّوح - بالضم -: ما به حياة الأَنفس يؤَنث ويذكّر، والقرآن، والوَحْى، وجبريل، / وعيسى عليهما السَّلام، والنفخ، وأَمر النبوَّة، وحكم الله تعالى، وأَمره، ومَلَكٌ وجهه كوجه الإِنسان وجسده كجسد الملائكة.
والرَّوْح - بالفتح -: الراحة، والرّحمة، ونَسيم الريح. وقيل: الرُّوح والرَّوح فى الأَصل واحد، وجُعل اسما للنَفَسَ كقول الشاعر فى صفة النَّار:
فقلت له ارفعها إِليك وأَحْيِها ... برُوحك واجعله لها قِيتةً قَدْرًا
وذلك لكون النَّفَس بعض الرُوح، فهو كتسمية النوع باسم الجنس، نحو تسمية الإِنسان بالحيوان، وجُعل اسما للجزءِ الَّذى به تحصل الحياة والتحريك، واستجلاب المنافع واستدفاع المضَار، وهو المذكور فى قوله: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، وقولِه: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} ، وإِضافته تعالى إِلى نفسه إِضافة مِلْك، وتخصيصه بالإِضافة تشريف له وتعظيم كقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} .(3/103)
وسُمِّى أَشراف الملائكة أَرواحًا، وسمّى به عيسى عليه السلام: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} ، وذلك لِمَا كان له من إِحياءِ الأَموات.
وسمّى القرآن رُوحاً فى قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} وذلك لكون القرآن سبباً للحياة الأُخرويّة الموصوفة فى قوله تعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} .
والرَّوح: التَّنفس. وقد أَراح الإِنسان أَى تنفَّس. وقوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} ، فَالرَّيحان: ما له رائحة من النبات، وقيل رِزْق، ثم يقال للحبِّ المأكون رَيْحان فى قوله تعالى: {والحب ذُو العصف والريحان} . وقيل لأَعرابي: إِلى أَين؟ فقال: أَطلب من رَيْحان الله، أَى من رِزقِه. وفى الصَّحِيح: "الأَرْواح جُنُود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، ما تنكر منها اختلف". قال الشاعر:
أَرواحنا مِثْلُ أَجنادٍ مجنَّدة ... لله فى الأَرض بالأَهواءِ تختلف
فما تناكر منها فهو مختلف ... وما تعارف منها فهو يأْتلف(3/104)
والرُّوح فى القرآن ورد على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الرّحمة: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أَى رحمة.
الثانى: بمعنى المَلَك الَّذى يكون فى إِزاءِ جميع الخَلْقَ يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} .
الثالث: بمعنى جبريل: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} ، {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} .
الرَّابع: بمعنى الوحى والقرآن: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} .
الخامس: بمعنى عيسى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} ، {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} .
السادس: فى شأْن آدم عليه السّلام واختصاصِه بفضله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} .
السّابع: بمعنى اللطيفة التى فيها مَدَد الحياة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} ، {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} .(3/105)
وجميع ما تقدّم من الكلام على الرُّوح إِنما هو تفصيل من حيث اللفظ. أَمَّا أَقسام الرّوح من حيث العِلْم فالرُّوح فى الأَصل ثلاثة أَنواع: حيوانى، وطبيعىّ، ونفسانى. فمركز الرّوح الحيوانى القلب، ومركز الرّوح الطَّبيعى الدم، ومحلُّ الرّوح النفسانى الدماغ.
فالرّوح الحيوانى يصل إِلى جميع الأَعضاءِ بواسطة العُرُوق الضَّوارب الَّتى تسمّى الشرايين.
والرُّوح الطبيعى يصل إِلى أَطراف البَدَن بواسطة الأَورِدَةِ.
والرّوح النَّفسانى يَنْتشر من القَرْن إِلى القَدَم بواسطة / الأَعصاب.
وثمرة الرّوح الحيوانىّ الحياةُ والرَّاحة، وثمرة الرّوح الطبيعى القوّة والقدرة، وثمرة الرّوح النفسانى الحِسّ والحركة.
وأَمَّا حقيقة الرّوح فهى لطيفة ربّانيَّة، وعُنصر من عناصر العالَم العلوىِّ تتصل بمدَدٍ ربَّانىّ إِلى العالم السُّفلىّ. وعلى حسب درجة الحيوانات وتفاوت الحالات التى لهم تتَّصل بهم. ولما كان الإِنسان فى الصّورة والصّفة والمعنى أَكمل من جميع الحيوانات كان المتَّصل به من ذلك أَفضل الأَرواح. وليس لأَحد من العالمين وقوف على سرِّ تلك اللَّطيفة وحقيقته، والله سبحانه المنفرد بعلم ذلك. والحكمة فيه - إِن شاءَ الله تعالى - أَن يتأَمّل الإِنسان ويُسلِّطَ قوّة فهمه وفكره، ويتحقَّق أَنَّ الرُّوح الَّذى جعل الله(3/106)
الحياة والرَّوْح والراحة والقُوّة والقدرة والحِسّ والحركة والفهم والفكر والسّمع والبصر والنُطْق والفصاحة والعلم والعقل والمعرفة من ثمراته ونتائجه، (وله به) نسب وإِضافة من وجوه عدّة، وهو يباشره ويعاشره مدَّة حياته وطولَ عمره، فى اليقظة والمنام والقُعُود والقيام، ودوام الموافقة والمرافقة والصّحبة، ومع ذلك لا يصل عِلمُه إِلى شىءٍ من كُنْه حقيقته ودَرْكِ معرفته، فكيف يطمع فى الوصول إِلى ساحة إِدراك جلال من تنزَّه من الكمّ والكيف، وتقدّس ذاتُه عن الرَيْنِ والرّيب، وبَعُدَتْ صفاته عن الشَّين والعيب فى عزَّة جلاله، لا وقوف عليه ولا وصول إِليه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} .
والرِّيح معروفة، وهى - فيما قيل - الهواءُ المتحرك. وعامة المواضع الَّتى ذكر الله تعالى فيها الرِّيح بلفظ الواحد فعبارةٌ عن العذاب، وكلُّ موضع ذكر بلفظ الجمع فعبارة عن الرّحمة؛ كقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} ، وقوله: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً} .
وأَمّا قوله: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} فالأَظهر فيه الرَّحمة، وقرىءَ بلفظ الجمع وهو أَصحّ.(3/107)
وقد يستعار الرِّيح للغلبة نحو: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ، وفى الأَثر: "لولا الريح لأَنتنَ ما بين السّماء والأَرض".
ويقال لمن لا أَصل لكلامه: كلامه ريح فى فسيح وقال:
وثقنا منك بالكرم الصّريح ... فأَقدمنا على الفعل القبيح
فأَرسلْ لى رِياح الفَضْلِ بُشْرًا ... فما بيدىَّ شىءٌ غير ريح
وقد ورد الريح فى القرآن على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى القوّة والدَّولة: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} .
الثاني: بمعنى العذاب فى العقوبة: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} ، {رِيحاً صَرْصَراً} .
الثالث: بمعنى نَسَمَاتِ الرحمة: {يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} .
الرَّابع: بمعنى اللاَّقحات {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} .
الخامس: بمعنى مسخَّرات المراكب فى البحار لمنافع السُّفَّار والتُجَّار: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} .(3/108)
السّادس: بمعنى رياح النَّصر: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} .
السّابع: بمعنى ريح المضَّرة والعذاب: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} ، {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} .
وقوله تعالى: {لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} أَى من فَرَجِه ورحمته، وذلك بعض الرّوح.
وراحَ فلان إِلى أَهله، وإِمّا لأَنه أَتاهم فى السرعة/ كالرِّيح، أَو لأَنَّه أَستفاد برجوعه إِليهم رَوْحًا من المسرّة. والله أَعلم.(3/109)
بصيرة فى الرود والروض والروع والروغ
الرَّوْد: التردّد فى طلب الشىءِ برفق، وقد راد وارتاد، ومنه الرّائد لطالب الكلأَ. وباعتبار الرِّفق قيل: رادت المرأَة فى مِشيتها ترودُ روَادنا. منه بُنى المِرْوَدُ؛ وأَرْوَد يُرْوِدُ: إِذا رَفَق، ومنه بُنى رُوَيْدًا.
والإِرادة منقولة من راد يَرُود: إِذا سعى فى طلب شىءٍ. والإِرادة فى الأَصل: قوّة مركَّبة من شهوة وحاجةٍ وأَمَل، وجُعل اسما لنزوع النَّفْس إِلى الشىءٍ مع الحكم فيه بأَنَّه ينْبغى أَن يُفعل أَوْ لا يُفعل. ثم يستعمل مرّة فى المبدإ وهو نزوع النفس إِلى الشىءِ، وتارة فى المنتهَى وهو الحكم فيه بأَنه ينبغى أَن يُفعل أَوْ لا يفعل. فإِذا استُعمل فى حَقِّ الله تعالى فإِنَّه يراد به المنتهَى دون المبتدإ، فإِنه يتعالى عن معنى النُّزوع، فمتى قيل: أَراد الله كذا فمعناه: حكم فيه أَنه كذا أَوْ ليس بكذا.
وقد يذكر الإِرادة ويراد بها الأَمر كقوله: أُريد منك كذا، أَى آمُرك بكذا، نحو {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} . وقَدْ يُذكَر ويراد به القصد؛ نحو قوله تعالى: {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض} ، أَى يقصدونه ويطلبونه.(3/110)
والمراودة: أَن تنازع غيرك فى الإِرادة فتريد غير ما يُريده، أَو ترود غير ما يروده. وقوله: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} أَى تصرفه عن نفسه.
والإِرادة قد تكون بحسب القوّة التسخيريّة الحسيّة، كما تكون بحسب القوّة الاختيارية، ولذلك تستعمل فى الجماد وفى الحيوان، قال تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} ، وتقول: فرسى يريد العَلَف.
والرَّوضة من الرّمل والعُشْب معروفة، ويقال: الرِّيضَة أَيضاً، والجمع رَوْض، ورِياض، ورِيضانٌ. وكلُّ ماءٍ يجتمع فى الإِخاذات والغُدْرَان والمسَاكات رَوْضة ورِيضة. قال تعالى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أَى فى رياض الجنَّة وهى محاسنها وملاذُّها، {فِي رَوْضَاتِ الجنات} إِشارة إِلى ما أُعِدَّ لهم فى العُقْبى من حيث الظَّاهر، وقيل إِشارة إِلى ما أَهَّلَهُم له من العلوم والأَخلاق التى مَن تخصّص بها طاب قلبه.
وأَراضَ الوادى: استنقع فيه الماءُ، كاستراض.
ورَوَّض: لزم الرّياض. والقَرَاحَ: جعله روضة.(3/111)
واستراض المكانُ: اتَّسع. والحوضُ: صُبَّ فيه من الماءِ ما يوارِى أَرضه. والنفسُ: طابت.
والرُّوعُ - بالضَّم -: القلب، والعقل.
والرَّوْع والارتباع والتَّروّع: الفَزَع. وراعه: أَفزعه كروّعه. ورَاعه: أَعجبه. والأَروع والرّائع: مَن يُعجبك بحسنه. والاسم الرَّوْع.
والمُرَوَّعُ: مَن يُلقَى فى صدره صدقُ فِراسة.
والرَّوْغ والرَّوغان: الميل على سبيل الاحتيال. وأَخذْتَنى بالرُّوَيغة: بالحيلة. ورَاغَ وارتاغ: أَراد وطلب. وراوغ إِليه: مال نحوه لأَمر يريده منه بالاحتيال. وقوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} أَى أَحال، وحقيقته: طلبَ بضربٍ من الرَّوَغَان، ونبّه على الاستعلاءِ بلفظة على.(3/112)
بصيرة فى الروم والروى والريب والريش والريع والرين
الرَّوْمُ، والمرام: الطَّلب. والرُّوم - بالضَّم -: جِيلٌ من ولد / الرّوم ابن عيصو. وهو رُومىٌّ، وهم رُوم.
والرَّوَى والرِّىّ والرَّىّ: ضد العَطَش. رَوِى من الماءِ واللَّبن يَرْوَى - كَرضِىَ يرضَى - رِيًّا ورَيًّا. ورَوَى وتَرَوَّى وارْتَوَى، بمعنى، والاسم الرِّىُّ، قال تعالى: {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} . فمن لم يهمز جعله من رَوِىَ، كأَنَّه رَيّان من الحسن، ومن همز فلِلَّذى يُرْمَق من حسنه.
والرَّيْب: صَرْف الدّهر، سُمِّى به لِمَا يتوهَّم فيه من المكر، والحاجةُ، والظَّنَّة، والتُّهَمة كالرِّيبة بالكسر، وقد رابنى، وأَرابنى. وأَرَبْتُه: جعلت فيه ريبة. وقيل: الرَّيب أَنْ يتوَهَّم بالشىءِ أَمرًا ما فينكشف عمًا يتوهَّمه، ولهذا قال تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ، والإِرابة: أَنْ يتوهَّم فيه أَمرًا فلا ينكشف عمًا يتوهَّمه.(3/113)
وقوله تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} سماه رَيْبًا من حيث إِنَّه يُشَكّ فى قوت حصوله، لأَنَّه مشكوك فى كونه. فالإِنسان أَبدًا فى ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه. قال الشاعر:
النَّاس قد علِمُوا أَن لا بقاءَ لهم ... لو أَنَّهُم عَمِلُوا مقدار ما عَلِمُوا!
والارتياب يجرى مَجْرى الإِرابة. ونفى عن المؤْمنين الارتياب فقال: {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون} ، وقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} .
والرِّيبة: اسم من الرِّيب، قال تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} ، أَى يدلُّ على دَغَل وقِلَّة يقين منهم.
ورِيش الطَّائر معروف. وقد يختصّ بالجناح من بين سائره، ولكون الرّيش للطائر كالثياب للإِنسان استعير للثياب، قال تعالى: {لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً} . ورِشْتُ السَّهْمَ أَريشه: جعلتُ عليه الرِّيش. واستعير لإِصلاح الأَمر فقيل: رِشْت فلانًا فارتاش: أَى حسُن حاله. قال:
فرِشْنى بخيرٍ طَالَما قد بَرَيْتَنِى ... فخير الموالِى مَن يَرِيش ولا يَبرى(3/114)
والرِّيع - بالكسر -: المكان العالى. قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ، ومنه استعير الرَّيع للزِّيادة والارتفاع الحاصل.
والرِّيْن: الطَّبَع والدَّنَس، والصّدأُ يعلو الشىءَ الجلىَّ. ران على قلبه رَيْنَة ورَيْنًا ورُيُونا: غلب. وكلُّ ما غلبك فقد رانك، وران بك وران عليك. قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} أَى صار ذلك كصَدَإٍ على جِلاءِ قلوبهم فعَمّى عليهم معرفة الخير من الشرِّ.(3/115)
بصيرة فى الرؤية
وهى النَّظر بالعين، وبالقلب. رأَيته رُؤْيةً وَرَأْيًا ورَاءَةً ورَأْية ورِئْيانًا، وَارْتأَيته واسترْأَيتُه. والحمد لله على رِيَّتك بزنة نِيَّتك أَى رؤيتك.
والرَّآء - كشدَّاد -: الكثير الرُّؤْيَة. والرُئِىُّ - كصُلىّ - والرُّؤَاءُ - كغراب - والْمَرْآة - بالفتح -: المنظر، وقيل: الأَوّل: حسن المنظر كالتَرْئيَة. وا سترآه: استدعى رؤيته. وأَريتُه إِيّاهُ إراءَةً وإِرْآءً. وراءَيته مراءَاةً ورِياءً: أَريته على خلاف ما أَنا عليه. ونحذف الهمزة فى مضارع رأَى فيقال: يرى.
والرّؤية تختلف بحسب قُوَى النَّفس: الأَوّل بالحاسة وما يجرى مجارها، قال تعالى: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} ، وهذا ممّا أُجرى مُجْرى الرّؤية بالحاسّة، فإِنَّ الحاسّة لا تصحّ على الله تعالى. والثانى بالوَهْم والتخيّل، نحو: أُرَى أَنَّ زيدًا منطلق. والثالث بالتَّفكر: {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} والرّابع بالعَقْل، نحو: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} ، وعلى ذلك حُمل قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} .(3/116)
/ورأَى إِذا عُدّى إِلى مفعولين اقتضى معنى العلم. ويُجرى أَرأَيتَ مُجرى أَخْبِرْنى، ويدخل عليه الكاف ويُترك التَّاءُ على حاله مفتوحة فى التثنية والجمع والتأنيث، تقول: أَرأَيتَك، أَرأَيتَكما، أَرأَيتَكم، قال تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هاذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} ، وفيه معنى التَّنبيه.
والرّأْى: اعتقاد النَفْس أَحد النَّقيضين عن غلبة الظنِّ، وعلى هذا قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} ، أَى يظنونهم بحسب مقتضى مشاهدة العين مثليهم، تقول: فعل ذلك رأْى عَين.
الرَّوِيَّة والتروية: التفكّر فى الشىء، والإِمالة بين خواطر النفس فى تحصيل الرّأْى. والمُرَئِّى: المتفكر.
وإِذا عدّى رأَيت بإِلى اقتضى معنى النظر المؤَدّى إِلى الاعتبار، نحو: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} ، وقولُهُ: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} أَى بما علَّمك وعرَّفك.
والرَّاية: العلامة المنصوبة للرؤْية. وأَرْأَى: صار له رَئِىٌّ من الجنِّ. وهو جنىٌّ يُرَى فيُحَبّ. والرُّؤْيا: ما رأَيته فى منامك، والجمع رُؤًى كهُدًى، وقد تخفَّف الهمزة من الرّؤيا فيقال بالواو.(3/117)
وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} أَى رأَى بعضهم بعضاً، وقيل: تقاربا وتقابلا حتى صار كلٌّ واحد بحيث يتمكَّن من رؤْية الآخر. وفى الحديث: "إِنَّ المؤْمن والكافر لا يتراءَى ناراهما".
وهو مَرْآة بكذا أَى مخْلَقة، وأَنا أَرْأَى: أَخلق وأَجدر.
والمِرآةُ - كمِسحاة -: ما تراءَيت فيه.
والرِّئة: موضع النفَس والرِّيح من الحيوان. والجمع، رِئات ورِئُونَ.
آخر تفسير بصائر حرف الرّاءِ ولله الحمد.(3/118)
الباب الثانى عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الزاى(3/119)
بصيرة فى الزاى
وقد ورد على تسعة أَوجه.
الأَوّل: حرف من حروف التهجِّى، أَسَلّى مخرجه قرب مخرج الذَّال، يُمَدّ ويقصر، ويذكَّر ويؤَنث. والنَّسب زائىّ وزاوِىّ وزَوَوِى والجمع: أَزْياء وأَزْواء.
الثاني: اسم فى حساب الجُمَّل بعدد السّبعة.
الثَّالث: الزَّاى الكافية الَّتى تقتصر عليها من جميع الكلمة: آتيك زايًا أَى زائرًا. وقال:
فإِن تحضر أَخى عَجِلاً وإِلاّ ... دعوناك ابن غانيةٍ بزاى
أَى ابن الزَّانية.
الرابع: الزَّاى فى مثل: عَزَّز وعَزِّم.
الخامس: الزَّاى المدغمة فى مثل: أَزَّ وعزَّ.
السّادس: زاى العجز والضَّرورة، فإِن جماعة يجعلون الذَّال زايًا، والزَّاى ذالاً.(3/120)
السّابع: الزَّاى الأَصلى من نحو: زمر، ووزم، ورزم.
الثَّامن: الزَّاى المبدلة من الصّاد؛ نحو الزّراط فى الصّراط.
التَّاسع: الزَّاى اللُّغوى: قال الخليل: الزَّلمى: الرّجل الكثير الأَكل، قال:
إِذا احتفل السَّراة تكون داءً ... وعند النَّاس زاى جعظرِىٌّ(3/121)
بصيرة فى الزبد والزبر والزج
الزَبَدُ - محرّكة -: زَبَدُ الماءِ. وأَزبد البحر: صار ذا زَبَد، ومنه أُخِذَ الزُّبْد لمشابهته إِيّاهُ فى البياض. وزَبَدْته - كنصرته -: أَعطيته مالاً جَمًّا كالزَبَد كَثْرة، وأَطعمته الزُّبْد.
والزَّبْر: الكتابة الغليظة، والتهديد، وقد زَبَرَ يزْبُر كنصر ينصر. والزَبْر أَيضاً: العقل، فلان ما له زَبْر. والزَّبُور: الكتاب المسطور. وسُمِّى كتاب داود عليه السّلام زَبُورًا لأَنَّه نزل من السّماءِ مسطورًا. والجمع: زُبُرٌ ككتب. قال الشاعر:
/فى ديار خالياتٍ ... من أَمارات السرورِ
مُقْفِراتٍ دارسات ... مثل آيات الزَّبور
وقال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ، وقرىء بضمّ الزَّاءِ، وذلك جمع: زَبْر كظّرف وظُروف. وقيل: الزَّبُور كلّ كتاب يصعُب الوقوف عليه(3/122)
من الكُتُب الإِلَهيّة. وقيل: الزَّبُور: اسم للكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأَحكام الشرعيّة، والكتابُ لما يتضمّن الأَحكام والحِكَم.
وقد ورد ما يُشتق من هذه المادّة فى القرآن على خمسة أَوجه.
الأَوّل: بمعنى قِصَص القُرون الماضية: {جَآءُوا بالبينات والزبر} ، أَى حديث الأَوّلين، {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} .
الثَّانى: بمعنى كِتاب المتأَخرين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} .
الثَّالث: بمعنى اللَّوح المحفوظ: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أَى فى اللَّوح.
الرَّابع: بمعنى كتاب داود: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} .
الخامس: الزُّبَر مثال صُرد، جمع زُبْرة للقطعة العظيمة من الحديد. واستعير للجُزْءِ. وقوله تعالى: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} ، أَى صاروا فيه أَحْزابًا.
والزّجاج - مثلَّثة الزاى -: حجر شفَّاف، واحدته بهاء، قال تعالى: {المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ} .
والزُّجُّ: حديدةٌ أَسفَل الرّمح ج زِجَاج. زَجَّجته: جعلت له زُجَّا (وأَزْججته: جعلت له زُجًّا) ، وأَزججته: نزعت زُجَّه.(3/123)
بصيرة فى الزجر والزجى والزخرف والزرب والزرع
الزَّجر: طَردٌ بصوت، ثم يستعمل فى الطَّرد تارة، وفى الصّوت أُخرى.
وقوله تعالى: {فالزاجرات زَجْراً} أَى الملائكة الَّتى تَزْجُر السّحاب. وقوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} ، أَى طَرد ومَنْع عن ارتكاب المآثم، وقوله: {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر} أَى طرد.
والتَزْجية: دفع الشَّىءِ لينساق، كتزجية السّحاب. وبضاعة مزجاة: يسيرة حقيرة. قال الشاعر:
وحاجة غير مُزْجاة من الحاج
أَى غير يسيرة يمكن دفعها وسَوقها لقلَّة الاعتداد بها.
والزَّحف: انبعاث مع جَرِّ الرِجل كانبعاث الطِّفل قبل المشى.
والزُّخْرف: الذَّهب، قال تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}(3/124)
أَى ذهب مزوَّق. والزُخْرف: الزينة المُزَوَّقة. وقوله: {زُخْرُفَ القول غُرُوراً} ، أَى المَزَّوَقَات من الكلام.
وذكر فى القرآن على أَربعة أَوجهٍ.
الأَول: بمعنى الذَّهب: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} .
الثانى: بمعنى التَّخْت والمتَّكإِ: {وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً} .
الثالث: بمعنى الزِّينة: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} .
الرَّابع: بمعنى مُزَوَّقات الكلام: {زُخْرُفَ القول} .
والزَرَابىُّ: الطَّنافِس قال تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} ، وقيل: هى ضرب من الثياب محبَّر منسوب إِلى بلد، الواحد زَرْبيَّة.
والزَّرع: الإِنبات، وحقيقة ذلك مخصوصة بالله تعالى، فلهذا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} فنسب الْحَرث إِليهم، ونَفى عنهم الزَّرع، ونسبه إِلى نفسه تعالى. وإِذا نُسب إِلى العبد فمجاز؛ لأًَنه فاعل للأَسباب الَّتى هى سبب الزَّرْع، كما تقول: أَنبتُّ كذا(3/125)
إِذا كنتَ من أَسباب إِنباته. / والزرع فى الأَصل مصدر، وعبّر به عن المزروع؛ كقوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} . قال الشاعر:
لَعَمْرُك ما المعروف فى غير أَهله ... وفى أَهله إِلاَّ كبعض الودائع
فمستودَعٌ قد ضاع ما كان عنده ... ومستودَع ما عنده غير ضائع
وما النَّاسُ فى شكر الصنيعة عندهم ... وفى كفرها إِلاَّ كبعض المزارع
فمرزعةٌ طابت وأَمرَع زَرْعُهَا ... ومرزعة أَكْدت على كلِّ زارع
والزرع ذكر فى ثمانية مواضع من القرآن:
الأَوّل: فى ذكر بساتين آل فرعون: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ} .
الثانى: ما مَنَّ الله به على سائر الخلق، فى قوله: {والنخل والزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} .
الثالث: فى خُلُوّ وادى مكة منه: {إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} .
الرَّابع: فى تعبير يوسف رؤْيا الملكِ: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ} .(3/126)
الخامس: فى قوله: {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} .
السّادس: فى قوله: {أَمْ نَحْنُ الزارعون} .
السّابع: فى تشبيه حال أَهل الإسلام فى ظهورهم به: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} .
الثَّامن: فى تشبيه تقوية الخلفاءِ الأَربعة إِيمانهم بالصدق والإِخلاص به: {فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع} . قال الشاعر:
إذا أَنت لم تزرع وأَبصرت حاصدًا ... ندِمت على التفريط فى زمن البَذْرِ(3/127)
بصيرة فى الزرق والزرى والزعق والزعم والزف والزفر والزقم
الزَّرَق - محرّكة - والزُرْقة - بالضمِّ -: لون معروف بين البياض والسّواد. زَرقت عينه - كفرح - زُرْقة وزَرَقَانًا. الزُّرْقة أَيضاً: العَمَى، ومنه قوله تعالى: {يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} أَى عُمْيًا عيونهم لا نور لها.
وزَرَيْت عليه: عِبْتُه. وأَزْريت به: قصَّرت به. وكذلك ازدريت به (وزريت عليه: عبته) زَرْيًا وزِرَايَةً ومَزْرِيَةِ وَمَزْراةً وزُرْيانًا بالضمّ. وزراه أَيضا: عاتبه. وازدراه واستزاره: احتقره، قال تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ} أَى تزدريهم أَعينكم، أَى تستقِلُّهم وتهينهم. وأَزرى بأَخيه: أَدخل عليه عَيباً أَو أَمرًا يريد أَن يلبّس عليه به.
والزُّعاق - بالضم -: الماءُ المُرّ الغليظ لا يطاق شربه.
وزَعَقَهُ كمنعه: ذَعَرَه.(3/128)
والزّعم - بتثليث الزاى -: القول الحقّ، والقول الباطل، ضدّ، والكذب.
والزُّعْمِىّ: الكذَّاب والصّادق. وقيل: الزَّعم حكاية قول (يكون) مظنَّة للكذب، ولهذا جاءَ فى القرآن فى كلِّ موضع ذُمّ القائلون به.
والزَّعيم: الكفيل، وقد زَعَمَ به زَعْمًا وزَعَامة، وسيّد القوم ورئيسهم المتكلِّم عنهم، والجمع: زُعماءٌ. والمَزْعَم: المطعم. قال.
وزعمتمُ أَن لا حلومَ لنا ... إِن العصا قُرِعت لذى الحِلْمِ
وتركتنَا لَحْمًا على وَضَمٍ ... لو كنت تستبقى من اللَّحم
ووطئتَنا وطْأً على حَنَق ... وطْءَ المقيّد يابس الهَرْم
وقد ورد فى القرآن على ثمانية أوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى شَرْع أَهل الجاهلية: {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} .
الثانى: بمعنى دعواهم: {هاذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهاذا لِشُرَكَآئِنَا} .(3/129)
الثالث: فى إهمال الأصنام إِمامهم يوم القيامة: {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} .
الرّابع: بمعنى إِنكارهم البعث: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} .
الخامس: دعواهم فى نفى الحشر: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} .
السّادس: دعوى اليهود أَنَّهم أَحِبّاءُ الله: {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ} .
السابع: بمعنى أَيُّهم كفيل بإِقامة حجّة رُبُوبيّة الأَصنام: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} .
الثامن: بمعنى ضمان وكيل يوسف فى الكَيْل: {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} .
زَفَّ الظَلِيمُ يزِفُّ زَفِيفاً: أَسرع، والرِّيح: هَبَّتْ فى مُضىٍّ. وقوله تعالى: {فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} فيمن قرأَ مشدّدة أَى يُسرعون،(3/130)
و (يُزِفُّون) أَى يحملون أَصحابهم على الزَّفيف، و (يَزفُون) بالتخفيف بمعناه، مضارع وَزَف يزِف وزِيفاً: أَسْرع.
وزَفَر يَزْفِر زَفِيرًا، وهو اغتراق النَّفَس للشدَّة. وقيل: الزَّفير: ترديد النَّفَس حتى تنتفح الضُّلوع منه، قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} فالزَّفِير: أَوّلُ صوت الحمار، والشَّهِيق: آخره، لأَنَّ الزفير إِدخال النَّفَس، والشَّهيق آخره.
والزَّقُوم: الزُّبْد بالتَّمر، وشجرة بالبادية، وشجرة بجهنَّم، وطعام أَهل النَّار.(3/131)
بصيرة فى الزكاة
زكا يزْكو زَكَاءً وزُكُوًّا: نما. والزكاة: النُّموّ الحاصل عن بركة الله تعالى. ويعتبر ذلك بالأُمور الدّنيوية والأَخرويّة، وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً} إِشارة إِلى ما يكون حلالاً لا يُسْتوخَم عُقْباه. ومنه الزكاة لما يخرجه الإِنسان من حقِّ الله تعالى إِلى الفقراء، وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاءِ البركة، أَو لتزكية النَّفْس أَى تنميتها بالخيرات والبركات، أَوْ لهما جميعًا؛ فإِنَّ الخَيْرين موجودان فيها.
وقرن الله تعالى الزكاة بالصَّلاة فى القرآن تعظيما لشأنها.
وبزكاءِ النفس وطهارتها يصير الإِنسان بحيث يستحق فى الدُّنيا الأَوصاف المحمودة، وفى الآخرة الأَجرَ والمثوبة، وهو أَن يتحرَّى الإِنسان ما فيه تطهيره. وذلك ينسب تارة إِلى العبد لاكتسابه ذلك، نحو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} ، وتارة إِلى الله تعالى لكونه فاعلا لذلك فى الحقيقة نحو: {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} ، وتارة إِلى النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم لكونه واسطة فى وصول ذلك إِليهم، نحو: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ، وتارة إِلى العبادة الَّتى هى آلة فى ذلك، نحو: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً} .(3/132)
وقوله: {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} أَى زكِىَّ الخِلْقة، وذلك على طريق ما ذكرناه من الاجتباءِ، وهو أَن يجعل بعض عباده عالِمًا وطَاهر الخُلُق لا بالتعَلُّم والممارسة بل بقوّة إِلهيّة، كما يكون لكلِّ الأَنبياءِ والرُّسُل. ويجوز أَن يكون تسميته بالزَّكِىّ لما يكون عليه فى الاستقبال لا فى الحال. والمعنى سَيَتَزَكَّى. وقوله: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أَى يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكِّيهِم الله، أَو ليزكُّوا أَنفسهم، والمعنيان واحد. وليس قوله (للزَّكاة) مفعولا لقوله (فاعلون) ، بل اللاَّم فيه للقصد وللعلَّة.
وتزكية الإِنسان نفسه ضربان: أَحدهما بالفعل وهو محمود، وإِليه قَصَد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} ، والثانى بالقول كتزكية العدل غيره. وذلك مذموم أَن يفعل الإِنسان بنفسه. وقد نهى الله تعالى عنه بقوله: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} ، ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مَدْح الإِنسان نفسه عقلا وشرعاً، ولهذا قيل لحكيم: ما الَّذى لا يحسن / وإِن كان حقًّا؟ فقال: مَدْح الإِنسان نفسه.
وفى أَثر مرفوع: "ما تلِف مالٌ من برّ ولا بحر إِلاَّ بمنع الزَّكاة".(3/133)
ويقال: زكاة الحُلِىِّ إِعارتها. وقال عليه الصلاة والسّلام: "حَصِّنُوا أَموالكم بالزَّكاة"، وقال الشاعر:
وأَدِّ زكاة الجاه واعلم بأَنَّها ... كمِثل زكاة المال تّمَّ نِصابها
وقال:
حبَّ علىِّ بن أَبى طالبٍ ... دلالةٌ باطنةٌ ظاهرهْ
تُخْبِرُ عن مُبْغِضه أَنَّه ... نُطفةُ رجْسِ فى حَشَى عاهرهْ
ومن تولَّى غيرَه لا زَكَتْ ... زُكْبته فى الدّنيا والآخرهْ
وورد فى القرآن على ستَّة عشر وجهاً:
وذلك بمعنى الأَقرب إِلى المصلحة: {هُوَ أزكى لَكُمْ} .
وبمعنى الحلال: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً} .
وبمعنى الحُسْن واللطافة: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أَى ذات جمال.
وبمعنى الصّلاح والصِّيانة: {أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} أَى صلاحاً.
وبمعنى النبوّة والرسالة: {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} ، أَى رسولا نبياً.(3/134)
وبمعنى الدعوة والعبادة: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} .
وبمنعى الاحتراز عن الفواحش: {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} .
وبمعنى الإِقبال على الخدمة: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} .
وبمعنى الإِيمان والمعرفة: {الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} أَى لا يؤْمنون.
وبمعنى التوحيد والشِّهادة: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} .
وبمعنى الثناءِ والمَدْح: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} .
وبمعنى النَّقاءِ والطَّهارة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} .
وبمعنى التَّوْبة من دعوى الرّبُوبيّة: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} .
وبمعنى أَداءِ الزَّكاة الشرعية: {وَآتُواْ الزكاة} ، {وَيُؤْتُواْ الزكاة} . ولها نظائر كثيرة.(3/135)
بصيرة فى الزلل والزلفة والزلق والزمر والزمل والزنم والزنى والزهد
زَلَلْتَ تَزِلُّ، وزَلِلْت تَزَلَّ زَلاًّ زَلِيلاً ومَزِلَّةً وزُلولاً وزَلَلاً وزِلِّيلَى أَى زلِقْتَ. وأَزلَّه غيره. والمَزَلَّة والمَزِلَّة: موضعه. وقيل للذَّنب من غير قصدِ: زَلَّة، تشبيهًا بزلَّة الرِّجلْ، قال تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} ، ومنه قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} . واستزلَّه: إِذا تحرّى زَلَّته. وقوله: {استزلهم الشيطان} أَى استجرَّهم حتَّى زَلُّوا؛ فإِن الخَطيئة الصغيرة إِذا ترخَّص الإِنسان فيها تصير مسهِّلة لسبيل الشيطان على نفسه.
وزلزلهُ زَلزلة وزلزالاً - مثلَّثة الزَّاى -: حرّكه، فتزلزل، وتكرير حروفه تنبيه على تكرّر معنى الزَّلل فيه. وقوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} أَى زُعْزِعوا من الرّعب. وإِزِلْزِل: كلمة تقال عند الزلزلة.
والزُّلْفة والزُلْفَى والزَّلَف: القُرْبة والمنزلة، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً}(3/136)
وقال: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} وهى اسم المصدر كأَنَّه قال: ازدلافاً. وجمع الزُّلْفة: زُلَفٌ. وقال العَجَّاج:
تاجٍ طواه الأَيْن ممّا وَجَفا ... طىَّ اللَّيالى زُلَفَا فزُلفا
سماوة الهلال حتَّى احْقَوْقفا
والزُّلْفة أَيضاً: الطائفة من أَوّل اللَّيل، والجمع: زُلَف وزُلُفات وزُلْفات. وقوله تعالى: {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} أَى ساعة بعد ساعة يقرب بعضها من بعض. وعُنى بالزُّلف من اللَّيل المغرب والعشاء. وأَزْلفه: قرّبه.
وقوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} قال ابن عرفة: أَى جمعناهم قال: وأَحسن من هذا: وأَدنيناهم يعنى إِلى الغُرَف، قال: وكذلك: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} أَى أُدْنِيَتْ. والمُزْدَلِفة سمُّيت بها لقربها من مِنىً. وازدَلَف إِلى الله بركعين: تقرَّب.
والزَّلَق والزَّلل بمعنى، زَلَِق كفرح و (نصر) : زلَّ. وأَزلق فلاناً ببصره: نظر إِليه. قال تعالى: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} . وقرأ أُبىُّ بن كعب: (وأَزلقنا / ثمَّ الآخَرِين) .(3/137)
والزُّمْرة - بالضم -: الجماعة من النَّاس، والجمع زُمَرٌ، لأَنها إِذا اجتمعت كان لها زِمارًا وجَلَبَة. والزِمار - بالكسر -: صوت النَّعام.
والتزميل: الإِخفاء. والتَّزمُّل: التلفَّف. وقوله تعالى: {ياأيها المزمل} أَى يأَيها المتزمّل فى ثوبه، وذلك على سبيل الاستعارة، وكُنِىَ به عن المقصّر والمتهاون فى الأَمر، وتعريض به.
والزَنِمِ والمُزَنَّم: الدَعِىُّ، والرّجل المستلْحَق فى قومٍ ليس منهم، قال:
والزِّناء والزِنىَ: وَطْءُ المرأَة من غير عَقْد شرعىّ ومِلْك يمين. زَنى يزنى زِنىّ وزِناءً، وزانىّ مزاناةً وزِناءً بمعناه. وزاناه: نسبه إِلى الزِّنى.
وهو ابن زَنْية - بالفتح وقد يكسر - ابن زِنىً.
والزهِيد: الشىء القليل. وزَهِدَ فى الشىءِ يزهد زُهْدًا وزَهَادة: رغِب عنه(3/138)
أَو رضى بيسير منه. والزُّهْد: الرّضا بالقليل، قال تعالى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} .
وقد أكثر المشايخ من الكلام فى الزهد، وكلٌّ أَشار إِلى ذوقه، ونطق عن حاله ومشاهدته.
فقال سفيان الثورىّ: الزُّهد: قِصَرُ الأَمل، ليس بأَكل الغليظ ولا لبس العباءَة. وقيل: الزُّهد فى قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} .
وقال ابن الجلاء: الزهد: هو النظَّر إِلى الدُّنيا بعين الزَّوال لتصغر فى عينيك، فيتسهَّل عليك الإِعراض عنها.
وقال ابن خفيف رحمه الله: علامة الزهد وجود الراحة فى الخروج من المِلك. وقال أَيضا: هو سُلُوّ القلب عن الأَسباب، ونفض الأَيدى عن الأَملاك. وقيل: هو عُزُوف القلب عن الدنيا بلا تكلّف.
وقال الجُنيد: هو خُلوّ القلب عمّا خلَت منه اليد.
وقال عبد الواحد بن زيد: ترك الدِّينار والدِّرهم.
وقال أَبو سليمان الدَّارانى: ترك ما شَغَل عن الله تعالى.
وقال الإِمام أَحمد: الزُّهد على ثلاث درجات: ترك الحرام، وهو زُهد العوامّ. وترك الفُضُول من الحلال، وهو زهد الخواصّ. والثالث: ترك ما شغل عن الله، وهو زهد العارفين.(3/139)
وهذا الكلام من الإِمام يأتى على جميع ما تقدّم من كلام المشايخ. ومتعلَّقه ستة أشياء لا يستحق العبد اسم الزّهد حتَّى يزهد فيها، وهى: المال، والصُّورة، والرّياسة، والناس، والنفْس، وكلُّ ما دون الله تعالى. وليس المراد رفضها من المِلْك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام - أَزهدَىْ أَهل زمانهما، ولهما من المال والنِّساءِ والمِلْك ما لهما. وكان نبيُّنا صلّى الله عليه وسلَّم أَزهد البَشَر على الإِطلاق، وكان له تسع نسوة. وكان عثمان وعلى وزُبير وابن عوف من الزُّهَّاد، مع ما لَهم من الأَموال، وكذلك الحَسَن بن على. ثم السَّلف عبد الله بن المباك، والليث بن سعد، وسفيان، كانوا من الزُّهَّاد مع مال كثير.
ومن أَحسن ما قيل فى الزهد كلام الحسن: ليس الزُّهد فى الدنيا بتحريم الحلال، وإِضاعة المال، ولكن أَن تكون بما فى يد الله أَوثقَ منك بما فى يدك، وأَن تكون فى ثواب المصيبة إِذا أُصبْت بها، أَرْغب منك فيها لو لم تصبك.
وقد اختلف الناس فى الزهد، هل هو ممكن فى هذه الأَزمنة أَم لا؟ فقال ابن حفص: الزهد لا يكون إِلاَّ فى الحلال، ولا حلال فى الدّنيا. وخالفه النَّاس، وقالوا: الحلال موجود، والحرام كثير. وعلى تقدير أَلاَّ يكون فيها الحلال يكون هذا أَدعى إِلى الزهد فيها، وتناولُه منها يكون كتناول المضطر للمَيْتة والدّم ولحم الخنزير.(3/140)
ثمَّ اختلف هؤلاء فى متعلَّق الزهد، فقالت طائفة: الزهد إِنما هو فى الحلال لأَن ترك الحرام فريضة. وقالت فرقة: بل الزهد لا يكون إِلاَّ فى الحرام، وأَمّا الحلال فنعمة من الله على عبده، والله تعالى يحبُّ أَن يُرى أَثرُ نعمته على عبده، فيشكره على نِعمه، والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقًا إِلى جنَّته أَفضل من الزُّهد فيها والتَّخلى عنها، ومجانبة أَسبابها.
والتحقيق أَنَّها إِن شغلته عن الله فالزُّهد فيها أَفضل، وإِن لم تشغله عن الله بل كان شاكراً فيها فحاله أَفضل.
وقد زهَّد الله تعالى فى الدُّنيا، وأَخبر عن خِسَّتها، وقلَّتها، وانقطاعها وسرعة فنائها، ورغَّب فى الآخرة، وأَخبر عن شرفها، ودوامها، وسرعة إِقبالها. والقرآن مملوءٌ من ذلك.
قال تعالى: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ} إِلى قوله: {إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} ، وقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ} إِلى قوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} إِلى قوله: {ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، وقال: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمان لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} إلى قوله: {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} إِلى قوله: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} .(3/141)
بصيرة فى الزهق والزيت والزوج
زَهِقت نَفسه - بكسر الهاءِ وفتحها -: خرجت، أَو خرجت أَسَفًا. والزّيت: الدُّهن المعروف، الزَّيتون شجرته. وزِتُّ الطعام أَزيته زَيْتًا: جعلت فيه الزَّيت، فهو مَزِيت ومَزْيوت. وازدات: ادَّهنَ به. وزاتهم زَيْتًا: أَطعَمهم إِيَّاه. وأَزاتوا: كثر عندهم الزَّيتُ.
والزُّوج يطلق على كلِّ واحد من القرينين من الذكر والأُنثى فى الحيوانات المتزاوجة، و [يقال] لكلّ قرينين فيها وفى غيرها؛ كالخُفِّ والنَّعل، ولكلِّ ما يقترن بآخر مماثلا له ومضادًّا: زوْج، قال تعالى: {يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} ، وزوجة لغة رديئة، والجمع زوجات، وجمع الزَّوج: أَزواج.
وقوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أَى أَقرانهم المقتدين بهم فى أَفعالهم. وقوله: {مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أَى أَشباهاً وأَقراناً. وقوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} بَيَّن أَنَّ كلَّ ما فى العالم فإِنه زوج؛ من حيث إِنَّ له ضِدًّا مَّا أَو مِثْلاً مّا، [أَو تركيبا ما] ، بل(3/142)
لا ينفك بوجه من تركيب، وإِنما ذكر هنا زوجين تنبيهاً أَن الشىءَ وإِن لم يكن له ضد ولا مِثْل فإِنه لا ينفك من تركيب صورة ومادَّة وذلك زوجان. وقوله تعالى: {أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى} أَى أَنواعاً متشابهة. وقوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أَى أَصناف. وقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} أَى فِرَقًا، وهم الذين فسَّرهم بما بعد. وقوله: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قيل: معناه: قُرن كلّ شِيعة بما شايعهم فى الجنة والنار. وقيل: قرنت الأَرواح بأَجسادها حسْبما نبّه عليه فى أَحد التَّفسيرين: {ارجعي إلى رَبِّكِ} أَى صاحبك. وقيل: قرنت النفوس بأَعمالها حَسْبما نبّه عليه قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} . وقوله: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أَى قَرَنَّاهم بهنَّ، ولم يرد فى القرآن زوّجناهم حورا / كما يقال: زوّجته امرأَة، تنبيهاً أَنَّ ذلك لا يكون على حَسَب المُتعارف فيما بيننا من المناكحة.(3/143)
قال أبو الفضائل المعينى: ورد فى القرآن الزَّوج على أَربعة عشر وجهاً:
الأَوّل: بمعنى أَصناف الموجودات، من الجمادات أَو غير الجمادات: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} .
الثَّانى: بمعنى الحيوانات المأَكولات: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} ، {أَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} .
وبمعنى أجناس الحيوانات: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} .
وبمعنى كلِّ ما له زوج من المخلوقات: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} .
وبمعنى أَنواع الأَشجار والنَّبات: {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .
وبمعنى البنين والبنات: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} .
وبمعنى المنكوحات المحلّلات: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} .
وبمعنى المحلِّل فى حق المطلَّقات: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} .
وبمعنى المخلَّفات فى عدّة: الوفاة: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} .
وبمعنى الحوراءِ والعيناءِ من حرائر الجنَّاتِ: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} ، {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} .(3/144)
وبمعنى الفواكه والثَّمرات: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} .
وبمعنى اقتران الرُّوح بالجسد: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} .
وبمعنى حوَّاءَ عليه السلام: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} .
وبمعنى مخدَّرات حُجَر النبوّة: {زَوَّجْنَاكَهَا} ، {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً} ، {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} .(3/145)
بصيرة فى الزور والزول
الزوْر: أَعلى الصدر. ويستحب فى الفرس أَن يكون رَحْب اللَّبان، قال عبد الله بن سليمة - وقيل ابن سليم أَصحّ -:
ولقد غدوتُ على القَنِيص بِشَيْظَمٍ ... كالجِذْع وسْط الجنَّة المغروسِ
متقارِب الثَفِنات ضيْقٌ زَوْره ... رَحْب اللَّبان شديد طَىِّ ضَرِيس
أَراد بالضَّريس الفَقار. وقد فرق بين الزَّوْر واللبَان كما ترى.
والزَّور أَيضا: مصدر قولك زُرْته أَزُوره زَوْرًا وزِيارة وزُوَارا ومَزَارًا أَى لقيته بزوْرِى، أَو قصدت زَوْره أَى وِجْهته.
والزَّور أَيضاً: القوم الزَّائرون. وفى الصَّحيح: "إِن لِزَوْرك عليك حَقَّ". ونسوة زَوْر أَيضاً، وزُوَّر مثال نُوّم، وزائرات.
والزَّوَر - محركة -: مَيَل فى الزَّوْر. والأَزور: المائل الزَّوْر.
وقوله: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} أَى تميل. قرىء تزاوَرُ، وتَزْوَرُّ.(3/146)
وأزورّ عنه: مال. ورجل أَزْور، وقومٌ زُور. وبئر زَوْراءُ: مائلة الحَفْر.
والزُّور: الكَذِب، لكونه قولاً مائلا عن الحقِّ، قال تعالى: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} . وسمّى الصّنم زُورًا لكونه كذِباً. وقوله تعالى: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قيل: هو الشرك بالله، وقيل: هو أَعياد اليهود والنَّصارى.
والزِّيار والزِّوار: حَبْل يُجعل بين التَّصدير والحَقَب. وفى الكلمات القُدسية أَنَّ الله تعالى قال لأَيوب عليه السلام: إِنه لا ينبغى أَن يخاصمنى إِلاَّ من يجعل الزِّيار فى فم الأَسَد، والسِّحال فى فم العنقاءِ. السحال والمِسْحَل: الحَلْقة المُدْخلة فى الأُخرى على طَرَفَىْ شكيمة اللِّجام، وهما مِسْحَلان.
والزُّول - بالضم - والزَّوال والزَّويل والزُّوُول: الذَّهاب والاستحالة. وقد زال يزول: فارق طريقته جانحاً عنها. وأَزلته أَنا، وزوّلته.
والزَّوال يقال فى شىءٍ قد كان ثابتاً. فإِن قيل: قالوا: زوال الشمس [و] معلوم أَنَّه لا ثبات للشّمْس بوجه/، قلنا: إِنما قالوا ذلك لاعتقادهم فى الظَّهيرة أَنَّ لها ثباثاً فى كَبِد السَّماءِ، ولهذا قالوا: قام قائم الظَّهيرة.
وزيَّلهم فتزيّلوا: فرّقهم فتفرقوا، قال تعالى: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} وذلك(3/147)
على التَّكثير فيمن قال: زِلْت متعدّ، نحو مِزْته ومَيَّزته، تقول: زِلْته أَى فرَّقته، وزِلْ ضأنَك من مِعْزاك. وقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} أَى لو تميّز المؤمنون من الكافرين لأَنزلنا بالكافرين فى نصركم عليهم عذاباً أَليما.
وقد ذُكر الزَّوال والزِّيال فى أَحد عشر موضعاً من القرآن:
الأَوّل: فى عذر تأخير العقوبة: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا} .
الثَّانى: فى تمييز عُبَّاد الأَصنام من معبوديهم يوم الحشر: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} .
الثالث: فى حفظ الله أَركان السَّماوات من الخلل: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} .
الرَّابع: دعوى القرون الماضية أَن لا ذهاب لملكهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} .
الخامس: صعوبة مكر نُمرود المتمرِّد: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} .
السّادس: خروج آدم من الجنَّة بوسوسة إِبليس المحتال: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} فى قراءَةِ مَنْ قَرأَ بالأَلف.(3/148)
السّابع: دوام دعوى المبطلِين على سبيل الإِنكار: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} .
الثامن: ظهور خيانة اليهود: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} .
التَّاسعُ: إِصرار المنافقين على التُّهمة والرِّيبة: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً} .
العاشر: دوام مصائب الكفار: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} .
الحادى عشر: دوام اختلاف المؤْمنين فى مسائل الدين: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} .(3/149)
بصيرة فى الزيادة
الزِّيادة: أَن ينضمّ إِلى ما عليه الشىءُ فى نفسه شىءٌ آخر، زِدته أَزيده زَيْدًا وزيادة فازداد. وقوله تعالى: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} نحو ازددت فضلاً، أَى ازداد فضلى، فهو من باب سٍَفِهَ نفسَه.
وذلك قد يكون زيادة مذمومة كالزَّيادة على الكفاية كزائد الأَصابع، والزّوائد فى قوائم الدَّابَّة، وزيادة الكبد، وهى قطعة متعلِّقة بها يتصوّر أَن لا حاجة إِليها؛ لكونها غير مأكولة.
وقد يكون زيادة [محمودة] نحو قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} ، رُوى من طُرُق مختلفة أَنَّ هذه الزِّيادة النظر إِلى وجه الله تعالى، إشارة إِلى أَحوال وأُمور لا يمكن تصوّرها فى الدنيا.
وقوله: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} أَى أَعطاه من العلم والجسم قَدْرًا زَائِدًا على ما أَعطى أَهل زمانه.(3/150)
ومن الزِّيادة المكروهة: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} فإِن هذه الزِّيادة هو ما بُنى عليه جِبلَّة الإِنسان: أَن مَن تعاطى فعلا - إِنْ خيرا وإِن شرًّا - يقوى فيما يتعاطاه، ويزداد حالاً فحالاً فيه.
وقوله تعالى: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} يجوز أَن يكون استدعاءً للزِّيادة، ويجوز أَن يكون تنبيهاً أَنه قد امتلأَت، وحصل فيها ما ذَكَرَ - تعالى - فى قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} .
يقال: زدته كذا، وزاد هو، وازداد، وشىءٌ زائد وزَيْد، قال:
وأَنتم معشرٌ زَيْدٌ على مائةٍ ... فأَجمِعوا أَمركم كُلاًّ فكيدونِى
والزَّاد: المدَّخرُ الزائد على ما يُحتاجُ إِليه فى الوقت. والتزَوُّد: أَخْذُ الزاد، وقال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} .
وقد وردت الزِّيادة على وجوه مختلِفة فى القرآن:
كزيادة نُفْرة قوم نوح من دعواهم: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً}
/ زيادة خَسَارهم من اتِّباع أَهل الضَّلال: {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ(3/151)
إِلاَّ خَسَاراً} ، {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} ، {إِلاَّ خَسَاراً} .
زيادة خَسَار ثمود: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} .
زيادة قوّة قوم عاد: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} ، {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً}
زيادة العلم والجسم لِمَلِك الإِسرائيليِّين: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم}
زيادة الإِحسان من قوم موسى للمحسنين: {وَسَنَزِيدُ المحسنين}
زيادة كيل القوت من يوسف لإِخوته: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}
زيادة العَدَد من قوم يونس: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}
زيادة الهُدَى من الله: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} .
زيادة العلم والحكمة لسيّد المرسلين: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
زيادة اليقين والإِخلاص للصّحابة: {وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً} {ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} .(3/152)
زيادة خشية الصّحابة عند سماع القرآن: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} .
زيادة خَسَار الظَّالِمِينَ، من ذلك: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} .
زيادة رِجْس المنافقين: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} .
زيادة الشكِّ والشُّبهة للكفار: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} .
زيادة عذابهم: {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} ، {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} .
زيادة تطاول الجنَّ: {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .
زيادة الفضل للمطيعين: {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}
زيادة القُرْبَة للعارفين: {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} ، {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} .
زيادة اللِّقاءِ والرّؤْية لأَهل الجنة: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} .
وفى الحديث: "من ازداد علماً ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إِلاَّ بعدا". وقال الشاعر:
وحدّثتنى يا سعد عنها فزدتنى ... جنونا فزدنى من حديثك يا سعد(3/153)
بصيرة فى الزيغ
الزِّيْغُ: المَيْل عن الاستقامة. وقد زاغ يَزِيغ زَيْغًا وزَيَغانًا وزَيْغُوغة: مال. وزاغ البصر: كَلَّ، قال الله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} . وقوله تعالى: {في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أَى شكَّ وجَوْر عن الحقِّ. وقوم زاغة عن الشىءِ أَى زائِغُونَ؛ كالباعة للمبائعين. وأَزاغه عن الطَّرِيق: أَماله عنه، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} .
وقوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} ، أَى لمّا فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك، قال أَبو سعيد: زَيَّغت فلاناً تزييغاً: إِذا أَقمت زَيْغه. وقوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار} يصحّ أَن يكون إِشارة إِلى ما تداخلهم من الخوف حتى أَظلمت أَبصارهم، ويصحّ أَن يكون إِشارة إِلى ما قال: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} .
والزَّائِغ: المَائل. وزاغت الشمسُ: إِذا مالت، وذلك إِذا فاءَ الفىْءُ. وتزيَّغت المرأَةُ: تبرَّجت وتزيَّنت.(3/154)
بصيرة فى الزين
الزِّينة: ما يُتزيَّن به. وكذلك الزِّيان. والزَّين: ضدّ الشَيْن، والجمع أَزيان. وزانة وأَزانَه وأَزْيَنه بمعنى، فتزَّين هو وازدان وازَّيَّنَ وازْيَانَّ وازْيَنَّ. وقمرٌ زَيَانٌ: حَسَنٌ، وامرأَةٌ زائن: متزيّنة.
والزِّينة فى الحقيقة: ما لا يَشين الإِنسانَ فى شىءٍ من أَحواله، لا فى الدُّنيا ولا فى الآخرة. فأَمّا ما يزينه فى حالة دون حالة فهو من وجهٍ شَيْن.
والزِّينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسيّة؛ كالعلم والاعتقادات/ الحسنة. وزينة بدنيَّة، كالقوّة وطول القامة وتناسب الأَعضاءِ. وزينة خارجيّة؛ كالمال والجاه.
وقوله تعالى: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} هو من الزينة النفسيّة. وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} حُمِل على الزِّينة الخارجيَّة، وذلك أَنَّه قد رُوى أَنَّ أَقواماً كانوا يطوفون بالبيت عُراةً، فنُهوا عن ذلك بهذا الآية. وقيل: بل زينة الله فى هذه الآية هى الكَرَم المذكور فى قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} .(3/155)
وقوله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} هى الزينة الدّنيوية: من الأَثاث والمال والجاه.
وقد نسب الله - تعالى - تزيين الأَشياءِ إِلى نفسه فى مواضع، وإِلى الشيطان فى مواضع، وفى أَماكن ذكره غير مُسَمَّى فاعلُه. قال - تعالى - فى الإِيمان: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وفى الكفر: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} . وممّا نسبه إِلى الشيطان: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} . ممّا لم يسمَّ فاعله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} ، {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} أَى زَيّنَهُ شركاؤهم.
وقوله: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} ، {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} ، {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} إِشارة إِلى الزِّينة المدرَكة بالبصر للخاصّة والعامّة، وإِلى الزينة المعقولة الَّتى تعرفها الخاصّة، وذلك إِحكامها وسيرها.(3/156)
وتزيين الله تعالى للأَشياءِ قد يكون بإِداعها مزيَّنة كذلك. قال الشاعر:
الرّوض يزدان بالأَنوار فاغِمة ... والحُرّ بالبرّ والإِحسان يزدانُ
وقال آخر:
وإِذا الدُرّ زان حُسْنَ وجوهٍ ... كان للدُرّ حسنُ وجهك زينا
وقال:
لكلّ شيى حسن زينة ... وزينة العاقل حسن الأَدب
قد يشرِّف المرءُ بآدابه ... يوماً وإِن كان وضيع النَّسب
وقد وردت الزِّينة فى القرآن على عشرين وجها:
الأَول: زينة الدّنيا: {وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} .
الثَّانى: زينة بالملابس: {تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أَى ثيابها.
الثالث: زينة ستر العورة: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
الرّابع: زينة قارُون بماله ورجاله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} .(3/157)
الخامس: زينة النّساء بالْحُلِىّ: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ، {مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} .
السادس: زينة العجائز بالثياب الفاخرة: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ} .
السابع: زينة العيد: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} .
الثامن: زينة عاريّة القِبْط: {حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم} .
التاسع: زينة آل فرعون: {آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} .
العاشر: زينة أَهل الدّنيا فيها: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} .
الحادى عشر: زينة المسافرين بالمراكب: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .
الثانى عشر: زينة حبّ الشَّهوات: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} أَى حُسِّنَ فى أَعينهم وقلوبهم.
الثانى عشر أيضا: زينة العصيان فى أَعين ذو الخذلان: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} .
الثالث عشر: زينة قتل الوِلدان: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} .(3/158)
الرابع عشر: زينة الحياة لذوي الطغيان: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} .
الخامس عشر: زينة أَحوال الماضين والباقين فى عيون الكفَّار استدراجاً لهم: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .
السادس عشر: زينة الشَّيطان الضلال لمتَّبعيه: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} . {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} .
السابع عشر: زينة الله لأَعدائه خذلانهم: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} .
الثامن عشر: زينة السّماء لأُولى الأَبصار/: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} .
التاسع عشر: زينة الأَرض بالنَّبات والرياحين: {أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} أَى تلوّنت بالأَلوان.
العشرون: زينة الفَلَك بالكواكب: {زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} .
الحادى والعشرون: زينة الأَفلاك السّبع بالسّيّارات السّبع: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} .(3/159)
[الثانى والعشرون] : زينة الإِيمان فى قلوب العارفين: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} .
أُنشِدنا لبعض المحدَثين:
سبحان مَنْ زيّن الأَفلاك بالقمر ... وزيّن الأَرض بالأَنهار والشَجَر
لا كالسّراج ولا كالشَّمس زاهره ... لا كالجواهر والياقوت والدُررِ
وجَنَّة الخلد بالأَنوار زيَّنها ... والقصرُ زيَّنه بالحُور والسُرُور
وزيَّن النفس بالأَعضاءِ مستويا ... والرأْس زيَّنه بالسمع والبصر
وزيَّن القلبَ بالأَنوار نوّره ... لا كالنجوم ولا كالشمس والقمر
(انتهى آخر الجزء الأَول ولله الحمد. يتلوه أَوّل الجزء الثَّانى إِن شاءَ الله تعالى) .(3/160)
الباب الثالث عشر - فى وجوه الكلمات المفتتحة بحرف السين(3/161)
بصيرة فى السؤال
وهو ما يَسأَله الإِنسان. قال الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} .
والسّؤال: استدعاء معرفة أَو ما يؤدّى إِلى المعرفة، واستدعاءُ مال، أَو ما يؤدّى إِلى المال. فاستدعاءُ المعرفة جوابُه باللسان، واليدُ خليفة له بالكتابة، أَو الإِشارة. واستدعاءُ المال جوابه باليد، واللسانُ خليفة لها إِمّا بوعد، أَو برَدٍّ. تقول: سأَلته عن الشىء سؤالا، ومسأَلة. وقال الأَخفش: يقال: خرجنا نسأَل عن فلان وبفلان.
وقد تخفَّف همزته فيقال سال يَسال. وقرأَ أَبو جعفر: {سَأَلَ سَآئِلٌ} بتخفيف الهمزة. قال:
ومُرهَق سال إِمتاعا بأُصْدته ... لم يستعِنْ وحَوامِى الموت تغشاه
والأَمر منه سَلْ بحركة الحرف الثانى من المستقبل، ومن الأَوّل اسْأَل.(3/162)
وقوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} ، يقال: إِنّه خوطب به ليلة أُسرى به، فجُمع بينه وبين الأَنبياءِ - صلوات الله عليهم - فأَمّهم، وصلَّى بهم، فقيل له: فسَلْهُمْ. وقيل: معناه: سل أُمَم مَنْ أَرسلنا، فيكون السّؤال ههنا على جهة التقرير. وقيل: الخطاب للنبىّ صلَّى الله عليه وسلم والمراد به الأُمَة، أَى وسلوا، كقوله تعالى: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ} .
وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} أَى لا يسأَل سؤال استعلام، لكن سؤال تقرير وإِيجاب للحجّة عليهم. وقوله تعالى: {وَعْداً مَّسْئُولاً} هو قول الملائكة: / {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} وقوله: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أَى دعا داعٍ، يعنى قولَ نَضْر بن الحارث {اللهم إِن كَانَ هاذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} الآية. والباءُ فى (بعَذَاب) بمعنى عن، أَى عن عذاب.
ورجل سُؤَلة - مثال تُؤدَة -: كثير السّؤال. وأَسأَلته سؤْلته ومسأَلته: أَى قضيت حاجته. وتساءَلوا، أَى سأَل بعضهم بعضاً. وقرأَ الكوفيون(3/163)
{تَسَآءَلُونَ} بالتخفيف، والباقون بالتَّشديد أَى تتساءَلون، أَى الَّذى تطلبون به حقوقكم، وهو كقولك، نَشَدتك بالله أَى سأَلتك بالله.
فإِن قلت: كيف يصحّ أَن يقال: السّؤال استدعاء المعرفة، ومعلوم أَنَّ الله تعالى يَسأَل عبادهُ؟.
قيل: إِنَّ ذلك سؤال لتعريف القوم وتبكيتهم، لا لتعريف الله تعالى؛ فإِنَّهُ علاَّم الغيوب، فليس يخرج من كونه سؤال المعرفة، والسؤال للمعرفة قد يكون تارة للاستعلام، وتارة للتبكيت، وتارة لتعريف المسئول وتنبيهه، لا ليخبِر ويُعلم، وهذا ظاهر. وعلى التبكيت قوله تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} .
والسّؤال إِذا كان للتعريف تعدّى إِلى المفعول الثَّانى تارة بنفسه، وتارة بالجارّ، نحو [سأَلته كذا، و] سأَلته عن كذا، وبكذا، وبعن أَكثر نحو: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} .
وأَمَّا إِذا كان السّؤال لاستدعاءِ مالٍ فَإِنَّهُ يتعدَّى بنفسه، وبمن؛ نحو قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} ، وقوله: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} .(3/164)
ويعبّر عن الفقير إِذا كان مستدعِياً لشيىءٍ بالسّائل، نحو قوله: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ}
والسّؤال ورد فى القرآن على عشرين وجهاً:
الأَوّل: سؤال التعجّب: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} .
الثانى: سؤال الاسترشاد: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر} ، {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} .
الثَّالث: سؤال الاقتباس: {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} .
الرّابع: سؤال الانبساط: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} .
الخامس: سؤال العطاءِ والهِبَة: {رَبِّ هَبْ لِي} .
السّادس: سؤال العَوْن والنُّصْرة: {متى نَصْرُ الله} .
السابع: سؤال الاستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} .
الثامن: سؤال الشفاءِ والنَّجاة: {مَسَّنِيَ الضر} .(3/165)
التَّاسع: سؤال الاستعانة: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} .
العاشر: سؤال القُرْبَة: {رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} .
الحادى عشر: سؤال العذاب والهلاك: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض} .
الثانى عشر: سؤال المغفرة: {رَبَّنَا اغفر لِي} .
الثالث عشر: سؤال الاستماع للسائل والمحروم: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} .
الرابع عشر: سؤال المعاودة والمراجعة لنوح: {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، ولمحمّد صلَّى اللهُ عليه وسلم: {لاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} ، وللصّحابة: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
الخامس عشر: سؤال الطَّلب وعَرْض الحاجة: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} ، {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} .
السادس عشر: سؤال المحاسبة والمناقشة: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} ، {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} .(3/166)
السّابع عشر: سؤال المخاصمة: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أَى يتخاصمون.
الثامن عشر: سؤال الإِجابة والاستجابة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} .
التَّاسع عشر: سؤال التعنُّت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} .
العشرون: سؤال الاستفتاءِ والمصلحة، وذلك على وجوه/ مختلفة:
تارة من حَيْض العيال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض} .
وتارةً من نفقة الأَموال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} .
وتارة عن حكم الهلال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} .
وتارة عن القيامة وما فيها من الأَهوال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} .
وتارة عن حال الجبال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} .
وتارة عن الحرب والقتال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} .
وتارة عن الحرام والحلال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} .(3/167)
وتارة عن اليتيم وإِصلاح ما لَهُ من المال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} .
وتارة عن الغنائم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} .
وتارة عن العذاب والنكال: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} .
وتارة عن العاقبة والمآل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} .
وتارة عن المبالغة فى الجدال {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} .
وتارة عن كرم ذى الجلال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} . قال الشاعر:
إِذا كنت فى بلد قاطناً ... وللعلم مقتبساً فاسأَلِ
فإِن السّؤال شفاءُ العباد ... كما قيل فى الزَّمن الأَوّل(3/168)
بصيرة فى السبب
وهو الحَبْل، وما يُتوصَّل به إِلى غيره، واعتلاق قرابة. والجمع: أَسباب. أَسبابُ السّماءِ: مراقيها ونواحيها أَو أَبوابها. وقطع الله به السّبب أَى الحياة.
وقوله تعالى: {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب} إِشارة إِلى قوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} . وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} فالمعنى: آتاه الله من كلّ شىء معرفة وذريعة يَتَوصّل بها فأَتْبَعَ واحدًا من تلك الأَسباب، وعلى ذلك قوله تعالى: {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات} أَى لعلِّى أَبلغ الأَسباب والذرائع الحادثة فى السماءِ فأَتَوَصُل بها إِلى معرفة ما يدّعيه موسى.
وسُمّى العمامة والخِمار والوَتِدُ وكلّ شُقَّة رقيقة سَبَبًا تشبيها بالحبل فى الطّول.
والسَّبّ: الشتم، وقد سبّه سَبًّا وسِبِّيبىَ. وقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً} فسبُّهم الله ليس أَنَّهم(3/169)
يسبّون الله صريحا، ولكن يخوضون فى ذكره، فيذكرونه بما لا يليق، ويتمادّون فى ذلك بالمجادلة، ويزدادون فى ذكره بما تنزَّه عنه تعالى.
وسَبيبك وسِبُّك: من يُسَابّك. وبينهم أُسْبوبة يتسابُّون بها.
والسّبيبُ من الفَرَسِ: شعر الذَنَب والعُرْف والناصية، والخُصْلة من الشَعَر.
وسبسَبَ الماءَ: أَساله، وأَجراه، فتسبسب.
والسَّبْسَبَ: المفازة، أَو الأَرض المستوية البعيدة.
والسُّبَّةُ - بالضمّ -: العار، ومَن يُكثر النَّاسُ سَبّه.
والسِّبَّة - بالكسر -: الإِصبع السّبَّابة، سُمِّيت بها للإِشارة بها عند السبّ.(3/170)
بصيرة فى السبت
السّبْت: الراحة، والقطع، الدّهر، وحَلْق الرّأْس، وإِرسال الشَّعر عن العَقْص، وسَيرٌ للإِبل، والحَيرة، والفرس الجواد، والغلامُ العارم الجَرِىء، وضرب العُنُق، ويوم من الأُسبوع، والرّجل الكثير النَّوم، والرجل الدّاهية، كَالسُّبَات، وقيام اليهود بأَمر السبت، وقد سبَتوا يَسْبِتون ويَسْبُتون. قيل: سُمّى سبْتا لأَن الله تعالى ابتدأَ بخلق السّماوات والأَرض / يوم الأَحد فخلقها فى ستَّة أَيّام كما ذكره، فقطع عمله يوم السّبت فسمّى بذلك.
فقوله تعالى: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} ، قيل: يوم قطعهم للعمل، و {يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} قيل: معناه لا يقطعون العمل، وقيل: يوم لا يكونون فى السّبت، وكلامها إِشارة إِلى حالة واحدة. وقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت} ، أَى تَرْك العمل فيه. وقوله {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أَى قَطْعاً للعمل، وفيه إِشارة إِلى ما فى فوقه فى صفة اللَّيل {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} . وقيل السُّبَات: النَّوم، وقيل: النَّوم الخفيف، وقيل: نوم يكون ابتداؤه فى الرّأْس حتى يبلغ القلب.(3/171)
بصيرة فى السبخ والسبط
وهو العَوْم، سبح بالنَّهر وفيه سَبْحاً وسِبَاحة - بالكسر -: عامَ. وهو سابح، وسَبُوح من سُبَحاء، وسَبَّاحٌ من سبَّاحين.
وقوله تعالى: {والسابحات} ، قيل: هى السّفن، وقيل: أَرواح المؤمنين، وقيل: هى النجوم، استعير السَّبْح لمَرّها فى الفَلَك؛ كقوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . واستعير لسرعة الذهاب فى العمل كقوله {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} .
والتسبيح: تنزيه الله تعالى، وأَصله المَرّ السّريع فى العبادة. وجُعل ذلك فى فعل الخير، كما جُعل الإِبعاد فى الشرّ، فقيل: أَبعده الله. وجُعل التَّسبيح عامًَّا فى العبادات، قولاً كان أَو فعلاً أَو نيّة، وقوله تعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} قيل: من المصلّين، والأَولَى أَن يحمل على ثلاثتِهَا. وقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} أَى هلاَّ تعبدونه وتشكرونه، وحُمل ذلك على الاستثناءِ وهو أَن يقول: إِن شاءَ الله، ويدل [على ذلك] قوله: {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ}(3/172)
وقوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولاكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} كقوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} . [ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ] . وذلك يقتضى أَن يكون سجودا على الحقيقة، وتسبيحا له على وجهٍ لا نفقههُ، بدلالة قوله {ولاكن لاَّ تَفْقَهُونَ} ، ودلالةِ قوله: {وَمَن فِيهِنَّ} بعد ذكر السّماوات والأَرض. ولا يصحّ أَن يكون تقديره: يسبّح له مَن فى السّماوات، ويسبّح له مَن فى الأَرض؛ لأَنَّ هذا ممّا نفقهه، ولأَنه محال أَن يكون ذلك تقديره، ثمّ يعطف عليه بقوله: {وَمَن فِيهِنَّ} .
والأَشياء تسبّح وتسجد، بعضها بالتَّسخير وبعضها بالاختيار، ولا خلاف أَنَّ السماوات والأَرض والدّوابّ مسبِّحات بالتَسخير، من حيث إِنَّ أَحوالها تدلّ على حكمة الله تعالى، وإِنما الخلاف فى السماوات والأَرض هل تسبّح باختيار، والآية تقتضى ذلك.
وسُبحانَ اللهِ أَى تنزيهاً لله من الصّحابة والولد. وهى معرفة ونصبها على المصدر، أَى أُبْرىء الله من السّوءِ براءَةً، أَو معناه السرعة إِليه والخِفَّة فى طاعته. وسبحان مِن كذا: تَعَجُّبٌ منه. وأَنت أَعلم بما فى سبحانِك(3/173)
أَى بما فى نفسك. وسبّح تسبيحاً: قال: سبحان الله. وسُبّوح قُدّوس - وقد يفتح أوّلهما - كسَمُّور وتَنُّورّ - من صفات الله تعالى؛ لأَنَّه يُسَبَّح ويقَدَّس.
والسُّبْحة - بالضمّ - خَرَزَات يسبَّح بها. والسُّبُحات - بضمتين -: مواضع السجود. وسُبُحات وجه الله: أَنوارُه. وقيل: سُبْحة الله: جلاله.
والتَّسبيح: الصّلاة، ومنه قوله تعالى: {كَانَ مِنَ المسبحين}
وفى بعض الأَخبار أَنَّ تسبيح حَمَلةِ العرش: سبحان الله والحمد لله، ولا إِله إِلاَّ الله، والله أَكبر. وتسبيح ميكائيل مع الكَروبِيِّين: سبحان المعبود بكلّ مكان، سبحان المذكور بكلّ لسان.
وتسبيح جبريل مع الرّوحانيّين: سبحان الملِك القدّوس، سبّوح قدّوس، وربّ الملائكة والرّوح.
وتسبيح الرّضوان: سبحان مَن فى السّماء عرشه، سبحان من فى الأَرض سلطانه، سبحان مَن فى الجنَّة فضله.
وتسبيح مالك خازن النَّار: سبحان مَن فى البرّ بدائِعه، سبحان من فى البحر عجائبُه، سبحان من فى النَّار عذابه.(3/174)
وتسبيح عزرائيل مع أَعوانه: سبحان من تعزَّز بالقدرة، وقهر العباد بالموت.
وتسبيح آدم عليه السّلام: سبحان ذى المُلْك والمَلَكُوت، سبحان ذى القدرة والجَبَرُوت، سبحان الحىّ الذى لا يموت.
وتسبيح نوح عليه السّلام: سبحان ذى المجد والنِّعم، سبحان ذى القدرة والكرم، سبحان ذى الجلال والإِكرام.
وتسبيح إِبراهيم: سبحان الأَوّل المبدِىء، سبحان الباقى المغنى، سبحان المسمَّى قبل أَن يسمّى، سبحان العلىّ الأَعلى، سبحان الله وتعالى.
وتسبيح يعقوب: سبحان الَّذى أَحاط بكلّ شىء علماً، سبحان الَّذى أَحصى كلّ شىء عَدَدًا، سبحان حافظ كلّ غائب، ورادّ كل فائت.
وتسبيح يوسف: سبحان الذى تَعَطَّف بالعِزِّ وقال به، سبحان الَّذِى لبس المجد وتكرّم به، سُبحان مَن لا ينبغى التسبيحُ إِلاَّ له.
وتسبيح موسى: سبحان ذى العز الشامخ المنيف، سبحان ذى الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذى المُلْك القاهر القديم، سبحان مَن هو فى علوّه دانٍ وفى دنوّه عال، وفى إِشراقه منير، وفى سلطانه قوىّ، وفى ملكه عزيز، سبحان ربّى العظيم.(3/175)
وتسبيح عيسى: سبحان الواحد الأَحَد، سبحان الباقى على الأَبد، سبحان الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفْوًا أَحد.
وتسبيح نبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلم: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم وبحمده، أَستغفرُ الله وأَتوب إِليه. قال النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "مَن قالها كلّ يوم سبعين مرّة حُطَّت عنه خَطاياه ولو كانت مثل زَبَد البحر".
وتسبيح المؤمنين: سبحانك اللَّهمّ وبحمدك، فى أَوّل الصّلاة، وسبحان ربّى العظيم، فى الرّكوع، وسبحان ربّى الأَعلى، فى السّجود.
وقد ذكر الله تعالى (سبحان) فى القرآن فى خمسة وعشرين موضعاً، فى ضمن كلّ واحد منها إِثباتُ صفة من صفات المدح، ونَفْى صفة من صفات الذَّم، وهى:
{سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ} ، {سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} ، {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} ، {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ، {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ} ، {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} ، {سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} ، {سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} ، {وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ(3/176)
المشركين} ، {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} ، {سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} ، {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} ، {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} ، {سُبْحَانَكَ هاذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} ، {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} ، {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ، {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} ، {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} ، {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، {سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار} ، {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هاذا} ، {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض} ، /، {سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} .
وأَمَّا من جهة المعنى فقد ورد على سبعة وجوه:
الأَوّل: بمعنى الصّلاة والخدمة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} ، أَى يصلِّى.
الثانى: بمعنى التعجّب: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} .(3/177)
الثالث: بمعنى ذكر الحق: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} .
الرّابع: بمعنى التَّوبة: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} .
الخامس: بمعنى الاستثناء: {لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} ، أَى لولا تستثنون.
السّادس: بمعنى تنزَّه الحقّ تعالى من العيوب والآفات: {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} .
السّابع: بمعنى التَّنزيه والتَّقديس: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} .(3/178)
بصيرة فى السبح والسبع والسبغ
قرىء فى الشَّاذّ (سَبْخًا) سبّخ الله عنه الحمّى تَسْبيخاً أَى نفَّسها عنه.
والسَّبِيخة: قطعة من قطن أَو صوف ممّا ليس له ثِقَل ولا اكتناز.
والسَّبْط، والسَّبَط - بفتحتين - والسّبِط - ككتف -: نقيض الجَعْد. وقد سَبُط - ككرم وعلم - سَبْطا وسُبُوطة وسَبَاطة: انبسط فى سهولة. ورجل سَبْط اليدين: سخىّ. والسِّبْط - بالكسر -: ولد الولد، كأَنَّه امتداد الفروع، والجمع: أَسباط، والقبيلة من اليهود، والجمع: الأَسباط أَيضاً. وقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} بدل لا تمييز.
والسّبْع من العدد معروف. وهم سبعة رجال، وسبع نِسْوَة. وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعنى السّماوات السبع. {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} قيل: سورة الفاتحة لأَنها سبع آيات، والمثانى لأَنَّها نزلت مَرتين، أَو لأَنَّها تُثْنَى فى كلّ صلاة عند مَنْ لا يعدّ(3/179)
الرّكعة صلاة. وقيل غير ذلك، وقيل السّبع: الطُوَل وهى من البقرة إِلى الأَعراف، وسمّى مثانى لأَنَّها تثنَّى فيها القِصَص.
والسَّبُع والسَّبْع والسَّبَع سمّى به لتمام قوّته. وذلك؛ لأَنَّ السّبْع من الأَعداد التَّامّة كأَنه سَبْع حيوانات، والجمع: سِبَاع وأَسبُع. وأَرضُ مَسْبعة: ذات سباع.
وسَبَعَ القوم كمنع: كان سابعهم أَو أَخذ سُبْع أموالهم. والأُسبوع من الأَيام، والجمع: أَسابيع. وطاف بالبيت أُسبوعاً وسَبْعاً وسُبُوعاً. وأَسبع القومُ: صاروا سبعة، أَو وقع السّبعُ فى مواشيهم.
وورد السّبع وسبعون فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: ما ورد فى التمتع وصومه: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} .
الثَّانى: فى تضعيف العَطَاء: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} .
الثالث: فى تعبير رؤيا للملِك رَيّان: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} .(3/180)
الرّابع: {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} .
الخامس: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} .
السادس: فى إِشارة يوسف بالزَّرع: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ} .
السابع: فى سورة من القرآن: {سَبْعاً مِّنَ المثاني} .
الثامن: فى عَدَد أَصحاب الكهف: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} .
التاسع: في خلق السّماوات: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} .
العاشر: فى طبقتها: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
الحادى عشر: فى الرّحمة والغفران: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} .
الثانى عشر: فى نقباء: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} .
وسَبَغَ سُبُوغا: طال إِلى الأَرض، والنعمةُ: اتَّسعت.
وقوله تعالى: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} ، أَى دروعاً تامّاتٍ طويلات.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} ، أَى أَتمَّها وأكملها. وأسبغ الوضوءَ: أَبلغه مواضعه ووفَّى كلّ عضو حقَّه.(3/181)
بصيرة فى السبق
سبقه يَسْبِقه ويسبُقه: تقدّمه فى السّير. وقوله تعالى: {فالسابقات سَبْقاً} يعنى الملائكة تسبق الجِنّ باستماع الوحى.
والاستباق والتسابق بمعنى. ثمّ يتجوّز به فى غيره من التَّقدّم، قال تعالى: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} ، وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أَى نَفَذت وتقدّمت.
ويستعار السّبْق لإِحراز الفضل، وعلى ذلك قوله تعالى: {والسابقون السابقون} أَى المتقدّمون إِلى رُتبهم، ثواب الله تعالى وجَنَّته، بالأَعمال الصّالحة؛ نحو قوله: {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} ، وقوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَى لا يفوتوننا. وقوله تعالى: {فاستكبروا فِي الأرض وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} تنبيه أَنَّهم لا يفوتونه.(3/182)
وفى الصَّحيح: "سِيرُوا، سَبَق المفرِّدون. قيل: مَن هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: الَّذِينَ اهتزُّوا بذكر الله عَزَّ وجلّ".
وقيل ورد السّبق فى القرآن على ستَّة أَوجه:
الأَول: بمعنى الوجوب: {سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} أَى وجبت.
الثَّانى: بمعنى الاصطياد: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أَى نصطاد.
الثالث: بمعنى التقدّم على عزم الهروب: {واستبقا الباب} .
الرابع: بمعنى الفَوْت: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} أَى يفوتونا.
الخامس: بمعنى إِيصال ملائكة الرّحمة أَرواح المؤمنين إِلى الجنَّة، وملائكةِ العذاب أَرواح الكافرين إِلى جهنَّم: {فالسابقات سَبْقاً} .
السّادس: سَبْق المؤمنين إِلى الجنَّة: {والسابقون السابقون} .
السابع: سَبْق العجز والإِهانة: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} .
الثامن: سَبْق التوحيد والشهادة: {سَبَقُونَا بالإيمان} .(3/183)
التَّاسع: سبق الخير والطَّاعة: {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
العاشر: سَبْق العفو والمغفرة: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} .
الحادى عشر: سبق الجهاد والهجرة: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين} .
الثانى عشر: سبق الفضل والعناية: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} .(3/184)
بصيرة فى السبيل
وهو الطَّريق السّهل، جمعه سُبُل وسُبْل. يذكَّر ويؤنَّث. قال تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} ، وقال جلّ ذكره: {قُلْ هاذه سبيلي} أَى مَحَجّتى وسنَّتى وطريقى. وقوله تعالى: {ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} ، أَى سببًا ووُصْلة. قال جرير:
أَفبعد مقتلكم خليلَ محمّدٍ ... ترجو القُيونُ مع الرّسول سبيَلا
أَى سببًا ووُصْلةً، أَى يا ليتنى سلكت قصده ومذهبه.
وقوله تعالى: {وابن السبيل} ، قال ابن عرفة: هو الضَّيف المنقطع به، يُعطَى قدرَ ما يتبلّغ به إِلى وطنه. وقيل: ابن السّبيل: المسافرُ البعيد عن منزلة، ونسب إِلى السّبيل لممارسته إِيّاه. وقوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} أَى طريق واضحٍ بيّن، يعنى مدائن قومِ لوط.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} ، كان أَهل الكتاب إِذا بايعهم المسلمون قال بعضهم لبعض: ليس للأُميين - يعنى العرب - حرمة أَهل ديننا، وأَموالُهم تحِلّ لنا.(3/185)
وقوله تعالى: {وَتَقْطَعُونَ السبيل} ، يعنى سبيل الولد. وقيل: تعرضون للنَّاس فى الطريق لطلب / الفاحشة. قال ابن عباد: السَّبيلة: السبيلُ، والسابلة: أَبناء السّبيل المختلفون فى الطُّرقات، جمع سابل، وهو سالك السّبيل. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل} يعنى به طريق الحقّ، لأَنَّ اسم الجنس إِذا أُطْلِقَ يختصّ بما هو الحقّ، وعلى ذلك: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} .
ويستعمل السّبيل لكلّ ما يتوصّل به إِلى شىء خيرا كان أَو شرًّا.
وقوله تعالى: {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} يعنى طريق الجنَّة قال الشاعر:
إِذا لم يُعِنْك الله فيما تريده ... فليس لمخلوقٍ إِليه سبيل
وقال:
سبيل الموت منهج كلّ حىّ ... وداعِيهِ لأَهل الأَرض داعى
وقال:
الموت لا والدا يُبقى ولا ولدًا ... هذا السّبيل إِلى ألاَّ ترى أَحدَا
وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} أَى فى طاعته، ومثله(3/186)
{الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} ، وقوله: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} أَى زادًا وراحلة. وقوله: {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} أَى مخرجاً إِلى فضاءِ الأُنْس من حبس الوحشة. وقوله تعالى: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً} ، {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} أَى مَمرّه. وقوله تعالى: {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أَى عُذْرًا وعِلَّة. وقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أَى دينهم وملَّتهم، ومثله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} وقوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أَى طريق هداية. وقوله: {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أَى حجّة. وقوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أَى عن طريق الحقّ. وقوله: {فأولائك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أَى ملامة. وقوله: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} أَى المخرج من رحم الأُمّ حال الولادة. وقوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} ، {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} أَى إِثم ومعصية.
وأَسْبَلَ السِتْرَ: أَرخاه، والمطرُ: نزل.(3/187)
بصيرة فى السجود
وأصله التَّطامن والتذلّل. وجُعِل ذلك عبارة عن التذلّل لله وعبادته، وهو عامّ فى الإِنسان، والحيوانات، والجمادات، وذلك ضربان:
سجود باختيار، وليس ذلك إِلاَّ للإِنسان، وبه يَستحق الثَّواب، قال تعالى: {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} أَى تذلَّلوا له.
وسجود بتسخير، وهو للإِنسان، والحيوانات، والنباتات، قال تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} ، وقوله تعالى: {سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} ، فهو الدّلالة الصّامتة والنَّاطقة المنبّهة على كونها مخلوقة، وأَنَّها خَلْق فاعلٍ حكيم.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ينطوى على النَّوعين من السجود بالتسخير والاختيار. وقوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} ، وهو على سبيل التسخير. وقوله: {اسجدوا لأَدَمََ} قيلَ: أُمِروا بأَن يتَّخذوه قِبلة، وقيل: أُمروا بالتذَّلل له، والقيام بمصالحه ومصالح أَولاده، فَأْتَمَرُوا(3/188)
إِلاَّ إِبليس. وقوله: {وادخلوا الباب سُجَّداً} أَى رُكَّعاً، وقيل: متذلَّلين منقادين. وقيل: إِنَّ السّجود على سبيل الخدمة فى ذلك الوقت كان جائزًا.
وعلى وجهه سَجّاده: أَى أثر السّجود. وبَسَط سَجَّادته ومِسْجَدته، وبعض العرب يَضُمّ السّين. وشجر ساجد وسواجد، وشجرة ساجدة: مائلة. والسّفينة تسجد للرّياح / وتميل بمَيْلها. وفلان ساجد المنخر: إِذا كان ذليلا خاضعاً. وسجد البعيرُ وأَسجد: طأَطأَ رأَسه لراكبه. قال:
وقلن له أَسجِدْ لليلَى فأَسجدا
وكان كسرى يسجد للطَّالع، وهو السّهم الَّذِى يجاوز الهَدَف من أَعلاه، وكانوا يعُدّونه كالمُقَرْطِس، والمعنى أَنَّهُ كان يسلّم لراميه ويستسلم. الأَزهرى: معناه: أَنَّه كان يخفض رأسه إِذا شخص سهمُه وارتفع عن الرّمِيَّة ليتقوّم السّهمُ فيصيبَ الدّارة.
قيل: ورد السّجود فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الصّلاة: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات} ، أَى يصلِّى.(3/189)
الثانى: ساجدين بمعنى الأَنبياءِ: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} أَى فى أَصلاب الآباءِ من الأَنبياءِ.
الثالث: بمعنى الخضوع والانقياد: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} أَى يخضعان.
الرابع: بمعنى الرّكوع: {وادخلوا الباب سُجَّداً} ، أَى رُكَّعاً.
الخامس: بمعنى سجود الصّلاة: {واسجد واقترب} .(3/190)
بصيرة فى السجر
وهو تهييج النار. وقد سَجَرْت التَنُّورَ، ومنه {والبحر المسجور} . وقوله تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} أَى أُضرِمت نارًا، عن الحسن البصرى، وقيل غِيضت مياهُها، وإِنما يكون كذلك لتسجير النَّار فيها. {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} نحو {وَقُودُهَا الناس والحجارة} .
وسَجَرَت النَّاقةُ سَجْرًا وسجّرت تسجيرًا: مَدّت حنينها فى أَثَر ولدها، وملأَت به فاها. ومنه قوله:
حَنَّت إِلى بَرْكٍ فقلت لها قِرى ... بعضَ الحنين فإِن سَجْرَك شائقى
ومنه ساجرته مساجرة، وهى المخالَّة والمخالطة. وهو سَجِيرى، وهم سُجَرَائى، لأَنَّ كلّ واحد منهما يَسْجُر إِلى صاحبه، أَى يحِنّ. ومنه ماءٌ أَسْجَرُ، وهو الَّذِى خالطته كُدرة وحمرة من ماءِ السّماءِ، وإِنَّ فيه لسُجْرة، وإِنه لأَسجر. وقَطْرة سَجْراءُ، وعين سجراء. قال حُوَيدرة:
بغريض سارِيَة أَدرَّته الصَّبا ... من ماءِ أَسجرَ، طيّبِ المستنقع
وعين سَجْرَاء: خالطت بياضَها حمرة. والسّواجير: الأَغلال.(3/191)
بصيرة فى السجل
وهو الدّلو العظيم إِذا كانت مَلأَى ماءً، والجمع سِجَال. والحرب بيننا سِجَالٌ، أَى مرّة لنا ومرّة علينا. وفى حديث ابن مسعود "أنه افتتح سورة النساءِ فسَجَلها"، أَى قرأَها قراءَة متصلة، من قولهم: سَجَل الماءَ سَجْلا: إِذا صبّه صبًّا متًّصلا. وفى الحديث: "لا تُسجِلوا أَنعامكم" أَى لا تُطلِقوها فى زُرُوع النَّاس.
وقرأَ ابنُ الحنفيّة. {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} فقال: هى مُسْجَلة للبَرّ والفاجر، أَى مرسَلة مطلقة فى الإِحسان إِلى كلّ أَحد، برًّا كان أَو فاجِرًا.
والسِّجِلّ: الكتاب الكبير، وقيل: هو حَجَر كان يُكتب فيه، ثمّ سُمّى كل ما يكتب فيه سِجلاًّ، قال تعالى: {كَطَيِّ السجل} أَى كطيّه لما كُتب فيه حفظاً له.
وساجله: فاخَره، مساجلة. وساجله: باراه فى الاستقاءِ، قال:
مَنْ يساجِلْنِى يُساجِلْ ماجِدًا ... يملأُ الدَلْوَ إِلى عَقْدِ الكَرَبْ(3/192)
وله من المجد سَجْلٌ سَجِيلٌ، أَى ضَخْم. قال الحطيئة:
إِذا قايَسُوهُ المجدَ أَربىَ عليهم ... بمستفرغٍ ماءَ الذِنَاب سَجِيلِ
أَى يذَنُوب يسع ماءَ الأَذْنية كلِّها.
والسِجِّيل: حَجَرٌ وطينٌ، معرّب من سَنْك وكِل.(3/193)
بصيرة فى السجن
وهو الحبس فى السِّجن. وقوله تعالى: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} قرىء بفتح السّين وكسرها.
والسِّجِّين - كسكِّين -: اسم جهنمّ / بإِزاءِ عِلِّيِّينَ، وزيد فى لفظه تنبيهاً على زيادة معناه. وقيل: هو اسم للأَرض السّابعة. وضَرْبٌ سِجِّينٌ: يُثبِت المضروبَ مكانه ويحبسه. وقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ، فقد قيل: إِن كل شىء ذكره الله بقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ} فسّره، وكل ما ذكره بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} تركه مبهما. وفى هذه المواضع ذكر: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ، وكذا قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} ، ثمَّ فسّر الكتاب لا السّجّين ولا العلّيّين، ولا يكون ذلك إِلاَّ للطيفة تقتضى ذلك. والله أعلم.(3/194)
بصيرة فى السجو والسحب والسحت
السُّجُوّ: السّكون، قال تعالى: {والليل إِذَا سجى} ، وهذا إِشارة إِلى ما قيل: هدأَت الأَرجل. وعين ساجية: فاترة الطَّرْف. وليلٌ ساجٍ وبحرٌ ساجٍ. قال:
يا حبّذا القَمْراءُ واللَّيلُ السّاجْ ... وطُرُقٌ مثلُ مُلاءِ النَّسّاجْ
وريح سجْواء: ساكنة. وناقة سَجْواء: تسكن حتى تُحلب. وهو على سجيّة حميدة وسجيَّات وسجايا، وهى ما سجا عليه طبعُه وثبت.
والسَّحْب: الجرّ، كسحب الذَيل والإِنسان على الوجه. ومنه السّحاب لجرّه الماءَ، أَو لجرّ الرّيح له. ومَطَرَتهم السّحابة والسّحاب والسّحائب والسُّحُب. قال تعالى: {يُسْحَبُونَ فِي الحميم} ، وقال: {يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} . وفلان يتسحّب على فلان، كقولك يتبختر: إِذا اقترح عليه.
والسّحاب: الغيم، فيه ماء أَوْ لا. ولهذا يقال: سحاب جَهَام. وقد يذكر ويراد به الظلّ والظلمة على طريق التشبيه؛ كقوله تعالى:(3/195)
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} .
والسَّحْت: القَشْر الذى يستأصِل. وقد سَحَته وأَسحته، وقرىء بهما قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أَى فيُجهدكم به. ومنه السُّحْت للمحظور الَّذى يلزم صاحبَه العارُ كأنَّه يستأصِل دِينه ومروءته.
وقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أَى لِمَا يسحت دِينهم. وسمّيت الرّشوة سُحْتاً، وكسبُ الحجّام سُحْتاً، أَى ساحتاً للمروءة لا الدّين. ومال فلان سُحْت، أَى شىء على من استهلكه. ودمه سُحت: لا شىء على من سَفَكهُ.(3/196)
بصيرة فى السحر
قيل: هو مأخوذ من السِّحْر وهو طَرَف الحلقوم والرئة. قالت عائشة رضى الله عنها: "مات رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين سَحْرى ونَحْرى" أَى مستنِدًا إِلى صدرى وما يحاذِى سَحْرى. وقيل: السَحْرُ، ما لصِق بالحُلقوم من أَعلى البطن. والسُّحَارة: ما يُنزع من السَّحْر عند الذَّبح فيُرْمَى به. وجُعل بناؤه بناءَ النُّفاية والسُّقاطة.
ويقال: انتفخ سَحْره، وانتفخت مساحِره: إِذا ملّ وجَبُنَ. وانقطع منه سَحْرى، أَى يئست منه. وأَنا منه غير صَريم سَحْر: غير قانط. وبلغ سَحَر الأَرض وأَسحارها: أَطرافها وأَواخرها.
وقوله صلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ من البيان لسحْرًا" قيل: معناه: من البيان ما يُكْتَسَبُ به من الإِثم ما يكتسِبه السّاحر بسحره، فيكون فى مَعْرِض الذمّ. ويجوز أَن يكون فى معرض المدح؛ لأَنَّه يُستمال به القلوبُ ويُرَضَّى به الساخطُ، ويُستنزَل به الصّعب. والسِّحْر فى كلامهم: صرف الشىء عن وجهه.(3/197)
والسِّحْر يقال على معان:
الأَوّل: الخداع، وتخييلاتٌ لا حقيقة لها؛ نحو ما يفعله المُشَعْوِذ من صرف الأَبصار عمَّا يفعله بخفّة [يد] ، وما يفعله النمّام بقولٍ مزخرف عائق للاستماع. وعلى ذلك قوله تعالى: {سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} ، وبهذا النَّظر سمَّوا موسى صلوات الله عليه ساحرًا، فقالوا: {ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ}
الثَّانى: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من / التَّقرّب إِليه، كقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} وعلى ذلك قوله تعالى: {ولاكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر} قال الشاعر:
فَوَالله ما أَدْرى وإِنِّى لصادقٌ ... أَداءٌُ عرانى من جَنابكِ أَم سِحرُ
فإِن كان سِحرًا فاعذرينى علىَ الهوى ... وإِن كان داءً غيره فَلَكِ العذر
الثالث: ما يذهب إِليه الأَغتام، وهو اسم لفعل يزعمون أَنَّه من قوَّته يغيّر الصّور والطبائع، فيجعل الإِنسان حمارًا. ولا حقيقة لذلك عند المحصّلين.(3/198)
وقد تُصوِّر من السِّحر تارة حُسنهُ، فقيل: إِنَّ من البيان لسحرًا، وتارة دِقَّة فعلِه، حتى قالت الأَطبّاءُ: الطبيعة ساحرة. وسمّوا الغِذاءَ سِحْرًا من حيث إِنَّه يدقّ ويلطُف تأثيره. قال تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} أَى مصروفون عن معرفتنا بالسّحر، وعلى ذلك قوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} قيل ممّن جعل له سَحْر، تنبيهاً أَنَّه يحتاج إِلى الغِذاءِ؛ كقوله: {مَالِ هاذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} ، ونبّه أَنَّه كان بَشَرًا، وقيل: معناه: ممّن جُعل له سِحْر يَتوصَّل بلطفه ودقّته إِلى ما يأْتى به ويدّعيه. وعلى الوجهين حُمل قوله: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} .
ولقيته سَحَرًا، وسُحْرةً، وبالسّحَر، وفى أَعلى السَّحَرين، وهما سَحَرَان: سَحَر مع الصّبح، وسحر قبله، كما يقال: الفجران: الكاذب والصّادق. وأَسْحَرْنا مثل أَصبحنا. اسْتَحَرُوا: خرجوا سَحَرًا. وتسحّر: أَكل السَحُور، وسحَّرنى فلان. وإِنما سمّى السَّحَر استعارة لأَنَّه وقت إِدبار الليل وإِقبال النَّهار. فهو متنفَّس الصّبح.(3/199)
ويقال إِنَّ السِّحْر فى القرآن على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى العِلم، والسّاحر بمعنى العالم الحاذق: {ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} أَى يأَيها العالم.
الثانى: بمعنى الزُّور والكذب: {وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أَى كذب وزُور، {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ، أَى كذب قوىّ تامّ.
الثالث: بمعنى ربط العيون: {سحروا أَعْيُنَ الناس} .
الرَّابع: بمعنى الجنون، والمسحور المجنون: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} ، {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} ، أَى مجنوناً.
الخامس: بمعنى الصّرف عن الحقّ: {قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} ، أَى تصرفون.
السّادس: بمعنى الإِحواج إِلى الطعام والشراب: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} .
والسَّابع: بمعنى آخِر اللَّيل ومقدّمة الصّبح: {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} {والمستغفرين بالأسحار} ، {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .(3/200)
بصيرة فى السحق والسحل
السّحق: تفتيت الشىء. ويستعمل فى الدواءِ إِذا فُتِّت. سَحَقه فانسحق، وفى الثَّوب إِذا أَخلق، يقال أَسَحَق. والسَّحْق: الثوب البالى، ومنه قيل: أَسْحَق الضَّرْعُ: إِذا صار سَحْقًا لذهاب لبنه. ويصحّ أَن يكون إِسحاق منه، فيكون حينئذ منصرِفاً.
ويقال: أَبعده الله وأَسْحقه، أَى جعله سَحِيقاً، وقيل: سَحَقه أَى جعله بالياً. (وقوله) تعالى: {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} ، وقوله: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . ونخلة سَحُوق، ونخيل سُحْق.
وسَحَقَت الرّياحُ الأَرضَ: قشرتها بشدّة هُبُوبها. وسحقه البِلاَ ومَحقه فانسحق. ولعن الله السَّحَّاقات، وقد سَحَقْتها، وساحقَتها. وهما تتساحقان.
وسَحَقت العينُ الدّمع: صبّته. ودموعٌ مساحيق.(3/201)
والسَّحْل: القَشْر. سَحَل الحديدَ: بَرَده وقشره. ومنه السّاحل، قال تعالى: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} / أَى شاطىء البحر، وقيل: أَصله أَن يكون مسحولا لكن جاءَ على لفظ الفاعل، كقولهم: همُّ ناصب. وقيل: بل تُصوّر منه أَنه يَسْحل الماءَ أَى يُفرّقه ويُضيعه.
والسُّحالة: البُرَادة. والسّحيل والسُّحَال: نهيق الحمار، كأَنَّه شبّه صوته بصوت سَحْل الحديد. والمِسْحل: اللِّسان، والخطيب، والمُنْخُل.(3/202)
بصيرة فى سخر وسد وسدر
التَّسخير: سياقة إِلى الغَرَض المختصّ به قهرًا، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ، فالمسخَّر: هو المقيَّض للفعل.
والسُّخرىّ: هو الَّذى يُقهر (أَن يتسخَّر) لنا بإِرادته، قال تعالى: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} ، وسخِرت منه: إِذا سخَّرته للهُزْءِ منه.
وقيل: رجل سُخَرة - كهمزة - لمن يَسخْر كِبْرًا. وسُخْرة كصُبْرَة لمن يُسخَر منه. والسّخريَة أيضا: فعل السّاخِر.
وقوله تعالى: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} بالضَّمّ والكسْر حُمِل على التسخير وعلى السُّخْرِيَةِ، ويدلّ على الوجه الثَّانى قوله بعده: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} . وهو مَسْخَرة من المساخر. ورُبٌّ مَساخِر يعدّها النَّاس مفاخر. وهؤلاءِ سُخْرة للسّلطان: يتسخّرهم، أَى يستعملهم بغير أَجر. ومواخر سواخر: سُفُن طابت لها الريح.(3/203)
والسّدّ - بالفتح والضمّ - واحد، أَو بالضمّ: ما كان خِلْقة، وبالفتح: ما كان من صُنعنا. وأَصل السدّ مصدر سددته. وشبّه به الموانِع نحو: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} قرىء بالضَّمّ وبالفتح. والسُّدَّة: كالظُّلَّة على الباب تقِيه من المطر. وغَشِيت سُدَّة فلان، وهو ما بين يدَى بابِه. قال:
ترى الوفود قِياماً عند سُدَّته ... يغْشَون باب مَزُور غير زوّارِ
وقد يعبّر بها عن الباب؛ كما فى الحديث: "الشُعْث الرّؤس الذي لا يفتح لهم السُّدَد" أَى الأَبواب. وهو على سَدَادٍ من أَمره، وسَدَدٍ، وقلت له سَدَادًا من القول وسَدَدا: صواباً. قال كعب:
ماذا عليها وماذا كان ينقصها ... يوم الترحّل لو قالت لنا سَدَدَا
وسدّ الرّجل يسِدُّ: صار سديدًا. وسدَّ قولُه وأَمرُه يَسَدّ. وأَمر سديد: مستقيم. اللهمّ سدِّدنى ووفقنى. وفيه سِداد من عَوَز، بالكسر. وجَرَادٌ سُدّ: يَسُدّ الأُفق. وفلان برىء من الأَسِدَّة أَى العيوب. وما به سِداد، أَى عَيْب يَسُدّ فاه أَن يتكلم. وسَدَاد أَرضهم: جهتها وقصدها؛ قال:(3/204)
إِذا الرّيح جاءَت من سَدَاد بلادها ... أَتانا بها مسكٌ ذكىٌّ وعنبر
والسِّدْر: شجر النَبِق. وقد يُخضَد ويُستظلّ به، فجعل ذلك مَثَلاً لظِلّ الجنَّة ونعيمها فى قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} لكثرة غَنَائه فى الاستظلال به.
وقوله: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} إِشارة إِلى مكان اختُصّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلم [فيه] بالإِفاضات الإِلهيّة، والآلاءِ الجسيمة.
وقيل: هى الشجرة التى بويع النبى صلّى الله عليه وسلَّم تحتها، فأَنزل الله السّكينة فى قلوب المؤمنين.
والسَّدَر - محرّكة -: تحيُّر البصر. وسَدَر الشَعَرَ: سَدَلَه.(3/205)
بصيرة فى السر وما يشتق منه
السِرّ: ما يُكتم فى النَّفْس من الحديث. وسارّه: أَوصاه بأَن يُسِرَّه. وتسارّ القومُ. وقوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ الندامة} أَى كتموها. وقيل: معناه: أَظهروها، بدليل قوله تعالى: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ} ، وليس كذلك؛ فإِنَّ النَّدامة التى/ كتموها ليست بإِشارة إِلى ما أَظهروه.
وأَسَرّ إِلى فلان حديثا: أَفضى به إِليه فى خفية، قال تعالى: {وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} .
وقوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أَى تُطلعون على ما تُسِرّون من مودّتهم. وقد فُسّر بأَن معناه: تظهرون، وهذا صحيح؛ فإِنَّ الإِسرار إِلى الغير يقتضى إِظهار ذلك لمن يُفضَى إِليه بالسرّ، وإِن كان يقتضى إِخفاءَه من غيره. فإِذًا قولُك: أَسَرّ إِلى فلان يقتضى من وجه الإِظهار، ومن وجه الإِخفاء.
وقوله تعالى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أَى خَمّنوا فى أَنفسهم أَن يحصِّلوا من بيعه بضاعة. وقوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة} أَى أَخْفَوها. وقال(3/206)
أَبو عُبَيْدَة أَى أَظهروها. وأَنكر عليه الأَزهرىّ، وقال: إِنَّمَا يقال أَشرّوا بالمعجمة إِذا أَظهروا، وأَسرّوا ضِدّ أَشرّوا. وقال قطربٌ: أَسَرّها كبراؤهم من أَتباعهم. قال ابن عرفة: لم يقل قطرب شيئا، وإِنَّما أَخبر الله عنهم أَنَّهم أَظهروا النَّدامة حتى قالوا: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ} الآية، وحتى قالوا: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ} فقد بيّن الله إِظهارهم.
وكُنى عن النكاح بالسِّرِّ من حيث إِنَّه يخفى. واستعير للخالص فقيل: هو فى سرّ قومه، ومنه سِرّ الوادى وسَرَارُهُ. وسُرَّةُ البطن: ما يبقى، وذلك لاستتاره بعُكن البطن. والسُّرّ والسَّرَرُ يقال لما يُقطع منه. وأَسِرّة الرَّاحة وأَسارير الجبهة لغُضُونهما. واستسرّه: بالغ فى إِخفائه، قال:
إِنَّ العُروق إِذا استسرّ بها الندى ... أَشِر النباتُ بها وطاب المزرع
وفى الحديث: "من أَصلح سريرته أَصلح علانيته". ومن دعائه: يا عالم السّر، ويا دائم البِرّ، ويا كاشف الضرّ، أَصلح سِرّنا، وأَدم برّنا، واكشف ضرَّنا. يا مولانا. وقوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} فَسّروه بالصّوم والصّلاة والزكاة والغُسْل من الجنابة. قال الشاعر:(3/207)
ولو قدَرتُ على نسيان ما اشتملَتْ ... منّى الضلوعُ من الأَسرار والخَبر
لكنت أَوّلَ من أُنْسِى سرائرَه ... إِذ كنت من نشرها يوماً على خطر
وقال:
ولا تُفْشِ سرّك إِلاَّ إِليكَ ... فإِن لكلّ نصيحٍ نصيحَا
فإِنِّى رأَيت بُغاة الرجال ... لا يتركون أَديماً صحيحَا
ولهذا قيل: صدور الأَحرار، قبور الأَسرار.
وقد ورد السرّ فى القرآن على أَوجه:
الأَوّل: بمعنى النكاح: {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} ، أَى نكاحاً.
الثَّانى: بمعنى ضِدّ العلانيّة: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} ومعناه أَنَّ السّر ما تُكلّم به فى خفاء، وأَخفى منه ما أُضمر: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} . وله نظائر.
والسّرور مأخوذ من السِّرِّ؛ لأَنَّ المراد: ما ينكتم من الفرح.
وقد ورد فى القرآن على أَوجه:
الأَوّل: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين} .
الثَّانى: سرور أَهل الدنيا بدنياهم: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} .(3/208)
الثالث: سرور المطيعين بنعيم الْعُقْبى: {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} . وفيه تنبيه على أَنَّ سرور الآخرة يُضادّ سرور الدّنيا.
الرابع: سرور النجاة من المِحْنَة والبلوَى: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء} .
والسرير: الَّذى يُجلس عليه، مأَخوذ من السّرور؛ إِذ كان ذلك لأُولى النَعْمة، وجمعه: أَسِرَّة وسُرُر. إِلاَّ أَنَّ بعضهم يستثقل اجتماع الضَّمّتين مع التضعيف، فيردّ/ الأُولى منهما إِلى الفتح لخفَّته فيقول: سُرَر، وكذلك ما أَشبهه من الجمع؛ مثل ذليل وذُلَل. وفى الحديث: "إِن سُرُر أَهل الجنة مرفوعة فى الهواءِ إِلى مسيرة خمسمائة عام، فإِذا أَراد المؤمن الجلوس على السّرير أَشار إِليه بيديه، فينزل من الهواءِ ليجلس إِليه ثم يرجع إِلى مكانه". فهذا معنى قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} .
قال:
أَتذكر إِذ لباسُك جلدُ شاةٍ ... وإِذا نعلاكَ من جلد البعيرِ
فسبحان الذى أَعطاك مُلكاً ... وعَلَّمك الجلوسَ على السّرير
وقد ورد السّرير فى القرآن على وجوه:(3/209)
الأَوّل: التُّخْوت المصطفّة: {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} .
الثَّانى: تخوت عليها ثياب منسوجة بالذهب: {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} .
الثالث: تُخوت معلاَّة في الهواءِ: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} .
الرابع: أماكن الأَولياءِ العالية: {إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} .
الخامس: قوله تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمان} إِلى قوله: {وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} .(3/210)
بصيرة فى السرب وسربل وسراج
السَّرَب - مَحرّكة -: الذَّهاب فى حَدُور. والسَّرَبُ: المُنحدَر. يقال سَرَب سَرْباً وسُرُباً، نحو مَرّ مرًّا ومُرورًا، وانسرب انسراباً. لكن سَرَبَ يقال على تصّور الفعل من فاعله، وانْسَرَبَ على تصوّر الانفعال منه. وسَرَب الدّمعُ: سال، والماءُ: جرى على وجه الأَرض، والنَّعَمُ: توجّه للرِّعى. وانسربت الحيَّةُ إِلى جُحْرها. وماءٌ سَرَبٌ، وسَرِب: منقطر من سِقَائِه. والسَّارب: الذَّاهب فى سَرْبه، أَىّ طريق كان.
والسَّرْب أَيضاً: جمع سارب، كراكب ورَكْب. وتعورف فى الإِبل، حتى قيل: ذعرت سَرْبه، وهو آمن فى سَرْبه، أَى قطيعه. وقيل: فى أَهله ونسائه، فجعل السَّرْب كناية. وفى الحديث: "مَنْ أَصبح آمِنًا فى سَرْبه" أَى فى منقلبه ومتصرَّفه، ويأْبَى تفسيرَه بالمال، قولهُ: "وعنده قوت يومه"، وروى بالكسر أَى فى حُرَمه وعياله، مستعار من(3/211)
سِرْب الظباءِ والبقر والقطا. وقيل: اذهبى فلا أندَهُ سَرْبك، فى الكناية عن الطَّلاق، ومعناه: لا أَردّ إِبلك الذاهب فى سَرْبه.
وسرَّبْتُ إِليه الأَشياء: أَعطيته إِيّاها واحدا بعد واحد.
والسّربال: القميص مِن أَىّ جنس كان، قال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أى تقى بعضكم من بأْس بعض.
والسّراج: الزَّاهر بفَتِيلة ودُهْن. ويعبَّر به عن كلّ مضىء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يعنى الشمس، وقال: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} . وفى الحديث: "عُمَرُ سِرَاج أَهل الجنَّة". قيل: المراد أَنَّ الأَربعين الذين تمّوا بإِسلام عمر كلّهم من أَهل الجنَّة، وعمر فيما بينهم كالسّراج.
ووضع المِسْرَجَة على الْمَسْرَجَة، المكسورة: الَّتى فيها الفتيلة، والمفتوحة: الَّتى توضع عليها.
وهو سَرَّاج مَرَّاج: كاذب.(3/212)
بصيرة فى السرح والسرد والسراط
السَّرْح: شجر له ثمر، الواحدة، سَرْحة، وسَرَحْت الإِبلَ فى المرعَى سَرْحاً أَصله أَن تُرْعِيَه فى السّرح، ثم جُعل لكلّ إِرسال فى الرّعى، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} . والسّارح: الرّاعى، والجمع: السَرْح (كالسّارب والسّرْب) .
والتسريح فى الطَّلاق مستعار من تسريح الإِبل فى المرعى.
والسَّرْد خَرْز ما يَخْشنُ ويغلُظ، كنسْج الدِّرع. واستعير لنَظْم الحديد، قال تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السرد} ، ويقال: (سَرْد وزَرْد) نحو سِراط وزِراط. والمِسْرَدُ: المِثْقَب.
/ والسِّراط: الطَّريق المستسهَل، أَصله من سَرَِطْت الطَّعام، وزَرِدته: ابتلعته. فقيل سِرَاط، تصوّر أَنَّه يبتلعه سالكه، أَو يبلَع سالكه. واسترطه وتسرّطه: بَلِعه قليلا قليلا. ورجل سَرَطان وسِرْطم. ومنه السِّرِطْراط للفالوذ.
وسيف سُرَاط: قَطَّاع. وفرس سَرَطانٌ، وَسَرطانُ الْجَرْى، كأَنَّه يسترط العَدْو ويلتهمه.(3/213)
بصيرة فى السرعة
وهى ضدّ البُطءِ، ويستعمل فى الأَجسام والأَفعال. سَرُع فهو سريع، وأَسرع فهو مُسرع. وسيرٌ سريع، وفرسٌ سريع، وخيلٌ سِرَاع. وما كان سريعاً وقد سَرُع سَرَاعة، وسَرَعاً. وسُرْعة. وسارع إِلى الخير، وتسارع. قال تعالى: {أولائك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} . وفلان يتسرّع إِلى الشرّ. وسَرَعانُ القوم: أوائلهم السِّراع. وفى مَثَل: سَرْعانَ ذا إِهالةً. قال:
أَتخطُبُ فيهم بعد قتل رجالهم ... لسَرْعانَ هذا والدّماءُ تصبَّبُ
ويقال: سَرْعَ ذلك بغير أَلف ونون؛ والأَصل سَرُع. قال مالك بن زُغْبة.
أَنَوْرًا سَرْعَ هذا يا فَرُوقُ ... وحَبْلُ الوصل منتكِثٌ حَذِيقُ
وقوله تعالى: {والله سَرِيعُ الحساب} و {سَرِيعُ العقاب} تنبيه على(3/214)
ما قال {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . وقوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} . قال:
سَوْءَةً سَوْءَة لوجه طبيب ... ساءَنا منظرًا وساءَ صنيعا
إِن رآه الصّحيح صار مريضا ... أَو رآه المريض مات سريعا(3/215)
بصيرة فى السرف
وهو مجاوزة الحدّ فى النفقة وغيره، وفى النفقة أَشهر. وتارة يقال اعتبارًا بالقَدْر، وتارةً بالكيفيَّة، ولهذا قال سفيان: ما أَنفقتَ فى غير طاعة الله فهو سَرَف وإِن كان قليلا. وقوله تعالى: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} أَى المتجاوزون فى أُمورهم الحدّ.
وسُمِّىَ قوم لوط مسرفين لأَنَّهم تعدّوا فى وضع البَذْر المَحرث المخصوص بقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} .
وقولُه: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} يتناول الإِسراف فى الأَموال وغيرها. وقولُه: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} فسَرَفه أَن يقتل غير قاتله، إِمّا بالعدول عنه إِلى ما هو أَشرف منه، أَو بتجاوز قتل القاتل إِلى غيره، حَسْبَمَا كانت الجاهليّة تفعله.
والسُّرْفَة: دُوَيْبَّة تَأْكل الخشب. ومنه: يعمل السَرَف فى النَشَب، ما يعمل السُّرَف فى الخشب. وأَرض سَرِفة: كثيرة السُّرَف.
ورجل سَرف الفؤاد، وسَرِف العقل: فاسده.(3/216)
بصيرة فى السرقة
وهى أَخذك ما ليس لك أَخذه فى خفاء، [وصار ذلك] فى الشَّرع [لتناول الشىء] من موضع مخصوص وقَدْر مخصوص. والسّرِقة، والسّرِق، والسَّرَق، بمعنى. قال أَبو المقدام:
سَرَقتُ مال أَبى يوماً فأَدّبنى ... وجُلّ مال أَبى ياقومنا سَرَقُ
وقال تعالى: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} ، وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} . وسَرَقه مالاً، وسرق منه مالا.
والسَّرَق - مَحَرّكة -: أَجود الحرير، معرّب.
واسترق السّمع: تسمّع مستخفيًا. استرق الكاتبُ بعض المحاسبات إِذا لم يبرزه. وسرقنا ليلةً من الشَّهر: إِذا نعِموا فيها.
ورجل مُسْتَرَقُ العُنُقِ: قصيرها، قال:
عَكَوَّكٌ إِذا مشى دِرْحايَهْ ... مُسْتَرَقُ العُنْق قصير الدايَهْ(3/217)
رددته بالصُغْر والقَمايَهْ
وهو مسترَقُ القُوَى: ضعيف.
والسّارقة: الغُلّ: الجامعة.
وسَرَقَتْنِى عينى: غلبتنى.(3/218)
بصيرة فى السرى والسطح
وهو سير اللَّيل. سَرَى باللَّيل وأَسريت، وسَرَيت به وأَسريت به. قال تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} أَى ذهب به في سَرَاة الأَرض، وهى الواسعة من الأَرض. وسَرَاة كلّ شىءٍ: أَعلاه، ومنه سراة النَّهار أَى ارتفاعه وأَوّله.
وقوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، أَى نهرّا يجرى ويَسْرِى. وقيل بل ذلك من السَرْو وهو الرفعة، يقال: رجل سرِّىٌّ من السَّرَوات، والسَّرَاة، ومن أَهل السَّرْو، وهو السّخاء فى مروءَة. قال: وأَشار بذلك إِلى عيسى صلوات الله عليه وما خصّه به من سَرْو.
والسّطْح: أَعلى البيت. وسَطَحَ البيتَ: جَعَل له سطحاً. وسطح الخبزَ بالمِسْطح. وسطح الثريدةَ فى الصَّحْفة. وسَطْحٌ مُسَطَّحٌ: مستَوٍ. وأَنف مسطَّح: منبسط جدًّا.
والمِسْطَحُ: عمود الخيمة؛ والمِسْطاح: الحَصير من الخوص.
وضربه فسطحه: بَطَحَهُ على قفاه ممتداً، فانسطح، وهو سطيح، وبه سمّى الكاهن سَطِيح. والسَّطِيحة: المَزَادة.(3/219)
بصيرة فى السطر والسطو
سَطَر واسْتَطَرَ: كَتَبَ. وكتب سَطْرًا من كتابه، وسَطَرًا، وأَسْطُرًا، وسُطورًا، وأَسطارًا. وهذه أُسطورة من أَساطير الأَوّلين، أَى ممّا سطروا من أَعاجيب أَحاديثهم. وسَطَر علينا فلان: قصّ علينا من أَساطيرهم.
وهو مُسَيْطِر علينا، ومُتَسَيْطِرٌ: متسلّط. ولماذا سيطرت علينا، وتَسَيْطرت؟ وقوله تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} ، أَى لست عليهم بقائم وحافظ. واستعمال مسيطر هنا كاستعمال القائم فى قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ، وكالحفيظ فى قوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} . وقيل: معناه: لست عليهم بحفيظ، فيكونُ المسيطر كالكاتب فى قوله: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وقولُه: {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} أَى مثبتًا محفوظًا.
والسّطوة: البطش برفع اليد. وقد سطا بِه، قال تعالى: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا} ، وأَصله مِنْ سَطَا الفرسُ على الرَّمكَة يسطو: إِذا قام على رجليه رافعاً يديه، إِمّا مَرَحاً وإِمّا نَزْوًا على الأَنثى.
وسَطا الرّاعى: أَخرج الولدَ من بطن أُمّه ميِّتًا. وسطا بقِرْنه، وعلى قِرْنه: وثبَ عليه وبَطَش به. وسَطا الماءُ: كثر وزَخَر. وما سَطَوْتُ فى طعام أَحد: ما تناولته. ولهم أَيدٍ سَوَاطٍ عَوَاطٍ.(3/220)
بصيرة فى السعد
السّعادة: معاونة الأُمور الإِلَهية للإِنسان على نيل الخير. وتضادّها الشَّقاوة. سَعِدْتُ به، وسُعِدت، وهو سعيد ومسعود، وهم سعداءُ ومساعيد. وأَسعدهُ الله، وأَسعد جَدَّه. وأَعظم السّعادات الجنَّة، ولذلك قال تعالى: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة} .
والمساعدة: المعاونة بما يُظنّ به سعادة. وقولهم: لبَّيك وسعدَيك أَى أَسعدك الله إِسعادًا بعد إِسعاد، أَو أُساعدك مساعدة بعد مساعدة. والأُولى أَولى.
والإِسعاد فى البكاءِ خاصّة. وقد استسعدته فأَسعدنى. وأَسعدتِ النَّائِحةُ الثَّكْلَى: أَعانتها على البكاءِ والنَّوح.
وسَعْدانة البعير: كِرْكِرَته، ومن النعل: عُقْدة الشِّسْع تحتها. وسَعْدانات الميزان: عُقَدٌ فى أَسفله. وسَعْدانة الثَّدْى: سوادٌ حول الْحَلَمة.
ويقال فى السّؤال عن الخير والشرِّ: أَسَعْدٌ أَم سُعَيْد. وأَمْرٌ ذو سواعد: ذو وجوهٍ ومخارج.(3/221)
بصيرة فى السعر ولسعى
سعَر النَّار وأَسعرها وسَعَّرها: أَلهبها، فاستعرتْ/ وتسعّرت، والحربُ: اشتعلت. والمِسْعَر: الخشب الَّذى يُسْعر به. وناقة مسعورة: مُوقَدَة مَهِيجة. والسُّعار: حَرُّ النَّارِ، وحَرّ الليل، وتوهُّج العطش. وسُعِر - كعُنى -: أَصابه حَرّ. وقوله تعالى: {إلى عَذَابِ السعير} أَى الحميم، فعيل بمعنى مفعول. وهو مِسْعر الحرب، وهم مساعِرُ الحروب.
وأَسعر الأَميرُ للنَّاس وسعَّر لهم، تشبيه باستعار النَّار.
والسّعى: المشى السّريع. ويستعمل للجِدّ خيرًا كان أَو وشرًّا، قال: {وسعى فِي خَرَابِهَآ} ، وقال: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} . وأَكثر ما يستعمل فى الأَفعال المحمودة. وقد سعى إِلى المجد، وهو يسعى إِلى الغاية. ويسعَى على عِياله: يكسب لهم، ويقوم بمصالحهم. قال أَبو قيس بن الأَسلت: أَسعَى على جُلّ بنى مالكٍ ... كلّ امرىء فى شأنه ساعِى(3/222)
وهو من أَهل المساعى، أَى المكارم.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} ، أَى أَدرك ما سعى فى طلبه. وخُصّ السّعى فيما بين الصّفا والمروة من المشى، والسِّعايَة بالنميمة، وبأَخذ الصّدقات، وبكسب المكاتَب لعتق رقبته، وبالوَشْىِ إِلى السّلطان.
وأَمَتُهُمْ مُساعية، أَى زانية. وخصّت المساعاة بالفجور، والمَسْعاةُ بطلب المكرمة.
وقوله تعالى: {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} ، أَى اجتهدوا فى أَن يُظهروا لنا عَجْزًا فيما أَنزلناه من الآيات(3/223)
بصيرة فى السغب والسفر والسفع
السّغَب: الجوع فى تعب. وهو ساغب لاغب. وقد سَغِبَ وسَغَب. وبه سَغَبٌ ومَسْغبَة.، قال تعالى: {فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} . وربّما قيل فى العطش مع التَّعب: سَغِب يَسْغَب سَغَباً وسُغوباً، فهو ساغبٌ وسَغْبانُ، نحو عطشان. ويقال: لو بَقِىَ اللَّيْثُ فى الغابة، لمات من السَّغَابة.
والسَّفْر: كشف الغِطاء ويختصّ ذلك بالأَعيان، نحو سَفْر العمامة عن الرّأْس، والخِمار عن الوجه. وسَفَر البيتَ: كنسه بالمِسْفَر أَى المِكْنَس، وذلك إِزالة السّفير عنه، أَى التُّراب الذى يكنس.
والإِسفار يختصّ باللَّون، نحو: {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} ، أَى أَشرق لونُه و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} . وأَسْفَرُوا بالصّبح تأَخَّرُوا، من قولهم: أَسفرت: دخلت فيه، نحو أَصبحت.
وسافر سفَرًا بعيدًا. وبينى وبينه مُسَافَرٌ بعيد. وهو مِسفار: كثير الأَسفار. وبعيرٌ مِسْفَر: قوىّ على السّفر. وهم سَفْر وسُفَّار. وأَكلوا السُّفْرة، وهى طعام السَّفَر.
وسَفَرْتُ بين القوم سِفَارة. ومشى بينهم السّفِيرُ والسُّفَراءُ.(3/224)
وامرأَة سافِرٌ، ونساءٌ سوافرُ. وسَفَرَت قِنَاعها عن وجهها. وما أَحسن مَسْفِرَ وجهِه، ومَسافِرَ وجوههم. قال امرؤ القيس:
ثِيَابُ بنى عوفٍ طهارَى نقيَّة ... وأَوجههم بِيضُ المَسَافِرِ غُرَّانُ
وسَفَر الكتابَ: كتبه. والكرام السَّفَرة: الكَتَبة. والسِّفْر: الكتاب الَّذى يَسفِر عن الحقائق، قال تعالى: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . وخصّ لفظ الأَسفار فى هذا المكانِ تنبيهاً أَنَّ التوراة وإِن كانت تحقِّقُ ما فيها، فالجاهل لا يكاد يستبينها (كالحمار الحامل) لها. وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} ، هم الملائكة الموصوفون بقوله: {كِرَاماً كَاتِبِينَ} . و (جعلنى كذا) طولُ ممارسة الأَسفار، وكثرة مدارسة الأَسفار. وربّ رجل رأَيته مسفِّرًا، ثمّ رأَيته مفسِّرا أَى مجلِّدا. وسَفَرَت الحربُ: ولَّت. وأَسفرت: اشتدّت. ووجهٌ مُسْفِر/: مُشرق سرورًا.(3/225)
و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} . والرّسُول والملائكة والكتب مشتركة فى كونها سافرة عن القوم ما استبهم عليهم.
والسَّفْع: الأَخذ بسُعْفة الفَرَس، أَى بسواد ناصيته، قال: {لَنَسْفَعاً بالناصية} . وباعتبار السّواد قيل للأثافىّ: سُفْع. وكلّ صَقْر وكلّ ثور وحشىّ أَسفع. وسفعته النَّارُ: لفَحته. وتَسَفَّع بها: اصطلَى، قال:
يا أَيّها القَيْن أَلا تسَفَّعُ ... إِنَّ الدّخان بالسّراة ينفعُ
وسافَعهُ: لاطمه. وفى الحديث: "أَنا وسَفعاء الخدّين الحانيةُ على ولدها. كهاتين"، أَراد الشُّحُوب من الجهد، فهذا ممّا يترك الوجه أَسفع. قال جرير:
أَلا ربّما بات الفرزدق نائماً ... على مخزياتٍ تترك الوجه أَسفعا
وأَصابته سَفْعة عَين ولمَمٌ من الشيطان، كأَنَّه استحوذ عليه فسَفع بناصيته. ورجل مسفوع ومَعْيون.
وسافَعها: زنَى بها.(3/226)
بصيرة فى السفك والسفل والسفن
السَفْك فى الدّم: صَبّه. وكذا فى الجواهر المذابة، وفى الدّمع.
والسُّفْل: ضِدّ العُلْو، سَفِلَ الحجرُ وغيره سُفُولاً. وعَلاَ السِنانُ وسفَل الزُجّ. ومررت بعالية النَّهر وسافلته. واشترى الدّار بعُلْوها وسُفْلها. ونزل أَسفلَ منِّى، قال تعالى: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} . وقعد فى عُلاَوة الريح وسُفَالتها. وسَفِلة البعير: قوائمه. وأَمْرُه كلَّ يوم إِلى سَفَال. وقد سَفُل فى النَّسب وفى العِلم، واستفل وتسفَّل. وهو من السَّفِلة، استعير من سَفِلة الدّابة. فمن قال: السِّفْلة فهو تخفيف كاللِّبْنة فى اللَبِنة. أَو جمعُ سَفِيل كعِلْية فى جمع عَلِىٍّ.
وهو يُسافل فلاناً: يباريه فى أَفعال السَّفِلة. وقد سفُل النَّاس سَفَالة، وأَمرهم فى سَفَال.
والسّفْن: القَشْر. سَفَن النَّجّارُ العُودَ، والرّيحُ الترابَ عن وجه الأَرض. قال امرؤ القيس:(3/227)
فجاءَ خِفيًّا يَسْفِنُ الأَرضَ صدرُه ... ترى التُّرْب منه لاصقًا كلَّ مَلْصَقِ
ومنه السّفينة لأَنَّها تسْفِن الماءَ، كما تمخره، والجمع: سفِينٌ، وسُفُن، وسفائِنُ.
وأجود من أَبى سَفَّانة، وهو كنية حاتِم.(3/228)
بصيرة فى السفه والسفر والسقط
السّفَه: خِفَّة فى البَدَن. ومنه قيل: زمامٌ سفيه، أَى كثير الاضطراب، وثوبٌ سفِيه: مُهلهَل ردىء النَّسْج. واستعمل فى خفَّة النَّفْس لنقصان العقل فى الأُمور الدّنيويّة والأُخرويّة، فقيل: سَفِه نفسَه، وأَصله سفِه نفسُه، فصُرِف عنه الفعل نحو: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ، قال تعالى في السّفه الدَنيوىّ: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} ، وفى السّفه الأُخروىّ: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} ، هذا هو السّفه فى الدّين. وقال تعالى: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء} تنبيها أَنهم هم السفهاءُ فى تسمية المؤمنين سفهاءَ. على ذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء} .
والسَّقْر والصّقْر: تغيير اللَّون. سَقَرَته الشَّمسُ وصقرته: لَوَّحَتْهُ. وجُعل سَقَر عَلَمًا لجهنم، ولمّا كان يقتضى التلويحَ فى الأَصل نبّه بقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} أَنّ ذلك مخالف لما تعرفه من أَحوال السّقْر فى الشَّاهد.
والسّقوط: اطّراح الشَّى، إِمّا من مكان عالِ إِلى مكان منخفض، كالسّقوط من السّطح، وسقوطِ منتصِب القامة. والسَّقَط والسُّقَاط لما يقلّ(3/229)
الاعتداد به. وسُقاطة البيت وسَقَطه وأَسقاطه: أَثاثه، من نحو الفأْس والقِدْر والإِبرة. وأَعطانى/ سُقَاطة المتاع أَى رُذَاله. ومنه قيل: رجل ساقط أَى لثيم فى حَسَبه. وقد أَسقطه كذا.
وأَسقطت المرأة اعتُبر فيه الأَمران، السّقوط من عالٍ والرداءَة جميعاً؛ فإِنَّه لا يقال أَسقطت المرأةُ إِلاَّ فى الَّذى تلقيه قبل التَّمام. ومنه قيل لذلك الولد: سَِقْط. وبه شُبّه سَِقْط الزَّنْدِ.
وقرىء: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} أَى تُساقط النَّخلةُ، وقرىء (تَسَّاقطْ) أَى يَسَّاقط الجذْع.
وسُقِط فى يده وأُسْقِط وسَقَطَ على المبنىّ للفاعل: ندِم. وهو مسقوط فى يده، وساقط فى يده أَى نادم. ومَسقَِط رأسك: مولدك. وهو ساقط من السُّقَّاط، وساقطة من السّواقط، أَى لئيم.
وأَسْقط فى حسابه وكتابه: أَخطأَ. ولا يخلو أَحد من سَقْطة ومن سَقْطات. وتسقَّطته: تتبعت عَثْرته، وأَن يندُر منه ما يؤخذ عليه. قال:
ولقد تسقَّطنى الوُشاة فصادفوا ... حَصِرًا بسرّكِ يا أُميم ضَنينا
وتسقَّط الخبرَ: أَخذه شيئا بعد شىء. وهو يساقِط العَدْو: يأْتى به على مَهَل.(3/230)
بصيرة فى السقف والسقم والسقى
قال تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} جمع سَقف، ويجمع على سُقُوفٍ أَيضا. وسقَّف بيته تسقيفاً، قال حاتم الطائىّ:
وإِنّىِّ وإِن طال الثَّواءُ لمّيتٌ ... ويضطمُّنى ماوِىَّ بيتٌ مسقَّف
والسّقيفة: كلّ ما سُقِّف من جَنَاح أَو صُفَّة ونحوهما.
والسَّقَف: الانحناء فى طول.
والسَّقَم والسَّقَام: المرضى المختصّ بالبدن. وهو سقيمٌ وسَقِمٌ. وقوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} من التعريض، والإِشارة به إِمّا إِلى ماضٍ، وإِمّا إِلى مستقبل، وإِمّا إِلى قليل ممّا هو موجود فى الحال؛ إِذ الإِنسان لا ينفكّ من خَلَلِ يعتريه وإِن كان لا يحسّ به. ورجل وامرأَة مِسقام. وأَسقمه الله، وسَقَّمه. وقلبٌ سقيم. وكلامٌ وفَهْمٌ سقيم.
والسَّقْى والسُّقْيَا: أَن تعطيه ما يشرب، والإِسقاء: أَن تجعل له ذلك حتى يتناوله كيف شاءَ. والإِسقاءُ أَبلغ من السّقى؛ لأنّ الإِسقاءَ: هو أَن تجعل له ما يَسْتَقى منه ويشرب، تقول: أَسقيته نهرًا. قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} وقال: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} وقال:(3/231)
{نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} أَى جعلناه سُقْيا لكم. وقيل: سَقَاه لشَفَته، وأَسقاه لدابّته. ويقال للنَّصيب من السَّقى: سِقْى بالكسر، وكذا للأَرض الَّتى تُسْقَى: سِقْى؛ لكونهما مفعولين كالنِّقْض.
والاستسقاء: طلب السَّقى أَو الإِسقاء. وسقَّيته تسقية: قلت له: سقاك الله. وله سِقاية ومِسْقاة يَشرب بها، وهى المِشْربة. واسْقِ أَرضك فقد حان مَسْقاها: وقت سَقْيها.
وساقٌ كالسقِيَّة وهى البَرْدِيَّة. والسِّقاءُ: ما يجعل فيه ما يُسقى. وأَسقيتك جِلدًا: أَعطيتكه لتَجعله سِقَاءً.
وقوله تعالى: {جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} هو المسمّى صُوَاعَ الملك، فتسميته بالسّقايَة تنبيه أَنَّه يُسقى به، وتسميته صُوَاعاً أَنَّه يُكتال به.
وبه سِقْىٌ وهو أَن يقع الماءُ الأَصفر فى بطنه. وقد أَسقاه الله. وتقولِ: أَسْقاك الله ولا أَسقاك.(3/232)
بصيرة فى السكب والسكت والسكر
ماءٌ ودمعٌ / ساكِبٌ ومَسكوبٌ ومُنسكِب: مصبوب. وقد سَكَبْتُه سَكْبًا. وسَكَبَ بنفسه سُكوبا. وماءٌ ودمٌ أُسكوبٌ: منسكب، / قالت جَنُوبُ أُخت عمرٍو ذى الكلب:
الطَّاعن الطَّعنةَ النَّجلاءَ يتبعها ... مُثْعَنجرٌ من دم الأَجواف أُسكوبُ
والسّكوت مختصّ بترك الكلام. ورجل سَكُوت، وساكوت، وسِكِّيت. وبه سُكاتٌ: إِذا كان طويل السّكوت من علَّة. وتكلَّم ثم سكت. فإِذا أُفْحِم قيل: أُسكِتَ. والسُّكْتة: ما يُسكت به الصّبىّ. وفلان سُكَيت الحَلْبة أَى متخلِّف فى صناعته.
والسُّكْر: حالة تعترض بين المرءِ وعقله. وأَكثر ما يُستعمل ذلك فى شراب المُسكِر. وقد يعترى من الغضب والعشق، ولذلك قال الشاعر:
سُكران: سُكر هوًى وسكر مدامة ... أَنَّى يُفيق فَتًى به سُكرانِ
ورجل سَكْرانُ وسِكِّير وسَكِر، وقوم سَكْرَى وسُكَارَى وسَكارَى. وقيل: السّكِّير: الدائم السّكر، والمِسكر: الكثير السّكر.(3/233)
والسَّكَر - مَحرّكة -: نبيذ التمر، قال تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} قال ابن عرفة: هذا قيل لهم قبل أَن تحرَّم الخمر عليهم. والسَّكَر: خمر الأَعاجم. ويقال لما يُسكِر: السَّكَر، ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم "حُرِّمت الخمر لعينها والسَّكَرُ من كلّ شراب" رواه أَحمد والثقات. وقال ابن عبّاس - رضى الله عنهما -: السَّكَر: ما حُرِّمَ من ثَمَرَةٍ قبل أَن تحرم، وهو الخمر، والرّزق الحسن: ما أُحلّ من ثمرةٍ من الأَعناب والتُمور. وقال أَبو عبيدة: السَّكَر: الطعام. وأَنشد:
جَعَلْتَ أَعراضَ الكِرام سَكَرًا
أَى جعلت ذمّهم طُعْما لك.
وقال بعض المفسّرين: السَّكَر فى التَّنزيل هو الخلّ. وهذا شىء لا يعرفه أَهل اللغة.
وسَكْرَة الموت: شدَّته، وهو اختلاف العقل لشدَّة النزع، قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} . وقد صحّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه كان عند وفاته يدخل يديه فى الماءِ فيمسح بهما وجهه ويقول:(3/234)
لا إِلَه إِلاَّ الله، إِنَّ للموت سَكَرَات، ثم نَصَب يده فجعل يقول: فى الرّفيق الأَعلى، حتى قُبض ومالت يده.
وقال تعالى: {سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أَى حُبست عن النظر وحُيّرت. وقال أَبو عمرو بن العلاءِ: معناها: غُطِّيت وغُشِّيت. وقرأَ الحسن البصرىّ: (سُكِرت) بالتَّخفيف أَى سُحرت.(3/235)
بصيرة فى السمر
وهو المسامَرَة أَى الحديث بالليل. وقد سَمَر يَسمُرُ فهو سامِرٌ. والسّامر أَيضًا: السُّمَّار، وهم القوم يَسمُرون، كما يقال للحُجَّاج: حاجٌ. قال تعالى: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} ، أَى سُمّارًا تتحدّثون ليلاً.
والسّامِرىّ المذكور فى القرآن، قيل: كان عِلْجًا من كَرْمان، وقيل - وهو الأَشهر -: إِنَّه كان من عظماءِ بنى إِسرائيل، منسوب إِلى موضع لهم. وقيل: نسبه إِلى السَّامِرَة، وهم قوم من اليهود يخالفونهم فى بعض أَحاكمهم.
والسُّمْرة: لونٌ مركَّب من بياضٍ وسواد. والسَّمراءُ كُنِى بها عن الحِنطة.
والسَّمُرة: شجرة يُشبه أَن تكون للونها سُمّيت بذلك.(3/236)
بصيرة فى السكون
سَكَن المتحرك، وأَسكنته وسكَّنته. وسَكَنوا الدّارَ، وسكنوا فيها. وهم سَكْن الدّارِ، وساكنتها، وساكِنوها، وسُكَّانها. وتركتهم على سَكِنَاتهم، ومَكُِناتهم، ونَزَِلاتهم: مساكنهم وأَماكنهم ومنازلهم. والسَّكينة الطمأْنينة.
وقد ذكر الله تعالى السَكِينة فى القرآن فى ستَّة مواضع:
الأَوّل: قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى ما تسكُنون به إِذا أَتاكم، أَو هى شىء كان له رأْسٌ كرأْس الهِرّ من زبرجد وياقوت، وجناحان.
/ الثاني: قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} .
الثالث: قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} .(3/237)
الرّابع: قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} .
الخامس: قوله: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} .
السّادس: قوله: {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} الآية.
وكان بعض المشايخ إِذا اشتدّت عليه الأُمور قرأَ آيات السّكينة. ويُرْوَى عنه فى واقعة عظيمة جرت له فى مرضه يعجز العقول والقرائح عن حملها من محاربة أَرواح شيطانيّة ظهرت له فى حال ضعف القوّة. قال: فلمّا اشتدّ علىَّ الأَمر قلت لأَقاربى ومَن حَوْلِى: اقرءُوا آيات السّكينة. قال: ثمّ انقطع عنى ذلك الحال وجلست وما بى قَلَبَة. وقد جرّبتها الأَكابر عند اضطراب القلب ممّا يَرِد عليه، فرأَوا لها تأْثيرًا عظيماً فى سكونه وطمأْنينته.
وأَصل السَّكِينَة هى: الطُّمأْنينة والوَقار والسّكون الَّذى يُنزله الله فى قلب عبده عند اضطرابه من شدّة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يَرِد عليه، ويوجب له زيادة الإِيمان، وقوّة اليقين والثبات. ولهذا أَخبر سبحانه(3/238)
عن إِنزالها على رسوله وعلى المؤمنين فى مواضع القَلَق والاضطراب؛ كيوم الغار، ويوم حُنين ونحوه.
وقال ابن عبّاس: كلّ سكينة فى القرآن فهى طمأنينة إِلاَّ فى سورة البقرة. واختلفوا فى حقيقتها، وهل هى عينٌ قائمة بنفسها أَو معنًى، على قولين:
أَحدهما: أَنَّها عينٌ، ثمّ اختلف أَصحاب هذا القول فى صفتها. فُروِىَ عن علىّ بن أَبى طالب أَنها ريح صفَّاقة لها رأْسان، ووجهها كوجه الإِنسان. وعن مجاهد: أَنَّها على صورة هِرّة لها جناحان وعينان لهما شعاع، وجناحاها من زمرّد وزبرجد، فإِذا سمعوا صوتها أَيقنوا بالنَّصر. وعن ابن عبّاس: هى طَسْت من ذهب من الجنَّة، كان يغسل فيه قلوب الأَنبياءِ. وعن ابن وهب: هى روح الله يتكلَّم، إِذا اختلفوا فى شىءٍ أَخبرهم ببيان ما يريدونه.
والثَّانى: أَنَّها معنى. ويكون معنى قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى فى مجيئه إِليكم سكينةٌ وطمأْنينة.
وعلى الأَوّل يكون المعنى أَنَّ / السكينة فى نفس التَّابوت، ويؤيّده عطف قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} . وقال عطاءُ بن أَبى رَبَاح:(3/239)
فيه سكينة هى ما يعرفون من الآيات فيسكنوا إِليها. وقال قتادة والكلبى: هى من السّكون، أَى الطمأنينة من ربّكم. ففى أَىّ مكان كان التَّابوت اطمأَنوا إِليه وسكنوا. قال: وفيها ثلاثة أَشياء: للأَنبياء معجزة، ولملوكهم كرامة، وهى آية النُّصرة، تخلع قلوب الأَعداءِ بصوتها رُعْبًا إِذا التقى الصّفَّان للقتال.
وكرامات الأَولياءِ هى من معجزات الأَنبياءِ؛ لأَنهم إِنَّما نالوها على أَيديهم وبسبب اتّباعهم، فهى لهم كرامات، وللأَنبياءِ دلالات معجزات. فكرامات الأَولياءِ لا تعارض معجزات الأَنبياءِ، حتَّى يطلب الفُرقان بينهما، لأَنَّها من أَدلَّتهم وشواهد صدْقهم، ثمّ الفُرقان بين ما للأَنبياءِ وما للأَولياءِ من وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
واعلم أَنَّ السكينة الَّتى تنطِق على لسان المحدَّثين ليست هى شيئا يُملك، إِنما هى شىء من لطائف صنع الله تُلقِى على لسان المحدّث الحكمة؛ كما يُلقِى الملك الوحىَ على قلوب الأَنبياءِ، ويُنطق المحدّثين بنُكَت الحقائق مع ترويح الأَسرار وكشف الشُّبَه. والسّكينة إِذا نزلت فى القلب اطمأَنَّ بها، وسكنت إِليها الجوارح، وخشعت، واكتستِ الوقار، وأَنطقت اللسان بالصّواب والحكمة، وحالت بينه وبين قول الخَنَى والفُحش واللَّغو والهُجْر وكلّ باطل. وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: كنَّا نتحدّث(3/240)
أَنَّ السكينة تنطق على لسان عُمَرَ وقلبه. وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن قدرة منه ولا رويَّة، ويستغربه هو من نفسه، كما يستغربه السّامع له. وربّما لم يعلم بعد انقضائه بما صدر منه. وأَكثر ما يكون هذا عند الحاجة، وصِدْق الرغبة من السائل والمُجالس، وصِدْق الرغبة منه هو إِلى الله. ومن جرّب هذا عرف قدر منفعته وعظمها، وساءَ ظنُّه بما يحسن به الغافلون ظنونهم فى كلام كثير من الناس. وهى موهبة من الله تعالى ليست بسببيّة ولا كَسْبية، كالسّكينة الَّتى كانت فى التَّابوت تُنقل معهم حيث شاءُوا. وقد أَحسن من قال:
وتلك مواهب الرّحمان ليست ... تُحَصَّل باجتهادٍ أَو بكَسْبِ
ولكن لا غِنَى عن بذل جهدٍ ... بإِخلاص وجِدٍّ لا بلِعْبِ
وفضلُ الله مبذولٌ ولكن ... بحكمته وعن ذا النصُّ يُنْبِى
فما من حكمة الرّحمان وضع الـ ... كواكب بين أَحجارٍ وتُرْبِ
فشكرًا للذى أَعطاك منه ... ولو قَبل المحلُّ لزاد ربِّى
والمسكين - بكسر الميم وفتحها -: من لا شىء له، وهو أَبلغ من الفقير.
وقوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} فإِنَّه جعلهم مساكين بعد ذهاب سفينتهم، أَو لأَن سفينتهم غير معتدّ بها فى جنب ما كان لهم(3/241)
من السكينة. وقيل: الفقير أَبلغ. وقد بسطنا القول ووفِّينا الكلام فى شرح قولنا: المسكينة من أَسماءِ المدينة، فى كتابنا "المغانم المطابة فى معالم طابة". فلينظر من أَراد ذلك.(3/242)
بصيرة فى السلب
وهو نزع الشَّىء من الغير على القهر، قال تعالى: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} ، وقد يقال للحاءِ الشجر المنزوع منه: سَلَب. والسَّلَب أَيضًا: لِحَاء شجرٍ معروف باليمن / تعمل منه الحبال، وهو أَجْفَى من لِيف المُقْل. والسّلَب أَيضًا: خُوص الثُمام، قال مُرَّة بن مَحْكان:
يُنَشْنِش الجِلْدَ عنها وهى باركة ... كما تُنشنِش كفًّا فاتِلٍ سَلَبا
رواه الأَصمعىّ بالفاءِ وابن الأَعرابىّ بالقاف، والصّحيح ما رواه الأَصمعىّ بالفاءِ.
وسَلَبُ الذَّبيحة: إِهابُها. وسَلَبُ القتيل: ما عليه من الثياب(3/243)
والسّلاح. وفى الحديث الصّحيح: "مَن قَتَل قتيلا له عليه بَيّنة فله سَلَبه".
وسَلّبت المرأَةُ إِذا ليست السِّلاَب، وهو واحد السُّلُب، ككتاب وكتب، وهى ثياب المآتم السّود. وقال لَبيد رضى الله عنه:
يَخْمِشْنَ حُرَّ أَوجهٍ صِحَاحَ ... فى السُّلُب السّود وفى الأَمساحِ
وكأَنَّها سمّيت سُلُباً (لنزعه ما كان يلبسه) قبل.
والأُسلوب: الفنّ. وأَخذ فى أَساليب من القول: فى فنون منه. والأُسْلوب: الشموخ والكِبْر، قال الأَعشى:
ألَمْ تَرَوْا للعَجَب العجيبِ ... إِنّ بنى قِلابَة القَلُوبِ
أُنوفهم مِلْفَخر فى أُسلوبِ ... وشَعَرُ الأَستاه بالجَبُوب
أَى فى شموخ وتكبّر لا يلتفت يَمْنة ويَسْرة.
وتسلّبت المرأَة على ميّتها، وسلَّبت: لبست السُّلُب، فهى مسلِّب.(3/244)
بصيرة فى السلاح وسلخ
كُلّ عُدّة للحرب تسمّى سِلاَحاً. وتسلَّح: لبس السّلاح. وسلَّحته: أَلبسته إِيّاه. قال تعالى: {وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ} . وفى موضع كذا مَسْلحة ومَسالِح: وهم قوم وُكِّلوا بمرصد معهم السّلاح. وأَخذت الإِبل سِلاحها، وتسلَّحت، أَى سمِنت وحَسُنت. وذو السّلاح: السِّماك الرّامح.
والإِسليح: نبت إِذا أَكلت [منه] الإِبل سمنت وغَزُر لبنها، كأَنما سمّى لأَنها إِذا أَكلت [منه] أَخذت السِّلاح؛ لأَنَّها تمنع نفسها أَن تُنْحر.
والسُّلاَح - بالضَّمّ -: ما يقذفه آكل الإِسليح، ثم جُعل كناية عن كلّ عَذِرة، حتى قيل فى الحُبارَى: سُلاحه سِلاحه.
والسَّلْخ: نزع جِلد الحيوان. سَلَخ الشاة. وكَشَط مِسْلاخها: إِهابها، وأَعطانى مسلوخةً: شاةً سُلخ جلدها. وسَلَخ الشهرُ، وانسلخ. وقوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} : نَنزِعه. وأَسْوَدُ سالخٌ. وانسلخ وتسلَّخ. ونخلةٌ مِسلاخ: ينتثر بُسْرها أَخضر.(3/245)
بصيرة فى سلط
السَّلاَطة: التمكّن من القهر، سَلَّطته فتسلَّط، قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ} ، ومنه سمّى السُّلطان. قيل: هو جمع سَليط [للزيت] كبعير وبُعْران، سمّى لتنويره الأَرض، وكثرة الانتفاع به. والسُّلطان أَيضًا: السَّلاطة، قال تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} ، وقد يقال لذى السلاطة سلطان أَيضاً، وهو الأَكثر. وسمّى الحُجَّة سلطانا وذلك لما لِلْحَقِّ من الهجوم على القلوب، لكن أَكثر تسلّطه على أَهل العلم والحكمة من المؤمنين، قال تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} ، وقوله: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} يحتمل السّلطانين. وامرأَة سَلِيطة: طويلة اللسان صخَّابة. ورجل سَلِيط، وقد سَلُط سَلاَطة. وفى الحديث: "السّلطان ظلّ الله فى الأَرض يأْوِى إِليه كلُّ مظلوم" وقال: "مَن اقترب من أَبواب السّلطان افتتن" وقيل: فى صحبة السّلطان خطَرٌ: إِن أَطعته خاطرت بدينك؛ وإِن عصيته خاطرت بروحك، فالسّلامة أَلاَّ يعرفك ولا تعرفه. قال:(3/246)
دَعِ السّلطانَ فالسّلطانُ لَيْث ... ولا تتعرضنَّ له فتَضْرَسْ
وكن في مجلس السّلطان أَعمى ... وكن عن مجلس السّلطان أَخرسْ
وقال:
صاحِبُ السّلطانِ لا بدّ لَهُ ... من غُمومٍ تعتريه وغُمَمْ
والذى يركب بحرًا سيرى ... قُحم الأَهوال / من بعد قُحَمْ
والسُّلطان ورد فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى آيات القرآن: {مَآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} .
الثانى: بمعنى الحُجّة والبرهان: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ، {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أَى بحجَّة.
الثالث: بمعنى الاستيلاءِ: {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ} ، {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} .
الرّابع: بمعنى المعجزة: {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .(3/247)
بصيرة فى السلف
قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ} أَى معتبَرًا متقدّماً. وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أَى يُتجافَى عمّا تقدّم من ذنبه. وكذا قوله: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ، أَى ما قد تقدّم من فعلكم فذاك يُتجافَى عنه. فالاستثناءُ عن (الإِثم لا) عن جواز الفعل.
وسلَفَ القومُ: تقدّموا، سُلُفاً. وهم سَلَفٌ لمن وراءَهم، وهم سُلاَّف العسكر والقافلةِ. وكان ذلك فى الأُمم السَّالفة، والقرون السّوالف. وضمّ إِلى سالفِ نِعَمه آنِفها.
وامرأَة حَسَنة السَالِفة، والسّالفتين، وهما جانبا العُنُق. قال ذو الرمّة:
ومَيّة أَحسن الثَقَلين جِيدًا ... وسالفةً وأَحسنُ قَذَالاً
والسُّلاَف والسُّلاَفة: أَفضل الخمر.
والسُّلْفة: ما يُقدّم من الطعام على القِرَى. وتسلَّفوا: أَكلوها. وسلِّفوا ضيفكم.
وهو سِلْفى [وهى] سِلْفَتى. وبيننا سِلْفٌ: بيننا صِهر.(3/248)
بصيرة فى سلق وسلك
السَّلْق: بَسْط بقَهر، إِمّا باليد وإِمّا باللسان، ومنه: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} . وسَلَقْته لِقفاه وسَلْقَيته: بسطته على الأَرض، قال:
حتى إِذا قالوا تَيَفَّعَ مالِكٌ ... سَلَقَتْ أُميمةُ مالِكًا لقفاه
وسَلقت اللحمَ عن العظم: قشرته. وطبخ لنا سَليقة، وهى الذُّرَة المهروسة، وهى أَيضاً: الخبز المرقَّق.
وهو يتكلّم بالسّليقة، وكلام سَلِيقىّ، قال:
ولست بنحوىّ يلوك لسانَه ... ولكن سَلِيقىّ أَقول فأُعرِبُ
ولسانٌ مِسْلق وسَلاّق، وهى سِلْقة من السِّلَق: امرأَة سَلِيطة.
والسّلوك: النفاذ فى الطريق، [يقال: سَلكت الطريق، و] سلكت كذا فى طريقهِ، قال تعالى: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} ، ومن الثانى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، وقوله: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} قال بعضهم: سلكت فلانًا طريقًا، فجعل (عذابًا) مفعولا ثانيًا. وقيل: (عذابًا) مفعول لفعل محذوف، كأَنَّه قال: يعذّبه عذابا.(3/249)
وورد فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى الإِدخال: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} ، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} .
الثَّانى: بمعنى الجَعل: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أَى يجعل.
الثالث: بمعنى التكليف: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} .
الرّابع: بمعنى التَّرك والإِهمال: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} .(3/250)
بصيرة فى السل
سلّ السّيفَ من غِمده، واستلّه فانسلّ منه: نَزَعَه فانتزع. وسلّ الشعَرة من العجين، فانسلّت انسلالاً. وانسلّ من المَضِيق والزحام، واستلّ، وتسلّل. وسلّ الشَّىءَ من البيت على سبيل السّرِقة. وسُلّ الولدُ من الأَب، ومنه قيل للولد: سَلِيل.
قال تعالى: {يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} ، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} أَى من الصَّفْو الَّذِى يُسَلّ من الأَرض. وقيل: السُّلاَلة كناية عن النطفة، تُصُوّر فيه صَفْو ما يحصل منه.
وفى بنى فلان سَلَّة أَى سرقة. قال:
فلسنا كمن كنتم تصيبون سَلَّة ... فنقبلَ ضَيْمًا أَو نحكِّمَ قاضيا
واستَلّ بكذا: ذهب به فى خُِفية. أَنشد ابن الأَعربىّ:
إِذ بَيَّتُوا الحىّ فاستلُّوا بجاملِهم ... ونحن يسعى صريخانا إِلى الدّاعى
والهدايا تَسُلّ السّخائمَ، وتحلّ الشَّكائم.
وتسلسل الثوب: رَقَّ من البِلَى. قال ذو الرمّة:
قِفِ العِيسَ فى أَطْلال مَيّةَ فاسأَلِ ... رسوماً كأَخلاق الرِّداءِ والمسلسَل(3/251)
بصيرة فى سلم
السَّلام والسّلامة: التعرّى من الآفات الظَّاهرة والباطنة، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أَى من الدّغَل، هذا فى الباطن، وقال تعالى: {مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} هذا فى الظَّاهر. يقال: سَلِمَ يسلَم سلامةً، وسَلاَماً، وسلَّمه الله.
وقوله: {ادخلوها بِسَلامٍ} أَى بسلامة. والسّلامة الحقيقية ليست إِلاَّ فى الجنَّة؛ لأَنَّ فيها بقاء بلا فناء، وغنىً بلا فقر، وعزًّا بلا ذلّ، وصحّة بلا سقم.
وقوله: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} أَى السّلامة. وقيل: السّلام: اسم من أَسماءِ الله تعالى، وكذا قيل فى قوله: {لَهُمْ دَارُ السلام} . قيل: وُصف الله بالسّلام من حيث لا يلحقه العيوب والآفات الَّتى تلحق الخَلْق.
وقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} ، و {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} ، كل ذلك من النَّاس والملائكة بالقول، ومن الله بالفعل، وهو إِعطاء ما تقدّم ذكره ممّا يكون فى الجنَّة من السّلامة.(3/252)
وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} أَى نطلب منكم السّلامة، فيكون (سلاماً) منصوباً بإِضمار فعل. وقيل: معناه: قالوا سَدَادًا من القول، فيكون صفة لمصدر محذوف.
وقوله: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} إِنَّمَا رفع الثَّانى لأَنَّ الرفع فى باب الدّعاء أَبلغ، فكأَنَّه يجرى فى باب الأَدب المأمور به فى قوله: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} . ومن قرأَ (سِلْمٌ) فلأَن السّلام لمّا كان يقتضى السِّلْم وكان إِبراهيم عليه السّلام قد أَوجس منهم فى نفسه خِيفة، فلمّا رآهم مسلِّمين تصوّر من تسليمهم أَنَّهم قد بذلوا له سِلْمًا، فقال فى جوابهم: (سِلْم) تنبيهًا أَنَّ ذلك حصل من جهتى لكم، كماحصل من جهتكم لى.
وقوله: {إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} هذا لا يكون لهم بالقول فقط، بل ذلك بالقول والفعل جميعاً. وقوله: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} هذا فى الظَّاهر أَنَّه سلّم عليهم، وفى الحقيقة سؤال الله السلامة منهم.
و {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} ، وكذلك البواقى، كلّ ذلك تنبيه من الله أَنَّه جعلهم بحيث يُثْنَى عليهم، ويُدْعَى لهم.(3/253)
والسَّلاَم، والسَّلَم، والسَّلْم: الصّلح. وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} ، قيل: نزلت فيمن قُتل بعد إِقراره بالإِسلام ومطالبته بالصّلح.
وقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ} أَى مستسلمون.
وقوله: {وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ} ، وقرىء: سَلَما وسِلْما، وهما مصدران وليسا بوصفين، تقول: سلِم سِلْماً وسَلَما، ورَبِحَ ربْحاً ورَبَحاً. وقيل: السَّلْم اسم بإِزاءِ الحرب: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} ، لأَنَّ كلّ واحد من المتحاربين يخلُص ويسلّم من أَذى الآخر، ولهذا يبنى على مفاعلة، فيقال: المسالمة.
والإِسلام: الدّخول فى السَّلْم - وهو أَن يَسلَم كلُّ واحد منهما أَن يناله أَلم من صاحبه، ومصدر أَسلمت الشىء إِلى فلان إِذا أَخرجته إِليه. ومنه السَّلَم/ فى البيع.(3/254)
والإِسلام فى الشرع على ضربين:
أَحدهما: دون الإِيمان، وهو الاعتراف باللِّسان. وبه يُحقَن الدّم، حصل معه الاعتقاد أَولم يحصل، وإِياه قَصَد بقوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولاكن قولوا أَسْلَمْنَا} .
والثانى: فوق الإِيمان. وهو أَن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، والاستسلامُ لله تعالى فى جميع ما قَضَى وقَدَّر؛ كما ذكر عن إِبراهيم عليه السّلام فى قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} .(3/255)
بصيرة فى السلوى والسم والسمر
أَصل السَّلْوَى: ما يُسَلِّى الإِنسان. ومنه السُّلْوان والتسلِّى. وقيل: السَّلْوَى: طائر كالسُّمانىَ. وقال ابن عباس: المنُّ: الذى يسقط من السماءِ، والسلوى، طائر. وقيل: أَشار ابن عبّاس بذلك إِلى رزق الله عباده من النَّبات واللحوم، فأَورد ذلك مثالا.
وأَصل السَلَوى من التَّسلِّى. يقال: سَلِيت كذا، وسَلَوْت عنه، وتسلَّيت: إِذا زالت عنك محبَّته. والسُلْوان: ما يُسَلِّى. وكانوا يتداوَوْن من العشق بخَرَزة يحكُّونَها ويشربونها، يسمّونها: السُّلْوان.
وعين سُلْوانَ بالبيت المقدّس قال:
قلبى المقدَّس لَمَّا أَن حَلَلْتِ به ... لكنّه ليس فيه عَيْنُ سُلْوانِ
والسمّ - مثلثة السّين -: كلّ ثَقْب ضيّق؛ كَخُزْت الإِبرة، وثَقْب الأَنف والأُذن، والجمع: سُمُوم. وسَمّه: أَدخل فيه. ومنه السّامَّة للخاصّة الذين يقال لهم الدُخْلُل، أَى يدخلون فى بواطن الأُمور. وعَرَف ذلك السّامّةُ والعامَة. قال تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} .
والسَمّ القاتل هو مصدرٌ فى معنى الفاعل، فإِنَّه يلطف تأثيره يدخل بواطنَ البدن. والسَّمُوم: الرّيح الحارَّة الَّتى تؤثِّر تأثير السمّ القاتل.(3/256)
بصيرة فى السمع
وهو قوّة فى الأُذُن، بها تدرِك الأَصوات. وفِعْله يقال له السّمع أَيضًا. وقد سَمِع سَمْعًا. ويعبّر تارة بالسّمع عن الأُذُن نحو: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} . وتارة عن فعله كالسّماع نحو {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} ، وتارة عن الفهم، وتارة عن الطَّاعة، تقول: اسمع ما أَقول لك. ولمْ تسمعْ ما قلتُ، أَى لم تفهم
وقوله {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ، أَى فهِمنا ولم نأْتمر لك. وقوله {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ، أَى فهمْنَا وارتسَمْنا. وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} ، يجوز أَن يكون معناه: فَهِمْنا وهم لا يعملون بموجَبه، وإِذا لم يعمل بموجَبه فهو فى حكم مَن لم يسمع، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} أَى أَفهمهم بأَن جعل لهم قوَّة يفهمون بها.
وقوله: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} ، فغير مُسْمَع يقال على وجهين:
أَحدهما: دعاء على الإِنسان بالصّمم.
والثَّانى: أَن يقال أَسمعت فلاناً إِذا سَبَبْتُه. وذلك متعارَف فى السّبّ.(3/257)
ورُوى أَن أَهل الكتاب كانوا يقولون [ذلك] للنبىّ صلَّى الله عليه وسلم يوهمون أَنَّهم يعظِّمونه ويَدْعون له، وهم يدعون عليه بذلك.
وكلّ موضع أُثبت فيه السّمع للمؤمنين أَو نُفى عن الكافرين أَو حُثَّ على تحرّيه فالقصد به إِلى تصوّر المعنى والتفكر فيه. وإِذا وُصف/ الله بالسّمع فالمراد به علمه بالمسموعات وتحرّيه للمجازاة به، نحو: {قَدْ سَمِعَ الله} وقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} أَى إِنك لا تُفهمهم؛ لكونهم كالموتى فى افتقادهم - لسوءِ فعلهم - القوّة العاقلة الَّتى هى الحياة المختصة بالإِنسانية.
وقولُه: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَى (يقوله فيه تعالى) مَن وقف على عجائب حكمته، ولا يقال فيه: ما أَبصره وما أَسمعه لما تقدم ذكره، وأَن الله تعالى لا يوصَف إِلاَّ بما ورد به السّمع. وقولُه فى صفة الكفار: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} معناه: أَنهم يسمعون ويبصرون فى ذلك اليوم ما خَفِىَ عنهم وضلُّوا عنه اليوم؛ لظلمهم أَنفسهم وتركهم النَّظر.(3/258)
وقولُه: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أَى يسمعون منك لأَجل أَن يكذِبوا، {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} أَى يسمعون لمكانهم.
والاستماع: الإِصغاء. وقوله: {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} أَى مَن الموجِد لأَسماعهم وأَبصارهم، والمتولِّى بحفظها. والمسْمَع والمِسْمع: خَرْق الأُذُن. وفى دعاءِ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: يامن لا يشغله سمعٌ عن سمع، ويامَن لا تغلِّطه المسائل، ويامن لا يُبرمه إِلحاح الملحّين، ارزقنى بَرْد عفوك، وحلاوة رحمتك، ورَوْح قربك. وقال الشاعر:
لو يسمعون كما سمعتُ كلامها ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودًا
وقد ورد السّمع فى التنزيل على وجوه:
الأَوّل: بمعنى الإِفهام: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} أَى لا تفهمهم.
الثانى: بمعنى إِجابة الدّعاءِ: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} .
الثالث: بمعنى فهم القلب: {أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} ، {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} أَى سَمْعِ الفؤاد، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَى سمعنا بقلوبنا، وأَطعنا بجوارحنا.(3/259)
الرّابع: بمعنى سماع جارحة الأُذُن: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} ، {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} ، {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أَى سمعنا بالآذان، وعصينا بالجَنَان.
الخامس: بمعنى سَمْع الحقّ تعالى المنزّه عن الجارحة والآلة، المقدّس عن الصِّماخ والمَحارة: {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} ، {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} .
وقد يكون السميع بمعنى المُسمِع، قال عمرو بن مَعْدِ يكَرِبَ رضى الله عنه:
أَمِن رَيْحانَةَ الداعى السميعُ ... يؤرِّقنى وأَصاحبى هُجُوعُ(3/260)
بصيرة فى سمك وسمن
السَّمْك: سَمْك البيت. وقد سَمَكه أَى رَفَعَهُ، وقيل للسّماوات: المسموكاتُ. وفى حديث علىّ رضى الله عنه: "وبارىء المسموكات" أَى السماوات السّبع. والسّامِك: العالى المرتفع.
وفى حديث ابن عمر "أَنَّه نظر فإِذا هو بالسِّماك، فقال: قد دنا طلوعُ الفجر، فأَوْتَرَ بركعة". السِّمَاك: نجم فى السّماء معروف: وهما سماكان: رامح وأَعزل. والرّامح لا نوء له، وهو إِلى جهة الشَّمال. والأَعزل من كواكب الأَنواءِ، وهو إِلى جهة الجنوب، وهما فى بُرْج الميزان. وطلوع السِّمَاك الأَعزل مع الفجر يكون فى التشرين الأَوّل.
والسِّمَن: ضدّ الهُزَال. وهو سَمِينٌ من سِمَان. وأَسْمَنْتُه وسمَّنته: جعلته سَمِينًا. وأَسمنته: اشتريته سمينًا أَو أَعطيته كذا. واسْتَسْمَنْتُه: وجدته سَمِينًا.
السُّمْنة: دواءُ السِّمَن.(3/261)
بصيرة فى السماء
وهو/ أَعلى كلّ شىء، وكلُّ سماء بالإِضافة إِلى ما دونها فسماءٌ، وبالإِضافة إِلى ما فوقها فأَرض، إِلاَّ السّماء العُلْيا، فإِنَّها سماءٌ بلا أَرض. وحُمل على هذا قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} وسُمّى المَطَر سماء لخروجه منها. وقيل: إِنَّما سمّى سماءً ما لم يقع بالأَرض اعتبارًا بما تقدّم. وسُمّى النَّبَات سماءً إِمّا لكونه من المطر الَّذِى هو سماءِ، وإِمّا لارتفاعه عن الأَرض.
والسّماءُ المقابلة للأَرض مؤنث، وقد يذكَّر. ويستعمل للواحد والجمع كقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ} . وقد يقال فى جمعها: سماوات. وقال: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} ، وقال: {إِذَا السمآء انشقت} ، ووجه ذلك أَنَّه كالنَّخل والشَّجر وما يجرى مجراهما من أَسماءِ الأَجناس الَّتى تذكّر وتؤنَّث وبخبر عنه بلفظ الواحد والجمع. والسّماء الَّذِى هو المطر مذكّر، ويجمع على أَسْمِيَة وسُمِىَ. وفى الحديث: "صلَّى بنا فى(3/262)
إِثْر سماءِ من الليل أَى مطر". ويقال: ما زلنا نطأُ السّماءَ حتى أَتيناكم، أَى المطر. قال:
فإِنّ سماءَنا لمّا تجلّت ... خلالَ نجومها حتى الصباحِ
رياض بَنَفْسَجٍ خَضِلٍ نَداه ... تفتَّح بينها نَوْر الأَقاحى
وقال:
أَردّد عينى فى النجوم كأَنَّها ... دنانير لكنَّ السّماءَ زبرجد
وخِلْتُ بها والصّبح ما حان وردُه ... قناديل والخضراء صرْح ممرّد
وهو من مسمَّى قومِه: خيارهم. وتسامَوا على الخيل، ركبوا. وأَسميته من بلد: أَشخصته. وهم يَسْمُون على المائةِ: يزيدون. ما سمَوت لكم: لم أَنهض لقتالكم.
وقد ورد السّماء فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى سقْف البيت: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء} : إِلى السّقف.
الثَّانى: بمعنى السّحاب: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} أَى من السّحاب.
الثالث: بمعنى المطر: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} أَى المطر.(3/263)
الرابع: بمعنى سماءِ الجَنَّة وأَرضها: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} ، وفى الحديث: "أَرض الجنة من ذهب وسماؤها عرش الرّحمن".
الخامس: بمعنى سماءِ جهنَّم: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} إِلى قوله {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} .
السادس: بمعنى المقابل للأَرض: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ} ، {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ} ، {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ، {فَاطِرِ السماوات} ، ونظائرها كثيرة.
والسَّماوة: الشَّخص العالى. وسَما لى شخصٌ؛ وسما الفحل على الشُّوَّل سماوة لتجلّلها.
والاسم: ما يعرف به ذات الأَصل. وأَصله سُِمْوٌ بدليل قولهم: أَسماءٌ وسُمِىّ. وأَصله من السّمُوّ، وهو الَّذِى به رَفْع ذكر المسمّى فيُعرف به.(3/264)
وقوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} أَى الأَلفاظ والمعانى، مفرداتِها ومركّباتها. وبيان أَنَّ الاسم يستعمل على ضربين:
أَحدهما: بحسب الوضع الاصطلاحىّ، وذلك هو فى المخبَر عنه، نحو: رجل، وفرس.
والثانى: بحسب الوضع الأَوّلىّ، ويقال ذلك للأَنواع الثلاثة: المخبَر عنه، والمخبَر به، والرّابط بينهما المسمّى بالحرف، وهذا هو المراد بالآية؛ لأَنَّ آدم عليه السّلام كما عُلِّم الاسم عُلّم الفعل والحرف. ولا يعرف الإِنسان الاسم فيكون عارفًا مسمّاه إِذا عُرض عليه المسمّى إِلاَّ إِذا عَرَف ذاته، أَلا ترى أَنَّا لو علمنا أَسامى أَشياء بالهنديّة أَو الرّوميّة لم نعرف صورة ما له تلك الأَسماءُ المجرّدة، بل كنَّا عارفين بأَصواتٍ مجرَّدة. / فثبت أَنَّ معرفة الأَسماء لا تحصل إِلاَّ بمعرفة المسمّى، وحصول صورته فى الضمير. فإِذًا المراد بقوله: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} الأَنواع الثلاثة من الكلام وصورة المسّميات فى ذواتها.
وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} معناه: أَن الأَسماءَ التى تذكرونها ليس لها مسمّيات، وإِنَّما هى أَسماء على غير مسمَّى، إِذ كان حقيقة ما يعتقدون فى الأَسماءِ بحسب تلك الأَسماء غير موجود فيها.(3/265)
وقولُه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} ، فليس المراد أَن يذكروا أَساميها نحو الَّلات والعزَّى، وإِنما أَظْهِروا تحقيق ما تدْعونه آلهة، وأَنه هل يوجد معانى تلك الأَسماء فيها. ولهذا قال بعد: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} .
وقولُه: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} أَى البركة والنعمة الفائضة فى صفاته إِذا اعتبرت، وذلك نحو الكريم، العليم، البارىء، الرحمان، الرحيم.
وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أَى نظيرًا له يستحقّ اسمَه، وموصوفاً يستحقّ صفته، على التحقيق. وليس المعنى: هل تجد من يتسمّى باسمه؛ إِذ كان كثير من أَسمائه قد يُطلق على غيره، لكن ليس معناه إِذا استعمل فيه كان معناه إِذا استعمل فى غيره. والله أَعلم.(3/266)
بصيرة فى السنن
قد تكرّر فى التنزيل وفى الحديث ذكرُ السُنَّة وما يتصرّف منها. والأَصل فيها الطريقة والسيرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسَنَة" أَى طَرَّق طريقة حَسَنة. وإِذا أُطلقت فى الشرع فإِنما يراد بها ما أَمر النبى صلى الله عليه وسلّم به أَو نهى عنه أَو نَدَبَ إِليه، قولا وفعلا، ممّا لم ينطق به الكلامُ العزيز. ولهذا يقال: أَدلَّة الشرع الكتاب والسنَّة، أَى القرآن والحديث. وفلان متسنِّن، أَى عامل بالسنَّة.
وسُنَّة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: طريقته التى كان يتحرّاها. وسنَّة الله قد يقال لطريقة حكمته، وطريق طاعته. وقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} ، تنبيه أَنَّ فروع الشرائع وإِن اختلفت صُوَرها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدّل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إِلى ثواب الله تعالى ومرضاته وجِواره.
وفى الحديث: "إِنَّما أُنَسَّى لأَِسُنّ"، أَى إِنَّما أُدفع إِلى النسيان لأَسوق النَّاس بالهداية إِلى الطَّريق المستقيم، وأُبيّن لهم ما يحتاجون إِليه أَن يفعلوا(3/267)
إِذا عَرَضَ لهم النسيان. ويجوز أَن يكون من سنَنْت الإِبلَ إِذا أَحسنتَ رِعْيتها والقيامَ عليها. وفى حديث المجوس: "سُنّوا بهم سُنَّة أَهل الكتاب" أَى خذوهم على طريقتهم، وأَجروهم فى قبول الجزية مُجراهم.
واستنَّ الفرسُ، وهو عَدْوه إِقبالا وإِدبارًا فى نشاطٍ وزَعَل.
وسَنّ الماءَ على وجهه: صبّه صبًّا سهلا. وسنّ الحدِيدة: حدّدها. وسِنَانٌ مسنونٌ وسَنِينٌ. وسَنَّ سِكِّينَه بالمِسَنّ [والسِّنان] قال:
وزُرْقٍ كسَتهنّ الأَسِنَّةُ هَبْوةً ... أَرَقُّ من الماءِ الزُلاَل كليلُها
وأَسْنَنْت الرمحَ: جعلت له سِناناً.
وقوله تعالى: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قيل: متغيّر/. ومسنون الوجه: مخروطه. و {لَمْ يَتَسَنَّهْ} : لم يتغيّر، والهاء للاستراحة.
والسِّنّ معروف، وجمعه: أَسنانٌ. وسانّ البعيرُ النَّاقة: عارضها حتى أَبركها.
والسَّنّ أَيضاً الرَّعْى. وفى الحديث: "أَعطوا السِنّ - أَى أعطُوا ذوات السنّ - حَظَّها من السَنّ" وهو الرّعى.(3/268)
بصيرة فى سنم وسنا وسنه وسهر وسهل وسهم وسهو
التَّسْنيم: عين فى الجنّة، قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} ، وفسّر بقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} .
والسَّنا: الضوء السّاطع. والسَّناء - بالمد -: الرِّفعة. والسانِيَة: الَّتى يُستقَى بها، وهى الغَرْب مع أَداته، والبعير الَّذِى يُسْنَى عليه: سانية أيضًا. وسَنَوْت الماءَ سِنَاية.
والسَّنَةُ [فى] أَصلها طريقان: أَحدهما: أَنَّ أَصلها سَنَهة لقولهم: سانَهْتُه مسانهة، أَى عاملته سنة فسنة، [قيل: ومنه {لَمْ يَتَسَنَّهْ} أَى لم يتغيّر بمرّ السنين عليه ولم تذهب طراوته] ، وقيل: أَصله من الواو لقولهم فى الجمع: سَنَوات. ومنه سانيت والهاءُ للوقف.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين} عبارة عن الجَذْب. وأَكثر ما يستعمل السَّنة فى الحول الَّذى فيه الجدْب. وأَسنتوا: أَصابتهم السَّنة.
والسِّنة يذكر فى محله من وَسن.(3/269)
والسّاهِرَة: وجه الأَرض. وقيل: أَرض بيتِ المقدس. وقيل: أَرض القيامة. وحقيقتها: الَّتى يَكثر الوطءُ بها؛ كأَنَّها سَهرَت من ذلك.
والسَّهل: ضِدّ الحَزْن. وأَسْهَلَ: دخله.
والسّهم: ما يُرْمَى به، وما يُضرب من القِداح، قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} . واسْتَهَمُوا: اقترعوا.
وبُرْدٌ مُسَهَّم: مخطَّط بصورة السِّهَام.
والسّهو: خطأ عن غفلة. وهو ضربان:
أَحدهما: أَلاَّ يكون من الإِنسان جوالبُه ومولِّداته؛ كمجنونٍ سَبّ إِنسانًَا.
والثَّانى: أَن يكون منه مولِّداته؛ كمن شرب خمرًا ثم ظهر منه منكَر، لا عن قصد إِلى فعله. والأَوّل معفوّ عنه، والثَّانى مأْخوذ به. وعلى نحو الثانى ذمّ [الله] تعالى [فقال] : {فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} ، وقال: {هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} .
وهو يُساهى أَصحابَه: يخالِفُهم ويُحْسن عشرتهم.
وبَغْلَةٌ سَهْوة: سهلة السَّير.(3/270)
بصيرة فى سيب وسيح وسير وسود وسور
السّائبة: الَّتى تُسيِّب فى المَرْعَى، فلا تُرَدّ عن حَوْضٍ ولا عَلَف، وذلك إِذا وَلَدَت خمسة أَبطن. وانسابت الحَيّة انسيابًا. والسَّائِبة أَيضًا: العبد يَعْتِق، ولا يكون وَلاؤه لمُعتِقه، ويضع مالَه حيث شاءَ، وهو الَّذى ورد النهى عنه.
وساب الماءُ يَسِيب سَيْبًا: جرى. وهذا سَيْبه: مَجراه، أَصله من سيَّبته فساب. وساب فى منطقه: أَفاض فيه بغير رَوِيَّةٍ. وفاض سَيْبُه على النَّاس: عطاؤه.
والسّاحة: المكان المتَّسع: والسّائح: الماءُ الدّائم الجَرْى، وساح سَيْحًا. وساح الرّجلُ سِيَاحة، ورجل سائح وسَيَّاح، قال تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض} . وشُبّه الصّائم به فقيل له: سائِح. قال أَبو طالب:
وبالسائحين لا يَذُوقون قَطْرَةً ... لربِّهمُ والراتِكاتِ/ العواملِ
وقوله: و {السائحون} ، أَى الصائمون، وقوله: {سَائِحَاتٍ} ، أَى صائمات.(3/271)
وقال بعضهم: الصّوم ضربان: حقيقىٌّ وهو ترك المَطْعَم والمنكح؛ وصوم حكمىّ. وهو حفظ الجوارح من المعاصى، كالسمع والبصر واللسان. والسّائِح: الَّذى يصوم هذا الصّومَ دون الأَوّل. وقيل: السّائحون: هم الَّذين يتحَرّون ما اقتضاه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} .
والسَّواد: ضدّ البياض. وقد اسودّ واسوادّ، قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} . وابيضاض الوجوه عبارة عن المسرّة، واسودادُها عن المساءَة. وحَمَل بعضهم كليهما على المحسوس، والأَوّل أَوْلَى؛ لأَن ذلك حالهم سودًا كانوا أَو بيضاً، (وعلى ذلك) قوله تعالى فى البياض: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} ، وفى السّواد: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} ، وعلى هذا النحو: "أُمّتى الغُرّ المحجَّلون من آثار الوضوءِ يوم القيامة".
ويعبّر بالسّواد عن الشخص المترائى من بُعْد، وعن الجماع الكثيرة. [والسيّد: المتولىِّ للسواد، أَى الجماعة الكثيرة] ، وينسب إِلى ذلك(3/272)
فيقال: سيّد القوم، ولا يقال: سيّد النبات، وسيّد الخيل. وساد القومَ يَسُودهم. ولمّا كان من شرط المتوَلِّى للجماعة أَن يكون مهذَّب النَّفْس قيل لكل من كان فاضلا فى نفسه: سيّد، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} . وسُمّى الزَّوج سيّدًا لسياسة زوجته. وقوله تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا} ، أَى وُلاتنا وسائسينا.
والسَّوْر: الوثوب، سار عليه: وثب. وساوره. وله سَوْرة فى الحرب، و [هو] ذو سَوْرة فيها. وتسوّرت إِليه الحائط. وسُرْته إِليه، قال:
سُرْتُ إِليه فى أَعالى السُور
وجلسوا على المساور، أَى الوسائد. وهو سَوَّار فى الشَّراب: مُعَربدِ. وله، سُوْرة فى المجد: رِفعة. وله سُوْرة عليك: فَضْلٌ ومنزلة. قال:
فما من فتًى إِلا له فضل سُوْرةٍ ... عليك وإِلا أَنت فى اللؤم غالبهُ
وعنده سُورٌ من الإِبل: كِرام فاضلة. ومَلِكٌ مُسَوَّر: مملَّك، قال:
وإِنِّىَ من قيسٍ وقيسٌ هم الذُرَا ... إِذا ركبت فُرْسانُها فى السّنَوَّرِ
جيوش أَمير المؤمنين التى بها ... يُقوَّم رأْسُ المَرْزُبان المسوَّرِ(3/273)
وهو إَِسوارٌ من الأَساورة، أَى رَامٍ حاذق، وأَصله أَساوِرة الْفُرْس: قُوّادها، وكانوا رُمَاة الحَدَق، وقيل: فارسىّ معرّب.
وسِوار المرأَة أَصله دِسْتِواره، وكيفما كان فقد استعملته العرب. واشتقّ منه سوَّرت الجاريَةَ. وجارية مُسوَّرة ومُخَلْخَلَة.
وسُور المدينة: حائطها المشتمل عليه، قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} . وسُورة القرآن تشبيهًا به، لكونها محيطة بآيات وأَحكام إِحاطة السّور بالمدينة قال:
ولو نَزَلَتْ بعد النبيِّين سُورةٌ ... إِذًا نزلت فى مدحكم سُوَرات
ومن قال: سؤرة بالهمز فمِن أَسأَرت الشراب، أَى أَبقيت منها بقِيَّة، كأَنَّها قطعة مفردة من جملة القرآن.
وقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ، أَى جملة من الحُكْم والحِكَم.(3/274)
بصيرة فى سوط وسوع
ضَرَبَهُ سَوْطًا وأَسواطًا. وسُطْت الدّابّة / وسِيطَت تُساط، [قال] :
فصَوَّبْتُه كأَنّه صَوْبُ غَبْيةٍ ... على الأَمعز الضاحى إِذا سِيطَ أَحْضَرا
قوله: وساط الهَرِيسةَ بالمِسْوَط والمِسواط وسوَّطها. فالسّوط أَصله الخَلْط لكونه مخلوطاً بِطاقات بعضُها من بعض.
وقوله تعالى: {سَوْطَ عَذَابٍ} تشبيهًا بما يكون فى الدّنيا من العذاب بالسّوط، أَو إِشارةً إِلى ما خُلِط لهم من العذاب المشار إِليه بقوله: {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} .(3/275)
السّاعة جزءٌ من أَجزاءِ الزَّمان والأَيّام. وناقةٌ مِسْياع - كمصباح _: تدع ولدها حتى تأْكله السّباع. وساعةٌ سَوْعاءُ، كليلة ليلاء. وعاملتُه مُساوَعة. وضائعٌ سائع إِتباع.
ويعبّر بالسّاعة عن القيامة تشبيهًا بذلك لسرعة حسابه، كما قال: {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} . أَو لما نبّه عليه بقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} ، فالأَولَى: القيامة، والثانية: الوقت اليسير، وقيل: السّاعات التى هى القيامة ثلاث ساعات: الكبرى وهى البَعْث للحساب، ومنه الحديث: "لا تقوم السّاعة حتى يظهر الفحش، وحتى يُعبد الدّرهم والدينار"، وذكر أُمورا لم تحدث فى زمانه ولا بعده. والسّاعة الوُسْطَى، وهى موت أَهل القَرْن الواحد، وذلك نحو ما رُوِىَ أَنَّه رأَى صلَّى الله عليه وسلَّم عبد الله بن أُنَيْسٍ فقال: "إِنْ يَطُلْ عمرُ هذا الغلام لم يمت حتى تقوم السّاعة"، فقيل إِنَّه كان آخر من مات من الصّحابة، رضى الله عنهم. والسّاعة الصّغرى، وهى موت الإِنسان، فساعةُ كلّ إِنسان موته، وهى المشار إِليها بقوله: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا}(3/276)
ومعلوم أَنَّ هذه الحسرة تنال الإِنسان عند موته، كقوله: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} إِلى قوله: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} . وروى: [أَنه] كان إِذا هبّت ريحٌ شديدة تغيّر لَوْنُهُ صلَّى الله عليه وسلَّم وقال تخوّفت السّاعة. وقال: "ما أمُدّ طَرْفى ولا أغضُّها إِلاَّ وأَظنّ السّاعة قد قامت" يعنى موته صلَّى الله عليه وسلم.(3/277)
بصيرة فى ساغ وسوف وسوق
ساغ الشَّرابُ يَسُوغُ سَوْغًا وسَوَاغًا: سَهُل مَدْخلُه فى الحَلْق، قال تعالى: {سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} . قال:
فساغَ لِىَ الشرابُ وكنت قَبْلاً ... أَكاد أَغَصُّ بالماءِ الحميمِ
الحميم: الماءُ البارد. ويقال أَيضًا: سُغْته أَسُوغه، وسِغْته أَسِيغة، يتعدّى ولا يتعدّى. والسِّواغ بالكسر: ما أَسَغْتَ به غُصّتك، قال الكُمَيْت:
وكانت سِوَاغًا إِن جَئزْتُ بغُصَّةٍ ... يضيق بها ذرعًا سِواهم طبيبها
يَقول: إِن كنت غصِصتُ بشىء أَو همَّنى شىء كانوا هم الَّذين يدفعونه فقد أُتيتُ من قِبَلهم. وأَسِغْ لى غُصّتى، أَى أَمهلنى ولا تُعجلنى. قال: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} . وسوَّغت له كذا: أَعطيته إِيّاه.
وسوف: كلمة تنفيس فيما لم يكن بعد؛ أَلا ترى أَنَّك تقول: سوّفته إِذا قلت له: مرّة بعد مرّة: سوف أَفعل. ولا يُفصل بينها وبين الفعل؛ لأَنَّها(3/278)
بمنزلة السّين من سيفعل. وسَفْ أَفعل، وسَوْ أَفعل لغتان فى سوف أَفعل.
وقال ابن دريد: سوف كلمة تستعمل فى التَّهويل، والوعيد، والوعد. فإِذا شئت أَن تجعلها اسما أَدخلتها التنوين، وأَنشد:
إِنّ سَوْفًا وإِنّ لَيْتًا عناءُ
ويروى/:
إِنّ لوَّا وإِن ليتًا عناءُ
فنوّن إِذ جعلهما اسمين. انتهى. والشِّعر لحَرْملة بن المنذر الطَّائىّ، وسياقه:
ليت شعرى وأَين مِنِّىَ ليتٌ ... إِنّ لَيْتًا وإِنَّ لوًّا عناء
وليس فى روايةٍ إِن سَوْفاً.
وقيل لأَبى الدُّقَيش: هل لك فى الرُّطَب؟ قال: أَسْرَعُ هَلٍّ، فجعله اسما ونوّنه.
وساق النَعَمَ سَوْقًا فانساقت. وأَساقه إِبلاً: أَعطاها إِيّاه، قال الكُمَيْت:
ومُقِلّ أَسَقْتموهُ فأَثْرَى ... مائةً من عطائكم جُرْجورا
وهو من السُّوقة والسُّوَق، وهم غير الملوك.(3/279)
وسُقْت مَهْرَ المرأَة إِليها. وذلك أَنَّ مهرهم كانت الإِبل.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ المساق} ، نحو قوله: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} . {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} ، أَى مَلَك يسوقه وآخر يشهد له أَو عليه، وقيل: هو كقوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} .
{والتفت الساق بالساق} ، قيل: عنى التفاف السّاقين عند الموت وخروج الرّوح، وقيل: التفافهما عندما يُلفَّان فى الكَفَن، وقيل: هو أَن يموت فلا يحملانه، بعد أَن كانتا تَقِلاَّنه، وقيل: أَراد التفاف البليّة بالبليّة.
[وقال بعضهم فى] : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} : إِنه إشارة إِلى شدّة. وهو أَن يموت الولد فى بطن النَّاقة فيُدخل المذمِّر يده فى رَحِمها فيأْخذ بساقه فيخرجه يَتَنًا، فهذا هو الكشف عن الساق، فجُعل لكلّ أَمر فظيع.(3/280)
وقوله تعالى: {فاستوى على سُوقِهِ} ، قيل: هو جمع ساق، نحو لابة ولُوب، وقارة وقُور. ورجل أَسْوَقُ، وامرأَة سَوْقاء: بيِّن السَّوَق: عظيم السّاق. والسُوق م والجمع: أَسواقٌ.
والوَسِيقة والسَّيِّقة: الطريدة الَّتى يطرُدها من إِبل الحىّ. قال:
وما النَّاس إِلاَّ مثلُ سَيِّقة العِدا ... إِن استقدمَت نَحْرٌ وإِن جَبأْت عَقْر
جَبأَت: خَنَست، وجَبأَت: توارت، وجَبأَت عينى عنه: نَبَت. والمرءُ سيِّقة القَدَر: يسوقه إِلى ما قُدّر له. قال:
وما النَّاس فى شىء من الدّهر والمُنَى ... وما الناس إِلاَّ سَيِّقات المقادرِ(3/281)
بصيرة فى سول وسيل وسوم
السُّول: الحاجة الَّتى تحرص عليها النَّفس، قال تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} .
والتَّسويل: تزيين النَّفْس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحَسَن، {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} . وقيل: السُّول فى معنى الأُمنيّة، غير أَنَّ الأُمنيّة فيما قُدّرَ، والسول فيما طُلِب.
وسال الشىء يَسِيلُ: جَرَى. وأَساله: أَجراه، قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} : أَذبناه له. والإِسالة فى الحقيقة حالة فى القِطْر تحصل بعد الإِذابة.
والسَّيْل: أَصله مصدر، وجُعل اسما للماءِ الذى يأْتيك ولم يُصبك مَطره.
والسَّوْم: أَصله الذهابُ فى ابتغاءِ الشىء، فهو لمعنى مركّب من الذهاب والابتغاءِ للشىء، فأُجرِى مُجرى الذهاب فى قولهم: سامت الإِبلُ فهى سائِمة، ومُجرى الابتغاء فى قولهم: سُمْته كذا، قال الله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} . وقيل: سِيم الخسفَ فهو يُسام الخسْفَ. ومنه السّوم فى(3/282)
البيع، فقيل: صاحب السِّلعة أَحقّ بالسَّوم. وقيل: سُمْت الإِبلَ فى المَرْعى، وأَسَمْتها وسوّمتها. قال تعالى: / {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} .
والسِّيمَى والسيماءُ والسّيمِياءُ: العلامة، وقد سوّمته أَى أَعلمته. وقوله تعالى: {مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} بكسر الواو أَى مُعْلِمين لأَنفسهم أَو لخيولهم، أَو مرسِلين [لها] ، لما فى الحديث: "تَسوَّموا فإِنَّ الملائكة قد تسوّمت".(3/283)
بصيرة فى سام وسين وسوى
السآمة: المَلالَةُ ممّا يطول لُبثه، فِعْلا كان أَو انفعالا، قال تعالى: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} .
{مِن طُورِ سَيْنَآءَ} قرىء بفتح السّين وكسرها. والأَلف في (سَيْنَاءَ) بالفتح ليس إِلاَّ للتأْنيث، لأَنَّه ليس فى كلامهم فَعلال. وفى (سِيْنَاءَ) بالكسر يصحّ [أَن تكون] الأَلف فيه كالأَلف فى عِلباءَ وحِرْباء، [وأَن تكون الأَلف للإِلحاق بسِرواحٍ] . وقيل طور سينين.
والمساواة: المعادلة. واستوَى الشيئان، وتساويا، وساوَى أَحدهما صاحبه. وساوَى بين الشيئين، وسوَّى بينهما، وساويت هذا بهذا وسوّيته به. قال الرّاعى:
بجُرْدٍ عليهنّ الأجلَّةُ سُوِّت ... بضيف الشتاءِ والبنينَ الأَصاغرِ(3/284)
أَى يصونها صيانة الضيوف والأَطفال. وسوَّيتُ المعوجّ فاستوَى.
واستوى يقال على وجهين:
أَحدهما: يُسند إِلى فاعلَين فصاعدًا، نحو استوَى زيدٌ وعمرو فى كذا، أَى تساويا.
والثَّانى: أَن يقال لاعتدال الشىء فى ذاته، نحو قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فاستوى} .
ومتى عُدِّى بعلى اقتضى معنى الاستيلاءِ نحو: {الرحمان عَلَى العرش استوى} ، وقيل: استوى له ما فى السّماوات وما فى الأَرض بتسويته تعالى إِيّاه، كقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ} . وقيل معناه: استوى كلّ شىء فى النسبة إِليه، فلا شىء أَقرب إِليه من شىء؛ إِذْ كان تعالى ليس كالأَجسام الحالَّة فى مكان دون مكان. وإِذا عدّى بإِلى اقتضى معنى الانتهاء إِليه، إِمّا بالذَّات، وإِمّا فى الرّفعة، أَو فى الصّفة.
وقوله: {خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} ، أَى جعل خَلْقَك على ما اقتضت الحكمةُ. وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} إِشارة إِلى القُوَى التى جعلها مقوّية للنفْسِ فنَسب الفعل إِليه، ولا شك أَنَّ الفعل كما يصحّ أَن ينسب إِلى الفاعل يصحّ أَن ينسب إِلى الآلة وسائر ما تفتقر إِليه؛ نحو سيف قاطع.(3/285)
وهذا الوجه أَولَى من قول من قال: أَراد {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} يعنى الله تعالى، فإِنَّ (ما) لا يعبَّر به عن الله تعالى؛ إِذ هو موضوع للجنس ولم يَرِدْ به سَمْع يصحّ.
وقوله: {الذي خَلَقَ فسوى} فالفعل منسوب إِلى الله تعالى. وقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} ، فتسويتها تتضمّن بناءها وتزيينها المذكور فى قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا} .
والسّوىّ يقال فيما يُصان عن الإِفراط والتَّفريط، من حيث العددُ والكيفيّة. ورجل سوِىٌّ: استوى أَخلاقُه وخَلِيقته عن الإِفراط والتفريط. وقوله: {قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، قيل: يجعل كفّه كخُف الجَمَل لا أَصابع له، وقيل: بل يجعل أَصابعه كلها على قَدْر واحد، حتى لا ينتفع بها، وذلك أَنَّ الحكمة فى كون الأَصابع متفاوتة فى القَدْر والهيئة ظاهرة؛ إِذْ كان تعاونها على القبض أَن تكون كذلك.
وقوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} أَى سوّى بلادهم بالأَرض، نحو: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} . وقيل: سوّى بلادهم بهم، نحو قوله: {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} ، وذلك إِشارة إِلى ما قال عن الكفار: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} .(3/286)
ومكان سُوًى وسَوَاءُ: وَسَط. وقيل: سواءٌ، وسِوًى، وسُوًى، أَى يستوى طرفاه. ويستعمل ذلك وصفًا وظرفًا، وأَصل ذلك مصدر.
وقوله: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} ، أَى عَدْلٍ من الحُكْم. وقوله: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} أَى يستوى الأَمران فى أَنهما لا يُغنيان.
وقد يستعمل سِوًى وسواءٌ بمعنى غير، قال:
فلم يَبقَ منها سِوَى هامدٍ
وقال:
وما قَصَدتْ من أَهلها لِسَوائكا
وعندى رجلٌ سِواكَ، أَى مكانك وبدَلُك.
والسِّىّ: المُساوِى، مثل عِدْل ومُعادل، تقول: سِيّانٍ زيدٌ وعمرو. وأَسْواءٌ: جمع سِىّ، مثل نِقْض وأَنقاض، يقال قوم أَسواءٌ، أَى مستوون. والمساواة متعارَفة فى المُثْمَنَات، يقال: هذا الثَّوب يساوى كذا، وأَصله من ساواه فى القَدْر.(3/287)
بصيرة فى السوء
وهو كلّ ما يَغُمّ الإِنسان من أُمور الدّارَين، ومن الأَحوال النفسيّة والبَدَنيّة والخارجة: من فوات مال، وفَقْد حميم.
وقوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} أَى غير آفة بها. وفُسّر بالبَرَص، وذلك بعض الآفات التى تعرض لليد.
وعُبّر بالسُوءَى عن كلّ ما يَقْبُحُ، ولذلك قوبل بالحسنى، قال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى} ، أَى عاقبة الَّذين أَشركوا النَّار، كما قال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} .
والسّيّئة: الفِعلة القبيحة، وهى ضِدّ الحَسَنة، وأَصلها سَيْوئة، فقلبت الواو ياءً ثمّ أُدغمت فقيل سيّىء. وأَفعالٌ سَيّئة. وفلان يُحبط الحسنى بالسُوءَى، وقد ساءَ عمله.
والحَسَنَة والسّيّئة ضربان:
أَحدهما بحسب اعتبار العقل والشَّرع، نحو المذكر فى قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} .(3/288)
والثانى: بحسب اعتبار الطبع، وذلك ما يستخفه الطبع وما يستثقله، نحو قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هاذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} ، وقوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة} أَى مكان الجَذْب والسَنَة الخِصْبَ والحَيَا. {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} ، أَى يطلبون العذاب. وقولُه: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} قرأَ ابن كثير وأَبوا عمرو بالضّمّ، يعنى الهزيمة والشرّ. وقرأَ الباقون بالفتح، وهو من المَسَاءَة، أَى ما يسوءهم فى العاقبة.
وقوله: {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ} ، فساءَ ههنا تجرى مَجْرَى بئْسَ. وقوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} ، نُسِبَ ذلك إِلى الوجه من حيث إِنَّه يبدو فى الوجه أَثَرُ السّرور والغَمّ. وقوله: {سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} : حَلّ بهم ما يسوءُهم.
وكُنى عن الفرْج وعن العورة بالسّوءة، قال: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} ، وقال: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} .
واستاءَ من السّوءِ افتعل منه؛ كما تقول من الغم: اغْتَمّ. وفى حديث النبىّ صلَّى الله عليه وسلم أَن رجلا قصّ عليه رُؤيا فاستاءَ لها، ثمَّ قال: "خلافة نبوّة، ثمّ يؤتِى الله المُلْك من يشاءُ".(3/289)
الباب الرابع عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الشين(3/290)
بصيرة فى الشين
وترِد على وجوه:
الأَوّل: من حروف الهجاءِ، شَجْرىّ من مَفتح الفم جِوار مخرج الجيم، يذكّر ويؤنّث. شيَّنت شِينًا حَسَنة وحسنًا. وجمعها: أَشيان وشِيَنٌ، وشِينات.
الثَّانى: الشين فى حساب الجُمْل: اسم لعدد الثلاثمائة.
الثالث: الشين الكافية: يختصرون من الشهادة والشراب على الشِّين، كما قال:
سَعِدْتَ شهِدتَ يا مرعى المساعى ... فيا لله من سِينٍ وشِينِ
أَى من سعادة وشهادة.
الرّابع: الشين المكرّرة، نحو: عش، وعشش.
الخامس: الشين المدغمة، نحو: طشّ، ورشّ.
السّادس: شين العجز والضَّرورة؛ كما فى أَهل الهند وبعض الأَطفال يجعلون السّين شينًا، والشين سينًا.(3/291)
السّابع: فعلٌ مجهول من الشَّيْن، تقول: شِينّ زيدٌ.
الثامن: الشِّين الأَصلىّ، نحو شِينِ: شعر، وعشر، وعرش.
التَّاسع: الشين المبدلة من كاف خطاب المؤنث، نحو، بشِ وعَلَيْش، قال:
فعَيناشِ عيناها وجيدُشِ جِيدها ... ولكنّ عظْمَ السّاق مِنْشِ دقيقُ
العاشر: الشين اللغوىّ. قال الخليل: الشِّين: الرّجل الشبِق الكثير الوِقَاع، وأَنشد:
إِذا ما العلب ماهَ بحاجِبَيه ... فأَنت الشِّينُ تفخَر بالوِقاع(3/292)
بصيرة فى شبه
الشَّبَه، والشِّبْه، والشَّبيه، حقيقتها فى المماثلة من جهة الكيفيّة؛ كاللون والطَّعم، وكالعادلة والظلم. والأَصل فيه هو أَلاَّ يميّز أَحد الشيئين عن الآخر؛ لما بينهما من التشابه، عينًا كان أَو معنى. وقوله تعالى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} أَى يُشبه بعضُه بعضًا، لونًا وطعمًا وحقيقة، وقيل: متماثلاً فى الكمال والجودة. وقوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} معناهما متقاربان. قال تعالى: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أَى تتشابه. ومن قرأَ (تَشابَهَ على لفظ الماضى) جعل لفظه مذكّرا، و {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أَى فى الغَىّ والجهالة.
وقوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، المتشابه من القرآن: ما أَشكل تفسيره؛ لمشابهته غيره: إِمّا من حيث اللفظ، أَومن حيث المعنى. وقال الفقهاءُ: المتشابه: ما لا ينبىء ظاهره عن مراده. وحقيقة ذلك أَنَّ الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أَضرب: محكَم على الإِطلاق، ومتشابه على الإِطلاق، ومحكَم من وجه، ومتشابه من وجه. فالمتشابهات فى الجملة ثلاثة أَضرب:(3/293)
متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.
فالمتشابه من اللَّفظ ضربان: أَحدهما يرجع إِلى الأَلفاظ المفردة، وذلك إِمّا من جهة غرابته؛ نحو: {وَأَبّاً} و {يَزِفُّونَ} ، وإِمّا من مشاركة فى اللَّفظ؛ كاليد والعين.
والثَّانى يرجع إِلى جملة الكلام المركّب؛ وذلك ثلاثة أَضرب:
ضرب لاختصار الكلام؛ نحو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} .
وضرب لبسط الكلام، نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، لأَنَّه لو قيل: ليس مثلَه شىء كان أَظهر للسّامع.
وضرب لنظم الكلام، نحو: {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً} ، تقديره: الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عِوَجاً.
والمتشابه من جهة المعنى أَوصاف الله عزَّ وجلّ، وأَوصافُ القيامة. فإِنَّ تلك الصّفات لا تتصوّر لنا، إِذْ كان لا يحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحسّه، أَو لم يكن من جنس ما نُحسّه.(3/294)
والمتشابه من جهة اللَّفظ والمعنى خمسة أَضرب:
الأَوّل: من جهة الكَمِّيّة؛ كالعموم والخصوص، نحو: {فاقتلوا المشركين} .
والثَّانى: من جهة الكَيْفِيّة، كالوجوب والندب، نحو قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} .
والثالث: من جهة الزَّمان، كالنَّاسخ والمنسوخ، نحو قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} .
والرَّابع: من جهة المكان والأُمور التى نزلت فيها، نحو قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} ، وقوله: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} ، فإِنَّ من لا يعرف عادتهم فى الجاهلية يتعذَّر عليه معرفة تفسير هذه الآية.
الخامس: من جهة الشروط التى بها يصحّ الفعل أَو يَفْسد؛ كشروط الصّلاة والنكاح.(3/295)
وهذه الجملة إِذا تُصوّرت عُلم أَن كلّ ما ذكره المفسّرون لا يخرج عن هذه التَّقاسيم، نحو من قال: المتشابه آلم، وقول قتادة: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ، وقول الأَصمّ: [المحكم حجة ظاهرة. وقول غيرهم:] لمحكم ما أُجمع على تأْويله، والمتشابه ما اختُلِف فيه.
ثمّ جميع المتشابهات على ثلاثة أَضرب:
ضرب لا سبيل إِلى الوقوف عليه؛ كوقت السّاعة، وخروج دابّة الأَرض، وكيفيّة الدّابّة، ونحو ذلك.
وضربٌ للإِنسان سبيل إِلى معرفته، كالأَلفاظ الغريبة والأَحكام المغلقة.
وضربٌ متردّد بين الأَمرين، نحو أَن يختصّ بمعرفة حقيقته بعض الرّاسخين فى العلم، ويخفى على [مَن] دونهم، وهو المشار إِليه بقوله صلَّى الله عليه وسلم: "اللهمّ فقِّهه فى الدّين وعلّمه التَّأْويل"، وقوله لابن عبّاس مثل ذلك. فإِذا عرفت هذا الجملة عرفت أَنَّ الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} ووصلَه بقوله: {والراسخون فِي العلم}(3/296)
جائزان، وأَنَّ لكلّ واحد منهما وجهًا، حَسْبما دلّ التَّفصيل المتقدّم.
وقوله: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} يعنى ما يشبه بعضه بعضًا فى الإِحكام والحكمة، واستقامة النَّظْم.
وقولُه: {ولاكن شُبِّهَ لَهُمْ} أَى مُثِّل لهم مَن حِسبوه إِيّاه.
والشَّبَه من الجواهر: ما يُشبه لونُه لون الذَّهب.(3/297)
بصيرة فى الشت والشتاء والشجر
الشَتْ: تفريق الشَّعْب. يقال شتَّ جَمْعَهم شَتًّا وشَتَاتًا. وجاءُوا أَشتاتًا: أَى متفرّقين فى النظام. وقوله تعالى: {مِّن نَّبَاتٍ شتى} أَى مختلفة الأَنواع. وقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} ، أَى هم بخلاف من وصفهم بقوله: {ولاكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} .
شتَّانَ: اسْمُ فعل، يقال: شَتَّانَ ما هما، وشتَّان ما بينهما، إِذا أُخبرتَ عن ارتفاع الالتئام بينهما.
شَتَا وأَشْتَى، وصاف وأَصاف. والمَشْتى والمشتاة للوقت والموضع.
والشَّجَرُ من النَّبت: ما له ساقٌ، يقال: شجرة وشَجَرٌ، كثمرة وثمر. وأَرض شَجْراء، ووادٍ شَجِير: كثير الشَّجَر. وهذا الوادى أَشجر من ذلك.
والشِّجَار والمشاجرة والتشاجر: المنازعة. وشَجَرنى عنه: صرفنى. وشَجَرَه بالرُّمح: طعنه به، وفلان من شجرة مباركة: من أَصل مبارك.
وقوله تعالى: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} ، أَصحّ الأَقوال فيها أَنها النخلة. ومن العرب من يقول: شَجَرة وشِجَرة، فيكسر الشين ويفتح الجيم، وهى(3/298)
لغة بنى سُلَيم. قال تعالى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} وقال: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} ، وقال: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} ، وقال: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} ، وقال: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} ، وقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} .
وشجَرَ [الأَمر] بين القوم شُجُورًا: إِذا اختلف الأَمر بينهم. قال تعالى: {حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، قال الزجّاج: أَى وقع من الاختلاف. وقال الأَزهرى: فيما أَوقع خلافًا بينهم.
والشَجْر: الأَمر المختلِف، ومابين اللَّحيَيْن عند العنفقة، وقيل: مجتمع اللَّحيين. ومنه: تفقَّدْ فى طهارتك المَنْشَلة والمَغْفَلة والرَّوم والفَنِيكَيْن والشاكل والشَجْر. [والشَجْر] أَيضًا: الذقَن. ومنه قول عائشة رضى الله عنها: "تُوِّفىَ رسول الله صلَّى عليه وسلم بين شَجْرى ونَحْرى" هكذا رواه الأَصمعىّ بالجيم والشين.(3/299)
بصيرة فى الشح والشحم والشحن والشخص
شَحّ به: بخِل مع حِرْص، قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولائك هُمُ المفلحون} . والشحّ: ضِدّ الإِيثار؛ فإِنَّ المؤثِر على نفسه تارك لما هو محتاج إِليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإِذا حصل بيده شَحَّ وبَخِل بإِخراجه. فالبخلُ ثمرة الشحّ، والشحّ يأْمر بالبخل؛ كما قال صلَّى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ والشُّحَّ فإِنَّ الشحّ أَهلك مَن كان قبلكم، أَمرهم بالبخل فبخِلوا، وأَمرهم بالقطيعة فقطَعوا". فالبخيل: مَن أَجاب داعِىَ الشُّحَ، والْمُؤثِر من أَجاب داعِىَ الجُود والسّخاءِ والإِحسان. ورجلٌ شحيح؛ وقومٌ أَشِحَّة، قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَى الخير} .
وخطِيب شَحْشَحٌ: بليغ.
والشحم معروف، وجمعه: شُحُوم. وشَحْمَةُ الأُذن: مُعَلَّق القُرْط. وشحمة الأَرض: الكَمْأَة البيضاء، ودُودة بيضاء.
ورجل مُشَحِّم: كثير الشَّحم، وشَحِمٌ: محبّ للشحْم، وشاحم، يُطعم أَصحابه الشحم، وشَحيم. كَثُرَ على بدنه.(3/300)
والشَحْن: المَلْءُ. و {الفلك المشحون} أَى المملوء.
والشَّحْناء عداوة امتلأَت منها النَّفْس.
والشخص: سواد الإِنسان القائمُ المرئىْ من بعيد.
وشَخَصَ من بلده: نَفَذ. وشَخَص سهمُه وبصرُه. وأَشخصه صاحبه.
وقوله تعالى: {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُوا} أَى أَجفانُهم لا تَطْرِف.(3/301)
بصيرة فى الشد والشر
الشَدُّ: العَقْد القوِىّ. شدَدت الشىءَ: قوّيت عَقْده. قال تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق} . والشدّة تستعمل فى العَقْد وفى البَدَن وفى قُوَى النَّفْس، قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} ، يعنى جَبرئيل عليه السّلام.
والشديد والمتشدِّد: البخيل. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} ، فالشَّديد يجوز أَن يكون بمعنى مفعول كأَنَّه شُدّ، كما يقال: غُلّ عن الإِفضال، وإِلى هذا ذهب اليهود، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} . ويجوز أَن يكون بمعنى فاعل كالمتشدّد، كأَنَّه شدّ صُرّته.
وقوله: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} فيه تنبيه أَنَّ الإِنسان إِذا بلغ هذا القَدْر يتقوَّى خُلُقه الذى جُبل عليه فلا يكاد يُزايله بعد ذلك. وما أَحسن ما أَشار إِليه الشاعر:
إِذا المرءُ وفَّى الأَربعين ولم يكن ... له دون ما يهوَى حَيَاءٌ ولا سِترُ
فدعْه ولا تَنْفَس عليه الذى مضَى ... وإِن جَرَّ أَسبابَ الحياة له الدّهرُ(3/302)
وشَدّ فلان واشتدّ: أَسرع. وشادَه: قاواه. "ومَن يشادّ الدينَ يَغْلِبْه".
الشرّ: نقيض الخير. شَرَرت يا رجل، وشرِرْت، شَرًّا وشَرَارة وشَرَرًا وشِرّة. وشَرُرْت شاذٌّ. وفلان شَرّ النَّاس ولا يقال أَشَرّ إِلاَّ فى لغة رديئة. هذا قول بعضهم. وقال شمِر: ما أَخيره وخَيْرَه، وما أَشرّه وشَرَّه، هذا أَخْيَرُ منه وأَشرّ منه. وقال بُزُرْجَ: هم الأَخْيَرون والأَشَرّون، وهو أَخْيَرُ منك وأَشرّ منك. ومنه قول امرأَة من العرب: أُعيذكَ بالله من نَفْس حَرّى، وعين شُرَّى، أَى خبيثة من الشرّ، أَخرجته على فُعْلَى كأَصغر وصُغْرَى. وقرأَ أَبو قِلاَبة وأَبو حَيْوة وعطيّة بن قيس: {مَنِ الكذاب الأشر} ، وهى لغة بنى عامر. وقوم أَشرار وأَشِرّاء. وقال يونس: واحد الأَشرار رجل شَرّ مثل زيد وأَزياد. وقال الأَخفش: واحدها شَرير، وهو الرّجل ذو الشرّ، مثل يَتيم وأَيتام. وقوله تعالى: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} ، أَى أَسَرّ يوسفُ صلوات الله عليه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} فى السّرق بالصحَّةِ؛ لأَنهم سرقوا أَخاهم حين غيَّبوه فى الغَيَابَةِ من أَبيهم.(3/303)
وقوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} ، أَى يدعو على نفسه وولده وماله عند الضَّجر عَجَلة ولا يعجّل الله عليه. وقوله صلَّى الله عليه وسلم: "والشَرّ ليس إِليك" أَى الشرّ لا يصعد إِليك، وإِنَّما يَصعد إِليك الخيرُ.
والشَرَرة والشرارة: ما يتطاير من النَّار، والجمع: شَرَرٌ وشَرَار، قال تعالى: {بِشَرَرٍ كالقصر} .(3/304)
بصيرة فى الشرب
شَرِب الماءَ وغيره شُرْبًا، وشِرْبًا، وشَرْبًا، وتَشْرَابًا، وشَرْبةً: تناوله بفمه وقرأ أَبو جعفر ونافع وحمزة وعاصم وأَبو حاتم: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} بضمّ الشين. وقرأَ مجاهد وأَبو عثمان النَهْدىّ بكسرها، والباقون بفتحها.
قال أَبو عُبيدة: الشَّرب بالفتح: مصدر، وبالضمّ والكسر: اسمان من شَرِب. الشَّرْب أَيضًا: جمع شارب.
وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} قيل: هو من قولهم: أَشْرَبْتُ البعيرَ، أَى شددت حَبلا فى عنقه. ويقول الرّجل لناقته: لأُشرِبنَّكِ الحِبال والنُسُوع. وأَشرِبوا إِبلكم الأَقران، أَى أَدخولها فيها وشُدّوها بها. قال:
فأَشربتُها الأَقرانَ حتى أَنَخْتُها ... بقُرْح وقد أَلْقَيْنَ كلّ جنين
وكأَنَّما شُدّ فى قلوبهم لشغفهم به. وقال بعضهم: معناه: أُشرب فى قلوبهم حبُّ العجل. وأُشرب فلان حبَّ كذا. قال زُهَير:(3/305)
فصحوت عنها بعد حُبٍّ داخل ... والحُبّ يُشْرَبُه فؤادُك داءُ
وذلك أَنّ من عادتهم إِذا أَرادوا العبارة عن مخامرة حبّ أَو بغض استعاروا له اسم الشراب، إِذ هو أَبلغ إِنجاع فى البدن. ولذلك قال:
تَغَلْغَلَ حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حُزنٌ ولم يبلغ سرورٌ
ولو قيل: حُبّ العجل لم يكن له هذه المبالغة؛ فإِنَّ فى ذكر العجل تنبيهاً أَنَّه لفَرْط شَغَفهم به صارت صورة العجل فى قلوبهم لا تنمحى.(3/306)
بصيرة فى الشرح والشرد والشرط
أَصل الشرح بَسْط اللَّحْم ونحوه. يقال: شَرَحت اللحم وشرّحته، ومنه شَرْح الصّدر، أَى بسْطه بنور إِلهىٍّ وسكينة من جهة الله ورَوْح منه، [قال] : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} ، {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} . وشَرْح المشكل من الكلام: بَسْطه وإِظهار ما يخفى من معانيه. وشَرَح المرأَةَ: أَتاها مستلقيِة. ومنه غَطَّت مَشْرَحها أَى فَرْجها، قال دُرَيد بن الصّمّة:
فإِنَّكَ واعتذارَك من سُوَيدٍ ... كحائضة ومَشْرحُها يسيلُ
يعنى أَنك تَتَبَرّأُ من دمه وأَنت متدنّس به. وفلان يَشْرح إِلى الدّنيا: يميل إِليها ويُظهر رغبته فيها.
شَرَد البعيرُ: نَدَّ. وشرّدت فلانًا فى البلاد، وشرّدت به فعلت به فعْلة يَشْرُد غيرُه أَن يفعل فعله؛ كقولك: نكَّلْت به، أَى جعلت ما فعلت به نِكْلا لغيره أَىْ قيدًا. قال تعالى: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ، أَى اجعلهم نَكَالا لمن يَعرض لك بعدهم. وبعير شاردٌ وشَرُود، وإِبل شُرَّد وشُرُد، وبه(3/307)
شِرَادٌ. وتقول: حسبتك راشدًا، فوجدتك شارِدًا. وقافية شَرُود: عابرة فى البلاد، وقوافٍ شُرُدٌ، قال:
شَرُودٌ إِذا الراوُون حَلُّوا عِقالَها ... مُحجَّلة فيها كلامٌ مُحَجَّلُ
والشرْط، كلّ حكم متعلّق بأَمر يقع بوقوعه، وذلك الأَمر كالعلامة له. وهذا شَرْطى وشَرِيطتى، وقد أَشرطت كذا. ومنه قيل للعَلامة، الشَرْط. وأَشراط الساعة: علاماتها.
والشُرَط، قيل: سُمّوا به لكونهم ذوى علامة يُعْرفون بها، وقيل: لكونهم أَرذال النَّاس، وأَشراط الإِبل: رُذَالها.
وأَشرط إِليه رسولاً: قدّمه وأَعجله. وهؤلاءِ شُرْطة الحرب لأَوّل كتيبة تحضرها.
والصّواب فى شُرْطىّ سكون الرّاءِ نسبة إِلى الشُرْطة، والتَّحريك خطأ؛ لأَنه نَسَبٌ إِلى الشُّرَط الذى هو جمع.
وتشرّط فى عمله: تنوّق وتكلّف شروطا ما هى عليه. وشدّه بالشَّريط والشُّرُط، وهى خيوط من خُوص. وشَرَطَ الحجّامُ بِمشرطه. وتقول ربّ شَرْطِ شارط، أَوجعُ من شَرْط شارط.(3/308)
بصيرة فى الشرع والشرف
عمل بالشَّرْع والشَّريعة والشِّرْعة. وشَرَعَ الله الدّينَ. [وشرع فى الماءِ] شُرُوعًا. والشَرْع: نَهْج الطَّريق الواضح. وهو فى الأَصل مصدر، ثم جعل اسماً لِلْمَنْهج، واستعير ذلك للطَّريقة الإِلهيّة من الدّين.
وقولُه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فذلك إشارة إِلى أَمرين:
أَحدهما: ما سخَّر الله تعالى عليه كلّ إِنسان من طريق يتحرّاه ممّا يعود إِلى مصالح العباد، وعِمارة البلاد، وذلك المشار إِليه بقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} .
الثَّانى: ما قيّض له من الدّين، وأَمره به ليتحرّاه اختيارًا، ممّا تختلف فيه الشرائع، ويعترضه النَّسْخ، ودلَّ عليه قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها} . قال ابن عبّاس: الشِّرعة: ما ورد به القرآن، والمنهاج: ما ورد به السُنَّة.(3/309)
وقولُه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} الآية، إِشارة إِلى الأُصول التى تتساوى فيها المِلَل، ولا يصحّ عليها النَّسْخ، كمعرفة الله تعالى، ونحو ذلك ممّا دلّ عليه قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر} .
وقال بعضهم: سُمِّيت الشَرِيعة تشبيهًا بشريعة الماءِ، مِن حيث إِنَّ مَن شرع فيها على الحقيقة والمصدوقة رَوِى وتطهّر. قال: وأَعنى بالرىّ ما قال بعض الحكماءِ: كنت أَشرب فلا أَرْوَى، فلمّا عرف [الله تعالى] رَوِيت (فلا أَشرب) . وبالتَّطهّر ما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} . يقال: الشرائِع نِعْمَ الشرائع، من وردها رَوِىَ، وإِلاَّ دَوِىَ.
وقوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} جمع شارع. و (شارعة الطريق) جمعها: شوارع. وشرَعَ البابُ إِلى الطريق، وأَشرعته. والنَّاس فيه شَرْع: سواءٌ. وشَرْعُك ما بلَّغك المَحَلَّ. وضربوا الشِّرَع والأَوتار، الواحدة شِرْعة.
ومَدّ البعير شِرَاعهُ: عُنُقه. وبعيرٌ شِرَاعىّ العُنُق وشُراعِيُّها. قال:
شُِراعِيّة الأَعناق تَلْقَى قِلاَصها/ ... قد استلأَت فى مَسْك كَوماءَ بازل
أَى فى بَدن البازل وضِخَمِها.(3/310)
بصيرة فى الشرق
شَرَقت الشمسُ شُرُوقا: طَلَعَت. وأَشرقَت: أَضاءَت. وطلع الشَّرْق والشَّارِق أَى الشَّمس. ويقال: لا أَفعل ذلك ما ذرّ شارِق، ما دَرّ بارِق. وقعدوا فى المَشْرَُقة، وتَشَرّقوا، وهى المكان الَّذى يظهر للشرق، قال:
وما العيش إِلاَّ نَوْمَةٌ وتشرُّقٌ ... وتَمْرٌ كأَكباد الجَراد وماءُ
ومِشْريق البابِ: الشَقّ الذى يقع فيه الشَّمس.
وقوله: {بالعشي والإشراق} ، أَى وقت الإِشراق.
والمشرق والمغرب إِذا قيلا بالإِفراد فإِشارة إِلى ناحيتى الشرق والغرب، وإِذا قيلا بلفظ التثنية فإشارة إِلى مطلِعَىْ ومغربى الشتاءِ والصّيف، وإِذا قيلا بالجمع فاعتبارا بمطلع كلّ يوم ومغربه.
وقوله: {مَكَاناً شَرْقِياً} أَى من ناحية الشَّرق. وقوله: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} ، [أَى تطلع عليها الشمس] دائما.(3/311)
والمُشرَّق - كمعُظّم - مُصَلَّى العيد؛ لقيام الصّلاة فيه عند شروق الشَّمس.
وشَرِقَت الشَّمسُ: تَكدّر لونُها، واصفرّت للغروب. ومنه أَحمرُ شَرِق: شديد الحمرة. ولحمٌ شَرِقٌ: لا دَسَمَ فيه.(3/312)
بصيرة فى شرك
الشِّركة والمشاركة: خَلْط المِلْكين. وقيل: هو أَن يوجد شىء لاثنين فصاعدًا، عينًا كان ذلك الشىء أَو معنى؛ كمشاركة الإِنسان والفَرَس فى الحيوانيّة، ومشاركة فرس وفرس فى الكُمْتة والدّهمة يقال: شَرِكْتُه، وشارَكته، وتشاركوا، واشتركوا، وأَشرَكته فى كذا.
قال تعالى: {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} ، وفى الحديث: "اللهمّ أَشرِكنا فى دعاءِ الصّالحين". ويروى أَنَّ الله تعالى قال لنبيّه صلَّى الله عليه وسلم: إِنِّى شرَّفتك وفضّلتك على جميع خَلْقى، وأَشركتك فى أَمرى، أَى جعلتك بحيث تُذكر معى، فأَمرتُ بطاعتك مع طاعتى، نحو: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول} .
وجَمْع الشَريك: شُرَكاء.
وشِرْك الإِنسان فى الدّين ضربان: أَحدهما: الشِرْك العظيم، وهو إِثبات شرِيك لله، تعالى الله عن ذلك، يقال: أَشرك فلان بالله. وذلك أَعظم كفر.
والثانى: شرك صغير، وهو مراعاة غير الله معه فى بعض الأُمور، وذلك كالرّياءِ والنفاق المشار ِإليه بقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} .(3/313)
وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} قال بعضهم: معنى قوله: {وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} أَى واقعون فى شَرَك الدّنيا أَى حِبَالتها. قال: ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلَّم: "الشِرْك فى هذه الأُمّة أَخفى من دَبِيب النَّمل على الصّفا". قال: ولفظ الشِّرْك من الأَلفاظ المشتركة.
وقوله: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} فمحمول على الشِّرْكَيْن.
وقوله: {فاقتلوا المشركين} فأَكثر الفقهاءِ يحملونه على الكافرين جميعًا؛ لقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} ، وقيل: هم مَنْ عدا أَهلَ الكتاب، لقوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} ، فأَفرد المشركين عن اليهود والنَّصارى.
وقيل: إِنَّ الشرك والشريك ورد فى القرآن على ستة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الإِشراك بالله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} {لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ونظائره كثيرة.(3/314)
الثَّانى: الشِّرك فى الطاعة: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} .
الثالث: الشرك مع أَحدٍ فى أَمرٍ: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} .
الرَّابع: الشِّرك بمعنى الشَّريك إِبليس: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} .
الخامس: بمعنى الأَصنام والأَوثان: {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} .
السّادس: بمعنى الشريك المعروف: {فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ} ، قال:
تأَمّل فى نبات الأَرض وانظر ... إِلى آثار ما صَنع المليكُ
عيونٌ من لُجَينٍ فاتراتٌ ... على أَحداقها ذهبٌ سَبِيك
على قُضُب الزَّبَرْجَدِ شاهدات ... بأَنَّ الله ليس له شريكُ(3/315)
بصيرة فى الشرى
وهو يُمَدّ ويُقصرُ. ويكون بمعنى الاشتراء، وبمعنى البيع. والشِّرَى والبيع متلازمان، فالمشترى دافع الثَمَن وآخذ المُثْمَن، والبائع دافع المثمن وآخذ الثمن. هذا إِذا كانت المبايعة والمشاراة بناضٍّ وسِلْعة. فأَمّا إِذا كان بيع سِلْعة بسلعة صَحَّ أَن يُتصوّر كلّ منهما بائعًا ومشتريا، ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشِّرَى يستعمل كلّ منهما مكان الآخر. وشَرَيت بمعنى بعت أَكثر، وابتعت بمعنى اشتريت أَكثر، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أَى باعوه. ويجوز الشِّراءُ والاشتراءُ فى كلّ ما يحصّل به شىء، نحو: {أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} ، وقولُه تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فقد ذكر ما اشترى به وهو قوله تعالى: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} .
وقيل: ورد الشراء والاشتراء فى التَّنزيل على اثنى عشر وجهًا:
الأَوَّل: شِرَى الضَّلالة بالهدى: {أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة} .(3/316)
الثانى: شِرَى السِحْر بالإِسلام: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} .
الثالث: بيع اليهود نعت محمّد صلَّى الله عليه وسلم بنعت الدّجّال: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله} .
الرّابع: شِرَى كعب بن الأَشرف الدّنيا بالآخرة: {اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} .
الخامس: بيع حُيىّ بن أَخطب التوراة بثمن بخس: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} .
السادس: بيع فنحاص بن عازور العهد واليمين بثمن قليل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} .
السّابع: بيع أَهل مكة إِيمانهم بالكفر: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} .
الثامن: بيعِ الجُهّال أَحسن الحديث باللَّهْو: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} .(3/317)
التَّاسع: بيع أَمير المؤمنين نفسه فداء لسيّد الكونين صلَّى الله عليه وسلم: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} .
العاشر: بيع إِخْوة يوسف أَخاهم: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} .
الحادى عشر: بيع المؤمنين أَموالهم وأَنفسهم لمولاهم وخالقهم: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} .(3/318)
بصيرة فى شط وشطر وشطن وشبط
الشِّطط: الإِفراط فى البُعد، يقال: شَطَّت الدّارُ، وأَشَطَّ فى المكان، وفى الحكم، وفى السَّوم. وعُبّر بالشطط عن الجَوْر، قال تعالى: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} ، أَى قولاً بعيدًا عن الحَقّ. أَنشدنا بعض الأَشياخ:
إِنِّى رأَيت فؤادى أَمَره فُرُطَا ... فى حبّ بَدْرٍ أَرى فى شَعْر قَططا
قالوا: هو البدر، لا، بل فاقه، ولئن ... قلنا كذلك قد قلنا إِذًا شَطَطا
وشَطُّ النَّهرِ: حيث يبعد عن الماءِ من حافَته.
وشَطْر الشىء: وَسَطُه، ونصفه، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} أَى وِجهته ونحوه. ويقال: شاطرته شِطَارًا ومُشاطرة أَى ناصفته. وقيل: شطر بصرَه أَى نصّفه، وذلك إِذا أَخذ ينظر إِليك وإِلى آخَر. وحلب فلان الدّهَر أَشْطُره، وأَصله فى النَّاقة أَن تُحلب خِلْفَين وتُترك خِلْفَين.
والشَّاطر: المتباعد من الحقّ. والجمع: شُطَّار.
شاط يَشِيطُ: احترق غضبًا. وقيل: منه اشتقاق الشيطان؛ لكونه مخلوقًا من قُوّة النَّار، ولكونه من ذلك اختص بالقوّة الغضبيّة والحمِيّة(3/319)
الذَّميمة. والأَصحّ أَنَّه من شَطَنَ أَى تباعد، ومنه بئر شَطُون. قال أَبو عُبيدة: الشيطان: اسم لكلّ عارٍم من الجِنّ والإِنس والحيوانات.
قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} أَى أَصحابهم من الجِنّ والإِنس.
وقولُه: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} ، قيل: هى حَيَّة خفيفة الجسم. وقيل: أَراد به عارِم الجِنّ، فشُبّه به لقبح تصوّرها. وقوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} هم مَرَدة الجنّ. ويصحّ أَن يكونوا هم ومردة الإِنس أَيضًا.
وسُمّى كلّ قوّة ذميمة للإِنسان شيطانًا. وفى الحديث: "الحَسَد شيطان. والغضب شيطان". قال:
إِنِّى وكلّ شاعر من البَشَرْ ... شيطانُه أُنثى وشيطانى ذَكَرْ
وقال:
أَعوذ بالرحمان من شيطانى ... فإِنَّه للكيد بالإِنسان
وقد ورد الشَّيطان على وجوه:
الأَوّل: بمعنة الكَهَنة: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ} أَى كَهَنَتهم.(3/320)
الثَّانى: بمعنى الحيّات: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} أَى الحيَّات.
الثالث: بمعنى دُعَاة الضَّلال: {شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} .
الرّابع: بمعنى إِبليس وأَولاده: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} ، {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ} ، {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} . وله نظائر.(3/321)
بصيرة فى شطا وشعب
شاطىء الوادى: جانبه. وشَطْءُ فُروعِ الزرع: هو ما خرج منه وتفرّع فى شاطئه، وجمعه: أَشطاء. وقوله تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أَى فِراخه.
والشِّعْب من الوادى: ما اجتمع منه طَرَفٌ وتفرّق طرف، فإِذا نظرت إِليه من الجانب الَّذى يتفرّق أَخذت فى وَهْمك واحدا، وإِذا نظرت إِليه من جانب الاجتماع أَخذت فى وَهْمك اثنين اجتمعا، فلذلك قيل: شَعَبْتُ الشىءَ: إِذا جمعته، وشعبته: إِذا فرّقته، فهو من الأَضداد.
وشُعَيبٌ: تصغير شَعْب، الَّذى هو مصدر أَو الَّذى هو اسم، أَو تصغير شِعْب.
والشَعِيب: المَزَادة الخَلَق الَّتى قد أُصلحت وجُمعت.
وقولُه تعالى: {إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} .(3/322)
بصيرة فى الشعر
الشِّعر: الكلام الموزون المنظوم المقصود، وجمعه: أَشعار. وهو فى الأَصل العِلم، لكن غَلَب على منظوم القول؛ لشرفه بالوزن والقافية؛ كما غَلَب الفِقِهُ على عِلم الشرع، والعُودُ على المَنْدَل، والنَجْم على الثُّريّا، وغير ذلك من نَمَطه. وربّما سَمَّوا البيت الواحد شِعرًا، قاله الأَخفش. وليس بِقوىّ، إِلاَّ أَن يكون على تسمية الجزءِ باسم الكلّ، كقولك: الماء للجزءِ من الماءِ، والأَرض للقطعة من الأَرض. / والشاعر جمعه الشُّعَراء على غير قياس. وسمّى شاعرًا لفطنته. وما كان شاعرًا ولقد شَعُر - بالضَّمّ - فهو يَشْعُر شَعَارة.
قال يونس بن حبيب: يقال للشاعر المُفْلق: خِنذيذ، ولمَن دونه: شاعر، ولمن دونه: شُويعر، ولمن دونه شُعْرور.
وشَعَرت بالشىء - بالفتح - أَشعُر به - بالضمَّ - شِعْرًا وشِعْرةً وشِعْرَى، بكسرهنّ، وشَعْرةً - بالفتح - وشُعورًا ومَشعورًا ومَشعورةً: علِمت به وفطِنت له، ومنه قولهم: ليت شِعْرِى فلانًا ما صنع، ولفلان، وعن فلان.
وقوله تعالى عن الكفار: {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} حمله كثير من المفسّرين على أَنَّهم رَمَوه بكونه آتيًا بشعر منظوم مُقفًّى، حتى تأَوّلوا ما جاءَ فى القرآن من كلّ كلام يشبه الموزون من نحو: {وَجِفَانٍ(3/323)
كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} . وقال بعضهم المحصّلين: لم يقصدوا هذا المقصد فيما رمَوه به؛ وذلك أَنَّه ظاهر من هذا أَنَّه ليس على أَساليب الشعر، ولا يخفى ذلك على الأَغتام من العَجَم، فضلاً عن بلغاءِ العرب. وإِنَّما رموه [بالكذب] فإِن الشعر يعبَّر به عن الكذب، والشَّاعر: الكاذب، حتى سمَّوا الأَدِلَّة الكاذبة الأَدلة الشعريّة، ولهذا قال تعالى فى وصف عامّة الشعراء: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} إِلى آخر السورة. ولكون الشعر مقرًّا للكذب قيل: أَحسن الشعر أَكذبه. وقال بعض الحكماءِ: لم يُرَ متديِّن صادقُ اللَّهجة مُفلِقا فى شعره. قال:
أَرى الشعر يُحيى الجودَ والنَّاس والذى ... يبقِّيه أَرواح له عطرات
وما المجدُ لولا الشعر إِلاَّ مَعاهِد ... وما النَّاس إِلاَّ أَعظُمٌ نَخِرات
والمشاعِر: الحواسّ. وقوله تعالى: {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} ونحو ذلك معناه: لا تدركونه بالحواسّ. ولو قال فى كثير ممّا جاءَ فيه (لا يشعرون) لا يعقلون لم يكن يجوز، إِذ كان كثيرا ممّا لا يكون محسوسًا قد يكون معقولاً.
ومشاعر الحجّ: معالمه الظَّاهرة للحواسّ، الواحد مَشْعَر. ويقال: شعائر الحجّ، والواحدة شَعِيرة وشِعارة. وقال الأَزهرى: الشعائر:(3/324)
المعالم التى نَدَب الله إِليها، وأَمرَ بالقيام بها. وقولُه تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} ، أَى ما يُهدَى إِلى بيت الله. وسمّى بذلك لأَنَّها تُشعَرُ أَى تعلّم بأَن تُدْمَى بشَعِيرة، أَى حديدة يُشعر بها.
والشِّعار: الثَّوب الذى يلى الجَسد؛ لمماسّة الشَّعَر. والشِّعار أَيضًا: ما يُشعِر به الإِنسان نفسَه فى الحرب، أَى يُعلم. وأَشعره الحُبُّ نحو أَلبسه.
والأَشعر: الطويل الشعر. وداهية شعراء عظيمة؛ كقولك داهية وَبْرَاء.
والشِّعْرَى: نجم يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه فى شدّة الحَرّ. وهما شِعْرَيان: الشعرى العَبُور التى فى الجوزاءِ، والشعرى الغُميصاء الَّتى فى الذراع. تزعم العرب أَنَّها أُختا سُهيل. وتخصيصه فى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} لكونها معبودة لقوم منهم.(3/325)
بصيرة فى شعف وشعل وشغف
شَعَفة القلبِ: رأسه عند مُعَلّق النِّيَاط، ولذلك يقال: شَعَفنى حُبُّ فلان، وشُعِفت به وبِحُبّه، أَى غَشِى الحُبُّ القلبَ من فَوقه. وقرأَ الحَسَن البصرىّ وقتادة وأَبو رَجَاء والشَّعْبىّ وسعيد بن جُبَيْر وثابت البُنَانّى ومجاهد والزُّهرىّ والأَعرج وابن كثِير وابن مُحَيصن وعوف بن أَبى جميلة ومحمد ابن اليمانى وزيد بن قطيب: {قد شَعَفَها حُبًّا} ، قال أَبو زيد: أَى أَمرضها وأَداءَها. وقرأَ ثابت البُنَانىّ أَيضاً: (قد شعِفها) بكسر العين، أَى علِقها حُبَّا وعشقها.
والشَعَفة - بالتَّحريك - أَيضاً: رأس الجبل، وجمعه: شَعَف وشُعُوف وشِعافٌ. وفى الحديث الصّحيح: "خير النَّاس رجل مُمسك بعِنَان فرسه فى سبيل الله كلَّما سمِع هَيْعة طار إِليها، أَو رجل فى شَعَفة فى غُنَيمة له حتى يأتيه الموت"
والشَّعْل: التهاب النَّار. يقال: شُعْلة من نار، وقد أَشعلها. وأَجاز(3/326)
أَبو زيد شَعَلْتها. والشَعِيلة: الفَتيلة إِذا كانت مشتعِلة. وقيل: بياض يشتعل.
وقوله: {واشتعل الرأس} تشبيهًا بالاشتعال من حيث اللَّون. واشتعل فلان غضبًا تشبيهًا به من حيث الحركة. ومنه أشعلت الخيلَ فى الغارة؛ نحو أَوقدتها وهيّجتها وأَضرمتها.
الشَّغَاف: غِلاَف القلب. وشََغَفه: أَصاب شَغَافه؛ ككَبَدَهُ: أَصاب كِبده. وقال اللَّيث: الشَّغَاف: مَوْلِج البَلْغَم. وقوله تعالى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} أَى أَصاب حُبُّه شَغَافها. وقيل: الشغَاف: سويداءُ القلب. وقرأ أَبو الأَشهب: (شغِفها حُبًّا) بكسر الغين كقراءَة ثابت البُنانىّ (شَعِفها) بكسر المهملة. وشَغْف القلبِ وشَغَفه مثل شَغَافه.(3/327)
بصيرة فى شفل وشفع
الشُغْل، والشُّغُل، والشَغْل، والشَّغَل، أَربع لغات، والجمع: أَشغال. وقد شَغَلْت فلاناً فأَنا شاغل. ولا يقال: أَشغلته؛ فإِنَّها لغة رديئة. وشُغْلٌ شاغلٌ توكيد كَلَيْلٍ لائل. وشُغِلت عنه بكذا واشتغلت. والمَشْغَلة: ما يَشْغلك.
والشَفْع: ضمّ الشىء إِلى مثله. ويقال للمشفوع: شَفْع. وقوله تعالى: {والشفع والوتر} قيل: الشفع: المخلوقات، من حيث إِنَّها مركَّبَات؛ كما قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، والوتْر: هو الله، من حيث ما له الوحدةُ من كلّ وجه. وقيل: الشَّفع: يوم النحر، من حيث إِنَّ له نظيرا ثلاثةً، والوتر يوم عرفةٍ. وقيل: الشفع: ولد آدم عليه السلام، والوَتْر: آدم؛ لأَنَّه لا عن والد.
والشفاعة: الانضمام إِلى آخرَ ناصِراً له ومُسائلاً عنه. وأَكثر ما يُستعمل فى انضمام مَن هو أَعلى مرتبة إِلى من هو أَدنى. ومنه الشَّفاعة فى القيامة، قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} أَى لا تشفع لهم. وقوله:(3/328)
{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} الآية، أَى مَن انضمّ إِلى غيره وعاونه وصار شَفْعًا له أَو شفيعًا فى فعل الخير أَو الشرّ وقوّاه، شاركه فى نفعه وضَرّه. وقيل الشفاعة، ههنا: أَن يشرع الإِنسان لآخر طريقَ خيرٍ أَو طريق شرّ، فيَقتدى به، فصار كأَنَّه شَفْع له، وذلك كما قال صلَّى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ سُنَّةً حسنة فله أَجرها وأَجر من عمِل بها" الحديث.
وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} ، أَى يدبّر الأَمر وحده لا ثانى له فى فصّل الأَمر، إِلاَّ أَن يأذن للمدبّرات والمقسّمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إِذنه.
واستشفعت بفلان على فلان فتشفَّع لى إِليه. وشفّعه: أَجاب شفاعته. ومنه الحديث: "القرآن شافع مشفَّع". وإِن فلانا ليُستشفع [به] . قال:
مضى زمنٌ والناسُ يستشفِعون بى ... فهل لى إِلى لَيْلَى الغَداةَ شفيعُ
/وامرأَة مشفوعة. وأَصابتها شُفْعة: عَيْن.
والشُّفْعة: طلبُ مبيع فى شركته بما بيع به، فيضمّه إِلى مِلكه. فهو من الشَّفْع.(3/329)
بصيرة فى الشفا والشفق والشق
شفا البئرِ والنَّهر: طَرَفه. ويُضرب به المَثَلُ في القُرْب من الهلاك. وأَشْفَى فلان على الهلاك، أَى حصل على شَفَاه، قال تعالى: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} . ومنه استُعِير: ما بقى من كذا إِلا شَفًا، أَى قليل كشفا البئرِ، وهما شَفَوان، والجمع: أَشْفاء.
والشِفَاء من المرض: موافاة شَفَا السّلامةِ. وصار اسمًا للبُرْءِ، قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . وأَشفاه: وهب له ما يشفيه. ومواعظهُ لقلوب الأَولياءِ أَشافٍ، وفى أَكباد الأَعداءِ أَشافٍ، الأُولى جمع [جمع] الشفاءِ، والثَّانى جمع الإِشفَى.
والشَّق: الخرم الواقع فى شىء، يقال: شقَّه نصفين. قوله تعالى: {وانشق القمر} كان انشقاقه فى زمن النبىّ صلَّى الله عليه وسلم، وقيل: انشقاق يعرض فيه حين تقرب القيامة. وقيل: معناه: وَضَح الأَمر.
والشُقَّة: القطعة المنشقَّة كالنصف.
والشِقّ - بالكسر - المَشَقّة والانكسار الذى يلحق النَّفْس والبدن.(3/330)
وذلك كاستعارة الانكسار لها. قال تعالى: {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} .
والشُّقة: الناحية التى تلحقك المشَقَّةُ فى الوصول إِليها، قال تعالى: {ولاكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} . والشِّقَاق: المخالفة، وكونك فى شِقّ غير شِقّ صاحبك، أَو من شَقّ العصا بينك وبينه.
وقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ} ، أَى [صار] فى شِقّ غير شِقّ أَوليائه. وفلان شِقُّ نفسى، وشَقِيق نَفْسى، أَى كأَنَّه شُقّ مِنِّى لمشابهة بعضنا بعضًا.
والشُقّة: نصف الثوب، وإِن كان قد يسمّى الثَّوب شُقَّة كما هو. والشَّقِيقة لناب البعير لما فيها من الشَقّ.
الشَفَق: اختلاط ضوء النَّهار بسواد اللَّيل عند الغروب.
والإِشفاق: عناية مختلطة بخوف؛ لأَنَّ المشفِق يحبّ المشفَقَ عليه ويخاف ما يلحقه. فإِذا عُدِّىَ بمن فمعنى الخوف فيه أَظهر، وإِذا عدّى بعلى فمعنى العناية فيه أَظهر.(3/331)
بصيرة فى شقو وشك
الشَّقَاوة معروف، وقد شَقِىَ يَشْقَى شِقْوة - بالكسر - وشَقَاوة وشَقَاء. فالشِقوة كالرِّدّة. والشقاوة كالسّعادة من حيث الإِضافة، وكما أَنَّ السّعادة فى الأَصل ضربان: سعادة أُخرويّة، وسعادة دنيويّة، ثم السعادة الدّنيويّة ثلاثة أَضرب: نفسيّة، وبدنيّة، وخارجية، كذلك الشقاوة على هذه الأَضرب. وفى الشَّقاوة الأُخرويّة قال تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} . وفى الدنيويّة قال: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} . وقيل: قد وُضع الشَقَاءُ موضع التعب، نحو شَقِيت فى كذا، وكلّ شقاوة تعب، وليس كلّ تعب شقاوة.
والشَّكّ: اختلاف النقيضين عند الإِنسان وتساويهما. وذلك قد يكون لوجود أَمارتين متساويتين عنده فى النَّقيضين، أو لعدم الأَمارة فيهما، والشكّ ربّما كان فى الشىء هل هو موجود أَو غير موجود، وربّما كان فى جنسه، أَىْ مِن أَىّ جنس هو، وربّما كان فى بعض صفاته، وربّما كان فى الغَرَض الذى لأَجله أُوجد. والشكّ ضرب من الجهل. وهو أَخصّ(3/332)
منه؛ لأَنَّ الجهل قد يكون عدم العلم بالنَّقيضين رأسًا. وكل شكّ جهل، وليس كلّ جهل شكًّا.
وأَصله إِمّا من شككت الشىء: خزقته. قال:
وشَكَكْتُ بالرّمح الأَصمّ لَهاتَه ... ليس الكريمُ على القَنا بمحرَّم
وكأَنَّ الشكّ الخَزَق فى الشىء، وكونُه بحيث لا يجد الرَّأىُ مستقَرًّا يثبت فيه، ويعتمد عليه. ويجوز أَن يكون مستعارًا من الشكّ وهو لصوق العَضُد بالجنب، وذلك أَن يتلاصق النقيضان فلا مدخل للفهم والرّأى ليتخلّل ما بينهما، ويشهد لهذا قولهم: التبس الأَمُر، واختلط، وأَشكل، ونحو ذلك من الاستعارات.(3/333)
بصيرة فى الشكر
وهو تصوُّر النعمة وإِظهارها. وقيل: هو الثناءُ على المحسِن بما أَوْلَى من المعروف، يقال: شَكَرْتُهُ، وشكرت له. وتعديته بالَّلام أَفصح، قال الله تعالى: {واشكروا لِي} ، وقال جَلَّ ذكره: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} .
وقوله تعالى: {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} يحتمل أَن يكون مصدرًا مثل قعد قعودًا، ويحتمل أن يكون جمعا، مثل بُرْد وبُرُود، وكُفر وكُفور.
والشُّكْران: خلاف الكفران. والشَكُور: الشَّاكر. والشَّكُور من الدّواب: الَّذى يجتزىء بالعَلَف القليل ويسمَن عليه. قال الأَعشى:
ولا بدّ من غزوةٍ فى الربيع ... رَهْبٍ تُكلّ الوَقاح الشكورا
وقيل: الشكر مقلوب الكشْر أَى الكشف. وقيل: أَصله من عَيْنٍ شَكْرَى: ممتلئة. والشكر على هذا: الامتلاء من ذكر المُنْعِم.
والشكر على ثلاثة أَضرب: شكر بالقلب؛ وهو تصوّر النّعمة. وشكر باللسان؛ وهو الثناءُ على المنعِم. وشكر بسائر الجوارح؛ وهو مكافأَة النعمة بقدر استحقاقه.(3/334)
وقوله تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} انتصابه على التمييز ومعناه: اعملوا ما تعملونه شكرًا لله. وقيل: شكرًا مفعول لقوله: {اعملوا} . ولم يقل: اشكروا لينبّه على التزام الأَنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح. وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} فيه تنبيه أَنَّ توفية شكرِ الله صعب. ولذلك لم يُثْنِ بالشكر من أَوليائه إِلاَّ على اثنين، قال فى وصف إِبراهيم عليه السلام: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} ، وقال فى نوح عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} .
وإِذا وُصف الله بالشكر فى قوله: {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} فإِنما يُعنى به إِنعامه على عباده، وجزاؤه بما أَقامه من العبادة.
واعلم أَنَّ الشكر أَعلى منازل السّالكين، وفوق منزلة الرّضا، فإِنَّه يتضمّن الرّضا وزيادةً، والرّضا مندرِج فى الشكر؛ إِذ يستحيل وجود الشكر بدونه. وهو نصف الإِيمان. وقد أَمر الله به، ونَهَى عن ضدّه، وأَثنى على أَهله، ووصف [به] خواصّ خَلْقه، وجعله غاية خَلْقه وأَمره، ووعَد أَهله(3/335)
بأَحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته.
وأَخيراً أَنَّ أَهله هم المنتفعون بآياته، واشتَقَّ لهم اسمًا من أَسمائه. فإِنَّه سبحانه هو الشَّكور، وهو مُوَصّل الشَّاكِر إِلى مشكوره، بل يعيد الشَّاكر مشكورًا. وهو غاية رضا الربِّ عن عبده، وأَهله هم القليل من عباده، قال تعالى: {واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وقال: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} . وقال عن خليله إِبراهيم: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} ، وعن نبيّه نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . وقال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقال: {أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} ، وقال: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} وقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، وقال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
وسمّى نفسه شاكرًا، وشَكُورًا. وحسبك بهذا محبّة للشاكرين وفَضْلاً.(3/336)
وأَعاد به الشُكْر مشكورًا؛ كقوله: {إِنَّ هاذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} . ورَضِىَ الرّبّ عن عبده كقوله: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} . وقِلَّةُ أَهله فى العالمين على أَنَّهم من خواصّه.
وفى الصّحيح عن النبىّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أَنَّه قام حتى تورّمت قَدَماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غَفَر الله لك ما تقدّم من ذنبك [وما تأَخَّر] ؟ قال: أَفلا أَكون عبدًا شكورًا"!. وقال لمُعَاذ "يا مُعَاذ إِنِّى أُحبُك، فلا تنس أَن تقول فى دُبُر كلّ صلاة: اللَّهمّ أَعنِّى على ذكركَ وشُكرك وحُسن عبادتك". وفى الترمذى من بعض دعائه المشهور: "ربّ اجعلنى لك شَكَّارًا، لك ذكَّارًا، لك رَهّابا لك مِطواعًا، لك مُخْبِتًا، إِليك أَوّاهًا مُنِيبًا".
والشكر مبنىّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبّه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأَلا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هى أَساس الشكر، وبناؤه عليها. فمتى عُدم منها واحدة اختلّت قاعدة من قواعد الشكر. وكلّ من تكلم فى الشكر فكلامه إِليها يرجع، وعليها يدور.(3/337)
فقيل حَدّه: أَنَّه الاعتراف بنعمة المنعِم على وجه الخضوع. وقيل: الثناءُ على المحسِن بذكر إِحسانه. وقيل: هو عكوف القلب على محبّة المنعِم، والجوارح على طاعته، وجَرَيانُ اللسان بذكره، والثناءِ عليه. وقيل: هو مشاهدة المِنَّة، وحفظ الحُرْمة.
وما أَلطف ما قال حَمْدُون القصّار: شُكر النعمة: أَن نرى نفسك طُفَيْلِيًّا. وقال أَبو عثمان: الشكر: معرفة العجز عن الشكر. وقيل: الشكر إِضافة النِّعَمِ إِلى مُوليها. وقال الجُنَيد: الشكر: أَلاَّ ترى نفسك أَهلاً للنعمة. وهذا معنى قول حمدون: أَن ترى نفسك فيها طُفَيْليًّا. وقال رُوَيم: الشكر: استفراغ الطَّاقة، يعنى فى الخدمة. وقال الشِّبلىّ: الشكر: رؤية المنعِم لا رؤية النعمة. ويحتمل كلامه أَمرين: أَحدهما أَن يَفْنَى برؤية المنعِم عن رؤية النعمة، الثَّانى أَلاَّ تحجبه رؤية النعمة ومشاهدتُها عن رؤية المنعِم بها، وهذا أَكمل، والأَوّل أَقوى عندهم. والكمال أَن يشهد النعمة والمنعِم، لأَنّ شكره بحسب شهوده للنعمة، وكلّما كان أَتمّ كان الشّكر أَكمل، والله يحُبّ من عبده أَن يشهد نعمه، ويعترف بها، ويُثنى عليه بها، ويحبّه عليها، لا أَن يَفْنَى عنها، ويغِيب عن شهودها. وقيل: الشكر قِيْد النِّعَم الموجودة، وصيد النِّعم المفقودة. وشكر العامّة على المَطْعَم والمَلْبَس وقوة الأَبدان، وشكر الخاصّة على التَّوحيد والإِيمان وقوّة القلوب.
وقال داود عليه السّلام: يا ربّ كيف أَشكرك وشكرى نعمة علىّ مِن عندك تستوجب بها شكرًا؟. فقال: الآن شكرتنى يا داود.(3/338)
وفى أَثر إِسرائيلىِّ، قال موسى: يا ربّ خلقتَ آدم بيدك، ونفخت فيه من رُوحك، وأَسجدت له ملائكتك، وعلَّمته أَسماءَ كلّ شىء، وفعلتَ وفعلت، فكيف أَطاق شكرك. فقال الله عزَّ وجلّ: علم أَنَّ ذلك منى، فكانت معرفته بذلك شكرًا لى.
وقيل: التلذّذ بثنائه على ما لم يستوجب من عطائه.
وقال الجُنَيد - وقد سأَله سَرِىّ عن الشكر، وهو صبىّ بَعْدُ -: الشكر أَلاّ يستعان بشىء من نِعَم الله على معاصيه. قال من أَين لك هذا؟ قال: من مجالستك.
وقيل: من قَصُرت يداه عن المكافأَة فليَطُل لسانُه بالشكر.
والشكر مع المزيد أَبدًا؛ لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} . فمتى لم تر حالك فى مزيد فاستقبل الشكر. وفى أَثر إِلَهىّ، يقول الله: أَهل ذكرى أَهل مجالستى، وأَهل شكرى أَهل زيادتى، وأَهل طاعتى أَهل كرامتى، وأَهل معصيتى لا أُقَنِّطهم من رحمتى، إِنْ تابوا فأَنا حبيبهم، وإِنْ لم يتوبوا فأَنا طبيبهم، أَبتليهم بالمصائب لأطهرهم عن المعايب.
وقيل: من كتم النعمة فقد كفرها؛ ومن أَظهرها ونَشرها فقد شكرها. قال:(3/339)
ومن الرزيّة أَنَّ شكرى صامت ... عمّا فعلت وأَنّ برّك ناطقُ
أَأَرَى الصنيعة منك ثم أُسِرّها ... إِنِّى إِذًا لِنَدَى الكريمِ لسارقُ
وتكلم النَّاسُ فى الفرق بين الحمد والشكر [و] أَيُّهما أَفضل. وفى الحديث: "الحمد رأس الشكر، فمن لم يَحْمَدِ الله لم يشكره". والفرق بينهما أَنَّ الشكر أَعمّ من جهة أَنواعه وأَسبابه، وأَخصّ من جهة متعلَّقاته فيه. والحمد أَعمّ من جهة المتعلّقات، وأَخصّ من جهة الأَسباب. ومعنى هذا أَنَّ الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانة، وباللسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا؛ ومتعلَّقهُ النِعَم دون الأَوصاف الذاتيّة، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه، وهو المحمود بها، كما هو محمود على إِحسانه وعدله. والشكر يكون على الإِحسان والنِّعَم. فكلّ ما يتعلّق به الشكر يتعلّق به الحمد من غير عكس. وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإِنَّ الشكر يقع بالجوارح، والحمد باللسان.(3/340)
بصيرة فى شكل
هذا شَكْله، أَى مِثاله. وقلَّت أَشكالُه. وهذه الأَشياء أَشكالٌ وشُكُول. وهذا من شَكْل ذاك: من جنسه، قال تعالى: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} ، أَى مِثْل له فى الهيئة وتعاطى الفعل. وهذا أَشْكَلُ بكذا، أَى أَشبه، وهو لا يشاكله ولا يتشاكلان.
وأَشْكَلَ المريضُ وشَكَل، كما تقول: تماثل. وأَشكل النخلُ: طاب بُسْرُه وحَلاَ. وقيل: المشاكلة فى الهيئة والصّورة، والندِّ فى الجنسيّة، والشَبَه فى الكيفيّة.
والشِّكْل - بالكسر -: الدَّالّ. وهو فى الحقيقة: الأُنس الَّذى بين المتماثلين فى الطَّريق، ومن هذا قيل: النَّاسُ أَشكال وأُلافٌ.
وأَصل المشاكلة من الشَّكْل أَى تقييدِ الدّابّة، يقال: شَكَلت الدّابّة. والشِّكال: ما تُقيَّد به، ومنه استعير شَكَلت الكتابَ، كقولك: قَيّدته. ودابّة بها شِكَال: إِذا كان تحجيلها بإِحدى يديها وإِحدى رجليها كهيئة الشِّكَال. وقوله تعالى: {كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} أَى على سجيَّته التى قَيَّدته. وذلك أَن سلطان السّجيّة على الإِنسان قاهر، وهذا كقوله صلَّى الله عليه وسلم: "كلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له". والإِشكال فى الأَمر استعارة كالاشتباه من الشَّبه. والأَشْكَلة: الحاجة الَّتى تُقَيِّد الإِنسان.(3/341)
بصيرة فى شكو
والشَّكْو والشَّكَاة والشِّكاية والشَّكْوَة والشكوَى: إِظهار البَثِّ. وأَصل الشكو: فتح الشَكْوة، وإِظهار ما فيها، وهى سِقَاء صغير يجعل فه الماءُ، وكأَنه فى الأَصل استعارة؛ كقولهم: بَثَثْت له ما فى وعائى، ونفضت له ما فى جِرابى. وشكوت إِليه واشتكيت.
وما شَكِيَّتك؟ : ممّ تشكو، فتقول: شَكِيَّتى مرض أَو غمّ. وهى كالرّمِيّة، اسم للمشكوّ كما أَنَّها اسم للمرمىّ. ويقال: أَشكانى فَشَكَوْتُه، وشكوته فأَشكانى. الأَوّل حَمْلٌ على الشكاية وإِلجاء إِليها، والثَّانى إِزالة لها. قال جرير:
أَشكو إِليك فأَشْكِنى ذُرّيَةً ... لا يَشْبعون وأُمُّهم لا تَشْبَعُ
وقال آخر:
تَمُدّ بالأَعناق أَو تَثْنِيها ... وتشتكى لو أَنّنا نُشْكِيها
ونحو أَطْلَبْتُهُ بمعنى الإِحواج إِلى الطَّلب، [والإِسعاف بالطَّلْبة](3/342)
وشَكَوْتُ إِليه فلانًا فأَشكانى منه، أَى أَخذ لى ما أَرضانى به، وفى الحديث: "شكونا إِلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم حَرّ الرمضاءِ فلم يُشْكِنا". وشكَّيت شاكِىَ فلانٍ: طيّبت نفسَه.
والمِشكاة: طريق فى الحائط غير نافذ، قال تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} ، وذلك مَثَل للقلب، والمصباحُ مَثَلُ نور الله فيه.(3/343)
بصيرة فى شمت وشمخ وشمز وشمس
الشَّماتة: الفرح ببليّة العدوّ. شَمِت يشمَت _ كفرح يفرح _ شَماتة. وبات فلان بليلة الشَّوامت، أَى بليلةٍ تُشمِت الشوامِتَ، [وبات طَوْعَ الشوامِت: كما أَحَبَّ مَن يَشْمَتُ به] . قال النابغة يصف ثورًا وحشِيًّا:
فارتاع من صوت كَلاَّبٍ فبات له ... طَوْعَ الشوامتِ من خوفٍ ومن صَرَدِ
والإِشمات: إِفراح العَدُوِّ بنكبة مَن يعاديه. والتشميت: الدّعاء للعاطس، كأَنَّه إِزالة الشماتة.
والشُّموخ: التكبّر. وقد شَمَخ بأَنفه. وجبالٌ شوامِخُ وشُمَّخٌ. قال:
ترَى شُمَّخَ الأَطواد من شُمّ خِنْدِفٍ ... ذُراهنّ فى ضَحضاح بحرك تَغْرَقُ
قال تعالى: {رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} ، أَى عاليات.
والاشمئزاز: النُّفرة، قال: {اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أَى، نَفَرت.(3/344)
والشَّمس تُطلَق على القُرْصة، وعلى الضوءِ المنتشر منها. والجمع: شُموس. ويومٌ شامِس ومُشْمِس. وقد أَشْمَسَت الأَيّامُ، وأَقمرت اللَّيالى.
ودابّة شَمُوس، وخَيْلٌ شُمُس: لا تكاد تستقرّ، وقد شَمَست شِمَاسًا.
وكأَنَّه شَمَّاسٌ من شَمامِسَة النَّصارى، وهو مِن بعض رءُوسهم، يَحْلق وَسَط رأسه، ويلزم البيعة.
وشَمَس لى فلان: أَبْدَى عداوته وكاد يُوقع، قال:
شُمْسُ العداوة حتى يُستقادَ لهم ... وأَعظم الناس أَحلامًا إِذا قَدَِرُوا(3/345)
بصيرة فى شمل
الشِّمَال: المقابل لليمين. والجمع: أَشْمُلٌ، مثل أَعْنُقٍ وأَذرع، وشمائلُ أَيضًا على غير قياس. قال الله تعالى: {عَنِ اليمين والشمآئل} وقال: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} . ويقال للثوب الَّذى يُغَطِّى به الشِّمَال، وذلك كتسمية كثير من الثياب باسم العضو الذى يستره، نحو تسمية كُمّ القميص يدًا، وصدره وظهره صدرًا وظهرًا، ورِجل السّراويل رِجْلاً، ونحو ذلك.
والاشتمال بالثَّوب: أَن يتلفَّ به فيطرحه على الشِّمَال. وفى الحديث: نهى عن اشتمال الصّمَّاءِ. والشَمْلة والمِشْمَل: كِسَاء يُشتمل به، مستعار منه.
والشِّمَال: الخليقة والعادة، لكونها مشتملة على الإِنسان اشتمال الشِّمَال على الأَبدان. والشَّمُول: الخمر؛ لاشتمالها على العقل.(3/346)
والشَّمَال: الرّيح الهابَّة من ناحية القُطْب، وقيل: من شمال الكعبة. وقيل: من مَطْلَعِ بنَاتِ نَعْشٍ إِلى مطلع الشمس. وفيها ثمان لغات: شَمْلٌ مُسَكَّنة، وشَمَلٌ محركة، وشَمَالٌ، وشَمْأل وشأْمَل، وربّما جاءَ بتشديد الَّلام، وشَوْمَلٌ، وشَمُول كصبور، وشَيْمَل كحَيْدر.
وكُنِىَ بالمِشْمَل عن السّيف، كما كُنى عنه بالرّداءِ.
وناقة شِمِلَّة وشِمْلال: سريعة كريح الشَّمال.(3/347)
بصيرة فى شنا وشهب
الشَنَاءَة والشَّنْأَة بالمدّ والفتح: البُغض، وقد شَنَأْته وشنِئتُه شَنْئًا وشناءَة، ومَشْنأ، وشَنَآنا بالتَّحرك، وشنْآنا بالتّسكين. وقرأَ نافع فى رواية إِسماعيل، وابن عامر وعاصم فى رواية أَبى بكر؛ بالتسكين، والباقون بالتحريك وهما شاذّان. فالتَّحريك شاذٌّ فى المعنى؛ لأَنَّ فَعَلان إِنَّما هو من بناءِ ما كان معناه الحركة والاضطراب، كالضَّرَبان والخفقان. والتسكين شاذٌّ فى اللَّفظ، لأَنَّه لم يجىء شىء من المصادر عليه. قال أَبو عبيدة: الشَّنَان بغير همز مثل الشَنَآن، وأَنشد للأَحْوص:
هل العيش إِلاَّ ما تَلَذُّ وتشتهِى ... وإِنْ لام فيه ذو الشَنَانِ وفَنَّدا
وشُنِىءَ الرّجل فهو مَشْنُوء، أَى مُبغَض وإِن كان جميلاً. ورجل مَشْنَأ على مَفعل - بالفتح - أَى قبيح المنظر، ورجلان مَشْنأ، وقوم مَشْنَأ. والمِشْناء - على مِفعال - مثله. ورجلٌ شنَاءَة ككرامة، وشنائية ككراهية: مبغِض سيِّىءُ الخُلُق. وتشاءنوا: تباغضوا. الشَّنُوءَة على فَعُولة: التقَزُّز، وهو التَّباعد من الأَدناس، ومنه أَزْد شَنُوءة لحَىّ من اليمن.(3/348)
والشِّهاب: شُعْلة نار ساطعة من النار الموقَدة، ومن العارض فى الجَوّ والجمع: شُهُبٌ، وشُهْبانٌ عن الأَخفش، مثال حساب وحُسْبان، وشِهبان بالكسر عن غيره. قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} .
وإِنَّ فلانًا لَشِهابُ حربٍ: إِذا كان ماضيًا فيها شجاعًا، وجمعه: شُهبانٌ قال ذو الرمّة:
وإِنْ شاءَ داعِيها أَتته بمالكٍ ... وشُهبانِ عمرو كلُّ شَوهاء صِلْدِم
أَى داعى هذه الإِبل. يعنى بمالكٍ أَبا حنظلةَ بن زيد مناة، وشهبانِ عمرو، بنى عمرو بن تميم.(3/349)
بصيرة فى شهد
الشُّهود والشَّهادة: الحضور مع المشاهدة، إِمّا بالبصر أَو البصيرة. وقد يقال للحضور مفردا؛ قال تعالى: {عَالِمُ الغيب والشهادة} . لكنّ الشهود بالحضور المجرّد أَولى، والشهادة مع المشاهدة [أَولى] .
/ ويقال للمَحْضَر مَشْهَد، وللمرأَة التى يَحضرها زَوجها مُشْهِد. وجَمْع مَشْهد: مشاهد، ومنه مشاهِد الحجّ، وهى مواطنه الشَّريفة التى تحضرها الملائكة والأَبرار من النَّاس. وقيل: مشاهد الحج: مواضع المناسك.
وقوله: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} ، أَى ما حضرنا، {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، أَى لا يحضرونه بنفوسهم ولا بهمّهم وإِرادتهم.
والشهادة: قولٌ صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أَو بصيرة.
وقوله: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} يعنى شهادة بمشاهدة البصيرة، ثمّ قال: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} تنبيهًا أَنَّ الشهادة تكون عن شُهود. وقوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} ، أَى تعلمون. وقولُه:(3/350)
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات} ؛ أَى ما جعلتهم ممَّن اطَّلعوا ببصيرتهم. وقوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} ، أَى ما يغيب عن حواسّ الناس وبصائرهم، وما يشهدونه بهما.
وشَهِدْتُ يقال على ضربين: أَحدهما جارٍ مَجرى العِلْم، وبلفظه تقام الشهادة، يقال: أَشهد بكذا. ولا يُرضى من الشَّاهد أَن يقول أَعلم، بل يحتاج أَن يقول: أَشهد. والثانى يجرى مجرى القَسَم، فيقول: أَشهدُ بالله إِنَّ زيدًا منطلق. ومنهم من يقول: إِن قال أَشهدُ ولم يقل بالله يكون قسمًا. ويجرى علمتُ مجراه فى القَسَم فيجاب بجواب القسم كقوله:
ولقد علمت لتأتينّ مَنِيَّتى
ويقال: شاهد، وشهيد، وشهداءُ. ويقال: شهِدت كذا، أَى حضرته، وشهدت على كذا، قال تعالى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} .(3/351)
ويعبّر بالشهادة عن الحُكْم؛ نحو: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} ، وعن الإِقرار، نحو: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} ، أَى كان ذلكِ شهادة لنفسه.
[وقوله: {شَهِدَ الله} فشهادة الله تعالى بوحدانيته هى إِيجاد ما يدلّ على وحدانيته فى العالَم وفى نفوسنا، كما قال الشاعر:
ففى كل شىءٍ له آيةٌ ... تدلّ على أَنّه واحد
قال بعض الحكماءِ: [إِن الله تعالى لمّا شهد لنفسه] كان شهادتُه أَن أَنطق كلّ شىءِ بالشهادة له، وشهادةُ الملائكة بذلك هو إِظهارهم أَفعالاً يؤمرون بها، وهى المدلول عليها بقوله: {فالمدبرات أَمْراً} . وشهادة أولى العلم اطّلاعهم على تلك الحال وإِقرارهم بذلك.
والشهادة تختصّ بأُولى العلم، فأَمّا الجهّال فمبعَدون عنها. وعلى هذا نبّه بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} ، وهؤلاءِ هم المعنيّون بقوله: {والصديقين والشهدآء والصالحين} .(3/352)
وأَمّا الشهيد فقد يقال للشَّاهد، والمشاهِد للشىء. وقوله تعالى: {مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} ، أَى مَنْ يشهد له وعليه. وقوله: {أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أَى يشهدون ما يسمعونه بقلوبهم، على ضدّ من قيل فيهم: {أولائك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} . وقولُه: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} ، أَى يشهد صاحبَه الشفاءُ والرّحمة والتَّوفيق والسّكينة، والأَرواح المذكورة فى قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ} .
وقوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم} قد فُسْر بكلّ ما يقتضيه معنى الشهادة. قال ابن عبّاس: معناه: أَعوانكم. وقال مجاهد: الذين يشهدون لكم. وقال بعضهم: الذين يُعتدّ بحضورهم. ولم يكونوا كمن قيل فيهم:
مَخلَّفون ويَقضِى الناس أَمْرَهُمُ ... وهم بغَيْبٍ وفى عَمياءَ ما شَعَرُوا
وقد حُمل على هذه الوجوه قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} ، وقوله: {وكفى بالله شَهِيداً} ، إِشارة إِلى نحو قوله: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} ، وقوله: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} .(3/353)
والشهيد الذى هو المحْتَضر فتسميته بذلك لحُضور الملائكة إِيّاه. إِشارة إِلى ما قال: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} أَو لأَنَّهم يشهدون فى تلك الحالة ما أُعِدّ لهم من النعيم، أَو لأَنَّهم تشهد أَرواحُهم عند الله، كما قال: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، وقال: {والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} . وقولُه: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} ، قيل: يوم الجمعة، وقيل: يوم عَرَفة، وقيل: يوم القيامة. وشاهد: كلّ من يشهده. وقولُه: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} . أَى مشاهَدٌ تنبيهًا أَن لابدّ من وقوعه.
والتشهّد: هو أَن يقول: أَشهد أَن لا إِله إِلاَّ الله وأَشهد أَنَّ محمَّدًا رسول الله. وصار فى التعارف اسمًا للتحيّات المقروءَة فى الصّلاة للذِّكر الذى يُقْرَأُ ذلك فيه.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} ، جعل الله سبحانه كلامه ذكرى يَنْتفع به مَن جَمَع هذه الأُمور الثَّلاثة: أَحدها أَن يكون له قلبٌ حَىّ واع. فإِذا فُقِد هذا القلبُ لم ينتفع(3/354)
بكلامه. الثَّانى: أَن يُصغى بسمعه فيُميلَه كلَّه نحو المخاطِب له، فإِن لم يفعل لم ينتفع بكلامه. الثَّالث: أَن يُحضِر قلبَه وذهنه عند المكَّلم له، وهو الشهيد أَى الحاضر غير الغائب. فإِن غاب قلبُه. وسافر فى موضع آخر لم ينتفع بالخطاب. وهذا كما أَنَّ المبْصر لا يدرك حقيقة إِلاَّ إِذا كانت له قوّة باصرة وحَدَّق بها نحو المرئىّ، ولم يكن قلبه مشغولاً بغير ذلك، فإِن فَقَد القوّة المبصِرة، أَو لم يُحدّق نحو المرئىّ، أَو حَدَّق نحوه وقلبُه كلّه فى موضع آخر، فإِنَّه لا يدركه؛ كما أَنَّ كثيرًا ما مَرّ بك إِنسان أَو غيره، وقلبك مشغول بغيره، ولا تشعر بمروره. فهذا الشَّأن يستدعى صحّة القلب، وحضوره، وكمال الإِصغاءِ.
والمشاهَدةُ من منازل السّالكين وأَهل الاستقامة، منزلة عالية فوق منزلة المكاشَفة. على أَنَّه ليس للعبد فى الحقيقة مشاهدة، ولا مكاشفة، لا لِلذَّات ولا للصّفات، أَعنى مشاهدة عِيَان وكشف، وإِنَّما هو مزيد إِيمان. فيجب التَّنبيه والتنبّه ههنا على أَمر، وهو أَنَّ المشاهَد نتائج العقائد، فمن كان معتقَدُهُ ثابتًا فى أَمر من الأُمور فإِنَّه إِذا صَفَت نفسُه، وارتاضت، وفارقت الشهوات والرّذائل، وصارت رُوحانيّة، تجلَّى لها صورة معتقَدها كما اعتقدته. وربّما قوى ذلك التَّجلَّى، حتى يصير لها كالعِيَان وليس به، فيقع الغلط من وجهين: أَحدهما أَنَّ ذلك ثابت فى الخارج وإِنَّما هو فى الذهب، لكن من وجهين: أَحدهما أَنَّ ذلك ثابت فى الخارج وإِنَّما هو فى الذهن، لكن لمّا صفا وارتاض، وانجلَت عنه ظلمات الطبع، وغاب بمشهوده عن(3/355)
شهوده، واستولت عليه أَحكام القلب بأَحكام الرّوح، ظنّ أَنَّ ما ظهر له فى الخارج. ولا تأخذه فى ذلك لومة لائم، ولو جاءَته كلّ آية فى السماوات والأَرض، وذلك عنده بمنزلة مَن عاين الهلاك ببصره جهرة، فلو قال له أَهل السّماوات والأَرض: لم تَرَه، لم يلتفت إِليهم. والَّذى يتعيّن وينبغى أَلاَّ يُكذَّب فيما أَخبرَ به عن رؤيته، ولكن إِنَّما رأَى صورة معتقده فى ذاته ونفسه لا الحقيقة فى الخارج. هذا أَحد الغلطين، وسببه قوّة ارتباط حاسَّة البصر بالقلب، / فالعين مِرآة القلب شديدة الإِبصار به. وينضمّ إِلى ذلك قوّة الاعتقاد وضعف التمييز، وعليه حكم الحال على العلم. والغلط الثَّانى أنَّ الأَمر كما اعتقده، وأَنَّ ما فى الخارج مطابق لاعتقاده، فتولّد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود.
وهى عندهم على ثلاث درجات: مُشاهَدة، ومشاهدة مُعاينةٍ تلبَس نُعوت القدس، وتُخرس أَلْسِنَةَ الإِشارات، ومشاهدة جَمْعٍ تجذب إِلى عين الجمع. وبَسْط هذا الكلام يأتى فى موضعه إِن شاءَ الله تعالى.(3/356)
بصيرة فى شهر وشهق وشهو
الشهر: مدّة مشهورة بإِهلال الهلال، أَو باعتبار جزءٍ من اثنى عشر جزءًا من دوران الشَّمس. وجمع القِلَّة أَشْهُرٌ، والكثير، شُهور. والشهر أَيضًا: الهلال، سمّى بذلك لشهرته وظهوره. وقال ابن فارس: الشهر فى كلام العرب: الهلال، ثمّ سمّى كلّ ثلاثين يومًا باسم الهلال، فقيل: شهر. قال: وهذا شىء قد اتَّفق فيه العرب والعجم؛ فإِن العجم أَيضًا يسمّون ثلاثين يومًا باسم الهلاَل فى لغتهم.
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "صوموا الشَّهر وسِرَّه"، أَى صوموا مستهلّ الشَّهر. وسِرّه أَى آخره. وقيل: سرّه أَى وسطه يعنى أَيّام البيض.
والمشاهرة: المعاملة، بالشَّهر. وأَشهر بالمكان: أَقام به شهرا. والشهر: العالِم، والجمع: شهور. أَنشد بعض الفضلاءِ:
شهر الصّيام كساحة الحمَّام ... فيه ظهور صوامع الأَيّام
فاظْهر به واحذر عِثارك إِنّما ... شرّ المَصارع مصرع الحَمَّام(3/357)
ورجل مشهور وشهِير: نبِيه. (والشهرة: الفضيحة. والشهرة: وضوح الأَمر) .
والشهيق: طُول الزَّفير، وهو ردّ النَّفَس. والزفير: مدّهُ. وأَصله من جبل شاهق، أَى متناهى الطَّول.
والشَّهوة: نزوع النَّفْس إِلى ما تريده. وذلك فى الدّنيا صربان. صادقة، وكاذبة. فالصّادقة: ما يختلّ البدنُ من دونه؛ كشهوة الطعام عند الجوع والكاذبة: ما لا يختلّ من دونه. وقد يُسمّى المشتهَى شَهوة. وقد يقال للقوّة التى بها يُشتَهى الشىءُ شهوة.
وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يحتمل الشهوتين. وقوله: {واتبعوا الشهوات} هذا من الشهوات الكاذبة، ومن المشتهيات المستغنَى عنها.
[وقيل] : طعام شَهىّ، ورجلٌ شَهْوانُ وشَهْوانىّ.(3/358)
بصيرة فى شوب وشيب وشيخ وشيد وشور
الشَوْب: العسل. والشَوْب: القطعة من العجين. ويقال: هو الفَرَزْدَقة، وهى الخُبزة الغليظة. والشوب: الخَلْط، وقد شُبت الشىءَ أَشْوبه، فهو مَشُوب. وقول السُّلَيك بن السُّلَكة:
سيكفيك صَرْبَ القومِ لحمٌ معرَّضٌ ... وماءُ قُدور فى القِصاع مَشيبُ
إِنَّما بناه على شِيب الَّذى لم يسمّ فاعله، أَى مخلوط بالتوابل والصِّباغ. وما عنده شَوْبٌ ولا رَوْب، أَى لا عسل ولا لبن.
والشَّيب والمَشِيب واحد. وقال الأَصمعىّ: الشَّيب: بياض الشعر، والمَشِيب: دخول الرّجل فى حدّ الشيب من الرّجال. قال ابن السّكِّيت فى قول الشاعر:
والرّأسُ قد شابَهُ المشيب
يعنى بيَّضه المشيب، وليس معناه خالطه. وأَنشد العَرْجىّ:(3/359)
قد رابَهُ ولَمِثلُ ذلك رابَهُ ... وَقَعَ المَشِيبُ على السواد فشابَهُ
أَى بيَّض مسودّهُ.
وقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} نَصْب على التمييز. وقال الأَخفش: على المصدر؛ لأَنَّه حين قال: اشتعل كأَنه قال: شاب، فقال: شيبًا. والأَشْيَبُ: المبيضّ الرّأس. وقد شاب رأسُه شَيْبًا، وشَيْبَةً، فهو أشْيَبُ على غير قياس؛ لأَنّ هذا النَّعت إِنَّما يكون من باب فَعِل يَفْعَل.
والشَّيْخ يقال لمن قد طعن فى السّنّ. وقد يعبّر به فيما بيننا عمَّن تَكَثَّرَ علمُه؛ لِمَا كان من شأن الشيخ أَن تكثر تجاربه ومعارفه. يقال: شيخ بيّن الشَّيخوخة. والشَيْخُونُ: الشيخ.
وقوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} أَى مبنىّ بالشِّيد. وقيل: مُعَلّى مطوّل. وشيّد قواعدَه: أَحكمها.
والشوار - مثلثة الشين -: متاع البيت، ومتاع رَحْل البعير. وبالفتح والكسر: فرج الرّجل والمرأَة. يقال: أَبَدى الله شَوَاره وشِوَاره، أَى عورته.
والشَّوْر، والشَّوَار، والشَّارة، والشُّور بالضمّ، والشِّيار بالكسر: الهيئة واللباس، يقال: ما أَحسن شَوَاره وشارته، وشُورته وشِيَارهُ.(3/360)
ابن الأَعرابىّ: الشُّورة: الجَمال، وإِنه لحسن الصّورة والشُّورة.
والمَشُورة، والمَشْوَرة، والشُّورَى، بمعنى واحد. وأَشار عليه بالرّأى. والمُشِيرةُ: الإِصبع السبّابة.
وشُرْتُ العسل واشْتَرْتُهُ: جَنَيْته، قال خالد بن زُهير الهُذَلىّ:
وقاسَمها بالله جَهدًا لأَنتمُ ... أَلذُّ من السَّلْوَى إِذا ما نَشُورُها(3/361)
بصيرة فى شوظ شوك وشوى وشيع
الشُوَاظ: اللَّهب الذى لا دخان معه.
والشُّوك: ما يَدِقّ رأسُه من النبات. ويعبّر بالشَّوك، والشَّوكة، والشِّكَّة، عن السّلاح، وعن الشدّة. قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ}
وشوَّك ثَدْيُها: نهَد. والبعيرُ: طال أَنيابُه.
وشَوَيْتُ اللَّحم واشتويته. والشَوَى: الأَطراف؛ كاليدين والرّجلين. ورماه فأَشواه: أَصاب شَوَاه.
والشَّاهة أَصلها شاهة، بدليل قولهم: شِياهٌ، وشُوَيهة.
والشَيْع: الانتشار والتقوية، يقال: شاع الحديثُ، أَى كثر وقَوِى وشاع القومُ: انتشروا وكثروا. وشيَّعت النارَ بالحَطب. والشِّيعة: من يتقوّى بهم الإِنسان وينتشرون عنه.(3/362)
بصيرة فى الشيء
قيل: هو ما صحّ أَن يُعلم ويُخبر عنه. وعند كثير من المتكلِّمين: اسم مشترك المعنى؛ إِذ استعمل فى الله وفى غيره، ويقع على الموجود والمعدوم. وعند بعضهم عبارة عن الموجود. وأَصله مصدر شاءَ، فإِذا وُصِف الله تعالى به فمعناه شاءٍ وإِذا وُصِف به غيره فمعناه المَشِىءُ. على الثَّانى قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فهذا على العموم بلا مَثْنَويّة؛ إِذْ كان الشىء ههنا مصدرًا فى معنى المفعول. وقوله: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} هو بمعنى الفاعل.
والمشيئة عند أَكثر المتكلَّمين كالإِرادة سواء، وعند بعضهم أَنَّ المشيئة فى الأَصل إِيجاز الشىء وإِصابته، وإِن كان قد يستعمل فى التعارف موضع الإِرادة. فالمشيئة من الله تعالى الإِيجاد، ومن الناس الإِصابة. والمشيئة من الله تقتضى وجود الشىء، ولذلك قيل: ما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكن، والإِرادة لا تقتضى وجود المراد لا محالة؛ أَلا ترى أَنَّه قال: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} ، وقال: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} ، ومعلوم أَنَّه قد يحصل العسر والتظالم فيما بين النَّاس.(3/363)
قالوا: و [من] الفرق بينهما أَنَّ إِرادة الإِنسان قد تحصل من غير أَن تَتقدّم إِرادة الله؛ فإِنَّ الإِنسان قد يريد أَلاَّ يموت ويأبى الله ذلك، ومشيئته لا تكون إِلاَّ بعد مشيئته، كقوله: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} . وروُى أَنه لمَّا نزل قوله تعالى: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال الكفّار: الاَمر إِلينا، إِن شئنا استقمنا، وإِن شئنا لم نستقم، فأَنزل الله تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} . وقال بعضهم: لولا أَنَّ الأُمور كلّها موقوفة على مشيئة الله، وأَن أَفعالنا متعلِّقة بها، وموقوفة عليها، لما أَجمع النَّاس على تعليق الاستثناءِ به فى جميع أَفعالنا؛ نحو: {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} ونحوه من الآيات.
والشىء تصغيره شُيَىْءٌ وشِيَىْء بكسر الشين. لا تقل: شُوَىْء. والجمع: أَشياء غير مصروفة. قال الخليل: إِنَّما تُرك صرفها لأَنَّ أَصلها فَعْلاء [جمعت] على غير واحدها؛ كما أَنَّ الشُّعَرَاءَ جمعت على غير واحدها؛ لأَنَّ الفاعل لا يجمع على فُعَلاء، ثمّ استثقلوا الهمزتين فى آخرها، فنقلوا الأُولى إِلى أَوّل الكلمة، فقالوا: أَشياء، كما قالوا: عُقاب بَعَنقاة، وأَيْنُق، وقِسِىّ، فصار تقديرها: لَفْعاءَ. يدل على صحّة ذلك أنها لا تُصرف، وأَنَّها تصغّر على أُشَيّاء، وأَنَّها تجمع على أَشَاوَى وأَصلها أَشاييىءُ،(3/364)
فقلبوا الهمزة ياء، فاجتمعت ثلاث ياءَات، فحذفت الوسطى، وقلبت الأَخيرة أَلفا، فأُبدلت من الأُولى كما قالوا: أَتيته أَتوْةً. وحكى الأَصمعىّ أَنَّه سَمع رجلا من فصحاءِ العرب يقول لخَلَف الأَحمر: إِنَّ عندك لأَشاوَى، مثال الصّحارَى. ويجمع أَيضًا على أَشايا وأَشْياوات.
قال الأَخفش: هى أَفعِلاءُ، فلهذا لم تصرف؛ لأَنَّ أَصلها أَشْيِئاء، حذف الهمزة الَّتى بين الياءِ والأَلف للتخفيف. قال له المازنىّ: كيف تصغّر العرب أَشْياءَ؟ فقال: أُشَيّاء. فقال له: تركت قولك؛ لأَنَّ كلّ جمع كُسِّر على غير واحده وهو من أَبنية الجمع فإِنَّه يُردّ فى التصغير إِلى واحده؛ كما قالوا: شويعرون فى تصغير الشُعَراءِ. وهذا القول لا يلزم الخليل؛ لأَنَّ فَعْلاءَ ليس من أَبنية الجمع.
وقال الكِسَائىّ: أَشياء أَفعال؛ مثل فَرْخ وأَفراخ، وإِنَّما تركوا صرفها، لكثرة استعمالهم إِيّاها لأَنَّها شُبّهت بفعلاء. وهذا القول يدخُل عليه أَلاَّ يُصرف أَبناء وأَسماء. وقال الفرّاءُ: أَصل شىء شَيْىءٌ مثل شَيّع، فجمع على أَفعِلاءَ؛ مثل هيّن وأَهوناءَ، وليِّن وأَلْيِناء، ثمّ خُفف فقيل شَىْء، كما قالوا: هَيْن ولَيْن. وقالوا: أَشْيَاء، فحذفوا الهمزة الأُولى. وهذا القول يدخل عليه أَلاَّ يجمع على أَشَاوَى.
والشِّيئة: الإِرادة. وكلّ شىء بشيئة الله، مثال شِيعة، أَى بمشيئته. وقد شئت الشىءَ أَشاؤه. وأَشاءَه: أَلجأه.(3/365)
الباب الخامس عشر - فى بصائر الكلمات المفتتحة بحرف الصاد(3/366)
بصيرة فى الصاد
وهى ترد فى لغة العرب وفى القرآن على أَوجه:
الأَوّل: حرف هجاء، يظهر من طرف اللسان جِوازَ مخرج السّين، يذكَّر ويؤنّث. ويجمع على أَصواد وصادات.
الثَّانى: اسم لعدد التِّسعين.
الثالث: الصّاد الكافِية الَّتى يختصر عليها من الكلمة، كقوله: الَمص كهيعصَ، والصّاد من صمد، ومن صانع، وصادق.
الرابع: الصّاد المكرّرة؛ مثل قصّ وقصص.
الخامس: المدغمة فى مثل قصّ.
السّادس: صاد الضرورة؛ فبعض النَّاس يجعلها ثاء لعجزه عن النطق بها.
السّابع: صاد أَصل الكلمة؛ صدق، ونصر، وحرص.
الثَّامن: المبدلة من السّين؛ مثل السَّوِيق والصّويق لغتان.(3/367)
التَّاسع: صادَ، فعل ماض من الصّيد.
العاشر: الصّاد اللغوى. قال الخليل: الصّاد عندهم: الدّيك، وقِدْر النّحاس. وأَنشد على الدّيك قول ابن قَيْس الرقيّات:
وإِنِّى إِذا ما غبتِ عَنِّى متيَّمٌ ... كأَنِّىَ صادٌ فى النَّقا أَتمرّغُ
وقال حَسّان فى القِدْر:
رأَيت قُدورَ الصّادِ حول بيوتِنا ... قَنابلَ دُهْما فى المباءَة صُيَّما
أَى قدور النحاس.(3/368)
بصيرة فى صب وصبح
صبَبْتُ الماءَ: سكبتُه. وماءٌ صَبٌّ وسَكْب. وقوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، أَى عَذَّبهم.
ورجلٌ صَبّ، أَى عاشق مشتاق. وقد صَبِبْتَ يا رجل تَصَبّ. قال الكُمَيت:
وأَنت تَصَبّ إِلى العاشقينَ ... إِذا ما خليلك لم يَصْبَبِ
والصَّبابة: رِقَّة الشوق وحرارته.
والصُّبُّ - بالضمّ -: كلّ ما صببته من طعام أَو غيره مجتمعًا. والصُبّة - بهاء -: مثل الصُّبَابة من الماءِ. وصُبّة من الليل: طائفة.
والصَّبَب: ما انحدر من الأَرض، والجمع: أَصباب.
والصُّبح والصَّباح: أَوّل النَّهار، وهو وقت ما احمرّ الأُفُقُ بحاجب الشمس. والتصبُّح: النوم بالغَدَاة، وكذا الصُّبْحة. والصَّبُوح: شُرْبُ الصّباح. يقال: صَبَحْته: سقيته صَبُوحًا. والصَّبْحان: المصطبِح.
والمِصباح: ما يُسْقَى منه، من الإِبل: ما يَبْرُك فلا ينهض حتى يُصبح، وما يجعل فيه المصباح، قال تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} . ويقال للسّراج(3/369)
مصباح. والمصباح: مَقَرّ السّراج أَيضًا. والمصابيح: أَعلام الكواكب؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} .
وصبّحتهم ماء كذا: أَتيتهم به صباحًا.
والصَبَح - محرّكة -: شدّة حُمرة فى الشعر، تشبيهًا بالصُّبْح أَو المصباح.(3/370)
بصيرة فى صبر
الصَّبر فى اللغة: الحَبْس والكفّ فى ضيق، ومنه قيل: فلانٌ صُبِرَ: إِذا أُمسك وحُبِس للقتل. قال تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} ، أَى احبس نفسك معهم.
فالصَّبر: حبس النَّفس عن الجزع والسّخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش. قال الإِمام أَحمد - رحمه الله -: ذَكر الله تعالى الصّبرَ فى القرآن فى نحوٍ من تسعين موضعًا، وهو واجب بإِجماع الأُمّة. وهو نصف الإِيمان؛ فإِنَّ الإِيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصف شُكر.
وهو فى القرآن على ستَّة عشر نوعا:
الأَوّل: الأَمر به نحو قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة} ، وقوله تعالى: {اصبروا وَصَابِرُواْ} ، وقوله تعالى: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} ، {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} .(3/371)
الثاني: النَّهى عن ضدّه كقوله: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ، وقولهِ: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} ، فإِن تَوْلية الأَدبار ترك الصّبر والمصابرة.
الثالث: الثَّناء على أَهله كقوله: {الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} ، وقوله: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون} . وهو كثير النَّظائر فى التنزيل.
الرّابع: إِيجاب معيّتة لهم المعيّةَ التى تتضَمّن حفظهم ونصرهم وتأْييدهم، ليست معيَّة عامّة، أَعنى مَعيَّة العِلْم والإِحاطة، كقوله: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} .
الخامس: إِيجاب محبّته لهم، كقوله: {والله يُحِبُّ الصابرين} وقوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} .
السّادس: إِخباره بأَنَّ الصبر خير لهم، كقوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وقوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} .(3/372)
السّابع: إِيجابه الجزاء لهم بأَحسن ما كانوا يعملون.
الثامن: إِيجابه الجزاء لهم بغير حساب، كقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
التاسع: إِطلاق البُشرَى لأَهل الصّبر، كقوله: {وَبَشِّرِ الصابرين} .(3/373)
والصّبر على ثلاثة أَنواع: صَبْرٌ على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله.
فالأَولان: الصّبر على ما يتعلق بالكسب. والثالث: الصّبر على مالا كسب للعبد فيه.
وقال بعض المشايخ: كان صبر يوسف عن طاعة امرأَة العزيز أَكمل من صبره على إِلقاءِ إِخْوته إِيّاه فى الجُبّ، وبيعهم [إِيّاه] ، وتفريقهم بينه وبين أَبيه، فإِنَّ هذه أُمور جرَت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصّبر. وأَمّا صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا،(3/375)
ومحاربةٌ للنَّفس، ولا سيّما مع أَسبابٍ تقوّى معها داعية الموافقة؛ فإِنّه كان شابًّا، وداعية الشابّ إِليها قوَّته؛ وكان عَزَبًا ليس له ما يعوّضه ويَرُدّ شهوته؛ وغريبًا، والغريب لا يستحى فى بلدِ غُربته ممّا يستحى منه بين أَصحابه وأَهلِه؛ ويحسبونه مملوكًا، والمملوك ليس وازعهُ كوازع الحرّ؛ والمرأَة جميلة وذات مَنْصِب، وقد غاب الرّقيب، وهى الدّاعية له إِلى نفسها، والحريصة على ذلك أَشدّ الحرص، ومع ذلك توعّدته بالسجن إِن لم يفعل. فمع هذه الدّواعى كلّها صبر اختيارًا، وإِيثارًا لما عند الله. وأَين هذا من صبره فى الجُبّ على ما ليس من كسبه؟!
والصّبر على أَداءِ الطَّاعات أَكمل من الصّبر على اجْتِنَاب المحرّمات؛ فإِنَّ مصلحة فعل الطَّاعة أَحَبُّ إِلى الشَّارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أَبغض وأَكره من مفسدة وجود المعصية.
ثمّ الصّبر ينقسم بنوع آخر من القسمة على ثلاثة أَنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأَوّل: الاستعانة به، ورؤية أَنَّه هو المصبِّر، وأَنَّ صبر العبد بربّه لا بنفسه، كما قال تعالى: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} ، يعنى إِنْ لم يُصَبِّرك هو لم تصبر.(3/376)
والثَّانى: أَن يكون الباعث على الصّبر محبّة الله وإِرادة وجهه، والتقرّب إِليه، لا إِظهار قوّة النفْس، والاستحماد إِلى الخلق، وغير ذلك من الأَغراض.
والثالث: دوران العبد الذى (مُنى مع) الأَحكام الدينيّة صابرًا نفسه معها، سائرًا بسَيرها، مقيمًا بإِقامتها، يتوجّه معها أَينما توجّهت ركائبها، وينزل حيث استقلَّت مضاربُها. فهذا معنى كونه صابرًا مع الله، قد جعل نفسه وَقْفا على أَوامره ومحابّه. وهو أَشدّ أَنواع الصّبر وأَصعبها. وهو صب الصدّيقين.
قال ذو النُّون: الصبر: التباعد من المخالفات، والسّكون عند تجرّع غُصص البليّات، وإِظهار الغنى مع طول الفقر بساحات المعيشة. وقيل: الصبر: الوقوف مع البلاءِ بحسن الأَدب. وقيل: هو الفناءُ فى البلوَى، بلا ظهور شكوَى. وقيل: إِلزام النَّفْس الهجومَ على المكاره. وقيل: المُقام مع البلاءِ بحسن الصّحبة كالمقام مع العافية.
وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله، وتلقِّى بلائه بالرُّحْب والسّعة. وقال الخوّاص: هو الثبات على أَحكام الكتاب والسنة.(3/377)
وقال يحيى بن مُعَاذ: صبر المحبّين أَشدّ من صبر الزاهدين. واعجبا كيف يصبرون! وأَنشد.
والصّبر يُحْمَدُ فى المواطن كلِّها ... إِلاَّ عليك فإِنَّه مذمومُ
وقيل: الصّبر هو الاستعانة بالله. وقيل: هو ترك الشكوَى. وقيل:
الصّبر مثلُ اسمه مُرٌّ مَذاقته ... لكنْ عواقبه أَحلَى من العسلِ
وقيل: الصّبر أَن ترضى بتلَف نفسك فى رضا مَن تحبّه، كما قيل:
سأَصبر كى ترضَى وأَتْلَفُ حسرةً ... وحَسْبِىَ أَن ترضى ويقتلنى صبرى
وقيل: مراتب الصّبر خمسة: صابر، ومصطبر، ومتصبّر، وصَبُور، وصبّار.
فالصّابر أَعمّها. والمصطبر: المكتسِب للصبر، والمبتلَى به. والمتصبرّ: متكلِّف الصّبر حاملُ نفسِه عليه. والصّبور: العظيم الصّبر الَّذى صَبْره أَشدّ من صبر غيره. والصّبَار: الشديد الصّبر، فهذا فى القَدْر والكمّ، والَّذى قبله فى الوصف والكيف.
وقال علىّ بن أَبى طالب: الصّبر مطيَّة لا تَكْبُو.
وقف رجل على الشِّبْلِىّ فقال: أَىّ الصّبر أَشدّ على الصّابرين؟ فقال: الصّبر فى الله. فقال السّائل: لا. قال: مع الله. قال: لا. قال: فأَيش؟(3/378)
قال: الصّبر عن الله. فصرخ الشِّبلىّ صَرخةً كادت نفسه تتلف.
وقال الجَريرىّ: الصّبر أَلاَّ تفرق بين حال النعمة وحال المحنة، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبّر: السّكون مع البلاءِ، مع وِجدان أَثقال المحْنَة.
وقال أَبو على الدّقَّاق: فاز الصّابرون بعز الدّاريَين؛ لأَنهم نالوا مع الله معيَّته؛ فإِنَّ اللهَ مَعَ الصّابرين.
وقيل فى قوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} ، انتقال من الأَدنى إِلى الأَعلى. فالصبر دون المصابرة، والمصابرة دون المرابطة: مفاعلة من الرّبط وهو الشدّ. وسمّى المرابِط مرابطًا لأَنَّ المرابِطين يربِطون خيولهم ينتظرون الفَزَع. ثمّ قيل لكلّ منتظر، قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها: مرابِط. وقيل فى تفسيره: اصبروا بنفوسكم، وصابروا بقلوبكم على البَلْوَى فى الله، ورابطوا بأَسراركم على الشوق إِلى الله. وقيل: اصبروا فى الله، وصابروا بالله، ورابطوا مع الله لعلكم تفلحون فى دار البقاءِ. فالصبر مع نفسك، والمصابرة بينك وبين عدوّك، والمرابطة: الثبات وإِعداد العدّة؛ كما أَن الرّباط ملازمة الثغر لئلاً يهجُمه العدوّ. فكذلك المرابَطة أَيضًا: لزوم ثَغْر القلب؛ لئلاَّ يهجُم عليه الشيطان فيملكَه. أَو يُخربه أَو يشعِّثه.(3/379)
وقيل: تَجَرَّعِ الصّبرَ، فإِنّْ قَتَلَك قتلك شهيدًا، وإِن أَحياك أَحياك عزيزًا حميدًا. وقيل: الصّبر لله عَناء، وبالله بقاء، وفى الله بلاء، ومع الله وفاء، وعن الله جفاء. والصّبر على الطَّلب عنوان الظَّفر، وفى المِحَن عنوان الفَرَج.
وفى كتاب الأَدب للبخارىّ: سئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإِيمان فقال: "الصّبر والسّماحة". وهذا من أَجمع الكلام، وأَعظمه برهانًا، وأَوعاه لمقامات الإِيمان من أَوّلها إِلى آخرها؛ فإِن النَّفس يراد منها شيئان: بذل ما أُمِرَت به وإِعطاؤه، فالحامل عليه السّماحة؛ وتركُ ما نُهيَتْ عنه والبعد عنه، فالحامل عليه الصّبر. وقد أضمر الله سبحانه فى كتابه بالصّبر الجميل الذى لا شكوى معه، والصّفح الجميل الَّذى لا عِتاب معه، والهجرِ الجميل الذى لا أَذى معه.
وقال ابن عُيَيْنَة فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ} : أَخذوا برأْس الأَمر فجعلهم رُءُوسًا.
واعلم أَنَّ الشكوى إِلى الله عزَّ وجلّ لا تُنافى الصّبر؛ فإِنَّ يعقوب - عليه السلام - وَعَد بالصّبر الجميل، والنبىّ إِذا وَعَدَ لا يُخلف، ثمّ قال: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} ، وكذلك أَيّوب عليه السّلام أَخبر الله عنه أَنه وجده صابرًا مع قوله: {مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} ، وإِنَّمَا ينافى(3/380)
الصبر شكوى الله لا الشكوى إِلى الله؛ كما رأَى بعضهم رجلاً يشكو إِلى آخر فاقةً وضرورة، فقال: يا هذا، تشكو من يَرْحَمُكَ إِلى مَنْ لا يرحمك! ثمّ أَنشده:
وإِذا اعْتَرَتْكَ بليّةٌ فاصبِر لها ... صَبْرَ الكريمِ فإِنَّه بك أَرحمُ
وإِذا شكوتَ إِلى ابن آدم إِنّما ... تشكو الرّحيم إِلى الَّذى لا يرحم
وقال الشيخ عبد الله الأَنصارىّ: الصّبر حبس النفْس على المكروه، وعقل اللِّسان عن الشكوى.
وهو على ثلاث درجات:
الأُولى: الصّبر عن المعصية بمطالعة الوعيد. وأَحسن منها الصّبر عن المعصية حياءً.
الثانية: الصّبر على الطاعة بالمحافظة عليها دوامًا، وبرعايتها إِخلاَصًا، وبتحسينها عِلمًا.
الثالثة: الصّبر فى البلاءِ بملاحظة حسن الجزاءِ، وانتظار رَوْح الفَرَج، وتهوِين البليّة بِعَدّ أَيادى المِنَن، وتذكُّر سوالف النِّعم.(3/381)
وأَضعف الصّبر، الصَّبْرُ لله وهو صبر العامة. وفوقه الصبر بالله وهو صبر المريدين. وفوقه الصبر على الله وهو صبر السّالكين. ومعنى كلامه أَنّ صبر العامّة لله، أَى رجاءَ ثوابه وخوف عقابه، وصبر المريدين بالله، أَى بقوّة الله ومعونته، فهم لا يرون لأَنفسهم صبرًا ولا قوّة عليه، بل حالهم التَّحقُّق بلا حول ولا قوّة إِلاَّ بالله عِلمًا ومعرفة وحالاً. وفوقها الصّبر على الله، أَى على أَحكامه. هذا تقرير كلامه رحمه الله.
والصّواب أَنَّ الصّبر لله فوق الصّبر بالله، وأَعلى درجة، وأَجلّ شأْنًا؛ فإِنَّ الصّبر لله متعلق بالإِلَهية، والصّبر به متعلق بربوبيّته، وما تعلق بالإِلَهية أَكمل وأَعلى مما تعلق بربوبيّته، ولأَنَّ الصّبر له عبادة، والصّبر به استعانة، والاستعانة وسيلة، والعبادة غاية، والغاية مرادة لنفسها، والوسيلة مرادة لغيرها؛ ولأَنَّ الصّبر به مشترك، بين المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، فكلّ من شهد الحقيقة الكونيّة صَبَر به، وأَمّا الصّبر له فمنزلة الرُّسُل والأَنبياءِ والصّدِّيقين؛ ولأَن الصّبر له صبر فيما هو حقّ له، محبوب له، مرضىّ له، والصّبر [به] قد يكون فى ذلك، وقد يكون فيما هو مسخوط له، وقد يكون فى مكروه أَو مباح. فأَين هذا من هذا؟!
وأَمّا تسمية الصّبر على أحكامه صبرًا عليه فلا مشاحّة فى العبارة بعد معرفة المعنى. والله أَعلم.
وقد يعبّر عن الانتظار بالصبر لمّا كان حق الانتظار أَلاَّ ينفكّ عن(3/382)
الصّبر، بل هو نوع من الصّبر؛ قال تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} أَى انتظر حكمه لك على الكافرين.
وقيل: الصّبر لفظ عامّ، وربّما خُولِفَ بين أَسمائه بسبب اختلاف مواقعه. فإِن كان حَبْسُ النَّفس لمصيبة سُمِّىَ صبرًا لا غَيْر، ويضادّه الجزع. وإِن كان فى محاربة سمّى شجاعة، ويضادّه الجُبْن. وإِن كان فى نائبة مُضجرة سمّى رُحْب الصّدر، ويضادّه الضَّجْر. وإِن كان فى إِمساك الكلام سُمِّىَ كتمانًا، ويضادّه المَذْل. وقد سمّى الله تعالى كلّ ذلك صبرًا لقوله: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس} ، {والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ} .(3/383)
بصيرة فى صبع وصبى
الصِّبغْ، والصِّبَغ - مثال شِبْع وشِبَع، والصِّبْغة: ما يُصبغ به. قال عُذافِر الكِنْدِىّ:
واصبغُ ثيابى صِبَغًا تحقيقا ... من جيّد العُصْفُر لا تشريقا
والصِّبْغ أَيضا: ما يُصطبَغ به، أَى يُؤْتَدَمُ، ومنه قوله تعالى: {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} . والجمعُ: صِبَاغ؛ قال:
تَزَجَّ من دنياك بالبلاغِ ... وباكِرِ المِعْدة بالدّباغِ
بِكِسَر ليّنة المِضاغِ ... بالمِلْحِ أَو ما خَفَّ من صِبَاغِ
ويقال: الصِّبْغ والصِّبَاغ واحد، كدِبْغ ودِبَاغ. ولِبْس ولِبَاس.
وصبغت الثوب أصبُغه وأَصبَغهُ وأَصبِغُه - الكسر عن الفرّاءِ - صَبْغًا، وصِبَغًا كعنب عن الأَصمعى.
وقوله: {صِبْغَةَ الله} ، أَى فطرة الله، أَى قل يا محمّد:(3/384)
بل نتَّبع صِبْغة الله، ردًّا على قوله: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ونتَّبع صبغة الله. وقيل: اتَّبِعوا صبغة الله.
وإِنَّما سمّيت المِلّة صِبْغة لأَنَّ النَّصارى امتنعوا من تطهير أَولادهم [إِلا بصَبغهم] بالماءِ الأَصفر، من قولهم: صَبَغَتِ النَّاقةُ مَشافرَها فى الماءِ: إِذا غمستها فيه صَبغًا. وقال أَبو عمرو: الصِّبْغة: الدِّين. وقيل: صبغة الله هى الَّتى أَمر الله بها محمّدا صلَّى الله عليه وسلَّم، وهى الختانة، اختتن إِبراهيم عليه السلام، فهى الصِّبغة، فجرت الصّبعة على الختِانة.
والصَّبِىُّ: من لم يُفْطم بعد. وقيل: من لم يبلغ الحُلُم. والجمع: أَصْبية وأَصْبٍ، وصِبْوة، وصِبْية، وصِبوانُ، وصِبيانٌ، ويضمّ الثلاثة الأَخيرة. وصَبِىَ كرضى: فعل فعله. وصَبا إِليه صَبْوة وصُبُوًّا وصِبًا: حَنَّ.
أَصْبته المرأَةُ وتَصَبَّته: شاقته ودعته إِلى الصِّبَا فحنّ إِليها. وتصبَّاها وتصاباها: خَدَعَها وفتنها.
والصَّبَا: ريح مَهَبُّها من مطلع الثريَّا إِلى بَنات نَعْش. وتُثَنَّى صبَوَان أَو صَبَيان. والجمع: صَبَوَات وأَصباء. وصَبَت صَبَاءً وصُبُوًّا: هبّت. وصُبِىَ القوم - كعُنى -: أَصابتهم الصَّبا. وأَصْبَوا: دخلوا فيها.(3/385)
بصيرة فى صحب
صَحِبَهُ يَصْحَبه، صُحْبة - بالضمّ - وصَحَابة بالفتح، وصِحَابة بالكسر عن الفرّاءِ. وجمع الصّاحب: صَحْب، كراكب ورَكْب، وصُحْبة كفارِهٍ وفُرْهة، وصِحَاب كجائع وجِياع، وصُحْبانٌ - بالضمّ - كشابّ وشُبَّان. والأَصحاب: جمع صَحْب، كفرخ وأَفراخ. الصّحابة: الأصحاب. وهو فى الأَصل مصدر. وجمع الأَصحاب: أَصاحيبُ.
/وقولهم فى النداءِ: يا صاحِ، معناه يا صاحبى. ولا يجوز ترخيم المضاف إِلاَّ فى هذا وحده. سُمع من العرب مرخّمًا.
والصاحب: الملازِم، إِنسانًا كان أَو حيوانًا أَو مكانًا أَو زمانًا. ولا فرق بين أَن يكون مصاحبتُه بالبدن - وهو الأَكثر - أَو بالعناية والهمَّة. ولا يقال فى العُرْف إِلاَّ لمن كثرت ملازمته. ويقال لمالكِ الشىء: هو صاحبه. وكذلك لمن يملك التصرّف فيه.
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} ، أَى الموَكَّلين بها لا المعَذَّبين بها.(3/386)
وقد يضاف الصّاحب إِلى مَسُوسه؛ نحو ص الجيش، وإِلى سائسه حب: نحو صاحب الأَمير.
والمصاحبة والاصطحاب أَبلغ من الاجتماع؛ لأَنَّ المصاحبة تقتضى طول لبثه. وكلّ اصطحابٍ اجتماعٌ دون العكس.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} سمّى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم صاحبهم تنبيهًا [أَنكم صحبتموه] وجَرّبتموه، وعرفتم ظاهره وباطنه، فلم تجدوا به خَبَلاً ولا جِنَّة.
والإِصحاب للشىء: الانقياد له. وأَصله أَن يصير له صاحبًا. ويقال: أَصحب فلانٌ: إِذا كبِر ابنُه فصار له صاحبًا. وأُصْحِبَ فلان فلانًا: جُعل صاحبًا له. قال تعالى: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} .(3/387)
بصيرة فى صحف وصخ
الصّحيفة: الكتاب. والجمع: صُحُفٌ وصحائفٌ. وقال الليث: الصُّحُف جماعة الصّحيفة، وهذا من النَّوادر أَن يجمع فعيلة على [فُعُل] ، مثل صحيفة وصحف، وسفينة وسُفُنٌ، وكان قياسه صحائف وسفائن. وقوله الله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} ، يعنى الكتب المنزلة عليهما.
وصحيفة الوجه بَشَرته قال:
إِذا بَدا من وَجْهه الصَّحِيف
والصحيفة: المبسوطة من كلّ شىء.
وقوله تعالى: {صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، [قيل: أُريد بها القرآن. وجعله صحفا فيها كتب] من أَجل تضمّنه زيادة ممّا فى كتب الله المتقدّمة.
والمصحف - بتثليث الميم - ما جُعل جامعا للصحف المكتوبة.
والتصحيف: قراءَة المُصْحف وروايته على غير ما هو، لاشتباه حروفه.(3/388)
والصَّحْفة كالقَصْعة. وقال الكسائىّ: أَعظم القِصاع الجَفْنة، ثمّ القَصعة تليها تُشبع العشرة، ثمّ الصَّحْفة تُشبع الخمسة، ثمّ المِئْكلة تُشبع الرّجُلين والثلاثة، ثمّ الصُّحَيفة تُشبع الرّجُل.
والصّاخَّة: شدّة صوت ذى النُّطق. صخَّ يصُخُّ صَخًّا. قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} ، وهى عبارة عن القيامة، حسب المشار إِليه بقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} .(3/389)
بصيرة فى صد
الصُّدود: الإِعراض، وقد صدّ عنه، يَصُدّ صَدًّا وصُدودًا. قال تعالى: {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . وصدَّه عن الأَمر صدًّا: صَرَفَه ومنعه. قال تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} ، أَى صَدّ بِلقيسَ عن الإِيمان العادةُ الَّتى كانت عليها من عبادة الشمس.
وصدّ يصُدّ ويصِدّ، أَى ضَجّ. وقرأ ابن كثير وأَبو عمرو، وعاصم غير الأَعشى، والبرجمىّ، ويعقوب، وسهل وحمزة: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} بكسر الصاد.
ويقال لكلّ جبل: صَدٌّ وصُدّ، وسَدٌّ وسُدّ. والصَّدّان، الصُدَّان: ناحيتا الوادى.
الصّديد: الحَمِيم أُغْلِىَ حتى خَثر. وصديد الجرح: ماؤه الرّقيق المختلط بالدّم قبل أَن يغلظ المدّة. الصّديد فى قوله تعالى: {ويسقى(3/390)
مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} : ما يسيل من أَهل النار من الدّم والقيح. والصّديد: ما حال بين اللَّحم والجلد من القيح.
والتصديد: التَّصفيق. والتصدُّد: التعرّض هذا هو الأَصل، ثمّ يُبدل من الدّال الثانية ياء فيقال: التَّصدية والتَّصدّى، قال تعالى: {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} ، وقال عزَّ مِن قائل: {فَأَنتَ لَهُ تصدى} .(3/391)
بصيرة فى صدر
الصّدْر: الجارحة. والجمع: صُدُور. ثم استعير لمقدّم الشىء؛ مثل صدر القناة، وصدر السّهم، وهو ما وفق نصفه إِلى المراش. وسهمٌ مُصَدَّر: غليظ الصّدر. وأَخَذَ الأَمر بصدّره: بأَوّله. والأُمورُ بصدورها. وهؤلاءِ صُدْرة القوم: مقدَّموهم:
وصُدِّر فلان فتصدّر: قُدِّم فتقدّم. وصَدَرَه: أَصاب صدْرَه، أَو قصد قصدَهُ؛ نحو ظَهَره وكَتَفَه. ومنه رجل مصدور: يشتكى صَدْره. فإِذا عُدّى صَدَّ بعن اقتضى الانصراف؛ نحو صَدَرَت الإِبلُ عن الماءِ صَدَرًا.
والمصدر يقال فى مصدر صدر عن الماءِ، ولمَوضع الصّدَر، ولزَمانه. وقد يقال فى عرف النّحاة للفظ الذى رُوعِىَ فيه صدورُ الفعل الماضى والمستقبل عنه.
وقال بعض العلماءِ: حيثما ذكر اللهُ القلب فإِشارة إِلى العقل والعلم؛ نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، وحيثما ذكر الصّدْر فإِشارة إِلى ذلك وإِلى سائر القوى: من الشهوة، والهوى، والغضب ونحوها.(3/392)
وقولُه: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} سؤال لإِصلاح قُواه، وكذا قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} إِشارة إِلى اشتفائهم، وقولُه: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولاكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} ، أَى العقول التى هى مُندسّة فيما بين سائر القوى، وليست بمهتدية. والله أَعلم.(3/393)
بصيرة فى صدع
اللَّيث: الصَّدع: الشَقّ فى شىء له صَلابة. قال حسّان رضى الله عنه يهجو الحارث بن عَوف المُرّىّ.
وأَمانَةُ المُرّىّ حيث لَقِيته ... مثلُ الزجاجة صدعُها لم يُجْبرِ
وقوله تعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أَى شُقّ جماعاتهم بالتَّوحيد. وقيل: اجهر بالقرآن. وقيل: أَظهِر، وقيل: احكم بالحقّ، وافصل بالأَمر. قال ثعلب: قال أَعرابىّ ممّن كان يحضر مجلس أَبى عبدِ الله. وكان أَبو عبد الله ربّما يأْخذ عنه: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أَى اقصد بما تؤمر. قال والعرب تقول: صدعت فلانا، أَى قصدته لأَنَّه كريم. وقال ابن عرفة: أَراد افرُق به بين الحقّ والباطل. قال جرير يمدح يزيد بن عبد الملك:
هو الخليفة فارضَوا ما قَضَى لَكْمُ ... بالحقّ يَصْدعُ ما فى قوله جَنَفُ
ومنه اشتُقَّ الصُّدَاع لأَنَّه شِبْه انشقاق فى الرّأْس.
وقيل فى قول أَبى ذُؤيب الهُذَلىّ يصف الحمار والأُتن:(3/394)
وكأَنَّهُنَّ رِبَابَةٌ وكأَنَّه ... يَسَرٌ يُفيضُ على القِداح ويَصْدَعُ
أَى يفرق ويُبَيِّن بالحكم، ويخبر بما يجىء. وقال الخليل: يصدع أَى يقول بأَعلى صوته: هذا قِدْح فلان. وقال معمر: يصدع، أَى يفرق، على القداح، أَى بالقداح من قوله تعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أَى افرق به بين الحق والباطل. وإِن كان (يصدع) للرجل فإِنه يقول: فاز قِدح فلان. ويقال: صدعت بالحقّ: إِذا تكلَّمت به جِهارًا.
وانصدع: انشقّ: ومنه الصَدِيع للصّبح؛ لأَنَّه يصدع اللَّيل أَى يشُقَّه. والتَّصديع: التَّفريق. وتصدّعوا: تفرّقوا. واصَّدَّع بتشديد الصّاد والدّال، أَى تَصَدَّع. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} ، أَى يتفرّقون، ففريق فى الجنَّة وفريق فى النَّار. والله أَعلم.(3/395)
بصيرة فى صدف وصدق
الصَّدَف كجَبَل، والصُّدُف كعنق، و (الصَّدْف كثَغْر) ، والصَّدُف كعَضُد: منقطَع الجبل. وقرىء بالجمِيع. صَدَف عنه يَصْدِف: أَعرض. وصَدَف فلانًا صَدْفًا: صَرَفَهُ وأَماله. وكذا أَصدفه. وصدفَ فلان صَدْفًا وصُدوفًا: انصرف. والصَّدُوف: المرأَة الَّتى تعرِض وجهها عليك، ثمّ تصدِف.
والصَّديق والكذب أَصلها فى القول، ماضيًا كان أَو مستقبلاً، وعدًا كان أَو غيره. ولا يكونان بالقصد الأَوّل إِلاَّ [فى القول، ولا يكونان فى القول إِلا] فى الخبر دون غيره من أَنواع الكلام. ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} ، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} .
وقد يكونان بالعَرَض فى غيره من أَنواع الكلام كالاستفهام، والأَمر، والدّعاءِ، وذلك نحو قول القائل: أَزَيْدٌ فى الدّار؛ فإِن فى ضمنه إِخبارً(3/396)
ابكونه جاهلاً بحال زيد، وكذا إِذا قال: واسِنى، فى ضمنه أَنَّه محتاج إِلى المواساة. وإِذا قال: لا تؤذنى، ففى ضمنه أَنَّه يؤذيه.
والصّدق: مطابقة القول الضَّميرَ والمُخْبَرَ عنه معًا. ومتى انخَرم شرط من ذلك لا يكون صدقًا [تامًّا] ، بل إِمّا أَلاَّ يوصف بالصّدق، وإِمّا أَن يوصف تارة بالصّدق وتارة بالكذب، على نظرين مختلفين؛ كقول الكافر من غير اعتقاد: محمّد رسول الله، فإِن هذا يصحّ أَنْ يقال: صدقٌ لكون المخبَرِ عنه كذلك، ويصح أَن يقال: كذبٌ لمخالفة قوله ضميرَه. وبالوجه الثانى إِكذاب الله تعالى المنافقين حيث قالوا: إِنَّك لرسول الله فقال: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} .
والصِّدِّيق: الرّجل الكثير الصّدق. وقيل: الصّدِّيق: مَن لم يصدر منه الكذب أَصلاً. وقيل: مَن لا يتأَتَّى منه الكذب لتعوّده الصّدق. وقيل: مَنْ صَدَق بقوله واعتقاده، وحَقَّق صدقه، قال تعالى فى حقّ إِبراهيم. {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} ، وقال: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين} ، فالصّدّيقون: قومٌ دون الأَنبياءِ فى الفضيلة، ولكن درجتهم ثانى درجة النبيّين.(3/397)
وفى الجملة، منزلة الصّدق من أَعظم منازل القوم، الذى نشأَ منه جميع منازل السّالِكين. وهو الطريق الأَقوم الَّذى من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقَطِعين الهالكين. وبه تميّز أَهل النفاق من أَهل الإِيمان، وسكانُ الجنان من أَهل النيران. وهو سيف الله فى أَرضه الذى ما وضع على شىء إِلاَّ قطعه، ولا واجه باطلاً إِلاَّ أَزاله وصرعه. فهو رُوح الأَعمال، ومحلّ الأَحوال، والحامل على اقتحام الأَهوال، والباب الذى دخل منه الواصلون إِلى حضرة ذى الجلال.
وقد أَمر الله سبحانه أَهل الإِيمان أَن يكونوا مع الصّادقين، وخصّص المنعَم عليهم بالنَّبيِّين والصّدِّيقين والشهداء والصّالحين، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} ، وقال: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} ، فهم أَهل الرّفيق الأَعلى، / {وَحَسُنَ أولائك رَفِيقاً} ، ولا يزال الله يَمدّهم بنعمهِ وأَلطافه، ويزيد إِحسانًا منه وتوفيقًا، ولهم مزيّة المعِيّة مع الله، فإِن الله تعالى مع الصّادقين. ولهم منزلة القرب منه؛ إِذ درجتهم منه ثانى درجة النبيّين، وأَثنى عليهم بأَحسن أَعمالهم: من الإِيمان، والإِسلام، والصّدقة، والصّبر، [و] بأَنَّهم أَهل الصّدق فقال:(3/398)
{ولاكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} إِلى قوله: {أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون} ، وهذا صريح فى أَنَّ الصّدق بالأَعمال الظاهرة والباطنة، وأَنَّ الصّدق هو مَقام الإِسلام والإِيمان.
وقسّم سبحانه النَّاس إِلى صادق ومنافق، فقال: {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} .
والإِيمان أَساسه الصّدق، والنفاق أَساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإِيمان إِلاَّ واَحَدهما يحارب الآخر. وأَخبر سبحانه أَنَّه فى القيامة لا ينفع العبدَ وينجيه من عذابِه إِلاَّ صدقُه، فقال تعالى: {هاذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم} ، وقال: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولائك هُمُ المتقون لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فالذِى جاءَ بالصّدق هو من شأْنُه الصّدق فى قوله، وعمله، وحاله. فالصّدق فى الأَقوال: استواءُ اللسان على الأَقوال؛ كاستواءِ السُّنبلة على ساقها. والصّدقُ فى الأَعمال: استواء الأَفعال على الأَمر والمتابعة؛ كستواءِ الرّأْس على الجَسَد. والصّدق فى الأَحوال: استواءُ أَعمال القلب والجوارح على(3/399)
الإِخلاص، واستفراغ الوُسْع، وبذل الطاقة؛ فبذلك يكون العبد من الذين جاءُوا بالصّدق. وبحسب كمال هذه الأُمور فيه، وقيامِها به تكون صِدّيقيّته، ولذلك كان لأَبى بكر الصّدّيق ذروة الصّدّيقيّة، حتى سُمّى الصّدّيق على الإِطلاق. والصّدّيق أَبلغ من الصَّدُوق، والصَّدُوق أَبلغ من الصَّادق، فأَعلى مراتب الصدق مرتبة الصدّيقيّة، وهى كمال الانقياد للرّسول، مع كمال الإِخلاص للمرسِل.
وقد أَمَر سبحانه رسوله أَن يسأَله أَن يجعل مُدْخله ومُخرجه على الصّدق، فقال: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} .
وأَخبر عن خليله إِبراهيم عليه السّلام أَنَّه سأَله أَن يجعل له لسان صِدق فى الآخِرين. وبشَّر عباده أَنَّ لهم قَدَم صِدق، ومقعد صدق؛ فقال: {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} ، وقال: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} . فهذه خمسة أَشياء: مدخل الصّدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصّدق، وقَدَم الصّدق. وحقيقة الصّدق فى هذا الأَشياءِ هو الحقّ الثَّابت المتَّصل بالله، الموصِّل إِلى الله، وهو ما كان به وله من الأَعمال والأَقوال. وجزاءُ ذلك فى الدّنيا والآخرة.(3/400)
فمُدخَل الصّدق ومُخرَج الصّدق أَن يكون دخوله وخروجه حقًّا ثابتًا لله تعالى ومرضاتِه. متَّصلا بالظَّفر ببغيته، وحصول المطلوب، ضِدّ مُخرَج الكذب ومُدخله الَّذى لا غاية له يوصّل إِليها، ولا له ساقٌ ثابتة يقوم عليها؛ كمُخرَج أَعدائه يوم بدر. ومُخرج الصّدق كمخرجه هو وأَصحابه فى ذلك الغَزْو. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله والله وابتغاءَ مرضاة الله، فاتَّصل به التَّأْييدُ، والظفر، والنَّصر. وإِدراك ما طلبه فى الدّنيا والآخرة؛ بخلاف مدخل الكذب الذى رام أَعداؤه أَن يدخلوا به المدينة يوم الأَحزاب؛ فإِنَّه لم يكن بالله ولا لله بل محادّة لله وسوله، فلم يتَّصل به إِلاَّ الخِذلانُ والبوار، وكذلك مدخل مَنْ دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حِصن بنى قُرَيطة؛ فإِنَّه لمّا كان مدخل كذب أَصابهم منه ما أصابهم. وكلّ مدخل ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله، فهو مدخل صدق ومخرج صدق، ولذلك فُسّر مدخل الصّدق ومخرجه بخروجه من مَكة، ودخوله المدينة. ولا ريب أَنَّ هذا على سبيل التَّمثيل؛ فإِنَّ هذا المدخل والمخرج من أَجلّ مداخله ومخارجه صلَّى الله عليه وسلَّم، وإِلاَّ فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق. إذ هى بالله، ولله، وبأَمره، ولابتغاءِ مرضاته. وما خرج أَحد من بيته أَو دخل سُوقًا أَو مَدْخلا آخر إِلاَّ بصدق أَو كذِب. فمدخل كلّ أَحد ومخرجه لا يَعْدُو الصّدق والكذب والله المستعان.(3/401)
وأَمّا لسان الصّدق فهو الثناءُ الحسن من سائر الأُمم بالصّدق ليس بِالكذب؛ كما قال عن أَنبياء: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} ، والمراد باللسان ههنا الثناءُ الحسن، فلمّا كان باللسان وهو محلّه عبّر عنه به؛ فإِنَّ اللسان يراد به ثلاثة معان: هذا، واللغة كقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} ، {وهاذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ} ، ويراد به الجارحة نفسها كقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} .
وأَمَّا قدم الصّدق ففُسِّر بالجنة، وفسّر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وفُسّر بالأَعمال الصّالحة. وحقيقة القدم: ما قدّموه، ويقدَمون عليه يوم القيامة، وهم قدّموا الأَعمال والإِيمان بمحمّد صلَّى الله عليه وسلم، ويقدَمون على الجنة؛ ومَن فسّر بالأَعمال وبالنبىّ صلَّى الله عليه وسلم فلأَنَّهم قدّموها، وقدّموا الإِيمان به بين أَيديهم.
وأَمّا مقعد صدق فهو الجنَّة عند ربّهم تبارك وتعالى.
ووصْف ذلك كلِّه بالصّدق مستلزم ثبوتَه واستقراره، وأَنَّه حقّ، ودوامَه ونفعه وكمال عائدته؛ فإِنَّه متَّصل بالحقّ سبحانه، كان به وله.(3/402)
فهو صدقٌ غير كذب، وحَقّ غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضارّ، ما للباطل ومتعلقاته إِليه سبيل ولا مدخل.
ومن علامات الصّدق طُمأْنينة القلب إِليه، ومن علامات الكذب حصول الرِّيبة؛ كما فى الترمذىّ مرفوعًا: "الصّدق طمأْنينة، والكذب ريبة"، وفى الصّحيحين: "إِنَّ الصّدق يَهدى إِلى البرّ، وإِنَّ البرّ يهدى إِلى الجنَّة، وإِنَّ الرّجل لَيَصْدُقُ حتى يُكتب عند الله صِدّيقًا، وإِنَّ الرّجل لَيَكْذبُ حتى يكتب عند الله كَذَّابًا"، فجعل الصّدق مفتاح الصّدّيقيّة ومبدأَها، وهى غايته، فلا يَنال درجتَها كاذبٌ البتَّة، لا فى قوله، ولا فى عمله، ولا فى حاله. ولا سيّما كاذبٍ على الله فى أَسمائه وصفاته، بنفى ما أَثبته لنفسه، أَو بإِثبات ما نفاه عن نفسه، فليس فى هؤلاءِ صِدّيق أَبدًا. وكذلك الكذب عليه فى دينه، وشَرْعه بتحليل ما حرّمه، وتحريم ما أَحلَّه، وإِسقاط ما أَوجبه، وإِيجاب ما أَسقطه، وكراهة ما أَحبّه، واستحباب مالم يحبّه، كلّ ذلك مُنافٍ للصّدّيقيّة. وكذلك الكذب معه فى الأَعمال بالتَّحلِّى بحِلْية الصّادقين المخلِصين، الزاهدين المتوكلِّين وليس منهم. وكانت الصّدّيقيّة كمال الإِخلاص، والانقياد والمتابعة فى كلّ الأُمور؛ حتى إِنّ صِدْق المتبايِعَيْن يُحلّ البركة فى بيعهما، وكذبهما يَمْحَى بركة بيعهما؛ كما فى الصّحيحين: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: " البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإِنْ صَدَقَا وبَيّنا بُورِكَ لهما بيعهما، وإِن كَذَبا وكتما مُحِقَت بركة بيعهما".(3/403)
وقد تَنوَّعَتْ كلمات السّادة فى حقيقة الصّدق. فقال عبد الواحد ابن زيد رحمه الله: الصّدق الوفاءُ لله بالعمل. وقيل: موافقة السرّ النطقَ. وقيل: استواءُ السرّ والعلانية، يعنى أَنَّ الكاذب علانيته خير من سريرته؛ كالمنافق الذى ظاهره خير من باطنه. وقيل: الصّدق: القول بالحقّ فى مَوَاطن الهَلَكة. وقيل: كلمة الحقّ عند من يخافه ويرجوه.
وقال الجُنَيد: الصادق يتقلّب فى اليوم أَربعين مرّة. المرائى يثبت على حالة واحدة أَربعين سنة. وذلك لأَنَّ العارضات والواردات التى ترِد على الصّادق لا ترد على الكذَّاب المرائى، بل فارغ منهما لا يُعارضه الشَّيطان كما يعارض الصّادق، وهذه الواردات توجب تقلّب قلبِ الصّادق بحسب اختلافها وتنوّعها، فلا تراه إِلاَّ هاربًا مِن مكانٍ إِلى مكان، ومن عملٍ إِلى عمل، ومن حالٍ إِلى حال؛ لأَنَّه يخاف فى كلّ ما يطمئنّ إِليه أَن يقطعه عن مطلوبه.
وقال بعضهم: لم يشمّ روائح الصّدق مَنْ داهن نفسه أَو غيره.
وقال بعضهم: الصّادق: الَّذى يتهيّأُ له أَن يموت ولا يستحى مِن سِرّه لو كُشف. قال تعالى: {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وقال إِبراهيم الخوّاص: الصّادق لا يُرَى إِلاَّ فى فَرض يؤدّيه، أو فضل يعمل فيه.(3/404)
وقال الجنيد مرّة: حقيقة الصّدق أَن تَصدُق فى مواطن لا ينجيك [منها] إِلا الكذب.
وفى أَثَرٍ إِلَهىّ: مَن صَدَقنى فى سريرته صدَقته فى علانيته عند خَلْقى.
وقال سهل: أَوّل خيانة الصّديقين حديثهم مع أَنفسهم.
وقال يوسف بن أَسباط: لأَنْ أَبيتَ ليلة أُعامل الله بالصّدق أَحَبّ إلىّ من أَن أُحارب بسيفى فى سبيل الله.
وقال الحارث المحاسبىّ: الصّادق: هو الذى لا يبالى لو خرج كلّ قَدْر له فى قلوب الخَلْق من أَجل صلاح قلبه، ولا يحبّ اطِّلاع النَّاس على مثاقيل الذَّر من حُسن عمله، ولا يكره أَن يطَّلع النَّاس على السَيىء من عمله، فإِن كراهته له دليل على أَنه يحبّ الزيادة عندهم، وليس هذا من علامات الصّدِّيقين. هذا إِذا لم يكن له مراد سوى عمارة حاله عندهم، وسكناه فى قلوبهم تعظيمًا له. وأَمّا لو كان مراده بذلك تنفيذًا لأَمر الله، ونشرًا لدينه، ودعوة إِلى الله، فهذا الصادق حقًّا، والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها.
وقال بعضهم: مَن لم يؤدّ الفَرْض الدائم لا يقبل منه الفرض المؤقت. قيل: وما الفرض الدّائم؟ قال: الصّدق. وقيل: مَن يطلب الله بالصْدق(3/405)
أَعطاه مِرآة يبصر فيها الحقّ والباطل. وقيل: عليك بالصّدق حيث تخاف أَنَّه يضرّك، ودع الكذب حيث تراه أَنَّه ينفعك؛ فإِنَّه يضرّك.
وقال الشيخ عبد الله الأَنصارى: الصّدق اسم لحقيقة الشىء، حُصُولاً ووجودًا. والصّدق: هو حصول الشىء وتمامه، وكمال قوّته واجتماع أَجزائه كما يقال: عزيمة صادقة إِذا كانت قوّية تامّة، وكذلك محبّة صادقة، وإِرادة صادقة. وكذلك حلاوة صادقة إِذا كانت قويّة تامة ثابتة الحقيقة، لم ينقص منها شىء. ومن هذا أَيضا صِدْق الخبر؛ لأَنَّه وجود المخبَرِ [به] بتمام حقيقته فى ذهن السّامع.
وهوعلى ثلاث درجات:
الأُولى: صِدْق القَصد، وبه يصحّ الدّخول فى هذا الشأْن، ويُتلافَى كلّ تفريط ويُتدارك كلّ فائت، ويعمر كلّ خراب. وعلامة هذا الصادق أَلاَّ يحتمل داعيةً يَدعو إِلى نقض عهد، ولا يصبر على صحبة ضِدّ، ولا يقعد عن الجدّ بحال.
والدّرجة الثَّانية: أَلاَّ يتمنىَّ الحياة إِلاَّ للحقّ، ولا يشهد من نفسه إِلاَّ أَثر النقصان، ولا يلتفت إِلى ترفيهِ الرُّخَص، أَى لا يحب أَن يعيش إِلاَّ فى طلب رضا محبوبه، ويقوم بعبوديّته، ويستكثر من الأَسباب الَّتى تقربّه منه، ولا يلتفت إِلى الرفاهية التى فى الرُّخَص، بل يأْخذ بها اتِّباعًا(3/406)
وموافقةً، وشهودًا لنعمة الله على عبده، وتعبّدًا باسمه: اللطيف المحسن الرّفيق، وأَنَّه رفيق يحبّ الرّفق.
الدّرجة الثالثة: الصِّدق فى معرفة الصّدق. يعنى أَنَّ الصّدق المحقِّق إِنما يحصل لمن صَدَقَ فى معرفة الصدق، أَى لا يحصل حال للصّادق إِلاَّ بعد معرفة الصّدق، ولا يستقيم الصّدق فى علم أَهل الخصوص إِلاَّ على حرفٍ واحد، وهو أَن يتَّفق رضا الحقّ بعمل العبد وحاله ووقته، وإِيقانه وقصده. وذلك أَنَّ العبد إِذا صَدَق اللهَ رضى اللهُ بفعله [و] بعمله، وحاله ويقينه وقصده، لا أَن رضا الله نفس الصّدق، وإِنما يعلم الصّدق بموافقة رضاه سبحانه. ولكن من أَين يَعلم العبد رضاه؟! فمن ههنا كان الصّادق مضطرًّا أَشدّ ضرورة إِلى متابعة الأَمر والتسليم للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم فى ظاهره وباطنه، والتَّعبُّد به فى كلّ حركة وسكون، مع إِخلاص القصد لله؛ فإِنَّ الله سبحانه لا يُرضيه من عبده إِلاَّ ذلك.
وقوله: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} ، أَى يسأَل مَن صدّق بلسانه عن صِدق فعله. وقوله: {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} أَى حَقَّقُوا العهد بما أَظهروه من أَفعالهم.
والصّداقة: صِدق الاعتقاد فى المودّة، وذلك مختصّ بالإِنسان. وقولُه:(3/407)
{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} إِشارة إِلى قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} .
والصّدَقة: ما يُخرجه الإِنسان من ماله على وجه القُرْبة؛ كالزَّكاة لكن الصّدقة فى العرف تقال للمتطوَّع به، والزكاة للواجب. وقيل: سمّى الواجب صدقة إِذا تحرَّى صاحبُه الصّدق فى فعله، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . يقال: صدّق وتصدّق. ويقال لِما تجافى عنه الإِنسان من حقه: تصدُّق؛ نحو قوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} / أَى مَن تَجافى عنه. وقوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، أَجرى ما يُسامَح به المعسِر مُجرى الصّدقة، وعلى هذا قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} ، فسمّى إِعفاءَه صَدَقَة.
وقوله: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} من الصّدق أَو من الصّدقة.
وصَدَاق المرأَة وصِدَاقها - بالكسر - وصَدُقتها - بضم الدّال -: ما تعطَى من مهرها. وقد أَصدقتها.(3/408)
بصيرة فى صدى وصرح وصر وصرف
الصَّدَى: صوت يرجع من مكان صقيل. والتصدية: كلّ صوت يجرى مجرى الصَّدَى فى أَن لا غَنَاءَ فيه. وقوله تعالى: {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} ، أَى غَنَاءُ ما يُورِدُونَه غَنَاءُ الصَّدَى ومُكَاءِ الطير. والتَّصدّى: أَن يُقابَل الشىء مقابلة الصّدى، أَى الصّوت الرّاجع من الجبل.
والصِّرْح: بَيْتٌ عَال مُرَوَّق. سمّى بذلك اعتبارًا بكونه صريحًا عن البيوت، أَى خاليًا.
والإِصرار: لزوم الذَّنْب، والامتناع عن الإِقلاع منه. وأَصله من الصّرّ، أَى الشدّ، قال تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} . والصُرَّة: ما يُعقد فيه الدّراهم. والصَرورة: مَن لم يحجّ بعد، ومن لا يريد التَّزَوّج.
والصَّرَّة: الجماعة المنضمّ بعضُهم إِلى بعض؛ كأَنَّهم صُرّوا أَى جُمِعوا فى وعاءٍ، قالَ تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} ، وقيل: الصَرّة: الصّيحة.
الصّرف: ردّ الشىء من حالة إِلى حالة أَو إِبداله بغيره. وصَرَفه فانْصَرَف(3/409)
وقولُه تعالى: {ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} يجوز أَن يكون دعاء عليهم، وأَن يكون إِشارة إِلى ما فُعِلَ بهم. وقوله: {فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} أَى لا يقدرون أَن يصرفوا عن أَنفسهم العذاب، وأَن يصرفوا (عن أَنفسهم النَّار) ، أَو يصرفوا الأَمر عن حالة إِلى حالة.
وقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن} ، أَى أَقبلنا بهم إِليك وإِلى الاستماع منك.
وصَرْف الحديث: أَن يزاد فيه ويُحَسَّن، من الصّرف فى الدَّراهم، وهو فضل بعضِه على بعض فى القِيمة. وله عليه صَرْفٌ، أَى شَفٌّ وفضل، وهو مِن صَرَفَهُ يَصْرِفُه، لأَنَّه إِذا فُضِّل صُرف عن أَشكاله.
والصَّرْف: اللَيل والنَّهار، وهما صَرْفَان، ويكسر. وصَرْف الدّهْر: حِدْثانه ونوائبه.
وتصريف الرّياح: ردّها من حال إِلى حال، ومنه تصريف الكلام.
والصَرَفانُ: الرّصاص، كأَنَّه صُرِف من أَن يبلغ درجة الفِضَّة.(3/410)
بصيرة فى صرم وصرط وصرع
صَرَمه يَصرِمه صَرْمًا وصُرْمًا: قَطَعَهُ قطعًا بائنًا، والرّجلُ غيرَه: قطع كلامَه.
والصّريم: أَرضٌ سوداء لا تُنْبت شيئًا، قال تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كالصريم} ، وقيل: الصّريم: الأَشجار المَصْرُوم حَملها. والصَّريم: اللَّيل. وقيل: القطعة من اللَّيل. وبه فسّره بعضهم، أَى أَصبحت كاللَّيل؛ لأَنَّ اللَّيل أَسود مظلم، أَى أَصبحت سوداءَ مظلمة كاللَّيل لاحتراقها.
وقوله: {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أَى يجتنونها ويتناولونها. والصِّرْمة: [القطعة] من السّحاب.
والأَصْرَمان: اللَيل والنَّهار، والصُّرَد والغراب، وقيل: الذئب والغراب.
والصَيْرَم: المحكَم الرّأى، والوجْبة. والأَصْرَم والمُصْرِم: الفقير المُعْول.
والصّراط: الطريق المستقيم، كأَنه يصطرط المارّة.(3/411)
والصَّرْعُ والصِّرْع، الفتح لتميم والكسر لقيس، والمصرَع بفتح الرَاءِ. الطرح بالأَرض، قال:
لمَصْرَعنا النعمانَ يومَ تأَلَّبَتْ ... علينا تميمٌ من شَظًى وصميم
والمَصْرع: أَيضًا موضع الصّرع. / قال أَبو ذُؤيب يرثى بنيه:
سَبَقُوا هَوَىَّ وأَعْنَقوا لهواهُم ... فتُخُرِّموا ولكلّ جنبٍ مصرعُ
والصُّرْعة: مَن يصرعه النَّاس. الصُرَعة: من يصرع الناس.
والصّريع: المصروع، والجمع صَرْعَى. قال تعالى: {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى} والصَّريعِ أَيضًا: القوس لم يُنحت منها شىء.
والصِّرِّيع كسكِّيت: كثير الصَّرْع لأَقرانه.
والصَّرْع: المِثْل، وهما صَرْعان أَى مثلان.(3/412)
بصيرة فى صعد
الصُّعود: الذهاب فى مكان عالٍ، صَعِد فى السّلَم صُعُودًا.
والصَّعُود: خلاف الهَبُوط. قال تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ، قال اللَّيث: يعنى مشقَة من العذاب. ويقال: هو جبل فى النَّار يكلَّف الكافر ارتقاءَه. والصَّعُود: العقبة الشَّاقَّة. وجمع الصَّعُود: صُعُد، مثَال عَجُوز وعُجُز. وصَعائد كعجائز.
والصّعيد: التراب، كقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} . وقيل: الصّعيد: الغبار الَّّذى يَصعد، من الصُّعُود. وقال ثعلب: وجه الأَرض؛ كقوله: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} .
والصّعيد: الطريق، والجمع صُعُد، ثمّ صُعُدات، مثل: طريق وطُرُق وطُرُقات. وفى الحديث: "إِيّاكم والقُعود بالصُّعُدات". وقال الشاعر:
ترى السّود القصارَ الزُّلَّ منهم ... على الصُّعُدات أَمثال الوِبَار
وقيل: هى جمع صُعْدة، كظلمات وظُلْمة.(3/413)
وقوله تعالى: {عَذَاباً صَعَداً} أَى شديدًا شاقًّا.
والاصِّعَاد والاصَّعُّد والاصَّاعُد: الصّعود، قال تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} ، قرأَ أَبو بكر بن عَيَّاش: يصّاعَد.
والإِصعاد، قيل: هو الإِبعاد فى الأَرض، سواءٌ كان ذلك صُعُودًا أَو حُدُورًا، وأَصله من الصُّعود، وهو الذهاب إِلى الأَمكنة المرتفعة؛ كالخروج من البصرة إِلى نجد، ثم استُعمل فى الإِبعاد وإِن لم يكن فيه اعتبار الصعود؛ كقولهم: تَعالَ، فى أَنَّه فى الأَصل دعاء إِلى العلوّ، ثمّ صار طلبًا للمجىء؛ وسواءٌ كان إِلى أَعلى أَو إِلى أَسفل. قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} ، قيل: لم يقصد بقوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} إِلى الإِبعاد فى الأَرض، وإِنَّما أَشار به إِلى علوّهم فيما تحرَّوه وأَتَوه؛ كقولهم: أَبعدتَ فى كذا، وارتقيتَ فيه كلّ مرتقًى. وكأَنَّه قال: إِذْ أَبعدتم فى استشعار الخوف، والاستمرار على الهزيمة.
واستعير الصُّعُود لما يصل من العبد إِلى الله، والنزول لما يصل من الله إِلى البعد، فقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} .(3/414)
بصيرة فى صعر وصعق وصغر وصفو
فى عنقه وخدّه صَعَر: مَيَل من الكِبْر. يقال: لأُقِيمنّ صَعَرَك. وتقول: فى عينه صَوَرٌ، وفى خدّه صَعَر. وَهو أَصْعر. وصعَّر خدّه وصاعَره، وقرىء بهما قوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ} (ولا تُصَاعِرْ) . والنَّعام صُعْرٌ خِلْقة. الإِبل تَصَاعَرُ فى البُرَى.
وصَعَق الرّعد فهو صاعق، وسمعت صُعَاق الرعد، وهو صوته إِذا اشتدّ. الصّاعقة والصّاقعة: نار لا تمرّ بشىء إِلاَّ أَحرقته، مع وَقْع شديد. وقد صَعَقتهم السّماءُ، وأَصعقتهم: أَصابتهم بها. قال تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} ، أَى من هولها وشدّتها.
وصَعِق الرّجل وصُعِق: إِذا غُشِىَ عليه من هَدّة أَو صوتٍ شديدٍ يسمعه. و {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} فُسِّر بهما.(3/415)
صَغُر وصَغِر ضدّ كبر، وهو صاغر بيِّن الصُّغْر والصغَار. وتصاغرتْ إِليه نفسُه: صارت صغيرة الشأن ذُلاًّ وَمَهَانةً. وصَغُر فى عيون النَّاس. وأَصْغَرَ فعلَه، واستصغره.
والصِّغَر والكِبَر من الأُمور النِّسبيّة. فالصغير قد يكون كبيرا بالنسبة إِلى ما هو أصغر منه، والكبير كذلك يكون صغيرًا بالنسبة إِلى ما هو أَكبر منه. وقد يكون تارة بالزمان، وباعتبار الجُثَّة، وباعتبار القَدْر والمنزلة.
وقوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} ، وقوله: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} ، وقوله: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ} كلّ ذلك بالقَدْر والمنزلة من الخير والشرّ.
والصّاغر: الرّاضى بالمنزلة الدنيئة، {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
صَغَوْت إِلى فلان وصَغَا فؤادى إِليه: مال. وصِغْوِى معه. وصَغَتِ النجومُ للغروب، وهنّ صواغٍ. وأَصغىَ الإِناء للهرَّة. وأَصغى إِلى حديثه:(3/416)
مال بسمعه إِليه. ورجل أَصْغَى، وقد صَغِىَ، وهو مَيَل فى الحَنَك وإِحدى الشفتين. وأَقام صَغَاه: مَيَله. ويقال: من عَرَض له فلَّ صفاه، وأَقام صَغَاه. ويقال: الصّغا فى الأَديان أَقبح من الشغا فى الأسنان. وصاغية الرّجل: قومُه؛ لِمَا يميلون إِليه.(3/417)
بصيرة فى صف
الصَّفّ: واحد الصُّفوف. ومنه قول النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "سَوُّوا صفوفكم، فإِنَّ تسوية الصّفوف من تمام الصّلاة". وقوله تعالى: {ثُمَّ ائتوا صَفّاً} وقال الأَزهرى معناه: ثم ائتوا الموضع الذى تجتمعون فيه لعيدكم، وصلاتكم. يقال: أَتيت الصّفَّ، أَى المصلَّى. قال: ويجوز ثمّ ائتوا صفًّا أَى مصطفِّين ليكون أَنظم لكم، وأَشدّ لهيبتكم. وقال ابن عرفة فى قوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} : يجوز أَن يكونوا كلهم صفًّا واحدًا، ويجوز أَن يقال فى مثل هذا: صفًّا يراد به الصّفوف؛ فيؤدِّى الواحدُ عن الجميع.
وقوله: {والصافات صَفَّا} ، هى الملائكة المصطفُّون فى السّماء يسبّحون. ومنه قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} ، وذلك أَنَّ لهم مراتب يقومون عليها صفوفًا، كما يصطفّ المصلُّون.
وصَفَّت الإِبل قوائمها فهى صافَّة وصوافّ. قال تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} : مصفوفة، فواعل بمعنى مفاعِل. وقيل مصطفَّة.(3/418)
وصفَّ الطائر: إِذا بسط جناحَيه. ومنه الحديث: "كأَنَّها حِزْقان من طيرٍ صوافّ".
والصّفصف: المستوى من الأَرض، فإِنَّه على صفّ واحد. قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} . قال العجاج:
من حَبْل وَعْساءَ تُناصِى صَفْصَفَا
وقال الشَّماخ:
غَلْبَاء رَقْبَاء عُلْكُومٌ مُذكَّرة ... لدَفِّها صَفْصَفٌ قدّامه ميل
قيل: ورد الصّف وما يُشتقّ منه على عشرة أَوجه فى التَّنزيل:
بمعنى صفّ الجماعة: {والصافات صَفَّا} .
وبمعنى المصلَّى: {ثُمَّ ائتوا صَفّاً} .
وبمعنى صفّ الغُزاة: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} .
وبمعنى صفوف الملائكة فى السّماوات: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} .
وبمعنى صفوفهم فى عَرَصات الحشر: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} .(3/419)
وبمعنى صَفّ جِمال النحر بعرفة: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} .
وبمعنى المستوِى من الأَرض: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} ، والأَصل صَفَّفا لكن لمّا توالت ثلاث فاءَات جعلوا الأَوسط/ صادا.
وبمعنى صفّ الطير فى الهواء: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} .
وبمعنى صفوف أَهل التَّوحيد فى روضات الجنَّات: {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} .
وبمعنى صفوف المَرَافق والنمارق، وفى غُرفات الفرادس: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} .(3/420)
بصيرة فى صفح
نظر إِليه بصَفْح وَجهه، وبصُفْح وجهه. وضربته على صَفْحِهِ وصَفْحَته: على جَنْبِه. وجلا صَفْحَتَىْ السّيف، وكتب فى صفحتى الورقة.
وتصفَّح الشىءَ: تأَمّله، ونظر فى صَفَحاته. وتصفَّح القومَ: نظر فى أَحوالهم، ونظر فى خِلالهم هل يرى فلانًا.
وصَفَحْتُ عنه: أَعرضت عن ذنبه وعن تثريبه. وهو أَبلغ من العفو، (وقد) يعفو الإِنسان ولا يَصفح. وصفحت عنه: أَوْلته صفحةً جميلة.
وقوله تعالى: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} أَمْرٌ للنَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلم أَن يخفِّف على نفسه كُفر من كفر؛ كما قال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} .
ومن المجاز قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} . وقوله: {فاصفح الصفح الجميل} أَمْر للنبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالتَّجاوز عن جنايات المؤمنين.(3/421)
وقوله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ} إِشارة إِلى الآباءِ والأَزواج بالعفو عن الأَولاد والعِيال.
وقوله تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا} إِشارة إِلى أَبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه بالتجاوز عن ذنْب مِسْطح بن أُثَاثة فيما أَخطأَ من الخوض فى حديث الإِفْكِ.(3/422)
بصيرة فى صفد
الصِّفاد - ككتاب -: القَيْد والغُلّ. وكذلك الصَّفَد بالتحريك، ويجمع على أَصفِدة وصُفُد وأَصفاد، قال تعالى: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} .
وَصَفَدَهُ يَصْفِدُهُ صَفْدًا، وصفَّده تصفيدًا: شدّه وأَوثقه. وأَصْفده بمعناه.
والصَفَد والإِصفاد: العطاءُ اعتبارًا بما قيل: أَنا مغلول أَياديك، وأَسير عطاياك. قال الأَعشى يمدح هَوْذة بن علىّ ويهجو الحارث بن وَعْلة:
وإِنّ امرأً قد زرْتُه قبل هذه ... بجَوٍّ لَخَيْرٌ منك نفسًا ووالدًا
تضيَّفتُه يومًا فأَكرم مَقْعَدِى ... وأَصْفدنى على الضَمَانة قائدًا
وتقول: الصَّفَد صَفَدٌ، أَى العطاء قيد. قال النَّابغة:
هذا الثناءُ فإِنْ تَسْمَعْ لقائله ... فلم أُعَرّض - أَبيت اللَّعن - بالصّفَد(3/423)
بصيرة فى صفر
الصُّفْرة: لون بين البياض والسّواد، وإِلى السَّواد أَقرب، ولذلك قد يعبّر بها عن السّواد. وقال الحسن فى قوله تعالى: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} : سوداءٌ شديدة السّواد. وقيل صَفِر من الأَضداد، يقال على الصّفرة وعلى السّواد، ولا يقال فى السّواد: فاقع، وإِنَّما يقال: حالك.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ} ، قيل: جمع أَصفر، وقيل المراد: الصُّفْر المُخْرَجُ من المعادن، ومنه قيل للنُّحاس: صُفْر، وليبيس البُهْمَى صُفَارٌ.
وقد يقال الصّفَير للصّوت حكاية لما يُسمع. ومن هذا، صفِير الإِناء: إِذا خلا حتى يُسمع منه صفير لخلوّه، ثمّ صار متعارفًا فى كلّ خالِ من الآنية وغيرها: إِناء صِفْر، ويدٌ صِفْر، ويستوى فيه الواحد والجمع. وقد صَفِر صَفَرًا. وفى الحديث: "صَفْرة فى سبيل الله خير من حُمْر النَّعَم"، وهى الجَوْعة وخلوّ البطن. ونعوذ بالله من قَرَع الفِناء وصَفَر الإِناء. وهو(3/424)
أَجبن من صافر، وهو طائر يَنكُس رأْسه، ويتعلَّق برجليه طول الليل، وهو يَصفِر حذارًا أَلاَّ يؤخذ.
وصَفِرت وِطابُه، وصفِر إِناؤه: كناية عن الموت، / قال:
وأَفْلَتَهُنَّ عِلباءٌ جَريضًا ... ولو أَدْرَكْنَهُ صَفِر الوِطابُ(3/425)
بصيرة فى صفن وصفو
صَفَن الفرسُ يَصْفِن صُفُونًا: قام على ثلاث قوائم وطرفِ حافر الرابعة، قال تعالى: {الصافنات الجياد} . وصَفَن الرّجل: صفَّ قدميه، وصَفَن به الأَرضَ: ضربه به.
ومُهْر صافنٌ، وخيل صُفُونٌ وصَوافِنُ. وتفسيره فى قول الشَّاعر:
أَلِفَ الصُّفُونَ فلا يزال كأنَّه ... ممّا يقوم على الثلاث كَسِيرا
صفَا الماءُ صفًا، وصَفْوًا، وصَفَاء، فهو صافٍ. وصفَّيت الشَّراب بالمِصفاة. وأَخذ صَفْوَ الماء وصِفْوه، وصَفْوته وصِفْوته. وصفا الجَوّ: لم تك فيه لَطْخة غَيم، ويوم صافٍ وصَفْوان: بارد بلا غيم وكدَر. واستصفاه: أَخذ صفوه، واختاره، كاصطفاه. وصافاه وأَصفاه: صَدَقه الإِخَاء.
والصَّفا: من أَعظم المشاعر بمكة بلِحْف جبل أَبى قُبَيس، وقد بنيت عليه بتوفيق الله تعالى دارًا فيحاء، يستجاب فيه الدّعاءُ، عجّل الله بمنِّه إِليها الرُّجْعَى.(3/426)
وإِلى المناسقة بين الطّواف والمسعَى قال تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله} .
وقال: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} واصطفاءُ الله بعض عباده قد يكون بإِيجاده صافيًا عن الشَّوْب الموجود فى غيره، وقد يكون باختياره وحكمه. واصطفيت كذا على كذا، أَى اخترت؛ قال تعالى: {أَصْطَفَى البنات على البنين} .
والصَّفْوان، والصَّفْواءُ، والصّفا بمعنى، قال: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} .
وأَصفى الشَّىءَ: اختاره. وقال: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين} والمصفَّى: المنقَّى من الشَّوائب والكُدُورات، قال: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} .(3/427)
بصيرة فى صل وصلب
صَلّ الحديدُ صَلاًّ وصَلِيلاً: صَلْصَلَ. وسمعتُ صَلصلة اللِّجام وصَلِيلَه، وَصَلاَصِلَ السّلاح. قال: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ} ، وهو الطين الحُرّ خُلط بالرّمل فصار يتصلصل إِذا جفَّ، فإِذا طُبخ بالنَّار فهو الفَخَّار. وقيل: الصّلصال: الطِّين المُنْتِن، من قولهم: صَلّ اللَّحمُ إِذا تغيّرت رائحته. وقيل: أَصله صَلاَّل فقلبت إِحدى الَّلامين صادًا. وقرىء: (أَئِذَا صَلَلْنَا) أَى أَنتنَّا وتغيّرنا، من قولهم: صَلّ اللحمُ.
وتصلصل الغدير: إِذا جفَّت حَمْأَته. وطين صَلاَّل ومِصلال: يصوّت كما يصوّت [الخَزَف] الجديد. قال:
فإِنّ صخرتنا أَعيَتْ أَباك ولن ... يألولها ما استطاع الدهر إِخبالا
ردّت مَعاولَه خُثْما مفلَّلة ... وناطحت أَخضر الجالَين صَلاَّلا(3/428)
أَى ناطحَت الصّخرة المعاولُ. وغلط أَبو نصر الجوهرىّ فى إنشاده وفى تفسيره:
الصُّلْب: الشَّديد. وبه سمّى الظَّهر صُلْبًا وصالبا. قال عبَّاس ابن عبد المطّلب رضى الله عنه:
تُنْقل من صالبٍ إِلى رَحِمٍ ... إِذا مَضَى عالَم بدا طَبَقُ
أَى من صُلْب. وقوله تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} فيه تنبيه أَنَّ الولد جزء من الوالد. وصَلُب الشَّىء صَلاَبة وصَلِب - ككرم وسمع -: قَوِىَ واشتدّ. والصَّلَب - بالتَّحريك -: الصُّلْب من الظهر. قال العجّاج يصف امرأَة:
رَيّا العِظامِ فَعْمَة المُخدَّمِ ... فى صَلَبٍ مثل العِنان المؤدَمِ(3/429)
والصُّلْب أَيضًا: ما صَلُبَ من الأَرض. والصّليب: الشَّديد، ووَدَك العِظام. ومنه سمّى المصلوب للقتل؛ لأَنَّه يسيل وَدَكُه.
والصّليب للنَّصارى/ والجمع: صُلُبٌ وصُلْبَان. وصَلَب اللصوصَ وصلّبهم شُدِّد للكثرة، قال تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} .
وثوبٌ مُصلَّب: عليه نقش كالصّليب.(3/430)
بصيرة فى صلح
الصّلاح والصُّلُوح بمعنى. وصَلَح - كنصر - وصَلُح - ككرم - فهو صالح وصَليِح. ويختصّ الصّلاح بالأَفعال غالبًا. وقوبل فى القرآن تارة بالفساد وتارة بالسَّيّئة، قال تعالى: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} وقال: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} .
وإِذا افتقرت إِلى الذخائر لمْ تَجِدْ ... ذُخرا يكون كصالح الأَعمالِ
والناسُ همُّهم الحياةُ ولا أَرَى ... طولَ الحياة يزيد غير خَبالِ
وقوله تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} ، أَى ولدًا صالحًا صحيح البَدَن تامّ الخَلْق.
وقوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} يعنى (نوحا ولوطا) .
وقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أَى وَلَدٌ مُعْرض عن التَّوحيد.
وقوله: {والباقيات الصالحات} ، يعنى سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلاَّ الله، والله أَكبر.(3/431)
وقيل فى قوله تعالى: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} يعنى عمر بن الخطَّاب.
وقوله تعالى: {والشهدآء والصالحين} إشارة إِلى عثمان بن عفَّان.
وقوله: {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} يعنى الصّحابة وأَصحاب النَّجَاشى.
وقوله: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} يراد بهم جميع المطيعين من الرّجال والنساءِ.
وقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} ، أَى المتوكِّلين عليه.
وقوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} أَى المؤدّين للزَّكاة.
ورفع الخوف عن أَهل الصّلاح فى الدّارين: {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
وقال: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} ، وقال: {الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} .
وقال: {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ} .(3/432)
وقال: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا} .
وقال: {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وقال: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} .
وقال: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . وقال: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} إِلى قوله: {وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ} . وقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} .(3/433)
بصيرة فى صلدا وصلا
حَجَرٌ صَلْدٌ: وصَلِيد، وصَلُود: صُلْب لا يُنبِت. وجَبِينٌ صَلْدٌ وصَلِيد: أَمْلس شديد. قال رؤبة:
لَمّا رأَتنى خَلَقَ المُمَوَّهِ ... بَرّاق أَصلادِ الجبين الأَجلَهِ
بعد غُدَانِىّ الشَّباب الأَبلَهِ ... لَيْتَ المُنى والدّهرَ جرى السُّمَّهِ
وصَلَدَ الزَنْدُ يَصْلِد صُلُودًا: إِذا صوَت ولم يُخرج نارًا. والصَّلُود والصَّليد: الفرس الَّذى لا يَعْرق. والقِدْر البطيئة الغَلْى. وناقة صَلُود ومِصْلاد: بَكِيئة.
وقوله تعالى: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} ، أَى حَجَرًا صَلْدًا. والصِّلد - بالكسر - لغة فى الصَّلد بالفتح. وقرأ الخليل: (فَتَرَكَهُ صِلْدًا) بالكسر.
(والصَّلَى: الإِيقادَّ بالنَّار) صَلِى بكذا، أَى بُلِى به. واصطلَى بالنَّار.(3/434)
وصَلَيْتُ الشاةَ: شَوَيتها. وقوله تعالى: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} قيل معناه: لا يصطِلى بها إِلاَّ الأَشقى.
الخليل: صلِىَ الكافر النَّارَ: قاسَى حَرّها. وصَلَى اللَّحمَ يَصلِيه صَلْيا: شَواه، وأَلقاه فى النار للإِحراق، وكأَصلاه وصلاَّه. وصَلَّى يده بالنار: سخَّنها وصلِىَ النارَ - كرضى - وبالنار صُلِيَّا وصَلاَء وصِلاَء، وتصلاَّها: قاسَى حرّها. وأَصلاه النَّار وصلاَّه إِيّاها وفيها وعليها: أَدخله إِيّاها وأَثْواه فيها. والصِّلاءُ: يقال للوَقُود وللشِّواءِ.
والصَّلاة: الدّعاء والرحمة والاستغفار، وحُسن الثناءِ من الله تعالى على رسوله، وعبادةٌ فيها ركوع وسجود، اسم يوضع موضع المصدر. وصلَّى صلاة، ولا تقل: تصلية، أَى دَعا. وقال صلَّى الله عليه وسلم: "إِذا دُعِى أَحدكم إِلى طعام فليُجب، فإِن كان صائما فليصلّ لأَهله". وصلاة الله للمسلمين هى فى التَّحقيق تزكيته لهم، وهى من الملائكة والنَّاس: الدّعاءُ والاستغفار. وسمّيت العبادة المعروفة صلاة كتسمية الشىء ببعض ما يتضمنّه.(3/435)
والصّلاة من العبادات الَّتى لم تنفكُ شريعةٌ منها، وإِن اختلفت صُوَرها بحسب شرعٍ شرْعٍ، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} .
وقال بعضهم: أَصل الصّلاة من الصَلَى. ومعنى صلَّى الرّجل أَزال عن نفسه بهذه العبادة الصَلَى الذى هو نار الله الموقدة. وبِناء صَلَّى بناءُ مَرَّض وقرَّد: إِذا أَزال المرض والقُرَاد.
ويسمّى موضع العبادة الصّلاة، ولذلك سمّيت الكنائس صَلَوات. قال تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} .
وكل موضع مدح الله تعالى بفعل الصّلاة أَو حثَّ عليها ذُكر بلفظ الإِقامة، نحو قوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} ، {وَأَقِيمُواْ الصلاة} . ولم يقل المصلِّين إِلاَّ المنافقين، نحو قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} وقوله: {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} . وإِنَّما خصّ لفظ الإِقامة تنبيهًا أَنَّ المقصود من فعلها توفية حقوقها وشرائطها، لا الإِتيان بهيآتها فقط، ولهذا رُوى أَنَّ المصلِّين كثير، والمقيمين لها قليل.(3/436)
وقد ورد الصلاة فى القرآن على ثلاثة عشر وجها:
1- بمعنى الدّعاءِ: {إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} .
2- بمعنى الاستغفار: {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} .
3- بمعنى الرّحمة: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} .
4- بمعنى صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} .
5- بمعنى صلاة الجنازة: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} .
6- بمعنى صلاة العيد: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} .
7- بمعنى صلاة الجمعة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} .
8- بمعنى صلاة الجماعة: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً} .
9- بمعنى صلاة السَّفَر: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} .(3/437)
10- بمعنى صلاة الأُمم الماضية: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} .
11- بمعنى كنائس اليهود: {وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} .
12- بمعنى الصلوات الخمس: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} .
13- بمعنى الإِسلام: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} ، أَى لا أَسلم.
وقد ذكر الله تعالى الصّلاة فى مائة آية من القرآن العظيم. وفى كل آية إِمّا وَعَد المصلِّين بالكرامة، أَو أَوعد التَّاركين لها بالعقوبة والملامة. أَوّلها: {يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة} ، وآخرها: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر}
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} ، سمّى صلاتهم مُكاءَ وتصدية تنبيهًا على إِبطال صلاتهم، وأَن لا اعتداد بفعلهم ذلك، بل هم كطيور تَمْكُو وتُصَدِّى.(3/438)
بصيرة فى صم
الصَّمَم: انسدادُ الأُذن وثِقَلُ السّمع. صَمّ يَصَمّ - بفتحهما - وصمِمَ كعَلِمَ نادر، صَمًّا وصَمَمًا. وأَصمَّ بمعنى صمّ، وأَصمّه الله، لازم متعدٍّ. قال تعالى: {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} وهو أَصَمُّ. والجمع: صُمٌّ وصُمَّانٌ. وتصامّ عن الحديث، وتصامّ صاحبَه: أَراه الصّمَم.
وشبّه بالأَصمّ من لا يصغى إِلى الحقّ ولا يقبله. فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} . ويشبّه من لا صوت له به.
والصَّماءُ: الداهية. وصَمَّى صَمَامِ؛ أَى زِيدى يا داهية.(3/439)
بصيرة فى صمد
الصَّمْد: المكان المرتفع الغليظ لا يبلغ أَن يكون جبلاً مرتفعًا. والصِّمَاد: عِفاص القارورة أَو سِدادها. وقد صَمَدتها أَصمُدها.
والصَّمَدَ - بالتَّحْرِيك -: السيّد لأَنَّه يُصمد إِليه فى الحوائج، أَى يُقصد. ومنه حديث عمر رضى الله عنه: أَيّها النَّاس إِيّاكم وتعلُّمَ الأَنساب والطَّعن فيها. والذى نفسُ عمر بيده، لو قلت: لا يَخرج من هذا الباب إِلاَّ صَمَدٌ ما خرج إِلاَّ أَقَلّكم. قال عمرو بن الأَسلع يذكر حُذَيفة ابن بدْر الفَزَارىّ:
علوتُه بحُسَامٍ ثمّ قلت له ... خذها حُذيفَ فأَنت السيّد الصّمدُ
وقال شبرة بن عمرو فى عمرو بن مسعود بن كَلَدة:
لقد بَكَرَ النَّاعى بخيرَىْ بنى أَسَدْ ... بعمرو بن مسعود وبالسيّد الصّمدْ
فمَن يك يَعْيا بالجواب فإِنَّه ... أَبو مَعْقِلٍ لا حُجْرَ عنه ولا حَدَدْ
أَراد: خيِّرَىْ بتشديد الياءِ الأُولى فخفَّفها. وخَيْر لا يثنىّ ولا يجمع.
[والصَمَد: الرَّجل لا يعطش ولا يجوع] فى الحرب. وأَنشد المؤرّجُ:
وسارِيَةٍ فوقها أَسْوَدُ ... بكفّ سبَنْتَى ذَفِيفٍ صَمَدْ(3/440)
السّارية، الجبل المرتفع جدًّا كأَنَّه علم. والأَسْوَد: العَلَم.
الصّمد أَيضًا: الرّفيع من كلّ شىء. وقال الحسن: الصّمد: الدّائم الباقى. وقال مَيْسَرة: الصّمد: المُصْمَت الذى لا جَوف له. وقيل الصَّمَد: الذى ينتهى إِليه السؤدد. والصَّمَد: القوم الَّذين ليس لهم حِرفة ولا شىء يعيشون به.
وبيت مُصَمّد كمحمّد، أَى مقصود. وقال طَرَفة بن العبد:
وإِنْ يَلْتَقِ الحىُّ الجميع تُلاقِنى ... إِلى ذروة القَرْم الكريم المصمَّدِ
واعلم أَن الذى لا جوف له شيئان: أَحدهما لكونه أَدْوَنَ من الإِنسان؛ مثل الجمادات، والثَّانى أَعلى منه، وهو البارىء تعالى والملائكَة. والقصد بقوله: {الله الصمد} تنبيه أَنَّه بخلاف من أَثبتوا له الأُلوهيَّة، وإِلى نحو هذا أَشار بقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} . والصَّمَد أَيضا: المشدّد. قال طَرَفة بن العبد يصف قلب ناقته:
وأَروعُ نبَّاضٌ أَحَذُّ مُلَمْلَمٌ ... كمِرادة صَخْر من صَفِيحٍ مُصَمَّدِ(3/441)
بصيرة فى صمع وصنع
يقال: هو أَصمع القلب: إِذا كان متيقِّظًا ذكيًّا. والأَصمعان: القلب الذكىّ والرّأُى الحازم. والأَصمع: الصّغير الأُذُن. والصّمعاءُ من النبت: ما كان مدقَّقًا مُدَمْلَكًا. وقيل: كلّ بُرعومة ما دامت مجتمْعة منضمّة لم تَتَفتَّح فهى صَمعاءُ.
وصَوْمعة النَّصارَى سمّيت صومعة لأَنَّها دقيقة الرّأْس. وقال ابن عبّاد: يقال: صوامعٌ أَيضًا. ويقال للعُقَاب: صومعة لأَنَّها أَبدًا مرتفعة منتصبة على شَرَف. والصّوامع: البرانِس. وصومعة الثريد: ذروتها.
وظبى مصمَّع، أَى مؤلَّل. وثريدة مصمّعة، أَى مدقِّقة الرأْس محدّدته. وصومعَ الثريدة: دَقَّقها وحدّد رأْسَها.
والصُّنْع - بالضمّ -: مصدر قولك: صَنع إِليه معروفًا. وصنع به صنيعًا قبيحًا، أَى فعل. وقول النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِن من كلام النبوّة الأُولى إِذا لم تستَحْىِ فاصنع ما شئت"، أَى اصنع ما شئت فإِنَّ الله مجازيك. قال ثعلب: وهذا على الوعيد، كقوله تعالى: {فَمَن شَآءَ(3/442)
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} قيل: هذا أَمر معناه الخبر، كأَنَّه قال: من لم يستَحْىِ صنع ما شاءَ. وقيل: معناه أَن يريد الرّجل أَن يعمل الخير فيدَعه حياء من النَّاس، كأَنَّه يخاف مذهب الرّياءِ، أَى لا يمنعُك الحياء من المضىّ لما أَردت. وهذا معنى صحيح يشبهه حديثه الآخر: "إِذا جاءَك الشيطان وأَنت تصلِّى فقال: إِنَّك ترائى فزدها طولاً". قال:
إِذا لم تَخْشَ عاقبةَ اللَّيالى ... ولم تَسْتَحْى فاصنع ما تشاء
وقوله تعالى: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، قال الزَّجّاج: القراءة بالنصب، ويجوز الرّفع، فمن نصب فعلى المصدر. وقوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} دليل على الصّنعة، كأنَّه قال: صَنَعَ الله ذلك صُنْعًا. ومن قرأَ بالضمّ فعلى معنى: ذلك صنع الله.
والمَصْنَعة كالحوض يُجمع فيها ماءُ المطر، وكذلك الصِّنْع، قال الله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} . والمصانع: المبانى من القصور والحصون. قال لبيد رضى الله عنه:
بَلِينا وما تَبْلَى النّجومُ الطوالعُ ... وتبقى الجبالُ بعدنا والمصانعُ
وقال الأَصمعى: العرب تسمّى القُرَى مصانع، وأَنشد لتَميم بن أُبىّ ابن مقبل:(3/443)
كأَنَّ أَصواتَ أَبكار الحَمَام به ... فى كلّ مَحْنِيَةٍ منه يُغنّينا
أَصواتُ نِسوان أَنباطٍ بمصنَعة ... بَجّدْن للنَّوح واجْتَبْنَ التبابينا
بجَّدن: لبسن البُجُد. ويروى الأَتابينا: جمع (إِتَاب، جمع إِتْب) .
واصطنعت عند فلان صَنِيعة. واصطنعت فلانًا لنفسى، قال الله تعالى: {واصطنعتك لِنَفْسِي} ، أَى اخترتك لخاصّة أَمر أَستكفيكه. وقيل الاصطناع: المبالغة فى إِصلاح الشىء.
وقولُه تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} إشارة إِلى نحو ما قال بعض الحكماءِ: إِنَّ الله تعالى إِذا أَحبّ عبدًا تفقَّدهُ كما يتفقَّد الصديقُ صديقه. والتصنّع: تكلُّف حُسْن السَّمْت. والمصانعة: الرّشوة، والمداراة أَيضًا. قال زُهَيْر بن أَبى سُلْمَى
ومن لم يُصانِعْ فى أُمورٍ كثيرة ... يُضرَّسْ بأَنيابٍ ويطأْ بمَنْسِم
أَى من لم يُدارِ النَّاس غلبوه وقهروه وأَذلَّوه.(3/444)
بصيرة فى صنم وصنوا
الصَّنَمَ: كلّ جُثَّة متخذة من فضَّة أَو نحاس. كانوا يعبدونها متقرّبين بها إِلى الله تعالى. وجمعه: أَصنام. وقيل: كلّ ما عُبد من دون الله تعالى، بل كلّ ما شَغَل عن الله تعالى يقال له: صنم. وعلى هذا الوجه قال إِبراهيم الخليل عليه السّلام: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} ، ومعلوم أَنََّ إِبراهيم عليه السّلام مع تحقُّقه بمعرفة الله تعالى واطّلاعه على حكمته لم يكن ممّن يخاف أَن يعود إِلى عبادة تلك الجُثَث التى كانوا يعبدونها، وكأنَّه قال: اجنُبْنى عن الاشتغال بغيرك.
والصّنم أَيضًا: خُبْث الرائحة. والصّنم أَيضًا: قوّة البعد. والصَّنم أَيضًا: العبد القوِىّ. وصَنَّمَ: صَوَّرَ.
والصَّنْو - بالفتح -: العُود الخسيس بين جبلين، أَو الماءُ القليل بينهما، أَو الحَجَر يكون بينهما. والجمع: صُنُوّ كنَحْو ونُحُوّ.(3/445)
والصِنوُ - بالكسر - الحَفْر المعطَّل، والأَخ الشَّقيق، والابن، والعمّ. والجمع: أَصْناءُ وصِنْوانٌ. وهى صِنْوة.
والنَّخلتان فما زاد فى الأَصل الواحد، كلّ واحد منها صِنْو وصُنْو. وقيل عامّ فى جميع الشجر، وهما صُنْوان وصَنْوانِ وصِنوانِ وصُنيانِ وصَنْيان وصِنْيانِ، قال تعالى: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} .(3/446)
بصيرة فى صوب
صاب المَطَرُ بمكان كذا، وصاب أَرضَهم يَصُوبها، كقولك: مَطَرها وجادها. وسقاهم صَوْبُ السّماءِ وصيِّبُها، قال تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} . وسحابٌ صَيِّب، وغَيْث صيِّب.
وأَصابته مُصيبة، ومُصَاب، ومصيبات ومصائب، قال الله تعالى: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} . وسهم صائب ومُصيب. وصاب السّهمُ نحو الرّمِيَّة وهو يَصُوب نحوَه. وَرَمى فأَصاب. وأَصاب فى رأيه. ورأىٌ مصيب وصائب. وأَصاب الصّواب، وصوّبت رأيه. وقال تعالى: {رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} .
والصّواب يقال على وجهين: أَحدهما باعتبار الشىء فى نفسه، يقال: هذا صواب: إِذا كان محمودًا أَو مرضيّا فى العقل والشرع؛ نحو قوله: تحرِّى العدلِ صوابٌ، (والكرَم صواب) . الثانى باعتبار الفاعل إِذا أَدرك المقصود بحسب ما يقصده، فيقال: أَصاب كذا، أَى وجد ما طلب، (كقولك: أَصابه بالسهم) وذلك على أَضرب:(3/447)
الأَوّل: أَن يقصد ما يَحسن قصدُه وفعله فيفعلَه، وذلك هو الصّواب التَّامّ المحمود عليه.
والثانى: أَن يقصد ما يحسن فعله فيتأَتَّى منه غيره؛ لتقديره بعد بذل جهده أَنه صواب. وذلك هو المراد بما يُرْوَى: كلُّ مجتهد مصيب. ومنه: مَن اجتهد فأَصاب فله أَجران، وإِن أَخطأَ فله أَجر.
والثالث: أَن يقصد صوابا فيتأَتَّى منه خطأ لعارض (من خارج) ؛ نحو من يقصد رَمْى صيدٍ فأَصاب إِنسانًا، فهذا معذور.
وَالرَّابع: أَن يقصد ما يقبح فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يقصده، فيقال: أَخطأَ فى قصده فأَصاب الذى قصده، (أَى وجده) .
والصَوْب: الإِصابة، يقال: صابَه وأَصابَه. وجُعل الصَوْب لنزول المطر إِذا كان بقدر ما ينفع، وإِلى هذا القدر من المطر أَشار تعالى بقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} . قال الشاعر:
فَسَقَى دِياركِ غيرَ مُفسِدِها ... صَوْبُ الرّبيع ودِيمةٌ تَهْمِى(3/448)
وقيل: الصَيَب: السّحاب المختصّ بالصَوْب، وهو فَيْعِل من صاب يَصُوب، وقيل: هو السّحاب. قيل: هو المطر، وقيل: هو الغيم ذو المطر. وأَصله صَيْوب فأبدل وأدغم. وقال ابن دريد: أَصله صَوِيب، على فَعِيل.
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "من يُردِ الله بهُ خيرًا يُصِب منه"، أَى من أَراد به خيرًا ابتلاه بالمصائب لِيُثِيبَهُ عليها. يقال: مصيبة ومُصَابة.
وقد أَجمعت العرب على همز المصائب وأَصلها الواو، كأَنَّهم شبّهوا الأَصل بالزائد. ويجمع أَيضًا على مَصاوِب على الأَصل. وقال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .
وأَصاب جاءَ فى الخير والشرّ، قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} . وقال بعضهم: الإِصابة فى الخير اعتبارًا بالصَوْب، أَى المطر، وفى الشرّ اعتبارًا بإِصابة السّهم.(3/449)
بصيرة فى صوت
الصَّوت: هو الهواءُ المنضغِط عن قَرْع جسمين. وأَمَّا قول رُوَيشد ابن كثير الطَّائىّ:
يا أَيّها الرّاكب المُزْجِى مَطِيَّته ... سائلْ بنى أَسَدٍ ما هذه الصَّوتُ
فإِنَّما أَنَّثه [لأَنه] أَراد به الضوضاء به والجلبة والاستغاثة.
والصوت ضربان: ضرب مجرّد عن تنفس بشىء كالصوت الممتدّ، ومتنفس بصورة مّا. وهو ضربان: ضرورىّ كما يكون من الجمادات ومن الحيوانات. واختيارىّ كما يكون من الإِنسان. وذلك ضربان: ضرب باليد كصوت العُود ونحوه، وضرب بالفم. وهو أَيضا ضربان: نطق وغير نطق، كصوت الناى. والنطق إِمّا مفرد من الكلام، وإِمّا مركَّب كأَحد الأَنواع من الكلام، قال تعالى: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} ، وتخصيص الصّوت بالنَّهى لكونه أَعمّ من النطق والكلام. ويجوز أَنَّه خصّة لأَنَّ المكروه رفع الصّوت فوق صوته لا رفع الكلام.(3/450)
بصيرة فى صور
الصُّورة: ما ينتقِش به الأَعيان وتتميّز بها عن/ غيرها. وذلك ضربان: ضرب محسوس يدركه الخاصّة والعامّة، بل يدركه الإِنسان وكثير من الحيوانات؛ كصورة الإِنسان، والفرس والحمار. والثَّانى، معقول يدركه الخاصّة دون العامّة؛ كالصّورة التى اختصّ الإِنسان بها: من العقل والرويّة والمعانى التى مُيّز بها. وإِلى الصّورتين أَشار تعالى بقوله: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ، {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ، {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} .
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّمَ: "إِنَّ الله خلق آدم على صورته". أَراد بها ما خُصّ الإِنسان به من الهيئة المدرَكة بالبصر والبصيرة، وبها فضَّله على كثير من خَلْقه. وإِضافتُه إِلى الله تعالى على سبيل المِلْك لا على سبيل البعضيّة والتشبيه، تعالى الله عن ذلك. وذلك على سبيل التشريف كما قيل: حَرَمُ الله، وناقة الله، ونحوُ ذلك قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} .(3/451)
وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} ، هو مثل قَرْن يُنفخ فيه فيجعل الله تعالى ذلك سببا لعَوْد الأَرواح إِلى أَجسامها. ويُروى أَنَّ الصُّور فيه صُوَر النَّاس كلهم.
وقوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ} بضمّ الصّاد وكسرها أَى أعطفهنّ وأَمِلْهنّ. وقيل: معناه قطَّعهنّ صورة صورة. وقال بعضهم: (صُرَّهنَّ) بضمّ الصّاد وتشديد الرّاءِ وفتحها من الصَّرّ، أَى الشدّ. قال وقرىء (فصِرَّهنّ) بكسر الصّاد وبفتح الرَّاءِ المشدّدة من الصّرير، أَى الصّوت، أَى صِحْ بهنّ.(3/452)
بصيرة فى صهر وصوع
الصِّهْر: الخَتَن، وأَهلُ بيت المرأة يقال لهم الأَصهار. كذا قال الخليل. وقد يقال لأَهل الزَّوجين جميعًا: هم أَصهار. وبينهم صِهْر وصُهُورة. وأَصهرت [إِلى] آل بنى فلان، وصاهرت إِليهم: إِذا تزوّجت إِليهم. وقال ابن الأَعرابىّ: الإِصهار: التحرُّم بجِوارٍ أَو نسب أَو تزوّجٍ، يقال: رجل مُصْهِر: إِذا كان له تحرُّم من ذلك. قال تعالى: {نَسَباً وَصِهْراً} .
والصَّهْر: إِذابة الشيء قال تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود} . وصهَرَ الشحم. وأَكل صُهَارته، وهى ذَوْبه. وصهر رأْسه: دَهَنه بالصُهَارة. وصهره باليمين صَهْرًا: استحلفه على يمينٍ شديدة.
الصّاع: الذى يُكال به، وهو أَربعة أَمداد. والجمع: أَصْوُع. وإِن شئت أَبدلت من الواو المضمومة همزة. وقد جمع [فى] القلة. وهو يذكَّر ويؤنَّث، فمن أَنَّثه قال: ثلاث أَصْوُع. وقرأَ ابن مسعود: (ولِمَنْ جاءَ بها) على التأَنيث. ومن ذكَّره قال: أَصواع، مثل باب وأَبواب. ويجمع أَيضًا(3/453)
على صِيعان، كقاعٍ وقيعان. وقرأ أَبو هريرة رضى الله عنه، ومجاهد، وأَبو البَرَهْسَم: (قالُوا نَفْقِدُ صَاعَ المَلِكِ) .
والصُّواع، والصِّواع، والصُّوع بالضمّ، والصَّوْع بالفتح؛ لغات فى الصّاع. وقرأ أَبو حَيْوة وابن قطيب: (صِوَاع الملك) بالكسر. وقرأ حسن البصرىّ، وأَبو رجاء، وعَوْن بن عبد الله، وعبد الله بن ذَكْوَان: (صُوَاع المَلِك) بالضمّ. وقرأ أَبو رجاء أَيضًا: (صَوْع الملِك) بالفتح. وقرأَ بعضهم: (صَوْغ الملك) بالغين المعجمة، يذهب به إِلى أَنه [كان] مصوغًا من الذهب.
ويعبّر عن المكيل باسم ما يكال به فى قوله: صاع من بُرّ، أَو صاع من تمر.(3/454)
بصيرة فى صوف وصيف
الصوف للضَّأَن. والصُّوفة أَخصّ منه. وفى المثل: خَرْقاءُ وجدت صوفًا/. وأَصله المرأَة غير الصَنَاع تصيب صوفًا فلا تَحذِق غَزْله، فتفسده. يُضْرَبُ للأَحمق يجد مالاً فيضيّعه.
وأَخذ بصُوف رقَبَتِه وبظُوفها وبظافها وبقُوفها، أَى بجلْد رقبته أَو بقفاه أَجمعَ: إِذا أَخذه قهرًا.
والصُّوفة: قوم كانوا يخدمون الكعبة ويُجيزون الحجّ فى الجاهليّة. وهم بنو صوفة. وصُوفة: أَبو حىّ من مُضَر، وهو الغَوْث بن مُرّ بن أُدّ ابن طابخة.
والصَّيف: واحدُ فصولِ السَنَة، والجمع: أَصياف. والصَّيْفة أَخصّ منه كالشَتْوة. قال الفرّاءُ: جمعها صِيَف كَبَدْرة وبِدَر. وصَيْف صائف، تأْكيد كَلَيْلٍ لائِل.
والصَيْف: المطر الذى يجىء فى الصّيف. والصّيِّف كسيّد: المطر يأْتى بعد فصل الرّبيع. وصائفة القوم: مِيرتهم.(3/455)
بصيرة فى صوم والصيصية
صامَ: سَكَت: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمان صَوْماً} ، أَى سكوتًا، بدليل قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} .
وصام الماءُ، وقام، ودام بمعنى. وصامت الرّيحُ: ركدت.
وقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَى فَلْيَصُمْ فيه. ورجلٌ صَوّام قَوّام. وقوم صِيام، وصَوْم، وصُوّام، وصُيَّم.
ويقال للفرس المُمْسِك عن المسير والعلَف: صائم. قال.
خَيْلٌ صِيامٌ وخيل غير صائمةٍ
والصّيصِيَة: شوكة الحائك يسوِّى بها السَدَى واللُّحْمَة، وشوكة الدّيك، وقرن البقر والظِّباء، والحِصْن المنيع، وكلّ ما امتُنِع به. والجمع: صَيَاصٍ قال تعالى: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ} .(3/456)
الباب السادس عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الضاد(3/457)
بصيرة فى الضاد
وهى ترد فى القرآن وفى لغة العرب على وجوه:
1- حر ف من حروف الهجاءِ شَجْرىّ، مخرجها من مفتتح الفم، يذكَّر وَيُؤنَّث. ضَوّدت ضادًا حسنَةً وحَسَنًا. ويجمع على أَضوادٍ، وضادات.
2- الضَّاد اسم لعدد الثَّمانمائة فى حساب الجُمّل.
3- الضَّاد الكافِيَة؛ كما يكتفون عن ضماد، وأَضداد، بذكر الضَّاد. قال الشاعر:
فَهُمْ فى الحَىِّ أَحبابٌ ... وعند المُلْتَقَى ضادُ
أَى أَضداد.
4- الضَّاد المكرّرة فى: فضض، وقضض.
5- الضَّاد المدغمة فى مثل: رضّ، وفضَّ.
6- ضاد العجز والضَّرورة، فبعض النَّاس ينطق بالضَّاد على صيغة الدّال، وأَهل خراسان قاطبة على صيغة الزَّاى.
7- الضَّاد المشدّدة المبنيّة بالفتح، تقول: ضادَّه، أَى خالفه.(3/458)
8- الضَّاد الأَصل، فى نحو: ضرب، وحضر، وفرض.
9- الضَّاد المبدلة: إِمّا من الصَّاد كالنَّصنصة والنَّضنضة للحركة، وإِمّا من الظاءِ كما فى قول الشاعر:
إِلى الله أَشكو من خَليلٍ أَوَدُّه ... ثلاثَ خِلال كلَّها لِىَ غائض
أَى غائظ.
10- الضَّاد اللّغوى. قال الخليل: الضاد عندهم: الهُدهد الضعيف، قال الشاعر:
كأَنِّىَ ضادٌ يوم فارقت مالكًا ... أَنُوءُ إِذا رُمْتُ القيامَ فأَكسَلُ(3/459)
بصيرة فى ضبح وضحك
ضَبْح الخيل: صَوتُ أَنفاسها عند العَدْو. وجاءَت الخيلُ/ ضَوابحَ. قال تعالى: {والعاديات ضَبْحاً} . ويقال: ما سمعت إِلاَّ نُبَاح الأَكالِب وضُبَاح الثعالب. وقيل: الضَّبْح: العَدْو الخفيف. وقيل: الضَّبْح كالضَبْع، وهو مدّ الضَبْع فى العَدْو.
والضَّحِك: انبساط الوجه وتَكْشِيرُ الأَسنان من سرور. ضَحِك - كعلم - ضَحْكًا - بالفتح - وضِحِكًا - بكسرتين - وضَحِكًا - ككتف - وتضَحّك وتضاحك، فهو: ضاحك، وضحّاك، وضُحُكَّة كحُزُقَّة، وضَحُوك، ومضحاك. وضُحَكة كهُمَزَةٍ: كثير الضَّحك. وضُحْكة بالضمّ: يُضحَك منه. والضحّاك والضُحَكة ذمّ، والضُحْكة أَذَمّ.
وجاءَ بأُضحوكة وبأَضْاحيك. وتقول: ما أَضاحِيك إِلاَّ أَضاحِيك.
وقد يستعمل الضحك للتعجّب المجرّد. وهذا المعنى قَصْد من قال: الضَّحك يختصّ بالإِنسان. وبهذا المعنى قال تعالى: {وامرأته قَآئِمَةٌ(3/460)
فَضَحِكَتْ} ، وضحكها كان للتَّعَجّب. ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .
وقول من قال: حاضت ليس ذلك تفسيرًا لقوله: (فضحكت) كما تصوّر بعض المفسّرين فقال: ضحكت بمعنى حاضت، وإِنما ذكر ذلك تَنْصيصا بحالها، فإِنَّ الله تعالى جعل ذلك أَمَارة لما بُشِّرت به، فحاضت فى الوقت لتعلم أَنَّ حملها ليس بمنكَر؛ إِذ كانت المرأَة ما دامت تحيض فإِنَّها تَحْبَلُ.
وقد يستعمل الضَّحك فى السّرور المجرّد كما فى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ} .(3/461)
بصيرة فى ضحى
الضَّحْو، والضَّحْوة، والضَحِيّة - كعشيّة: ارتفاع النهار. والضُحَا فُوَيْقه. ويذكَّر ويصغَّر ضُحَيَّا بلا تاءٍ. والضَحاء - بالفتح والمدّ - إِذا كَرَب انتصافُ النَّهار، وبالضمّ والقصر -: الشَّمس.
وأَتيتك ضَحْوَةً، وضَحَاء، وضُحِيًّا، أَى ضُحًا. وأَضحى: صار فيها. وضاحانى رسولُك. قال تعالى: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .
وضَحِىَ يَضْحَى - كرِضِىَ يرضَى -: تعرّض للشَّمس، قال تعالى: {لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} ، أَى لك أَن تتصَوّن من حَرّ الشمس.
وضَحَّى قومه: غدّاهم فتضَحَّوا، ودعاهم إِلى ضَحَائه. وضَحَّى إِبله: رعاها ضَحَاءِ.
وضاحية كلّ شىء: ناحيته البارزة. وضواحى الإِنسان: ما برز منه، كالكتفين والمَنْكِبَيْن، ومن الحَوض: نواحيه.
وليلة ضَحْياءُ وإِضْحِيانَةٌ وإِضْحِيَةٌ: مضيئة. ويومٌ ضَحْياةٌ.(3/462)
بصيرة فى ضد
الضِّدّان: الشيئان اللذان تحت جنس واحد، وينافى كلّ واحد منهما الآخر فى أَوصافه الخاصّة، وبينهما أَبْعَد البُعْد؛ كالسّواد والبياض، والخير والشر. وما لم يكونا تحت جنس واحد لا يقال لهما الضدّان؛ كالحَلاوة والحركة. قالوا: والضدّ أَحد المتقابلات، فإِن المتقابلَين هما الشيئان المختلفان اللذان كلّ واحد قُبَالةَ الآخر، ولا يجتمعان فى شىء واحد [فى وقت واحد] . وذلك أَربعة أَشياء: الضدّان؛ كالبياض والسّواد، والمتضايِفان؛ كالضِّعْف والنصف، والوجود والعدم، [و] كالبصر والعمى، والموجِبة والسّالبة فى الأَخبار، نحو: كلّ إِنسان ههنا، وليس كل إِنسان بههنا.
وكثير من المتكلِّمين وأَهل اللغة يجعلون كلّ ذلك من المتضادّات، ويقولون: الضدّان: ما لا يصحّ اجتماعهما فى محلّ واحد. وقيل: الله تعالى لا نِدّ له ولا ضِدّ له؛ لأَنَّ الندّ هو الاشتراك فى الجوهر، والضدّ هو أَن يعتقب الشَّيئان المتنافيان فى جنس واحد، والله تعالى منزَّه عن أَن يكون له جوهر، فإِذًا لا ضدّ له ولا نِدّ.(3/463)
والضَّدِيد بمعنى الضدّ، والجميع: أَضداد، يقال: / لا ضدّ له ولا ضَدِيد، أَى لا نظير له ولا كُفْء له. وقال أَبو عمرو الضِدّ: مثل الشىء، والضدّ: خلافه: (فُسّرا به) من الأَضداد.
وقوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ، قال الفرَّاءُ: أَى عَوْنا، فلذلك وحَّده. وقال عِكْرِمة: أَى أَعداء. وقال الأَخفش: الضِدّ يكون واحدًا ويكون جمعًا. وقال الأَزهرىّ: يعنى الأَصنام التى عبدها الكفَّار تكون أعوانًا على عابديها.
وضادّه، وهما متضادّان، أَى لا يجوز اجتماعهما فى وقت واحد، كالليل والنَّهار.(3/464)
بصيرة فى ضرب
ورد الضَّرب فى اللغة والقرآن على وجوه:
الضَّرْب: الخفيف من المطر. والضَّرْب: الصفة والصّنف من الأَشياء. والضَّرْب: الرجل الخفيف اللحم. قال طَرَفة بن العبد.
أَنا الرجل الضَّرْب الذى تعرفوننى ... خِشاشٌ كرأس الحيَّة المتوقِّدِ
الضَّرْبُ الإِسراع فى السّير: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} ، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} .
الضَّرْب: الإِلزام: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} ، أَى أُلزموهما.
الضَّرب بالسّيف وباليد: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} ، أَى بالسّيف، {واضربوهن} ، أَى باليد.
الضرب: الوصف: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} ، أَى وَصَفَ، {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} ، أَى نَصِفها.(3/465)
الضرب: البيان: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} ، {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} أَى بيّنَّا.
ويقال: ضرب على يديه: إِذا أَفسد عليه أَمرًا أَخّذ فيه. وضرب القاضى على يده: حجره. وضرب على المكتوب. وضَرَبَ الجُرْحُ والضِّرْسُ: اشتدّ وجعه. وضرب الشىءَ بالشىء: خلطهُ.
وقوله تعالى: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ} أَى أَنمناهم، وقيل: منعناهم السّمع؛ لأَنَّ النَّائم إِذا سمع انتبه.
وضرب العِرْقُ ضَرَبانا: نَبَض، ولَحىَ الله زمانًا ضرب ضربانَهُ، حتى سلّط علينا ظَرِبانه.
وضرب خاتَمًا. وضرب اللبِن. وضرب مثلاً.
وأَضْرَبَ فى بيته: إِذا لم يبرح منه، وأَضرب عن الأَمر: عَزَف عنه. والضريبة: الطبيعة.
وضرب الدّهرُ بينهم: فرّق. وضربته العقرب: لدغته. وضَرَبَ(3/466)
مناقب جَمّة واضطربها: حازم. وهم ضُرَباء أَى قرناءُ. وأَضرب البردُ النباتَ: أَفسده. ورأَيت ضَرْب نساء، أَىْ نساء. قال الراعى:
وضَرْبُ نساءٍ لو رآهنَّ راهبُ ... له ظُلّة فى قُلّة ظلّ رانِيا
وضرب الزمان: مَضَى. وقال ذو الرمة:
فإِن تضرب الأَيّام يا مىّ بيننا ... فلا ناشِرٌ سِرًا ولا متغيّر
وضَرَبَ الدّراهم اعتبارًا بضربه بالمِطرقة. وضرب الخَيْمَة لضرب أَوتادها بالمطرقة. وضَرْب العُود والناى والبُوق يكون بالأَنفاس.
والمضاربة: ضرب من الشركة. والمضرَّبة: ما أَكثر بالخياطة ضَرْبه.
والتضريب: التحريض والإِغراءُ، كأَنَّه حَثٌّ على الضرب.
والضَّرَبُ محركة: العسل.(3/467)
بصيرة فى ضر
ضرّه ضَرَرًا وضَرًّا، وضَرُورة وَضَرُوراء، وضاروراء، وهو سُوءُ الحال، إِمّا فى نفسه؛ كقلّة العلم والفضل والعفّة، وإِمّا فى بدنه، كعدم جارحة ونقص، وإِمّا فى حالة ظاهرة من قلّّة مال وجاه. والمُضِرّ بمعناه.
وقد ورد فى القرآن واللغة على وجوه:
1- بمعنى البلاء والشدّة: {والصابرين فِي البأسآء والضراء} ، {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} .
2- بمعنى الفقر والفاقة: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} ، {إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} ، أَى ما قدّر من الفقر.
3- بمعنى القحط والجَدْب، وضِيق المعيشة: {مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء} {مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} ، أَراد به قحط المطر.(3/468)
4- بمعنى اختلاف الرّياح والأَمواج وخوف الهلاك/: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} .
5-بمعنى المرض والوجع والعِلّة: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} ، أَى العلَّة، {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} ، أَى من عِلَّة.
6- بمعنى [نقص] القَدْر والمنزلة: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} أَى لن ينقصوه، {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} : ما ينقصونك.
7- بمعنى الإِيذاء وإِيصال المِحَن، فى معارضة المنفعة والراحة: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} ، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} .
8- بمعنى الجوع والعُرْى: {ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} . وله نظائر. وقوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} تنبيه على قلّة ما ينالهم من جهتهم، وتأمين من ضرر يلحقهم، نحو: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} .(3/469)
وقوله: {يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} إلى قوله: {يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} ، فالأَول يَعنى به الضرّ والنفع اللذين بالقصد والإِرادة؛ تنبيهًا أَنَّه لا يقصد فى ذلك ضرًّا ولا نفعًا لكونه جمادًا. وفى الثَّانى يريد ما يتولّد من الاستعانة به وعبادته، لا ما يكون منه بقصد.
والضَرَّاءُ تُقابَل بالسّراءِ والنَّعماءِ، والضَرّ بالنَّفع.
ورجل ضَرِير: كناية عن فاقد البصر. والضَّرير: المضارّ.
{وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} ، يجوز أَن يكون مسندًا إِلى الفاعل، كأَنَّه قال: لا يضارِرْ، وأَن يكون مسندًا إِلى المفعول، أَى لا يضارَرْ بأَن يُشغل عن صنعته ومعاشه باستدعاءِ شهادته.
وقوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} ، فإِذا قرىء بالرَّفع فلفظه خبرٌ ومَعناه أَمر، وإِذا فُتح فأَمرٌ.
والاضطرار: حَمْلُ الإِنسان على ما يُضرّ. وهو فى التعارف: حملٌ على أَمر يكرهه، وذلك على ضربين: أَحدهما اضطرار بسبب خارج كمن يُضرَب أَو يهدَّد حتى ينقاد، أَو يؤخذ قهرًا فيُحمل على ذلك؛ كما(3/470)
قال تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} . والثانى بسبب داخل، وذلك إِمّا بقهر قوّة لا يناله بدفعها هلاك؛ كم غَلَب عليه شهوة خمر أَو قِمار، وإِمّا بقهر قوّة يناله بدفعها الهلاك؛ كمن اشتدّ به الجوع فاضطُرّ إِلى أَكل مَيتة، وعلى هذا: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} .
وقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} هو عامّ فى كلّ ذلك.(3/471)
بصيرة فى ضرع
الضَّرْع لكلّ ذات ظِلْف أَو خُفّ. اللَّيث: الضَرْع للشَّاة والبقرة ونحوهما، وللنَّاقة خِلْف.
أَبو زيد: الضَّرْع جِمَاع. وفيه الأَطْباء وهى الأَخلاف، واحدها طُبْىٌ وخِلف. وفى الأَطْباءِ الأَحاليل، وهى خروق اللبن.
ابن دريد: الضَرْع: ضَرْع الشاة. والجمع: ضروع. وشاة ضَرْعاء: عظيمة الضَّرع.
والضَّريع: نبات أَخضر مُنْتِنُ الرّيح، يَرمِى به البحر.
وقال أَبو الجوزاء: الضَّرّيع: السُّلاّءُ. وجاءَ فى التفسير أَنَّ الكفَّار قالوا: إِنَّ الضَّريع لتسمَن عليه إِبلنا، قال الله تعالى: {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} .
وقال ابن الأَعرابىّ: الضريع: العَوْسَج الرَّطْب. فإِذا جفَّ فهو عوسج. فإِذا زاد فهو الخَزيز.
ابن عبّاد: الضريع: يبيس كلّ شجر. قال: والضريع: الشراب الرّقيق.
الليث: الضَّريع: الجلدة التى على العظم تحت اللحم من الضِّلَع. قال:(3/472)
والضَّريع: نبت فى الماء الآجِن، له عروق لا تصل إِلى الأَرض. وقال غيره: الضَّريع الخَمْر.
ويقال للرّجل إِذا استكان وخضع وذلّ: ضَرَعَ وضَرُع، وضَرِع ضَرَعًا وضَرَاعة. وقومٌ ضَرَعٌ.
وتضرّع إِلى الله تعالى: ابتهل وأَظهر الضَّرّاعة. الفرّاء: جاءَ فلان يتضرّع/ ويتعرّض، بمعنى واحد: إِذا جاءَ يطلب إِليك الحاجة.
وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} ، أَى يتذلَّلُون فى دعائهم إِيّاه. والدّعاءُ تضرّع؛ لأَنَّ فيه تذلّل الرّاغبين. وقوله تعالى: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، أَى مظهرين الضَّرَاعة، وهى شدّة الفقر إِلى الله تعالى، وحقيقته الخشوع. و (خُفْية) ، أَى تُخفون فى أَنفسكم مثل ما تظهرون.
وتضرّع الظلُّ: قَلَص. وتضرّع: تَقَرَّب فى رَوَغان كضَرّع تضريعًا.
والمضارعة المشابهة، وأَصلها التشارك؛ نحو المراضعة وهو التشارك فى الرضاعة ثمّ جُرِّد للمشاركة.(3/473)
بصيرة فى ضعف
الضعْف والضُعْف: خلاف القوّةُ. وقد ضَعُف وضَعَف - الفتح عن يونس - فهو ضعيف. وقوم ضِعَاف وضُعَفَاءُ وضَعَفَة. وفرَّق بعضهم بين الضُّعْف والضَعْف فقال: [الضعف]- بالفتح - فى العقل والرأى، والضُّعف بضمّ - فى الجسد. ورجل ضَعُوف، أَى ضعيف. وكذلك امرأَة ضَعُوف.
وقوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} أَى من مَنِىٍّ. وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} ، أَى يستميله هواه.
وقال ابن عرفة: ذهب أَبو عبيدة إِلى أَن الضِّعْفين اثنان، وهذا قول لا أُحبّه؛ لأَنَّه قال الله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} ، وقال فى آية أُخرى: {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} فأَعْلَمْ أَن لها من هذا حَظَّيْنِ.
وقوله تعالى: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} ، أَى لو ركنت إِليهم فيما استدعَوْه منك لأَذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات؛ لأَنَّك نبىّ يضاعف لك العذاب على غيرك، وليس على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم نقص فى هذا الخطاب ولا وعيد، ولكن ذكّره الله تعالى مِنَّته بالتثبيت بالنبوّة.(3/474)
وقوله تعالى: {فأولائك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} قال أَبو بكر: أَراد المضاعفة، فأَلزم الضِّعْف التَّوحيد؛ لأَنَّ المصادر ليس سبيلها التثنية والجمع. قال: والعرب تتكلم بالضِّعف مثنىَّ فيقولون: إِن أَعطيتنى درهمًا فلك ضِعفاه، يريدون مثليه. قال: وإِفراده لا بأس به، إِلاَّ أَن التثنية أَحسن.
وقال أَبو عبيدة: ضِعْف الشىء مثله، وضِعْفاه مثلاه. وقال فى قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب} : يجعل العذاب ثلاثة أَعذِبة، قال: ومَجَاز يضاعف: يجعل إِلى الشىء شيئان حتى يصير ثلاثة.
وقال الأَزهرىّ: الضِّعف فى كلام العرب: المثْل إِلى ما زاد، وليس بمقصور على المِثلين. فيكونَ ما قال أَبو عبيدة صوابًا، بل جائز فى كلام العرب أَن تقول: هذا ضعفه أَى مِثلاه وثلاثة أَمثاله؛ لأَنَّ الضعف فى الأَصل [زيادة] غير محصورة، أَلا ترى إِلى قوله عزَّ وجل: {فأولائك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} لم يُرد مِثلا ولا مِثْلين، ولكنَّه أَراد بالضعْف الأَضعاف. قال: وأَوْلَى الأَشياء فيه أَن يجعل عشرة أَمثاله كقوله تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، الآية فأَقلّ الضعف محصور وهو المِثْل، وأَكثره غير محصور.(3/475)
ورجل مَضعوفٌ على غير قياس، والقياس مُضْعَف. وحِمْيَر تسمِّى المكفوف ضعيفًا، وقيل فى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أَى ضريراً.
وأَضعاف البدن: أَعضاؤه. وأَضعفَه: جعله ضِعفين. واستضعفه: عدّه ضعيفا. قال الله تبارك وتعالى: {إِلاَّ المستضعفين} . وتضعّفه بمعناه، ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُنَبِّئُك بأَهل الجنَّة. كلٌّ ضعيف متضعَّف ذى طِمْرَين لا يُؤْبَهُ به، لو أَقسم على الله لأَبَرَّه". وضاعفه أَى أَضعفه من الضِّعْف، قال الله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} .
وقال الراغب استضعفته: وجدته ضعيفًا. وقوبل بالاستكبار: {يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} .
وقوله: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} ، فالثانى غير الأَوّل، وكذا الثالث. فانَّ قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} أَى من نطفة أَو تراب. والثانى: هو الضَّعف الموجود فى الجنين والطِّفل. والثالث: الذى بعد الشيخوخة وهو المشار إِليه بأَرذل العمُر. والقوّتان: الأُولى: هى التى تُجعل للطفل من التحرك وهدايته(3/476)
لاستدعاءِ اللبَن، ودفع الأَذى عن نفسه بالبكاءِ. والقوّة الثانية: التى بعد البلوغ. ويدل على أَنَّ كلّ واحد من قوله: (ضَعْف) إِشارة إِلى حالة غير الحالة الأَولى ذكرُه منكّرًا، والمنكّر متى أُعيد ذِكره وأُريد به ما تقدّم عُرّف، كقولك: رأَيت رجلاً فقال لى الرّجل، ومتى ذُكِر ثانيا منكَّرًا أُريد به غير الأَوّل، ولذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} : لن يغلب عسرٌ يُسْرَيْن.
وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} فضعفُه كثرة حاجاته التى يستغنى عنها الملأُ الأَعلى. وقولُه: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} فضعف كيده إِنما هو مع (من صار) من عباد الله المذكورين فى قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} .
والضِّعْفُ من الأَسماء المتضايفة التى يقتضى وجودُ أَحدهما وجودَ الآخر؛ كالنصف والزوج، وهو تركُّب قَدْرين متساويين، ويختصّ بالعدد. فإِذا قيل: أَضعفت الشىء وضعَّفته وضاعفته: ضممتُ إِليه مثله فصاعدًا. وقال بعضهم: ضاعفت أَبلغ مِنْ ضَعّفت، ولهذا قرأَ أَكثرهم (يُضَاعَفْ) قال تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} ، ومن قال: ضَعَفته بالتخفيف(3/477)
ضَعْفًا فهو مضعوف قال: الضَّعْف مصدر، والضِّعْف اسم، كالثَّنْىِ والثِّنْىِ. فضِعْف الشىء هو الذى تَثْنِيهِ. ومتى أَضيف إِلى عدد اقتضى ذلك العددُ مثلَه، نحو أَن يقال: ضِعفُ العشرة، وضعف مائة، فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف. وعلى هذا قال:
جَزَيْتُكِ ضِعف الودّ لمّا اشتكيته ... وما إِنْ جزاكِ الضِّعفَ من أَحد قَبْلى
وإِذا قيل: أَعْطِهِ ضِعْفَىْ واحد اقتضى ذلك ومثلَيْه، وذلك ثلاثة، لأَنَّ معناه الواحد واللذان يزاوجانه، وذلك ثلاثة. هذا إِذا كان الضِّعْف مضافًا، ( [فأَما إِذا لم يكن مضافا] فقلت: الضعفَيْن، فإِنَّ ذلك قد يجرى مجرى الزَّوجين فى أَنَّ كلّ واحد منهما يزاوج الآخر، فيقتضى ذلك اثنين؛ لأَن كلّ واحد منهما يضاعف الآخر، فلا يخرجان عن الاثنين، بخلاف ما إِذا أُضيف الضعفان إِلى واحد فَيَثْلِثهما نحو ضِعْفَىْ الواحد) .
وقوله: {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} ، قيل: أَتى باللفظين على التأكيد، وقيل: بل المضاعفة من الضَّعف لا من الضِّعْف، والمعنى:(3/478)
ما تعدُّونه ضِعفًا هو ضَعف أَى نقص، كقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} .
وقوله: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} فإِنَّهُمْ سأَلوه أَن يعذّبهم عذابًا بضلالهم وعذابًا بإِضلالَهم، كما أَشار بقوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} .
وقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} ، أَى لكل منهم ضعف ما لكم من العذاب. وقيل: أَى لكل منكم ومنهم ضعف ما يرى الآخر، فإِن من العذاب ظاهرا وباطنًا، وكلّ يدرك من الآخر الظاهرَ دون الباطن، فيقدّر أَن ليس له العذاب الباطن.
قال المتنبِّى فى لفظ الضعف:
ولستَ بدُونٍ يُرتجَى الغيث دُونه ... ولا منتهى الجود الذى خلفَه خَلْفُ
ولا واحدا فى ذا الوَرَى من جماعة ... ولا البعضَ من كلّ ولكنَّك الضِّعفُ
ولا الضِّعف حتى يتبع الضِّعفَ ضِعْفُه ... ولا ضِعف ضِعف الضِّعفِ بل مثلَه أَلْفُ(3/479)
بصيرة فى ضغث وضغن
ضَرَبَهُ بضِغْثٍ، أَى بقُبْضة من قُضْبانٍ صغار أَو حَشِيش بعضُه فى بعض. وضَغَّثه: جعله أَضغاثا.
وقوله تعالى: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} هى ما التبس منها ولم يتبيّن حقائقها. وضَغَث الحديث: خَلَطه.
والضِّغْن والضَغَن والضَغِينة: الحِقْد. وقد ضَغِن كفرح. وتضاغنوا واضطغنوا: انطوَوا على الأَحقاد. وبينهم أَضغان وضغائن. وهو ضَغِنٌ علىّ ومضطغِن ومُضاغِن إِلىّ.
وناقة ذات ضِغْن: تنزع إِلى وطنها. وامرأَة ذات ضِغْن: تحبّ غير زوجها. قال الرّاعى:
وصَدَّ ذواتُ الضِّغن عنىِّ وقد أَرى ... كَلاَمِىَ تَهواه النساءُ الطوامِحُ
وقَناة ذات ضَغَن: فيها عَوَج، قال:
إِنّ قناتِى من صليبات القَنا ... ما زادها التثقيف إِلا ضَغَنا(3/480)
بصيرة فى ضل
الضَّلال، والضَلّ - بالفتح - والضُلّ - بالضمّ - والضَّلالة، والضَلْضلة والأُضلولة: ضدّ الهُدَى. وقد ضلَلتَ - بالفتح - تضِلّ. وضَلِلْتَ - بالكسر - تَضَلّ. وهو ضالٌّ وضَلُول. وأَضلَّه غيره وضلَّلَه.
وضلَلتُ بعيرى: إِذا كان معقولاً فلم تهتد لِمكانه، وأَضللته: إِذا كان مطلقًا فمرّ ولم تدرِ أَين أَخَذَ. وأَضللت خاتمى. وضلّ فى الدِّين. وهو ضالٌّ، وضلّيل، وصاحب ضلال وضلالة، ومُضَلَّل. ووقع فى أَضاليل وأَباطيل.
وفلان لِضِلَّة: لِغيّة. وذهب دمه ضِلَّة: هَدَرًا.
وضلّ عنِّى كذا: ضاع. وضَلَلْتُه: أُنسِيته. وأَضلَّنى أَمر كذا: لم أَقدر عليه. وأَنشد ابن الأَعرابىّ:
إِنِّى إِذا خُلَّة تضيَّفنى ... يريد مالى أَضلَّنى عِلَلِى
وضلّ الماءُ فى اللبن، واللبنُ فى الماءِ: غاب. وأُضِلّ الميّتُ: دُفِنَ.
وفلان ضُلّ بن ضُلّ، وقُلّ بن قُلّ: لا يُعْرف هو وأَبوه. قال:
فإِنّ إِيادكم ضُلُّ ابن ضُلّ ... وإِنَّا من إِيادكم بَرَاءُ
ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج، عمدًا كان أَو سهوًا، يسيرًا كان أَو كثيرًا، فإِنَّ الطريق المستقيم الذى هو المرتضَى صعب جدًّا، ولهذا(3/481)
قال صلَّى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تُحْصوا". وقيل: لن تحصوا ثوابه. وقال بعض الحكماء. كونُنا مصيبين من وجه، وكوننا ضالِّين من وجوه كثيرة، فإِنَّ الاستقامة والصّواب يجرى مجرى المقرطَس من المرمىّ، وما عداه من الجوانب كلّها ضلال.
وإِذا كان الضلال تَرْكُ الطريق المستقيم، عمدًا كان أَو سهوًا، قليلاً كان أَو كثيرًا، صحّ أَن يستعمل لفظ الضَّلال فيمن يكون منه خطأ مّا. ولذلك نُسب الضلال إِلى الأَنبياءِ وإِلى الكفار، وإِنْ كان بين الضلالَيْنِ بَوْن بعيد، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} ، أَى غير مهتد لما سيق إِليك من النبوّة. و {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} ، وقال: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} تنبيهًا أَنَّ ذلك منهم سهو. وقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} ، أَى تَنْسَى، وذلك من النِّسيان الموضوع عن الإِنسان.
والضَّلال من وجه آخر ينقسم قسمين: ضلال فى العلوم النظريّة؛ كالضلال فى معرفة الوحدانيّة ومعرفة النبوّة ونحوهما المشار إِليهما بقوله:(3/482)
{وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} . / وضلال فى العلوم العمليّة، كمعرفة الأَحكام الشرعيّة.
والضَّلال البعيد إِشارة إِلى ما هو كفر. وقوله تعالى: {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد} أَى فى عقوبة الضلال البعيد.
وقوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} كناية عن الموت واستحالة البدن. وقوله: {وَلاَ الضآلين} ، قيل: أَراد به النَّصارى.
وقوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أَى لا يَغْفل عنه.
وقولُه: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} ، أَى فى باطل وإِضلال لأَنفسهم.
والإِضلال ضربان: أَحدهما أَن يكون سببه الضلال، وذلك على وجهين: إِمّا أَن يضِلّ عنك الشىء، كقولك: أَضللتُ البعير، أَى ضلّ عنى؛ وإِمّا أَن يحكم بضلاله. فالضلال فى هذين سبب للإِضلال.
الضَّرب الثانى: أَن يكون الإِضلال سببًا للضلال. وهو أَن يزيّن للإِنسان الباطل ليَضِلّ، كقوله تعالى: {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ(3/483)
إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} أَى يَتَحَرَّون أَفعالا يقصدون بها أَن تَضِلّ، فلا يحصل من فعلهم ذلك إِلاَّ ما فيه ضلال أَنفسهم.
وإِضلال الله تعالى للإِنسان على وجهين:
أَحدهما: أَن يكون سببه الضلال. وهو أَن يَضِلّ الإِنسانُ فيحكم الله عليه بذلك فى الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنَّة إِلى النار فى الآخرة. وذلك الإِضلال هو حقّ وعَدْل؛ فإِنَّ الحكم على الضَّال بضلاله، والعدولَ به عن طريق الجنَّة إِلى النار حقّ وعدل.
والثانى: من إِضلال الله: هو أَنَّ الله تعالى وضع جِبِلَّة الإِنسان على هيئةٍ إِذا راعى طريقًا محمودًا كان أَو مذمومًا أَلِفه واستطابهُ، وتعسّر عليه صرفُه وانصرافه عنه. ويصير ذلك كالطبْع الذى يأبى على النَّاقل؛ ولذلك قيل: العادة طبع ثان. وهذه القوّة فينا فعلٌ إِلهىّ.
وإِذا كان كذلك، وقد ذكر فى غير هذا الموضع أَن كل شىء يكون سببًا فى وقوع فعل يصحّ نسبة ذلك الفعل إِليه، فصحَّ أَن ينسب ضلال العبد إِلى الله من هذا الوجه، فيقال: أَضلَّه الله، لا على الوجه الذى يتصوّره الجَهَلة. ولِمَا قلنا جعَل الإِضلال المنسوب إِلى نفسه للكافر والفاسق دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إِضلال المؤمن فقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ(3/484)
قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} ، {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} .
وقال فى الكافرين: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} ، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} . وعلى هذا النحو تقليب الأَفئدة والأَبصار فى قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} ، والخَتْم على القلب فى قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} ، وزيادة المرض فى قوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} .(3/485)
بصيرة فى ضم وضمر وضمن وضنك وضوا وضهى
الضمّ: قبض شىء إِلى شىء. ضَمّه فانضمّ وتضامّ. قال تعالى: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} .
وأَسَد ضَمضَمٌ وضُمَاضِمُ: يضمّ الشىء إِلى نَفْسه، أَو مجتمِع الْخَلْق.
فرس ضامِرٌ وضَمْر، ومُضَمَّر، ومُضْطمِر. وقد ضَمَر وضَمُرَ ضُمْرًا وضُمُورًا. وناقة ضامِر، أَى خفيفة اللحم من الأَعمال لامن الهُزَال، وقال تعالى، {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} .
وجرى فى المضمار والمضامير، وفى ضميرى. وأَضمرت شيئًا فى قلبى.
والضِّنَّة، والضَّنّ، والضَّنَانَة: البُخل بالشىء النفيس. ضنّ به يضَنّ، فهو ضَنِين. قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} ، أَى ما هو ببخيل.
ضَنُك عَيْشُه يَضْنُك: ضاق. وهو فى ضَنْك من العيش، وضَنَكه الله يَضْنُكه. و (عِيشة ضَنْك) وَصف بالمصدر.
والمضنوك: مَن به ضُنَاك، أَى زكام.(3/486)
والضَّوء والضُّوء - بالفتح وبالضمّ -: الضِّياءِ قال: تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} . ضاءَت النَّارُ ضَوْءًا وضُوءًا، وأَضاءت مثله، وأَضَاءَته النَّار، لازم معتدٍّ، قال تعالى: {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} ، وقال النابغة الجَعْدِىّ رضى الله عنه:
فلمّا دنونا لجَرْس النُبُوح ... ولا نبصر الحىّ إِلا التماسا
أَضاءَت لنا النار وجهًا أَغرّ ... ملتبسا بالفؤاد التباسا
وقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} . قال ابن عرفة: هذا مَثَل ضربه الله تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلم، يقول: يكاد منظَره يدل على نبوّته وإِن لم يتْل قرآنا؛ كما قال عبد الله بن رَوَاحة رضى الله عنه:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبيِّنة ... كانت بَديهته تُنْبِيكَ بالخبر
والمضاهاة: المشاكلة، تقول: ضاهَيْتُ وضاهأت، يُهمز ولا يهمز. وقرأَ عاصم: {يُضاهِئون قَوْلَ الذِينَ كَفَرُوا} بالهمز، والباقون بغير همز.(3/487)
بصيرة فى ضير وضيز وضيع وضيف وضيق
الضَيْر: المَضَرَّة، قال تعالى: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} . ضارَه يَضِيرُهُ ضَيْرًا. هذا مِمّا لا يَضِيرك، ولو فعلته لم يَضِرْك.
ضازه حَقَّه: منعه ونقصه. {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} ، أَى ناقصة، وأَصلها ضُيْزَى، فكُسِرت الضاد للياءِ؛ وليس فى الكلام فِعْلى.
ضاع عيالُه ضَيع وضَياعًا. وتركهم بضَيْعة ومَضِيعة، وأَضاعهم وضيّعهم. ويقال: إِضاعة النساء أَلاَّ يزوَّجن الأَكفاءَ. قال تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} .
وما ضَيْعتك: ما صَنْعتك وعَمَلك.
وأَصل الضَّيف المَيْل. ضاف إِليه، وضاف عنه. وضافت الشمسُ، وضيَّفت وتضيّفت: مالَت للغروب. قال بشر:
طاوٍ برملةِ أَوْرَالٍ تَضَيَّفه ... إِلى الكِنَاس عَشِىٌّ باردٌ خَصِرُ(3/488)
وسُمّى الضَّيف ضَيفًا لميله إِلى النزول بك، وصارت الضِّيافة متعارَفة فى القِرَى. وأَصل الضيّف مصدر؛ ولذلك استوى فيه الواحد والجمع فى عامّة كلامهم، قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي} ، وقال تعالى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} . وقد يقال: أضياف وضيوف وضِيفان.
وأَضاف إِليه أَمرًا: أَسنده إِليه واستكفاه.
وهو يأخذ بيد المُضاف، وهو المُحْرج المحاط به. ونزلتْ به مَضُوفة: بليّة وهَمّ. قال أَبو جُنْدب الهذلىّ:
وكنتُ إِذا جارِى دعا لِمَضُوفة ... أُشمِّرُ حتى ينصُف الساقَ مِئْزرى
ورواه أَبو سعيد: لِمَضِيفة، ولمُضَافة. وهما بمعنى همٍّ وحاجة.
وضِفْته أضِيفه ضَيْفًا وضِيافة، أَى نزلت عليه ضيفًا.
والأَسماءُ المتضايفة: ما يثبت بثبوته آخَر؛ كالأَب، والأَخ، والصَدِيق ونحوه؛ فإِنَّ كلّ ذلك يقتضى وجودُه وجودَ آخر.
والضِّيق: ضدّ السعة. ضاق المكانُ يضِيق، وتضايق، وتضيّق. وفيه ضِيق وضَيق. والضَّيقة يستعمل فى الفقر والغمّ والبخل ونحو ذلك.(3/489)
قال تعالى: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ، أَى عجز عنهم.
وقد يعبّر به عن الحزن فى قوله: {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} ، {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} ، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} .
[وقوله] : {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} ينطوى على تضييق النفقة وتضييق الصَّدْر. ووقع فى مَضِيق من أَمره ومضايق. وضايقه فى كذا: لم يسامحه.
آخر باب الضَّاد.(3/490)
الباب السابع عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الطاء(3/491)
بصيرة فى الطاء
وهى ترد على عشرة أَوجه:
1- حرف من حروف الهجاءِ. مخرجه طَرَف اللسان قريبًا من مخرج التاءِ، يجوز قصره ومدّه. وتذكيره وتأنيثه. والفعل منه من اللفيف المقرون، تقول: طيَّيْت طاء حسنةً وحَسَنًا، وجمعه: أَطواء وطاءَات.
2- اسم لعدد التسع فى حساب الجُمَّل.
3- الطاء الكافية؛ كقوله تعالى: {طه} و {طس} ، فقد فُسّرتا به إِشارة إِلى طَوْل الله، أَو إِلى طهارة النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أَو إِلى طَرَب أَهل الجنَّة، أَو إِلى طبْل الغُزاة، أَو إِلى طُوبَى.
4- الطاء المكرَّرة، مثل: خطط.
5- الطاء المدغمة مثل حطّ وقطّ.
6- طاءُ العجز والضرورة. فكثيرون ينطقون بالطاءِ بصيغة التاء.
7- الطاءُ الأَصلىّ، نحو ما فى: طلب، وبطل، ولبط.(3/492)
8- الطاء المبدلة من التاءِ، نحو: اصطلح واصطبر.
9- الطاء المبدلة من الدّال، نحو: انقطْت مكان انقدْت.
10- الطاء اللغوى. قال الخليل: الطاء: الرّجل الكثير الوقاع، وأَنشد
إِنىِّ وإِنْ قَلَّ عن كلّ المُنَى أَملى ... طاءُ الوقاع قوىُّ غير عِنِّين(3/493)
بصيرة فى طبع
الطَبْع، والطبيعة، والطِّباع: السّجِيَّة التى جُبل عليها الإِنسان، وفى الحديث: "الرّضاع يغيّر الطِّباع".
والطِّباع: ما رُكِّب فى الإِنسان من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأَخلاق التى لا يزايلها. يقال: فلان كريم الطباع. وهو اسم مؤنّث على فِعَال، نحو: مِثَال، ومِهَاد.
والطَّبْع: الخَتْم: وهو التأثير فى الطِّين. وقوله تعالى: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} ، أَى نختم عليها مجازاة لهم فلا يدخلها الإِيمان. وقيل: الطبْع: أَن يصوَّر الشىء بصورة مّا، كطبع السِّكَّة وطَبْع الدّراهم. وهو أَعمّ من الخَتْم وأَخصّ من النَقْش.
والطابَع، والخاتَم، ما يُطبع به ويُختم. والطابِع: فاعِل ذلك. وقيل للطابَع طابِعٌ أَيضًا؛ وذلك كنسبة الفعل إِلى الآلة، نحو: سيف قاطع.
وطبيعة الدواء ونحوها: ما سخَّر الله تعالى له من مزاجه.(3/494)
(وطَبَعُ السيفِ: صَدَؤُهُ) رجل طَبِعٌ: لئيم دَنِس. وقد حَمَل بعضهم قوله تعالى: {طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} على ذلك، ومعناه: دنَّسه، كقوله: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} ، وقوله: {أولائك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} .
وقد تقدّم فى بصيرة ضلّ ما فيه كفاية إِن شاءَ الله.(3/495)
بصيرة فى طبق
الطَبَق: غِطاءُ كلّ شىء، والذى يؤكل عليه، ويُنقل فيه الطعام ونحوه، والجمع: أَطبْاق، وأَطبِقَه. وطَبّقه، وأَطبقه فتطبَّق وانطبق.
قال الشاعر:
ما من صديقٍ وإِنْ تَمَّت صداقته ... يومًا بأَنجحَ للحاجات من طَبَقِ
إِذا تلثَّم بالمِنديل منطلقًا ... لم يخش صَوْلَةَ بوّابٍ ولا غَلَق
لا تُكْذِبَنَّ فإِنَّ الناس قد خُلِقُوا ... عن رغبةٍ يُكرمون النَّاس أَو فَرَقِ
والطَّبَق أَيضًا من كل شىء: ما ساواه. والجمع: أَطباق. وقد طابقه مطابقة وطِبَاقًا.
وهى - أَعنى المطابقة - من الأَسماء المتضايفة، وهو أَن يجعل الشىء فوق شىء آخر بقَدْره. ومنه مطابقة النعل، قال الشاعر:
إِذا لاوذ الظلّ القصير بِخُفَّهِ ... وكان طباقَ الخُفِّ أَو قَلّ زائدا(3/496)
ثم يستعمل الطباق فى الشىء الذى يكون فوق الآخر تارة، وفيما يوافق غيره تارة، كسائر الأَسماء الموضوعة لمعنيين ثم يستعمل فى أَحدهما دون الآخر، كالكأس، والرواية ونحوها. قال تعالى: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ، أَى طبقة فوق طبقة، أَو طبقا فوق طبق.
وقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} ، أَى / تترَّقى منزلاً عن منزل. وذلك إِشارة إِلى أَحوال الإِنسان من ترقِّية فى أَحوال شتَّى فى الدنيا، نحو ما أَشار إِليه بقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} ، وَأَحوالٍ شتَّى فى الآخرة: من النشور، والبعث، والحساب، والصّراط. إِلى حين المستقَرّ فى إِحدى الدّارين.
وهذا طِباقه، وطِبْقُه، وطَبِيقه، وَطَبَقُهُ، أَى مطابِقه.
وطبَّق العنق: أَصاب المَفْصِلَ فأَبانها، ومنه سيف مطبِّق.(3/497)
ومطر وجراد مُطبِق: عامّ.
ومضى طَبَق بعد طبَق: عالَم من النَّاس بعد عالَم، قال العبّاس رضى الله عنه:
تُنقل من صالِب إِلى رَحِمٍ ... إِذا مضَى عالَم بدا طَبَقُ
والدّهر أَطباق: حالات. وفلان على طبقات شتَّى، والنَّاس طبقات: منازل ودرجات بعضها أَرفع من بعض.
وأَطبقوا على الأَمر: أَجمعوا.
وبناتُ طَبَق: الدّواهى، وأَصلها الحيّة لشبهها بالطبق إِذا استدارت، أَوْ لأَنَّها تمسَك تحت طَبَق السّفَط، أَوْ لإِطباقها على الملسوع.
وجنون مُطْبِق، وحُمَّى مُطْبِقة، وسَنَة مُطْبِقة، من أَطبقه: غطَّاه. وأَطْبِق شفتيك: اسكت.(3/498)
بصيرة فى طمو وطرح وطرد وطرف
طَحا اللهُ الأَرض طَحْوًا: بسطها، قال تعالى: {والأرض وَمَا طَحَاهَا} . وطحا به الهوى، وطحا به هَمّه: ذهب به. قال:
طحا بك قلبٌ فى الحِسَان طَرُوبُ ... بُعَيدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشِيبُ
وطحا على الأَرض: امتدّ. طَحَوْتُه: مددته. وطحا بالكُرة: رمى بها. ومِظَلَّة طاحِيَة: عظيمة منبسطة.
والطّرْح: رَمْىُ الشىء وإِبعاده. طرح الشىءَ. وبه: أَلقاه. وطرح له الوِسادة والمطارح، أَى المفارش، الواحد مِطْرح كمِفرش. وطرح الرّداءَ على عاتقه. ورأَيت عليه طَرْحة مليحة.
وطرّح الأَشياء تطريحًا، شُدّد للكثرة. وطرَّح البناءَ: رفعه. وجاءَ يمشى متطرّحا: متساقِطًا. وشىء طِرْح: مطروح لقلة الاعتداد به، قال تعالى: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} . واطْرَحْ بعينك: انظر.
والطَّرَد - محركة -: الإِبعاد استخفَافًا. تقول: طردته فذهب، لا يقال منه انفعل ولا افتعل إِلاَّ فى لغة رديئة؛ والرّجل مطرود وطَرِيد. وقال ابن(3/499)
السّكيت يقال: طردته: إِذا نفيتَه عنك وقلت له: اذهب عنّا. وأَطرده إِذا أخرجه من بلده، وأَمر أَن يُطرد من كل مكان حَلَّه. وطَرَدَ الإِبلَ طرْدا وَطرَدًا: ضمَّها من نواحيها.
وطريدك: من يولد بعدك. والطريدان: الليل والنهار. كلّ واحد منهما طريد صاحبِه. قال الفرزدق:
أَلاَ إِنَّما أَودَى شبابِىَ وانقضى ... على مَرّ ليلٍ دائبٍ ونهارِ
يُعِيدان لى ما أَمضيا وهما معًا ... طريدان لا يَسْتَلْهِيانِ قَرارى(3/500)
بصيرة فى طرف
الطَرْف: العَين، ولا يجمع لأَنَّه فى الأَصل مصدر، فيكون واحدا ويكون جماعة. قال الله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} . (وقال ابن عبّاد: الطرْف: اسم جامع للبصر لا يثنىّ ولا يجمع، وقيل: أَطراف، ويردّ ذلك قوله تعالى: {قَاصِرَاتُ الطرف} ، ولم يقل: الأَطراف. وروى القُتَيبىّ فى حديث أُمِّ سَلَمَة رضى الله عنها: "وغضّ الأَطراف"، ورُدّ عليه ذلك. والصّواب: غضّ الإِطراق، أَى يغضُضن من أَبصارهنّ مطرقات راميات بأَبصارهنّ إِلى الأَرض. وإِن صحّت الرّواية بالفاءِ فالمعنى تسكين الأَطراف - وهى الأَعضاءُ - عن الحركة والسير.
وقوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، أَى لا يزال إِليك طرفهم وقوله تعالى: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} . قال الفرّاءُ معناه قبل أَن يأتيك الشىء زمن مدّ بصرك، وقيل: بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرِف، وقيل: بمقدار/ ما يبلغ البالغ إِلى نهاية نظرك.(3/501)
وطَرَف الشىء: جانبه، يستعمل فى الأَجسام والأَوقات وغيرها. وقيل: الطَرَف: الناحية من النَّواحى، والطائفة من الشىء. قال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا} ، أَى قطعة من جملة الكَفَرة، شبّه من قتل منهم بطرَف يُقطع من بدن الإِنسان. وتخصيص الطرَف من حيث إِنَّ ينقِص طَرَف الشىء يتوصّل إِلى توهينه وإِزالته. وأَطراف الجسد: الرّأس واليدان والرِجْلان.
وقوله تعالى: {طَرَفَيِ النهار} ، أَى الفجر والعصر. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} ، أَى نواحيها ناحيةً ناحية؛ هذا على تفسير مَن جعل نقصها من أَطرافها فُتُوح الأَرَضِين، ومن جعل نقصها موت علمائها فهو من غير هذا. وأَطراف الأَرض: أَشرافها وعلماؤها، الواحد طَرَف، ويقال: طِرْف.
وقال ابن عرفة: (مِنْ أَطْرَافها) ، أَى يُفتح ما حول مكة على النبىّ صلَّى الله عليه وسلم، والمعنى: أَوَ لم يروا أَنا فتحنا على المسلمين من الأَرض ما قد يتبيّن لهم وضوح ما وعدْنا النبىّ صلَّى الله عليه وسلم.(3/502)
وفلان كريم الطَّرَفين، يراد بذلك نسب أَبيه ونسب أُمّه، وأَطرافه: أَبواه وإِخوته وأَعمامه، وكلّ قريب له مَحْرَم.
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} ، أَى السّاعة الثانية من أَوّل النَّهار ومن آخِره. وقوله: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} ، أَى الغداة والعَشِىّ.(3/503)
بصيرة فى طرق
الطَّرْق: الضَّرب بِوَقْع، والصّكُّ. وطَرَقَ الصّوفَ بالقضيب، واسمه المِطْرَق والمِطْرَقة.
والطريق: السّبيل المطروق، يؤنَّث ويذكر، والجمع: طُرُق وأَطْرُق، وأَطْرِقاء، وأَطرِقة. وجمع الجمع: طُرُقات. وعنه استعير كلّ مسلك يسلكه الإِنسان فى فِعْل، محمودًا كان أَو مذمومًا.
والطريقة: النخلة الطويلة، والصّفّ من النخل تشبيهًا بالطريق فى الامتداد.
والطارق: السّالك للطريق، لكن خُصّ فى العرف بالآتى ليلاً، فقيل: طَرَق أَهلَه طُرُوقا. وفى الخبر: وأَعوذ بك من كلّ طارق إِلاَّ طارقًا يطُرق بخير. وعبّر عن النجم بالطَّارق لاختصاص ظهوره بالليل، قال تعالى: {والسمآء والطارق} . قال
نحن بناتُ طارِقْ ... نمشى على النمارِقْ:(3/504)
والطَّوارق: الحوادث التى تأتى ليلا.
وقوله تعالى: {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} ، إِشارة إِلى اختلاف درجاتهم، كقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} . وأَطباق السّماءِ يقال لها طرائق؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} .
ورجل مطروق: فيه لِين واسترخاء، كأَنَّه أَصابته حادثة ليَّنته. وفلان به طَرْقة، أَى هَوَج وجنون.
وكيف طَرُوقتك؟ أَى زوجتك.
وأَنا آتيك فى اليوم طَرْقة أَو طَرْقتين، أَى أَتْية. قال ابن هَرْمة.
إِذا هِيب أَبوابُ الملوك قَرَعْتُها ... بطَرْقةِ وَلاَّجٍ لها نابِهِ الذِّكْرِ(3/505)
بصيرة فى طرى وطعم
الطَّرِىّ: الغَضُّ الجديد. قال تعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} . وقد طرِىَ طَرواة وطَراءً وطَراءَة وطَرْءًا وطَرَاة. وطَرَّاهُ تَطْرِية، وطرَّأَه تطرئة: جعله طَرِيًّا.
والطَّعْم: تناوُل الغِذاء. وكثر عنده الطَّعَام، والطُعْم، والمَطْعَم، والأَطعمة، والأَطْعِمات، والمطاعم. وهو محتكِر فى الطَّعام، أَى فى البُرّ. وعن الخليل أَنَّه العالى من كلامهم، يعنى تسميه البُرّ بالطعام. وفى حديث أَبى سعيد: "كنَّا نُخرج فى صدقة الفطر صاعًا من طعام أَو صاعًا من شعير".
وقوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} ، أَى إِطعامِه الطعام. وقيل: قد يستعمل طَعِمت/ فى الشراب، كقوله تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} . وقيل: إِنَّما قال: (ومن لم يَطْعمه) تنبيها أَنه محظور أَن يتناوله (إِلاَّ غُرْفة مع طعام) ، كما أَنَّه محظور عليه أَن يشربه إِلاَّ غَرفة؛ فإِنَّ الماءَ قد يُطعَم إِذا كان مع شىء يُمضغ.(3/506)
ولو قال: ومن لم يشربه لكان يقتضى أَن يجوز تناوُله إِذا كان فى طعام، فلمّا قال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} بَيّن أَنه لا يجوز تناوُله بحال إِلاَّ بقَدْر المستثنى: وهو الغَرْفة باليد.
وطَعْم الشىء: حلاوته ومرارته وما بينهما، يكون فى الطعام والشراب. والجمع: طُعُوم. وجمع الطعام: أَطعمة، وجمع الجمع: أَطْعِمَات. وفى حديث زمزم: "إِنَّه طعامُ طُعْمٍ، وشِفاءُ سُقْم" تنبيهًا أَنه يغذِّى بخلاف سائر المياه.
وأَنا طاعم عن طعامكم، أَى مستغنٍ. وفلان لا يَطَّعِم - كيفتعل -: لا يتأَدّب ولا ينجع فيه ما يُصلحه. وإِذا استطعمكم الإِمام [فأَطْعِمُوه] ، أَى إِذا استفتحكم فافتحوا عليه ولقِّنوه.
ومِطْعَم - كمنبر -: شديد الأَكل أَو كثيره. ومُطْعَم: مرزوق. ومِطعامٌ: كثيرُ الضيف والقِرَى.
وتَطَعّمْ تَطْعَمْ: ذُق فتَشْتَهِىَ فَتَأكُلَ.(3/507)
بصيرة فى طعن وطغى وطف وطفق
طَعَنه بالرّمح يَطْعُنه ويَطْعَنْه طَعْنًا، وطَعَنَ فيه بالقول طعْنًا وطَعَنانا، فهو مطعون وطَعِين، من طُعُن. قال تعالى: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} .
وطَغِىَ - كرِضَى - طَغْيًا وطُغْيانًا وطِغْيانًا، وطغا يَطْغو طُغُوّا وطُغْوَانا بضمّهما: جاوز القَدْر، وارتفع، وغلا فى الكفر، وأَسرف فى المعاصى والظُلْم. قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} . وقال تعالى: {قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} . والطَغْوَى الاسم منه.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} تنبيهًا أَنَّهم لم يصدِّقوا إِذ خُوِّفوا بعقوبة طغيانهم.
وقولُه: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} تنبيه أَنَّ الطغيان لا يخلَّص الإِنسان، فقد كان قومُ نوح أَطغَى منهم فأُهلكوا.
وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ} ، استعير الطغيان لارتفاع الماءِ وتَجاوزه الحدّ.(3/508)
وقوله تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} إِشارة إِلى الطوفان المعبّر عنه بقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء} .
والطاغوت: الَّلاتُ، والعُزَّى، والكاهن، والشيطان، وكلّ رأْسِ ضلال، والأَصنام، وكلّ ما عُبد من دون الله، ومَرَدة أَهل الكتاب، يستوى فيه الواحد والجمع. وَزْنه فَلَعُوت من طَغَوت. ويجمع أَيضًا على طواغيت وطَواغٍ. وقيل وزنه فَعَلوت نحو جَبَروت وملكوت. وقيل: أَصله طغووت، لكن قلب لام الفعل نحو صاعقة وصاقعة، ثمّ قلب الواو أَلِفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.
والطفيف: النَزْرُ القليل. ابن دُرَيد: شىء طفيف: غير تامّ والتطفيف: نقص المكيال، قال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} .
طَفِق يفعل كذا، وطَفَق - كسمع وضرب - طُفُوقًا: إِذا واصل الفعل، خاصّ بالإِيجاب، لا يقال: ما طفق. قال تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} ، وطبِق بمعناه. وطَفِق بمراده: ظَفِر. وأَطفقه الله.(3/509)
بصيرة فى طفل وطل
الطِّفْل، والطَّفْيَل - كحِذْيَم -: الصّغير من كلّ شىء. وهو طِفْل بيِّن الطَفَل والطَفَالة والطُّفُولة والطُفُولِيّة. والجمع: أَطفال، قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} . وقد يكون الطِّفل مثل الجُنُب، قال الله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} ، وقال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} .
والمُطْفِلُ: ذات الطِّفْل من الإِنس والوحش وهى قريبة عهد بالنتاج. والجمع: مطافِل ومطافيل. قال أَبو ذُؤيب الهذلىّ:
وإِنَّ حديثًا منكِ لو تَبْذُلِنَه ... جَنَى النحْلِ فى أَلبان عُوذ مطافل
/مطافيل أَبكارٍ حديث نتاجها ... يُشاب بماءٍ مثل ماءِ المفاصل
والطَّلّ: أَخف المطر وأَضعفه. وقيل: الطل: النَدَى. وقيل: الطَّلّ فوق النَّدَّى ودون المَطر. والجمع: طِلال. وقد طُلَّت الأَرضُ، وطَلَّها النَدَى، فهى مطلولة.
والطَّلّ، والطِلّ - بالكسر والفتح -: الحيّة. والطَّلّ: المَطْل.(3/510)
بصيرة فى طفا وطلب وطلف وطلح وطلع
طفِئتِ النَّارُ تَطْفَأُ طُفُوءًا، وأَطفأتها أَنا، وأَطفأَت هى، لازم متعدّ. قال تعالى: {لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} ، وقال: {أَن يُطْفِئُواْ} . والفرق بين الموضعين أَن المعنى فى قوله: {أَن يُطْفِئُواْ} : يقصدون إِطفاءَ نورِ الله، وفى قوله: {لِيُطْفِئُواْ} : يقصدون أَمرا يتوصّلون به إِلى إِطفاء نور الله.
والطَّلَب مصدر طَلَبَه يَطْلُبُه: فحص عن وجوده، عينًا كان أَو معنى. وأَطلبته: أَسعفته بمطلوبه. والطلب أيضًا: جمع طالِب.
وطالوت: فاعول: اسمٌ أَعجمىّ. ابن دُرَيد: طالوت وجالوت ليس من كلام العرب، وإِن كانا فى التنزيل، فهما اسمان أَعجميّان.
والطَّلح: شجر معروف، واحدته بهاء. وإِبل طَلِحَة: مُشْتَكِيَةٌ عن أَكلها. وقوله: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} هو المَوْز.
والطِّلح والطَّليح: المهزول. والطَّلاح: ضدّ الصّلاح.(3/511)
طَلَعَتِ الشمسُ والكواكب طُلُوعا، ومَطْلَعا، ومَطْلِعًا. والمَطْلَع والمَطْلِع أَيضًا: موضع الطلوع. وقرأ الكسائىّ وخَلَف وأَبو عمرو فى إِحدى الرّوايتين: {حتى مَطْلَعِ الفجر} بكسر اللام، والباقون بفتحها. وقال بعض البصريّين: من قرأَ بالكسر فهو اسم لوقت الطلوع. وقال الفرّاءُ: المطلِع - بالكسر - أَقوى فى قياس العربية؛ لأَن المطلَع - بالفتح - هو الطُّلوع.
واطَّلعت عليهم، أَى طلعت عليهم، وأَطْلعته على سرّى: أَظهرته عليه. وقرأَ ابن عبّاس رضى الله عنهما، وسعيد بن جبير، وأَبو البَرهسَم، وعَمّار مولى بنى هاشم: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} بسكون الطَّاءِ وفتح النون، (فأُطْلِع بضمّ الهمزة وسكون الطاءِ وكسر اللام، على معنى: فهل أَنتم فاعلون بى ذلك؟) وقرأَ أَبو عمرو عمَّار المذكور، وأَبو سراج وابن أَبى عَبلة، بكسر النون، (فأُطْلِع) كما مرّ. قال الأَزهرى: هى شاذَّة عند النحويّين أَجمعين، ووجهه ضعيف. ووجه الكلام على هذا المعنى: هل أَنتم مطَّلِعىَّ، وهل أَنتم مطلعوه، بلا نونٍ كقولك: هل أَنتم آمِروه وآمِرىَّ. وأَمّا قول الشَّاعر:
هُمُ القائلون الخير والآمِرونَه ... إِذا ما خَشوا من محدَث الأَمر معظما
فوجه الكلام: والآمرون به. وهذا من شواذ اللغات.(3/512)
والطَّلْع: طَلْع النخلة. قال الله تعالى: {طَلْعٌ نَّضِيدٌ} . وطَلَع النخلُ وأَطْلَع: إِذا خرج طَلْعُه. وقوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} ، أَى ما طلع منها.
واطَّلع عليهم: أَشرف، قال تعالى: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} ، أَى لو هجمت عليهم وأَوفيت عليهم. ومنه قوله تعالى: {تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} أَى تُوفِى عليها، ويقال: يبلغ أَلَمُهَا القلوبَ.
والاطّلاع، والبلوغ بمعنى واحد، يقال: اطَّلعت هذه الأَرضَ، أَى بلغتها قال ذلك الفرّاءُ. وقوله تعالى: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فاطلع} ، أَى هل أَنتم تحبّون أَن تطَّلعوا فتعلموا أَين منزلتكم من منزلة أَهل النَّار؟ فاطَّلع المسلم فرأَى قرينه فى سواءِ الجحيم. أَعاذنا الله منها.(3/513)
بصيرة فى طلق وطم وطمث وطمس
طَلاق المرأَة: بينونتها عن المطَّلق. فهى طالق من طُلَّق، وطالقة من طَوالق. وقد طلَقَت/ وطلُقت - بالفتح والضمّ - طلاقًا. وأَطلقَها وطلَّقها، فهو مِطلاق ومِطليق، وطِلِّيق كسكيت، وطُلَقة كهُمَزة: كثير التطليق للنساءِ.
وقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} عامّ فى الرّجعيّة وغيرها. وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} خاصّ فى الرّجعيّة. وقوله: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} ، يعنى الزوج الثانى.
ورجل طَلْق الوجه، وطلِقه وطَلِيقه: ضاحكُه مشرقه. وقد طَلُق طَلاَقة.
طمَّ الماءُ طَمًّا وطُمُومًا: غَمَر. وطَمَّ الإِنَاءَ: ملأَه، والرّكيَّةَ: دفنها وسّواها، والشىء: كَثُرَ وعلا، وغلب. وسمِّيت القيامة طامّة لذلك.
والطَمْث: الدَّنَس. قال عَدِىّ بن زيد العِبَادىّ:
طاهِر الأَثواب يَحمِى عِرْضَه ... مِن خَنَى الذمّةِ أَو طَمْث العَطَنْ
والطمث - بفتحتين -: الدَّم. وطَمَثها: جامعها، يَطْمِثها ويطمُثها طَمْثا إِذا افتضَّها. وقال الفرّاءُ: هو النكاح بالتدمية. وقرأَ الكسائىّ:(3/514)
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ} بضمّ أَحدهما وكسر الآخر لا يبال بأَيّهما بدأَ، وقرأَ الباقون بكسر الميم فيهما.
والطَمْس: المَحْو وإِزالة الأَثَر، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} أَى أَزلنا ضوءَها وصورتها كما يُطمَس الأَثر. وقوله: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} ، أَى أَزِلْ صورتها. وقوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} ، منهم من قال: عَنَى ذلك فى الدّنيا، وهو أَن ينبت الشعر على وجوههم فتصير صورتهم كصورة الكلب والقِرْد. ومنهم من قال: ذلك فى الآخرة، إِشارة إِلى ما قال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} ، وهو أَن يصيّر عيونهم فى قفاهم. وقيل: معناه: يردّهم من الهداية إِلى الضَّلال.(3/515)
بصيرة فى طمع وطمن
طمِع فيه - بالكسر - يطمَع طَمَعًا، وطَمَاعة، وطَمَاعِيَة، فهو طَمِعٌ، طامعٌ وطََمُع، ومنه الحديث: "استعيذوا بالله من طَمَعٍ يهدى إِلى طَبَع" وقال ثابت ابن قُطْنة:
لا خير فى طَمَعٍ يَهدى إِلى طَبَع ... وغُفَّةٌ من قَوام العيش تكفينى
وتقول فى التعجب: طَمُع الرّجل - بضم الميم - أَى صار كثير الطَّمع. ولمَّا كان أَكثر الطمع من جهة الهوى قيل: الطمع طَبَع. وفى الحديث: "اللَّهم إِنِّى أَعوذ بك من طَمَع يهدى إِلى طَبَع، ومن طمع فى غير مطمع"، المطمع: ما طمِعت فيه قال:
طمِعتُ بليلَى أَن تريع وإِنَّما ... تقطَّع أَعناقَ الرجال المطامعُ
الطَّمْن - بالفتح - والمطمئنّ: السّاكن. واطمأَنَّ اطمئنانًا وطُمَأْنينة. وطَمْأَن ظَهْرَه: طامَنه. قال: {ياأيتها النفس المطمئنة} هى أَلاَّ تصير أَمّارة بالسّوءِ، وقال: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} .(3/516)
والطُّمَأْنِينة والسّكِينة كلّ منهما تستلزم الأُخرى. لكن استلزام الطُّمَأْنينة للسّكينة أَقوى من العكس. ثمّ إِنَّ الطُّمَأْنِينة أَعمّ من السكينة. وهى على درجات: طُمَأْنينة القلب بذكر الله، وهى طمأْنينة الخائف إِلى الرّجاء، والضجِر إِلى الحكم، والمبتلَى إِلى المثوبة. والطمأْنينة: سكون أَمْن فيه استراحة أُنس. والسّكينة: صَولة تورث خُمود الهيبة. والسكينة تكون حينا بعد حين، والطمأْنينة لا تفارق صاحبها وكأَنها نهاية السّكينة.(3/517)
بصيرة فى طود وطور
ما هو إِلاَّ طَوْد من الأَطواد، وهو الجبل المُنطاد فى السّماء: الذاهبُ صُعُدا. وقيل: الجبل العظيم. ووُصف بالعظيم فى التنزيل/ لكونه فيما بين الأَطواد عظيما. وطوَّده الله تطويدا: طوّله.
الطُّور: الجبل، واسم مخصوص بالقُدْس، وجبل محيط بالأَرض قال الله تعالى: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} . وفلان طُورىّ: وحشىّ.
[و] أَتيته طَوْرا بعد طور، وجئته أَطوارا: تارات. والنَّاس أَطوار: أَخْياف.
وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} إِشارة إِلى قوله: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} . {خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} وقيل: هو إِشارة إِلى قوله: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} أَى مختلِفين فى الخَلْق والخُلُق. وأَنا لا أَطور بفلان: أَحوم حوله ولا أَدنو منه.(3/518)
بصيرة فى طوع
[الطَّوْع: الانقياد، وضِدّ الكَره. قال تعالى: {ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} ] والطاعة مثله. لكن أَكثر ما يقال فى الائتمار فيما أُمر. وقوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} ، أَى أَطيعوا، أَى لِيَكُنْ منكم طاعة معروفة بلا إِثم. وهو لى طائع، وطَيِّعٌ، وطاعٍ، وطاعٌ، والجمع: طُوَّعٌ. وهو يَطُوع لى وطاوعته على كذا، وأَطاع الله طاعة. وهو مُطيع، ومِطْواع، ومِطواعة، قال:
إِذا سُدْتَه سُدْت مِطواعةً ... ومهما وكَلْتَ إِليه كفاه
وهو من ناسٍ مَطاويع. وهو متطوِّع بكذا: متبرّع متنفّل. وهو من المُطَّوِّعة، أَى من الذين يتطوَّعون بالجهاد. وقال تعالى فى صفة النبىّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إِلى قوله: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} . والمتطوِّع [من] يتكلّف الطاعة. وكلّ متنفّل خير تبرّعا متطوّع.(3/519)
قال تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} . وقرأَ الكوفيّون غير عاصم: (فَمَنْ يَطَّوَّعْ) . أَى يَتَطوَّع.
وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أَى تابَعته، وقيل: سَهّلت له نفسُه وطاوعته. وقال مجاهد: أَى شجّعته وأَعانته، وأَجابته إِليه. وقال الأَخفش: هو مثل طوّقت له، ومعناه: رخَّصت وسهّلت.
والاستطاعة: والإِطاقة، وربما قالوا: استطاع يَسْطِيع، يحذفون التاءَ استثقالاً لها مع الطاءِ، ويكرهون إِدغام التاءِ فيها فتُحرَّكَ السّين وهى لا تحرّك أَبدا. وقرأَ حمزة غير خلاَّد {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} بالإِدغام، فجمع بين السّاكنين. وذكر الأَخفش أَن بعض العرب يقول: اسْتَاع يَسْتيع فيحذف الطاء استثقالا وهو يريد استطاع يستطيع، قال: وبعض يقولون: أَسْطاع يُسْطيع بقطع الهمزة وهو يريد أَطاع يُطيع، ويجعل السّين عِوضًا عن ذهاب حركة العين، أَى عين الفعل. ويقال: تطاوَعَ لهذا الأَمر: [تكلّف استطاعته حتى] يستطيعه. وهو [ضد] معنى قول عمرو بن معد يكرب رضى الله عنه:(3/520)
إِذا لم تستطع أَمرًا فَدَعْهُ ... وجاوِزْه إِلى ما تستطيع
وقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ، أَى هل يقدر. وقرأَ الكسائىّ: (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) بالتَّاءِ ونصب الباءِ، أَى هل تستدعى إِجابته فى أَن يُنزل علينا مائدة من السّماءِ، أَو هل تستطيع سؤال ربّك، وهو استفعال من قولك: طاع لى يطوع.
وأَصل الاستطاعة الاستطواع. فلمَّا أُسقطت الواو جُعلت الهاءُ بدلاً منها. والمُطَّوِّعَة: الذين يتطوَّعون بالجهاد، قال تعالى: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين} ، أَى المتطوّعين فأَدغم.
والاستطاعة عند المحققين، اسم للمعانى التى بها يتمكّن الإِنسان ممّا يريده من إِحداث الفعل. وهى أَربعة أَشياء: بِنْية مخصوصة للفاعل، وتصوّر للفعل، ومادّة قابلة للتأثير/ وآلة: إِن كان الفعل آليًّا؛ كالكتابة، فإِنَّ الكاتب يحتاج إِلى هذه الأَربعة فى إِيجاده للكتابة، ولذلك يقال: فلان غير مستطيع للكتابة إِذا فَقَد واحدا من هذه الأَربعة فصاعدًا. ويضادّه العجز، وهو أَلاّ يجد أَحَدَ هذه الأَربعة فصاعدًا. ومتى وجدها فمستطيع مطلقًا، ومتى فقدها فعاجز مطلقًا. ومتى وجد بعضه دون بعض فمستطيع من وجه عاجز من وجه آخر، ولأَن يوصف بالعجز أَولى. والاستطاعة أَخصّ من القدرة.(3/521)
وقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} فإِنه يحتاج إِلى هذه الأَربعة. وقوله صلَّى الله عليه وسلم: "الاستطاعة الزَّاد والراحلة" فإِنه بيان لما يُحتاج إِليه من الآلة، وخصّه بالذِّكر دون الأُخر إِذ كان معلومًا من حيث العقل ومقتضى الشرع أَن التكليف من دون تلك الأُخر لا يصحّ.
قوله: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، الإِشارة بالاستطاعة ههنا إِلى عدم الآلة من المال والظَّهْر. وقد يقال: فلان لا يستطيع كذا لما يصعب عليه فعله لعدم الرّياضة، وذلك يرجع إِلى افتقاد الآلة وعدم التصّور، وقد يصحّ معه التَّكليف ولا يصير به الإِنسان معذورًا. وعلى هذا الوجه قال: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، وقد حمل على هذا قوله: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} .
وقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} قيل: إِنَّهم قالوا ذلك قبل أَن قويت معرفتهم بالله. وقيل: إِنَّهم لم يقصدوا قَصْد القدرة، وإِنما قصدوا أَنه: هل تقتضى الحكمة أَن يَفعل ذلك. وقيل: يستطيع ويُطِيع بمعنى واحد، ومعناه: هل يجيب، كقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أَى يُجاب.(3/522)
بصيرة فى طوف وطوق
الطَّوْف: المشى حول الشىء. طاف حول الكعبة يطُوف طَوْفًا وطَوافًا وطَوَفانًا. والمَطَاف: موضعه. ورجل طافٌ: كثير الطواف قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} .
والطائفة من الشىء: القطعة منه. وقوله عَزّ وجلّ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} ، قال ابن عبّاس: الطائفة: الواحد فما فوقه، فمن أَوقع الطَّائفة على الواحد يريد النفس الطائفة. وقال مجاهد: الطائفة: الرّجل الواحد إِلى الأَلْف. وقال عطاءُ: أَقلها رجلان.
وقوله تعالى: {طوافون عَلَيْكُمْ} ، قال الفرّاء: إِنما هم خَدَمكم وقال أَبو الهَيْثم: الطّواف: الخادم الذى يخدُمك برفق وعناية، وجمعه: الطوّافون. وفى الحديث: "الهِرَّة ليست بنَجِسة، إِنما هى من الطوّافين عليكم والطّوافات"، جعلها بمنزلة المماليك من قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} .
والطُوفَان: المطر الغالب والماء الغالب يغشى كل شىء، قال تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} ، وقيل: هو الموت الذَرِيع الجارف، وقيل: السيل. وقيل: القتل(3/523)
الذريع. وقيل الطوفان من كل شىء: ما كان كثيرًا مطيفًا بالجماعة. وقيل كلّ حادثة تحيط بالإِنسان. ثم صار متعارَفًا فى الماءِ المتناهى فى الكثرة. وقال الأَخفش: الواحد فى القياس طوفانة، وأَنشد:
غَيَّرَ الجِدّةَ من آياتها ... خُرُق الريح وطُوفانُ المطرْ
وطَوّف تطويفًا: أَكثر من الطَوَفان. قال:
أَطوّف ما أطّوف ثُمَّ آوِى ... إِلى بيت قعيدتُه لَكاعِ
والطَّوْق/ ما يُعَلَّق فى العُنُق، خِلقة كطَوق الحمَام، أَو صنعة كطوق الغُلام. ويتوسّع فيه فيقال: طوّقته كذا، كقولك: قلّدته، قال تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} ، وذلك على التشبيه كما فى الحديث: "من أَخذ قدر شبر من الأَرض ظلمًا طُوِّقه يوم القيامة إِلى سَبْع أَرَضِين". وفيه: "يأْتى أَحدَكم يوم القيامة شجاع أَقرع له زَبيبَتان فيتطوّق به فيقول: أَنا الزكاة التى منعتَنى".(3/524)
والإِطاقة: القدرة على الشىء، طاقه، طَوْقًا وأَطاقَه وأَطاق عليه. والاسم الطاقة. وذلك تشبيه بالطَوْق المحيط بالشىء. وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أَى ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه: لا تحمّلنا ما لا قدرة لنا به، وذلك لأَنَّه تعالى قد يحمّل الإِنسان ما يصعب عليه، [كما قال] : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ، {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أَى خفَفْنا عنك العبادات الصّعبة التى فى تركها الوِزْر. وقد يعبّر بنفى الطاقة عن نفى القدرة.
وقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} ، ظاهره أَنَّ المطيق له يلزمه فدية أَفطر أَو لم يفطر، وقرىء: (وعلى الذين يُطَوّقونه) ، أَى يُحملون على أَن يتطوَّقوا.(3/525)
بصيرة فى طول وطوى
الطُول والقِصَر من الأَسماءِ المتضايفة. ويستعمل فى الأَعيان والأَعراض. قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} .
والطَّوْل - بالفتح -: الفضل والمَنّ، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} كناية عما يصرف إِلى المَهر والنَّفقة.
طوَى الصّحيفةَ يطوِيها فاطَّوَى وانطوى. وإِنه لحسن الطِّيَّة - بالكسر - وطَوَى الحديثَ: كَتَمَهُ. وطوَى كَشْحَه عنى: أَعرض مهاجِرًا.
وقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} أَى كطىّ الدَّرْج. ويعبّر بالطىّ عن مضىّ العمر، تقول: طَوَتْهُم خطوبُ دهرهم. وقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، يصحّ أَن يكون من كلا المعنيين.(3/526)
وطُِوَى - بالضمّ والكسر - وينوّن أَيضًا: اسم وادٍ، قال تعالى: {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} . وقيل: هو اسم أَرض. وقيل: ذلك إِشارة إِلى حالة حصلت له على طريق الاجتباءِ، فكأَنه قال: طَوَى عليه مسافة لو احتاج أَن ينالها بالاجتهاد لبعُد عليه. وقيل: هو مصدر طويت.(3/527)
بصيرة فى طهر
طَهَرَ وطَهُر واطَّهَّر وتطهّر بمعنى. وطَهَرت والمرأَةُ طُهْرًا وطَهارةً وطَهورًا وطُهورًا، وطَهُرت، والفتح أَقيس. وما عندى طَهُورٌ أَتَطهَّرُ به: وَضُوءٌ أَتوضّأُ به.
والطهارة ضربان: جُسمانيّة، ونفسانيّة. وحُمل عليهما عامّة الآيات.
وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} ، أَى استعملوا الماءَ أَو ما يقوم مقامه. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فدلّ باللفظين على عدم جواز وطئهن إِلاَّ بعد الطهارة، والتطهير. ويؤكّد ذلك قراءَة من قرأَ (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) ، أَى يفعلن الطهارة التى هى الغُسْل وقال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} ، يعنى به تطهير النَّفس. وقوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} . أَى مخرجك من جملتهم ومنزِّهك أَن تفعل فعلهم. وقيل فى قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} ، يعنى به تطهير النَّفس [أَى] أَنَّه لا يبلغ حقائق معرفته إِلاَّ من(3/528)
يطهّر نفسه من دَرَن الفساد والجهالات والمخالفات. وقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، قالوا ذلك تَهكّما حيث قال: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}
وقوله: {لَّهُمْ فِيهَآ / أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} ، أَى مطهَّرات من دَرَن الدّنيا وأَنجاسها. وقيل: من الأَخلاق السيّئة، بدلالة قوله: {عُرُباً أَتْرَاباً}
وقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قيل معناه: نفسك نزِّهها عن المعايب. وقيل: طهّره عن الأَغيار.
وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} . حثٌّ على تطهير القلب لدخول السكينات فيه المذكورة فى قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} .
والطَّهُور، قد يكون مصدرًا على فَعُول فيما حكى سيبويه من قولهم: تطهّرت طَهُورًا، وتوضَّأْت وَضُوءًا، ومثله وَقَدْت وَقُودًا، وقد يكون اسمًا غير مصدر كالفَطُور اسما لما يُفطر به، والسَّحُور، والوَجُور، والسَّعُوط والذَّرُور. وقد يكون صفة كالرّسول، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ(3/529)
رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} تنبيهًا أَنَّه بخلاف ما ذكر فى قوله: {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} .
وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} ، قال أَصحاب الشَّافعىّ: الطَّهُور بمعنى المُطَهِّر. قال بعضهم: هذا لا يصحّ من حيث اللفظ، لأَن فَعولا لا يُبْنَى من أَفعل وفعَّل، وإِنما يُبنى من فَعَل. أَجاب بعضهم أَن ذلك اقتضى التطهّر من حيث المعنى، وذلك أَنَّ الطاهر ضربان: ضرب لا يتعدّاه الطهارة؛ كطهارة الثوب فإِنه طاهر غير مطهَّر به، وضرب تتعدّاه فيَجعل غيره طاهرًا به، فوصف الله الماءَ بأَنَّه طَهور تنبيهًا على هذا المعنى. ويقال: التوبة طَهُور للمذنب.
وتطهَّر من الإِثم: تنزَّه منه. وهو طاهر الثياب: نَزِهٌ من مدانس الأَخلاق.(3/530)
بصيرة فى طيب
الطَيِّب: ما يستلذُّه الحواسّ من الأَطعمة والأَشربة وغيرها. وقال تعالى: {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} ، أَى من المباحات المأْكولة والمشروبة، ونحوه: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وقوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} أَى من الحلال. وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} ، أَى الشحوم واللحوم التى كانت محرَّمة على اليهود بنصّ التوراة أَحلّها الله بنصّ القرآن.
وقوله: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أَى الصَّيد والذبائح. {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} ، أَى الغنائم، ونحوه: {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} .
وقوله: {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} ، تنبيه أَن الأَعمال الطيِّبة تكون من الطيّبين، كما رُوى: إِن المؤمن أَطيب من عمله، والكافر أَخبث من عمله.
وقوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ، أَى الأَعمال السيِّئة بالأَعمال الصالحة.(3/531)
وقوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَى طاهرة زكيّة مستلذَّة.
وقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} ، قيل: إِشارة إِلى الجنَّة وإِلى جِوار ربّ العالمين.
وقوله: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} إِشارة إِلى الأَرض الزكيّة، وقيل: إِشارة إِلى نفس المؤمن وكلمة الشهادة.
وقوله: {صَعِيداً طَيِّباً} ، أَى ترابًا لا نجاسة فيه. وسمِّى الاستنجاءُ استطابة لما فيه من التطيّب والتطهير.
و {طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} ، قيل: اسم شجرة فى الجنَّة معروفة. وقيل: بل إِشارة إِلى كلّ مستطاب فى الجنَّة: من بقاءٍ بلا فناءٍ، وعزّ بلا ذلّ، وغنًى بلا فقر.
والأَطيبان: الأَكل والنكاح. قال نَهْشَل بن حَرِّىّ:
إِذا فات منك الأَطيبان فلا تُبَلْ ... متى جاءَك اليوم الذى كنت تَحْذَرُ(3/532)
بصيرة فى طير وطين
طار يَطِير طَيَرَانًا. وجمع الطائر: طَيْر، كراكب/ ورَكْب، قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطير} ، وقد يجمع على طيور وأَطيار. وطيّرت الحمامَ، وأَطرته.
وقوله: {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} ، أَى يتشاءَمُونَ بهم، {ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} ، أَى شؤمهم وما قد أَعدّ الله لهم بسوءِ أَعمالهم.
وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، أَى عمله الذى طار عنه من خير أَو شرٍّ. ويقال: تطايروا: إِذا أَسْرعوا، وإِذا تفرّقوا. واستطار البَرْقُ، واستطار الغبار: كثر وفشا.
والفجر فجران: فجر مستطير، وفجر مستطيل. واستطار الصَّدع فى الحائط: ظهر وانتشر. قال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} . وفرسٌ مُطَار. وكاد يُستطار من شدّة عَدْوه.
والطّين: التراب المختلِط بالماءِ. وقد يسمّى به وإِن زال عنه أثر الماءِ، والقطعة منه طِينة. وطيّن البيتَ الطيّانُ، وهو الماهر فى طِيَانته. وطِنْت الكتابَ: جعلت عليه طِينة الخَتْم، فهو مَطِين. وطانه الله على الخير: جَبَله الله عليه. ومكان طانٌ: كثير الطِّين.(3/533)
الباب الثامن عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف الظاء
بصيرة فى الظاء
ويرد على وجوه:
1- حرف من حروف الهجاءِ، لِثَوِىّ، مخرجه من أُصول الأَسنان جِوار مخرج الذال، يُمَدّ ويقصر، ويذكّر ويؤنّث. فعله من اللفيف المقرون ظيَّيت ظاءً حسنًا وحسنة، جمعه على التذكير أَظواءٌ، وعلى التأْنيث ظاءَات.
2- اسم لعدد التسعمائة فى حساب الجُمَّل.
3- الظاءُ الكافية، وهى التى تقتصر عليها من ذكر الظَّلام.
4- الظاءُ المدغمة، فى مثل: كظَّ الطعامُ بطنه: إِذا ملأَه حتى لا يطيق النَّفَس. والكِظَّة: شىء يعترى من الامتلاءِ.
5- ظاءُ العجز والضرورة، كما أَن بعض النَّاس ينطق به فى صورة الذال.(3/534)
6- الظاءُ: اسم موضع.
7- الظاءُ: الأَصلىّ؛ فى نحو: ظلم، ونظر، ولمظ.
8- الظَّاءُ المبدلة، فى نحو: وقيظ ووقيذ.
9- الظاءُ اللغوىّ، قال الخليل: الظاءُ عندهم: العجوز المثنيّة ثديها قال:
نكحتُ من حَيّى عجوزًا هَرِمَهْ ... ظاء الثُدِىّ كالحَنِىِّ هَذْرَمَهْ(3/535)
بصيرة فى ظعن وظفر
ظعَن يظعَن - كمنع يمنع - ظَعْنا وظَعَنانا: سار. وأَظعنه: سيّره، قال تعالى: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} . والظَّعِينة: الهودج، فيه امرأَة أَوْ لا، والجمع: ظُعْن، وظعُنُ، وظعائن، وأَظعان. وقد يكنى عن المرأَة بالظعينة وإِن لم تكن فى الهودج.
والظُفُر يَكون فى الإِنسان وفى غيره، قال تعالى: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} . ويعبّر به عن السّلاح تشبيهًا. وظفِر بعدوّه: غلبه، وظفَّره الله عليه وأَظْفَرَه. ورجل مظفَّر لا يئوب بالظَّفَر. وأَنشب فيه ظُفُره وأُظْفوره وأَظافيره. قال:
ما بين لُقْمَتِها الأُولى إِذا ازْدَرَدَتْ ... وبين أُخرى تليها قِيسُ أُظفور
ورجل أَظفرُ: طويل الظُفُر. ورجل ظَفِر ومظَفَّر: لا يطلب شيئًا إِلاَّ أَصابه. قال:
هو الظَّفِر الميمون إِنْ راح أَو غَدا ... به الرَّكب والتِّلعابة المتحبّبُ(3/536)
بصيرة فى ظل
الظِّلّ أَعمّ من الفىء فإِنه يقال: ظِلّ الليل، وظِلّ الجنَّة. ويقال لكلّ موضع لم تصِل إِليه الشمس: ظِلّ، ولا يقال الفىء إِلاَّ لما زال عنه الشمس.
وقيل: الظلّ يكون بالغداة. والفىء يكون بالعشىّ، والجمع: ظلال، وظُلُول، وأَظلال. ويعبّر بالظلّ/ عن العزّ والمَنعة، وعن الرّفاهة، قال تعالى: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} . وقد يطلق الفىء ويراد به الظلّ وبالعكس، قال:
وما دنياك إِلاَّ مثل فَىْءٍ ... أَظلَّك ثم آذَن بالزوالِ
وقال آخر:
إِنّما الدنيا كظلٍّ زائلٍ ... أَو كضَيْفٍ بات ليلاً فارْتَحَلْ
وقيل: مَثَل الدنيا مَثَل الظلّ، إِنْ طلبته تباعد، وإِن تركته تتابع. وفى الحديث: "ما مَثَلى ومثل الدّنيا إِلاَّ كراكب قال فى ظلّ شجرة فى يوم حارّ، ثم راح وتركها".(3/537)
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} ، وقال: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} ، وقال: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} ، قيل: الأَوّل: ظلّ الكافية، والثانى: ظل الوِلاية، والثالث: ظل الرّحمة والمغفرة.
وقوله تعالى: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} : ظلّ العذاب والعقوبة.
وقوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} : ظل الذلّ والإِهانة.
وقوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} : ظلّ الامتحان والتجربة.
وقوله: {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل} : ظلّ السجدة والعبادة.
وقوله: {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} : ظل الإِعزاز والكرامة.
وقوله: {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} : ظلّ التبجيل والعناية.
ويقال: أَظلَّنى فلان، أَى حَرَسنى وجعلنى فى عزّه ومناعته.
وقيل فى قوله تعالى: {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل} الآية، أَى إِنشاؤه يدلّ على وحدانيّة الله وينبىء عن حكمته. وقوله: {وَظِلالُهُم(3/538)
بالغدو والآصال} قال الحسن: أَمّا ظِلُّك فيسجد، وأَمّا أَنت فتكفر به.
وظِلّ ظليل: فائض. ومكان ظليل، أَى ذو ظِلّ، أَو دائم الظلّ، ومنه: ظِلّ ظليل، وقيل مبالغة. {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} كناية عن غَضَارة العيش. والظُّلة - بالضمّ -: سحابة تُظِلّ. وأَكثر ما يقال فيما يستوخَم ويُكره.
وقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} ، أَى يأتيهم عذابُه، جمع ظُلَّة، كغرفة وغرف. وقرىء: (فى ظِلاَلٍ) ، وذلك إِمّا جمع ظُلَّة كعُلْبة وَعِلاب، وجُفْرة وجِفَار، وإِمّا جمع ظِلّ.
والظُلَّة أَيضًا: شىء يُستتر به من الحرّ والبرد، وَهى كالصُّفَّة. وحُمل عليه قوله تعالى: {مَّوْجٌ كالظلل} ، وقيل: موج كقِطَع السّحاب. وقيل: يقال لكل ساتر ظِلّ، محمودًا كان أَو مذمومًا، فمن المحمود قوله تعالى: {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} ، ومن المذموم قوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} . وقوله {لاَّ ظَلِيلٍ} أَى لا يفيد فائدة الظلّ.
وظَلَّ نهارَه يفعل كذا. وسُمع فى الشعر ظَلَّ ليلَهُ يظلّ - بالفتح -: ظَلاّ وظُلُولاً. وظلِلت أَنا - بالكسر - وظَلْت كلَسْتُ، وظِلْت كمِلت، وأَصله ظَلِلْت.(3/539)
بصيرة فى ظلم (وظما)
الظُلْمة - بالضمّ - والظُلُمة - بمضمّتين - والظَّلماءِ والظَّلام: ذَهاب النُّور. والظُّلمات: جمع ظُلمة. ويعبّر بها عن الجهل، والشرك، والفسق، كما يعبّر بالنور عن أَضدادها، قال الله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} . وقوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} هو كقوله: {كَمَنْ هُوَ أعمى} ، وقوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات} .
وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} ، أَى البطن، والرّحم، والمَشِيمَة. ويجمع على ظُلَم أَيضًا، قال:
أَرى الشَّيب مذ جاوزتُ خمسين حِجةً ... يَدِبّ دبيب الصُّبح فى غَسَق الظُلَمْ
هو السّقْم إِلا أَنَّه غير مؤلم ... ولم أَر مثلَ الشّيب سقما بلا أَلَمْ
وفى بعض الآثار: إِنَّ الله تعالى خلق فى المشرق حجابًا من نور، وخلق فى المغرب حجابًا من ظلمة، ووكَّل بهما مَلَكين، فإِذا قرب النَّهار أَخذ مَلَك(3/540)
النور قبضة منه فيرسلها قليلاً قليلاً/ إِلى أَن يضىء النهار، فإِذا قرب الليل أَخذ مَلَك الظُّلمة قبضة منها فيرسلها قليلا قليلا إِلى أَن يُظلم اللَّيل. قال تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر} فى المنّة على العباد بالهداية عند التحيّر فى الفيافى والفلوات، وفى البحار عند الأَمواج المرعبات بالليالى الحالكات، وكذا قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} . وقال تعالى فى تشبيه بحار الكفر والضلالات بالبحار الموّاجة والأَمواج المهلكات: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} .
والظُّلْم: وضع الشىء فى غير موضعه المختصّ به، إِمّا بنقصان أَو زيادة، وإِمّا بعدول عن وقته أَو مكانه. ظَلَم يَظْلِم ظَلْمًا - بالفتح - ومَظْلِمَة، فهو ظالم وظَلُومٌ. [وظَلَمَهُ] حقَّه وتظلَّمه إِيّاه. وتظلَّم: أَحال الظلم على نفسه، ومِن فلان: شكا من ظلمه.
والظلم يقال فى مجاوزة الحقّ، ويقال فى الكثير والقليل، ولهذا يستعمل فى الذنب الكبير والذنْب الصّغير. ولذلك قيل لآدم - صلوات الله عليه وسلامه - فى تعدِّيه: ظالم. وفى إِبليس: ظالم، وإِن كان بين ظلميهما من البَون ما لا يخفى.(3/541)
قال بعض الحكماءِ: الظُّلْم ثلاثة: ظلم بَيْن الإِنسان وبين الله تعالى، وأَعظمه الكفر، والشِّرْك، والنِّفاق، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وإِيَّاه قَصَد بقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} والثانى: ظلم بيْنه وبين النَّاس، وإِيّاه قَصَد بقوله: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} . والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} ، وقال: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} ، أَى من الظالمين أَنفسهم، وقال لنبيّه: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} . وكلّ هذه الأَقسام فى الحقيقة ظلم للنفس؛ فإِنَّ الإِنسان أَوّل ما يهُمّ بالظلم فقد ظلم نفسه. فإِذًا الظالمُ أَبدا مُبتدىء بنفسه فى الظلم، فلهذا قال تعالى فى غير موضع: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولاكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
وقوله: {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، قيل: هو الشرك، بدلالة أَنَّه لمّا نزلت هذه الآية شقَّ على أَصحاب النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال لهم النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "أَلم تَرَوْا إِلى قوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "؟!(3/542)
وقوله: {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً} ، أَى لم تنقص. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} يتناول الأَقسام الثلاثة، فما من أَحد كان منه ظلم فى الدنيا إِلاَّ ولو حَصَل [له] ما فى الأَرض وأَمثالُه لافتدى به يوم القيامة. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} تنبيه أَنَّ الظلم لا يُغنى ولا يُجدى، بل يُردى بدلالة قوم نوح. وقوله فى موضع آخر: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} ، وفى موضع آخر: {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . وفى الحديث: "الظُلم ظلمات يوم القيامة". وفى كلام الحكماءِ: المُلْك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم. قال:
لا تظلمنّ إِذا ما كنتَ مقتدِرًا ... فالظلم آخره يأْتيك بالندمِ
نامت عيونُك والمظلوم مُنْتَبِهٌ ... يدعو عليك وعينُ الله لم تَنَمِ
وفى بعض الآثار: إِذا كان يوم القيامة يجتمع الظَلَمة وأَعوانهم [و] من أَلاق لهم دواةً وبَرَى لهم قَلَما، فيُجعلون فى تابوت ويُلقَون فى جهنم. وقال النبىّ(3/543)
صلَّى الله عليه وسلم: "اتَّقِ دعوة المظلوم فإِنَّه ليس بينها وبين الله حجاب". والأَحاديث فى هذا المعنى كثيرة. قال:
يا أيها الظالم فى فِعْلِهِ ... فالظُّلم مردودٌ على مَن ظَلَمْ
إِلى مَتَى أَنت وحتَّى متى ... تَسْلُو المصيباتِ وتنسَى النِّقَمْ
{أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} ، {وَتَرَى الظالمين / لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} ، {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ، أَى وهم موقوفون.
وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} قيل: عامّ، وقيل: المراد به عُقبة بن أَبى مُعيط خصوصًا. {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} ، قيل المراد أَبو جهل وأَشياعه. {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ} ، قيل المراد الوليد بن المغيرة وأَتباعه.
والظمأُ: العطش. وهو ظَمْآنُ وهى ظمْآى، وهم وهنّ ظِمَاء. وقد ظَمِىءَ ظَمَأً وظَمَاءً. وأَظمأته وظمَّأته: عطَّشته. وتمّ ظِمْؤه، وهو ما بين السَقْيتين. والخِمْس شرّ الأَظماءِ. وَجْهٌ ريّانٌ، ذمٌّ. ووجه ظمآنُ: مَعْرُوق، وهو مدح.(3/544)
بصيرة فى ظن
الظَنّ: علم يحصل من مجرَّد أَمَارة، ومتى قَوِيَتْ أَدّت إِلى العِلم، ومتى ضعُفت جدًّا لم يَتجاوز حَدّ التوهّم، ومتى قَوِىَ أَو تُصوّر بصورة القوىّ استُعمل معه أَنَّ المثقَّلة وأَنِ المخففة منها، ومَتى ضعف استُعمل معه أَنِ المختصّة بالمعدوم من القول والفعل. وجمع الظنّ: ظُنُونٌ وأَظانِينُ. وفى الأَحاديث القُدسيّة: "أَنا عند ظنّ عبدى بى، وأَنا معه إِذا ذكرنى". وفى الحديث الصّحيح: "إِيّاكم والظنّ، فإِن الظنّ أَكذب الحديث". وقال: "لايموتَنّ أَحدكم إِلاَّ وهو يحسن الظنّ بالله". قال الشاعر:
أَحسنتَ ظنَّك بالأَيَّام إِذْ حَسُنت ... ولم تخَفْ سُوءَ ما يأتى به القَدَرُ
وسالَمَتْكَ اللَّيالى فاغتررتَ بها ... وعند صفْو الليالى يحدُث الكَدَرُ
وقد ورد الظنّ فى القرآن مجملاً على أَربعة أَوجه:
بمعنى اليقين، وبمعنى الشكّ، وبمعنى التُهَمة، وبمعنى الحُسْبَان.(3/545)
فالذي بمعنى اليقين فى عشرة مواضع: {يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} ، {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض} ، {أَلا يَظُنُّ أولائك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} ، {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} ، {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} ، يعنى رُكَّاب السّفن فى البحر. {وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} ، يعنى المتخلِّفين من غزوة تَبُوك. {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} ، {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} .
وأَمّا الذى بمعنى الشكّ والتُهَمَة فعلى وجوه مختلفة: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} : لن نضيّق عليه. {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله} ، {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ، يعنى فى حرْب الأَحزاب، {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} يعنى اليهود. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ؛ {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} يعنى المنافقين فى حقّ المؤمنين. {الظآنين بالله ظَنَّ السوء} ، {يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية} . {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} ، يعنى فى حقّيّة البعث، {وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله} يعنى بنى قُرَيْظَة وحصونهم(3/546)
{إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} . {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ} . {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بلى} يعنى أَبا جهل ظنّ أَن لا يعاد.
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} يعنى أَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم غيرُ متَّهم فيما يقول.
والظنّ فى كثير من الأُمور مذموم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} ، وقال تعالى: {اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} .
وفيه ظِنَّة، أَى تُهَمة. وهو ظِنَّتى، أَى موضع تُهْمتى. وبئر ظَنُونٌ: لا يُوثَقُ بمائها. ورجل ظَنُونٌ: لا يوثق/ بخبَره.
وهو مَظِنِّة للخير، وهو من مظانِّه. وظنَنْت به الخير فكان عند ظنِّى.(3/547)
بصيرة فى ظهر
جمع الظَّهْر: ظُهُور. ورجل مُظَهَّر: قوىّ الظهر، وظَهِرٌ: يشتكِى ظهره. وَجَمَل ظَهيرٌ وظِهْرِىٌّ: قوىّ الظهر، وناقة ظهيرة، وقد ظَهَرَ ظَهَارَةً.
وقولُه تعالى: {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} ، الظهر استعارة تشبيهًا للذنوب بالحِمْل الذى ينوءُ بحامله. واستعير لظاهر الأَرض فقيل: ظَهْر الأَرض وبطنها، قال تعالى: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} . وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، يعنى حين أَبرزهم من ظهر آدم إِلى صحراءِ الوجود للعهد والميثاق. وقال تعالى: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعنى من الشحم واللَّحم. وقال: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} . وقال تعالى: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} ، وقال: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} .(3/548)
ويعبّر عن المركوب بالظَّهْر. والظَّهرىُّ أَيضًا: ما تجعله وراءَ ظهرك فتنساه، قال تعالى: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} .
وظهر عليه: غلبه. وأَظهره الله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} .
وظاهرته: عاونته، من ظاهر بين ثوبين ودِرعين: جعل كلاًّ منهما ظهرًا للآخر، {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أَى تعاونا. وقد ظاهر من امرأَته، وتظاهر منها.
والظَّهِير: المُعين، وقوله تعالى: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} ، أَى مُعينا للشيطان على الرّحمان. وقال أَبو عُبيدة: الظهير هو المظهور به، أَى هيّنًا على ربّه كالشىء الذى خلّفته وراءَ ظهرك، من قولك: ظهرتُ بكذا، أَى خلّفتُه ولم أَلتفت إِليه.
والظِّهار: أَن يقول الرّجل لامرأَته: أنتِ علىّ كظهر أُمِّى. قال تعالى: {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} . وقرىء: (يَظَّاهَرُونَ) ، أَى يَتَظَاهَرُون فأُدغم، و (يظَّهَّرُونَ) .(3/549)
وظَهَر الشىء ظُهورًا أَصله أَن يحصل الشىء على ظَهر الأَرض فلا يخفَى، وبَطَنَ: إِذا حصل فى بُطْنان الأَرض فيخفَى، ثمّ صار مستعملاً فى كل بادٍ بارز للبصر والبصيرة.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ} ؛ أَى يعلمون الأُمور الدّنْيَوِيّة دون الأُخرويّة. والعلمُ الظاهر والباطن يشار بهما إِلى المعارف الجَلِيَّة والمعارف الخفيّة، وتارة إِلى العلوم الدّنيويّة والعلوم الأُخرويَّة.
وقوله تعالى: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} أَى كثر وفشا. وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} يعنى بالظاهرة ما نقف عليها، والباطنة ما لا نعرفها. وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} ، حُمل ذلك على ظاهره. وقوله: {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} ، أَى لا يُطلْع عليه. وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} ، [يصحّ] أَن يكون من البُرُوز، وأَن يكون من المعاونة والغلبة، أَى ليغلِّبه على الدّين كلِّه.
وصلاة الظُهْر لكونها فى أَظهر الأَوقات. والظَّهِيرة: وقت الظهر.(3/550)
الباب التاسع عشر - فى الكلمات المفتتحة بحرف العين(4/3)
بصيرة فى العين
وهى وردت فى القرآن العزيز وفى كلام العرب لمعان كثيرة تنيف على خمسين معنى، أَسُوقُها مرتَّبة على حروف الهجاءِ.
ا- أهل البلد، أهل الدار، الإِصابة بالعَيْن، الإِصابة فى العين، الإِنسان، ومنه قولهم: ما بالدّار عين أى أحد.
ب- الباصرة، بلدٌ بهُذيل.
ج- الجاسوس، الجَرَيان، الجلدة التى يقع فيها البندق.
ح- حَاسّة البصر، الحاضر من كلِّ شىء، حقيقةُ القِبلة.
خ- خيار الشئ.
د- دوائر دقيقة على الجِلْدِ، الدَّيْدَبان، الدّينار.
ذ- الذهب، ذات الشئ.
ر- الرِّبا.
س- السيّد، السحاب القبلى، السَنَام، اسم السبعين فى حساب الجُمَّل.
ش- الشمس، شعاع الشَّمس.
ص- صديقُ عَيْن، أَى ما دام تراه.
ط- طائر.
ع- العتيد من المال، العَيب، العزّ، العلم.(4/4)
ق- قرية بالشأم، قرية باليمن.
ك- كبير القوم.
ل- لقيته أَوّل عين، أَى أَوّل شىءٍ، ويجوز ذكره فى الشىءِ.
م- المال، مصبّ ماءِ القناة، مطر أَيام لا يُقلع، مفجر ماءِ الرَّكِيَّة، منظر الرّجل، الميل فى الميزان.
ن- الناحية، نصف دانق من سبعة دنانير، النظر، نفس الشَّىءِ، نُقْرة الرُّكْبة، واحد الأَعيان للإِخوة من أَب وأُم،
هـ- ها هو عَرْضُ عين، أَى قريب. وقد يذكر فى القاف. ى- ينبوع الماءِ.
وعين شمس، وعين تَمْر، وعين صَيْد، ورأس عين، مواضع معروفة. وأَسْود العين، جبل.
والمعانى المذكورة فى القرآن أَحد عشر.
الأَول - بمعنى النظر: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} ، {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} أَى بمنظر منهم.
2- بمعنى الحفظ، والرّعاية: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
3- عين النبىّ صلىَّ الله عليه وسلَّم خِلقة: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} .
4- عين الإِنسان عامّة: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} .(4/5)
5- عيون المؤمنين خاصّة: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} .
6- عيون الكفَّار: {كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فى غِطَاءٍ} ، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بهَا} .
7- نهر بنى إسرائيل ومعجز موسى عليه السّلام: {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} .
8- بمعنى النُّحاس الجارى معجزًا لسليمان عليه السّلام: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} .
9- بمعنى مغرب الشمس: {تَغْرُبُ فى عَيْنٍ حَمِئَة} .
10- العين التى وُعِدَ بِهَا الكفَّارُ فى جهنَّم: {تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} .
11- العين الجارية التى وُعد بها المتقون: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} ، {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} .
12- الموعود لأَصحاب اليمين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان} .
13- الموعود بها السّابقون: {عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} .
14- الموعود بها الأَبرار وأَهل الخصوص: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} .(4/6)
15- الموعود بها المقرّبون: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} ، وهى عين التسنيم.
16- أَعَيْنُ الجُنَاةِ فى القصاص: {والعين بالعين} .
17- العين الضَّرورىّ: {لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} .(4/7)
بصيرة فى عبد
العبد: خلاف الحُرّ. والجمع عَبْدونٌ وعَبِيدٌ، مثال كَلْب وكَلِيبٍ، وهو جمعٌ عزيز - وأَعْبُدٌ، وعِباد وعُبْدانٌ بالضمّ - كتمر وتُمْران، وعِبْدانٌ - بالكسر - كجَحش وجِحشان / وعِبِدَّانٌ - بكسرتين وشدّ الدّال - ومَعْبَدة كشَيْخ ومَشْيخة، ومعابدُ وعِبدَّاءُ - بالمدّ - وعِبِدَّى - مقصور - وعُبُدٌ - بضمّتين كسَقْف وسُقُف - وعَبُد - بفتح العين وضمّ الباءِ - ومعبوداءُ.
وقرأَ ابن عبّاس رضى الله عنهما وابنُ مسعود وإبراهيم النَخَعىّ والأَعمش وأَبان بن ثعلب والضحّاك وابن وَثَّاب وعلىّ بن صالح وشيبان: {وَعُبُد الطاغوت} مضافاً إِلى الطَّّاغوت، وقرأ حَمزة بن حبيب الزَّيات {وَعَبُدَ الطاغوت} وأَضافه، والمعنى فيما يقال: خَدَم الطَّاغوت. قيل: وليس هذا بجمع لأَن فَعْلا لا يجمع على فَعُل، وإِنما هو اسم بُنى على فَعُل كحذُر ونَدُس. وأَمّا قول أَوس بن حَجَر:
أَبَنى لُبَيْنَى إِنَّ أمّكمُ ... أَمَةٌ وإِن أَباكم عَبُدُ
فإِنَّ الفراءَ قال: إِنَّما ضمّ الباءَ ضرورة لأَنَّ القصيدة من الكامل وهى حَذَّاءَ.(4/8)
وعَبْد بيّن العَبْديّة والعُبُودِيَّة والعُبُودة. وأَصل العبوديّة الخضوع والذلّ. وقوله تعالى: {فادخلي فِي عِبَادِي} أَى فى حزبى. والتعبيد: التذليل، طريق معبَّد: مذلَّل. وأَعْبَدَهُ: اتَّخذه عبدا. وأَعْبَدَنى فلان فلاناً: ملَّكنى إِيّاه. والتعبيد: الاستعباد، وهو أَن تتخذه عبداً، وكذلك الاعتباد. وتَعَبَّدَنى: اتَّخذنى عبدًا.
والعبادة: الطاعة، وهى أَبلغ من العبوديّة، لأَنَّها غاية التَّذلُّل لا يستحقّها إِلا من له غاية الإِفضال، وهو الله تعالى. والعبادة ضربان: ضرب بالتسخير كما ذكرناه فى السجود، وضرب بالاختيار وهو لذى النطق، وهو المأمور به فى قوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ} .
والعبد يقال على أَضرب:
الأَوّل - عبد بحكم الشرع يباع ويبتاع؛ نحو قوله تعالى: {العبد بالعبد} .
والثانى - عبد بالإِيجاد، وذلك ليس إلاَّ لله تعالى، وإِيّاه قصد بقوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمان عَبْداً} .
الثالث - عبد بالعِبادةِ والخِدمة، وهو المقصود بقوله: {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} ، {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} .
وعبد الدنيا وأَعراضها هو المعتكف على خدمتها ومراعاتها، وإِيّاه قصد النبىّ صلىَّ الله عليه وسلَّم بقوله: "تَعِسَ عبد الدينار، تَعِسَ(4/9)
عبد الدّرهم". وعلى هذا النوع يصحّ أَن يقال: ليس كلّ إِنسان عبدًا لله، فإِنَّ العبد على هذا المعنى العابد، لكنَّ العبد أَبلغ من العابد. والناس كلّهم عباد الله بل الأَشياء كلها، بعضُها بالتسخير وبعضها بالتسخير والاختيار. قال:
سيّدى إِنّنى رجوتُك وعدًا ... ما تجاوزتُ فى ولائك عهدا
لستُ آتيك كى أَكون حبيباً ... فاتَّخذنى لِعَبْدِ عبدِك عبدا
قيل: ورد العَبْد والعِبادة فى القرآن على ثلاثين وجهاً:
الأَول - عامّ للمُؤمن والكَافر: {والله بَصِيرٌ بالعباد} ، {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} .
2- خاصّ بالمؤْمنين: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} ، {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ} .
3- خاصّ بالكفار: {ياحسرة عَلَى العباد} ، {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} .
4- بمعنى المماليك: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ} ، {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} .
5- بمعنى المطيعين: {وَعِبَادُ الرحمان} .
6- بمعنى العاصين المجرمين: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} ، {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} .(4/10)
7- بمعنى الأبرار والأخيار: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} .
8- بمعنى المصطَفين المجتَبين من النَّاسِ كالأنبِياءِ وغيرهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} ، / {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} .
9- أَهل القُرْبة والكرامة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} .
10- بمعنى أُمَّة النبىِّ صلىَّ الله عليه وسلَّم: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} ، {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} .
11- بمعنى أُمَّة موسَى عليهِ السّلام: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي} .
12- بمعنى الأَتقِياء: {مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} .
13- بمعنى أَهل الجنَّة: {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمان عِبَادَهُ} .
14- بمعنى قوم نوح عليه السّلام: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} .
15- بمعنى الأَنبياء: {ولاكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
16- بمعنى المنازعينَ للأَنبياءِ: {ولاكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ} .(4/11)
17- بمعنى مَلائكة الملَكُوت: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمان} ، {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} .
18- بمعنى المخلَصِينَ المعصومين: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} .
19- بمعنى المنصورين على الأَعداءِ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} .
20- بمعنى العلماءِ: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} .
21- بمعنى المستحِقِّين للبشرى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول} .
22- بمعنى أَهل الخصوص عند الوفاة ويوم القيامة: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم} .
23- بمعنى نوح عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} .
24- بمعنى إِبراهيم الخليل وأَولاده: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} .
25- بمعنى لوط: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} .
26- بمعنى أَيُّوب عليه السّلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد} {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} .(4/12)
27- بمعنى داوُدَ فى مقام الأَوْبةِ والإنَابة: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
28- بمعنى سليمان فى مقام شكر النّعمة: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العبد} .
29- بمعنى عيسى عليه السّلام فى صفة الطهارة والتزكية: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي} الآية.
30- بمعنى سيّد المرسلين فى ساعة القربة والكرامة: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله} ، {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} ، {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} .(4/13)
بصيرة فى عبث وعبر وعبس
العَبَث: اللعب. وقد عَبِثَ يَعْبَثُ - كفَرِحَ يَفْرَحُ - عَبَثًا. والعَبْثة - بالفتح - المرّة الواحِدة. والمادّة موضوعة للخلط. وقد عَبَثه يَعْبِثه - كضربه يضربه - عَبْثًا: خلطه. والعَبِيِثة: الأَقِط يُخلَط. جافّه بَرطْبه ليحمل يابسُه رَطْبَه. والعَبِيثة: طعام يطبخ ويجعل فيه جَراد. وعَبِيثة النَّاس: أَخلاطهم، قال رؤبة يمدح الحارث الهُجَيمىَّ.
وقلت إِذْ أَعْيَا امتياثاً مائثُ ... وطاحت الأَلبان والعَبائثُ
إِنَّك يا حارثُ نِعم الحارِثُ ... أعزَّنى مجد له مآرث
أَصل العَبْر تجاوزٌ من حال إِلى حال. وأَمّا العُبور فيختص بِتجاوز الماءِ إِمَّا بسباحة أَو فى سفينة أَو على بعير أَو قنطرة، ومنه [عَِبْرُ النهر لجانبه حيث يُعبر منه أَو إِليه. واشتقَّ منه عَبْر العين للدمع] . [و] الفرات يضرب العِبْرين بالزَبَد، وهما شطَّاه وجانباه لأَنَّه يُعبر منه أَو إِليه.
وناقة عُِبْرُ أَسفار - بالضمّ وبالكسر -: لا تزال يسافَر عليها، قال النابغة:
وقفت فيها سَرَاةَ اليوم أَسألها ... عن آل نُعْم أَمُوناً عِبْرَ أَسفار
ومنه العَبْرة للدّمعة. ومنه عابِر سبيل. وعَبَر القوم: ماتوا كأَنَّهم عَبَروا قنطرة الدنيا. وأَمّا العبارة فمختصمة بالكلام العابر الهواء من لسان(4/14)
المتكلّم إِلى / سمع السّامع. والاعتبار والعِبْرة: الحالة التى يُتوصّل بها من معرفة المشاهَد إِلى ما ليس بمشاهد. والتعبير مختصّ بتفسير الرؤيا. وهو العابر من ظاهرها إِلى باطنها. وهو أَخصّ من التأويل. والتأويل يقال [فيه وفى غيره] . وقد عبرَ الرّؤيَا يعبرها عَبْراً وعِبارة، قال تعالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} .
وعبرت الكتاب عَبْرا: قرأته فى نفسى ولم أَرفع به صوتى.
وغلام مُعْبَر وجارية مُعْبَرة: لم يُختنا. وتقول: يا ابن المُعْبَرة. وبنو فلان يُعبِرون النِّساءَ، ويبيعون الماءَ، ويعتصرون العطاءَ، أَى يرتجعونه. وأَحصى قاضى البَدْو المخفوضات والبُظْر فقال: وجدت أَكثر العفائف مُوعَبات، وأَكثر الفواحش مُعْبَرات.
والعُبوس: قُطوب الوجه. أَعوذ بالله من ليلة بُوس، ويومٍ عَبُوس.(4/15)
بصيرة فى عبأ وعبقر وعتب
عَبَأْت الطِّيبَ عَبْثًا: إِذا هيّأتَه وصنعْته وخلطته. قال أَبو زُبَيد حَرْملة ابن المنذر الطَّائىّ يصف أَسَدًا:
كأَنّ بنَحره وبمنكِبَيه ... عَبيراً بات تعبؤه عروس
وما عَبَأت بفلان عَبئًا، أَى ما باليت به قال، تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} . والمعْبأ: المذْهب. وعَبْءُ الشمس: ضياؤُها. وعبَّأت الشىءَ تعبئة وتعبيئاً: هيّأته.
وعَبْقَر: بلاد الجِنِّ. وقيل: قرية يسكنها الجِنّ. وقيل: أَرض يُنسب إِليها كلّ مارد من إِنسان وحيوان وثوب. وكلُّ فائق غريب ممّا يصعب عمله؛ وكلّ شىءٍ عظيم فى نفسه. وعَبْقرىّ القوم سيّدهم وكبيرهم وقويّهم. وفى حديث عمر أَنَّه كان يسجد على عَبْقَرىّ، قيل: هو الدّيباج وقيل: هو البُسُط المَوْشِيَّة. وقيل: الطنافس الثِخان، قال تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} جعله الله مَثَلاً لفُرُش الجنَّة.
والعَتْب: المَوْجِدة. عَتَب عليه يَعْتُب ويَعْتِب عَتْبا ومَعْتَبًا أَى وَجَد عليه، قال: الغَطَمَّشِ:
أَخِلاَّىَ لو غيرُ الحِمام أَصابكم ... عتَبتُ ولكن ما على الموت مَعْتَبُ(4/16)
والاسم المعتَبة والمَعْتِبة. والعَتَب: الدَّرَج، وكلّ مِرقاة منها عَتَبة، والجمع عَتَبات. والعَتَبة: أُسْكُفَّة الباب والجمع عَتَب. والعرب تكنى عن المرأَة بالعَتَبة والنعل القارورة والبيت والغُلّ والقَيد والرَّيحانة والقَوْصَرَّة والشاة والنعجة. وحُمل فلان على عَتَبة، أَى على أَمرٍ كرِيه. وعتبت فلاناً: أَبرزت له الغِلطة التى وجدْت له فى صدرى. وأَعتبته: حملته على العَتْب. وأَعتبته أَيضاً: أَزلت عنه [العتب] نحو أَشكيته. والعَتُوب: مَن لا يَعمل فيه العِتاب. واسْتَعْتَبْتُهُ فأَعْتَبَنِى، أَى استرضيتهُ فأَرضانى، قال تعالى: {لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} . وقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} أَى إِن يَستقيلوا ربَّهم لم يُقِلْهم، أَى لم يردّهم إِلى الدنيا؛ وقرأَ عُبيد بن عُمَير: {وإِن يُسْتَعْتَبُواْ} على ما لم يسمّ فاعله، أَى إِن أَقالهم الله تعالى وردّهم إِلى الدنيا لم يعملوا بطاعته لما سبق فى علم الله تعالى من الشقاءِ، قال الله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} . وعاتبته معاتبة وعتاباً، قال:
أُعاتِب ذا المودَّةِ من صديق ... إذا ما رابَنِى منه اجتنابُ
إِذا ذهب العتابُ فليس وُدّ ... ويبقى الوُدّ ما بَقِىَ العتاب(4/17)
بصيرة فى عتد وعتق وعتل وعتو
الشَّىءُ العَتِيد: الحاضر المهَيّأُ. وقوله تعالى: / {هاذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أَى هذا ما كتبتُه من عمله عَتِيد، أَى مُعْتَد مُعَدّ. وَقد عَتُد عَتَادة وعَتَادا. وقال تعالى: {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أَى يُعْتِد أَعمال العباد. وأَعتده: أَعدّه ليوم، ومنه قوله: {أولائك أَعْتَدْنَا لَهُمْ} ، قيل: هو أَفعلنا من العَتَاد، وقيل: أَصله أَعددنا فأَبدل من أَحد الدّالَين تاء. وقوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} : هَيَّأَت.
والعَتِيق: المتقدّم فى الزَّمان أَو المكان أَو الرّتبة، ولذلك قيل للقديم: عَتِيق، وللكريم: عتيق، ولمن خُلِّى عن الرّق: عَتِيق، ولمن حسُن وجهه: عتيق. وبه سُمّى الصِّدّيق لجماله.
وقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} إِمّا لقِدمه زماناً فإِنه أَوّل بيْت وضع، أَوْ لأَنه لم يزَل مُعتَقاً من تسلّط الجبابرة. والعاتق: ما بين المنكبين لارتفاعه على سائر الجسد. والعِتْق: الحُسْن، قال أَبو النجم:
وأرى البَياض على النساءِ جَهَارة ... والعِتْق أَعرفه على الأَدماءِ
وهى عاتق من العواتق، للشَّابة أَوّلَ ما أَدركتْ.
عَتَله يَعْتِله ويَعْتُله عَتْلاً: أَخذ بتَلْبيبه فجرّه إِلى حَبْس أَو نحوه.(4/18)
قال تعالى: {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم} . وعَتَل النَّاقة: أَخذ بزَمامها فقادها عنِيفاً.
والعُتُلّ: الشديد الأَكُول المنيع الجافى الغليظ، والرمح الغليظ.
والعَتَلَة: حديدة لها رأس مفلطَح يُهدم بها الحائط، والناقة التى لا تُلقَح.
والعُتُوّ: النُّبُوّ عن الطَّاعة، عَتَا عُتُّوا وعُتِيًّا وعِتِيًّا: استكبر وجاوز الحدّ فهو عات وعَتِىّ. والجمع: عُتِىّ. قال تعالى: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمان عِتِيّاً} قيل: العِتىّ هنا مصدر، وقيل: جمع عاتٍ. وقال تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} أَى حالة لا سبيل إِلى إِصلاحها ومعالجتها قال:
ومن العناءِ رياضة الهَرِم(4/19)
بصيرة فى عثر وعثى وعجب
ناقة عَثُور، وبها عِثَار: لا تزال تعثُر أَى تسقط على وجهها. عَثَرَ الرجل يَعْثُر عِثَاراً وعُثُورا: إِذا سقط على شىءٍ. يقال: عَثَرْتُ على كذا. ويتجوّز به فيمن يطَّلع على أَمر من غير طلبِهِ، وقوله تعالى: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أَى وقَّفناهم عليهم من غير أَن طلبوا.
عَثَى يَعْثِى ويَعْثَى، وعَثِىَ يَعْثَى كرضى يرضَى عُثِيًّا وعِثِيًّا وعَثَيانًا، وعَثَا يَعْثُوا عُثُوّا: أَفسد. والأَعْثى: الأَحمق، والأَسود اللون. قال تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض} .
والعَجَب: ما لا يُعرف سببه، أَو حالة تعرِض عند الجهل بسبب الشىءِ، ولهذا لا يصحّ التعجّب على الله تعالى. عَجِبَ منه يعجَب، كعلم يعلم.
وفى الحديث: "عجب اللهُ من قوم يدخلون [الجنَّةَ فى السلاسل] " "وعجب رّبكم من إِلِّكُم وقُنُوطكم"، "وعجب الله من صنيعكما الليلة بضيفكما"، "وتعجّب ربّك من الشابّ ليست له صَبْوة"، فإِن العَجَب فى هذه الأَحاديث يفسَّر بالرضا. وقال ابن الأَنبارىّ: عجِب الله، أَى عَظُم ذلك عنده وكَبُر جزاؤكم منه.(4/20)
وقوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أَى عجبتَ من إِنكارهم البعث لشدّة تحقّقك بمعرفته، ويسخرون بجهلهم. وإِذا قرئ على الحكاية عن نفس المتكلّم - وهى قراءَة حمزة والكسائىّ وخَلَف - معناه: بل عظم فعلهم عندى. وقيل: بل جازيتهم بالتعجّب. وقيل: بل معناه أَنه مِمّا يقال عنده: عجبتُ، أَو يكون مستعارًا بمعنى أَنكرت، نحو قوله تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} . ويقال: قصّة عجب.
وقوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ} تنبيهاً أَنهم قد عهدوا مثل / ذلك قَبْل. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أَى ليس ذلك فى نهاية العجب، بل من أُمورنا ما هو أَعظم منه وأَعجب. وقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} أَى لم يُعهد مثله، ولم يُعرف سببه. وقوله تعالى: {إِنَّ هاذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أَى عجيب. ويستعار تارة للمُؤْنِق فيقال: أَعجبنى كذا أَى راقنى.
ولا يجمع عَجَب ولا عجيب. وقال بعضهم: جمع عجيب عجائب؛ مثل أَفِيل وأَفائل، وتَبيع وتبائع. وقد جمع العجّاج العجب فقال:
ذكّرن أَشجاناً لمن تشجّبا ... وهِجْنَ أَعجاباً لمن تعجّبا
وقولهم: أَعاجيب: جمع أعجوبة لما يُتعجّب منه؛ كأُحدوثة وأَحاديث. والتعاجيب: العجائب، لا واحد لها من لفظه. قال:
ومِنْ تعاجيب خَلْقِ الله غاطِية ... يُعصَر منها مُلاَحِىّ وغِربيب
ورجل تِعْجابة: صاحب أَعاجيب.(4/21)
بصيرة فى عجز وعجف وعجل
العَجُز من كلِّ شىءٍ: مؤَخَّره، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}
والعَجْزُ: أَصله التأَخُّر عن الشىءِ وحصولُه عند عَجُز الأَمر، أَى مؤخَّره؛ كما ذكر فى الدُّبُر. وصار فى العرف اسما للمقصور عن فعل الشىءِ، وهو ضدّ القدرة. وأَعجزته وعجَّزته وعاجزته: جعلته عاجزًا.
وقوله [تعالى] : {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} وقرئَ {مُعَجِّزينَ} . فمُعاجزين قيل معناه: ظانِّين ومقدّرين أَنهم يُعجزوننا، لأَنَّهم حسبوا أَن لا بعث ولا نشور فيكونَ ثواب وعقاب. وهذا فى المعنى كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} . ومُعَجِّزين: ينسبون مَن تبع النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم إِلى العَجْز؛ نحو جَهَّلته وفسَّقته. وقيل معناه: مثبِّطين أَى مُقنِّطين الناس عن النبىِّ صلى الله عليه وسلَّم، كقوله تعالى: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} . والعَجُوز سُمِّيت لعجزها عن كثير من الأُمور، ولها معانٍ تنيّف على ثمانين ذكرتها فى القاموس وغيره من الكتب الموضوعة فى اللغة.
والعَجَف -محركة-: ذهاب السّمَن. وهو أَعجف وهى عجفاءُ، والجمع عِجَاف منهما، وقد عجِف وعَجُف كفرح وكرم. وليس أَفعل يجمع على فِعَال غيرها، قال تعالى: {سَبْعٌ عِجَافٌ} . والعجفاءُ: الأَرض لا خير فيها. وعَجَف نفسه عن الطَّعام عَجْفا وعُجُوفاً: حبسها عنه.(4/22)
بصيرة فى العجل
العَجَل والعَجَلة: السّرعة، وهو عَجِلٌ، وعَجُلٌ، وعَجْلانٌ، وعَاجِلٌ، وعَجيلٌ من عَجَالَى وعُجالَى وعِجَال. وقد عَجِل -كفرح- وعَجَّل وتعجَّل بمعنى. واستعجله: حثَّه وأَمره أَن يَعْجَل. ومرّ يستعجل أَى طالباً [ذلك] من نفسه متكلِّفاً إِيّاه. والعجَلَة من مقتضيَات الشهوة؛ فلذلك ذُمّت فى جميع القرآن حتى قيل: العجلة من الشيطان.
وقوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} ذُكر أَنّ عجلته وإِن كانت مذمومة فالذى دعا إِليها أَمر محمود وهو طلب رضا الله. وقال تعالى {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} . وقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} ، قال بعضهم: من حَمَإٍ وليس بشىءٍ، بل تنبيه على أَنه لا يتعرّى من ذلك؛ فإِن ذلك أَحد القُوَى الَّتى رُكِّبَ عليها. وقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} أَى نعطيه ذلك.
والعاجل: نقيض الآجل. والعُجالة والعِجالة / والعُجْل والعُجْلة والعُجَيْل: ما تعجَّلته من شىءٍ كاللُّهْنَةِ قال الشاعر:
لا تَعجلنَّ فربَّما ... عجِل الفتى فيما يضرّه
ولربَّما كره الفتى ... أَمراً عواقبه تسرّه(4/23)
وقال تعالى: {إِنَّ هاؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} يا محمّد امنعهم من الاستعجال بالعذاب؛ فإِنَّه محيط بهم. {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} فلا يستعجلون. {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} ، {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ، {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ، {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} .
والعِجْل، والعِجَّوْل كِسِنَّوْر: ابن البقرة، والجمع: عُجُول وعجاجيل. وبقرة مُعْجِل: ذات عِجْل.(4/24)
بصيرة فى عجم
العُجْم -بالضمّ- والعَجَم محركة: خلاف العرب. رجل وقوم أَعجم.
والأَعجم والأَعجمىّ: مَنْ لا يُفصح، عربيًّا كان أَو غير عربىّ. والأَعجم: الأَخرس. والعَجَمِىُّ: مَنْ جِنْسه العَجَم وإِن أَفصح، والجمع عَجَم.
والعجماءُ: البهيمة، والرَّملة التى لا شجر بها، وصلاة النهار لأَنه لا يُجهر فيها.
ورجل صُلْب المَعْجَم: عزيز النَفْس.
وحروف المُعْجَم هى الحروف المقطَّعة، سميّت بها لأَنَّها لا تدلّ على ماتدلّ [عليه] الحروف الموصولة.
وأَعجم الكلامَ: ذهب به إِلى العُجْمة؛ والكتابَ: نقطة فأَزال عجمته، كأَشكيته: أَزلت شِكايته.(4/25)
بصيرة فى عد
عَدَدْتُ الشىءَ عَدًّا أَى أَحصيته. وقوله تعالى: {فَسْئَلِ العآدين} أَى الملائكة الذِّين تعدّ عليهم أَنفاسَهم وأَعمارهم، فهم أَعلم بما لبثوا. وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَى أَنفاسهم. والاسم العَدَد والعَدِيد. وقوله: {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أَى عدّ كلّ شىءٍ عَدًّا، ويجوز أَن يكون [عَدَدًا] بمعنى معدود، فيكون انتصابه على الحال [كَالحسَب] بمعنى المحسوب، والنَفَض بمعنى المنفوض. قال امرأَة رأَت رجلاً كانت عَهِدته جَلْدًا شابًّا: أَين شبابك وجَلَدك؟ فقال: من طال أَمَدُه، وكثر وَلَدُه، ورقّ عَدَدُه، ذهب جَلَده. قوله: عدده أَى سِنُوه التى بِعَدّها ذَهب أَكثر سِنّه وقلّ ما بقى فكان عنده رقيقاً. وقوله: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} ، ذِكره العدد تنبيه على كثرتها. والأَيام المعدودات: أَيّام التشريق، وقيل يوم النّحر ويومان بعده. وعِدّة المرأَة: أَيّام أَقرائها. وسئل أَبو واثلة إِياس بن معاوية: متى تكون القيامة؟ فقال: إِذا تكاملت العِدّتان: عدّة أَهل الجنَّة وعدّة أَهل النار. أَى إِذا تكاملت عند الله لرجوعهم إِليه قامت القيامة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} فكأَنَّهم إِذا استوفَوا المعدود لهم قامت القيامة عليهم. وقوله تعالى: {جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} أَى جعله عُدّة للدّهر. وقال الأَخفش: جعله ذا عدد.(4/26)
قيل: يُتجوّز بالعَدِّ على أَوجه: يقال: شىءٌ معدود ومحصور للقليل مقابّلة لما لا يُحصى كثرة، نحو المشار إِليه بقوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} وعلى ذلك قوله: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} ، أَى قليلة لأَنهم قالوا: نعذَّب بعدد الأَيّام التى عبدْنا فيها العجْل. ويقال على الضدّ من ذلك: نحو جيش عديد أَى كثير. وإِنَّهم لذوو عَدَد، أَى هم بحيث [يجب] أَن يُعَدوّا كثرة. ويقال فى القليل: هم شىءٌ غير معدود. وقوله: {فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} يحتمل الأَمرين. ومنه هذا غير معتدّ به.
وله، عُدّة أَى شىءٌ / كثير من مال وسلاح وغيرهِما. والعُدّة أَيضاً: الاستعداد، يقال: كونوا على عُدّة. وأَخذ للأَمر عُدّته وعَتَاده بمعنىً وماءٌ عِدٌّ.
والعِدّةُ: هى الشىءُ المعدود، وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَى عَدَد ما قد فاته. وقوله: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} أَى عدّة الشهر.(4/27)
بصيرة فى عدل
العَدْل والعِدْل واحد فى معنى المِثْل، قاله الزَّجَّاج. قال: والمعنى واحد، كان المثلُ من الجنس أَو من غير الجنس، قال: ولم يقولوا إِن العرب غَلِطَتْ، وليس إِذا أَخطأَ مخطئٌ وجب أَن تقول: إِن بعض العرب غَلِطَ. وقال ابن الأَعرابىِّ: عَدْل الشىءِ وعِدْله سواءٌ أَى مثله. وقال الفرّاءُ: العَدْل - بالفتح -: ما عادل الشىء من غير جنسه، والعِدْل - بالكسر - المِثْل، تقول: عندى عِدْل غلامك وعِدْل شاتك: إِذا كان غلامًا يعدل غلامًا أَو شاة تعدل شاة، فإِذا أَردت قيمته من غير جنسه نصبت العين. وربّما كسرها بعض العرب فكأَنَّه منهم غلط. وقد أَجمعوا على واحد الأَعدال أَنّه عِدْل بالكسر.
والعَدْل: خلاف الجَوْرِ. يقال: عدل عليه فى القضيّة فهو عادل، وبسط الوالى عَدله ومَعْدِلته ومَعدَلته، وفلان من أَهل المعدَِلة أَى من أَهل العَدْل. ورجل عَدْلٌ، أَى رِضًا ومَقْنع فى الشهَّادة؛ وهو فى الأَصل مصدر. وهو عادل من قوم عُدُول وعَدْلِ، الأَخيرة اسم للجمع كتَجْر وشَرْب.
ورجل عَدْل، وصف بالمصدر وعلى هذا لا يثنَّى ولا يجمع ولا يؤَنَّث. فإِن رأَيته مجموعاً أَو مثنى أَو مؤَنّثًا فعلى أَنَّه قد أُجرى مُجرى الوصف الذِّى ليس بمصدر. وقد حكى ابن جنىّ: امرأَة عَدْلة، أَنَّثوا المصدر لمّا جرى وصفا على المؤَنَّث وإن لم يكن على صورة اسم الفاعل ولا هو الفاعل فى الحقيقة.(4/28)
وقيل: العَدّل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأَحكام، كقوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} . والعِدل - بالكسر - والعَدِيل فيما يدرك بالحاسّة كالموزونات والمعدودات والمكِيلات. والعَدْل: هو التقسيط على سواء، وعلى هذا رُوى: بالعَدْلِ قامت السّماوات والأَرض، تنبيهاً أَنَّه لو كان ركن من الأَركان الأَربعة فى العالم زائدا على الآخر أَو ناقصاً عنه على مقتضى الحكمة لم يكن العالَمُ منتظمًا.
والعَدل ضربان: مطلق يقتضى العقلُ حسنه، ولا يكون فى شىءٍ من الأَزمنة منسوخاً، ولا يوصف بالاعتداءِ بوجه، نحو الإِحسان إِلى من أَحسن إِليك، وكفّ الأَذى عَمّن كَفَّ أَذاه عنك. وعَدْل يعرف كونه عدلا بالشرع، ويمكن أَن يكون منسوخاً فى بعض الأَزمنة كالقصاص وأَرش الجنايات وأَخذ مال المرتدّ، ولذلك قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} ، قال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فسمّى ذلك سيّئة واعتداء. وهذا النحو هو المعنىّ بقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} ، فإِنَّ العدل هو المساواة فى المكافأَة إِنْ خيرا فخير وإِن شرًّا فشرّ، والإِحسان أَن يقابل الخير بأَكثر منه والشر بأَقلّ منه.
وقوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} أَى ذَوَىْ عدالة. وقوله: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} [فإِشَارةٌ] إِلى ما عليه جِبِلّة الإِنسان من الميل؛ فإِن الإِنسان لا يقدر على أَن يسوّى بينهنَّ(4/29)
فى المحبة {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} إِشارة إِلى العدل الذى هو القَسْم والنفقة.
وقوله: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} أَى ما يعادل من / الصّيام الطعام. ويقال للفِداء إِذا اعتبر فيه معنى المساواة. وفى الحديث: "لا يُقبل منه صَرْف ولا عَدْل". قيل: الصرف: التوبة، وقيل: النافلة. والعدل: الفِدْية، وقيل: الفريضة. وقيل: الصّواب أَنَّ الصرف بمعنى التصرّف والتدّبير والحيلة، والعدل بمعنى الفدية. قال تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} أَى تصرّفاً وتدبيراً. وقال تعالى: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} وكأَن المعنى: ما يقبل منه ما تصرَّف فيه بحيلة وكَدَح له وتعب ونصِب، ولا فداء ولو افتدى به. وقيل: العدل السويّة، وقيل العدل: التطوّع، والصرف: الفريضة. ومعنى: (لا يقبل منه) أَى لا يكون له خير يقبل منه.
وقوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أَى يجعلون له عديلا، فصار كقوله: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وقيل: يعدلون بأفعاله عنه وينسُبونها إِلى غيره. وقيل: يعدلون بعبادتهم عنه تعالى، وقيل: الباءُ بمعنى عن. وقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} يصحُّ أَن يكون من قولهم: عدل عن الحقِّ: إِذا جار. وفلان يعادل هذا الأَمر: إِذا ارتبك فيه ولم يُمضِه. قال:
إِذا الهَمُّ أَمسى وهْو داء فأمضِه ... فلستَ بممضيه وأَنت تعادلُه(4/30)
بصيرة فى عدن وعدو
عَدَن بالبلد يعدِن ويعدُن: أَقام به. ومنه جنَّاتُ عَدْنٍ. وعَدَنَت الإِبل فى الحَمْض استَمْرَتْه ونَمَتْ عليه ولزِمَتْهُ، فهى عادن. والمعدِن: منِبت الجواهر من ذهب ونحوه؛ لإِقامة أَهله فيه دائماً، أَو لإِنبات الله تعالى الجوهر فيه. ومكان كلّ شىءٍ فيه أَصله معدن. والمعدِّن - كمحدِّث -: مُخْرج الصّخر من المعدن يبتغى فيه الذَّهب ونحوه.
العَدْو والعُدُوّ والتَعْداءُ والعَدَوان محرّكة بمعنى، وهو التجاوز ومنافاة الالتئَام. فتارة يعتبر بالقلب فيُسمّى المعاداة والعداوة، وتارة بالمشى فيقال له العَدْو، وتارة فى الإِخلال بالعدالة فيقال له العُدْوان والعَدْو. قال الله تعالى: {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَى عُدْوَانًا، وتارة بأَجزاءِ المقَرّ فيقال له: العُدَواءُ، يقال: مكان ذو عُدَواء أَى غير متلائم الأَجزاءِ، والتعادى أَيضاً: الأَمكنة الغير المتساوية.
فمن المعاداة: رجل عَدُوّ، وعادٍ. ويستوى فى العَدُوّ الواحد والجمع والذكر والأُنثى. وقد يثنَّى ويجمع ويؤنث فى بعض اللغات. والجمع: أَعداء، وجمع الجمع أَعادٍ. واسم الجمع: عِدًى وعُدًى. وجمع العادى: عُدَاة، وقد عاداه والاسم العداوة. وتعادَى ما بينهم: اختلف، والقومُ عادى بعضهم بعضاً.(4/31)
والعَدُوّ ضربان: أَحدهما بقصدٍ من المعادِى نحو: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} . والثانى لا بقصده، بل بأَن تعرِض له حالة يتأَذَّى بها كما يتأَذَّى بما يكون من العِدَا، نحو قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} .
وقد وردت العداوة على أَوجه:
1- عداوة اليهود للمؤمنين: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود} .
2- عداوة بين شاربى الخمر من وسوسة الشيطان: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة} .
3- عداوة بين أَصناف النَّصارى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء} .
4- عداوة بين المؤْمنين والكفَّار من قوم إبراهيم: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة} .
5- عداوة / بين بنى هاشم وبنى أُمَيَّة: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} .
6- عداوة تزول بكرم الكرماءِ: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
وورد ذكر العَدُوّ على وجوه:(4/32)
1- إِبليس لآدم وحوَّاء: {إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} ، {إِنَّ هاذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} .
2- آدم وإِبليس والحيّة وطاووس أَعداء: {اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .
3- إِبليس وذرّيته أَعداء بنى آدم: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} .
4- الكافر الحربىُّ عدوّ للمسلم: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} .
5- آزر عدوّ الحقّ: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ} .
6- موسى عدوّ فرعون: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} .
7- كفَّار مكة أَعداءُ نبىّ الله صلىَّ الله عليه وسلَّم: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} .
8- مؤْمنو بنى إِسرائيل عدوّ الكفَّار: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} .
9- الأَولاد والأَزواج منهم أَعداءُ الوالدين: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} .
10- الكفَّار أَعداءُ الله: {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله} ، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله} .(4/33)
11- عداوة الخُلاَّن لغير الله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} .
والعُدوان ورد على وجهين: الأَوّل بمعنى السّبيل: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} . الثانى بمعنى الظلم: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} {وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان} . أَى بالظلم والمعصية.
ومن العَدْو قال:
وعادى عِداءً بين ثور ونعجة
أَى أَعدى أَحدهما إِثر الآخر. وتعدَّوا: وجدوا لبنًا فأَغناهم عن الخمر، ووجدوا مرعى فأَغناهم عن شراءِ العلف؛ والمكانَ: جاوزوه وتركوه.
والعُدْوة والعِدْوةُ والعَدْوة: شاطىءُ الوادى. وبالضمّ والكسر: المكان المرتفع، قال تعالى: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} والسلطَانُ ذو عَدَوات وبَدَوات، وعَدَوَان وبَدَوَان.(4/34)
بصيرة فى عذب وعذر
العَذْب: الماءُ الطيِّب. والجمع عِذَابٌ. وعَذُب الماءُ عُذُوبة. قال تعالى: {هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} . وأَعْذَبوا: صار لهم ماءٌ عذْب. والعَذَاب: (الإِيجاع الشديد. وعذَّبه تعذيباً: أَكثر حَبْسه فى العذاب. وعذَّبته: كدَّرت عِيشته ورَنَّقت حياته) . وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب} أَى بالمجاعة. وأَصابه منىّ عَذَابُ عِذَبِينَ. وأَصابه منىّ العِذَبُونَ، أَى لا يُرفع عنه العذاب. وعذَّبته تعذيباً: عاقبته أَو أَطلت حبسه فى العذاب. وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} أَى ما كان الله يعذبهمَ عذاب الاستئصال. وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} أَى أَلاَّ يعذِّبهم بالسّيف.
واختُلِفَ فى أَصلِه، فقيل: هو من العاذب وهو الذى لا يأكل ولا يشرب من الدّواب وغيرها؛ وبات عَذُوباً: إذا لم يأكل شيئاً ولم يشرب. فالتعذيب حمل الإِنسان على أَن يَعْذِب أَى يجوع ويعطَش ويسهر. وقيل: أَصله من العَذْب، عذَّبته: أَزلت عَذْب حياته كمرّضته وقَذَّيته. وقيل: أَصله إِكثار الضرب بعَذَبة السّوط أَى طرَفها. وقيل: التعذيب هو الضرب. وقيل: هو من قولهم: ماءٌ عَذِب: إِذا كان فيه قَذًى وكَدَر.
والعُذْرُ تحرِّى الإِنسان ما يمحو به ذنوبه. يقال: عُذْر وعُذُر. وذلك(4/35)
ثلاثة أَضرب: أَن يقول لم أَفعل، أَو يقول: فعلت لأَجل كذا فيذكر ما يخرجه عن كونه مذنباً، أَو يقول: فعلت ولا أَعود، ونحو ذلك. وهذا الثالث هو التوبة، وكلّ توبة عُذر، وليس / كلّ عذر توبة. وأَعذَر مَنْ أَنْذَر أَى بالغ فى العذر، أَى فى كونه معذورا. ومَنْ عَذِيرِى مِن فلان. وعَذِيرَك من فلان. قال عمْرو بن معدى كرب:
أُريد حياتَه ويريد قتلى ... عذيرَك مِن خليلك من مُراد
ومعناه: هلمَّ مَن يعذِرك منه إِن أَوقعت به، يعنى أَنَّه أَهل للإِيقاع به، فإِن أَوْقعتَ به كنت معذورا. ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لن يَهْلِكَ الناسُ حتىَّ يُعذَروا من أَنفسهم"، واستعذر النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم من عبد الله بن أُبىّ، أَى قال: [من] عذيرى من عبد الله، وطلب من الناس العذْر إِن بَطَش به. والمعذِّر: من يظن أَن له عذرًا ولا عذر له، قال تعالى: {وَجَآءَ المعذرون} ، وقرئَ {المعذرون} أَى الَّذِين يأْتون بالعُذر. وقال ابن عبّاس: رحم الله المُعْذِرِين ولعَن الله المُعَذِّرين. وقوله: {قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} مصدر عذرت كأَنه قيل: اطلبْ منه أَن يعذرنى. وأعذَر: أَتى بما صار به معذورًا. وواللهِ ما استعذرتَ إِلىَّ وما استنذرت إِلىَّ، أَى لم تقدّم الإِعذار ولا الإِنذار. وفلان أَلقى معاذِيرَه.(4/36)
ودُرّة عذراء: لم تُثقب. ورملة عذراء: لم توطأ.
وعِذَار الرّمل: حَبْل مستطيل منه. وغرسوا عِذَارًا من النخل: سَطرا متَّسِقاً منه. وعذارا الطريقِ: جانباه. وهو شديد العذار: شديد العزيمة. قال أَبو ذؤيب:
فإِنِّى إِذا ما خُلَّةٌ رثَّ وَصْلُهَا ... وجَدَّتْ بصُرْمٍ واستمرّ عذارُها
وعذر الصبىَّ: أَزال عُذْرته أَى قُلْفته. وأَعذر فلاناً: أَزال نجاسة ذنْبهِ بالعفو عنه، والفرسَ: جعل له عِذَاراً. وهو طويل المُعَذَّر، أَى موضع العذار.
العَرُّ: الجَرَبُ ويضمُّ؛ لأَنَّه يعُرّ البدن أَى يعترضه. والمعرّة: المضرَّة. والاعترار: الاعتراض، قال تعالى: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} ، أَى المعترِض بسؤاله، وقد عَرّه واعترّه.
ونزلْتُ بين المجرّة والمعرّة، أَى حيّين كثيرَىِ العدد، شبَّههما بهما لكثرة نجومهما. والمَعَرَّة: مكان من السَّماءِ فى الجهة الشاميّة نجومه تعْترّ وتشتبك.
وتعارَّ من الليل: هبَّ من النوم فى غمغمة. وكلام مثل عِرَار الظلِيم، وهو صياحه.(4/37)
بصيرة فى عرب
العَرَب - بالتَّحْرِيك - والعُرْب - بالضمّ -: جِيل من النَّاس. والنِّسْبة عَرَبىّ بيّن العُرُوبة، وهم أَهل الأَمصار. والعرب اسم جنس. والعرب العاربة: هم الخلَّص منهم. وأَخذت من لفظها فأَكدّت بها كليل لائل. وربّما قالوا: العرب العَرْباءُ. والعربيّة هى هذه اللُّغة.
وتصغير العَرب عُرَيب بلا هاء. قال عبد المؤمن بن عبد القدّوس:
ومَكْن الضَّبَابِ طعام العُرَيب ... ولا تشتهيه نفوس العَجَمْ
وإِنما صغَّرهم تعظيما لهم كقول الحُبَاب: أَنَا جُذَيلها المحكَّك.
وقيل: سمّيت العرب بها لأَنَّه نَشأَ أَولاد إِسماعيل - صلوات الله عليه - بَعَربة وهى من تِهامة، فنُسبوا إِلى بلدهم. ورُوى أَنَّ خمسة من الأَنبياءِ - صلوات الله عليهم - من العرب، وهم: إِسماعيل، ومحمّد، وشعيب، وصالح، وهود. وهذا يدلُّ على أَنَّ لسان العرب قديم. وأَن هؤلاءِ الأَنبياءَ - صلوات الله عليهم - كلّهم كانوا يسكنون بلاد العَرَب. وكان شُعيب وقومه بأَرض مَدْين، وكان صالح وقومه ثمود بناحية الحِجْر، وكان هود وقومه ينزلون الأَحقاف من رمال اليمن، وكانوا أَهل عَمَد، وكان إِسماعيل / ومحمّد المصطفى صلى الله عليه وسلَّم من سكَّان الحرم. وكل مَن سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أَهلها فهم عَرَب.(4/38)
وقال الأَزهرىّ: الأقرب عندى أَنهم يسمَّون عرباً باسم بلدهم العَرَباتِ. وقال إِسحاق بن الفرج: عَرَبَةُ باحة العرب. وباحة دار أَبى الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما. قال: وفيها يقول قائلهم:
وَعرْبة أَرضٌ ما يُحِلّ حرامَها ... من الناس إِلاَّّ اللوذعى الحُلاَحلُ
يعنى النبىّ صلىَّ الله عليه وسلَّم "أُحِلَّت لنا مكَّة ساعة من نهار ثم هى حرام إِلى يوم القيامة". قال: واضطُرّ الشَّاعر إِلى تسكين الراءِ من عَرَبة فسكَّنها. وأَنشد قول الشاعر:
ورُجّت باحةُ العربات رَجًّا ... ترقرقُ فى مناكبها الدّماءُ
قال: وأَقامت قريش بعَرَبة فتنَخَتْ بها. وانتشر سائر العرب فى جزيرتها فنُسبوا كلّهم إِلى عَربة؛ لأَن أَباهم إِسماعيل - صلوات الله وسلامه عليه - بها نشأَ، ورَبَل أَولاده فيها فكثروا، فلمّا لم تحملهم البلاد انتشروا، وأَقامت قريش بها.
وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما فى قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} : هو العِرابَة فى كلام العرب. والعِرَابة كأَنَّها اسم من التعريب وهو ما قَبُح من الكلام. وفى حديث عطاء: لا تحلّ العِرَابة للمحرم، ويروى أَنَّه كره الإِعراب للمحرم، وهو بمعنى العِرابة.(4/39)
والأعراب: سكَّان البادية خاصّة، ويجمع على الأعاريب. ولا واحد للأعراب؛ ولهذا نسب إِليها ينسب للجمع. وليست الأعراب جمعاً للعرب كما أَن الأَنباط. جمع للنّبَط، وإِنما العرب اسم جنس.
وأَعرب بحُجَّته: أَفصح بها ولم يَتَّق أَحدا، والرّجلُ: وُلد له وَلَدٌ عربىٌّ، والثور البقرةَ شهَّاها، وفلان: تكلَّم بالفُحْشِ. وإِنما سمّى الإِعراب إِعراباً لتبيينه وإِيضاحه. وأَعرب الحروف وعرّبها بمعنى. الفرّاءُ: عّرب أَجود من أَعرب، وقيل: هما سواءُ. وقوله تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} ، قيل أَى مفصحاً، نحو {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} ، وقيل: أَى شريفاً كريماً، وقيل: ناسخاً لما قبله من الأَحكام، وقيل: منسوباً إِلى النبىّ صلىَّ الله عليه وسلم. والعربىُّ إِذا نُسِبَ إِليه قيل: عربىٌّ فيكون لفظه كلفظ المنسوب إِليه. وخير النساء اللَّعُوب العَرُوب. وقد تعرّبت لزوجها: تغزَّلت له وتحبَّبت إِليه.(4/40)
بصيرة فى عرج وعرش
عُرِجَ برَوح الشمس: إِذا غربت لأِنها تذهب تسجد تحت العرش. والمعارج: المصاعد. وليلة المعراج سمِّيت لصعود الدُّعاءِ فيها إِشارة إِلى قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} ، ولعِرُوج النبىّ صلىَّ الله عليه وسلَّم فيها. ويقال: الشرف بعيد المدارج، رفيع المعارج. ومررتُ به فما عرَّجت عليه: ما أَلممت. ومالى عليه عُِرْجة. وانعرج بنا الطريقُ، ومنه العُرْجُون وهو أَصل الكِبَاسة سمّى لانعراجه، قال تعالى: {حتى عَادَ كالعرجون القديم} . ولَتلقَيَّن من هذا الأَعرج الأُعَيْرجَ وهو حيّة ممّا لا يقبل الرُقى.
والعُرُش والعُرُوش والعرائش واحد. والعُرُوش أَيضاًً: السّقوف، قال تعالى: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} . وعَرَش الكَرْمَ يَعْرِشه، وعرّشه تعريشاً: إِذا جعل له كهيئة السقف. وما عَرَشوه وما عَرّشوه، قال تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} وقرئَ {يَعْرُشُونَ} .(4/41)
واستوى على عَرْشه: إِذا مَلَك. وثُلَّ عرشُه: إِذا هلك، قال زهير:
تداركتما عَبْساً وقد ثُلَّ عرشُها ... وذُبْيان إِذ زلَّت بأَقدامها النعل
والعُرُش والعُرْش والعَرْش والعُرُوش والعَرِيش من أَسماءِ مكة شرفها الله تعالى. وكان مُعاوية كافراً بالعُرُش: أَى مقيما بمكَّة. وعُرُوش مكة: بيوتها. قال القطامى:
وما لمثابات العُرُوش بقيّة ... إِذا استُلَّ من تحت العروش الدعائمُ
ورُؤى عمر فى المنام [فقيل له: ما فعل الله بك] ؟ فقال: لولا أَن تداركنى لثُلَّ عرشى.
وعَرْش الله ممّا لا يعلمه البشر على الحقيقة [إِلاَّ بالاسم] وليس كما يذهب إِليه أَوهام العامّة؛ إِذ لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى لا محمولا والله تعالى يقول: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} ، وليس كما قال قوم أَنَّه الفَلَك الأَعلى والكرسىّ فلك الكواكب. واستَدّلُّوا بالحديث النَّبَوى: "ما السّماوات(4/42)
السّبع، والأَرضون السبّع فى جَنْب الكرسىّ إِلاَّ كحَلْقة ملقاة فى أَرض فلاة، والكرسىّ عند العرش كذلك".
وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} تنبيه أَن عرشه لم يزَل مُذْ أُوجِد مستعلياً على الماءِ. وقوله تعالى: {ذُو العرش المجيد} ، {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش} وما يجرى مجراه، قيل: هو إِشارة إِلى مملكته وسلطانه لا إِلى مقرّ له، تعالى الله عن ذلك.(4/43)
بصيرة فى عرض
العَرْض خلاف الطُّول، وأَصله فى الأَجسام ثمّ يستعمل فى غيرها. يقال: كلام له طول وعَرْض، قال تعالى: {فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} .
والعُرض بالضمّ خصّ بالجانب. وأَعرض الشَّىءُ: بَدَا عُرضه. ومنه عرضتُ العُودَ على الإِناءِ. وعَنِّى: وَلَّى مُبْدياً عُرْضه.
واعترض الشىءُ فى حَلْقِه أَى وقف فيه بالعَرْض.
وعرضت الجيشَ عَرْض عَيْن: إِذا أَمررته على بصرك لِتعرف مَن غاب ومن حضر. ونظرتُ إِليه معارضة، أَى من عُرْض.
وبعير معارِض: لا يستقيم فى قِطَار.
وعرضت الشىءَ على البيع وعلى فلان، قال تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة} .
والعارِض: البادى عُرْضُه أَى جانبه، فتارة يُخصّ بالسّحاب كقوله تعالى: {هاذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ، وتارة بما يعرض من مرض ونحوه فيقال: به عارِض من سقم، وتارة بالخدّ نحو: أَخَذَ من عارضيْه، وتارة بالسنّ: ومنه قيل للثَّنايا التى تظهر عند الضَّحك: العوارض. ويقال: فلان شديد العارضة (كناية عن جودة بيانه) . (وأَعرض:(4/44)
أَظهر عُرضه أَى ناحيته. وإِذا قيل: أَعرض لى كذا أَى بدا لي عُرْضه فأَمكن تناوله، وإِذا قيل: أَعرض عنى، معناه ولَّى مبدياً عُرْضه) .
والعُرضة: ما يجعل مُعَرَّضًا للشىءِ قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} وبعيرى عُرْضَة للسّفر أَى مُعَرَّض له.
وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} قيل هو العَرْض ضدّ الطُّول. وتَصَوُّر ذلك على أَحد وجوه: إِمّا أَن يريد به أَن يكون عَرْضها فى النشأَة الآخرة كعَرْض السمّاوات والأَرض فى النشأَة الأُولى، وذلك أَنَّه قال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} قال: فلا يمتنع أَن يكون السماوات والأَرض فى النشأَة الآخرة أَكبر ممّا هى الآن. وسأَل يهودىّ عمر رضى الله عنه عن الآية وقال: فأَين النار؟ فقال عمر: إِذا جاءَ الليل فأَين النَّهار؟ وقد قيل: يُعنى بعرضها سعتها، لا من حيث المساحة ولكن من حيث المسرّة؛ كقولهم فى ضدّه: الدنيا على فلان كحلْقة خاتم، وسعةُ هذه الدار كسعة الأَرض. وقيل: العَرْض ههنا عَرْض البيع من قولهم: بِيع له كذا بِعَرْض: إِذا بِيع بسِلعة، فمعنى عرضها بدلها وعوضها؛ كقولك: عَرْض هذا الثوب كذا وكذا والله أَعلم.(4/45)
والعَرَض / محرّكة: ما لا يكون له ثبات. ومنه استعار المتكلِّمون العَرَض لما لا ثبات له إِلاَّ بالجوهر كاللون والطَّعم. وقيل: الدنيا عَرَض حاضر تنبيهاً أَن لا ثبات لها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة} ، وقوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أَى مطلبًا سهلاً.
والتَّعريض فى الكلام: أَن يكون له وجهان مِن صدق وكذب، أَو ظاهر وباطن. وقوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} قيل: هو أَن يقول لها: أَنت جميلة، وكلّ أَحد يرغب فى مثلك، ونحو هذا.(4/46)
بصيرة فى عرف
عرفه يعرِفه مَعْرِفة وعِرْفاناً فهو عارِف وعَرِيف وعَرُوفة: عَلِمَهُ. وقرأَ الكسائى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ} مخفَّفة أَى جازى حفصَة ببعض ما فعلتْ. ومنه: أَعرِف للمحسن والمسىءِ، أَى لا يخفى علىَّ ذلك ولا مقابلته بما يوافقه.
والمعرفة: إِدراك الشىءِ بتفكُّر وتدبّر لأَثره، وهو أَخَصّ من العلم. ويقال: فلان يعرف اللهَ، ولا يقال: يعلم الله متعدّياً إِلى مفعول واحد، لمَّا كان معرفة البشر لله هى بتدبّر آثاره دون إِدراك ذاته. ويقال: الله يعلم كذا ولا يقال: يعرف كذا، لمَّا كان المعرفة تستعمل فى العلم القاصر المتوصَّل إِليه بتفكُّر وتدبّر.
وفد ورد فى القرآن لفظ المعرفة ولفظ العلم.
فلفظ المعرفة كقوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ، {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .
وأَمّا لفظ العلم فهو أَكثر وأَوسع إِطلاقاً كقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ الله} ، {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} ، وقوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن(4/47)
رَّبِّكَ بالحق} ، وقوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} ، وقوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} ، وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} ، وقوله: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث فهاذا يَوْمُ البعث} {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ} ، وقوله: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} ، وقوله: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} ، وقوله: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} ، وقوله: {واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وقوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} ، {واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُلاَقُوهُ} {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} وغير ذلك من الآيات.
واختار الله لنفسه اسم العلم وما يتصرّف منه كالعالِم والعلِيم والعَلاَّم، وعَلِم ويَعْلم، وأَخبر أَن له عِلماً دون لفظ المعرفة، ومعلوم أَنَّ الاسم الذى اختاره لنفسه أَكمل نوعى المشارِك له فى معناه. وإِنما جاءَ لفظ المعرفة فى مؤمنى أَهل الكتاب خاصّة كقوله: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ(4/48)
مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ، وقوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وقد تقدّمت الآيتان.
وإِنَّ الطائفة المتصوّفة -نفع الله بهم- يُرجّحون المعرفة على العلم، وكثير منهم لا يرفع بالعلم رأساً، ويراه قاطعاً وحجاباً دون المعرفة، وأَهل الاستقامة منهم أَشدّ الناس وصِيّة للمريدين بالعلم. وعندهم أَنه لا يكون ولِىٌّ لله كامل الولاية من غير أولى / العلم أَبدًا، فما اتَّخذ الله ولا يتَّخذ ولِيًّا جاهلا. فالجهل رأْس كلّ بدعة وضلال ونقص، والعلم أَصل كلّ خير وهدى.
والفرق بين المعرفة والعلم من وجوه لفظاً ومعنى:
أَمّا اللفظ: ففعل المعرفة يقع على مفعول واحد، تقول: عرفت الدّيار وعرفت زيداً، قال تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . وفعل العلم يقتضى مفعولين، كقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} ، وإِذا وقع على مفعول كان بمعنى المعرفة كقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} .
وأَمّا الفرق من جهة المعنى فمن وجوه:
أَحدها: أَنَّ المعرفة تتعلَّق بذات الشىءِ والعلم يتعلَّق بأَحواله، فتقول: عرفت أَباك وعلِمته صالِحاً، ولذلك جاءَ الأَمر فى القرآن بالعلم دون المعرفة(4/49)
كقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ الله} ، وقوله: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} ، {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} . فالمعرفة: تصوّر صورة الشىءِ ومثالِه العلمىّ فى النَّفس، والعلم: حضور أَحواله وصفاته ونسبتها إِليه. فالمعرفة: نسبة التصوّر، والعلم: نسبة التصديق.
الثانى: أَنَّ المعرفة فى الغالب تكون لِمَا غاب عن القلب بعد إِدراكِه، فإِذا أَدركه قيل: عرفه، أَو تكون لِمَا وُصف له بصفات قامت فى نفسه فإِذا رآه وعلم أَنَّه الموصوف بها قيل: عرفه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وقال: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} ، وفى الحديث: "إِنَّ الله سبحانه يقول لآخر أَهل الجنّة دخولا: أَتعرف الزمان الذى كنت فيه فيقول: نعم. فيقول: تمنَّ. فيتمنَّى على ربّه". وقال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} . فالمعرفة نسبة الذِكر النفسىّ وهو حضور ما كان غائباً عن الذاكر، ولهذا كان ضدّها الإِنكار وضدّ العلم الجهل، قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} ويقال: عرف الحقَّ فأَقرّ به، وعرفه فأنكره.
الوجه الثالث: أَنَّ المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره، والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره. وهذا الفرق غير الأَوّل، فإِنَّ ذلك يرجع إِلى(4/50)
إِدراك الذات وإِدراك صفاتها، وهذا يرجع إِلى تخليص الذات من غيرها، وتخليص صفاتها من صفات غيرها.
الفرق الرابع: أَنك إِذا قلت: علمت زيداً لم تفد المخاطب شيئاً، لأَنَّه يَنتظر أَن تخبره على أَىّ حال علمته، فإِذا قلت: كريماً أَو شجاعاً حصلت له الفائدة، وإِذا قلت: عرفت زيدا استفاد المخاطب أَنك أَثبتَّه وميّزته عن غيره ولم يبق ينتظر شيئاً آخر. وهذا الفرق فى التحقيق إِيضاح الذى قبله.
الفرق الخامس: أَنَّ المعرفة علم بعين الشىءِ مفصَّلاً عمّا سواه، بخلاف العلم فإِنه قد يتعلَّق بالشىءِ مُجملاً، فلا يتصوّر أَن يعرف الله البتَّة، ويستحيل هذا الباب بالكليّة؛ فإِن الله سبحانه لا يحاط به علمًا ولا معرفة ولا رؤية، فهو أَكبر من ذلك وأَعظم. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} .
والفرق بين العلم والمعرفة عند المحقِّقين أَنَّ المعرفة عندهم هى العلم الذى يقوم العالِم بموجَبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول / العلم وحده، بل لا يصفون بالمعرفة إِلاَّ من كان عالِمًا بالله وبالطَّريق الموصِّل إِليه وبآفاتها وقواطعها وله حال مع الله يشهد له بالمعرفة. فالعارف عندهم مَن عرف الله سبحانه بأَسمائه وصفاته وأَفعاله، ثمّ صَدَق الله فى معاملاته، ثمّ أَخلص له فى قصوده ونِيَّاتِه، ثمّ انسلخ من أَخلاقه الرّديئة وآفاته، ثمّ تطهَّر من أَوساخه وأَدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أَحكامه فى نِعمه(4/51)
وبليّاته، ثمّ دعا [إِلى] الله على بصيرة بدينة وإِيمانه، ثم جرّد الدّعوة إِليه وحده بما جاءَ به رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يَشُبْهَا بآراءِ الرِّجال وأَذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم، ولم يزِنْ بها ما جاءَ به الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، فهذا الذى يستحقُّ اسم العارف على الحقيقة، وإِذا سمّى به غيره فعلى الدّعوى والاستعارة.
وقد تكلَّموا فى المعرفة بآثارها وشواهدها، فقال بعضهم: مِن أَمارات المعرفة بالله حصول الهيبة، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. وقال أَيضا: المعرفة توجب السكينة. وقيل: علامتها أَن يحس بقرب قلبه من الله فيجده قريباً منه. وقال الشِّبلى: ليس لعارف عَلاَقة، ولا لمحبّ شكوى، ولا لعبد دَعْوَى، ولا لخائف قرار، ولا لأَحد من الله فِرار. وهذا كلامٌ جيّد، فإِن المعرفة الصّحيحة تقطع من القلب العلائق كلَّها، وتعلّقه بمعروفه فلا يبقى فيه عَلاَقة لغيره، ولا يمرّ به العلائق إِلاَّ وهى مجْتازَة. وقال أَحمد بن عاصم: من كان بالله أَعرف كان من الله أَخوف. ويدلّ على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} ، وقول النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَنا أَعرفكم بالله وأَشدّكم له خَشْية". وقال آخر: من عرف الله ضاقت عليه الأَرضُ بسعتها؛ وقال غيره: من عرف الله اتَّسَع عليه كلُّ ضيق. ولا تنافى بين هذين الكلامين فإِنَّه يضيق عليه كلَّ مكان لاتِّساعه فيه على شأْنه ومطلوبه، ويتَّسع له ما ضاق على غيره لأَنَّه ليس فيه ولا هو مساكن له بقلبه، فقلبه غير محبوس فيه. والأَوّل فى بداية المعرفة والثانى فى غايتها التى يصل اليها العبد. وقال: من عرف الله(4/52)
تعالى صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كلّ شىءٍ، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأَنِس بالله. وقال غيره: من عرف الله قرّت عينه بالله وقرّت به كلُّ عين، ومن لم يعرف الله تقطَّع قلبه على الدّنيا حَسَرَاتٍ، ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه.
وعلامة العارف أَن يكون قلبه مرآة إِذا نظر فيها رأَى فيها الغَيْب الذى دعا إِلى الإِيمان به، فعلى قَدْر جلاءِ تلك المرآة يتراءَى فيها سبحانه والدّارُ الآخرة والجنَّة والنار والملائكة والرُّسُل، كما قيل:
إِذا سكن الغَديرُ على صَفاءٍ ... فيُشْبه أَن يحرّكه النسيمُ
بَدَتْ فيه السماءُ بلا مِرَاءٍ ... كذلك الشمسُ تبدو والنجومُ
كذلك قلوبُ أَربابِ التَجَلِّى ... يُرى فى صَفْوِهَا اللهُ العظيمُ
ومن علامات المعرفة أَن يَبدو لك الشاهد وتَفْنَى الشَّواهد، وتنجلى العَلائق وتنقطع العَوائق، وتجلس بين يدى الرّب، وتقوم وتضطجع على التأَهب للقائه كما يجلس الذى قد شدّ أَحماله وأَزمع السفر على تأَهب له ويقوم على ذلك ويضطجع عليه.
ومن علامات العارف أَنه لا يطاِلب ولا يخاصِم ولا يعاقب ولا يرى له على أَحد حقًّا، ولا يأْسف على فائت ولا يفرح بآت لأَنه ينظر فى الأَشياءِ الفناءَ والزَّوال، وأَنَّها فى الحقيقة كالظِّلال والخيال. وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفاً حتىَّ يكون كالأَرض يطؤها البَرّ والفاجر، وَكالسّحاب يُظلّ كلّ شىءٍ، وكالمطر يَسقى ما يحِبُّ وما لا يحبّ.(4/53)
وقال يحيى بن مُعاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربّه. وهذا من أَحسن ما قيل، لأَنَّه يدلُّ على معرفته بنفسه وعلى معرفته بربّه وجماله وجلاله، فهو شديد الإِزراءِ على نفسه لِهجٌ بالثناءِ على ربّه.
وقال أَبو يزيد: إِنَّما نالوا المعرفة بتضييع ما لَهُم، والوقوف مع ما لَه. يريد تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله تعالى. وقال آخر: لا يكون العارف عارفاً حتى لو أُعطى مُلْك سليمان لم يشغله عن الله طَرْفة عين. وهذا يحتاج إِلى شرح، فإِنَّ ما هو دون ذلك يشغل القلب، لكن إِذا كان اشتغاله بغير الله لله فذلك اشتغال بالله.
وقال ابن عطاء: المعرفة على ثلاثة أَركان: الهيبة، والحَياءُ، والأُنْس. وقيل: العارف ابن وقته. وهذا من أَحسن الكلام وأَخصَره. فهو مشغول بوظيفة وقته عمّا مضى وصار فى العدم، وعمّا لم يدخل بعد فى الوجود، فهمّه عمارة وقته الذى هو مادّة حياته الباقية. ومن علاماته أَنه مستوحش ممّن يقطعه عنه. ولهذا قيل: العارف من أَنس بالله فأَوحشه من الخَلْق، وافتقر إِلى الله فأَغناه عنهم، وذلَّ لله فأَعزَّه فيهم، وتواضع لله فرفعه بينهم، واستغنى بالله فأَحوجهم إِليه. وقيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول. يعنى أَنَّ العالِم علمُه أَوسع من حاله وصفته، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره. وقال أَبو سليمان الدارانى: إِن الله يفتح للعارف وهو على فراشه ما لا يفتح لغيره وهو قائم يصلىِّ.
وقال ذو النون: لكل شىءٍ عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله(4/54)
وقال بعضهم: رياءُ العارفين أَفضل من إِخلاص المريدين. وهذا كلام ظاهره منكر ومحتاج إِلى شرح؛ فإِن العارف لا يرائى المخلوق طلباً لمنزلة فى قلبه، وإِنما يكون ذلك منه نصيحة وإِرشادا وتعليما، فهو يدعو إِلى الله بَعمله كما يدعو إِلى الله بقوله، وإِخلاصُ المريد مقصور على نفسه.
وقال ذو النون: الزُّهَّاد ملوك الآخرة، وهم فقراءُ العارفين.
وسئل الجُنَيد عن العارف فقال: لون الماءِ لون إِنائِه. وهذه كلمة رمز بها إِلى حقيقة العبوديّة، وهو أَنَّه يتلوّن فى أَقسام العبوديّة، فبينا تراه مصلِّيًا إِذْ رأَيته ذاكراً أَو قارئاً أَو متعلمًا أَو معلِّمًا أَو مجاهدًا أَو حاجّاً أَو مساعدًا للضَّيف أَو معيناً للملهوف، فيضرب فى كلِّ غنيمة بسهم. فهو مع المنتسبين منتسب، ومع المتعلِّمين متعلِّم، ومع الغُزَاة غاز، ومع المصلِّين مصلٍّ، ومع المتصدِّقين متصدّق [و] هكذا ينتقل فى منازل العبوديّة من عبوديّة إِلى عبوديّة، وهو مستقيم على معبود واحد لا ينتقل عنه إِلى غيره.
وقال يحيى بن مُعاذ: العارف كائن بائن. وقد فسّر كلامه على وجوه: منها أَنه كائن مع الخَلْق بظاهره بائن عن / نفسه. ومنها أَنَّه كائِن مع أَبناءِ الآخرة بائِن عن أَبناءِ الدّنيا. ومنها أَنَّه كائن مع الله بموافقته، بائن عن النَّاسِ لمخالفته. ومنها أَنَّه داخل فى الأَشياءِ خارج عنها، يعنى [أَن] المريد لا يقدر على الدّخول فيها والعارف داخل فيها خارج منها.(4/55)
وقال ذو النون رحمه الله: علامة العارف ثلاثة: لا يطفئُ نور معرفته نورَ ورعه، ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقض عليه ظاهرًا من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله على هتك أَستار محارم الله. وهذا أَحسن ما قيل فى المعرفة. وقال: ليس بعارفٍ مَن وصف المعرفة عند أَبناءِ الآخرة فكيف عند أَبناءِ الدّنيا؟ يريد أَنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أَهلها سواءٌ كانوا عُبَّادًا أَو من أَبناءِ الدنيا. وسئل ذو النون عن العارف فقال: كان هاهُنا فذهب. فسئل الجنيد عن معناه فقال: لا يحصرُه حال عن حال، ولا يحجبه منزل عن التنقّل فى المنازل، فهو مع أهل كل منزل (على الَّذِى هم) فيه، يجد مثل الذى يجدون، وينطق بمعالمها ليتبلغوا.
وقال بعض السّلف: نوم العارف يقظة، وأَنفاسه تسبيح، ونومه أَفضل من صلاة الغافل. إِنما كان نومه يقظة لأَنَّ قلبه حىّ فعيناه تنامان وروحه ساجدة تحت العرش بين يَدَىْ ربِّها؛ وإِنَّمَا كان نومه أَفضل من صلاة الغافل لأَنَّ بدنه فى الصلاة واقف وقلبه يَسْبح فى حُشُوش الدنيا والأَمانىِّ.
وقيل: مجالسة العارف تدعوك من ستٍّ إِلى ستّ: من الشك إِلى اليقين، ومن الرياءِ إِلى الإِخلاص، ومن الغفلة إِلى الذكر، ومن الرغبة فى الدنيا إِلى الرغبة فى الآخرة، ومن الكِبْر إِلى التواضع، ومن سوءِ الطوِيّة إِلى النصيحة. وللكلام فى المعرفة تتمة نذكرها فى محلّها فى المقصد المشتمل على علوم الصوفية إِن شاءَ الله.(4/56)
وتعارفوا: عَرَف بعضهم بعضًا. وعرّف: جعل له عَرْفاً أَى ريحاً طيبة. قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} أَى طيَّبَهَا وزيَّنَهَا. وقيل: عّرفها لهم من المعرفة أَى وصفها وشوّقهم إِليها.
وعَرَفَات: موقف الحاجّ فى تاسع ذى الحِجّة ببطن نَعْمان. سميّت لأَن آدم وحوّاءَ تعارفا بها، أَو لقول جبريل عليه السّلام لإِبراهيم عليه السّلام لمّا أَعلمه المناسك: أَعَرَفْتَ، أَو لأَنها مقدّسة معظَّمة كأَنَّها عُرّفت أَى طيِّبت، أَو لأَن النَّاس يتعارفون فيه، أَو لتعرّف العباد إِلى الله تعالى بالعبادات والأَدعية. ويوم عرفة يوم الوقوف. وهو اسم فى لفظ الجمع فلا يجمع. وهى معرفة وإِن كانت جمعاً؛ لأَن الأَماكن لا تزول فصارت كالشىءِ الواحد، مصروفة لأَنَّ التاءَ بمنزلة الياء والواو فى مسلمين ومسلمون، والنسبة إِليه عَرَفىّ.
والمعروف: اسم لكلّ فعل يُعرف بالشرع والعقل حُسنُه. وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} أَى بالاقتصاد والإِحسان. وقوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} أَى رَدّ جميل ودعاءٌ خير من صدقة هكذا.
والعُرْف: المعروف من الإِحسان. وجاءَت القَطَا عُرْفًا أَى متتابعة، قال تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} . والعرّاف: الكاهن، غير أَن العَرَّاف يخصّ بمن يخبر بالأَحوال المستقبلة، والكاهن بالماضية. والعريف مَن يعرف الناس ويعرّفهم، وسيّد القوم. والاعتراف: الإِقرار بالذنب، وأَصله / إِظهار معرفة الذَّنب.(4/57)
بصيرة فى عرى وعرم
عُرَام الجيش: حَدّهم وشدّتهم وكثرتهم، ومن الرّجل: الشراسة والأَذى. عَرَمَ يَعْرُمُ وَيَعْرِم، وعرِم وعَرُم عَرَامة وعُرامًا، فهو عارم وعرِم: اشتدّ؛ والصبىّ علينا: أَشِر ومَرِحَ وَبطِر أَو فسد.
والعَرِمَة: سُدٌّ يُعْتَرَض به الوادى: والجمع عَرِم، أَو هو جمع بلا واحد، أَو هو الأَحباس تُبنى فى الأَودية؛ والجُرَذ الذكر، وبكلّ فُسّر قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} . وقيل: المراد سيل الأَمر العرِم، ونُسب إِلى الجُرذ فى قوله من فسّره به من حيث إِنَّه هو الَّذى ثقب المسنَّاة. والعرِم أَيضاً: المطر الشديد، واسم وَادٍ.
والعَرَمْرَم: الشديد، والجيش الكثير.
العُرْى -بالضمّ-: خلاف اللُبْس. عَرِىَ - كرضى - عُرْيًا وعُرْيةً بضمِّهما، وتعرّى، وهو عارٍ وعُرْيَانٌ من عُرَاة وعُرْيانين. وفرس عُرْىٌ: بلا سرج. ورأَيت عُرْيا تحت عُريان.
وجارية حسنة العُِريْة - بالضمّ والكسر - والمُعَرَّى والمُعَرَّاة أَى، حسنة المُجَرَّد. والمَعَارِى حيث يُرَى كالوجه واليدين والرّجلين.(4/58)
والعَرَاءُ: الفضاءُ الَّذى لا يُستتر فيه بشىءٍ، والجمع أَعراء. قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء} . وأَعرى: سار فيه أَو أَقام.
والعَرَا - بالقصر -: الناحية، والجناب كالعَرَاة.
وأَعراه النخلة: وهبه ثمر عامها. والعَرِيَّة: النخلة المُعرْاة.
والعُرْوة من الدّلو والكوز: المقْبِض، ومن الثَّوب: أخْت زِرّه كالعُرْى والعِرْى. والعُرْوة من الفرج: لحم ظاهرٌ يَدِّق فيأخذ يَمْنة ويَسْرة مع أَسفل البَظْر. والفرج مُعَرّى. والعُرْوة: الجماعة من العِضاه والحَمْض تُرعى فى الجّدْب، والأَسدُ، والنفيس من المال كالفرس الكريم، وحوال البلد.
وقوله تعالى: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} فذلك على سبيل التمثيل، لأَنَّ العُرْوَة ما يُتَعَلَّق به مِن عَرَاه أَى جانبِه.(4/59)
بصيرة فى عزب وعز
العَزَب: الذى لا أَهل له، والأَعزاب جمعه. وهِراوَة الأعزاب: فرس رَيَّان بن خويض، وكانت لا تدرَكُ، تصدّق بها على أَعزاب قومه، فكان العَزَب منهم بغزو عليها فإِذا استفاد مالا وأَهلا دفعها [إِلى] عزب آخر من قومه فضُربت مثلا. وقيل: أَعزُّ من هِراوة الأَعزاب. قال لَبِيد:
لا تسقنى بيديك إِن لم أَلتمس ... نعم الضجوع بغارةٍ أَسراب
تهدى أَوائلَهنَّ كلُّ طِمرَّة ... جرداء مثلِ هراوة الأَعزاب
وامرأَةٌ عَزَبَةٌ وعَزَب أَيضاً:
يا من يدلُّ عَزَبًا على عزب
وقال أَبو حاتم: لا يقال: أَعزب، وأَجازه غيره. وفى الحديث عند مسلم: "وما فى الجَنَّةِ أَعزب".
وقالوا: رجل عَزَبٌ للذى يَعْزُب فى الأرض. وقال: عَزَب يعزُب عن أَهله، وعَزَب عنىِّ يَعْزُبُ ويَعْزِب: بَعُد وغاب. وعَزَب طُهْر المرأَة: إِذا غاب عنها زوجها، قال النابغة الذبيانىّ:(4/60)
شُعَبُ العِلاَفِيَّات تحت فروجهم ... والمحصَنَاتُ عوازبُ الأَطهار
يقول: استبدلوا شُعَب الرِّحالِ يَتورّكونها من غشيان النساءِ فيطهرن، وهم غَيَب فيعزُب طهرهنّ عنهم.
العِزَّة: حالة مانعة للإِنسان من أَن يُغلب، من قولهم: أَرضٌ عَزَاز أَى صُلبة. وتعزَّز اللحمُ: اشتدّ وعزَّ، كأَنَّهُ حصل فى عَزَاز من الأَرض يصعب الوصول إِليه. والعزيز، الذى يَقْهَر ولا يُقْهر. قال تعالى: {هُوَ العزيز الحكيم} ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
والعِزَّة يُمدح بها تارة، ويُذمّ بها تارة كعزِة الكفَّار: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} . ووجه ذلك أَنَّ العزَّة لله ولرسوله هى الدّائمة الباقية، وهى العِزَّة الحقيقية، والعزَّة التى هى للكافر هى التعزُّز وهى فى الحقيقة ذُلّ لأَنه تشبُّع بما لم يُعط، قال تعالى: {لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} أَى ليمتنعوا به من العذاب. وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} معناه: من كان يريد أَن يعِزَّ فإِنَّهُ يحتاج أَن يكتسب من الله [العزَّة] فإِنَّهَا له.
وقد يستعار العزَّة للحميّة والأَنفة المذمومة، وذلك في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} .(4/61)
ويقال: عزَّ علىَّ كذا أَى صعُب. قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} .
وعَزَّه: غلبه، يقال: مَن عَزَّ بَزَّ، أَى من غلب سلب. قال تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} أَى غلبنى أَوصار أَعزَّ منىِّ فى المخاطبة والمحاجّة. وعزَّز المطرُ الأَرضَ: صلَّبهَا.
وعزَّ الشىءُ: قلّ، اعتبارا بما قيل: كلّ موجود مملول، وكلُّ مفقود مطلوب.
والعُزَّى: صنم. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أَى يصعب مِثله ووجود مثله. {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} ، أَى قوّينا. وعُزِّز عليهم أَى شُدِّد عليهم ولم يرخَّص. وأَنا معتز ببنى فلان ومستعِزّ بهم. ويقال: ما العَزُوز كالفَتُوح، ولا الجَرُور كالمَتُوح، أَى الضّيقة الإِحليل كالواسعته، والبعيدة القَعْر كالقريبته.(4/62)
بصيرة فى عزر وعزل وعزم
التعزير من الأَضداد، يستعمل بمعنى التعظيم وبمعنى الإِذلال. يقال: زمانُنا العبدُ فيه مُعَزَّر مُوَقَّر، والحُرُّ فيه مُعَزَّر موقَّر. الأَوَّل بمعنى المنصور المعظَّم، والثانى بمعنى المضروب المهزَّم. قال الله تعالى: {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} .
والتعزير دون الحَدِّ، وذلك يرجع إِلى الأَوَّل، لأَنَّ ذلك تأْديب والتأْديب نُصْرة بقهر مّا.
العَزْل: التنحية. عزله يعزِله، وعزَّله فاعتزل وانعزل، وتعزَّل: نحّاه جانبا فتنَحَّى، قال تعالى: {وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} ، وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} أَى ممنوعون بعد أَن كانوا يُمَكَّنُونَ. وعَزَلَ عن المرأَة واعتزلها لم: يُرد ولدها. وتعازلوا: انعزل بعضُهم عن بعض. والعُزْلة: الاعتزال. والأَعزل: من لا سلاح معه، والرّمل المنفرد، ومن الدّواب: المائل الذَنَبِ عادة. والعَزْلاءُ: الاست، ومَصبّ الماءِ من الرَّاوية.
عَزَم على الأَمر: عقد قلبَه على إِمضائِهِ، يَعْزِم عَزْمًا وعُزْمًا - بالضَّم - وَمَعْزَمًا ومَعْزِمًا وَعُزْمانًا وعَزِيماً وعَزِيمة. وعَزَمه واعْتَزَمَهُ واعتزم عليه وتعزَّم: أَراد فعله وقَطع عليه، أَوجدّ فى الأَمر. وعَزَم الأَمْرُ نفسُه: عُزِمَ عَليه،(4/63)
وعلى الرّجل: أَقسم عليه. قال الله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} وقال: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} ، وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} .
وأُولو العَزْمِ منَ الرّسل: الذين عَزَموا على أَمْر الله فيما عهد إِليهم. وقيل هم: نوح، وإِبراهيم، وموسى، ومحمد.
الزمخشرى: أُولو العزم منهم أُولو الجِدّ والثبات والصبر، وقيل هم: نوح، وإِبراهيم، وإِسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأَيّوب، وموسى، وداود، وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم.
وعَزَم الراقى: قرأَ العزائم أَى الرُّقَى، أَو هى آيات من القرآن تُقرأُ على ذوى الآفات رجاء البُرء. وعَزْمة من عزمات الله: حق من حقوقه أَى واجب / ممّا أَوجبه. وعزائم الله: فرائضه التى فرضها.(4/64)
بصيرة فى عزه وعسر وعس (وعسل)
العِزَة كعِدة: العُصْبة من النَّاس، والجمع عِزُون كثُبة وثِبُون. [وعَزَاه إِلى أَبيه: نسبه إِليه] . وعزَا هو إِليه وله، واعتزى وتعزّى: انتسب، صدقاً أَو كذباً.
والعُسْر ضدّ اليُسْر. والعُسْرة: تعسُّر وجودِ المال، قَال تعالَى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} .
والعَسّ: الطلب فى خُِفية. وبات يَعُسّ أَى ينفُض اللَّيل عن أَهْل الرِّيبة، وهو عاسّ مِن عَسَسٍ. ويعتسُّ للآثار أَى يقُصّها.
وعسعس الليلُ: اعتكرت ظلماؤهُ، وقوله تعالى: {والليل إِذَا عَسْعَسَ} قيل: أَى أَقبل وأَدْبَر، وذلك فى مبدإِ اللَّيل ومُنتهاه.
والعَسَل: لُعاب النَحْل، وله نيّف وخمسون اسما. ومن المستعار: العُسَيلتان للعضوين لكونهما مظِنَّتى الالتذاذ. وعَسَلتهم وعَسَّلتهم: أَطعمتهم العَسَل. وهو معسول الكلام والمواعيد: حُلْوهُ صادِقهُ. وفى الحديث: "إِذا أَراد الله بعبد خيراً عسله" أَى وفَّقه للعمل الطيب.(4/65)
بصيرة فى عسى وعشر
وعسى، قيل: فعل مطلقا، وقيل: حرف مطلقا، للترجى فى المحبوب، وللإشفاق فى المكروه. واجتمعا فى قوله تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} ، ويكون للشك، ولليقين. وقد يشبّه بكاد. وهو من الله تعالى إِيجاب، وبمنزلة كان فى المَثَل السائرِ: عَسَى الغُوَير أَبْؤُسا.
قوله تعالى: {هل عَسَيْتم} أَى هل أَنتم قريب من الفِرار. وبالْعَسَى أَن تفعل: بالحَرَى. و {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} أَى كونوا راجين فى ذلك.
العشَرَة والعَشْر والعِشرون معروفة. وعشَرتهم: أَخذت واحدا فصاروا تسعة. وعشَّرتهم تعشيرا: كانوا تسعة فجعلتهم عشرة. وهو لا يعشر فلاناً ظَرْفاً أَى لا يبلغ مِعشاره أَى عُشْره. والعُشَارِىّ: ما طُوله عشرة أَذرع من الثياب. وضرب فى أَعشاره، ولم يرض بمعشاره، أَى أَخذه كلّه.(4/66)
وهو عَشِيرك، أَى معاشرك. والعَشِيرة: أَهل الرجل الذين يتكثَّر بهم، أَى يصيرون له بمنزلة العَدَد الكامل، وذلك أَنَّ العشرة هو العدد الكامل. وعاشرته: صرت له كعشيرة فى المظاهرة، ومنه قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف}
ورد فى التنزيل العَشَرة وما يُشتقّ منها على وجوه مختلفة:
كما فى مناسك الحجّ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} .
وفى عِدَّة الوفاةِ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} .
وفى كفَّارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
وفى جزاءِ الإِحسان: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} .
وفى الميقات المُوسَوِىّ: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} .
وفى باب الحرب والغُزَاة: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} .
وفى التحدّى بالقرآن: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} .
وفى الحكاية عن قول الكفَّار فى القيامة: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} .
وفى قصّة موسى وشُعَيْب وقوله له: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} .
وفى الأَيَّام من ذى الحِجَّة ولياليها: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} .
وفى إِخوة يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} .(4/67)
وفى عدد الشهور: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} .
وفى نُقَبَاءِ بنى إِسرائِيل: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} .
وفى الأَسباط الَّذين كان كلّ واحد منهم أُمَّة على حِدَة: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} .
وفى عدد أَنهار بنى إِسرائيل لإِظهار المعجزة: {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} .
وفى عدد الموكَّلين بالعقوبات: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} .(4/68)
بصيرة فى عشى
العَشِىّ والعَشِيّة: آخر النَّهار، وقيل: من زوال الشمس إِلى الصَّباح، والجمع عَشَايَا وعشِيَّات. والعِشاءَان: المغرب والعِشاءُ الآخرة. ولقيته عُشَيْشَةً وعُشَيْشَانا وعُشَيّاناً وعُشَيْشِيَةً وعُشَيْشِيَاتٍ وعُشَيْشِيَاناتٍ.
والعِشْى - بالكسر - والعشاءُ - كسماءٍ -: طعام العَشِىّ. والجمع أَعشية. وعَشِىَ وهو عَشْيَانُ. ومُتَعَشٍّ. وعَشَاهُ عَشْوا وعَشْيا، وعشَّاه وأَعشاه: أَطعمه إِيّاه.
والعشا - مقصورة -: سوءُ البصر بالليل والنهار كالعَشَاوة؛ وقيل: العمى. عشا يَعْشو كدعا يدعو، و [عشِى يَعْشَى] كرضى يرضى، وهو عَشٍ وأَعْشى، وهى عَشْواء، قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمان} .
والعُِشوة - بالضمّ والكسر -: النار الَّتى تُرى فى الليل من بُعد. وقد عَشَاهَا وعشا إِليها عَشْوًا وعُشُوَّا، واعتشاها: رآها فقصدها مستضيئاً.(4/69)
بصيرة فى عصب
العَصْب: الطىّ الشديد. والمعصوب: الشديد اكتناز اللَّحم. ورجل معصوبُ الخَلْقِ، وجارية معصوبة: حسنة العَصْب مجدولة الخَلْق، ومنه قوله تعالى: {يَوْمٌ عَصِيبٌ} أَى شديد جِدًّا. ويصحّ أَن يكون بمعنى فاعل، وأَن يكون بمعنى مفعول أَى يوم مجموع الأَطراف. وعَصَبة الرّجل: بنوه وقرابته لأَبيه؛ لأَنهم عَصَبوا به أَى أَحاطوا. فالأَب طَرَف والابن طرف، والعمّ جانب والأَخ جانب، والجمع العَصَبَاتِ.
والعِصَابة: الجماعة من الناس والخيل والطير لا واحد لها.
العُصْبة: جماعة متعصّبة متعاضدة، قال الله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أَى مجتمعة الكلامِ متعاضِدَة. والعُصْبة - بالضمّ أَيضاً، وبالفتح عن أَبى عمرو -: نبات يتلوّى على الشجرة، وهو اللَّبْلاَب؛ والنُّشْبة من الرّجال الَّذى إِذا عَبِثَ بشىءٍ لم يكد يفارقه. وقال أَبو الجرّاح: العُصْبة: هَنَة تلتفّ على القَتَادة لا تُنزع منها إِلاَّ بعد جهد، وأَنشد:
تلبّس حُبُّهَا بدمى ولحمى ... تلبُّسَ عُصْبةٍ بفروع ضال
وعَصَّب رأسه بالعِصَابة تعصيباً. ثمّ جُعل التعصيب كناية عن التسويد لأَنَّ العمائم تيجان العرب. وقيل للسيّد: المعمّمُ والمعصّبُ والمتوَّج.
اعْصَوْصت القومُ: اجتمعوا، واليومُ: اشتدّ.(4/70)
بصيرة فى عصر
العَصْر: الدَّهر، والجمع عصور وأَعصار، ومصدر عصرت الثوب والعِنَب ونحوه. والعَصِير: المعصور. والعُصَارة: نفايته. وقوله تعالى {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} أَى السّحائب الَّتى تَعتصر بالمطر أَى تَغَصّ به. وقيل: السّحائب الآتية بالإِعصار أَى الريّح المثيرة للغبار.
وقد ورد العصر فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى العَصْر الذى هو مصدر عَصَر العنب ونحوه، قال تعالى: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} .
الثانى: بمعنى النجاة من القحط: {يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أَى يَنجون من القحط.
الثَّالث: بمعنى الدّهر أَو صلاة العصر: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} .
والعَصْرَان: صلاة الغداة والعشىّ. وقيل: اللَّيل والنهار كالقمرين للشمس والقمر. والعُصْرة: الملجأ.(4/71)
بصيرة فى عصف وعصم
العَصْف: بَقْل الزَّرعِ. قال تعالى: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} أَى كزَرْع أُكِل حبّه وبقى تِبنه، أَو كورق / أُخِذ ما كان فيه وبقى هو بلا حب، أَو كورق أَكلته البهائم. وعَصَفَه: جزَّه قبل أَن يُدرِك. والعُصَافة: ما يسقط من السُّنبل من التبن. والعَصِيفة: الورَق المجتمِع الذى فيه السنبل. وعَصَفت الريحُ تعصِف عَصْفاً وعُصُوفًا: اشتدَّت فهى عاصِفة وعاصف وعَصُوف. و {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} ، أَى تعصِف فيه الرّيحُ، فاعل بمعنى مفعول.
عَصَم يَعْصِم: اكتسب، ومنع، ووقَى، وإِليه: اعتصم به. وقوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} أَى لا شىء يَعصم منه. ومن قال معناه لا معصوم فليس يعنى أَنَّ العاصم بمعنى المعصوم، وإِنما ذلك تنبيه على المعنى المقصود بذلك، وذلك أَنَّ العاصم والمعصوم متلازمان، فأَيُّهما حصل حصل الآخر معه.
والاعتصام: التمسّك بالشىءِ قال تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} ، وقال: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أَى من يمتنع بلطفه من المعاصى. واستعصم: استمسك كأَنه طلب ما يعتصم به من ركوب الفاحشة. وقوله: {فاستعصم} أَى تَحَرَّى ما يَعْصِمه.(4/72)
وعِصمة الأَنبياءِ: حِفْظ الله تعالى إِيّاهم بما خصّهم به من صفاءِ الجوهر، ثم بما أَولاهم من الفضائل النفسيّة والجسميّة، ثمّ بالنُصْرة وتثبيتِ أَقدامهم، ثم بإِنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم، وبالتوفيق.
والعِصْمة والعُصْمة - بالكسر والضمّ -: القِلادة والسِّوَار، والجمع: عِصَم، وجمع الجمع: أَعْصُم وعِصَمة. وجمعُ جمعِ الجمعِ: أَعصام.
والمِعْصَم: اليد، وموضع السِّوار.
والعِصَام: حبل يُشدّ [به] الدّلو والقِرْبة والإِدَاوة والمَحْمل، ومن الوعاءِ: عُرْوته التى يُعَلَّق بها. والجمع: أَعصمةٌ وعُصُم.(4/73)
بصيرة فى عصو وعض
العَصَا: العُود، مؤَنَّثة، قال تعالى: {هِيَ عَصَايَ} ، والجمع: أَعْصٍ وأَعصاه وعُصِىّ وعِصِىّ. وعصاهُ: ضربه بها. وعَصِى بها - كرضى -: أَخذها، وبسيفه: أَخذه أَخْذَها. وقيل يقال: عَصَوت بالسّيف وعَصِيت بالعصا، وقيل بالعكس، وقيل كلاهما فى كليهما.
والعِصْيَان: خلاف الطَّاعة. عصاه يَعْصيه عَصْيًا ومَعْصِية، وعاصاه، فهو عاصٍ وعَصِىٌّ.
والعَضّ: الإِمساك بالأَسنان، عَضِضته وعَضَضت عليه - بالكسر وَالفتح - عَضًّا وعضيضًا. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} عبارة عن شدّة الندم؛ لِمَا جرى من عادة النَّاس أَن يفعلوه عند ذلك. والعَضُوض: ما يُعَضّ عليه ويؤْكل كالعَضَاضِ، والقوس لصِق وَتَرُها بكبِدها، والمرأَة الضيّقة، والداهية، والزمن الشديد، والكَلِبُ، ومُلْك فيه عَسْف وظلم، والبئر البعيدة القعر، والجمع: عُضُض وعِضَاض.
والتَعْضُوض: تَمْرٌ أَسود عَلِكٌ.(4/74)
بصيرة فى عضد وعضل
العَضُد: ما بين المرفق إِلى الكتف. وفيها خمس لغات: عَضُدٌ، وعَضِد كحذُر وحَذِر، وعَضْد وعُضْد مثال ضَعْف وضُعْف، وعُضُد بضمّتين.
وقرأَ قوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} بالفتح الأَعرج وأَحمد بن موسى عن أَبى عمرو. وهى لغة تميم وبكر. وقرأَ بالضمّ أَبو حَيْوة. وقرأَ الحسن والأَعرج وابن عامر وأَبو عمرو (عُضُدًا) بضمَّتين / وهى لغة بنى أَسَد. وقوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} أَى أَنصارا، يقال: وهو عَضُدى وهم عَضُدى وأَعضادى، قال مسلم بن عبد الله.
مَنْ يَكُ ذا عَضد يُدْرِك ظُلامَته ... إِنّ الذليل الذى ليست له عَضدُ
وفَّت فلان فى عَضد فلان أَى كسَر من نِيَّات أَعوانه وفرّقهم عنه، و (فى) بمعنى (من) كقول امرئ القيس:
وهل ينْعَمَنْ من كان آخر عهده ... ثلاثين شهرا فى ثلاثة أَحوال
أَى من ثلاثة أَحوال. وقوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} لفظ العضد على سبيل المَثَل.
والمِعْضَد: ما يُعضد به الشجر، والدُمْلُج.(4/75)
والعَضِد والعضِيد: مَن يشتكى عَضُدَه. والعَضَد محرّكة: داء فى أَعضاد الإِبل. ويَدٌ عَضِدة: قصيرة العَضُد.
وعِضَادتا الباب: خشبتاه من جانبيه. والعضَاد: سِمَة فى العَضُد. ورجل عُِضَادىّ مثلثة: عظيم العَضُد.
والعَضَلة والعَضِيلة: كلّ عَصَبة معها لحم غليظ. ورجل عَضِل وعَضُل: كثير العَضَل.
وعَضَل المرأَة يَعْضُلها ويَعْضِلها عَضْلا وعِضْلا وعِضْلانا وعضَّلها تعضيلا: منعها الزَّواج ظلماً. وقوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب للأَزواج، وقيل: للأَولياءِ.(4/76)
بصيرة فى عضو وعطف
العُضْو والعِضْو - بالضمّ والكسر -: كلّ لحم وافر بعظمه. والعَضْو - بالفتح - والتعْضِية: التجزئة والتفريق. والعِضَة - كعدة -: الفرقة والقطعة. والجمع عِضُون، قال الله تعالى: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} أَى متفرّقة، فقالوا تارة: كِهانة، وقالوا: إِفْك مفترًى، وقالوا: أَساطير الأَوّلين، ونحو ذلك ممّا وصفوه به. وقيل: معنى (عِضِين) ما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، خلاف من قال فيه: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} . ويروى: لا تَعْضِيَةَ فى ميراث، أَى لا يُفرّق ما يكون تفريقه ضررا على الوَرَثة، كسيف يكسر نصفين ونحوه.
والعَطْف: المَيْل. وعِطْفا كلّ شىءٍ - بالكسر -: جانباه. وتَنَحَّ عن عَِطْف الطَّريق أَى قارعته. وهو ينظر فى عِطْفَيِه، أَى معجَب. وجاءَ ثانى عِطْفِهِ، أَى رخّى البال، أَو لاوِيا عُنقه أَوْ متكبّرا مُعرضًا. وعَطَف عليه وتعطَّف: أَشفق. والعِطَاف والمِعطَفُ: الرّداءُ والسيّف. وانعطف: انثنَى. وتعاطفوا: عطف بعضهم على بعض. وامرأَة عَطِيفٌ: ليّنة مطواع لا كِبْر لَهَا.(4/77)
بصيرة فى عطل وعطو وعظم
عَطِلَت المرأَة - كفرحت - عَطَلاً وعُطُولا وتعطَّلت: إِذا لم يكن عليها حَلْى، فهى عاطِل وعُطُل من عَواطل وعُطَّل وأَعطال، فإِذا كانت عادتُها [ذلك] فمِعْطال. ومَعَاطلها: مواقع حَلْيها. والأَعطال من الخيل والإِبل: الَّتى لا قلائد عليها ولا أَرسان لها، والتى لاسمة عليها، والرِّجال لا سلاح معهم، واحدة الكلّ عُطُل. والعَطَل - محركة -: الشخص، والجمع: أَعطال. وعطَّله من الحَلْى والعمل تعطيلا: فرَّغه وتركه ضَيَاعًا، قال تعالى: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} .
والعَطْو: التَّناول، ورفع الرّأس واليدين. وظبىٌ عَِطْو مثلَّثة، وعَطُوّ كعدوّ: يتطاول إِلى الشجر ليتناول منه. والعطا - بالقصر وبالمدّ - والعطيَّة: ما يُعطَى. والجمع أَعْطِية جمع الجمع: أَعطيات / والإِعطاءُ: المناولة قال تعالى: {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} . ورجل وامرأَة مِعْطاء: كثير العطاءِ. والجمع مَعَاطٍ ومَعَاطِىّ. والتَّعاطِى: التناول، وتناول ما لا يَحِقُّ، والتنازع فى الأَخذ، والقيام على أَطراف أَصابع الرِّجلين مع رفع اليدين(4/78)
إِلى الشىءِ، ومنه قوله تعالى: {فتعاطى فَعَقَرَ} . والتعاطى أَيضاً: ركوب الأَمر كالتعطِّى. وقيل: التعطِّى فى القبيح، والتعَاطى فى الرفعة.
العِظَم: ضدّ الصِّغر، عَظُمَ - كصَغُرَ - عِظمًا وعَظَامة، فهو عظيم وعُظَام وعُظَّام. وأَعظمه وعظَّمه فخَّمه وكبَّره. واستعظمه وأَعظمه: رآه عظيما. وتعاظَمه: عظم عليه. والعَظَمة والعَظَمُوت: الكِبْر والنَّخْوة والزَهْو. وأَمَّا عَظَمة الله فلا يوصف بها غيره. فمتى وصف بها عبد فهو ذمّ. والعظيمة: النَّازلة الشديدة.
والعَظْم: قَصَب الحيوان الذى عليه اللحم، والجمع: أَعْظُم وعِظَام وعِظامة. الهاء لتأنيث الجمع.(4/79)
بصيرة فى عف وعفر وعفو
عفَّ عن الحرام عَفَّا وعَفَافًا وعَفَافةً - بفتحهنَّ - وعِفَّة - بالكسر - فهو عَفّ وعفيف: كفَّ عنه، كاستعفَّ. والجمع: أَعِفَّاءُ. وهى عَفَّة وعفيفة والجمع: عفائفُ وعفيفات. وتعفَّف: تكلّفها. وأَعفّه الله.
العِفْرِيت من الجنّ: العارِم الخبيث. ويستعمل فى الإِنسان استعارةَ الشيطان له. يقال: عفريت نِفريت. إِتباعاً.
والعِفْرِيَة: المُوثَّق الخَلْق. وأَصله من العَفَر وهو التراب.
والعَفْو: عَفْو الله عن خَلْقه، والصفح، وترك عقوبة المستحِقّ. عفا عنه ذنبَهُ، وعفا له ذنبه، وعفا عن ذنبه.
والعَفْو: المَحْو والامِّحاء، وأَحَلُّ المال وأَطيبه، وخِيار الشىءِ وأَجوده، والفضل، والمعروف، ومن الماءِ: ما فضل عن الشاربة، ومن البلاد: ما لا أَثر لأَحَدٍ فيها.(4/80)
بصيرة فى عقب
عاقِبة كلّ شىءٍ: آخره. وقولهم: ليس لفلان عاقبة، أَى ولد. والعاقبة أَيضاً: مصدر عَقَب فلان مكان أَبيه عاقِبة، أَى خَلَفه، وهو اسم جاءَ بمعنى المصدر كقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} .
وعَقِبُ الرّجل وعَقْبه: وَلَدُه وولد ولده. وقوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أَى جعل كلمة التوحيد باقية فى ولده.
والعُقْب والعُقُب - بضمَّة وبضمّتين: العاقبة. قال الله تعالى: {خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} . وتقول أَيضاً: جئت فى عُقْب شهر رمضان، وفى عُقْبانه: إِذا جئت بعد ما يمضى كلَّه.
ويعقوب: اسم النبىّ، لا ينصرف للعُجْمة والتعريف، واسمه إِسرائيل. وقيل له يعقوب، لأَنه وُلد مع عِيصُو فى بَطْن واحِد. وُلِدَ عيصو قبله ويعقوب متعلِّق بعقِبه، خرجا معاً، فعيصو أَبو الروم، قاله الليث.
والعُقْبىَ: جزاءُ الأَمر. وقوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} أَى لا يخاف أَن يعقِّب على عقوبته من يدفعها، أَى يغيّرها. وقيل: لم يَخَف القاتلُ عاقبتها، والقاتل هو عاقرها قُدَار بن سالف. وأَعقبه بطاعته أَى جازاه. وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً} أَى أَضلَّهُمْ بسوءِ فعلهم عقوبةً لهم.
والمعقِّبات: ملائكة اللَّيل والنهار لأَنَّهم يتعاقبون. وإِنَّما أُنِّث لكثرة(4/81)
ذلك منهم نحو نسَّابَة وعلاَّمة. وقيل: مَلَك معقِّب وملائكة معقِّبة ثمّ معقِّباتٌ / جمع الجمع. وقوله تعالى: {ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} ، أَى لم يعطف، وقيل: لم يرجع، وقيل: لم يمكث ولم ينتظر. وحقيقته لم يُعقّب إِقباله إِدباراً (إِقبالاً) والتفاتًا، ولذلك قيل: تعقيبة خير من غَزَاة.
وعاقبت الرّجل فى الراحلة: إِذا ركبتَ أَنت مرّة وهو مرّة. وقوله: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ} أَى أَصبتموهم فى القتال بعقوبة حتىَّ غنمتم. وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} سمّى الأَوّل عقوبة، وما العقوبة إِلاَّ الثانية لازدواج الكلام فى الفعل بمعنى واحد، ومثله قوله تعالى: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} ، وكذلك قوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} والمجازاة عليها حَسَنة، إِلاَّ أَنَّها سميّت سيّئة لأَنها وقعت إِساءَة بالمفعول به، لأَنَّه فِعْل ما يسوءُه. والعقوبة والمعاقبة والعِقاب يُخصّ بالعذاب، قال تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ} .
والعَقِب: مؤَخَّر الرِّجْل. ورجع على عقبه: انْثَنَى راجعًا، قال تعالى: {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} .(4/82)
بصيرة فى عقد وعقر
عَقَدْتُ الحبلَ والبَيع والعهد. وقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} قال ابن عرفة: العَقْد: الضمان. والعقود ثلاثة أَصناف: عَقْدٌ عَقَده الله تعالى على خَلْقِه من حرام أَو حلال أَو ميقات لفريضة، وعقدٌ لهم أَن يعقدوه إِن شاءُوا كالبِياع والنكاح وما سوى ذلك، وعقود النَّاس التى تجب لبعضهم على بعض. قال: فالعَقْد يقع مقامَ العهد. والمَعَاقد: مواضع العَقْد. وعَقَدت يمينُه وعَقَّدته، قال تعالى: {عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقرئ (عَقَدَتْ) وقال: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} وقرئ (عَقَّدْتُمُ) بالتَّشديد.
واعتقد الشىءُ: اشتدّ وصَلُب. واعتقد كذا بقلبه. وفى لسانه عُقْدة، أَى حُبْسة. وتحلَّلتْ عُقَده، أَى سكن غضبُه.
وقوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} أَى السّواحر اللاَّتى ينفُثن فى العُقَد، أَى يتِفُلْن بلا ريق كما يتفُل الراقى.
والعُقْدة أَيضاً: الضَيعَة والعَقَار الذى اعتقده صاحبه مِلْكا. والعُقْدة: البَيْعة المعقودة لهم. والعُقْدة: المكان الكثير الشجر أَو النخل.(4/83)
عُقْر الدار والحوض وغيرهما: أَصله. وأَصبت عُقْره: أَصله. وعقرتُ النخلَ: قطعته من أَصله، والبعيرَ: نحرته، وظهرَ البعير فانعقر قال تعالى: {فَعَقَرُوهَا} ، ومنه استعير سَرْجٌ مِعْقَر. وكلب عَقُور، ورجل عاقر. وامرأَة عاقر.(4/84)
بصيرة فى عقل
العَقل: ضدّ الحُمْق كالمعقول، والجمع: عُقُول. عَقَل يَعْقِل وعَقَّل فهو عاقل، والجمع: عُقَلاء. وعَقَل الدّواءُ البطنَ يَعْقِله ويَعْقُله: أَمسكه. وعقل الشىءَ: فهِمه. وله قلبٌ عَقُول. وعقل البعيرَ: شدّ وَظيفه إِلى ذراعيه، كعقَّله واعتقله، والقتيلَ: وَداه، وعنه: أَدَّى دِية جنايته، وإِليه عَقْلا وعُقُولا: لجأَ.
وسُمِّى العقل عقلا لأَنه يَعقل صاحبَه عمّا لا يَحْسُن. وهو القوّة المتهيّئة لقبول العلم. ويقال للعلم الَّذى يستفيدهُ الإِنسان بتلك القوّة العقل أَيضاً؛ ولهذا قيل: (العقل عقلان، فمطبوع ومسموع، ولا ينفع مسموع إِذا لم يك مطبوع، كما لا تنفع الشمّس وضوءُ العين ممنوع) / وإِلى الأَوّل يشير ما روى فى بعض الآثار: ما خلق الله خَلْقًا أَكرم عليه من العقل. وكذا: أَوّلُ ما خلق الله العقلُ. وإِلى الثانى يشير ما رُوى: ما كَسَب أَحد شيئاً أَفضل من عقل يهديه إِلى هُدًى، أَو يردّه عن رَدًى. وهذا العقل هو المعنىّ بقوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} . وكلّ موضع ذمّ الله الكفار بعدم العقل فإِشارة إِلى الثانى، وكلّ موضع رفع التكليف عن العبد فإِشارة إِلى الأَوّل.(4/85)
بصيرة فى عقم وعكف وعلق
العُقْم: هَزْمة تقع فى الرّحِم فلا تقبل الولد. وقد عَِقُمت - بكسر القاف وضمِّها - وعُقِمت - بضم العين - عَقَمًا وعَقْمًا وعُقْما، وعَقَمَهَا الله يَعْقِمُها وأَعقمها. ورحم عَقِيم وعَقيمة: معقومة، والجمع: عقائمُ وعُقْمٌ. وامرأَة عَقِيم ورجل عَقِيم وعَقَامٌ: لا يولد له. والجمع عُقماءُ وعِقَام وعَقْمَى. والمُلْك عَقِيم: لا ينفع فيه نسب لأَنه يُقتل فى طلبه الأَب والأَخ والعمّ والولد.
وعند ارتياد المُلْك لا يُعْرف الأَخُ
وريح عَقِيم: يصحّ أَن يكون بمعنى الفاعل وهى الَّتى لا تُلقِح سحابًا ولا شجرًا، ويصح أَن يكون بمعنى المفعول كالعجوز العقيم، وهى التى لا تقبل أَثر الخير. ويوم عقيم: لا خير فيه ولا فرج.
وحرب عَقِم وعُقَام وعَقَام: شديدة.
العُكوف على الشىءِ: الإِقبال عليه مواظِباً. وعَكَفَه يَعْكُفه ويَعْكِفُهُ عَكْفًا: حبسه، والقومُ حوله: استداروا. وقوم عُكُوف: عاكفون. وقوله تعالى: {والهدي مَعْكُوفاً} أَى محبوسًا ممنوعاً.
العَلَق محرّكة: الدم الغليظ، وقيل: الدّم الجامد. القطعة منه عَلَقة،(4/86)
قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} . والعَلَق أيضًا: دُوَيْبَّة تتعلَّق بالحَلْق تَمُصّ الدّم.
والعَلَق أَيضًا والعُلْقة والعَلاق والعَلاَقة: ما تتبلَّغ به الماشية من الشجر. والعَلَق: معظم الطَّريق، والَّذى تتعلَّق به البَكْرة، والهَوَى، وقد عَلِقه وعلِق به عُلُوقًا: هَوِيَه.
والعِلْق - بالكسر والفتح -: النفيس من كلّ شىءٍ، والجمع: أَعلاق وعُلُوق.
والعَوْلق: الغُول، والذئب، والذَنَب.
وتعلَّق الشىء وبه بمعنىً كاعتلق. وليس المتعلِّق كالمتأَنِّق، أَى ليس مَن يقنع باليسير والعُلْقةِ كمَن يتأَنَّق ويأْكل ما يشاءُ.(4/87)
بصيرة فى علم
عَلِمه يَعْلَمه عِلْمًا: عَرَفَهُ حَقَّ المعرفة. وعَلم هو فى نفسه. ورجل عالِم وعَلِيم من عُلَمَاء. وعلَّمه العِلم وأَعلمه إِيّاه فتعلّمه. والعَلاَّم والعلاَّمة والعُلاَّم: العالِم جِدًّا. وكذلك التِّعْلِمَة والتِعْلامة.
والعِلم ضربان: إِدراك ذات الشَّىءِ، والثانى الحكم على الشىءِ بوجود شىءٍ هو موجود له، أَو نفى شىءٍ هو منفىّ عنه. فالأَوّل هو المتعدّى إِلى مفعول واحد، قال تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} ، والثَّانى: المتعدّى إِلى مفعولين، نحو قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} . وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ} ، إِشارة إِلى أَن عقولهم قد طاشت.
والعلم من وجهٍ ضربان: نظرىّ وعملىّ. فالنظرىّ: ما إِذا عُلم فقد كمل، نحو العلم بموجودات العالَم، والعملىّ: ما لا يتم إِلاَّ بأَن يُعمل، كالعلم بالعبادات.
ومن وجهٍ آخر ضربان: عَقْلىّ وسمعىّ.
والعلم منزلة / من منازل السّالكين، إِن لم يصحبه السّالك من أَوّل قَدَم(4/88)
يضعه، إِلى آخر قدم ينتهى إِليه يكون سلوكه على غير طريق موصِّل، وهو مقطوع عليه ومسدود عليه سُبُل الهدى والفلاح، وهذا إِجماع من السادة العارفين. ولم ينه عن العلم إِلاَّ قُطَّاع الطَّريق ونُوَّاب إِبليس.
قال سيّد الطَّائفة وإِمامهم الجُنَيد - رحمه الله -: الطُّرُق كلُّها مسْدودة على الخَلْق إِلاَّ من اقتفَى أَثَر رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وقال: منْ لَمْ يحفظ القرآنَ ولم يكتب الحديث لا يُقتدَى به فى هذَا الأَمر؛ لأَن عِلمنا مقيّد بالكتاب والسنَّة. وقال أَبو حفص: من لم يزِن أَفعاله وأَقواله فى كلّ وقت بالكتاب والسنَّة ولم يتَّهم خواطره لا يعدّ فى ديوان الرِّجال. وقال أَبو سليمان الدّارانى: ربَّمَا يقعُ فى قلبى النُكْتة من نُكَت القوم أَيّامًا فلا أَقبل منه إِلاَّ بشاهدين عدلين: الكتاب والسنَّة. وقال السّرىُّ: التصوّف اسم لثلاثة معان: لا يطفىءُ نورُ معرفته نورَ ورعه. ولا يتكلَّم فى باطن علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات على هتك أَستار محارم الله. وقال الجنيد: لقد هممت مرة أَن أَسأَل الله تعالى أَن يكفينى مُؤنة النِّساءِ، ثم قلت: كيف يجوز أَن أَسأَل هذا ولم يسأَله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أَسأَله، ثمّ إِنَّ اللهَ تعالى كفانى مُؤنة النساءِ حتى لا أُبالى أستقبلتنى امرأَة أَو حائط. وقال: لو نظرتم إِلى رجل أُعطى من الكرامات أَن تربَّع فى الهواءِ فلا تغترُّوا به حتىَّ تنظروا(4/89)
كيف تجدونه عند الأَمر والنهى وحفظ الحدود وآداب الشريعة. وقال النُّورىّ أَبو الحسين: من رأَيتموه يدّعى مع الله حالةً تُخرجه عن حدّ العلم الشرعىّ فلا تقربُوه. وقال النصر أَبادى: أَفضل التصوف ملازمة الكتاب والسنَّة، وترك الأَهواء والبِدَع، وتعظيم كرامات المشايخ، ورؤْية أَعذار الخَلْق، والمداومة على الأَورَاد، وترك ارتكاب الرُّخَص والتأْويلات.
والكلمات الَّتى تُروى عن بعضهم فى التزهيد فى العلم فمن أَنفاس الشيطان، كمن قال: نحن نأْخذ علمنا من الحىّ الَّذى لا يموت، وأَنتم تأخذونه من حَىّ يموت. وقال آخر: العلم حجاب بين القلب وبين الله. وقال آخر: إِذا رأَيت الصّوفىَّ يشتغل بحدّثنا وأَخبرنا فاغسِل يدك منه. وقال آخر: لنا علم الحروف ولكم علم الورق. وقيل: لبعضهم: أَلا ترْحل حتى تسمعَ من عبد الرزَّاق فقال: ما يصنع بالسمّاع من عبد الرزَّاق مَن يسمع من الخلاَّق؟! وأَحسن أَحوال قائل مثل هذه أَن يكون جاهلاً يُعذر بجهله، أَو والها شاطحا مصرفاً بسخطه، وإِلاَّ فلولا عبد الرزَّاق وأَمثاله من حفَّاظ السنة لما وصل إِلى هذا وأَمثاله شىء من الإِسلام، ومن فارق الدليل ضلَّ عن السّبيل. ولا دليل إِلى الله والجنَّة إِلاَّ الكتاب والسنة.
والعلم خير من الحال. الحال محكوم عليه والعلم حاكم، والعلم هادٍ والحال تابع. الحال سيف فإِن لم يصحبه علم فهو مِخْراق لاعب. الحال مركوب لا يجارَى، فإِن لم يصحبه علم أَلقى صاحبه فى المتالف(4/90)
والمهالك. دائرة العلم تسع الدّنيا والآخرة، ودائرة الحال ربَّما تضيق عن صاحبه. العلم هادٍ والحال الصّحيح مهتدٍ به. فهو تركة الأَنبياء / وتُراثهم.، وأَهله عَصَبتهم ووُرّاثهم، وهو حياة القلب، ونور البصائر، وشفاءُ الصّدور، ورياض العقول، ولذَّة الأَرواح، وأُنْس المستوحِشين، ودليل المتحيّرين. وهو الميزان الَّذى يوزن به الأَقوال والأَفعال والأَحوال. وهو الحاكم المفرِّق بين الشَّك واليقين، والغَىّ والرّشاد، والهُدَى والضلال، به يعرف الله ويعبد، ويُذْكر ويوحّد. وهو الصّاحب فى الغُربة، والمحدِّث فى الخلوة، والأَنيس فى الوحشة، والكاشف عن الشبهة، والغِنَى الَّذِى لا فقر على من ظفر بكنزه، والكَنَفُ الذى لا ضَيْعة على من أَوى إِلى حِرْزه. مذكراته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قُرْبة، وبذله صدقة، ومدارسته تُعدل بالصّيام والقيام، والحاجة إِليه أَعظم من الحاجة إِلى الشَّرَاب والطعام؛ لأَن المرء يحتاج إِليهما مرة أَو مَرَّتين فى اليوم، وحاجته إِلى العِلْم كعدد أَنفاسه، وطلبه أفضل من صلاة النافلة، نصّ عليه الشافعىّ وأَبو حنيفة.
واستشهد اللهُ - عزَّ وجلَّ - أَهلَ العلم على أَجلّ مشهود وهو التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وفى ضمن ذلك تعديلهم فإِنَّه لا يُستشهد بمجروح.
ومن هاهُنا يوجَّه - واللهُ أَعلم - الحديث: "يَحمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَف عُدولهُ، ينفُون عنه تحريف الغالين، وتأْويل المبطلين"(4/91)
وهو حجة الله فى أَرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إِلى جنَّته، ومُدْنيهم من كرامته. ويكفى في شرفه أَن فَضْل أَهلِه على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وكفضل سيّد المرسلين على أَدنى الصّحابة منزلة، وأَنَّ الملائكة تضع لهم أَجنحتها، وتُظِلُّهم بها، وأَنَّ العالِمَ يستغفر له مَن فى السموات ومن فى الأَرض حتىَّ الحيتان فى البحر، وحتىّ النَّملة فى جُحْرِهَا، وأَن الله وملائكته يصلُّون على معلِّمِى النَّاس الخير، وأَمر الله أَعْلَمَ العبادِ وأَكملهم أَن يسأَل الزِّيادة من العلم فقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
واعلم أَنَّ العلم على ثلاث درجات: أَحدها: ما وقع من عِيانٍ وهو البصر. والثانى: ما استند إِلى السمع وهو الاستفاضة. والثالث: ما استند إِلى العلم وهو علم التجربة.
على أَن طُرُق العلم لا تنحصر فيما ذكرناه فإِنَّ سائر الحواسّ توجب العلم، وكذا ما يدرك بالباطن وهى الوِجدانيّات، وكذا ما يدرك بالمخبِر الصّادق، وإِن كان واحدا، وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط وإِن لم يكن تجربة.
تمّ إِنَّ الفرق بينه وبين المعرفة من وجود ثلاثة:
أَحْدها: أَن المعرفة لُبّ العلم، ونسبة العلم إِلى المعرفة كنسبة الإِيمان إِلى الإِحسان. وهى علم خاصّ متعلَّقه أَخفى من متعلَّق العلم وأَدَقَّ.(4/92)
والثانى: أَنَّ المعرفة هى العلم الذى يراعيه صاحبه [ويعمل] بموجبه ومقتضاه. هو علم يتَّصل به الرعاية.
والثالث: أَن المعرفة شاهدة لنفسها وهى بمنزلة الأُمور الوِجدانيّة لا يمكن صاحبُها أَن يشكَّ فيها، ولا ينتقل عنها. وكشفُ المعرفة أَتمّ من كشف العلم، على أَنَّ مقام العلم أَعلى وأَجَلّ، لما ذكرنا فى بصيرة (عرف) .
ومن أَقسام العلم العلم اللَّدُنىّ. وهو ما يحصل للعبد بغير واسطة، بل إِلهام من الله تعالى، كما حصل للخضر بغير واسطة موسى، قال تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} . وفَرَق / بين الرّحمة والعلم وجَعَلَهما مِن عنده ومن لدنه إِذ لم يكن نَيْلهما على يد بَشَر. وكان من لدنه أَخصّ وأَقرب ممّا عنده، ولهذا قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} فالسُّلطان النَّصِير الذى من لدنه أَخصّ من الذى من عنده وأَقرب، وهو نصره الذى أَيّده به (والَّذِى من عنده) ، قال تعالى: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} .
والعلم اللّدنّىّ ثمرة العبوديّة والمتابعة والصّدق مع الله والإِخلاص له، وبذل الجُهد فى تلقِّى العلم من مِشكاة رسوله ومن كتابه وسنَّة رسوله وكمالِ الانقياد له، وأَمّا علم مَن أَعرض عن الكتاب والسنَّة ولم يتقيّد بهما فهو من لَدُن النفس والشيطان، فهو لدنِّىٌّ لكن مِن لدن مَنْ؟ وإِنما يُعرف كون العلم(4/93)
لدنّيًّا روحانيًّا بموافقته لما جاءَ به الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربّه عزَّ وجلَّ. فالعلم اللدُنىّ نوعان: لدُنىّ رَحْمانىّ، ولدُنىّ شيطانىّ وبطناوىّ والمَحَكّ هو الوحى، ولا وحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
وقول المشايخ: العلم اللدنىّ إِسناده وُجوده، يعنى أَنَّ طريق هذا العلم وِجدانه، كما أَن طريق غيره هو الإِسناد؛ وإِدراكه عِيانُه، بعنى أَنَّ هذا العلم لا يوجد بالفكر والاستنباط، وإِنما يوجد عِياناً وشهودا؛ ونعته حكمُه، يعنى أَن نعوته لا يوصل إِليها إِلاَّ به فهى قاصرة عنه. يعنى أَن شاهده منه ودليله وجوده؛ وإِنِّيَّته لِمِّيِّته، فبرهان الإنّ فيه هو برهان اللِّمّ، فهو الدَّليل وهو المدلول، ولذلك لم يكن بينه وبين الغيب حجاب وبخلاف ما دُونه من العلوم.
والذى يشير إِليه القوم هو نور من جَناب الشهود بمجرد أَقوى الحواسّ وأَحكامها، وتقرير لصاحبها مقامها. فيرى الشهود بنوره، ويفنى ما سواه بظهوره. وهذا عندهم معنى الحديث الرّبانىّ: "فإِذا أَحببته كنت سمعه الَّذى يسمع به، وبصره الذى يبصره به، فبى يسمع، وبى يبصر". والعلم اللَّدنىّ الرّحمانىّ هو ثمرة هذه الموافقة والمحبّة الَّتى أَوجبها التقرّب(4/94)
بالنَّوافل بعد الفرائض. واللدنّىّ الشيطانىّ هو ثمرة الإِعراض عن الوحى بحكم الهوى. والله المستعان.
والعَلَم - بالتحريك -، الأَثر الذى يُعلم به الشىءُ كعَلَم الطَّريق، وَعَلَم الجيش. وسمّى الجبل عَلَمًا لذلك. وقرئ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} .
والعالَم: اسم للفلك وما يحويه من الجواهر والأَعراض. وهو فى الأَصل اسم لما يُعلم به كالخاتَم لما يُختم به. فالعالَم آلة فى الدّلالة على موجِدِه وخالِقه، ولهذا أَحالنا عليه فى معرفة وَحْدَانِيَّتِهِ فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} .
وأَمّا جمعه فلأَن كلَّ نوع من هذه الموجودات قد يُسمىّ عالماً. فيقال: عالَم الإِنسان، وعالَم النار. وقد رُوى: إِنَّ لِلّه بضعة عشر أَلف عالَم. وأَما جمعه جمع السّلامة فلكون النَّاس فى جملتهم. وقيل: إِنَّما جُمع به هذا الجمع لأَنه عُنى به أَصناف الخلائق من الملائكة والجنَّ والإِنس دون غيرها، رُوِى هذا عن ابن عبّاس رضى الله عنهما. وقال جعفر بن محمّد الصّادقُ: عنى به النَّاس، وجعل كلّ واحد منهم عَالَما. وقال: العالم عالمان: / الكبير وهو الفَلَك بما فيه، والصّغير وهو الإِنسان لأَنَّه على هيئة العالَم الكبير، وفيه كلّ ما فيه، وقوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} أَى عالَمِى زمانِهم. وقيل: أَراد فضلاءَ زمانهم الذين يجرى كلّ واحد منهم مجرى عالَم.(4/95)
بصيرة فى علن وعلو
عَلَن الأَمرُ وَعَلُنَ وعَلِنَ يعلِن ويعلُن ويعلَن عَلَنًا وعلانِيَة واعتلن: ظهر. وأَعلنته وأَعلنت به. وعلَّنته: أَظهرته. والعِلان والمعالنة والإِعلان: المجاهرة. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وقال تعالى: {ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} ورجل عُلَنة كهُمَزَة: لا يكتم سرًّا.
وعُلْو الشىء وعَلْوه وعِلْوه وعُلاَوته وعالِيَتُه: أَرفعه. وقد علا عُلُوّا فهو عَلِىّ، وَعَلِىَ كرضى: سما. وقيل بالفتح فى الأَمكنة والأَجسام أَكثر، قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} . وعَلاَه وعلا به واستعلاه وأَعلولاه وأَعلاه وعَلاَّه وعالاه وعالَى به: صعده. والعَلاَءُ: الرفعة. علا النهار: ارتفع كاعتلى واستعلى. والعُلْوِىّ والسُّفْلىّ: المنسوب إِليهما. وصار عَلِىَ لا يستعمل إِلاَّ فى المحمود، قال: {وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} والعلِىّ: الرفيع القَدْرِ، وإِذا وُصف تعالى به فمعناه أَنه يعلو أَن يحيط به وصف الواصفين بل علم العارفين، وعلى ذلك: {تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} {تعالى عَمَّا يَصِفُونَ} . وتخصيص لفظ التعالى للمبالغة لا على سبيل التكلَّف كما يكون من البشر.(4/96)
والأَعلى: الأَشرف. والاستعلاءُ يكون لطلب العلوّ المذموم ويكون لطلب الرفعة، قال تعالى: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} وهذا يحتمل الأَمرين، وقوله: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} أَى أَعلى من أَن يُقَاس به أَوْ يُعتبر بغيره. وقوله: {خَلَق الأرض والسماوات العلى} جمع تأنيث الأَعلى، والمعنى هى الأَشرف والأَفضل بالإِضافة إِلى هذا العالَم. وقوله. {إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} قيل جمع عِلِّىّ: مكان فى السماءِ السابعة يَصعد إِليه أرواح المؤْمنين، وقيل: هو اسم أَشرف الجِنان كما أَن سِجِّين اسم شَرّ مواضع النِّيران، وقيل: بل ذلك على الحقيقة اسم سكَّانها، وهذا أَقرب فى العربية، إِذ كان هذا الجمع يختصّ بالنَّاطقين. قال: والواحد عِلِّىّ نحو بطِّيخ. ومعناه: إِن الأَبرار لفى جملة هؤلاءِ فيكون ذلك كقوله: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} والعُلِّيَّة تصغير عالية، وصارت فى العرف اسما للغُرفة، والجمع: العلالىّ.
وتعالى النهار وحرّه: ارتفع. وإِذا أَمرت منه قلت: تعالَ بالفتح، وللمرأَة: تعالَىْ، قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} ، وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} . وتعَلىَّ: علا فى مُهْلة، والمرأَةُ من نفاسها ومرضها: خرجت سالمة. وأَتيته من عَلُِ بضمّ اللام وكسرها ومن عَلاَ، ومن عالٍ، أَى من فوق.(4/97)
بصيرة فى عم وعمد
والعمّ: أَخو الأَب، والجمع: أَعمام وعُمومة وأَعُمّ. وجمع الجمع: أَعْمُمُون. وهى عَمَّة. والمصدر العُمُومة. وما كنت عمًّا ولقد عَمَمت. ورجل مُعَمّ ومُعِمّ: كثير الأَعمام. والعِمَامة معروف، والبَيْضة والمِغْفَر. واعتمّ وتعمّم واستعمّ. وهو حسن العِمّةِ أَى الاعتمام. وعُمّم: سُوِّد. وكلّ ما اجتمع وكثر عَمِيم، والجمع: /عُمُم، والاسم العَمَم. وعَمَّ عُموماً: شمِل الجماعة. وقد عمَّهم بالعطاءِ. وهو مِعَمُّ: خَيِّرٌ يعُمّ بخيره..
عَمَدت للشىءِ أَعْمِد عَمْدَا: قصدت له. وفعلت ذلك عَمْدًا على عين، وعَمْدَ عين، أَى بجِدّ ويقين، قال خُفَاف بن نُدْبة
فإِنْ تَكُ خَيْلى قد أُصيب صمِيمها ... فعَمْدا على عين تيمَّمت مالكا
والعمود: عمود البيت، وجمع القلة: أَعمدة، وجمع الكثرة: عُمُد بضمَّتين، وعَمَدٌ بفتحتين. وقرأَ أَبو بكر عن عاصم، وحمزةُ والكسائىّ وخلف: {فِي عُمُدٍ مُّمَدَّدَةِ} بضمّتين، والباقون {فِي عَمَدٍ} بفتحتين. وقول النابغة الذُبْيانىّ يذكر سليمان عليه السلام:
وخَيِّسِ الجِنّ إِنىِّ قد أَذنت لهم ... يبنون تَدْمُر بالصُفَّاح والعَمَد(4/98)
قيل: إِنَّ العمد أَساطين الرُّخام. وقال ابن عرفة فى قوله تعالى: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} العَمَد: جمع عِماد، قال: وليس فى كلام العرب فِعَال يجمع على فَعَلٍ غير عِمَاد وعَمَد، وإِهاب وأَهَبَ، أَى خلقها مرفوعة (بلا عمد ترونها) ، وقيل: لا ترون تلك العمد وهى قدرة الله تعالى: وقيل: لا يحتاجون مع الرّؤْية إِلى الخبر.
وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ العماد} ، قال الفرّاءُ: كانوا أَهل عَمَد ينتقلون إِلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إِلى منازلهم. ويقال لأَهل الأَخْبية: أَهل العِمَاد. وقيل: ذات الطُّول والبناءِ الرفيع. والعماد: الأَبنية الرفيعة، يذكَّر ويؤَنَّث، قال عمرو بن كلثوم:
ونحن إِذا عِمادُ الحىّ خَرَّت ... على الأَحفاض نمنع من يلينا
الواحدة: عِمَادة. وهو رفيع العماد، أَى منزله مُعْلَم لزائريه.(4/99)
بصيرة فى عمر وعمق وعمل
العِمَارة: ضدّ الخراب. عَمَر أَرضَه يَعْمُرها فَعَمَرت هى. ومكانٌ معمور وعامر، قال تعالى: {والبيت المعمور} ، وهو بيت فى السّماءِ الرابعة حِيال الكعبة يطوف عليه الملائكة، وفى كلّ سماءٍ بيت بحِياله. والعُمُر والعُمْر اسم لمدّة عِمارة البدن بالحياة، فهو دون البقاءِ. فإِذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه. وإِذا قيل: بقاؤُه فليس يقتضى ذلك، لأَنَّ البقاءَ ضِدّ الفناءِ. ولفضل البقاءِ على العمر وُصف الله تعالى [به] وقلَّما وصف بالعمر. والتعمير إِعطاءُ العمر بالفعل أَو بالقول على سبيل الدّعاءِ، قال تعالى: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} . والعُمْر والعَمْر واحد، لكن خُصّ القَسَم بالمفتوحة نحو: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفىِ سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} . وعَمْرك اللهَ أَى سَأَلتُ الله عَمْرك، وخصّ هاهُنا لفظ عَمْر لمّا قُصد به قَصْد القَسَم. والاعتمار والعُمْرة: الزِّيارة الَّتى فيها عمارة الودّ. وجُعِل فى الشريعة للقصد المخصوص. وكذلك الحجّ.
وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} إِمّا من العِمارة التى هى حفظ البناءِ، أَو من العُمْرة التى هى الزيارة، أَو من قولهم: عَمَرت بمكان كذا أَى أَقمت بهِ. والعِمَارة أَخصّ من القبيلة، وهى اسم لجماعة بهم(4/100)
عمارة المكان. والعَمَار: ما يضعه الرئيس على رأْسه عِمارة لرياسته وحفظاً لها، ريحاناً كان أَو عمامة. وإِنْ سُمِّى الرّيحان من دون ذلك عَمَارًا فاستعارة.
العُمْقُ - بالضّم وبضمّتين -: قعر البئر ونحوها. عَمُق - ككرم - عَمَاقة. وبئر عَميقة، وما أبعد عَمَاقتها، وما أَعمقها، قال تعالى: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} . وعَمَّق النظر فى الأَمر. وتعمّق فى كلامه: تنطَّع.
والعمل: المِهْنة والفعل، وقيل /: أَخصّ منه، لأَنَّ الفعل قد ينسب إِلى الحيوانات الَّتى يقع منها بغير قصد وإِلى الجمادات أيضاً، والعمل قلَّما ينسب إِليها، والجمع: أَعمال. عَمِل - كفرح - وأَعْمَلَهُ واستعمله، وأَعمل رأْيه وآلته واستعمله: عَمِلَ به. ورجل عَمِلٌ وعَمُول: ذو عمل.
والعمل يستعمل فى الأَعمال الصّالحة والسيّئة، قال تعالى: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ، وقال: {الذين يَعْمَلُونَ السيئات} . وقوله: {والعاملين عَلَيْهَا} [هم] المولَّون عليها. والعِمْلةَ والعُمْلة والعمالة مثلَّثه العين: أَجْر العمل.(4/101)
بصيرة فى عمه وعمى وعن
العَمه - مَحرّكة -: التردّد فى الضلالة، والتحيّر فى منازعة أَو طريق، أَو أَلاَّ يعرف الحُجَّة. عَمِهَ - كفرح ومنعَ - عَمْها وعَمَهَا وعُمُوها وعُموهة وعَمَهَاناً، وتَعامه فهو عَمِهٌ وعامِه، والجمع: عَمِهُونَ وعُمَّهٌ. قال تعالى: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
عَمِىَ - كرضى - ذهب بصره كلّه. وكذا اعماىَ يَعْماىُ إِعمِياءً، وقد يشدّدُ الياء، فهو أَعمَى وعَمٍ من عُمْىٍ وعُمَاة وعُمْيانِ، وهى عَمياءُ وعَمِيَة وعَمْية. وعمّاه تعمية: صيّره أَعمى، ومعنى الكلامِ: أَخفاه. والعمَى أَيضاً: ذهاب بصر القلب. والفعل والصفَّة كما تقدّم فى غير أَفعالّ، وتقول: ما أَعماه فى هذه دون الأُولى. وتعامَى: أَظهره. ومن الأَوّل قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} ، ومن الثانى ما ورد من ذمّ العمى نحو قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، بل لم يَعُدّ تعالى افتقادَ البصر فى جنب افتقاد البصيرة عَمًى حين قال: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولاكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} .
وقوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هاذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} فالأَوّلُ اسم الفاعل، والثانى قيل: هو مثله، وقيل: هو أَفعل من(4/102)
كذا الَّذى للتفضيل، لأَنَّ ذلك من فِقدان البصيرة. ومنهم من حمل الأَوّل على عمى البصيرة والثانى على عمى البصر، وإِلى هذا ذهب أَبو عمرو، فأَمال الأَوّل لمّا كان من عمى القلب، وترك الإِمالة فى الثانى لمّا كان اسما، فالاسم أَبعد من الإِمالة. وقوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} ، و {قَوْماً عَمِينَ} ، {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} ، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً} محتمل لِعَمَى البصر والبصيرة جميعاً.
وعَمِىَ عليه الأَمر: اشتبه حتى صار بالإِضافة إِليه كالأَعمى، قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء} .
وعَنْ يرد على ثلاثة أوجه:
ا- يكون حرفاً جارًّا. ولها عشرة معان:
1- المجاوزة: سافرت عن البلد.
2- البدل: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} .
3- الاستعلاءُ: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} ، أَى عليها.
4- والتعليل: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ} .
5- ومرادفة بَعْد: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .(4/103)
6- الظرفية. ولا تك عن حمل الرِّباعة وانياً
بدليل: {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} .
7- مرادفة مِن: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} .
8- مرادفة الباء: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} .
9- الاستعانة: رميت عن القوس، أَى به، قاله ابن مالك.
10- الزائدة للتعويض عن أُخرى محذوفة، كقوله:
أَتجزع إِنْ نفسٌ أَتاها حِمامها ... فهلاَّ التى عن بين جَنْبَيْكَ تدفعُ
أَى تدفع عن الَّتى بين جنبيك. فحذفت (عن) من أَوّل الموصول وزيدت بعده.
ب- ويكون مصدرياً وذلك فى عنعنة تميم، يقولون /: فى أَعجبنى أَن تفعل: عن تفعلَ كذا.
جـ- ويكون اسما بمعنى جانب: من عن يمينى مرَّة وأَمامى
وكقول الآخر: عن يمينى مرّت الطَّير سُنَّحا(4/104)
بصيرة فى عنت وعند وعنق
العَنَت: الإِثْم. وقد عَنِت الرّجُل - كفرح - قال الله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} يعنى الفجور والزِّنىَ. والعَنَت أَيضاً: الوقوع فى أَمر شاقّ. وأَكمَة عَنُوت وعُنْتُوت: شاقَّة المَصْعَد.
وعَنْتَتَ عنه: أَعرض. وجاءَنى متعنِّتا: إِذا جاءَ يطلب زَلَّتك. وأَعنْته: أَوقعه فى العَنَت، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} .
وعِنْد معناه حضور الشىءِ ودُنوّه. وفيها ثلاث لغات: عَنْد وعِنْد وعُنْد: وهى ظرف فى المكان والزَّمان، تقول: عند اللَّيل، وعند الحائط إِلاَّ أَنَّها ظرف غير متمكِّن، لا تقول: عندُك واسع بالرّفع. وقد أَدخلوا عليها مِن حروف الجرّ مِنْ وحدها كما أَدخلوها على لَدُنْ، قال الله تعالى: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} ، وقال سبحانه: {مِن لَّدُنَّا} ولا يقال: مضيت إِلى عندك ولا إِلى لدنْك. وقد يُغْرَى بها، تقول: عندك زيدًا أَى خُذْه.
وقال ابن عبّاد: العِنْد والعَنْد والعُنْد: النَّاحية، ومنه قولهم: وهو عند فلان، إِلاَّ أَن هذا لا يستعمل إِلاَّ ظرفاً إِلاَّ فى موضع، وهو أَن يقال: هذا عندى كذا فيقال: ولَكَ عند؟ أَو يراد به القلب والمعقول.(4/105)
وقوله: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} المراد به الزُّلْفى والمنزلة. وقوله: {إِن كَانَ هاذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} أَى فى حكمك.
والعَنِيد والعَنُود، قيل: بينهما فَرْق، لأَنَّ العنيد الَّذى يعاند ويخالف، والعَنُود الذى يَعْنِد عن القصد، وجمعُه عَنَدَة، وجمع العنيد: عُنُد.
والعُنْق والعُنُق والعَنيق بمعنى، والجمع: أَعناق. قال تعالى: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} أَى رءُوسهم.
والعُنُق: الجماعة من الناس. والأَعناق: الأَشراف والرؤساء، وعلى هذا قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} .
والمؤذَّنون أَطول الناس أَعناقاً، أَى أَفضلهم أَعمالاً، أَو أَفضلهم جماعات، وهم الشهداء لهم، أَو المراد الأَشراف والرؤساءُ. ورُوِى: إِعناقاً بالكسر أَى أَشدّهم إِسراعاً إِلى الجنَّة. وقيل غير ذلك.(4/106)
بصيرة فى عنو وعوج
عَنَوْتُ فيهم عُنوّا وعَنَاءً، وعَنِيت كرضيت: صرت أَسيراً. وعَنَوْت له: خضعت، قال تعالى: {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} أَى خضعتْ مستأسِرة بعَناء. وأَعنيته: أَذللته. والعَنْوة: الاسم منه، والقهر، والمودّة ضدّ. والعوانىِ: النساء؛ لأَنَّهنَّ يُظلمن فلا يَنتصِرن.
وقرئَ {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أَى يأسِره ويذلَّه والمعنى: إِظهار ما تضمّنه اللفظ من عَنَتِ القِرْبةُ: أَظهرَتْ ماءَها.
والعوج: العطف عن حال الانتصاب. وقد عاج البعيرُ بزِمامه. وهو ما يَعُوج عن أَمر يَهُمّ به، أَى ما يرجع. والعَوَج - محرّكة - يقال فيما يُدرَك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه، والعِوَج - بكسر العين - فيما يدرك بفكر وبصيرة كالدِّين والمعاش، قال الله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ، وقال: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} وقد يكون فى أَرض بسيط عِوَجٌ يعرف تفاوته بالبصيرة.
والأَعوج يُكنى [به] عن سَيِّئ الخُلُق.(4/107)
بصيرة فى عود
عاد إِليه يَعود عوْدا / وعَوْدة ومَعَادًا: رجع. وقد عاد لَه بعد ما كان أَعرض عنه. والمَعَاد: المَصِير والمرجع. والآخرة مَعاد الخَلْق.
وقوله تعالى: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} قيل: إِلى مكَّة حَرسها الله تعالى لأَنَّهَا مَعَاد الحجِيج؛ لأَنَّهم يعودون إِليها كقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} وقولِه تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} . وقيل: (لرادُّك) أَى لباعثك، (إِلَى مَعَاد) أَى مَبْعثك فى الآخرة.
وقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أَى لتصيرُنَّ إِلى مِلَّتِنَا، لأَنَّ شعيبا - صلوات الله عليه - ما كان على الكفر قطُّ. والعرب تقول: عاد علىّ من فلان مكروهٌ، يريدون صار منه إِلىّ. وقيل: (لَتَعُودُنَّ) يا أَصحاب شعيب وأَتباعَه، لأَنَّ الَّذِين اتَّبَعُوه كانوا كفارا، فأَدخلوا شعيباً فى الخطاب والمراد أَتباعه.
وقوله تعالى: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} عند أَهل الظَّاهر أَن يقول ذلك للمرأَة ثانياً فحينئذ تلزمه الكفَّارة. وعند الشَّافعى رحمه الله هو إِمساكها بعد وقوع الظِّهار عليها مدّة يمكنه أَن يطلِّق فيها فلم يفعل. وعند أَبى حنيفة - رحمه الله - العَود فى الظّهار(4/108)
هو أَن يجامعها بعد أَن ظاهر منها، وقال بعض الفقهاءِ: المظاهرة هو يمين نحو أَن يقول: امرأَتى علىّ كظهر أَمّى إِن فعلْت كذا، فمتى فعل ذلك حنِث ولزمه من الكفَّارة ما بيَّنه الله تعالى فى هذا المكان. وقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يحمله على فعل ما حلف له أَلاَّ يفعل، وذلك كقولهم: فلان حلف ثمّ عاد، إِذا فعل ما حَلَف عليه.
قال الأَخفش: قوله: {لِمَا قَالُوا} يتعلق بقوله، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، وهذا يقوّى القول الأَخير. قال: ولزوم هذه الكفارة إِذا حنِث كلزوم الكفارة المثبتة فى الحلف بالله والحنث فى قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
وأَعاد الشىء إِلى مكانه، وأَعاد الكلام: ردّده ثانياً، قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} . وهو مُعيد لهذا الأَمر أَى مطيق له. والمُعِيد: العالِم بالأُمور الذى ليس بغُمْر. والمُعِيدُ: الأَسَد، والفحل الذى قد ضَرَب فى الإِبل مرّات.
والعِيد: واحد الأَعياد، ومنه الحديث: "إِن لكلّ قوم عيدا وهذا عيدنا". ويستعمل العيد لكلّ يوم فيه فرح وسرور، ومنه قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} . وإِنَّما جمع بالياءِ وأَصله الواو للزومها فى الواحد وقيل: للفرق بينه وبين أَعواد الخشب.(4/109)
والعادة: الدَيْدَن. وأَسماؤُها تنيف على مائة وعشرين.
وعادَه واعتاده: صار عادةً له. ويقال: عُدْ فإِنّ لك عندنا عوادا حسناً - مثلَّثة العين - أَى لك ما تحبّ.
والعَوْد: المُسِنُّ من الإِبل، والطَّريق القديم.
وهذا أَعْوَد عليك من كذا، أَى أَنفع لك. وهو ذو صفح وعائدة، أَى ذو عَطْف وتعطَّف.(4/110)
بصيرة فى عوذ وعور
عُذْت بفلان أَعوذ عَوْذًا وعِيَاذًا وَمَعَاذًا وَمَعَاذَة أَى لجأْت به. وهو عِيَاذِى وعَوَذى -محرّكة- ومَعَاذى أَى مَلْجئى. وقرأت المعوّذتين - بكسر الواو - أَى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} . والتعويذ: الإِعاذة.
وكان النبىّ صلَّى الله / عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: أعوِّذكما بكلمات الله التَّامّة من شرّ السامَّة والهامّة، ومن كلِّ عين لامّة، ويقول لهما: إِنَّ أَباكما [إِبراهيم] كان يعوّذ بها إِسماعيل وإِسحاق.
والتعويذ والعُوذَة: [الرُقية] . وتَعَوَّذت به واستعذت به.
ويقال: معاذَ الله، أَى أَعوذ بالله مَعَاذًا، يجعلونه بدلاً من اللفظ بالفعل لأَنَّه مصدر وإِن كان غير مستعمل مثل سُبحان الله. قال الله تعالى: {مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} أَى نلتجئُ إِليه ونستعيذ به أَن نفعل ذلك. ويقال: مَعاذة الله، ومَعَاذ وجهِ الله، ومعاذة وجه الله.
والعَوْرة: سَوْءَة الإِنسان. وأَصلها من العار كأَنه يلحق بظهوره عار أَى مذّمة، ولذلك سمّيت المرأَة عَوْرة، ومنه العوراءُ أَى الكلمة القبيحة.(4/111)
والعوْرةُ أَيضاً والعَوَار: شَقّ فى الشىء، كالثوب والبيت ونحوه، قال تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أَى منخرقة ممكنة لمن أَرادها. ومنه فلان يحفظ عَوْرته، أَى خَلله.
وقوله تعالى: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} أَى نصف النهار، وآخر النهار، وبعد العِشاءِ الأَخرة. وقوله: {الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} أَى لم يبلغوا الحُلُم.
والعاريّة: فَعَلِيَّةٌ من العار؛ لأَن استعارتها تجلبُ المذمّة والعار. وفى المثل: قيل للعاريّة: أَين تذهبين؟ فقالت: أَجلب إِلى أَهلى مذَمَّة وعارًا.(4/112)
بصيرة فى عول وعوق وعوم وعون
عالَ: جارَ ومال عن الحقِّ. وعالَ الميزانُ: جار ونقص، أَو زاد، يَعُول ويَعِيل، وأَمرُ القوم: اشتدّ وتفاقم، وعال الشىءُ فلاناً: غلبه وثَقُل عليه وأَهمّه. قال تعالى {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} ، ومنه عالتِ الفريضةُ: إِذا زادت فى القِسمة المسمّاة لأَصحابها بالنصّ. والعَوْل: ما يثقل من المصيبة. وعالَهُ: تحمَّل ثِقْله. وأَعال: كثر عِيالُه.
والعائق: الصّارف عمّا يراد به من خير. وعاقه وعوّقه واعتاقه. قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} .
العَوْم: السِباحة. والعام: الحَوْل لعَوْم الشمس فى بروجها، والجمع: أَعوام. وسِنُون عُوّم توكيد. قال تعالى: {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} قيل يعبّر عن الجدب بالسنة، وعمّا فيه رخاء بالعام، وقال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} .
والعَوْن: الظَّهِير؛ يستوى فيه الواحد والجمع والمؤَنَّث. ويكسّر أَعوانًا. والعَوِين: اسم للجمع. واستعنته فأَعاننى، قال تعالى {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} .
والتعاوُن والاعتوان: إِعانة بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} وعاوَنه معاونة وعِوَاناً، والاسم العَوْن والمعَانة والمَعْوُنة والمَعُونة والمَعُون.(4/113)
بصيرة فى عهد وعهن
العَهْد: الأَمان، واليمين، والمَوْثِقُ، والذّمّة، والحِفَاظ، والوصيّة. وقد عهدت إِليه أَى أَوصيته، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ} .
وقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} قال ابن عرفة: معناه أَلاّ يكون الظالم إِماماً. وقال غيره: العهد: الأَمان ههنا. وقوله تعالى: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} يعنى ميثاقهم، وكذلك هو فى قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} ، وقوله تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .
والعَهْد: الضمان، تقول: عَهِدَ إِلىَّ فلان فى كذا وكذا أَى ضَمَّنَنِيه. ومنه قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بعهديا} أَى بما ضَمَّنتكم من طاعتى {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أَى بما / ضَمِنت لكم من الفوز بالجنَّة.
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِن حُسْن العهد من الإِيمان" أَى الحِفاظ ورعاية الحُرْمة. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمان عَهْداً} المراد توحيد الله والإِيمان به.(4/114)
والعهد الذى يكتب للولاة من عهد [إليه] : أَوصاه.
والعَهْد: المنزل الذى لا يزال القومُ إِذا انَتَوَوْا عنه رجعوا إليه. والعهد: المطر بعد المطر. والعهد: الوفاءُ، قال الله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} .
والعِهْن: الصّوف المصبوغ. والقطعة: عِهنة، والجمع: عُهُون. قال تعالى: {كالعهن المنفوش} .(4/115)
بصيرة فى عيب
العَيْب والعَيْبة والعَاب بمعنى واحد، عاب المتاعُ: صار ذا عَيْب، وعِبته أَنا، يتعدّى ولا يتعدّى، فهو مَعِيب ومَعْيوب أَيضاً على الأَصل، قال الله تعالى: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} . والعائب: الخاثر من اللَّبن، وقد عاب السّقاءُ. وتقول: ما فيه معابة، ومَعَاب، أَى عَيْب، ويقال: موضعُ عَيب، قال:
أَنا الرجل الذى قد عبتموه ... وما فيه لعيّابٍ مَعَابُ
لأَنَّ المفعل من ذوات الثلاثة، نحو كال يكيل، إِن أُريد به الاسم مكسور، والمصدر مفتوح، ولو فتحتهما أَو كسرتهما فى الاسم والمصدر جميعاً لجاز؛ لأَنَّ العرب تقول: المعاش والمعيش، والمسَار والمسير، والمعَاب والمعِيب. والمعايب: العُيُوب.
ورجل عَيّابة أَى يعيب الناس كثيرا. والهاءُ للمبالغة.
والعَيْبة: ما يُجعل فيه الثياب، والجمع: عِيَب وعِيبات وعِياب.(4/116)
بصيرة فى عير (عيس) وعيش وعيل وعى
العِير: القوم معهم المِيرة، وذلك اسم للرجال والجِمال الحاملة للمِيرة، وإِن كان قد يستعمل فى كلّ واحد منهما على حِدَة.
وعِيسَى إِذا جُعل عربيّاً أَمكن أَن يكون من قولهم: إِبل عِيسٌ أَى بِيض.
والعَيْشُ: الحياة المختصّة بالحيوان. ويشتقّ منه المعيشة لِمَا يُتَعَيَّش منه.
والعَيْل والعَيْلة والعُيُول والمَعيِل: الافتقار. عالَ يعِيل فهو عائل، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أَى فقرًا، والجمع: عالة وعُيَّل وعَيْلَى.
وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، أَى أَزال عنك فقر النَّفس، وجعل لك الغنى الأَكبر، يعنى ما أَشار إِليه النبى صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: "الغِنىَ غِنىَ النَّفْس".
وعَىّ بالأَمر وعَيىَ - كرضى - وتَعايا واستعيْا وتعيّا: لم يهتد لوجه مراده، أَو عجز عنه ولم يُطق إِحكامه. وهو عيّانُ وعَيَاياءُ وعَىٌّ وعَيِىٌّ، والجمعُ: أَعْياءٌ وأَعِيياءُ قال تعالى: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} .
آخر حرف العين والحمد لله رب العالمين.(4/117)
الباب العشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف الغين(4/118)
بصيرة فى الغين
وقد ورد على عشرة أَوجه:
1- حرف من حروف الهجاءِ، مخرجه من أَعلى الحَلْق جوار مخرج الخاءِ. والنسبة غيْنىّ. والفعل غيَّنت غَيْنًا حسنة وحسَناً. والجمع: غُيُون وأَغْيان وغَيْنَات.
2- اسم لعدد الأَلْف فى حساب الجُمَّل.
3- يكون بدلا من العين فى نَشُوع ونَشُوغ، وَارَمْعَلَّ وارمغلّ.
4- / غين العجز والضرورة. بعض النَّاس يجعل اللام والرّاء غيناً فيقول: ما إِلىَ الأَمِيغ مِن سَبِيغ، يريد: ما إِلى الأَمير من سبيل.
5- بمعنى الغَيم.
6- بمعنى الأَشجار الملتفًَّة بلا ماء.
7- بمعنى التغشية، يقال: غِين على قلبه غَيْنًا، أَى تغشَّته الشهوة.
8- بمعنى التغطية.
9- الغَيْن: العطش.
10- الغين الأَصلى، كما فى: غرف، وغفر، وفرغ.(4/119)
بصيرة فى غبر وغبن
يقال: هو غابر فلان، أَى بَقيَّتهم، قال عُبَيد الله بن عُمَر.
أَنا عُبيد الله ينمينى عمرْ ... خير قريش من مضى ومن غبر
بعد رسول الله والشيخ الأَغرّ
وهو من الأَضداد. تقول: أَنت غابر غدا، وذكرك غابر أَبدا. ومنه قيل: غُبَّرُ الحيض، وغُبَّر اللَّبن وغُبَّراته لبقاياه. وغبَر فى الحوض غُبْر، أَى بقِيّة ماءٍ.
وقوله تعالى: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} يعنى فيمن طال أَعمارهم، وقيل: فيمن بقى ولم يسر مع لوط عليه السلام، وقيل: فيمن بقى فى العذاب. وفى آخر: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين} ، وفى وجه آخر: {إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} .
والغُبار: لما يبقى من التراب المُثار، جُعل على بناءِ الدّخان والعُثان ونحوهما من البقايا.
وقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} كناية عن تغيّر الوجه من الغمّ.(4/120)
فى بيعه غَبْن وفى رأْيه غَبَن، وقد غُبِن وغَبِن. وتقول: لحقته فى تجارته غَبينة. وغَبِن الشىءُ - كفرح - غَبْنًا وغَبَنًا: نسِيَه، وأَغفله. وغَبِن رأْيَه - بالنَّصب - غَبَنًا وغَبَانة: ضعف، فهو غَبِين ومغبون. وَغَبنه فى البيع يَغْبِنه غَبْنًا وغَبَنًا: خَدعه. وقد غُبِن فهو مغبون، وتغابنوا: غَبَن بعضُهم بعضًا.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} سُمِّى به لظهور الغَبْن فى المبايعة المشار إِليها بقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} وقوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} ، فعُلم أَنَّهمْ قد غُبنُوا فيما تَرَكُوا من المبايعة، وفيما تَعَاطَوا من ذلك جميعاً. وسئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأَشياء لهم بخلاف مقاديرهم فى الدنيا. وقيل سمّى يوم التَّغابن لأَن أَهل الجنَّة تغبِن أَهل النَّار.
والمَغَابِن: كلُّ مُنْثَن من الأَعضاءِ كالإِبْط ونحوه.(4/121)
بصيرة فى غثو وغدر وغدق وغدو
والغُثَاءُ والغُثَّاءُ - كغراب وزُنَّار -: القَمْش، والزَّبَد، والهالك البالى من ورق الشجر المخالط زَبَد السّيل. ويقال: فلان مالُه غُثاء، وعملُه هَبَاء، وسعيه جُفَاء.
والغَدْر: الإِخلال بالشىءِ وتركه. والمغادرة مثله، قال تعالى: {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} .
والماءُ الغَدَق: الكثير. وقد غدِقت العَين - كفرح -: غزُرَت، قال تعالى: {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} .
والغُدْوة - بالضمِّ -: البُكْرة، وقيل: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس. والغَدِيَّة والغَدَاة بمعناه، والجمعُ: (غَدوات وغَدِيّات وغَدَايا وغُدُوّ) . وقيل: لا يقال: غدايا إِلاَّ مع عَشَايا للازدواج. وقوبل فى التنزيل الغُدوّ بالآصال، والغداة بالعَشِىِّ.
والغادية: مَطْرة الغداةِ، والسحابة تَنْشأُ غُدْوة. وفلان (يغادِيه ويرَاوحهِ ثم يغاديه ويُكاوحه) . وهو ابن غداتَين: ابن يومين.(4/122)
بصيرة فى غرب
الغَرْب: خلاف الشرق، والمغرب: خلاف المشرق، قال الله تعالى {رَبُّ المشرق والمغرب} باعتبار الجهتين، و {بِرَبِّ المشارق والمغارب} باعتبار الجهتين مطلِعَ كلّ يوم. ولقِيته مُغَيرِبان الشمس صغَّروه / على غير مكبَّرهِ كأَنَّهم صغَّروا مَغْرباناً، والجمع: مُغَيرِبانات. كأَنَّهُمْ جعلوا ذلك الحَيِّز أَجزاءً كلَّما تصوّبت الشمسُ ذهب منها جزء فجمعوه على ذلك. والمغارب: السُّودان، والمغارب: الحُمْران. وأَسود غربيب، أَى شديد، قال تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} ، السود بدل من غرابيب؛ لأَنَّ توكيد الأَلوان لا يتقدّم. وقيل التقدير: سود غرابيب سود.
والغريب: المغترِب، والجمع: الغُرَباءُ. والغرباءُ أَيضاً: الأَباعد. والغريب من الكلام: الغامض العُقْمىّ منه.
وفى الحديث: "بدأَ الإِسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأَ فطوبَى للغرباء. قيل: ومَنِ الغرباءُ يا رسول الله؟ قال: الذين يُصْلِحُون إِذا فَسَد الناس". وروى الإِمام بسنده أَنه قال صلّى الله عليه وسلَّم: "طُوبى للغرباءِ. قالوا: يا رسول الله وَمَنِ الغرباءُ؟ قال: الذين يزيدون إِذا نقص النَّاس"، فإِن كان هذا الحديث محفوظاً بهذا اللفظ فمعناه: الَّذين يزيدون خيرا وإِيماناً وتُقى إِذا نقص النَّاس. والله أَعلم.
وفى لفظ: "قيل مَنِ الغرباءُ يا رسول الله؟ قال: نُزَّاع القبائل". وفى حديث عبد الله بن عَمْرٍو أَنه قال صلَّى الله عليه وسلَّم:(4/123)
"طُوبى للغرباءِ. قيل: ومن الغرباءُ؟ قال: ناس صالحون قليلٌ فى ناس سَوْءٍ كثير، مَن يبغضهم أَكثر ممّن يطيعهم". وعند عبد الله بن عمرو أَنه قال: "إِن أَحبَّ شىءٍ إِلى الله الغُرَباءُ. قيل: ومَنِ الغرباءُ؟ قال: الفَارُّونَ بدينهم يجتمعون إِلى عيسى بن مريم يوم القيامة". وفى حديث آخر: "بدأَ الإِسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأَ فطوبى للغرباءِ. قيل ومَن الغُرَباءُ يا رسول الله؟ قال: الذين يُحبُون سنَّتى ويعلِّمُونَهَا النَّاسَ".
فهؤلاءِ هم الغرباءُ الممدوحون المغبوطون. ولقلّتهم فى الناس جدّا سُمّوا غرباءَ. فإِنّ أَكثر النّاس على غير هذه الصّفات. فأَهل الإِسلام فى الناس غرباء، وأَهْلُ العِلْم فى أَهل الإِسلام غرباء، وأَهل السنّة الذين تميّزوا بها من الأَهواء والبدع فيهم غرباءُ، والداعون الصّابرون على أذى المخالِفين لهم هؤلاءِ أَشدّ غربة، ولكن هؤلاءِ هم أَهل الله فلا غربة عليهم، وإِنما غربتهم بين الأَكثرين الذين قال الله فيهم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} فأُولئك هم الغرباءُ من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هى الغُرْبة الموحِشة.(4/124)
فليس غريبا من تناءَى دياره ... ولكنّ من تَنْأَين عنه غريب
والغربة ثلاثة أَنواع: غربة أَهلِ الله وأَهلِ سنّة رسوله بين هذا الخَلْق، وهى الغربة الّتى مدح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَهلَها، وأَخبر عن الدّين الذى جاءَ به أَنه بدأَ غريباً وأَنه سيعود غريباً، وأَن أهله يصيرون غُرباءَ، وهذه الغُرْبة قد تكون فى مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون غيرهم، ولكن أَهل هذه الغربة هم أَهل الله حَقّا لم يأَوُوا إِلى غير الله، ولم يأْنسُوا إِلى غير رسوله، وهم الذين فارقوا النّاس أَحوجَ ما كانوا إِليهم. فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها: بل هو آنس ما يكون إذا استوحش النّاس، وأَشدّ ما يكون وحشة إِذا استأْنسوا، تولاَّه الله ورسوله والذين آمنوا، وإِن عاداه أَكثر النّاس وجَفَوه. ومن هؤلاءِ الغرباء مَن ذكرهم أَنَس فى حديثه عن النبىّ صلًّى الله عليه وسلّم: "أَلاَ أَخبركم عن ملوك أَهل الجنّة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: كلّ ضعيف أَغبر ذى طِمْرين لا يُؤْبَه له لو أَقسم على الله لأَبرّه". وقال الحسن: المؤمن فى الدنيا كالغريب لا يجزع من ذُلّها، ولا ينافس فى خيرها، للنّاس حال وله حال.
ومن صفات هؤلاءِ التمسّك بالسنّة إِذا رغب عنه النّاس، وترك ما أَحدثوه وإِن كان هو المعروف عندهم. وهؤلاءِ هم القابضون على الجَمْر حقا، وأَكثر النّاس بل كلّهم لائمون لهم.(4/125)
ومعنى قول النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: إنهم النُزَّاع من القبائل: أَن الله تعالى بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأَهلُ الأَرض على أَديان مختلفة، فهم بين عُبّاد أَوثان، وعُبَّاد نيران، وعُبَّاد صلبان، ويهود، وصابئة، وفلاسفة، وكان الإِسلام فى أَول ظهوره غريبا، وكان من أَسلم منهم واستجاب لدعوة الإِسلام نُزَّاعاً من القبائل آحادا منهم، تفرَّقوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا فى الإِسلام، فكانوا هم الغرباء حقا، حتى ظهر الإِسلام وانتشرت دعوته، ودخل النّاس فيه أَفوجا فزالت تلك الغُرْبة عنهم، ثم أَخذ فى الاغتراب حتى عاد غريباً كما بدأَ. بل الإِسلام الحق الّذى كان [عليه] رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم وأَصحابه اليوم أَشدّ غربة منه فى أَوّل ظهوره، وإِن كانت أَعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإِسلام الحقيقىّ غريب جدًّا، وأَهله غرباء بين النّاس.
وكيف لا يكون فرقة واحدة قليلة جدًّا غريبةً بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أَتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إِلاّ بمخالفة ما جاءَ به الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وكيف لا يكون المؤمن السائر إِلى الله على طريق المتابعة غريباً بين هؤلاءِ الذين اتّبعوا أَهواءَهم، وأَطاعوا شُحّهم، وأُعجِب كلّ منهم برأْيه. ولهذا جُعل له فى هذا الوقت إِذا تمسّك بدينه أَجرُ خمسين من الصّحابة، ففى سُنَن أَبى داود من حديث أَبى ثعلبة الخُشَنىّ قال: سأَلت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال: "بل ائتمِروا بالمعروف وتناهَوْا عن المنكَر، حتى إِذا رأَيت شُحّا مطاعاً، وهوًى متَّبَعا، ودُنْيا مؤثَرة،(4/126)
وإِعجاب كلّ ذى رأى برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوامّ، فإِنّ من ورائكم أَيّاما الصَّبْرُ فيهن كمِثل قَبْضٍ على الجمر، للعامل فيهم أَجر خمسين رجلاً يعملون بمثله عمله. قلت يا رسول الله أَجر خمسين منهم؟ قال: أَجْر خمسين منكم". وهذا الأَجر العظيم إِنما هو لُغربته بين الناس، والتمسُّك بالدين بين ظُلمة أَهوائهم. فإِذا أَراد أَن يسلك هذا الصراط فليوطّن نفسه على قدح الجهّال وأَهل البدع وطعنهم عليه، وإِزرائهم به، وتنفير النّاس عنه، وتحذيرهم منه، كما كان الكفّار يفعلون مع متبوعه وإِمامه. فأَمّا إِن دعاهم إِلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهناك تقوم قيامتهم، ويتغوّلون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويُجلبون عليه بخيلهم ورَجْلهم. فهو غريب فى دينه لفساد أَديانهم، غريب فى تمسّكه بالسّنة لتمسّكهم بالبدعة، غريب فى اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب فى صلاته لسوءِ صلاتهم، غريب فى معاشرته لأَنه يعاشرهم على مالا تهوى أَنفسهم، وبالجملة فغريب فى أُمور دنياه وآخرته، لا يجِد له مساعداً ولا مُعيناً. فهو عالِم بين قوم جهّال، صاحب سُنّة بين أَهل بِدَع، داع إِلى الله ورسوله بين دُعَاة إِلى الأَهواءِ والبدع.
وثَمّ غربة مذمومة وهى غربة أَهل الباطل بين أَهل الحقّ، فهم وإن كثروا عددًا قليلون مَدَدا.
وثمّ غربة لا تحمد ولا تذمّ. هى الغربة عن الوطن، فإن الناس كلّهم فى هذه الدنيا غرباء فإنّها ليست بدار مُقام، ولا خُلِقوا لها. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لابن عمر: "كن فى الدّنيا كأَنّك غريب أَو عابر سبيل"(4/127)
وهكذا الحال فى نفس الأَمر، لكنه أَمره أَن يطالع ذلك بقلبه، ويَعرفه حَقّ المعرفة. وقد أَنشد شيخ السنّة لنفسه:
وَحَىَّ على جنَّات عَدْنٍ فإِنّها ... مفاز لك الأُولى وفيها المخيَّم
ولكننا سَبْىُ العدوّ فهل ترى ... نعود إلى أَوطاننا ونسلّم
وأَىّ اغتراب فوق غربتنا التى ... لها أَضحت الأَعداءُ فيها تحكّم
وقد زعموا أَن الغريب إِذا نأَى ... وشطَّت به أَوطانه ليس ينعم
فمن أَجل ذا لا ينعم العبد ساعة ... من العمر إلا بعده يتأَلّم
فالإِنسان [على] جناح سفر لا يَحُلّ راحلته إِلا بين أَهل القبور، فهو مسافر فى صورة قاعد، قال:
وما هذه الأَيام إِلاّ مراحل ... يحثّ بها داعٍ إِلى الموت قاصدُ
وأَعجب شىء لو تأَمّلت أَنّها ... منازل تُطوَى والمسافر قاعدُ(4/128)
بصيرة فى غر
الغِرّة: الغفلة. وغَررته: أَصبت غفلته، ونلت منه ما أُريد.
قال [الله تعالى] : {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} ، الغَرُور: كل ما يغرّك من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسّر بالشيطان، وبالدنيا لأَنّها تغرّ وتمرّ، وأَما الشيطان فإِنّه أَقوى الغارّين وأَخبثهم.
والغَريرُ: الخُلُق الحَسَن، لأَنه يغرّ والأَغرّ: الكريم.
والغَرَر: الخَطَر فى البيع، وقد نُهى عنه. وغِرار السيف: حَدّه(4/129)
بصيرة فى غرض وغرف وغرق وغرم وغرى
الغَرَض - محركة -: هَدَف يُرمى فيه. ثم جُعل اسما لكل غاية يُتحرّى إِدراكها والجمع: أَغراض.
غرف الماءَ: أَخذه بيده كاغترافه. والغَرْفة للمرّة، وبالضمّ: اسم للمفعول؛ لأَنَّك ما لم تغرِفه لا تسمّيه غُرْفة، والجمع: غِرَاف، كنُطْفة ونِطَاف. والغُرَافة أَيضاً: الغُرْفة.
والغُرْفة من البناءِ: العِلّيّة، والجمع غُرُفات وغُرَفاتِ وغُرْفات وغُرَف. قال تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} ، وقال: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} ، وقال: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} .
الغَرَق: الرسوبِ فى الماءِ وغيرِه. غَرِق - كفرح - غَرَقاً وغَرْقًا فهو غَرِقٌ وغارِقٌ وغَرِيق، وجمعه: غَرْقى. وغرّقه وأَغرقه. قال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} . وأُقِيم الغَرْق مُقام المصدر الحقيقى فى قوله تعالى: {والنازعات غَرْقاً} أَى إِغْرَاقاً. وقال تعالى: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ} وقال: {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} ، وقال: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} ، وقال(4/130)
فى قوم لوط: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} ، وقال فى الجمع بين الإِغراق والإِحراق فى القيامة: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} .
والغرَام: الوَلُوع، والشرّ الدائم، والهلاك، والعذاب: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} .
والغُرْم والمغْرَم والغَرَامة: ما يلزم أَداؤه، قال تعالى: {والغارمين} والغريم: المديون، والدّائن. وأَغرمته أَنا وغرّمته
والمُغْرَمُ: أَسير الحُبِّ أَو الدَيْن، والمولَع بالشىءِ.
وغَرِى بكذا: لهِج وأُولع، غَرًا وغِرَاءً، كغُرِى به وأُغْرِى مضمومتين. وأَغراه به، والاسم الغَرْوَى، قال تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} .(4/131)
بصيرة فى / غزل وغزو وغسق وغسل وغشى
غَزَلت المرأَة القطنَ تغزِله واغتزلته. ونسوة غُزَّل وغوازل. والمغزل - مثلَّثه الميم -: ما يُغزل به الغَزْل، قال: {كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} .
والغَزَل - محركة - والمَغْزَل: اللهو مع النساءِ. وقد غازلها. والتغزُّل: التكلّف له. ورجل غَزِل: متغزِّل بالنساءِ.
والغزال: الشادن حين يتحرّك ويمشى، والجمع: غِزْلة وغِزْلان.
والغَزْو: الخروج لمحاربة العدُوّ. غزاه: أَراده وطلبه وقصده، والعَدُوَّ: سار إِلى قتالهم وانتهابهم، غَزْوًا وغَزَوانا وغَزَاوة، فهو غازٍ، والجمع: غُزًّى وغُزِىٌّ كدلىٍّ. والغَزِىُّ كغنِىٍّ: اسم الجمع. وأَغزاه إِغزاء: حمله عليه، قال تعالى: {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} .
والغَسَق: ظُلمة أَوّل اللَّيل [غَسَقت عينُه كضرب وسمع غُسُوقًا [وغَسَقانا] محركة: أَظلمت] والغاسق: الليل إِذا غاب الشفق.
وقوله تعالى {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أَى الليل إِذا دخل، أَو الثُّريّا إِذا سقطت لكثرة الطَّواعين حينئذ. الغَزَالىُّ عن ابن عباس: من شرّ الذكر إِذا قام. وقيل: القمر إِذا كَسَفَ واسودّ.(4/132)
والغَسَاق والغَسّاق كسحاب وشدَّاد: البارد المنتن، وقيل: ما يقطر من جلود أَهل النار. وقال تعالى: {إلى غَسَقِ الليل} ، أَى ظُلمته.
وغَسَلته غَسْلاَ وغُسْلا: أَجريت عليه الماءَ فأَزلْت دَرَنه، وقيل: بالفتح المصدر، وبالضمّ الاسم، فهو غَسِيل ومغسول، والجمع: غَسْلى وغُسَلاءُ. وهى غَسِيل. والغُسْل والغِسْل والغِسْلة والغَسُول: الماءُ الذى يُغتسل به. والغِسْلِينُ: غُسَالة أَبدان الكفّار.
غُشِى عليه - كعُنى - غَشْيا وغَشَيانا - محركة - فهو مغشِىّ عليه، والاسم الغَشْية، قال تعالى: {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} .
وقوله تعالى: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أَى أَغماءٌ. وعلى بصره وقلبه غشوة وغشاوة مثلَّثين، وغاشية، وغُشْية وغَشاية مضمومتين، وغِشَاية بالكسر: غطاء. وغشَّى اللهُ على بصره تَغْشية وأَغشى. وغشِيه الأَمر وتغشَّاه وأَغشيته إِيّاه وغشَّيته. وغَشِيتُ الدّار: أَتيتها. وكنى به عن الجماع فقيل: غَشِيَهَا وتغشَّاهَا، قال تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ} .
والغاشية: القيامة، والنار، وقميص القلب، وجلدٌ أُلْبِسَ جَفْنَ السّيف من أَسفل شاربه إِلى نَعْلهِ.(4/133)
وقوله تعالى: {أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} . أَى نائبة تغشَاهم وتُجلِّلهم. وقيل: الغاشية فى الأَصل محمودة، وإِنَّما استعير لفظه هاهنا تهكمّا على نَحو: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} .
واستغشى ثوبَه وبه: تغطَّى به كيلا يسمع ولا يَرى، قال تعالى: {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} . أَى جعلوها غِشاوة على أَسماعهم، وذلك كناية عن الامتناع من الإِصغاءِ. وقيل: كناية عن العَدْو، كقولهم: شَمَّرُوا ذيلهم.(4/134)
بصيرة فى غض وغضب وغطش وغطا وغفر
الغُصَّة: الشَجَا، وما اعترَض فى الحَلْق فأَشرق، والجمع: غُصَص. وقد غَصِصْت وغَصَصْت تَغَصّ غَصَصًا.
والغَضّ والغضيض: الطرىّ. وغَضَّ طَرْفَه: خفضه واحتمل المكروه، ومن فلان: نقص ووضع من قَدْره.
والغَضَب: ثَوَران دم القلب إِرادةً للانتقام، قال تعالى: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ} . غَضِب عليه غَضَبًا ومَغْضَبَة: سخِطَ. وقوله / تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} . يعنى اليهود.
وقال ابن عرفة: الغضب من المخلوقين شىءٌ يُداخل قلوبَهم، ويكون منه محمود ومذموم، فالمذموم ما كان فى غير الحقِّ. وأَمّا غضب الله عزَّ وجلَّ، فهو إِنكاره على من عصاه فيعاقبه. وقال الطحاوى: إِنَّ الله يغضب ويرضى لا كأَحد من الوَرَى. وقال غيرهما: المفاعيل إِذا وليتها الصّفات فإِنها تذكِّر الصفات وتجمعها وتؤَنِّثها، وتترك المفاعيل على أَحوالها، يقال: هو مغضوب عليه، وهما مغضوب عليهما.(4/135)
وهم مغضوب عليهم، وهى مغضوب عليها، وهُنَّ مغضوب عليهنَّ. ورجل غضبان وامرأَة غَضْبىَ. ولغة بنى أَسَد غضبانة. وقوم غَضْبى وغُضَابى وغَضابى مثل سكرى وسُكارَى وسَكارَى.
وقوله تعالى: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} أَى مراغماً لقومه.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} ، أَى أَذهب ضوءَه وجعله مظلمًا. وأَصله من الغَطَش، وهو شبه الغَمَش فى العين.
والغِطاءُ - ككساء -: ما يغطَّى به الشىءُ. وقد استعير للجهالة، قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} .
والغَفْر: الستر. اللهُمّ غَفْرًا. والغُفْرَان والمَغْفِرَة من الله هو أَن يصون العَبْدَ مِن أَن يمسّه العذاب. وقد يقال: غفر له إِذا تجاوز عنه فى الظَّاهر وإِن لم يتجاوز فى الباطن، نحو: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} . والاستغفار: طلب المغفرة قولاً وفعلاً. وقوله: {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} لم يؤْمَرُوا أَن يسأَلوه ذلك باللسان فقط، بل به وبالفعل، فبدونه قول الكذَّابين. وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} ، وقوله: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} ، وقوله: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} ، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ، وقوله: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} فيه من تأْميل الرّاجين، وتأْنِيس المذنبين ما لا يخفى.(4/136)
ومن دعاءِ الأَعراب: اللَّهُمّ أَسأَلك الغَفِيرة، والناقة الغزيرة، والعزّ فى العشيرة قال:
كلّ الذنوب فإِنَّ الله يغفرها ... إِنْ شيَّع المرءَ إِخلاص وإِيمانُ
وكل كسر فإِن الله يَجبرهُ ... وما لكسر قناة الدين جُبْرانُ
واعلم أَنَّ كلّ أَحد - من عهد آدم إِلى يومنا هذا وإِلى يوم القيامة - من نبىٍّ وولىٍّ، ومؤْمن موقِن وصادق، وفاسق، وكافر ونافر، ومخلص، إِلاَّ وهو ينتظر بحقَّه المغفرة. أَما ترى آدم عليه السّلام وابتهالَه وتضرّعه فى سؤال الغفران فى قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} . وقال شيخ المرسلين: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} وأَمَر قومه به: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} . وقال هود لقومه: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} . وقال صالح: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} . وقال إِبراهيم: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} وقال فى حقِّ نفسه: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي} . وإِخوة يُوسفَ سأَلوا وَالِدَهم أَن يستغفر لهم: {ياأبانا استغفر لَنَا} فوعدهم بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} ، ويوسف بشرّهم بالمغفرة بقوله: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} . سَحَرة فرعون كانوا فى طلب المغفرة: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} . موسى ساعة قَتْلِه(4/137)
القِبطىّ عرض هذه الحاجة فقال: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي} ، ثم أَشرك أَخاه فى دعائه / فقال: {رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي} . داوُد رفع قصّة ضراعته فى هذه الحاجة: {فاستغفر رَبَّهُ} فقوبلت قصته بإِجابته {فَغَفَرْنَا لَهُ} . سليمان افتتح سؤَاله قبل سؤال المُلْك بطلب المغفرة: {رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً} . عيسى فى عرَصات القيامة يُحِيل أُمَّتَه إِلى عالم المغفرة: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} . سيّد المرسلين ومقصد الوجود وأُعجوبة العالَم أُمِر بطلبه له ولأُمَّتِه: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فكانت المغفرة أَعظم هداياه من ربِّ العالمين: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} . عتاب الصدّيق من الله لم يكن إِلاَّ لأَجل المغفرة: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} . شفاعة الملكِ الوهّاب إِلى عمر بن الخَطَّاب فى قوم قد استوجبوا أَشدّ العقاب ما كانت [إِلاَّ] فى المغفرة: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} . أَعظم حاجات عثمان فى أَعقاب الصّلوات وخَتْم القرآن طلب المغفرة والرضوان: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . والثناء على علّى، من الملِك العلىِّ، كان بهذا المُهمّ الجلىّ: {والمستغفرين بالأسحار} .(4/138)
ثمّ إِنَّ الله تعالى نبّه على أَنَّ المشرك غيرُ أَهل للمغفرة فقال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} . دعوة سيّد المرسلين كانت بطمع طلبه المغفرة: {تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} ، ثم عَرَّف بعدم معرفة الكافر قدر المغفرة: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} . ثمّ أَمر بالعفو والاستغفار، للأَخيار والأَبرار: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ} . حَمَلة العرش يتوسّلون إِلى الله بطلب المغفرة للمؤْمنين من عباده: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} إِلى قوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ} ، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} ، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} . تضرّع أَهل الإِيمان وانتهاؤُهم إِلى الرحمان فى طلب الغفران: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ} . بشَّر عباده بأَعظم البُشْرى: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} ، {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} .(4/139)
بصيرة فى غفل
الغَفْلة: سهوٌ يعترى من قِلَّة التحفَّظ والتيقَّظ. غَفَل عنه غفُو وأَغفله. قيل: غفلَ، أَى صار غافلا، وغفل عنه وأَغفله: وَصَل غَفْلَته إِليه، والاسم الغَفْلة والغَفَل والغُفْلان، قال تعالى: {مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} . والتغافل والتغفُّل: تعمّد الغفلة. والتَّغفيل: أَن يكفيك صاحبك وأَنت غافل. والمغفَّل: مَن لاَ فطنة له. والغُفْل - بالضمّ - مَن لا يرجىَ خيره ولا يُخشى شرّه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} ، أَى تركناه غير مكتوب فيه الإِيمان. وقيل: من جعلناه غافلا عن الحقائق.
والغَفُول: العظيم الغفلة.
تيقَّظ من منامك يا غَفُولُ ... فنومك بين رَمْسك قد يطولُ
تأَهَّبْ للمنيّة حين تغدو ... عسى تُمسى وقد نزل الرسول
قيل: وردت حروف هذه المادّة فى القرآن على عشرة أَوجه:
1- غفلة الكفَّار المغبونين بالإِعراض عن الإِيمان: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} .
2- وغفلة مقيّدة بإِقرارهم: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هاذا} .(4/140)
3- وغفلة شهد عليهم بها القرآن: {إِذْ قُضِيَ الأمر وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} .
4- وغفلة / مقيّدة بشهادة الملائكة المقرّبين: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هاذا} .
5- وغفلة عن عبادتهم من الأَوثان: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .
6- وغفلة لهم عن أَحكام آيات القرآن: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} .
7- وغفلة شُبِّهوا فيها بالأَنعام من الحيوان: {أولائك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولائك هُمُ الغافلون} .
8- وغفلة تعالى الله عنها: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
9- وغفلة عن أَعمال الظَّالمين تقدّس الله وتنزَّه عنها: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} .(4/141)
بصيرة فى غلب
الغَلَبة: القهر. غلبه غَلْباً - بسكون اللام - وغَلَبا بتحريكها، وغَلَبة بإِلحاق الهاءِ، وغَلاَبِيَة - مثال عَلانية - وغُلُبَّة - مثال حُزُقَّة - وغُلُبَّى - بضمتين مشدّدة بالباء مقصورة - ومَغْلَبة، قال تعالى: {الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} . والغَلَب من المصادر المفتوحة العين مثل الطلَب. قال الفرّاء: وهذا يحتمل أَن يكون غَلَبة فحُذفت الهاء عند الإِضافة، كما قال فَضْل بن عبّاس.
إِنّ الخليط أَجدُّوا البين فانجردُوا ... وأَخلفوك عِدَ الأَمر الذى وَعدوا
أَراد عدة الأَمر فحَذف الهاء عند الإِضافة. والحجّة فى المَغْلَبة قول بنت عُتْبة ترثى أَباها:
يا عينِ بَكِّى عتبهْ ... شيخاً شديد الرقَبَهْ
يُطعم يوم المَسْغَبهْ ... يدفع يوم المَغْلَبهْ
إِنِّى عليه حَرِبَهْ ... ملهوفة مستلَبه
لنهبطَنْ يَثْرِبهْ ... بغارة منشعِبَه
والحجّة فى الغُلُبَّة قول المَرَّار بن سعيد الفَقْعَسِىّ:
منَعتُ بنجد ما أَردت غُلُبَّة ... وبالغَوْر لى عِزّ أَشَمُّ طويل(4/142)
وهضبة غَلباء، وعزّة غلْباء، وحديقة غلباء، وحدائق غُلْب أَى غِلاظ ممتلئة، قال تعالى: {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} .
ورجل غُلُبَّة، وغَلُبَّةَ، وغُلَبة - مثال تُؤدَةِ - وغَلاَّب، وغُلُبَّى، وغِلِبَّى، أَى كثير الغَلَبة سريعها.
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الظهور والاستيلاءِ: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} .
الثانى: بمعنى الهزيمة: {غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} : سيَهزمون.
الثالث: بمعنى القتل: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} أَى ستقتلون.
الرّابع: بمعنى القهر: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} ، أَى قاهر، {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} ، أَى القاهرون. {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} : قُهِروا وهُزِموا.(4/143)
بصيرة فى غل
الغُلّ والغُلّة والغَلَل والغَلِيل: العطش، وقيل: شدّة العطش وحرارة الجوف. وقد غَلّ يَغَلّ - بفتحهما وبضمهما - فهو مغلول وغَليل ومغتلّ. وبعير غالّ وغَلاّن؛ وقد غلَّ يغَل بفتحهما.
والغُلّ معروف، والجمع: أَغلال. وغَلّه: وضع فى عنقه أَويده الغُلّ. ويقال للبخيل: مغلول اليد، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، أَى رَمَوه بالبخل. وقيل: إِنهم لمّا سمعوا أَنّ الله قد قضى كلّ شىء قالوا: إِذًا يدُ الله مغلولة، أَى فى حكم المقيّد لكونه فارغًا. فقال تعالى ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} أَى منعناهم فعل الخير، وذلك نحو وصفهم بالطَّبْع والخَتْم على قلوبهم وسمعهم وأَبصارهم. وقيل: بل ذلك وإِن كان بلفظ الماضى فإِنه إِشارة إِلى ما يُفعل بهم فى الآخرة كقوله: {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} .
والغِلّ والغَلِيل: الحِقد والضِّغْن، وقد غَلّ / صدرُه يَغِلّ، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} وغَلّ غُلُولا وأَغلّ: خان. وقيل: خاصّ بالفىء.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قرأَ ابن كثير وأَبو عمرو وعاصم(4/144)
ويعقوب برواية رَوْح وزيد (أَنْ يَغُلّ) بفتح الياءِ وضمّ الغين، والباقون على العكس، فمعنى يَغُلّ يخون، ومعنى يُغَلّ بضم الياءِ وفتح الغين يحتمل أَمرين: يُخَان، يعنى أَن يؤخذ من غنيمته. والآخر، يُخَوَّن أَى ينسب إِلى الغُلُول.
وقال أَبو عبيد: الغُلُول من المغنم خاصّة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحِقْد. وممّا يبيّن ذلك أَنّه يقال من الخيانة: أَغلَّ يُغِلّ، ومن الحقد: غَلّ يَغِلّ بالكسر، ومن الغلول: غَلَّ يَغُلّ بالضم، وفى الحديث: "ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب مؤمن: إِخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأَمر، ولزوم جماعة المسلمين فإِن دعوتهم تحيط من ورائهم"، رُوى: لا يَغِلّ أَى لا يضطغن. وروى: لا يُغِلّ أَى لا يصير ذا خيانة. وفلان شَفَى غَلِيله، أَى غيظه.
وغَلّ فى الشىء، وانغلّ، وتغلّل، وتغلغل: دَخَلَ.(4/145)
بصيرة فى غلظ وغلف وغلق
الغلْظة - بفتح الغين وكسرها وضمِّها - والغِلَظ - كعنب - والغِلاَظة - بالكسر -: ضدّ الرّقّة. والفعل ككرم وضرب، فهو غَلِيظ وغُلاَظ، قال تعالى: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أَى خشونة. والغَلْظ بالفتح: الأَرض: الخشِنة، وأَغلظ: نزل بها، والثوبَ: وجده غليظاً. قال:
فما زُهد التقِىّ بحَلْق رأْس ... وليس بلبس أَثوابٍ غلاظِ
ولكن بالتُّقى قولا وفعلا ... وإِدمانِ التخشع فى اللحاظ
وقد ورد فى القرآن فى مواضع مختلفة:
(1) فى أَمر النبىّ صلَّى الله عليه وسلّم بالصلابة والتخشين على المنافقين والكافرين: {جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} .
(2) وفى أَمر المؤمنين بذلك أَيضاً: {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} .
(3) وفى منع النبىّ صلَّى الله عليه وسلم عن ذلك مع المؤمنين: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} .
(4) وفى بيان قوّة الإِسلام وصلابته: {فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ} .
(5) وفى قوّة الميثاق وإِحكام العهد: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} .
(6) وفى صفة العذاب الذى نجّى منه الموحدِّين: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .(4/146)
(7) وفى العذاب الموعود به الكفّار: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} .
(8) وفى صفة الملائكة الموكَّلين بتعذيب الكافرين: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} .
والغِلاَف للسّيف ونحوه معروف، والجمع: غُلُف وغُلْف [وغُلَّف] كَرُكَّع. وقرأَ به ابن مُحَيصِن فى قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، قيل: هو جمع أَغلف من قولهم: قلب أَغلف كأَنما أُغشِى غِلاَفا فهو لا يعى. ويكون ذلك كقوله: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} ، وقيل: معناه: قلوبنا أَوعية للعلم فلا نحتاج إِلى أَن نتعلَّم منك، وقيل: قلوبنا مغطاة. وقيل: غُلْف هنا جمع غِلاَف، والأَصل غُلُف بضم اللاّم نحو كُتُب، وقد قرِئ به.
والغَلَق - محركة - والمِغْلَق والمِغْلاَق والمُغْلُوق: ما يُغلق به. وقيل: وما يفتح به. لكن إِذا اعتبر بالإِغلاق قيل: مِغْلَق ومِغلاق، وإِذا اعتُبر بالفتح قيل: مِفتح ومِفتاح. وأغلقت الباب وغلّقته على التكثير، وذلك إِذا أغلقت أَبواباً كثيرة أَو أغلقت باباً مراراً، قال تعالى: {وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ / هَيْتَ لَكَ} .(4/147)
بصيرة فى غلم وغلو وغمر وغمز
الغلام: الطارّ الشاربِ، والكهل أَيضا. وقيل: من حين يولد إِلى أَن يشِبّ. والجمع: أَغْلِمَة وغِلْمة وغِلمانٌ، والأنثى غُلاَمة. واغتلم الغلام: بلغ حدّ الغُلُومة والغلومِيَّة.
والغُلُوّ: التجاوز عن الحدّ. إِذا كان فى السّعر سمّى غَلاَء، وقد غلا السِّعرُ فهو غالِ وغَلِىّ. وأَغلاه الله. وبعته بالغالى والغلِىّ أَى بالغلاءِ. وغالاه وبه: سامَ فَابْعَطَ. وغلا فى الأَمر: جاوز حَدّه، وبالسّهم غَلْوًا وغُلُوًّا: رفع يديه لأَقصى الغاية. والغَلْى والغَلَيان فى القِدْر إذا طفَحت. وقد غَلَتْ وأَغلاها وغلاَّها، ولا تقل: غَلِيَت فإِنّها لحن. قال يَفتخر بالفصاحة.
ولا أَقول لِقدْر القوم قد غَلِيَتْ ... ولا أَقول لباب الدار مَغلوق
لكن أَقول لبابى مُغلَق وغلت ... قِدْرى وقابلها دنٌّ وإِبريق
وقال تعالى: {يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم} ، وبه شُبِّه غَلَيان الغَضَب والحرب.
والغَمْرة: معظم الماءِ السّاتر لمقرّه، وجُعل مَثَلا للجهالة التى تَغْمُر صاحبها. وقيل للشدائد: غمرات، قال تعالى: {فِي غَمَرَاتِ الموت} .
والغَمْز: الإِشارة بالجَفْن أَو اليد طلبا إِلى ما فيه مَعاب، ومنه قولهم: فلان ما فيه غَمِيزة: ما يَطعن فيه ويُغمز من النّقائص التى يشار بها إِليه. قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} .(4/148)
بصيرة فى غم
الغَمّ والغُمّة والغَمَّاءُ: الكَرْب، والجمع: غُموم. غَمّه يَغُمّه فاغتمّ وانغمّ: أَحزنه فحزِن. ومن دعائه صلَّى الله عليه وسلَّم: "يا فارج الهمّ ويا كاشف الغمّ".
وقد ورد فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: غمّ الصحابة فى حرب أُحُد بسبب صياح إِبليس: أَلا إِن محمدّا قد قُتل: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} - الثانى: المدال من ذلك الغمّ بالأَمن: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} - الثالث: تطييب قلوبهم وتفريحهم بزوال الغمّ: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} - الرّابع: غمّ أَهل النار، وذلك الذى ما بعده غمّ: {أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} . قال الشاعر:
صاحبُ السلطان لا بدّ له ... من غموم تعتريه وغُمَمْ
والذى يركب بحرًا سيرى ... قُحَم الأَهوال من بعد قُحَمْ
والغمام ورد على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل - غمام النعمة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن}
الثانى - غمام المحنة والعقوبة: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} :
الثالث - غمام العظمة والهيبة: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} .(4/149)
بصيرة فى غمض وغنم وغنى
يقال: ما اكتحلتُ غُمْضا - بالضمّ - وغَمَاضا وغِماضاً - بالفتح والكسر - وتَغْماضًا - بالفتح - أَى ما نمت. وغَمَضَ عنه وأَغمض: تساهل، قال الله تعالى: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} . وأَغمِض فيما بعتنى، وغمّض، كأَنَّك تريد الزِّيادة منه لرداءَته والحطَّ منْ ثمنه.
والغَنَمُ لا واحد له من لفظه، أَو الواحدة شاة. والجمع: أَغنام وغُنومٌ وأغانم.
والمغنم والغنيمة والغُنم: الفَىْء، وقد غَنِمَ غنما، قال تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} ، وقال: {مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} . وغَنَّمه تغنيماً: نفَّله. واغتنمه وتغنَّمه: عدّه غَنِيمة.
والغِنَى: ضدّ الفقر. وإِذا فتح مُدّ. والاسم: الغِنْية - بالضمّ والكسر - والغُنْوة والغُنْيان مضمومتين. والغَنِىّ والغانى: ذو الوفْر.
والغِنىَ يكون مطلقاً وهو عدم الحاجة بالكليَّة، وليس ذلك إِلاَّ لله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ الله / هُوَ الغني الحميد} . ويكون باعتبار قلَّة الحاجات، وهو المشار إليه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، وهو المذكور فى الحديث: "الغِنى غنى النفس". ويكون أَيضاً باعتبار كثرة القُنيات(4/150)
بحسب ضروب النَّاس كقوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} وقوله: {قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} قالوا ذلك لمّا سمعوا: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} ، وقوله: {أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} أَى لهم غِنىَ النَّفس ويحسب الجاهل أَنَّ لهم القُنْيات الكثيرة لِمَا يَرَون فيهم من التعفُّف.
وتغنَّيت، وتغانيت، واستغنيت، بمعنى، قال تعالى: {واستغنى الله والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
وغَنِىَ فى المكان - كرضى -: طال مُقامه فيه مستغنياً عن غيره، قال تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} .
والمغْنىَ: المنزل الَّذى غَنِىَ به أَهله ثمّ ظَعَنوا. ثم استعمل فى كلّ منزل.
والغانِية: المرأَة التى تُطلب ولا تَطلب، أَو الغنيّة بحسنها عن الزينة، أَو التى غنِيت فى بيت أَبويها ولم يقع عليها سِباء، أَو الشابّة العفيفة.(4/151)
بصيرة فى غيب
الغَيْب: ما غاب عنك. وقوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} قيل: الغَيْب هو الله تعالى لأَنه لا يُرَى فى دار الدّنيا، وإِنَّما تُرَى آياته الدالَّة عليه. وقيل: الغيب: ما غاب عن النَّاس ممّا أَخبرهم به النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: من الملائكة والجنَّة والنار والحساب. وقيل: يؤْمِنُون إِذا غابوا عنكم وليسوا كالمنافقين. وقيل: الغَيب: القرآن. وقال ابن الأَعرابىّ: الغَيْب: ما كان غائباً عن العيون وإِن كان محصّلاً فى القلوب، وأَنشد بيت تميم بن أُبَىّ بن مُقبل
وللفؤاد وَجِيبٌ تحت أَبْهره ... لَدْمَ الغلام وراءَ الغَيْب بالحجر
وقوله تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} ، أَى عِلم غيب السماوات والأَرْضِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: {مَّنْ خَشِيَ الرحمان بالغيب} ، أَى خاف الله من حيث لا يراه أَحد. وقوله تعالى: {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} ، أَى لغَيْب أَزواجهنَّ فلا يفعلن فى غيْبته ما يكرهه.(4/152)
والغِيْبة - بالكسر -: ذِكر الإِنسان فى غَيْبته بما يكرهه إِلاَّ فى أَحوال أُبيحت، وهى:
لم تُستبح غِيبة فى حالة أَبدا ... إِلاَّ لستة أَحوالٍ كما سترى
استفتِ عرِّف تظلَّم حذِّر استعنِ ... على إِزالة ظلم واحْكِ ما ظهرا
وقال بعض أَولادنا فى مجوِّزات الكذب أَيضاً:
والكِذْب لا ينبغى إِلاَّ لواحدة ... من الثلاث التى تصديقها شُهِرا
إِصلاح ذى البين أَو إِرضاءُ زوجته ... وفى الحروف وكن عن غيره حذرا
وقوله تعالى: {وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} ، أَى من حيث لا يدركونه ببصرهم وبصيرتهم.(4/153)
بصيرة فى غور وغوص وغول
الغَوْر: ما انخفض من الأَرض. وغار وأَغار: أَتى الغَوْر. والأَوّل أَفصح. وغَوْر كلِّ شىءٍ: بُعده وعُمقه. قال تعالى: {أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أَى غائرا فى بُعْدٍ من الأَرض. والغار فى الجبل. وكُنى عن الفرج والبطن بالغارَين. وأَغار على العدوّ إِغارة.
وقوله تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً} عبارة عن الخيول. وفى الحديث: "من دعا إِلى طعام لم يُدْع إِليه دخل سارقاً وخرج مُغيرا". وأَغار: أَسرع فى العَدْو، ومنه أَشرِقْ ثَبِير كيما نغير، أَى نذهب سريعاً.
والغَوْص: الدّخول تحت الماءِ لإِخراج / شىء. وقد غاص غَوْصًا وغِياصاً ومَغَاصًا. والمغاص أَيضاً: موضعه. والغَوَّاص: مَن يغوص فى البحر على اللؤْلؤ قال تعالى: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ} ، أَى يستخرجون له الأَعمال الغريبة والأَفعال البديعة، وليس استخراج الدّرّ فقط.
والغَوْل: الهلاك والإِهلاك خُفْية. غاله واغتاله بمعنى. والغَوْل أَيضاً: الصُدَاع، والسُّكْر، والمشقَّة، وبُعْد المفازة، والتُّرابُ الكثير، وما انهبط من الأَرض. قال تعالى يصف خمر الجنَّة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} إِشارة [إِلى] نفى جميع ما ذكرنا من المعانى المكروهة. والغُول - بالضمّ -: الدّاهية، والسعلاءُ والجمع: أَغوالٌ وغِيلانٌ، والحيّة، وساحرة الجنِّ، وشيطان يأْكل النَّاس.(4/154)
بصيرة فى غيض وغيظ وغى
غاض الماءُ يغيض غَيْضًا ومَغَاضًا: قلَّ ونقص، كانغاض، والماءَ: نقصه كأَغاضه، لازم ومتعدّ. قال تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} ، أَى تفسده فتجعله كالماءِ الذى تبتلعه الأَرض.
والغَيْظ: الغضب، وقيل: أَشَدّه، وقيل: سَورته وأَوّله. وهو الحرارة التى يجدها الإِنسان من ثوران دم قلبه، قال تعالى: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} . وقد دعا الله تعالى العباد إِلى إِمساك النَّفْس عند حصوله فقال: {والكاظمين الغيظ} . وإِذا وُصِف الله تعالى به فإِنما يراد به الانتقام كما قلنا فى الغضب، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} أَى داعون بفعلهم إِلى الانتقام. والتغيّظ: إِظهار الغيظ. غاظه فاغتاظ، وغيّظه فتغَيَّظ. وقد يكون ذلك مع صوت كما قال: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} .
والغَىّ: الضلال والجهل من اعتقاد فاسد، وَوادٍ فى جهنمَّ، غَوَى يغوِى - كرمى يرمى - غَيًّا، وغَوِىَ غَوَاية - بالفتح - فهو غاوٍ وغَوِىٌّ وغَيّانُ: ضلّ، وغَوَاه غيره لازم ومتعدّ، وأَغواه وغوّاه.
وقوله تعالى: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} أَى الشَّياطين، وقيل: من ضلّ من النَّاس، وقيل: الذين يحبّون الشاعر إِذا هجا قوماً، أَو محبّوه(4/155)
لمدحه إِيّاهم بما ليس فيهم. قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} : ما جهل. وقوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} ، أَى عذاباً، سّماه الغىّ لأَنَّه سببه. وقيل معناه: سوف يلقون أَثر الغىّ.
وقوله تعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} أَى جهل، وقيل: معناه: خاب، وقيل: معناه: فسد عيشه، من غَوِىَ الفصيل غَوَى فهو غَوٍ: إِذا بَشِمَ من اللَّبَن، أَو مُنع من الرضاع، فهُزِل وكاد يهلك.
وقوله: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} قيل: معناه أَن يعاقبكم على غيّكم. وقيل: يحكم عليكم بغيّكم كما تقدّم فى {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} ، وقوله: {رَبَّنَا هاؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} إِعلاما منهم أَنا قد فعلنا بهم غاية ما كان فى وُسع الإِنسان أَن يفعل بصَدِيقه، [فإِن حق الإِنسان أَن يريد بصديقه] ما يريد بنفسه، فيقول: قد أَفدناهم ما كان لنا، وجعلناهم أُسوة أَنفسنا. وعلى هذا قوله: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} .
وتغاوَوا عليه: تعاونوا وجاءُوا من هاهنا وهاهنا وإِن لم يَقتلوا. وهو ولد غَيّة - بالفتح والكسر -: ولد زَنْية. والغوغاءُ: الجراد، والكثير المختلِط من الناس. والغاوية: الرّاوية.
آخر باب الغين(4/156)
الباب الحادى والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف الفاء(4/157)
بصيرة فى الفاء
الفاءُ المفردة حرف مهمل. وقيل: حرف ناصبة نحو: ما تأْتينا فتحدّثنا. وقيل: يخفض نحو:
- فمِثْلِك حُبْلَى قد طرقتُ ومُرْضعٍ -
بجرّ مثل.
وترد الفاءُ عاطفة، وتفيد الترتيب، وهو نوعان: معنوىّ كقام زيد فعمرو، وذِكْرىّ وهو عطف مفصّل على مُجمَل، نحو: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} . وتفيد التعقيب، وهو فى كلّ شىءٍ بحسبه؛ كتزوّجَ فوُلد له، وبينهما مدّة الحمل. ويكون بمعنى ثُمَّ {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} . وبمعنى الواو نحو قوله: ... بين الدخول فحومل.
ويجىءُ للسببيّة، وذلك غالب فى العاطفة جملة نحو: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} ، أَو صفة نحو قوله تعالى: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم} .(4/158)
ويكون رابطة للجواب والجواب، جملة اسميّة، نحو قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} ، {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} ؛ أَو يكون جملة فعليّة كالاسميّة، وهى الَّتى فعلها جامد، نحو: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ} ، {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} ؛ أَو يكون فعلها إِنشائيَّا، نحو قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} ؛ أَو يكون فعلاً ماضياً لفظا ومعنى، إِمّا حقيقة، نحو قوله تعالى: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} ، أَو مجازًا نحو قوله تعالى: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} نُزّل الفعل لتحقّقه منزلة الواقع.
وقد يحذف ضرورة، نحو:
مَنْ يَفْعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرها
أَى فاللهُ أَولا يجوز مطلقاً والرّواية:
من يفعل الخير فالرحمان يشكره
أَو هى لغة فصيحة، ومنه قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} ومنه حديث اللُّقَطة: "فإِن جاءَ صاحبها وإِلاَّ اسْتَمْتِعْ بها" أَى فاستمتِع.
والفاءُ فى حساب الجُمَّل: اسم لعدد الثمانين.
قال بعض النحاة: فاء الجواب يكون فى سبعة مواضع: جواب الأَمر والنَّهى، والدّعاءِ، والنفى، والتمنى، والاستفهام، والعَرْض.(4/159)
مثال الأَمر: زُرْنى فأُكرمَك. مثال النَّهى، نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ} . مثال الدّعاءِ: اللهمَّ وفِّقنى فَأَشكرَك. مثال النَّفى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ} . مثال التمنى: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} . مثال الاستفهام: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} . مثال العَرْض، قوله تعالى: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} .
وفاء التخيير يكون فى جواب أَمَّا: / {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} .
ومن أَقسام الفاءِ فاء التَأْكيد، وذلك يكون فى الأَمر؛ نحو: زيدًا مّا فَضُرَّ. ويكون فى القَسَم: فورَبِّك، فبعزَّتك.
ومنها الفاء الزَّائدة، وتدخل على الماضى نحو: {فَقُلْنَا اذهبآ} ، وعلى المستقبل: {فَيَقُولُ رَبِّ} ، وعلى الحرف: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ}
وقد يبدل عن الثاء؛ نحو فُمَّ فى ثُمَّ، وفُوم فى ثُوم.
ومنها الفاءُ اللّغوى وهو، زبد البحر قال:
لمَا مُزبد طامٍ يجيش بفائه ... بأَجود منه يوم يأْتيه سائله(4/160)
بصيرة فى فتح
قد ورد الفتح فى القرآن على وجوه:
الأَوَّل: بمعنى القضاءِ والحكومة، نحو قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} ، أَى حكمنا وقضينا، {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} أَى يقضى، {متى هاذا الفتح} أَى القضاء، {قُلْ يَوْمَ الفتح} أَى يوم القضاء
الثانى: بمعنى إِرسال الرَّحمة: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} ، أَى ما يُرسل.
الثالث: بمعنى النُصْرة: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} أَى بالنصرة.
الرَّابع: بمعنى إِزالة الأَغلاق. وهذا يأْتى على وجوه:
الأَوَّل: بمعنى فتح أَبواب النُّصْرة: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} .
الثانى: بمعنى فتح أَبواب الغنيمة والظفر بها: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله} .
الثالث: فتح خزائن القدرة: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} .
الرَّابع: فتح أَبواب النعمة: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} .
الخامس: فتح أَبواب السَّماءِ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} .(4/161)
السَّادس: فتح مغاليق الخُصومات: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} .
السَّابع: فتح أَبواب البركة: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء} .
الثامن: فتح أَبواب القتل والإِهلاك: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} .
التاسع: فتح باب البضاعة: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} .
العاشر: فتح أَبواب السَّمَاءِ على طريق الإِعجاز: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء} .
الحادى عشر: فتح السَّدّ يوم القيامة: {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} .
الثانى عشر: فتح أَبواب العذاب: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
الثالث عشر: فتح بيوت الأَصدقاء وَذوى القُرْبى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} .
الرَّابع عشر: فتح باب الدُّعاءِ رجاءً للإِجابة: {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} .(4/162)
الخامس عشر: فتح أَبواب الجنَّة: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
السَّادس عشر: فتح أَبواب جهنَّم: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
السَّابع عشر: فتح أَبواب الثواب والكرامة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} .
الثَّامن عشر: فتح أَبواب الطوفان: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} .
التَّاسع عشر: فتح البلاد على يَدىْ أَهل الإِسلام: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} .
قال أَبو القاسم الأَصبهانىّ: الفَتْح ضروب:
أَحدها: ما يُدرك بالبصر، كفتح الباب والقُفْل والمتاع.
والثانى: ما يدرك بالبصيرة، كفتح الهمّ و [هو] إِزالة الغمّ، وذلك ضربان: غَمّ يُفَرَّج، وفقر يزال، ونحوه قوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ، أَى وسَّعنا عليهم: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} ، أَى أَقبل عليهم الخيرات من كلّ جانب.(4/163)
/ والثالث: فتح المستغِلق من العلوم. قلت: وذلك على ضربين: الأَوَّل بتوفيق الاستكثار من العلوم الظَّاهرة وتحقيق معانيها، والثانى بفتح باب القلب إِلى العلم اللَّدنِّىّ كما تقدَّم بيانه فى "بصيرة العلم"
وقيل فى قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} إِنه عنى فتح مكَّة. وقيل: بل عنى ما فتح عليه من العلوم والهدايات التى هى ذريعة إِلى الثواب العظيم، والمقامات المحمودة التى صارت سبباً لغفران ذنوبه.
وفاتحة كل شىء مبدؤه الذى يفتح به ما بعده، وبه سمّى فاتحة الكتاب. ويقال: افتتح فلان كذا أَى ابتدأَه، وفتح عليه كذا: أَعلمه ووقَّفه عليه: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} .
وقيل: فى قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} يحتمل النَّصر والظفر والحكم وما يفتح الله من المعارف، وعلى ذلك: {نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وقوله: {قُلْ يَوْمَ الفتح} أَى يوم الحكم، وقيل يوم إِزالة الشُّبهة بإِقامة القيامة، وقيل: ما كانوا يستفتحون من العذاب ويطلبونه.
والاستفتاح: طلب الفتح [أَو الفِتَاح قال: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} ] أَى إِن طلبتم الظفر أَو الفِتَاح أَى الحُكْم، أَو طلبتم مبدأَ الخيرات، فقد جَاءَكم ذلك بمجىء النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} أَى يستنصرون ببَعثة محمدّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقيل: يستعلمون خبره من النَّاس مرَّة، ويستنبطونه من الكُتُب مرَّة، وقيل: يطلبون من الله الظفر بذكره، وقيل: كانوا يقولون(4/164)
إِنا نُنْصر بمحمّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم على عَبَدة الأَوْثان.
وقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} ، أَى ما يتوصَّل به إِلى غَيْبه المذكور فى قوله: {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} .
وقوله: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} أَى مفاتح خزائنه، وقيل: عنى بالمفاتح الخزائن نفسها، قال الشَّاعر:
يا سيد الأُمراء والأَلباب ... أَشكو إِليك فظاظة البوّاب
قد كنت جئت لخدمةٍ أَبغى بها ... عزّا فقابلنى بذلِّ حجاب
إِن كنت ترغب سيدى فى خدمتى ... فأَقلُّ ما فى الباب فتح الباب(4/165)
بصيرة فى فتر وفتق وفتل وفتن
فَتَرَ الحرّ: سكن، والماءُ الحارّ: لانت شدّةُ حرارته. وقوله تعالى: {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} أَى سكون حال عن مجىءِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم. وقوله تعالى: {لاَ يَفْتُرُونَ} أَى لا يسكنون عن نشاطهم فى العبادة. والطَرْف الفاتر: الذى فيه ضعف مستحسن.
والفَتْق: الشقُّ، فَتَقَه وفتَّقه فتفتَّق وانفتق. ومَفْتَق القميص: مشقّه. قال تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} . والفَتْق أَيضاً: شقّ عصا الجماعة، ووقوع الحرب بينهم. والفَتْقُ والفَتَقَ والفَتِيق: الصّبح.
فَتَل الحَبْل وفَتَّله: لواه فهو فتيل ومفتول، وقد انفتل وتفتَّل. وفتل وجهَه عنهم: صرفه. وقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} مَثَل فى الحقارة والقِلَّة، وهو ما يكون فى شَقِّ النَّواة لكونه على هيئة الفَتِيل. وقيل: هو ما تفْتِله بين أَصابعك من خيط أَو وَسَخ.
والفَتْن: الفَنّ، والحال، والإِحراق. ومنه قوله تعالى: {عَلَى النار يُفْتَنُونَ} . والمفتون والفِتْنة: الخِبْرة، مصدر كالمعقول والمجلود. ومنه قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ المفتون} . والفِتْنَة أَيضاً: إِعجابك بالشىءِ، فَتَنَهُ(4/166)
يفْتِنه فَتْنًا وفُتُونًا، وأَفتنه. وأَصل الفتنة إِدخال الذَّهبِ النارَ ليُخْتَبَر جودته، والجمع: فِتَن، قال:
وفيك لنا فِتن أَرْبعٌ ... تسُلّ علينا سيوف الخوارج
لِحاظُ الظِّباء وطوق الحمام ... ومشىُ القِباجِ وزىُّ التَّدارج
وقد / ورد فى القرآن على اثنى عشر وجهاً:
(1) بمعنى العذاب: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} .
(2) وبمعنى الشِّرك: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} .
(3) وبمعنى الكفر: {لَقَدِ ابتغوا الفتنة} ، {مِنْهُ ابتغاء الفتنة} ، {ولاكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أَى كفرتم.
(4) وبمعنى الإِثم {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَى إِثم، {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} فى الإِثم.
(5) وبمعنى العذاب: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أَى عُذِّبوا.
(6) وبمعنى البلاءِ والمِحْنَة: {أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} أَى يُبْتَلُونَ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} : امتحنَّاهُمْ، {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أَى بلوناك. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أَى ابتليناهم.(4/167)
(7) وبمعنى التعذيب والحُرقة: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} أَى عذَّبوهم، {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} : حُرَقكم.
(8) وبمعنى القتل والهلاك: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} أَى يقتلكم، {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} أَى يقتلهم.
(9) وبمعنى الصدّ عن الصراط المستقيم: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} ، {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} أَى يصدّوكَ. وقيل: يوقعوك فى بليّة وشدّة فى صرفهم إِيّاك عمّا أُوحى إِليك.
(10) وبمعنى الحَيرة والضَّلال: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} أَى بضالِّين، {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أَى ضلالته.
(11) وبمعنى العُذْر وَالعِلّة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} أَى عذرهم.
(12) وبمعنى الجنون والغفلة: {بِأَيِّكُمُ المفتون} أَى الجنون. وقيل التقدير: أَيكم المفتون والباء زائدة كقوله: {وكفى بالله}
والفتنة والبلاءُ يستعملان فيما يُدفع إليه الإِنسان من شدّة ورخاء. وهما فى الشدّة أَظهر معنى وأَكثر استعمالاً.(4/168)
وقوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} إِشارة إِلى ما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات} .
والفتنة من الأَفعال التى تكون من الله تعالى، ومن العبد؛ كالبليّة والمصيبة، والقتل، والعذاب ونحوه من الأَفعال المكروهة. ومتى كان من الله إِنَّما يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإِنسان بغير أَمر الله يكون ضدّ ذلك.(4/169)
بصيرة فى فتى
الفَتى: الشاب، والسخىّ الكريم، وهما فَتَيَان وفَتَوَان، والجمع، فِتْيانٌ وفِتْوة وفُتُوّ وفُتىّ، وهى فتاة، والجمع: فَتَيَات. والفُتُوَّة نهاية الكَرَم. {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} : يوشع.
والفُتُوَّة منزلة حقيقتها منزلة الإِحسان وكفّ الأَذَى عن الغير وَاحتمال الأَذى منهم. فهى فى الحقيقة نتيجة حُسْن الخُلُق وغايته. وقيل: الفرق بينها وبين المروءَة أنَّ المروءَة أَعمّ، والفتوّة نوع من أَنواعها؛ فإِنَّ المروءَة استعمال ما يجمّل ويزين ممّا هو مختصّ بالعبد، أَو متعدّ إِلى غيره، وترك ما يدنّس ويَشين ممّا هو مختصّ به أَو متعلِّقٌ بغيره. والفتوّة إِنَّما هى استعمال الأَخلاق الكريمة مع الخَلْق. وهى منزلة شريفة لم يعبَّر عنها [فى] الشريعة باسم الفتوّة، بل عُبّر عنها باسم مكارم الأَخلاق؛ كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ اللهَ بعثنى لتمام مكارم الأَخلاق، ومحاسن الأَفعال" رواه جابر. وأَصل الفتوّة من الفَتى وهو الشاب الطرىّ الحديث السِّنّ، قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} وقال عن قوم إِبراهيم إِنهم: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}(4/170)
وقال تعالى عن يوسف عليه السّلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} ، {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ} .
فاسم / الفتى لا يُشعر بمدح ولا ذمّ كاسم الشابِّ والحَدَث. ولذلك لم يجئ لفظ الفتوّة فى الكتاب والسنَّة ولا فى كلام السّلف، وإِنما استعمله مَنْ بعدهم فى مكارم الأَخلاق. قيل: أَقدمُ من تكلَّم فى الفتوّة جعفر الصّادق، ثمّ الفُضَيل بن عِياض، والإِمام أَحمد، وسهل بن عبد الله التُسْتَرىّ، والجُنَيْد، ثم طائفة. سئل جعفر عنها وقال للسّائل ما تقول؟ قال. إِن أُعطيت شكرت، وإِن مُنِعت صبرت. فقال: الكلاب عندنا كذلك. فقال: يا ابن رسول الله فما الفتوّة عندكم؟ قال: إِن أُعطينا آثرنا، وإِن مُنِعنا شكرنا. وقال الفضيل: الفتوّة: الصّفح عن عَثَرَات الإِخوان. وسئل الإِمام أَحمد عن الفتوّة، فقال، ترك ما تهوَى لما تخشى. وسئل الجنيد عنها فقال: أَلاَّ تنافِر فقيراً، ولا تعارض غنيًّا. وقال الحارث المحاسبىّ: الفتوة أَن تُنْصف ولا تَنْتصف. وقال عمرو ابن عثمان المكىّ: الفتوة حُسْن الخلق. وقال محمّد بن على الترمذىّ: الفتوة أَن تكون خصيماً لربّك على نفسك. وقيل: الفتوة أَلاَّ ترى لنفسك فضلاً على غيرك. وقال الدقَّاق: هذا الخُلُق لا يكون كمالُه إِلاَّ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإِنَّ كلَّ أَحد يقول يوم القيامة: نفسى نفسى، وهو يقول: أُمّتى أُمّتى. وقيل الفتوّة: كسر الصّنم الذى بينك وبين الله وهو نفسك؛ فإِنَّ الله تعالى حكى عن قصة(4/171)
إِبراهيم أَنَّه جعل الأَصنام جُذَاذًا فكسر الأَصنام له، فالفتى من كسر صنماً واحد لله. وقيل: الفتوّة أَلاَّ تكون خصماً لأَحد يعنى فى حظِّ نفسك، وأَمّا فى حق الله فالفتوّة أَن تكون خصماً لكل أَحد ولو كان الحبيب المصافيا. وقال الثورىّ: أَن يستوى عندك المقيم والطَّارىءُ. وقال بعضهم: أَلاَّ يميز بين أَن يأْكل عنده وَلىّ أَو كافر. وقال الجُنَيْد أَيضاً: الفتوة كفُّ الأَذى، وبذل الندَى. وقال سهل: هى اتِّباع السنَّة. وقيل: الوفاءُ والحفَاظ. وقيل: فضيلة تأْتيها ولا ترى نفسك فيها. وقال: أَلا تحتجب ممّن قصدك. وقيل: أَلاَّ تهرُب إِذا أَقبل العافى، يعنى طالب المعروف. وقيل: إِظهار النعمة، وإِسرار المحنة. وقيل: أَلاَّ تدّخر ولا تعتذر. وقيل: تزوّج رجل امرأَة فلمّا دخل عليها رأَى بها الجُدرىّ فقال: عينى ثم قال: عمِيتُ. فبعد عشر سنين ماتت ولم تعلم أَنه بصير. وقيل: ليس من الفتوّة أَن تَرْبح على صديق. ويذكر أَن رجلا نام من الحاجّ بالمدينة ففقد هِمْيانًا فيه أَلف دينار. فقام فزِعاً فوجد جعفر بن محمّد رضى الله عنه فتعلَّق به وقال: أَخذتَ هِيْمانى. فقال أَيشٍ كان فيه؟ فقال: أَلف دينار. فأَدخله داره ووزن له أَلف دينار، ثمّ إِنه وجد هِيْمانه فجاءَ معتذراً إِلى جعفر بالمال، فأَبى أَن يقبله، وقال: شىءٌ أَخرجته من يدى لا أَستردّه أَبدًا.
وقال الشيخ عبد الله الأَنصارى: نكتة الفتوة أَلاَّ تَشهد لك فضلاً،(4/172)
ولا ترى لك حقَّا؛ يشير إِلى أَن قلب الفتوّة وإِنسان عينها أَن تغيب بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك، وتغيب بشهادة حقوق الخَلْق عليك عن شهادة حقوقك عليهم، والنَّاس فى هذا على مراتب، فأَشرفهم أَهل هذه المرتبة، وأَخسّهم عكسهم.
وأَوّل الفتوّة ترك الخصومة باللسان / والقلب فى حقِّ نفسه لا فى حقِّ ربّه، والتغافل عن الزلاَّت الَّتى لم يُوجب الشرع أَخذه بها، ونسيان أَذيّة مَن نالك بأَذًى ليصفو قلبُك له، ونسيانك إِحسانك إِلى من أَحسنتَ إليه حتىَّ كأَنَّه لم يَصدر منك إِحسان. وهذا أَكمل ممّا قبله، وفيه يقول:
ينسى صنائعه واللهُ يظهرها ... إِنّ الجميل إِذا أَخفيته ظهرا
وثانيها: أَن تقرّب من يُبعدك، وتعتذر إِلى من يجنى عليك، سماحة لا كَظْماً، وتحسن إِلى من أَساءَ إليك وتعتذر إِليه أَيضاً. ومعنى هذا أَنَّك تُنزل نفسك منزلة الجانى والمسىءِ، وكلّ منهما خليق بالعذر.
والذى يُشهدك هذا المشهد أَن تعلم أَنه إِنَّما سُلِّط عليك بذنب صدر منك، كما قال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ، فإِذا علمت أَنك بدأت بالجناية وانتقم الله منك على يده كنتَ فى الحقيقة أَولى بالاعتذار. وقال بعض أَهل الخصوص: من طلب نور الحقيقة على قدَم الاستدلال لم تحِلّ له دعوة الفتوّة أَبدا، كأَنه يقول: إِذا لم تُحوِج يا فتى عدوّك إِلى العُذر والشفاعة، ولم(4/173)
تكلِّفه طلب الاستدلال على صحّة عذره، فكيف تحوج وليّك وحبيبك إِلى أَن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة، ولا تسير إِليه حتى يقيم لك دليلا على وجود وحدانيته وقدرته ومشيئته، فأَين هذا من درجة الفتوَّة! وهل هذا إِلاَّ خلاف الفتوّة من كلّ وجه؟!
وليس يصحّ فى الأَذهان شىءٌ ... إِذا احتاج النهار إِلى دليل(4/174)
بصيرة فى فتئ وفج وفجر وفجو وفحش وفخر
أبو زيد: ما فتأْت أَذكره، وما فتئت أَذكره. وما فتُؤت أَذكره وهذه عن الفرّاءِ، أَى ما زِلت أَذكره وما برِحت. وقوله تعالى: {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ} أَى ما تفتأ. وما أَفتأت أَذكره لغة فى ذلك.
والفجُّ: شُقَّةٌ يكتنفها جبلان. ويستعمل فى الطَّريق الواسع، قال تعالى: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} . ويقال: قطعوا سُبُلاً فِجَاجًا، حتى أَتَوكَ حُجَّاجًا.
والفَجْر: شقُّ الشىء شَقًّا واسعاً كَفَجْرِك سِكْر النهر. فجَرْته فانفجر، وفجّرته فتفجَّر. وفَجَر الله الفَجْر: أَظهره، سُمِّى به لأَنَّه يشق اللَّيل قال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} .
والفجْر فجران: كاذب وهو كذَنَب السِّرحان، وصادق وهو المستطير الذى يتعلَّق به الصلاة والصيام.
والفَجَر: الكَرَم. وفلان يتفجَّر بالمعروف.(4/175)
والفَجْوة والفجواءُ: الفُرْجة وما اتَّسع من الأَرض، قال تعالى: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ} أَى ساحة واسعة. والفَجْوة: ساحة الدّار، والجمع: فَجَوَات وفِجاء. وفَجَا بابَهُ: فتحه فانفجى، وقوسَه: رفع وترها عن كبِدها. وأَفْجَى: وسّع النفقة على عياله. والفَجَا: تباعُد ما بين الفخذين أَو الرّكبتين أَو السّاقين.
والفُحْش والفَحْشَاءُ والفاحشة: ما عظُم قُبْحه من الأَقوال والأَفعال. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} .
الفخر: المباهاة بالأَشياء الخارجة عن الإِنسان كالمال والجاه. رجل فاخر وفَخُور وفِخّير كسكيّت. وفَخَرْتُ فلاناً على صاحبه - كمنعت -: حكمت له بفضل عليه. ويعبّر عن كلّ نفيس بالفاخر.
والفَخَّار: الجرار.(4/176)
بصيرة فى فدى وفر وفرت وفرث وفرج وفرح
فداه يَفديه فِداء وفِدًى وفَدًى / وافتدى به، وفاداه: أَعطى شيئا فأَنقذه. والفِداءُ ككساء: ذلك المعطَى. قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} . وأَفداه الأَسيرَ: قبل منه فديته.
أَصل الفَرّ: الكشف ومنه الافترار، وهو: ظهور السنّ من الضَّحك. وفرّ من الحرب فِرَاراً. وأَفررته: جعلته فارَّا. قال تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} . والمفَرّ: موضعه ووقته. والمفَرّ أَيضاً: الفرار نفسه قال تعالى: {أَيْنَ المفر} يحتمل المعانى الثلاثة.
والفُرَات: البحر نفسه. والفُرَاتُ: الماءُ العذب، يقال: ماءٌ فُرَات ومياه فُرَات. والفُرَات: نهر بالكوفة. وفى الحديث: "سَيْحان وجِيْحَان والنيل والفرات من أَنهار الجنَّة". وفَرُت الماء فَرُوتة: عَذُب.
وفَرِت - كفرح -: ضعف عقله بعد مُسْكة.
والفَرْث: السِّرقين ما دام فى الكَرِش، والجمع: فُرُوث، قال الله تعالى: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} ، والفَرْث أَيضاً: غَثَيَان الحُبْلى.(4/177)
والفَرْج والفُرْجة: الشقّ بين الشيئين، كفُرجة الحائط، والفَرْج ما بين الرِّجْلين، وكُنى به عن السَّوءَة. وكثر حتىَّ صار كالصّريح فيه.
قال تعالى: {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} أَى انشقَّت. وقوله تعالى: {مَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أَى من شقوق. ولكلِّ غمّ فَرْجة، أَى كَشْفة. قال
رُبَّ ما تكره النفوسُ من الأَمـ ... ـر له فَرْجة كحلّ العِقال
وفَرَج البابَ: فتحه، وفَرَج الله غمّه فانفرج. والله فارجُ الغمومِ
يا فارج الكرب مسدولا عساكره ... كما يفرّج غَمَّ الظلمة الفَلَقُ
ومكان فَرِج: فيه تفرّج. ورجل فُرُج: لا يكتم سرًّا. وفلان يُسَدّ به الفَرْج، أَى يُحمى به الثَغْر. وجاءُوا وعليهم فراريج، وهى الأَقبية المشقوقة من وراء.
والفَرَح: ضدُّ التَرَح، وهو انشراح الصَّدْر بلذَّة عاجلة: {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} . ولم يرخَّص فى الفرح إِلاَّ بما فى قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} . والفَرِح: الكثير الفَرَح قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} . ولك عندى فَرْحة، أَى بشرى.
وأَفْرَحَهُ: غمَّه، وأَزال فرحه، وتقول: أَفرحتنى الدُّنيا ثم أَفرحتنى، والهمزة للسّلب. ويقال: المرءُ بين مُفْرِحين، قاعد بين سلامة وحَيْن. ورجل مِفراح: كثير الفرح.(4/178)
بصيرة فى فرد
الفَرْد: الوتر، والجمع: أَفراد، وفُرَادَى على غير قياس كأَنه جمع فَرْدان. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} . قال الفراءُ: قومٌ فُرَادى وفُرادُ بغير تنوين، لا يُجْرون فراد، تشبيهاً بثُلاثَ ورُبَاع، قال: وأَنشدنى بعضهم قول تميم بن أُبىّ بن مقبل يصف فرساً:
ترى النُعَرات الخضر تحت لَبَانه ... فُرَادَ ومَثْنى أَضعفتها صواهلُهْ
ويروى أُحادَ ومثنى. وَجَاءُوا فُرَادَ فُرَادَ كقولهم: جاءُوا فُرادَى، ويقال أَيضاً جاءُوا فُرَادًا بالتنوين، أَى واحدا واحدا. قال: والواحد فَرَدٌ وفَرِد وفَرِيد وفَرْدان ولا يجوز فَرْد فى هذا المعنى. وقد جاءَ فَرْدَى مثال سكرى، ومنه قراءَة الأَعرج ونافع وأَبى عمرو: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرْدَى} .
والفَرْد أَخصّ من الواحد، قال تعالى: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أَى وحيدًا. ويقال فى الله فَرْد تنبيهاً أَنه بخلاف الأَشياءِ كلّها فى الازدواج المنبَّه عليه بقوله: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، أَو معناه: المستغنِى عمَّا عداه، كما نبَّه بقوله: {غَنِيٌّ عَنِ العالمين} ، وإِذا قيل: هو منفرد(4/179)
بوحدانيَّته فمعناه هو مستغن عن كلِّ تركيب وازدواج، / تنبيها أَنه بخلاف الموجودات كلّها. قال:
فى الأَهل شُغْل وفى الأَولاد منقصة ... والله فردٌ يحب الفرد فانفرِدوا
إِن كنت منفرِدا فاللَّيث منفرد ... والسيف منفرد والبدر منفرد
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
1- فى دُعاءِ زكريَّا وسؤاله أَلاَّ يَبْقَى بلا وارث: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} .
2- بمعنى المنفرد فى القبر: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} .
3- فى الحضور إِلى المحشر وحيدًا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} .
4- بمعنى الفرد العاصى عن الأَهل والمال فى القيامة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .(4/180)
بصيرة فى فرش وفرض
الفَرْش: بَسط الثياب، والمفروش: فَرْش أَيضاً وفِرَاش، قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} أَى ممهّدة غير نابية بتعسير الاستقرار عليها. وجمع الفِرَاش: فُرُش، قال تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} . ويُكنى بالفراش عن كلٍّ من الزوجين. وفلان كريم المفارش، أَى النساءِ، قال أَبو كبير الهُذَلىّ:
سُجراءَ نفسى غيرَ جمع أُشابة ... حُشُدا ولا هُلُكِ المفارِش عُزَّل
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "الوَلَدُ للفِرَاش". وفَرَشْتُهُ أَفْرِشُه أَى بسطته له كلّه. وفرشت له فِراشاً، وفرشته إِيَّاه، وأَفرشته.
ورأَيت فَرَاشَةً وهى واحد الفَرَاش للطويئر الذى يتعرَّض لإِحراق نفسه، قال تعالى: {كالفراش المبثوث} . وما فلان [إِلاَّ] فراشة، مَثَل فى الحقارة وخفَّة الرأْس.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} ، فالحَمُولة: ما يطيق الحمل، والفرشُ: ما لا يطيقه لصغره وضعفه.(4/181)
والفَرْض: الحَزّ، والتوقيت، وما أَوجبه الله تعالى. وكذا المفروض. فَرَض الله الصلاةَ وافترضها، وحقُّك فَرْض ومفروض ومفترَض. وفَرَضَ الله الفرائض. وفلان فَرَضِىّ وفارض وفرَّاض: معه علم الفرائض. والفَرْض كالإِيجاب، لكنَّ الإِيجاب اعتبارا بوقوعه، والفرض اعتباراً بقطع الحكم فيه، قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} أَى أَوجبنا العمل بها. وقرئ بالتَّشديد، أَى جعلنا فيها فريضة بعد فريضة، وقيل: فصَّلناها وبيَّنَّاها. وقوله تعالى: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} أَى معلوماً، وقيل: مقطوعاً عنهم.
وقيل: ورد الفرض فى القرآن على خمسة أَوجه:
1- بمعنى الإِيجاب: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} ، {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أَى أَوجبنا، {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} : أَوجبتم.
2- بمعنى الإِحلال: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} .
3- بمعنى الإِنزال: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أَى أَنزل وأَوجب العمل به.
4- بمعنى قسمة الصَّدقات والغنائم والميراث: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ} إِلى قوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} ، أَى قسمة. {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله} أَى قسمة، {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} ، أَى(4/182)
مقسوماً. وقيل: كلّ موضع ورد فرض الله عليه ففى الإِيجاب الَّذى أَوجبه الله، وما ورد من فرض الله له فهو أَلاَّ يحْظُرها على نفسه، نحو: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} .
وقوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، أَى سميَّتهم لهنَّ مهرًا، وأَوجبتم على أَنفسكم ذلك.(4/183)
بصيرة فى فرط وفرع وفرغ
فَرَط فُرُوطاً: سبق وتقدَّم، وفى الأَمر / فَرْطا: قصَّر فيه وضيَّعه كفرّطه تفريطاً. وقوله تعالى: {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} أَى يتقدَّم. وفَرَط فلان القومَ يَفْرِطهم فَرْطاً وفَرَاطة: تقدَّمهم إِلى الوِرْد لإِصلاح الحَوْض والدِلاءِ. وهم الفُرَّاط والفَرَط - بالتحريك - ويستوى فيه الواحد والجمع.
وفَرْع كلّ شىءٍ: أَعلاه، ويقال: هو فَرْع قومه، للشريف منهم.
وفِرعون: لقب الوليد بن مُصْعَب، ولقب كلّ من ملك مصر، ولقب كلّ عات متمرِّد. وفيه ثلاث لغات: فِرْعُون كِبْرذَون، وفُرْعُون كزُنْبُور، وفُرْعَوْن بضمّ الفاء.
فَرَغت من الشُغُل أَفْرُغ فُرُوغاً وفَرَاغاً، وفَرِغ يفرَغُ، مثال سمع يسمع، لغة فيه. وفَرِغ - بالكسر - يَفْرُغ - بالضَّم - مركَّب من اللغتين. وقال يونس فى كتاب اللغات، فَرَغ يَفْرَغ - كمنع يمنع - لغة أَيضاً. [قرأَ] قتادة وسعيد بن جبير والأَعرج وعُمارة الذرّاع: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} بفتح الرَّاءِ على فَرَغ يَفْرَغ وفَرِغ يَفْرَغ. وقرأَ أَبو عمرو وعيسى بن عُمَر وأَبو السمَّال: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} بكسر النون وفتح الرَّاءِ على لغة من يكسر أَوَّل المستقبل. وقرأَ أَبو عمرو أَيضاً: (سنِفْرِغ) بكسر الراءِ مع كسر النون، وزعم أَن تميما تقول نِعْلِم.(4/184)
ورجل فَرِغٌ أَى فارغ، كفَرِه وفارهٍ، وفاكهٍ [وفكِه] ، ومنه قراءَة أَبى الهُذَيل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَرِغاً} . وقرأَ الخليل (فُرُغاً) بضمَّتين بمعنى مُفَرَّغ، كذُلُل بمعنى مُذَلَّل. وقوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} أَى خاليا من الصبر، ومنه يقال: أَنا فارغ. وقيل: خالياً من كلِّ شىء غير ذِكر موسى. وقيل: من الاهتمام به لأَنَّ الله تعالى وعدها أَن يَرُدَّه إِليها بقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} .
والفراغ فى اللغة على وجهين: الفراغ من الشُغُل معروف، والآخر: القصد للشىء، (والله تعالى لا يشغله شىء عن شىء) ، ومنه قيل فى قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} . ويقال أَيضا فَرَغ إِليه. قال جرير:
أَلاَن وقد فَرَغْت إِلى نُمير ... فهذا حين كنت لهم عُقابا
وقال جرير أَيضاً يردّ على البَعِيث ويهجو الفرزدق:
ولمَّا اتقى القَيْنُ العراقىّ باسته ... فرغتُ إِلى اليقين المقيَّد بالحِجْل
وتفرَّغ: تخلَّى من الشغل. ومنه الحديث: "تفرَّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم". وتفريغ الظّروف: إِخلاؤها.
وقرأَ الحسن البصرىّ وأَبو رجاء والنَخَعىّ وعمران بن جرير: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} .
وأَفَرغ الدلو: صبّ ما فيه، ومنه استعير: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} .(4/185)
بصيرة فى فرق
فَرَق بينهما فَرْقاً وفُرْقانا: فَصَلَ. وقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أَى يقُضَى. وقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} ، أَى فَصَّلناه وأَحكمناه. وقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} أَى فلقناه. وقوله تعالى: {فالفارقات فَرْقاً} ، أَى الملائكة تنزل بالفَرْق بين الحقّ والباطل.
والفُرْق بالضَّم والفُرقان: القرآن، وكلُّ ما فُرِق به بين الحقّ والباطل. والفُرقان: النصر، والبرهان، والصّبح، والتوراة، وانفراق البحر، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} . ويوم الفرقان يوم بدر.
والفِراق والفَراق بالكسر والفتح: ضدّ الوصال، وقرئ: {هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} بالفتح.
والفِرقة بالكسر: الطَّائفة من الناس، والجمع، فِرق وأَفراق. وجُمع فى الشعر على أَفارقة. وجمع الجمع: أَفاريق. والفريق / أَكثر من الفرقة.
والفُرْقة بالضمّ: الافتراق، قال:
وننشا ومما زاد بَثَّا وقوفنا ... فريقىْ هوى منَّا مَشُوق وشائقُ
على ذا مضى الناس اجتماعٌ وفرقة ... ومَيْت ومولود وقال ووامقُ(4/186)
وقد ورد فى القرآن ما يتصرّف من هذه المادة على وجوه:
الأَوّل: فريق من اليهود أَعرضوا عن كتاب الله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} .
الثانى: فريق بدّلوا كتاب الله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} .
الثالث: فريق ذُمّ بالإِعراض عن الحقِّ: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} .
الرابع: فريق كذَّبوا بالكتاب وقتلوا الرّسل: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} .
الخامس: فريقان مؤْمن وكافر: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} .
السادس: فريقان للهدى والضَّلال: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} .
السابع: فريق هم أَهل المماراة والمباهاة من المؤمنين والكافرين: {أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً} .
الثامن: فريق من المستخِفِّين المستهترينِ بالضّعَفَاءِ والفقراءِ: {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} إِلى قوله {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} .(4/187)
التاسع: فريقان: مُقرّ ومنكر من قوم صالح عليه السّلام: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} .
العاشر: فريق أَنكروا وأَشركوا بعد التوبة والنجاة من البلاءِ والمِحَنِ: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} .
الحادى عشر: فريق مالوا للهزيمة والفرار: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} .
الثانى عشر: فريقان [أَولهما] للعذاب والنكال، وثانيهما للثواب والوصال: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} .
والفِراق ورد فى مواضع مختلفةِ:
فراق الرّجال النساء بالطلاق: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .
فراق الكفار الدين: {إِنَّ الذين فَارَقُواْ دِينَهُمْ} .
فِراق خِضر موسى: {هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} .
فراق الشخص الدنيا بالموت: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} .
فراق الحقِّ من الباطل: {فالفارقات فَرْقاً} .
فراقة طائفة أَوطانهم فى طلب العلم والدين: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} .(4/188)
فراق موسى قومه بالسّؤالِ: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} .
فراق المؤْمنين الكفَّار: {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين} .
تفرقة بين أَهل الإِسلام قد نهى عنها: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} .
تفرُّق أَهل الكتاب بعد نزول القرآن: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} ومنه قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} .
تفرقةٌ خشِى هارون أَن ينسبها موسى إِليه: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} .
تفرقةٌ أَمر يعقوبُ بها أَولاده خشية العين: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} .
تفرقة جعلها الله معجزة لموسى فى البحر: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} .
والفَرْق والفَلْق أَخوان. وكذا فَرَقُ الصُّبح وفَلَقه. والفَرَق بالتحريك: الخوف الذى يُفَرِّق القلب. ورجل فَرُوق وفَرُوقة: خوّاف.(4/189)
بصيرة فى فره وفرى وفز
فَرُه - ككرم - فَرَاهة وفَرَاهِيةً: حَذَق، فهو فارِه وفَرِه، كحاذر وحَذِر، بيّن الفُروهة. والجمع: فُرَّهٌ وفُرَّهَة وفُرْه. قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ} أَى حاذِقين. وقرئ: (فَرِهِين) بمعناه. وقيل: معناهما: أَشِرين بَطِرين، من قولهم: فَرِه - كفرح -: إِذا أَشِر وبطر.
/ الفَرى والتَّفْرية والإِفراءُ: شَقُّ الجلد، صالحاً كان أَو فاسدًا. والفَرْى والافتراءُ أَيضاً: الكذب واختلاقه. وقيل: الإِفراءُ: الإِفساد، والافتراءُ: الإِصلاح، وفى الإِفساد أَكثر، ولذلك استُمعل فى القرآن فى الكذب والشِرْك والظلم: {يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} .
وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ، قيل معناه: عظيما، وقيل: عجيباً، وقيل: مصنوعاً.
والفَزُّ: الإِزعاج. فَزَّه يَفُزُّه. ومنه سُمِّىَ ولد البقرة فَزًّا، لما فيه من عدم السكون والفَرَار. وقوله تعالى شَأْنه: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} أَى أَزْعج. وقوله: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض} أَى يُزعجهم.(4/190)
بصيرة فى فزع
الفَزَع: الذُعْر والفَرَق. وربّما جُمع على الأَفزاع وإِن كان مصدرًا يقال: فَزع - بالكسر -: خافَ. قال تعالى: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} . وفَزع أَيضاً: استغاث. والإِفزاع: الإِخافة والإِغاثة.
والتفزيع من الأَضداد، يقال فَزَّعه: إِذا أَخافه، وفَزَّع عنه: كَشَف عنه الفَزَع، قال الله تعالى: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أَى كُشِفَ عنها الفزع. وقرئ (فُرِّع) بالرّاءِ والغين، وقد تقدّم.
وقال الفراءُ: المُفَزَّعُ يكون شجاعاً، ويكون جَبَانًا، فمن جعله شجاعاً جعله مفعولاً به، وقال: بمثله تنزل الأَفزاع. ومن جعل المفزَّع الجبان أَراد أَنه يَفزع من كلّ شىءٍ. وهذا كقولهم للغالب مُغَلَّب، وللمغلوب مغلَّب.(4/191)
بصيرة فى فسح وفسد وفسر وفسق وفشل وفصح
الفُسُح والفَسِيحُ: الواسع من الأَماكن. وفَسَحت مجلسه، وافسَحوا لأَخيكم فى المجلس، وتفسّحوا له. ومُرَاح منفسح: كناية عن كثرة الإِبل.
وفَسَد الشىءُ فَسَاداً وفُسُوداً فهو فاسد. قال ابن دُرَيد: فَسَد يَفْسِد - مثال عقد يعقِد - لغة ضعيفة. وقوم فَسْدى، كما قالوا: ساقط وسَقْطى. وكذلك فَسُد بالضمّ فَسَادًا فهو فَسِيد.
والفساد: أَخذ المال بغير حقٍّ، هكذا فسّر مسلم البَطِين قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} . وقال اللَّيث: الفساد: ضدّ الصلاح. والمَفْسدة: خلاف المصلحة. ويستعمل ذلك فى النفس والبدن والأَشياءِ الخارجة عن الاستقامة.
الفَسْر والتفسير: كَشْف المعنى المعقول. وقد فسّر القرآن وفَسَره. ونظر الطبيب تَفْسِرة المريض، وهو ماؤُه المستدلُّ به على عِلَّته، وكذلك كلُّ ما تَرجَم عن حال شىءٍ فهو تَفْسِرته.
فَسَق يَفْسُقُ ويَفْسِق فِسْقًا - بالكسر - وفُسُوقًا: فَجَر، وخرج عن الحقِّ، وترك امتثال أَمر الله. ورجل فُسَق وفِسِّيق: دائم الفسق. وفسَقَت الرُطَبة: خرجت عن قِشرها. والفِسق أَعمّ من الكفر. ويقع على كثير الذْنب وقليلة، لكن تعورف فى الكثير أَكثر، وفيمن التزم(4/192)
حكم الشرع ثمّ أَخلّ بأَكثر أَحكامه. والكافر فاسق لإِخلاله بما أَلزمه العقلُ، واقتضته الفطرة السليمة، قال تعالى: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولائك هُمُ الفاسقون} ، وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولائك هُمُ الفاسقون} . وقوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} فقابل به الإِيمان. والفاسق أَعمّ من الكافر، والظالم أَعمّ من الفاسق.
فَشِل كفرح فهو فَشِلٌ: كسِل، وضَعُفَ، وتراخَى، وجبن، قال تعالى: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} ، ورجل خَشْل فَشْل، وقوم فُشْل.
وأَفصح العجمىّ: تكلم بالعربيّة / وفَصُح: انطلق لسانه بها، وخَلصَت لغته من اللُّكْنة. وأَفصح الصبىّ فى مَنطقه: فُهِم ما يقول فى أَوّل ما يتكلَّم. وأَفصح فلان ثم فَصُح. وأَفصِح لى إِن كنت صادقاً، أَى بيِّن. ويتفصّح: يتكلَّف الفصاحة. ولبن فصيح: أُخذت رغوته أَو ذهب لِبَؤُه. وأَفصحت الشاةُ: فَصُح لبنها. وأَفصح الصّباح: ظهر أَو استنار. ويوم مُفْصِح وفِصْح: لا غيم فيه ولا قُرَّ.(4/193)
بصيرة فى فصل وفض
فَصَلْتُ الشىء فانفْصلَ: قطعته فانقطع. وفَصَل من الناحية. خرج. وفَصِيلة الرجل: رَهْطه الأَدْنُون، أَو عشيرته، أَو أَقرب آبائه إِليه، وقِطعة من لحم الفخذِ. وجاءُوا بفَصِيلَتِهِم، أَى بأَجمعهم.
والتفصيل: التبيين. والفيصل: الحاكم. ويقال: القضاءُ بين الحقِّ والباطل. والفَصْل من الجسد: موضع المَفْضِل. وبين كلِّ فصلين وَصْل
والفَصْل عند البصرّيين بمنزلة العِمَادِ عند الكوفيِّين، كقوله تعالى: {إِن كَانَ هاذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} ، فقوله: (هو) فَصْل وعماد، ونصب (الحقَّ) لأَنه خبر كان. وفصل الخطاب: قيل هو البيّنةُ على المدّعى واليمينُ على المدَّعَى عليه، وقيل: هو أَن يُفصل بين الحقِّ والباطل، وقيل: هو كلمة أَمّا بعد. وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} ، أَى لولا ما تقدّم من وعد الله تعالى أَنه يفصِل بينهم يوم القيامة لفَصَل بينهم الآن. وأَواخر الآيات فى كتاب الله فواصل بمنزلة قوافى الشعر واحدتها فاصلة.
والفَصِيل: ولد الناقة إِذا فُصِل عن أُمّه، والجمع: فُصْلان وفِصلان وفَصال؛ وحائطٌ قصير دون السُّور.
والمُفَصَّل فى القرآن: من الحُجُرات إِلى آخره، أَو من الجاثية، أَو من القتال، أَو مِنْ (ق) عن النووىّ، أَو من الصّافَّات، أَو من الصّف، أَو من (تبارك) عن ابن أَبى الصّيف، أَو من {إِنَّا فَتَحْنَا} عن الدِّزْمارىّ، أَو من(4/194)
{سَبِّحِ اسم} عن الفِرْكَاح، أَو من (والضحى) عند الخطّابىّ. وسمىّ مفصّلاً لكثرة الفُصُول بين سُوَرِهِ، أَو لقلَّة المنسوخ فيه.
وقيل: الفصل ورد فى القرآن على أَربعة معان:
الأَوّل - بمعنى خروج القافلة: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} ، أَى خرجت.
الثانى - بمعنى التبيّين: {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} .
الثالث - بمعنى القضاء: {هاذا يَوْمُ الفصل} ، {لِيَوْمِ الفصل وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} ، {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ} ، {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} ، أَى يوم القضاءِ وله نظائر.
الرابع - بمعنى الفِطام: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} .
والفَضُّ: الكسر بالتفرقة، والنَفَر المتفَرِّقون، وفَكُّ خاتم الكتاب. ومنه استعير انفضَّ القوم، قال تعالى: {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أَى تفرَّقوا.(4/195)
بصيرة فى فضل
الفَضْل: ضدّ النقص، والجمع: فُضُول. وقد فَضَل، كنصر وعلم. وأَمّا فَضِل يفْضُل فمرّكبة منهما. ورجل فَضَّالٌ ومِفْضَلٌ ومِفْضَالٌ: كثير الفضل. والفَضِيلة: الدّرجة الرّفيعة فى الفضل. والفواضل: الأَيادى الجسيمة. (والفَضِيلة: الدّرجة) . والفَضْل والفُضَالة: البقيّة، وقد فضل كنصر وحَسِب. والفَضْل يكون محمودًا كفضل العلم والحلم، ومذموماً كفضل الغضب على ما يجب أَن يكون [عليه] ، قال الشاعر: /
متى زدتُ تقصيرا تزدنى تفضُّلا ... كأَنِّىَ بالتقصير أَستوجِب الفضلا
وقد ورد الفضل وما يشتق منه على عشرين وجهاً فى القرآن:
1- فضل الصّورة والخِلْقة: {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
2- فضل قوم على آخرين فى المنزلة والرّتبة: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} .
3- فضل بالنبوّة والعلم: {الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} .
4- فضل معجزة وكرامة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} .(4/196)
5- فضل الأَنبياءِ بعضهم على بعض: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} . وهذا التفضيل فيهم على نوعين: خِلْقىّ وخُلُقى.
فالخِلْقىّ كما فى آدم بالصفوة، وفى نوح بالصّلابة، وفى إِبراهيم بالخُلَّة والصدّق والصّداقة، وفى يوسف بالصّباحة، وفى موسى بالملاحة، وفى داود بالنغّمة، وفى سليمان (فى الفطنة) ، وفى زكريّا بالعبادة، وفى يحيى بالطَّهارة، وفى محمد بالخُلُق والفصاحة.
وأَمّا التفضيل الخُلُقى ففى آدم بالأَسماءِ، وفى نوح بإِجابة الدعاءِ، وفى إِبراهيم بالذبيح والفداءِ، وفى يوسف بتعبير الرؤْيا، وفى موسى بالمكالمة والاصطفاء، وفى داود بتسخير الجبال والطير فى الهواءِ، وفى سليمان بتسخير الجنّ وريح الصَّبا، وفى عيسى بإِحياءِ الموتى، وفى محمّد بالقرآن ذى النّور والضّياءِ، صلوات الله وسلامه عليهم أَجمعين.
6- فضل تأْخير العذاب: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ} ، {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} ، {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} ، وله نظائر.
7- فضل زيادة الثَّواب والكرامة: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} .
8- فضل المال والنّعمة: {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} .(4/197)
9- فضل البرِّ والصّدقة: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} .
10- فضل الرّجال على النساءِ بالعقل والعلم والدّين والشجاعة والإِمامة والكتابة والفروسيّة والشهادة وقسمة الميراث والخطابة: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله} .
11- فضل النبوّة والرّسالة: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} إِلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ الله} .
12- فضل الظفر والغنيمة: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} .
13- فضل الغزو والمجاهدة: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} .
14- فضل الغنى والنعمة: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} .
15- فضل الكسب والتِّجارة: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} ، {يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} .
16- فضل الاختيار وَالمزية: {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} .
17- فضل قبول التَّوبة والإِنابة: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، أَى بقبول التَّوبة.
18- فضل إِجابة الدّعاءِ وقضاءِ الحاجة: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} .(4/198)
19- فضل القُرْبة واللقاء والرُؤْية: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً} .
20- فضل الإِسلام والسنَّة والتوحيد والمعرفة: {إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} .(4/199)
بصيرة فى فضا وفطر وفظ
فَضَا المكانُ فَضَاءً وفُضُوًّا: اتَّسع. والفَضَاءُ - بالمدّ -: السّاحة، / وما اتَّسع من الأَرض. والفِضاءُ ككساءٍ: الماءُ يجرى على الأَرض. وأفضى إِليها: جامعها، وقيل: خلا بها جامعها أَم لا. وهذا فى باب الكناية أَبلغ [وأَقرب] إِلى التصريح من قولهم: خلا بها.
فَطَرَ الله الخَلْق، وهو فاطر السماوات: مبتدعها. وافتطر الأَمرَ: ابتدعه. وكلّ مولود يولدَ على الفِطْرة، أَى على الجبلَّة القابلة لدين الحقِّ. وقد فَطَر هذه البئر، وفَطَرَ اللهُ الشجر بالوَرَق فانفطر به وتفطَّر. قال الله تعالى: {إِذَا السمآء انفطرت} . وتفطَّرَت الأَرضُ بالنبات، واليدُ والثوب: تَشقَّقَت. وفَطَرَ نابُ البعير: شقَّ اللحمَ وطلع. وهذا كلام يُفَطِّر الصّوم، أَى يفسده. وأَفطر الصّائم، وأَفطره غيره، وفطَّره
وَذبحنا فَطِيرَة وفَطُورة، وهى الشَّاة الَّتى تُذبح يوم الفِطْر. وعجين فَطِير، وطين فطير، ورأْى فطير. تقول: رأيه فطير ولبّه مستطير. وإِذا غربت الشَّمس فقد أَفطر الصّائِم، أَى دخل فى وقت الفِطر.
والفَظَاظة: الغِلظ. والفَظّ: الغليظ الجانب السيِّىءُ الخُلُق. وهو بيّن الفَظَاظَة والفِظَاظِ بالكسر. والفَظَظُ: خشونة الكلام.(4/200)
بصيرة فى فعل
الفِعْل: كناية عن كلِّ عمل متعدّ أَو غيره. فَعَلَ يفعَل بفتحهما. والفَعَال بالفتح اسم الفعل الحسن، وقيل: يكون فى الخير والشرّ، وهو الصّحيح. وهو مُخَلَّصٌ لفاعل واحد، فإذا كان من فاعلين فهو فِعَال بالكسر. وهو أَيضاً جمع فِعْل. والفَعَّال والفَعُول: كثير الفعل، قال:
إذا سيّد منّا خلا قام سيّد ... قؤُول لما قال الكرام فَعُول
وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ، وقال: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} ، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} ، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .
لمَّا قال نُمْرُود حين كسر إِبراهيمُ أَصنامهم: {مَن فَعَلَ هاذا بِآلِهَتِنَآ} أَحَالَ إِبراهيم تهكُّماً وسُخريَةً على كبيرهم وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} . ولمَّا قال فرعون لموسى مُهددًا: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} أَجابهُ بأَن ذلك مرسوم صحبةِ الظَلَمة من أَتباعك، وقال: {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ(4/201)
الضالين} . وقال تعالى فى حديث ذَبْح البقرة: {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} وقَرُب أَن يتحكَّم عليهم اللجَاج: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} . ولمَّا قال النَّبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} أَجيب بقوله تعالى {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} ، ويفعل بالأعداء كما فعل بأَشياعهم من قبل: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ، {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} وعرَّف عباده بأَنَّ سبب الفلاح إِنَّما هو فعل الخير وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أَى، إِن لم تبلِّغ هذا الأَمر فأَنت فى حكم من لم يبلِّغ شيئاً.
والفِعل عامّ لِما كان بإِجادة أَو غيرها، ولِما كان بعِلم أو بغيره، وبقصد أَو بغيره، ولِمَا كان من إِنسان أَو حيوان أَو جماد. والعمل والصنع أَخصَّ منه. ويقال للذى من جهة الفاعل: مفعول ومنفعل. وفصَّل بعضهم فقال: المفعول إِذا اعتبر بفعل الفاعل، والمنفعل إِذا اعتبر قَبُول الفعل فى نفسه، فالمفعول أَعمِّ من المنفعِل / لأَنَّ المنفعل يقال لما لا يقصِد الفاعل إِلى إِيجاده وإِن تولَّد منه، كالطرب الحاصل من الغِنَاء، وتحرك العاشق لرؤية معشوقه.(4/202)
بصيرة فى فقد
الفاء والقاف والدَّال تدلّ على ذهاب شىء وضياعه. وقد فقدت الشىء أَفقِده فَقْدًا وفِقْداناً - بالكسر - وفُقداناً - بالضمّ - وفُقُودًا، وهذه عن ابن دريد. قال عنترة بن شدَّاد العبسىّ يذكر رميه جُرَيَّة العَمْرىّ.
فإِنْ يَبْرَأْ فلم أَنفِث عليه ... وإِن يُفقد فحقَّ له الفُقُود
وتفقَّدته، أَى طلبته عند غَيبته، قال الله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطير} .
قال أَبو الدَّرداءِ: من يتفقَّد يفقِد، اقرِض من عِرضك ليوم فقرك، أَىْ مَن يتفقَّد أَحوال النَّاس ويتعرفها عَدِم الرِّضا، فإِنْ ثَلَبَك أَحد فلا تشتغل بمعارضته، ودع ذلك قرضاً عليه ليوم الجزاءِ.
ويقال: ما افتقدتُه منذ افتقدته، أَى ما تفقَّدته منذ فقَدته. وبات فلان غير فَقِيدٍ ولا حميد، أَى غير مكترَث لفقده.(4/203)
بصيرة فى فقر
الفقر: ضدّ الغِنى.
ووقع فى القرآن لفظ الفقر فى أَربعة مواضع:
أَحدها - قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} ، أَى الصَّدقاتُ لهؤلاءِ، وكان فقراءُ المهاجرين نحو أَربعمائة لم يكن لهم مساكن فى المدينة ولا عشائر، وكانوا قد حبسوا أَنفسَهم على الجهاد، وكانوا وَقْفاً على كلِّ سريَّه يبعثها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهم أَهل الصُّفَّة. هذا أَحد الأَقوال [فى] إِحصارهم فى سبيل الله. وقيل: هو حبْسهم أَنفسهم فى طاعة الله. وقيل: حَبَسهم الفقر والعُدْم عن الجهاد. وقيل: لَمَّا عادَوا أَعداء الله وجاهدوهم أُحصِروا عن الضرب فى الأَرض لطلب المعاش، فلا يستطيعون ضرباً فى الأَرض. والصَّحيح أَنه لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضرباَ فى الأَرض، ولِكمَال عفَّتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أَغنياء.
والموضع الثانى - قوله تعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} الآية.
والموضع الثالث - قوله تعالى: {ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} .
والموضع الرابع - قال الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .(4/204)
والصّنف الأَول خواصّ الفقراءِ، والثَّانى فقراءُ المسلمين خاصّهم وعامّهم، والثالث الفقر العامّ لأَهل الأَرض كلِّهم غنيّهم وفقيرهم، مؤمِنهم وكافرهم. والرابع الفقر إِلى الله المشار إِليه بقوله: "اللَّهم أَغْنِنى بالافتقار إِليك". وبهذا أَلَمَّ الشاعر:
ويعجبنى فقرى إِليك ولم يكن ... ليعجبنى لولا محبَّتُك الفقرُ
والفقراءُ الموصوفون فى الآية الأُولى يقابلهم أَصحاب الجِدَة، ومن ليس محصَرًا فى سبيل الله، ومن لم يكتم فقرًا وضعفاً. فمقابلهم أَكثر من مقابل الصّنف الثانى. والصّنف الثانى يقابل أَصحاب الجِدَة، ويدخل فيهم المتعفِّف وغيره، والمحصَر وغيره. والصَّنف الثالث لا مقابل لهم، بل الله وحده الغنىّ وكلُّ ما سواه فقير إِليه.
ومراد المشايخ بالفقر شىء أَخصُّ من هذه كلّها وهو الافتقار إِلى الله فى كلِّ حالة. وهذا المعنى أَجلّ من أَن يسمَّى فقرًا، بل هو حقيقة العبوديَّة ولُبّها، وعَزْل النفس عن مزاحمة الرُّبوبيَّة.
وسئل عنه يحيى بن مُعَاذ الرازىّ فقال: حقيقته أَلاَّ يستغنى إِلاَّ بالله، ورَسْمه / عدم الأَسباب كلّها. وقال بعض المشايخ: الفقر سرّ لا يضعه الله إِلاَّ عند من يحبّه، ويسوقه إِلى مَن يريد. وقال: رُوَيم: إِرسال النَّفس فى أَحكام الله. وسئل أَبو حفص بم يقدَم الفقير على ربِّه؟ فقال: ما للفقير أَن يقدَم به على ربّه سوى فقره. وسئل بعضهم: متى يستحق(4/205)
الفقير اسم الفقر؟ قال إِذا لمّ [يبق] عليه منه بقيّة. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. وهذه من أَحسن العبارات عن معنى الفقر الذى يشير إِليه القوم، وهو أَن يصير كلُّه لله لا يبقى عليه بقيَّة من نفسه وحظِّه وهواه، فمن بقى عليه شىء من أَحكام نفسه ففقره مدخول. ثم فسّر ذلك أَى قوله: إِذا كان له فليس له، أَى إِذا كان لنفسه فليس لله، وإِذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر إِذًا أَلاَّ تكون لنفسك ولا يكون لها منك شىء بحيث تكون كلُّك لله. وهذا الفقر الذى يشيرون إِليه لا ينافيه الجدَة ولا الأَملاك، فقد كان رُسُل الله وأَنبياؤه - صَلوات الله وسلامه علَيهم - فى ذروة الفقر مع جدتهم ومِلكهم، كإِبراهيم الخليل عليه السَّلام كان أَبا الضِّيفان، وكانت له الأَموال والمواشى، وكذلك كان سليمان وداود، وكذلك كان نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، وكانوا أَغنياءَ فى فقرهم، فقراءَ فى غناهم.
فالفقر الحقيقىُّ: دوام الافتقار إِلى الله تعالى فى كلِّ حال، وأَن يشهد العبد فى كلِّ ذرّة من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقة نامية إِلى الله تعالى من كلِّ وجه. فالفقر ذاتىّ للعبد، وإِنما يتجدَّد له بشهوده حالاً، وإِلاَّ فهو حقيقته؛ كما قال بعض المشايخ:
الفقر لى وصفُ ذاتٍ لازمٌ أَبدا ... كما الغِنَى أَبدا وصفٌ له ذاتى
وله آثار وعلامات وموجِبات، أَكثر إِشارات القوم إليها، كقول بعضهم الفقير لا يسبق همَّته، أَى ابن وقته، فهمَّته مقصورة على وقته لا يتعدَّاه. وقيل: أَركان الفقر أَربعة: عِلْم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله،(4/206)
وذِكْر يؤنسه. وقال الشِّبلِىّ: حقيقة الفقر أَلاَّ يستغنى بشىء دون الله. وسئل سهل: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الَّذى هو فيه. وقال أَبو حفص: أَحسن ما يتوسَّل به العبد إِلى الله دوام الافتقار إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السُنَّة فى جميع الأَفعال، وطلب القُوت من وجه حلال. وقيل: مِن حكم الفقير أَلاَّ يكون له رغبة، فإِن كان ولا بدّ فلا يجاوز رغبتُه كفايتَه. وقيل: الفقِير من لا يَملك ولا يُمْلَك. وأَتمّ من هذا: لا يَملك ولا يملكه مالك. وقيل: من أَراد الفقر لشرفه مات فقيراً، ومن أَراده لئلا يشتغل عن الله بغيره مات غنيّا.
والفقر له بداية ونهاية، فبدايته الذلُّ ونهايته العزّ، وظاهره العُدْم وباطنه الغِنى، كما قال رجل لآخر، [الفقر] فقر وذلّ، فقال، لا: بل فقر وعِزّ. فقال: فقر وثرًى. فقال: لا، بل فقر وعَرْش. وكلاهما مصيب.
واتَّفقت كلمةُ القوم على أَن دوام الافتقار إِلى الله مع تخليط خير من دوام الصَّفاء مع رؤية النَّفس والعُجْب، مع أَنه لا صفاءَ معهما.
وإِذا عرفت معنى الفقر عرفت عين الغنى بالله تعالى / فلا معنى لسؤال من سأَل: أَىّ الحالين أَكمل؟ الافتقار إِلى الله أَم الاستغناء به؟ هذه مسأَلة غير صحيحة، فإِنَّ الاستغناء به هو عين الافتقار إِليه.
وأَمَّا مسأَلة الفقير الصَّابر، والغنىّ الشاكر، وترجيحُ أَحدهما، فعند المحقِّقين أَن التفضيل لا يرجع إِلى ذات الفقْر والغِنَى، وإِنما يرجع إِلى الأَعمال والأَحوال والحقائِق. فالمسْأَلة فاسدة فى نفسها، وإِنَّ التفضيل(4/207)
عند الله بالتَّقوى وحقائِق الإِيمان، لا بفقر ولا غِنى، قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} ولم يقل: أَفقركم أَو أَغناكم.
ثمّ اعلم أَنَّ الفَقْر والغِنَى ابتلاء لعبده كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ كَلاَّ} أَى ليس كلّ من أَعطيتهُ ووسَّعت عليه فقد أَكرمته، لا كلُّ من ضيَّقت عليه وقَتَرت عليه الرزق فقد أَهنته والإِكرام أَن يكرم العبد بطاعته ومحبَّته ومعرفته، والإِهانة أَن يسلبه ذلك. ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى. وقال بعضهم: هذه المسأَلة محال أَيضاً من وجه آخر، وهو أَنَّ كًّلا من الغنىّ والفقير لا بدّ له من صبر وشكر، فإِنَّ الإِيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر. بل قد يكون قسط الغنِىّ من الصَّبر أَوفى، لأَنه يصبر عن قدرة، فصبره أَتمّ من صبر من يصبر عن عجز، ويكون شكر الفقير أَتمّ، لأَن الشكر هو استفراغ الوسع فى طاعة الله، والفقير أَعظم فراغا بالشكر من الغنِىّ. وكلاهما لا يقوم قائمة إِيمانه إِلا على ساق الصَّبر والشكر.
نعم الَّذى رجع الناس إِليه فى المسأَلة أَنَّهم ذكروا نوعا من الشكر، ونوعا من الصَّبر، وأَخذوا فى التَّرجيح، فجردوا غنيًّا مُنفقاً متصدِّقاً باذلا ماله فى وجوه القُرَب، شاكرًا الله عليه؛ وفقيرا متفرِّغاً لطاعة الله ولأوراد العبادات، صابرًا على فقره، هل هو أَكمل من ذلك الغنى أَم بالعكس. فالصَّواب فى مثل هذا أَنّ أَكملهما أَطوعهما، فإِن تساوت طاعتهما تساوت درجتهما والله أَعلم.(4/208)
والعرب تقول: سَدّ الله مَفاقِره، أَى وجوه فقره. ويقال: افتقر فهو مفتقِر وفقير، ولا يكاد يقال: فَقُر. وإِن كان القياس يقتضيه.
وأَصل الفقير هو المكسور الفَقَار. عَمِل به الفاقرةَ أَى الدَّاهية الَّتى كسرت فَقَاره. وأَفقرك الصَّيدُ: أَمكنك عن فقاره. أَفْقَرته ناقتى: أَعرته فَقَارها للركوب، وما أَحسن قول الزَّمخشرى:
أَلاَ أَفقر الله عبداً أَبَتْ ... عليه الدّناءة أَن يُفْقِرَا
ومن لا يُعير قَرا مَرْكَبٍ ... فقل كيف يَعقِره للقِرَى
وما أَحسن فِقَر كلامه، أَى نُكته، وهى فى الأَصل حُلِىّ تصاغ على شكل فِقَر الظهر.(4/209)
بصيرة فى فقع وفقه وفك
الفُقُوع: النُصُوع، أَى خُلُوص اللَّون، قال تعالى: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ} فَقَعَ - كمنع ونصر - فَقْعاً وفُقُوعًا: اشَتدَّت صفرته. وأَصفر فاقع وفُقَاعىّ اللون: صادق. وأَبيض فِقِّيع كسكِّيت. وأَصابته فاقعة من فواقع الدَّهر: بائقة من بوائِقه، يقال: كلّ باقعة مَمْنُوّ بفاقعة. وطَفَت على الشراب الفواقع والفواقيع، وهى النُفَّاحات.
والفِقه بالكسر: العلم بالشىء، / والفهم له، والفطنة. وغلب على عِلم الدّين لِشرفه، فقه - ككرم وفرح - فهو فقيه وفَقُهٌ. والجمع فُقَهَاءُ. وهى فقيهة، والجمع: فقائه. وفَقِهَهُ كعلمه: فَهِمَه. وتفقَّهه: تفهَّمه. وفقَّهه تفقيهًا، وأَفقهه: علَّمه. وفاقَهه فَفَقهه كنصره: باحثه فغلبه فى العلم. ويقال للشاهد: كيف فَقاهتك لما أَشهدناك.
والفِقه أَخصّ [من] العلم، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} ، وقال: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} .
فكَّه: فَصَله. والرهنَ فكًّا وفُكوكاً: خلَّصَهُ، والرقبةَ: أَعتقها، ويدّه: فتحها عمّا فيها. وفَكَاك الرهن - ويكسر -: ما يُفْتَكُّ به..(4/210)
وانفكَّت قدمُه: زالت، وإِصبعه: انفجرت، قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ} ، أَى لم يكونوا متفرِّقين، بل كان كلّهم على الضَّلال. وما انفكَّ يفعل كذا، نحو ما زال يفعل كذا.(4/211)
بصيرة فى فكر
الفِكْرُ: قوّة مطرِّقة للعلم إِلى المعلوم. والتفكر: جريان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك مختصّ بالإِنسان دون الحيوان، ولا يقال إِلا فيما يمكن أَن يحصل له صورة فى العقل، ولهذا قيل: تفكَّروا فى آلاءِ الله ولا تفكَّروا فى الله؛ إِذ كان منزَّهاً أَن يوصف بصورة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ} ، {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات} .
ورجل فِكِّيرٌ وفَكُور: كثير الفكرة. وتقول: لفلان فِكَر، كلّها فِقَر، وما زالت فكرته مغاص الدُرَر.
وقال المشايخ: الفكرة فكرتان: فكرة تتعلَّق بالعلم والمعرفة، وفكرة تتعلقُ بالطلب والإِرادة. فالتى تتعلق بالعلم والمعرفة فكرة التمييز بين الحقِّ والباطل، والثابت والمنفِىِّ. والفكرة الَّتى تتعلَّق بالطَّلب والإِرادة هى الفكرة الَّتى تميّز بين النافع والضَّار، ثمّ تترتَّب عليها فكرة أَخرى فى الطَّريق إِلى حصول ما ينفع فيسلكها، وطريق ما يضرّ فيتركها ولهم فكرة فى عين التوحيد وفكرة فى لطائف الصّنعة، وفكرة فى معانى الأَعمال والأَحوال. فهذه ستة أَقسام لا سابع لها هى مجال أَفكار العقلاءِ.
فالفكرة فى التوحيد: استحضار أَدلَّته وشواهده الدّالة على بطلان الشِّرْكِ واستحالته، وأَنَّ الإِلهيّة يستحيل ثبوتها لاثنين كما يستحيل ثبوت الربوبيّة لاثنين؛ فذلك أَبْطلُ الباطل عبادة اثنين، والتوكُّل على اثنين، بل لا تصلح العبادة إِلا للإِله الحقّ، والرّب الحقّ وهو الله الواحد القهار.(4/212)
بصيرة فى فكه وفلح وفلق
الفاكهة: الثمار كلّها، وقيل: ما عدا العنب والرّمان والتمر، كأَن قائله نظر إِلى اختصاصها بالذِّكر فى قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} . والفاكهانىّ: بائعها. والفِكه - ككتف -: آكلها. والفاكه: صاحبها. وفكَّههم تفكيهاً: أَتاهم بها. والفاكهة: النخلة المعجبة، واسم للحلواءِ. وفكَّههم بمُلح الكلام تفكيهًا: أَطْرفهم: بها. والاسم الفَكِيهة والفُكَاهة بالضَّمّ. [وفكه - كفرح - فَكَهًا وفكاهة] فهو فَكِهٌ وفاكِه: طيّب النفس ضَحُوك وفاكهه. مازحه. وتفاكهوا: تمازحوا.
الفَلَح - محركة - والفلاح: البقاءُ، والظفر، وإِدراك المُنْية. وذلك ضربان: دينىّ ودنيوىّ. فالدنيوىّ: الظفر بالسعادات الَّتى تطيب بها حياةُ الدّنيا. والأُخروىّ أَربعة أَشياء: بكاءٌ بلا فناء، وغِنىً بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وعلم بلا جهل؛ ولذلك قِيل: / لا عيش إِلا عيش الآخرة. وقوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} يحتمل الأُخروىّ والدنيوى وهو أَقرب. والفلاَّحة: الأَكَرةُ لأَنَّهم يَفلَحُونَ الأَرض أَى يشُقونها.
وحَىّ على الفلاح، أَى على الظفر الذى جعله الله لنا بالصّلاة
والفَلَحُ - محركة -: الشقّ فى الشَفَة السفلى.(4/213)
الفَلْق: شَقّ الشىءِ وإِبانة بعضه من بعض، فَلَقه يَفْلِقه وفَلَّقه: شَقَّه فانفلق وتفلَّق، قال تعالى: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود} . وفالِق الحَبّ: خالِقه أَو شاقُّه بإِخراج الورق منه. وفالِق الإِصباح: شاقُّه بالفَجْر وبالنُور. وأَفلق الشاعر وافتلق: أَتى بالعجيبة.
الفَيْلَقُ: الجيش، والعَجَب، والرجل العظيم. وتَفَيْلَق: ضَخُم وسمِن.
و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} أَى الصّبح، وقيل: الأَنهار المذكورة فى قوله تعالى: {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} ، وقيل: هو الكلمة التى علّمها الله موسى ففلّق بها البحر.(4/214)
بصيرة فى فلك وفلن وفن
الفَلَك - محركة -: مدار النّجوم. والجمع: أَفلاك وفُلُك، ومن كلِّ شىءٍ: مستداره ومعظمه، وقِطَعٌ من الأَرض تستدير وترتفِع عمّا حولها، الواحدة فَلْكة بسكون اللام. ومنه: فَلَك ثديُها وأَفْلك وتفلَّك، وفَلَكَت هى وفَلَّكت، فهى فالِك ومُفَلِّك.
والفُلْك - بالضمّ: السفينة. ويذكَّر ويؤَنَّث ويستوى فيه الواحد والجمع، وتقديراهما مختلفان، فإِنه إِذا كان واحدا فكبناءِ قُفْل، وإِذا كان جمعاً كان كبناء حُمْر.
وفُلانٌ وفُلانةُ كنايتان عن أَسماءِ الرّجل والمرأَة، والفُلان والفلانة كناية عن غير بنى آدم. وقد يقال للواحد: يا فلُ، وللاثنين: يا فُلاَنِ، وللجمع: يا فُلُونَ، وفى المؤَنث: يا فُلَةُ، ويا فُلَتَان، ويا فُلاةُ. ومنه سيبويه أَن يقال يا فُل ويراد به يا فلان. قال تعالى: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} تنبيها على تندّم من خالّ صاحبه فى تحرىّ باطل.
الفَنَن - مَحركَّة -: الغُصْن. والجمع أَفنانٌ. وجمع الجمع أَفانين. وشجرة فَنَّاءُ وفَنْوَاء: كثيرتها. والأُفنون: الغُصْن. وقوله تعالى: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} ، أَى ذواتا غصون. وقيل: ذواتا أَلوان مختلفة.(4/215)
بصيرة فى فند
الفَنَد - محرّكة -: الكذب، وضَعْف الرّأى من هَرَم، والخطأ فيه. قال النابغة الذبيانىّ يمدح النُّعمان بن المنذر:
ولا أَرى فاعلاً فى النَّاس يشبهه ... وما أُحاشى من الأَقوام مِن أَحدِ
إِلاَّ سليمان إِذ قال المليك له ... قم فى البريّة فاحْدُدْهَا عن الفَنَد
والتفنيد: اللوم، وتضعيف الرأى، قال تعالى: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} أَى قبل أَن تلومونى فيه.
والتفَنُّد: التندّم فى الأَمر.(4/216)
بصيرة فى فوت وفوج
الفَوْت والفَوَات: خلاف إِدراك الشىءِ والوصول إِليه. فاتَهُ يفوته فَوْتًا وفَوَاتًا، قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} قال، ابن عرفة: أَى لم يَسبقوا ما أريد منهم. ومرّ النبى صلَّى الله عليه وسلَّم بحائط مائل فأَسرع المشى، فقيل: يا رسول الله أَسرعت المشى، فقال: "أَخاف موت الفَوَات"، أَى موت الفُجاءَة. ورجل فُوَيت وامرأَة فوَيت لم ينفرد برأْيه ولا يشاور. والافتيات: السبق إِلى الشىءِ دون ائتمار من يؤتمر. وتفاوت الشيئان تباعد ما بينهما تفاوُتاً. وقال ابن السِّكِّيت: قال الكلابيوّن: تفاوَتاً بفتح الواو، وقال العنبرىُّ: تفاوِتاً بكسر الواو. وحكى أَيضاً أَبو زيد تفاوَتاً / - وتفاوِتاً بفتح الواو وكسرِها - وهو على غير قياس؛ لأَن المصدر من تفاعَل تفاعُل بضم العين إِلاَّ ما روى فى هذه الكلمة.
وقوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمان مِن تَفَاوُتٍ} أَى اختلاف واضطراب. وقرأَ حمزة والكسائىّ: (من تفوّت) ، قال السُدّى: أَى من عيب، يقول النّاظر: لو كان كذا وكذا كان أَحسن.
وجعل الله رزقه فَوْت فمه، أَى حيث يراه ولا يصل إِليه.
والفَوْج: الجماعة يمرّون مسرعين، قال تعالى: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} .(4/217)
بصيرة فى فود و (فور)
الفَوَاد - بالفتح وبالواو - لغة فى الفُؤاد - بالضمّ وبالهمز -. وقيل: إِنَّما يقال للقلب الفؤاد إِذا اعتبر فيه معنى التَفَؤُّد أَى التوقُّد. وقيل: القلب أَخَصّ من الفؤَاد، ومنه حديث النَّبى صلَّى الله عليه وسلم: "أَتاكم أَهلُ اليَمَن هم أَرقّ قلوباً وأَلْيَن أَفئدَة. والإِيمان يمانِ، والحِكْمة يمانِية"، فوصف القلوب بالرقّة، والأَفئدَة باللِّين، وقال تعالى: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} . وقوله تعالى: {نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} تنبيه على شدّة تأْثيرها.
ورجل مَفْئود: مصاب الفؤاد. وقد فُئِدَ، وفأَده الفزع. وفأَدت الظبى: رميته فأَصبت فؤاده. والمُفْتَأَدُ: موقُد النار للشواءِ.
الفَوْر: شدّة الغليان. فارتِ النارُ والقِدْرُ، والعين، والغضب. وثار ثائره، وفار فائره، أَى اشتدَّ غضبه. وفَوْرة العُقار: طُفَاوَتُها وما فار منها، وفُوارة الماءِ، كلّ ذلك تشبيهاً بغليان القدْر.
وفعلته مِن فَوْرى، أَى فى غليان الحال، قال تعالى: {وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} .(4/218)
بصيرة فى فوز وفوض
الفوز: الظفر. والفوز: النجاة. يقال: طوبى لمن فاز بالثواب، وفاز من العقاب، أَى ظفِر ونجا. وهو بمفَازة من العذاب، أَى بمَنْجاةٍ منه، وقال تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب} . وسُمّى الفلاة مفازة على سبيل التَّفاؤل. وفاز سهمه، وخرج لهم سهم فائز: إِذا غَلَب. وفاز بفائزة، أَى شىءٍ يسير يصيب به الفوز. قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} .
وفوّز الرجل: مات، أَى صار فى مفازة ما بين الدُّنيا والآخرة، أَو بمعنى أَنه نجا من متاعب الدّنيا وحِبَالتها.
وقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أَى فوزًا، أَو مكان فوز، ثمّ فسّر فقال: {حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً} . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله} إِلى قوله: {فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} أَى يحرصون على أَعراض الدّنيا ويَعُدُّون ما ينالونه من الغنيمة فوزًا عظيمًا. وقال تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} .
فوّض إِليه الأَمر: ردّه إِليه. {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله} . وفاوضته فى أَمرى: جارَيته. والمفاوضة والتَّفاوض: الاشتراك فى كلِّ شىءٍ. وكانت بيننا مفاوضات ومخاوضات.(4/219)
بصيرة فى فوق وفوه (وفوم)
كلمة فوق نقيض تحت. وتستعمل فى الزَّمان والمكان، والجسم، والعَدَد والمنزلة. وذلك أَضْرُبٌ:
الأَوّل: بمعنى العلوّ، نحو قوله: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} .
الثانى: باعتبار الصعُود والحدور، نحو قوله تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} .
الثالث: يقال فى العدَد، نحو قوله تعالى: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين} .
الرابع: فى الكبر والصغر؛ نحو قوله تعالى: {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} ، أَشار بما فوقها إِلى العنكبوت المذكور فى قوله: {كَمَثَلِ العنكبوت} . وقيل معناه: ما فوقها فى الصّغر. وليس فوق من الأَضداد، كما توَّهم بعض المصنّفين.
الخامس: باعتبار الفضيلة الدنيويّة، نحو قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} ، أَو الأَخرويّة نحو قوله تعالى: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} .(4/220)
السّادس: باعتبار القهر والغلبة؛ نحو [قوله تعالى] : {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} ، ومنه قيل: فاق فلان قومَه أَى علاهم.
وما أَقام عنده إِلاَّ فُوَاق ناقة، وفِيقة ناقة: أَى قليلا؛ وذلك أَنَّ النَّاقة تُحلب فى اليوم خمس مرات أَو ستّ مرّات، فما اجتمع بين الحَلبتين فهو فِيقة.
والفُوه والفاه والفِيهُ والفَم سواء. والجمع: أَفواه وأَفمام، ولا واحد لها؛ لأَنَّ فمًا أَصله فَوْه، حُذفت الهاءُ كما حذفت من سَنَة، وبقيت الواو طَرَفًا متحركة فوجب إِبْدالها أَلِفًا لانفتاح ما قبلها، فبقى (فا) ولا يكون الاسم على حرفين أَحدهما التنوين، فأبدك مكانها حرف جَلْد مشاكِل لها، وهو الميم؛ لأَنهما شفهيَّتان. وفى الميم هُوِىّ فى الفم يضارع امتداد الواو. ويقال فى تثنيته: فَمَان وفَمَوان وفَمَيان، والأَخيران نادران.
والفَوَه - محركة -: سعة الفم. قال الله تعالى: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} .
والفُوم - بالضمّ -: الثُوم، والحنطة، والحِمَّص، والخبز، وسائر الحبوب التى تُخْبز.(4/221)
بصيرة فى فهم وفيض وفيل وفيأ
فَهِمه فَهْمًا، وفَهَما - بالتحريك وهى أَفصح - وفَهامِيَةً: علمه. وقيل الفَهم: هيئه للنَّفس بها يتحقَّق معانى ما يحسن. فَهِمَ فهو فَهِمٌ. واستفهمنى وفهَّمته، قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ، وذلك إِمّا بأَن جعل الله له من فضل قوّة الفهم ما أَدرك به ذلك وإِمَّا بأَن أَلقى ذلك فى رُوعه، أَو بأَن أوحى إِليه وخصّه به. وتفهَّم الكلام: فهمه شيئاً بعد شىءٍ.
فاض الماءُ يَفِيض فَيْضًا وفُيُوضًا وفِيُوضًا - بالكسر - وفَيْضُوضة وفَيَضاناً: سال فى كثرة انصباب. وأَفاض الماءَ على نفسه: أَفرغه، والناسُ من عرفات: دَفَعُوا أَو رجعوا وتفرّقوا، وفى الحديث: "اندفعوا وفاضوا". قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} . والإِناءَ: ملأَه حتى فاض، ومن المكان: أَسرع منه إِلى آخر. وقوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} ، أَى اندفعتم منها بكثرة كاندفاع السيل وفيضان الماءِ.
والفِيل: معروف والجمع أَفيال، وفُيُولٌ، وفِيَلَةٌ. والأُنثى فِيلَة. وصاحبهما فيّال. واستَفْيَل الجملُ: صار كالفِيل.
وتَفَيَّل الشبابُ: زاد. وفال رأْيهُ يَفيل فيلولة: أَخطأ وضعف.
والفَىْءُ والفَيئة والفُيوء: الرّجوع إِلى حالة محمودة، قال تعالى: {فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ} . وسمّى الفَىْء فيئاً لرجوعه من جانب إِلى جانب.(4/222)
قال ابن السكِّيت: الفَىْءُ: ما نسخ الشمسَ، والظلّ: ما نسخته الشمس.
والفِئة: الطَّائفة. والهاءُ عوض من الياءِ الَّتى سقطت من وسطها، وأَصلها فىء مثال فِيعٍ، ويجمع على فئين وفئات.
وأَفأته: رجعته، قال تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} يعنى من مال الكفَّار.
والفَىْءُ الغنيمة، والخراج. سمّى بذلك تشبيهاً بالفىءِ الذى هو الظلّ، تنبيهاً بأَن أَشرف أَعراض الدنيا يَجْرِى مَجْرَى ظِلٍّ زائل. والله أَعلم.(4/223)
الباب الثانى والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف القاف(4/224)
بصيرة فى القاف
وإِنه وارد على تسعة أَوجه:
1- حرف هجاءٍ لَهَوىّ مخرجه من اللَهَاة قرب مخرج الكاف. والنسبة قافىّ. والفعل منه: قَوّفت قافاً حَسَنًا وحسنةً. والجمع: أَقواف وقافات.
2- اسم لعدد المائة فى حساب الجُمّل.
3- القاف الأَصلىّ فى الكلم، كما فى: قول، وقلو، ولوق.
4- قاف الإِتباع والمزاوجة: هو ابن عمّى لحّا قَحًّا، أَى خالِصاً.
5- القاف المبدلة من الكاف: أَعرابىّ قُحّ وكُحّ، أَى محض خالص. {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} ، و (لاَ تَكْهَرْ) قرأَ بها ابن مسعود رضى الله عنه.
6- قاف العجز والضرورة، كقوله العرب: قال فى كال. والترك يقولون فى خادم: قادم.
7- القاف المكرّرة: نحو: حقّ: وحقوق.
8- القاف الكافية الَّتى يختصر عليها من الكلمة: نحو: {ق والقرآن} و {حمعاساقا} قال الشاعر:
قلت لها قِفِى فقالت لى قاف أَى وقفْت
9- قاف: اسم جبل محيط بالعالم.
10- القاف اللغوىّ: معناه فى اللغة: الرجل المصلح بين القوم.
قال أَبو النّجم:
مهذَّب الخِلْقَة أَرْيَحىُّ ... قافٌ بَسيطُ الكفِّ عبقرىّ(4/225)
بصيرة فى قبح وقبر وقبس
ما ينبو عنه البصرُ من الأَعيان يقال فيه: قَبِيح. وكذا ما تنبو عنه النَّفس من الأَفعال والأَحوال. وهذا قبيح مستقبَح. وأَحسنت وأَقْبَحَ أَخوك: جاءَ بفعل قبيح. وقبَّحتُ عليه فعله. وقبَحه الله: أَبعده. وفلان مقبوح: مُنَحًّى عن الخير. قال تعالى: {هُمْ مِّنَ المقبوحين} أَى المعْلَمين بعلامة قبيحة، وذلك إِشارة إِلى ما وصف الله تعالى به الكفّار من المذامّ، ومن سواد الوجه وزرقة العيون، وسَحْبهم فى الأَغلال ونحو ذلك.
القبر: منزل الميت. ونُقِلوا من القصور إِلى القبور، ومن المنابر إِلى المقابر. والمَقبَرَة والمَقْبُرَة: مجتمع القبور. قال:
لكُلِّ أُناس مَقْبَرٌ بِفِنائهم ... فهم يَنْقصون والقبورُ تزيد
وقَبَرَه: جعله فى القبر. وأَقبره: جعل له مكاناً يُقبر فيه، قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، وقيل: معناه: أُلْهِم كيف يُدفَن. وقوله تعالى: {حتى زُرْتُمُ المقابر} كناية عن الموت. وقوله: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور} إِشارة إِلى حال البعث، وقيل: إِشارة إِلى حين كَشف السرائر. فإِنَّ أَحوال النَّاس فى الدنيا مستورة كأَنها مقبورة، وقيل معناه: إِذا زالت الجهالة(4/226)
بالموت. وكأَنّ الكافر والجاهَل ما دام فى الدنيا مقبور، فإِذا مات فقد نشر من قبره وأُخرِج / من جهالته، وذلك معنى الأَثر: "النَّاس نِيَام فإِذا ماتوا انتبهوا". والله تعالى أَشار إِلى هذا بقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} .
خُذْ قَبَساً من النَّار ومِقْبَساً ومِقْبَاساً، واقبِس لى نارا. ومنه: وما أَنت إِلا كالقابس العجلان، أَى كالمقتبس.
وقَبَسته، ناراً وعلماً وأقبسته، كقولك: بغيته وأَبْغَيته. وما أَنا إِلاَّ قَبْسة من نارك، وقَبْضة من آثارك. قال تعالى: {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} .
وحُمَّى قبْسِ لا حُمَّى عَرَض، أَى اقتبسها من غيره ولم تعرِض له من تِلقاءِ نفسه.(4/227)
بصيرة فى قبص وقبض
القَبْص والتقبيص: التناول بأَطراف الأَصابع. وذلك المتناوَل قَبْصة وقُبصة وقبيصه. وقرئ فى الشاذّ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} .
والقَبْض: التناول باليد، والسوق الشديد. والمتناوَل قَبْضة وقُبْضة، قال تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} . يقال: قبضت من أَثَره قَبْضة وقَبْضاً، واقتبضت. قال أَبو الجْهم الجعفرى:
قالت له واقتبضت من أَثَرِهِْ ... يا رَبّ صاحِبْ شيخنا فى سفرهِْ
قيل له: كيف اقتبضَتْ من أَثره؟ قال: أَخذت قبضة من أَثره فى الأَرض فقبَّلتها. وعن مجاهد فى قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يعنى القُبَض الَّتى تُعطَى عند الحصاد. وقوله تعالى: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أَى يمتنعون عن العطاء والإِنفاق.
ويستعار القبض للتصرّف فى شىء وإِن لم يكن [فيه] مراعاة اليد والكف، نحو: قبضت الدار والأَرض أَى حُزتها. وقوله تعالى: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} أَى فى حَوْزه حيث لا تملّك لأَحد. وقوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أَى يَسلب ناسا ويعطى آخرين، أَو يجمع مرّة ويفرِّق مرَّة، أَو يميت ويُحْيى.(4/228)
وقد يكنى بالقبض عن الموت فيقال: قبضه الله. [وقوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} إِشارة إِلى نسخ ظل الشمس] . أَخبر الله تعالى فى هذه الآية أَنه بسط الظلّ ومَدَّه وجعله متحركاً تبعاً لحركة الشمس، ولو شاءَ لجعله ساكناً لا يتحرَّك، إِمَّا بسكون المَظْهَر له والدَّليل عليه، وإِمَّا بسبب آخر. ثم أَخبر أَنه قبضه بعد بسطه قبضاً يسيراً، وهو شىء بعد شىء، لم يقبضه جُملة. فهذا من أَعظم آياته الدالَّة على كمال قدرته وحكمته. فندب سبحانه إِلى رؤية صنعه وقدرته وحكمته فى هذا الفَرْد من مخلوقاته، ولو شاءَ لجعله لا صِقاً بأَصل ما هو ظلٌّ له من جَبَل وبناءِ وحَجَر وغيره فَلم يَنتفع به أَحد، فإِن كمال الانتفاع به تابع لمدّه وبسطه وتحوّله من مكان إِلى مكان. وفى مَدّه وبسطه ثُمَّ قَبْضِه شيئاً فشيئاً من المصالح والمنافع مالا يخفى ولا يُحْصَى، فلو كان ساكناً دائماً أَو قُبض دفعة واحدة لتعطلَّت مرافقُ العالم ومصالحُه. وفى دلالة الشمس على الظِّلال ما تُعرف به أَوقات الصَّلوات، وما مضى من اليوم وما بقى منه، وفى تحرُّكه وانتقاله ما يَبْرد ما أَصابه حرّ الشمس، وينتفع الحيوان والشجر والنَّبات. فهو من آيات الله الدَّالَُّة عليه.
وفى الآية وجه آخر. وهو أَنه سبحانه مَدّ الظل حين بنا السَّماء كالقُّبة المضروبة، ودحا الأَرض عنها، فأَلقت القبّة ظلها عليها، فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا فى تلك الحال، ثم خلق الجبال ونصبها دليلا على ذلك(4/229)
الظل، فهو يتبعها فى حركتها، يزيد وينقص، ويمتد ويَقْلُص، فهو تابع لها تبعيَّة المدلول / لدليله.
وفيه وجه آخر، وهو أَن يكون المراد قَبْضه عند قيام السَّاعة بقبض أَسبابه، وهى الأَجرام الَّتى تُلقى الظِّلال، فيكون قد ذكر إِعدامه بإِعدام أَسبابه؛ كما ذكر إِنشاءَه بإِنشاءِ أَسبابه. وقوله: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} كأَنه يُشْعِر بذلك. وقوله: {قَبْضاً يَسِيراً} يشبه قوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} ، وقوله بصيغة الماضى لا ينافى ذلك كقوله: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} .
والوجه فى الآية هو الأَوَّل. وهذان الوجهان إِن أَراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إِشارة وإِيماءً فقريب، وإِن أَراد أَن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد؛ لأَنَّه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه كما فى سائر آياته التى تدعو عباده إِلى النَّظر فيها، فلا بدّ أَن يكون ذلك أَمرًا مشهودًا تقوم به الدِّلالة، ويحصل به المقصود.
قال المحقِّقون من السَّالِكين: القبض نوعان: قبض فى الأَحوال، وقبض فى الحقائق. فالقبض فى الأَحوال: أَمْر يطرق القلب ويمنعه عن الانبساط والفرح، وهو نوعان أَيضاً: أَحدهما: ما يعرف سببه كتذكر ذنب، أَو تفريط، أَو بعد، أَو جَفوة، أَو حدوث ذلك. والثانى: ما لا يُعرف سببهُ بل يَهْجُم على القلب هجوما لا يقدر على التخلُّص منه، وهذا هو القبض المشار إِليه بأَلسِنَة القوم، وضدُّ البسط.(4/230)
فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفكّ عنهما. قال أَبو القاسم الجُنَيد: فى معنى القبض والبسط معنى الخوف والرَّجاء، فالرَّجاء يبسط إِلى الطَّاعة، والقبض والخوف يقبض عن المعصية.
وكلّهم تكلَّم فى القبض والبسط حتَّى جعلوه أَقساماً: قبض تأْديب، وقبض تهذيب، وقبض جمع، وقبض تفريق. ولهذا يمتنع به صاحبُه إِذا تمكَّن منه من الأَكل والشرب والكلام، ويقل الانبساط إِلى الأَهل وغيرهم.
فقبض التأْديب يكون عقوبة على غفلة أَو خُلطاء سَوْءٍ، أَو فكرة رديئة.
وقبض التهذيب يكون إِعْدَادًا لِبسط عظيم يأْتى بعده. فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدِّمة له، كما كان الغَتُّ والغطّ بين يَدَى الوحى إِعدادًا لوروده. وهكذا الخوف الشديد مقدِّمة بين يدى الأَمن. فقد جرت سُنَّة الله - سبحانه - أَن هذه الأمور النافعة المحبوبة يُدخَل إِليها من أَبواب أَضدادها.
وأَمَّا قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حالة جَمْعيَّته على الله من انقباضه عن العالَم وما فيه، فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير مَن اجتمع عليه قلبُه. وفى هذه مَن أَراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه.
وأَما قبض التفرقة فهو القبض الذى يحصل لمن تفرَّق قلبُه عن الله وتشتَّت فى الشِّعاب والأَودية. فأَقلّ عقوبته ما يجده من القبض الذى ينتهى معه الموت.
وثمّ قبض آخر خصَّ الله به صُيَّابَته أَى خواصّ عباده. وهم ثلاث فرق:(4/231)
فرقة قبضهم إِليه قبض التّوفى أَو قبض التوقِّى - من الوقاية - أَى سترهم عن أَعين النَّاس وقاية لهم وصيانة عن مُلابستهم، فغيَّبهم عن أَعينهم. وهؤلاءِ أَهل الانقطاع والعُزْلة عن الناس وقت فساد الزمان. ولعلَّهم الذين قال [فيهم] النبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "يوشِك أَن يكون خير مال المسلم غَنماً يتَّبع بها شعَف الجبال ومواقع القَطْر"، وقوله: "ورجل معتزل فى شِعْب من الشِّعاب يعبد ربَّه، ويدع النَّاس من شرِّه". وهذه الحال تُحمد فى بعض الأَماكن والأَوقات دون بعضها، وإِلاَّ فالمؤمن الذى يخالط النَّاس ويصبر على أَذاهم أَفضل من هؤلاءِ.
وفرقة أَخرى مستورون فى لباس التلبيس، مخالطون للناس، والنَّاسُ يرون ظواهرهم وقد سَتر الله سبحانه حقائقهم وأَحوالهم عن رؤية الخَلْق لها، فحالهم ملتَبسٌ على النَّاس. فإِذَا رأَوا منهم ما يرون من أَبْنَاءِ الدنيا - من الأَكل والشرب واللباس والنكاح وطلاقة الوجه وحسن المعاشرة - قالوا: هؤلاءِ منَّا أَبناءَ الدنيا، وإِذا رأَوا ذلك الجدّ والهمّ والصبر والصدق وحلاوة المعرفة والإِيمان والذكر، وشاهدوا أَمورًا ليست فى أَبناءِ الدنيا، قالوا: هؤلاءِ أَبناء الآخرة، فالتبس حالهم عليهم فهم مستورون عنهم. فهؤلاءِ هم الصادقون، هم مع النَّاس، والنَّاس لا يعرفونهم ولا يرفعون بهم رأْسا، وهم من سادات أَولياءِ الله. وهذه الفِرقة بينها وبين(4/232)
الفرقة الأُولى من الفضل مالا يعلمه إِلا الله. فهم بين النَّاس بأَبدانهم، ومع الرفيق الأَعلى بقلوبهم، فإِذا قُبِضوا انتقلت أَرواحهم إِلى تلك الحضرة؛ فإِن المَرْءَ مع من أَحبّ. وما أَحسن قول القائل
ووراءَ هاتيك الستور محجَّب ... بالحُسن كلُّ العزِّ تحت لوائه
لو أَبصرت عيناك بعضَ جماله ... لبذلت منك الروح فى إِرضائه
ما طابت الدنيا بغير حديثه ... كلاَّ ولا الأخرى بدون لقائه
يا خاسراً هانت عليه نفسُه ... إِذْ باعها بالغَبْن من أَعدائه
لو كنت تعلم قدر ما قد بعته ... لفسخت ذاك البيع قبل وفائه
أَو كنت كفؤا للرشاد وللهدى ... أَبصرت لكن لست من أَكفائه
وفرقة ثالثة قبضهم إِليه فصَافاهم مصَافاة ستر وفيض ومدد عليهم وهذه الفرقة أَعلى من الفرقتين المتقدِّمتين، لأَن الحق سبحانه قد سترهم عن نفوسهم، وشغلهم به عنهم، فهم فى أَعلى الأَحوال والمقامات، ولا التفات لهم إِليها. فهؤلاءِ قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه، بل هم مع السِّوَى بالمجاورَة والامتحان، لا بالمساكنة والأُلفة، وقد سترهم وليّهم وحبيبهم عنهم، وأَخذهم إِليه منهم والله أَعلم.(4/233)
بصيرة فى قبل
قبل: نقيض بعد، يقال: أَتيتك من قبلُ، وأَتيتك قَبْلُ، وقَبْلٌ بالتنوين، وقَبْلَ بالفتح، وقَبْلاَ منوّنة.
والقُبُل - بضمَّتينِ -: نقيض الدبر. ويكنى بهما عن السوءَتين، ومن الجبل: سَفْحه، ومن الزمان: أَوله. وإِذًا أُقْبِلُ قُبْلك - بالضمّ - أَى أَقْصِد قصدَك.
وقَبْل يستعمل على أَوجه:
الأَول: فى المكان بحسب الإِضافة؛ كقول الخارج من اليمن إِلى بيت المقدس: مكَّة قبل المدينة، ويقول الخارج من القدس إِلى اليمن: المدينة قبل مكَّة.
الثانى: فى الزمان: زمان معاوية قبل زمان عمر بن عبد العزيز.
الثالث: فى المنزلة، نحو: فلان عند السلطان قبل فلان.
الرابع: فى الترتيب الصناعىّ، نحو: تعلَّم الهجاء قبل تعلُّم الخطِّ.
والقَبْل والإِقبال والاستقبال: التَّوجّه. والقابل: الذى يستقبل الدلو من البئر فيأْخذها. والقابلة: الَّتى تأْخذ الولد عند الولادة.
وقبِل توبته يقبلها قَبُولا وتقبّلها، قال تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} وقال: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} .(4/234)
والتقبّل: قبول الشىء على وجه يقتضِى ثوابا كالهديَّة. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} تنبيه أَنه ليس كل عبادة متقبَّلة. بل إِذا كانت على وجه مخصوص. وقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ، قيل: معناه: قَبلها، وقيل: تكفَّل بها. وإِنما قال: {تَقَبَّلَهَا بِقَبُولٍ} ولم يقل {بِتَقَبُّل} للجمع بين الأَمرين: التقبُّل الذى هو الترقىّ فى القبول، والقبول الذى يقتضى الرضا والإِثابة. وقيل: القَبُول هو من قولهم: فلان عليه قَبُول، أَى من رآه أَحبَّه.
وقوله: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} قيل: هو جمع قابل، ومعناه: مقابل لحواسّهم. قال مجاهد: جماعةَ جماعَةً فيكون جمع قبيل، وكذلك قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً} . ومن قرأَ {قِبَلا} بكسر القاف فمعناه عِيَانًا، وكذا قوله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قِبَلاً} أَى عِيَانًا، {وقُبُلاً} أَى جماعة جماعة.
والقبيل: جمع قِبيلة، وهى الجماعة المجتمعة التى تُقبل بعضها على بعض، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} ، مأْخوذ من قبائل الرأْس وهى القِطَع المشعوب بعضُها إِلى بعض. قيل ترتيب صنوف الأَحياءِ على ترتيب الأَعضاءِ. فأَوّلها القبيلة من قبائل الرأْس، ثم الشَّعْب، ثم(4/235)
العِمارة هى الصدر، ثم البطن، ثم الفخِذ، ثم الفصِيلة، وهى الساق. وأَعظمها الحىّ لأَنه يجمع الجميع.
وقوله: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} أَى جماعة جماعة. وقيل: معناه كفيلا من قولهم: قَبَلت فلانًا وتقبّلت به أَى تكفَّلت. وقيل: مقابَلة، أَى معاينة. والمقابَلة والتقابل أَن يُقبل بعضهم على بعض إِمّا بالذات وإِمّا بالعناية والمودّة، قال تعالى: {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} .
ولى قِبَل فلان حقّ كقولك عنده، قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} . ويستعار ذلك للقوّة والقُدْرةِ، فيقال: لا قِبَل لى بكذا، أَى لا يمكننى أَن أقابله، قال تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قِبلَهُ} ، وقوله: {بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أَى لا طاقة لهم على استقبالها ودفاعها.
والقِبْلة فى الأَصل: الحالة التى عليها المقابِل، نحو الجِلسة والقِعدة، وفى التعارف صارا اسما للمكان المقابَل المتوجَّه إليه للصلاة. وقوله تعالى: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أَى متقابلة. وقوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق} ، أَى نحوه.(4/236)
بصيرة فى قتر
قَتَر على أَهله يَقْتُرُ ويَقْتِر، وأَقتَر وقَتَّر، أَى ضيّق عليهم وقلَّل، قال تعالى: {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ، وقرىءَ: {وَلَمْ يَقْتِرُواْ} .
واقتتر الصائد وتقتّر للصيد: اختفى فى القُتْرة ليختِله، وهى ناموس الصائد الحافظُ لقُتار الإِنسان أَى ريحه.
ورجل مُقَتّر وقَتُور. وقوله: {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} تنبيه على ما جُبل عليه الإِنسان من البخل.
ورجل مُقْتر - كمحسن -: مُقِلّ، قال تعالى: {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} . ويوجهه قَتَر وقَتَرة، وهو ما يغشاه من غَبَرة الكذب والموت. قال تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . وكأَن المُقْتر والمقَتِّر هو الذى يتناول من الشىءِ قُتاره. ورجل قاتر: ضعيف.
وابن قِتْرَةَ: حيّة لا تُطْنِى. وأَبو قِترَة كنية إِبليس. وقُتْرة البستان: خَرْقه الذى يدخل الماءُ منه، ومن الباب: مكانُ الغَلَق. وهم فى قُتْرة من العيش: ضِيق.
وتقتَّر له: تلطَّف، وللرمى: تهيّأَ.(4/237)
بصيرة فى قتل
قَتَلَه يقتُله قَتْلاً وتَقتالا: أَزال رُوحه عن جسده. وقَتَّل الرّجال وقاتَلهم وتقاتلوا واقتتلوا. وأَقْتَلَه: عرّضه للقتل، كما قال مالك بن نُوَيرة لامرأَته الحسناء حين رآها خالد بن الوليد: أَقتَلْتِنى يا امرأَة، أَى سيقتلنى من أَجلك.
وقوله تعالى: {قُتِلَ الخراصون} دعاء عليهم، و [هو] من الله إِيجاد لذلك. وقيل: معناه لُعِن الخرّاصُونَ وطُردوا / وكذا قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} ، و {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} ، كلّ ذلك بمعنى اللَّعن والطَّرد. ويقال: قتل الشىءَ خُبْرًا أَى علمه وتحقَّقه، ومنه قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أَى ما علموه ولا حقَّقوه. وقوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} أَى جفاه، و (قطعه فقتله) وقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} أَى لِيَقْتُل بعضُكم بعضًا. وقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} .
وقوله: {قَاتَلَهُمُ الله} أَى لعنهم الله. وقيل معناه: قتلهم الله. والصّحيح الأَوّل، والمعنى صار يتصدّى لِمُحَاربة الله، فإِنَّ من قاتَل الله(4/238)
مقتول. وقال تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله} ، {وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ} ، وقال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} ، وقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} ، {اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا} ، {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} ، {حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ} : اقتلع رأَسه بيده. {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ، {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ، {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} ، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} ، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} ، {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} إِلى قوله {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} ، وقال: {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ} .
والاقتتال كالقتال. قال الله تعالى {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} أَى قاتَلوا.(4/239)
بصيرة فى قد
القَدّ: الشق طُولاً. قددت السَّيرَ وغيره أَقُدّه قدًّا، قال الله تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} ، ومنه حديث على رضى الله عنه: إِذا تطاول قدّ، وإِذا تقاصر قطَّ. والقَدّ: المقدود، ومنه قيل لقامة الإِنسان: قدُّهُ كقولك: تقطيعه. والقِدّ - بالكسر -: النعل لم تجرّد من الشَعَر، والسّير يُقَدّ من جلد مدبوغ، ومنه الحديث: "ولقابُ قوسِ أَحدكم من الجنَّة أَو موضعُ قِدّه خير من الدّنيا وما فيها"، أَراد بالقِدّ السّوط لأَنه يُتَّخذ من القِدّ.
والقِدَّة: الطَّريقة، والفِرقة من الناس إِذا كان هوى كلّ واحد على حِدَة، قال الله تعالى: {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} ، أَى فِرَقاً مختلفة أَهواؤُها. ومعنى (قِدَدًا) : متفرقين يعنى فى اختلاف الأَهواءِ.
وقد - مخفَّفة -: حرف لا يدخل إِلا على الأَفعال، وهو جواب لقولك: لمّا يفعلْ. وزعم الخليل أَن هذا لمن ينتظر الخبر، يقول: قد مات فلان، ولو أَخبره وهو لا ينتظره لم يقل: قد مات، ولكن يقول: مات فلان. وقد يكون بمعنى ربّما، قال.(4/240)
قد أَترك القِرْن مُصْفرًّا أَناملُه ... كأَنَّ أَثوابَه مُجَّت بِفرصاد
فإِن جعلتها اسما شدَّدتها، قلت: كتبت قَدّا حسنة. وكذلك كى، وهو، ولَوْ، لأَنَّ هذه الحروف لا دليل على [ما] نقص منها، فيجب أَن يزاد فى آخرها ما هو من جنسها ويدغم، إِلاَّ فى الأَلف فإِنَّك تهمزها. ولو سمَّيت رجلا بـ (لا) و (ما) ثم زدت فى آخره أَلِفا همزت؛ لأَنك تحرك الثانية، والأَلف إِذا تحركت صارت همزة.
فأَمَّا قولهم: قَدْك بمعنى حسبُك، وقدنى بمعنى حَسْبى، فاسم، تقول: قَدِى وقَدْنى / أَيضاً بالنون على غير قياس؛ لأَنَّ هذه النُّون إِنَّما تزاد فى الأَفعال وقاية لها، مثل: ضربنى وشتمنى. قال ابن عَتَّاب الطَّائىّ:
فناولته من رِسْل كَوْماءَ جَلْدة ... وأَغضيت عنه الطَرْف حتى تضلَّعا
إِذا قال: قدنى، قلت: بالله حلفة ... لَتُغنِنَّ عنىّ ذا إِنائك أَجمعا
وفى رواية أَبى زيد فى نوادره:
إِذا هو آلى حلْفَة قلت مثلها ... لتُغِننَّ عنىِّ ذا إِنائك أَجمعا
وقد: كلمة لا يكون الماضى حالا إِلاَّ بإِضمارها أَو بإِظهارها معه، وذلك مثل قول الله تعالى: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ، لا يكون (حصرت) حالاً إِلا باضمار قَدْ، فيكون تقدير الكلام: حَصِرةً صدورهم. وقال الفرَّاءُ فى(4/241)
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} ، المعنى: وقد كنتم، ولولا إِضمار قد لم يجز مثله فى الكلام؛ أَلا ترى أَنَّ قوله تعالى فى سورة يوسف {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} معناه فقد صدقت. وأَمَّا الحال فى المضارع فشائعة دون قد ظاهرة أَو مضمرة.
وقَدْ تقرِّب الماضى من الحال، إِذا قلت قد فعل، ومنه قول المؤذِّن: قد قامت الصَّلاة. ويجوز الفصل بينها وبين الفعل بالقَسَم، كقولك: قد واللهِ أَحسنتَ، وقد لعمرى بِتُّ ساهرا. ويجوز طرح الفعل بعدها إِذا فُهِم كقول النابغة الذبيانىّ:
أَفِدَ الترحُّلُ غيرَ أَنَّ ركابنا ... لَمَّا تَزُلْ برحَالِنا وكأَنْ قَدِ
أَى كأَن قد زالت.
وإِذا دخلت قد على فعل ماض فإِنما تدخل على كلِّ فعل متجدِّد، نحو قوله: {قَدْ سَمِعَ الله} ، ولذلك لا يصحّ أَن تستعمل فى أَوصاف الله تعالى الذاتيَّة، نحو قد كان الله عليماً حكيماً. وقوله: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} متناول للمرض فى المعنى؛ كما أَن النفى فى قولك: ما علم الله زيدا يخرج، هو للخروج، وتقدير ذلك: قد يمرضون فيما علم الله، وما يخرج زيد فيما علِم الله. وإِذا دخل قَدْ على الفعل المستقبل من الفعل فذلك الفعل يكون فى حالة دون حالة، نحو: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ} أَى قد يتسلَّلُون فيما علم الله. والله أَعلم.(4/242)
بصيرة فى قدر
هو قادر ومقتدر: ذو قُدرة ومقْدِرَة. وأَقدره الله عليه. وقادرته: قاويته. وهم قَدْر مائة، وقَدَر مائة، ومقدارها: مبلغها. والأُمور تجرى بقَدَر الله ومقدارِه وتقديره وأَقداره ومقاديره. وقدرت الشىءَ أَقْدُرُه وأَقدِره، وقدَّرته. ولا يُقادَر قَدْره: لا يطاق. ورجل مقتدر الطُول: رَبْعة. وصانع مقتدِر: رفيق بالعمل، قال:
لها جَبْهَة كسَرَاةِ المِجَنِّ ... (م) حَذَّفَه الصَّانعُ المُقْتَدِرْ
وقد ورد القدر وما يتصرَّف منه لمعان مختلفة:
الأَول: بمعنى الشرف والعظمة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} ، وقيل معناه: ليلة قَيَّضَها لأُمور مخصوصة.
الثَّانى: بمعنى ضِيق المكان والمعيشة: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} أَى يضيّق، {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أَى ضُيِّق، {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أَى لن نضيِّق عليه.
الثالث: بمعنى التزيين وتحسين الصّورة: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون}(4/243)
صوَّرنا فنعم المصوِّرون: {والذي قَدَّرَ فهدى} ، أَى خلق فصوّر.
الرابع: بمعنى الجَعْل والصُّنع: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} ، أَى جعل له منازل {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} ، {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} .
/ الخامس: بمعنى العلم والحكمة: {والله يُقَدِّرُ الليل والنهار} أَى يعلم.
السَّادس: بمعنى القدرة والقوَّة: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ} أَى يَقْوى، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {قُلْ هُوَ القادر} . ولها نظائر.
وتقدير الله تعالى الأُمورَ على نوعين: أَحدهما بالحكم منه أَن يكون كذا أَولا يكون كذا، إِمَّا وجوباً وإِمَّا إِمكاناً، وعلى ذلك قوله: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . والثانى: بإِعطاء القدرة عليه. وقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} تنبيه أَن كل ما حَكم به فهو محمود فى حكمه، أَو يكون مثل قوله: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} ، وقرئ (فقَدَّرْنا) مشدَّدة، وذلك منه أَو من إِعطاءِ القدرة. وقوله: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} تنبيه أَن ذلك فيه حكمة من حيث إِنه هو المقدّر، وتنبيه أَن الأَمر ليس كما زعم المجوس: أَن الله يخلق وإِبليس يقتل.
وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} فـ (قَدَراً) إِشارة إِلى ما سبق به القضاءُ والكتابة فى اللَّوح المحفوظ، والمشار إِليه بقوله عليه الصلاة(4/244)
والسلام: "فَزَع ربّكم من الخَلق والخُلُق والأَجل والرزق"، (ومقدوراً) إِشارة إِلى ما يحدث حالاً فحالاً، وهو المشار إِليه بقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، وعلى ذلك قوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} .
وقوله: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} أَى ما يليق بحاله مقدورًا عليه. وقوله: {والذي قَدَّرَ فهدى} ، أَى أَعطى كلّ شىءٍ ما فيه مصلحة، وهداه لما فيه خلاص، إِمّا بالتسخير وإِمّا بالتعليم؛ كما قال: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} .
والتقدير من الإِنسان على وجهين: أَحدهما: التفكّر فى الأَمر بحسب نظر العقل، وبناءُ الأَمر عليه، وذلك محمود. والثَّانى: أَن يكون بحسب التمنىِّ والشهوة، وذلك مذموم، كقوله: {فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} . وتستعار القُدرة والمقدور للحال والسّعة والمال.
والقَدَر: وقت الشىءِ المقدَّرُ له، والمكان المقدّر له. وقوله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أَى بقدر المكان [المقدّر] لأَن يسعها؛ وقرئ (بِقَدْرِهَا) أَى تقديرها. وقوله: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} ، أَى معيّنين لوقت قدَّروه. وكذلك قوله: {فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} .(4/245)
وقدرت عليه الشىء وصَفْته، وقوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أَى ما عرفوا كنهه، تنبيهاً أَنَّه كيف يمكنهم أَن يدركوا كنهه وهذا وصفه، وهو قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} . وقوله: {وَقَدِّرْ فِي السرد} أَى أَحكِمه.
ومقدار الشىءِ: المقدّر له وبه وقتاً كان أَو زماناً أَو غيره. وقوله: {أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله} يعجزون عن تحصيل شىءٍ منه.
والقدير: هو الفاعل لما يشاءُ على قدر ما تقتضى الحكمة، لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه، ولذلك لا يصحّ أَن يوصف به إِلا الله تعالى. والمقتدر يقاربه إِلاَّ أَنَّه قد يوصف به البشر، ويكون معناه المتكلَّف والمكتسب للقدرة. ولا أَحد يوصف بالقدرة من وجه إِلاَّ ويصحّ أَن يوصف بالعجز من وجه، غير الله تعالى، فهو الذى ينتفى عنه العجزُ من كلّ وجه تعالى شأْنه.(4/246)
بصيرة فى قدس
القُدْسُ، والقُدُسُ بضمّتين: الطَّهارة. وقد قَدُسَ يقدُسُ - ككرم يكرم - والنعت منه قُدُّوس وقَدُّوس. وقدّسه تقديساً: طهَّره. {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} ، أَى نطهِّر الأَشياءَ امتثالاً لأَمرك، وقيل: معناه: نصِفك بالتقديس. والقُدُّوس، والمقدَّس، والمتقدِّس. / وربُّ القُدس هو الله تعالى. وخرج إِلى بَيْت المقْدِس، وإِلى القُدس، وإِلى الأَرض المقدَّسة، وإِلى بيت المقدَّس، أَى إِلى بيت المكان المقدّس. وقَدَّسَ الرجلُ: أَتى بيت المقدِس، قال الفرزدق:
ودَع المدينة إِنَّها مرهوبة ... واعمِد لمكَّة أَو لبيت المقدِس
وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} أَى جبريل، وفى الحديث: "قُلْ وروح القُدُس معك" أَى ومعينك جبريل، وقيل: وعصمة الله وتوفيقه معك. وراهب مقدِّس: مقيم بالقدس أَو زائر له، قال امرؤُ القيس يصف الثور والكلاب:
فأَدركنه يأْخذن بالسّاق والنَّسا ... كما شبرق الوِلدانُ ثوب المقدِّس
وحظيرة القدس: الجنَّة، وقيل: الشريعة. وكلاهما صحيح.(4/247)
بصيرة فى قدم
القَدَم: السّابقة فى الأَمر، كالقُدْمة، والرّجُل له مرتبة فى الخير، والرِّجْل - مؤَنثة - والجمع: أَقدام؛ والشجاع كالقُدْم والقُدُم.
وقَدَم القومَ يقدُمهم قَدْمًا وقُدُومًا، وقدّمهم واستقدمهم: تقدّمهم. قال الله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} . وقوله تعالى: {لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قيل معناه: لا تتقدَّمُوا. وتحقيقه: لا تسبقوه بالقول والحُكم، بل افعلوا ما يأْمركم به، كما يفعله العِباد المكرمون كما قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} . وقَدُمَ - ككرم - قِدَماً وقَدامة فهو قَدِيم وقُدَام، والجمع: قُدَماءُ وقُدَامَى: تقادم. وأَقدم على الأَمر: شَجُع. وأَقدمته وقدّمته.
والقِدَم: ضدّ الحدوث. والقُدُم - بضمتين -: المضىّ أَمام أَمام. وهو يمشى القُدُم والقُدُمِيّة والتَقْدُمِيَّة والتَقْدُمة: إِذا تقدّم فى الحرب.
والتقدّم على أَربعة أَوجه ممّا ذكر فى (قبل) . ويقال: قديم وحديث، وذلك إِما باعتبار الزَّمانين، وإِمّا بالشرف، وإِما لما لا يصحّ وجود غيره إِلاَّ بوجوده، كقوله: الواحد متقدّم على العدد، بمعنى أَنه لو تُوهِّم ارتفاعه لارتفع الأَعداد.
والقِدَم: وجودٌ فيما مضى، والبقاءُ: وجود فيما يستقبل. ولم يرد(4/248)
فى التنزيل ولا فى السنَّة ذكر القديم فى وصف الله تعالى، والمتكلِّمون يصفونه به، وقد ورد يا قديم الإِحسان. وأَكثر ما يستعمل القديم يستعمل باعتبار الزمان؛ نحو قوله: {كالعرجون القديم} .
وقوله تعالى: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} أَى سابقة فضيلة. (وقدّمت إِليه بكذا: أَعلمته قبل وقت الحاجة إِلى فعله) ، قال تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} . وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أَى لا يزيدون تأَخُّرًا ولا تقدُّمًا. وقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} أَى ما فعلوه قبل.
قال الزمخشرىّ: تقدّمت إِليه بكذا وقدّمت: أَمرته به. وفلان يتقدّم بين يدى الله: إِذا عجِل فى الأَمر والنهى دونه. وما له فى ذاك متقدَّم ومقْتدَم. ولقيته قدام ذاك وقد يديمته، أَى قُبيله، قال علقمة:
قُديْديمَة التجريب والحِلم إِنَّنى ... أَرَى غفلات العيش قبل التجارب(4/249)
بصيرة فى قذف وقر
قَذَفَه بالحجارة يقذِفه: رمى بها، والمحصَنةَ: رماها بزَنْية.
قرّ بالمكان، واستقرّ. وهو قارّ، أَى مستقِرّ. وقرَّ به القَرارُ. وهو فى مقرّه، ومستقرّه. وهو لا يتقارّ فى موضعه. قال تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً} أَى مستقَرًّا. وقال فى الجنَّة: / {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} وفى النَّار: {فَبِئْسَ القرار} . وقوله: {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أَى ثبات ودوام. وقول الشاعر:
ولا قَرَار على زَأْرٍ من الأَسَد
أَى لا أَمن ولا استقرار. وأَنا لا أَقارّك على ما أَنت عليه، أَى لا أَقِرّ معك. وقارُّوا فى الصّلاة: أَى قِرُّوا فيها. وما أَقرّنى فى هذا البلد إِلاَّ مكانك. ويوم القَرّ: يوم النحر لاستقرار الناس بمنى. واستقرّ: تحرّى القرار، وقد يستعمل بمعنى قرّ؛ كاستجاب وأَجاب، قال تعالى فى الجنَّة: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} . وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} قال ابن عباس رضى الله عنهما: مستقر فى الأَرض، ومستودع فى(4/250)
الأَصلاب؛ وقال ابن مسعود رضى الله عنه: مستقرّ فى الأَرض، ومستودع فى القبور. وقال الحسن: مستقرّ فى الآخرة، ومستودع فى الدنيا. وجملة الأَمر أَن كلَّ حال يُنقل عنها فليس بمستقرّ تامّ.
والإِقرار: إِثبات الشىءِ إِمّا باللسان، وإِمّا بالقلب، أَو بهما جميعاً.
ويوم قَرٌّ، وليلة قَرَّة، وذات قُرّ وقِرَّة: بردٍ. وأَجِد حِرَّة تحت قِرّة. ورجل مقرور: مبرود. وقَرَّ يومُنا. واغتسل بالقَرُور: بالماءِ البارد. وقرّت عينُه: سُرّت. وأَقرّها الله ضدّ أَسخنها. ويقال لمن يُسرّ به: قرَّة عين، قال تعالى: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} ، وقيل: هو من القرار، أَى أَعطاه الله ما يسكّن به عينه فلا يطمح إِلى غيره.
والقارورة سمّيت لاستقرار الماءِ فيها، قال تعالى: {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} . والقارورة: المرأَة شبّهت بالزُّجاج لرقَّتِها، ونظافتها، وسرعة انكسارها، ومنه الحديث: "رُوَيْدَكَ يا أَنْجَشَةُ رُوَيْدك سَوقاً بالقوارير".(4/251)
بصيرة فى قرب
القرب - بالضمّ -: الدنوّ. قرب الشىءُ - ككرم -: دنا فهو قريب.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} ولم يقل قريبة لأَنَّه أَراد بالرَّحمة العفو والغفران والإِحسان، ولأَنَّ ما لا يكون تأْنيثه حقيقياً جاز تذكيره. وقال الفرّاءُ: إِذا كان القريب فى معنى المسافة يذكَّر ويؤَنَّث، وإِذا كان فى معنى النسب يؤَنَّث بلا اختلاف بينهم، فتقول: هذه المرأَة قريبتى أَى ذات قرابتى
ويستوى فى القريب نقيض البعيد الذكر والأَنثى والفرد والجمع، تقول: هو قريب منىِّ، وهى قريب، وهم قريب، وهنَّ قريب. وكذلك القول فى البعيد. قال ابن السّكيت: لأَنَّه فى تأْويل هو فى مكان قريب منىِّ. وقد يجوز قريبة وبعيدة بالتاءِ تنبيهاً على قرُبَت وبعدت. وأَنشد:
ليالَى لا عفراءُ منكَ بعيدة ... فتسلَى ولا عفراءُ منك قريب
وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أَى غير شاقٍّ. وقوله تعالى: {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ، قال مجاهد: من تحت أَقدامهم. وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ، قال مجاهد: من تحت أَقدامهم أَى من المحشر، لا يبعد نداؤُه عن أَحد.(4/252)
وتقول: بينى وبينه قُرْب، وقَرابة، ومَقْرُبة، ومَقْرِبة، وقُرْبة - بالضمّ - وقُرُبة - بضمّتين - وقُرْبى، قال تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} ، أَى إِلاَّ أَن توَدُّونى فى قرابتى، أَى فى قرابتى منكم.
ويستعمل القرب فى (المكان، والزمان) ، والنسبة، والحُظْوة. والرعاية، والقدرة. فمن الأَوّل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} كناية عن الجماع. / وفى الزَّمان نحو قوله تعالى: {اقتربت الساعة} . وفى النَّسبة قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} . وفى الحُظْوة: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} ، ويقال للحُظْوة القربة: {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} . والرّعاية نحو قوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} . وفى القدرة قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} .
وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} يحتمل أَن يكون من حيث القدرة.
والقُرْبان: ما يتقرّب به إِلى الله؛ وصار فى التعارف اسما للنسيكة الَّتى هى الذبيحة. وقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ(4/253)
الله قُرْبَاناً آلِهَةَ} من قولهم: قُرْبان المَلِك لمن يتقرّب بِخِدْمته إِلى الملِك، ويستعمل ذلك للواحد والجمع. وقرابين الملك: جُلَساؤهُ وخواصّه، تقول: فلان من قُرْبَان الملِك، ومن بُعْدانه؛ ولكونه فى هذا الموضع جمعاً قال تعالى: (آلهة) . والتقرُّب: التحرّى لما يقتضى حُظوة.
وقُرْب الله تعالى من العبد: هو الإِفضال عليه والفيض (لا بالمكان. وقرب العبد من الله فى الحقيقة) : التخصّص بكثير من الصّفات الَّتى يصحّ أَن يوصف الله بها، وإِن لم يكن وصف الإِنسان به على الحدّ الذى يوصف به الله تعالى، نحو الحِكمة والعلم والرّحمة، وذلك يكون بإِزالة الأَوساخ: من الجهل والطيش والغضب والحاجات البدنيّة، بقدر طاقة البشر، وذلك قرب رُوحانَّى لا بدنىّ. وعلى هذا القرب نبّه صلَّى الله عليه وسلَّم [فيما ذكر الله تعالى] : "من تقرّب منىِّ شِبْراً تقرَّبْتُ منه ذراعاً" وقوله عن الله عزَّ وجلّ أَيضاً: "ما تقرَّب إِلىَّ عبدى بمثل أَداء ما افترضته ولا يزال العبد يتقرّب إِلىّ بالنَّوافِل حتىَّ أُحبّه". الحديث.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} هو أَبلغ من النَّهى عن الزنىَ، لأَنَّ النَّهى عن قربه أَبلغ من النَّهى عن إِتيانه، وكذا قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} أَبلغ من النَّهى عن تناوله، وكذا قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} أَبلغ من ولا تأْكلا من ثمرها.(4/254)
وقيل فى قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أَى مجيب. وقوله: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} ، أَى إِلى ثلاثة أَيَّام. وقوله: {لأَقْرَبَ مِنْ هاذا رَشَداً} أَى لأَِصْوب. وقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً} أَى أَلينهم. وقوله: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قيل: من صخرة بيت المقدس، وهو أَقرب أَماكن الأَرض إِلى السماءِ. وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} ، أَى عند هول المُطَّلَع. {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} ، أَى لا تدخلوها ولا تشرعوا فيها. و {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} ، أَى كائناً واقعاً. وقوله تعالى: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} أَى جارًا لها.(4/255)
بصيرة فى قرح وقرد وقرطس
قرِح جِلْدُه - كعَلِمَ - وقَرَحَه - كمنعه - قَرْحا وقُرْحا فهو مقروح وقريح، وقوم قَرْحَى. وقرّحه تقريحا فتقرَّح. وقَرَّح الوشمَ: غرزه بالإِبرة. وبه قَرْحة دامية، وقُرْح وقروح، وهو كلّ ما جرح الجلد من عَضِّ سِلاحٍ وغيره. قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} وقرئ بالضمّ. وقيل: القُرْح - بالضمَّ -: الأَلم، يقال: به قُرْح من قَرْح به، أَى أَلم من جراحة. وأَقْرَحَ أَكْلُ الوَرَقِ شَفَتِى. وقرَح الفرُس يَقْرحُ قُروحاً. وقَرَحَ نابُهُ: طَلَعَ. وفرسٌ قارحٌ وخيلٌ قرَّح. وفرسٌ أَقرح: أَغرّ، وخيلٌ قُرْح. وبوجهه قُرْحة وهى ما دون الغُرّة. ولا ذباب إِلاَّ وهو أَقرح؛ كما لا بعير إِلاَّ وهو أَعلم. وقَرَحتُ رَكِيّة واقترحتها: حفرتها فى مكان لم يُحفر فيه. / وشربت قَرِيحة البئر: أَوَّل ما استُنبط منها. وقَرِيحة السَّحاب وقَرِيحه: أَوّل ما صاب منها، قال:
قريحة أَبكار من المُزْن جِلَّة ... شغاميم لاحت فى ذُرَاها البوارقُ
وماء قَرَاح: لا يشوبه شىء. ورجل طُوَال قُرْحان: سالم من الجُدَرىّ والحصًبة ونحوها؛ وقوم قُرْحانٌ، وقُرْحانون. ونخلة قِرْواح: طويلة.(4/256)
وأَرض قِرْواح: واسعة. وقَرَّح الشجَرُ: خرجت رءُوس ورقه. ولقيته مقارحة: مواجهة. وهو قُرْحة أَصحابه: غُرَّتهم. واقترح الجملَ: ركبه قبل أَن يُركب، والأَمرَ: ابتدعه، وخطبةً: ارتجلها. وهو حسن القريحة أَى إِذا ابتدع شعرا أَو خطبة أَجادَ. وأَخذت قريحة الشَّىْءِ: أَوَّله وباكورته
القِرْد (م) وجمعه قِرَدة، قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أَى جعل صورهم كصورها، وقيل: بل جعل أَخلاقهم كأَخلاقها، وإِن لم يكن صورتهم كصورتها. والأَوّل الوجه.
القُراد (م) وجمعه: قِرْدان. ويقال: أَذلُّ من قِرد وقُرَاد، وأَسفل من القراد. وقَرّدَه: خَدَعه. قال الأَعشى:
هم السَّمن بالسَنُّوت لا أَلْسَ فيهم ... وهم يمنعون جارهم أَن يُقَرَّدا
القِرطاس: الكاغَد الَّذى يُكتب فيه. ويقال فيه: الكاغَد والكاغَذ. قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} .(4/257)
بصيرة فى قرض وقرع وقرف
القَرْض: ضرب من القطع، قرضه يقرضه، كضربه يضربه. وقرضه أَيضاً: جازاه كقارضه. وسُمِّى قطع المكان وتجاوزه قَرْضا، كما سمّى قطعاً، قال تعالى: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} أَى تجوزهم وتَدَعهم إِلى أَحد الجانبين. وأَقرضه: قطع له قطعة من ماله بشرط أَن يجازَى عليها، قال تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} . وما يُدفع إِلى أَحد بشرط ردّ بدله يسمّى قَرْضاً. وعليه قرض وقُروض. واستقرضته فأَقرضنى. واقترضت، كما يقال: استلفت. وقارضته مقارضة وقِراضا: أَعطيته المال مضاربة.
قَرَعَ البابَ: دقَّه. قال:
أَخلِق بذى الصَّبر أَن يَحظى بحاجته ... ومُدمِن القرعِ للأبواب أَن يَلِجا
وفى الحديث: "إِنَّ المصلِّى ليقرع باب الملِك، وإِنَّ من يدمن قرع الباب يوشك أَن يُفتح له". والقرعاءُ والقارعة: الداهية، والشديدة من شدائد الدَّهر، قال الله تعالى: {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} أَى داهيه تفجؤهم(4/258)
يقال: قرعه أَمر: إِذا أَتاه بشدّة. وقيل: قارعة أَى سَرِيَّة من سرايا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقوله تعالى: {القارعة مَا القارعة} يعنى القيامة تقرع بالأَهوال. وفى الحديث: "مَن لم يَغْزُ ولم يجهّز غازياً أَصابه الله بقارعة" أَى بداهية تقرعه. وقوارع القرآن: هى الآيات التى مَن قرأَها أَمِن من الشيطان والجن والإِنس، كأَنها تقرع هؤلاءِ، يقال: نعوذ بالله من قوارع فلان ولواذعه.
القِرْف - بالكسر -: القِشر، ومن الخبز: ما يقشر منه ويبقى فى التَنُّور؛ ومن الأَرض: ما يُقتلع منها من البقول والعروق؛ ومن الجرح: جلدته. واستعير الاقتراف للاكتساب حسناً كان أَو سيّئاً، و [الاقتراف] فى الإِساءَة أَكثر استعمالاً، ولهذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف. وقَرَفْت فلانا بكذا: إِذا عِبته به أَو اتَّهمته، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى: {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} . وقارفه: قاربه.(4/259)
بصيرة فى قرن
القَرْن /: الرَّوْق من الحيوان، وموضعه من الإِنسان، وأَعلى الجبل، وناحية الشمس أَو أَعلاها أَو أَوّل شُعاعها، ومن القوم: سيّدهم، ومن الكلاّ: خيره أَو أَنفْه الَّذى لم يوطأ، والقوم المقترنون فى زمن واحد، وأربعون سنة أَو عشرون أَو ثلاثون أَو ستُّون أَو سبعون أَو ثمانون أَو مائة وعشرون أَو مائة سنة، أَقوال، وأَصحّها الأَخير؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لغلام: عِشْ قرنا، فعاش مائة سنة.
وذو القَرْنين: إِسكندر الرومىّ؛ لأَنَّهم ضربوا رأْسه حين دعا إِلى الله تعالى، أَو لأَنه بلغ قُطْرَى الأَرض، أَو لضَفِيرتين كانتا له، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} . وقول النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعلىّ رضى الله عنه: "إِنّ لك بيتا فى الجنة - ويروى: كنزا - وإِنّك لذو قرنَيْها" أَى ذو طَرَفيها، أَى ذو قرنَىِ الأُمَّة، فأَضمر وإِن لم يتقدَّم لها ذكر، أَو ذو جبليها، أَى الحسن والحسين، أَو ذو شَجَّتين فى رأْسه إِحداهما من عمرو ابن وُدّ، والأُخرى من ابن مُلْجَم، وهذا أَصحّ. والقرن أَيضاً: أُمَّة بعد أُمَّة، وقال تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ} .
وقَرَنَ بين الشيئين: جمع. وقَرَّنَ للتكثير، قال تعالى: {وَآخَرِينَ(4/260)
مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} أَى مقرونين. والاقتران: الازدواج فى كونه اجتماع شيئين أَو أَشياء فى معنى من المعانى، قال تعالى: {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} .
والقرين جاءَ فى القرآن لأَربعة معان:
الأَول - بمعنى الشريك والمعين: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} ، وقال: {فَبِئْسَ القرين} أَى بئس المعين.
الثانى - بمعنى الكرام الكاتبين: {قال قرينه} ، {وقَالَ قَرِينه} .
الثالث. بمعنى الشياطين الموسوِسين: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} ، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ، أَى موسوس.
الرابع - بمعنى الشياطين تحت تسخير سليمان عليه السَّلام مقيَّدين: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} .(4/261)
بصيرة فى قرأ وقرى
القَرْء - بالفتح -: الحيض. والجمع أَقْراءٌ وقُروءٌ، وأَقرُؤ فى أَدنى العدد، وفى الحديث: قال لأُمّ حبيبة: "دَعِى الصلاة أَيَّام أقرائك". والقَرْء أَيضاً: الطُّهر، فهو من الأَضداد، قال الأَعشى:
وفى كلِّ عام أَنت جاشم غزوة ... تشُدّ لأَقصاها عَزيم عزائكا
مورّثةٍ مالاً وفى المجد رفعة ... لما ضاع فيها من قُروء نسائكا
وقَرَأتِ المرأَة: حاضت. وأَصل القرء: الوقت؛ فقد يكون للحيض وقد يكون للطهر، قال:
إِذا ما السماءُ لم تغِم ثم أَخلفت ... قُروءُ الثريَّا أَن يكون لها قَطْرُ
يريد وقت قرئها الَّذى يمطَر فيه النَّاس، قال تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} أَى ثلاثة دخول من الطهر فى الحيض.
وقرأْت الشىء قرآناً: جمعته وضممت بعضه إِلى بعض. ومنه قولهم: ما قرأَت هذه النَّاقة سَلًى قطُّ، وما قرأَت جنيناً، أَى لم تضمّ رحمها على ولد، قال عمرو بن كلثوم:(4/262)
تريك إِذا دخلْتَ على خَلاء ... وقد أَمِنَتْ عيونَ الكاشحينا
ذراعَىْ عَيْطَل أَدماءَ بِكر ... هِجَانِ الَّلون لم تقرأ جنينا
وقرأت الكتاب قراءَة وقُرآنا. ومنه سمّى القرآن لأَنه يجمع السّور فيضمَّها وقيل: سُمّى به لأَنَّه جُمع فيه القصص والأَمر والنهى والوعد والوعيد، أَو لأَنَّه جامع ثمرة كتب الله المنزلة، أَو لجمعه ثمرة جميع العلوم. وقال قطرب / فى أَحد قوليه، يقال: قرأت القرآن أَى لفظت به مجموعاً.
وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَى جمعه وقراءَته، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} ، أَى قراءَته. قال ابن عباس - رضى الله عنهما - فإِذا بيّنّاه لك بالقراءَة فاعمل بما بيّنّاه لك. وقرأَ: تنسّك. وجمْع القارئ: قَرَأَة - مثل عامل وعَمَلة - وقُرَّاءٌ أَيضاً، مثل عابد وعُبَّاد. والقُرَّاء - كزُنَّار - أَيضاً: المتنسّك، والجمع القُرَّاءُون. قال زيد بن تُرْكىّ:
ولقد عجبت لكاعبٍ مَوْدونة ... أَطرافُها بالحَلْى والحِنَّاء
بيضاءَ تصطاد النفوس وتستبى ... بالحسن قلبَ المسلم القُرّاءِ
وقد ذكر الله تعالى القرآن فى ست وستِّين موضعاً من القرآن:
{ق والقرآن المجيد} ، {سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} ؛ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ، {يس والقرآن الحكيم} ، {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ(4/263)
القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} ، {نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً} ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} ، {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} ، {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} ، {فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} ، {لَوْ أَنزَلْنَا هاذا القرآن على جَبَلٍ} ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} ، {الرحمان عَلَّمَ القرآن} ، {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} ، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} ، {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} ، {لاَ تَسْمَعُواْ لهاذا القرآن} ، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً} ، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ، {لَوْلاَ نُزِّلَ هاذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} ، {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} ، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} ، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هاذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ} ، {ص والقرآن ذِي الذكر} ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} ، {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهاذا القرآن} ، {طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} ، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} ،(4/264)
{إِنَّ هاذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ} ، {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن} ، {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} ، {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} ، {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هاذا القرآن مَهْجُوراً} ، {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن} إلى قوله: {زِدْنِي عِلْماً} ، {إِنَّ هاذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} ، {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ} ، {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ، {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله} ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} ، {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} ، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} ، {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن} ، {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ} ، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هاذا القرآن} ، {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} ، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} .(4/265)
وذُكرت القراءَة فى مواضع:
{اقرأ باسم رَبِّكَ} ، {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} ، {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} ، {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن} ، {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فى موضعين {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} ، {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب} ، {اقرأ كتابك} ، {فأولائك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ} ، {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} .
والقَرْية والقِرْية - بالفتح - والكسر -: المصر الجامع، وكلُّ موضع يجتمع فيه ناس، والناس المجتمعون أَيضاً /، ومنه قوله: {وَسْئَلِ القرية} قيل: معناه أَهل القرية فحذف المضاف. وقال بعضهم: بل القَرْية هاهنا القوم أَنفسهم، وعلى هذا قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} ، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} . وقال علىّ بن الحُسَين رضى الله عنه: إِنما عنى الرّجال. فقيل له: فأَين ذلك فى كتاب الله؟ فقال: أَولم تسمع قوله تعالى: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} .(4/266)
وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية} يعنى أَريحا أَو رِيحاء. وقوله: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} ، يعنى دَيْر هِزْقل قرية عُزَيْر. وقوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} يعنى أَيْلَةَ. وقوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} ، يعنى نِينَوَى لقوم يونس. وقوله: {حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ} ، يعنى أَنْطاكِيَة، وكذلك: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} . وقوله: {على رَجُلٍ مِّنَ القريتين} ، يعنى مكَّة والطَّائف. {مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ} ، يعنى مكَّة شرَّفها الله تعالى.
وقُزَى النمل: جراثيمه. وقَرَوت الأَرض وتقرَّيتها واستقريتها: تتبّعتها. وقَرَى الضيفَ يَقْرِيه: ضيَّفه. وأَوقد نار القِرَى. وله مِقْراة كالمِقراة، ومقارٍ كالمقارى، أَى جفان كالجوابى، من قولهم: قرى الماءَ فى الحوض: جمعه فيه.(4/267)
بصيرة فى قس وقسر وقسط
قَسّ النَّصارى وقِسّيسهم: رأْسهم وكبيرهم، قال تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} ، ولفلان القُسُوسة والقِسِّيسِيّة. وهو قتَّات قَسّاس، أَى يتجسّس الأَخبار ويتقسّسها: يتبعها. وتقسّس الأَصوات: تَسمَّعها. وبات يَعُسّ ويَقُسّ.
وقَسَرته على الأَمر واقتسرته: أَلزمته قهرًا وغلبة. وفعل ذلك قَسْرا واقتسارا. وهو مقْتَسَر عليه. وهم يخافون القَسْورة والقساوِر، وهو الأَسَد، من القَسْر. وغلام قَسْوَرٌ وقَسْورة. قوىّ، أَو انتهى شبابه. ويُعزى إِلى علىّ رضى الله عنه:
أَنا الَّذى سَمَّتْنِ أُمِّى حَيْدَرهْ ... كليث غاباتٍ كريهِ المنظرهْ
أَصابكم ضرب غلامٍ قَسورهْ ... أُوفيكم بالصّاع كَيْل السندرهْ(4/268)
قال تعالى: {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} .
قَسَط: جار. وهو قاسط غير مُقْسِط. وقد قَسَط علىّ قَسْطاً وَقُسُوطاً. وتقول: إِن الله يَقْبِض ويبسُط، ويُقسط ولا يَقْسِط. وأَمر الله بالقِسْط ونهى عن القَسْط. والقَسْط: أَن يأْخذ قِسْط غيره، والإِقساط أَن يعطِىَ قِسْط غيره. وقَسَّط عليهم الخراج، وبينهم المالَ: قَسَم. ووفَّاه قِسْطه: نصيبه. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} ، وقال: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} ، وقال تعالى: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} .
والِقُسطاس: الميزان. ويعبّر به عن العدالة؛ كالميزان.(4/269)
بصيرة فى قسم وقسو وقشعر
قَسَمه يَقْسِمه، وقسَّمه: جَزَّأَه، فانقسم. وهى القِسْمة. وقَسَم الدَّهرُ القومَ وقسَّمهم: فرَّقهم. واستقسمه: سأَله القسمة. ثم استعملوه بمعنى قَسَم، قال تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} . والمَقْسِم والمِقْسَم والقِسْم: النَّصيب، وجمعه: أَقسام. والقَسِيم: القِسْم، وجمعه: أَقسماء. وجمع الجمع أَقاسيم. وقاسمه الشَّىْءَ: أَخذ كُلٌّ قِسْمَه. وقسم القسَّام وهو الذرَّاع الأَرض. وقسم الله له الرّزق، وهو القسَّام: الوهَّاب. وأَعطيتهم أَقسامهم، وأَقاسِيمهم، ومقاسِمَهم.
وقوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} / أَى الَّذين تقاسموا شعَب مكَّة ليصُدُّوا عن سبيل الله مَن يريد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والذين تحالفوا على كيد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال تعالى، {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} . وقوله: {فالمقسمات أَمْراً} يعنى الملائكة يقسّمون الأَرزاق. والقَسَامة: الحُسن، كأَنه أُعطى كلُّ عضو قِسْمه من الحُسْن. وأَقَسم بالله: حلف. والقَسَم: اليمين. وَالْمُقسَّمُ: المهمُومُ.
القَسْو، والقَسْوة، والقَساء والقساوة: الغِلَظ والصَّلابة. وقد قسا قلبُه. وأَصله من حَجَر قاسٍ، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، وقرئ (قَسِيَّةً) من قولهم: درهم قَسِىّ أَى زَيْف، أَى قلوبهم مغشوشة ليست بخالصة.
واقشعرّ الجِلدْ: اضطرب وقام شعوره عليه. قال تعالى، {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} ، أَى تعلوها قُشَعْرِيرَة.(4/270)
بصيرة فى قص وقصد
قصّ أَثَره قَصّا وقَصَصاً، واقتصّه وتقصّصه: تتبّعه. وقوله تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} ، أَى رجعا من الطَّريق الَّذى سلكاه يقصّان الأَثر. وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} ، أَى نبين لك أَحسن البيان. والقِصَص: جمع قِصَّة، وهى الأَمر والشأْن، والَّذِى يُكتب، و [القَصَصُ] : الأَخبار المتتبّعة، قال تعالى: {إِنَّ هاذا لَهُوَ القصص الحق} .
والقِصَاص: القَوَد. وأَقصّ الأَميرُ فلاناً من فلان: اقتصّ له منه، فجرحه مثل جَرْحه، أَو قتله قَوَدًا، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} ، وقال: {والجروح قِصَاصٌ} .
والقصاص - مثلثه -: حيث (تنتهى نَبْتَة) الشعر من مقدّمه أَو مؤَخَّره.
القصد: إِتيان الشىءِ، تقول: قصدته، وقصدت له، وقصدت إِليه بمعنى. وقصدت قصْدَهُ: نحوت نحوهَ. وقوله: {وَسَفَراً قَاصِداً} أَى غير شاقٍّ ولا متناهى البعد. وقوله عزَّ وجلَّ: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} ، أَى تبيين الصراطِ المستقيم، والدّعاءُ إِليه بالحُجَج والبينات الواضحات.(4/271)
واقتصد فى النَّفَقة: توسّط بين التقتير والإِسراف، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما خاب مَن استخار، ولا ندِم من استشار، ولا عَال مَن اقتصد".
ومن الاقتصاد ما هو محمود مطلقاً، وذلك فيما له طَرَفان: إِفراط وتفريط، كالجُود فإِنه بين الإِسراف والبخل، وكالشجاعة فإِنها بين التهوّر والجُبْن، وإِليه الإِشارة بقوله: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ؛ ومنه ما هو متردِّدٌ بين المحمود والمذموم، وهو فيما يقع بين محمود ومذموم، كالواقع بين العَدْل والجَوْر، وعلى ذلك قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} .
وقصَد فى الأَمر: إِذا لم يجاوز فيه الحدّ ورضى بالتوسّط؛ لأَنَّه فى ذلك يقصد الأَسَدّ. وهو على القصد؛ {وعلى الله قَصْدُ السبيل} . وسهم قاصد وسهام قواصد: مستوية نحو الرميّة.(4/272)
بصيرة فى قصر وقصف وقصم وقصو
قصرته: حبسته. وقصرت نفسى على هذا الأَمر: إِذا لم تطمح إِلى غيره. وقَصَرْتُ طَرْفى: لم أَرفعه إِلى مكروه. وهنَّ قاصرات الطَّرْفِ، أَى قصرنه على أَزواجهنَّ، قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} . وقصر السّترَ: أَرخاه. قال حاتم الطائىّ:
وما تشتكينى جارتِى غير أَنَّنِى ... إِذا غابَ عنها زَوْجُها لا أَزورُها
سيبْلُغها خيرى ويرجع بعلها ... إِليها ولم تُقْصَر علىّ ستورُها
/ وقَصَرتُ كذا: ضممت بعضه إِلى بعض. ومنه سمّى القصر، وجمعه: قصور، قال تعالى: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر} ، وقيل معناه: كأُصول النخل. وقصَر عنه قُصُورًا: عجز ولم ينله. وأَقصر عن الباطل. واقتصِر على هذا: لا تجاوزه. وقصْرُك وقُصَارُك وقُصَاراك أَن يفعل كذا: غايتك. وقصّر فى حاجته، وقصّر عن منزلته، وقصّر به عملهُ. قال عنترة:
أَمَّلْتُ خيركِ هل تأْتى مواعدُه ... فاليومَ قصّر عن تلقائكِ الأَمَلُ
وقصَرته قَصْرًا: جعلته فى قصر، قال تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} .(4/273)
وقَصَر الصّلاة: جعلها قصيرة بترك بعض أَركانها ترخيصاً، قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} . وقصر شَعَره. و (قصّرت به نفسُه) : إِذا تطلَّب القليل والحظَّ الخسيس.
قَصَفه يقصِفه قصْفاً: كسره. وقَصَف الرّعدُ وغيره قصيفاً: اشتدَّ صوتُه. وفى الحديث: "أَنا والنبيّون فُرّاط القاصفين". هم المزدحِمون كأَنَّ بعضهم يقصف بعضاً لفرط الزِّحام بدارًا إِليها، أَى أَنا والنبيّون متقدّمون فى الشفاعة لقوم كثيرين متدافعين. وقوله تعالى: {قَاصِفاً مِّنَ الريح} ، وهى الرِّيح الَّتى تقصِف ما تمرّ عليه من الشجر والبناءِ.
قصمه يَقْصِمه: كسره وأَبانه فانقَصم وتقَصّم. قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} أَى حَطَمناها وهشمناها، وذلك عبارة عن الهلاك.
قصَا عنه قَصْوًا وقُصُوًّا وقَصًا وقَصَاءً، وقَصِىَ: بَعُدَ، فهو قَصِىّ وقاصِ، وجمعهما: أَقصاءُ. والقُصْوى والقُصْيا: الغاية البعيدة. وأَقصاه: أَبعده. وقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى} أَى بَيْت المَقْدِس، سمّاه الأَقصى اعتباراً بمكان المخاطبين به من النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأَصحابه.(4/274)
بصيرة فى قض وقضيب وقضى
قضَّ الشىءَ: دقَّه. وانقضَّ الجدار: تصدّع ولم يقع بعد، (كانقاضّ انقياضاً) .
القَضْب: القطع. وسيف قاضب وقضيب: قاطع. والجمع: قواضب. ورجل قَضَّابة: قطَّاع للأُمور مقتدر عليها. والقَضْب والقَضْبة: الرَطْبة وبالفارسية إِسْفَسْت. وأَهل مكَّة - حرسها الله تعالى - يسمّون القَتَّ: القَضْب، قال تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} . والقَضْب أَيضاً يتَّخذ منه القسّى، قال أَبو دُوادَ جارية بن الحجّاج:
وعنسٍ قدْ بَراها لذَّة ... المَوْكِب والشَّرب
رذايا كالبلايا أَو ... كعيدانٍ من القضب
رفعناها ذميلاً فى ... مُمَلٍّ معملٍ لَحْبِ
ويقال: إِنَّهُ من جنس النَبْع. والقضْب أَيضاً من الشجر: كلُّ شجر بُسطت أَغصانه وطالت. والقضْب: اسم يقع على ما قضبْتَ من أَغصان لتَتَّخذ منها سِهَاماً أَو قِسِيّا.(4/275)
القضاءُ - بالمَدّ والقصر -: الحكم. وقضى عليه يقضىِ قَضْياً وقضاء وقضيّة، وهى الاسم. والقضاءُ: الصّنع، والحَتْمُ، والبيان، وفصْل الأَمر فعلا كان أَو قولا، وكلّ منهما على وجهين: إِلهىّ وبشرىّ.
فمن الإِلهىّ: قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} ، أَى أَمرَ ربّك، وقوله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} ، هَذَا قضاءٌ بالإِعلام، أَى أَعلمناهم وأَوحينا إِليهم وحياً جزماً. وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} إِشارة إِلى إِيجاده الإِبداعىّ والفراغ منه. وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} أَى لفُصِل بينهم.
ومن الفِعل البَشَرِىّ قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} ، وقوله {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} أَى افرُغوا من أَمركم.
وعُبر عن الموت بالقضاء، فيقال: قضى نَحْبَه، كأَنه فصل أَمره / المختصّ به من دنياه. وقوله: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} قيل: قضى نذره؛ لأَنه كان قد أَلزم نفسه أَلاَّ يَنْكُل عن العِدا أَو يُقتل، وقيل معناه: منهم من مات. وقوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} ، قيل: عُنى بالأَوّل أَجل الحياة، وبالثانى أَجل البعث. وقوله: {ياليتها كَانَتِ القاضية} ، وقوله:(4/276)
{يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} كناية عن الموت. وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أَى فرغتم منها. وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} أَى أَدَّيتم. وقوله: {إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} أَى أَخبرناه. وكذلك: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} . وقوله: {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} أَى افعل ما أَنت فاعل {إِنَّمَا تَقْضِي هاذه الحياة الدنيآ} أَى تفعل، {لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} ، أَى ليفعل؛ {إِذَا قضى أَمْراً} ، أَى فعل. {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} أَى فعل.
وقوله: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} ، أَى لا ينزل عليهم الموت. وقوله: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} ، فقتله. {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أَى ليُمتنا، {ياليتها كَانَتِ القاضية} .
ويكون بمعنى الوجوب والوقوع: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ، {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} : مكتوبا فى اللَّوح المحفوظ.
وبمعنى الإِتمام والإِكمال، {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} أَى أَتمَّ، {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} ، أَى أَتممت؛ {ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى} : ليتمّ،(4/277)
{مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ، {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} : أَتمَّ أَجله.
وبمعنى فصل الحكومة والخصومة: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} فُصِل {لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} : لفصل؛ {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} : فُصل، وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ، أَى خلقهنَّ. {إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} أَى وصَّينا وعهِدنا إِليه. {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أَى أَمر وأَوصى. {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} أَى امضوا.
والاقتضاءُ: المطالبة بقضاءِ الأَمر، ومنه قولهم: هذا يقتضى كذا.
والقضاءُ من الله أَخصّ من القَدَر؛ لأَنه الفصل بين التقدير، والقَدَر هو التقدير، والقضاءُ هو التفصيل والقطع. وذكر بعض العلماء أَنَّ القَدَر بمنزلة المُعَدّ للكيل، والقضاءَ بمنزلة الكيل، ولهذا قال أَبو عُبَيد لعمر لمَّار أَرادوا الفرار من الطَّاعون من الشَّام: أَتفرّ من القضاء؟ قال: أَفرّ من قضاء الله إِلى قدر الله، تنبيهاً أَنَّ القَدَر ما لم يكن قضاء فمرجوّ أَن يدفعه الله، فإِذا قَضَى فلا يندفع، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}(4/278)
ومنه قولهم: المقْضِىّ كائن. وَقُضِىَ الأَمْرُ، أَى فصل، تنبيها أَنَّه صار بحيث لا يمكن تلافيه.
وكل قول مقطوع به من قولك: هو كذا أَو ليس بكذا، يقال له قضيّة صادقة، وقضيَّة كاذبة.
واستُقضِىَ علينا فلان، واستقضاه السُّلطان. قال:
إِذا خان الأَمير وكاتِباه ... وقاضى الأَمرِ داهنَ فى القضاء
فويلٌ ثمَّ ويل ثمَّ ويل ... لقاضى الأَرض من قاضى السماءِ
وروينا فى مسند الإِمام أَحمد مرفوعاً: "مَن جُعل قاضياً فقد ذُبح بغير سِكِّين" وقال: "القضاة ثلاثة: قاض فى الجنَّة وقاضيان فى النَّار".(4/279)
بصيرة فى قط وقطر
القَطّ: القطع عامَّة، وقيل: بالعَرْض. وقيل: قطع شىء صُلْب. والقِطّ - بالكسر - الصّك، وكتاب المحاسبة، والصَّحيفة، والنصيب المنفرد، قال تعالى: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} ؛ فسّره ابن عباس بالنَّصيب، / وغيره بالصّحيفة. وقَطَّ السِّعْر: غلا. سِعْر قاطٌّ، قال أَبو وَجْزة:
أَشكو إِلى الله العزيز الجبَّارْ ... ثمَّ إِليك اليوم بُعْد المُسْتارْ
وحاجةَ الحىّ وقَطَّ الأَسعارْ
وما رأَيته قَطُّ وقُُطُّ، ويخفِّفان، وقَطِّ مكسورة مشدَّدة، بمعنى الدّهر. وإِذا كانت بمعنى حَسْبُ فَقَطْ كعَنْ.
قُطْر البلد: جانبه، والجمع: أَقطار. وقَطَر الماءُ، وقَطَرْته أَنا، وقطَّرته. والقَطْر: المطر.
ورأَيت قِطَارا من الإِبل وقُطُرا، وقَطَرُوها وقطَّروها، وإِبل مقطورة ومقطَّرة.
والقِطْر - بالكسر -: النَّحاس المذاب، قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} .(4/280)
والقَطِران: ما يتقطر من الهِنَاءِ، قال تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} قُرئ (مِنْ قِطْرٍ آنٍ) أَى من نُحاس مذاب قد أَنَى حَرُّه. وقوله: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} ، أَى نحاساً مذاباً.
والقِنطار: أَلف ومائتا دينار. وقيل: أَربعون أُوقيَّة. وقيل: مِلء مَسْك ثَورٍ ذهباً. وقيل غير ذلك. قال تعالى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} . وقوله تعالى: {والقناطير المقنطرة} أَى المجموْعة قنطاراً، كقولهم: أُلوف مؤلَّفة، ودنانير مُدَنَّرة.(4/281)
بصيرة فى قطع
القطع: الإِبانة، قطعه قَطْعاً وتِقْطاعا ومَقْطَعاً وقطعت النَّهرَ قُطُوعاً: عبرت. وقَطَع ماءُ الركيَّة قُطُوعاً وقَطَاعاً: انقطع وذهب.
والقطع يكون مدرَكاً بالبصر، كقطع اللحم ونحوه، ومنه، قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} ، وقوله: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} ؛ ويكون مدرَكا بالبصيرة، نحو قطع الطريق، وذلك على وجهين: أَحدهما يراد به السَّير والسلوك، والثانى يراد به الغَصْب من المارّة والسالكين، نحو قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} ، وسمّى قطع الطَّريق لأَنَّه يؤدى إِلى انقطاع النَّاس عن الطريق. وقطع الرَّحم يكون بالهِجران ومنع البِرّ.
وقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ} أَى ليقطع حبله حتى يقع. وقيل: ليقطع عمره بالاختناق، وهو معنى قول ابن عباس [ثم] ليختنق. ومعنى الآية: مَن ظنَّ أَنَّ الله لا ينصر نبيَّه فليشدّ حبلا فى سقفه - وهو السَّماء - ثمَّ ليقطع الحبل، قال اللَّيث: يقال: قَطَع الرَّجلُ الحبل أَى اختنق، لأَن المختنِق يمدّ السبَبَ إِلى السَّقف ثم يقطع نفسه من الأَرض حتى يختنق، تقول منه: قَطَع الرَّجل.(4/282)
وسأَل النبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سائل فقال: "اقطعوا لسانه عنِّى": أَى أَرضُوه.
وقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} أَى جعلنا فى كلِّ قرية منهم طائفة تؤدِّى الجزية. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أَى إِلاَّ أَن يموتوا، واستثنى الموت من شكِّهم لأَنَّهم إِذا ماتوا أَيقنوا، وذلك لا ينفعهم، وقيل: معناه إِلاَّ أَنْ يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما على تفريطهم.
وقيل: ورد القطع فى القُرْآن على اثنى عشر وجها:
الأَوَّل: بمعنى الخدش والخمش من الحيرة والدَّهش: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} .
الثانى: إِبانة العضو من السَّارقين: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} ، {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} ، {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} .
الثالث: بمعنى قطع الطرقات: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} .
الرابع: بمعنى قطع الأَرحام: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} .
الخامس: بمعنى الاختلاف فى الملَّة والتفرُّق فى الدِّين: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} .(4/283)
/ السَّادس: بمعنى التفريق والتشتيت: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} .
السَّابع: بمعنى الاستئصال: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} ، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} .
الثامن: بمعنى تبعيد القريب أَو تقريب البعيد: {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} أَى بقرب بعض وبُعد آخرين.
التاسع: بمعنى التقدير والإِعداد: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} .
العاشر: بمعنى زوال الرَّجاء والأَمل: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} ، أَى يئسوا ممَّا رجَوْا.
الحادى عشر: بمعنى القهر والقتل: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا} أَى يقتل طائفة منهم.
الثانى عشر: بمعنى إِحكام الأَمر وإِتقان العزيمة والتَّدبير: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} أَى مبرِمة محكِمة.(4/284)
بصيرة فى قطف وقطمير وقطن وقعد
القِطْف: العنقود. سمِّى قِطْفاً بمعنى أَنَّه مقطوف، والجمع: قُطُوف، قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} . وأَقطف: دنا قِطافه.
والقِطْمِير: النقطة تكون بظهر النواة. يستعمل للشىء الهيِّن النزر الحقير، قال تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} .
القطن - بالضمِّ - والقطُنُّ - كعُتُل - والقُطْننَّة - بضمّ النون الأُولى وبفتحها - العُطْب. واليقطين: شجرة القرع، قال تعالى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} .
القعود والمَقْعد: الجلوس. وقد يَفْرُقون بينهما، فتقول لمن كان قائماً: قعد، ولمن كان مضطجعا أَو ساجدًا: جلس. والقَعْد: المرَّة؛ وبالكسر نوع منه. والقاعد من النساءِ: الَّتى قَعَدت عن الحيض والوَلَد، والجمع: القواعد، قال تعالى: {والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} يقال: قعدتْ عن الحيض وعن الزوج.
والقعود ورد فى التنزيل على سبعة أَوجه:
1- بمعنى القرار والمقرّ فى مكان: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} .
2- بمعنى التخلُّف: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} ، أَى(4/285)
المتخلِّفين، {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} ، {فاقعدوا مَعَ الخالفين} ، {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} .
3- بمعنى المكث واللبث: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، أَى ماكثون متوقِّفون.
4- بمعنى عجز النِّساء: {والقواعد مِنَ النسآء} .
5- بمعنى أَساس الأَبنية: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} .
6- بمعنى رَصْد الطريق: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} ، {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} .
7- بمعنى القعود الَّذى هو ضدّ القيام: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} ، وقوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} أَى ملَك يترصَّده ويكتب له وعليه. وقوله {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} كناية عن المعركة الَّتى بها المستقر.
وقعد عن الأَمر: تركه، وللأَمر: اهتمَّ به، وبالأَمر: قام. قال منازل بن زَمَعة:
كلاَّ وربّ البيت يا كَعَابُ ... لا يُقنع الجاريةَ الخضابُ
ولا الوشاحان ولا الجلباب ... من دون أَن تَلْتَقِىَ الأَركابُ
ويقعدَ الأَيْر له لُعاب
أَى يقوم(4/286)
بصيرة فى قعر وقفل وقفو
يقال: بئر قَعِيرة، وقد قَعُرت. وقَعَرتها: حفرتها حتى انتهيت إِلى قعرها. وأَقعرها وقعّرها: عمَّقها. وهو متقعِّر: يبلغ قُعُور الأُمور. قال:
البالغون قعور الأَمر تروية ... والباسطون أَكُفًّا غير أَصفار
وقعرت الشجرة: قلعتها من أَصلها فانقعرت، قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} ، أَى منقلعة من قعرها. وقيل معنى انقعرت: ذهبت فى قعر الأَرض، وإِنما أَراد تعالى أَنَّ هؤلاءِ اجتُثُّوا كما اجتُثَّ النخل الذاهب فى قعر الأَرض، فلم يبق له رسم / ولا أَثر.
القُفْل معروف، والجمع: أَقفالٌ وأَقْفُلٌ وقفولٌ، قال تعالى: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} ، جعل القُفْل مثلا لكل مانع من تعاطى فعل، ومنه رجل مقفَل اليدين، ومقتفِل، أَى لئيم. وأَقفل الباب عليه فانقفل واقتَفَل. وقَفَل الطعام: احتكره، واستقفل: بخل. والقُفُول: الرّجوع. قفَل يَقْفُل فهو قافل من قُفَّال. والقَفَل: اسم الجمع. والقافلة: الرفقة القُفَّال.
والقفا والقافِية: وراءَ العنق يُمدّ ويقصر، ويؤنَّث ويذكَّر، والجمع: أَقْفٍ، وأَقفية، وأَقفاءٌ، وقُفِّىّ، وقِفٌّى وقَفِينٌ. وقفوته قَفْوا: تبِعته، كتقفيّته واقتفيته. وقفوته: ضربت قفاهُ؛ ورميته بالفجور. والاسم القِفْوة بالكسر، والقُفِىّ، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} التقافى: البهتان.(4/287)
بصيرة فى قلب
القَلب: الفؤاد، وقد يعبَّر به عن العقل. وقال الفرَّاءُ فى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، أَى عقل. يقال: ما قَلْبك معك، أَى ما عقلك. وقيل: القلب أَخصُّ من الفؤاد، ومنه الحديث: "أَتاكم أَهل اليمن أَرقَّ قلوباً وأَلْينَ أَفئدةً"، فوصف القلوب بالرِّقة، والأَفئدةَ باللين. وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ لكل شىء قلبا، وقلب القرآن يس"، قال الليث: هو من قولك: جئت هذا الأَمر قَلْبا، أَى محضا خالصاً لا يشوبه شىء، ومن قولهم: عربىّ قَلْب، ويستوى فيه المذكر والمؤنَّث والجمع. وإِن شئت قلت: عربيَّة قَلْبة، وثنَّيت وجمعت. وذو القلبين: جميل بن معمر بن حبيب الجُمَحىّ. وكانت قريش تقوم له: ذو القلبين، فنزل فيه قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} .
وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} ، أَى أَصبح نادما، وتقليب الكفَّين من فعل الأَسِف النادم، قال:
كمغبونٍ يَعَضّ على يديه ... تبيَّن غَبْنُه عند البِياع
وقلب الشىء قلباً: حوّله عن وجهه. وقلب رداءََه. وقَلَبَه: كبَّه لوجهه، وقلبه ظَهْرًا لبطن؛ قال تعالى: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} . وقوله تعالى:(4/288)
{وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} ، أَى الأَرواح. وقوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أَى تثبت به شجاعتكم وَيزول خوفكم. وعلى عكسه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} وقوله: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أَى أَجلب للعفَّة، وقوله: {قُلُوبُهُمْ شتى} أَى متفرقة.
وقيل: القلب ورد فى القرآن على ثلاثة معان:
الأَوَّل: بمعنى العقل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} .
الثانى: بمعنى الرأْى والتدبير: {قُلُوبُهُمْ شتى} أَى آراؤهم مختلفة.
الثالث: بمعنى حقيقة القلب الَّذى فى الصَّدر: {ولاكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} . وهذا النَّوع من القلب على سبعة أَوجه:
1- قلب الكافر: {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} .
2- قلب المنافق: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} .
3- قلب العاصِين: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} ، {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
4- قلب خواصّ العباد {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} .
5- قلب المحبِّين: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} .(4/289)
6- قلب الخائفين: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} ، {يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} .
7- قلب العارفين: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .
وقال بعض المفسّرين: القلوب سبعة:
1- قلب الكافر فى غِلاف وغطاءٍ: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} ، {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} .
2- وقلب المنافق فى حجاب الرّياءِ: {خَتَمَ الله / على قُلُوبِهمْ} ، {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} .
3- وقلب المبتدع فى الزَيْغِ والهَوَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} ، {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} .
4- وقلب الفاسق الغريق فى بحر العناءِ: {لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} ، {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} .
5- وقلب الغافل الرّاغب فى الدنيا ودار الفناءِ: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} .
6- وقلب العابد المنتظر ثواب حضرة الكبرياءِ: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .(4/290)
7- وقلب العارف المنتظر اللِّقاءَ فى دار البقاءِ: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} ، {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} .
وسمّى قلباً لتقلّبه كثيرًا من حال إِلى حال. وفى الحديث: "لَقَلْبُ ابن آدمَ أَسرع تقلّباً من القِدْر إِذا استجمعتْ غَلْيا". وفيه أَيضاً: "إِنَّ مِن قلب ابن آدم إِلى كلّ وادٍ شُعْبة، فمن أَتبع قلبه الشُعَبَ كلَّها لم يبال الله فى أَىّ وادٍ أَهلكه". وفى الصّحيحين: "القلوب بين إِصبعين من أَصابع الرحمان يقلِّبها كيف يشاءُ" وتقليب الله القلوب صرفها من رأى إِلى رأى.
والتَقلّب: التصرّف، قال تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} . وانقلب رأيُه. وانقلب فلان سوءَ مُنْقَلَبٍ، قال تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} . وأَنا أَتقلَّب فى نعمائة، وقال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} .(4/291)
بصيرة فى قل
الحمد لله على القُلّ والكُثْر، أَى على القِلَّى والكثرة. قلّ يَقِلّ، فهو قليل وقُلاَل وقَلال. وأَقلَّه وقلَّله: جعله قليلا. وأَقلَّه: صادفه قليلا، وأَتى بقليل. والقِلَّة والكثرة يستعملان فى الأَعداد؛ كما أَنَّ العِظَم والصغر يستعملان فى الأَجساد. ثمّ يستعار كل منهما للآخر، قال تعالى: {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً} أَى وقتاً قليلاً. وقال: {مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً} . وقال: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} أَى جماعة قليلة.
والقليل أَيضاً: القصير، والدّقيق، والذَّليل. وقوم قليلون وأَقِلاَّء وقُلُل وقُلُلُون. ورجلٌ قليل وقوم أَقِلَّة: خِسَاس. قال تعالى: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ} . وقد يعكس ويكنى بها عن العِزَّة اعتباراً بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} ، وذلك أَنَّ كلّ ما يعِزُّ يقلُّ وجوده. والإِقلال: قلَّة الجِدَة. رجل مُقِلٌّ وأَقلُّ: فقير وفيه بقيّة.
وقوله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} يجوز أَن يكون (قليلا) صفة لمصدر محذوف، أَى علما قليلا؛ ويجوز أَن يكون استثناء، أَى ما أُوتيتم العلم إِلاَّ قليلا منكم. وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي(4/292)
ثَمَناً قَلِيلاً} يُعنى به أَعراض الدّنيا كائناً ما كان، فهو قليل فى جَنْب ما أَعدّ الله للمتقين، وعلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} . ويعبَّر بالقليل عن النفى تقول: قُلُّ رجل أَو أَقلّ رجل يَقُولُ ذلك إِلاَّ زيد، معناهما: ما رجل يقوله إِلاَّ هو.
وقوله تعالى: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} أَى تؤمِنون إِيماناً قليلا. والإِيمان القليل هو الإِقرار العامىّ المشار إِليه بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} . وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أَى لا تذكرون ولا تؤمِنُونَ. وقوله تعالى: {إِنَّ هاؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} يعنى بالإِضافة إِلى القبط وكثرتهم. وقوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً} يعنى أَربعة عشر نفراً. وقوله: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} يعنى ثمانين إِنساناً، أَربعين رجلاً وأَربعين امرأَة. وهو مستقِلّ بنفسه أَى ضابط لأَمره. وهو لا يستقلُّ بهذا الأَمر، أَى لا يطيقه. واستقلُّوا عن ديارهم: ارتفعوا. واستقلَّ البناءُ: أَناف. واستقلَّ غضباً: شخص من مكانه لفَرْط غضبه. وتقلقل فى البلاد: طالت أَسفارُه.(4/293)
بصيرة فى قلد وقلم وقلى
القِلادة: الَّتى تُجعل فى العنق. وقوله تعالى: {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} القلائِد من الهَدْى: ما يقلّد بلحاءِ الشجر. وكان الحِرْمىّ كلَّما سافر قلَّد ركابه بلحاء أَشجار الحرم، فيعتصم بذلك ممّن أَراده بسُوءٍ. وذو القلادة: الحارث بن ضُبَيعة بن ربيعة بن نزار. وقلائد الشِعر: البواقى على الدّهر. وقيل لأَعرابى: ما تقول فى نساءِ بنى فلان؟ فقال: قلائد الخيل، أَى هنَّ كرائم؛ وذلك لأَنَّه لا يقلّد من الخيل إِلاَّ سابق كريم.
والإِقليد: المفتاح. والجمع المقاليد، كما قالوا: ملامح ومحاسن، ومشابه، ومذاكير. وقوله تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات} قال أَبو محمّد إِسماعيلُ بن عبد الرّحمن السُدّىّ: أَى خزائن السَّماوات والأَرض: وقال مجاهد بن جبر المكّىّ: أَى مفاتيح السماوات والأَرض. واحدها إِقليد. قال تُبَّع:
وأَقمنا به من الدّهر سَبْتا ... وجعلنا لِبابه إِقليدا
والإِقليد معرّب كليد،
القَلَم: ما يُكتب به، والجمع. أَقلام وقِلاَم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} ، وقال تعالى: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ}(4/294)
وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم} إِشارة وتنبيه إِلى ما أَنعم به على الإِنسان: من تعليم الكتابة، وما فى القلب من الفوائد واللَّطائف. قال:
ورَواقِمٍ رُقْشٍ كِمِثْلِ أَراقِمٍ ... قُطُف الخطا نيَّالة أَقْصَى المَدَى
سُودِ القوائمِ لا يجِدُّ مَسِيرُهَا ... إِلاَّ إِذا لَعِبَتْ بها بِيضُ المُدَى
والقلم أَيضاً: القِدْح الذى يُضرب به، سمّى قلمًا لأَنَّه كان يُبرى كَبَرْى القلم ثم يقارَع به، قال تعالى: {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} ، أَى قداحهم: أَزلامهم. وفى الأَثر: أَوّل ما خلق الله القَلَم، وقال له: اكتب ما هو كائن إِلى يوم القيامة. ورُوى أَن النبى صلَّى الله عليه وسلم كان يأخذ الوحى عن جبريل، وجبريل عن ميكائيل، وميكائيل عن إِسرافيل، وإِسرافيل عن اللوح، واللَّوح عن القَلَم. وتقليم الأَظافر: قَصُّها، وقد قَلَمها وقلَّمها. والإِقليم: واحد الأَقاليم السّبعة.
قلاه يَقْلِيه، وقَلِيَهُ يقلاه قِلًى وقَلاء ومَقْلِيَة: أَبغضه وكرهه غاية الكراهة، واوىّ يأتىّ. وقيل: قَلاه، يقال، فى الهجر، وقَلِيَهُ، فى البغض.(4/295)
بصيرة فى قمح وقمر وقمص وقمطر وقمع وقمل
قَمح السّويقَ وغيره، واقتحمه: إِذا أَخذه فى راحته إِلى فيه. وقَمَح البعيرُ يَقْمَح إِذا رفع رأسه من الماءِ بعد الرِّىّ. وأَقمحه: شدّ رأسه إِلى خلف، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} تشبيه بذلك. ومنه قول النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم لعلىّ رضى الله عنه: سَتَقْدَمُ على الله أَنت وشِيعتُك راضين مَرْضيّين، ويقدَم عليه عدوّك غضاباً مُقْمَحين. ثمَّ جمع يده إِلى عنقه يريهم كيف الإِقماح، وهو رفع الرأس وغضّ البَصر، يقال أَقمحه الغُلّ إِذا ترك رأسه مرفوعاً من ضِيقه. والآية إِشارة إِلى وصفهم بالامتناع عن الانقياد للحقِّ، والإِذعان لقبول الرشد، وعن الإِنفاق فى سبيل الله.
القَمَرَ يسمّى قَمراً بعد الثالثة. قال تعالى: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} وقال: {سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} ، والجمع: أَقمار.
والقميص معروف، والجمع: أَقمصة، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} ، وقال تعالى: {اذهبوا بِقَمِيصِي هاذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} .(4/296)
والقَمْطَرِير: الشَّديد، كالقُمَاطر، كأَنه مركَّب من قمط وقطر أَو قمر
والقَمْع: الضَّرب بالمِقمَعة. وهى [العمود] من حديد كالمحْجَن يُضرب به رأس الفيل، قال الله تعالى: {مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} . وقال اللَّيث: المِقْمعة: خشبة يضرب [بها] الإِنسان على رأسه. وهى أَيضاً: الجِرَزة والأَعمدة من جديد، وأَنشد.
وتمشى مَعَدّ حوله بالمقامع
القَمْل والقَمَال معروف، الواحدة بهاء. وقد قَمِل رأسُه - كعَلم -: كثر قَمْلُه. والقُمَّل - كدمّل -: صغار الذرّ والدبىَ الَّذى لا أَجنحة له، أَو شىءٌ صغير بجناح أَحمر، وشىءٌ يشبه الحَلَم لا يأكل أَكل الجراد، خبيث الرائحة، ودوابّ بالقِردان أَشبه، صغار، واحدتها بهاء، ورجل قَمِل: كثير القَمْل.(4/297)
بصيرة فى قنت وقنط وقنع وقنى وقنو
القُنُوت ينقسم إِلى أَربعة أَقسام: الصّلاة، وطول القيام، وإِقامة الطاعة، والسّكوت. وروى عن زيد بن أَرقم رضى الله عنه: "كنَّا نتكلَّم في الصّلاة، يكلِّم أَحدنا صاحبه فى حاجته، حتى نزلت: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} فأُمر بالسّكوت". وسئل ابن عمر رضى الله عنهما عن القنوت فقال: ما أَعرف القنوت إِلا طول القيام. ثمّ قرأَ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً} . وقال الزجّاج: المشهور فى اللغة أَنَّ القنوت الدّعاء، وأَنَّ القانت الدّاعى. ابن الأَعرابىِّ: أَقنت: دعا على عدوّه، وأَقنت: إِذا أَطال القيام فى الصّلاة، وأَقنت: إِذا أَدام الحج، وأَقنت: إِذا أَطال الغزو، وأَقنت: إِذا تواضع لله تعالى.
وقوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} قيل: خاضعون، وقيل: طائِعون وقيل: ساكتون، يعنى عن كلام الآدميين، وكل ما ليس من الصّلاة فى شىءٍ وعلى هذا ما روى: "قيل أَىّ الصَّلاة أَفضل؟ قال: القنوت"، أَى الاشتغال بالعبادة ورفض كلّ ما سواه. قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} .
قَنَط يَقْنُط ويَقْنِط قُنُوطا، وقنِط يَقْنَط - كفرح يفرح - قَنَطاً وقَنَاطة، وقَنَط يَقْنَط - كجعل يجعل - أَى يئس، وقنَّطه غيره، قال تعالى: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} .(4/298)
القُنُوع: السؤال والتذلُّل للمسأَلة، وقد قَنَع يَقْنع كمنع يمنع. ومن دعائهم: نسأَل الله القَناعة، ونعوذ به من القُنوع. وقال الشمَّاخ:
لمالُ المرءِ يُصلحه فيُغنى ... مفاقِره أَعفّ من القنوع
يعنى: من مسأَلة النَّاس. ورجل قانع وقَنِيع. قال الأَصمعىّ: رأَيت أَعرابيًّا يقول فى دعائه: اللهم إِنِّى أَعوذ بك من القُنُوع والخضوع والخنوع. وما يغضّ طَرْف المرء، ويُغرى به لئام الناس. قال الله تعالى: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} ، الَّذى يتعرَّض ولا يسأَل. وقيل: القانع: الذى يقنع بالقليل وقال عدىّ بن زيد:
ولا خُنْتُ ذا عهد وأَيتُ بعهده ... ولم أَحرم المضطرّ إِذْ جاءَ قانعاً
يعنى سائلا. وقال الفرَّاءُ: القانع هو الَّذى يسأَلك فما أَعطيته قَبِلَهُ.
والقناعة: الرّضا بالقَسْم. وقد قنِع - بالكسر - يَقْنَع قناعة. زاد أَبو عبيدة قُنْعاناً وقَنَعا - محركة - فهو قَنِع، وقانع، وقَنُوع، وقَنِيع. وفى حديث النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "القناعة مال لا ينفد". أَقنعه الشىء: أَرضاه وأَقنع رأسه: إِذا نصبه، قال الله تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} أَى رافعى رءُوسهم وهم ينظرون فى ذلّ. وقال ابن عرفة يقال: أَقنع رأسه إِذا نصبه لا يلتفت يميناً ولا شِمالاً، وجعل طَرْفه موازياً لما بين يديه؛ وكذلك الإِقناع فى الصلاة. وفى الحديث: "كان لا يُصَبِّى رأسه فى(4/299)
الرّكوع ولا يُقْنعه". وفى الحديث الآخر: "إِذا أَخذ الحُسَين فجعل إِحدى يديه تحت ذَقنه، والأُخرى فى فَأس رأسه ثمّ أَقنعه فقبَّله" أَى رفعه. وأقنعنى فلان: أَحوجنى. وقنَّعته تقنيعاً: رَضَّيته، ومنه الحديث: "طوبى لمَن هُدِى الإِسلام وكان عيشه كَفَافاً وقُنّع به". وهكذا رواه الحربى رحمه الله.
القِنْية والقُنية - بالكسر والضّم - ما اكتُسِب. والقِنَى كإِلىَ: الرضا. وقَنَاه الله وأَقناه: أَرضاه، قال تعالى: {أغنى وأقنى} ، وقيل: أَقنى: أَعطى ما فيه الغنى، وتحقيقه أَنَّه جعل له قُِنْية من الرّضا والطاعة فَغَنِىَ بهما أَعظم غنى.
والقِنْو والقُنْو - بالكسر وبالضم - والقِنَا - بالكسر وبالفتح -: الكِبَاسة والجمع: أَقناء وقنوانٌ وقنيان مثلَّثتين، قال الله تعالى: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} .(4/300)
بصيرة فى قوب وقوت وقوس
قابُ قَوْسٍ، وقِيب قوس، وقاسُ قوس، وقِيسُ قوس، وقادُ قوس، وقِيدُ قوس، وقَبْىُ قوس، وقِبَاء قوس أَى قدر قوس. والقاب أَيضاً: ما بين المَقْبِض والسِّيَة، ولكل قوس قابان. قال تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} قيل: أَراد قابى قوس فقلبه، والمراد قرب المنزلة. وفى الحديث: "لقابُ قوس أَحدكم من الجنَّة أَو موضع قدمه خير من الدُّنيا وما فيها".
وعينه واو لثلاثة أَوجه. أَحدهما: أَن بنات الواو من المعتلّ العين أَكثر من بنات الياءِ. والثَّانى: أَن تركيب (ق وب) موجود مستعمل، دون (ق ى ب) . والثالث: أَنه علامة يعلم بها المسافة بين الشيئين، من قولهم: قَوَّبوا فى هذه الأَرض: إِذا أَثَّروا [فيها] بموطئهم ومحلِّهم وبدت علامة ذلك.
والقوت: ما يقوم به بدن الإِنسان من الطعام. وما عنده قوت ليلة، وقِيت ليلة، وقُيَيت ليلة. وقات أَهلَه يقوتهم قَوْتاً وقِياتة، والأَصل قِوَاتة، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقُتُّه فاقتات، كما تقول: رزقته فارتزق. وفى دعاءِ النبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهمَّ اجعل رزق آل(4/301)
محمّد قوتاً"، أَى مقدارًا يُمسَك به الرمَق. وهو فى قائت من العيش: فى كفاية. قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} .
والمُقِيت: المقتدر، كالَّذى يعطى كلَّ إِنسان قوته، قال الله تعالى: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} .
والقَوْس معروف. وقد تذكّر، تصغيرها قويسة وقُويس، والجمع، أَقواس وقِياس وقِسِىّ، قال تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} .(4/302)
بصيرة فى قول
القَوْل: كل لفظ مَذَل به اللسان، تامًّا كان أَو ناقصاً، والجمع: أَقوال، وجمع الجمع: أَقاويل، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} . والقول والقال والقيل واحد. وقيل: القول فى الخير، والقال والقيل فى الشر، قال:
أَبكى إِلى الشرق إِن كانت منازلهم ... ممَّا يلى الغرب خوفَ القِيل والقالِ
وقيل يقال: قال يقول قِيلا وقَوْلاً وقَوْلة ومقالاً ومَقَالة فيهما، فهو قائل وقالٌ وقَوُول وقَؤُول. والجمع: قُوَّل وَقُيّلٌ وقالة وقُوُول وقُؤُول. ونهى صلَّى الله عليه وسلَّم عن قيل وقال، وكثرة السُّؤال، وإِضافة المال.
وقال أَبو القاسم الأَصفهانى: القول يستعمل على أَوجه:
أَظهرها: أَن يكون للمركَّب من الحروف المبرَز بالنّطق، مفردًا كان أَو جملة. وقد يسمّى الواحد من الاسم والفعل والأَداة قولا؛ كما قد تسمّى القصيدة والخطبة قولاً.
والثَّانى: يقال للمتصوَّر فى النفس قبل الإِبراز باللفظ قول، فيقال: فى نفسى قول لم أُظهره، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله} فجعل ما فى اعتقادهم قولاً.(4/303)
الثالث للاعتقاد (كقولك: يقول الشافعى) رحمه الله.
الرابع: يقال للدّلالة على شىء، كقولك للجدار المائل يقول: إِنِّى ساقط. وقال الشاعر: امتلأَ الحوض وقال قَطْنى.
الخامس: يقال للعناية الصَّادقة بالشىء؛ كقولك: فلان يقول بكذا.
السَّادس: فى الإِلهام؛ نحو: {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} فإِنَّ ذلك لم يكن بخطاب ورد عليه فيما رُوى وذكر، بل كان إِلهاماً فسمَّاه قولاً. وقيل فى قوله تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} إِن ذلك كان بتسخير من الله تعالى لا بخطاب ظاهر ورد عليهما.
وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فذكر أَفواههم تنبيهاً على أَن ذلك كذب مقول لا عن صحَّة اعتقاد؛ كما ذكر الكتابة باليد فى قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} .
وقوله: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} أَى عِلم الله تعالى بهم وحكمه عليهم، كما قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} .(4/304)
وقوله: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} ، وإِنما سمَّاه قول الحقِّ تنبيهاً على ما قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . وتسميته قولاً كتسميته كلمة فى قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} .
وأَمَّا قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} فمعناه: فى أَمر البعث، فسمَّاه قولا، فإِن المقول فيه يسمَّى قولا، كما أنَّ المذكور يسمَّى ذِكرا.
وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} نسب القول إِلى الرَّسول، وذلك لأَنَّ القول الصَّادر إِليك عن رسول يبلِّغه إِليك عن مرسِل له يصحّ أَن تنسبه إِليه تارة، وإِلى رسوله تارة. وكلاهما صحيح.
وقوله: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} لم يُرد به القول النطقى فقط، بل أَراد ذلك إِذا كان معه اعتقاد وعمل.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} ، وقوله: {عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول} المراد بهما القرآن ولهما نظائر.
وقوله: {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أَمر بوعظهم وتذكيرهم، والمبالغة فى ذلك.(4/305)
وقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} يعنى كلمة التوحيد.
وقال لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} . وأَمر بملاطفة الأَقارب وبرّهم ورضخهم فقال: {فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} .(4/306)
بصيرة فى قوم
قام يقوم قَوْماً وقِيَاماً وقَوْمة وقامة، فهو قائم / من قُوّم وقُيَّم، وقُوَّام وقُيَّام، وقِيام. وقاومته قِواماً: قمت معه.
والقيام على وجوه: قيام بالشخص، ويكون إِمَّا بالتسخير نحو: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} ، وإِمَّا باختيار نحو وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً} . ويكون بمعنى مراعاة الشىءِ نحو قوله تعالى: {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} . وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَى حافظ. وقوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أَى ثابتا فى طلبه.
ويكون بمعنى العزم نحو قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} . وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} أَى يديمون فعلها ويحافظون عليها.
والقِيام والقِوَام اسم لما يقوم ويثبت به الشىء؛ كالعِماد والسِّناد لما يُعمد ويسند به.
وقام بمعنى أَقام، قال:
جَرَى معك الجارُون حتى إِذا انْتَهَوْا ... إِلى الغايةِ القُصْوَى جَرَيْتَ وقامُوا
أَى فهم [تخلَّفوا] ولم يدركوا شأوك.(4/307)
وورد القيام وما يتصرّف منه على وجوه:
بمعنى أَداءِ الصَّلاة: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} ، {وَأَقَامُواْ الصلاة} ، {يُقِيمُونَ الصلاة} ونظائرها. ولم يأمر بالصَّلاة حيثما أَمر، ولا مَدَح بها حيث مَدَح إِلاَّ بلفظ الإِقامة، تنبيهاً أَنَّ المقصود منها توفية شرائطها لا الإِتيان بهيئاتها: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة} أَى وفِّقنى لتوفية شرائطها.
وبمعنى إِقامةِ الحدود: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} ، {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} .
وبمعنى الاستقامة على سَنَن العدل: {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} .
وبمعنى الأَمن: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} ، أَى أَمْناً لهم. وقيل: قِوَاماً، وقيل: قائماً لا يُنسخ.
وبمعنى قيام المعيشة: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} ، أَى جعله ممَّا يقيمكم ويمسككم.
وبمعنى لزوم المنزل فى الحَضَر: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} .
وبمعنى القيام بالأَوامر والنواهى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} .
وبمعنى نصب ميزان العدل فى القيامة: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} .(4/308)
وبمعنى تحقُّق الحساب: {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} .
وبمعنى قيام القيامة: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} .
وبمعنى استواء العالَم واستقامته بأَمره تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} .
وبمعنى منازل الملائكة: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} .
وبمعنى قيام الدِّين على سَنَن السَّداد: {ذلك الدين القيم} ، {قَيِّماً} ، {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} .
وبمعنى التهجّد: {آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً} ، {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً} ، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل} .
وبمعنى القيامة فى عَرْصة العرض: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} .
وبمعنى كمال الألوهيّة والقدرة: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ، {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} ، وقيل القيّوم: القائم الحافظ لكل شىءٍ، والمعطى له مابه قِوامه.
وبمعنى قيام الرّجال بمصالح النساءِ: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء}(4/309)
وبمعنى قيام الحاجّ بإِتمام المناسك: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين}
وبمعنى الاهتمام بإِبلاغ الرّسالة: {ياأيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ} ، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} .
وبمعنى الملازمة والمداومة: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} .
وبمعنى الثبوت: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} .
وبمعنى الوقوف: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} .
/ وبمعنى ضدّ القعود: {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} ، {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} .
وقوله تعالى: {دِينُ القيمة} أَى دين الأُمَّة القائمة بالقسط المشار إِليهم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} . وقوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} إِشارة إِلى ما فيها من معانى الكتب المنزلة، فإِن القرآن يجمع ثمرة كتب الله المتقدّمة.
والمَقام يكون مصدراً، واسم مكان القيام وزمانه نحو: {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} ، {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، وقوله: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} .(4/310)
وقوله تعالى: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} . أَى توفُّوا حقَّهما بالعلم والعمل. وقوله: {فاقتلوا المشركين} إِلى قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة} ، قيل المراد به إِقامتها بالإِقرار بوجوبها لأَدائها.
والمُقامة: الإِقامة، قال تعالى: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} .
والمُقَام يقال للمصدر والزَّمان والمكان والمفعول. لكن الوارد فى القُرْآن المصدر نحو قوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} ، وقوله: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا} أَى لا مستقر لكم. وقرئ، {لا مَقَامَ لَكُمْ} من أَقام. وقرئ: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} بالضمّ أَى فى مكان تدوم إِقامتهم فيه. وعذابٌ مقيم أَى دائم. و {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} إِشارة إِلى ما خصَّ به الإِنسان من العقل والفهم وانتصاب القامة الدالَّة على استيلائه على كل ما فى هذا العالم.
وتقويم الشىءِ: تثقيفه، والسّلعة: تثمينها.
والمَقَامة: الجماعة. قال:
وفيهم مَقَامات حسانٌ وجوههم
كأَنَّهم جعلوا اسم المكان اسماً لأَهله المقيمين به.
والاستقامة: لزوم المنهج القويم قال تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله(4/311)
ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} الآية. وقال تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إِلى قوله: {يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} إِلى قوله: {بَصِيرٌ} ، فبيّن أَنَّ الاستقامة بعدم الطغيان، وهو مجاوزة الحدود. وقال: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلاهكم إلاه وَاحِدٌ فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه} .
وسئل صدّيق الأُمّة وأَعظمُها استقامةً أَبو بكر الصِّديق رضى الله عنه عن الاستقامة فقال: أَلاَّ تشرك بالله شيئاً. يريد الاستقامة على محض التوحيد. وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أَن يستقيم على الأَمر والنهى، ولا يروغ رَوَغان الثعلب. وقال عثمان رضى الله عنه: استقاموا: أَخلصوا العمل لله. وقال علىّ رضى الله عنه وابن عبّاس: استقاموا: أَدّوا الفرائض. وقال الحسن البصرىّ: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أَن لا إِله إِلاَّ الله، حتىَّ لَحِقُوا بالله. وقال بعضهم: استقاموا على محبّته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمْنة ولا يسرة. وعند مسلم عن سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله: قل لى فى الإِسلام قولا لا أَسأَل عنه أَحدا غيرك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". وعند ثَوْبان يرفعه: "استقيموا ولن تُحصُوا، واعلموا أَنَّ خير أَعمالكم الصّلاة، ولا يحافظ على الوضوء إِلاَّ مؤمن".(4/312)
والمقصود من العبد الاستقامة وهى السّدَاد. فإِن لم يقدر عليها فالمقاربة. وعند مسلم مرفوعاً: "سَدِّدُوا / وقاربوا، واعلموا أَنه لن ينجو أَحد منكم بعمله. قالوا: ولا أَنت يا رسول الله؟ قال: ولا أَنا إِلا أَن يتغمَّدنى الله برحمة منه وفضل". فجمع فى هذا الحديث مقامات الدّين كلها. فأَمر بالاستقامة وهى السّداد، والإِصابة فى النيّات والأَقوال. وأَخبر فى حديث ثوبان أَنهم لا يطيقونها فنقلهم إِلى المقاربة، وهى أَن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، كالَّذى يرمى إِلى الغرض وإِن لم يُصبه يقاربه. ومع هذا فأَخبرهم أَن الاستقامة والمقاربة لا تنجى يوم القيامة، فلا يركن أَحد إِلى عمله، ولا يرى أَن نجاته به، بل إِنَّما نجاته برحمة الله وغفرانه وفضله. فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهو القيام بين يَدى الله تعالى على حقيقة الصّدق، والوفاءِ بالعهد.
والاستقامة تعلَّق بالأَقوال والأَفعال والأَحوال والنِّيات. فالاستقامة فيها، وقوعها لله وبالله وعلى أَمر الله. قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإِن نفسك متحرّكة فى طلب الكرامة، وربّك يطالبك بالاستقامة. فالاستقامة للحال بمنزلة الرّوح من البدن، فكما أَنَّ البدن إِذا خلا عن الرّوح فهو ميّت، فكذلك الحال إِذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد. وكما أَن حياة الأَحوال بها، فزيادة أَعمال الزَّاهدين أَيضاً ونورها وزكاؤُها بها، فلا زكاء للعمل ولا صحّة بدونها. والله أَعلم.(4/313)
بصيرة فى قهر وقوى
القهر: الاستيلاءُ والغلبة على طريق التذليل، قال تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} .
والقوّة ضدّ الضعف، والجمع: قُوًى وقِوًى. والقَوَاية - بالفتح -: القوة. قوِى يقوى - كرضى يرضى - فهو قَوِىّ. وتقوّى واقتوى. وقوّاه الله. وفلان قَوِىٌّ مُقْوٍ أَى في نفسه ودابَّته.
وقد تستعمل القوة بمعنى القدرة؛ نحو: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} . وتستعمل للتهيّؤ الموجود فى الشىءِ، وأَكثر من يستعمل هذا الفلاسفة، ويستعملونه على وجهين: أَحدهما أَن يقال لِمَا كان موجوداً، فيقال: كاتب بالقوّة، أَى معه المعرفة بالكتابة؛ لكنه ليس يَستعمل. والثانى يقال: فلان كاتب بالقوّة، وليس يعنى أَنَّ معه العلم بالكتابة، ولكن معناه: يمكنه أَن يتعلَّم الكتابة.
والقوّة تستعمل فى البدن تارة، وفى القلب تارة، وفى المعاون من خارج تارة، وفى القدرة الإِلهية تارة.
ففى البدن قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ، وقوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} ، فالقوَّة هاهنا قوَّة البدن بدلالة أَنه رغب عن القوّة الخارجة(4/314)
فقال: (مَا مَكَّنِّك فِيهِ رَبِّك خَيْرٌ.) وفى المعاون من خارج نحو قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} ، قيل معناه: مَن يقوى به من الجُنْد، وما يقوى به من المال. ونحو قوله: {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ} . وفى القدرة الإِلهِيَّةَ قوله: {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وقوله: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} عامّ فيما اختصّ الله به من القدرة، وما جعله للخلق. وقوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} فقد ضمن الله تعالى أَن يعطى كلَّ واحد منهم من أَنواع القوى قدر ما يستحقه. وقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} ، المراد به جبريل عليه السّلام، ووصفه بالقوّة عند ذى العرش فأَفرد اللفظ ونكَّره فقال / (ذى قوّة) تنبيهاً أَنَّه إِذا اعتبر بالملإِ الأَعلى فقوته إِلى حدّ ما. وقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} فإِنه وصف القوّة بلفظ الجمع، وعرّفها تعريف الجنس؛ تنبيهاً أَنه إِذا اعتبر بهذا العالم وبالذين يُعلِّمهم ويُفيدهم هو كثير القُوّى عظيم القدرة. وقوله تعالى: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} أَى بجدّ، وكذا قوله: {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} . وقوله: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} أَى بطشاً فى الأَخذ، وكذا قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً} . وقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} أَى من عُدَّة.(4/315)
بصيرة فى قيض وقيع وقيل
قيّض الله فلاناً لفلان: جاءَ به وأَتاحه له. وتقيَّض له: تقدَّر وتسبَّب. وقوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمان نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أَى نُتِح له ليستولى عليه استيلاءَ القَيْض على البيض، وهو القشرة اليابسة على البيضة من فوق. وقيل: هى الَّتى خرج ما فيها من فرخ أَو ماء.
القاع: أَرض سهلة مطمئنَّة، قد انفرجت عنها الجبال والآكام. والجمع: أَقْوُع وأَقواع، وقِيعانٌ وقِيعٌ، وقِيعة، قال تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} .
المَقِيل: مصدر قال يَقِيل قَيْلاً وقائلة وقَيلولة ومَقالاً ومَقيلا: قام فى القائلة، وهى نصف النَّهار. وهو قائل، والجمع: قُيّل وقُيَّال وقَيْل كشرْب. والقَيْل والقَيُول: اللبن يُشرب فى القائلة. والتَّقييل: السّقى فيها. والتقيّل: الشرب فيها. وشرِبت الإِبلُ قائلة، أَى فيها. والقَيْلُ والقَيْلَة: النَّاقة تُحلَب فيها. والمِقْيلِ: مِحْلب ضخم يُحلَب فيه فيها.
آخر حرف القاف(4/316)
الباب الثالث والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف الكاف(4/317)
بصيرة فى الكاف
وهى تستعمل على وجوه:
1- حرف من حروف الهجاءِ لَهَوىٌّ، مخرجه من اللَّهاة جوار مخرج القاف. والنسبة إِليه كافىّ. والفعل منه كَوّفْتُ كافاً حسنةً وحسناً. وجمعه على التذكير أَكواف، وعلى التَّأنيث كافات.
2- الكاف فى حساب الجُمّل: اسم لعدد العشرين.
3- الكاف الأَصلىّ فى الكلمة نحو: كبر، بكر، وربّك.
4- كاف العجز والضرورة؛ كمن يقول من أَهل الهند وغيرهم: كامَ فى قام.
5- الكاف المكرّرة فى، سكك: وشكك.
6- كاف الوقف.
7- كاف التذكير؛ كما فى قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} .
8- كاف التأنيث: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ} .
9- كاف التشبيه: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} .
10- كاف التأكيد؛ نحو: كلاَّ، فإِن الأَصل لا زيدت الكاف لتأكيد النفى.(4/318)
11- كاف البعيد: {ذَلِكَ الكتاب} .
12- كاف التعجّب: ما رأيت كاليوم.
13- الكاف الزائدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
14- الكاف المبدلة من القاف: امْتكَّ وامتقَّ، وتمعّق وتمعّك.
15- الكاف اللغوىّ: فالكاف فى اللُّغة: الرجل المصلح بين القوم، قال:
خِضّمٌّ إِذا ما جئت تبغى سُيُوبه ... وكافٌ إِذا ما الحرب شبَّ شهابها(4/319)
بصيرة فى / كب وكبت وكبد
كبَّ الله العدوَّ: صرعه على وجهه. وكبَّ: إِذا ثَقُلَ. وأَكبَّ على وجهه: سَقط، وهذا من النَّوادر أَن يقال: أَفعلتُ أَنا وفعلت غيرى، ولهذا نظائِر قليلة تجمعها هذه الأَبيات:
كَِلْم ثُلاثيّها جاءَت مجاوزة ... ولازمٌ أَفعلَ احفظ كى تصدّقه
بِنْت الأُمور جَفَلْت الرَأْل أَجنحه ... زعجته ورفأْت السُّفْن أَشنُقُه
شغلتها وعنَجْت النُّوق أَعرِضه ... قشعته كبّه أَمْرت لأَيْنُقه
نزفتها ونسلت الرّيش مع وزنوا ... خمس وعشر بلا مثل تحقِّقه
وكبكبه بمعنى كبّه، ومنه قوله تعالى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} ، أَى دُهْوروا وأُلْقى بعضهم على بعض، وقيل: جمعُوا، مأخوذ من الكَبْكَبة وهى الجماعة. وفى الحديث: "أَكبّوا رواحلهم" هكذا الرّواية، قال بعضهم: الصّواب [كبّوا] أَى أَلزموها الطريق. وقال الحذَّاق من(4/320)
أَهل اللغة معناه: أَكبّوا بها، فحذفوا الجارّ وأَوصلوا الفعل. والمعنى: جعلوها مُكِبّة على طريق الطَّريق والمضىّ فيه؛ من قولك: أَكبَّ الرجل على الشىءِ يعمله، وأَكبّ فلان على فلان يظلمه: إِذا أَقبل عليه غير عادل عنه ولا مشتغل بأمر دونه.
والكواكب: النجوم البادية، ولا يقال لها: كوكب إِلاَّ عند ظهوره.
الكَبْت: الصّرف والإِذلال. كَبَت الله العدوّ: صرفه وأَذلَّه. وكبته لوجهه: صرعه، قال تعالى: {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} . قال الفرّاءُ: كُبتوا أَى غِيظُوا وأحزنوا يوم الخندق. وإِنما قال ذلك لأَنَّ أَصْل الكَبْت الكَبْد، فقلبت الدّال تاءً، أُخذ ذلك من الكبِد وهو موضع الغيظ والحقد. وكأَنَّ الغيظ لمّا بلغ منهم مبلغ المشقَّة أَصاب أَكبادهم فأَحرقها.(4/321)
بصيرة فى كبد
الكَبِد والكَبْد والكِبْد واحدة الأَكباد. قال الفراءُ: يذكَّرو ويؤنَّث. وكَبِدُ السَّماءِ وكَبْداؤها، وكُبيداؤها، وكُبَيداتها - كأَنهم صغَّروها كبيدة ثم جمعوها - وهى ما استقبلك من وسطها.
والكَبَد: الشدّة والمشقَّة، قال تعالى: {خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} ، أَى يكابد أَمره فى الدنيا والآخرة. وقيل: خُلق منتصبا غير منحنٍ كسائر الحيوان. وقال ابن عرفة: (فى كَبَد) : فى ضِيق، ثم يكابد ما يكابده من أُمور دنياه وآخرته، ثم الموت إِلى أَن يستقرّ فى جنَّة أَو نار. وقال ابن دريد: الكَبَد: مصدر كَبِد يَكْبَد كَبَدا: إِذا اشتكى كبِده.
وكَبَدهم البرد: شقَّ عليهم وضيَّق، ومنه قول بلال: أَذَّنتُ فى ليلة باردة، فلم يأْت أَحد، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: ما لهم يا بلال؟ قلت: كَبَدهم البرد. قال بلال: فلقد رأَيتهم يتروّحون فى الضحاء، يريد أَنه دعا لهم بانكسار البرد عنهم حتى احتاجوا إِلى التروّح.(4/322)
بصيرة فى كبر
الكبير والصَّغير من الأَسماءِ المتضايفة. ويُستعملان فى الكمّيَّةِ المتَّصلة كالأَجسام، وذلك كالكثير والقليل فى الكمِّيَّة المنفصلة كالعدد؛ وربَّما يتعاقب الكثير والكبير على شىء واحد بنظرين مختلفين، نحو قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} و (كَثِير) وقرئ بهما. وأَصل ذلك أَن يستعمل فى الأَعيان ثم استعير فى المعانى نحو قوله: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} .
وقوله: {يَوْمَ الحج الأكبر} إِنَّما وصفه بالأَكبر تنبيها أَنّ العُمرة هى الحجَّة الصغرى، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "العمرة / هى الحجّ الأَصغر" وقيل المراد بالحجِّ الأَكبر حجّة الوداع؛ لأَنَّه لم يقع مثلها من حين خلق الله الكعبة إِلى يوم القيامة، فإِنَّه حضرها النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم فى نحو من تسعين أَلف صحابىّ. وقيل: الحجّ الأَكبر بالنسبة إِلى كلِّ أَحد حجّة يجتمع فيها بأَحد من أَكابر الأَولياءِ والأَقطاب الواصلين، ويشمله نظره وبركته ودعاؤه خصوصاً، فذلك الحجّ الأَكبر بالنِّسبة إِليه؛ وقيل: إِذا كان الوقوف بعرفة يوم جمعة، وقيل غير ذلك.
ومن ذلك ما اعتبر فيه الزمان، فيقال: فلان كبير أَى مُسِنٌّ، نحو(4/323)
قوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} . ومنه ما اعتبر فيه المنزلة والرفعة، نحو قوله: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} ، وقوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} فسمَّاه كبيرًا بحسب اعتقادهم فيه لا لقدْر ورفعة حقيقيَّة، وقوله: {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} أَى رؤساءَها، {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} أَى رئيسكم. ومن هذا النَّحو: ورِثه كابرًا من كابرٍ، أَى إِنه عظيم القدر عن أَب مثله.
والكبيرة متعارفة فى كل ذنب تعظُم عقوبته، والجمع: الكبائر. وقوله: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} ، وقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ، قيل: أَريد بهما الشِّرك لقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وقيل: هى الشرك وسائر المعاصى الموبِقة كالزنى وقتل النَّفس المحرَّمة. وقيل: هى السَّبع المنصوص عليها فى الحديث. وقيل: هى المذكورات فى أَوّل سورة النِّساءِ إِلى قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ} الآية. وقيل: الكبائر سبعون، وقيل: سبعمائة. وقيل: كلُّ ذنب ومَعْصِية لله عزَّ وجل كبيرة، ولا صغائر فى الذنوب حقيقة، وإِنَّما يقال لبعضها صغائر بالنِّسبة إِلى ما هى أَعظم وأَكثر منها.(4/324)
ويستعمل الكبير فيما يصعب ويشقّ على النَّفس، نحو قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} . وقوله: (كَبيرة) فيه تنبيه على عظم ذلك من بين الذنوب وعظم عقوبته، ولهذا قال: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله} . وقوله: {تولى كِبْرَهُ} إِشارة إِلى مَن تولَّى حديث الإِفك، وتنبيه بأَنَّ من سنَّ سنَّة قبيحة يصير مقتدًى بها فذنبه أَكبر.
والكِبْر والتكبُّر والاستكبار متقاربة. فالكِبْر حالة يتخصّص بها الإِنسان من إِعجابه بنفسه، وأَن يرى نفسه أَكبر من غيره. وأَعظم الكِبْر التكبُّر على الله بالامتناع عن قبول الحقِّ.
والاستكبار على وجهين: أَحدهما: أَن يتحرَّى الإِنسان ويطلب أَن يكون كبيرًا، وذلك متى كان على ما يجب، وفى المكان الَّذى يجب، وفى الوقت الَّذى يجب فمحمود. والثانى: أَن يتشبَّع فيُظهر من نفسه ما ليس له، فهذا هو المذموم، وعليه ورد القرآن الكريم وهو قوله تعالى: {أبى واستكبر} ، وقوله: {فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} ، وقوله: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} ، ونبّه بقوله (مُجْرمين) أَن حاملهم على ذلك ما تقدَّم من جُرمهم، وأَنَّ ذلك دأْبهم لا أَنه شىء حادث منهم.
والتكبّر على وجهين:
أَحدهما: أَن تكون الأَفعال الحسنة كبيرة فى الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا قوله تعالى: {العزيز الجبار المتكبر} .(4/325)
والثانى: أَن يكون متكلِّفاً لذلك متشبِّعا، وذلك فى عامّة الناس؛ نحو قوله تعالى: {يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} . وكل من وصف بالتكبّر على الوجه الأَوّل فمحمود دون الثانى، ويدلُّ على صحَّة وصف الإِنسان به / قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} . والتَّكبّر على المتكبّر صدقة.
والكبرياءُ: الترفُّع عن الانقياد، ولا يستحقه إِلاَّ الله تعالى، قال تعالى: "الكبرياءُ ردائى، والعظمة إِزارى، فمن نازعنى فى شىء منهما قصمته".
وأَكبرت الشىء: رأَيته كبيرًا، قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} والتكبير يقال لذلك، ولتعظيم الله بقول اللهُ أَكبر، ولعبادته واستشعار بعظمته. وقوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} إِشارة إِلى ما فيهما من عجائب صنعه، وغرائب حكمته التى لا يعلمها إِلاَّ قليل ممَّن وصفهم الله بقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} . وقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} تنبيه أَنَّ جميع ما ينال الكافر من العذاب قبل ذلك فى الدُّنيا وفى البرزخ صغير فى جنب عذاب ذلك اليوم.(4/326)
وقال بعض المفسِّرين ورد الكِبْرُ والكِبَرُ على اثنى عشر وجهاً فى القرآن:
1- بمعنى الثقيل: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} ، {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} ، {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} ، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ، (أَى ثقلت) .
2- الكِبَر والصِّغر بمعنى الكثرة والقلَّة: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} ، {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً} ، أَى كثيرًا.
3- بمعنى كمال قبح الذَّنب والذلَّة: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ، {كَبَائِرَ الإثم والفواحش} .
4- بمعنى انتشار النُور والشُّعاع: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هاذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ} ، أَى أَنور.
5- بمعنى الفضل والعلم والفطنة: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} ، أَى أَعلمكم ومعلِّمكم.
6- بمعنى عِظَم الشخص والجثَّة: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} .
7- بمعنى زيادة السِّنّ: {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ، {وَأَصَابَهُ الكبر} ، {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} .(4/327)
8- بمعنى البعد والتجاوز من الحدّ: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} ، {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} ، {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} ، {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} .
9- بمعنى شدَّة العذاب: {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} .
10- بمعنى الفوز بالجنَّة: {وَمُلْكاً كَبِيراً} ، {ذَلِكَ الفوز الكبير} .
11- بمعنى زيادة الثَّواب والكرامة: {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
12- بمعنى الجلال والعظمة: {الكبير المتعال} .(4/328)
بصيرة فى كتب
قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الكتاب} يعنى القرآن سمّى كتاباً لما جُمع فيه من القصص والأَمر والنَّهى والأَمثال والشرائع والمواعظ، أَو لأَنه جُمع فيه مقاصد الكتب المنزلة على سائر الأَنبياء. وكلُّ شىء جمعت بعضه إِلى بعض فقد كتبته. وقوله تعالى: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث} أَى أَنزل الله فى كتابه أَنكم لابثون إِلى يوم القيامة. وقوله عزَّ وجلَّ: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} أَى حُكْم.
وقال القتبىّ فى قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أَى يحكمون، يقولون نحن نفعل بك كذا وكذا، ونطردك ونقتلك، وتكون العاقبة لنا عليك. وقوله تعالى: {أولائك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أَى ثبَّت. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} أَى فرض وأوجب.
وقوله تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} مصدر أَريد به الفعل، أَى كتب الله عليكم، وهذا قول حذَّاق النحويين. وقال الكوفيُّون: هو منصوب على الإِغراءِ بعليكم، وهو بعيد؛ لأَنَّ مَا انتصب على الإِغراءِ لا يتقدّم على ما قام مقام الفعل وهو (عليكم) ، ولو كان النَّص: عليكم كتاب الله لكان النَّصب على الإِغراءِ أَحسن من المصدر.(4/329)
واكتتبتُ الكتابَ: كَتَبْتُهُ، ومنه قوله تعالى: {أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها} . ويقال: اكتتب فلان فلاناً: إِذا سأَله أَن يكتُب له كتاباً فى حاجة، وعليه فَسَّر بعضهم: {أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها} أَى استكتبها. ابن الأَعرابىّ: سمعت أَعرابيًّا [يقول] : اكتتبت فم السِقاءِ فلم يَستكتب لى، أَى لم يَسْتَوْكِ لجفائه وغِلظه.
وكاتبت العبد (فهو يكاتب) . والمكاتَب: العبد يكاتَب على نفسه بثمنه، فإِذا سعى فأَدّاه عَتَق. وأَصلها من الكتابة، يراد بها الشرط الذى يُكتب بينهما.
/ ابن الأَعرابىّ: الكاتب عندهم: العالم، وبه فسَّر قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ} . والكِتاب: القَدَر، قال النَّابغة الجعدىّ:
يا ابنة عمِّى كتاب الله أَخرجنى ... عنكم فهل أَمنعنَّ اللهَ ما فعلا
قال بعض المفسِّرين: ورد الكتاب فى القرآن لمعان: -
1- بمعنى اللَّوح المحفوظ: (كِتابٌ سَبَقَ) ، {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} ، {فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} ، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} .(4/330)
2- بمعنى التوراة: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} .
3- بمعنى الإِنجيل: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} .
4- بمعنى كتاب سليمان إِلى بلقيس: {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} .
5- بمعنى القرآن المجيد: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا} ، {وهاذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} ، {الم ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} ، وله نظائر.
6- كتاب الرَّحمة والمغفرة: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} ، {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} .
7- بمعنى الكتابة المعروفة: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة} .
8- بمعنى تاريخ أَرباب السَّعادة: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} .
9- بمعنى تاريخ أَرباب الشقاوة: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ} .
10- بمعنى الرِّزق المعلوم فى العمر والمدَّة: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} .
11- بمعنى فريضة الطَّاعة: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} .(4/331)
12- ديوان الأَعمال والأَفعال المعروضُ على المطيع والعاصى، يوم تشيب فيه النواصى: {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم} ، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك} .
والكتاب فى الأَصل: اسم للصّحيفة مع المكتوب فيها. ويعبَّر عمَّا ذكرنا من الإِثبات والتقدير والإِيجاب والفرض بالكتابة، ووجه ذلك أَنَّ الشىء يراد، ثم يقال، ثم يكتب. والإِرادة مبدأ، والكتابة منتهًى، ثم يعبَّر عن المبدإِ بالمنتهى إِذَا قُصد تأكيده. قال تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} . وقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} أَى فى حكمه. وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} ، أَى أَوحينا وفرضنا.
قال: ويعبَّر بالكتابة عن القضاء المُمْضَى وما يصير فى حكم الممضى، وحُمل على هذا قوله: {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} . وقوله: {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} إِشارة إِلى أَن ذلك مثبت له ومجازًى به. وقوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} ، أَى اجعلنا فى زمرتهم إِشارة إِلى قوله: {فأولائك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} . وقوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أَى قدّره وقضاه؛ وذكر (لَنَا) ولم يقل: علينا / تنبيهاً أَنَّ كل ما يصيبنا نعدّه نعمة لَنَا، ولا نعدُّه نقمة علينا. وقوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ(4/332)
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، قيل معناه: وهبها الله لكم، ثمَّ حَرَّمها عليكم بامتناعكم من دخولها وقبولها، وقيل: كتب لكم بشرط أَن تدخلوها وقرئ: (عليكم) أَى أَوجبها عليكم. وإِنما قال (لكم) تنبيهاً أَنَّ دخولهم إِيَّاها يعود عليهم بنفع عاجل وآجل؛ فيكون ذلك لهم لا عليهم، و. {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله} أَى فى علمه وحكمه، وقوله: {اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله} ، أَى فى حكمه.
ويعبَّر بالكِتاب عن الحُجَّة الثابتة من جهة الله، نحو قوله: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ، وقوله: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ} إِشارة إِلى العلم والتحقيق والاعتقاد. وقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} إِشارة فى تحرِّى النِّكاح إِلى لطيفة، وهى أَنَّ الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح ليُتحرَّى به طلب النَّسل الذى يكون سبباً لبقاءِ نوع الإِنسان إِلى غاية قدَّرها، فيجب للإِنسان أَن يتحرَّى بالنكاح ما جعل الله على حسب مقتضَى العقل والدِّيانة، ومَن تحرَّى بالنكاح حفظ النسل وحظَّ النفس على الوجه المشروع فقد انتهى إِلى ما كتب الله له، وإِلى هذا أَشار من قال: عنى بـ (ما كتب الله لكم) الولدَ.
ويعبَّر بالكتابة عن الإِيجاد، وعن الإِزالة والإِفناءِ بالمحو، قال تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} نبَّه أَن لكلِّ وقت إِيجاداً، فهو يوجد ما تقتضى الحكمة إِيجاده، ويزيل ما تقتضى الحكمة إِزالته. ودلَّ قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} على نحو ما دلَّ عليه قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} .(4/333)
وقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} ، فالكتاب الأَول كتبوه بأَيديهم المذكورُ بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} ، والثانى التوراة، والثالث لجنس كتب الله تعالى كلِّها، أَى ما هو من شىءٍ من كتب الله تعالى وكلامه.
وقوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} ، قيل: هما عبارتان عن التوراة سمِّيت كتاباً باعتبار ما ثبت فيها من الأَحكام، وفرقاناً باعتبار ما فيها من الفرق بين الحقِّ والباطل. وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} تنبيه أَنَّهم يختلقونه ويفتعلونه. وقوله: {وَمَا كَانَ هاذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} أَراد بالكتاب هاهنا ما تقدّم من كُتُب الله دون القرآن؛ أَلا ترى أَنه جعل القرآن مصدِّقا له. وقوله: {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً} ، منهم من قال: هو القرآن، ومنهم من قال: هو وغيره من الحُجج والعلم والعقل. وقوله: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} ، قيل: أَريد علم الكتاب، [وقيل] علم من العلوم الَّتى آتاها الله سليمان فى كتابه المخصوص به، وبه سُخِّر له كلُّ شىءٍ. وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} أَى بالكتب المنزلة، فوضع المفرد موضع الجمع، إِمَّا لكونه جنساً، كقولك: كثر الدرهم بأَيدى الناس، وإِمَّا لكونه فى الأَصل مصدراً، والله أَعلم.(4/334)
بصيرة فى كتم
كتم الشىء كَتْما وكِتماناً، وكتَّمه تكتيماً، واكتتمه: أَخفاه، وقوله: / {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} ، قال الشاعر:
فلا تكتُمُنَّ الله ما فى نفوسكم ... لِيَخْفَى ومَهْما يُكتم اللهُ يَعْلَمِ
يؤخَّرْ فيوضعْ فى كتابٍ فيدَّخر ... ليوم الحساب أَو يعجلَّ فيُنْقَمِ
وقوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} ، قال ابن عبَّاس رضى الله عنهما: إِن المشركين إِذا رأَوا يوم القيامة أَنَّه لا يدخل الجنَّة إِلاَّ من لم يكن مشركا، قالوا: والله ربِّنا ما كنَّا مشرِكين، فيشهد عليهم جوارحهم، فحينئذ يودُّون أَلاّ يكتمون الله حديثا. وقال الحسن: الآخرة مواقف، فى بعضها يكتمون، وفى بعضها لا يكتمون.
وقوله تعالى لليهود: {وَتَكْتُمُونَ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، ومنه قوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، يعنى نعوته وصفاته الثَّابتة فى التوراة. وقال تعالى: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ، وقال: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} ، وقال: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} .(4/335)
بصيرة فى كثب وكثر
كَثَب القوم: إِذا اجتمعوا، وكثبت الشىء: جمعته، لازم ومتعدّ، أَكثِبه بالكسر. وكثب عليه: حمل وكرّ. والكثيب من الرّمل: المجتمع منه المنتصب فى مكان، والجمع: الكثبان، قال تعالى: {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} . وأَكثبك الشىءُ: إِذا أَمكنك من نفسك. وفى الحديث: "إِذا أَكثبوكم فارموهم واستبْقوا نبلكم".
الكَثرة والقلَّة يستعملان فى الكميَّة المنفصلة؛ كالأَعداد. وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} جُعلت كثيرة اعتباراً بمطاعم الدُّنيا. وليست الكثرة إِشارة إِلى العدد فقط بل إِلى الفضل أَيضاً. ورجل كاثر: كثير المال، قال:
ولست بالأَكثر منهم حَصًى ... وإِنَّما العِزَّة للكاثر
وأَكثر: كَثُرَ مالُه. وما لَه قُلّ ولا كُثْر، أَى قليل ولا كثير. وأَنشدوا لرجل من ربيعة:
فإِن الكُثْر أَعيانى قديماً ... ولم أُقْتِر لَدُنْ أَنِّى غلامُ
وهو مكثور عليه، أَى نفِد ما عنده.
والكوثر من الغبار: الكثير. وقوله تعالى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} قيل: هو نهر فى الجنَّة تنشعب عنه الأَنهار، وقيل: هو الخير العظيم الكثير الَّذِى خصَّ الله به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم. وتكوثر: كثُر كثرة متناهِية.(4/336)
بصيرة فى كدح وكدر وكدى
كَدَح فى العمل يَكْدَح - كمنع يمنع -: سعى وعمل لنفسه، خيرًا كان أَو شرًّا. وكَدَح وجهَه: خدش أَو عمل به ما يَشِينه؛ ككدَّحة تكديحاً. وكَدَح لعياله واكتدح: كسب، قال تعالى: {إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} ، أَى تسعى.
الكدر: ضدّ الصَّفاءِ. والكُدْرة فى اللَّون خاصَّة، والكُدُورة فى الماءِ وفى العيش. ماءٌ كَدِرٌ وكَدْر كفخِذ وفَخْذ. وكدِر الماءُ يكدَر كَدَرا - كفرح يفرح - وكَدُر يكدُر - ككرم يكرم - كدورة. وانكدر: أَسرع وانقضَّ، والقوم على كذا أَى قصدوا متناثرين عليه. قال تعالى: {وَإِذَا النجوم انكدرت} .
الكُدْية والكُدَاية والكَدَاة: الصَفَاة العظيمة الشديدة، والشىء الصُّلب بين الحجارة والطين. وحفر فأَكدَى، أَى صادف كُدْية. وسأَله فأَكدى، أَى وجده شحيحاً مثل الكُدْية. وأَكدَى الرّجلُ: بخِل، أَو قلَّ خيره، قال تعالى: {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} .(4/337)
بصيرة فى كذب
كَذَب يَكْذِبُ كَذِباً وكِذْبا وكِذَاباً وأَكذوبة وكاذِبة ومَكْذوباً ومَكذَبة وكُذْبانا كغفران / وكُذْبَى كبُشْرى، فهو كاذِب وكَذَّاب وكَذُوب وكَيْذَبان وكَيْذُبَان ومَكْذُوبان، وكُذَبة كهُمَزة، وكُذُبْذُب وكُذُبْذُبان وكُذُّبْذُب بالتشديد، قال جُرَيبة بن الأَشْيم:
فإِذا سمعتَ بأَنَّنى قد بِعْتُه ... بوِصالِ غانِيَة فقل كُذُّبْذُب
وجمع الكاذب: كُذَّب، كراكع ورُكَّع. وجمع الكَذُوب: كُذُب، كصَبُور وصُبُر. وقرأَ مُعَاذ بن جَبَل رضى الله عنه وسَلَمة بن محارب الزِّيادى وابن أَبى عَبْلة وأَبو البرهسم: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} فجعلوه نعتاً للأَلسنة.
ويقال: كذب كُذَّاباً بالضمّ والتشديد أَى متناهِياً. وقرأَ عمر بن عبد العزيز: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} ، ويكون صفة على المبالغة كوُضَّاءٍ وحُسَّان. ومن قرأَ (كِذَّاباً) بالكسر فهو أَحد مصادر المشدَّد؛ لأَن مصدره قد يجىء على تفعيل مثل التكليم، وعلى فِعَّال مثل كِذَّاب، وعلى تفعِلة مثل تكملة، وعلى مُفَعَّل مثل قوله تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} وقرأَ علىّ رضى الله عنه والعُطَارِدِىّ والأَعمش والسُّلَمىّ والكسائىّ:(4/338)
{وَلاَ كِذَّاباً} ، قيل: هو مصدر كَاذَبْتُه مكاذبةً وكِذَاباً، وقيل: مصدر كَذَب كِذَاباً مثل كتب كِتَاباً. وأَكذبته: وجدته كاذباً.
وقوله تعالى: {إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} كذَّبهم فى اعتقادهم لا فى مقالهم، فمقالُهم كان صدقاً. وقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} نسب الكذب إِلى نفس الفعل، كقولهم: فَعْلة صادقة، وفعلة كاذبة.
وكَذَب قد يتعدَّى إِلى مفعولين، تقول: كَذَبتك حديثاً: {الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} . وكذَّبته: نسبته إِلى الكذب، صادقاً كان أَو كاذباً. وما جاءَ فى القُرْآن ففى تكذيب الصَّادق، نحو قوله: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} ، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} ، قرئ بالتخفيف والتشديد، ومعناه: لا يجدونك كاذباً، ولا يستطيعون أَن يثبتوا كذبك.
وقوله: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} أَى علموا أَنهم تُلُقُّوا من جهة الَّذين أُرسلوا إِليهم بالكذب. فكُذِّبوا نحو فسّقوا وزُنٌّوا وخُطِّئوا إِذا نسبوا إِلى شىءٍ من ذلك. وقرئ: (كُذِبُوا) بالتخفيف من قولهم: كَذَبتك حديثا، أَى ظنَّ المرسَل إِليهم أَن الرّسل قد كَذَبوهم فيما أَخبروهم به: أَنهم إِن لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب. وإِنَّما ظنُّوا ذلك من إِمهال(4/339)
الله تعالى إِيَّاهم وإِملائه لهم. وقوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً} الكِذَّاب: التكذيب، والمعنى: لا يَكذِبون فيكذِّبَ بعضهم بعضاً. ونفى التكذيب عن الجنَّة يقتضى نفى الكذب عنها. وقرئ (كِذَاباً) كما تقدَّم، أَى لا يتكاذبون تكاذب النَّاس فى الدُّنيا.
قال بعض المفسِّرين: ورد الكذب فى القرآن:
1- بمعنى النِّفاق: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ، أَى ينافقون، {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} : منافقون.
2- وبمعنى الإِشراك بالله ونسبة الولد: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} ، {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} .
3- وبمعنى قذف المحصَنات: {والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} ، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولائك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} .
4- وبمعنى الإِنكار: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} . أَى ما أَنكر.
5- وبمعنى خُلْف الوعد: {لَيْسَ / لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ، أَى رَدّ وخُلف.
6- وبمعنى الكذب اللغوى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} ، {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} ، {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} ، {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} ، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ} . والله أَعلم.(4/340)
بصيرة فى كر وكرب وكرس
الكَرّة: المرّة، والجمع: الكَرَّات، قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} وأَصل الكَرّ العطف على الشىء بالذات أَو بالفعل، ويقال للحبل يُصعد به على النخلة. والكَرّ أَيضاً: حبل الشراع، وهو فى الأَصل مصدر، وصار اسماً، وجمعه كُرُور.
كَرَبه الأَمُر: إِذا اشتد عليه، كَرْباً بالفتح، وكُرْبة بالضمّ، وهما الغمّ الَّذِى يأْخذ بالنَفْس. وأَصل ذلك من كَرْب الأَرض، وهو قَلْبها بالحفر. فالغمّ يفعل بالنفس مثل ذلك الفعل. قيل: ويصحّ أَن يكون من كَرَبَت الشمسُ: إِذا دنت للغروب، فإِنَّها تصفَرّ وتضعف، أَو من كربَتْ حياةُ النار، أَى قرب انطفاؤها، قال عبد القيس بن خُفَاف.
َأَجُبَيل إِن أَبَاك كاربُ يَومه ... فإِذا دُعيتَ إِلى العظائم فاعْجَلِ
أَى قرب أَجله. وكَرَب أَن يفعل كذا، أَى كاد. وكربْتُ القيدَ: ضيَّقته على المقيَّد. قال عبد الله بن عَنَمة.
فازْجُرْ حمارك لا يرتَعْ بروضتنا ... إِذاً يُرَدُّ وقيدُ العَيْرِ مَكروب
الكِرْس - بالكسر - أَبيات مجتمعة من النَّاس، والجمع: أَكراس،(4/341)
أَوكارِسُ وأَكاريسُ. ابن دريد: الأَكاريس: الجماعات من النَّاس، لا واحد لها من لفظها، أَبو عمرو: واحدها كِرْس. والكِرْس أَيضاً: الأَصل
والكُرْسِىّ فى تعارف العامة: اسم لما يُقعد عليه. وهو فى الأَصل منسوب إِلى الكِرس أَى الشىء المجتمع، ومنه الكُرَّاسة للمتكرّس من الأَوراق. وقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات} رُوى عن ابن عبَّاس رضى الله عنهما أَنه قال: الكرسىّ العِلْم، وبه سمّيت الكُرَّاسة لما يكتب فيها من العلم. وقيل: كرسيّه: أَصل مُلْكه. وقيل: الكرسىّ اسم الفَلَك المحيط بالأَفلاك كلّها، ويشهد لذلك ما روى: ما السَّماوات السَّبع فى الكرسىّ إِلاَّ كحَلْقة ملقاة فى فلاة. والكِرسىّ - بالكسر - لغة صحيحة فى المضمومة، وقرأَ طاووس {وسِعَ كِرْسِيُّهُ} بالكسر، وهى لغة فى جميع هذا الوزن نحو سُخْرىّ ودُرّىّ. ومن قال {وَسِعَ كرسيّه} أَى علمه قال: إِنَّه مأْخوذ من قولهم: كَرِس الرجل - بالكسر - إِذا ازدحم علمه على قلبه. والكراسىّ: العلماء. وقيل كرسيّه: أَصل مُلْكه، قال العجَّاج.
قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ ... أَنَّ أَبا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
بمعْدِنِ المُلْك القديم الكِرْس ... فروعه وأَصله المُرَسِّى(4/342)
بصيرة فى كرم
الكَرَم ضدّ اللُّؤم. كَرُمَ - بالضمّ - كَرَامة وكَرَما وكَرَمة - محرَّكتين - فهو كَرِيم وكرِيمة وكِرْمة - بالكسر - ومَكْرُم ومَكْرُمة وكُرَام وكُرَّام وكُرَّامة، والجمع: كُرماءُ وكِرَام وكرائِم. وجمع الكُرَّام: كُرَّامون. ورجل كَرَم - محركة - أَى كريم، يستوى فيه الواحد والجمع. ويا مَكْرُمان للكريم الواسع الخُلُق. وأَكرمه وكرّمه: عظَّمه ونزَّهه. واختلفوا فى معنى الكريم على ثلاثين قولاً ذكرناها فى غير هذا الموضوع.
والكَرَم إِذا وُصف الله به فهو اسم لإِحسانه وإِنعامه، وإِذا وُصف به الإِنسان فهو اسم للأَخلاق والأَفعال المحمودة / الَّتى تظهر منه، ولا يقال: هو كريم حتَّى يَظهر منه ذلك. قال بعض العلماءِ: الكرم كالحُرِّية إِلاَّ أَنَّ الحرِّية قد تقال فى المحاسن الصَّغيرة والكبيرة، والكرم لا يقال إِلاَّ فى الكبيرة؛ كإِنفاق مال فى تجهيز جيش الغُزَاة، وتحمّل حَمَالة ترقأ بها دماء قوم.
وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} إِنما كان كذلك لأَنَّ الكرم الأَفعال المحمودة، وأَكرمها ما يقصد به أَشرف الوجوه، وأَشرف الوجوه ما يقصد به وجه الله، فمَن قصد بها ذلك فهو التَّقىّ. فإِذًا أَكرم(4/343)
النَّاس أَتقاهم. وكل شىء يَشرف فى بابه وُصف بالكريم، نحو قوله تعالى: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} .
وأَرض مَكْرُمة وكَرَمٌ وكريمة: طيِّبة. والكريمان: الحجّ والجهاد. والإِكرام والتكريم: أَن يوصل إِلى الإِنسان نفع لا تلحقه فيه غضاضة، أَو يوصل إِليه شىء شريف. وقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} ، أَى جعلهم كراماً. قال الشاعر:
إِذا ما أَهان امرؤ نفسَه ... فلا أَكرم الله مَنْ أَكْرَمَهْ
وقيل، وردت هذه المادَّة فى القرآن على اثنى عشر وجها:
1- بمعنى الأَشرف والأَفضل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} .
2- بمعنى العزيز العظيم: {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
3- بمعنى المزيَّن المحسَّن: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} ، {مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ، أَى حسن.
4- بمعنى العجيب الغريب: {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} .
5- بمعنى المنظوم المعجِز: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ، أَى معجز فى النظم.
6-بمعنى الذليل المَهِين على سبيل التهكم: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} ، أَى الذليل المهين.
7- بمعنى جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} .(4/344)
8- بمعنى ملائكة الملكوت: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .
9- بمعنى الملائكة الموكَّلين ببنى آدم: {كِرَاماً كَاتِبِينَ} .
10- بمعنى بنى آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ} .
11- بمعنى يوسف الصِّديق: {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} . وفى الحديث "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إِسحاق ابن إِبراهيم".
12- بمعنى العظيم الغفار التوَّاب: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} ، {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} .(4/345)
بصيرة فى كره
الكَرْه والكُرْه - بالفتح والضمّ -: الإِباءُ، والمشقَّة. وقيل: الكُرْه - بالضمِّ -: ما أَكرهت نفسك عليه، والكَره - بالفتح -: ما أَكرهوك عليه. كَرِهَه - بالكسر - كَرْهاً وكُرْهاً وكَرَاههً وكَرَاهِيةً - بالتخفيف - ومَكْرَهة ومَكْرَها. وشىء كَرْه وكَرِيه أَى مكروه. وكرّهه إِليه: صيّره كرِيهاً.
وقيل: الكُره على ضربين: أَحدهما: ما يعافه (من حيث) الطَّبع، والثانى: ما يعافه من حيث العقل والشرع. ولهذا يصحّ أَن يقال فى الشىء الواحد: أَريده وأَكرهه، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أَى تكرهونه طبعاً، ثم قال: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وبيَّن به أَنه لا يجب للإِنسان أَن يعتبر كراهيته للشىء أَو محبّته له حتَّى يعلم حاله. وقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} تنبيه أَن أَكل لحم الأَخ شىء قد جُبل الطَّبعُ على كراهته له، وإِن تحرَّاه الإِنسان. وقوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} نهى عن حملهن على ما فيه كَرْه وكُرْه.(4/346)
وقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، قيل: منسوخ، وإِنه كان فى أَوّل / الأَمر كان يُعرض الإِسلام على المرءِ، فإِن أَجاب وإِلاَّ تُرك. وقيل: إِنَّ ذلك فى أَهل الكتاب، (فإِنهم إِنْ أَدَّوا الجزية والتزموا الشرائط تُركوا) . وقيل: معناه لا حكم لمن أُكره على دين باطل، فاعترف به ودخل فيه، كما قال: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} . وقيل معناه: لا اعتداد فى الآخرة بما يفعله الإِنسان من الطَّاعة كرهاً، فإِنَّ الله تعالى عليم بالسَّرائر، ولا يرضى إِلاَّ الإِخلاص. وقيل معناه: لا يُحمل الإِنسان على أَمر مكروه فى الحقيقة ممَّا يكلِّفهم الله، بل يُحملون على نعم الأَبد. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "عجِب ربُّك من قوم يُقادون إِلى الجنَّة بالسّلاسل". وقيل: الدّين هنا بمعنى الجزاء، أَى أَنه ليس بمكره على الجزاءِ، بل يفعل ما يشاءُ بمن يشاءُ كما يشاءُ.
وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} قيل: من فى السّماوات طوعاً، ومن فى الأَرض كرهاً، أَى الحجة أَكرهتهم وأَلجأَتهم، وليس هذا من الكره المذموم. وقيل معناه: أَسلم المؤمنون طوعاً والكافرون كرهاً. وقال قتادة: أَسلم المؤمنون له طوعاً والكافرون كرهاً عند الموت حيث قال: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} وقيل: عنى بالكره من قوتل وألجئ إِلى أَن يؤمن. قال أَبو العالية ومجاهد:(4/347)
إِنّ كلاًّ أَقرَّ بخلقه إِياهم وإِنْ أَشركوا معه، كقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} . وقال ابن عباس: أَسلموا بأَحوالهم المنبئة عنهم، وإِن كفر بعضهم بمقالتهم، ذلك هو الإِسلام فى الذَّرْءِ الأَوّل حيث قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، وذلك هو دلائلهم الَّتى فُطِرُوا عليها من العقل المقتضى لأَن يسلموا، وإِلى هذا أَشار بقوله: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} .
وقال بعض المحقِّقين: من أَسلم طوعاً هو الذى طالع المثيب والمعاقِب، لا الثواب والعقاب فأَسلم له، ومن أَسلم كرها هو الذى طالع الثواب والعقاب، فإِنه أَسلم رهبة ورغبة. ونحو هذه الآية: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} وقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أَى كُلْفة ومشقَّة، وقوله: {ولاكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أَى لم يُرِد. والله أَعلم.(4/348)
بصيرة فى كسب
الكَسْب: طَلَبُ الرزق. وكَسَبَهُ: جمعه. والكِسب - بالكسر - لغة فصيحة، والفتح الفُصحى، تقول منه: كسبت شيئاً. وفلان طيّب الكسب والمكسَب والمكتسَب والمكسِبة - مثال المغفرة - والكِسبة مثال الجِلسة. وكسبت أَهلى خيراً، وكسبت الرجل مالاً فكسبه. وهذا ممّا جاءَ على فَعَلته ففَعَلَ. وقال ثعلب: كلّ الناس يقولون: كَسَبَكَ فلان خيراً، إِلاَّ ابن الأَعرابىّ فإِنه يقول: أَكسبك فلان خيراً.
وفى الحديث الصحيح من قول خديجة: "إِنَّك لتصل الرّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعْدُومَ". هكذا يروونه. والصّواب وتكسب المُعْدِم أَى تعطى العائل وتُرفده. وتكسب بفتح التاءِ أَفصح من ضمها.
والكسب وإِن كان فى الأَصل ما يتحرَّاه الإِنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ككسب المال فإِنه قد يستعمل فيما يظنّ الإِنسان أَنَّه يجلب منفعة ثمّ يستجلب به مضرّة. فالكسب يقال فيما أَخذه لنفسه ولغيره، والاكتساب / لا يقال إِلاَّ فيما استفاده لنفسه. وكلّ اكتساب كسب، وليس كلّ كسب اكتساباً. وقوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أَى جمعتم، وفى الحديث: "إِن أَطيب ما يأْكل الرّجل من كسبه، وإِن ولده من كسبه".(4/349)
وقد ورد فى القرآن فى فعل الصّالحات والسيِّئات. فمما استعمل فى الصّالحات قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً} ، وممّا استعمل فى العكس: {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} . وقوله تعالى: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} متناوِل لهما.
والاكتساب قد ورد فيهما أَيضاً، ففى الصالحات قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} . وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} قيل: خُصَّ الكسب هاهنا بالصّالح، والاكتساب بالسّيىء. وقيل: عنى بالكسب ما يتحرّاه من المكاسب الأُخرويّة، وبالاكتساب ما يتحرّاه من المكاسب الدّنيوية. وقيل: عنى بالكسب ما يفعله الإِنسان من فعل خير، وجلب منفعة إِلى غيره من حيث ما يجوز، والاكتساب ما يحصله لنفسه من نفع يجوز تناوله. فنبّه على أَنَّ ما يفعله الإِنسان لغيره من نفع يوصّله إِليه فله الثواب، وأَن ما يحصّله لنفسه وإِن كان من حيث يجوز فقلَّما ينفكّ من أَن يكون عليه؛ إِشارة إِلى ما قيل: ومن أَراد الدّنيا فليوطِّن نفسه على المصائب.(4/350)
بصيرة فى كسف وكسل وكسا
الكِسْفة - بالكسر -: القطعة، يقال: أَعطنى كِسْفة من ثوبك، والجمع: كِسَف وكِسْف، ومنه قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} و (كِسْفًا) ، قرأَ هاهنا بفتح السّين أَبو جعفر ونافع وأَبو بكر وابن ذكوان، وفى الرّوم بالإِسكان أَبو جعفر وابن ذكوان، وقرأَ بالفتح إِلاَّ فى الطور حفص. فمن قرأَ مثقلاَّ جعله جمع كِسْفة كفِلْقة وفِلَق، وهى القطعة والجانب. ومن قرأَ مخفَّفًا فهو على التوحيد، وجمعه: أَكساف وكُسُوف، وكأَنه قال: يُسقطها طَبَقًا علينا، مِن كسفت الشىءَ إِذا غَطَّيْته. قال أَبو زيد: كسفت الشىء أَكسِفه كَسْفاً: إِذا قطعته. وكسف عرقوبَه: عَرْقَبه قال:
وتكسِف عرقوبَ الجواد بِمخْذَمِ
وكَسَفَت الشمس تكسِف كسوفاً، وكسفها الله، يتعدّى ولا يتعدى، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز:
فالشمسُ كاسفةٌ ليست بطالعة ... تبكى عليك نجومَ اللَّيل والقمرا
هكذا الرّواية أَى أَنَّ الشّمس كاسفة تبكى عليك الدهر. والنحاة يروونه مغيّرا وهو.
الشمس طالعة ليس بكاسفة(4/351)
أَى ليست تكسف ضوءَ النجوم مع طلوعها لقلَّة ضوئها وبكائها عليك. وكذلك كَسَف القمرُ؛ إِلاَّ أَن الأَجود أَن يقال: خَسَف القمرُ. وقال الليث: بعض النَّاس يقول: انكسفت الشمس وهو خطأ. قال الأَزهرى: ليس ذلك بخطإٍ؛ لما رَوَى جابر رضى الله عنه: انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
الكسل: التثاقل عمَّا لا ينبغى، والفتور فيه. كَسِل - كفرح: فهو كَسِلٌ وكسلانٌ. والجمع كسالَى - مثلثه - وكَسْلى. وهى كَسِلة وكَسْلَى وكَسْلانةٌ وكَسُول ومِكسال. والكسول والمكسال: المرأَة التى لا تكاد تبرح من مجلسها، مَدْح. وقد أَكسله الأَمر. ومن كلام بعضهم: / الكسالة مَجلَبَة للفشل، مُبطلة للعمل، مُخيّبة للأَمل، ولهذا قيل فى المثل: من اختار الكسّل، ما اشتَار العسل. قال تعالى: {إِلاَّ وَهُمْ كسالى} .
الكُسوة والكِسوة - بالضمّ والكسر - اللّباس، والجمع: كُساً وكِسَاء. وكَسِىَ - كرضى - واكتسى: لبسها. وكساه: أَلبسه. وكساه الثَّوب: أَلبسه إِيَّاه، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} .
والكَسَاء - بالفتح والمد - المجد والشرف والرّفعة. وهو أَكسى منه: أَكثر اكتساء، أَو أَكثر إِعطاء للكُسوة. وكاساه: فاخره.(4/352)
بصيرة فى كشط
الكَشْط: رفعك الشىءَ عن شىء قد غطَّاه وغشَّاه من فوقه؛ كما يُكشط الجِلد عن الجَزُور. وسُمِّى الجِلد كِشاطاً بعد ما يُكشط، ثم ربَّما غُطّى [به] عليها فيقول القائل: ارفع عنها كِشَاطها لأَنْظُر إِلى لحمها. يقال هذا فى الجزور خاصّة.
وقوله تعالى: {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ} أَى قُلعت كما يُقلع السقف. ويقال: كَشَطت الجُلّ عن ظهر الفرس وكشطته: إِذا كشفتَه. قال ابن عرفة: يكشط السَّماءَ كما يُكشط الغِطاءُ عن الشىء.(4/353)
بصيرة فى كشف
الكَشْف والكاشفة: الإِظهار. والكاشفة من المصادر الَّتى جاءَت على فاعلة كالعافية والكاذبة، قال الله تعالى: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} أَى كَشْف وإِظهار. وقال اللَّيث: الكشْف: رفعك شيئاً عمَّا يواريه ويغطِّيه. والتكشيف: مبالغة الكشف. وقال ابن دريد: كشفت فلاناً عن كذا وكذا: إِذا أَكرهته على إِظهاره. والتكشُّف: الظُّهور. وتكشَّف البرق: إِذا ملأَ السَّماءَ. وانكشف: مطاوع الكشف. واستكشف عن الشىءِ: سَأَل أَن يُكشف له عنه. وكاشفه بالعداوة: باداه بها، ويقال: لو تكاشفتم ما تدافنتم، أَى لو انكشف عيب بعضكم لبعض. واكتشفت المرأَة لزوجها: بالغت فى التكشُّف قاله ابن الاعرابىّ، وأَنشد:
واكتشفت لِناشىءٍ دَمَكْمَكِ ... عن وارمٍ أَكظارُه عضنَّكِ
والمكاشفة فى اصطلاح الصُّوفية: مهاداة السرّ بين متباطنين، أَى المكاشفة إِطلاع أَحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن سرّه وأَمره. ويعنون بالمتباطنين باطن المكاشِف والمكاشَف، فيحمل كل منهما سرّه إِلى الآخر، كما يحمل إِليه هديَّته، فيسرى سرّ كل منهما إِلى الآخر. وإِذا بلغ العبد فى مقام المعرفة إِلى حد كأَنه يطَّلع إِلى ما اتصف به الرب سبحانه من(4/354)
صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأَحسَّت روحه بالقرب الخاصّ الذى ليس كالقرب المحسوس، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه - فإِنَّ حجابه هو نفسه، وقد رفع الله عنه سبحانه ذلك الحجاب بحوله وقوته - أَفضى القلب والروح حينئذ إِلى الرَّب، فصار بعنده كأَنَّه يراه. فإِذا تحقَّق بذلك، وارتفع عنه حجاب النفس، وانقشع عنه ضياؤها ودخانها، وكُشطت عنه سُحُبها وغيومها، فهنالك يقال له:
بَدَا لك سرّ طال عنك اكتِتامُهُ ... ولاحَ صَباحٌ كنت أَنت ظَلامُهُ
فأَنت حِجابُ القَلْبِ عن سرّ غَيْبه ... ولَوْلاك لم يُطبَعْ عَلَيْكَ خِتامُهُ
فإِن غبْتَ عنه حَلّ فيه وطنَّبت ... على منكب الكَشْفِ المصُونِ خيامُه
وجاءَ حديثٌ لا يُمَلُّ حديثه ... ويُنهَى إِلينا نثره ونِظامُهُ
إِذا ذكَرَتهُ النفس زال عَناؤها ... وزال عن القلْبِ الكَئِيب قَتَامُه
والمكاشفة الصحيحة المستديمة عبارة عن علوم يحدثها الرب - تعالى - فى قلب العبد، ويُطلعه بها على أُمور تخفى على غيره. وقد يُواليها / سبحانه وتعالى، وقد يُمسكها عنه بالغفلة عنها، ويواريها عنه بالغَيْن الَّذى يغشى على قلبه، وهو أَرَقّ الحُجُب، أَو بالغَيمْ وهو أَغلظ منه، أَو بالران وهو أَشدّها. فالأَوّل يقع للأَنبياءِ، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّه لَيُغَان على قلبى، وإِنِّى لأَستغفر الله أَكثر من سبعين مرَّة". والثانى يكون للمؤمنين. والثالث لمن غلبت عليه الشهوة. قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ(4/355)
على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ، قال ابن عباس وغيره: هو الذنب بعد الذنب يغطِّى القلب، حتى يصير كالرَّان عليه.
والكشف الصَّحيح أَن يعرف الحقَّ الذى بعث الله به رسله وأَنزل به كتبه معاينة لقلبه، ويتجرد إِرادة القلب له وجودًا وعدمًا. هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح وكلٌّ يدَّعى هذا.
وكلٌّ يدَّعون وصال ليلى ... ولكن لا تُقِرَّ لهم بذاكا(4/356)
بصيرة فى كظم وكعب
كَظَم غيظه يكظِمه كَظْما: ردّه وحبسه، قال تعالى: {والكاظمين الغيظ} . وكظم الباب: أَغلقه. وكظم النَّهر: سدَّه. ورجل كَظِيم ومكظوم: مكروب. والكَظَم - بالتحريك - الحَلْق، والفم، ومَخْرج النَّفَس. والكُظوم السّكوت. وكَظَم فلان: حبس نَفَسه، قال تعالى: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، ومنه كَظَم البعيرُ: ترك اجتراره. والكِظَامة: فم الوادى، وبئر جنب بئر بينهما مجرى فى بطن الأَرض، كالكَظِيمة، والحَلْقة الَّتى تُجمع فيها خيوط الميزان.
الكَعبة: البيت الحرام، شرّفها الله تعالى وأَعادنى إِلى جوارها عاجلاً. والكَعب: العظم النَّاشز عند ملتفى الساق والقدم، وأَنكر الأَصمعىّ قول الناس إِنها فى ظهر القدم. وأَعْلىَ اللهُ كَعْبَه، أَى أَعْلَى جَدَّه، وقيل: أَى أَعلَى الله شَرَفَه الثابت، وأَصله من كَعْبِ القناة، كما يُقال رفع الله أَعلامَ مَجْدِه. وقيل: هو من كَعْب السَّاق؛ فإِن الإِنسان متى كان قائما فَكَعْبُه عالٍ، فإِذا خرَّ أَو انجدل أَو انتكس زال علوّ كعبه.
وكَعَبت الجاريةُ تكعُب كُعُوبا وكَعَابة، مثال ثَقَبَتْ تَثْقُب ثُقوبا وثَقَابة: إِذا بدا ثدْيُها، فهى كاعب، وثَدْىٌ كاعب أَيضاً.
والكُعْبة بالضمّ: عُذْرة الجارية. قال:
أَرَكَبٌ تَمَّ وتمَّت رَبَّتُهْ ... قد كان مختوماً ففُضَّت كُعبته(4/357)
بصيرة فى كف
الكَفّ: واحدة الأَكف، والكفوف والكُفّ بالضمّ، وهى ما يُقبض بها ويُبسط. ويقال: أَكرم النَّاسِ مَن فكَّ كفَّه، وكفَّ فكَّه. قال تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} إِشارة إِلى حال الندامة وما يتعاطاه فى حال ندمه.
وتقول: جاءَ الناس كافَّة، أَى جاءُوا كلُّهم. ولا يدخل هذه اللفظة الأَلفُ واللام، ولا تُثَنَّى ولا تجمع ولا تضاف، لا يقال جاءَت الكافَّة، ولا لقيت كافَّة النَّاس. وأَمَّا قول عبد الله بن رَوَاحة الأَنصارىّ رضى الله عنه.
فسِرنا إِليهم كافَةً فى رحالهم ... جميعاً علينا البَيض لا نتخشَّع
فإِنما خفَّفها ضرورة، لأَنه لا يصلح الجمع بين الساكنين. وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} ، قيل معناه: كافِّين لهم يقاتلونكم كافَّين لكم. وقيل معناه: جماعة، وذلك أَن الجماعة يقال لهم: الكافّة، كما يقال لهم: الوَزَعة.
وكفَّ الإِناءَ: ملأَهُ مَلأ مفرطاً، والجُرْحَ: عصبه بخِرقة.(4/358)
وعَيْبة مكفوفة، أَى مُشْرجة مشدودة. وفى كتاب / النبىّ فى صلح الحديبية لأَهل مكَّة: "لا إِغلال ولا إِسلال، وإِنَّ بينهم عَيْبة مكفوفة"، مُثِّل بها الذمة المحفوظة التى لا تُنكث. وقال أَبو سعيد: معناه: أَن يكون الشرّ مكفوفاً بينهم، كما يُكفُّ العِيَاب إِذا أُشرِجت على ما فيها من المتاع؛ كذلك التى كانت بينهم من الذُحُول قد اصطلحوا على أَلاَّ ينشروها، بل يتكافُّون عنها، كأَنهم قد جعلوها فى وعاءٍ وأَشرجوا عليها.(4/359)
بصيرة فى كفت
كَفَتُّ الشىءَ أَكفِته - بالكسر - كَفْتا: إِذا ضممته إِلى نفسك، يقال: اللهمّ اكفته إِليك. وفى الحديث الصحيح: "يقول الله تعالى للكرام الكاتبين: إِذا مرض عبدى فاكتبوا له مثل ما كان يعمل فى صحَّته حتى أُعافيه أَو أَكفِته" وفى الحديث الآخَر: "واكفتوا صبيانكم". وكفته عن وجهه صرفه. وكَفَتَ: أَسرع. وكفت: ساق سوقاً شديداً. ورجل كَفْت وكَفِت وكَفِيت سريع. ووقع فى النَّاس كَفْت: موت وضمّ إِلى القبر. والكِفَات: الطيران السريع، والكِفَات: الموضع الذى يُكفت فيه شىء أَى يضمّ. وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} أَى ذات كَفْت، أَى ضمّ وجمع، بِضمِّهم أَحياء على ظهورها وأَمواتا فى بطونها. وكَفْتَهُ، خُصَّ بقيع الغَرْقَد من المدينة النبوية على ساكنها السلام بأَن سُمّى بها لأَنه لا يبقى من الإِنسان إِذا دُفن فيها شىء من شعر ولا بشر ولا ضرس ولا عظم إِلا ذهب، وذلك لأَنها سبِخة فلا تلبث أَن تأكل ما يدفن فيها. كأَنه يضمّ إِلى بطنها كلّ ذلك.
وفى الحديث: "حُبِّب إِلىّ من دنياكم الطيبُ والنساءُ، ورُزقت الكَفِيت"، أَى ما أَكفت به معيشتى أَى أَضمّها. وقيل: أَى رُزقت القوّة على الجماع؛ وقيل: الكَفِيت: قِدْر أُنزلت من السَّماءِ فأَكَل منها وقوى على الجماع. ونزول القِدْر لم يصح عند أَهل الحديث.(4/360)
بصيرة فى كفر
كَفَر الشىءَ وكفَّره: غطَّاه، يقال: كفر السّحابُ السّماءَ، وكَفَر المتاعَ فى الوعاء، وكَفَر الليلُ بظلامه. وليل كافر. ولبِس كافرَ الدُّروع، وهو ثوب يلبس فوقها. وكفرت الريحُ الرسْمَ، والفَلاَّحُ الحَبَّ، ومنه قيل للزُّراع الكُفَّار. وفارس مكفَّر ومتكفِّر. وكفَّر نفسه بالسّلاح. قال ابن مفرّغ:
حَمَى جارَهُ عَمْرُو بن عَمْرِو بن مَرْثد ... بأَلْفَىْ كَمِىٍّ فى السلاح مُكَفَّرِ
وتكفَّرْ بثوبك: اشتمِل به. وطائر مكفَّر: مغطَّى بالريش، قال:
فأُبت إِلى قوم تُريح نساؤهم ... عليها ابنَ عِرْس والأِوزّ المكفَّرا
وغابت الشمس فى الكافر، أَى البحر. ورجل مكفَّر: محسان لا تُشكر نعمته. وكَفَّر العِلجُ للملك تكفيرا: أَومأ له بالسّجود. وخرج نَوْرُ العِنب من كافوره وكُفُرَّاه: من طَلْعه. والكَفْر: القرية، وفى الحديث: "أَهل الكُفُور أَهل القبور. وليُفتحنَّ الشَّام كَفْرًا كَفْرًا".
وأَكفره وكفَّره: نسبه إِلى الكُفر. وكفَّر اللهُ خطاياك.
وأَعظم الكُفْر جحود الوحدانيّة أَو النبوَّة أَو الشريعة، والكافر متعارَف مطلقا فيمن يجحد الجميع. والكُفْران فى جحود النِّعمة أَكثر استعمالاً، والكُفْر فى الدِّين، والكُفُور فيهما. ويقال فيهما: كَفَر فهو كافر. قال(4/361)
تعالى فى الكفران: {ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} ، وقوله: {فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين} ، أَى تحرَّيت كُفران نعمتى.
ولمَّا كان الكفران جحود النعمة صار يستعمل فى الجحود: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أَى جاحد وساتر.
وقد يقال: كَفَرَ لمن أَضلَّ بالشريعة، وترك ما لزمه من شكر الله تعالى عليه، قال تعالى: / {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ، ويدلّ على ذلك مقابلته بقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} . وقوله: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أَى لا تكونوا أَئمة فى الكفر فيقتدى بكم. وقال: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولائك هُمُ الفاسقون} ، وعنى بالكافر الساتر للحقّ، فلذلك جعله فاسقاً، ومعلوم أَن الكفر المطلق هو أَعظم من الفسق، ومعناه: من جحد حقَّ الله فقد فسق عن أَمر ربه بظلمه. ولمَّا جُعل كلُّ فعل محمود من الإِيمان جعل كلُّ مذموم من الكفر. وقال فى السّحر: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولاكن الشياطين كَفَرُواْ} ، وقال: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} إِلى قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} .
والكَفُور: المبالِغ فى كفران النعمة، قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} فإِن قيل: كيف وَصَف الإِنسان بالكَفُور هاهنا، ولم يرض حتى أَدخل عليه (إِنَّ) وكل ذلك تأكيد، وقال فى موضع آخر: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ(4/362)
الكفر والفسوق} ؟ قيل: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} تنبيه على ما ينطوى عليه الإِنسان من كفران النعمة، وقلَّة ما يقوم بأَداءِ الشكر، وعلى هذا قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} ، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} . وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} تنبيه أَنَّه عرَّفه الطَّريقين؛ كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} فمِن سالك سبيل الشكر، ومن سالك سبيل الكفر.
والكَفَّار أَبلغ من الكَفُور، كقوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} . وقد أَجرى الكَفَّار مُجرى الكَفُور فى قوله: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} . والكُفَّار فى جمع الكافر المضادّ للمؤْمن أَكثر استعمالاً، كقوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} . والكَفَرَة فى جمع كافر النعمة أَكثر استعمالاً؛ كقوله: {أولائك هُمُ الكفرة الفجرة} ، [أَلا ترى أَنه وَصف الكفرة بالفجرة] ، والفجرة قد يقال للفسّاقِ من المسلمين. وقوله: {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أَى الأَنبياء ومن يجرى مَجراهم ممّن بذلوا النصح فى دين الله فلم يُقبل منهم.
وقوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} ، قيل عُنى بقوله آمنوا أَنهم آمنوا بموسى عليه السلام، (ثم كفروا) بمن بعده. وقيل: آمنوا ثم كفروا بموسى إِذ لم يؤْمنوا بغيره. قيل: هو ما قال:(4/363)
{وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} ، ولم يرد أَنهم آمنوا مرّتين، بل ذلك إِشارة إِلى أَحوال كثيرة. وقيل: كما يصعد الإِنسان فى الفضائل فى ثلاث درجات، يتسكع فى الرذائل فى ثلاث دَرَكات، فالآية إِشارة إِلى ذلك.
ويقال: كفر فلان: إِذا اعتقد الكفر، ويقال: كفر: إِذا أَظهر الكفر وإِن لم يعتقد، لذلك قال: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} . ويقال: كفر فلان بالشيطان: إِذا كفر بسببه. وقد يقال ذلك أَيضا إِذا آمن وخالف الشيطان، كقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله} . وقد يعبر عن التبرىّ بالكفر، نحو: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} .
وقوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} ، أَى أَعجب الزُّرَّاعَ بدلالة قوله: {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} ، ولأَن الكافر لا اختصاص له بذلك. وقيل: عنى الكُفَّار، وخصّهم لكونهم معجَبين بالدنيا وزخارفها، وراكنين إِليها.
والكَفَّارة: ما يغطّى الإِثم، ومنه كفَّارة اليمين والقتل والظهار. والتكفير: ستر الذنب وتغطيته، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا(4/364)
لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أَى سترناها حتى تصير كأَن لم تكن، أَو يكون المعنى نُذْهبها ونُزِيلها، من باب التمريض لإِزالة المرض، والتقْذية لإِذهاب / القَذَى، وإِلى هذا يشير قوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} .
والكافور والقافور: طِيب أَبيض يوجد فى أَجواف القَصَب المعروف ببلاد الهند، وهو أَنواع، قال تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} .(4/365)
بصيرة فى كفل
الكفالة: الضَّمان. ويقال: هو كافيه وكافله، وهو يكفينى ويكفُلنى: يعولنى وينفق علىّ. وأَكفلته إِيّاه وكفَّلته، قال تعالى: {أَكْفِلْنِيهَا} . وهو كفيل بنفسه وبماله، وكَفَل عنه لغريمه بالمال، وتكفَّل به. وهو كِفْل بيِّن الكُفُولة: لا يثبت على ظهر الدّابّة. والكافل: العائل، والضامن، والذى لا يأْكل أَو يصلُ الصّيام، والجمع: كُفَّلٌ وكُفَلاءُ. كفَل بالرجل يكفُل - كنصر ينصر - وكَفَل يكفِل - كضرب يضرب - وكفُل يكفُل - ككرم يكرم - وكفِل يكفَل - كعلم يعلم - كَفْلا وكفولة، وكَفَالة. وتكفَّل. وقال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أَى كفَّلَها الله زكريا. ومن خَفَّف جعل الفعل لزكريّا، والمعنى: تضمّنها.
والكِفْل: الحظّ، والنصيب الذى فيه الكفاية، كأَنَّه تكفل بأَمره. والكِفْل أَيضاً: الضِعْف، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} ، قيل: أَى كِفلين من نعمته فى الدّنيا والآخرة، وهما المرغوب إِلى الله فيهما بقوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} . وقيل: لم يعن بقوله (كِفْلَيْنِ) نعمتين اثنتين، ولا ضعفين، بل أَراد النعمة المتوالية المتكفَّلة بكفالته، ويكون تثنيته على حدّ ما ذكر فى لبَّيك وسعديك.(4/366)
وقوله: {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} ، فإِن الكِفْل هاهنا ليس بمعنى الأَوّل بل هو مستعار من الكِفل وهو الشىءُ الرّدىءُ، واشتقاقه من الكَفَل؛ وهو أَن الكَفَل لمّا كان مَرْكبًا ينبو بِراكبِه صار متعارفاً فى كل شدّة، كالسِيسَاء، وهو العظم الناتئ من ظهر الحمار، فيقال: لأَحملنَّك على الكَفَل وعلى السِيساءِ. ومعنى الآية: مَن ينضمّ إِلى غيره معيناً له فى فَعْلَة حسنة يكن له منها نصيب، ومن ينضمّ إِلى غيره معيناً له فى فَعلة سيّئة تناله منها شدّة. وقيل: الكِفْل: الكفيل. ونبّه أَنَّ من تحرّى شرًّا فله من فعله كفيل يسلِّمه، كما قيل: من ظلم فقد أَقام كفيلاً بظلمه، تنبيهاً أَنه لا يمكنه التخلّص من عقوبته.(4/367)
بصيرة فى كفو
الكُفْءُ: المِثل فى المنزلة والقدر. وفيه لغات: الكُفْءُ بالضمّ، والكُفُؤ بضمتين، والكِفْءُ بالكسر، والكُفُوُ بالواو وبغير همز، والكُفَى كهُدَى، والكِفَاء مثال كساءٍ. وهو فى الأَصل مصدر. وقرأَ سليمان بن علىّ الهاشمىّ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كِفَاءً أَحَدٌ} بالكسر والهمز.
والكِفاية: ما فيه سَدّ الخَلَّة. كفاه مئُونته يكفيه كِفاية. وكفاك الشىءُ، واكتفيت به. واستكفيتُه الشىءَ فكفانيه. ورجل كافٍ وكفِىّ، قال الله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} ، وقال: {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} ، وقال: {وكفى بالله شَهِيداً} والباءُ زائدة. وقيل معناه: اكتف بالله شهيداً.
وكافيك من رجل: وكَفْيك من رجل، وكِفِيُك، وكُفْيُك مثلَّثه الكاف أَى حسبك.
والكُفْية بالضم: القوت والجمع، الكَفىُّ. والكَفِىُّ كغنىّ: المطر. وتكفىّ النبات: طال.(4/368)
بصيرة فى الكل
الكُلّ اسم لجميع الأَجزاءِ، يستوى فيه الذكر والأُنثى، وقد يقال كلّ رجل وكُلَّة امرأَة. وقد جاءَ كُلّ بمعنى بعض، فهو من الأَضداد، ولا يدخلهما (أَلْ) فى فصيح الكلام.
وجمع كُلّ لأَجزاءِ الشىءِ على ضربين: أَحدهما: الجامع لذات الشىءِ وأَحواله المختصّة به، ويفيد معنى التمام، نحو قوله تعالى: {وَلاَ / تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} ؛ والثانى: الجامع للذوات.
وقيل: كلٌّ لاستغراق أَفراد المنكَّر، نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} ؛ ولاستغراق المعرّف المجموع، نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة} ؛ ولاستغراق أَجزاءِ المفرد المعَرَّف، نحو: كُلّ زيد حسن. فإِذا قلت: أَكلت كلّ رغيف لزيد كانت لعموم الأَفراد. فإِن أَضفت الرّغيف إلى زيد صارت لعموم أَجزاءِ فرد واحد، ومن هنا وجب فى قراءَة غير أَبى عمرو وابن ذَكْوان: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} بترك تنوين قلب ثم تقدير كلّ بعد (قلب) ليعمّ أَفراد القلوب، كما عمّ كلّ أَجزاءِ القلب.
وترد كُلَّ باعتبار كلّ واحد ممّا قبلها وما بعدها على ثلاثة أَوجه:(4/369)
فأَمَّا أَوجهها باعتبار ما قبلها:
فأَحدها: أَن يكون نعتاً لنكرة أَو معرفة، فيدلّ على كماله؛ ويجب إِضافته إِلى اسم ظاهر يماثله لفظاً ومعنى، نحو: أَطعمنا شاة كُلَّ شاة، وقوله:
وإِن الذى حانت بفَلْج دماؤُهم ... هم القومُ كلّ القوم يا أُمَّ خالد
والثانى: أَن يكون توكيدًا لمعرفة، وفائدته العموم، ويجب إِضافتها إِلى اسم مضمر راجع إِلى المؤَكَّد، نحو قوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ} وقد يخلفه الظاهر، كقوله:
كم قد ذكرتكِ لو أُجزَى بذكركم ... يا أَشبه الناس كلِّ الناس بالقمر
وأَجاز الفراءُ والزمخشرىّ أَن تقطع كلّ المؤَكَّد بها عن الإِضافة لفظاً؛ تمسّكاً بقراءَة بعضهم: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} .
والثالث: أَلاَّ تكون تابعة بل تالية للعوامل، فتقع مضافة إِلى الظاهر، نحو: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ؛ وغير مضافة نحو: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} .
وأَمَّا أَوجهها باعتبار ما بعدها فثلاثة:
الأَول: أَن تضاف إِلى ظاهر؛ وحكمها أَن يعمل فيها جميع العوامل نحو: أَكرمت كلّ بنى تميم.(4/370)
الثانى: أَن تضاف إِلى ضمير محذوف. ومقتضى كلام النحويين أَن حكمها كالتى قبلها؛ ومقتضى كلام ابن جِنِّى خلافه، وأَنها لا يسبقها عامل فى اللَّفظ.
الثالث: أَن تضاف إِلى ضمير ملفوظ به. وحكمها أَلاَّ يعمل فيها غالباً إِلاَّ الابتداء، نحو: {إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فى مَنْ رفع كَلاًّ، ونحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} ، لأَن الابتداء عامل معنوىّ. ومن القليل قول الشاعر:
فيصدر عنها كُلُّهَا وهو ناهل
واعلم أَن معنى كلّ بحسب ما يضاف إِليه، فإِن كانت مضافة إِلى نكرة وجب مراعاة معناها، فلذلك جاءَ الضمير مفردًا مذكَّرا فى نحو قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} ، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ} ، وقول أَبى بكر وكعب ولَبيد:
كلُّ امرِىءٍ مُصَبِّح فى أَهْلِهِ ... والموْت أَدْنى من شِرَاكِ نَعْلِهِ
* * *
كلّ ابن أُنْثى وإِنْ طالت سلامَتُه ... يومًا على آلةٍ حَدْباءَ مَحْمُول
* * *
أَلا كلّ شىءٍ ما خلا اللهَ بَاطِل ... وكُلُّ نَعِيم لا محالَةَ زائلُ
وقال السموءَل بن عادياء:(4/371)
إِذا المرءُ لم يَدْنَس من اللُؤْم عِرضُه ... فكلُّ رداءٍ يرتديه جميلُ
وإِن كانت مضافة إِلى معرفة فقالوا: يجوز مراعاة لفظها، ومراعاة معناها، نحو: كلّهم قائمون أَو قائم. وقد اجتمعا فى قوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمان عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} . قال ابن هشام: الصواب أَن الضمير لا يعود إِليها من خبرها إِلاَّ مفردًا مذكرًا على لفظها، نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} الآية. وقوله تعالى فيما يرويه عنه نبيّه صلَّى الله عليه وسلم: "يا عبادى / كلكم جائِع إِلاَّ من أَطعمته" الحديث بطوله، وقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ الناس يَغْدُو فبائع نفسه فمعتقها أَو موبقها"، "كلكم رَاعٍ وكُلكم مسئول عن رعيّته"، "وكلُّنا لك عَبْد"، {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولائك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وإِن قُطِعت عن الإِضافة لفظاً فالمقدّر قد يكون مفردًا نكرةً فيجب الإِفراد، ويكون جمعاً معرّفاً فيجب الجمع؛ تنبيهاً على حال المحذوف فيهما. فالأَول نحو: {كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} ، {كُلٌّ آمَنَ بالله} ، {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} ، إِذ التقدير كلّ أَحد. والثانى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} ، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} ، {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} .(4/372)
وقال البيانيّون: إِذا وقعت كلٌّ فى حيّز النفى كان النفى موجّهاً إِلى إِلى الشمول خاصّة، وأَفاد مفهومُه ثبوتَ الفعل لبعض الأَفراد؛ كقولك: ما جاءَ كلّ القوم، ولم آخذ كلَّ الدراهم، وكُلُّ الدَّراهم لم آخذ،
وقوله:
ما كلّ رأْىِ الفتى يدعو إِلى رشد
وقوله: ما كلّ ما يتمنى المرءُ يدركه
وإِن وقع النفى فى حيّزها اقتضى السّلب عن كل فرد، كقوله صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو اليدين: أَنسيت أَم قَصُرت الصلاة: "كلُّ ذلك لم يكن". ومنه قول أَبى النجم:
قد أَصبحت أَمّ الخيار تدَّعِى * علىّ ذنباً كلُّه لم أَصنع
وأَمّا كُلّ فى نحو: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ} [فهى] منصوبة على الظَّرفيّة بالاتِّفاق، وناصبها الفعل الذى هو جواب فى المعنى، مثل (قالوا) فى الآية، وجاءَته المصدريّة من جهة (ما) ، فإِنها إِمّا أَن تكون اسما نكرة بمعنى وقت، أَو تكون حرفاً مصدريًّا والجملة بعده صلة؛ والأَصل: كل وقت رزْق، ثم عُبّر عن معنى المصدر بما. والله أَعلم.
والكلالة: الرجل لا والد له ولا ولد. وقيل: ما لم يكن من النسب لَحَّا، وقيل: الوراثة كلهم سوى الوالدين والأَولاد. وقيل: من تكلَّل نسبُه(4/373)
بنسبك، كابن العمّ وشبهه. وقيل: هى الإِخوة للأُمّ. وقيل: هى من العَصَبة مَن ورث معه الإِخوة للأُمّ. وقيل: هم بنو العمّ الأَباعد. وقال ابن عباس: هى اسم لما عدا الوالد. ورُوى أَن النبىّ صلى الله عليه وسلَّم سئل عن الكلالة فقال: "من مات وليس له وَلَد ولا والد"، فجعله اسم الميّت، وهو صحيح أَيضاً؛ فإِن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعاً. وقيل: اسم لكلّ وارث..
والإِكليل: شِبه التاج، سمّى لإِطافته بالرأْس.
والكَلْكل والكَلْكَال: الصّدر. وقيل: ما بين التَرْقُوَتَين. وقيل: باطِن الزَوْر.(4/374)
بصيرة فى كلب
الكلْب: النَبَّاح المعروف. وربما وُصف به، والجمع: أَكْلُبٌ وكِلاَب، وكَلِيب، مثال عبد وعَبيد، وهو جمع عزيز. والأَكالب: جمع أَكلُب. وتصغير الكِلاب أُكيْلب بردّها إِلى أَقلّ الجمع، وهو أَكْلُب. والكلاَّب: صاحب الكلاب. قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} .
والكَلْب أَيضاً: نجم معروف. والكَلْب أَيضاً: سَير بين طرفى الأَدِيم إِذا خُرز. والكَلْب: أَوَّل زيادة الماء فى الوادى. والكَلْب: جديدة الرّحَى على رأْس القُطْب، وخشبة يُعمد بها الحائط. والكَلْب: الأَسد.
والكَلَب - بالتحريك -: الحِرص. وكلِبَ - كفرح -: اشتدَّ حرصه على طلب شىءِ. والكَلَب أَيضاً: الشدَّة من البَرْد.
والكَلْبُ الكلِب: الذى به كَلَب أَى شِبه جنون، فإِذا عَقَر إِنسانا كُلِب.
والمكلَّب - كمعظَّم -: المقيَّد الأَسير، قَلْب المكبَّل. والمكالبة: المشادّة، وكذلك التكالُب.(4/375)
بصيرة فى / كلف
الكلف محرّكة: الوَلُوع بالشىء. كلِفت بهذا الأَمر كَلَفا: أُولعت به. وكَلِف أَى جَشِم. والكَلُوف: الأَمر الشاقّ. وفى المثل: لا يكن حُبَّك كَلَفا ولا بغضك تَلَفا. والتكليف: الأَمر بما يشقّ على الإِنسان، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وتكلَّفت الشىءَ: تجشمته. والمتكلِّف: العِرِّيض لِما لا يعنيه. قال الله تعالى: {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَنا وأَتقياء أُمَّتى بُرآء من التكلُّف".
ويقال حملت الشىء تَكلفة: إِذا لم تُطقه إِلاَّ تكلُّفا. وقال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يَعِشْ ... ثمانين حولاً لا أَبا لَك يسأَم
يحتمل أَن يكون جمع تكلِفة: فزاد الياءَ لحاجته، وأَن يكون جميع التكليف. والكُلْفة - بالضمّ - ما تكَلَّفته من نائبة أَو حقّ. والكَلَف: شىء شبه السمسم يعلو الوجه.
والتكلُّف قد يكون محمودًا، وهو ما يتوخَّاه الإِنسان ليتوصَّل به إلى أَن يصير الفعل الذى يتعاطاه سهلاً عليه ويصير كِلفا به ومحبَّا له، ولهذا النظر استعمل التكليف فى تكلُّف العبادات؛ وقد يكون مذموماً وهو ما يتكلَّفه الإِنسان مراءَاة.(4/376)
بصيرة فى كلم
الكلام: القول أَو ما كان مكتفِياً بنفسه. والكَلِمة: اللفظة، والجمع: كَلِم، والكِلْمة بالكسر لغه فيها، والجمع: كِلَم ككِسَر. وكلَّمهُ تكليماً وكِلاَّماً. وتكلّم تكلُّماً وتِكِلاَّما: تحدَّث. وتكالماً: تحدَّثا. والكلمة: القصيدة.
وكلمة الله عيسى عليه السَّلام؛ لأَنه كان يُنتفع به وبكلامه، أَو لأَنه كان بكلمة (كُنْ) من غير أَب، أَو لاهتداءِ الناس به. والكلمة الباقية: كلمة التوحيد. ورجل تِكْلامة، وتِكِلاَّمة بالتشديد، وتِكْلام، وكَلْمانىّ كسَلْمانىّ، وكَلَمانىّ بالتحريك، وكِلِّمَانىّ بكسرتين والتشديد - ولاَ نظير له -: جيّد الكلام فصيحه. وقيل: رجل كِلِّمَانىّ، أَى كثير الكلام، والمرأَة كِلِّمَانيَّة.
والكَلْم: الجَرْح، والجمع: كُلُوم وكِلاَم. وكَلَمه يكلِمه، وكلَّمه: جرحه فهو مكلوم، وكليم، ومكلَّم، وهى كَلْمَى. وبهم كَلْم وكِلاَم وكُلُوم. وأَصل الكَلْم: التأْثير المدرَك بإِحدى الحاسّتين السمع والبصر.
والكَلاَم يقع على الأَلفاظ المنظومة، وعلى المعانى التى تحتها مجموعة؛ وعند النحاة يقع على الجزءِ منه، اسما كان أَو فعلا أَو أَداةً. وعند كثير من المتكلِّمين لا يقع إِلاَّ على الجملة المركَّبة المفيدة، وهو أَخصّ من القول؛ فإِن القول عندهم يقع على المفردات، والكلمة تقع على كل واحد من الأَنواع الثلاثة، وقد قيل بخلاف ذلك.(4/377)
وقوله تعالى: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} ، قيل هو قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} . وقال الحسن: هو وقوله: أَلم تخلقنى بيدك! أَلم تُسكنِّى جنَّتك؛ أَلم تُسجِد لى ملائكتك! أَلم تسبق رحْمتُك غضبك! أَرأَيت إِن تبتُ كنت مُعيدِى إِلى الجنَّة؛ قال: نعم. وقيل: هو الأَمانة المعروضة على السماوات والأَرض. وقوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قيل: هى الأَشياءُ التى امتحن الله بها إِبراهيم عليه السَّلام: من ذبح ابنه، والخِتان وغيرهما. وقوله لزكريَّا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} ، قيل: هى كلمة التوحيد، وقيل: كتاب الله، وقيل: يعنى به عيسى عليه السلام.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} ، فالكلمة هنا القضية، وكل قضية تُسَمَّى كلمة، سواء كان ذلك مقالا أَو فَعالا، ووصفها بالصدق لأَنه يقال: قول / صِدْق، وفعل صدق.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} إِشارة إِلى نحو قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، ونبّه بذلك على أَنه لا نسخ للشريعة بعد اليوم. وقيل: إِشارة إِلى ما قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "أَوّل ما خَلَق الله القَلَم، فقال له: اِجْرِ بما هو كائن إِلى يوم القيامة". وقيل: الكلمة هى القرآن. وعبرّ بلفظ الماضى تنبيهاً أَن ذلك فى حكم الكائن. وقيل: عنى بالكلمات الآيات والمعجزات، فنبَّه أَنَّ ما أرسل من الآيات تامّ وفيه بلاغ. وقوله:(4/378)
{لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} ردّ لقولهم: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} . وقيل: أَرادَ بكلمات ربّك أَحكامه، وبين أَنه شَرَعَ لعباده مافيه بلاغ.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ} هذه الكلمة قيل هو قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} . وقوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً} إِشارة إِلى ماسبق من حكمه الذى اقتضته كلمته، وأَنه لا تبديل لكلماته. وقوله: {وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ} أَى بحججه الَّتى جعلها لكم عليهم سلطاناً مبيناً، أَى حُجَّة قويَّة. وقوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} إِشارة إِلى ما قال: {فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} ، وذلك أَن الله تعالى كان قد قال: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} ، ثم قال هؤلاءِ المنافقون: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} وقصدهم تبديل كلام الله، فنبَّه على أَن هؤلاءِ لا يفعلون، وكيف يفعلون وقد علم الله منهم أَنهم لا يفعلون، وقد سبق بذلك حكمه.
ومكالمة الله تعالى العبد على ضربين: أَحدهما فى الدُّنيا، والثانى فى الآخرة؛ فما فى الدُّنيا فعلى ما نبَّه عليه بقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} الآية. وما فى الآخرة ثواب للمؤمنين وكرامة لهم تخفى عليهم كيفيَّته. ونبَّه أَن ذلك يحرم على الكافرين بقوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} . وأَمَّا قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ما من أَحد إِلاَّ سيكلِّمه ربَّه ليس بينه وبينه ترجمان"(4/379)
فلعلَّ المراد به فى بعض المواقف دون بعض، أَو المراد: ما من أَحد من المؤمنين.
وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} جمع كلمة، قيل: إِنهم كانوا يبدِّلُون الأَلفاظ ويغيرونها، وقيل: إِنَّ التحريف كان مِن جهة المعنى، وهو حمله على غير ما قُصد به واقتضاه، وهذا أَمثل القولين.
وقوله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} ، أَى لولا يكلِّمنا مواجهة، وذلك نحو قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} .
وأَعوذ بكلمات الله التامات، قيل: هى القرآن. وقوله: سبحان الله عدَدَ كلماته، أَى كلامه، وهو صفته وصفاته لا تنحصر بالعدد، فذكر العدد هنا مجاز بمعنى المبالغة فى الكثرة. وقيل: يحتمل عدد الأَذكار، أَو عدد الأُجُور على ذلك، ونصب (عددا) على المصدر.
وقوله: اسْتَحْلَلْتُم فروجهنَّ بكلمات الله، قيل: هى قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وقيل: هو إِباحة الله الزواج وإِذنه فيه.(4/380)
بصيرة فى كلا
وهى، عند سيبويه والخليل والمبرِّد والزجّاج وأَكثر نحاة البصرة، حرف معناه الرَّدع والزجر، لا معنى له سواه؛ حتى إِنهم يجيزون الوقف عليها أَبداً والابتداءَ بما بعدها، حتى قال بعضهم: إِذا سمعت / كَلاَّ فى سورة فاحكم بأَنها مكيَّة، لأَن فيها معنى التهديد والوعيد، وأَكثر ما نزل ذلك بمكَّة؛ لأَن أَكثر العتوّ كان بها. وفيه نظر؛ لأَن لزوم المكِّيّة إِنما يكون عن اختصاص العتوّ بها لا عن غلبته. ثم إِنه لا يظهر معنى الزجر فى كَلاَّ المسبوقة بنحو {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ، {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، وقول من قال: فيه ردع عن ترك الإِيمان بالتصوير فى أَىِّ صورة شاءَ الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن، فيه تعسف ظاهر. ثم إِن أَول ما نزل خمس آيات من أَول سورة العلق، ثم نزل: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} فجاءَت فى افتتاح الكلام. والوارد منها فى التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا كلها فى النصف الأَخير.
ورأى الكسائىّ وجماعة أَن معنى الردع ليس مستمرًّا فيها، فزادوا معنى ثانيا يصحّ عليه أَن يوقف دونها، ويبتدأ بها. ثم اختلفوا فى تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أَقوال: فقيل: بمعنى حقًّا، وقيل: بمعنى أَلاّ الاستفتاحية، وقيل: حرف جواب بمنزلة إِى ونَعَمْ، وحملُوا عليه: {كَلاَّ(4/381)
والقمر} ، فقالوا: معناه: إِى والقمر. وهذا المعنى لا يتأَتَّى فى آيتى المؤمنين والشعراء. وقول من قال بمعنى حقا لا يتأَتَّى فى نحو: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار} ، {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} ، لأَنَّ (إِنَّ) تكسر بعد أَلا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد حقَّا ولا بعد ما كان بمعناها، ولأَن تفسير حرف بحرف أَولى من تفسير حرف باسم.
وإِذا صلح الموضع للردع ولغيره جاز الوقف عليها والابتداء بها على اختلاف التقديرين. والأرجح حملها على الردع؛ لأَنه الغالب عليها، وذلك نحو: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمان عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ، {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} .
وقد يتعيَّن للردع أَو الاستفتاح نحو: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ} لأَنها لو كانت بمعنى حقًّا لما كُسرت همزة إِنَّ، ولو كانت بمعنى نعم لكانت للوعد بالرجوع، لأَنها بعد الطلب، كما يقال: أَكرم فلانا فتقول: نعم. ونحو: {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ، وذلك لكسرِ إِنَّ، ولأَنَّ نَعَمْ بعد الخبر للتصديق.
وقد يمتنع كونها للزجر والردع، نحو: {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ كَلاَّ والقمر} إِذ ليس قبلها ما يصحّ ردّه.(4/382)
وقرئ: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} بالتنوين، إِما على أَنّه مصدر كَلَّ إِذا أَعيا، أَى كَلُّوا فى دعواهم وانقطعوا، أَو من الكَلّ وهو الثِقْل أَى حَمَلُوا كَلاَّ. وجوّز الزمخشرىّ كونه حرفَ الردع نُوِّن كما فى (سَلاَسِلاً) ورُدّ عليه بأَنَّ (سلاسلا) اسم أَصله التنوين فرُدّ إِلى أَصله. ويصحّح تأْويل الزمخشرىّ قراءة من قرأَ: {والليل إِذَا يَسْرِ} بالتنوين إِذا الفعل ليس أَصله التنوين.
وقال ثعلب: كَلاَّ مركب من كاف التشبيه ولا النافية، وإِنما شدّدت لامها لتقوية المعنى ولدفع توهُّم بقاء معنى الكلمتين. وعند غيره بسيطة؛ كما ذكرنا. والله أَعلم.(4/383)
بصيرة فى كلأ وكلا وكلتا
كلأَه الله يَكْلَؤُه كِلاءَة مثل قرأَ قراءَة: حفظهُ. وأذهب فى كِلاءة الله أَى حفظه ونظره ومراقبته. والمادَّة موضوعة للدلالة على مراقبة ونظر، وعلى الثبات، قال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمان} أَى بدل الرحمن. والمُكَلأَّ والكَلاَّء: شاطئ النهر، قال سيبويه: هو فَعَّال مثال جَبَّار، والمعنى أَن الموضع يدفع الريح عن السفن ويحفظها. واكتلأَتْ عينى: إِذا لم تنم وسهرت. وحَذِرْت أَمرا واكتلأت منه: احترست. وكَلأَْتة كَلأْ: ضربته بالسوط. والكالئ: النسيئة. وبلغ اللهُ بك أَكلأ العمر أَى آخره وأَبعده. وكان الأَصمعىّ لا يهمز وينشد.
وإِذا تباشرك الهمو ... مُ فإِنَّه كال وناجز
أَى منها نسيئة ومنها ما هو نقد.
وكِلاَ وكلتا: مفردان لفظا مثنيان معنى، مضافان أَبدا لفظاً ومعنى إِلى كلمة واحدة مَعْرفه دالَّة على اثنين: إِمَّا بالحقيقة والتنصيص، نحو: {كِلْتَا الجنتين} ، ونحو: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} ؛ أَو بالحقيقة والاشتراك نحو: كلانا، فإِن (ن) مشتركة بين الاثنين والجماعة؛ أَو بالمجاز كقوله:
إِنَّ للخير وللشرِّ مدًى ... وكِلا ذلك وجه وقَبَلْ(4/384)
فإِن (ذلك) حقيقة فى الواحد، وأشير بها إِلى المثنى على معنى: وكِلاَ ما ذكر، على حدّ ما فى قوله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} وأَجاز: ابن الأَنبارىّ إِضافتها إِلى النكرة المختصَّة، نحو: كلا رجلين عندك محسنان؛ فإِن (رجلين) قد تخصَّصا بوصفهما بالظرف. وحكوا: كلتا جاريتين عندك مقطوعة يدها، أَى تاركة للغَزْل.
ويجوز مراعاة لفظ كلا وكلتا فى الإِفراد، نحو: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} ، ومراعاة معناهما وهو قليل. وقد اجتمعا فى قوله:
كلاهما حين جَدّ الجرى بينهما ... قد أَقلعا وكِلا أَنفيهما رابى
ويتعين مراعاة اللفظ فى نحو كلاهما محبّ لصاحبه؛ لأَن معناه: كل منهما.
وكلا وكلتا إِذا أَضيفا إِلى مضمر قلب [أَلفهما] فى النصب والجرّ ياءً، فتقول: رأَيت كليهما وكلتيهما، ومررت بكليهما وكلتيهما. وإِذا أضيفا إِلى ظاهر بقى أَلفهما على حاله فى النصب والجرّ.(4/385)
بصيرة فى كم
وهى عبارة عن العدد. ويستعمل فى باب الاستفهام، وينصب بعده الاسم الَّذى يميَّز به، نحو: كم رجلا ضربت. ويستعمل فى باب الخبر، ويجرّ بعده الاسم الذى يميَّز به، نحو كم رجل.
وهى على نوعين: خبريّة بمعْنى كثير، واستفهاميّة بمعنى أَىّ عدد. ويشتركان فى خمسة أُمور: الاسميَّة، والإِبهام، والافتقار إِلى التمييز، والبناء، ولزوم التصدير.
وأَمَّا قول بعضهم فى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أبدلت (أَنَّ) وصِلتها من (كم) فمردود بأَن عامل البدل هو عامل المبدل منه. فإِن قَدَّر عامل المبدل منه (يَرَوْا) فكم لها الصدر، فلا يعمل فيها ما قبلها. وإِنْ قدَّره (أَهلكنا) فلا تسلَّط له فى المعنى على البدل. والصواب أَن (كم مفعول لـ (أَهْلكنا) والجملة إِما معمولة لـ (يروا) على أَنه عُلّق عن العمل فى اللفظ، و (أَن) وصلتها مفعول لأَجله وإِمّا معترِضة بين (يَرَوا) وما سدّ مسدّ مفعوليه وهو: (أَنَّ) وصلتها.
وكذلك قول من قال [فى] {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} إِن (كم) فاعل مردود بأَن كم لها الصدر. (وقوله: إِنَّ ذلك جاءَ على لغة رديئة حكاها الأَخفش عن بعضهم أَنه يقول: ملكت كم عبيدٍ فيُخرجها(4/386)
عن الصدرية خطأ عظيم؛ إِذا خَرَّج كلام الله سبحانه على هذه اللغة) ، وإِنَّما الفاعل ضمير اسم الله سبحانه، أَو ضمير العِلم أَو الهدى المدلول عليه بالفعل، أَو جملة: {كَمْ أَهْلَكْنَا} على القول بأَن الفاعل يكون جملة، إِمَّا مطلقا، أَو بشرط كونها مقترِنة بما يعلِّق عن العمل والفعل قلبى، نحو ظهر لى أَمَام زيد.
ويفترقان فى خمسة أُمور. أَحدهما: أَن الكلام مع الخبريَّة محتمل للتصديق والتكذيب بخلافه مع الاستفهاميَّة. الثانى: أَن المتكلم بالخبرية لا يستدعى جوابا بخلاف الاستفهامية. الثالث: أَن الاسم المبدل من الخبرية لا يقترن بالهمزة بخلاف المبدل من الاستفهامية. الرابع: أَن تمييز الخبرية مفرد أَو مجموع، تقول: كم عبدٍ ملكتُ، وكم عبيد ملكت، ولا يكون تمييز الاستفهاميَّة إِلا مفردًا. الخامس: أَن تمييز الخبرية واجب الخفض، وتمييز الاستفهامية منصوب ولا يُجرّ خلافا لبعضهم.(4/387)
بصيرة فى كمل وكمه
الكمال: التمام الذى تجزأَ منه أَجزاؤه، وقيل: كمال الشىء حصول ما فيه الغرض منه. قال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} تنبيها أَن ذلك غاية ما يتعلَّق به صلاحُ الولد وقد كَمَل الشىء يكمُل، وكَمَل يكمِلُ، وكمُل يكمُل، وكمِل يَكْمَل، على وزان نصر ينصر وضرب يضرب، وكرم يكرم، وعلم يعلم، كمالا وكُمُولا، فهو كامل وكَمِيل، وتكامل، وتكمّل. وأَكمله واستكمله وكمَّله: أَتمَّه وجَمَله.
وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة} تنبيهٌ على أَنهُ يحصل كمال العقوبة. وقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قيل: إِنما كَرَّر العشرة ووصفها بالكاملة لا ليُعلمنا أَن السبعة والثلاثة عشرة، بل ليبين أَن بحصول صيام العشرة يحصل كمال الصوم القائم مقام الهَدْى. وقيل: إِن وصفه العشرة بالكاملة استطراد فى الكلام، وتنبيه على فضيلة له فيما بين عِلْم العدد، وأَن العشرة أَوّل عَقْد ينتهى إِليه العدد فيكمل، وما بعده يكون مكرَّرا، فهى العدد الكامل.
الكَمَه - محركة -: العَمَى يولد به الإِنسان، وقيل: عامّ. كَمِهَ - كفرح -: عمى، وكمه بصرُه: اعترته ظلمة تطمس عليه، وكمه النهار: اعترضت فى شمسه غُبْرةٌ، وكمه الرجلُ: تَغير لونهُ وزال عقله.(4/388)
بصيرة فى كن وكند وكنز
الكِنَّ والكِنَّة والكِنَان - بكسرهن -: وِقاء كل شىء وسِتره. والكِنَّ أَيضا: البيت، والجمع: أَكنان. كنَّه يكنَّه كَنًّا وكُنونا، وأَكنَّه وأَكتنَّه: ستره، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} وأَكننت: أَخفيت بمايستر فى النفس قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} . والكِنان بالكسر: الغطاء الذى يُكنّ فيه الشىء، والجمع أَكِنَّة نحو غطاءٍ وأَغطية. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} قيل معناه: فى غطاءٍ عن تفهُّم ما تورده علينا. وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} عنى به اللوح المحفوظ، وقيل: هو قلوب المؤمنين، وقيل ذلك إِشارة إِلى كونه محفوظاً عند الله تعالى؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
والكُنَّة - بالضمّ - سَقِيفة فوق باب الدار، وبالفتح: امرأَة الابن أَو امرأَة الأَخ لكونها فى كِنٍّ من حفظ زوجها، وبالكسر البياض.
وكِنَانة السهم: جَعْبة من جلد لا خشب فيها وقيل بالعكس.
كَنَد النِعمة يكنِدها - بالكسر - كَنْدا وكُنُودا أَى كفرها؛ فهو كَنُود وكَنَّاد. قال الله تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ، قال الكلبىّ: أَى لكفور بالنعمة، وقال الزجاج: أَى لكافر، وقال الحسن: الكَنُود: اللوّام(4/389)
لربه يَعُدّ المصيبات وينسى النعم، وقال الخليل: تفسير هذه الآية أَنه يأْكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده. وامرأَة كَنُود وكُنُد بضمَّتين قال الأَصمعى: هى الكَفُور للمودّة والمواصلة، قال النَمِر بن تَوْلَب رضى الله عنه:
فقلت وكيف صادتنى سُلَيمَى ... ولَمَّا أَرمها حتَّى رمتنى
كَنُود لا تَمُنَّ ولا تفادِى ... إِذا علقت حبائِلُها بَرهن
وأَرض كَنُود لا تُنبت شيئاً. وكَنَده: قطعة. قال الأَعشى:
أَميطى تُميطى بصلب الفؤادْ ... وصَولِ حبال وكَنَّادها
الكنز: اسم المال المدفون. وقد كنزه يكنِزه - كضربه يضربه -. وقال الليث: الكنز اسم للمال، أَو لِمَا يُحرَز به المال. قال الله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} وقد كنزت التمر. وكلُّ شىء غمزته بيدك أَو برجلك فى وعاء أَو أَرض فقد كنزته، قال المتنخل الهُذَلىّ:
لا دَرّ دَرِّىَ إِن أَطعمْت نازلكم ... قِرْفَ الحَتِىِّ وعندى البُرّ مكنوز
وهم يكنِزون الرماح أَى يَرْكُزونها فى الأَرض.
والكنز: الفضَّة فى قول الشاعر:
كأَنَّ الهِبْرقِىّ غدا عليها ... بماءِ الكنز أَلبسه قَرَاها
وفى قول عدىّ بن زيد بن مالك.
وشتيت بناصع اللون حُرٍّ ... وثنايا مفلَّجات عِذابِ
دُمْية شافها رجال نصارَى ... يوم فِصْح بماءِ كَنْزٍ مُذاب(4/390)
أَى الذهب وفى حديث أَبى ذَرٍّ رضى الله عنه: "بَشِّر الكنَّازين برَضْف فى الناغِض" هم الذين يكنزون الذهب والفضَّة ولا ينفقونها فى سبيل الله.
وقوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} ، قيل: مال مدفون، وقيل: إِنما كان صحيفة علم مكتوب فيها خمس كلمات: عجبت لمن أَيقن بالموت كيف يفرح؛ وعجبت لمن أَيقن بِزوال الدنيا وتقلُّبها كيف يطمئن إِليها؛ يعملون السيِّئات ويرجون الحسنات؛ يزرعون الشوك ويطمعون فى الحصاد؛ ومن آمن نجا، لا إِله إِلا الله محمد رسول الله. وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} وقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ} .(4/391)
بصيرة فى كوب وكور
الكُوب: الكُوز الذى لا عروة له. قال عَدِىّ بن زيد العِبَادىّ:
متَّكئا تُقرع أَبوابُه ... يسعى عليه العبد بالكوب
وقيل الكوب: الذى لا خرطوم له، قال تعالى {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} . واكتاب: شرب بالكوب.
كَوْر الشىء إِدارته وضمّ بعضه إِلى بعض، نحو كَوْر العمامة، كارَها على رأْسه يَكوُرها كَوْرًا: لاثها. وكل دَور كَور. وتكوير المتاع: شدّه وجمعه.
وقوله تعالى: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} إِشارة إِلى جريان الشمس فى مطالعها، وانتقاصِ الليل والنهار وازديادهما. وقيل تكوير الليل على النهار تغشيته إِيَّاه، ويقال. زيادته من هذا فى ذلك.
وقوله تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} ، قال ابن عباس رضى الله عنهما: عُوِّرت، وقال قتادة: ذهب ضوؤها، وقال أَبو عبيدة: كوّرت مثل تكوير العمامة تُلفّ فتمحى.(4/392)
بصيرة فى كون وكين
الكَوْن والكينونة: [الحدث] ، والكائنة: الحادثة. وكوَّنه: أَحدثه. وكوّن الله الأَشياءَ: أَوجدها. والمكان: الموضع، والجمع: أَمكنة وأَماكن ويسمى هذا العالَم الفانى عالَم الكون والفساد، قال:
كل صعود إِلى هُبوط ... كل نَفَاق إِلى كساد
وكيف يرجى صلاح حال ... فى عالمَ الكون والفساد
وفى المثل: المقضىّ كائنٌ. قال.
مالا يكون فلا يكون بحيلة ... أَبدًا وما هو كائن سيكون
وقال آخر:
إِن الهوان هو الهوى بعض اسمه ... فإِذا هويت فقد لقيت هوانا
واذا هويت فقد تعبّدك الهوى ... فاخضع لإلفك كائنا ما كانا
وكان من الأَفعال الناقصة، يعبرّ به عن الزمن الماضى. وفى كثير من وصف الله تعالى ينبئ عن الأَزليَّة. وما استعمل منه فى جنس الشىء متعلِّقا بوصف له هو موجود [فيه] فتنبيه أَن ذلك الوصف لازم له، قليل الانفكاك عنه؛ نحو قوله تعالى فى الإِنسان: {وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} ، وكقوله فى فى الشيطان: {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً} .(4/393)
وإِذا استعمل فى الزمان الماضى فقد يجوز أَن يكون المستعمل [فيه] قد بقى على حالته كما تقدم آنفا. ويجوز أَن يكون قد تغيَّر، نحو كان فلان كذا ثم صار كذا ثم لا فرق بين أَن يكون الزمان المستعمل فيه (كان) قد تقدَّم تقدما كثيرا. نحو أَن تقول: كان فى أَوّل ما أَوجد الله العالَم، وبين أَن يكون فى زمان قد تقدَّم بزمان واحد عن الوقت الذى استعمل فيه (كان) ، نحو أن تقول: كان آدم كذا، وأَن تقول: كان زيد هاهنا ويكون بينك وبين ذلك الزمان أَدنى وقت. ولهذا صح أَن قال: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} فأَشار بكان إِلى عيسى وحالته التى شاهدوه عليها. وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} إِشارة إِلى أَنكم كنتم فى تقدير الله وحكمه. وقول من قال: معنى كنتم هنا معنى الحال فليس بشىء. وقوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} فقد قيل معناه: وقع وحصل. واكتان بمعنى كان. والمصدر الكون والكيان والكينونة، ويقال كُنَّاهم أَى كنَّا لهم. وكنت الغَزْل أَى غزلته. ويقال: كنت الكوفة أَى كنت بها ويقال: منازل كأَن لم يكنها أَحد أَى لم يكن بها.
وكان التامّة تكون بمعنى ثبت. وثبوت كل شىء بحسبه. فمنه الأَزليّة: كان الله ولا شىء معه؛ وبمعنى حدث، نحو قوله: (إِذا كان الشتاءُ فأَدفئونى) وبمعنى قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} ؛ وبمعنى وقع: ما شاءَ الله كان؛ وبمعنى أَقام، نحو:(4/394)
كانوا وكنا فما ندرى على مهل
ووزن كان فَعَل بفتح العين خلافا للكسائى فيما نَقَل عنه أَبو غانم المظفَّر بن حمدان، فإِنه قال: وزنها فَعُل بضمّ العين. وقال ابن الأَنبارىّ كان من الأَضداد: يكون للماضى، ويكون للمستقبل، ومنه قول الشاعر:
فأَدركت من قد كان قبلى ولم أَدع ... لمن كان بعدى فى القصائد مصنعا
أَى لمن يكون بعدى. واستكان: سكن عن الدعة، وقلق، قال تعالى: {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} .
كأَيّن: مركَّب من كاف التشبيه وأَى المنوّنة، ولهذا جاز الوقف عليها بالنون، ورسم فى المصحف نونا
ويوافق كم فى خمسة أُمور: الإِبهام، والافتقار إِلى التمييز، والبناء، ولزوم التصدير، وإِفادة التكثير تارة والاستفهام أخرى وهو نادر. قال أُبَىّ لابن مسعود: كأَيّن تقرأ سورة الأَحزاب آية؟ فقال: ثلاثة وسبعين.
ويخالفها فى خمسة أُمور:
الأَول: أَنها مركَّبة، وكم بسيطة على الصحيح.
الثانى: أَن مميّزها مجرور بمن غالبا، وزعَم بعضهم لزومه.(4/395)
الثالث: أَنها لا تقع استفهاميَّة عند الجمهور.
الرابع: أَنها لا تقع مجرورة، خلافا لمن جوز بكأَينْ تبيع هذا؟.
الخامس: أَن خبرها لا يقع مفردا.
وقد ورد فى القرآن فى ثلاثة مواضع: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} ، {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} ، {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} .(4/396)
بصيرة فى كهف وكهل وكهن
الكَهْف: كالبيت المنقور فى الجبل، والجمع: كُهُوف. وقال الليث: الكهف: كالغار فى الجبل إِلاَّ أَنه واسع، فإِذا صَغُر فهو غارٌ، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} وتكهَّف الجبلُ: إِذا صارت فيه كُهُوف. وتكهَّف واكتهف: دخل الكهف. وفلان كهف أَهل الريب: إِذا كانوا يلوذون به فيكون وَزَرا وملجأَ لهم. قال:
وكنت لهم حصْنا حصِينا وجُنَّة ... يئول إِليها كهلها ووليدها
الكَهْل: مَن وَخَطَهُ الشيب ورأَيت له بَجالة وقيل الكهف. مَن جاوز الثلاثين، وقيل: من جاوز أَربعاً وثلاثين إِلى إِحدى وخمسين، ثم شيخ، والجمع: كَهْلُون وكُهُولٌ وكِهَال وكُهْلان وكُهَّل. وهى كَهْلة، والجمع كَهْلات وكَهَلات. وقيل: لا يقال للمرأَة كهلة إِلاَّ مزدوجا بشهلة. واكتهل: صار كهلا، ولا يقال: كَهَل. وقد جاءَ فى الحديث: "هل فى أَهلك مِن كاهِلٍ" ويروى مَنْ كاهَلَ، أَى تزوَّج.(4/397)
الكاهن: الذى يخبر بالأَخبار الماضية بضرب من الطنّ كالعرّاف الذى يخبر بالأَخبار المستقبلة على نحو ذلك. ولكون هاتين الصناعتين مبنيَّتين على الظن الذى يخطئ ويصيب قال صلى الله عليه وسلم: "من أَتى عَرَّافا أَو كاهنا فصدَّقه بما قال فقد كفر بما أُنزل على محمد صلَّى الله عليه وسلَّم". وقد كَهَن له يكهن - كمنع يمنع - وكهن يكهُن - ككرم يكرم - وكهَن يكهُن - كنصر ينصر - كَهَانة بالفتح. وتكهَّن تكهُّنا وتكهينا: قضى له بالغيب، فهو كاهن، والجمع: كَهَنة وكُهَّان. وحرفته الكِهَانة بالكسر. وكَهُن - ككرم - إِذا تخصَّص بذلك.(4/398)
بصيرة فى كيد
الكَيْد: المكر، تقول: كاد يكيد كَيْدا ومَكِيدة. وقوله تعالى: {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} أَى فيحتالوا احتيالا. وقوله تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} أَى حيلته. وقوله تعالى: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} أَى علَّمناه المكيدة على إِخوته. والكَيْد أَيضاً: الحرب لاحتيال الناس فيها.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} فخص الخائنين تنبيها على أَنه قد يهدى كيد من لم يقصد بكيده خيانة؛ ككيد يوسف بإخوته. وقوله: {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أَى لأُريدنَّ بهم سوءًا. وكلّ شىء تعالجه فأَنت تكيده، يقال: هو يكيد، بنفسه أَى يجود بها.
وكاد وضعت لمقاربة الشىء فُعِل أَو لم يُفعل؛ فمجرَّدةً تنبئ عن نفى الفعل، ومقرونة بالحجد تنبئ عن وقوع الفعل. وفى الحديث "كاد الفقر أَن يكون كفرا"، "وكاد الحسد يغلب القدر". وقال بعضهم فى قوله تعالى: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أَى أريد أخفيها. قال وكما جاز أَن يوضع أُريد موضع كاد فى قوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} فكذلك أَكاد. وأَنشد:
كادت وكِدْتُ وتلك خير إِرادة ... لو عاد من لَهْوِ الصبابة ما مضَى(4/399)
وكلمة "كاد" يكون صلة للكلام، أَجاز ذلك الأَخفش وقُطْرُب وأَبو حاتم. واحتجَّ قطرب بقول زيد الخيل الطائىّ رضى الله عنه:
سريع إِلى الهيجاءِ شاكٍ سلاحهُ ... فما إِن يكاد قِرْنُه يتنفَّس
وقال حسان بن ثابت رضى الله عنه:
وتكاد تكسل أَن تجئ فراشها ... فى لين خرعبة وحسن قوام
معناه: وتكسل. وقوله الله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} معناه: لم يرها.(4/400)
بصيرة فى كيس وكيف (وكيل)
الكَيْس: خلاف الحُمْق لأَنَّه مجتمَع الرأْى والعقل. ومنه الحديث: "كلُّ شىء بقَدَر حتَّى العجز والكَيْس". أَو الكيس [ضدُّ] العجز. ورجل كيِّس ظريف.
والكأْس - بالهمز وتركه -: الإِناء الذى يُشرب فيه قال: الله تعالى {بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ} . والكأْس مؤنَّثة قال عمرو بن كلثوم.
من لم يمت عَبْطة يمت هَرَمًا ... للموت كأْس والمرءُ ذائقها
والجمع أكؤُسٌ وكُؤوس وكاسات وكِئَاس، قال الأَخطل يصف نديمهُ:
خضِل الكِئاس إِذا تنشَّى لم تكن ... خُلْفا مواعده كبرق الخُلَّب
كيف: اسم مبهم غير متمكِّن، وإِنما حُرّك آخره لالتقاءِ الساكنين، وبنى على الفتح دون الكسر لمكان الياء. وهو للاستفهام عن الأَحوال.
وقد يقع بمعنى التعجُّب والتوبيخ. قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} .
ويكون حالا لا سؤال معه، كقولك: لأَكرمنَّك كيف أَنت، أَى على أَىّ حال كنت.
ويكون بمعنى النفى؛ كقول أَبى كاهل اليَشْكُرِىّ:(4/401)
كيف ترجُون سِقاطى بعدما ... جَلَّل الرأْسَ مَشِيبٌ وصلعْ
وقيل: كيف يستعمل على وجهين:
أَحدهما: أَن يكون شرطا فيقتضى فعلين متفقى اللفظ والمعنى غير مجزومين؛ نحو كيف تصنعُ أَصنع: ولا يجوز كيف تجلس أَذهبُ باتِّفاق
والثانى: - وهو الغالب - أَن يكون استفهاما، إِمَّا حقيقيًّا؛ نحو كيف زيدٌ، أَو غير حقيقىّ نحو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} فإِنه أُخرج مُخْرَج التَّعجب.
وعن سيبويه أَنَّ (كيف) ظرف؛. وعن السيرافىّ والأَخفش أَنها اسم غير ظرف. ورتَّبوا على هذا الخلاف أُموراً.
أَحدها: أَن موضعها عند سيبويه نصب دائما، وعندهما رفع مع المبتدأ، نصب مع غيره.
الثانى: أَن تقديرها عند سيبويه: فى أَىّ حال، أَو على أَىّ حال؛ وعندهما، تقديرها فى نحو كيف زيد: أَصحيح ونحوه، وفى نحو كيف جاءَ زيد: راكبا جاءَ زيد ونحوه.
الثالث: أَن الجواب المطابق عند سيبويه: على خير ونحوه، وعندهما صحيح أَو سقيم، ونحوه.
وقال ابن مالك ما معناه: لم يقل أَحد إِن كيف ظرف، إِذ ليست زماناً ولا مكانا، ولكنها لمَّا كانت تفسَّر بقولك على أَىّ حال سؤالا عن(4/402)
الأَحوال العامة سميت ظرفا لأَنها فى تأْويل الجارّ والمجرور واسم الظرف يطلق عليهما مجازا.
ومن زعم أَنها تأْتى عاطفة محتجَّا بقول القائل:
إِذا قلَّ مال المرءِ لانَتْ قناتُه ... وهان على الأَدنَى فكيف الأَباعدِ
خُطِّئ فى زعمه. ودخول الفاء عليها يزيد خطأه وضوحا.
وفى الارتشاف: كيف تكون استفهاما، وهى لتعميم الأَحوال. وإِذا تعلَّقت بجملتين فقالوا: تكون للمجازاة من حيث المعنى لا من حيث العمل. وقَصُرت عن أَدوات الشرط بكونها لا يكون الفعلان معها إِلاَّ متَّفقين؛ نحو كيف تجلس أَجلس. وسيبويه يقول: يجازى بكيف، والخليل يقول: الجزاء به مستكره. انتهى.
وأَما قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} / فهو توكيد لما تقدم، وتحقيق لما بعده، على تأويل أَن الله لا يظلم مثقال ذرّة فى الدنيا فكيف فى الآخرة. وإِذا ضممت إِليه ما صحّ أَن يجازى به تقول: كيف ما تفعل أَفعل.
وقال الفرَّاءُ: كيف لى بفلان؟ فتقول: كلّ الكيفِ والكيفَ، بالجرّ والنصب.
وكل ما أَخبر الله تعالى بلفظ (كيف) عن نفسه فهو استخبار على طريق التنبيه للمخاطب، وتوبيخٌ كما تقدم فى الآية.(4/403)
وقد يحذف فاء كيف فيقال. كَى كما قالوا فى سوف: سَوْ. قال:
كَىْ تجنحون إِلى سَلْم وما ثُئرت ... قتلاكمُ ولظَى الهيجاءِ تَصْطَرِمُ
الكَيْل: مصدر كال الطعام كَيْلا وتكَالا ومَكِيلاً، واكتاله بمعنى. والاسم الكِيلة. قال تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} يحث على تحرّى العدل فى كل ما وقع فيه أَخذٌ وعطاءٌ وقوله: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أَى مقدار حِمل بعير. والكيل أَيضا: الظرف الذى يُكتال به. وبمعناه المكيال والمِكْيَل والمِكْيَلة.(4/404)
بصيرة فى كى
الكىّ: إِحراق الجلد بحديدة ونحوها، كَواه يَكْوِيهِ كَيًّا. والمِكواة ما يُكوَى به. والكَيَّة: موضع الكىّ، قال تعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ} .
وكَىْ ترد على ثلاثة أَوجه:
أَحدها: لغة فى كيف نحو سَوْ فى سوف؛ وقد تقدم شاهدها آنفا.
الثانى: أَن تكون بمنزلة لام التعليل معنى وعملاً، وهى الداخلة على ما الاستفهاميَّة فى قوله فى السؤال عن العلَّة: كَيْمَهْ بمعنى لمهْ، وعلى ما المصدريَّة فى قوله:
إِذا أَنت لم تنفع فضرّ فإِنما ... يُرَجَّى الفتى كيما يضرّ وينفعُ
وقيل: ما كافَّة، وعلى أَن المصدرية مضمرة؛ نحو: جئت كى تكرمنى إِذا قدرت النصب بأَنْ.
الثالث: أَن تكون بمنزلة أَنْ المصدرية معنى وعملا؛ نحو {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} ، يؤيّده صحّة حلول (أَنْ) محلَّها، وأنّها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل، ومن ذلك قولك: جئتك كى تكرمنى،(4/405)
وقوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً} إِذا قدَّرت اللام قبلها، فإِن لم تقدّر فهى تعليليَّة جارّة. ويجب حينئذ إِضمار (أَنْ) بعدها.
وعن الأَخفش أَنَّ كَىْ جارّة دائما، وأَن النصب بعدها بأَن ظاهرة أَو مضمَرة، ويردهُ {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} . وعن الكوفيِّين أَنها ناصبة دائما، ويردهُ قولهم: كَيْمَهْ كما يقولون: لِمهْ.
ووقع فى صحيح البخارىّ فى تفسير [قوله تعالى] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} "فيذهب كيما فيعود ظهرُه طَبَقا واحداً"، أَى كيما يسجد؛ وهو غريب جدًّا لا يحتمل أَن يقاس عليه. والله أَعلم.(4/406)
الباب الرابع والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف اللام(4/407)
بصيرة فى اللام
وهى [ترد على وجوه] :
1- حرف هجاءٍ من حروف الذَلاَقة، مخرجها ذَلْق اللسان جوار مخرج النون.
2- عبارة عن اسم عدد الثلاثين فى حساب الجُمّل.
3- لام العَجْز، فإِنَّ بعض الناس يجعلها مكان / الراء، فيقول فى رَحِيق: لحيق.
4- لام أَصل الكلمة كلام كمل، ومَكَل، وكلم.
5- لام القَسَم: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ} .
6- لام جواب القسم: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
7- لام جواب إِنَّ: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} .
8- اللام المصاحبة لإِنِ الخفيفة: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} .
9- اللام المصاحِبة للو: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ} ، {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} .
10- لام بمعنى لقد؛ نحو: لهان علينا، أَى لقد هان علينا.
11- لام الاستغاثة: يا لَلْمُسِلمين [وكقول الشاعر] :(4/408)
يالَبَكْرٍ أَين أَين الفرارُ
12- لام التمييز: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً}
13- لام التفصيل: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} .
14- لام المدح: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} .
15- لام الذمّ: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} .
16- اللام المنقولة: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ} .
17- لام المقحمة: {عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} أَى ردفكم.
18- اللام الداخلة على الضمائر: لك، وله، ولنا.
وأَما اللامات المكسورة فمنها: العاملة للجرّ [وترد لمعان] .
1- لام الاستحقاق: الحمد لله.
2- لام الاختصاص: المنبر للخطيب.
3- لام التمليك: الدار لزيد.
4- لام شبه التمليك: {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} .
5- لام التعليل نحو قوله: ويوم عقرت للعذارى مطيّتى(4/409)
6- لام التوكيد: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} .
7- اللام بمعنى إِلى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} .
8- اللام الموافقة لِمن: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} .
9- الموافقة لعلى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} : أَى على الأَذقان؛ {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} : أَى على الجبين.
10- الموافقة لفى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} ، ومنه قول الشاعر:
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فعرفتها ... لستة أَعوامٍ وذا العامُ سابعُ
11- لام بمعنى عند: كتبتهُ لخمس خلون.
12- بمعنى بعد: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} .
13- الموافقة لمع:
فلمَّا تفرَّقنا كأَنى ومالكا ... لطول اجتماعٍ لم نَبِت ليلةً معا
14- الموافقة لمن: سمعت له صُرَاخا.
15- لام التبليغ: قلت له.
16- اللام بمعنى عن: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} .(4/410)
17- لام الصيرورة وهى لام العاقبة ولام المآل: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} .
18- لام القسم والتعجُّب معا، ويختص باسم الله تعالى: [كقول الشاعر]
لله يبقى على الأَيَّام ذو حِيَدٍ
19-[لام] التعجُّب المجرّد عن القسم، ويستعمل فى لله درهُ، قيل ومنه: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} أَى عجباً من إِلفهم، وفى النداء يا للماء.
20- لام التعدية: ما أَضرب زيدًا لعمرو.
21- لام التأْكيد: وهى اللام الزائده: {نَزَّاعَةً للشوى} ، {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} .
22- لام التبيين: سقياً لزيد، {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} .
23- لام الصلة: نقدت أَلفا لفلان: أَى وصلته إِليه.
وأَمَّا العاملة للجزم فنحو: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} . [ومن أقسامها] :
ا - لام التهديد: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} .
ب - لام التحدِّى: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} .
جـ - لا التعجيز: {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب} .(4/411)
أَما اللام غير العاملة فسبع:
(ا) لام الابتداء: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} .
(ب) اللام الزائدة نحو: أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شهربَهْ.
(جـ) لام الجواب نحو: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا} ، {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} ، {تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} .
(د) اللام الداخلة على أَداة الشرط للإِيذان: {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} .
(هـ) لام أَلْ؛ نحو: الرجل.
(و) اللام اللاحقة بأَسماء الإِشارة: كما فى تلك.
(ز) لام التعجب غير الجارَّة: لَظَرُفَ زيدٌ.
واللام اللغوىّ. اللام الدروع جمع لامة. وهى الدّرع. واللام: أَيضاً: الشخص.(4/412)
بصيرة فى لب
لبَّ بالمكان وأَلَبَّ به إِذا أَقام به. حكاه أَبو عبيد / عن الخليل، ومنه قولهم: لَبَّيكَ. أَى أَنا مقيم على طاعتك. وقال ابن الأَنبارىّ: فى لبَّيك أَربعة أَقوال:
أَحدها: إِجابتى لك من لبّ بالمكان وأَلبَّ به أَقام به. وقالوا: لبَّيْك فثنَّوا لأَنهم أَرادوا: إِجابة بعد إِجابة؛ كما قالوا: حنانَيْك أَى رحمة بعد رحمة. وقال بعض النحويين: أَصل لبَّيْك لبَّبك، فاستثقلوا ثلاثة باءَات فأَبدلوا من الثالثة ياءً؛ كما قالوا: تظنَّيت وأَصله تظّننت.
والثانى: اتجاهى وقصدى يا رب لك؛ أُخذ من قولهم: دارى تَلُبّ دارك أَى تواجهها.
والثالث: محبَّتى لك يا رب، من قول العرب: امرأَة لَبَّة إِذا كانت محبَّة لزوجها عاطفة عليه.
والرابع: إِخلاصى لك يا ربّ، من قولهم: حَسَبٌ لُبَاب: إِذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لُبّ الطعام ولُبَابه.
واللُبّ: العقل، والجمع: أَلباب وأَلُبّ؛ كنُعْم وأَنْعُم قال:
قلبى إِليه مشرف الأَلُبِّ(4/413)
وربما أَظهرو التضعيف فى ضرورة الشعر كقول الكميت:
إِليكم ذوى آل النبى تطلَّعت ... نوازع من قلبى ظِماء وأَلبُبُ
وقيل، اللبّ: ما ذكا من العقل. وكل لُبّ عقل، وليس كل عقل لُبًّا، ولهذا خص الله الأَحكام التى لا تدركها إِلاَّ العقول الذكيَّة بأُولى الأَلباب؛ نحو قوله: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} ونحو ذلك من الآيات.(4/414)
بصيرة فى لبث ولبد
اللُّبْث والِلُّباثُ: المكث. ولقد لبِث يَلْبَث لُبْثا على غير قياس؛ فإِنَّ المصدر من فَعِل يَفْعَل قياسهُ التحريك إِذا لم يتعدّ، نحو تعِب يَتْعَب تَعَباً، طرِب يطرب طَرَباً؛ فرح يفرح فرحاً. وقد جاءَ فى الشعر على القياس. قال جرير:
إِمَّا تَرَينى وهذا الدهر ذو غِيَر ... فى منكبىَّ وفى الأَصلاب تحنيب
فقد أَمدّ نِجادَ السيف معتدلا ... مثل الرُدَينىّ عزَّته الأَنابيب
وقد أَكون على الحاجات ذا لَبَث ... وأَحوذيّا إِذا انضمّ الذَّعاليب
لَبِث فهو لابث ولَبِث أَيضاً. وقرأَ حمزة: {لَبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} . ويقال: لى لُبْثة فى هذا الأَمر، أَى توقُّف. وإِنه لخبيث لَبيث نَبِيث، إِتباع.
اللِبْد واحد اللُبُود. واللِبْدة أَخصَّ. واللُبَّادة: ما يلبس من اللبود للمطر.
وقوله عزَّ وجلَّ: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} بتشديد الباءِ، فكأَنه أَراد: مالاً لابدا. يقالك مال لابد، ومالان لابدان، وأَموال لُبَّد.(4/415)
والأَموال والمال يكونان بمعنى واحد. وقرأَ الحسن: (لُبُدا) بضمتين جمع لابد. وقرأَ مجاهد مثل قراءَة الحسن. وقرأَ أَيضا (لُبْدا) بسكون الباءِ كفارِه وفُرْه، وشارف، وشُرّف، وبَازل وبُزْل. وقرأَ زيد بن على وابن عمير وعاصم: (لِبَدا) مثال عنب، جمع لِبْدة أَى مجتمع
وقال قتادة فى قوله تعالى: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال: الخشوع فى القلب وإِلْبادِ البصر فى الصلاة، أَى لزومِه موضع السجود. ويجوز أَن يكون من قولهم أَلبد رأْسَه: إِذا طأطأَ عند دخول الباب. والتركيب يدل على تكرّس الشىء بعضِه فوق بعض.(4/416)
بصيرة فى لبس
اللُبْس - بالضمّ - مصدر قولك: لبِست الثوب أَلْبَسه. ولبِست امرأَة، أَى تمتَّعت بها زماناً؛ ولبِستها عُمُرى، أَى كانت معى شبابى كلّه، قال النابغة الجعدىّ رضى الله عنه:.
لَبِسْتُ أناسا فأَفنيتهم ... وأَفنيت بعد أُناسٍ أُناسا
ثلاثة أَهلين أَفنيتهم ... وكان الإِله هو المستآسا
وقال عمرو بن أَحمر الباهلىّ:
لبِست / أَبِى حتى تَبَلَّيْتُ عُمْرَه ... وبَلَّيْت أَعمامى وبَلَّيت خاليا
واللباس والمَلْبس واللِبْس - بالكسر - ما يُلبس. ولباس الرَّجل: امرأَته. وزوجها لِباسها، قال النابغة الجعدى رضى الله عنه:
إِذا ما الضجيع ثَنَى جيدها ... تداعى عليه وكانت لباسا
وروى أَبو عمرو ثنى عطفها تثنّت عليه. قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أَى بمنزلة اللباس. وقال ابن عرفة: اللباس من الملابسة أَى الاختلاط والاجتماع.
وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التقوى} ، قيل: هو الحياء والعمل الصالح،(4/417)
وقيل: الغليظ الخشن القصير. قال السُدّىّ: هو الإِيمان، وقيل: هو ستر العورة، وهو لباس المتقين. وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} أَى يستر الناس بظلمته. وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} أَى جاعوا حتى أَكلوا الوَبَر بالدم وهو العِلْهِز، وبلغ بهم الجوعُ الحالَ التى لا غاية بعدها، فضُرب اللباس لما نالهم من ذلك مثلا لاشتماله على لابسه.
واللَّبوس: ما يلبس، قال بَيْهس:
إِلبس لكلّ حالة لَبوسها ... إِمَّا نعيمها وإِمَّا بوسها
وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} يعنى الدرع، سمِّيت لبوسا لانها تُلْبس، كالرّكوب لما يُركب.
وَلَبَست عليك الأَمر أَلْبِسه - كضربته أَضربه - أَى خلطته قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} أَى شبَّهنا عليهم وأَضللناهم كما ضلَّوا. قال ابن عرفة: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} ، أَى لا تخلطوه به. وقوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أَى يخلط أَمركم خلط اضطراب لا خلط اتِّفاق. وقوله جل ذكره: {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أَى لم يخلطوه بشرك. قال العجاج.
ويفصلون الَّلبْسَ بعد الَّلبْسِ ... من الأُمور الرُبْس بعد الرُبْس(4/418)
واللبس أَيضا: اختلاط الكلام. وفى الامر لُبسة - بالضم - أَى شبهة وليس بواضح. والتلبيس التخليط، قال الأَسْعر الجعفىّ:
وكتيبة لَبَّسْتُها بكتيبة ... فيها السَنَوَّر والمغافر والقنا
وتلبَّس بالأَمر وبالثوب، قال:
تلبَّس حبَّها بدمى ولحمى ... تلبُّس عَصْبة بفروع ضال
وقال آخر:
تلبَّسْ لباس الرضا بالقضاء ... وخلِّ الأُمور لمن يملكْ
تُقدِّر أَنت وجارى القضا ... ءِ مما تقدّره يضحكُ
وقوله تعالى جلّ شأنه: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} فيه تنبيه على أَن جلَّ المقصود من اللباس ستر العورة، وما زاد فتحسّن وتزيّن، إلاَّ ما كان لدفع حَرّ وبرد، قال الشاعر:
إِن العيون رمتك إِذ فاجأتها ... وعليك من شُهَر الثياب لباس
أَمَّا الطعام فكُلْ لنفسك ما اشتهت ... واجعل ثيابك ما اشتهاه النّاس
وفى بعض الآثار: من ترك اللباس وهو يقدر عليه خيَّره الله يوم القيامة بين حُلَل الإِيمان يلبس أَيّها شاءَ.(4/419)
بصيرة فى لبن ولج ولحد ولحف
جمع الَّلبَن: أَلبانٌ، قال تعالى: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً} . والَّلبن - بكسر الباء - محبّهُ وشاربه. وقوم لابِنون: كثر لبنهم. والملبون واللبين: مَن غُدِى به. وشاة لَبُونٌ ولَبنَةٌ ولبينة ومُلْبِنٌ ومُلْبِنَةٌ، أَى ذات لَبَن.
اللّجَاج: التمادى فى الباطل، والعِناد فى تعاطِى الفعل المزجور عنه. قال تعالى: {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} . ولُجَّة البحر: تردّد أَمواجه. ولُجَّة الليل: تردّد ظلامه. وقد لجّ والتجّ. وقوله تعالى: {فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} منسوب إِلى لُجَّة البحر.
لَحَد فى دين الله أَى جار عنه ومال. وقرأَ حمزة / والكسائىّ {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} بفتح الياء والحاء، والباقون (يُلحِدُونَ) بضم الياء من أَلحد فى دين الله أَى جار عنه ومال. وأَلحد أَيضاً: ظلم فى الحرم، وأَصله من قوله تعالى {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} أَى إِلحاد (بظُلْم) ، والباء فيه زائدة. قال حُمَيد الأَرقط:(4/420)
ليس الإِمام بالشحيح المُلْحِدِ ... ولا بوبرٍ فى الحجاز مقرد
إِن ير بالأَرض الفضاء يطرد ... أَو ينجحر فالجحر شرّ مَحْكِدِ
وقال الزجاج: الإِلحاد فى الحرم: الشرك بالله. وقال عمر رضى الله عنه: احتكار الطعام بمكة إِلحاد.
واللَّحْد واللُّحْد - بالفتح والضم - الشقّ فى جانب القمر. قال:
فأَصبح فى لحد من الأَرض ميّتا ... وكانت به حيًّا تضيق الصَحاصح
وقد تحرّك الحاء فى اللحد قال:
كم يكون السبت ثم الأَحدُ ... والعُقُبَى لكل هذا لَحَدُ
ولَحَدَ للقبر وأَلحد بمعنى، فى الحديث الصحيح: "اللحد لنا والشقّ لغيرنا". وقبر لاحِدٌ، وملحود، ذو لحد.
وقوله تعالى: {الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ} وذلك يكون على وجهين.
إِحداهما أَن يوصف بما لا يصحّ وصفه. والثانى أَن يتأَوّل أَوصافه على مالا يليق به.
والملتحَد: المَلجأُ؛ لأَن الملتجئ يميل إِليه، قال: {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أَى ملجأً.(4/421)
اللَحْف: تغطيتك الشىء بالّلِحَاف. لحفت الرجل أَلحَفُه لَحْفا، أَى طرحت عليه اللحاف، أَو غطَّيته بشىء. وأَلحف السائل: أَلحّ فى السؤال، قال الله تعالى: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} . وقال الزجاج: أَلحف: شمِل بالمسأَلة، ومنه اشتقاق اللحاف. وقيل معناه: لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إِلحاف. وفى حديث النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَن سأل وله أَربعون درهماً فقد سأَل الناس إِلحافا" ويقال:
وليس للمُلْحِف مثلُ الردّ
يقال: أَلحفتنى وأَغللت بى: إِذا أَضَرَّ به. وأَلْحَف الرجل ظُفُرَه: استأْصله.(4/422)
بصيرة فى لحق
لحِقه ولحِق به لَحْقاً ولَحَاقاً - بالفتح - أَى أَدركه. قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} . وأَلحق الشىء بالشىء. وأَلحقه أَيضاً بمعنى لَحِقه.
وفى دعاءِ القُنوت: إِن عذابك بالكفَّار مُلحِق أَى لاحق. وفتح الحاء هو الصواب. وقال ابن دُريد: ملحِق وملحَق جميعا. وقال الليث: بالكسر أَحبّ إِلينا. قال: ويقال إِنها من القرآن لم يجدوا عليها إِلاَّ شاهدا واحدا فوضعت فى القنوت. قال: وهذه اللغة موافقة لقول الله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} .
وقال ابن دريد: أَلحقتهم أَى تقدَّمتهم. وتلاحقت المطايا: لحق بعضها بعضا.
وقول بعض الناس: التحق فلان بكذا أَى لحِق، غير موجود فيما دوِّن من كتب اللغة المعروفة. فلتجتنب.(4/423)
بصيرة فى لحم ولحن ولد
اللحْم - وقد يفتح الحاء - معروف. والجمع لُحُوم ولِحَام وأَلْحُمٌ ولُحْمان. والطائفة منه لَحْمة. قال تعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} ، وقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} .
ورجل لحِيم ولاحمٌ: ذو لحم. ولحّام: بائعه. ولحِم ولَحِيم: سمين. ومُلْحِم: مُطْعِم. ورجل لحم الفرج: أَكُول اللحم قَرِم إِليه. وقد لحُم ولحِم - ككرم وعلم -. وباز لاحم ولَحِم: يأْكله أَو يشتهيه، والجمع: لواحم. واللَّحِيم: القتيل.
اللحْن من الأَصوات المصنوعة الموضوعة، والجمع: أَلحان ولُحُون. ولَحَّن فى قراءَته: طرّب فيها. واللحن: اللغة: واللحْن واللُّحُون واللحَانة واللحَانِية واللحَن: الخطأ فى القراءَة. لحِن كفرح فهو لاحن، ولحَّان ولحَّانة. ولُحَنة: كثير اللحن. واللحن / أَيضا: صرف الكلام عن التصريح إِلى تعريض وفحوى. وهو محمود من حيث البلاغة، وإِليه قصد الشاعر:
.. وخير الحديث ما كان لحنا(4/424)
وإِيَّاه أُريد بقوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أَى فى فحواه ومعناه. واللاحِن: العالم بعواقب الأُمور.
الأَلدّ: الخَصْم الشديد التأَبّى، ورجل أَلَدّ بيّن اللدد، أَى شديد الخصومة، وقوم لُدّ. وتصغير اللُدّ أُلَيْدُّونَ. ولدّه يلدُّه: خصمه فهو لادّ ولَدُود. ورجل أَلندد ويلندد أَى خصم، مثل الأَلدّ.(4/425)
بصيرة فى لدن ولدى
لدُنْ ولَدَن بضم الدال وفتحها، ولَدْنَ كأَين، ولُدْنِ بضم اللام وكسر النون ولَدُ بضم الدال: ولَدَى كعلى، ست لغات. وهو ظرف زمان، وقيل: مكانىّ كعند، قال تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} ، وقال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب} . وسمع لَدَى بمعنى هل.
والعِلْم اللدنِّىّ: ما يحصل للعبد بغير واسطة، بل إِلهام من الله تعالى؛ كما حصل للخضِر عليه السلام بغير واسطة موسى. قال تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} إِذْ لم يكن نيلهما على يد بشر. وكان من لدنْه أَخصّ وأَقرب ممَّا عنده، ولهذا قال: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} فالسلطان النصير الذى من لدنه سبحانه أَخصّ من الذى عنده وأَقرب. وهو نَصْره الذى أَيَّده به، والذى عنده نصره بالمؤمنين، قال تعالى: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} .
والعلم اللدنِّىّ ثمرة العبوديَّة والمتابعة والصدق مع الله والإِخلاص له، وبذل الجهد فى تلقِّى العلم من المشكاة النبوية المحمدية والكتاب العزيز(4/426)
المجيد، وكمال الانقياد له. فيُفتح له من فهم الكتاب والسنَّة أَمر يُخَصّ به، كما قال علىٌّ وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء دون الناس؟ فقال: لا والذى فَلَقَ الحبَّة، وبَرَأَ النَسَمة إِلاَّ فَهما يؤتيه الله عبدا فى كتابه؛ فهذا هو العِلم اللدُنِّىّ الحقيقىّ
وأَمّا علم مَن أَعرض عن الكتاب والسنَّة ولم يتقيد بهما فهو من لدن النفس والشيطان. فهو لدنىّ ولكن من لدن من؟.
وإِنما يعرف كون العلم لدنيّا روحانيا بموافقته بما جاءَ به الرسول صلَّى الله عليه وسلم عن ربّه عزّ وجل. فالعلم اللَّدُنىّ نوعان: لدّنِّىٌّ رحمانىّ، ولدنىّ شيطانى كما تقدم فى بصيرة العِلْم. والله أَعلم.(4/427)
بصيرة فى لزب ولزم ولسن
اللُزُوب: اللصوق قال تعالى: {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} أَى لاصق. تقول منه لَزَب يَلْزُب - مثال كتب - لزوباً. واللازب: الثابت. صار الشىء ضَرْبةَ لازب، وهو أَفصح من لازم، قال النابغة الذُبيانىّ:
يصونون أَجسادا قديما نعيمها ... بخالصة الأَردان خُضر المناكِبِ
ولا يحسبون الخير لا شرَّ بعدَه ... ولا يحسبون الشرّ ضربة لازِبِ
والمِلْزاب: البخيل، وأَنشد أَبو عمرو:
لا يفرحون إِذا ما نَضخة وقعت ... وهُم كرام إِذا اشتد الملازيب
لزوم الشىء: طول مكثهِ. لَزِمَهُ - كسمعه - لَزْماً ولُزُوما ولَزَاماً ولَزَامة ولَزَمة - بفتحهن - ولُزْمانا بالضمّ. ولازمه ملازَمة ولِزاما. وأَلزمه إِيَّاه فالتزمه، قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} /، وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} .
والإِلزام ضربان: ضرب بالتسخير من الله وبالقهر من الإِنسان؛ وضرب بالأَمر والحكم.(4/428)
اللسان: المِقْول ويؤنَّث. والجمع أَلْسِنَةٌ وأَلْسُنٌ ولُسُنٌ. قال تعالى: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} يعبر به عن قوة لسانه؛ فإِن العُقدة لم تكن فى الجارحة، وإِنما كانت فى قوَّته التى بها ينطق. وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} ، واللسان: اللغة. والجمع أَلسِنة. قال تعالى: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} أَى لغاتكم وَنَغَمَاتِكُم؛ فإِنّ لكل إِنسان نغمة مخصوصة يميِّزها السمع؛ كما أَنّ اللون له صورة مخصوصة يميِّزها البصر.
واللسان أَيضا: الرسالة، والمتكلِّم عن القوم. ولسان الميزان: عَذَبته.
واللِّسْن - بالكسر -: لغة فى اللسان. واللَّسَن - بالتحريك -: الفصاحة. لَسِن - كفرح - فهو لَسِنٌ وأَلسَنُ. ولَسَنه: أَخذه بلسانه، وغلبه فى المُلاسَنة. وفلان ينطق بلسان الله: بحجته وكلامِه.(4/429)
بصيرة فى لطف ولظى ولعب (ولعن)
اللُطْف فى الأَجسام: الدقَّة والصغر. لَطُف يلطُف لُطْفا ولَطَافة: دقَّ وصَغُرَ. وفى المعانى تارة يستعمل بمعنى الحركة الخفيفة، وتارة بمعنى الرفق.
والَّلطيف من أَسماءِ الله تعالى هو الرفيق بعباده. واللَّطيف من الكلام: ما غَمُض معناه وخفى. ويقال: لَطَف الله بك أَى أَوصل إِليك مرادك. واللٌّطف من الله: التوفيق والعصمة. والاسم اللَّطَف بالتحريك، قال كعب ابن زهير رضى الله عنه:
ما شَرُّها بعد ما ابيضت مسائحها ... لا الوُدّ أَعرفه منها ولا الَّلطَفا
ويقال: جاءَتنا لَطَفة من فلان - محرّكة - أَى هديَّة. والَّلطَف - محركة -: اللطيف.
وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} ، أَى حسن الاستخراج، تنبيهاً على ما أَوصل إِليه يوسف حيث أَلقاه إِخوته فى الجُبِّ. وقد يعبّر باللطيف عما يتعسَّر على الحاسة إِدراكه. والملاطفة: المبارَّة. والتلطُّف للأَمر: الرفق له.(4/430)
الَّلظَى: النار. وقيل: لهب النار الخالص عن الدخان. ولَظَى معرفة: اسم جهنَّم، أَعاذنا الله منها. ولظِيت النار - كرضيت - لَظًى، والْتظَتْ وتلظَّت: التهبت. ولظَّها تَلْظِيَةً: أَلهبها.
اللٌّعَاب: ما يسيل من الفم. ولقد لَعَب الصبىّ - بفتح العين وكسرها - يَلْعَب لَعْبا: سال لُعَابه؛ وينشد بالوجهين قول لَبِيد رضى الله عنه:
لِعبت على أَكتافهم وحجورهم ... وليدا وسمَّونى مُفيدا وعاصما
ومنه اشتقاق اللَّعِب، وهو كلّ فعل لا يدل على مقصد صحيح. وقد لعِب يلعَب لَعِبا وأُلْعُوبة وتَلْعاباً. والمَلْعب: موضع اللعب، قال: {وَمَا هاذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} واللُّعْبة معروفة، وكل ملعوب به أَيضاً لُعْبة لأَنه اسم. واللَّعْبة - بالفتح -: المرَّة من اللعب، وبالكسر النوع منه؛ مثل الجِلسة من الجلوس.
ورجل لُعْبة: يُلعب به. واللٌّعَبة - مثال هُمَزة - والتِلعابة - بالكسر - والتِلْعِيبة والتِلِعَّابة - بكسرتين وشدّ العين -: الكثير اللعِب.
اللَّعن: الطرد والإِبعاد لَعَنَه فهو لَعِين وملعون والاسم. اللَّعَان واللَّعانِية واللَعْنة مفتوحات.
واللُعْنة - بالضم - من يلعنهُ الناس، وكهُمَزَةٍ: من يلعنهم كثيرا. واللَّعِين والمُلَعَّن: من يلعنه كل أَحد. والتلعين: التعذيب والْتَعَنا وتلاعَنَا، ولاعَنا ملاعَنَة ولِعاناً: لَعَنَ بعضهم بعضاً. ولاعَنَ الحاكمُ بينهما لِعَاناً: حَكَم.(4/431)
/ بصيرة فى لعل
وهو حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر. وقيل: قد ينصبهما، وزُعم أَنه لغة لبعض العرب، وحكوا: لعلَّ أَباك منطلقاً، وتأْويله عند الجمهور على إِضمار يوجد، وعند الكسائى على إِضمار يكون.
وبنو عُقَيل يخفضون بها المبتدأ كقول كعب بن سعد الغَنَوىّ:
ودَاعٍ دعا هل من مجيب إِلى النَّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادعُ أُخرى وارفعِ الصوت جهرةً ... لعلَّ أَبى المغوار منك قريب
ويروى لعلَّ أَبا المغوار ورُوى: يا من يجيب إِلى النِّدا.
ويتصل بلعَلَّ ما الحرفيّة فيكفها عن العمل؛ وجوَّز قوم إِعمالها حينئذ حملاً على ليت لاشتراكهما فى أَنهما يُغيّران معنى الابتداء.
وفى لَعلَّ لغات كثيرة: عَلَّ، علِّ، لعلَّ، لعلِّ، لعَلَّتَ، لعاً، رعَنَّ، رغَنَّ، رعَلَّ، لعَنَّ، لغَنَّ، لأَنَّ عَنَّ، أَنَّ، لَوَنَّ. وعن ابن السكيت: لعَلِّى، ولعلَّنى، ولعَنِّى وعَلِّى، عَلَّنِى ولأَنِّى، ولأَنَّنِى ولَوَنِّى ورَعَنِّى ورَغَنِّى ولَغَنِّى ولعَنَّنِى.
ولها معان:
أَحدها: التوقُّع وهى ترجِّى المحبوب، والإِشفاق من المكروه؛ نحو: لعلَّ الحبيب مواصل، ولعل الرقيب حاصل. وتختص بالممكن.(4/432)
وأَمَّا قول فرعون: {لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات} فإِنما قاله جاهلاً أَو مَخْرَقة وإِفْكًا.
والثانى: التعليل. أَثبته جماعة، وحملوا عليه قوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} ، ومن لم يثبته يحمله على الرجاء ويصرفه إِلى المخاطبين، أَى اذهبا على رجائكما.
الثالث: الاستفهام أَثبته الكوفيُّون، ولهذا عُلِّق بها الفعل فى نحو: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ونحو: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} .
ويقترن خبرها بأَنْ كثيرا حملاً على عسى؛ كقوله:
لعلك يوم أَن تلمَّ ملمَّة
وبحرف التنفيس قليلا كقوله:
فقولا لها قولا رقيقا لعلّها ... سترحمنى من زفرِة وعويل
ولا يمتنع كون خبرها فعلاً ماضياً، نحو قوله صلَّى الله عليه وسلم: "وما يدريك لعلّ الله اطَّلع على أَهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أَى يظنُّ بك الناس [ذلك] . وقوله: {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} أَى اذكروا الله راجين الفلاح. وقوله تعالى فيما ذكر عن قوم فرعون: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة} فذلك طمع منهم فى فرعون.(4/433)
بصيرة فى لغب ولغو
اللٌّغُوب: التعب والإِعياء والنَصب، تقول منه: لَغَب يَلْغُب - كنصر ينصر - لُغُوباً. ولَغِب يلغَب لغة فيه ضعيفة. واللَّغوب بفتح اللام كالقَبول والوَلوع والوَضوء وأَشباهها. وقرأَ أَبو عبد الرحمن السلمى ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير ويزيد النحوى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} بفتح اللام. ورجل لَغْب بالفتح: ضعيف بيّن اللٌّغَابة. وأَلغبهُ: أَتعبه. ولغَّب دابته تلغيباً: تحامل عليه حتى أَعيا.
اللَّغْو واللَّغَا كفَتًى، واللَّغْوى: السقَط، ومالا يُعتدّ به من الكلام وغيره.
وقوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو} أَى مالا عَقْد عليه، مثل ما يجرى فى المخاطبات: لا واللهِ، وبلى والله، وإِى والله، من غير قصد ولا عقد قلب عليه، ومن هذا أَخذ الشاعر:
ولستَ بمأْخوذ بِلَغْوٍ تقوله ... إِذا لم تَعمَّدْ عاقدات العزائم
وقيل: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو} أَى بالإِثم / فى الحلف إِذا كفَّرتم. وقال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أَى قبيحاً من الكلام.(4/434)
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} أَى كنَوا عن القبيح ولم يصرّحوا به، وقيل: معناه: إِذا صادفوا أَهل اللغو لم يخوضوا معهم.
ولَغَا فى قوله يَلْغى - كسعى يسعى - ولغا يَلْغوا - كدعا يدعو - ولَغِىَ يلغَى - كرضِى يرضى - لَغاً ولاغية ومَلْغاة: أَخطأَ. وكلمة لاغية: فاحشة. قال تعالى: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} .(4/435)
بصيرة فى لف ولفت ولفح ولفظ ولفى
لففت الشىء أَلُفَّهُ لَفًّا. ولفَّ الكتيبة بالأُخرى: إِذا خلط بينهما فى الحرب. وأَنشد ابن دريد:
ولكم لففت كتيبة بكتيبة ... ولكم كمىّ قد تركتْ مُعَقر
والألفاف: الأَشجار يلتف بعضها ببعض قال تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} واحدها لِفّ بالكسر. ومنه قولهم: كنَّا لِفّاء أَى مجتمعين فى موضع. وقال الليث: اللِّفّ مالُفُّوا من ههنا وههنا، كما يلُفّ الرجل شهود زور. قال: وصديقة لِفَّة، ويقال: لِف. واللفيف: ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، يقال: جاءُوا بلَفهم ولَفِيفِيهِم، أَى أخلاطهم. وقوله تعالى: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أَى مجتمعين مختلطين من كل قبيلة. وطعام لفيف: إِذا كان مخلوطاً من جنسين فصاعدا. وقال بعضهم فى قوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} إِنها جمع لُفّ بالضم، وهو جمع جنة لفَّاءَ، من قولهم: شجرة لفَّاء ملتفّة الأَغصان. واللُفّ أَيضاً: الشوابِل من الجوارى، وهنّ السِمَان الطوال، من قولهم: امرأَة لفَّاء أَى ضخمة الفخذين، وفخِذان لفَّاوان، قال:
تَساهم ثوباها ففى الدرع رَأْدة ... وفى المِرْط لفَّاوان رِدفهما عَبْل(4/436)
وأَنشد ابن فارس:
عِراض القَطَا مُلْتَفَّةٌ رَبَلاتها ... وما اللُّفُّ أَفخاذا بتاركة عقلا
اللَّفْت: الَّلُّى قال تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} أَى تصرفنا. وفى حديث حُذَيفة: قال: "إِنَّ مِن أَقْرإِ الناسِ لِلقرآن مُنافِقاً لا يدع منه واوًا ولا أَلفاً، يلفِته بلسانه كما تلفت البقرة الخلَى بلسانها". أَى يُرسله ولا يبالى كيف جاءَ، والمعنى أَنه يقرؤه من غير رويّة ولا تبصّر وتعمّد للمأْمور به، غير مبال بمتلوّه كيف جاءَ كما تفعل البقرة بالحشيش إِذا أَكلته. وأَصل اللفت: لَىّ الشىء عن الطريق المستقيم.
لفحته الشمس والسموم: غيَّر لونَهُ بحرّه، قال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} ، وفى الحديث: "تأَخّرت مخافة أَن تصيبنى مِن لَفْحها"، أَى من حرها ووَهَجها.
اللفْظُ بالكلام مستعار من لفَظَ الشىء من الفم، أَى رماه.
أَلفاه: وجده، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب} .(4/437)
بصيرة فى لقب ولقح ولقط ولقف
اللَقَب: اسم يسمَّى به الإِنسان سوى اسمه الأَصلىّ، ويراعى فيه المعنى بخلاف الأَعلام، ولهذا المعنى قال:
وقلَّما أَبْصَرَتْ عيناك ذا لَقَب ... إِلاَّ ومعناه إِنْ فَتشْت فى لَقَبهْ
والأَلقاب ثلاثة: لقب تشريف، ولقب تعريف، ولقب تسخيف، وإِيَّاه قصد بقوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} . ولقَّبته بكذا فتلَقَّبّ.
لَقِحت الناقة تَلْقَح لَقْحا ولَقَاحا، وكذلك الشجرة. وألْقَحَ الفحل الناقةَ، والريحُ السحابَ. قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} أَى ذوات لَقاح. وأَلقح نخلَه ولقَّحها باللَّقَاح، وهو ما يلقح به من طَلْع فُحَّال يُدَقّ ويُذرّ فى جوف الجُفّ. واستلقح نخلُه: حان له أَنْ يُلْقح. وفلان مُلَقَّح مُنَقَّح، أَى مجرَّب مهذَّب.
لَقَطَ الشىءَ / يلقُطه لَقْطاً: أَخذه من الأَرض، ومنه المَثَل: "لكل ساقطة لاقطة"، أَى لكل كلمة بدرت وسقطت من فم الناطق نفس تسمعها فتلقُطُها فتذيعها، يضرب فى حفظ اللسان، أَى ربما قُيِّض لها من يتمنَّاها فيورّط قائلها.(4/438)
واللُّقْطَة - بالتسكين -: اسم الشىء تجده مُلْقىً فتأْخذه. وكذلك المنبوذ من الصبيان. والالتقاط: العثور على الشىء ومصادفته من غير طلب ولا احتساب، قال الله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً}
لقِفت الشىءَ - بالكسر- أَلقَفه لَقْفا ولَقَفَانا، أَى تناولته بسرعة. وقرأَ ابن أَبى عَبْلة: {تَلْقَفْ مَا صنعوا} بسكون اللاَّم ورفع الفاء على الاستئناف. وتلقَّف الشىءَ: ابتلعه، قال الله تعالى: {تَلْقَفْ مَا صنعوا} ، وقرأَ ابن ذَكْوان: (تَلَقَّفُ) برفع الفاءِ على الاستئناف. ولقَّفته تلقيفا: أَبلعْته.(4/439)
بصيرة فى لقى
لَقِيَهُ - كرضيه - لِقَاء ولِقَاءَة ولِقِيًّا ولِقْيانة - بكسرهنَّ - ولُقِيَّا ولُقْياناً ولُقْية ولُقًى - بضمِّهن -[ولَقَاءَة] مفتوحة: رآه، كتلقَّاه والتقاه. والاسم التِلقاء - بالكسر - ولا نظير له فى الكلام سوى التبيان. ويكون اللقاء بحسّ البصر وبالبصيرة، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} وقال تعالى: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هاذا نَصَباً} .
وملاقاة الله عزَّ وجلَّ عبارة عن القيامة، وعن المصير إِليه، قال تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله} واللِقاءُ: الملاقاة. وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} أَى نسيتم القيامة والبعث والنشور. وقوله: {يَوْمَ التلاق} أَى يوم القيامة. قال بعض المفسِّرين: أَسماء يوم القيامة نحو من أَربعمائة اسم، وتخصصه بهذا الاسم لالتقاءِ مَن تقدّم ومَن تأَخَر، ولالتقاءِ أَهل الأَرض والسماءِ، وملاقاة كل أَحد عمله الذى قدَّمه.
ولقَّيت فلانا خيرًا: استقبلته به، قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} . [وتلقَّاه] : استقبله، قال تعالَى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} . ولقَّاه الشىءَ: أَلقاه إِليه، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن} ، أَى يُلقى(4/440)
إِلَيْكَ وحياً من الله تعالى، ومنه قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} .
والإِلقاء: طرحُ الشىء حيث تلقاه، ثم استعمل فى كل طرحٍ، قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى} ، وقال: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} . ويقال: أَلقيت إِليك مودّة وكلاماً وسلاما، قال تعالى: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} . وتَلَقَّيته منه: تلقَّنته. ونُهِىَ عن تلقِّى الرّكبان، أَى استقبالهم. وقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} عبارة عن الإِصغاءِ إِليه. وقوله: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} تنبيه على مادهمهم من التعجّب والدهشة التى جعلتهم فى حكم المضطرِّين غير المختارين.(4/441)
بصيرة فى لم ولم ولما
لَمَّ الشىءَ يَلُمّه: جمعه. ولمّ الله شَعَثه: قارب بين شتيت أَمره. ورجل مِلَمّ: يجمع القوم، أَو يجمع بين عشيرته. قال الله تعالى: {أَكْلاً لَّمّاً} الأَكل يلمّ الثريد. وأَلمّ به: نزل. ويزورنى لِمَاماً، أَى غِبًّا.
واللَمَم: مقاربة المعصية. ويعبر به عن الصغيرة. وقوله تعالى: {إِلاَّ اللمم} من قولك: أَلممت بكذا، أَى نزلت به وقاربته من غير مواقعة. وغلام مُلِمّ: مراهق. والمُلِمَّة: النازلة. وأَلمّ بالأَمر: لم يتعمّق فيه. وأَلمّ: باشر صغار الذنوب. وأَلمّ النخلُ: قارب الإِرطاب.
لَمْ: حرف جازم / ينفى المضارع ويقلبه ماضياً، قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} . وقد يرتفع الفعل بعدها؛ كقول الشاعر:
لولا فوارِسُ من نُعْمٍ وإِخوتهم ... يوم الصُّلَيفاء لم يُوفُون بالجار
وقيل: ضرورة. وقيل: بل لغة صحيحة لبعض العرب. وقال اللِّحيانىّ: وقد ينصب الفعل بعدها. وهى لغة لبعض العرب:
فى أَىّ يَوْمَىَّ من الموتِ أَفِرّْ ... أَيَوْمَ لَمْ يُقْدَرْ أَمْ يومَ قُدِرْ
ومنه قراءَة بعضهم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، وقيل: كان الأَصل:(4/442)
نشرحَنْ فحذفت النون؛ وليس بجيّد. وقد تفُصل (لَمْ) من مجزومها بالظرف لضرورة الشعر؛ كقوله:
فذاك ولم إِذا نحن امْتَرَيْنا ... تكنْ فى الناس يُدركُك المِراءُ
وقول الآخر:
فأَضحت مغانيها قِفارا رُسومُها ... كأنْ لم سِوَى أَهلٍ من الوحش تؤهِلِ
وقد يليها الاسم معمولا لفعل محذوف يفسّره ما بعده؛ كقوله،
ظننت فقيرا ذا غِنًى ثم نلته ... فلمْ ذا رجاء أَلقَه غير ذاهب
وَأَمَّا لَمَّا فعلى ثلاثة أَوجه:
أَحدها: أَن تختص بالمضارع فتجزمه، وتنفيه، وتقلبه ماضياً، كلَمْ إِلاَّ أَنها تفارقها فى خمسة أَمور:
1- أَنها لا تقترن بأَداة شرط، لا يقال: إِنْ لَمَّا يقم. وفى التنزيل: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ، و {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} ، {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ} .
2- أَن منفيّها مستمرّ النفى إِلى الحال؛ كقول عثمان:
فإِنْ كنتُ مأْكولا فكن خير آكل ... وإِلاَّ فأَدركنى ولمّا أَمزّق
ومنفىّ لم يحتملَ الاتِّصال؛ نحو قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} ، والانقطاعَ نحو قوله تعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} ، ولهذا(4/443)
جاز لم يكن ثمَّ كان، ولم يجز لمّا يكن [ثمّ كان. بل يقال: لمَّا يكن] وقد يكون.
3- منفىّ لَمَّا لا يكون إِلاَّ قريباً من الحال، ولا يشترط ذلك فى منفىّ لم، تقول: لم يكن زيد فى العام الماضى مقيما، ولا يجوز لمّا يكن.
4- أَن منفىّ لَمَّا متوقَّع ثبوته، بخلاف منفىّ لم؛ ألا ترى أَن معنى {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} أَنهم لم يذوقوه إِلى الآن، وأَنَّ ذوقهم له متوقَّع. ومثله قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} ، وقد آمنوا فيما بعد.
5- أَن منفىّ لمَّا جائز الحذف لدليل؛ كقوله:
فجئت قبورهم بَدْءًا ولمَّا ... وناديت القبور فلم يُجبْنَهْ
أَى ولما أكن بَدءًا قبل ذلك، أَى سيدًا. ولا يجوز وصلت إِلى بغداد ولم، تريد: ولم أَدخلها.
الثانى من أَوجه لمَّا: أَن تختص بالماضى؛ ويقال: لَمَّا حرف وجود لوجود، وقيل: حرف وجوب لوجوب. وقيل: ظرف بمعنى حين، وقيل: بمعنى إِذْ، ويكون جوابها فعلا ماضياً اتِّفاقا، وجملة اسميّة مقرونة بإِذا الفجائية، أَو بالفاء عند بعضهم، وفعلاً مضارعاً عند بعضهم.
دليل الأَوّل قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} ودليل الثانى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ودليل الثالث: {فَلَمَّا(4/444)
نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} ، ودليل الرابع: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع وَجَآءَتْهُ البشرى يُجَادِلُنَا} ، وهو مؤوّل بجادَلنا.
وقيل فى آية الفاء: إِن الجواب محذوف، أَى انقسموا قسمين. فمنهم مقتصد، وفى آية المضارع: إِن الجواب {جَآءَتْهُ البشرى} على زيادة الواو، أَو الجواب محذوف، أَى أَقبل يجادلنا.
الثالث: يكون حرف استثناء، فيدخل على الجملة الاسميّة، نحو: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} فيمن شدَّد الميم؛ وعلى الماضى لفظاً لا معنًى، نحو / أَنْشُدُك اللهَ لَمَّا فعلتَ، أَى ما أَسأَلك إِلاَّ فِعْلك، ومنه قوله تعالى: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} قال الفرّاءُ: لَمَّا وُضعت فى معنى إِلاَّ، فكأَنها لَمْ ضمّت إِليها ما وصارا جميعا حرفا واحدا، وخرجا من حدّ الجحد. قال الأَزهرى: ومما يدلّ على أَنَّ لَمَّا يكون بمعنى إِلاَّ مع إِنْ التى تكون جحدا قول الله عزَّ وجلَّ: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} وهى قراءَة قرّاء الأَنصار، وقال الفرَّاءُ: وهى فى قراءَة عبد الله (إِنْ كُلّهم لَمَّا كَذَّب الرسل) ، والمعنى واحد.
وتكون لمّا مركَّبة من كلمات ومن كلمتين.
فأَمَّا المركَّبة من كلمات فكما فى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} فى قراءَة ابن عامر وحمزة وحفص بتشديد نون (إِن) وميم (لمَّا) فيمن قال: الأَصل: لَمِنْ مَا، فأَبدلت النون ميماً، وأُدغمت، فلمَّا كثرت الميمات حُذفت الأُولى. وهذا القول ضعيف؛ لأَن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت.(4/445)
وأَضعف منه قول آخر: إِن الأَصل: لَمًّا بالتنوين بمعنى جمعاً، ثم حذف التنوين إجراء للوصل مُجرى الوقف؛ لأَن استعمال لَمَّا فى هذا المعنى بعيد، وحَذف التنوين من المنصرف أَبعد. وأَضعف من هذا قول من قال: إِنه فَعْلَى من اللمّ وهو بمعناه، ولكنه مُنع الصرف لأَلف التأْنيث. ولم يثبت استعمال هذه اللفظة.
واختار ابن الحاجب أَنها لَمَّا الجازمة حذف فعلها، والتقدير: لمّا يُهمَلوا، أَو لَمَّا يُتركوا لدلالة ما تقدم من قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} ، ثم ذكر الأَشقياءَ والسعداء. وقيل: الأَحسن أَن يقدّر: لَمَّا يُوَفَّوْا أَعمالهم، أَى إنهم إِلى الآن لم يوَفَّوها وسيوفَّونها.
وأَمَّا قراءَة أَبى بكر بتخفيف (إِن) وتشديد (لمَّا) فيحتمل وجهين: أَحدهما: أَن تكون مخففة من الثقيلة. والثانى: أَن تكون (إِنْ) نافية و (كُلاّ) مفعولا بإضمار أَرى، ولَمَّا بمعنى إِلاّ.
وأَمَّا قراءَة النحويِّيْن بتشديد النون وتخفيف الميم فواضحة.
وأَمَّا قراءَة الحرمِيَّيْن بتخفيفهما فإِنَّ الأُولى على أَصلها من التشديد ووجوب الإعمال، وفى الثانية مخففة من الثقيلة، وأُعملت على أَحد الوجهين. واللام مِن (لما) فيهما لام الابتداء.
وأَمَّا المركَّبة من كلمتين فكقوله:
لمَّا رأَيت أَبا يزيدَ مقاتلاً ... أَدع القتال وأَشهد الهيجاءَ
الأَصل فيه: لن ثم أدغمت النون فى الميم للتقارب، ووُصِلا خطأ للإلغاز، وإِنما حقها أَن يكتبا منفصلين. والله أَعلم.(4/446)
بصيرة فى لو
وهى حرف شرط للماضى. ويقلّ فى المستقبل. وقال سيبويه: حرف لِمَا كان سيقع لوقوع غيره. وقال غيره: حرف امتناعٍ لامتناع. وقيل: لمجرّد الربط. وقيل: الصحيح أَنه فى الماضى لامتناع ما يليه، واستلزام تاليه، ثم ينتفى الثانى إِن ناسب ولم يخلف المقدَّمَ غيره، نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ؛ لا إِن خلفه؛ نحو: لو كان إِنسانا لكان حيوانا. ويَثبت إِن لم يناف وناسب بالأَولى، كلولم يخف لم يعصِ، أو المساوى: كلولم تكن رَبيبته لَمَا حَلَّت للرضاع، أَو الأَدون؛ كقولك: لو انتفت أُخوّة النّسب لما حلَّت للرضاع.
وترد للتمنِّى والعَرْض، والتقليل، نحو: ولو بظِلْفٍ مُحْرقٍ.
وتكون مصدريّة بمنزلة أَن، إِلاَّ أَنها / لا تنصب، نحو قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ} ، وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} .
وقد ورد بمعنى إِنْ، نحو قوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ، وقوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ(4/447)
كَثْرَةُ الخبيث} ، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} ، ولو جاء على فرس. وقول الشاعر:
قومٌ إِذا حاربوا شدُّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
وقولنا: لو شرط للماضى معناه أَن لو يفيد عقد السببيّة والمسببّية بين الجملتين بعدها، وبهذا يجامع إِنّ الشرطية؛ وبتقييد الشرط بالماضى يفارق إِنْ، فإِنها للمستقبل. ومع تنصيص النحاة على قلة ورود لو للمستقبل فإِنهم أَوردوا لها أَمثلة، منها قوله:
ولو تلتقى أَصداؤنا بعد موتنا ... ومن دون رَمْسينا من الأَرض سبسب
لظلَّ صَدَى صوتى وإِن كنت رِمّة ... لصوت صدى ليلى يَهَش ويطرب
وقول توبة ابن الحُمَيِّر:
ولو أَنّ ليلى الأَخيليَّة سلَّمت ... علىّ ودونى جَنْدَلٌ وصفائحُ
لسلَّمتُ تسليم البشاشة أَوزقا ... إِليها صدًى من جانب القبر صائح
وقول الآخر:
لا يُلْفِكَ الراجوكَ إِلاَّ مظهرا ... خُلقَ الكرام ولو تكون عديما
وقد أَكثر الخائضون القول فى لو الامتناعية. وعبارة سيبويه مقتضِية أَن التالى فيها كان بتقدير وقوع المقدّم قريب الوقوع؛ لإِتيانه بالسين فى قوله: سيقع. وأَمَّا عبارة المعربين: أَنها حرف امتناع لامتناع فقد ردّها(4/448)
جماعة من مشايخنا المحقِّقين، قالوا: دعوى دلالتها على الامتناع مطلقا منقوضة بمالا قِبَل به. ثم نقضوا بمثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} ، قالوا: فلو كانت حرف امتناع لامتناع لزم نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما فى الأَرض من شجرة أَقلاما تكتب الكلماتِ، وكون البحر الأَعظم بمنزلة الدواة، وكون السبعة الأَبحر مملوءات مِدَاداً وهى تَمُد ذلك البحْر؛ وقول عُمَر رضى الله عنه: نعم العبد صُهَيب لو لم يخف الله لم يعصه. قالوا. فيلزم ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف، وهو عكس المراد.
ثم اضطربت عباراتهم. وكان أَقربها إِلى التحقيق كلام شيخنا أَبى الحسن بن عبد الكافى، فإِنه قال: تتبَّعت مواقع (لو) من الكتاب العزيز، والكلام الفصيح، فوجدت المستمرّ فيها انتفاءَ الأَوّل وكون وجوده لو فرض مستلزماً لوجود الثانى. وأَمَّا الثانى فإِن كان الترتيب بينه وبين الأَوّل مناسباً ولم يخلُف الأَوّل غيره فالثانى منتف فى هذه الصورة؛ كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ، وكقول القائل: لو جئتنى لأَكرمتك. لكن المقصود الأَعظم فى المثال الأَوّل نفى الشرط ردَّا على من ادّعاه، وفى المثال الثانى أَن الموجب لانتفاء الثانى هو انتفاء الأَوّل لا غير. وإِن لم يكن الترتيب بين الأَول والثانى مناسباً لم يدلَّ على انتفاء الثانى، بل على وجوده من باب الأَولى، مثل: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فإِن المعصية منفيَّة عند عدم الخوف. فعند الخوف أَولى(4/449)
وإِن كان الترتيب مناسباً ولكن الأَول عند انتفائه شىء آخر يخلفه بما / يقتضى وجود الثانى [فالثانى غير منتفٍ] ، كقولنا: لو كان إِنساناً لكان حيوانا؛ فإِنه عند انتفاءِ الإِنسانية قد يخلفها غيرها مِمَّا يقتضى وجود الحيوانيّة. وهذا ميزان مستقيم مطَّرد حيث وردت لو وفيها معنى الامتناع.
وقال بعض العصريِّين ممن يودّ تصحيح عبارة سيبويه وترجيحها: مدلول لو الشرطيّة امتناع التالى لامتناع المقدّم مطلقاً. وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولاكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} ، فالمعنى والله أَعلم - ولكن حق القول فلم أَشأ، أَولم أَشأ فحقَّ القول: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولاكن الله سَلَّمَ} ، أَى فلم يريكموهم لذلك. {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولاكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} ، {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولاكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} ، {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولاكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولاكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} ، {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولاكن لِّيَبْلُوَكُمْ} ، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولاكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً(4/450)
مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولاكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} ، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ولاكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولاكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} ، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولاكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ، {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ولاكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} ، {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولاكن كَرِهَ الله انبعاثهم} ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} ، {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولاكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ولاكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وغير ذلك من الآيات. وفى الحديث: "لو كنت متَّخذا [من أُمَّتى خليلا] لاتَّخذت أَبا بكر خليلاً، ولكن أَخى وصاحبى". وفى رواية: ولكن أُخوّة الإِسلام، "ولو يُعطَى الناسُ بدعواهم لادّعى رجال دماءَ قومٍ وأَموالهم، لكن البيِّنة على المدّعِى واليمينُ على مَن أَنكر". وقال امرؤ القيس:(4/451)
ولو أَنَّما أَسعَى لأَدنى معيشة ... كفانى ولم أَطلب قليلٌ من المال
ولكنّما أَسعى لمجد مؤثَّل ... وقد يدرك المجدَ المؤثَّل أَمثالى
وقال طرفة بن العبد:
فلو كان مولاى امرأً هو غيرُه ... لفرَّج كربى أَو لأَنظرنى غدى
ولكنَّ مولاى امرؤ هو خانقى ... على الشكر والتسآل أَو أَنا مفتدِ
وقال قُرَيط بن أُنَيف العنبرىّ:
لو كنتُ من مازنٍ لم تستبح إِبلى ... بنو الَّلقيطة من ذُهل بن شيبانا
لكنَّ قومى وإِن كانوا ذوى عَدَدٍ ... ليسوا من الشرِّ فى شىءٍ وإِن هانا
هكذا وقع فى جمهور نسخ الحماسة. والصواب: بنو الشقيقة. والنسخ / محرّفة. وقال آخر:
رأَين فتى لا صيدُ وحشٍ يهمّه ... فلو صافحت إِنسا لصافحنه معا
ولكنَّ أَرباب المخاض يشفَّهم ... إِذا اقتفروه واحدا أَو مشيّعا
وقال آخر:
ولو خفت أَنى إِن كففت تحيتى ... تنكّبت عنى رُمْت أَن تتنكبا
ولكن إِذا ماحلَّ كرهٌ فسامحت ... به النفس يوما كان للكره أَذهبا
وقال آخر:
فلو كان حمدٌ يُخلد الناسَ لم تَمُتْ ... ولكنَّ حمد الناس ليس بِمُخْلِدِ(4/452)
فهذه الأَماكن وأَمثالها صريحة فى أَنها للامتناع، لأَنها عُقّبت بحرف الاستدراك داخلاً على فعل الشرط منفيًّا لفظاً أَو معنى، فهى بمنزلة: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولاكن الله رمى} . فإِذا كانت دالَّة على الامتناع ويصحّ تعقيبها بحرف الاستدراك دلَّ على أَن ذلك عامّ فى جميع مواردها، وإِلاَّ يلزم الاشتراك، وعدم صحّة تعقيبها بالاستدراك. وذلك ظاهر كلام سيبويه، فلم يخرج عنه.
وأَمَّا قول مَن قال: إِنه ينتقض كونه للامتناع بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وبالأَثر العُمَرىّ: لو لم يخف، وبقول النبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "لو لم تكن ربيبتى فى حجرى لما حلَّت لى" فإِنه يمكن ردّ جميع ذلك إِلى الامتناع. وإِيضاح ذلك بأَن تقول: إِذا قلنا: امتنع طلوع الشمس لوجود الليل فليس معناه انتفاءُ طلوع الشمس رأْساً بل انتفاؤه لوجود الليل. وفَرْق بين انتفائه لذلك وانتفائه المطلق، فإِن الأَوّل أَخصّ من الثانى. ولا يلزم من ارتفاع الخاص ارتفاع العام. فاذا قلنا: لو حرف امتناع لامتناع كان المعنىّ به أَن التالى يمتنع امتناعاً مضافاً إِلى امتناع المقدَّم. وليس المعنىّ به أَنه يمتنع مطلقا. وإِذا قلت فيمن قيل لك انتقض وضوءُه لأَنه مسّ ذكره: لم ينتقض لأَنه مسّ، فإِنه لم يمسّ، ولكن لناقض آخر غير المسّ، صحّ؛ ولذلك لك أَن تقول: لم ينتقض لأَنه لم يمسّ. كلَّ هذا كلام صحيح، وإِن كان وضوءه منتقِضاً عندك بناقض آخر؛ فإِن حاصل كلامك أَن الانتقاض(4/453)
بالنسبة إِلى المسّ لم يحصل، ولا يلزم من ذلك انتفاء أَصل الانتقاض، فإِنما يلزم مطلقاً الامتناع فى لو الشرطية لو قلنا: إِن مقتضاه الامتناع مطلقا، ونحن لم نقل ذلك، وإِنما قلنا: يقتضى امتناعاً منكَّرًا لامتناع منكَّر، فالمنفىّ خاصّ لا عامّ.
إِذا عرفت هذا فنقول: قد يؤتى بلَوْ مسلَّطة على ما يحسب العقل كونه إِذا وُجد مقتضِياً لوجود شىء آخر، مرادًا بها أَن ذلك لا يلزم تحقيقا لاستحالة وجود ذلك الشىء الآخر الذى ظُنَّ أَنه يوجد عند وجود ما يحسبُه العقل مقتضِيا؛ كما تقول لعابد الشمس: لو عبدتها أَلف سنة ما أَغنت عنك من الله شيئاً، فإِن مرادك أَن عبادتها لا تغنى. وفى الحقيقة الازدياد من عبادتها ازدياد من عدم الإِغناء، ولكن لمَّا كان الكلام خطابا لمن يعتقدها مغنِية حسن إِخراجه فى هذا القالَب. وكذلك تقول للسائل إِذا أَحكمت أَمر منعه: لو تضرعت إِلىّ بألف شفيع ما قضيتُ لك سُؤلا. ولذلك إِذا [كان] بصيغة إِن الشرطيّة لم يكن له مفهوم عند المعترفين بمفهوم الشرط؛ كما فى قوله تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} ، لأَن المراد قطع الإِياس. والإِتيان بصيغة لو فيما ضَرَبناه مَثَلا لتحقَّق الامتناع لا لمقابله.
وأَمَّا ما أَوردوه نقضاً، وأَنه يلزم نفاد الكلمات عند انتفاء كون ما فى الأَرض من شجرة أَقلاما، وهو الواقع؛ فيلزم النَفَاد وهو مستحيل؛ فالجواب أَن النَفَاد إِنما يلزم انتفاؤه لو كان المقدّم ممَّا لا يتصور العقل أَنه(4/454)
مقتضٍ للانتفاء. أَما إِذا كان ممَّا قد يتصوّره العقل مقتضياً فألاَّ يلزم عند انتفائه أَولى وأَحرى. وهذا لأَن الحكم إِذا كان لا يوجد مع وجود المقتضِى فأَلاَّ يوجد عند انتفائه أَولى. فمعنى (لو) فى الآية أَنه لو وجد الحكم المقتضِى لما وُجد الحكم، لكن لم يوجد فكيف يوجد. وليس المعنى: لكن لم يوجد فوجد؛ لاِمتناع وجود الحكم بلا مقتضٍ.
فالحاصل أَن ثمّ أَمرين: أَحدهما: امتناع الحكم لامتناع المقتضِى. وهو مقرر فى بدائه العقول؛ وثانيهما: وجوده عند وجوده، وهو الذى أَتت (لو) للتنبيه على انتفائه مبالغة فى الامتناع. فلولا تمكُّنها فى الدلالة على الامتناع مطلقا لما أُتى بها. فمن زعم أَنها والحالة هذه لا تدل عليه فقد عكس ما يقصده العرب بها، فإِنها إِنما تأْتى بلو هنا للمبالغة فى الدلالة على الانتفاء؛ لما للو من التمكُّن فى الامتناع.
فإِذا تبين هذا أَنقله إِلى الأَثر وغيره، فنقول: لو لم يخف اللهَ لم يعصه لِمَا عنده من إِجلال الله تعالى والخشية، وإِذا لم يخف يكون المانع واحدا وهو الإِجلال. فالمعصية منتفية على التقديرين، وجئ بلو تنبيها على الامتناع بالطريقة التى قدَّمناها لا على مطلق الامتناع.
فإِن قلت: قوله لو لم يخف لم يعص إِذا جعلنا لو للامتناع صريح فى وجود المعصية، مستندا إِلى وجود الخوف، وهذا لا يقبله العقل. قلنا: المعنى: لو انتفى خوفه انتفى عصيانه، لكن لم ينتف خوفه فلم ينتف عصيانه مستنداً إِلى أَمر وراءَ الخوف.(4/455)
وأَما قوله: ترد للتمنِّى فشاهده قوله تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} ، أَى فليت لنا كرّة؛ ولهذا نصب (فيَكُونَ) فى جوابها، كما انتصب (فأَفُوزَ) فى جواب كنت فى قوله تعالى: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} .
وأَما العَرْض فمثاله: لو تنزل عندنا فتصيب خيرًا.
وأَما التقليل فذكره بعض النحاة؛ وكثر استعمال الفقهاء له، وشاهده قوله تعالى: {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} ، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَوْلِم ولو بشاة"، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اتَّقوا النار ولو بشِق تمرة"، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "التمِس ولو خاتما من حديد"، وقوله صلَّى الله عليه وسلَم: "تصدَّقوا ولو بظِلف مُحْرَق".
وقد يُسأَل عن قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} ، ويقال: إِن الجملتين يَتَركَّب منهما قياس وحينئذ ينتج: لو علم الله فيهم لتولَّوْا وهذا مستحيل.
الجواب أَن التقدير: لأَسمعهم إِسماعاً نافعا، ولو أَسمعهم إِسماعا غير نافع لتولَّوْا.
جواب ثان: أَن يقدّر ولو أَسمعهم على تقدير عدم علم الخير فيهم.
جواب ثالث: أَن التقدير: ولو علم الله فيهم خيرًا وقتاما لتولَّوا بعد ذلك.(4/456)
قال الشيخ أَثِير الدين: وقد ركَّب أَبو العبَّاس بن مرَيسُح ما دخلت عليه لو تركيباً غريباً غير عربىّ فقال:
ولو كلَّما / كلب عوى مِلْتُ نحوَه ... أَجاوبه إِنّ الكلاب كثير
ولكن مبالاتى بمن صاح أَو عَوى ... قليل فإِنِّى بالكلاب بصير(4/457)
بصيرة فى لولا
وهى على أَربعة أَوجه:
أَحدها: أَن تدخل على اسمية ففعليَّة لربط امتناع الثانية بوجود الأَولى، نحو: لولا زيد لأَكرمتك، أَى لولا زيد موجود. وأَمَّا قوله صلَّى الله عليه وسلم: "لولا أَن أَشُقَّ على أُمَّتى لأَمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فالتقدير: لولا مخافة أَن أَشق لأَمرتهم أَمر إِيجاب، وإِلاَّ لا نعكس معناها؛ إِذِ الممتنع المشقَّة والموجود الأَمر. والمرفوع بعد لولا مبتدأ، والخبر يكون كوناً مطلقا.
الثانى: يكون للتحضيض والعَرْض، فيختص بالمضارع أَو ما فى تأْويله؛ نحو: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} ونحو: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} والفرق بينهما أَن التحضيض طلب بحثٍّ، والعَرْض طلب برفع وتأَدّب.
الثالث: أَن تكون للتوبيخ والتنديم، فتختصّ بالماضى؛ نحو قوله تعالى: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} ، {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ} ، ومنه: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} ، الاَّ أَن الفعل أُخّر، وقوله:(4/458)
تعدُّون عَقْرَ النِّيب أَفضلَ مجدكم ... بنى ضَوْطَرَى لولا الكِمىَّ المقنَّعا
إِلاَّ أَن الفعل أضمر، أَى لولا عددتم.
وقد فُصلت من الفعل بإِذا وإِذا معمولين له، وبجملة شرط معترَضة. فالأَول نحو: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} ، {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} ، والثانى والثالث: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولاكن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ} ، المعنى: فهلاَّ ترجعون الروح إِذا بلغت الحلقوم إِن كنتم غير مربوبين وحالتكم أَنكم تشاهدون ذلك. ولولا الثانية تكرار للأُولى.
الرابع: الاستفهام؛ نحو: {لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ، {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} هكذا مثَّلوا. والظاهر أَن الأُولى للعَرْض، والثانية مثل: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} .
وذكر بعضهم قسماً خامساً وهو: أَنها تكون نافية بمعنى لَمْ، وجعل منه: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} ، والظاهر أَن المعنى على التوبيخ، أَى فهَلاَّ كانت قرية واحدة من القرى المهلَكة تابت عن الكفر قبل مجئ العذاب فنفعها ذلك؛ وهو تفسير الأَخفش والكسائىّ والفرّاء وعلى بن عيسى والنحاس. ويؤيده قراءَة أُبَى وعبد الله؛ (فَهَلاَّ) ، ويلزم من هذا المعنى النفى؛ لأَن التوبيخ يقتضى عدم الوقوع.(4/459)
وذكر الزمخشرى فى قوله تعالى: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} : لكنه جئ بلولا ليفاد أَنهم لم يكن لهم عذر فى ترك التضرع، إِلاَّ عنادهم وقسوة قلوبهم وإِعجابهم بأَعمالهم التى زيَّنها الشيطان لهم. وقول القائل:
أَلا زعمت أَسماءُ أَن لا أحبّها ... فقلتُ بَلَى لولا ينازعنى شُغلى
قيل: إِنها الامتناعية، والفعل بعدها على إِضمار أَن، على حدّ قولهم: تسمعُ بالمُعَيدِىّ خير من أَن تراه. وقيل: ليس من أَقسام لولا، قيل: هما كلمتان بمنزلة قولك: لو لم، والجواب محذوف، أَى لولم ينازعنى شغلى لزرتك.
و (لَوْما) بمعنى لولا تقول: لوما زيد لأَكرمتك، ومنه قوله تعالى: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} : وزعم بعضهم أَن لوما لا يستعمل إِلا للتحضيض. والله أَعلم.(4/460)
بصيرة فى لا
/ وهى على ثلاثة أَوجه: نافية، وموضوعة لطلب الترك، وزائدة. فأَمَّا النافية فعلى خمسة أَوجه:
أَحدها: أَن تكون عاملة عمل إِنَّ. وإِنما يظهر نصب اسمها إِذا كان خافضا، نحو: لا صاحب جود ممقوت، وقول المتنبِّى:
فلا ثوب مجدٍ غيرَ ثوب ابن أَحمد ... على أَحد إِلاَّ بلؤم مرقَّع
أَو رافعاً، نحو: لا حَسَناً فعلُه مذموم؛ أَو ناصباً، نحو: لا طالعاً جبلاً حاضر ومنه لا خيرًا من زيد عندنا، وقول المتنبِّى:
قِفا قليلا بها علىّ فلا ... أَقلَّ من نظرة أَزوّدها
والثانى: العاملة عمل ليس، فمثَّلوا بقوله:
مَن صَدّ عن نيرانها ... فأَنا ابن قيس لا براحُ
الوجه الثالث: أَن تكون عاطفة، ولها ثلاثة شروط:
أَحدها: أَن يتقدّمها إِثبات، نحو: جاءَ زيد لا عمرو؛ أَو نداء، نحو: يا ابن أَخى لا ابن عمِّى.
الثانى: أَلاَّ تقترن بعاطف.(4/461)
الثالث: أَن يتعاند متعاطِفاها، فلا يجوز جاءَنى رجل لا زيد؛ لأَنه يصدق على زيد اسمُ الرّجل، بخلاف جاءَنى رجل لا امرأَة.
قالوا: فإِن كان ما بعدها جملة اسميّة صدرُها معرفة أَو نكرة ولم تعمل فيها، أَو فعلاً ماضياً لفظاً أَو تقديرًا، وجب تكرارها. مثال المعرفة: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} ؛ ومثال النكرة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} ، والتكرار هنا واجب بخلاف: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} ، ومثال الفعل الماضى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} ، وفى الحديث: "فإِنَّ المُنْبَتَّ لا أَرضا قَطَع ولا ظَهْراً أَبقى".
الثانى من أَوجه لا: أَن تكون موضوعة لطلب الترك، وتختص بالمضارع؛ نحو: قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} ، {لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ} .
الوجه الثالث: لا الزَّائدة للتأْكيد، نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} ، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} وتوضِّحه الآية الأخرى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} .
واختلف فى لا فى مواضع من التنزيل هل هى نافية أَو زائدة:
أَحدها: قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} فقيل: نافية لما تقدّم منهم من إِنكار البعث. وقيل: زائدة لمجرّد التوكيد وتقوية الكلام.(4/462)
الموضع الثانى: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} ، فقيل: لا نافية. وقيل: ناهية، وقيل: زائدة. والجمع محتمل. وحاصل القول فى الآية: أَن (ما) خبريَّة بمعنى الذى منصوبة بـ (أَتْلُ) ، (وحرَّم رَبُّكُمْ) صلة، (وعليكم) متعلق بـ (حرَّم) .
الموضع الثالث: قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فيمن فَتَح الهمز، فقال الخليل والفارسىّ: لا زائدة، وإِلاَّ لكان عُذراً لهم أَى للكفَّار. وردّه الزجَّاج بأَنهّا نافية فى قراءَة الكسر، فيجب ذلك فى قراءَة الفتح. وقيل: نافية وحُذف المعطوف، أَى أَو أَنهم يؤمنون وقال الخليل مرّة: (أَنَّ) بمعنى لعل. وهى لغة فيه.
الموضع الرابع: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ، وقيل: زائدة. والمعنى: ممتنع على أَهل قرية قدَّرنا إِهلاكهم لكفرهم أَنهم يرجعون عن الكفر إِلى القيامة. وقيل: نافية، والمعنى: ممتنع عليهم أَنهم لا يرجعون إِلى الآخرة.
الموضع الخامس: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله ولاكن / كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} قرئ فى السبع برفع (يأْمركم) ونصبه. فمن رفعه(4/463)
قطعه عمَّا قبله، وفاعله ضميره تعالى، أَو ضمير الرسول، و [لا] على هذه القراءَة نافية لا غير. ومن نصبه فهو معطوف على (يُؤتيه) وعلى هذا (لا) زائدة مؤكَّدة لمعنى النفى.
وقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ} قرأَ جماعة (لَتُصِيبَنَّ) ، وخُرّج على حذف أَلف (لا) تخفيفاً؛ كما قالوا: أَمَ والله.
وأَمَّا (لا) فى قوله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} فقيل: نافية، والتاء لتأْنيث اللفظة، نحو: رُبَّت وثُمَّت، وحرّكت لالتقاء الساكنين. وقيل نافية والتاء زائدة فى أَوّل الحِين. وقيل: إِنما هى كلمة واحدة، فعل ماضٍ بمعنى نَقَص، من قوله تعالى: {لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} فإِنه يقال: لات يليت، كما يقال أَلَت يأْلت، وقد قرئ بهما. وقيل: أَصلها لَيِس على زنة أَيس، قُلبت الياءُ أَلِفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأَبدلت السين تاء.
واختلف فى عمله، فقال الأَكثرون: يعمل عمل ليس، وقيل: يعمل عمل إِنَّ: ينصب الاسم ويرفع الخبر، وقيل: لا يعمل شيئاً. فإِن وليها مرفوع فمبتدأ محذوف الخبر، أَو منصوب فمعمول لفعل محذوف. والتقدير فى الآية: لا أَرى حين مناص. وعلى قراءَة الرفع التقدير: لا حينُ مناص كائن لهم.
وقرئ: {وَلاَتَ حِينِ مَنَاصٍ} بخفض (حين) ، فزَعم الفرّاء أَن (لات) يستعمل حرفاً جارا لأَسماءِ الزمان خاصّة؛ كما أَن مذْ ومُنْذ كذلك. والله أَعلم.(4/464)
بصيرة فى لن وليت (واللات)
لَنْ: حرف نصب ونفى واستقبال، ولا يفيد توكيد المنفى، ولا التأْبيد، خلافا للزمخشرى؛ ولو كانت للتأْبيد لم يقيّد منفيّها باليوم فى قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} ، ولكان ذكر الأَبد فى قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} تكرارًا، والأَصل عدمه.
ويأْتى للدّعاءِ كقوله:
لن يزالوا كذلكم ثم لا زلـ ... ـتَ لهم خالدا خلود الجبال
ومنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}
وتلقّى القسم بها وبلم نادر جدًا، كقول أَبى طالب:
والله لن يصلوا إِليك بجَمعهم ... حَتّى أُوسَّد فى التراب دَفينا
وقد يُجزم بها؛ كقوله:
فلن يَحْلَ للعينين بعدكِ منظر
وليت حرف تمنٍّ يتعلق بالمستحيل غالبا؛ كقوله:
فيا ليت الشَّبابَ يعود يوماً ... فأخبره بما فعل المَشِيبُ(4/465)
ويتعلّق بالممكن قليلاً: {ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} ، {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ} ، {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} .
وحكمه أَن ينصب الاسم - ويرفع الخبر. قيل: وقد ينصبهما كقوله:
ياليت أَيام الصبا رواجعا
واللاتُ والعُزَّى صنمان. أَصل اللات: اللاه، فحذفوا منه الهاء، وأَدخلوا التاءَ فيه؛ فأَنَّثوه؛ تنبيها على قصوره عن الله تعالى. وجعلوه مختصّا بما يُتقرّب به إلى الله فى زعمهم.(4/466)
بصيرة فى لكن ولكن
لكنَّ - مشدَّدة -: حرف، تنصب الاسم وترفع الخبر؛ {ولاكن الله سَلَّمَ} ، {ولاكن الشياطين كَفَرُواْ} ، ونظائره كثيرة جدًّا.
ومعناه الاستدراك، وهو: أَن يُثبت لما بعدها حكما مخالفا لحكم ما قبلها ولذلك لا بدّ أَن يتقدّمها كلام مناقض لما بعدها. وقيل: تارة للاستدراك، وتارة للتوكيد. وقيل: للتوكيد دائماً مثل إِنّ، ويصحب التوكيد معنى الاستدراك.
وهى بسيطة عند البصريّين. وقيل: أَصلها: لكِنْ إِنَّ / فطُرحت الهمزة للتخفيف، ونون لكِنْ للساكنين. وقيل: مركَّبة من: لا، والكاف الزائدة، ولا التشبيهيَّة، وإِنَّ، حذفت الهمزة تخفيفاً. وقد يحذف اسمها كقوله
فلو كنت ضبَيًّا عرفتَ قرابتى ... ولكنَّ زنجىٌّ عظيم المشافر
لكنْ ساكنة النون حرف ابتداء لا يعمل، خلافاً لجماعة. فإِن وَلِيَها كلام فهى حرف ابتداء لمجرد الاستدراك، وليست عاطفة. ويجوز أَن يستعمل بالواو نحو قوله تعالى: {ولاكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} ، وبدونها نحو قول زهير
إِنّ ابنَ ورقاءَ لا تُخشى بوادره ... لكنْ وقائعه فى الحرب تنتظر
وإِن وليها مفرد فهى عاطفة بشرط أَن يتقدَّمها نفى أَو نهى، نحو: ما قام زيد لكن عمرو. وقيل: لا يستعمل مع المفرد إِلاَّ بالواو.(4/467)
بصيرة فى لوح ولوذ ولوط ولوم
اللَّوْح: ما يكتب فيه من الخشب، ولَوْحُ السفينة. وقوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} استأْثر الله بالعلم بكيفيته، وليس لأَحد بحقيقته علم إِلاَّ بقدر ما رُوى لنا فى الآثار الصّحيحة، وهو المعبّر عنه بالكتاب فى قوله تعالى: {إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ} ، والجمع: أَلواح قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} . ونظرت إِلى أَلواحه ولوائحه، أَى إِلى ظواهره.
وبه لَوْحٌ شديد، أَى عَطَش. ولاح والْتَاح: عطش. ولاح البرق والنجم وغيرهما، وأَلاح، قال جِران العَوْد:
أُراقِب لَوحاً من سُهَيلٍ كأَنه ... إِذا ما بدا من آخر الليل يطرِف
وقال المتلمِّس:
وقد أَلاحَ سهيلٌ بعد ما هجعوا ... كأَنَّه ضَرَم بالكف مقبوس
ولاحته النَّار والسَّموم: غيَّرته، وكذا لوَّحته. وأَلاحَ بسيفه وبثوبه، ولوَّح به: لَمَع به. ولوّح للكلب برغيف فتبعه. وأَلاح من الشىء وأَشاح: أَشفق وحذِر. ولاح لى أَمرُك: ظهر وبرز.(4/468)
لاذ به يَلُوذ لَوْذًا ولَوَاذًا ولُواذ ولِوَاذا بالحركات الثلاث. وقرأَ [يزيد بن] قُطَيب: {يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لَوَاذاً} ، و (لُواذًا) بالفتح والضمَّ، أَى لجأَ إِليه وعاذ به واستتر. قال عمرو بن جميل:
يُريغ شُذَّاذًا إِلى شذَّاذ ... من الرَبَاب دائم التَلْواذ
واللَوْذ أَيضا: جانب الجبل، وما يُطيف به. والجمع: أَلواذ.
ولاوذ القوم لِواذًا: لاذ بعضهم ببعض، ومنه قراءَة الجمهور: {يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} .
قال القُطامىّ:
وما ضَّرها أن لم تكن رَعَتِ الحِمَى ... ولم تطلب الخير المُلاوِذُ من بِشْر
أَى لا يجىء خيره إِلاَّ بعد كدّ وجهد، قاله ابن السكيت.
وقال الزجاج فى قوله تعالى: {يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِواذاً} : إِنَّ معنى اللِوَاذ: الخلاف، أَى يخالفون خلافاً. وقال بعضهم: يلاوذونه فراراً منه وتباعد. وقيل: تستُّرًا. وكان المنافقون إِذا أَراد الواحد منهم مفارقة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لاذ بغيره متستِّراً ثم نهض.
لوط النبىّ صلوات الله عليه ينصرف مع العجمة والتَّعريف، وكذلك نوح، وإِنّما أَلزموهما الصرف لأَن الاسم على ثلاثة أَحرف أَوسطه ساكن، وهو على غاية الخفة، فقاومت خفَّته أَحد السَّببين. واشتقاقه من: لاط(4/469)
الشىءُ بقلبى يَلُوط ويَلِيط لَوْطا ولَيْطاً. يقال: هو أَلْوط بقلبى وأَلْيط، وإِنى لأَجد له فى قلبى لَوْطاً ولَيْطا، أَى الحب اللازق بالقلب. ولُطت الحوض بالطين لَوْطا: بلَّطّته به وطيَّنته. ولاط يَلُوطُ: عمِل عمَل قوم لوط، مشتق من لفظ لوطٍ النَّاهى عنه، لا من لفظ المتعاطين له.
اللَّوم واللَّوماءَ / واللَّوْمَى واللائمة: العَذْل. لامه لوما ومَلاَما ومَلاَمة فهو مَلِيم ومَلُوم. قال تعالى: {فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} ، وقال: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ذكر اللوم تنبيهاً على أَنه إِذا لم يلاموا لم يفعل بهم ما فوق اللوم. وأَلام: استحق اللَّوم، أَو صار ذا لائمة. قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم. وَهُوَ مُلِيمٌ} . وأَلامهُ ولوّمه للمبالغة. وقوم لُوَّام ولُوّم ولُيَّم. واستلام إِليهم: أَتاهم بما يلومونه. وجاءَ بلَومة ولامة: بما يلام عليه. وتلوّم فى الأَمر: تمكَّث.
وقوله تعالى: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} ، قيل: هى النَّفس التى اكتسبت بعض الفضيلة فتلُوم صاحبها إِذا ارتكب مكروها، فهى دون النفس المطمئنَّة، وقيل: بل هى النفس التى قد اطمأَنَّت فى ذاتها، وترشَّحت لتأْديب غيرها، فهى النفس المطمئنَّة.(4/470)
بصيرة فى لون ولؤلؤ وليل (ولين) ولى
اللون: واحد الأَلوان ينطوى على الأَبيض والأَسود وما بينهما. وتلوّن الشىءُ لونا غير اللون الذى كان له. واللون أَيضا: النوع.
وقوله تعالى: {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} إِشارة إِلى أَنواع الأَلوان واختلاف الصور التى يختص (بها كلَّ إِنسان كهيئة) غير هيئة صاحبه مع كثرة عددهم؛ وذلك تنبيه على سعة قدرته، وعدم انحصار تجلِّيَاته. وفلان يأْتى بأَلوان من الأَحاديث، أَى بأَجناس منها.
اللؤلؤة: الدُرّة. والجمع: اللؤلؤ واللآلئ. واللؤلؤة أَيضا: البقرة الوحشيّة. قال الفراءُ: تقول العرب لصاحب اللؤلؤ: لآل مثال، لعَّال، والقياس لآَء مثال لعّاع. واللِّئآلة مثال الكتابة: حرفته. ولُؤلُؤان: يشبه اللؤلؤ. وتلأْلأَ البرق: لمع.
الليل معروف. والليلاة لغة فيه، والجمع: ليالٍ وليائل. وليلة ليلاء بالمدّ وبالقصر: طويلة شديدة، وقيل: هى أَشدّ ليالى الشهر ظلمة، وقيل: هى ليلة الثلاثين. وليل أَلْيَل ولائل، ومليَّل كمعظَّم كذلك. وأَلاَلُوا وأَلْيَلوا: دخلوا فى الليل. ولايله مُلاية كياومه مياومة. {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} .(4/471)
اللِّين: ضدّ الخشونة، واللَّيانة - بالفتح - لغة فيه. لانَ يلِين وتَلَيَّن فهو لَيْنٌ كمَيْت وميّت. أَو المخفَّفة فى المدح خاصّة، والجمع لَيْنُون وأَلْينَاء قال:
هَيْنون لَيْنون أَيسارٌ ذوو شَرَفِ
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} .
واللِّين يكون على وجهين: لِين فى الأَجساد، كِلين الشمع والحديد وغيره؛ ولين فى المعانى، كلِين الطبع ولين القول، قال تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} ، وفيه إِشارة إِلى إِذعانهم للحق وقبوله بعد تأَبِّيهم منه، وإِنكارهم إِيّاه.
والِّلينة: الدَّقَلُ من النخل، واللُّونَة لغة فيها، والجمع: لِيَن. وجمع اللِّيَن: لِيَان؛ وقيل: هى الناعمة من النخل، قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ} .
واللَّىّ واللُّوىّ: الفَتْل. لواه يَلْوِيه: فتله وثناه، فالتوى وتَلوّى. ولَوَى يده. ولَوى رأْسهُ: عبارة عن الإِباءِ. ولَوَى لسانه بكذا: كناية عن(4/472)
الكذب، قال: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} . وفلان لا يَلْوى على أَحَد: إِذا لم يلتفت فى الهزيمة، قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ}
واللِّواءُ - بالمدّ والهمز - واللِّواىُ - بالياء -: العَلَم، وقيل: الراية. والجمع: أَلْوِية، وجمع الجمع: أَلْوِيات. وأَلواه: رفعه.
واللَّوَى / بمعنى اللائى جمع التى. واللاؤون واللاَّؤو بمعنى الذين. ولَوْلَيْتم مدبرين، أَى وَلَّيتم.(4/473)
الباب الخامس والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف الميم(4/474)
بصيرة فى الميم نفسها
الميم ترد فى الكلام على اثنى عشر وجهاً:
1- حرف شَفَوىّ من حروف الهجاء، يظهر من انطباق الشفتين قرب مخرج الباء. والنسبة مِيمىّ. والفعل منه: ميّمت ميماً حَسَناً وحسنًة. وجمعه على التذكير: أَميام، وعلى التأَنيث: مِيمات ومِيَمٌ.
2- الميم عبارة عن عدد الأَربعين فى حساب الجُمّل
3- الميم الأَصلىّ، كما فى: ملح، ومحل، ولحم، وحلم، وحمل، ولمح.
4- ميم التثنية: أَنتما ولكما.
5- ميم الجمع: أَنتم ولكم.
6- الميم المكرَّرة، نحو: عمّ وعمّم
7- الميم الكافية: التى تكون كناية عن كلمة؛ نحو: حم، ح: حِلمه، م: مِلْكه. وله نظائر.
8- ميم المفعول: وتكون مفتوحة، كميم منصور ومحبوب. ويكون فى مسغبة مضموماً فاعلاً كان أَو مفعولاً؛ نحو مُكرِم ومكرَم.
9- الميم الزائدة: ومنها ما يكون أَوَّل الكلمة كمضرب ومِثْقب، أَو فى وسطها كلبِن قمارِص ودِرع دُلاَمِص، أَوفى آخِرها نحو زرقم وشدقم.(4/475)
10- الميم المبدَلة: من الباء، نحو: بنات بخر وبنات مخر؛ أَو من الواو، نحو: فَم، فإِن الأَصل فَوْه بدليل أَن الجمع أَفواه؛ أَو لام التعريف كالحديث "لَيْسَ من امْبِرّ امْ صِيامُ فى امْ سَفَر" أَو من النون كالبَنَام فى البَنَان.
11- الميم اللغوىّ، قال اللغويُّون: الميم: الخمر، قال:
إِنى امرؤ فى سعة أَو مَحْل ... أَمتزِج الميم بماءٍ ضحِل(4/476)
بصيرة فى متع
مَتَع النهار يَمْتَع - كمنع يمنع - مُتُوعا: ارتفع. والمانِع: الطويل من كل شىء. وحَبْل ماتع: جيّد الفتل. ونبيذ ماتع: شديد الحمرة. وكل شىءٍ جيّد فهو ماتع. والمتاع: السلعة، والمتاع: المنفعة، وما تمتَّعت به، قال المسيَّب بن عَلَس:
أَرحلتَ من سَلمَى بغير متاعِ ... قبل العُطَاس ورُعتها بوَادع
أَى قبل أَن ترى ما تكره. وقال الليث: المتاع من أَمتعة البيت: ما يستمتع به الإِنسان فى حوائجه، وكذلك كل شىء نحوه. والدنيا متاع الغُرُور.
وقوله تعالى: {مَتَاعُ الحياة} أَى منفعتها التى لا تدوم، وقال بعض العرب فى امرأَته يهجوها على كفران النعمة:
لو جُمع الثُلاث والرُباع ... وحِنطة الأَرض التى تُباع
لم تَرَهُ إِلاَّ هوَ المتاع
الثُّلاث والرُّباع: أَحدهما كيل معلوم والآخر وزن معلوم، يقول: لو جمع لها جميع ما يكال أَو يوزن لم تره هذه المرأَة إِلاَّ / مُتْعة قليلة.(4/477)
وقولُه تعالى: {ابتغآء حِلْيَةٍ} ، أَى ذهب أَو فضة، (أَوْ مَتَاع) أَى حديد وصُفْر ونحاس ورصاص. والمتْعَة والمِتْعة - بالضم والكسر -: ما يُتبلَّغ به من الزاد، والجمع: مُتَع ومِتَع، كغُرَف وكِسَر.
ومتعة المرأَة إِذا طلَّقها زوجها متَّعها متعة فوصلها بشىءٍ من غير أَن يكون له لازماً ولكن سُنَّة، {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف} . ومتعة التزوّج: كان الرجل يتزوّج المرأَة يتمتَّع بها أَيَّاماً ثم يخلِّى سبيلها؛ وكان ذلك بمكَّة حين حجّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثة أَيام، ثم حرّمها الله إِلى يوم القيامة. كان الرجل يشارط المرأَة شَرْطاً على شىء بأَجل معلوم، ويعطيها شيئاً فيستحل بذلك فرجها، ثم يخلِّى سبيلها من غير تزويج ولا طلاق.
والمتعة فى الحج: أَن يضمّ الرجل عمرة إِلى حِجّة.
والمُتْعة والمَتَاع: اسمان يقومان مقام المصدر الحقيقىّ، وهو التمتيع. وأَمتعه الله بكذا أَى متَّعه. وقال أَبو زيد: أَمْتَعت بالشىء أَى تمتَّعت به. وقوله تعالى: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} بالتخفيف. وهى قراءَة ابن عامر، أَى فأُؤخِّره. ومتَّع الشىء تمتيعاً طوّله. ومتَّعه الله بكذا، أَى أَبقاه وأَنْسأَه إِلى أَن ينتهى شبابه، وقوله تعالى: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أَى يُبْقِكم بقاء فى عافية إِلى وقت وفاتكم، ولا يستأْصلكم بالعذاب كما استأْصل أَهل القرى الذين كفروا. وقيل(4/478)
يعمّركم. والتمتيع: التعمير. ومثله قوله تعالى: {إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} وقوله: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} ، وهى قراءة مَن سوى ابن عامر، أَى فأُؤخِّره.
واستمتعت بالشىءِ وتمتَّعت بمعنى. وقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} ، قال الفرَّاءُ: رَضُوا بنصيبهم فى الدنيا مِن أَنصبائهم فى الآخرة، وفعلتم أَنتم كما فعلوا؛ ونحو ذلك قال الزجَّاج. وقوله تعالى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} أَى انتفعتم به من وطئهن. وقوله تعالى: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} . وقوله: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} يَقول: تردَّدوا، وقيل: عِيشوا عَيْشاً صحيحاً ثلاثة أَيَّام، وهذا الأَمر وعيد. والله أَعلم.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} تنبيهٌ على أَن لكل إِنسان من الدنيا تمتُّع مدّة معلومة. وقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} تنبيه أَن ذلك فى جنب الآخرة غير معتدّ به. وقوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} أَى طعامهم، وقيل: وعاءَهم، وكلاهما متاع، وهما متلازمان؛ فإِن الطعام كان فى الوعاءِ.
وكل موضع فى القرآن ذكر [فيه] تمتَّعوا فى الدنيا فإِنما هو على طريق التهدّد، وذلك لما فيه من معنى التوسّع. والله أَعلم.(4/479)
بصيرة فى متن ومتى
المَتْن والمَتْنة: ما صلُب من الأَرض وارتفع. والمَتْن أَيضاً: الرجل الصُلْب. ومتُن - ككرم يكرم -: صَلُب واشتدّ. ومتنا الظهر: مكتنِفا الصلب. ويؤنَّث. وحبل متين: شديد، قال الله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} .
مَتَى: سؤال عن الوقت. قال الله تعالى: {متى هاذا الوعد} ، وقال {متى نَصْرُ الله} . ويكون اسم شرط كقوله:
متى أَضع العمامةَ تعرفونى
وحكى أَن هُذَيلاً تقول: جعلته متى كُمىّ، أَى وسط كمىّ. وقيل: إِنما هى بمعنى مِن /: أَخرجته متى كُمىّ، أَىْ من كُمىّ، وأَنشدوا:
شربْنَ بماءِ البحر ثم ترفَّعت ... متى لُجَجٍ خضرٍ لهنَّ نئيج(4/480)
بصيرة فى مثل
المِثْل والمَثَل والمَثِيل، كالشِبْه والشَبَه والشبيه لفظا ومعنًى، والجمع: أَمثال. والمَثَل - محركة -: الحديث. وقد مثَّل به وامتثله وتمثَّله وتمثَّل به. وقد يعبّر بالمَثَل والشَبَه عن وصف الشىء؛ نحو قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} .
وقد يستعمل المِثْل عبارة عن المشابه لغيره فى معنى من المعانى، أَىَّ معنى كان. وهو أَعمّ الأَلفاظ الموضوعة للمشابهة؛ وذلك أَن النِدّ يقال فيما يشاركه فى الجوهريّة فقط، والشكل يقال فيما يشاركه فى القَدْر والمساحة، والشِبْه يقال فيما يشاركه فى الكيفيّة فقط، والمساوى يقال فيما يشاركهُ فى الكميّة فقط، والمِثْل عامّ فى جميع ذلك. ولهذا لمَّا أَراد الله نفى التشبيه من كل وجه خصّه بالذِكر فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
وأَمَّا الجمع بين الكاف والمِثْل فقد قيل: ذلك لتأْكيد النفى، تنبيها على أَنه لا يصح استعمال المِثْل ولا الكاف، فنفى بليس الأَمرين جميعاً. وقيل: المِثل هاهنا بمعنى الصفة، ومعناه: ليس كصفته صفة، تنبيها على أَنّه وإِن وُصف بكثير ممَّا يوصف به البَشَر فليس تلك الصفات له على حَسَب ما يُستعمل فى البَشَر.(4/481)
والمَثَل: عبارة عن قول فى شىء يشبه قولاً فى شىء آخر بينهما مشابهة، ليبيِّن أَحدهما الآخر، ويصوّره، نحو قولهم: الصيفَ ضيَّعتِ اللَبَنَ؛ فإِن هذا القول يشبه قولك: أَهملت وقت الإِمكان أَمرَكِ. وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأَمثال فقال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} .
والمُثُول: الانتصاب. والتَمثال - بالفتح -: التمثيل. والتِمثال - بالكسر -: الصورة. ومثَّله له: صوّرهُ. وتمثل: تصوَّر. قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [و] تَمثَّل بالشىءِ: ضربه مَثَلاً.
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء وَلِلَّهِ المثل الأعلى} أَى لهم الصفات الذميمة، ولله الصفات العلى. وقد منع الله تعالى عن ضرب الأَمثال بقوله: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} ، ثم أَخبر أَنه يضرب لنفسه المَثَل، ولا يجوز لنا أَن نقتدى به فى ذلك وقال: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ؛ ثم ضرب لنفسه مَثَلاً فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} الآية. وفى هذا تنبيه أَنه لا يجوز أَن نصفه بصفة ممَّا يوصف به البشر إِلاَّ ما وصف به نفسه. وقوله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ(4/482)
التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} ، أَى هم فى جهلهم بمضمون حقائِق التوراة كالحمار فى جهله بما على ظهره من الأَسفار.
وقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} فإِنه شبهه فى ملازمته واتّباع هواه وقلَّة مزايلته بالكلب الذى لا يزايل اللهْث على جميع الأَحوال. وقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} ، شبّه من آتاه الله ضرباً من الهداية والمعاون فأَضاعه ولم يتوصَّل به إِلى ما رُشِّح له من نعيم الأَبد، بمن استوقد نارًا فى ظلمة، فلما أَضاءَت له ضيَّعها / ونُكس فعاد فى الظلمة.
وقوله: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} ، فإِنه قصد تشبيه المدعوّ بالغنم التى يُنعق بها، وداعيهم بالناعق بالغنم، فأَجمل وراعى مقابلة المعنى دون مقابلة اللفظ؛ وبسط الكلام وحاصله: مَثَلُ داعى الذين كفروا والذين كفروا كمثل الذى ينَعق بالغنم ومثلِ الغنم التى لا تسمع إِلاَّ دعاء ونداء. والمُثْلة - بالضمّ - والمَثْلة والمَثُلة: نِقمة تنزل بالإِنسان فيُجعل مثالاً يَرتدع به غيره وذلك كالنَكَال، وجمعه: مُثْلات ومَثُلات، وقرئ (المَثْلات) بإِسكان الثاء على التخفيف؛ نحو عَضْد فى عَضُد.(4/483)
والأَماثل: يقال من هم أَشبه بالأَفاضل وأَقرب إِلى الخير. وأَماثل القوم: خيارهم، وعلى هذا قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} . وقوله تعالى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أَى الأَشبه بالفضيلة، وقيل: أَشبه بالحق، وهى تأْنيث الأَمثل، وقيل: أَمثلهم طريقة أَى أَعدلهم وأَشبههم بأَهل الحق، وقيل: أَعلمهم عند نفسه بما يقول.
والمَثَالة: الفضل. وقد مَثُل - ككرم -: صار فاضلا.(4/484)
بصيرة فى مجد
المَجْد: الكَرَم والشرف. المجيد: الكريم، والمجيد: الشريف، وقد مَجَد ومَجُد - بالضمّ - فهو ماجد ومَجِيد، أَى كريم الفَعَال شريف. وقوله تعالى: {ق والقرآن المجيد} ، أَى الشريف، وُصف به لكثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والأُخرويَّة وعلى هذا وصفه بالكريم. ورجل ماجد: مِفضال كثير الخير.
وقال ابن السكِّيت: الشرف والمجد يكونان بالآباءِ، يقال: رجل شريف ماجد: له آباءٌ متقدّمون فى الشرف؛ قال: والحسب والكرم يكونان فى الرجل وإِن لم يكن له آباء لهم شرف.
والتمجيد: أَن تنسب الرجل إِلى المجد، قال أُميّة بن أَبى الصَلْت الثقفى:
مَجِّدوا الله وهو للمجد أَهل ... ربُّنا فى السماءِ أَمسى كبيرا
وقوله تعالى: {ذُو العرش المجيد} لسعة فيضه وكثرة جوده، وقرئ بالجر لجلالته وعِظم قَدْره. وقد أَشار إِليه النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "ما الكرسىّ فى جنب العرش إِلاَّ كحَلْقة ملقاة فى أَرضٍ فلاة"، وعلى هذا قوله: {رَبُّ العرش العظيم} .
والتمجيد من العبد لله تعالى بالقول وذكر الصفات العُلَى.(4/485)
بصيرة فى محص ومحق ومحل
مادّة (م ح ص) موضوعة للدلالة على تخليص الشىءِ وتنقيته. مَحّص الذهب بالنار: أَخلصه ممَّا يشوبه. وفى حديث علىّ رضى الله عنه وذكر فتنة: "يُمَحّص الناس فيها كما يمحّص ذهب المعدِن" أَى يُختبرون فيها كما يختبر الذهب فى النار فيعرف جودته من رداءَته.
والممحوص والمحيص: السنان المجلوّ. وقد مَحَصه. وفرس ممحوص القوائم: إِذا خلص من الرَهَل. والأَمحص: الذى يقبل اعتذار الصادق والكاذب. وأَمحص: إِذا برأ: والتمحيص: الابتلاء والاختبار.
وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ} ، قال ابن عرفة: أَى ليبتليهم، قال: ومعنى التمحيص: النقص، يقال: مَحّص الله عنك الذنوب أَى نَقَصها، فسمّى الله ما أَصاب المسلمين من بلاءٍ تمحيصاً لأَنه يَنقص ذنوبهم، وسمَّاه للكافرين مَحْقا. وقيل: هو من مَحَصْت العَقَب من اللحم: إِذا نقَّيته منه لتفتله وَتَرا، فأَراد أَنه يخلِّصهم من الذنوب. وقال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ / مَا فِي قُلُوبِكُمْ} ، التمحيص هاهنا كالتزكية والتطهير ونحو ذلك من الأَلفاظ. ويقال فى الدعاء: اللهم محِّص عنَّا ذنوبنا، أَى أَزِل ما علِق بنا من الذنوب. وإِذا أَصابهم مرض قالوا: اللهم اجعله تمحيصاً لا تبغيضاً، وأَدباً لا غضباً.(4/486)
مَحَقه يَمْحَقه مَحْقا: أَبْطله، قال الله تعالى: {وَيَمْحَقَ الكافرين} أَى يستأْصِلهم ويحبط أَعمالهم. وقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} أَى يهلكهُ ويذهب ببركته. ومَحقه الحرّ، أَى أَحرقه. وأَمحقه الله: ذهب به لغة رديئة فى محق. ومحّقه تمحيقاً للمبالغة، ومنه قراءَة عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما: {يُمَحِّقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} من التمحيق.
المِحَال - بالكسر -: الكَيْد، ورَوم الأَمر بالحِيَل، والقدرةُ، والعذاب، والعداوة، والمعاداة؛ وقد محل به - مثلثة الحاء - يَمْحَل مَحْلاً ومحالا: كاده بسعاية إِلى السلطان.
وقوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} أَى الأَخذِ بالعقوبة، وقيل: مِن مَحل به: إِذا أَراده بسوءٍ. وماحله مماحله ومِحالا. قاواه حتى يَتَبِيَّن أَيُّهما أَشدّ.(4/487)
بصيرة فى محن ومحو ومخر ومد
مَحَنه [يمحنه]- كمنعه يمنعه -: ضربه واختبره كامتحنه. والاسم المِحْنة بالكسر. قال تعالى: {أولائك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} أَى شرحها ووسّعها. وامتحن القولَ: نظر فيه ودبَّره.
المَحْو: إِزالة الأَثَر. محاه يَمْحوه ويَمحاه: أَذهب أَثَره، فمحا هو، لازم متعدّ. وامحى كادَّعَى، وامتحى قليلة. قال تعالى: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} .
مَخْرُ الماءِ للأَرض: استقبالها بالمرور فيها. ومَخَرَت السفينة مَخْرًا ومُخُوراً: شقَّت الماءَ بجُؤجئها، وسفينة ماخرة، والجمع: مواخر وبنات مَخْر: سحاب تنشأ صيفا.
أَصل المدّ: جرّ شىءٍ فى طول، واتصالُ شىء بشىء فى استطالة. وقد مددت الشىءَ أَمُدّه مدَّا. والمادّة: الزيادة المتصلة. وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أَى يُمهلهم ويطيل لهم المهلة. وقوله تعالى: {كَيْفَ مَدَّ الظل} أَى بَسَطهُ.
وقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمان مَدّاً} لفظه لفظ أَمر ومعناه الخبر، وتأْويله: أَن الله تعالى جعل جزاءَ ضلالته أَن يمدّه فيها، وإِذا كان الخبر فى لفظ الأَمر كان أَوكد وأَلزم.(4/488)
ومددت عينى إِلى كذا: نظرته راغباً فيه، قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} . وأَمددت الجيش بمدَدَ: أَعنتهم وقوَّيتهم وكثَّرتهم. وأَكثر ما جاءَ الإِمداد فى المحبوب، والمَدَد فى المكروه؛ نحو قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} . وقوله تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} هو من قولهم: مدّه نهر آخر، وليس هو ممَّا ذكرناه من الإِمداد والمدّ المحبوب والمكروه، وإِنما هو من مددت الدواة أَمُدّها.
والمِدَاد: النِقْسُ، وما مددت به السراج من زيت ونحوه، قال الأَخطل يذكر امرأَة مأسورة:
رأَوا بارقاتٍ بالأَكفّ كأَنها ... مصابيح سُرْج أوقدت بمداد
والمُدّ: ربع الصاع: رطل وثلث عند أَهل الحجاز، ورطلان عند أَهل العراق.(4/489)
بصيرة فى مدن ومر ومرج ومرح
مَدَن: أَقام، فعل ممات. ومنه المَدِينة لكل حصن يبنى / فى أُصْطُمَّة من الأَرض. والجمع: مدائن ومُدُن ومُدْن. قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة} يعنى طَيْبة، صلَّى الله على ساكنيها وسلَّم. وهى اسم لستة عشر بلدا. والنسبة إِلى المدينة النبويّة مَدَنِىّ، وإِلى سائرها مَدِينىّ. وقيل: نسبة الإِنسان إِلى كلِّها مَدَنِىّ، ونسبة الطائر ونحوه مدِينىّ. ومَدْيَن: قرية شُعَيب عليه السلام.
المُرور: المضىّ والاجتياز بالشىء. قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} تنبيه أَنهم إِذا دُفعوا (إِلى التفوُّه باللغو) كنَوْا عنه، وإِذا سمعوا تصامموا عنه، وإِذا شاهدوا أَعرضوا عنه.
وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} كقوله تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} .
أَمَرّ: صار مُرًّا. ومنه فلان ما يُمِرّ وما يُحِلى.(4/490)
وقوله تعالى: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} ، قيل معناه: استمرت، وقولهم: مرّة أَو مرّتين وذلك لجزءٍ من الزمان، قال تعالى: {يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} .
والمَرْج: الخَلْط قال تعالى: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ} . والمَرَج - بالتحريك - الاختلاط. ومَرِج الخاتَم فى إِصبعى: قَلِقَ. وأَمر مَرِيج: مختلِط. وقوله تعالى: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، أَى لَهِيب مختلِط.
والمَرَح بالحاءِ بالمهملة محرّكة: شدّة الفرح والتوسُّع فيه، قال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} ، وقرئ (مَرِحاً) بكسر الرَّاءِ.(4/491)
بصيرة فى مرد ومرض
أَصل المَرْد تجريد شىء من قِشره، أَوما يعلو من شَعَره. يقال: مَرَد على الشىء أَى مَرَن عليه واستمر، مُرُودا، ومنه قوله تعالى: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} . وتمريد البناء: تمليسه، قال تعالى: {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} ، وتمريد الغصن: تجريده من الورق. وتمرّد: عَتَا وطغى.
المَرَض: خروج الطبع من حال الاعتدال؛ ويكون جُسمانيًّا، ويكون نَفْسانيّاً.
أَمَّا الجُسمانىّ فمنه قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ} ، وقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} .
وأَمَّا النفسانىّ - وهو عبارة عن الجهل والظلم والسجايا الخبيثة - فكقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} ، وقد مرِض يَمْرَض مَرَضاً ومَرْضا، فهو مَرِيض ومارِض. ورَوَى أَبو حاتم عن الأَصمعىّ أَنه قال: قرأْت على أَبى عمرو بن العلاء: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، فقال لى: (مَرْضٌ) يا غلام. وقال غيره: المرْض - بالاسكان - مرض القلب خاصّة. وجمع المريض: مَرْضَى ومَرَاضَى ومِرَاضٌ. وقيل: أَصل المرض الضعف، وكل مَن ضعف فقد مرِض.(4/492)