ـ[بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز]ـ
المؤلف: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي المتوفى سنة 817 هـ
المحقق: محمد علي النجار
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء: 6
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
عام النشر:
جـ 1، 2، 3: 1416 هـ - 1996 م
جـ 4، 5: 1412 هـ - 1992 م
جـ 6: 1393 هـ - 1973 م(/)
مقدمة المحقق
مولد المؤلف ونشأته العلمية
إِقليم فارس من أَقاليم إِيران، يقع في جنوبيِّها الغربي. ومن هذا الإِقليم كورة أَرْدَ شِير خُرَّة، وقصبتها شِيراز، وهى مدينة إِسلاميَّة مصَّرها العرب في سنة 64 هـ. وكانت قَصَبة الإِقليم كلِّه. وفى جنوبيّ شيراز تقع مدينة كارزين، وكانت من قبل قصبة كُورة قُباذ خُرَّة. ويقول فيها ياقوت: "كارزين بفتح الراء وكسر الزاي وياء ونون" وفى التاج أَن المشهور فيه كسر الراء، كما هو عند الصاغاني، وأَن السمعاني ضبطها بالفتح. وبذلك يعلم سند ياقوت في ضبطه.
في هذه المدينة (كارِزين) وُلد مجد الدين الفيروز آبادي محمد ابن يعقوب. وقد صرَّح بذلك في مادة (كرز) من القاموس، ففيها: "وكارزين: د (بلد) بفارس، منه محمد بن الحسن مقرئ الحرم. وبه وُلدت. وإِليه ينسب محدِّثون وعلماء" وقد وقع عند كثير من المترجمين(1/1)
له أَنه ولد بكازَرون. ويذكر صاحب التاج أَن هذا الوهم وقع فيه بعض الخاصَّة. ومصدر هذا الوهم أَن كازرون أَيضا قريبة من شيراز، وإِن كانت من كورة سابور.
وكانت ولادة المجد في ربيع الآخر - وقيل: في جمادى الآخرة - سنة 729هـ (سنة 1329م) . ولا يعرف من أَخبار أُسرته إِلا أَن أباه كان من علماء اللغة والأَدب في شيراز. وقد توجّه إِلى حفظ القرآن فحفظه وهو ابن سبع سنين. وكان سريع الحفظ، واستمرَّ له ذلك في حياته. وكان يقول: لا أَنام حتى أَحفظ مائتي سطر.
وقد بدأ ميله إِلى اللغة في زمن مبكِّر. فيذكر السخاوي أَنه نقل إِذ ذاك كتابين من كتب اللغة، والظاهر أَن هذا بتوجيه أَبيه.
وقد انتقل في السنة الثامنة من حياته إِلى شيراز في طلب العلم. فأَخذ عن أَبيه اللغة والأَدب. ويدخل في ذلك النحو والصرف وعلوم البلاغة، وأَخذ عن القوام عبد الله بن محمود بن النجم. وتلقَّى الحديث عن محمد بن يوسف الزَّرَنْديّ الحنفيّ المدنيّ وكانت وفاته سنة بضع وخمسين وسبعمائة كما في الدرر الكامنة. ونجد أَن اتجاهه لعلوم المنقول، ولا نراه يتَّجه لعلوم المعقول كالمنطق والكلام، كما نرى ذلك في علامتي المعقول في عصره وبيئته: سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة 792هـ، والسيد الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816هـ.(1/2)
ويفارق شيراز في سنة 745هـ إِلى العراق، فيدخل واسطا، ويقرأُ بها القراءات العشر على الشهاب أَحمد بن علىّ الديواني. ويدخل بغداد فيأْخذ عن التاج محمد بن السبّاك، والسراج عمر بن علىّ القزوينىّ، وعليه سمع الصحيح (الظاهر أَنه صحيح البخارى) ، ومشارق الأَنوار للصاغانىّ في الحديث، ويذكر ابن حجر في الدرر الكامنة هذا الرجل، فيصفه بأَنه محدّث العراق، ويقول: "ومات سنة 750. ورى عنه جماعة من آخرهم شيخنا مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازى صاحب القاموس" ويختصّ فيها بقاضى بغداد الشرف عبد الله بن بكتاش. وكان مدرّس النظاميّة، فيعمل مُعيدا عنده. ويمكثُ هكذا في بغداد سنين.
وبعد هذا يدخل دمشق سنة 755هـ، فيأخذ عن علمائها ومحدِّثيها، كقاضى القضاة التقىّ السبكي المتوفى سنة 756، وابنه التاج عبد الوهاب المتوفى سنة 771هـ، ومحمد بن إِسماعيل المعروف بابن الخبَّاز مسِند دمشق المتوفى سنة 756هـ، وابن قيِّم الضيائيَّة عبد الله بن محمد ابن إِبراهيم المتوفى سنة 761هـ.
وطاف في بلاد الشام يأخذ عن علمائها. واستقرَّ به المقام حينا من الدهر في بيت المقدس. فأَخذ عن صلاح الدين خليل بن كَيْكَلدِى العلائى، وكان مدرس المدرسة الصلاحية بالقدس من سنة 731هـ، وكانت وفاته سنة 761هـ بالقدس.(1/3)
أستاذية المجد
ولى المجد فى بيت المقدس عدّة تداريس. ومعنى ذلك أَنه كان مدرّسا فى عدّة مدارس، يتقاضى من كل مدرسة نصيبه المخصَّص لدرسه فى الوقف. وهنا تبدأُ أُستاذيَّته، فيأْخذ عنه الناس وممن أَخذ عنه الصلاح الصفَدى المتوفى بدمشق سنة 764، وأَخذ هو أَيضاً عن الصلاح. وفى الضوءِ اللامع أَنه بقى فى القُدس عشر سنوات أَى إِلى سنة 765هـ. ولكنَّا نراه فى خلال هذه المدّة مرَّة فى القاهرة، كما يأْتى، فلا بدَّ أَنه فى أَثناءِ هذه المدّة كان يرحل إِلى جهات أَخرى، ويعود إِلى القدس.
ولا يقنع المجد بمكانه فى القدس وتداريسه، فيرحل إِلى القاهرة، ويلقى علماءَها، كبهاءِ الدين عبد الله بن عبد الرحمن المشهور بابن عقيل شارح الأَلفيَّة المتوفى سنة 769، وجمال الدين عبد الرحيم الإِسنوىّ المتوفَّى سنة 772هـ، وابن هشام عبد الله بن يوسف النحوىّ المشهور، المتوفَّى سنة 761، ونرى من هذا أَنه جاءَ مصر قبل سنة 765، فإِذا صحّ أَنه استقرّ فى القدس عشر سنوات منذ سنة 755 فإِنه كان يحضر مصر فى رحلات ثم يعود إِلى القدس.
ونرى فى العقد الثمين أَنه قدم مكَّة قبل سنة 760. وعلى حسب كلام السبخاوىّ يكون قدومه إِلى مكة من بيت المقدس. ثم يقول: إِنه قدمها بعد ذلك سنة 770هـ، وإِنه فى هذه المرة أَقام بها خمس سنين متوالية، أَو ست سنين - يشكُّ الفاسىُّ صاحب الكتاب - ثم رحل(1/4)
عنها أَى فى سنة 775، أَو سنة 776، ولا يذكر الفاسيُّ إِلى أَين رحل. ثم يذكر أَنه عاد إِلى مكة غير مرَّة بعد التسعين، وكان بها مجاوراً سنة 792، ومجاورة الحرم أَن يظل فى مكة بعد الحجّ، ولا يعود إِلى بلده مع العائدين. ولا أَدرى لمَ لمْ يجعله مجاورا فى السنين الخمس المتوالية أَو السنين الست التى أَقامها بمكة. وقد رحل فى هذه المرة من مكة إِلى الطائف، واشترى فيها بستاناً كان لجدِّ الفاسىّ من جهة أُمِّه. ولا بدّ أَنه فى مكة كان يدرّس فى مدارس، ويتقاضى منها مرتبات يعيش بها. وقد أَخذ عنه الفاسىّ، ويلقبه بشيخنا.
رحلات المجد ووفادته على الملوك
تبيَّن القارئُ مما سبق كثرةُ رحلاته فى طلب العلم. وقد كان أَيضاً كثير الوفادة على الملوك والأُمراءِ لعهده. ويُذكر أَنه كان له حُظوة عندهم، فلم يدخل بلدا إِلا وأَكرمه متوليها.
فنراه اتصل بالأَشرف سلطان مصر. والظاهر أَنه الأَشرف شعبان ابن حسين من ملوك المماليك الترك، وقد ولى ملك مصر سنة 764، وقتل سنة 778 وقد أَجازه الأَشرف ووصله، وفى النجوم الزاهرة: "كانت أيام الملك الأَشرف شعبان المذكور بَهجة، وأَحوال الناس فى أَيامه هادئة مطمئنَّة، والخيرات كثيرات ... . ومَشَى سوق أَرباب الكمالات فى زمانه من كل علم وفنّ، ونفقت فى أَيامه البضائع الكاسدة من الفنون(1/5)
والمُلَح، وقصدته أَربابها من الأَقطار، وهو لا يكلّ من الإِحسان إِليهم فى شىء يريده، وشئ لا يريده، حتى كلَّمه بعض خواصّه، فقال - رحمه الله -: أَفعلُ هذا لئلا تموت الفنون فى دولتى وأَيَّامى".
وفى سنة 792 كان المجد بمكة، فاستدعاه ملك بغداد أَحمد بن أُويس إِليها بكتاب "كتبه إِليه، وفيه ثناء عظيم عليه، من جملته:
القائل القولَ لو فاه الزمان به ... كانت لياليه أَياما بلا ظُلَم
والفاعل الفعلَة الغرَّاء لو مُزِجت ... بالنار لم يك ما بالنار من حُمَم
وفيه بعد ذكر هديَّة من مستدعيه:
ولو نطيق لَنهدى الفرقدين لكم ... والشمسَ والبدر والعيُّوق والفلكا
وصدور هذا من سلطان لعالم منقبة كبيرة له، وقد ذهب إِلى بغداد مع الركب العراقىّ بعد الحجّ، ونال برَّه وخيره.
وقد رحل إِلى الهند، ووصل إِلى دِهْلى. وفى العقد الثمين أَن دخوله لليمن من بلاد الهند، وقد دخل اليمن سنة 796، فيكون رحلته إِلى الهند، متَّصلة بهذا التاريخ، وكان هذا فى عهد السلطان سكندر شاه الأَول الذى ولى السلطان فى سنة 795، فإِن كان فى الهند قبل هذا التاريخ فإِنه يكون اتصل أَيضاً بالسلطان محمد شاه سلف هذا السلطان، وهما من بنى تغلق شاه.(1/6)
وذهب إِلى بلاد الروم (الأَناضول) ولقى فيها حُظوة عند السلطان بايزيد بن مراد الذى ولى السلطنة سنة 791؛ ومات سنة 804، وكانت حاضرة ملكة بُرُسَّا، إِذ لم تكن القسطنطينيَّة قد فتحت بعد.
ووفد على تيمور لنك فى شيراز. ووصله تيمور بنحو مائة أَلف درهم. وقد تغلَّب تيمور على فارس والعراق وممكلة التتار، وقصد الشام وغلب عليها حيناً. وكان ظالماً غشوماً. ومع هذا كان يقرِّب العلماءَ والأَشراف وينزلهم منازلهم. وكان يجمع العلماء فى مجلسه ويأمرهم بالمناظرة ويسأَلهم ويعنِّتهم بالمسائل. وكانت وفاته سنة 807هـ.
ووفد على شاه شجاع بن محمد بن مظفَّر اليزدى صاحب عراق العجم الذى يعرف بالجبال. وفى الدرر الكامنة فى ترجمته: "وقد اشتغل بالعلم واشتهر بحسن الفهم ومحبَّة العلماءِ. وكان ينظم الشعر ويحبُّ الأُدباءَ، ويجيز على المدائح، وقُصد من البلاد. ويقال: إِنه كان يقرئ الكشاف وكتب منه نسخة بخطِّه الفائق، ورأَيت خطه وهو فى غاية الجودة ... وله أَشعار كثيرة بالفارسية" وكانت وفاته سنة 787. وفى الضوءِ أَن وفادته كانت على شاه منصور بن شاه شجاع هذا. وشاه منصور ليس ابن شاه شجاع بل هو ابن أَخيه، كما يتبين من معجم الأَنساب والأُسرات الحاكمة ص 379، فالرواية الأُولى أَثبت وهى رواية ابن حجر العسقلانى.
مكانة المجد العلمية والثقافية
كان المجد واسع المعرفة، كثير الاستحضار للمستحسَن من الشعر والْحكايات، وقد أَعانه على ذلك قوَّة حفظه، وكان ذلك من أَسباب سعادته عند الملوك(1/7)
والأُمراءِ. وكان يحسن اللسان الفارسىّ إِذ نشأَ فى بلاد فارس، وكان ينظم الشعر فى هذا اللسان، كما كان ينظم الشعر العربىّ. ومن شعره الذى مال فيه إِلى التجنيس قوله:
أَحبتنا الأَماجد إِن رحلتم ... ولم ترعَوا لنا عهدا وإِلاَّ
نودِّعْكم ونودعْكم قلوباً ... لعلَّ الله يجمعنا، وإِلاَّ
فقوله:: إِلا" فى آخر البيت الأَول يريد به الحرمة والذِّمام، وقوله: "إِلاَّ" فى آخر البيت الثانى مركَّبة من إِن الشرطية ولا النافية، وفعل الشرط محذوف، أَى: وإِلا ترحلوا تمتعنا ببقائكم. ويحتمل أَن يكون المراد: وإِلاَّ يجمعنا الله أَضرّ بنا الوجدُ، أَو نحو ذلك. ويقول الفاسىُّ فى العقد الثمين: "وسمعت من ينتقد عليه قوله فى آخر البيت الثانى: (وإِلا) بما حاصله: أَنه لم يتقدَّم له ما يوطِّئ له وأَن مثل هذا لا يحسن إِلا مع تقديم توطئة للمقصود".
وقد ساعده على سعة ثقافته كثرة كتبه "حتى نقل الجمال الخيَّاط أَنه سمع الناصر أَحمد بن إِسماعيل يقول: إِنه سمعه يقول: اشتريت بخمسين أَلف مثقال ذهباً كتباً. وكان لا يسافر إِلاَّ وصحبته منها عدَّة أَحمال، ويخرج أَكثرها فى كل منزلة فينظر فيها ثم يعيدها إِذا ارتحل". ويذكِّرنا هذا بالصاحب إِسماعيل بن عبَّاد، فقد ذكر عنه أَنه كان يحتاج فى نقل كتبه إِلى أَربعمائة جمل. على أَنه قد يمدّ يده(1/8)
إِلى كتبه فيبيع منها، فقد ذكروا عنه أَنه كان مسرِفاً، وكان مع كثرة ثروته يمحقها بالإِسراف.
وقد علمت مما مرَّ بك ميل المجد إِلى علوم الرواية، وتَطوافه فى البلاد للأَخذ عن علمائها، فكانت له مشيخة كثيرة، وقد كتب جمال الدين محمد بن موسى المراكشى المكىُّ كتابا ذكر فيه مشيخته، على عادة العلماءِ فى ذلك العهد.
وقد قام برواية الحديث ونشره حين استوسق أَمره. وقد علمت عنايته باللغة منذ نعومة أَظفاره، وظل يجدُّ فيها، حتى كانت له اليد الطولى فى مباحثها. ويدلُّ ثبت كتبه الذى سيمر بك على تضلعه فى كل ما يتَّصل بالرواية.
وكان على سعة معارفه تعوزه الدقَّة فى بعض تآليفه. فقد أَخذ عليه التقى الفاسىّ فى العقد الثمين أَنه أَلَّف كتابا فى فضل الحَجُون - وهو جبل بأَعلى مكَّة فيه مقبرة - فذكر من دُفن فيه من الصحابة. ويقول الفاسى: "ولم أَر فى تراجمهم فى كتب الصحابة التصريح بأنهم دُفنوا جميعا بالحجون، بل ولا أَن كلهم مات بمكَّة. فإِن كان اعتمد فى دفنهم أَجمع بالحجون على من قال: إِنهم نزلوا مكَّة فلا يلزم من نزولهم بها أَن يكون جميعهم دُفن بالحجون، فإِن الناس كانوا يدفنون بمقبرة المهاجرين، بأَسفل مكة، وبالمقبرة العليا بأَعلاها، وربما دفنوا فى دورهم".(1/9)
ومن ذلك أَنه كان يتساهل فى رواية الأَحاديث الضعيفة والموضوعة، على علمه بوضعها وضعفها. وقد أَلَّف هو مجموعا فى الأَحاديث الضعيفة. وتراه فى كتاب البصائر يذكر فى فضائل السور حديث أُبَىّ بن كعب الطويل، فيذكر فى كل سورة ما يخصّها من هذا الحديث، وهو حديث موضوع تحاشاه المفسّرون إِلا الزمخشرى والبيضاوى فقد يأْتيان ببعضه، وأُخذ عليهما هذا. وكذلك حديث على المتناول لكل سورة، وفيه: يا على إِذا قرأْت سورة كذا كان لك كذا، فهو يوردُه مع التنبيه عليه فى بعض الأَحيان بأَنه واهٍ أَو ساقط. والمتحرِّى للدقة ينأَى عن هذا السبيل، وقد شدَّد العلماء فى رواية الموضوعات ووجوب تجنُّبها.
ومن هذا أَنه جمع ما يروى فى التفسير عن ابن عباس، واعتمد على رواية محمد بن مروان عن الكلبى عن أَبى صالح عن ابن عباس. ويقول السيوطى فى الإِتقان فى النوع الثمانين الذى عقده لطبقات المفسرين: إِن أَوْهى الطرق عن ابن عباس طريق الكلبى عن أَبى صالح عنه، فإِن انضم إِلى ذلك رواية محمد بن مَرْوان السُدِّى الصغير فهى سِلسلة الكذب.
وقد عابه النقَّاد بإِيمانه برَتن الهندىّ. وهو رجل ظهر بعد الستمائة من الهجرة، أَو ادَّعى ظهوره، وادَّعى صحبته للرسول عليه الصلاة والسلام، بل زعم أَنه أَسنّ منه، وروى عنه أَحاديث وأَحوالا. وقد ردّ هذه الدعوى الجهابذة. ويذكر الذهبىّ أَن هذه فرية مختلقة، وأَنه لا وجود له. ولكن المجد يصدّق بوجوده وصحبته وبقائه هذه المدة الطويلة، وينكر على الذهبىّ إِنكاره له. ويقول ابن حجر فى الإِصابة: "ولمّا اجتمعت بشيخنا مجد الدين الشيرازىّ(1/10)
شيخ اللغة بزَبيد فى اليمن - وهو إِذ ذاك قاضى القضاة ببلاد اليمن - رأَيته ينكر على الذهبىّ إِنكار وجود رَتَن. وذكر لى أَنه دخل ضَيْعته لمَّا دخل بلاد الهند، ووجد فيها من لا يُحصى كثرة ينقلون عن آبائهم وأَسلافهم قِصَّة رَتَن ويثبتون وجوده".
على أَنه فى الرواية البَحْت كان عَلَما مشهودا له. ويقول الخزرجىّ فيه حين كان يلقى دَرس البخارىّ فى زبيد: "وكان من الحفَّاظ المشهورين، والعلماء المذكورين. وهو أَحقّ الناس بقول أَبى الطيِّب المتنبى حيث يقول:
أَدِيب رسَتْ للعلم فى أَرض صدره ... جبالٌ جبالُ الأَرض فى جنْبها قُفُّ
وأَعود إِلى الحديث عن تبريزه فى اللغة. فيذكر صاحب الشقائق النعمانيّة أَن المجد آخر من مات من الرؤساء الذين انفرد كل منهم بفنّ فاق فيه أَقرانه على رأْس القرن الثامن الهجرى. وهم سوى الفيروز ابادى:
1- الشيخ سراج الدين البُلقينى، فى الفقه على مذهب الشافعى. وهو عمر بن رسلان مجتهد عصره. له تصانيف فى الفقه والحديث والتفسير، منها حواشى الروضة، وشرح البخارىّ، وشرح الترمذى. وولى تدريس التفسير بالجامع الطولونى. وكانت وفاته سنة 805.(1/11)
2- والشيخ زَين الدين العراقىّ فى الحديث. وهو عبد الرحيم بن الحسين، حافظ العصر، وله الأَلفيَّة فى مصطلح الحديث وشرحها، وتخريج أَحاديث الإِحياء، وغيرها. مات سنة 806.
3- والشيخ سراج الدين بن الملقّن فى كثرة التصانيف فى فنّ الفقه والحديث. وهو عمر بن علىّ. اشتغل بالتصنيف وهو شابّ، حتى كان أَكثر أَهل العصر تصنيفا. ومن تصانيفه شرح البخارىّ، وشرح العمدة، وشرحان على المنهاج فى الفقه، وشرح الحاوى، وشرح التنبيه، وشرح منهاج البيضاوىّ فى الأُصول، والأَشباه والنظائر. وكانت وفاته سنة 804.
4- والشيخ شمس الدين الفنارىّ فى الاطلاع على كلّ العلوم العقليَّة والنقليَّة والعربية. وهو محمد بن حمزة من علماء الروم فى أَيام السلطان بايزيد بن مراد. وكانت وفاته سنة 834، وبهذا لا يكون المجد آخر من مات، كما يذكر صاحب الشقائق. وقد أَبدى هذا النقد اللكنوى فى كتابه "الفوائد البهيَّة فى تراجم الحنفية".
5- والشيخ ابن عرفة فى فقه المالكية بالمغرب. وهو محمد بن محمد ابن عرفة. توفى سنة 803.(1/12)
ويستدرك المقرّى فى أَزهار الرياض على صاحب الشقائق، فيقول: "قيل: ولو زاد ولىّ الدين بن خلدون فى التاريخ وطبائع العالَم لحسن". وابن خلدون أَشهر من أَن يعرَّف به. وكانت وفاته سنة 808.
مذهبه الفقهى وتصوفه
كان المجد شافعىّ المذهب، كأَكثر أَهل شيراز. ويذكر الفاسىّ أَن عنايته بالفقه غير قويَّة. وهو مع ذلك ولى قضاءَ الأقضية باليمن، وكان سلفه جمال الدين الرَّيمى من جِلَّة الفقهاء، وله شرح كبير على التنبيه لأَبى إِسحاق الشيرازى. وفى الحقّ أَنا لا نكاد نرى له تأليف فى الفقه خاصَّة. ونراه فى سفر السعادة يعرض لأحكام العبادات، ويذكر أَنه يعتمِد فيها على الأحاديث الصحيحة، فيذهب مذهب أَهل الحديث لا مذهب الفقهاءِ.
وكانت له نزعة قويِّة إِلى التصوف، واسع الاطلاع على كتب الصوفيَّة ومقاماتهم وأَحوالهم. يبدو ذلك حين يعرض فى البصائر لنحو التوكل والإِخلاص والتوبة، فتراه ينحو نحو الصوفية، وينقل عنهم الشىء الكثير ونراه فى صدر سفر السعادة يتحدَّث عن الخَلْوة عند الصوفيَّة لمناسبة ذكر خلوة الرسول عليه الصلاة والسلام فى غار حراء.
وحين كان فى اليمن انتشرت مقالة محيى الدين بن عربى فى وحدة الوجود وما إِليها فى زبيد. وكان يدعو إِليها الشيخ اسماعيل الجبرتى(1/13)
الذى استوطن زبيد، وأَحرز مكانة عند السلطان؛ إِذ ناصره عند حصار الإِمام الزيدىّ للمدينة، فمال المجد إِلى هذه العقيدة. ويذكر ابن حجر فى إِنباءِ الغُمر أَنه كان يُدخل فى شرح صحيح البخارى من كلام ابن عربى فى الفتوحات المكية ما كان سببا لشَين الكتاب، ويقول: "ولم أَكن أَتَّهم الشيخ المذكور بمقالته (أَى بمقالة ابن عربى) ، إِلا أَنه كان يحبُّ المداراة. ولما اجتمعت بالشيخ مجد الدين أَظهر لى إِنكار مقالة ابن العربى وغضَّ منها" وكان اجتماع ابن حجر به فى زبيد عام 800.
ولكنا نرى أَنه يمجّد ابن عربى، ويثنى على كتبه بما ينبئ عن صدق اعتقاده فيه، وأَنه أَدنى إِلى أَن يدارى ابن حجر الذى كان شديد الإِنكار على ابن عربى.
فقد أَلَّف كتاباً بسبب سؤال رفع إِليه فى شأْن ابن عربى، وفى هذا الكتاب: "الذى أَعتقده فى حال المسئول عنه، وأَدين الله تعالى به أَنه كان شيخ الطريقة حالاً وعلما، وإِمام الحقيقة حقيقة ورسماً، ومحيى رسوم المعارف فعلاً واسماً.
إِذا تغلغل فكر المرءِ فى طَرَف ... من بحره غرِقت فيه خواطره
ثم يقول بعد الثناءِ الكثير:
ومع علىَّ إِذا ما قلت معتقدى ... دع الجهول يظنّ العدل عدوانا
والله والله والله العظيم ومَن ... أَقامه حجَّة للدين برهانا
إِن الذى قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إِلا لعلى زدت نقصانا(1/14)
استقراره في اليمن
بعد أَن طوَّف المجد فى البلاد انتهى به المطاف فى اليمن. فقد استدعاه صاحبها الأَشرف إِسماعيل بن العباس من آل رَسُول إِلى حضرته زَبيد فى سنة 796هـ، وكان قادماً من الهند. وأَمر عامله على عَدَن أَن يجهّزه بأَربعة آلاف درهم، ووصله حين وصل إِليه بأَربعة آلاف درهم أُخرى.
وأَكرمه السلطان ونصبه للتدريس وصار يحضر دَرسه.
وفى سنة 797 ولاَّه منصب قضاء الأَقضية، وكان شاغراً منذ وفاة جمال الدين محمد بن عبد الله الرَيْمىّ فى سنة 792، وكتب له منشور بذلك فى أَقطارِ المملكة. وظل يزاول التدريس، فقد سمع السلطان عليه فى رمضان من سنة 798 صحيح البخارىِّ، وكان ذا سَند عالٍ من طرق شَتَّى.
ولقد لقى حظوة كبيرة عند السلطان الأَشرف، وتزوّج الأَشرف ابنته لفرط جمالها، فازداد المجد قربا منه وزُلفى لديه. ويُروى أَنه أَلَّف له كتابا وأَرسله إِليه محمولا على أَطباق فردَّها إِليه السلطان مملوءَة دراهم. وفى اليوم الخامش عشر من شهر شعبان من سنة 800هـ فرغ من كتابه "الإِصعاد" وكان ثلاثة مجلدات، فحمله ثلاثة رجال على رءوسهم إِلى السلطان، وسار أَمام حملة الكتاب الفقهاء والقضاة وسائر(1/15)
الطلبة فلمّا دخل المجد على السلطان وقدَّم إِليه الكتاب أَجاره بثلاثة آلاف دينار.
ولم تكن هذه الطريقة فى رفع الكتاب إِلى السلطان غريبة فى بلاد اليمن، فيحكى صاحب العقود اللؤلؤية أَن سلف المجد فى قضاء الأَقضية الجمال الريمىّ فى سنة 788 رفع كتاب "التفقيه فى شرح التنبيه" فى فروع الشافعية، إِلى السلطان - وكان فى أَربعة وعشرين جزءا - فحمله المتفقهِّة على رءوسهم إِلى باب السلطان. وقد حباه السلطان بثمانية وأَربعين أَلف درهم.
وقد بلغ من اعتزاز الأَشرف به وحرصه أَلاَّ يفارقه أَبدا أَن طلب إِليه المجد أَن يأذن له بالسفر إِلى الحجّ، فرأَى أَن فى هذا حرمانا للبلاد من علمه وفضله، وعَزَم عليه أَن يبقى إِلى جانبه.
فلقد كتب إِلى السلطان فى سنة 799 كتابا فيه: "وممّا يُنهيه إِلى العلوم الشريفة أَنه غير خاف عليكم ضعف أَقلّ العبيد، ورِقَّة جسمه، ودقَّة بنيته، وعلوّ سنّه. وقد آل أَمره إِلى أَن صار كالمسافر الذى تحزّم وانتعل، إِذ وهَنَ العظم، بل والرأْس اشتعل، وتضعضع السِّن، وتقعقع الشَنّ. فما هو إِلاّ عظام فى جراب، وبنيان مشرف(1/16)
على خراب. وقد ناهز العَشر التى تسميها العرب دقَّاقة الرقاب. وقد مرّ على المسامع الشريفة، غير مرّة فى صحيح البخارىّ قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا بلغ المرء ستيّن سنة فقد أَعذر الله إِليه" فكيف من نيّف على السبعين، وأَشرف على الثمانين. ولا يَجمل بالمؤمن أَن تمضى عليه أَربع سنين ولا يتجدَّد له شوق وعزم إِلى بيت ربّ العالمين، وزيارة سيد المرسلين، وقد ثبت فى الحديث النبوىّ ذلك. وأَقلّ العبيد له ستّ سنين عن تلك المسالك. وقد غلب عليه الشوق، حتى جلَّ عمْره عن الطَوْق. ومن أَقصى أُمنيَّته أَن يجدّد العهد بتلك المعاهد، ويفوز مرة أُخرى بتقبيل تلك المشاهد. وسؤالُه من المراحم الحسَنيَّة الصدقة عليه بتجهيزه فى هذه الأَيام، مجرّدا عن الأَهالى والأَقوام، قبل اشتداد الحَرّ وغلبة الأُوام؛ فإِن الفصل أَطيب، والريح أَزْيب. ومن الممكن أَن يفوز الإِنسان بإِقامة شهر فى كل حَرَم، ويحظى بالتملّى من مهابط الرحمة والكرم. وأَيضا كان من عادة الخلفاء سَلَفا وخَلَفا أَنهم كانوا يُبردون البريد عَمْداً قصدا لتبليغ سلامهم إِلى حضرة سيد المرسلين(1/17)
صلوات الله وسلامه عليه، فاجعلنى - جعلنى الله فداك - ذلك البريد، فلا أَتمنى شيئا سواه ولا أُريد.
شوفى إِلى الكعبة الغرّاء قد زادا ... فاستحمل القُلُص الوخّادة الزادا
واستأْذن الملك المنعام دام عُلاً ... واستودع الله أَصحابا وأَولادا
فلما وصل الكتاب إِلى السلطان كتب إِليه: إِن هذا شئٌ لا ينطق به لسانى، ولا يجرى به قلمى. فقد كانت اليمن عمياءَ فاستنارت. فكيف يمكن أَن نتقدم، وأَنت تعلم أَن الله قد أَحيا بك ما كان ميّتا من العلم. فبالله عليك إِلاَّ ما وهبت لنا بقيَّة هذا العمر. والله يا مجد الدين يمينا بارَّة، إِنى أَرى فراق الدنيا ولا فراقك، أَنت اليمن وأَهله.
وقد بقى فى اليمن مغمورا ببرّ الأَشرف إِسماعيل. ويظهر أَن المجد أَلحَّ عليه أَن يأْذن له فى الحج، فأَذن له. ففى سنة 802 حجّ، وأَقام بمكَّة بعد الحجّ، وبَنى له دارا على الصَّفا. ونراه يقول فى مادة (ص ف و) فى القاموس: "والصَفا من مشاعر مكَّة بلحف أَبى قُبَيْس. وابتنيت على مَتْنه دارا فيحاءَ". وفى هذه الدار أَتم القاموس، فهو يقول فى خاتمة هذا الكتاب: "وقد يسَّر الله - تعالى - إِتمامه بمنزلى على الصفا بمكَّة المشرَّفة، تجاه الكعبة المعظمة، زادها الله تعظيما وشرفا، وهيّأ لقُطَّان باحتها من بحابح الفراديس غرفا".
ويذكر الفاسىّ فى العقد الثمين أَنه جعل هذه الدار مدرسة بامس الملك الأَشرف، ورتَّب فيها مدرسين للحديث، وفقه مالك وفقه الشافعى.(1/18)
وفعل مثل ذلك فى المدينة، ثم ذهب إِلى اليمن قاصدا الأَشرف، فمات الأَشرف قبل وصوله. والأَشرف هو إِسماعيل بن العباس، ولى الملك سنة 778، وكان كريما ممدَّحا مقبلا على العلم والعلماء، يكرم الغرباءَ ويبالغ فى الإِحسان إِليهم، اشتغل بفنون من الفقه والنحو والأَدب والتاريخ والأَنساب والحساب وغيرها، كما فى ترجمته فى الضوءِ اللامع، ومات بزبيد سنة 803هـ.
وصحب المجد بعد الأَشرف ابنه السلطان الناصر أَحمد. ويظهر أَن المجد لم يلق فى عهده ما لقيه فى عهد أَبيه الأَشرف. ومن ثم أَبطل المدرستين فى مكة والمدينة اللتين جعلهما باسم الأَشرف. ويذكر السخاوى فى ترجمته أَنه فى أَيامه خرب غالب بلاد اليمن لكثرة ظلمه وعَسْفه وعدم سياسته. وكانت وفاته سنة 827هـ.
نسب المجد ولقبه، وما اشتهر به
أملى المجد نسبه، ورفعه إِلى أَبى إِسحاق الشيرازى إِبراهيم بن علىّ الذى كان علما فى فقه الشافعية، وهو صاحب التنبيه والمهذَّب. وكانت وفاته سنة 476هـ.
وسياقه نسبه - كما فى الضوءِ اللامع -: محمد بن يعقوب بن إِبراهيم ابن عُمَر بن أَبى بكر بن أَحمد بن محمود بن إِدريس بن فضل الله ابن الشيخ أَبى إِسحاق إِبراهيم بن على بن يوسف بن عبد الله.
ويذكر ابن حَجَر فى إِنباءِ الغُمر أَن شيوخه كانوا يطعنون فى رفع نسبه(1/19)
إِلى أَبى إِسحاق مستندين إِلى أَن أَبا إِسحاق لم يُعقب. وفى الضوءِ أَن هذا القول مرجعه إِلى الظن لا إِلى اليقين.
ويذكر ابن حَجَر أَيضاً أَن المجد بعد أَن ولى القضاءَ باليمن ارتقى درجة فصار يدّعى انتسابه إِلى أَبى بكر الصدِّيق رضى الله عنه، ويقول:
"وزاد إِلى أَن قرأْت بخطِّه لبعض نوّابه فى بعض كتبه: كتبه محمد الصدِّيقى. ولم يكن مدفوعاً عن معرفة، إِلاَّ أَن النفس تأْبى قبول ذلك" وقد حاولت أَن أَقف على تمام نَسب أَبى إِسحاق، وأَن أَتعرَّف حال نسبته إِلى أَبى بكر رضى الله عنه، فلم أَهتد إِلى مرجع فى ذلك.
واشتهرت نسبته "الفيروز ابادى" وهى نسبه إِلى فيروز اباد - بفتح الفاءِ وكسرها - وهى مدينة (جُور) فى جنوبىِّ شيروز، وفى شمالىِّ كارِزين. وفى خاتمة تاج العروس أَن فيروز اباد كان منها أَبوه وجَدّه. وهذا القول فى النفس منه شىء. فقد كان مولد المجد فى كارزين، وبقى فيها سنيه السبع الأُولى ثم ينتقل إِلى شيراز، ولا نرى له علاقة بفيروز اباد، وكذلك نرى أَباه من علماءِ شيراز، ولا نرى له ذكراً فى فيروز اباد. وقد يقال: إِن كارزين بلدة أُمّه، وإِن أَخبار أَبيه لم يبلغنا منها إِلا النزر اليسير. وفى ظنِّى أَن هذه النسبة أَتته من قبل انتسابه إِلى أَبى إِسحاق، فقد كان من فيروز اباد، وطلب العلم فى شيراز، واستقرّ به المقام فى بغداد.
ويقال فى نسبه أَيضاً: الشيرازىّ، إِذ تلقى العلم فى مبدإِ أَمره فى شيراز. ونراه ينسب إِلى كارزين.(1/20)
ومما يدخل فى هذا الفصل أَنه كان يحبُّ الانتساب إِلى الحرم المكَّىِّ: لإِقامته فيه مراراً، كما سبق. فكان يكتب: "الملتجئ إِلى حرم الله تعالى". وفى تاج العروس فى آخره أَنه وجد فى بعض النسخ: "قال مؤلفه الملتجئ إِلى حَرَم الله محمد بن يعقوب الفيروز ابادى ... " ويقول السخاوى وغيره: إِنه كان يقتدى فى هذا بالصاغانى الحسن بن محمد المتوفى فى بغداد سنة 650، أَى قبل سقوط بغداد واستيلاءِ التتار عليها بست سنوات. وقد كان المجد يقتدى بالصاغانى، ويعتمد عليه فى اللغة وغيرها. ونرى أَن الصاغانىّ الذى قدِّرت وفاته فى بغداد كان أَوصى أَن يدفن فى مكة، فنقل إِليها تنفيذاً لوَصِيَّته.
وفاة المجد
كانت وفاته فى ليلة الثلاثاءِ العشرين من شوال سنة 817هـ (أَول يناير سنة (1415) . ويقول الفاسى: "وما ذكرناه من تاريخ ليلة موته موافق لرؤية أَهل زَبِيد لهلال شوّال. وعلى رؤية أَهل عَدَن وغيرهم يكون موته فى ليلة تاسع عشر شوَّال" يريد أَن أَول شوَّال كان عند أَهل زبيد يوم الخميس، وعند غيرهم يوم الجمعة، وهو الموافق لما فى التوفيقات الإِلهامية.
وقد مات ممتَّعا بسمعه وبصره، فقد قرأَ خطّاً دقيقاً قبل موته بيسير، ودفن بمقبرة الشيخ إِسماعيل الجبرتى فى زبيد.(1/21)
مؤلفات المجد وآثاره
إِن ثبَت مؤلفاته طويل، وكلها فى التفسير والحديث والتاريخ، وما يتصل بهذه الأُمور. وقد فقد معظمها. وهاك هذا الثبت، وهو ليس حاصراً، وكان يختار لكتبه أَسماء حسنة، يلتزم فيها السجع.
1- بصائر ذوى التمييز، فى لطائف الكتاب العزيز. وهو الكتاب الذى نقدمه.
2- تنوير المقباس، فى تفسير ابن عباس. طبع فى مصر والهند.
3- تيسير فاتحة الإِهاب، فى تفسير فاتحة الكتاب.
4- الدرّ النظيم، المرشد إِلى مقاصد القرآن الكريم.
5- حاصل كُورة الخلاص، فى فضائل سورة الإِخلاص.
6- قُطبة الخَشَّاف، شرح خطبة الكشَّاف (الخَشَّاف: الماضى فى السير) .
7- شوارق الأَسرار العليَّة، فى شرح مشارق الأَنوار النبويَّة. (ومشارق الأَنوار فى الحديث للصاغانى) .
8- مَنْح البارى بالسيْح الفسيح الجارى، فى شرح صحيح البخارى. كمل منه عشرون مجلدة. وكان يقدَّر تمامه فى أَربعين مجلدة.
9- عدَّة الحُكَّام، فى شرح عمدة الأَحكام. وعمدة الأَحكام كتاب فى أَحاديث الأَحكام الشرعية للجماعيلى عبد الغنى بن عبد الواحد المتوفى سنة 600هـ، كما فى كشف الظنون.(1/22)
10- امتصاص الشِّهاد، فى افتراض الجهاد (وفى الضوءِ اللامع وكشف الظنون: امتضاض السهاد) وما هنا عن العقد الثمين.
11- الإِسعاد، بالإِصعاد، إِلى مرتبة الاجتهاد.
12- النفحة العنبرية، فى مولد خير البريَّة.
13- الصِّلات والبُشَر، فى الصلاة على خير البَشَر.
14- الوصل والمُنَى، فى فضائل مِنى.
15- المغانم المُطَابة، فى فضائل طابة (وطابة هى المدينة المنورة) .
16- مهيّج الغَرام، إِلى البلد الحرام.
17- إِثارة الحَجُون، إِلى زيارة الحَجون (الحجون الأَول: الكسلان، والأَخير: جبل بأَعلى مكة) .
18- أَحاسن اللطائف، فى محاسن الطائف.
19- فَصل الدُرَّة من الخَرزة، فى فضل السَلامة على الخِبَزَة (والسلامة والخبزة: قريتان بالطائف) .
20- روضة الناظر، فى ترجمة الشيخ عبد القادر (والظاهر أَن المراد الشيخ عبد القادر الجيلانى) .
21- المِرقاة الوفية، فى طبقات الحنفية.
22- المرقاة الأَرفعيّة، فى طبقات الشافعية.
23- البُلغة، فى تراجم أَئمة النحاة واللغة.
24- الفضل الوفى، فى العدل الأَشرفى (الأَشرف اسماعيل الرسولى) .
25- نزهة الأَذهان، فى تاريخ أَصبهان.(1/23)
26- تعيين الغُرفات، للمعين على عين عَرَفات.
27- مُنية السول، فى دعوات الرسول.
28- التجاريح، فى فوائد متعلقة بأَحاديث المصابيح - والمصابيح للبغوى.
29- تسهيل طريق الوصول، إِلى الأَحاديث الزائدة على جامع الأُصول. وجامع الأُصول لابن الأَثير.
30- الأَحاديث الضعيفة.
31- الدرّ الغالى، فى الأَحاديث العوالى.
32- سفر السعادة - وهو مطبوع.
33- المتفق وضعا، والمختلف صُقعْا.
34- اللامع المُعْلَم العُجاب، الجامع بين المحكم والعُباب - كمل منه خمس مجلدات. وكان يقدر تمامه فى ستين سفرا.
35- القاموس المحيط.
36- مقصود ذوى الأَلباب، فى علم الإِعراب.
37- تحبير الموسين، فيما يقال بالسين والشين. طبع فى الجزائر سنة 1327هـ.
38- المثلث الكبير.
39- المثلث الصغير.
40- تحفة القماعيل، فيمن تسمَّى من الملائكة والناس إِسماعيل (القماعيل جمع قِمْعال، وهو سيد القوم) .
41- الدُرَر الْمُبَثَّثة، فى الغُرر المثلثة.(1/24)
42- أَسماء السراح فى أَسماء النكاح.
43- أَسماء الغادة، فى أَسماء العادة.
44- الجليس الأَنيس، فى أَسماء الخندريس.
45- أَنواء الغيث، فى أَسماء الليث.
46- ترقيق الأَسل، فى أَسماء العسل.
47- زاد المعاد، فى وزن بانت سعاد.
48- النُخَب الطرائف، فى النكت الشرائف.
بصائر ذوى التمييز، فى لطائف الكتاب العزيز
هذا هو الكتاب الذى أُقدّمه للقراء. وهو كما يظهر من اسمه يبحث فى أَشياء تتعلق بالقرآن الكريم الذى لا تنفد عجائبه، ولا تنتهى لطائفه.
خطبة الكتاب
إِن القارئ لخطبة الكتاب يرى أَن المؤلِّف يقدّم كتابا جامعا لمقاصد العلوم والمعارف فى عصره، حتى العلوم المدنية التى لم يكن للمؤلف بد فيها ولا بصربها، كالهندسة والموسيقى والمرايا المحرِقة.
ويذكر فى الخطبة أَن الكتاب مرتَّب على مقدمة وستين مقصدا. والمقاصد الستون فى علوم العصر، كل مقصد فى علم منها.
ونراه فى الخطبة يسرد عنوانات المقاصد؛ ليكون ذلك فهرسا إِجماليّا للكتاب. فالمقصد الأَول فى لطائف تفسير القرآن. والثانى فى علم الحديث(1/25)
النبوى، ويستمر هكذا فى السَّرْد، حتى يصل إلى المقصد الخامس والخمسين فى علم قوانين الكتابة. ثم نرى: "المقصد السادس والخمسون فى علم ... " ولا نرى ما يضاف إليه (علم) ولا بقيّة المقاصد الستين؟ فهل هذا النقص من النساخ لما بين أَيدينا من النُسَخ؟
وهو يذكر أَن الذى رسم بتأْليف الكتاب على هذا النحو الجامع السلطان الأشرف إِسماعيل بن العباس الذى دعاه إِلى حضرته بزبيد، وولاَّه قضاء الأَقضية، كما سبق الكلام عليه. ونراه يقول: "قصد بذلك - نصره الله - جمع أَشتات العلوم وضمَّ أَنواعها - على تباين أَصنافها - فى كتاب مفرد؛ تسهيلا لمن أَراد الاستمتاع برائع أَزهارها، ويانع أَثمارها الغضّ المصون، فيستغنى الحائز له، الفائز به، عن حمل الأَسفار، فى الأَسفار ... ".
وقد كان السلطان الأَشرف مضطلعا بالعلوم، كما وصفه من عاصره. وكان يبعث العلماءَ على التصنيف.
وقد يضع منهج الكِتاب وخِطَّته، ويكل إِتمامه إِلى بعض العلماءِ. ويذكر السخاوىّ فى الضوءِ اللامع فى ترجمته "أَنه كان يضع وضْعا، ويحدّ حدّا، ثم يأْمر من يتمُّه على ذلك الوضع، ويعرض عليه. فما ارتضاه أَثبته، وما شذَّ عن مقصوده حذفه، وما وجده ناقصا أَتمَّه".
وبعد هذا لا يعجب من وقف على حَيَاة المجد واقتصاره على علوم الرواية، من تعرضُّه للعلوم الفلسفيَّة والمدنيَّة، ووضع منهج الكتاب على أَن يذكر مقاصدها. فإِن الواضع للخطَّة الأَشرف إِسماعيل، وقد كان واسع المعرفة. ومما ذكر من العلوم التى كان يتقهنا الحساب، وقد يكون عارفا(1/26)
بما هو من باب الحساب، كالهندسة والمرايا المحرقة، وما إِلى ذلك. وكان الملْك والعُمْران يقتضى هذه العلوم، بالإِضافة إِلى العلوم الدينية والعربية.
ولكن كيف يكل الأَشرف إِعداد هذا المنهج الواسع إِلى الفيروز ابادى قاضى الأَقضية، وهو لا يحسن تلك العلوم التى كانوا يسمُّونها علوم الأَوائل؟
الظاهر أَنه كلَّفه هذا على أَن يستعين فيما لا يعرفه من يعرفه من أَهل الاختصاص؛ وله من خبرته ومنصبه ما يعينه على ذلك.
وبعد هذا لا نرى من آثار هذا المنهج العام إِلا المقدّمة التى تتعلق بفضل العلم وتمييز العلوم، ثم المقصد الأَول، وهو لطائف التفسير الذى سمى فيما بعد: بصائر ذوى التمييز. فهذا الوضع الجامع لم يقدِّر للمجد أَن يتمَّه وحده، أَو مستعينا غيره.
والظاهر أَن الأَشرف مات بعد تمام المقصد الأَول، ففترت همَّة المجد فى عهد ولده الناصر؛ إِذ كان لا يلقى من البرِّ والكرم، ما كان يلقاه فى عهد صهره السلطان الأَشرف، ولم يجد من المال ما يجزى به من يشتغل فى هذا العمل الوسَاع الجليل، وهذا مع أَنه قد علته كَبْرة، وأَدركه فتور الشيخوخة.
عود إلى بصائر ذوى التمييز
لا نرى هذا العنوان فى الكتاب. إِنما العنوان فى الكتاب فى الإِجمال والتفصيل: "المقصد الأَول فى لطائف تفسير القرآن العظيم". وقد أَصبح(1/27)
هذا العنوان لا مكان له بعد عدول المجد عن بقية المقاصد، فكان من المستحسن أَن يكون له اسم يشعر باستقلاله، وأَنه ليس جزءًا من كتاب جامع. وكان المؤلف جعل عنوان كل بحث فى هذا المقصد: "بصيرة" فأَصبح الكتاب جملة بصائر، ومن هذا استمدَّ الاسم الجديد: "بصائر ذوى التمييز، فى لطائف الكتاب العزيز". وتراه غيّر "العظيم" بالعزيز ليسجِّع مع العبارة التى اجتلبها.
وقد كان يحسن به أَن يعدل عن خطبة الكتاب الجامع، ويستأَنف خطبة خاصة بهذا الكتاب. وكأَنه كان يرجو أَن يقدَّر له يوما إِنجاز ما اعتزمه من المقاصد الستين، فأَبقى الخطبة على حالها الأَول.
منهج بصائر ذوى التمييز
يحتوى هذا الكتاب مقدمة فيها فضل القرآن، وشىء من المباحث العامة المتعلقة به، كالنسخ، ووجوه مخاطباته، ثم يأْخذ فى ذكر مباحث تتعلق بالقرآن سورة سورة، على ترتيبها المعروف فى المصحف ... فيذكر فى كل سورة مباحث تسعة 1- موضع النزول 2- عدد الآيات والحروف والكلمات 3- اختلاف القراءِ فى عدد الآيات 4- مجموع فواصل السورة 5- اسم السورة أَو أَسماؤها 6- مقصود السورة، وما هى متضمِّنة له 7- الناسخ والمنسوخ من السورة 8- المتشابه منها 9- فضل السورة.
وبعد هذا يعقد بحثاً إِجمالياً فى عدد آيات القرآن، وعدد كلماته وحروفه، وما يجرى هذا المجرى؛ كعدد كل حرف من الحروف الهجائية فيه، فيذكر مثلاً أَن عدد اللامات فيه كذا.(1/28)
ثم يعرض لتفسير مفردات القرآن على نحو عمل الراغب فى مفرداته. ويصنِّفها باعتبار الحرف الأَول من الكلمة، فالمبدوءُ بحرف الأَلف فى حرف الأَلف، وهكذا. ويصدّر مباحث كل حرف بالكلام على وصف الحرف ومعناه لغة، والنسبة إِليه ونحو ذلك. ونراه قد يراعى الحرف الزائد فى الكلمة، فنرى الإِنزال فى حرف الأَلف. ويأْتى هذا القسم فى تسعة وعشرين بابا على عدد حروف الهجاءِ.
ثم يأْتى الباب الثلاثون، فيذكر فيه الأَنبياءَ المذكورين فى القرآن، وأَعداءَهم وقصصهم، وما يدخل فى هذا الباب، وبهذا ينتهى الكتاب.
أصول الكتاب
اعتمدت فى نشر الكتاب على أَصلين مخطوطين:
1- نسخة كتبت بخطٍّ نسخى جميل، أَولها منقوش بالذهب والأَلوان. وهى مُجَدولة بالمداد الذهبى، وباللونين الأَحمر والأزرق، وعناوين المطالب مكتوبة بالحمرة. تقع فى 413 ورقة، وفى الصفحة 33 سطرا. وهى 13 × 21 سنتيمترا. وقد كتبها حسين بن عمر فى سنة 1172 هـ. وهى فى دار الكتب. وتحمل رقم 229 تفسير تيمور.
وقد رمزت لها بالحرف - ا -.
2- نسخة بخطوط مختلفة، وأَكثرها بقلم تعليق دقيق، وبعضها بقلم النسخ. وعناوين المطالب مكتوبة بالحمرة. وقد قوبلت على نسخة(1/29)
أُخرى، وفى حواشيها تصويبات وتعليقات كثيرة، ولا تحمل تاريخ كتابتها ...
وتقع فى 361 صفحة، ومتوسط سطور الصفحة 40. وهى فى دار الكتب وتحمل رقم 259 تفسير تيمور.
وقد رمزت لها بالحرف - ب -.
عملى في التحقيق
إِن الأَصلين فيهما كثير من التحريف، وقد يقع فى أحدهما سقط يختلّ به الكلام. فقمت بتقويم النص وردّ المحرف إِلى أَصله، بقدر استطاعتى، وإِكمال الناقص. ورجعت فى ذلك إِلى ما تَيَسَّر لى من أُصول الكتاب، كما يرَى القارئ إِن شاءَ الله فى التعليقات.
وقد أَوردت فى التعليقات أَرقام الآيات وبيان سورها، وقمت بتخريج ما فيه من الأَحاديث والشواهد الشعرية ما استطعت إِلى ذلك سبيلا.(1/30)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى وقف دون إِدراك كُنْه عظمته العلماء الرّاسخون، وأَصبح العلماء الشُّهَماء عند حقيقة كمال كبريائه وهم متحيّرون. أَبدى شوارق مصنوعاته فى عَنان الظُلْمة، فبها إِلى وحدانيّته يهتدون. العظيم الَّذى لا يحوم حول أَذيال جلاله الأَفكار والظنون، الحىّ القيّوم المنزَّه ساحةُ حياته عن تَطَرُّق رَيْب المَنون.
وأَشهد أَن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريك له، شهادة تَسُرّ منَّا القلوبَ وتُقِرّ منَّا العيون، وأَشهد أَنَّ محمَّداً عبده (ورسوله) وصفيّه المبشَّر فى (نون) بأَجرٍ غير ممنون. المرفوع إِلى المصعد الأَعلى والملائكة المقرّبون حول ركابه يسيرون. النور الباهر الذى تلاشت عند ظهور براهينه وآياته المبطلون، وامَّحقَت(1/33)
عند ظهور معجزاته المشبِّهة والمعطِّلون. صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأَصحابه الذين أَئمّةُ الهُدَى بهم يهتدون، وأَزِمَّة القُدَى بهم يَقتدون.
وبعد: فهذا كتاب جليل، ومصنَّف حفيل، ايتمَرتْ بتأْليفه الأَوامر الشريفة، العالية المولية الإِماميَّة السُّلطانيَّة العلاَّميَّة الهُمَاميَّة الصَّمصاميَّة الأَعدليَّة الأَفضليَّة السَّعيديَّة الأَجلِّيَّة المَلَكيَّة الأَشرفية، ممهِّد الدُّنيا والدِّين، خليفة الله فى العالَمين، أَبو العبَّاس إِسماعيل بن العبَّاس بن على بن داود ابن يوسف بن عمر بن على بن رسول. خلَّد سلطانه، أَنار فى الخافقين برهانه. قصد بذلك - نصره الله - جَمْع أَشْتَاتِ العلوم، وضمّ أَنواعِها، على تباين أَصنافها، فى كتاب مفرد؛ تسهيلا لمن رام سَرْح النَّظر فى أَزاهير أَفنان الفنون، وتيسيراً لمن أَراد الاستمتاع برائع أَزهارها، ويانع ثمارها الغَضِّ المَصُون، وإِعانةً لمن قصد افتراع خرائدِها اللاتى كأَنهنَّ بَيض مكنون. فيستغنى الحائز (له الفائز) به عن حمل الأَسفار، فى الأَسفار حيث يجتمع له خزائن العلوم فى سِفْر مخزون، ومجموعةٍ(1/34)
يتحلَّى من أَغاريد مُسمِعاتها القلبُ المحزون، ويمتلئُ من أَطراق أَطْيَابها الطَّبْع المودون.
فاستعنت بتوفيق الله وتأْييده ورتَّبته على مقدِّمة وستين مقصداً:
المقدمة فى تشويق العالِم إِلى استزادة العلم الَّذى طلبُه فرض، وتمييز العلوم بعضِها من بعض.
المقصد الأَول: فى لطائف تفسير القرآن العظيم.
المقصد الثانى: فى علم الحديث النبوىّ وتوابعه.
المقصد الثالث: فى علوم المعارف والحقائِق.
المقصد الرابع: فى علم الفقه.
المقصد الخامس: فى علم أُصول الفقه.
المقصد السادس: فى علم الجَدَل.
المقصد السابع: فى علم اللغة.(1/35)
المقصد الثامن: فى علم النحو.
المقصد التَّاسع: فى علم الصّرف.
المقصد العاشر: فى علم المعانى.
المقصد الحادى عشر: فى علم البيان.
المقصد الثانى عشر: فى علم البديع.
المقصد الثالث عشر: (فى علم) العروض.
المقصد الرابع عشر: فى علم القوافى.
المقصد الخامس عشر: فى علم الطبيعيّات.
المقصد السادس عشر: فى علم الطبّ.
المقصد السابع عشر: (فى علم) الفِراسة.
المقصد الثامن عشر: (فى علم) البَيْزرة والبَيْطرة.
المقصد التَّاسع عشر: فى علم تعبير الرؤيا.
المقصد العشرون: فى المحاضرات والمحاورات وما يجرى مَجراها.
المقصد الحادى والعشرون: فى أَحكام النُّجوم.
المقصد الثانى والعشرون: فى علم السِّحْر.(1/36)
المقصد الثالث والعشرون: فى الطِّلَّسْمات.
المقصد الرابع والعشرون: في السِّيميا.
المقصد الخامس والعشرون: فى الكيمياءِ.
المقصد السادس والعشرون: فى الفلاحة.
المقصد السّابع والعشرون: فى علم التاريخ.
المقصد الثَّامن والعشرون: فى المِلَل والنِّحل والمذاهب المختلفة.
المقصد التاسع والعشرون: فى الهندسة.
المقصد الثلاثون: فى علم عُقود الأَبنية.(1/37)
المقصد الحادى والثلاثون: فى علم المناظرة.
المقصد الثانى والثلاثون: فى علم المَرَايا المُحْرِقة.
المقصد الثالث والثلاثون: فى علم مراكز الأَثقال.
المقصد الرابع والثلاثون: فى علم البِنكانات.
المقصد الخامس والثلاثون: فى علم الآلات الحربيَّة.
المقصد السادس والثلاثون: فى علم الآلات الروحانيَّة.
المقصد السابع والثلاثون: فى علم الزيجات والتقاويم.
المقصد الثامن والثلاثون: فى علم المواقيت.
المقصد التاسع والثلاثون: فى علم كيفيَّة الأَرصاد.
المقصد الأَربعون: فى علم سطح الكُرَة.(1/38)
المقصد الحادي والأَربعون: فى علم العَدَد.
المقصد الثاني والأَربعون: فى علم الجبر والمقابلة.
المقصد الثالث والأَربعون: فى علم حساب الخَطأَين.
المقصد الرابع والأَربعون: فى علم الموسيقَى.
المقصد الخامس والأَربعون: فى علم حساب التَخْت والميل.
المقصد السادس والأَربعون: فى علم حساب الدَّور والوَصايا.
المقصد السابع والأَربعون: فى علم الدرهم والدينار.
المقصد الثامن والأَربعون: فى علم السِّياسة.
المقصد التاسع والأَربعون: فى علم تدبير المنزل.
المقصد الخمسون: فى علم الحساب المفتوح.
المقصد الحادى والخمسون: فى علم الأَزمنة والأَمكنة.(1/39)
المقصد الثانى والخمسون: فى علم المنطق.
وكان مقتضى الترتيب ذكره مع العلوم الآلية، وإِنما أَخَّرناه لاختلاف العلماء.
فمن قائل (بحرمة الاشتغال به، ومن قائل) بإِباحته، ومن قائل بوجوبه، لكونه آلة تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ.
المقصد الثالث والخمسون: فى علم الحشائش والنباتات ومنافعها.
المقصد الرابع والخمسون: فى علم الحروف وخواصها.
المقصد الخامس والخمسون: فى علم قوانين الكتابة.
المقصد السادس والخمسون: فى علم.(1/40)
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أَنه لا شىء أَشنع ولا أَقبح بالإنسان، مع ما كرّمه الله وفضّله به: من الاستعدادات (و) القابليّة لقبول الآداب، وتعلّم العلوم والصّنائع، من أَن يغفُل عن نفسه ويُهملها، حتّى تبقى عارية من الفضائل. كيف وهو يشاهد أَنّ الدّوابّ والكلاب والجوارح المعلَّمة ترتفع أَقدارها، ويُتغالى فى أَثمانها.
و (كفى فى العلم) شرفاً وفخراً أَنَّ الله عزّ شأْنه وَصَف به نفسه، ومنح به أَنبياءَه، وخصّ به أَولياءَه، وجعله وسيلة إِلى الحياة الأَبديّة، والفوز بالسّعادة السّرمديّة، وجعل العلماءَ قُرَناءَ الملائكة المقرَّبين فى الإِقرار بربوبيّته، والاختصاص بمعرفته، وجعلهم وَرَثة أَنبيائه.
فالعلم أَشرف ما وُرِث عن أَشرف موروث. وكفاه فضلا، وحَسْبه نُبْلا قولُه تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ(1/41)
لتعلموا} فجعل العلم غاية الجميع. وبيّن تعالى بقوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أَنَّه ليس للجِنَان، ومنازل الرّضوان، أَهلٌ إِلا العالِمون، وأَمر أعلم الخَلْق وأَكملَهم، وأَعرف الأنبياء وأَفضلهم، بطلب الزيادة من العلم فى قوله {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وعن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة". والأَحاديث والآثار فى فضل العلم وأَهله كثير جدّاً. وقد أَفردنا فى مصنّف، وأَوردنا أَيضا فى شرح صحيح البخارى ما فيه كفاية إِن شاء الله تعالى.
وفى الجملة فالعلم كلّ أحد يؤثره ويحبّه، والجهل كلّ أحد يكرهه ويَنْفِر منه. وكأن الإِنسان (إِنسان) بالقوّة ما لم يعلم ويجهل جهلاً مركّباً، فإِذا حصل له العلم صار إِنساناً بالفعل عارفاً بربّه، أَهلاً لجِواره وقُرْبه. وإِذا جهل جهلاً مركّبا صار حيواناً، بل الحيوان خير منه. قال تعالى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} خُزَّان المال ماتوا وهم أَحياء، والعلماء باقون مابقى(1/42)
الدّهر. وإِن ماتوا فأعيانهم مفقودة، وأَمثالهم فى القلوب موجودة. وإِذا مات العالِم انثلم بموته ثُلْمة فى الإِسلام.
واعلم أَنّه تَبَيَّن فى علم الأَخلاق أَنّ الفضائل الإِنسانية التى هى الأُمّهات أَربع. وهى العلم، والشجاعة، والعفَّة، والعدل. وما عدا هذه فهى فروع عليها أَو تضاف إِليها. فالعلم فضيلة النَّفس (الناطقة. والشجاعة فضيلة النَّفس الغضبيَّة. والعفَّة فضيلة النَّفس) الشَّهْوانيَّة. والعدل فضيلة عامَّة فى الجميع.
ولا شكَّ أَن النفس الناطقة أَشرف هذه النفوس، ففضيلتها أَشرف هذه الفضائل أَيضا، لأَن تلك لا توجد كاملة إِلاّ بالعلم، والعلم يتمُّ ويوجد كاملاً بدونها. فهو مستغنٍ عنها، وهى مفتقِرة إِليه، فيكون أَشرف. وأَيضا أَنَّ هذه الفضائل الثلاث قد توجد لبعض الحيوانات العَجماوات، والعلم يختصّ بالإِنسان، ويشاركه فيه الملائكة. ومنفعة العلم باقية خالدة أَبدا.
وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إِلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أَو ولد صالح يدعو له، أَو علم يُنتفع به".(1/43)
والعلم مع اشتراكها فى الشرف يتفاوت فيه. فمنه ما هو بحسب الموضوع؛ كعلم الطب؛ فإِن موضوعه بدن الإِنسان؛ ولا خفاء بشرفه.
ومنه ما هو بحسب الغاية؛ كعلم الأَخلاق؛ فإِنَّ غايته معرفة الفضائل الإِنسانية، ونعمت الفضيلة.
ومنها ما هو بحسب الحاجة (إِليه) كعلم الفقه؛ فإِنَّ الحاجة ماسَّة إِليه.
ومنه ما هو بحسب وَثَاقة الحُجَج. فالعلوم الرياضية؛ فإِنها برهانيَّة يقينية.
ومن العلوم ما يَقْوَى شرفُه باجتماع هذه الاعتبارات فيه أَو أَكثرها. فالعلم الإِلَهىّ المستفاد من كلام الله تعالى بالوحى الجلىِّ والخفىّ؛ فإِن موضوعه شريف، وغايته فاضلة، والحاجة إِليه عظيمة.
واعلم أَنه لا شىء من العلوم - من حيث هو علم - بضارٍّ، بل نافع. ولا شىء من الجهل - من حيث هو جهل - بنافع، بل ضارّ؛ لأَنَّا سنبيِّن عند ذكر كلَّ علم منفعة: إِمَّا فى أَمر المعاد أَو المعاش.
إِنَّما تُوهِّم فى بعض العلوم أَنه ضار أَو غير نافع؛ لعدم اعتبار الشروط(1/44)
التى تجب مراعاتها فى العلم والعلماء. فإِن لكل علم حَدّاً لا يتجاوزه، ولكل عالِم ناموساً لا يُخِلّ به.
فمن الوجوه المغلِّطَة أَن يُظَنَّ فى العلم فوق غايته؛ كما يُظَنّ بالطبّ أَنه يُبرئ جميع الأمراض؛ وليس كذلك، فإِن كثيرا من الأَمراض لا يبرأ بالمعالجة.
ومنها أَن يُظنَّ بالعلم فوق مرتبته فى الشرف؛ كما يُظَنّ بالفقه أَنه أَشرف العلوم على الإِطلاق؛ وليس كذلك؛ فإِنَّ التوحيد والعلم الإِلهى أَشرف منه قطعاً.
ومنها أَن يُقصد بالعلم غيرُ غايته؛ كمن يتعلَّم علماً للمال والجاه؛ فإِن العلوم ليس الغرض منها الاكتساب، بل الغرض منها الاطِّلاع على الحقائق، وتهذيب الخلائق. على أَنَّه مَن تعلَّم علماً للاحتراف لا يكون عالما، بل يكون شبيها بالعلماء.
ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا العلم وفظِعوا به، لمّا بلغهم بناءُ المدارس ببغداد، وأَصفهان، وشيراز، أَقاموا مأْتم (العلم وقالوا: كان) العلم يشتغل به أَرباب الهمم العليّة، والأَنفس الزكيّة، الذين كانوا يقصدون العلم لشرفه، ولتحصيل الكمال به، فيصيرون علماء ينتفع(1/45)
بهم، وبعلمِهم وإِذا صار عليه أُجرة تدانى إِليه الأَخِسّاءُ والكسالى، فيكون ذلك سبباً لارتفاعه.
ومن هاهنا هُجِرت علوم الحكمة، وإِن كانت شريفة لذاتها؛ قال الله تعالى {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وفى الحديث "كلمة الحكمة ضالّة كلّ حكيم" وَفى لفظٍ "ضالّة المؤمنين، فاطلب ضالّتك ولو فى أَهل الشرك" أَى المؤمن يلتقطها حيث وجدها، لاستحقاقه إِياها. وفى بعض الآثار (من عرِف بالحِكْمة لاحظته العيون بالوقار) .
ومن الأُمور الموجِبة للغلط أَن يُمتَهَن العلم بابتذاله إِلى غير أَهله؛ كما اتّفق فى علم الطبّ؛ فإِنه كان فى الزّمن القديم حكمة موروثة عن النبوّة، فهُزِل حتّى تعاطاه بعضُ سَفلة اليهود، فلم يتشرفوا (به) بل رَذُل بهم.
وقد قال أَفلاطون: إِن الفضيلة تستحيل رذيلة فى النّفس الرَّذْلة؛ كما يستحيل الغِذاء الصَّالح فى البدن السَّقيم إِلى الفساد. والأَصل فى هذا كلمة النبوَّة القديمةُ (لا تُؤْتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أَهلها فتظلموهم) .
ومن هذا القبيل الحال فى علم أَحكام النجوم؛ فإِنه ما كان يتعاطاه إِلاّ العلماء، تُشير به للملوك ونحوهم، فرذُل حتّى صار لا يتعاطاه(1/46)
إِلاَّ جاهل ممخرق يروِّج أكاذيبه بسحت لا يسمن ولا يغنى من جوع.
ومن الوجوه المتعيّنة أَن يكون العلم عزيز المنال رفيع المَرْقَى، قلَّما يتحصّل غايته، فيتعاطاه من ليس من أَكْفائه؛ لينال بتمويهه عَرضاً دنيئا؛ كما اتَّفق فى علم الكيمياء، والسيمياء، والسحر، والطِلَّسمات. وإِنى لأعجب ممَّن يقبل دعوى مَنْ يدَّعى علماً من هذه العلوم لدينه؛ فإِنَّ الفطرة السَّليمة قاضية بأَن مَن يطلع على ذَرَّة من أَسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده؛ فما الدَّاعى لإِظهارها، وكشفها! أَو الباعثُ (عن) (إِيداعها) ونشرها! فلتعتبر هذه الأُمور وأَمثالها.(1/47)
شروط التعلم والتعليم
وهى اثنا عشر شرطاً: -
الأَول: أَن يكون الغرض إِنما هو تحقيق ذلك العلم فى نفسه إِن كان مقصوداً لذاته، أَو التوسّلُ به إلى ما وُضع له إِن كان وسيلة إِلى غيره، دون المال والجاه والمبالغة والمكاثرة؛ بل يكون الغرض تلك الغاية وثوابَ الله عزَّ وجلَّ. فكثيرٌ مَن نظر فى علم لِغرض، فلم يحصِّل ذلك العلم ولا ذلك الغرض، ولمَّا لزم الإِمامُ أَبو حامد الغزالىُّ الخلوة أَربعين يوماً رجاء لظهور ينابيع الحكمة من قلبه عملا بما بلغه من الخبر النَّبوىِّ "مَنْ أَخلص لله أَربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" ولم ير ذلك، تعجب من حاله فرأَى فى منامه أَنه قيل (له) : إِنك لم تُخلص لله إِنَّما أَخلصت لطلب الحكمة.
الثانى: أَن يقصد العلم الَّذى تقبله نفسه، ويميل إِليه طِباعه، ولا يتكلَّف غيره؛ فليس كلُّ الناس يصلحون لتعلّم العلم، (ولا كل صالح لتعلُّم العلم) يصلح لتعلُّم جميع العلوم. وكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له.(1/48)
الثالث: أَن يعلم أَوَّلاً مَرْتبة العلم الذى أَزمع عليه، وما غايته، والمقصود منه؛ ليكون على بيِّنةٍ من أَمره.
الرابع: أَن يأْتى على ذلك مستوعِباً لمسائله من مبادئه إِلى غايته، سالكاً فيه الطَّريق الأَلْيق به، من تصور وتفهُّم واستثبات بالحُجَج.
الخامس: أَن يقصد فيه الكتب المنتقاة المختارة؛ فإِن الكتب المصنَّفة على قسمين: علوم وغير علوم.
وهذه - أَعنى الثانية - إِمَّا أَوصاف حسنة، وأَمثال سائرة، قيَّدَتْها التقفِية والوزن؛ وهى دواوين الشعراء - وهى طبقات - وإِمَّا عارية عن هذا القيد؛ وهى التواريخ وأَخبار الماضين وحوادث الحِدْثان، فيما تقدَّم من الأَزمان.
وأَمَّا كتب العلوم فإِنها لا تحصى كثرة؛ لكثرة العلوم وتفنُّنها، واختلاف أَغراض العلماء فى الوضع والتأْليف. ولكن تنحصر من جهة المقدار فى ثلاثة أَصناف:
مختصرة لفظُها أَوجزُ من معناها. وهذه تُجعل تَذكِرة لرءوس المسائل ينتِفع بها المنتهِى للاستحضار؛ وربَّما أَفادت بعض المبتدئين من الأَذكياء الشُّهماء؛ لسرعة هجومهم على المعانى من العبارات الدقيقة.
ومبسوطة تقابل المختصرة؛ وينتفع بها للمطالعة.(1/49)
ومتوسِّطة لفظها بإِزاء معناها؛ ونفعها عامّ.
وسنذكر من هذه الأَقسام عند كلّ علم ما هو مشهور ومعتبَر عند أَهله من ذلك.
والمصنِّفون المعتبرة تصانيفهم فريقان:
الأَول: من له فى العلم ملكة تامَّة، ودرْبة كافية، وتجارب وثيقة، وحدْس ثاقب صائب، واستحضار قريب، وتصانيفهم عن قوَّة تبصرة، ونفاذ فِكر، وسَدَاد رأى، تَجمع الى تحرير المعانى وتهذيب الأَلفاظ. وهذه لا يستغنى عنها أَحد من العلماء؛ فإِن نتائج الأَفكار لا تقف عند حَدّ، بل لِكلّ عالم ومتعلِّم منها حظّ. وهؤلاء أَحسنوا إِلى الناس، كما أَحسن الله إِليهم، زكاة لعلومهم، وإِبقاءً للذِّكر الجميل فى الدُّنيا، والأَجر الجزيل فى الأُخرى.
الثانى: مَن له ذهن ثاقب، وعبارة طَلْقة، ووقعت إِليه كتب جيِّدة جَمة الفوائد، لكنها غير رائقة فى التأْليف، والنّظم، فاستخرج دُررها (وأَحسن) نضْدها ونظمها، وهذه ينتفع بها المبتدئون، والمتوسطون. وهؤلاء مشكورون على ذلك محمودون.
الشرط السادس: أَن يقرأَ على شيخ مرشِد أَمين ناصح، ولا يستبِدّ طالب بنفسه؛ اتكالا على ذهنه، والعلم فى الصّدور لا فى السطور. وهذا(1/50)
أَبو على بن سينا - مع ثقابة ذهنه، وما كان عليه من الذكاء المفرط والحذق البالغ - لما اتَّكل على نفسه، وثوقاً بذهنه، لم يسلم من التصحيفات.
ومن شأْن الأُستاذ أَن يرتِّب الطالب الترتيب الخاصّ بذلك العلم، ويؤدبه بآدابه، وأَن يقصد إِفهام المبتدئ تصوّر المسائل، وأَحكامها فقط، وأَن يُثبتها بالأَدلَّة إِن كان العلم مما يختجُّ إِليه عند من يستحضر المقدمات. وأَما إِيراد الشبه إِن كانت، وحَلُّها، فإِلى المتوسِّطين المحقِّقين.
الشرط السَّابع: أَن يذاكر به الأَقران والنُّظراء؛ طلباً للتحقيق والمعاونة، لا المغالبة والمكابرة، بل لغرض الاستفادة (والإِفادة) .
الشرط الثامن: أَنه إِذا حَصَّل علماً ما، وصار أَمانة فى عنقه، لا يُضيعه بإِهماله وكتمانه عن مستحقِّيه؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَلِم علماً نافعاً وكتمه أَلجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"، وأَلاَّ يُهينَه بإِدلائه إلى غير مستحقِّه؛ فقد ورد فى كلام النبوَّة الأولى "لا تعلِّقوا(1/51)
الدُّرر فى أَعناق الخنازير" أَى لا تؤتوا العلم غير أَهلها، وأَن يُثبت فى الكتب لمن يأتى بعده ما عَثَر عليه بفكره، واستنبطه بممارسته وتجاربه، مما لم يُسبق إليه، كما فعله مَن قبله، فمواهب الله لا تقف عند حدٍّ، وألاَّ يسئ الظَّن بالعلم وأَهله، ففعله ممَّا لا يليق بالعلماء.
الشرط التاسع: أَلاَّ يعتقد فى علم أَنَّه حَصَل منه على مقدار لا تمكن الزِّيادة عليه، فذلك جهل يوجب الحرمان - نَعوذ بالله منه - فقد قال سيِّد العلماء وخاتم الأَنبياء: "لا بورك لى فى صبيحة لا أَزداد فيها علماً".
الشرط العاشر: أن يعلم أَن لكلِّ علم حدّاً لا يتعدَّاه، فلا يتجاوز ذلك الحدّ، كما يقصد إِقامة البراهين على علم النحو، ولا يقصر بنفسه عن حدِّه، فلا يقنع بالجَدَل فى الهيئة.
الشرط الحادى عشر: أَلاَّ يُدخل علماً فى علم، لا فى تعليم ولا فى مناظرة؛ فإِن ذلك مشوّش. وكثيراً ما خلَّط الأَفاضل بهذا السبب؛ كجالينوس وغيره.
الشرط الثانى عشر: أن يراعى حَقّ أُستاذ التعليم؛ فإِنَّه أَب. سئل الإِسكندر عن تعظيمه معلِّمه أكثر من تعظيمه والده، فقال: هذا أَخرجنى(1/52)
إِلى العناءِ والفناء، ومعلِّمى دلَّنى على دار الهناء والبقاء. والرَّفيق فى التعلُّم أَخ، والتلميذ ولد، ولكلٍّ حقٌّ يجب القيام به.
واعلم أَن على كل خير مانعا. فعلى العلم موانع، وعن الاشتغال به عوائق.
منها الوثوق بالزَّمان المتَّصل، وانفساح الأَبد فى ذلك. [أ] وَلا يعلم الإِنسان أَنه إِن انتهز الفرصة، وإِلاَّ فاتت: وليس لفواتها قضاءٌ البتَّة. فإِن أَسباب الدُّنيا تكاد تزيد على الخُطَّاب من ضروريات وغيرها، وكلّها شواغل، والأمور التى بمجموعها يتم التحصيل إِنما تقع على سبيل الحثِّ، وإِذا تولَّت فهيهات عَوْدُ مثلها.
ومنها الوثوق بالذكاء، وأَنَّه سيحصِّل الكثير من العلم فى القليل من الزمان متى شاء، فيحرمه الشواغلُ والموانع. وكثير من الأَذكياءِ فاتهم العلم بهذا السبب.
ومنها الانتقال من علم إلى علم آخر قبل أَن يحصّل منه قدرا يُعتَدّ به، أَو من كتاب إلى كتاب قبل خَتمه. فذلك هدم لما بنى (ويعزّ مثلُه) .
(ومنها) طلب المال والجاه، أَو الركون إلى اللذَّات البهيمية والعلم أَعزُّ أن يُنال مع غيره، أَو على سبيل التبعيَّة. بل إِذا أَعْطَيت العلم كلّك أَعطاك العلمُ بعضه.(1/53)
ومنها ضيق الحال، وعدك المعونة على الاشتغال.
ومنها إِقبال الدُّنيا، وتقلُّد الأَعمال، وولاية المناصب، وهذا من أَعظم الموانع.
ثم اعلم أَنَّ للعلم عَرْفاً ينُمُّ على صاحبه، ونوراً يُرشد إِليه، وضياء يشرق عليه؛ فحامل المسك لا تخفى روائحه: معظَّم عند النفوس الخيِّرة، محبّب إلى العقلاء، وجيه عند ذوى الوجوه، تتلقَّى القلوبُ أَقواله وأَفعاله بالقبول. ومن لم يظهر أَمارات علمه فهو ذو بطانة، لا صاحب إِخلاص.
القول في حصر العلوم
كل علم فإِمّا أَن يكون مقصوداً لذاته أَو لا.
والأَوَّل العلوم الحِكْميّة الإلهية. والمراد بالحكمة هاهنا استكمال النَّفش الناطقة قوَّتيْها: النظريّة، والعلميّة بحسب الطَّاقة الإِنسانيّة. والأَوَّل يكون بحصول الاعتقادات اليقينيّة فى معرفة الموجودات وأَحوالها. والثانى يكون بتزكية النفس باقتنائها الفضائل، واجتنابها الرَّذائل.
وأَمَّا الثانى - وَهو ما لا يكون مقصوداً لذاته، بل يكون آلة لغيره فإِمَّا للمعانى - وَهو علم المنطق - وإِمَّا لما يتوصَّل به إِلى المعانى، وهو اللفظ والخَطّ: وهو علم الأَدب.
والعلوم الحِكْميّة النظريَّة تنقسم إلى أَعلى - وهو علم الإلهى - وأَدنى - وَهو علم الطَّبيعىِّ - وأَوسط وهو العلم الرياضىّ.(1/54)
ومن المعلوم أَن إِرسال الرُّسل عليهم السلام إِنما هو لُطْف من الله تعالى بخَلْقه، ورحمة لهم، ليتمّ لهم معاشُهم، ويتبيَّن لهم حالُ مَعادهم. فتشتمل الشريعة ضرورةً على المعتقَدات الصَّحيحة الَّتى يَجب التصديق بها، والعباداتِ المقرِّبة إلى الله - عزَّ شأْنه (ممَّا يجب القيام به، والمواظبة عليه. والأَمر بالفضائل والنهى - عن الرذائل - مما يجب) قبوله، فينتظم من ذلك ثمانية علوم شرعيَّة: علم تفسير الكتاب المنزل على النبى المرسل، علم القرآن، علم رواية الحديث، علم دراية الحديث؛ علم أَصول الدِّين، علم أَصول الفقه، علم الجَدَل، علم الفقه.
فى لطائف تفسير القرآن العظيم
اعلم أَنا رتَّبنا هذا المقصد الشريف على أَغرب أُسلوب. وقدّمنا أَمامه مقدَّمات ومواقف:
أَمَّا المقدمات ففى ذكر فضل القرآن، (ووجهِ إِعجازه وعَدّ أَسمائه، وما لا بدَّ للمفسرين من معرفته: من ترتيب نزول سور القرآن) واختلاف أَحوال آياته؛ وفى مواضع نزوله، وفى وجوه مخاطباته، وشئ من بيان الناسخ والمنسوخ، وأَحكامه، ومقاصده، من ابتداءِ القرآن إِلى انتهائه.
وأَذكر فى كلّ سورة على حِدة سبعة أَشياءَ: موضع النّزول، وعدد(1/55)
الآيات، والحروف، والكلمات. وأَذكر الآيات التى اختلَف فيها القُرَّاءُ، ومجموعَ فواصل آيات السّورة، وما كان للسّورة من اسم، أَو اسمين فصاعداً، واشتقاقه، ومقصود السورة، وما هى متضمِّنة له، وآيات النّاسخ والمنسوخ منها، (والمتشابه منها) وبيان فضل السُّورة ممّا ورد فيها من الأَحاديث.
ثم أَذكر موقِفا يشتمل على تسعة وعشرين باباً، على عدد حروف الهجاء. ثم أَذكر فى كل باب من كلمات القرآن ما أَوله حرفُ ذلك الباب. مثاله أَنِّى أَذكر فى أَول باب الأَلفِ الأَلِفَ وأَذكر وجوهه، ومعانيه، ثم أُتبعه بكلمات أَخرى مفتتحة بالأَلف. وكذلك فى باب الباءِ، والتاءِ إِلى أخر الحروف. فيحتوى ذلك على جميع كلمات القرآن، ومعانيها، على أَتمِّ الوجوه.
وأَختم ذلك بباب الثلاثين، أَذكر فيه أَسماءَ الأَنبياءِ ومتابعيهم، من الأَولياءِ، ثم أَسماءَ أَعدائهم المذكورين فى القرآن، واشتقاق كل ذلك لغةً، وما كان له فى القرآن من النظائر. وأَذكر ما يليق به من الأَشعار والأَخبار. وأَختم الكتاب بذكر خائم النَّبيِّين.
وجعلت أَوَّل كل كلمة بالحُمْرة (بصيرة) اقتباساً من قوله تعالى: {هاذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} وقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} وقوله: {قُلْ هاذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} .(1/56)
الباب الأول - الطرف الأول - المقدمات
الفصل الأول - في فضائل القرآن ومناقبه
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} وقال {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} وسيأْتى تفصيل أَسماءِ القرآن بعد هذا.
وأَمّا الخبر فأَشرف الأَحاديث فى ذلك ما صحّ عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه حدَّث عن جبريل عليه السّلام عن الربّ تبارك وتعالى أَنه قال "مَن شغله قراءَة كتابى عن مسأَلتى أَعطيته أَفضل ما أُعطِى(1/57)
الشاكرين" وفى رواية (السّائلين) . وعن أَنس عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال "إِن لله أَهلين من الناس. فقيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: أَهل القرآن. هم أَهل الله وخاصّته" وعن ابن عباس يرفعه "أَشراف أُمّتى حَمَلةُ القرآن، وأَصحاب الليل" وعنه أَيضا يرفعه "مَن أُعطِى القرآن فظنّ أَنّ أَحداً أُعْطِى أَفضلَ ممّا أُعْطى فقد عظَّم ما حقّر الله وحقّر ما عظَّم الله" وقال "من أَوتى القرآن فكأَنما أُدْرجتِ النبوّة بين جنبيه، إِلاَّ أَنّه لم يوحَ إِليه" وسئل النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل مَن أَفضل النّاس؟ فقال "الحالّ المرتحل. قيل: ومن الحالّ المرتحل؟ قال: صاحب القرآن كلَّما حلّ ارتحل" أَى كلَّما أَتمّ ختْمة استأنف ختمة أخرى.
وعن عليٍّ رضى الله عنه "قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفتنة. قلنا يا رسول الله: وما المَخْرج منها؟ قال: كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم، وفَصْل ما بينكم، وخَبر ما بعدكم. وهو الفصل ليس بالهَزْل. مَن تركه من جَبَّار قصمه الله. ومن ابتغى الهُدَى فى غيره(1/58)
أَضلَّه الله، وهو (حبل الله) المتين. وهو الذكر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، وهو الذى لا يتلبِس له الأَلسُن، ولا يزيغ به الأَهواءُ، ولا يَخْلُق عن كثرة الرَّدّ، ولا يشبع منه العلماءُ، ولا ينقضى عجائبه، هو الَّذى لم يلبثِ الجِنُّ إِذْ سمعته أَن قالوا: إِنَّا سمعنَا قرآناً عجباً. من قال به صَدَق، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به هُدِى إِلى صراط مستقيم" وعن ابن مسعود عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم أَنَّه قال "إِن هذا القرآن مَأَدُبَةُ الله فى أَرضه، فتعلَّموا مَأْدبته ما استطعتم. وإِن هذا القرآن هو حبل الله، فهو نوره المبين، والشِّفاءُ النافع، عِصْمة لمن تمسك به، ونجاة من تبعه. "لا يَعْوجُّ فيقوَّم، ولا يزيغ فيُستَعتَبَ، ولا ينقضى عجائبه، ولا يَخْلقُ عن كثرة الردِّ فاقرءُوه؛ فإِنَّ الله يأْجُركم بكلِّ حرف عشر حسنات. أَمَا إِنى لا أَقول: الم عشر، ولكن أَلف، ولام، وميم ثلاثون حسنة" وعن أَبى هريرة أَنًَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "فَضْل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خَلْقه" وعن أَبى الدرداءِ يرفع إِلى النبىّ صلى الله عليه وسلم: القرآن أَفضل من كل شىء دون الله. فمن وَقَّر القرآن فقد وقَّر الله، ومن لم يوقِّر القرآن فقد استخفّ بحرمة الله. حرمة القرآن على الله كحرمة الوالد على ولده" وعن أَبى أُمامة أَنَّ(1/59)
النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأَ ثُلث القرآن أُوتى ثُلث النبوَّة. ومن قرأَ نصف القرآن أُوتى نصف النبوَّة. ومن قرأَ ثُلثى القرآن أُوتى ثُلثى النبوَّة. ومن قرأَ [القرآن] كلَّه أُوتى النبوّة كلها، ثم يقال له يوم القيامة: اقرأْ وارْقَ بكُّل آية درجةً حتَّى يُنجز ما (معه من) القرآن. ثم يقال له: اقبض فيقبِض، فيقال: هل تدرى ما فى يديك؟ فإِذا فى اليمنى الخُلْد، وفى الأُخرى النعيم".
وعن عائشة رضى الله عنها عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "حَمَلة القرآن محفوفون برحمة الله، الملْبَسون نورَ الله، المعلِّمون كلام الله. فمن عاداهم فقد عادى الله. ومن والاهم فقد والى الله. يقول الله عز وجل: يا حَمَلة كتاب الله تَحَبَّبوا إِلى الله بتوقير كتابه يزدكم حُبّاً، ويحبِّبكم إِلى خَلْقه. يُدفع عن مستمع القرآن شرّ الدنيا، ويدفع عن تالى القرآن بَلْوَى الآخرة. ولَمُستمع آية من كتاب الله خير من ثَبير ذهباً. ولَتَالى آيةٍ من كتاب الله خير مما تحت العرش إِلى تُخُوم الأَرض السفلى" وعن أَبى بُرَيدة(1/60)
قال: كنت عند النبىّ صلَّى الله عليه وسلم فسمعته يقول: إِنَّ القرآن يَلْقى صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبرُه كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفنى؟ فيقول: ما أَعرفك. فيقول: أَنا صاحبك القرآنُ الذى أَظمْأْتُك فى الهواجر، وأَسهرت ليلتك. وإِن كل تاجر من وراءِ تجارته، وإِنك اليوم من وراءِ كل تجارة. قال: فيعطى المُلْك بيمينه، والخُلْد بشِماله، ويوضع على رأْسه تاجُ الوقار، ويُكْسَى والداه حُلَّتَين لا يقوم لهما أَهل الدنيا. فيقولان: بِم كُسِينا هذا؟ فيقال لهما: بأَخْذ ولدكما القرآن. ثم يقال له: اقرأْ واصعد فى دَرَج الجنَّة وغُرَفها. فهو فى صُعُود ما دام يقرأُ، هذّاً كان أَو ترتيلا".
وعن مُعَاذ قال: "كنت فى سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله حدِّثنا بحديث يُنتفع به، فقال: إِن أَردتم عيش السُّعداء أَو موت الشهداء، والنجاةَ يوم الحشر، والظِّلّ يوم الحَرُور، والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن؛ فإِنَّه كلام الرَّحمن، وحَرس من الشيطان، ورُجْحان فى الميزان" وعن عُقْبة بن عامر قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن فى الصُّفَّة، فقال: أَيّكم يحبُّ أَن يغدو كلَّ يوم إِلى بُطْحان أَو العَقيقِ، فيأتىَ بناقتين كَوْماوَين زهراوين فى(1/61)
غير إِثم ولا قطيعة رَحم؟ قلنا كلّنا يا رسول الله يحبُّ ذلك. قال: لأَن يغدو أَحدكم كلَّ يوم إِلى المسجد فيتعلَّم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاثٌ خير له من ثلاث ومِن أَعدادهنَّ من الإِبل" وعن عائشة قالت "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البررة. والذى يَتَتَعْتع فيه له أَجران"
وروى عن أَبى ذرّ "أَنَّه جاءَ إِلى النبىِّ صلِّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إِنِّى أَخاف أَن أَتعلَّم القرآن ولا أَعمل به. فقال صلَّى الله عليه وسلم: "لا يعذِّب الله قلباً أَسكنه القرآن" وعن أنس عن النبي صلَّى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "مَن علَّم آية من كتاب الله كان له أَجرها ما تليت" وعن ابن مسعود أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أَراد علم الأَوَّلين والآخرين فليتدبَّر القرآن مؤثراً؟ فإِن فيه علم الأَولين والآخرين؛ أَلم تسمعوا قوله: ما فرطنا فى الكتاب من شَىْءٍ" عن واثلة بن الأَسْقع أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيت السَّبع الطِّوال مكان التوراة، وأُعطِيت المائدة مكان الإِنجيل وأُعطيت المثانى مكان الزَّبور وفُضِّلت بالمفصَّل" وعن عثمان بن عفَّان أَنَّه قال: "خيركم من(1/62)
تعلَّم القرآن وعَلَّمه" قال ابن عبَّاس: افتخرت السماءُ على الأَرض فقالت: أَنا أَفضل، فِىَّ العرش، والكرسيُّ، واللَّوح، والقلم. وفيَّ الجنَّة المأوى وجنَّة عَدْن، وفىَّ الشمس، والقمر، والنجوم. ومنِّى تنزَّلُ أَرزاق الخَلْق. وفىَّ الرَّحمة. فقالت الأَرض وتركتْ أَن تقول: فىَّ الأَنبياء والأَولياءُ وفىَّ بيت الله بل قالت: أَليس تنقلب أضلاعُ حَمَلة القرآن فى بطنى: فقال الله: صَدَقْتِ يا أَرض. وكان افتخارها على السَّماءِ أَن قال لها الرَّب صدقتِ. وعن أَبى موسى الأَشعرىّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلم مَثَل الذى "يقرأُ القرآن ويعمل به مثل الأُتْرُجَّة: طعمها طيّب وريحها طيب ومثلُ الذى لا يقرأُ القرآن ويعمل به مثل التَمْرة: طعمها طيِّب، ولا ريح لها. ومثل الذى يقرأُ القرآن ولا يعمل به كمثل الرَّيحانة: لها رائحة، وطعمها مُرٌّ. ومثل الذى لا يقرأُ القرآن ولا يعمل به مثل الحَنْظَلة. لا طعم لها، ولا رائحة".
وسئل النبى صلى الله عليه وسلم من أَحسن النَّاس صوتاً؟ قال من إِذا سمعته يقرأُ خشية تخشى الله" وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأَصحابه: "اقرءُوا القرآن بحزن؛ فإِنه نزل بحزن" وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذه القلوب(1/63)
لتصدأُ كما يصدأُ الحديد. قيل فما جِلاؤها يا رسول الله؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن: أَلم تسمعوا قوله تعالى {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} وقال عليه السَّلام: "القرآن هو الدَّواءُ" وقال "لا فاقة بعد القرآن، ولا غنى دونه" وقال: " ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه" (وقال) "القرآن شافع، أَو ما حِلٌ مصدَّق" وقال: "من قرأَ القرآن وعمل بما فيه لم يُرَدَّ إِلى أَرذل العمر" وقال فى قوله {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قال يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه ويكِلون ما أَشكل عليهم إِلى عالِمه" ويرى أَنَّ امرأَة مرَّت بعيسى بن مريم فقالت طوبى لبطن حملتك وثدى أَرضعك فقال عيسى لا بل طوبى لمن قرأَ القرآن وعمل به.(1/64)
الفصل الثاني - في ذكر اعجاز القرآن وتمييزه بالنظم المعجز عن سائر الكلام
فى ذكر إِعجاز القرآن وتمييزه بالنظم المعجز عن سائر الكلام.
اعلم أَن الإِعجاز إِفعال من العَجْز الَّذى هو زوال القدرة عن الإِتيان بالشىء من عمل أَو رأْى أَو تدبير. والَّذى يظهر على الخلق من هذا المعنى ثلاث درجات: مَخْرقة وكرامة (ومعجزة) .
وبين المَخْرقة والمعجزة فروق كثيرة.
منها أَنَّ المَخْرقة لا بقاءَ لها، كعِصِىّ سَحَرة فرعون، والمعجزة باقية، كعصا موسى. ومنها أَنَّ المَخْرقة لا حقيقة لها، ولا معنى؛ لأَنَّ بناءَها على الآلات، والحِيل؛ والمعجزة لا آلة لها، ولا حيلة. ومنها أَنَّ العوامَّ يعجزون عن المَخْرقة، وأَمَّا الحُذَّاق والأَذكياءُ فلا يعجِزون عنها. وأَمَّا المعجزة فالخواصّ والعوامّ على درجة واحدة فى العجز عنها.
ومنها أَنَّ المَخْرقة متداولة بين النَّاس فى جميع الأَزمان غير مختصَّة بوقت دون وقت، وأَمَّا المعجزة فمختصَّة بزمان النبوّة، خارجة عن العُرْفِ، خارقة للعادة.(1/65)
ومنها أَنَّ المَخْرقة يمكن نقضها بأَضدادها، ولا سبيل للنَّقض إِلى المعجزة.
وأَمَّا الفرق بين المعجزة والكرامة فهو أَنَّ المعجزة مختصَّة بالنبىّ دائما، [و] وقت إِظهارها مردَّد بين الجواز والوجوب، ويُقرن بالتحدِّى، وتحصل بالدُّعاءِ، ولا تكون ثمرةَ المعاملات المَرْضِيَّةِ، ولا يمكن تحصيلها بالكسب والجهد، ويجوز أَن يحيل النبىّ المعجزة إِلى نائبه، لينقلها من مكان إِلى مكان كما فى شمعون الصَّفا الَّذى كان نائباً عن عيسى فى إِحياءٍ الموتى، وأَرسله إِلى الرُّوم، فأَحيا الموتى هناك. وأَيضاً يكون أَثر المعجزة باقيا بحسب إِرادة النبىّ، وأَمَّا الكرامة فموقوفة على الولىِّ، ويكون كتمانها واجباً عليه، وإِن أَراد إِظهارها وإِشاعتها زالت وبطلت. وربما تكون موقوفة على الدعاءِ والتضرع. وفى بعض الأَوقات يعجز عن إِظهارها.
وبما ذكرنا ظهر الفرق بين المعجزة والكرامة والمَخْرقة.
وجملة المعجزات راجعة إِلى ثلاثة معان: إِيجاد معدوم، أَو إِعدام موجود، أَو تحويل حال موجود.
إِيجاد معدوم كخروج الناقة من الجبل بدعاءِ صالح عليه السلام.
وإِعدام الموجود كإِبراءِ الأَكمه والأَبرص بدعاءِ عيسى عليه السلام.
وتحويلُ حال الموجود كقلب عصا موسى ثعباناً.(1/66)
وكلُّ معجزة كانت لنبىٍّ من الأَنبياءِ فكان مثلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إِظهارها له ميسَّراً مسلماً.
وأَفضل معجزاته وأَكملها وأَجلُّها وأَعظمها القرآن الذى نزل عليه بأَفصح اللُّغات، وأَصحِّها، وأَبلغها، وأَوضحها، وأَثبتها، وأَمتنها، بعد أَن لم يكن كاتباً ولا شاعراً ولا قارئاً، ولا عارفاً بطريق الكتابة، واستدعاءٍ من خطباءِ العرب العرباءِ وبلغائهم وفصحائهم أَن يأْتوا بسورة من مثله، فأَعرضوا عن معارضته، عجزاً عن الإِتيان بمثله، فتبيَّن بذلك أَن هذه المعجزة أعجزت العالَمِين عن آخرهم.
ثم اختلف الناس فى كيفيَّة الإِعجاز.
فقيل: لم يكونوا عاجزين عن ذلك طبعاً، إِلاَّ أَنَّ الله صَرَف همَّتهم، وحبس لسانهم، وسلبهم قدرتهم، لُطْفاً بنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وفضلاً منه عليه. وذلك قوله {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} . وهو قول مردود غير مرضىٍّ.(1/67)
وقال آخرون: لم يكن عجزهم عن الإِتيان بمثل لفظه، وإِنما كان عن الإِتيان بمثل معناه.
وقيل: لم يعجزوا عنهما، وإِنَّما عجزوا عن نظم مثل نظمه؛ فإِن أَنواع كلامهم كانت منحصرة فى الأَسجاع، والأَشعار، والأَراجيز، فجاءَ نظم التنزيل على أُسلوب بديع لا يشبه شيئاً من تلك الأَنواع، فقصُرت أَيدى بلاغاتِهم عن بلوع أَدنى رُتْبَةٍ من مراتب نظمه.
ومذهب أَهل السُّنة أَنَّ القرآن معجز من جميع الوجوه: نظماً، ومعنى، ولفظا، لا يشبهه شىء من كلام المخلوقين أَصلاً، مميَّز عن خُطَب الخطباءِ، وشعر الشعراء، باثنى عشر معنى، لو لم يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعانى لكان معجِزاً، فكيف إِذا اجتمعت فيه جميعاً.
ومجملها إِيجاز اللفظ، وتشبيه الشىءِ بالشىءِ، واستعارة المعانى البديعة؛ وتلاؤم الحروف، والكلمات، والفواصل، والمقاطع فى الآيات، وتجانس الصِّيغ، والأَلفاظ، وتعريف القِصَص، والأَحوال، وتضمين الحِكَم، والأَسرار، والمبالغةُ فى الأَمر، والنهى، وحسن بيان المقاصد، والأَغراض، وتمهيد المصالح، والأَسباب، والإِخبار عما كان، وعما يكون.
أَمّا إِيجاز اللفظ مع تمام المعنى فهو أَبلغ أَقسام الإِيجاز. ولهذا قيل: الإِعجِاز فى الإِيجاز نهاية إِعجاز. وهذا المعنى موجود فى القرآن إِمّا على سبيل الحذف، وإِما على سبيل الاختصار.(1/68)
فالحذف مثل قوله تعالى {وَسْئَلِ القرية} أَى أَهلها {ولاكن البر مَنْ آمَنَ بالله} أَى برّ من آمن. والاختصار {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} هذه أَربع كلمات وستة عشرة حرفاً يتضَّمَّن ما ينيِّف على أَلف أَلف مسأَلة، قد تصدَّى لبيانها علماءُ الشريعة، وفقهاءُ الإِسلام فى مصنَّفاتهم؛ حتَّى بلغوا أُلوفاً من المجلَّدات، ولم يبلغوا بعدُ كنهَها وغايَتَها.
وأَمَّا تشبيه الشىءِ بالشىءِ فنحو قوله تعالى {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وكلُّ مَثَل من هذه الأَمثال دُرْج جواهر، وبُرْج زواهر، وكنز شرف، وعالَم عِلم، وحُقُّ حقائق، وبحار دُرَر دِراية، ومصابيح سالكى مسالك السنَّة. ولهذا يقال: الأَمثال سُرج القرآن.
وأَمَّا استعارة المعنى فكالتعبير عن المضىِّ والقيام بالصَّدع {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أَى قُم بالأَمر، وكالتعبير عن الهلاك، والعقوبة بالإِقبال والقدوم {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} ، وكالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسَّلخ {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} ولا يخفى ما فى أَمثال هذه الاستعارات من كمال البلاغة، ونهاية الفصاحة. يحكى أَنَّ أَعرابيّاً سمع(1/69)
{فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} فلم يتمالك أَن وقع على الأَرض وسجد، فسئل عن سبب سجدته فقال، سجدت فى هذا المقام، لفصاحة هذا الكلام.
وأَما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال، وكمال الكلام؛ نحو قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ} {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} {فأدلى دَلْوَهُ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} ونظائرها.
وأَمَّا فواصل الآيات ومقاطعُها فعلى نوعين: إِمَّا على حرف كطه؛ فإِنَّ فواصل آياتها على الأَلف، وكاقتربت؛ فإِنَّ مقاطع آياتها على الراء، وإِمَّا على حرفين كالفاتحة؛ فإِنَّها بالميم والنُّون: {الرحمان الرحيم مالك يَوْمِ الدين} ونحو {ق والقرآن المجيد} فإِنَّها بالباءِ والدَّال.
وأَمَّا تجانس الأَلفاظ فنوعان أَيضاً: إِمَّا من قبيل المزاوجة؛ كقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وأَكِيدُ كَيْداً} {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} وإما من قبيل المناسبة كقوله {ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} .(1/70)
وأَمَّا تصريف القِصَص والأَحوال فهو أَنَّ الله تعالى ذكر بحِكَمهِ البالغة أَحوال القرون الماضية، ووقائع الأَنبياءِ، وقصصهم، بأَلفاظ مختلفة، وعبارات متنوِّعة، بحيث لو تأَمّل غوّاصو بحار المعانى، وخوَّاضو لُجَج الحُجَج، وتفكّروا فى حقائقها، وتدبَّروا فى دقائقها، لعلموا وتيقَّنوا (وتحققوا) وتبيَّنوا أَنَّ ما فيها من الأَلفاظ المكرَّرة المعادات، إِنَّما هى لأَسرار، ولطائف لا يرفع بُرْقع حجابها من الخاصَّة إِلاَّ أَوحدُهم وأَخصُّهم، ولا يكشف سِتر سرائرها من النحارير إِلاَّ واسِطتهم وقصهم.
وأَمَّا تضمين الحِكَم والأَسرار فكقولنا فى الفاتحة: إِن فى {بِسْمِ} التجاءَ الخَلْق إِلى ظلِّ عنايته، وكلمة الجلالة تضمَّنت آثار القدرة والعظمة، وكلمة الرحمن إِشارة إِلى أَنَّ مصالح الخَلْق فى هذه الدَّار منوط بكفايته. وكلمة الرَّحيم بيان لاحتياج العالَمين إِلى فيض من خزائن رحمته. والنِّصف الأَوَّل من الفاتحة يتضمَّن أَحكام الرُّبوبيَّة. والنصف الثَّانى يقتضى أَسباب العبوديَّة. وخُذْ على هذا القياس. فإِنَّ كلَّ كلمة من كلمات القرآن كنزُ معانٍ، وبحر حقائق.
ومن جوامع آيات القرآن قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} فإِنها جامعة لجميع مكارم الأَخلاق، وقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} مستجمعة لجميع أَسباب السِّياسة والإِيالة. وقوله:(1/71)
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} محتوية على حاجات الحيوانات كافَّة. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إِلى آخر الثلاث الآيات جامعة لجميع الأَوامر والنَّواهى، ومصالح الدُّنيا والآخرة، وقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} يشتمل على أَمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين.
وأَمَّا المبالغة فى الأَسماءِ والأَفعال فالأَسماءُ {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ، {الملك القدوس} ، {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} ، {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} ، {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} . والأَفعال {أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} ، {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} ، {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} ، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ، {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} ، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} ، {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} .
وَأَمَّا حُسْن البيان فلتمام العبارة: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، ولبيان فصل الخصومة والحكومة {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} ،(1/72)
وللحجّة للقيامة {يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وللنَّصيحة والموعظة {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ، ولثبات الإِيمان والمعرفة: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} ، ولبيان النعت والصِّفة {بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيم} ، {عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِير} ، ودليلاً لثبوت الرِّسالة {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} ، وإِظهاراً للعمل والحكمة {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، وللرَّحمة السَّابقة واللاحقة {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وبرهاناً على الوَحْدانيَّة والفَرْدانيَّة {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ، وتحقيقا للجنَّة والنَّار {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينْ} ، وتحقيقاً للرُّؤية واللِّقاءِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وتمهيداً لمصالح الطَّهارات {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} ، وللصَّلاة {وَأَقِيمُواْ الصلاة} ولِلزكاة والصيام والحجّ {وَءَاتُوْا الزَّكَاةَ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} ، وللمعاملات {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} ، وللصِّيانة والعِفَّة {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} ، وللطلاق والفراق بشرط العِدَّة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، ولرعاية مصلحة النفوس {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ}(1/73)
ولكفَّارة النُّذور والأَيمان {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
وعلى هذا القياس جميع أَحكام الشريعة تأيَّدت بالآيات القرآنية وأَمَّا الإِخبار عمَّا كان وعمَّا يكون: أَمَّا المتقدِّم فكتخليق العرْش، والكُرْسىّ، وحال الحَملة والخَزنَة، وكيفيَّة اللَّوح والقلم، ووصف السِّدْرة، وطوبى، وسَيْر الكواكب، ودَوْر الأَفلاك، وحكم النيِّرين، والسَّعدين، والنحسين، وقران العُلويَّين والسُّفليين، ورفع السَّماءِ، وتمهيد الأَرض، وتركيب الطَّبائع، والعناصر، وترتيب الأجسام والأَجرام، وحكم المشرق، والمغرب، من الأُفُق الأَعلى إِلى ما تحت الثَرى ممَّا كان، ومما هو كائن، وممَّا سيكون: من أَحوال آدم، وعالَمَىِ الجنِّ، والإِنس، والملائكة، والشياطين. ففى القرآن من كلِّ شىءٍ إِشارة وعبارة تليق به.
وأَمَّا المتأَخر فكأَخبار الموت، والقبر، والبعث، والنَشْر، والقيامة، والحساب، والعقاب، والعَرْض، والحوض، والسؤال، ووزن الأَعمال، والميزان، والصراط والجَنَّة، والنَّار، وأَحوال المتنعمين، والمعذَّبين فى الدَركات، وأَحوال المقرَّبين فى الدَّرجات، ما بين مُجْمَل ومفصَّل، لا إِجمالا يعتريه شَكّ، ولا تفصيلاً يورث كلالة وملالة.
كلُّ ذلك على هذا الوجه مذكور فى القرآن، فلا غَرْو أَن يترقَّى هذا الكلام عن إِدراك الأَفهام، وتناول الأوهام، ويُعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته، ومقابلته.(1/74)
وبلغنى عن الأَئمة الرَّاسخين، والعلماء المحققين أَنَّ الَّذى اشتمل عليه القرآن من الدَّقائق، والحقائق، والمبانى، والمعانى، سبعون قسماً.
وهى المحكم، والمتشابه، والنّاسخ، والمنسوخ، والحقيقة، والمجاز، والمنع، والجواز، والحذف، والزّيادة، والبيان، والكناية، والمقلوب، والمستعار، والإِظهار، والإِضمار، والإِيجاز، والاختصار، والإِخبار، والاستخبار، والخاصّ، والعامّ، والحدود، والأحكام، والتحليل، والتَّحريم، والسَبْر، والتقسيم، والأَمر، والنَّهى، والجحد، والنَّفى، والقَصَص، والأَمثال، والتفصيل، والإِجمال، والزّجر، والتأْديب، والترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، والعطف، والتوكيد، والتحكُّم، والتهديد، والوصف، والتّشبيه، والكشف، والتنبيه، والتقديم، والتأْخير، والتأْويل، والتفسير، والتكرار، والتقرير، والتعريض، والتصريح، والإِشارة، والتلويح، والتجنيس، والتقريب، والتعجيب، والسؤال، والجواب، والدّعاء، والطَّلب، والبِشارة، والنِّذارة، والفاتحة والخاتمة. ولكُّل قسم من ذلك نظائر وشواهد فى القرآن لا نطوِّل بذكرها.
والغرض من ذكر هذا المجمل التَّنبيه على أَنَّ الكلمات القرآنية كُّل كلمة منها بحر لا قعر له، ولا ساحل، فأَنَّى للمعارض الماحل.
يحكى أَنَّ جماعة من أَهل اليمامة قدِموا على الصِّديق الأَكبر رضى الله عنه، فسأَلهم عن مُسيلمة، وعَمَّا يدَّعيه أَنه من الوحى النازل عليه، فقرءُوا عليه منه هذه السُّورة (يا ضفدع نِقِّى نِقِّى إِلى كم تَنِقِّين، لا الماءَ تكدِّرين،(1/75)
ولا الطِّين تفارقين ولا العُذُوبةَ تمنعين) فقال الصِّدِّيق رضى الله عنه: والله إِنَّ هذا الكلام لم يخرج من إِلّ. ويحكى عن بعض الأَشقياءِ أنه سمع قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} فقال مستهزئاً: انظر إِلى (هذا الدَّعوى المُعرَّى) عن المعنى. الَّذى يدَّعيه محمَّد يأَتينا به المِعْوَل والفئوس. فانشقت فى الْحال حَدَقتاه، وتضمخَت بدم عينيه خَدَّاه، ونودى من أَعلاه، قل للمِعْول والفئوس، يأتيان بماءِ عينيك.
وذكر أَنَّ بعض البلغاء قصد معارضة القرآن، وكان ينظر فى سورة هود، إِلى أَن وصل إِلى قوله تعالى {ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} الآية فانشقَّت مرارته من هيبة هذا الخطاب، ومات من حينه. ودخل الوليد بن عُقْبة على النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم وقال يا محمد اقرأْ علىَّ شيئاً ممَّا أُنزِل عليك فقرأَ قوله تعالى {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية فقال الوليد: إِنَّ لهذا الكلام لحلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنَّ أَسفله لمغدِق، وإِنَّ أَعلاه لمثمر،(1/76)
وإِنَّ لى فيه نظرا، ولا يقول مثل هذا بشر. وفى الآثار أَنه ما نزلت من السَّماءِ آية إِلاَّ سُمع من السَّماءِ صَلصَلة كسِلسِلة جُرَّت فى زجاجة، ولم يبق فى السَّماءِ مَلَك مُقَرَّب إِلاَّ خرُّوا لله ساجدين. وأُغمى على النبىَّ صلَّى الله عليه وسلم من ثقل بُرَحاءٍ الوَحْى. وكان إِذا سُرِّى عنه ارتعدت مفاصله فَرَقاً، وتَصَبَّب وجهه عَرَقاً.
فهذا طَرَف ممَّا ذكر فى إِعجاز لفظ القرآن.(1/77)
الفصل الثالث - في شرح كلمات لابد من معرفتها قبل الخوض في شرح وجوه التفسير
اعلم أَنَّ الكلمات الَّتى يُحتاج إِلى معرفتها فى مقدَّمة هذا النَّوع من العلم خمسة عشر كلمة. وهى التأويل، والتفسير، والمعنى، والتَّنزيل، والوحي، والكلام، والقول، والكتاب، والفرقان، والقرآن، والسُّورة، والآية، والكلمة، والمصحف، والحرف.
أَمَّا التفسير فمن طريق اللغة: الإِيضاح والتَّبيين. يقال: فسَّرت الحديث أَي بيَّنته وأَوضحته. واختلف فى اشتقاقه.
فقيل: من لفظ التَفْسِرة، وهو نظر الطبيب فى البول لكشف العلَّة والدواءِ، واستخراج ذلك. فَكذلك المفسِّر ينظر فى الآية لاستخراج حكمها ومعناها.
وقيل: اشتقاقه من قول العرب: فسَرت الفرس وفسَّرته أَى أَجريته وأَعديته إِذا كان به حُصْر، ليستطلِق بطنُه. وكأَن المفسِّر يجرى فرس فكره فى ميادين المعانى ليستخرج شرح الآية، وَيُحلَّ عقْد إِشكالها.(1/78)
وقيل: هو مأْخوذ من مقلوبه. تقول العرب: سفَرت المرأَةُ إِذا كشفت قِناعها عن وجهها، وسفرتُ إِذ كَنَسته ويقال للسَّفَر سفَر لأَنه يَسِفر ويكشف عن أَخلاق الرجال. ويقال للسُّفرة سُفْرة لأَنها تُسفَر فيظهر ما فيها؛ قال تعالى: {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} أَى أَضاءَ. فعلى هذا يكون أَصل التفسير التسفير على قياس صعق وصقع، وجذب وجبذ، وما أَطيبه وأَيطبه، ونظائِره؛ ونقلوه من الثلاثىّ إلى باب التفعيل للمبالغة. وكأَنَّ المفسِّر يتتبع سورة سورة، وآية آية، وكلمة كلمة، لاستخراج المعنى. وحقيقته كشف المتغلق من المراد بلفظه، وإِطلاق المحتبس عن الفهم به.
وأَمَّا التأْويل فصرف معنى الآية بوجه تحتمله الآية، ويكون موافقا لما قبله، ملائماً لما بعده. واشتقاقه من الأوْل وهو الرُّجوع. فيكون التأْويل بيان الشىء الَّذى يرجع إِليه معنى الآية ومقصودها.
وقيل التأويل إِبداءُ عاقبة الشىءِ. واشتقاقه من المآل بمعنى المرجِع والعاقِبة. فتأْويل الآية ما تئول إِليه من معنى وعاقبة. وقيل: اشتقاقه من لفظ الأَوّل. وهو صرف الكلام إِلى أَوَّله. وهذانِ القولانِ متقاربان. ولهذا قيل: أَوَّل غرض الحكيم آخر فعله.(1/79)
وقيل اشتقاقه من الإِيالة بمعنى السياسة. تقول العرب: (أُلْنا وإِيل علينا) أَى سُسْنا وسِيس علينا، أَى ساسنا غيرنا. وعلى هذا يكون معنى التأويل أَن يسلِّط المؤوِّل ذهنه وفكره على تتبّع سِرِّ الكلام إِلى أَن يظهر مقصودُ الكلام، ويتَّضح مراد المتكلِّم.
والفرق بين التفسير والتأويل أَن التفسير هو البحث عن سبب نزول الآية، والخوض فى بيان موضع الكلمة، من حيث اللغة. والتأويل هو التفحُّص عن أَسرار الآيات، والكلمات، وتعيين أَحد احتمالات الآية. وهذا إِنَّما يكون فى الآيات المحتملة لوجوه مختلفة، نحو {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وكقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} ، وكقوله: {والشفع والوتر} ، وكقوله: {وشَاهِدٍ وَمَشْهُود} فإِن هذه الآيات ونظائرها تحتمل معانى مختلفة، فإِذا تعيَّن عند المؤوّل أَحدها، وترجَّح، فيقال حينئذ: إِنَّه أَوَّل الآية.
وأَمَّا المعنى فمن طريق اللغة: المقصد. يقال: عَنَاه يعنيه أَى أَراده وقصده. فيكون معنى الآية: ما به يظهر حكمةُ الحكيم فى نزول الآية. ويكون قصد من يروم سرّ الآية إِلى خمسة.
وقيل اشتقاق المعنى من العناية، وهى الاهتمام بالأَمر، يقال: فلان(1/80)
مَعْنّى بكذا أَى مهتمٌّ به. فيكون المعنى أَنَّ الباحث عن الآية يصرف عنايته واهتامه إِلى أَن ينكشف له المراد من الآية.
وقيل اشتقاقه من الْعَنَاءِ، وهو التَّعب والمشقَّة. والمعنى لا يمكن الوصول إِليه إِلاَّ بكدّ الخاطر ومشقَّة الفكر؛ لما فيه من الدقَّة والغموض.
وأَمَّا التنزيل فتفعيل من النزول، وقد يكون بمعنى التكليم: قال فلان في تنزيله: في تكليمه، لأَنَّ المتكلّم يأتى به نَزْلة بعد نزلة. والنزلة هى المرَّة، قال تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} أَي مَرَّة أُخرى. وقد يكون بمعنى الإِنزال {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} أَي وأَنزلْنا، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} فقرىءَ بالتشديد والتخفيف.
وقيل للقرآن: تنزيل من ربّ العالمين لأَنه تكليم من الله الجليل، وإِنزال على لسان جبريل.
وأَمَّا الوحى فلغةً: الرِّسالة والإِلهام، والإِشارة بالحواجب، والكتابة بالقلم. وَحَى يَحى وَحْياً، فهو واح. وجمع الوحى وُحِىّ كحَلْى وحُلِىّ. ويقال: إِنَّ الوحى مختصّ برسالة مقترِنة بخفَّة وسرعة. فسمّى التنزيل وَحْياً لسرعة جبريل فى أَدائه، وخِفَّة قبوله على الرَّسول. وإِن جعلته من معنى الإِشارة فكأَنَّ الرَّسول اطَّلع على المراد بإِشارة جبريل. وإِن جعلته من معنى الكتابة فكأَنَّ جبريل أَثبت آيات القرآن فى قلب النبىّ، كما(1/81)
يثبت المكتوب في اللّوح بالكتابة. قال تعالى {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين عَلَى قَلْبِكَ} .
وأَمَّا الكلامُ فإِنَّه اسم لما يصحّ به التكلّم، وضدّه الْخَرَس. والكلام والتكليم مصدران على قياس السلام والتسليم. وقد يطلق الكلام على التكلّم والتكليم. وقيل للقرآن: كلام فى نحو قوله تعالى {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} وقولِه {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} لأَنَّه تكليم وتكلُّم. وأَيضاً هو ما يصحّ به التكلّم. وقيل: الكلام ما اشتمل على أَمر ونهى وإِخبار واستخبار. وقيل: هو معنى قائم بالنَّفس، والعبارات تدلُّ عليه، والإِشارات تجرّ إِليه. وقيل: هو ما ينافى السُّكوت والبهيمية.
وأَمَّا الكلمة فمشتقة من الكَلْم بمعنى الجرح. وجمعها كَلِم وكَلْم وكلمات. يقال: كَلَمت الصّيد أَى جرحته. فالكلام (والكلمة على قول: ما يؤثِّر في قلب المستمِع بواسطة سماع الآذان كتأثير الكَلْم) فى الصَّيد. وقد يكون الكَلْم بمعنى القطع، فيكون الكلمة اسماً لجمع من الحروف متَّصل بعضها ببعض منقطع عن غيرها من الكلمات. وسيأْتي شرح الكلام والكلمة فى باب الكاف بأَتمَّ من هذا إِن شاءَ الله تعالى.
وأَمَّا القول ففي أَصل اللغة: النُّطق. وحقيقته من حيث المعنى: كلام مهذَّب مرتَّب على مسموع مفهوم، مؤدًّى بمعنى صحيح. وعلى(1/82)
هذا يصحّ إِطلاق القول على القرآن، فإِنه يتضمَّن التَّهذيب والترتيب، لفظه مسموع، ومعناه مفهوم.
وأَمَّا الكِتَاب فيكون اسماً - وجمعه كُتُب -، ويكون مصدراً بمعنى الكتابة، فسُمِّى به الْقرآن، لأَنه يُكتب، كما سمِّى الإِمام إِمامَا لأَنَّه يؤتمّ به. ويقال: إِن مادَّة كتب موضوعة بمعنى الْجمع: كتبتُ الْبلغةَ إِذا جمعت بين شُفريها بحلْقة. ويقال للعسكر: الْكتيبة لاجتماع الأَبطال. فسُمِّى الْقرآن كتاباً لأَنه مجتمع الْحروف والْكلمات والسُّوَرِ والآيات. فسيأْتى شرحه فى باب الْكاف.
وأَمَّا الْفُرقان فاسم على زنة فُعْلان مشتقٌّ من الْفَرْق، وهو الْفصل. والفُرق بالضمّ لغة فيه، قال الراجز: ومُشْرِكيٍّ كافر بالْفُرْق والْفِرق بالكسر: قَطيع من الغنم يتفرَّق من سائرها، وسمِّى الْقرآن فرقاناً لأَنه نزل من السماءِ نجوماً متفرِّقة، ولأَنَّه يَفرق بين الْحقّ والْباطل. وقد يكون الفرقان بمعنى النُّصْرة، قال تعالى: {يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} أَى يوم النُصرة. فقيل للقرآن: فرقان لما فيه من نُصرة الدِّين وأَهله. وقد يكون الفرقان بمعنى الخروج من الشكِّ والشُّبهة، قال تعالى: {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} فالقرآن فرقان بمعنى أَنَّه تقوية وهداية، يحصل به الخروج من ظلمات الضَّلالات، والشكوك، والشبهات.(1/83)
وأَمَّا القرآن فاسم لما يُقْرَأُ؛ كالْقرْبان: اسم لما يُتقرَّب به إِلى الله. ويقال أَيضاً: إِنه مصدر قرأَ يقرأ (قَرْأ وقِراءَة) وقرآناً. وفي الشرع اسم للكتاب المفتَتح بفاتحة الكتاب، المختَتم بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} وفيه لغتان: الهمز وتركه. المهموز من القُرْء - بالفتح والضَّم - بمعنى الحيض، والطُّهر. سُمى به لاجتماع الدَّم فيه. والقرآن سمِّى به لاجتماع الحروف، والكلمات، ولأَنه مجتمع الأَحكام، والحقائق، والمعانى، والحكم. وقيل اشتقاقه من القِرَى بمعنى الضيافة؛ لأَن القرآن مَأْدُبة الله للمؤمنين، وقيل القران - بغير همز - مشتقّ من القِرْن بمعنى القرين لأَنه لَفظ فصيح قرِين بالمعنى البديع. وقيل: القرآن اسم مرتجل موضوع، غير مشتقٍّ عن أَصل؛ وإِنَّما هو عَلَم لهذا الكتاب المجيد؛ على قياس الجلالة فى الأَسماء الحسنى.
وأَمَّا سُورة - بالهمز وبتركه - فبغير الهمز من سَوْرة الأَسد، وسَورة الشراب، بمعنى القُوة؛ لأَنَّ قوَّة السُّورة أَكثر من قوّة الآية؛ أَو من السُّور بمعنى الجماعة: يقال. لفلان سُور من الإِبل أَى جماعة؛ لأَنَّ السُّورة مشتمِلة على جماعة الآيات، أَو من السُّور المحيط بالأَبنية؛ لأَن السُّورة محيطة بالآيات، والكلمات، والحروف، مشتملة على(1/84)
المعانى: من الأَمر والنَّهى، والأَحكام. وإذا قلت بالهمز فيكون من سُؤر الكأْس - وهو ما يبقى فيه من الشراب - لأَن كلَّ سُورة من القرآن بقيَّة منه. ويقال: إِنَّ السُور (بلا همز) بمعنى الرَّفعة والمنزلة، وسُوَر القرآن هكذا: متفاوتة: بعضها فوق بعض من جهة الطُّول، والقصر، وفى الفضل، والشرف، والرُّتبة، قال النَّابغة:
أَلم تر أَنَّ الله أَعطاك سُورة
أَى شرفاً ورفعة.
وأَمَّا آية ففى أَصل اللغة: بمعنى العَجَب، وبمعنى العلامة، وبمعنى الجماعة. سمِّيت آيةُ القرآن آية لأَنها علامة دالَّة على ما تضمَّنته من الأَحكام، وعلامة دالَّة على انقطاعه عمَّا بعده وعمَّا قبله، أَو لأَن فيها عجائب من القِصَص، والأَمثال، والتفصيل، والإِجمال، والتميُّز عن كلام المخلوقين، ولأن كلَّ آية جماعةٌ من الحروف، وكلامٌ متَّصل المعنى إِلى أَن ينقطع، وينفرد بإِفادة المعنى. والعرب تقول: خرج القوم بآياتهم أَى بجماعتهم. وقال شاعرهم:(1/85)
خرجنا من النقبين لا حَىَّ مثلُنا ... بآيتنا نُزْجى اللقاح المَطافلا
وقال فى معنى العلامة:
إِذا طلعت شمس النهار فسلِّمى ... فآية تسليمى عليكِ طلوعُها
وأَصلها أَيَيَة على وزان فَعَلة عند سيبويه، وآيِيَة على مثال فاعلة عند الكسائى، وأَيِيَه على فِعلَة عند بعض، وأَيَّة عند الفرَّاء، وأَأْية بهمزتين عند بعض.
وأَمَّا الحرف فقد جاءَ لمعان: منها طَرَف الشيىء، وحَدّ السَّيف، وذُروة الجبل، وواحد حروف الهجاء، والنَّاقةُ السَّمينة القويّة، والناقة الضعيفة، وقَسِيم الاسم والفعل. فقيل للحرف: حرف لوقوعه فى طَرَف الكلمة، أَو لضعفه فى نفسه، أَو لحصول قوَّة الكلمة به، أَو لانحرافه؛ فإِن كلَّ حرف من حروف المعجم مختصّ بنوع انحراف يتميَّز به عن سائر الحروف.
وأَمَّا المصحف فمثَّلثه الميم. فبالضمّ: اسم مفعول من أَصحفه إِذا جمعه، وبالفتح: موضع الصُّحُف أَى مجمع الصَّحائف، وبالكسر: آلة تجمع الصحف.(1/86)
والصَّحائف جمع صحيفة، كسفينة وسفائن. والصُّحف (جمع صحيف) كسفين وسُفُن.
وقيل للقرآن مصحف لأَنَّه جُمع من الصَّحائِف المتفرِّقة فى أيدى الصِّحابة، وقيل: لأَنَّه جَمَع وحوَى - بطريق الإِجمال - جميع ما كان فى كتب الأَنبياء، وصُحُفهم، (لا) بطريق التفصيل.
هذا بيان الكلمات الَّتى لا بدَّ من معرفتها قبل الخوص فى التفسير. والله ولى التَّيسير.(1/87)
الفصل الرابع - فى ذكر أسماء القرآن
اعلم أَنَّ كثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمَّى، أَو كمالِه فى أَمر من الأمور. أَما ترى أَن كثرة أَسماءِ (الأسد دلَّت على كمال قوُّته، وكثرةَ أَسماء القيامة دلَّت على كمال شدته وصعوبته، وكثرة أَسماء) الدَّاهية دلت على شِدة نِكايتها. وكذلك كثرة أَسماء الله تعالى دلَّت على كمال جلال عظمته؛ وكثرة أَسماء النبى صلى الله عليه وسلم دَلَّت على علّو رتبته، وسموِّ درجته. وكذلك كثرة أَسماء القرآن دلَّت على شرفه، وفضيلته.
وقد ذكر الله تعالى للقرآن مائة اسم نسوقها على نَسَقٍ واحد. ويأْتى تفسيرها فى مواضعها من البصائر.
الأول: العظيم {سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} .
الثانى: العزيز {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} .
الثالث: العليِّ {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} .
الرابع: المجِيد {بَل هُوَ قُرءانٌ مَجِيد} .(1/88)
الخامس: المُهَيمِن {ومُهَيمِناً عَلَيه} .
السادس: النور {واتَّبَعُوا النُّوْرَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ} .
السابع: الحقّ {وَقَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ} .
الثامن: الحكيم {يس والقرآن الحكيم} .
التاسع: الكريم {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَريمٌ} .
العاشر: المُبين {حموالكتاب المبين} .
الحادى عشر: المنير {وَالْكِتَابِ الْمُنِير} .
الثانى عشر: الهُدَى {هُدًى لِلْمُتَّقِين} .
الثالث عشر: المبشِّر {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
الرابع عشر: الشفاءُ {وَشِفَآءٌ لِمَا فِي الصُّدُرِ} .
الخامس عشر: الرّحمة {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} .
السادس عشر: الكتاب {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} .
السابع عشر: المبارك {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} .
الثامن عشر: القرآن {الرحمان عَلَّمَ القرآن} .(1/89)
التاسع عشر: الفرقان {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} .
العشرون: البرهان {بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .
الحادى والعشرون: التبيان {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
الثانى والعشرون: البيان {بَيَانٌ لِلْنَّاسِ} .
الثالث والعشرون: التَّفصيل {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
الرابع والعشرون: المفصَّل {الْكِتَابُ مُفَصَّلاً} .
الخامس والعشرون: الفَصْل {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل} .
السادس والعشرون: الصِّدق {والذي جَآءَ بالصدق} .
السابع والعشرون: المصدِّق {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
الثامن والعشرون: ذكرى {وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} .
التاسع والعشرون: الذكر {وهاذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} .
الثلاثون: التذكرة {إِنَّ هاذه تَذْكِرَةٌ} .
الحادى والثلاثون: الحُكْم {أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} .
الثانى والثلاثون: الحِكْمَةُ {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} .(1/90)
الثالث والثلاثون: محكمة {سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} .
الرابع والثلاثون: الإِنزال {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} .
الخامس والثلاثون: التنزيل {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} .
السادس والثلاثون: التَّصديق {ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
السابع والثلاثون: المنزَّل {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} .
الثامن والثلاثون: التبصرة {تَبْصِرَةً وذكرى} .
التاسع والثلاثون: البصائر {هاذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} .
الأربعون: الموعظة {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} .
الحادى والأربعون: البيِّنة {بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} .
الثانى والأربعون: البشير {بَشِيرًا وّنَذِيرًا} .
الثالث والأربعون: الوَحْي {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} .
الرابع والأربعون: الرِّسالة {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
الخامس والأربعون: النَّبَأ {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} .(1/91)
السادس والأربعون: القيِّم {قَيِّماً لِيُنْذِرَ} .
السابع والأربعون: قَيِّمَةٌ {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} .
الثامن والأربعون: الرُّوح {رُوْحاً مِنْ أَمْرِنَا} .
التاسع والأربعون: الكلام {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} .
الخمسون: الكلمات {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} .
الحادى والخمسون: الكلمة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} .
الثانى والخمسون: الآيات {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ} .
الثالث والخمسون: البَيِّنَاتُ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} .
الرابع والخمسون: الفضل {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ} .
الخامس والخمسون: القول {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} .
السادس والخمسون: القيل {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} .
السابع والخمسون: الحديث {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .
الثامن والخمسون: أَحسن الحديث {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} .
التاسع والخمسون: العربيُّ {قُرْآناً عَرَبِيّاً} .(1/92)
الستون: الحَبْل {واعتصموا بِحَبْلِ الله} .
الحادى والستون: الخير {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} .
الثانى والستون: البلاغ {هاذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} .
الثالث والستون: البالغة {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} .
الرابع والستون: الحقّ {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} .
الخامس والستون: المتشابه والمثاني {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} .
السادس والستون: الغيب {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .
السابع والستون: الصِّرَاط المستقيم {اهدنا الصراط المستقيم} .
الثامن والستون: المبين {قُرْآنٌ مُبِينٌ} .
التاسع والستون: الحُجَّة {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} .
السبعون: العروة الوثقى {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} .
الحادى والسبعون: القَصَص {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} .
الثانى والسبعون: المثل {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} .(1/93)
الثالث والسبعون: العَجَب {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} .
الرابع والسبعون: الأَثارة {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أَى ما يُؤثَر عن الأَوَّلين، أَى يُرْوى عنهم.
الخامس والسبعون: القِسط {فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} .
السادس والسبعون: الإِمام {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} .
السابع والسبعون: النجوم {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم} .
الثامن والسبعون: النعمة {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
التاسع والسبعون: الكوثر {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} .
الثمانون: الماء {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} .
الحادى والثمانون: المتلُوّ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} .(1/94)
الثانى والثمانون: المَقروء {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} .
الثالث والثمانون: العدل {كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} .
الرابع والثمانون: البشرى {وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
الخامس والثمانون: المسطور {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} .
السادس والثمانون: الثقيل {قَوْلاً ثَقِيلاً} .
السابع والثمانون: المرتَّل {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} .
الثامن والثمانون: التفسير {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
التاسع والثمانون: المثبِّت {مَا نُثَّبِتُ بِهِ فُؤَادَكَ} .
ومنها الصُحُف، والمكرَّم: والمرفوع، والمطهّر {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} .
ومن أَسماءِ القرآن الواردة فى الحديث النَّبوى القرآن، حَبْل الله المتين، وشفاؤه النَّافع، بحر لا ينقضى عجائبه، والمرشد: مَن عمِل به رَشَد، المعدِّل: من حكم به عَدَل. المعتَصم الهادى: من اعتصم به هُدِى إِلى صراط مستقيم. العِصْمة: عِصْمة لمَن تمَّسك به. قاصم الظَّهر: من بدّله من جَبَّار قصمه الله: مأَدُبة الله فى أَرضه. النجاة. "ونجاة لمن اتَّبعه"(1/95)
النبأُ والخَبَر: "فيه نبأُ ما قبلكم وخَبَر ما بعدكم" الدَّافع: يدفع عن تالى القرآن بَلْوَى الآخرة. صاحب المؤمن (يقول القرآن للمؤمن يوم القيامة: أَنا صاحبك) كلام الرحمن. الحَرَس من الشيطان. الرُّجحان في الميزان.
فهذا الكتاب الذى أَبَى الله أَن يُؤتى بمثله ولو كان النَّاس بعضهم لبعض ظهيراً. وذلك لأَنَّه كتاب جاءَ من غيب الغيب، بعالَم من العِلْم، وصل إِلى القول، ومن (القول إِلى القلم، ومن القلم إِلى صفحة اللوح، إِلى حدِّ الوحى ومن) الوحى إِلى سفارة الرُّوح الأَمين، ومن سفارته إِلى حضرة النبُّوة العظمى. واتَّصل منها إِلى أَهل الولاية، حتى أَشعلوا سُرُج الهداية، وظفروا منها بكاف الكفاية، فلم يزل متعلِّقةً بحروفها وكلماته الرَّاحةُ، فالرَّحمة، والعزَّة، والنعمة، ففي حال الحياة للمؤمن رقيب، وبعد الوفاة له رفيق، وفى القبر له عَدِيل؛ وفى القيامة له دليل، وميزان طاعته به ثقيل. وفى عَرَصات الحشر له شفيع وكفيل، وعلى الصِّراط له سائق ورَسِيل وفى الجنَّة أَبد الآبدين له أَنيس وخليل. جعله الله لنا شفيعاً، ومَنْزِلنا بالعلم والعمل بما فيه رفيعاً.(1/96)
الفصل الخامس - فى ترتيب نزول سور القرآن
للعلماءِ فى عدد سوره خلاف. والَّذي انعقد عليه إِجماع الأَئمة واتِّفق عليه المسلمون كافَّة، أَن عدد سوره مائة وأَربعة عشر سورة، الَّتى جمعها عثمان رضى الله عنه، وكتب بها المصاحف، وبعث كلَّ مصحف إِلى مدينة من مدن الإِسلام.
ولا مُعَرَّجَ إِلى ما روى عن أُبَىّ أَنَّ عددها مائة وستَّة عشرة سورة، ولا على قول من قال: مائة وثلاثة عشرة سورة، بجعل الأَنفال وبراءَة سورة. وجَعَل بعضهم سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة. وبعضهم جعل المعوِّذتين سورة. وكلُّ أَقوال شاذَّة لا التفات إِليها.
وأَمَّا ترتيب نزول السُوَر فاعتمدنا على ما نقله الماورديّ وأَبو القاسم النِّيسابوريّ في تفسيرهما، ولنبتدئ بالسُّور المكِّية.(1/97)
اتَّفقوا على أَنَّ أَوّل السُّور المكِّية {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} ، ثمَّ {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} ، ثمَّ سورة المزمِّل، ثمَّ سورة المدَّثِّر، ثمَّ سورة تبَّت، ثم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، ثم {سَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، ثمَّ {والليل إِذَا يغشى} ، ثم {وَالفَجْرِ} ، ثم {وَالضُّحَى} ، ثمَّ {أَلَمْ نَشْرَح} وَزعمت الشِّيعة أَنَّهما واحدَة، ثمَّ {وَالعَصْرِ} ، ثم {وَالعَادِيَّاتْ} ، ثم الكوثر، ثم أَلهاكم، ثم أَرأَيت، (ثم الكافرون) ثمَّ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ} ، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أَحد، ثمَّ {وَالنَّجْم} ، ثم عَبَس، ثم القَدر، ثمَّ {والشمس وَضُحَاهَا} ، ثم البروج، ثم {وَالتِّينِ} ، ثم {لإِيلاَفِ} ، ثم القارعة، ثم {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} ، ثم {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} ، ثم {وَالمُرْسِلاَتِ} ، ثم {ق والقرآن المجيد} ، ثم {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} ، ثم {والسمآء والطارق} ، ثم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَة} ، ثم ص، ثم الأَعراف، ثم {قُلْ أُوْحِىَ} ، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم مريم، ثم طه، ثم الواقعة، ثم الشعراءُ، ثم النمل، ثم القَصَص، ثم بني إِسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحِجْر، ثم الأَنعام، ثم الصَّافَّات، ثم لقمان، ثم سبأ، (ثم الزمر) ، ثم المؤمن، ثم (حَم السجدة) ،(1/98)
ثم (حَم عسق) ، ثم الزخرف، ثم الدُّخَان، ثم الجاثية، ثم الأَحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النَّحل، ثم سورة نوح، ثم سورة إِبراهيم، ثم سورة الأَنبياءِ، ثم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} ، ثم (الم السَّجدة) ، ثم الطور، ثم (تبارك الملك) ، ثم الحاقَّة، ثم سأَل سائل، ثم {عَمَّ يَتَسَآءَلُون} ، ثم النازعات، ثم {إِذَا السمآء انفطرت} ، ثم {إِذَا السمآء انشقت} ، ثم الرُّوم، ثم العنكبوت، ثم المطفِّفين.
فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة.
(وأَوَّل ما نزل بالمدينة سورة البقرة، ثم سورة الأَنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الأَحزاب، ثم الممتحِنة، ثم النساءُ، ثم زلزلت، ثم الحديد، ثم سورة محمد صلَّى الله عليه وسلم، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إِذا جاءَ نصر الله، ثم النور؛ ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم المتحرِّم، ثم الجمعة، ثم التغابن، (ثم الصف) ثم الفتح، (ثم التوبة) ، ثم المائدة.
فهذه جملة ما نزل بمكة من القرآن، وما نزل بالمدينة. ولم نذكر الفاتحة لأَنَّه مختلَف فيها: أُنزلت بمكة، وقيل بالمدينة؛ وقيل بكلٍّ مرة.(1/99)
الفصل السادس - فيما لابد من معرفته فى نزول القرآن
اعلم أَن نزول آيات القرآن، وأَسبابَه، وترتيب نزول السُّور المكِّية، والمدنِيَّة، من أَشرف علوم القرآن.
وترتيب نزول الخواصَّ فى التفسير أَن يَفْرقُ بين الآية التي نزلت: بمكة وحكمُها مدنى، والتى نزلت بالمدينة وحكمها مكى، والتى نزلت بالمدينة فى حق (أَهل مكَّة، والتى نزلت بمكة فى حقّ) أَهل المدينة، والتى نزلت بالْجُحفة، والتى نزلت ببيت المقدس، (والتى نزلت بالطائف) والتى نزلت بالحُدَيْبية، والتى نزلت بالليل، والتى نزلت بالنهار، والآية المكية التى فى سورة (مدنية، والآية المدنية التى فى سورة) مكيةَ؛ والتى حُمِلت من مَكَّة إِلى المدينة، والتى حملت من المدينة إِلى (مكة، أَو حملت من المدينة إِلى) أَرض الحَبَشة، والتى اختُلِف فيها: فذهب بعضهم إِلى أَنَّها مكية، وبعضهم إِلى أَنَّها مدنِيَّة.
أَمَّا التى نزلت بمكَّة وحكمها مدني ففي سورة الحجرات {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} نزلت يوم فتح مكَّة، لكن حكمها(1/100)
مدنى؛ لأَنَّها فى سورة مَدَنيَّة وفى سورة المائدة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت يوم عرفة. نزلت فى حال الوقفة والنبى صلَّى الله عليه وسلم على ناقته العَضْباءِ، فسقطت العضباءُ على ركبتيها، من هَيْبة الوحى بها، وسورة المائدة مدنية.
وأَمَّا التى نزلت بالمدينة وحكمها مكيّ فـ {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} نزلت فى حق حَاطب، خطاباً لأَهل مكَّة. وسورة الرعد مدنية والخطاب مع أَهل مكَّة، وأَول سورة براءَة إِلى قوله {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} خطاب لمشركى مكَّة والسُّورة مدنية.
وأَما التى نزلت بالجُحْفة فقوله تعالى {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} فى سورة طس القصص.
وأما التى نزلت ببيت المقدس ففى سورة الزُخرف {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} نزلت ليلة المعراج، لمَّا اقَتدى به الأَنبياءُ في الصلاة في المسجد الأَقصى، وفرغ من الصَّلاة، نزل جبريل بهذه الآية.
وأما التى نزلت بالطائف ففى سورة الفرقان {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ(1/101)
مَدَّ الظل} ، وفى سورة الانشقاق {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} يعني كفار مكَّة.
وأَما التى نزلت بالحدَيْبِية ففى سورة الرعد {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمان} لما أَمر النبى صلى الله عليه وسلم أَن يكتب فى أَوَّل كتاب الصُّلح: بسم الله الرحمن الرحيم قال سُهَيل بن عَمرْو: لا نعرف الرحمن إِلاَّ رحمن اليمامة، فنزل قوله تعالى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمان} .
وأَمَّا ابتداءُ سورة الحج فنزلت فى غزوة بنى المُصْطَلِق.
وقوله تعالى {واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} نزلت فى بعض الغَزَوات لما قال صلى الله عليه وسلم: من يحرسني الليلة؟ فنزلت الآية.
وفى سورة القصص {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} نزلت بالليل وهو فى لِحاف عائشة رضى الله عنها وعن أَبيها.
وأَمَّا السّور والآيات التى نزلت والملائكة يشيِّعونها ففاتحة الكتاب. نزل بها جبريل وسَبْعمائة أَلف مَلَك يشيِّعها. بحيث امتلأَ منهم ما بين السماءِ والأَرض، طبَّقوا العالم بزَجَل تسبيحهم، وخرَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لهَيْبة ذلك الحال، وهو يقول في سجوده: سبحان الله والحمد لله.(1/102)
ونزلت سورة الأَنعام وسبعون ألفَ ملَك يشيِّعها. ونزلت سورة الكهف واثنا عشر ألفَ مَلَك يشيِّعها. ونزلت آية الكرسيّ وثلاثون أَلف مَلَك يشيِّعها. ونزلت يس واثنا عشر ألف مَلَك يشيِّعها.
وأَما الآيات المَدَنية التى فى سورة مكيَّة فسورة الأَنعام: مكِّية، سوى ست آيات {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآيتين {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} نزلت فى عبد الله بن سعد، وفى مسيلمة الكذاب، و {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إلى آخر الثلاث الآيات نزلت بالمدينة أيضا، وسورة الأَعراف مكِّية، سوى ثلاثِ آيات {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} إلى آخر الثلاث الآيات. وسورة إِبراهيم مكِّيّة، سوى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله} إِلى آخر الآيتين. وسورة النَّحل مكِّيَّة إِلى قوله {والذين هَاجَرُواْ فِي الله} وباقة السُّورة مدنى، وسورة بنى إِسرائيل مكِّيَّة، سوى {وَإِنْ كَادُوْا لَيَفْتِنُوْنَكَ} . وسورة الكهفِ(1/103)
مكيَّة سوى قوله: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} ، وسورة القصص، مكيَّة سوى قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} نزلت فى أَربعين رجلاً من مؤمنى أَهل الكتاب، قدِموا من الحبشة وأَسلموا مع جعفر. وسورة الزُّمَر مكيّة، سوى قوله {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} والحواميم كلَّها مكية، سوى هذه الآية فى الأَحقاف {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} نزلت فى عبد الله بن سَلاَم.
وأَمَّا الآيات المكيّة فى السِّور المدنية ففي سورة الأَنفال {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} يعنى أَهل مكَّة. وسورة التوبة مدنيّة، سوى آيتين مِن آخرها {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلُ} إِلى آخر السُّورة. وسورة الرَّعد مدنيَّة؛ غير قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} . وسورة الحجِّ مدنيَّة سوى أَربع آيات {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} إِلى آخر الأَربع الآيات. وسورة الماعون مكيَّة إِلى قوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين} . ومنها إِلى آخر السُّورة مدنيَّة.
وأَمّا الَّذى حُمِل من مكة إِلى المدينة فسورة يوسف أَوَّل سورة حُمِلت(1/104)
من مكّة، ثمّ سورة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} ، ثمّ مِن سورة الأَعراف هذه الآية {ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} إِلى قوله {يَعْدِلُوْن} .
وَأَمَّا الَّذى حُمِل من المدينة إِلى مكَّة فمن سورة البقرة {يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} ، ثم آية الرِّبا فى شأْن ثَقِيف، ثم تسع آيات من سورة براءَة، أُرسِل بها إِلى مكَّة صحبة على رضى الله عنه، فى ردَّ عهد الكفار عليهم فى الموسم. ومن سورة النِّساءِ {إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} إِلى قوله {غَفُوراً رَحِيماً} فى عُذْر تَخلُّف المستضعفين عن الهجرة.
وأَمَّا الَّتى حُمِلت من المدينة إِلى الحبشة فهى ستُّ آيات من سورة آل عمران، أَرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى جعفر، ليقرأَها على أَهل الكتاب {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ} إِلى آخر الآيات الستّ. فكان سبب إِسلام النجاشى.
وأَمَّا الآيات المجملة فهى مثل قوله فى سورة يونس: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} ، وفى سورة هود: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} وفى سورة الحجّ: {وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقوله: {ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ(1/105)
جَمِيعاً} وقوله: {وَتُوْبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} .
وأَمَّا الآيات المفسَّرة فمثل قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} و (قوله) {التائبون العابدون} و {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} و {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} . ومن وجه آخر {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} تفسيره {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وقوله {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} تفسيره {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .
وأَمَّا الآيات المرموزة فمثل طه. قيل: هو الرّجل بلغة عَكٍّ. وقيل: معناه: طُوبَى وهاوية ... . وقيل: معناه: طاهر، يا هادى. وقوله: يس قيل: معناه: يا إِنسان. وقيل: يا سيِّد البشر. وقيل: يا سَنِىَّ القَدْر. وعلى هذا القياس جميع حروف التهجىِّ المذكورة فى أَوائل السُّور.
وقال عُرْوة بن الزُّبَير: كلّ سورة فيها ضَرْب المِثال، وذكر القرون الماضية فهى مكِّيّة، وكلّ سورة تتضمَّن الفرائض، والأَحكام، والحدود،(1/106)
فهى مدنيَّة، وكلّ عبارة فى القرآن بمعنى التوحيد، ويا أَيُّها النَّاس خطاب لأَهل مكَّة. ويا أَيُّها الَّذين آمنوا خطاب لأَهل المدينة. و (قُل) خطاب للنبىِّ صلَّى الله عليه وسلم.
هذه جملة ما لا بدَّ من معرفته قبل الشروع فى التفسير. وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/107)
الفصل السابع - في أصناف الخطابات والجوابات التي يشتمل عليها القرآن
فى أَصناف الخطابات والجوابات التى يشتمل عليها القرآن.
ولهذا الفصل طرفان: الأَوَّل فى فنون المخاطبات. والثانى فى الابتداءَات والجوابات.
أَمَّا المخاطَبات فإِنها تَرد فى القرآن على خمسة عشر وجهاً: عامّ، وخاصّ، وجنس، ونوع، وعَين، ومدح، وذمّ، وخطاب الجمع بلفظ الواحد، والواحدِ بلفظ الجمع، وخطاب الجمع بلفظ الاثنين، (وخطاب الاثنين) بلفظ الواحد، وخطاب كَرَامة، وخطاب هوان، وخطاب عَيْن والمراد به غيره، وخطاب تلوّن.
أَمَّا خطاب العام {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} . وأَما الخِطاب الخاصّ كقوله: {هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} ، {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} ، وخطاب الجنس: يا أَيها الناس، وخطاب النوع: يا بنى آدم. وخطاب العين: يا آدم، ويا نوح، ويا إبراهيم: (وخطاب المدح: يأَيها الذين آمنوا. وخطاب الذم: يأَيها الذين كفروا)(1/108)
وخطاب الكرامة: يأَيها الرسول، يأَيها النبىّ. وخطاب الهوانِ لإِبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} ولأَهل النار. {اخْسَئُوْا فِيْهَا} ، ولأَبى جهل {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيْزُ الكُرِيمُ} . وخطاب الجمع بلفظ الواحد {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} ، {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ} . وخطاب الواحد بلفظ الجمع {رَبِّ ارْجِعُون} أَى ارجعنى {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} وهو خطاب نبيّنا صلى الله عليه وسلَّم. وخطاب الواحد والجمع بلفظ التثنية {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ} . وخطاب الاثنين بلفظ الواحد {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوْسَى} .
وأَمّا الخطاب العينى الذى يراد به الغير: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} ، {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} .
وأَمّا التلوّن فعلى وجوه:
أَمّا الأَول فقوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} ، ثم قال {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} ، وكقوله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} ، ثم(1/109)
قال {فأولائك هُمُ المضعفون} ، وكقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} ثم قال {أولائك هُمُ الراشدون} .
الثانى أَن ينتقل من الخَبَر إِلى الخطاب، كقوله: {الْحَمْدُ للهِ} ثم قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وقوله {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} ثم قال {وَإِنَّ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ثم قال: {إِنَّ هاذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} ، وقوله: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ} ثم قال: {هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} .
الثالث أَن يكون الخطاب لمعين، ثم يُعدَل إِلى غيره، كقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} ثم قال: {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} .
الطرف الثانى من هذا الفصل فى الابتداءَات والجوابات. ويسمى تراجُعَ الخطاب.
والجواب يكون انتهاء، والسؤال يكون ابتداءً. والسؤال يكون ذَكَراً، والجواب يكون أُنثى، فإِذا اجتمع الذَّكَر والأُنثى يكون منه نتائج وتولُّدات.
وترد أَنواع الجوابات في نصّ القرآن على أَربعة عشر وجهاً: جواب موصول بابتداءٍ، جواب مفصول عنه، (جواب) مضمر فيه، (جواب) مجرد عن ذكر ابتداءٍ، جوابان لابتداءٍ واحد، جواب واحد لابتداءَين،(1/110)
جواب محذوف، جواب إِلى فصل غير متصل به، جواب في ضمن كلام، (جواب في نهاية كلام) ، جواب مُدَاخَل في كلام؛ جواب موقوف على وقت، جواب بفاء، جواب الأَمر والنهي وغيرهما، جواب شرط، جواب قَسَم.
أَما الجواب الموصول بابتداءٍ فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} .
وأَما الجواب المفصول عن الابتداءٍ فنوعان:
أَحدهما أَن يكون الابتداءُ والجواب فى سورة واحدة، كقوله في الفرقان {وَقَالُواْ مَالِ هاذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} جوابه فيها: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام} ، وكقوله فى البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} جوابه فيها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
والثانى أَن يكون الابتداء فى سورة، والجواب فى سورة أُخرى، كقوله فى الفرقان: {قَالُواْ وَمَا الرحمان} جوابه {الرحمان عَلَّمَ القُرْءَان}(1/111)
، وفى الأَنفال، {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هاذا} جوابه فى بنى إِسرائيل {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ} الآية، وفى سورة القَمَرَ {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِر} جوابه فى الصَّافات {مَالَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونْ} .
وأَما الجواب المضمر ففى سورة الرَّعد {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} جوابه مضمر فيه أَى (لكان هذا القرآن) .
وأَما الجواب المجرَّد عن ذكر الابتداءِ فكما فى سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ} فإِنه فى جواب الصحابة: فكيف من شرب الخمر قبل تحريمها ومات. وفى سورة البقرة {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فى جواب أُناس قالوا كيف: بمن صلَّى إِلى بيت المَقْدِس قبل تحويل القبلة.
وأَمَّا جوابان لسؤال واحد كقوله فى الزخرف {لَوْلاَ نُزِّلَ هاذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} فله جوابان: أَحدهما {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} والثانى فى سورة القصص: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، ونحو قوله {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} أَحد جوابيْه {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} وثانيهما {ياأيها النبي إِنَّآ(1/112)
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} وفى سورة الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} ، وكقوله: {وَقَالُوْا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ} جوابه فى السورة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجنُونٌ} وجواب ثان فى سورة ن {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجنُونٍ} وجواب ثالث فى سورة الأَعراف: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} .
وأَما جواب واحد لابتداءَين فكقوله فى سورة النور {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وابتداءُ هذين الجوابين حديث الإِفك. ونظير هذا فى سورة الفتح "لولا رجال مؤمنون" إلى قوله "لو تَزيَّلُوا" وابتداؤُه صَدُّ الكفار المسلمين عن المسجد الحرام.
وأَما الجواب المحذوف فكقوله في سورة البقرة {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} جوابه {كَفَرُوْا بِهِ} وهو محذوف ومثل قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} جوابه محذوف أَى حال هذا الرَّجل كحال مَن يريد زينة الحياة الدُّنيا.
وأَمَّا الجواب الَّذى يكون راجعاً إِلى فصل غير متَّصل بالجواب فكقوله(1/113)
فى سورة العنكبوت {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} جوابه {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ} وهذا فى يس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} جوابه {وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وعلى هذا القياس مناظرة موسى وفرعون فى سورة الشعراءِ فى قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} .
وأَمّا الجواب الَّذى يكون فى ضمن كلام فكما فى سورة (ص) لمَّا زعم الكفار أَنّ محّمداً غير رسول بالحق نزلت الآية مؤكَّدة بالقسم لتأْكيد رسالته {ص والقرآن ذِي الذكر} إِلى قوله {وعَجِبُوْا} وكذا قال {ق والقرآن المجيد} الى قوله {إِنَّ هاذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وهكذا فى سورة المُلْك {أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ} جوابه في ضمن هذه الآية {قُلْ هُوَ الرحمان آمَنَّا بِهِ} وأَما الجواب الذى يكون فى نهاية الكلام فكقوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ} جوابه فى منتهى الفصل {أولائك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وفي سورة الحج {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} جوابه {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} وفى سورة الكهف {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} جوابه {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} وفى سورة الأَنعام {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}(1/114)
إِلى قوله {مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} جوابه {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} .
وأَمَّا الجواب المُداخَل ففي سورة يوسف {مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} وفى قصة إِبراهيم {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} .
وأَما الجواب على وقف الوقت فكقوله {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فقالت الصحابة: متى وقت إِجابة الدعاءِ؟ فنزلت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وأَيضاً لمَّا نزلت {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} قالوا: متى وقت الاستغفار؟ فنزلت: {والمستغفرين بالأسحار} .
وأَما جواب الشرط والجزاءُ بغير فاءٍ فمجزوم كقوله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، من يَغْزُ يغنم، من يكظم غيظاً يأْجره الله.
وأَما جواب الشرط بالفاءِ فمرفوع {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} {فَمَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} .
وأَما جواب الأَمر والنهى والدعاءِ والتمنِّى والاستفهام والعرْض بغير فاءٍ فمجزوم، وبالفاءِ منصوب. والأَمر كقوله {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} لا تضربي أَشتِمْك، اللَّهمَّ أَعطني أَشكرْك وكذا في غيره.(1/115)
وأَمَّا بفاءٍ فكقولك زرني فأَكرمَك، {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} وكذا فى غيرها لا جواب النفى، فإِنه إذا كان بلا فاءٍ فمرفوع كقوله {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} .
وأَمَّا جواب القسم فأَقسام القرآن ثلاثة (أَنواع: إِما قَسم بأَسماءِ) الله تعالى، كقوله: {فَوَرَبِّكَ} وإِمَّا بمفعولاته كقوله: {وَالْفَجْرِ} ، {وَالشَّمْسِ} ، {وَالعَصْرِ} . وإِما بأَفعاله كقوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا} .
ولا بد للقسم من جواب إِما بإِثبات أَو بنفى. وتأْكيد الإِثبات يكون بإِنّ وباللاَّم أَو بهما. أَمَّا بإِنَّ فكقوله {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} وقوله: {وَالفَجْرِ} إِلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} . وأَمَّا بهما فكقوله {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} .
هذه فنون الجوابات، وأَنواع الخطابات التى نطق بها القرآن.(1/116)
الفصل الثامن - فيما هو شرط من معرفة الناسخ والمنسوخ
اعلم أَن معرفة النَّاسخ والمنسوخ باب عظيم من علوم القرآن. ومن أَراد أَن يخوض فى بحر التفسير ففَرْضٌ عليه الشروعُ فى طلب معرفته، والاطِّلاع على أَسراره، ليسلَم من الأَغلاط، والخطإِ الفاحش، والتأْويلات المكروهة.
والكلام فى ذلك على سبيل الإِجمال من عشرة أَوجه: الأَوَّل فى أَصل النسخ ومذاهبِ النَّاس فيه. الثانى فى حَدّ النسخ ومعناه. الثالث في حقيقته من حيث اللُّغة. الرّابع فى حكمته الحقّ، والسرّ فى نسخ أَمرٍ بأَمرٍ. الخامس فى بيان ما يجوز نسخه. السَّادس في سبب نزول آية النسخ. السَّابع فى وجوب معرفة النَّاسخ والمنسوخ. الثامن فى أَنواع ما فى القرآن من المنسوخ التَّاسع فى ترتيب نَسْخ أَحكام القرآن أَوَّلا فأَوَّلاً. العاشر فى تفصيل سُوَرِ القرآن الخالية عن الناسخ والمنسوخ.
أَمَّا أَصل النسخ فالنَّاسَ على مذهبين: مثبتون ومنكِرون. والمنكرون صنفان:
صنف خارج على مِلَّة الإِسلام. وهم اليهود فإِنهم أَجمعوا على أَنَّه(1/117)
لا نسخ فى شريعة موسى، وحكمُ التوراة باقٍ إِلى انقراض العالَم. وقالوا: إِنَّ النسخ دليل على البداءِ والنَّدامة، ولا يليق بالحكيم ذلك. هذا مقالهم، وتحريف التوراة فعالهم. يحرِّفون الكلِم عن مواضعه، ويلبِسون الحقَّ بالباطل، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً: ولهذا قال تعالى فى حقّهم: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} .
وصنف ثانٍ من أَهل الإِسلام. وهم الرافضة فإِنهم وافقوا اليهود فى هذه العقيدة، وقالوا: ليس فى القرآن ناسخ ولا منسوخ، وقبيح بالحكيم أَن يبطل كلامه.
فهم بكلامه يُوَادُّون من حادَّ الله {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود} .
وأَمَّا أَهل السنَّة وجماهير طوائف المسلمين فقد أَثبتوا النسخ، وأَنّ القرآن مشتمِل على الناسخ والمنسوخ، وأَنَّ الحكمة الرَّبانية تقتضى ذلك، لأَنَّ الله تعالى ربُّ الأَرباب، ومالك الملوك، ومتصرِّف فى الأَعيان، متحكِّم فى الأَشخاص، ونعتُه وصفته: أَحكم الحاكمين، وطبائع الخَلْق مختلِفة؛ والأَزمنة، والأَوقات متفاوِتة، وبناءُ عالَم الكَوْن والفساد على التغيير والتحّول. وأَىُّ حكمة أَبلغُ وأَتمُّ من حكمة عدل على وفق طبائع الناس(1/118)
بناءً على رعاية مصالحهم بحسب الوقت، والزَّمان، كسائر التَّصرُّفات الإلهية فى العالَم: من تكوير الليلِ والنَّهار، وتغيير الفصول والأَيَّام، بالبَرْد والحَرِّ، والاعتدال، وتبديل أَحوال العباد بالإِغناء، والإِفقار، والإِصحاح، والإِعلال، وغير ذلك: من أَنواع التصرُّفات المختلفة الَّتى فى كلِّ فرد من أَفرادها حكمة بالغة، وإِذا كان تصرُّفه تعالى فى مِلكه ومُلكه يقتضى الحكمة، ولا اعتراض لمخلوق، فكذلك الأمر فى الشرائع والفرائض: تارة يأْمُر، وتارة ينهى، ويكلِّف قوماً بشرع ثقيل، كبنى إِسرائيل، وآخرين بشرع خفيف كالأُمَّة المحمَّدية. وهو فى كلِّ هذه التصرُّفات مقدَّس الجناب منزَّه الحَضْرة عن لائمة المعترِضين، وسؤال المتعرِّضين. ولما كان محمَّد خاتم الرُّسل، والقرآن خاتم الكتب، وشَرْع القرآن خاتم الشرائع، نُسخ فى عهده بعضُ القرآن ببعض، لِما عند الله من الحكمة البالغة فى ذلك، ولِما يتضمَّن من رعاية ما هو أَصلح للعباد، وأَنفع للمَعَاد. وأَيضاًَ كان النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُنسخ بعضُ شرعه ببعض بواسطة الوحى السَّماوى، والسُّنَّة تَقْضِى على القرآن والقرآن لا يَقضى على السُنّة. وأَمَّا بعد ما استأْثر اللهُ به (صَلَّى الله عليه وسلَّم) فقد صار القرآن والسنة محروسين من النَّسْخ، والتغيير، بدليل قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .(1/119)
وأَمَّا حَد النسخ (من حيث المعنَى) فهو رفْع حكم ثابت من قولهم: نسخَت الرِّياحُ الأَثَر إِذا دَرَسَتْه. وقيل "النسخ" قَصْر حُكم على لفظ يختصُّ بأَهل زمان خاصّ؛ كما أَنَّ التخصيص قصر حكم لفظ على بعض الأَشخاص. وقيل "النَّسخ" التَّحويل، والأَجود أَن يقال "النسخ" بيان نهاية تعبُّد بأَمر، أَو نهى مجدَّد، فى حكم خاصّ، بنقله إِلى حكم آخر.
وللنَّاسخ والمنسوخ خمسة شروط: أَحدها أَن يكون كلٌّ منهما شرعيّاً. الثَّانى أَن يكون النَّاسخ متأَخِّراً عن المنسوخ. الثالث أَن يكون الأَمر بالمنسوخ مطلقاً غير مقيَّدٍ بغاية. والرَّابع أَن يكون النَّاسخ كالمنسوخ فى إِيجاب العلم والعمل. الخامس أَن يكون النَّاسخ والمنسوخ منصوصين بدليل خطاب (أَو بمفهوم خطاب) .
وأَمَّا حقيقة النسخ لغة فقد جاءَ بمعنيين:
أَحدهما النقل، كما يقال للكتابة نَسْخ. قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وعلى هذا يكون جميع القرآن منسوخاً، بمعنى أَنه مكتوب نُقِل من اللَّوح المحفوظ إِلى صُحف مرفوعة مطهَّرة، بأَيدى سفرة كرام بررة، ولمَّا نزل من السَّماءِ بواسطة الوحى كتبه الصَّحابة، ونسخوه فى صُحُفهم، ثمَّ لما يزل يُنْسَخ، وينقل إِلى يوم القيامة.(1/120)
والقول الثانى أَن يكون لغة بمعنى الرفع والإِزالة. يقال: نسخت الشَّمسُ الظلّ إِذا أَبطلته، ونسخت الريحُ الأَثر إِذا أَذهبته. وعلى هذا قيل لرفع حكم بحكم آخر: نَسْخ، لأَنه إِبطال حكم، وإِثبات حكم مكانه، كالشَّمس مكان الظِّل.
وأَمَّا الحكمة فى النسخ فذكروا فيها وجوهاً.
أَوَّلها وأَجلُّها إِظهار الرُّبوبيَّة، فإِنَّ بالنَّسخ يتحقَّق أَن التَّصرُّف فى الأَعيان إِنَّما هو له تعالى: يفعل ما يشاءُ، ويحكم ما يريد.
الثَّانى بيان لكمال العبوديَّة، كأنَّه منتظِر لإِشارة السيِّد، كيفما وردت وبأَىِّ وجه صدرت. وإِنَّما يظهر طاعةُ العبيد بكمال الخضوع، والانقياد.
والثالث امتحان الْحرِّيَّة، ليمتاز مَن المتمرِّد من المنقاد، وأَهلُ الطَّاعة من أَهل العناد فالدارُ دار الامتحان، والذهب يُجَرَّب بالذَوَبان، والعبد الصَّالح بالابتلاءِ والهوان.
الرَّابع إِظهار آثار كُلْفة الطَّاعة، على قدر الطَّاقة، {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} .
الخامس التيسير، ورفع المشقَّة عن العباد، برعاية المصالح {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} .
السادس نقل الضعفاءِ من درجة العسر إِلى درجة اليسر {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} .(1/121)
وأَمَّا أَنَّ النسخ فيماذا يجوز فالصَّحيح أَنَّ النسخ يتعلَّق بالأَمر والنَّهى فقط. وأَمَّا الأَخبار فمصونة عن النسخ، لأَنَّ المخبِر الصادق يصير بنسخ خبره كاذباً. وقيل: النَّسخ فى الأَمر، والنَّهى، وفى كل خبر يكون بمعنى الأَمر والنَّهى. فالنَّهى مثل قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} . والأَمر مثل قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} أَى ازرعوا. وشذَّ قوم أَجازوا النسخ فى الأَخبار مطلقا.
وأَمَّا سبب نزول آية النَّسخ فهو أَنَّ كفَّار مكَّة ويهودَ المدينة لَمَّا صرَّحوا بتكذيب النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم، وقالوا: إِنَّ هذا الكلام مختلَق، لأَنَّه يأْمر بأمر، ثم ينهى عنه، ويقرِّر شرعاً، ثمَّ يرجع عنه، فما هو إِلاَّ من تِلقاءِ نفسه، فنزلت {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ووردت الإِشارة إِلى النسخ فى الآية الأُخرى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَى قادر على إِنفاذ قضائه وقَدَره، فيقدِّم من أَحكامه ما أَراد، ويؤخِّر منها ما أَراد، ويثقِّل الحكم على من شاءَ، ويخفَّفه عمَّن شاءَ، وإِليه التَّيسير والتعسير، وبيده التقدير والتقرير، ولا يُنسب فى شىء إِلى العجز والتقصير، ولا مجال لأَحد فى اعتراض وتغيير، إِنَّه حكيم خبير، وبيده التصريف والتدبير، أَلا له الخَلْق والأَمر تبارك الله ربُّ العالمين.(1/122)
وأَمَّا وجوب معرفة النَّاسخ والمنسوخ فقال ابن عبَّاس: مَن لم يعرف النَّاسخ من المنسوخ خلط الحلال بالحرام. وعن النبىِّ صلى الله عليه وسلَّم أَنَّ محرِّم الحلال الخ وقال أَيضاً "ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه" ولمَّا رأَى علىٌّ رضى الله عنه عبد الله بن دَأْب فى مسجد الكوفة وهو يجيب عن المسائل، فقال له: هل تعرف النَّاسخ من المنسوخ قال: لا؛ قال: فما كنيتك؟ قال أَبو يحيى. قال: أَنت أَبو اعرفونى بالجهل. ثمَّ أَخذَ بأُذُنه، وأَقامه عن مجلسه. فقال: لا يحلُّ لك روايةُ الحديث فى هذا المسجد، ولا الجلوس فى مثل هذا المجلس حتَّى تَعْلم النَّاسخ من المنسوخ.
وأَمِّا أَنواع منسوخات القرآن فثلاثة:
أَحدها ما نُسخ كتابتُه وقراءَته. قال أَنس كانت سورةٌ طويلة تقارب سورة براءَة، كنَّا نقرؤها على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فنُسخت بكلِّيتها، لم يبق بين المسلمين منها شئ، سوى هذه الآية: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إِليهما ثالثا، ولو كان ثالثاً(1/123)
لابتغى رابعاً. ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إِلاَّ التراب، ويتوب الله على مَن تاب. وقال ابن مسعود: لقَّننى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم آية حفِظتها وأَثبتُّها فى المصحف، فأَردتُ فى بعض اللَّيالى أَن أَقرأَها، فلم أَذكُرها، فرجعت إِلى المصحف فوجدت مكانها أَبيض، فأَتيت النبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأَخبرته بذلك، فقال: يا عبد الله، قد نُسخت تلك الآية. فحزِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حيث لم يذكرها، فنزل جبريل بقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} وقيَّدهُ بالمشيئة لئلا يأْمن بالكلِّية فنزلت {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} .
الثَّانى ما نُسِخ خَطُّه، وكتابته، وحكمه باقٍ؛ مثل (الشيخُ والشيخة إذا زَنَيا فارجموهما البتَّةَ نكالاً من الله والله عزيز حكيم) .
الثالث ما نُسخ حكمه وخَطّه ثابت. وذلك فى ثلاثة وستين سورة. وسيأْتى ترتيبه إِن شاءَ الله.
وأَمَّا ترتيب المنسوخات فأَوّلها الصّلوات الَّتى صارت من خمسين إِلى خمس، ثمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إِلى الكعبة {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ثم صوم يوم عاشوراء، ثم صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، نُسِخا بفرض صيام رمضان، ثم حكم الزكاة إِلى ربع العشر بعد أَن كان الفاضل عن قُوت العيال، صدقةً، وزكاة، ثمّ الإِعراض عن المشركين والصّفح(1/124)
عنهم نُسخ بآية السّيف: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} . ثم الأَمر الخاصّ بقتال أَهل الكتاب {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الى قوله {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، ثمّ نُسخ ميراث الوَلاَء بتوريث ذوى الأَرحام، ونسخ ميراث ذوى الأَرحام بالوصيّة، ثمّ نُسخ الوصيّة بآية المواريث وهى قوله {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} ثمّ نفى المشركين من الحَرَم والمسجد الحرام {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هاذا} ثمّ نسخ عهد كان بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين رَدّه عليهم على لسان علىّ يومَ عرفة فى أَوّل سورة براءَة {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إِلى قوله {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} .
فهذا ترتيب المنسوخات الأَوّل فالأَوّل.
وأَمَّا تفصيل السّور (التى فيها الناسخ والمنسوخ والتى ما فيها [نسخ] . فالسُوَر الخالية عن الناسخ والمنسوخ) ثلاثة وأَربعون سورة: فاتحة الكتاب، سورة يوسف، يس، الحجرات، الرَّحمن، الحديد، الصَّف، الجمعة، المتحرّم، المُلْك، الحاقَّة، سورة نوح، المرسَلات، سورة(1/125)
الجِنّ، النبأ، والنَّازعات، الانفطار، التطفيف، الانشقاق، البروج، والفجر، البلد، والشمس، والَّيل، والضحى، أَلم نشرح، القلم، القَدْر، لم يكن، زلزلت، والعاديات، القارعة، التكاثر، الهُمَزة، الفيل، لإِيلاف، أَرأَيت، الكوثر، النصر، تبَّت، الإِخلاص، الفلق، النَّاس.
والسُّور الَّتى فيها الناسخ وليس فيها المنسوخ ستٌّ: سورة الفتح، الحشر، المنافقون، التَّغابن، الطَّلاق، الأَعلى.
والَّتى فيها المنسوخ وليس فيها ناسخ أَربعون سورة: الأَنعام، الأَعراف، يونس، هود، الرَّعد، الحِجْر، النَحْل، إِسرائيل، الكهف، طه، المؤمنون، النَّمل، القَصصَ، العنكبوت، الرُّوم، لقمان، المضاجع، الملائكة، الصَّافَّات، ص، الزُّمر، المصابيح، الزُّخرف، الدُّخان، الجاثية، الأَحقاف، سورة محمد صلى الله عليه وسلم، (5) ق، والنَّجم، القمر، الممتحِنة، (5) ن، المعارج، القيامة، الإِنسان، عبس، الطَّارق، الغاشية، والتِّين، الكافرون.
والسُّوَر الَّتى اجتمع فيها النَّاسخ والمنسوخ خمس وعشرون سورة: البقرة، آل عمران، النِّساء، المائدة، (5) الأنفال، التَّوبة، إِبراهيم، مريم، الأَنبياء، الحجّ، النور، الفرقان، الشعراء، الأَحزاب، سبأ،(1/126)
المؤمن، الشُورى، والذَّاريات، والطُّور، الواقعة، المجادلة، المزَّمل، المدثر، التكوير، والعصر.
وجملة الآيات مئتا آية وأَربع آيات على التفصيل الَّذى ذكرناه.
هذه الجملة الَّتى لا بدَّ من معرفتها من أَمر الناسخ والمنسوخ.
"*"
الطرف الثانى من هذا الباب فى المقاصد المشتملة على جميع سور القرآن من أَوَّله إِلى آخره.
كلَّ سورة تشتمل على ثمانية متعلِّقة بالسُّورة. الأَول موضع نزولها. الثانى عدد آياتها، وكلماتها، وحروفها، والآيات المختلف، فيها. الثالث بيان مجموع فواصلها. الرَّابع ذكر اسمها، أَو أَسمائه ا. الخامس بيان المقصود من السُّورة، وما تتضمّنه مجملاً. السَّادس بيان ناسخها ومنسوخها. السَّابع فى متشابهها. الثامن فى فضلها وشرفها.(1/127)
الباب الأول - الطرف الثاني - المواقف
بصيرة في الحمد
اختلف العلماءُ فى موضع نزولها. فقيل: نزلت بمكَّة وهو الصحيح، لأَنَّه لا يعرف فى الإِسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب. وقيل: نزلت بالمدينة مرّة، وبمكة مرّة. ولهذا قيل لها: السّبع المثانى؛ لأَنها ثُنِيت فى النّزول.
وأَمّا عدد الآيات فسبع بالإِجماع؛ غير أَنَّ منهم من عدّ {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دون البسملة؛ ومنهم مَنْ عكس. وشذَّ قوم وقالوا: ثمان آيات. وشذَّ آخرون فجعلوها ستّ آيات.
عدد كلماتها خمس وعشرون.
عدد حروفها مائة وثلاثون وعشرون. وفواصل الآيات (م ن) .
أسماؤها قريبة من ثلاثين: الفاتحة، فاتحة الكتاب، الحمد، سورة الحمد، الشافية، الشفاء، سورة الشفاء، الأَساس، أَساس القرآن، أُمّ القرآن، أُمّ الكتاب، الوافية، الكافية، الصّلاة، سورة الصّلاة، قال الله تعالى "قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين" الحديث،(1/128)
يعنى فاتحة الكتاب، السّبع المثانى؛ لأنها تُثْنَى فى كل صلاة، أَو لاشتمالها على الثَّناء على الله تعالى، أَو لتثنية نزولها، سورة الفاتحة، سورة الثناء، سورة أُمّ القرآن، سورة أُم الكتاب، سورة الأًساس، الرُّقْية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وما أَدراك أَنّها رُقْية".
المقصود من نزول هذه السّورة تعليم العباد التيمُّن والتبّرك باسم الله الرحمن الرحيم فى ابتداء الأُمور، والتّلقين بشكر نعم المنعم؛ والتوكُّل عليه فى باب الرّزق المقسوم، وتقوية رجاء العبد برحمة الله تعالى، والتّنبيه على ترقُّب العبد الحسابَ والجزاءَ يوم القيامة، وإِخلاص العبوديّة عن الشرك، وطلب التوفيق والعصمة من الله، والاستعانة والاستمداد فى أَداء العبادات، وطلب الثبات والاستقامة على طريق خواصّ عباد الله، والرَّغبة فى سلوك مسالكهم، وطلب الأَمان من الغَضب، والضلال فى جميع الأَحوال، والأَفعال، وختم الجميع بكلمة آمين، فإِنها استجابة للدعاء، واستنزال للرَّحمة، وهى خاتَم الرَّحمة الَّتى خَتَم بها فاتحة كتابه.
وأَمَّا النَّاسخ والمنسوخ فليس فيها شئ منهما.
وأَمَّا المتشابهات فقوله (الرحمن الرَّحيم ملك) فيمن جعل البسملة منها، وفى تكراره أَقوال. قيل: كرّر للتَّأْكيد. وقيل: كُرِّر لأَن المعنى: وجب الحمد لله لأَنه الرَّحمن الرَّحيم. وقيل: إِنما كُرِّر لأَن الرحمة هى الإِنعام على المحتاج(1/129)
وذكر فى الآية الأَولى المنعِم ولم يذكر المنعَم عليهم، فأَعادها مع ذكرهم، وقال: ربِّ العالمين، الرحمن بهم أَجمعين الرحيم بالمؤمنين خاصَّة يوم الدين، ينعم عليهم ويغفر لهم، وقيل: لمَّا أَراد ذكر يوم الدين لأَنه مِلكه ومالكه، وفيه يقع الجزاءُ، والعقاب، والثواب وفى ذكره يحصل للمؤمن مالا مزيد عليه: من الرعب والخشية، والخوف، والهيبة. قدَّم عليه ذكر الرَّحمن الرحيم تطميناً له، وتأميناً، وتطييباً لقلبه، وتسكيناً، وإِشعاراً بأَن الرَّحمة سابقة غالبة، فلا ييأَس ولا يأْسى فإِن ذلك اليوم - وإِن كان عظيماً عسيراً - فإِنما عُسْره وشِدّته على الكافرين؛ وأَمَّا المؤمن فبَيْن صفتى الرَّحمن الرَّحيم من الآمنين.
ومنها قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كرّر (إِياك) ولم يقتصر على ذكره مرّة كما اقتصر على ذكر أَحد المفعولين فى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} وفى آيات كثيرة؛ لأَن فى التقديم فائدة وهى قطع الاشتراك، ولو حُذف لم يدلّ على التقدّم؛ لأَنك لو قلت: إِيّاك نعبد ونستعين لم يظهر أَن التّقدير: إِياك نعبد وإِيّاك نستعين. وكرّر {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لأَنّه يقرب ممَّا ذكرنا فى {الرحمان الرحيم} . وذلك بأَن الصّراط هو المكان المهيَّأ للسّلوك، فذَكر فى الأَوّل المكان ولم يَذكر السّالكين، فأَعاده(1/130)
مع ذكرهم، فقال: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهم النبيّون والمؤمنون. ولهذا كرّر أَيضاً فى قوله {إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله} لأَنّه ذكر المكان المهيّأ وقوله {عَلَيْهِم} ليس بتكرار لأَنّ كلّ واحد منهما متَّصل بفعل غير الآخر، وهو الإِنعام والغضب، وكلّ واحد منهما يقتضيه، وما كان هذا سبيليه فليس بتكرار، ولا من المتشابِه. والله أعلم.
وأَمَّا فضلها وشرفها فعن حُذَيفة يرفعه إلى النبىّ صلَّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ القوم ليبعث الله عزَّ وجلَّ عليهم العذاب حتماً مقضيَّا فيقرأ صبىّ من صبيانهم فى الكُتَّاب: الحمد لله ربِّ العالمين، فيسْمَعه الله عزَّ وجلَّ، فيرفع عنهم بذلك العذابَ أَربعين سنة" وروى عن الحسن أَنه قال: أَنزل الله مائة وأَربعة كتب من السَّماء، أَودع علومها أَربعة منها: التَّوراةَ والإِنجيلَ والزَّبورَ والفرقانَ، ثمَّ أَودع علوم القرآن المفصَّل، ثم أَودع علوم المفصَّل فاتحة الكتاب. فمَنْ علِم تفسيرها كان كمن علم تفسير كُتُب الله المنزَّلة. ومَنْ قرأَها فكأنَّما قرأَ التَّوراة، والإِنجيل، والزَّبور، والفُرقان، وقال جبرئيل عند نزوله بهذه السّورة: يا محمَّد، ما زلت خائفاً على أُمَّتك حتَّى نزلتُ بفاتحة الكتاب؛ فأَمِنت(1/131)
بها عليهم. وقال مجاهد سمعت ابن عبّاس يقول: أَنَّ إِبليسُ أَربع أَنَّات: حين لُعن، وحين أُهبِط من الجنَّة، وحين بُعِث محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وحين أُنزلتْ فاتحة الكتاب. وعن أَبى هريرة، عن النبى صلَّى الله عليه وسلم، عن الرَّبِّ تبارك وتعالى، أَنه قال: "إِذا قال العبد بسم الله الرحمن الرَّحيم يقول الله تعالى: سمَّانى عبدى. وإِذا قال: الحمد لله ربِّ العالمين يقول الله: حمِدنى عبدى. وإِذا قال: الرَّحمن الرَّحيم يقول الله: أَثْنَى علىَّ عبدى. وإِذا قال: مالك يوم الدِّين يقول الله مجَّدنى عبدى. وإِذا قال: إِيَّاك نعبد وإِيَّاك نستعين يقول الله: هذا بينى وبين عبدى نصفين. وإِذا قال: اهدنا الصِّراط المستقيم إِلى آخر السُّورة يقول الله: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل. وَروَى علىّ رضى الله عنه عن النبىِّ صلى الله عليه وسلَّم انَّه قال: يا علىّ مَنْ قرأَ فاتحة الكتاب فكأَنَّما قرأَ التوراة، والإِنجيل، والزَّبور، والفرقان، وكأَنَّما تصدَّق بكل آية قرأَها مِلْءَ الأَرض ذهباً فى سبيل الله، وحرم الله جسده على النار، ولا يدخل الجنَّة بعد الأَنبياء أَحدٌ أَغنى منه.(1/132)
بصيرة.. فى ألم. ذلك الكتاب
هذه السّورة مَدنيَّة. وهى أَول سورة نزلت بعد هجرة النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم إِلى المدينة.
وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية (فى عدِّ) الكوفيِّين، وسبع (فى عدِّ) البصريِّين، وخمس (فى عدِّ) الْحجاز، وأَربع (فى عدِّ) الشاميِّين. وأَعلى الرّوايات وأَصحُّها العَدّ الكوفىُّ، فإِنَّ إِسناده متَّصل بعلىّ بن أَبى طالب رضى الله عنه.
وعدد كلماته ستَّة آلاف كلمة، ومائة وإِحدى وعشرون كلمة.
وحروفها خمس وعشرون أَلفاً وخَمْسمائة حرف.
وآياتها المختلَف فيها اثنتا عشرة آية: أَلم، {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، مصلحون، خائفين، و {قَوْلاً مَعْرُوفاً} ، {مَاذَا يُنْفِقُوْن} ، {تَتَّفَكَّرُونَ} ،(1/133)
خَلق، {ياأولي الألباب} ، {الحي القيوم} ، {مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ، {وَلاَ شَهِيد} .
مجموع فواصل آياتها (ق م ل ن د ب ر) ويجمعها (قم لندّبر) . وعلى اللاَّم آية واحدة {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} ، وعلى القاف آية واحدة {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} آخر الآية المائتين.
وأَمَّا أَسماؤُها فأَربعة: البقرة، لاشتمالها على قِصَّة البقرة. وفى بعض الروايات عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: السورة التى تذكر فيها البقرة. الثَّانى سورة الكرسىِّ، لاشتمالها على آية الكرسىِّ التى هى أَعظم آيات القرآن. الثالث سَنَام القرآن، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: " إِنَّ لكلِّ شىءٍ سَنَاماً وسَنَام القرآن سورة البقرة". الرَّابع الزَّهراءُ، لقوله: "اقرءُوا الزَّهراوَيْن البقرة وآل عمران".
وعلى الإِجمال مقصود هذه السُّورة مدح مؤمنى أَهل الْكتاب، وذمّ الكفَّار كفَّارِ مكَّة، ومنافقى المدينة، والرّدّ على منكرى النبوّة، وقصة التخليق، والتعليم، وتلقين آدم، وملامة علماءِ الْيهود فى مواضع عدَّة، وقصَّة موسى، واستسقائه، ومواعدته ربّه، ومنَّته على بنى إِسرائيل، وشكواه منهم، وحديث البقرة، وقصة سليمان، وهاروت وماروت،(1/134)
والسحرة، والرّدّ على النَّصارى، وابتلاء إِبراهيم عليه السَّلام، وبناء الكعبة، ووصيَّة يعقوب لأَولاده، وتحويل القبلة، وبيان الصبر على المصيبة، وثوابه، ووجوب السَّعى بين الصفا والمروة، وبيان حُجَّة التَّوحيد، وطلب الحلال، وإِباحة الميتة حال الضرورة، وحكم القِصاص، والأَمر بصيام رمضان، والأَمر باجتناب الحرام، والأَمر بقتال الكفار، والأَمر بالحجِّ والعُمْرة، وتعديد النعم على بنى إِسرائيل وحكم القتال فى الأَشهر الحُرُم؛ والسؤال عن الخمر والْمَيْسِر ومال الأَيتام، والحيض؛ والطلاق؛ والمناكحات، وذكر العِدّة، والمحافظة على الصلوات، وذكر الصَّدقات والنَّفقات، ومُلْك طالوت، وقتل جالوت؛ ومناظرة الخليل عليه السَّلام؛ ونمْرُود، وإِحياء الموتى بدعاءِ إِبراهيم، وحكم الإِخلاص فى النفقة، وتحريم الربا وبيان (الزَّانيات) ، وتخصيص الرّسول صلَّى الله عليه وسلم ليلة المعراج بالإِيمان حيث قال: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} إِلى آخر السُّورة.
هذا معظم مقاصد هذه السُّورة الكريمة.
وأَمَّا بيان النَّاسخ والمنسوخ ففى ستّ وعشرين آية {إِنَّ الذين آمَنُواْ(1/135)
والذين هَادُواْ} م {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} ن {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} م {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ن وقيل: محكمة {فَاعْفُوْا وَاصْفَحُوْا} م {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} إِلى قوله {حتى يُعْطُواْ الجزية} ن {فَاَيْنَمَا تُوَلُّوْا} م {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} ن {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} م {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} ن {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} م أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، من السُّنة ناسخها ن {الْحَرُّ بِالْحَرِّ} م {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ن {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} م (آية المواريث) ن {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} م {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام} ن {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} م {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ن {وَلاَ تَعْتَدُوْا} م {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا} ن(1/136)
{وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ن {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} م {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} ن {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} م بآية السَّيف ن {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} م {بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ن {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} م {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ} ن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} م {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} م {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} ن {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} م {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ن {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} م {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} وقوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ن {الطلاق مَرَّتَانِ} م {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ن {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن(1/137)
تَأْخُذُواْ} م {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا} ن {والوالدات يُرْضِعْنَ} م {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} ن {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول} م {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} م آية السَّيف ن {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} م {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} ن {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} م {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً} وقوله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} ن.
المتشابهات:
(الم) تكررت فى ستّ سور فهى من المتشابه لفظاً. وذهب كثير من المفسِّرين فى قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إِلى أَنَّها هذه الحروف الَّتى فى أَوائل السُّور، فهى من المتشابه لفظاً ومعنًى والموجب لذكره أَوَّلَ البقرة هو بعينه الموجِب لذكره فى أَوائل سائر السُّور. وزاد فى الأَعراف صاداً لما جاءَ بعده {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} ولهذا قال بعض المفسِّرين: المص: ألم نشرح لك صدرك. وقيل: معناه: المصوِّر. وزاد فى الرعد راء لقوله بعده {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} .(1/138)
قوله {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} وفى يس {وَسَوآءٌ عَلَيْهِمْ} بزيادة واو، لأَن ما فى البقرة جملة هى خبر عن اسم إِنَّ، وما فى يس جملة عُطِفت على جملةٍ.
قولُه {آمَنَّا بالله وباليوم الآخر} ليس فى القرآن غيره [و] تكرار العامل مع حرف العطف لا يكون إِلاَّ للتأكيد، وهذا حكاية كلام المنافقين وهم أَكَّدوا كلامهم، نَفْياً للرِيبة، وإِبعادا للتُّهمة. فكانوا فى ذلك كما قيل: كاد المُرِيب أَن يقول خذونى. فنفى الله عنهم الإِيمان بأَوكد الأَلفاظ، فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} ويكثر ذلك مع النفى. وقد جاءَ فى القرآن فى موضعين: فى النّساء {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} ، وفى التوبة {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} .
قوله {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} ليس فى القرآن غيره؛ لأَنَّ العبادة فى الآية التوحيد، والتوحيد فى أَول ما يلزم العبدَ من المعارف. وكان هذا أَول خطاب خاطب اللهُ به الناس، ثم ذكر سائر المعارف، وبنى عليه العبادات فيما بعدها من السُور والآيات.
قوله {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} بزيادة (مِن) هنا، وفى غير هذه السورة بدون (من) لأَن (مِن) للتبعيض، وهذه السورة سَنَام القرآن،(1/139)
وأَوّله بعد الفاتحة، فحسُن دخول (مِن) فيها، ليعلم أَن التحدّى واقع على جميع سور القرآن، من أَوله إِلى آخره، وغيرُها من السور لو دخلها (من) لكان التحدى واقعاً على بعض السور دون بعض. والهاء فى (مثله) يعود إِلى القرآن، وقيل: يعود إِلى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، أَى فأْتوا بسورة من إِنسان مثلِه. وقيل: إِلى الأَنداد، وليس بشئ. وقيل: مثله التوراة، والهاءُ يعود إِلى القرآن، والمعنى: فأْتوا بسورة من التوراة التى هى مثل القرآن لتعلموا وفاقهما.
قوله {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر} ذكر هذه هاهنا جملة، ثم ذكر فى سائر السور مفصَّلا، فقال فى الأعراف: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} وفى الحِجْر {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} وفى سبحان {إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} وفى الكهف {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} وفى طه {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} وفى ص {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
قوله {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ} بالواو، وفى الأَعراف {فَكُلاَ} بالفاء. اسكن فى الآيتين ليس بأَمر بالسُّكون الذى ضده الحركة، وإِنما الذى فى البقرة سكون بمعنى الإِقامة، فلم يصحّ إِلا بالواو؛(1/140)
لأَن المعْنى: اجمعا بين الإِقامة فيها (والأَكل من ثمارها) ، ولو كان الفاء مكان الواو لوجب تأْخير الأَكل إِلى الفراغ من الإِقامة، لأَن الفاء للتَّعقيب والترتيب، والذى فى الأَعراف من السُّكنى التى معناها اتخاذ الموضع مسكنا؛ لأَنَّ الله تعالى أَخرج إِبليس من الجنة بقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً} . وخاطب آدم فقال {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} أَى اتَّخذاها لأَنفسكما مسكناً، وكُلاَ من حيث شئتما، وكان الفاء أَولى، لأَن اتّخاذ المسكن لا يستدِعى زمانا ممتدّا، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه، بل يقع الأَكلُ عقِيبه. وزاد فى البقرة {رَغَدَا} لما زاد فى الخبر تعظيما: (وقلنا) بخلاف سورة الأَعراف، فإِن فيها (قال) . وذهب الخطيب إِلى أَن ما فى الأَعراف خطاب لهما قبل الدّخول، وما فى البقرة بعده.
قوله {اهْبِطُوْا} كرّر الأَمر بالهبوط لأَن الأَول {مِنَ الْجَنَّةِ} والثانى من السماءِ.
قوله {فَمَنِ اتَّبَعَ} ؛ وفى طه {فَمَنِ اتبع} ؛ وتبع واتَّبع بمعنى، وإِنما اختار فى طه (اتَّبع) موافقة لقوله {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى} .(1/141)
قوله {وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قدَّم الشَّفاعة فى هذه الآية، وأَخَّر العَدْل، وقدَّم العدل فى الآية الأُخرى من هذه السورة وأَخر الشفاعة. وإنِما قدم الشفاعة قطعَا لطمع من زعم أَن آباءَهم تشفع لهم، وأَن الأَصنام شفعاؤُهم عند الله، وأَخرها فى الآية الأُخرى لأَنَّ التقدير فى الآيتين معاً لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة؛ لأَنَّ النفع بعد القبول. وقدَّم العدل فى الآية الأُخرى ليكون لفظ القبول مقدَّما فيها.
قوله: {يُذَبِّحُونَ} بغير واو هنا على البدل من {يَسُوْمُوْنَكُمْ} ومثله فى الأَعراف {يُقَتِّلُونَ} وفى إِبراهيم {وَيُذَبِّحُوْنَ} بالواو لأَن ما فى هذه السورة والأَعراف من كلام الله تعالى، فلم يرد تعداد المِحَن عليهم، والَّذى فى إِبراهيم من كلام موسى، فعدّد المِحَن عليهم، وكان مأْموراً بذلك فى قوله {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} .
قوله {ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هاهنا وفى الأعراف، وقال فى آل عمران {ولاكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأَنَّ ما فى السّورتين إِخبار عن قوم فَاتوا وانقرضوا [وما فى آل عمران] حكاية حال.
قوله {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ} بالفاء، وفى الأَعراف {وَكُلُوْا} بالواو؛ لأَن الدّخول سريع الانقضاء فيعقبه الأَكل، وفى(1/142)
(الأَعراف) {اسْكُنُوا} والمعنى: أَقيموا فيها، وذلك ممتدّ، فذكر بالواو، أَى اجمعوا بين السكنى والأَكل، وزاد فى البقرة {رَغَداً} لأَنه تعالى أَسنده إِلى ذاته بلفظ التعظيم، بخلاف الأَعراف؛ فإِنَّ فيه {وَإِذْ قِيْلَ} وقدّم {ادْخُلُوْا البَابَ سُجَّدًا} فى هذه السّورة وأَخرها فى الأَعراف لأَن السابق فى هذه السورة {ادْخُلُوْا} فبيّن كيفيّة الدّخول، وفى هذه السّورة {خَطَايَاكُمْ} بالإِجماع وفى الأَعراف {خَطِيئَاتِكُمْ} لأَن خطايا صيغة الجمع الكثير، ومغفرتها أَليق فى الآية بإِسناد الفعل إِلى نفسه سبحانه، وقال هنا (وسنزيد) (بواو، وفى الأَعراف سنزيد) بغير واوٍ؛ لأَنَّ اتصالهما فى هذه السّورة أَشدّ؛ لاتّفاق الَّلفظين، واختلفا فى الأعراف؛ لأَنّ اللائِق به (سنزيد) بحذف الواو؛ ليكون استئنافاً للكلام [وفى هذه السورة {الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} وفى الأَعراف {ظَلَمُوْا مِنْهُم} موافقة لقوله {ومِنْ قَوْمِ مُوْسَى} ولقوله {مِنْهُمُ الصَّالِحُوْنَ ومِنْهُم دُوْنَ ذَلِكَ} ] .
وفى هذه السّورة {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِين ظَلَمُوْا} وفى الأَعراف {فَأَرْسَلْنَا} لأَن لفظ الرّسول والرسالة كثرت فى الأَعراف، فجاءَ ذلك على طِبق ما قبله، وليس كذلك فى سورة البقرة.(1/143)
قوله {فَانْفَجَرَت} وفى الأَعراف {فَانْبَجَسَتْ} لأَن الانفجار انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهورُ الماء. وكان فى هذه السورة {وَاشْرَبُوا} فذكر بلفظ بليغ؛ وفى الأَعراف {كُلُوا} وليس فيه {وَاشْرَبُوا} فلم يبالغ فيه.
قوله {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} فى هذه السّورة؛ وفى آل عمران {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} ؛ وفيها وفى النساءِ {وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} لأَن ما فى البقرة إِشارة إِلى الحقّ الذى أَذِن الله أَن يُقتل النفسُ فيه وهو قوله {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ} ؛ وكان الأَولى بالذكر؛ لأَنه من الله تعالى؛ وما فى آل عمران والنساءِ نكرة أَى بغير حَقّ فى معتقَدهم ودينهم؛ فكان بالتنكير أَولى. وجمع {النَّبِيِّينَ} فى البقرة جمع السّلامة لموافقة ما بعده من جمعَى السلامة وهو {الَّذِينَ} {وَالصَّابِئِينَ} . وكذلك فى آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ} و {نَاصِرِين} و {مُعْرِضُون} بخلاف الأَنبياء فى السّورتين.
قوله {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين} وقال فى الحج {والصابئين والنصارى} وقال فى المائدة {والصابئون والنصارى} لأَن النصَّارى مقدَّمون على الصَّابئين فى الرُتْبة؛ لأَنهم أَهل الكتاب؛(1/144)
فقدَّمهم فى البقرة؛ والصَّابئون مقدَّمون على النصارى فى الزمان؛ لأَنهم كانوا قبلهم فقدَّمهم فى الحج، وراعى فى المائدة المعنيين؛ فقدَّمهم فى اللفظ، وأَخرهم فى التقدير؛ لأَن تقديره: والصّابئون كذلك؛ قال الشاعر:
فمن كان أَمسى بالمدينة رَحْلُه ... فإِنى وقَيَّارٌ بها لغرِيب
أَراد: إِنى لغريب بها وقيَّارٌ كذلك. فتأَمّل فيها وفى أَمثالها يظهر لك إِعجاز القرآن.
قوله {أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وفى آلِ عمران {أَيَّاماً مَّعْدُودَات} لأَنَّ الأَصل فى الجمع إِذا كان واحده مذكَّرا أَن يُقتصَر فى الوصف على التأنيث؛ نحو: سرر مرفوعة وأَكواب موضوعة. وقد يأتى سُرُر مرفوعات (على تقدير ثلاث سرر مرفوعة) وتسع سرر مرفوعات؛ إِلا أَنه ليس بالأَصل. فجاءَ فى البقرة على الأَصل، وفى آل عمران على الفرع.
وقوله: {فِي أَيَّاماً مَّعْدُودَات} أَى فى ساعات أَيام معدودات. وكذلك {فِي أَيَّاماً مَعْلُوْمَاتٍ} .
قوله {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} وفى الجُمُعة {وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ} لأَن دعواهم فى هذه السّورة بالغة قاطعة، وهى كون الجَنَّة لهم بصفة الخلوص، فبالغ(1/145)
فى الردّ عليهم بلَنْ، وهو أَبلغ أَلفاظ النفى، ودعواهم فى الجمعة قاصرة مترددة، وهى زعمهم أَنهم أَولياءُ الله، فاقتصر على (لا) .
قوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وفى غيرها {لاَ يَعْقِلُوْنَ} {لاَ يَعْلَمُوْنَ} لأَن هذه نزلت فيمَن نقض العهد من اليهود، ثم قال {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ؛ لأَن اليهود بين ناقض عهد، وجاحد حق، إِلا القليلَ، منهم عبدُ الله بن سَلاَم وأَصحابُه، ولم يأت هذان المعنيان معا فى غير هذه السُّورة.
قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} وفيها أَيضاً {مِنْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} فجعل مكان قوله: (الَّذى) (ما) وزاد (من) ؛ لأَنَّ العلم فى الآية الأُولى عِلْم بالكمال، وليس وراءَه علم؛ لأَنَّ معناه: بعد الذى جاءَك من العلم بالله، وصفاته، وبأَنّ الهدى هدى اللهِ، ومعناه: بأَنَّ دين الله الإِسلام؛ وأَنَّ الْقرآن كلام الله، (وكان) لفظ (الذى) أَليق به من لفظ (ما) لأَنه فى التعريف أَبلغ؛ وفى الوصف أَقعد؛ لأَن (الذى) تعرِّفه صلتُه، فلا ينكَّر قطٌّ، ويتقدَّمه أَسماء الإِشارة؛ نحو قوله {أَمَّنْ هاذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} {أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ} فيكتنف (الَّذى) بيانان: الإِشارةُ، والصلة، ويلزمُه الأَلِف واللاَّم، ويثنَّى ويُجمع. وأَمَّا (ما) فليس له شىء من ذلك؛ لأَنه يتنكَّر مَرّة، ويتعرّف أُخرى، ولا يقع وصفاً لأَسماءِ الإِشارة، ولا يدخله الأَلِف(1/146)
واللام، ولا يثنَّى ولا يجمع. وخُصَّ الثَّانى بـ (ما) لأَنَّ المعنى: من بعد ما جاءَك من الْعلم بأَن قِبلة الله هى الكعبة، وذلك قليل من كثير من الْعلم. وزيدت معه (من) الَّتى لابتداءِ الْغاية؛ لأَن تقديره: من الوقت الذى جاءَك فيه الْعلم بالْقبلة؛ لأَن الْقبلة الأُولى نُسِخت بهذه الآية، وليس الأَوّل موقَّتاً بوقت. وقال فى سورة الرّعد: {بَعْدَ مَا جَاءَكَ} فعَبَّر بلفظ (ما) ولم يزد (من) لأَن الْعلم هاهنا هو الْحكم الْعربىّ أَى الْقرآن، وكان بعضاً من الأَوّل، ولم يزد فيه (من) لأَنه غير موقَّت. وقريب من معنى الْقبلة ما فى آل عمران {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} فلهذا جاءَ بلفظ (ما) وزيد فيه (من) .
قوله: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} هذه الآية والَّتى قبلها متكررتان. وإِنما كُرِّرتا لأَن كل واحدة منهما صادفت معصية تقتضى تنبيهاً ووعظاً؛ لأَن كلّ واحدة منهما وقعت فى غير وقت الأُخرى.
قوله {رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً} وفى إِبراهيم {هاذا البلد آمِناً} لأَن (هذا) إِشارة إِلى المذكور فى قوله {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} قبل بناء الكعبة، وفى إِبراهيم إِشارة إلى البلد بعد البناء. فيكون (بلداً) فى هذه السُّورة المفعول الثانى (و (آمِنا) صفة؛ و (البلد) فى إِبراهيم المفعول الأَول(1/147)
و (آمنا) المفعول الثانى) و (قيل) : لأنَّ النكرة اذا تكرَّرت صارت معرفة. وقيل: تقديره فى البقرة: هذا البلد (بلدا) آمناً، فحذف اكتفاءً بالإِشارة، فتكون الآيتان سواء.
قوله {وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} فى هذه السُّورة وفى آل عمران (علينا) لأَنَّ (إِلى) للانتهاء إِلى الشىء من أَىّ جهة كان، والكُتُب منتهِية إِلى الأَنبياء، وإِلى أُمّتهم جميعاً، والخطاب فى هذه السُّورة للأُمَّة، لقوله تعالى: (قولوا) فلم يصحَّ إِلاَّ (إِلى) ؛ و (على) مختصّ بجانب الفَوْق، وهو مختصّ بالأَنبياء؛ لأَنَّ الكتب منزَّلة عليهم، لا شِركة للأُمة فيها. وفى آل عمران (قل) وهو مختصّ بالنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم دون أَمَّته؛ فكان الَّذى يليق به (على) وزاد فى هذه السُّورة (وما أُوتى) وحُذف من آل عمران (لأَنَّ) فى آل عمران قد تقدَّم ذكر الأَنبياء حيث قال {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} .
قوله {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} كُرِّرت هذه الآية لأَن المراد بالأَول الأَنبياء، وبالثانى أَسلاف اليهود والنَّصارى. قال القَفَّال: الأَول لإِثبات مِلَّة إِبراهيم لهم جميعاً؛ والثانى لنفى اليهوديَّة والنصرانية عنهم.(1/148)
قوله {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ} هذه الآية مكرَّرة ثلاث مرات. قيل: إِنَّ الأَولى لنسخ القبلة (والثانية للسبب، وهو قوله: {وَإِنَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ رَبِّكَ} والثالثة للعلَّة، وهو قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} . وقيل: الأُولى فى مسجد المدينة، والثانية (خارج المسجد، والثالثة) خارج البلد. وقيل فى الآيات خروجان: خروج إِلى مكان تُرى فيه القبلة، وخروج إِلى مكان لا تُرى، أَىِ الحالتان فيه سواءَ. وقيل: إِنما كُرر لأَن المراد بذلك الحالُ والزمان والمكان. وفى الآية الأَولى [ {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} وليس فيها] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} [وفى الآية الثانية {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} ] وليس فيها {حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} فجمع فى الآية الثالثة بين قوله {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} وبين قوله {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} ليُعلم أَن النبى والمؤْمنين سواء.
قوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} ليس فى هذه السورة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} وفى غيرها {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} لأَن قبله {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ} فلو أَعاد أَلْبَس.(1/149)
قوله {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} خص العقل بالذكر؛ لأَنه به يُتوصَّل إِلى معرفة الآيات. ومثله فى الرعد والنحل والنور والروم.
قوله {مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} فى هذه السورة وفى المائدة ولقمان (ما وجدنا) لأَن أَلْفيت يتعدى إِلى مفعولين، تقول: أَلفيت زيداً قائماً، ووجدت يتعدى مرة إِلى مفعول واحد: وجدت الضالة؛ ومرة إِلى مفعولين: وجدت زيداً قائماً؛ فهو مشترك. وكان الموضع الأَول باللفظ الأَخصّ أَولى؛ لأَن غيره إّذا وقع موقعه فى الثانى والثالث عُلم أَنه بمعناه.
قوله {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} وفى المائدة {لاَ يَعْلَمُوْنَ} لأَنَّ العِلم أَبلغ درجةً من العقل، ولهذا يوصف تعالى بالعلم، لا بالعقل؛ وكانت دعواهم فى المائدة أبلغ؛ لقولهم {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَا} فادَّعَوا النهاية بلفظ (حَسْبنا) فنفى ذلك بالعلم وهو النِّهاية، وقال فى البقرة: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ولم يكن النِّهايةَ، فنفى بما هو دون العلم؛ ليكون كلُّ دعوَى منفيّة بما يلائمها.
قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} قدَّم (به) فى هذه السورة، وأَخّرها فى المائدة، والأَنعام، والنحل؛ لأَن تقديم الباءِ الأَصلُ؛ فإِنها(1/150)
تجرى مَجْرى الأَلِف والتشديدِ فى التَّعدِّى، وكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأَول أَوْلى بما هو الأَصل؛ ليُعلم ما يقتضيه اللفظُ، ثم قدم فيما سواها ما هو المُسْتنكر، وهو الذبح لغير الله، وتقديمُ ما هو الغرض أَولى. ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذى الحال، والظرف على العامل فيه؛ إِذا كان (أَكثر فى) الغرض فى الإِخبار.
قوله {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (بالفاءِ وفى السور الثلاث بغير فاء) لأَنه لمّا قال فى الموضع الأَوّل: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} صريحاً كان النفى فى غيره تضميناً؛ لأَنّ قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يدلّ على أَنه لا إِثم عليه.
قوله {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفى الأَنعام {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأَن لفظ الرب تكرر فى الأَنعام (مرات ولأَن فى الأَنعام) قولَه {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ} الآية وفيها ذكر الحُبُوب والثمار وأَتبعها بذكر الحيوان من الضأْن والمَعْز والإِبل والبقر وبها تربية الأَجسام (وكان) ذكر الرب بها أَليق.(1/151)
قوله {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أولائك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} الآية هنا على هذا النسق، وفى آل عمران {أولائك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ} لأَنَّ المنْكَر فى هذه السّورة أَكثر، فالتوعد فيها أَكثر: وإِن شئت قلت: زاد فى آل عمران {وَلاَ يُنْظَرُ إِلَيْهِمْ} فى مقابلة {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} .
قوله فى آية الوصيَّة {إِنَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} خُصَّ السَّمع بالذكر لما فى الآية من قوله {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} ؛ ليكون مطابقاً. وقال فى الآية الأُخرى بعدها {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لقوله {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} فهو مطابق معنًى.
قوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} (قيد) بقوله (منكم) وكذلك {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ولم يقيَّد فى قوله {وَمَنْ كَانَ مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ} اكتفى بقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ} ؛ لاتَّصاله "به".
قوله {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ؛ وقال بعدها: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوْهَا} لأَن (حدود) الأَول نَهْى، وهو قوله: {وَلاَ تُبَاشِرُوْهُنَّ} وما كان من الحدود نهياً أَمر بترك المقاربة، والحدّ الثَّانى أَمْر وهو بيان(1/152)
عدد الطلاق، بخلاف ما كان عليه العرب: من المراجعة بعد الطلاق من غير عدد، وما كان أَمراً أَمر بترك المجاوزة وهو الاعتداء.
قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} جميع ما فى القرآن من السؤال وقع الجوابُ عنه بغير فاء إِلاَّ فى قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا} فَإِنَّه بالفاء؛ لأَن الأَجوبة فى الجميع كانت بعد السّؤال؛ وفى طه قبل السّؤال؛ فكأَنه قيل: إِن سُئِلْت عن الجبال فقل.
قوله {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فى هذه السّورة، وفى الأَنفال {كُلَُهُ للهِ} ؛ لأَن القتال فى هذه السُّورة مع أَهل مكَّة، وفى الأَنفال مع جميع الكفار، فقيّده بقوله (كلّه) .
قوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} وفى آل عمران {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} الآية وفى التوبة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} الآية الأُولى للنبى والمؤمنين، والثانى للمؤمنين، والثالث للمجاهدين. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة} وفى آخر السّورة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ومثله فى الأَنعام، لأَنّه لمَّا بيّن فى الأوّل مفعول التفكّر(1/153)
وهو قوله {فِي الدنيا والآخرة} حذفه ممّا بعده للعلم. وقيل (فى) متعلقه بقوله {يُبَيِّنُ الله} .
قوله {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} بفتح التاء والثّانى بضمّها، لأَن الأَول من (نكحت) والثانى مِن (أنكحت) ، وهو يتعدّى إِلى مفعولين والمفعول الأَول فى الآية (المشركين) والثانى محذوف وهو (المؤمنات) أَى لا تُنكحوا المشركين النسّاء المؤمنات حتى يؤمنوا.
قوله {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ} أَجمعوا على تخفيفه إِلاَّ شاذّاً. وما فى غير هذه السورة فرئ بالوجهين، لأَن قبله {فَأَمْسِكُوهُنَّ} وقَبْل ذلك (فإِمساك) يقتضى ذلك التخفيف.
قوله {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ} وفى الطَّلاق {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ} الكاف فى ذلك لمجرّد الخطاب، لا محلّ له من الإِعراب فجاز الاقتصار على التَّوحيد، وجاز إِجراؤه على عدد المخاطبين. ومثله {عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} . وقيل: حيث جاء مُوَحَّدا فالخطاب للنبىّ صلَّى الله عليه وسلم. وخُصَّ بالتَّوحيد فى هذه الآية لقوله: {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} ، وجُمع فى الطَّلاق لمّا لم يكن بعدُ (منكم) .
قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} وقال فى(1/154)
الأُخرى {مِنْ مَعْرُوْفٍ} ؛ لأَن تقدير الأَوَّل فيما فعلن فى أَنفسهنّ (بأَمر الله وهو المعروف والثانى فيما فعلن فى أَنفسهنّ) من فعل من أَفعالهنَّ معروف، أَى جاز فعله شرعاً.
وقوله {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} ثمّ قال {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوْا} فكرّر تأْكيداً. وقيل ليس بتكرار؛ لأَن الأَوّل للجماعة، والثانى للمؤمنين. وقيل: كَرّره تكذيبا لمن زعم أَنَّ ذلك لم يكن بمشيئة الله.
قوله {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} بزيادة (من) موافقة لما بعدها؛ لأَن بعدها ثلاث آيات فيها (مِن) على التوالى؛ وهو قوله: {وَمَا تُنْفِقُوْا مِنْ خَيْرٍ} ثلاث مرات.
قوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} (يغفر) مقدَّم هنا، وفى غيرها إِلا فى المائدة؛ فإِنَّ فيها {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} لأَنها نزلت فى حقِّ السارق والسارقة، وعذابُهما يقع فى الدنيا فقُدّم لفظ العذاب، وفى غيرها قدّم لفظ المغفرة رحمة منه سبحانَه، وترغيباً للعباد فى المسارعة إِلى موجِبات المغفرة، جَعلَنا منهم آمين.(1/155)
فضل السورة
عن أَبى بُرَيدة عن أَبيه أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: "تعلَّموا البقرة؛ فإِن أَخذها بركة، وتركها حسرة، ولن يستطيعها البَطَلة". وقال صلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيطان لا يدخل بيتاً يُقرأُ فيه سورة البقرة" وعن عكرمة قال: أَول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة، مَنْ قَرأَها فى بيته نهاراً لم يدخل بيتَه شيطانٌ ثلاثة أَيّام. ومن قرأَها فى بيته ليلاً لم يدخله شيطان ثلاث ليال. ورُوى أَنَّ من قرأَها كان له بكلّ حرف أَجرُ مرابِطٍ فى سبيل الله. وعن أَنس قال [كان] الرّجل إِذا قرأَ سورة البقرة جَدّ فينا، أَى عَظُم فى أَعيننا. وعن ابن مسعود قال: كنَّا نعدّ من يقرأُ سورة البقرة مِن الفحول. وقد أَمَّرَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم فتى على جماعة من شيوخ الصحابة كان يحسن سورة البقرة. وقال صلى الله عليه وسلم: "اقرءُوا الزّهراوين: البقرة وآل عمران فإِنَّهما يأْتيان يوم القيامة كأَنهما غَمَامتان أَو غَيَايتان أَو فِرْقان من طير صوافّ يحاجَّان عن(1/156)
صاحبهما" وعنه صلَّى الله عليه وسلم أَنه قال: "يا علىُّ مَنْ قرأَ سورة البقرة لا تنقطع عنه الرحمة ما دام حيّا، وجعل الله البركة فى ماله: فإِن فى تعلّمها أَلفَ بركة، وفى قراءَتها عشرة آلاف بركة، ولا يتعاهدها إِلا مؤمن من أَهل الجنة، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ شِيث بن آدم عليهما السّلام. فمن مات من يوم قرأَها إِلى مائة يوم مات شهيداً".(1/157)
بصيرة فى الم. الله
من أَسمائها سورة آل عمران، والسُّورة التى يذكر فيها آل عمران، والزَّهراء.
وعمران المذكور هو عمران والد موسى وهارون عليهما السّلام وهو ابن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب. وأَما عمران والد مريم فهو ابن ماتان بن أَسعراد بن أَبى ثور.
وهذه السّورة مَدَنية باتِّفاق جميع المفسرين. وكذلك كلُّ سورة تشتمل على ذكر أَهل الكتاب. وعدد آياتها مئتان بإِجماع القُرَّاء.
وكلماتها ثلاثة آلاف وأَربعمائة وثمانون. وحروفها أَربعة عشر أَلفاً وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفاً.
والآيات المختلف فيها سبع: الم، {الإِنْجِيل} الثانى، {أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} {وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيل} ، {مِمَّا تُحِبُّونَ} ، {مَقَامَ إِبْرَاهِيم} ، والإِنجيل الأَول فى قوله بعضهم.(1/158)
مجموع فواصل آياتها (ل ق د اط ن ب م ر) يجمعها قولى: (لقد أَطنب مُرّ) والقاف آخر آية واحدة {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} والهمز آخر ثلاث آيات {لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} {إِنَّكَ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ} {كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} .
ومضمون السّورة مناظرة وَفْد نجران، إِلى نحو ثمانين آية من أَوّلها، وبيان المحكَم، والمتشابِه، وذمٌّ الكفَّار، وَمَذَمَّة الدنيا، وشَرَفُ العُقْبى، ومدح الصَّحابة، وشهادة التَّوحيد، والرَّد على أَهل الكتاب، وحديث ولادة مَرْيم، وحديث كَفَالة زكريا، ودعائه، وذكر ولادة عيسى، ومعجزاته، وقصة الحَوَاريّين، وخبر المباهلة، والاحتجاج على النَّصارى، ثمّ أَربعون آية فى ذكر المرتدِّين، ثم ذكر خيانة علماء يهودَ، وذكر الكعبة، ووجوب الحج، واختيار هذه الأُمّة الفُضْلى، والنَّهى عن موالاة الكفار، وأَهل الكتاب، ومخالفى المِلَّةِ الإِسلامية. ثم خمس وخمسون آية فى قصّة حَرْب أُحُدٍ، وفى التخصيص، والشكوى من أَهل المركز، وعذر المنهزِمين، ومنع الخَوض فى باطل(1/159)
المنافقين، (وتقرير قصّة الشهداء، وتفصيل غَزْوَة بدر الصغرى، ثم رجع إِلى ذكر المنافقين) فى خمس وعشرين آية، والطَّعن على علماء اليهود، والشكوى منهم فى نقض العهد، وترك بيانهم نعتَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المذكور فى التَّوراة، ثم دعواتِ الصحابة، وجدهم فى حضور الغزوات، واغتنامهم درجة الشهادة. وختم السورة بآيات الصبر والمصابرة والرِّباط.
وأَمّا الناسخ والمنسوخ فى هذه السورة فخمس آيات: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} . م بآية السّيف ن {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إِلى تمام ثلاث آيات م {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوْا} ن نزلت فى الستة الذين ارتدوا ثم تابوا وأَسلموا {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} {وَجَاهِدُوْا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} م {فاتقوا الله مَا استطعتم} ن.(1/160)
وأَما المتشابهات فقوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وفى آخرها {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} فعَدَل من الخطاب إِلى لفظ الغَيبة فى أَول السورة، واستمر على الخطاب فى آخرها؛ لأَن ما فى أَول السورة لا يتصل بالكلام الأَول، كاتصال ما فى آخر السورة به؛ فإِن اتصال قوله {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} بقوله {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيْهِ} معنوىّ، واتصال قوله {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} بقوله {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} لفظىّ ومعنوىّ جميعاً؛ لتقدم لفظ الوعد. ويجوز أَن يكون الأَول استئنافاً، والآخر من تمام الكلام.
قوله {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله} كان القياس: فأَخذناهم لكن لما عدل فى الآية الأُولى إِلى قوله {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} عدل فى هذه الآية أَيضا لتكون الآيات على منهج واحد. قوله {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ} ثم كرّر فى آخر الآية، فقال: {لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ} لأَن الأَول جَرَى مَجْرى الشهادة، وأَعاده ليجرى الثانى مجرى الحكم بصحّة ما شهد به الشهود.
قوله {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} كرّره مرتين؛ لأَنه وعيد عُطف عليه وعيد آخر فى الآية الأُولى، فإِن قوله {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيْر} معناه: مَصِيركم إِليه، والعقاب مُعَدٌّ له، فاستدركه فى الآية الثانية بوعد وهو قوله {وَاللهُ(1/161)
رَءُوْفٌ بِالْعِبَادِ} والرأْفة أَشد من الرحمة. قيل: ومِن رأْفته تحذيرُه.
قوله {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} قدم فى السورة ذكر الكِبَر واخر ذكر المرأَة، وقال فى سورة مريم {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} فقدم ذكر المرأة لأَن فى مريم قد تقدم ذكر الكِبَر فى قوله {وَهَنَ العَظْمُ مِنِي} ، وتأَخر ذكر المرأَة فى قوله {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} ثم أَعاد ذكرهما، فأَخر ذكر الكِبَر ليوافق (عتيا) ما بعده من الآيات وهى (سَويّاً) و (عشيّاً) و (صبيّاً) .
قوله {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} وفى مريم {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} لأَن فى هذه السورة تقدم ذكرُ المسيح وهو ولدها، وفى مريم تقدم ذكر الغلام حيث قال {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} .
قوله {فَأَنْفُخُ فِيْهِ} وفى المائدة (فيها) قيل: الضمير فى هذه يعود إِلى الطير، وقيل إِلى الطين، وقيل إِلى المهيَّأ، وقيل إِلى الكاف فإِنه فى معنى مثل. وفى المائدة يعود إلى الهيئة. وهذا جواب التذكير والتأنيث، لا جواب التخصيص، وإِنما الكلام وقع فى التخصيص وهل يجوز أَن يكون كل واحد منهما مكان الآخر أَم لا. فالجواب أَن يقال: فى هذه السُّورة إِخبار قبل الفعل، فوحَّده؛ وفى المائدة خطاب من الله له(1/162)
يوم القيامة، وقد سَبَق من عيسى عليه السلام الفعلُ مرّات والطير صالح للواحد والجمع.
قوله {بِإِذْنِ اللهِ} ذكره هنا مرتين، وفى المائدة {بِإِذْنِي} أَربعَ مرات لأَن ما فى هذه السُّورة من كلام عيسى، فما تصور أَن يكون من قِبَل البشر أَضافه إِلى نفسه، وهو الخَلْق الَّذى معناه التقدير، والنفخ الذى هو إِخراج الريح من الفم. وما [لا] يتصوّر أَضافه إِلى الله وهو قوله {فَيَكُوْنُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وأُبْرِئُ الأَكْمَهُ وَالأَبْرَصَ} مما [لا] يكون فى طوق البشر، فإِن الأَكمه عند بعض المفسرين الأَعمشُ، وعند بعضهم الأَعشى، وعند بعضهم من يولد أَعمى، وإِحياء الموتى من فعل الله فأَضافه إِليه. وما فى المائدة من كلام الله سبحانه وتعالى، فأَضاف جميع ذلك إلى صنعه إِظهاراً لعجز البشر، وأَن فعل العبد مخلوق الله. وقيل (بإِذن الله) يعود إِلى الأَفعال الثلاثة. وكذلك الثانى يعود إِلى الثلاثة الأُخرى.
قوله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} وكذلك فى مريم و [فى] الزخرف فى هذه القصَّة {إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} بزيادة (هو) قال تاج القُراء إِذا قلت: زيد قائم فيحتمل أَن يكون تقديره: وعمرو قائم. فإذا قلت زيد هو القائم خصصت القيام به، وهو كذلك فى الآية. وهذا مثاله لأَن(1/163)
(هو) يذكر فى هذه المواضع إِعلاماً بأَن المبتدأَ مقصور على هذا الخبر (وهذا الخبر) مقصور عليه دون غيره والذى فى آل عمران وقع بعد عشر آيات نزلت فى قصة مريم وعيسى، فاستغنت عن التأكيد بما تقدم من الآيات، والدَّلالة على أَن الله سبحانه وتعالى ربّه وخالقه لا أَبواه ووالده كما زعمت النصارى. وكذلك فى سورة مريم وقع بعد عشرين آية من قصتها. وليس كذلك ما فى الزخرف فإِنه ابتداء كلام منه فحسن التأكيد بقوله (هو) ليصير المبتدأ مقصوراً على الخبر المذكور فى الآية وهو إِثبات الربوبيَّة ونفى الأُبوّة، تعالى الله عند ذلك علوّاً كبيرًا.
قوله {بِأَنَّا مُسْلِمُوْنَ} فى هذه السورة، وفى المائدة {بِأَنَّنَا مُسْلِمُوْنَ} لأَن ما فى المائدة أَول كلام الحَوَاريين، فجاءَ على الأَصل، وما فى هذه السورة تكرار كلامهم فجاز فيه التخفيف (لأَن التخفيف) فرع والتكرار فرع والفرع بالفرع أَولى.
قوله {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ} وفى البقرة {فَلاَ تَكُونَنَّ} لأَن ما فى هذه السورة جاءَ على الأَصل، ولم يكن فيها ما أَوجب إِدخال نون التأكيد [فى الكلمة؛ بخلاف سورة البقرة فإن فيها فى أَول القصة {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ] بنون التأكيد فأَوجب الازدواجُ إِدخال النون فى الكلمة فيصير التقدير: فلنولِّينَّك قبلة ترضاها فلا تكوننَّ من الممترين.(1/164)
والخطاب فى الآيتين للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد (به) غيره.
قوله {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} وفى البقرة {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [الهدى] فى هذه السورة هو الدين، وقد تقدم فى قوله {لِمَنْ تَبِعَ دِيْنَكُمْ} (وهدى الله الإِسلام، وكأَنه قال بعد قولهم {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} قل إِن الدين عند الله الإِسلام كما سبق فى أَول السورة. والذى فى البقرة معناه القبلة لأَن الآية نزلت فى تحويل القبلة، وتقديره أَن قبلة الله هى الكعبة.
قوله {مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} ليس هاهنا (به) ولا واو العطف وفى الأَعراف {مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} بزيادة (به) وواوِ العطف لأَنَّ القياس من آمن به، كما فى الأَعراف؛ لكنها حُذفت فى هذه السورة موافقة لقوله {وَمَنْ كَفَرَ} فإِن القياس فيه أَيضاً (كفر به) وقوله {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} هاهنا حال والواو لا يزيد مع الفعل إِذا وقع حالاً، نحو قوله {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} و {دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ} وغير ذلك، وفى الأَعراف عطف على الحال؛ والحال قوله (توعدون) و (تصُدون) عطف عليه؛ وكذلك {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} .
قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم} هاهنا بإِثبات (لكم) وتأخير (به) وحذف(1/165)
(إن الله) وفى الأَنفال بحذف (لكم) وتقديم (به) وإِثبات (إِن الله) لأَن البُشْرى للمخاطبين؛ فبين وقال (لكم) وفى الأَنفال قد تقدم لكم فى قوله {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} فاكتفى بذلك؛ وقدم (قلوبكم) وأَخر (به) إِزواجاً (بين المخاطبين "فقال إِلى بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به" وقدم "به" فى الأنفال إِزدواجاً) بين الغائبين فقال {ومَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} وحذف (إِن الله) هاهنا؛ لأَن ما فى الأَنفال قصةُ بدر؛ وهى سابقة على ما فى هذه السورة، فإِنها فى قصة أُحد فأَخبر هناك أَن الله عزيز حكيم، فاستقر الخبر. وجعله فى هذه السورة صفة، لأَن الخبر قد سَبَق.
قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} بزيادة الواو لأَن الاتصال بما قبلها أَكثر من غيرها. وتقديره: ونعم أَجر العاملين المغفرةُ، والجنات، والخلودُ.
قوله {رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} بزيادة الأَنفس، وفى غيرها {رَسُوْلاً مِنْهُمْ} لأَن الله سبحانه مَنَّ على المؤمنين به، فجعله من أَنفسهم؛ ليكون موجبُ المِنَّة أَظهر. وكذلك قوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} لمَّا وصفه بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} جعله من أَنفُسهم ليكون موجب الإِجابة والإِيمان به أَظهر، وأَبين.(1/166)
قوله {جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} هاهنا بباء واحدة، إلا فى قراءة ابن عامر، وفى فاطر {بالبينات وبالزبر وبالكتاب} بثلاث باءَات؛ لأَن ما فى هذه السورة وقع فى كلام مبنى على الاختصار، وهو إِقامة لفظ الماضى فى الشرط مُقام لفظِ المستقبل، ولفظُ الماضى أَخفُّ، وبناءُ الفعل بالمجهول، فلا يُحتاج إِلى ذكر الفاعل. وهو قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوْكَ فَقَدْ كُذِّبَ} . [ثم] حذف الباءَات ليوافق الأَوّل فى الاختصار بخلاف ما فى فاطر فإِنَّ الشَّرط فيه بلفظ المستقبل والفاعل مذكور مع الفعل وهو قوله: {وَإِنْ يَكَذِّبُوْكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ثمّ ذكر بعده الباءَات؛ ليكون كله على نَسق واحد.
قوله: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} وفى غيره: {ومَأْوَيهمْ جَهَنَّمُ} لأَن ما قبله فى هذه السورة {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد مَتَاعٌ قَلِيلٌ} (أَى ذلك متاع فى الدنيا قليل) ، والقليل يدل على تراخٍ وإن صغر وقل، و (ثم) للتراخى وكان موافقا. والله أَعلم.(1/167)
فضل السّورة
عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: "تعلموا البقرة وآل عمران؛ فإِنَّهما الزهراوان، وإِنَّهما يأتيان يوم القيامة فى صُورة ملكين، يشفعان لصاحبهما، حتَّى يُدخِلاه الجنة" وتقدّم فى البقرةِ (يأتيان كأَنَّهما غَمامتان، أَو غيايتان، أَو فِرْقان من طير صوافّ، يُظِلاَّن قارئهما، ويشفعان) ويُروى بسند ضعيف: من قرأَ سورة آل عمران أُعطِى بكل آية منها أَماناً على جسر جهنَّم، يزوره فى كلِّ جمعة آدمُ ونوح وإِبراهيم وآل عمران، يَغْبطُونه بمنزلته من الله، وحديثُ علىٍّ (رَفعه) : من قرأَها لا يخرج من الدُّنيا حتَّى يرَى ربّه فى المنام؛ ذُكِر فى الموضوعات.(1/168)
بصيرة فى.. يأيها الناس اتقوا ربكم
هذه السّورة مدنيّة بإِجماع القُرَّاءِ.
وعدد آياتها مائة وخمس وسبعون، فى عدّ الكوفىّ، وستّ فى عدِّ البصرىّ، وسبع فى عدّ الشَّامىّ.
وكلماتها ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأَربعون. وحروفها ستَّة عشر أَلفاً وثلاثون حرفاً.
والآيات المختلف فيها {أَن تَضِلُّواْ السبيل} ، {عَذَابًا أَلِيْمًا} .
مجموع فواصل الآيات (م ل ان) يجمعها قولك (مِلْنَا) فعلى اللاَّم آية واحدة (السّبيل) وعلى النُّون آية واحدة (مهين) وخمس آيات منها على الميم المضمومة، وسائر الآيات على الأَلف.
واسم السّورة سورة النِّساءِ الكبرى، واسم سورة الطَّلاق سورةُ النِّساءِ الصّغرى.(1/169)
وأَمّا ما اشتملت عليه السّورة مجملاً فبيان خِلْقة آدم وحوَّاءَ، والأَمر [بصلة] الرّحم، والنَّهى عن أَكل مال اليتيم، وما يترتَّب عليه من عظم الإِثم، والعذاب لآكليه، وبيان المناكحات، وعدد النساءِ، وحكم الصَّداق، وحفظ المال من السّفهاءِ، وتَجربة اليتيم قبل دفع المال إِليه، والرِّفْق بالأَقارب وقت قسمة الميراث، وحكم ميراث أَصحاب الفرائض، وذكر ذوات المحارم، وبيان طَوْل الحُرَّةِ، وجواز التَّزَوُّج بالأَمَة، والاجتناب عن الكبائر، وفضل الرّجال على النِّساءِ، وبيان الحقوق، وحكم السّكران وقت الصلاة، وآية التيُّمم، وذمّ اليهود، وتحريفهم التوراة، وردّ الأَمانات إِلى أَهلها، وصفة المنافقين فى امتناعهم عن قبول أَوامر القرآن، والأَمر بالقتال، ووجوب رَدِّ السّلام، والنَّهى عن موالاة المشركين، وتفصيل قَتْل العمد والخطأ، وفضل الهجرةِ، ووزْر المتأَخِّرين عنها، والإِشارة إِلى صلاة الخوف حال القتال، والنَّهى عن حماية الخائنين، وإِيقاعُ الصّلح بين الأَزواج والزَّوجات، وإِقامة الشهادات، ومدح العدل، وذمّ المنافقين، وذمّ اليهود، وذكر قَصْدهم قتل عيسى عليه السّلام، وفضل الرّاسخين فى العلم، وإِظهار فساد اعتقاد النَّصارى، وافتخار الملائكة والمسيح بمقام العبوديّة، وذكر ميراث الكلالة، والإِشارة إِلى أَنَّ الغرض من بيان الأَحكام صيانةُ الخَلْق من الضَّلالة، فى قوله {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوْا} أَى كراهة أَن تضلُّوا. وأَمّا النَّاسخ والمنسوخ فى هذه السّورة ففى أَربع وعشرين آية {وَإِذَا(1/170)
حَضَرَ القسمة} م {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} ن {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ} الآية م {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} ن {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} م {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ن {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} م (الثَّيِّب بالثيب) ن {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} م {الزانية والزاني فاجلدوا} ن {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} بعض الآية م {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} ن والآيتان مفسّرتان بالعموم والخصوص {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} م والاستثناء فى قوله {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفْ} ن وقيل الآية مُحكمة {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} م والاستثناء فى قوله {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} ن {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ(1/171)
النسآء} م والاستثناء فى قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ن وقيل الآية محكمة {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} م والاستثناء منه ن فيما مضى {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} م {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} وقول النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "أَلا وإِنى حَرَّمت المُتْعَة" ن {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} م {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} ن أَراد مؤاكلتهم {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} م {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} ن {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} م آية السّيف ن {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُوْلُ} م {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِر لَهُمْ} ن {خُذُوْا حِذْرَكُمْ} م {لِيَنْفِرُوْا كآفَّة} ن {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} م آية السّيف ن {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} م {فَاقْتُلُوْا الْمُشْرِكِينَ} ن {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ(1/172)
عَدُوٍّ لَّكُمْ} م {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} ن {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} م {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ن وقوله {والذين لاَ يَدْعُونَ} إِلى قوله {وَمَنْ تَابَ} ن {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} م {إِلاَّ الذين تَابُواْ} ن {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} وقوله {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} م آية السّيف ن.
المتشابهات فى هذه السورة:
{والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ليس غيره أَى عليم بالمُضارة، حليم عن المُضارة.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم} بالواو، وفى براءَة (ذلك) بغير واو، لأَنَّ الجملة إِذا وقعت بعد أَجنبيَّة لا تحسن إِلاَّ بحرف العطف. وإِن كان بالجملة الثانية ما يعود إِلى الجملة الأَولى حسن إِثبات حرف العطف، وحسن الحذف؛ اكتفاءً بالعائد. ولفظ (ذلك) فى الآيتين يعود إِلى ما قبل الجملة، فحسن الحذف والإِثبات فيهما. ولتخصيص هذه السّورة بالواو وجهان لم يكونا فى براءَة: أَحدهما موافقة(1/173)
ما قبلها، وهى جملة مبدوءَة بالواو، وذلك قوله {وَمَنْ يَطِعِ الله} ؛ والثانى موافقة ما بعدها، وهو قوله: (وَلَهُ) بعد قوله: {خَالِداً فِيهَا} وفى براءَة [أَوعد] أَعداءَ الله بغير واو، ولذلك قال (ذلك) بغير واو.
وقوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فى أَوّل السّورة، وبعدها {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} وفى المائدة {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} لأَنَّ ما فى أَوّل السورة وقع فى حقِّ الأَحرار المسلمين، فاقتُصِر على لفظ {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} والثانية فى الجوارى، وما فى المائدة فى الكتابيّات فزاد {وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} حرمة للحرائر المسلمات، ولأَنهنَّ إِلى الصّيانة أَقرب، ومن الخيانة أَبعد، ولأَّنَّهنَّ لا يتعاطين ما يتعاطاه الإِماءُ والكتابيَّات من اتِّخاذ الأَخدان.
قوله: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فى هذه السّورة وزاد فى المائدة (منه) لأَنَّ المذكور فى هذه بعضُ أَحكام الوضوءِ والتيمّم، فحسن الحذف؛ والمذكور فى المائدة جميع أَحكامهما، فحسن الإِثبات والبيان.
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ختم الآية مرة بقوله (فقد افترى) ومرّة بقوله (فقد ضلَّ) لأَنَّ الأَوّل نزل فى اليهود، وهم الَّذين افتروْا على الله ما ليس فى كتابهم، والثَّانى نزل فى الكفار، ولم يكن لهم كتاب فكان ضلالهم أَشدّ.(1/174)
قوله {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب} وفى غيرها (يأهل الكتاب) لأَنَّه سبحانه استخفَّ بهم فى هذه الآية، وبالغ، ثمّ ختم بالطمس، وردِّ الوجوه على الأَدبار، واللَّعن، وأَنَّها كلَّها واقعة بهم.
قوله {دَرَجَة} ثمّ فى الاية الأُخرى {دَرَجَات} لأَنَّ الأُولى فى الدُّنيا والثانية فى الجنة. وقيل: الأُولى بالمنزلة، والثانية بالمنزل. وهى درجات. وقيل: الأُولى على القاعدين بعُذْر، والثانية على القاعدين بغير عذر.
قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} بالإِظهار هنا وفى الأَنفال، وفى الحشر بالإِدغام، لأَنَّ الثانى من المثلين إِذا تحرّك بحركة لازمة وجب إِدغام الأَوّل فى الثانى؛ أَلا ترى أَنَّك تقول ارْدُدْ بالإِظهار، ولا يجوز ارْدُدَا وارددوا وازددى، لأَنها تحركت بحركة لازمة (والأَلف واللام فى "الله" لازمتان، فصارت حركة القاف لازمة) و (ليس) الأَلف واللاَّم فى الرّسول كذلك. وأَمَّا فى الأَنفال فلانضمام (الرّسول) إليه فى العطف لم يدغم؛ لأَنَّ التقدير فى القاف أَن قد اتَّصل بهما؛ فإِنَّ الواو يوجب ذلك.
قوله {كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ} ، وفى المائدة: {قَوَّامِينَ(1/175)
للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط} لأَنَّ (الله) فى هذه السّورة متصل ومتعلِّق بالشَّهادة، بدليل قوله: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} أَى ولو تشهدون عليهم، وفى المائدة متَّصل ومتعلِّق بقوّامين، والخطاب للولاة بدليل قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ} الآية.
قوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوْهُ} وفى الأَحزاب {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} لأَنَّ هنا وقع الخير فى مقابلة السّوءِ فى قوله: {لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسَّوْءِ} والمقابلة اقتضت أَن يكون بإِزاءِ السُّوءِ الخيرُ، وفى الأَحزاب بعد (ما فى قلوبهم) فاقتضى العموم، وأَعمُّ الأَسماءِ شىءٌ. ثم ختم الآية بقوله: {فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا} .
قوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} وباقى ما فى هذه السّورة {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} لأَنَّ الله سبحانه ذكر أَهلَ الأَرض فى هذه الآية تبعاً لأَهل السّماوات، ولم يفردهم بالذكر لانضمام المخاطَبين إِليهم ودخولهم فى زُمْرتهم وهم كفَّارُ عبدة الأَوثان، وليسوا المؤْمنين ولا من أَهل الكتاب لقوله {وَإِنْ تَكْفُرُوْا} فليس هذا قياساً مُطَّرِداً بل علامة.
قوله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء} بواو العطف وقال فى آخر السّورة {يَسْتَفْتُونَكَ} بغيرواو، لأَنَّ الأَوّل لمّا اتَّصل بما بعده وهو قوله: {فِي النسآء} وصله بما قبله بواو العطف والعائد جميعاً، والثَّانى لَمَّا انفصل عمّا(1/176)
بعده اقتصر من الاتِّصال على العائد وهو ضمير المستفتين و [ليس] فى الآية متَّصل بقوله: {يَسْتَفْتُونَكَ} لأَنَّ ذلك يستدعى: قل الله يفتيكم فيها أَى فى الكلالة، والذى يتَّصل بيستفتونك محذوف، يحتمل أَن يكون (فى الكلالة) ، ويحتمل أَن يكون فيما بدالهم من الوقائع.
فضل السّورة
رُوى عن النبى صلَّى الله عليه وسلَّم: مَنْ قرأَ سورة النِّساءِ فكأَنَّما تصدّق على كلِّ مَن ورثَ ميراثاً، وأُعطى من الأَجر كمن اشترى محرَّراً، وبرئ من الشرك، وكان فى مشيئة الله مِن الَّذين يتجاوز عنهم. وعنه صلَّى الله عليه وسلَّم منْ قرأَ هذه السّورة كان له بعدد كلِّ امرأَة خلقها الله قنطاراً من الأَجر، وبعددهنَّ حسناتٍ ودرجات، وتزوّج بكلِّ حرف منها زوجةً من الحُور العين. ويروى: يا علىّ، مَنْ قرأَ سورة النِّساءِ كُتب له مثلُ ثواب حملة العرش، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب مَن يموت فى طريق الجهاد.
هذه الأَحاديث ضعيفة جدًّا وبالموضوعات أَشبه والله أَعلم.(1/177)
بصيرة فى.. يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود
اعلم أَنَّ هذه السّورة مَدَنيَّة بالإِجماع سوى آية واحدة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإِنَّها نزلت يوم عَرَفة فى الموقف، ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم راكب على ناقته العضباءِ، فسقطت الناقةُ على ركبتيها من ثِقَل الْوَحْى، وشرف الآية.
عدد آياتها مائة وعشرون فى عدّ الكوفىّ، واثنتان وعشرون فى عَد الحجاز والشأْم، وثلاث وعشرون فى عَدِّ البصرىّ.
وكلماتها أَلفان وثمان مائة وأَربع، وحروفها أَحَدَ عشر أَلفاً، وتسع مائة وثلاثة وثلاثون حرفاً.
المختلف فيها ثلاث: العقود، {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ، {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} .
وفواصل آياتها (ل م ن د ب ر) يجمعها (لم ندبّر) اللام فى ثلاث كلّها سبيل.
واسمها سورة المائدة، لاشتمالها على قِصّة نزول المائدة من السّماءِ، وسورةُ(1/178)
الأَحبار؛ لاشتمالها على ذكرهم فى قوله: {والربانيون والأحبار} وقوله: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} .
وجملة مقاصد السّورة المشتملة عليها: الأَمرُ بوفاءِ العهود، وبيان ما أَحلَّه الله تعالى من البهائم، وذكر تحريم المحرّمات، وبيان إِكمال الدِّين، وذكر الصيد، والجوارح، وحِلّ طعام أَهل الكتاب، وجوازُ نكاح المحصنات منهن، وتفصيل الغُسْل، والطَّهارة، والصّلاَة، وحكم الشهادات، والبيّنات وخيانة أَهل الكتاب القرآنَ، ومن أُنزل عليه، وذكر المنكرَات من مقالات النصارى، وقصّة بنى إِسرائيل مع العمالقة، وحبس الله تعالى إِيَّاهم فى التِّيه بدعاءِ بلْعَام، وحديث قتل قابيل أَخاه هابيل، وحكم قُطَّاع الطريق، وحكم السّرقة، وحَدّ السُّرَّاق، وذمّ أَهل الكتاب، وبيان نفاقهم، وتجسسهم وبيان الحكم بينهم، وبيان القِصاص فى الجراحات، وغيرها، والنَّهى عن موالاة اليهود والنَّصارى، والرّدّ على أَهل الرّدّة، وفضل الجهاد، وإِثبات ولاية الله ورسوله للمؤْمنين، وذمِّ اليهود (فى) قبائح أَقوالهم، وذمّ النّصارى بفاسد اعتقادهم، وبيان كمال عداوة الطَّائفتين للمسلمين، ومدح أَهل الكِتاب الَّذين قدِموا من الحبشة، وحكم اليمين، وكفَّارتها، وتحريم الخمر، وتحريم الصّيد على المُحْرم، والنهى عن السؤالات الفاسدة،(1/179)
وحكم شهادات أَهل الكتاب، وفَصل الخصومات، ومحاورة الأُمم رسلَهم فى القيامة، وذكر معجزات عيسى، ونزول المائدة، وسؤال الحقِّ تعالى إِيّاه فى القيامة تقريعاً للنصارى، وبيان نفع الصدق يوم القيامة للصّادقين.
الناسخ والمنسوخ:
فى هذه السّورة تسع آيات {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} م [ {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ن {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} م] {إِلاَّ الذين تَابُواْ} ن للعموم {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} م {وَأَنِ احكم بَيْنَهُم} ن للتخيير: وقيل: هى محكمة {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} م آية السّيف ن {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} م آخر الآية ن جُمع فيها الناسخ [والمنسوخ] وهى من نوادر آيات القرآن {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} فى السّفر من الدين م {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} ن نسخت لشهاداتهم فى السّفر والحضر {فَإِنْ عُثِرَ} م ذَوَىْ عدل منكم ن {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة} م شهادة أَهل الإِسلام ن.
المتشابهات:
قوله {واخشون اليوم} بحذف الياءِ، وكذلك {واخشون وَلاَ(1/180)
تَشْتَرُواْ} وفى البقرة وغيرها {وَاخْشَوْنِى} بإِثبات الياءِ، لأَنَّ الإِثبات هو الأَصل، وحذف و {واخشون اليوم} من الخطِّ لمَّا حذف من اللفظ، وحذف {واخشون} و (لا) موافقة لما قبها.
قوله: {واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ثمّ أَعاد فقال: {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} لأَنَّ الأَوّل وقع على النِّيَّة، وهى ذات الصّدور، والثانى على العمل. وعن ابن كَثير أَنَّ الثانية نزلت فى اليهود، وليس بتكرار.
قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وقال فى الفتح {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وقع ما فى هذه السّورة موافقة لفواصل الآى، ونصب ما فى الفتح موافقة للفواصل أَيضاً، ولأَنَّه مفعول (وعد) ، وفى مفعول (وعد) فى هذه السّورة أَقوال: أَحدها محذوف دلَّ عليه (وَعَد) ، خلاف ما دل عليه أَوْعَدَ أَى خيراً. وقيل: محذوف، وقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} تفسيره. وقيل: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} جملة وقعت مَوْقع المفرد، ومحلَّها نصب، كقول الشَّاعر:
وجدنا الصَّالحين لهم جزاءٌ ... وجنَّات وعينا سلسبيلاً
فعطف (جنَّات) على (لهم جزاءٌ) . وقيل: رفع على الحكاية، لأَنَّ الوعد قول؛ وتقديره قال الله: لهم مغفرة. وقيل: تقديره: أَن لهم مغفرة، فحذف (أَنَّ) فارتفع ما بعده.(1/181)
قوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} وبعده {يُحَرِّفُونَ الكلم مِنْ بَعْدِ مَّوَاضِعِهِ} لأَنَّ الأُولى فى أَوائل اليهود، والثَّانية فيمن كانوا فى زمن النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلم، أَى حرّفوها بعد أَن وضعها الله مواضعها، وعرفوها وعملوا بها زماناً.
قوله: {وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} كرّر لأَنَّ الأُولى [فى اليهود] والثانية فى حَقِّ النَّصارى. والمعنى: لن ينالوا منه نصيباً. وقيل: معناه: تركوا بعض ما أُمروا به.
قوله: {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} ثمّ كرّرها، فقال: {يَا أَهْلَ الكتاب} لأَنَّ الأُولى نزلت فى اليهود حين كتموا (صفات النبى صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم من التوراة، والنصارى حين كتموا) بشارة عيسى بمحمّد صلَّى الله عليه وسلم فى الإِنجيل، وهو قوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} ثمّ كرّر فقال: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} فكرّر {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} أَى شرائعكم فإِنكم على ضلال لا يرضاه الله، {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أَى على انقطاع منهم ودُرُوس ممّا جاءُوا به.
قوله: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} ،(1/182)
ثم كرّر فقال: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير} لأَنَّ الأُولى نزلت فى النَّصارى حين قالوا: إِنَّ الله هو المسيح بن مريم، فقال: ولله ملك السّماوات والأَرض وما بينهما ليس فيهما معه شريك، ولو كان عيسى إلهاً لاقتضى أَن يكون معه شريكاً، ثمّ من يذُبّ عن المسيح وأُمِّه وعَمّن فى الأَرض جميعاً إِن أَراد إِهلاكَهم، فإِنَّهم مخلوقون له، وإِنَّ قدرته شاملة عليهم، وعلى كل ما يريد بهم. والثانية نزلت فى اليهود والنصارى حين قالوا: نحن أَبناءُ الله وأَحبّاؤُه فقال: ولله ملك السّماوات والأَرض وما بينهما، والأَب لا يملك ابنه ولا يعذِّبه، وأَنتم مصيركم إِليه، فيعذِّب من يشاءُ منكم، ويغفر لمن يشاءُ.
قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا} وقال فى سورة إِبراهيم {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا} لأَنَّ تصريح اسم المخاطب مع حرف الخطاب يدُلُّ على تعظيم المخاطب به و [لمَّا] كان ما فى هذه السّورة نِعماً جساماً ما عليها من مزيد وهو قوله {جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} صرّح، فقال: يا قوم، ولموافقة ما قبله وما بعده من النداءِ وهو {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا} {ياموسى إِنَّ فِيهَا} {ياموسى إِنَّا} ولم يكن ما فى إِبراهيم بهذه المنزلة فاقتصر على حرف الخطاب.(1/183)
قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} كرّره ثلاث مرّات، وختم الأُولى بقوله: الكافرون، والثانية بقوله: الظَّالمون، والثالثة بقوله: الفاسقون، قيل: لأَنَّ الأُولى نزلت فى حكَّام المسلمين، والثانية فى اليهود، والثالثة فى النَّصارى. وقيل: الكافر والظَّالم والفاسق كلَّها بمعنى واحد، وهو الكفر، عُبِّر عنه بأَلفاظ مختلفة؛ لزيادة الفائدة، واجتناب صورة التكرار. وقيل: ومن لم يحكم بما أَنزل الله إِنكاراً له فهو كافر، ومن لم يحكم بالحقِّ جهلاً وحَكمَ بضدّه فهو فاسق، ومن لم يحكم بالحق مع اعتقاده وحكم بضدّه فهو ظالم، وقيل: ومن لم يحكم بما أَنزل الله فهو كافر بنعمة الله، ظالم فى حكمه، فاسق فى فعله.
قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} كرّر لأَنَّ النَّصارى اختلفت أَقوالهم، فقالت اليعقوبيّة: الله تعالى ربّما تجلَّى فى بعض الأَزمان فى شخص، فتجلَّى يومئذ فى شخص عيسى، فظهرت منه المعجزات، وقالت الملكانيّة الله اسم يجمع أباً وابنا وروح القدس، اختلف بالأَقانيم والذاتُ واحدة. فأَخبر الله عزَّ وجلَّ أَنَّهم كلَّهم كفَّار.
قوله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً(1/184)
رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم} ذكر فى هذه السّورة هذه الخلال جملة؛ لأَنها أَوّل ما ذكِرت، ثمّ فُصِّلت.
فضل السّورة
عن ابن عمر أَنَّه قال: نزلت هذه السّورة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهو على راحلته، فلم يستطع أَن تحمله، حتى نزل عنها. ويروى بسند ضعيف: من قرأَ هذه السّورة أُعطى من الأَجر بعَدَد كلِّ يهودىّ ونَصرانىّ فى دار الدّنيا عشر حسنات، ومُحى عنه عشرُ سيّئات، ورُفع له عشرُ درجات. وفى رواية: مَنْ قرأَ هذه السّورة أُعطى بكل يهودىّ ونصرانىّ على وجه الأَرض ذَرّات، بكلِّ ذرّة منها حسنةٌ، ودرجات كلُّ درجة منها أَوسع من المشرق إِلى المغرب سبعمائة أَلف أَلف؛ ضعيف. ويروى أَنَّه قال: يا علىّ مَن قرأَ سورة المائدة شَفَع له عيسى، وله من الأَجر مثل أُجور حَوَاريىّ عيسى، ويُكتب له بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب عُمَّار بيت المَقْدِس.(1/185)
بصيرة فى.. الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض
هذه السورة مكّيّة، سوى ستّ آيات منها: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} إِلى آخر ثلاث آيات {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إلى آخر ثلاث آيات. هذه الآيات السّت نزلت بالمدينة فى مرّتين، وباقى السّورة نزلت بمكة دفعة واحدة.
عدد آياتها مائة وخمس وستون آية عند الكوفيّين، وستّ عند البصريّين والشَّأْميّين، وسبع عند الحجازىّ.
وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر أَلفاً ومائتان وأَربعون.
والمختلف فيها أَربع آيات {الظلمات والنور} {بِوَكِيلٍ} {كُنْ فَيَكُوْن} {إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} .
فواصل آياتها (ل م ن ظ ر) يجمعها (لمَ نظر) .(1/186)
ولهذه السّورة اسمان: سورة الأَنعام، لما فيه من ذكر الأَنعام مكرّراً {وَقَالُواْ هاذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ} {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} ، وسورة الحُجّة؛ لأَنَّها مقصورة على ذكر حُجّة النبوّة. وأَيضاً تكرّرت فيه الحجّة {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} .
مقصود السّورة على سبيل الإِجمال، ما اشتمل على ذكره: من تخليق السّماوات والأَرض، وتقدير النُّور والظلمة، وقضاءِ آجال الخَلْق، والرّد على منكِرى النبوّة، وذكر إِنكار الكفَّار فى القيامة، وتمنّيهم الرّجوع إِلى الدّنيا، وذكر تسلية الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عن تكذيب المكذِّبين، وإِلزام الحجّة على الكفار، والنَّهى عن إِيذاءِ الفقراءِ، واستعجال الكفَّار بالعذاب، واختصاص الحقّ تعالى بالعلم المغيّب، وقهره، وغلبته على المخلوقات، والنَّهى عن مجالسة النَّاقضين ومؤانستِهم، وإِثبات البعث والقيامة، وولادة الخليل عليه السلام، وعرْض الملَكوت عليه، واستدلاله، حال خروجه من الغار، ووقوع نظره على الكواكب، والشمس، والقمر، ومناظرة قومه، وشكاية أَهل الكتاب، وذكرهم حالة النزع، وفى القيامة، وإِظهار بُرْهان التَّوحيد ببيان البدائع والصّنَائع،(1/187)
والأَمر بالإِعراض عن المشركين، والنَّهى عن سبِّ الأَصنام، وعُبّادها، ومبالغة الكفَّار فى الطّغيان، والنَّهى عن أَكل ذبائح الكفَّار، ومناظرة الكفار، ومحاورتهم فى القيامة، وبيان شَرْع عَمْرو بن لُحىّ فى الأَنعام بالحلال والحرام، وتفصيل محرّمات الشريعة الإِسلامية، ومُحْكَمَات آيات القرآن، والأَوامر والنَّواهى من قوله تعالى {قُلْ تَعَالُوْا} إِلى آخر ثلاث آيات، وظهور أَمارات القيامة، وعلاماتها فى الزَّمن الأَخير، وذكر جزاءِ الإِحسان الواحد بعشرة، وشكر الرّسول على تبرّيه من الشرك، والمشركين، ورجوعه إِلى الحق فى مَحياه ومَمَاته، وذكر خلافة الخلائق، وتفاوت درجاتهم، وختم السّورة بذكر سرعة عقوبة الله لمستحِقِّيها، ورحمته، ومغفرته لمستوجبيها، بقوله {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيْمٌ} .
النَّاسخ والمنسوخ
الآيات المنسوخة فى السّورة أَربعَ عشرة آية {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} م {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} ن {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} م آية السّيف ن {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ} إِلى قوله {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُوْنَ} م {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} ن {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} م {قَاتِلُواْ(1/188)
الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} ن {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} م آية السّيف ن {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} م آية السّيف ن {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} م آية السّيف ن {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} م آية السّيف ن {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَليه} م {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ن {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} م آية السّيف ن {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} م آية السّيف ن.
المتشابهات
قوله: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ} وفى الشعراءِ {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ} لأَنَّ سورة الأَنعام متقدّمة فقيّد التكذيب بقوله: {بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} ثمّ قال: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} على التمام، وذكر فى الشعراءِ {فَقَدْ كَذَّبُواْ} مطلقا؛ لأَن تقييده فى هذه السّورة يدلّ عليه، ثمّ اقتصر على السّين هناك بد (فسوف) ليتَّفق اللفظان فيه على الاختصار.
قوله {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} فى بعض المواضع بغير واو؛ كما فى هذه السّورة، وفى بعضها بالواو، وفى بعضها بالفاءِ؛ هذه الكلمة تأتى فى القرآن على وجهين: أَحدهما متَّصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فذكره بالأَلف(1/189)
والواو، ليدلّ الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وكذا الفاءُ، ولكنَّها أَشدّ اتِّصالاً بما قبلها، والثانى متَّصل بما الاعتبارُ فيها بالاستدلال، فاقتُصِر على الأَلف دون الواو والفاءِ، ليجرى مَجْرَى الاستئناف؛ ولا يَنْقُصُ هذا الأَصلَ قوله {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير} فى النَّحل؛ لاتِّصالها بقوله {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وسبيله الاعتبار بالاستدلال، فبنى عليه {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير} .
قوله {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض [ثُمَّ انظروا} فى هذه السورة فحسب. وفى غيرها: {سِيرُواْ فِي الأرض] فَاْنظُرُواْ} لأَنَّ ثُمَّ للتراخى، والفاءَ للتعقيب، وفى هذه السّورة تقدّم ذكرُ القرون فى قوله {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} ثمّ قال {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًاءَاخَرِيْنَ} فأُمِرُوا باستقراءِ الدِّيار، وتأَمُّل الآثار، وفيها كثرة فيقع ذلك (فى) سير بعد سير، وزمان بعد زمان، فخصّت بثمّ الدّالة على التَّراخى بعد الفعلين، ليُعلَم أَنَّ السّير مأمور به على حِدَة؛ ولم يتقدّم فى سائر السّور مثلُها، فخُضّت بالفاءِ الدَّالة على التعقيب.
قوله {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ليس بتكرار لأَنَّ الأَوّل فى حقِّ الكفَّار، (والثانى) فى حقِّ أَهل الكتاب.(1/190)
قوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ [لاَ يُفْلِحُ الظالمون} وقال فى يونس (فمن) بالفاءِ، وخَتم الآية بقوله {إِنَّهُ] لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُوْنَ} لأَنَّ الآيات الَّتى تقدّمت فى هذه السّورة عُطِف بعضها على بعض بالواو، وهو قوله {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هاذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ... وَإِنَّنِي بَرِيءٌ} ثمّ قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} وخَتَم الآية بقوله: {الظالمون} ليكون آخر الآية [موافقا للأَول. وأَما فى سورة يونس فالآيات التى تقدمت عطف بعضها على بعض بالفاءِ وهو قوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ثم قال: فمن أَظلم (بالفاءِ وختم الآية] بقوله: {المجرمون} أَيضاً موافقة لما قبلها وهو قوله: {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} فوصفهم بأَنَّهم مجرمون، وقال بعده {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} فختم الآية بقوله: المجرمون ليعلم أَنَّ سبيل (هؤُلاءِ سبيل) مَن تقدّمهم.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وفى يونس {يَسْتَمِعُونَ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة نَزَل فى أَبى سفيان، والنَّضْر بن الحارث، وعُتْبَة، وشَيْبَةَ، وأُمَيَّةُ، وأُبىّ بن خَلَفَ، فلم يكثروا ككثرة قوله (مَن) فى يونس لأَنَّ المراد بهم جميع الكفَّار، فحمل هاهنا مرَّة على لفظ (مَنْ) فوُحِّدَ؛(1/191)
لقلًَّتهم، ومرَّة على المعنى، فجمع؛ لأَنَّهم وإِن قَلُّوا جماعةٌ. وجُمع ما فى يونس ليوافق اللَّفظ المعنى. وأَمَّا قوله فى يونس: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} فسيأْتى فى موضعه إِن شاءَ الله تعالى.
قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ثمّ أَعاد فقال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} لأَنَّهم أَنكروا النَّار فى القيامة، وأَنكروا الجزاءَ والنَّكال، فقال فى الأُولى: {إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ، وفى الثَّانية {عَلَى رَبِّهِمْ} أَى جزاءِ ربِّهم ونكالِه فى النار، وختم بقوله: {فَذُوْقُوْا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُوْنَ} .
قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ليس غيره. وفى غيرها بزيادة (نموت ونحيا) لأَنَّ ما فى هذه السّورة عند كثير من المفسرين متَّصل بقوله ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه وقالوا إِن هى إِلاَّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولم يقولوا ذلك، بخلاف ما فى سائر السُّوَر؛ فإِنهم قالوا ذلك؛ فحكى الله تعالى عنهم.
قوله: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} قدّم اللَّعب على اللَّهو فى موضعين هنا، وكذلك فى القتال، والحديد، وقدّم اللَّهو على اللَّعب فى الأَعراف، والعنكبوت، وإِنما قدّم اللَّعب فى الأَكثر لأَنَّ(1/192)
اللعب زمانه الصبا واللهو زمانه الشباب، وزمان الصبا مقدّم على زمان الشباب. يُبَيِّنه ما ذكر فى الحديد {اعْلَمُوْا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الشبَّان {وَزِيْنَةٌ} كزينة النِّسوان {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الإِخوان {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر السُّلطان. وقريب من هذا فى تقديم لفظ اللعب على اللَّهو قوله {وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} وقدّم اللَّهو فى الأَعراف لأَنَّ ذلك فى القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأَ بما به الإِنسان انتهى من الحالتين. وأَما العنكبوت فالمراد بذكرها زمانُ الدُّنيا، وأَنَّه سريع الانقضاءِ، قليل البقاءِ، وإِنَّ الدَّار الآخرة لهى الحيوان أَى الحياة الَّتى لا بداية لها، ولا نهاية لها، فبدأَ بذكر اللهو؛ لأَنَّه فى زمان الشَّباب، وهو أَكثر من زمان اللعب، وهو زمان الصِّبا.
قوله: {أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} ثمّ قال: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} وليس لهما ثالث. وقال: فيما بينهما {أَرَأَيْتُمْ} وكذلك فى غيرها، ليس لهذه الجملة فى العربيّة نظير، لأَنَّه جمْع بين علامَتَى خطاب، وهما التاءُ والكاف، والتَّاءُ اسم بالإِجماع، والكاف حرف عند البصريين يفيد الخطاب فحسْبُ، والجمع بينهما يدلُّ على أَن ذلك تنبيه على شىء، ما عليه من مزيد، وهو ذكر(1/193)
الاستئصال بالهلاك، وليس فيما سواهما ما يدلّ على ذلك، فاكتُفِىَ بخطاب واحد والله أَعلم.
قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُوْنَ} فى هذه السورة، وفى الأَعراف: {يَضَّرَّعُوْنَ} بالإِدغام لأَنَّ هاهنا وافق ما بعده وهو قوله: {جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوْا} ومستقبل تضرَّعوا يتضرَّعون لا غير. قوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات} مكرّر؛ لأَنَّ التقدير: انظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصْدِفُونَ عنها؛ فلا نُعرض عنهم بل نكرّرها لعلهم يفقهون.
قوله: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فكرّر {لَكُمْ} وقال فى هود {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} فلم يكرّر {لَكُمْ} لأَنَّ فى هود تقدّم {إِنِّيْ لَكُمْ نّذِيْرٌ} وعَقِبه {وَمَا نَرَى لَكُمْ} وبعده {أَنْ أَنْصَحُ لَكُمْ} فلمّا تكرّر {لَكُمْ} فى القصّة أَربع مرَّات اكتفى بذلك.
قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ} فى هذه السّورة، وفى سورة يوسف: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} منوَّناً؛ لأَنَّ فى هذه السّورة تقدّم {بَعْدَ} {وَلَكِنْ ذِكْرَى} فكان {الذِّكْرَى} أَليقَ بها.
قوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} فى هذه السّورة؛ وفى آل عمران: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}(1/194)
وكذلك فى الرّوم، ويونس {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} لأَنَّ [ما] فى هذه السّورة وقعت بين أَسماءِ الفاعلين وهو فالق الحبّ، فالق الإِصباح وجاعل اللَّيل سكناً، واسم الفاعل يُشْبه الاسم من وجه، فيدخله الأَلفُ واللاَّم، والتنوينُ، والجرُّ (من وجه) وغير ذلك، ويشبه الفعل من وجه، فيعمل عمل الفعل، ولا يثنى و (لا) يجمع إِذا عمل، وغير ذلك. ولهذا جاز العطف عليه بالاسم نحو قوله: الصّابرين والصّادقين، وجاز العطف عليه بالفعل نحو قوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً} ، ونحو قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} فلمّا وقع بينهما ذكر {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} بلفظ الفعل و {وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} بلفظ الاسم؛ عملاً بالشّبَهَين وأُخِّر لفظ الاسم؛ لأَنَّ الواقع بعده اسمان، والمتقدّم اسم واحد، بخلاف ما فى آل عمران؛ لأَنَّ ما قبله وما بعده أَفعال. وكذلك فى يونس والرّوم قبله وبعده أَفعال. فتأَمّل فيه؛ فإِنّه من معجزاتِ القرآن.
قوله {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ثمّ قال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات(1/195)
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وقال بعدهما {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأَنَّ مَن أَحاط علماً بما فى الآية الأُولى صار عالِماً، لأَنَّه أَشرف العلوم، فختم بقوله: يعلمون؛ والآية الثانية مشتملة على ما يَستدعى تأمُّلاً وتدبُّراً، والفقه علم يحصل بالتفكُّر والتدبُّر، ولهذا لا يوصف به الله سبحانه وتعالى، فختم الآية بقوله: {يَفْقَهُونَ} ومَنْ أَقَرَّ بما فى الآية الثالثة صار مؤمناً حَقّاً، فختم الآية بقوله {يُؤْمِنُوْنَ} وقوله {ذلكم لآيَاتٍ} فى هذه السّورة، لظهور الجماعات وظهور الآيات (عمّ جميع) الخطاب وجُمع الآيات.
قوله: {أَنْشَأَكُمْ} ، وفى غيرها {خَلَقَكُمْ} لموافقة ما قبلها، وهو {أَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} وما بعدها {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} .
قوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، وفى الآية الأُخرى {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} لأَنَّ أَكثر ما جاءَ فى القرآن من هاتين الكلمتين جاءَ بلفظ التَّشابه، نحو قوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فجاءَ {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} فى الآية الأُولى و {مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} فى الآية الأُخرى على تلك القاعدة. ثمّ كان لقوله "تشابه" معنيان: أَحدهما الْتَبس، والثانى تساوى، وما فى(1/196)
البقرة معناه: الْتبس فحَسْب، فبيّن بقوله: {مُشْتَبِهاً} ومعناه: ملتبساً أَنَّ ما بعده من باب الالتباس أَيضاً، لا من باب التساوى والله أَعلم.
قوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إلاه إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فى هذه السورة، وفى المؤمن {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ} ؛ لأَنَّ فيها قبله ذكر الشركاء، والبنين، والبنات، فدفع قول قائله بقوله: لا إِله إِلاَّ هو، ثمّ قال {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وفى المؤْمن قبله ذكر الخَلْق وهو {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} لا على نفى الشَّريك، فقدم فى كل سورة ما يقتضيه ما قبله من الآيات.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} وقال فى الآية الأُخرى من هذه السّورة: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} لأَنَّ قوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} وقع عقِيب آيات فيها ذِكر الرّب مرّات وهى {جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} الآيات ... فختمها بذكر الرّب؛ ليوافق {أُخْرَاهَا أُوْلاَهَا} .
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ} وقع بعد قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} فختم بما بدأَ.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} وفى ن: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} بزيادة الباء، ولفظ الماضى؛ لأَنَّ(1/197)
إِثبات الباء هو الأَصل؛ كما فى {ن والقلم} وغيرها من السّور؛ لأَن المعنى لا يعمل فى المفعول به، فقُوَّى بالباءِ. وحيث حُذفت أَضِمرَ فعل يعمل فيما بعده. وخصّت هذه السّورة بالحذف موافقة لقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وعُدِل إِلى لفظ المستقبل؛ لأَنَّ الباءَ لمّا حُذِفتْ الْتبس اللفظ بالإِضافة - تعالى الله عن ذلك - فنبّه بلفظ المستقبل على قطع الإِضافة؛ لأَنَّ أَكثر ما يستعمل بلفظ (أَفعل مَنْ) يستعمل مع الماضى؛ أَعلم مَن دَبّ ودَرَجَ، وأَحسن مَن قام وقعدَ، وأَفضل من حجّ واعتمر. فتنبّهْ فإِنَّه مِن أَسرار القرآن.
قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} بالفاءِ حيث وقع، وفى هود {سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} بغير فاء؛ لأَنَّه تقدّم فى هذه السورة وغيرها (قل) فَأَمرهم أَمْرَ وعيد بقوله (اعملوا) أَى اعملوا فستجزَونَ، ولم يكن فى هود (قل) فصار استئنافاً. وقيل: {سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} فى سورة هود صفة لعامل، أَى إِنّى عامل سوف تعلمون، فحَذَف الفاءَ.
قوله {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} ، وقال فى النحل: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا(1/198)
مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} فزاد {مِن دُونِهِ} مرّتين، وزاد (نحن) لأَنَّ لفظ الإِشراك يدل على إِثبات شريك لا يجوز إِثباته، ودلَّ على تحريم أَشياءَ، وتحليل أَشياءَ من دون الله، فلم يحتج إِلى لفظ {مِن دُونِهِ} ؛ بخلاف لفظ العبادة؛ فإِنَّها غير مستنكرة، وإِنَّما المستنكرة عبادة شىء مع الله سبحانه وتعالى ولا يدل على تحريم شئ مما دلَّ عليه (أَشرك) ، فلم يكن بُدٌّ (من تقييده بقوله: "من دونه". ولَمَّا حذف "من دونه" من الآية مرَّتين حذف معه (نحن) لتطَّرد الآية فى حكم التَّخْفيف.
قوله: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفى سبحان {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} على الضِّدّ؛ لأَنَّ التقدير: من إِملاق [بكم] نحن نرزقكم وإِياهم وفى سبحان: خشية إِملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإِيَّاكم.
قوله: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وفى الثانية {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وفى الثالثة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ} لأَنَّ الآية (الأُولى) مشتملة على خمسة أَشياء، كلُّها عظام جسَام، وكانت الوصيّة بها من أَبلغ الوصايا، فختم الآية بما فى الإِنسان من أَشرف السّجايا (وهو العقل) الَّذى امتاز به(1/199)
الإِنسان عن سائر الحيوان؛ والآية الثانية مشتملة على خمسة أَشياء يقبح تعاطيها وارتكابها، وكانت الوصيّة بها تجرى مجْرَى الزَّجر والوعظ، فختم الآية بقوله: {تَذَكَّرُونَ} أَى تتَّعظون بمواعظ الله؛ والآية الثالثة مشتملة على ذكر الصّراط المستقيم، والتَّحريض على اتباعه، واجتناب مُنافيه، فختم الآية بالتَّقوى الَّتى هى مِلاك العمل وخير الزَّاد.
قوله: {جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض} فى هذه السّورة، وفى يونس والملائكة {جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} لأَنَّ فى هذه العشر الآيات تكرّر ذكر المخاطبين مرَّات، فعرّفهم بالإِضافة؛ وقد جاءَ فى السّورتين على الأَصل، وهو {جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِيْنَ فِيْهِ} . قوله: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال فى الأَعراف {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة وقع بعد قوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وقوله: {وَهُوَ الَّذِيْ جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض} فقُيِّد قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بالَّلام ترجيحاً للغفران على العقاب. ووقع ما فى الأَعراف بعد قوله: {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} وقوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} فقيّد العقاب بالَّلام لما تقدّم من الكلام، وقيّد المغفرة أَيضا بها رحمةً منه للعباد؛ لئلاَّ يترجّح جانب الخوف على الرّجاءِ. وقدّم {سَرِيْعُ الْعِقَابِ} فى الآيتين مراعاة لفواصل الآى.(1/200)
فضل السّورة
عن النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: "نزلت علىَّ سورةُ الأَنعام جملةً واحدة يُشيّعها سبعون أَلفَ مَلَك، لهم زَجَل بالتسبيح، والتحميد فمن قرأَ سورة الأَنعام صلَّى عليه أَولئك السّبعون أَلف مَلَك، بعدد كل آية من الأَنعام، يوماً وليلة، وخلق الله من كلِّ حرف مَلكاً يستغفرون له إِلى يوم القيامة" وعنه صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: "مَنْ قرأَ ثلاث مرّات من أَوّل سورة الأَنعام إِلى قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تَكْسِبُوْنَ} وَكل الله به أَربعين أَلف مَلَك، يكتبون له مثل عبادتهم إِلى يوم القيامة، ونزل مَلَك من السّماءِ السّابعة، ومعه مِرْزَبَّة من حديد، فإِذا أَراد الشيطان أَن يوسوس ويوحى فى قلبه شيئاً ضربه بها ضربة كانت بينه وبينه سبعون حجاباً، فإّذا كان يوم القيامة يقول الرّب تبارك وتعالى: عِشْ فى ظلِّى وكُلْ من ثمار جنَّتى، واشرب من ماءِ الكوثر، واغتسل من ماءِ السّلسبيل، وأَنت عبدى، وأَنا ربّك". وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "من قرأَ هذه السّورة كان له نور من جميع الأَنعام الَّتى خلقها الله فى الدّنيا ذَرّاً بعدد كل ذرٍّ أَلفُ حسنة ومائة أَلف درجة" ويروى أَنَّ هذه السّورة معها من كلِّ سماءِ أَلفُ أَلف مَلَك لهم زَجَل بالتَّسبيح والتَّهليل، فمن قرأَها تستغفر له تلك اللَّيلة. وعن جعفر الصّادق أَنَّه قال:(1/201)
من قرأَ هذه السّورة كان من الآمنين يوم القيامة. وإِن فيها اسم الله [فى] تسعين موضعاً. فمن قرأَها يغفر له سبعين مرّة. وعن النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم: "يا علىّ مَنْ قرأَ سورة الأَنعام كُتِب اسمه فى ديوان الشهداءِ، ويأْخذ ثواب الشُّهداءِ، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب الراضين بما قسم الله لهم". وقال كعب الخير فُتحت التوراة بقوله (الحمد لله الذى خلق السماوات والأَرض) وختمت بقوله {الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} .(1/202)
بصيرة فى.. ألمص
هذه السّورة نزلت بمكة إِجماعاً.
وعدد آياتها مائتان وستُّ آيات فى عدّ قرّاءِ كوفة والحجاز، وخمس فى عدّ الشَّام والبصرة.
وكلماتها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة. وحروفها أَربعة عشر أَلفا وثلاثمائة وعشرة أَحرف.
والآيات المختَلف فيها خمس: المص {بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} {ضِعْفاً مِّنَ النار} على بنى إِسرائِيل.
مجموع فواصل آياته (م ن د ل) على الدّال منها آية واحدة: المص، وعلى اللاَّم واحدة: آخرها إِسرائيل.
ولهذه السّورة ثلاثة أَسماء: سورة الأَعراف، لاشتمالها على ذكر الأَعراف فى {ونادى أَصْحَابُ الأعراف} وهى سُور بين الجنَّة والنَّار. الثَّانى سورة الميقات؛ لاشتمالها على ذكر ميقات موسى فى قوله: {وَلَمَّا جَآءَ(1/203)
موسى لِمِيقَاتِنَا} . الثالث سورة الميثاق؛ لاشتمالها على حديث الميثاق فى قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} وأشهرها الأَعراف.
مقصود السّورة على سبيل الإِجمال: تسليةُ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم فى تكذيب الكفَّار إِيَّاه (و) ذكر وزن الأَعمال يوم القيامة، وذكر خَلْق آدم، وإِباءُ إِبليس من السّجدة لآدم، ووسوسته لهما لأَكل الشّجرة، وتحذير بنى آدمَ من قبول وسوسته، والأَمر باتِّخاذِ الزِّينة، وستر العورة فى وقت الصّلاة، والرّد على المكذِّبين، وتحريم الفواحش ظاهراً وباطناً، وبيان مَذَلَّة الكُفَّار فى النَّار، ومناظرة بعضهم بعضاً، ويأسهم من دخول الجنَّة، وذكر المنادِى بين الجنَّة والنَّار، ونداء أَصحاب الأَعراف لِكلا الفريقين وتمنِّيهم الرّجوع إِلى الدّنيا، وحُجّة التوحيد، والبرهان على ذات الله تعالى وصفاته، وقصة نوح والطُّوفان، وذكر هود وهلاك عاد، وحديث صالح وقهر ثمود، وخبر لوط وقومه، وخبر شُعَيْب وأَهل مَدْيَن، وتخويف الآمنين من مكر الله، وتفصيل أَحوال موسى (وفرعون والسّحرة، واستغاثة بنى إِسرائيل، وذكر الآيات المفصَّلات، وحديث خلافة هارون، وميقات موسى) ، وقصّة عِجْل السّامِرىّ فى غَيْبَةِ موسى و (رجوع موسى) إِلى قومه، ومخاطبته لأَخيه هارون، وذكر النبى الأُمِّىّ العربىّ صلى الله عليه وسلم، والإِشارة إِلى ذكر الأَسباط، وقصّة أَصحاب السّبْت، وأَهْل أَيْلة، وذم علماءِ أَهل الكتاب، وحديث الميثاق ومعاهدة الله تعالى الذَّرية وطرد(1/204)
بَلْعام بسبب ميله إِلى الدنيا، [و] نصيب جهنَّم من الجنِّ والإِنس، وتخويف العباد بقرب يوم القيامة، وإِخفاء علمه على العالمين، وحديث صحبة آدم وحواء فى أَوّل الحال، وذمّ الأَصنام وعُبّادها وأَمر الرّسول بمكارم الأَخلاق، وأَمر الخلائق بالإِنصات والاستماع لقراءَة القرآن، وخُطْبة الخطباءِ يوم الجمعة، والإِخبار عن خضوع الملائكة فى الملكوت، وانقيادهم بحضرة الجلال فى قوله: {يُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} .
المتشابهات:
قوله: {مَا مَنَعَكَ} هنا، وفى ص {ياإبليس مَا مَنَعَكَ} وفى الحِجْر {قَالَ ياإبليس مَالَكَ} بزيادة {ياإبليس} فى السورتين؛ لأَن خطابه قَرُب من ذكره فى هذه السّورة وهو قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ} فحسن حذف النِّداءَ والمنادى، ولم يقرب فى ص قربَه منه فى هذه السّورة؛ لأَن فى ص {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} بزيادة {استكبر} فزاد حرف النِّداءِ والمنادى، فقال: {ياإبليس مَا مَنَعَكَ} وكذلك فى الحِجْر فإِنَّ فيها {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُوْنَ مَعَ السَّاجِدِينَ} بزيادة (أَبَى) فزاد حرف النِّداء والمنادى فقال {ياإبليس مَالَكَ} .
قوله: {أَلاَّ تَسْجُدَ} وفى ص {أَنْ تَسْجُدَ} وفى الحِجْر {أَلاَّ تَكُونَ} فزاد فى هذه السّورة (لا) . وللمفسِّرين فى (لا) أَقوال: قال بعضهم: (لا) صِلَة(1/205)
كما فى قوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ} . وقال بعضهم: الممنوع من الشىء مضطّر إِلى خلاف ما مُنِع منه. وقال بعضهم: معناه: مَنْ قال لك: لا تسجدْ. وقد ذكر فى مطوّلات مبسوطة. والذى يليق بهذا الموضع ذكرُ السبب الذى خَصَّ هذه السّورة بزيادة (لا) دون السّورتين. قال تاج القرّاء: لمّا حُذِف منها (يا إِبليس) واقتُصر على الخطاب جُمع بين لفظ المنع ولفظ (لا) زيادةً فى النفى، وإِعلاماً أَنَّ المخاطب به إِبليس؛ خلافاً للسّورتين؛ فإِنه صرّح فيهما باسمه. وإِن شئت قلت: جمع فى هذه السّورة بين ما فى ص والحِجْر، فقال: ما منعك أَن تسجد، مالك أَلاَّ تسجد، وحذف (مالك) لدلالة (الحال ودلالة) السّورتين عليه، فبقى: ما منعك أَلاَّ تسجد. وهذه لطيفة فاحفظها.
قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، وفى ص مثله. وقال فى الحجر: {لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} فجاءَ على لفظ آخر، لأَنَّ السّؤال فى الأَعراف وص: ما منعك، فلمّا اتَّفق السّؤال اتَّفق الجواب، وهو قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، ولمّا زاد فى الحجر لفظ الكون فى السّؤال وهو قوله {مَالَكَ أَلاَّ تَكُوْنَ مَعَ السَّاجِدِيْنَ} زاد فى الجواب أَيضاً لفظ الكون فقال: {لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} .
قوله: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وفى الحجر وفى ص {رَبِّ فَأَنْظِرْنِّى} لأَنه سبحانه لمّا اقتصر فى السّؤال على الخطاب دون صريح الاسم فى هذه(1/206)
السّورة، اقتصر فى الجواب أَيضاً على الخطاب، دون ذكر المنادى. وأَمَّا زيادة الفاء فى السّورتين دون هذه السّورة فلأَنَّ داعية الفاء ما تضمّنه النِّداء من أَدْعو أَو أنادى؛ نحو قوله: {رَبَّنّا فَاغْفِرْ لَنَا} أَى أَدعوك، وكذلك داعية الواو فى قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا} فحذف المنادَى، فلمّا حذفه انحذفت الفاء.
قوله: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} هنا، وفى السّورتين (فإِنّك) ؛ لأَنَّ الجواب يُبنى على السّؤال، ولمّا خلا السّؤال فى هذه السّورة عن الفاءِ خلا الجواب عنه، ولمّا ثبت الفاءُ فى السّؤال فى السّورتين ثبتت فى الجواب، والجواب فى السّور الثلاث إِجابة، وليس باستجابة.
قوله: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} فى هذه السّورة وفى ص {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} ، وفى الحِجْر: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} لأَنَّ ما فى هذه السّورة موافق لما قبله فى الاقتصار على الخطاب دون النداءِ، وما فى الحِجْر موافق لما قبله من مطابقة النِّداءَ، وزاد فى هذه السّورة الفاءَ التى هى للعطف ليكون الثانى مربوطاً بالأَوّل، ولم يدخل فى الحجر، فاكتفى بمطابقة النداءِ (لامتناع النداءِ) منه؛ لأَنَّه ليس بالذى يستدعيه النداءُ؛ فإِن ذلك يقع مع(1/207)
السّؤال والطلب، وهذا قسم عند أَكثرهم بدليل ما فى ص، وخبرٌ عند بعضهم. والَّذى فى ص على قياس ما فى الأَعراف دون الحِجْر؛ لأَنَّ موافقتهما أكثر على ما سبق، فقال: {فَبِعِزَّتِكَ} وهو قسم عند الجميع، ومعنى {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} يئول إِلى معنى {فَبِعِزَّتِكَ} والله أَعلم. وهذا الفصل فى هذه السّورة برهان لامع. وسأَل الخطيبُ نفسَه عن هذه المسائل، فأَجاب عنها، وقال: إِنَّ اقتصاص ما مضى إِذا لم يُقصد به أَداءُ الأَلفاظ بعينها، كان اتِّفاقها واختلافها سواءً إِذا أَدّى المعنى المقصود، وهذا جواب حسن إِن رضِيت به كُفِيت مُؤَنة السّهر إِلى السّحر.
قوله: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} ليس فى القرآن غيره؛ لأَنَّه سبحانه لمّا بالغ فى الحكاية عنه بقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} الآية بالغ فى ذمّه فقال: اخرج منها مذءُوماً مدحوراً، والذَّأْم أَشدّ الذم.
قوله: (فكلا) سبق فى البقرة. قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} بالفاءِ [حيث] وقع إِلاَّ فى يونس، فإِنَّه جملة عُطفت على جملة بينهما اتِّصال وتعقيب، وكان الموضع لائقا بالفاءِ، وما فى يونس يأتى فى موضعه.(1/208)
قوله: {وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ} ما فى هذه السّورة جاءَ على القياس، وتقديره: وهم كافرون بالآخرة، فقدّم (بالآخرة) تصحيحاً لفواصل الآية، وفى هود لمّا تقدّم {هاؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} ثمّ قال: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ولم يقل (عليهم) والقياس ذلك التبس أَنَّهم هم أَم غيرهم، فكرّر وقال: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} ليعلم أَنَّهم هم المذكورون لا غيرهم، وليس (هم) هنا للتَّأْكيد كما زعم بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يزاد مع الأَلف واللاَّم، ملفوظاً أَومقدّراً.
قوله: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} هنا، وفى الرّوم بلفظ المستقبل وفى الفرقان وفاطر بلفظ الماضى، لأَنَّ ما قبلها فى هذه السّورة ذِكر الخوف والطَّمع، وهو قوله: {وَادْعُوْهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} وهما يكونان فى المستقبل لا غير، فكان (يرسل) بلفظ المستقبل أَشبه بما قبله، وفى الرّوم قبله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ} فجاءَ بلفظ المستقبل ليوافق ما قبله. وأَمَّا فى الفرقان فإِنَّ قبله {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الآية (وبعد الآية) (وهو(1/209)
الَّذى جعل لكم [ومرج وخلق] وكان الماضى أَليق به. وفى فاطر مبنىّ على أَوّل السّورة {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} وهما بمعنى الماضى، فبنى على ذلك (أَرسل) بلفظ الماضى؛ ليكون الكلّ على مقتضَى اللَّفظ الَّذى خصّ به.
قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} هنا بغير واو، وفى هود والمؤمنين (ولقد) بالواو؛ لأَنَّه لم يتقدّم فى هذه السّورة ذكرُ رسول فيكونَ هذا عطفاً عليه، بل هو استئناف كلام. وفى هود تقدّم ذكرُ الرُّسُل مرّات، وفى المؤمنين تقدّم ذكر نوح ضِمناً؛ لقوله {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُوْنَ} ؛ لأَنَّه أَوّل مَن صَنعَ الفلك، فعطف فى السّورتين بالواو.
قوله: {أَرْسَلْنَا نُوْحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ} بالفاءِ هنا، وكذا فى المؤمنين فى قصّة نوح، وفى هود فى قصّة نوح، {إِنِّي لَكُمْ} بغير فاء، وفى هذه السّورة فى قصّة عاد بغير فاء؛ لأَنَّ إِصبات الفاءِ هو الأَصل، وتقديره أَرسلنا نوحاً فجاءَ فقال، فكان فى هذه السّورة والمؤمنين على ما يوجبه اللَّفظ. وأَمّا فى هود فالتقدير: فقال إِنى فأَضمر ذلك قال، فأَضمر معه الفاءَ. وهذا كما قلنا فى قوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ(1/210)
أَكْفَرْتُمْ} أَى فقال لهم: أَكفرتم، فأَضمر القول والفاءَ معاً وأَمّا فى قصّة عاد فالتقدير: وأَرسلنا إِلى عاد أَخاهم هوداً فقال، فأَضمر أَرسلنا، وأَضمر الفاءَ؛ لأَنَّ الفاء لفظ (أَرسلنا) .
قوله: {قَالَ الملأ} بغير واو فى قصّة نوح وهود فى هذه السّورة، وفى هود والمؤمنين (فقال) بالفاء، لأَن ما فى هذه السورة فى القصّتين لا يليق بالجواب وهو قولهم لنوح {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ظَلاَلٍ مُبِين} وقولهم لهود {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِين} بخلاف السّورتين، فإِنَّهم أَجابوا فيهما بما زعموا أَنَّه جواب.
قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} فى قصّة نوح وقال فى قِصّة هود {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ} لأَنَّ ما فى هذه الآية {أُبَلِّغُكُمْ} بلفظ المستقبل، فعطف عليه {وَأَنصَحُ لَكُمْ} كما فى الآية الأُخرى {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} فعطف الماضى (على الماضى) ، فكن فى قصّة هود قابل باسم الفاعل قولهم له {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِين} ليقابَل الاسم بالاسم.(1/211)
قوله: {أُبَلِّغُكُمْ} فى قصّة نوح وهود بلفظ المستقبل وفى قصّة صالح وشعيب {أَبْلَغْتُكُمْ} بلفظ الماضى، لأَنَّ [ما] فى قصّة نوح وهود وقع فى ابتداءِ الرّسالة، و [ما] فى قصّة صالح وشُعَيب وقع فى آخر الرّسالة، ودُنوّ العذاب.
قوله: {رِسَالاَتُ رَبِّي} فى القِصَصِ إِلاَّ فى قصّة صالح؛ فإِنَّ فيها (رسالة) على الواحدة لأَنَّه سبحانه حَكَى عنهم بعد الإِيمان بالله والتقوى أَشياءَ أُمِروا بها إِلاَّ فى قصّة صالح؛ فإِنَّ فيها ذكر الناقة فقط، فصار كأَنَّه رسالة واحدة. وقوله: {بِرِسَالاَتِي وبِكَلاَمِي} مختلف فيهما.
قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} وفى يونس {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} لأَنَّ أَنجينا ونجّينا للتَّعدّى، لكنَّ التشديد يدلّ على الكثرة والمبالغة، وكان فى يونس {وَمَنْ مَعَهُ} ولفظ (من) يقع على أَكثر ممّا يقع عليه (الَّذين) لأَنَّ (مَن) يصلح للواحد والاثنين، والجماعة، والمذكر، والمؤَنَّث، بخلاف الذين فإِنَّه لجمع المذكر فحسب، وكان التَّشديد مع (مَن) أَليق.(1/212)
قوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفى هود، {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} وفى الشعراءِ {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لأَنَّ فى هذه السّورة بالغ فى الوعظ، فبالغ فى الوعيد، فقال: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وفى هود لمّا اتَّصل بقوله {تَمَتَّعُوْا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} وصفه بالقرب فقال: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} وزاد فية الشعراءِ ذكر اليوم لأَنَّ قبله: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} والتقدير: لها شرب يوم معلوم، فختم الآية بذكر اليوم، فقال: عذاب يوم عظيم.
قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} على الواحدة وقال: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} حيث ذكرَ الرّجفة وَهى الزلزلة وَحّد الدّار، وحيث ذكر الصّيحة جَمَعَ؛ لأَنَّ الصّيحة كانت من السّماءِ، فبلوغها أَكثر وأَبلغ من الزلزلة، فاتَّصل كلُّ واحد بما هو لائق به.
قوله: {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} وفى غيره {أَنْزَلَ} لأَنَّ أَفعل كما ذكرنا آنفاً للتعدّى، وفَعَّل للتعدّى والتَّكثير، فذكر فى الموضع الأَوّل بلفظ المبالغة؛ ليجرى مجرى ذكر الجملة والتفصيل، أَو ذكر الجنس والنَّوع، فيكون الأَوّل كالجنس، وما سواه كالنَّوع.(1/213)
قوله: {وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً} فى هذه السّورة، وفى غيرها {مِنَ الْجِبَال} لأَنَّ [ما] فى هذه السّورة تقدّمه {مِنْ سُهُوْلِهَا قُصُورًا} فاكتفى بذلك.
قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} وفى غيرها {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} لأَنَّ ما فى هذه وافق ما بعده وهو قوله {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} بالاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخ وإِنكار، وقال بعده: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُوْنَ} فزاد مع الاستفهام (إِنَّ) لأَن التقريع والتَّوبيخ والإِنكار فى الثانى أَكثر. ومثله فى النَّمل: {أَتَأْتُوْنَ} وبعده أَئِنكم وخالف فى العنكبوت فقال: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} فجمع بين أَئِنَّ وأَئن وذلك لموافقة آخِر القصّة، فإِنَّ فى الآخر {إِنَّا مُنَجُّوْكَ} و {إِنَّا مُنْزِلُوْنَ} فتأَمّل فيه؛ فإِنَّه صعب المستخرج.
قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} هنا بلفظ الاسم، وفى النَّمل {قَوْمٌ تَجْهَلُوْنَ} بلفظ الفعل. أَو لأَنَّ كلّ إِسراف جهل وكلَّ جهل إِسراف، ثمّ ختم الآية بلفظ الاسم؛ موافقة لرءُوس الآيات المتقدّمة، وكلها أَسماءُ:(1/214)
للعالمين، الناصحين، المرسلين، جاثمين، كافرون، مؤْمنون، مفسدون. وفى النَّمل وافق ما قبلها من الآيات، وكلها أَفعال: تبصرون، يتَّقون، يعملون.
قوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} بالواو فى هذه السّورة. وفى سائر السّور (فما) بالفاءِ؛ لأَنَّ ما قبله اسم، والفاء للتعقيب، والتعقيب يكون مع الأَفعال. فقال فى النَّمل {تَجْهَلُوْنَ فَمَا كَانَ} وكذلك فى العنكبوت {وَتَأْتُوْنَ فِي نَادِيْكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ} وفى هذه السّورة {مُسْرِفُوْنَ وَمَا كَانَ} .
قوله: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ} فى هذه السّورة وفى النَّمل {أخرجوا آلَ لُوطٍ} ما فى هذه السّورة كناية فسّرها ما فى السورة الَّتى بعدها، وهى النَّمل ويقال: نزلت النَّمل أَوّلاً، فصرّح فى الأُولى، وكَنَّى فى الثانية.
قوله: {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (هاهنا، وفى النمل: {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين} أَى كانت فى علم الله من الغابرين) .
قوله: {بَمِا كَذَّبُوْا مِنْ قَبْل} هنا وفى يونس {بِمَا كَذَّبُوْا بِهِ} لأَنَّ أَوّل القصّة هنا {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا} وفى الآية {ولاكن كَذَّبُواْ} وليس بعدها الباء، فخَتَم القصّة بمثل ما بدأَ به، فقال: كذَّبوا من قبل. وكذلك فى يونس وافق ما قبله وهو {كَذَّبُوْهُ} {فَنَجَّيْنَاهُ} ثمّ(1/215)
{كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فخَتَم بمثل ذلك، فقال: {بِمَا كَذَّبُوْا بِهِ} . وذهب بعض أَهل العلم إِلى أَنَّ ما فى حقِّ العقلاءِ من التكذيب فبغير الباء؛ نحو قوله: كذَّبوا رسلى، وكذَّبوه، وغيره؛ وما فى حقِّ غيرهم بالباءِ؛ نحو كَّذبوا بآياتنا وغيرها. وعند المحقِّقين تقديره: فكذَّبوا رسلنا بردِّ آياتنا، حيث وقع.
قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} ، وفى يونس {نَطْبَعُ} بالنون؛ لأَنَّ فى هذه السّورة قد تقدّم ذكر الله سبحانه بالتَّصريح، والكناية، فجمع بينهما فقال: {وَنَطْبَعُ على قُلوبِهِم} بالنّون، وختم الآية بالتَّصريح فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} وأَمّا فى يونس فمبنىّ على ما قبله: من قوله: {فَنَجَّيْنَاهُ} {وَجَعَلْنَاهُمْ} {ثُمَّ بَعَثْنَا} بلفظ الجمع، فختم بمثله، فقال: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوْبِ الْمُعْتَدِين} .
قوله: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} وفى الشعراءِ {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} ؛ لأَنَّ التقدير فى هذه الآية: قال الملأُ من قوم فرعون وفرعونُ بعضُهم لبعض، فحذف (فرعون) لاشتمال الملأ من قوم فرعون على اسمه؛ كما قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أَى آل فرعون وفرعون، فحذف (فرعون) ، لأَنَّ آل فرعون اشتمل على اسمه. فالقائل هو فرعون نفسه(1/216)
بدليل الجواب، وهو (أَرْجِه) بلفظ التوحيد، والملأ هم المقول لهم؛ إِذ ليس فى الآية مخاطبون بقوله: {يُخْرِجُكُمْ مِنْ أَرَْضِكُمْ} غيرهم. فتأَمّل فيه فإِنَّه برهان للقرآن شاف.
قوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وفى الشعراءِ {مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} لأَنَّ الآية (الأُولى فى هذه السورة بنيت على الاقتصار [وليس] كذلك الآية) الثانية، ولأَنَّ لفظ السّاحر يدل على السّحر.
قوله: {وَأَرْسِلْ} ، وفى الشعراءِ: {وَابْعَثْ} لأَنَّ الإِرسال يفيد معنى البعث، ويتضمّن نوعاً من العُلُوّ؛ لأَنه يكون من فوق؛ فخُصّت هذه السّورة به، لمّا التبس؛ ليعلم أَنَّ المخاطَب به فرعون دون غيره.
قوله: {بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيْمٍ} وفى الشُّعراءِ بكلِّ {سَحَّارٍ} لأَنَّه راعى ما قبله فى هذه السّورة وهو قوله: {إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} وراعى فى الشُّعراءِ الإِمامَ فإِنَّ فيه (بكلِّ سَحّار بالأَلف) وقرئَ فى هذه السّورة {بِكُلِّ سَحَّارٍ} أَيضاً طلباً للمبالغة وموافقةً لما فى الشعراءِ.
قوله: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ} وفى الشعراءِ {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ} لأَنَّ القياس فى هذه السّورة وجاءَ السّحرة فرعون وقالوا، أَو فقالوا، لا بدّ من ذلك؛ لكن أَضمر فيه (فلمّا) فحسُن حذف الواو.(1/217)
وخصّ هذه السّورة بإِضمار (فلمّا) لأَنَّ ما فى هذه السّورة وقع على الاختصار والاقتصار على ما سبق. وأَمّا تقديم فرعون وتأْخيره فى الشعراءِ لأَنَّ التَّقدير فيهما: فلمّا جاءَ السّحرة فرعون قالوا لفرعون، فأَظهر الأَول فى هذه السّورة لأَنَّها الأُولى، وأَظهر الثَّانى فى الشَّعراءِ؛ لأَنَّها الثانية.
قوله: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وفى الشُّعراءِ {إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِيْنَ} (إِذاً) فى هذه السّورةِ مضمرة مقدّرة؛ لأنَ (إِذاً) جزاء، ومعناه: إِن غَلبتم قرّبتكم، ورفعتُ منزلتكم. وخصّ هذه السّورة بالإِضمار اختصاراً.
قوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وإِمَّا أَنْ نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} وفى طه {وَإِمَّا أَنْ نَّكُوْنَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} راعى فى السّورتين أَواخر الآى. ومثله {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينْ} فى السّورتين، وفى طه {سُجَّدًا} وفى (السّورتين) أَيضاً {ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وليس فى طه {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وفى السّورتين {رَبِّ مُوْسَى وَهَارُوْنَ} وفى طه {رَبِّ هَارُوْنَ وَمُوْسَى} (وفى هذه السورة: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ} [وفى الشعراءِ: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُوْنَ لأُقَطِّعَنَّ} ] وفى طه {فلأُقَطِّعَنَّ} وفى السّورتين [ {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} ، وفى طه] : {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِيْ جُذُوْعِ النَّخْلِ} . وهذا كلّه لمراعاة فواصل الآى؛ لأَنَّها مرعيّة يبتنى عليها مسائل كثيرة.(1/218)
قوله: {ءَامَنْتُمْ بِهِ} (وفى السّورتين: آمنتم) له) لأَنَّ هنا يعود إِلى ربّ العالمين وهو المؤْمن (به) سبحانه وفى السورتين يعود إِلى موسى؛ لقوله {إِنَّهُ لَكَبِيْرُكُمْ} وقيل آمنتم به وآمنتم له واحد.
قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ} (وفى السورتين: قال آمنتم، لأَن هذه السورة مقدّمة على السّورتين فصرّح فى الأُولى، وكَنَى فى الأخريَيْن، وهو القياس: وقال الإِمام: لأَنَّ [ما] هنا بَعُد عن ذكر فرعون فصرّح وقرُب فى السّورتين ذكرُه فكَنَى.
قوله: {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ} وفى السّورتين {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ} ؛ لأَنَّ (ثمّ) يدلُّ على أَنَّ الصَّلْب يقع بعد التقطيع، وإِذا دَلَّ فى الأُولى عُلِمَ فى غيرها، ولأَنَّ الواو يصلح لما يصلح له (ثمّ) .
قوله: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُوْنَ} وفى الشعراءِ {لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُوْنَ} بزيادة (لا ضير) لأَنَّ هذه السّورة اختُصِرَتْ فيها القِصَّة، وأُشبعت فى الشعراءِ، وذكر فيها أَوّل أَحوال موسى مع فرعون، إِلى آخرها، فبدأَ بقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} وخَتَمَ بقوله ثمّ {أَغْرَقْنَا الآخرين} فلهذا وقع زوائد لم تقع فى الأَعراف وطه، فتأَمّل تعرف إِعجاز التنزيل.
قوله {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ} بغير واو على البدل. وقد سبق.(1/219)
قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} هنا وفى يونس: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} لأَنَّ أَكثر ما جاءَ فى القرآن من لفظ الضرّ والنفع معاً جاء بتقديم لفظ الضّرّ؛ لأَنَّ العابد يعبد معبوده خوفاً من عقابه أَوَّلاً، ثمَّ طمعاً فى ثوابه ثانياً. يقوّيه قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} ، وحيث تقدم النفع تقدّم لسابقة لفظ تضمّن نفعاً. وذلك فى ثمانية مواضع: ثلاثة منها بلفظ الاسم، وهى هاهنا والرّعد وسبأ. وخمسة بلفظ الفعل وهى فى الأَنعام {مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} وفى آخر يونس {مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} وفى الأَنبياءِ {مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} وفى الفرقان {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} وفى الشعراءِ {أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أَمّا فى هذه السورة فقد تقدّمه {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ} فقدّم الهداية على الضَّلالة. وبعد ذلك {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء} فقدّم الخير على السّوءِ، فكذلك قدّم النَّفع على الضرّ وفى الرّعد {طَوْعًا وَكَرْهًا} فقدّم الطَّوع وفى سبأ {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} فقدّم البسط. وفى يونس قدّم الضّرّ على الأَصلِ ولموافقته ما قبلها {لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ} وفيها {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} فتكرّر فى الآية ثلاث مرّات. وكذلك ما جاءَ(1/220)
بلفظ الفعل فلسابقة معنى يتضمّن فعلاً. أَمّا سورة الأَنعام ففيها {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُوْنِ اللهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيْعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا} ، ثمّ وصلها بقوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَالاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} وفى يونس تقدّمه قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} ثمّ قال: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} وفى الأَنبياءِ تقدّمه قول الكفار لإِبراهيم فى المجادلة {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هاؤلاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} وفى الفرقان تقدّمه قوله: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} وعَدَّ نِعَماً جَمّة فى الآيات ثمّ قال: {وَيَعْبُدُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُهُمْ} تأَمّل؛ فإِنه برهان ساطع للقرآن.
فضل السّورة
ثم يُرْو سوى هذه الأَخبار الضَّعيفة (مَن قرأَ سورة الأَعراف جعل الله بينه وبين إِبليس سِتْراً يحرس منه، ويكون ممّن يزوره فى الجنَّة آدمُ. وله بكلِّ يهودىّ ونصرانىّ درجةٌ فى الجنَّة) وعنه صلَّى الله عليه وسلم: يا علىّ مَنْ قرأَ سورة الأَعراف قام من قبره وعليه ثمانون حُلَّة، وبيده براءَة من النار، وجوازٌ على الصّراط، وله بكل آية قرأَها ثوابُ مَنْ بَرّ والديه، وحَسُن خُلُقه. وعن جعفر الصَّادق رضى الله عنه: مَنْ قرأَ سورة الأَعراف فى كل شهر كان يوم القيامة من الآمنين. ومن قرأَها فى كل جمعة لا يحاسَب معه يوم القيامة، وإِنَّها تشهد لكلّ من قرأَها.(1/221)
بصيرة فى.. يسألونك عن الأنفال
اعلم أَنَّ هذه السّورة مدَنيّة بالإِجماع وعدد آياتها سبع وسبعون عند الشَّاميّين، وخمس عند الكوفيّين، وست عند الحجازيّين، والبصريّين. وعدد كلماتها أَلف ومائة وخمس وتسعون كلمة. وحروفها خمسةُ آلاف ومائتان وثمانون.
الآيات المختلف فيها ثلاث {يَغْلِبُوْنَ} ، {بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِيْنَ} ، {أَمْرًا كَانَ مَفْعُوْلاً} .
فواصل آياته (ن د م ق ط ر ب) يجمعها نَدِمَ قُطْرُب، أَو نطق مدبر. على الدّال منها آية واحدة {عَبِيْدِ} . وعلى القاف آية واحدة {حَرِيْق} وعلى الباءِ أَربع آيات آخرها {عِقَابْ} .
ولهذه السّورة اسمان: سورة الأَنفال؛ لكونها مفتَتَحة بها، ومكرّرة فيها، وسورة بدر، لأَنَّ معظمها فى ذكر حرب بَدْر، وما جرى فيها.
مقصود السّورة مجملاً: قطع الأَطماع الفاسدة من الغنيمة الَّتى هى حق الله ولرسوله، ومدح الخائفين الخاشعين وقت سماع القرآن، وبعث المؤمنين(1/222)
حَقّاً، والإِشارة إِلى ابتداءِ حَرْب بدر، وإِمداد الله تعالى صحابة نبيّه بالملائكة المقرّبين، والنّهى عن الفِرار من صفّ الكفّار، وأَمر المؤمنين بإِجابة الله ورسوله، والتحذير عن الفتنة، والنَّهى عن خيانة الله ورَسُوله، وذكر مكر كُفَّار مكَّة فى حقِّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتجاسر قوم منهم باستعجال العذاب، وذكر إِضاعة نفقاتهم فى الضَّلال والباطل، وبيان قَسْم الغنائم، وتلاقى عساكر الإِسلام وعساكر المشركين، ووصيَّة الله المؤمنين بالثبات فى صفّ القتال، وغرور إِبليس طائفة من الكفار، وذمّ المنافقين فى خذلانهم لأَهل الإيمان، ونكال ناقضى العهدِ ليعتبر بهم آخرون، وتهيئة عُذْر المقاتلة والمحاربة، والميل إِلى الصّلح عند استدعائهم الصّلح، والمَنّ على المؤمنين بتأليف قلوبهم، وبيان عدد عسكر الإِسلام، وعسكر الشرك، وحكم أَسرى بدر، ونُصرة المعاهدين لأَهل الاسلام، وتخصيص الأَقارب، وذوى الأَرحام بالميراث فى قوله {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} إِلى آخر السّورة.
النَّاسخ والمنسوخ:
الآيات المنسوخة فى السّورة ستّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} م {مَا غَنِمْتُمْ} ن {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} م {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ(1/223)
الله} ن {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} م {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ن {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} م {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} ن {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} م {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} ن {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} م {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} ن.
المتشابهات: قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} وقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ} وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} قد سبق.
قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} ثمّ قال بعد آية {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} أَجاب عن هذا بعضُ أَهل النظر وقال: ذكر فى الآية الأُولى عقوبته إِيّاهم عند الموت؛ كما فعله بآل فرعون ومَن قبلهم من الكفَّار، وذكر فى الثانية ما يفعله بهم بعد موتهم. قال الخطيب: الجواب عندى: أَنَّ الأَوّل إِخبار عن عذاب لم يمكِّن الله أَحداً من فعله، وهو ضرب الملائكة وجوهَهم وأَدبارهم عند نزع أَرواحهم، والثانى إِخبار عن عذاب مكَّن النَّاس من فعل مثلِه، وهو الإِهلاك والإِغراق.(1/224)
قال تاج القراء: وله وجهان [آخران] محتملان. أَحدهما: كدأب آل فرعون فيما فعلوا، والثانى: كدأب فرعون فيما فُعِل بهم. فهم فاعلون فى الأَوّل، ومفعولون فى الثَّانى. والوجه الآخر: أَنَّ المراد بالأَوّل كفرهم بالله، وبالثَّانى تكذيبهم بالأَنبياءِ؛ لأَنَّ تقدير الآية: كذَّبوا الرّسل بردّهم آيات الله. وله وجه آخر. وهو أَن يجعل الضَّمير فى (كفروا) لكفَّار قريش على تقدير: كفروا بآيات ربّهم كدأْب آل فرعون والذين من قبلهم، وكذلك الثانى: كذَّبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون.
قوله: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} هنا بتقديم أَموالهم وأَنفسهم وفى براءَة بتقديم {فِي سَبِيْلِ اللهِ} لأَنَّ فى هذه السّورة تقدّم ذكرُ المال والفداءِ والغنيمة فى قوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} و {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ} أَى من الفداءِ، {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} فقدّم ذكر المال، وفى براءَة تقدّم ذكر الجهاد، وهو قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} وقوله: {كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله} فقدّم ذكر الجهاد، وذكر هذه الآى فى هذه السّورة ثلاث مرّات. فأَورد فى الأُولى {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ} وحذف من الثانية {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} اكتفاءً(1/225)
بما فى الأُولى، وحَذف من الثالثة {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} وزاد {فِي سَبِيْلِ اللهِ} اكتفاءً بما فى الآيتين.
فضل السّورة
يروى بسند ساقط أَنَّه قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَن قرأَ سورة الأَنفال وترًا فأَنا شفيع له، وشاهد يوم القيام أَنَّه برىءٌ من النفاق، وأُعطِىَ من الأَجر بعدد كلِّ منافق فى دار الدنيا عشر حسنات، ومُحى عنه عشرُ سيئات، ورُفع له عشرُ درجات، وكان العَرْش وحَمَلته يصلُّون عليه أَيّام حياته فى الدّنيا" وعنه صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: يا علىّ، مَن قرأَ سورة الأَنفال أَعطاه الله مثل ثواب الصّائم القائم.(1/226)
بصيرة فى.. براءة من الله ورسوله
هذه السورة مَدَنيّة بالاتِّفاق. وعدد آياتها مائة وتسع وعشرون عند الكوفيّين، وثلاثون عند الباقين. عدد كلماتها أَلفان وأَربعمائة وسبع وتسعون كلمة. وحروفها عشرة آلاف وسبعمائة وسبع وثمانون حرفاً.
والآيات المختلف فيها ثلاث {برياء مِّنَ المشركين} {عَادٍ وَثَمُوْدَ} {عَذَابًا أَلِيمًا} .
مجموع فواصل آياته (ل م ن ر ب) يجمها (لم نربّ) على اللاَّم منها آية واحدة {إِلاَّ قَلِيل} وعلى الباءِ آية {وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} وكلّ آية منها آخرها راء فما قبل الرّاءِ ياء.
ولهذه السّورة ثمانية أَسماء: الأَوّل براءَة؛ لافتتاحها بها، الثانى سورة التَّوبة؛ لكثرة ذكر التَّوبة فيها {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوْبُواْ} {لَقَدْ تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ} الثالث الفاضحة؛ لأَنَّ المنافقين افتَضَحوا عند نزولها. الرّابع المبعثِرة؛ لأَنَّها تبعثِر عن أَسرار المنافقين. وهذان الاسمان رُويا عن ابن(1/227)
عباس. الخامس المُقَشْقِشَة؛ لأَنَّها تبرىءُ المؤمن، فتنظِّفه من النفاق وهذا عن ابن عمر. السّادس البَحُوث؛ لأَنَّها تَبْحَث عن نفاق المنافقين. وهذا عن أَبى أَيُّوب الأَنصارى. السابع سورة العذاب؛ لما فيها من انعقاد الكفَّار بالعذاب مرّة بعد أُخرَى {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} الثَّامن الحافرة؛ لأَنَّها تحفر قلوب أَهل النِّفاق بمثل قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} ، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} .
مقصود السّورة إِجمالاً: وَسْم قلوب الكُفَّار بالبراءَة، ورَدّ العهد عليهم، وأَمان مستمع القرآن، وقهر أَئمة الكفر وقتلهم، ومنع الأَجانب من عمارة المسجد الحرام، وتخصيصها بأَهل الإِسلام، والنَّهى عن موالاة الكفَّار، والإِشارة إِلى وقعة حرب حُنَيْن ومنع المشركين من دخول الكعبة، والحَرَم، وحضور الموسم، والأَمر بقتل كَفَرَة أَهل الكتاب وضرب الجزية عليهم، وتقبيح قول اليهود والنَّصارى فى حقِّ عُزَير وعيسى عليهما السّلام، وتأْكيد رسالة الرّسول الصّادق المحقّ، وعيب أَحبار اليهود فى أَكلهم الأَموال بالباطل، وعذاب مانعى الزكاة، وتخصيص الأَشهر الحرم من أَشهر السنة، وتقديم الكفار شهر المحرم، وتأخيرهم إِيَّاه، والأَمر بغزوة تَبُوك، وشكاية المتخلِّفين عن الغَزْو، وخروج النَّبى(1/228)
صلَّى الله عليه وسلَّم مع الصّديق رضى الله عنه من مَكَّة إِلى الغار بجبل ثَوْر، واحتراز المنافقين من غزوة تبوك، وترصُّدهم وانتظارهم نكبة المسلمين، وردّ نفقاتهم عليهم، وقَسْم الصّدقات على المستحقِّين، واستهزاء المنافقين بالنَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالقرآن، وموافقة المؤمنين بعضهم بعضاً، ونيلهم الرّضوان الأَكثر بسبب موافقتهم، وتكذيب الحقِّ للمنافقين فى إِيمانهم، ونهى النَّبى عن الاستغفار لأَحْيائهم، وعن الصلاة على أَمواتهم، وعَيْب المقصّرين على اعتذارهم بالأَعذار الباطلة، وذمّ الأَعراب فى صلابتهم، وتمسكهم بالدّين الباطل، ومدح بعضهم بصلابتهم فى دين الحقِّ، وذكر السّابقين من المهاجرين والأَنصار، وذكر المعترفين بتقصيرهم، وقبول الصّدقات من الفقراءِ، ودعائهم على ذلك، وقبول توبة التَّائبين، وذكر بناءِ مسجد ضِرار للغرض الفاسد، وبناءِ مسجد قُباء على الطَّاعة والتقوى، ومبَايعة الحقِّ تعالى عبيدَه باشتراءِ أَنفسهم وأَموالهم، ومعاوضتهم عن ذلك بالجنَّة، ونهى إِبراهيم الخليل من استغفار المشركين، وقبول توبة المتخلِّفين المخلِّص من غزوة تَبوك، وأَمر ناسٍ بطلب العلم والفقه فى الدِّين، وفضيحة المنافقين، وفتنتهم فى كلِّ وقت، ورأْفة الرّسول صلَّى الله عليه وسلم، ورحمته لأُمته وأَمر الله نبيّه بالتوكُّل(1/229)
عليه فى جميع أَحواله بقوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إلاه إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} الآية.
النَّاسخ والمنسوخ:
الآيات المنسوخة ثمان آيات {فَسِيْحُواْ فِيْ الأَرْضِ} م {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} ن {يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} م (آية الزكاة) ن {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وقوله: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} م {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ} ن {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} م {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ن {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} م {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} ن {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} إلى تمام الآيتين م {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ} ن.
المتشابهات:
قوله: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} وبعده {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَول للمكان، والثانى للزَّمان. وتقدّم ذكرهما فى قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .(1/230)
قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} وبعده {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَول فى المشركين، والثَّانى فى اليهود، فيمن حمل قوله: {اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيْلاً} على التوراة. وقيل: هما فى الكفار وجزاءُ الأَوّل تخلية سبيلهم، وجزاءُ الثانى إِثبات الأُخُوّة لهم ومعنى {بآَيَاتِ اللهِ} القرآن.
قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} ثم ذكر بعده {كَيْفَ} واقتصر عليه، فذهب بعضهم إِلى أَنَّه تكرار للتأكيد، واكتفى بذكر (كيف) عن الجملة بعد؛ لدلالة الأُولى عليه. وقيل تقديره: كيف لا تقتلونهم، (ولا) يكون من التكرار فى شىء.
قوله: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} وقوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} الأَول للكفار والثانى لليهود. وقيل: ذكر الأَوّل، وجعله جزاءً للشرط، ثم أَعاد ذلك؛ تقبيحاً لهم، فقال: ساءَ ما يعملون لا يرقبون فى مؤمن إِلاَّ ولا ذمّة. فلا يكون تكرارً محضاً.
قوله: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} إِنَّما قدّم {فِي سَبِيلِ الله} لموافقة قوله قبله {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} وقد سبق ذكره فى الأَنفال. وقد جاءَ بعده فى موضعين {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ(1/231)
فِي سَبِيلِ الله} ليعلم أَنَّ الأَصل ذلك، وإِنَّما قدّم هنا لموافقة ما قبله فحسْبُ.
قوله: {كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ} بزيادة باء، وبعده {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} و {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} بغير باء فيهما؛ لأَنَّ الكلام فى الآية الأُولى إِيجاب بعد نفى، وهو الغاية فى باب التَّأْكيد، وهو قوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله} فأَكَّد المعطوف أَيضاً بالباءِ؛ ليكون الكل فى التأْكيد على منهاج واحد، وليس كذلك الآيتان بعده؛ فإِنَّهما خَلَتا من التأْكيد.
قوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} بالفاءِ، وقال فى الآية الأُخرى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ} بالواو؛ لأَنَّ الفاءَ يتضمّن معنى (الجزاء، والفعل الذى قبله مستقبل يتضمّن معنى) الشرط، وهو قوله: {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ} اى إِن يكن منهم ما ذكر فجزاؤهم. وكان الفاءُ هاهنا أَحسن موقعاً من الواو [و] التى بعدها قبلها {كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ وَمَاتُواْ} بلفظ الماضى وبمعناه، والماضى لا يتضمّن معنى الشرط، ولا يقع من الميت فعل، (وكان) الواو أَحسن.
قوله: {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} بزيادة (لا) وقال: فى الأُخرى {وَأَوْلاَدهُمْ} بغير (لا) لأَنَّه لمّا أَكَّد الكلام الأَوّل بالإِيجاب بعد النفى وهو الغاية، وعلَّق(1/232)
الثَّانى بالأَوّل تعليق الجزاء بالشرط، اقتضى الكلامُ الثانى من التوكيد ما اقتضاه الأَوّلُ، فأَكَّد معنى النَّهى بتكرار (لا) فى المعطوف.
قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} ، وقال: فى الأُخرى: {أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} لأَنَّ (أَن) فى هذه الآية مقدّرة، وهى النَّاصبة للفعل، وصار اللام هاهنا زيادة كزيادة الباءِ، و (لا) فى الآية. وجواب آخر: وهو أَنَّ المفعول فى هذه الآية محذوف، أَى يريد الله أَن يزيد فى نعمائهم بالأَموال والأَولاد؛ ليعذِّبهم بها فى الحياة الدّنيا. والآية الأُخرى إِخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلَّق الإِرادة بما هم فيه، وهو العذاب.
قوله: {فِي الحياة الدنيا} وفى الآية الأُخرى {فِي الدنيا} لأَنَّ (الدنيا) صفة للحياة فى الآيتين فأَثبت الموصوف (والصفة فى الأُولى، وحذف الموصوف) فى الثانية اكتفاءً بذكره فى الأُولى، وليست الآيتان مكرّرتين؛ لأَنَّ الأُولى فى قوم، والثانية فى آخرين، وقيل: الأُولى فى المنافقين والثانية فى اليهود.
قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} وفى الصف {ليُطْفِئُواْ نُورَ الله} هذه الآية تشبه قوله: {يُرِيْدُ الله أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} و {ليُعَذِّبَهُمْ} حذف اللام من الآية الأُولى، لأَنَّ مرادهم إِطفاء نور الله بأَفواههم، وهو(1/233)
المفعول به، والتقدير: ذلك قولهم بأَفواههم، ومرادهم إِطفاء نور الله بأَفواههم. والمراد الذى هو المفعول به فى الصفِّ مضمر تقديره: ومن أَظلم ممّن افترى على الله الكذب [يريدون ذلك] ليطفئوا نور الله فالَّلام لام العِلَّة. وذهب بعض النحاة إِلى أَن الفعل محمول على المصدر. أَى إِرادتهم لإِطفاءِ نور الله.
قوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} هذه الكلمات تقع على وجهين: أَحدهما: ذلك الفوز بغير (هو) . وهو فى القرآن فى ستَّة مواضع: فى براءَة موضعان، وفى النساءِ، والمائدة، والصّف، والتَّغابن؛ وما فى النِّساءِ (وذلك) بزيادة واو. والثَّانى ذلك هو الفوز بزيادة (هو) وذلك فى القرآن فى ستَّة مواضع أيضاً: فى براءَة موضعان، وفى يونس، والمؤمن، والدّخان، والحديد، وما فى براءَة أَحدهما بزيادة الواو. وهو قوله: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وكذلك ما فى المؤمن بزيادة واو. والجملة إِذا جاءَت بعد جملة من غير تراخ بنزول جاءَت مربوطة بما قبلها إِمّا بواو العطف وإِمّا بكناية تعود من الثانية إِلى الأُولى، وإِمَّا(1/234)
بإِشارة فيها إِليها. وربّما يُجمع بين اثنين منها، والثلاثة؛ للدّلالة على مبالغة فيها. ففى السّورة {خَالِدًا فِيْهَا ذلك} و {خَالِدِيْنَ فِيْهَا ذلك} وفيها أَيضاً {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ} فجمع بين اثنين. وبعدهما {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ} فجمع بين الثلاثة، تنبيهاً على أَنَّ الاستبشار من الله يتضمّنُ رضوانَه، والرضوان يتضمّن الخلود فى الجنَان قال تاج القُرَّاءِ: ويحتمل أَنَّ ذلك لما تقدّمه من قوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن} فيكون كلّ واحد منهما فى مقابلة (واحد، وكذلك فى المؤمن تقدمه "فاغفر وقهم وأَدخلهم"، فوقعت فى مقابلة) الثَّلاثة.
قوله: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} ثم قال بعد: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} لأَنَّ قوله: (وطبع) محمول على رأْس الآية، وهو قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُوْرَةٌ} فبُنى مجهول على مجهول، والثانى محمول، على ما تقدم من ذكر الله تعالى مرّات (وكان) اللائق: وطَبَع الله، ثمّ ختم كلَّ آية بما يليق بها، فقال فى الأُولى: لا يفقهون، وفى الثانية: لا يعلمون، لأَنَّ العلم فوق الفقه، والفعل المسند إِلى الله فوق المسند إِلى المجهول.
قوله: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ} ، وقال فى الأُخرى: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَسَتُرَدُّونَ} لأَنَّ الأُولى فى المنافقين، ولا يطَّلع على ضمائرهم إِلاَّ الله تعالى، ثم رسوله بإِطْلاع الله إِيَّاه عليها؛(1/235)
كقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} والثانية فى المؤمنين، وطاعات المؤمنين وعباداتهم ظاهرة لله ولرسوله وللمؤمنين. وخَتَم آية المنافقين بقوله: {ثُمَّ تُرَدُّونَ} فقطعه عن الأَول؛ لأَنه وعيد. وختم آية المؤمنين بقوله: {وَسَتُرَدُّونَ} لأَنَّه وعد، فبناه على قوله {فَسَيَرَى الله} .
قوله: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} وفى الأُخرى {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله} [لأَنَّ الآية الأُولى] مشتملة على ما هو من عملهم، وهو قوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} ، وعلى ما ليس من عملهم، وهو الظَّمأ والنَّصب والمخْمصة، والله سبحانه بفضله أَجرى ذلك مُجرى عملِهم فى الثَّواب، فقال: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أَى جزاءُ عمل صالح، والثَّانية مشتملة على ما هو من عملهم، وهو إِنفاق المال فى طاعته، وتحمّل المشاق فى قطع المسافات، فكُتب لهم بعينه. لذلك ختم الآية بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لكون الكل من عملهم فوعدهم حسن الجزاءِ عليه وختم (الآية) بقوله: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} حين أُلحق ما ليس من عملهم بما هو من عملهم، ثم جازاهم على الكل أَحسن الجزاء.
فضل السورة
عن عائشة - رضى الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه(1/236)
وسلم: "إِنه ما نزل علىّ القرآن إِلاَّ آية آية، وحرفاً حرفا، خلا سورة براءَة، وقل هو الله أَحد؛ فإِنَّهما أُنزلتا ومعهما سبعون أَلفَ صفٍّ من الملائكة، كلّ يقول استوصوا بنسبة الله خيراً" وقال: مَنْ قرأَ سورة الأَنفال وبراءَة شهدا له يوم القيام بالبراءَة من الشرك والنفاق، وأُعطى بعَدَد كلِّ منافق ومنافقة منازل فى الجنة، ويكتب له مثلُ تسبيح العرش وَحَملتهِ إِلى يوم القيامة. وعنه: يا علىّ مَنْ قرأَ سورة التوبة يَقبل الله توبته؛ كما يقبل مِن آدم وداود، واستجاب دعاءَه، كما استجاب لزكريّا. وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب زكريّا. الحديثان ضعيفان جدّاً.(1/237)
بصيرة فى.. الر. تلك آيات الكتاب
اعلم أَنّ هذه السّورة مكِّيّة، بالاتِّفاق. عدد آياتها مائة وعشر آيات عند الشاميِّين، وتسع عند الباقين. وعدد كلماتها أَلف وأَربعمائة وتسع وتسعون كلمة. وحروفها سبعة آلاف وخمس وستون.
والآيات المختلَف فيها أَربعة: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} و {مِنَ الشَّاكِرِيْنَ} .
ومجموع فواصلها (ملْن) على الَّلام منها آية واحدة {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} وكلُّ آية على الميم قبل الميم ياء.
وسُمِّيت سورة يونس لما فى آخرها من ذكر كشف العذاب عن قوم يونس ببركة الإِيمان عند اليأْس فى قوله: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} .
مقصود السّورة: إِثبات النبوّة، وبيان فساد اعتقاد الكفار فى حقِّ النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم والقرآن، وذكر جزائهم على ذلك فى الدّار الآخرة،(1/238)
وتقدير منازل الشَّمس والقمر لمصالح الخَلْق، وذمّ القانعين بالدّنيا الفانية عن النَّعيم الباقى، ومَدْح أَهل الإِيمان فى طلب الجنان؛ واستعجال الكفَّار بالعذاب، وامتحان الحَقِّ تعالى خلقَه باستخلافهم فى الأَرض، وذكر (عدم تعقّل) الكفار كلام الله، ونسبته إِلى الافتراءِ والاختلاف، والإِشارة إِلى إبطال الأَصنام وعُبّادها، وبيان المِنَّة على العِباد بالنَّجاة من الهلاك فى البَرِّ والبَحْر، وتمثيل الدّنيا بنزول المطر، وظهور أَلوان النبات والأَزهار، ودعوة الخَلْق إِلى دار السّلام، وبيان ذُلِّ الكفَّار فى القيامة، ومشاهدة الخَلْق فى العُقْبَى ما قدّموه من طاعة ومعصية، وبيان أَنَّ الحقّ واحد، وما سواه باطل، وإِثبات البَعْث والقيامة بالبرهان، والحجّة الواضحة، وبيان فائدة نزول القرآن، والأَمر بإِظهار السّرور والفرح بالصّلاة والقرآن، وتمييز أَهل الولاية من أَهل الجنَايَة، وتسلية النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم بذكر شىء من قِصّة موسى، وواقعة بنى إِسرائيل مع قوم فرعون، وذكر طَمْس أَموال القِبطيّين، ونجاة الإِسرائيليين من البحر، وهلاك أَعدائهم من الفِرعونيّين، ونجاة قوم يونس بإِخلاص الإِيمان فى قوت اليَأْس، وتأْكيد نبوّة النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأَمره بالصّبر على جفاءِ المشركين وأَذاهم، فى قوله: {حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} .(1/239)
الناسخ والمنسوخ
المنسوخ فى هذه السّورة خمس آيات {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} م {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} ن {قُلْ فانتظروا} م آية السّيف ن {مَنِ اهْتَدَى} إِلى قوله: {وَكِيْل} م آية السّيف ن {فَقُل لِّي عَمَلِي} م آية السّيف ن {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر} م آية السّيف ن.
المتشابهات
قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [جَمِيعاً] } وفى هود {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة خطاب للمؤمنين والكافرين جميعاً؛ يدلّ عليه قوله: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط والذين كَفَرُواْ} الآية. وكذلك ما فى المائدة {مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ؛ لأَنَّه خطاب للمؤمنين والكافرين بدليل قوله: {فِيْهِ تَخْتَلِفُوْنَ} وما فى هود خطاب للكفَّار؛ يدلّ عليه قوله: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} .
قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} بالأَلف واللام؛ لأَنه إِشارة إِلى ما تقدّم من الشرّ فى قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر} فإِنَّ الضرّ والشَّرّ واحد. وجاءَ الضرّ فى هذه السّورة بالأَلف واللام، وبالإِضافة وبالتنوين.(1/240)
قوله: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بالواو؛ لأَنَّه معطوف على قوله: {ظَلَمُواْ} من قوله: {لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} وفى غيرها بالفاءِ للتَّعقيب.
قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} بالفاءِ؛ لموافقة ما قبلها. وقد سبق فى الأَنعام. قوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} سبق فى الأَعراف.
قوله: {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وفى غيرها: {فِيمَا هُمْ فِيهِ} بزيادة (هم) لأَنَّ هنا تقدّم (فاختلفوا) ، فاكْتُفِى به عن إِعادة الضمير؛ وفى الآية {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} بزياة (لا) وتكرار (فى) لأَنَّ تكرار (لا) مع النفى كثير حسن، فلمّا كرّر (لا) كرّر (فى) تحسيناً للفظ. ومثله فى سبأ فى موضعين، والملائكة.
قوله {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ} بالأَلف؛ لأَنه وقع فى مقابلة {أَنْجَيْنَا} .
قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} وفى هود: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} لأَن ما فى هذه السّورة تقديره: بسورة مثل سورة يونس. فالمضاف محذوف فى السّورتين، وما فى هود إِشارة إِلى ما تقدّمها: من أَوّل الفاتحة إِلى سورة هود، وهو عَشْر سُور.(1/241)
قوله: {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} هنا، وكذلك فى هود، وفى البقرة {شُهَدَآءَكُمْ} ؛ لأَنَّه لمّا زاد فى هود {وَادْعُواْ} زاد فى المدعوّين. ولهذا قال فى سبحان: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} لأَنَّه مقترن بقوله: {بِمِثْلِ هاذا القرآن} والمراد به كله.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بلفظ الجمع وبعده: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} بلفظ المفرد؛ لأَنَّ المستمع إِلى القرآن كالمستمع إِلى النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، بخلاف النَّظر (وكان) فى المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظُ المعنى، ووحّد (ينظر) حملاً على اللفظ إذ لم يكثر كثرتهم.
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا} فى هذه الآية فحسب؛ لأَنَّ قبله قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيْعًا} وقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيْعًا} يدلاَّن على ذلك فاكتُفى به.
قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} فى هذه السّورة فقط؛ لأَنَّ التقدير فيها: لكلِّ أُمّة أَجل، فلا يستأخرون إِذا جاءَ أَجلهم. فكان هذا فيمن قُتل ببدر والمعنى: لم يستأخروا.
قوله: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} ذكر بلفظ ما لأَن(1/242)
معنى ما هاهنا المال، فذكر بلفظ ما دون مَنْ ولم يكرِّر ما اكتفاءً بقوله قبله {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض} .
قوله: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} ذكر بلفظ (مَنْ) وكُرّرَ؛ لأَنَّ هذه الآية نزلت فى قوم آذَوْا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فنزل فيهم {وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} فاقتضى لفظ مَنْ وكُرِّر؛ لأَنَّ المراد: من فى الأَرض هاهنا لكونهم فيها؛ لكن قدّم ذكر (مَن فى السّماوات) تعظيماً ثمّ عطف (من فى الأَرض) على ذلك.
قوله: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ذكر بلفظ (ما) فكرّر؛ لأَنَّ بعض الكفَّار قالوا: اتَّخذ الله ولداً، فقال سبحانه: له ما فى السّماوات وما فى الأرض، أَى اتخاذُ الولد إِنما يكون لدفع أَذًى، أَو جَذْب منفعة، والله مالك ما فى السّماوات وما فى الأَرض. (وكان) الموضع (موضع [ما وموضع] التكرار؛ للتَّأْكيد والتَّخصيص.
قوله: {ولاكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} . ومثله فى النَّمل. وفى البقرة ويوسف والمؤْمن: {ولاكن أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} . لأَنَّ(1/243)
فى هذه السّورة تقدم {ولاكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُوْنَ} فوافق قوله: {ولاكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} وكذلك فى النَّمل تقدم {بَلْ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُوْنَ} فوافقه. وفى غيرهما جاءَ بلفظ التصريح. وفيها أَيضاً قوله: {فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} فقدّم الأَرض؛ لكون المخاطبين فيها. ومثله فى آل عمران، وإِبراهيم، وطه، والعنكبوت. وفيها {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} بناءً على قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُوْنَ إِلَيْكَ} ومثله فى الرّوم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} فحسْبُ.
قوله: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} بغير واو؛ لأَنَّه اكتفى بالعائد عن الواو والعاطف. ومثله فى البقرة على قراءَة ابن عامر: {قَالُواْ اتخد الله وَلَداً} .
قوله: {فَنَجَّيْنَاهُ} سبق. ومثله فى الأَنبياءِ والشعراءِ.
قوله: {كَذَّبُوْا} سبق.
وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى} قد سبق.
قوله: {مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} هنا فحسب بالجمع. وفى غيرها (وملإِيه)(1/244)
لأَنَّ الضَّمير فى هذه السّورة يعود إلى الذرّية. وقيل: يعود إِلى القوم. وفى غيرها يعود إِلى فرعون.
قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} ، وفى النَّمل: {مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ} ؛ لأَنَّ قبله فى هذه السورة {نُنْجِ الْمُؤْمِنِيْنَ} فوافقه، وفى النَّمل أَيضاً وافق ما قبله، وهو قوله: {فَهُمْ مُسْلِمُوْنَ} وقد تقدّم فى يونس {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} .
فضل السورة
فيه حديث أُبىّ المتفقُ على ضعفه: مَن قرأَ سورة يونس أُعطِى من الأَجْر عشرَ حسنات، بعَدَد مَن صدّق بيونس، وكذَّب به، وبعدد مَن غرق مع فرعون. وعن جعفر الصّادق: مَن قرأَ سورة يونس كان يوم القيامة من المقرّبين: وحديث علىّ يا علىّ مَن قرأَ سورة يونس أَعطاه الله من الثَّواب مثل ثواب حمزة، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب خَضِر. ضعيف.(1/245)
بصيرة فى.. الر. كتاب أحكمت
هذه السّورة مكِّيّة بالإِجماع. وعدد آياتها مائة واثتنان وعشرون عند الشَّاميّين، وإِحدى وعشرون عند المكيّين والبصريّين، وثلاث وعشرون عند الكوفيّين. وكلماتها أَلف وتسعمائة وإِحدى عشرة كلمة. وحروفها سبعة آلاف وستمائة وخمس.
والآيات المختلف فيها سبع {برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ، {فِيْ قَوْمِ لُوْطٍ} ، {مِنْ سِجِّيْلٍ} ؛ {مَنْضُوْدٌ} ، {إِنَّا عَامِلُوْنَ} ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ} ، {مُخْتَلِفِيْنَ} .
مجموع فواصلها (ق ص د ت ل ن ظ م ط ب ر ز د) يجمعها قولك (قصدْت لنظم طبرْ زَد) .
وسمّيت سورة هود لاشتمالها على قصّة هود - عليه السّلام - وتفاصيلها.(1/246)
المقصود الإِجمالىّ من السّورة: بيان حقيقة القرآن، واطِّلاع الحقِّ سبحانه على سرائر الخلق وضمائرهم، وضمانُه تعالى لأَرزاق الحيوانات، والإِشارة إِلى تخليق العَرْش، وابتداءِ حاله، وتفاوت أَحوال الكفَّار، وأَقوالهم وتحدّى النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم العرَب بالإِتيان بمثل القرآن، وذمّ طُلاَّب الدّنيا المُعْرِضِين عن العُقْبى، ولعن الظَّّالمين، وطردهم، وقصّة أَهل الكفر والإِيمان، وتفصيل قصّة نوح، وذكر الطُّوفان، وحديث هود، وإِهلاك عاد، وقصّة صالح، وثمود، وبشارة الملائكة لإِبراهيم وسارة بإِسحاق، وحديث لوط، وإِهلاك قومه، وذكر شُعَيْب، ومناظرة قومه إِيَّاه، والإِشارة إِلى قصّة موسى وفرعون، وبيان أَن فرعون يكون مقدّم قومه إِلى جهنَّم، وذكر جميع [أَحوال] القيامة، وتفضيل الفريقين والطريقين، وأَمر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بالاستقامة، والتَّجنُّب من أَهل الظُّلم والضَّلال، والمحافظة على الصّلوات الخمس، والطَّهارة، وذكر الرّحمة فى اختلاف الأُمّة، وبيان القصص، وأَنباءِ الرسل. لتثبيت قلب النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والأَمر بالتَّوكُّل على الله فى كلِّ حال.
الناسخ والمنسوخ:
المنسوخ فى هذه السّورة ثلاث آيات {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} م(1/247)
{مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} ن {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} م آية السّيف ن {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا} بحذف النَّون، والجمع، وفى القصص {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم} عدّت هذه الآية من المتشابه فى فصلين: أَحدهما حذف النّون من (فإِلَّم) فى هذه السّورة وإِثباتها فى غيرها. وهذا من فَصْل الخَطِّ. وذُكر فى موضعه. والثَّانى جمع الخطاب هاهنا، وتوحيده فى القصص؛ لأَنَّ ما فى هذه السّورة خطاب للكفَّار، والفعل لمن استطعتم، وما فى القصص خطاب للنَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم، والفعل للكفاَّر.
قوله: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} سبق.
قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} ، وفى النَّحل: {هُمُ الخاسرون} ؛ لأَنَّ هؤلاءِ صدُّوا عن سبيل الله، وصَدُّوا غيرهم، فضَلُّوا وأَضَلُّوا؛ فهم الأَخسرون يضاعف لهم العذابُ، وفى النَّحل صدُّوا، فهم الخاسرون. قال الإِمام: لأَنَّ ما قبلها فى هذه السّورة، (يبصرون، يفترون) لا يعتمدان على أَلف بينهما، وفى النحل (الكافرون(1/248)
والغافلون) فللموافقة بين الفواصل جاءَ فى هذه السّورة: الأَخسرون وفى النَّحل: الخاسرون.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ} بالفاءِ وبعده: {فَقَالَ الملأ} بالفاءِ وهو القياس. وقد سبق.
قوله: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} وبعده {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} وبعدهما {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} ؛ لأَنَّ (عنده) وإِن كان ظرفاً فهو اسم فذكر فى الأُولى بالصّريح، والثانية والثالثة بالكناية؛ لتقدم ذكره. فلمّا كُنى عنه قدّم؛ لأَنَّ الكناية يتقدّم عليها الاسم الظَّاهر نحو ضرب زيد عمراً فإِن كنيت عن عمرو قدّمته؛ نحو عمرو ضربه زيد. وكذلك زيد أَعطانى درهماً من ماله، فإِن كنيت عن المال قلت: المالُ زيدٌ أَعطانى منه درهماً. قال الإِمام: لمّا وقع {آتَانِي رَحْمَةً} فى جواب كلام فيه ثلاثة أَفعال كلّها متعدّ إِلى مفعولين ليس بينهما حائل بجارّ ومجرور وهو قوله: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مَثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ} و {نَظُنُّكُمْ كَاذِبِيْنَ} أُجرى الجوابُ مُجراه، فجُمع بين المفعولين من غير حائل. وأَمّا الثانى فقد وقع فى جواب كلام(1/249)
قد حِيل بينهما بجارِّ ومجرور، وهو قوله: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً} ؛ لأَنَّ خبر كان بمنزلة المفعول، لذلك حيل فى الجواب بين المفعولين بالجارّ والمجرور.
قوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} فى قِصّة نُوح، وفى غيرها {أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ} لأَنَّ فى قصّة نوح وقع بعدها (خزائن) ولفظ المال للخزائن أَليق.
قوله: {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} وفى الأَنعام: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ؛ لأَنَّ [ما] فى الأَنعام آخر الكلام [بدأَ] فيه بالخطاب، وخَتَم به، وليس [ما] فى هذه السّورة آخر الكلام، بل آخره {تزدري أَعْيُنُكُمْ} فبدأَ بالخطاب وخَتَم به فى السّورتين.
قوله: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} وفى التَّوبة) {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} ذُكر هذا فى المتشابه، وليس منه؛ لأَنَّ قوله: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} عَطْف على قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي} ، فهو مرفوع، وفى التَّوبة معطوف على {يُعَذِّبْكُمْ وَيَسْتَبْدِلْ} وهما مجزومان، فهو مجزوم.
قوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} فى قصّة هود وشعيب بالواو،(1/250)
وفى قصّة صالح ولوط: (فلمّا) بالفاءِ؛ لأَنَّ العذاب فى قصّة هود وشعَيب تأَخَّر عن وقت الوعيد؛ فإِنَّ فى قصّة هود: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} وفى قصّة شعيب {سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} والتَّخويف قارنه التسويف، فجاءَ بالواو والمهلة، وفى قصّة صالح ولوط وقع العذاب عقِيب الوعيد؛ فإِنَّ قصّة صالح {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} ، وفى قصّة لوط: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} فجاءَ بالفاءِ للتَّعجيل والتَّعقيب.
قوله: {وَأُتْبِعُواْ فِي هاذه الدنيا لَعْنَةً} وفى قصّة موسى: {فِي هاذه لَعْنَةً} ؛ لأَنَّه لمّا ذكر فى الآية الأُولى الصّفة والموصوف اقتصر فى الثَّانية على الموصوف؛ للعلم به والاكتفاءِ بما فيه.
قوله {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} وبعده {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} ؛ لموافقة الفواصل. ومثله {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ، وفى التَّوبة {لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} للرَّوِىّ فى السّورتين.
قوله: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [وفى إِبراهيم {إِنَّا لَفِي(1/251)
شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ] ؛ لأَنَّ فى هذه السّورة جاءَ على الأَصل (وتدعونا) خطاب مفرد، وفى إِبراهيم لمّا وقع بعده (تدعوننا) بنونين، لأَنه خطاب جمع، حذف النَّون استثقالاً للجمع بين النّونات، ولأَنَّ فى سورة إِبراهيم اقترن بضمير قد غَيّر ما قبله بحذف الحركة، وهو الضَّمير المرفوع فى قوله: (كفرنا) ، فغيّر ما قبله فى (إِنَّا) بحذف النُّون، وفى هود اقترن ضمير لم يغيّر ما قبله، وهو الضمير المنصوب، والضَّمير المجرور فى قوله: {فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هاذا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فصحّ كما صحّ.
قوله: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} ثمّ قال {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} التذكير والتأْنيث حَسَنان، لكنَّ التذكير أَخفّ فى الأُولى. وفى الأُخْرى وافق ما بعدها وهو {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُوْد} قال: الإِمام: لمّا جاءَت فى قصّة شُعَيْب مرّةً الرّجْفة، ومرّة الظُّلَّة، ومرّة الصّيحة، ازداد التَّأْنيث حُسْناً.
قوله: {فِيْ دِيَارِهِمْ} فى موضعين فى هذه السّورة فحسب، لأَنّه اتصل بالصّيحة، وكانت من السماءِ، فازدادت على الرّجْفة؛ لأَنَّها الزلزلة، وهى تختصّ بجزء من الأَرض فجُمعت مع الصّيحة، وأُفردت مع الرّجفة.(1/252)
قوله: {إِنَّ ثَمُوْدًا} بالتنوين ذكر فى المتشابه. وثمود من الثَّمْد، وهو الماء القليل، جُعل اسم قبيلة، فهو منصرف من وجه، وممنوع من وجه، فصرفوه فى حالة النَّصب؛ لأَنَّه أَخف أَحوال الاسم، ومنعوه فى حالة الرّفع؛ لأَنَّه أَثقل أَحوال الاسم، وجاز الوجهان فى الجرّ؛ لأَنَّه واسطة بين الخِفَّة والثِّقَل.
قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} وفى القصص: {مُهْلِكَ القرى} ؛ لأَنَّ الله سبحانه وتعالى نفى الظُّلم عن نفسه بأَبلغ لفظ يستعمل فى النفى؛ لأَنَّ هذه اللاَّم لام الجحود، ولا يظهر بعدها (أَنْ) ولا يقع بعدها المصدر، ويختصّ بكان، ولم يكن، ومعناه: ما فعلت فيما مضى، ولا أَفعل فى الحال، ولا أَفعل فى المستقبل، (وكان) الغايةَ فى النَّفى، وفى القصص لم يكن صريحُ ظلم، فاكتفى بذكر اسم الفاعل، وهو لأَحد الأَزمنة غير معيّن، ثمّ نفاه.
قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} استثنى فى هذه السّورة من الأَهل قوله: {إِلاَّ امرأتك} ولم يستثن فى الحجْر اكتفاءً بما قبله، وهو قوله: {إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ(1/253)
أَجْمَعِينَ إِلاَّ امرأته} فهذا الاستثناءُ الَّذى انفردتْ به سورة الحِجْر قام مقام الاستثناءِ من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} وزاد فى الحجر {وَاتَّبَعَ أَدْبَارَهُمْ} ؛ لأَنَّه إِذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم ولا يخفى عليه حالهم.
فضل السورة
يُذكر فيه حديثان ساقطا الإسناد: حديث أُبىّ: من قرأَ سورة هود أُعطِىَ من الأَجر بعدد مَنْ صدّق نوحاً، وهوداً، وصالحاً، ولوطاً، وشعيباً، وموسى، وهارون، وبعدد مَنْ كذَّبهم، ويعطيه بعددهم أَلف أَلف مدينة فيها من الفوز والنعيم ما يعجز عن ذكره الملائكة ولا يعلم إِلاَّ الرَّبُ الغفورُ الودود الشكور، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَ سورة هود يخرج من الدّنيا كما يخرج يحيى بن زكريَّا طاهراً مطهَّراً، وكان فى الجنَّة رفيق يحيى، وله بكلِّ آية قرأَها ثوابُ أُمِّ يحيى.(1/254)
بصيرة فى.. الر. تلك آيات الكتاب المبين
هذه السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. وعدد آياتها مائة وإِحدى عشرة، بلا خلاف. وكلماتها أَلْف وسبعمائة وستّ وسبعون. وحروفها سبعة آلاف ومائة وست وستُّون. وما فيها آية مختلف فيها.
مجموع فواصل آياتها يجمعها قولك (لم نر) . منها آية واحدة على الَّلام: {قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} . وما لها اسم سوى سورة يوسف؛ لاشتمالها على قصّته.
مقصود السّورة إِجمالاً: عَرْض العجائب الَّتى تتضمّنها: من حديث يوسف ويعقوب، والوقائع الَّتى فى هذه القصّة: من تعبير الرّؤْيا، وحَسَد الإِخْوة، وحِيلهم فى التفريق بينه وبين أَبيه، وتفصيل الصّبر الجميل من جهة يعقوب، وبشارة مالك بن دعر بوجْدان يوسف، وبيْع الإِخوة أَخاهم بثمن بَخْس، وعَرْضه على البيع والشراءِ، بسُوق مصر، ورغبة زَلِيخَا وعزيز مصر فى شراه، ونظر زَلِيخَا إِلى يوسف، واحتراز يوسف منها، وحديث رؤية البرهان، وشهادة الشاهد، وتعيير(1/255)
النسوة زَليخا، وتحيّرهنّ فى حسن يوسف، وجماله، وحبسه فى السّجن، ودخول السّاقى والطَّبّاخ إِليه، وسؤالهما إِيّاه، ودعوته إِيَّاه إِلى التَّوحيد، ونجاة السّاقى، وهلاك الطَّبّاخ، ووصيّة يوسف للسّاقى بأَن يذكره عند رَبّه، وحديث رؤيا مالك بن الرّيان، وعجز العابرين عن عبارته، وتذكُّر السّاقى يوسف، وتعبيره لرؤياه فى السّجن، وطلب مالك يوسف، وإِخراجه من السّجن، وتسليم مقاليد الخزائن إِليه، ومَقْدَم إِخوته لطلب المِيرة، وعهد يعقوب مع أَولاده، ووصيّتهم فى كيفيّة الدّخول إِلى مصر، وقاعدة تعريف يوسف نفسه لبنيامين، وقضائه حاجة الإِخوة، وتغييبه الصّاع فى أَحمالهم، وتوقيف بنيامين بعلَّة السّرقة، واستدعائهم منه توقيف غيره من الإِخوة مكانه، وردّه الإِخوة إِلى أَبيهم، وشكوى يعقوب من جَوْر الهجْران، وأَلم الفراق، وإِرسال يعقوب إِيّاهم فى طلب يوسف، وأَخيه، وتضرّع الإِخْوة بين يَدىْ يوسف، وإِظهار يوسف لهم ما فعلوه معه من الإِساءَة وعفوه عنهم، وإِرساله بقميصه صحبتهم إِلى يعقوب، وتوجُّه يعقوب من كَنْعَان إِلى مصر، وحوالة يوسف ذَنْب إِخوته على مكايد الشيطان، وشكره لله تعالى على ما خوّله من الْمُلْك، ودعائه وسؤاله حسن الخاتمة، وجميل العاقبة، وطلب السّعادة، والشَّهادة، وتعيير الكفَّار على الإِعراض من الحجّة، والإِشارة إِلى أَنّ قصة يوسف(1/256)
عِبْرة للعالمين فى قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} إِلى آخر السّورة.
وهذه السّورة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
المتشابهات: قوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ليس فى القرآن غيره أَى عليم: علَّمك تأويلَ الأَحاديث، حكيم: اجتباك للرّسالة.
قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فى موضعين، وليس بتكرار؛ لأَنَّه ذكر الأَوّل حين نُعِى إِليه يوسف، والثَّانى حين رُفع إِليه ما جرى على بنيامين.
قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} ومثلها فى القصص. وزاد فيها (واستوى) ؛ لأَنَّ يوسف عَليه السّلام أُوحى إِليه وهو فى البئر، وموسى عليه السّلام أُوحى إِليه بعد أَربعين سنة. وقوله (واستوى) إِشارة إِلى تلك الزِّيادة. ومثله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} بعد قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} .
قوله: {مَعَاذَ الله} هنا فى موضعين، وليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل ذكره حين دعته إِلى المواقعة، والثانى حين دُعى إِلى تغيير حكم السّرقة.(1/257)
قوله: {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} فى موضعين: أَحدهما فى حضرة يوسف، حين نَفَين عنه البشرية بزعمهنَّ، والثانى بظهر الغَيب حين نَفَين عنه السّوءَ.
قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} (فى موضعين) ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل من كلام من صاحبى السّجن ليوسف، والثانى من كلام إِخوته له.
قوله: {ياصاحبي السجن} فى موضعين: الأَوّل ذَكَره يوسف حين عدل عن جوابهما إِلى دعائهما إِلى الإِيمان. والثانى حين عاد إِلى تعبير (رؤياهما) ؛ تنبيهاً على أَنَّ الكلام الأَوّل قد تمّ.
قوله: {لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} كرّر (لعلِّى) مراعاةً لفواصل الآى. ولو جاءَ على مقتضى الكلام لقال: لعلىّ أَرجع إِلى النَّاس فيعلموا، بحذف النون على الجواب. ومثله فى هذه السّورة سواءً قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَى لعلَّهم يعرفونها فيرجعوا.
قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ} فى موضعين: الأَوّل حكاية عن(1/258)
تجهيزه إِيّاهم أَوَّل ما دخلوا عليه. والثانى حين أَرادوا الانصراف من عنده فى المرّة الثانية. وذكَرَ الأَوّل بالواو؛ لأَنَّه أَوّل قَصَصهم معه، والثَّانى بالفاءِ، عطفاً على {وَلَمَّا دَخَلُواْ} وتعقيباً له.
قوله: (تالله) فى ثلاثة مواضع: الأَوّل يمين منهم أَنهم ليسوا سارقين، وأَنَّ أَهل مصر بذلك عالمون، والثَّانى يمين منهم أَنَّك لو واظبت على هذا الحزن والجَزَع تصير حَرَضاً، أَو تكونُ من الهالكين، والثالث يمين منهم أَنَّ الله فضَّله عليهم، وأَنَّهم كانوا خاطئين.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} وفى الأَنبياءِ {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} بغير (مِن) لأَن (قبل) اسم للزَّمان السّابق على ما أُضيف إِليه، و (مِن) يفيد استيعاب الطَّرفين، وما فى هذه السّورة للاستيعاب. وقد يقع (قبل) على بعض ما تقدم؛ كما فى الأَنبياءِ، وهو قوله: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} ثم وقع عقِبه {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فحذف (مِن) لأَنَّه هو بعينه.(1/259)
قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} بالفاءِ. وفى الروم والملائكة بالواو؛ لأَنَّ الفاءَ يدلّ على الاتِّصال والعطف، والواو يدلّ على العطف المجرّد. وفى هذه السّورة قد اتَّصلت بالأَوّل؛ كقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ} حال مَن كذَّبهم وما نزل بهم، وليس كذلك فى الرّوم والملائكة.
قوله: {وَلَدَّارُ الآخرة خَيْرٌ} بالإِضافة، وفى الأَعراف {والدار الآخرة خَيْرٌ} على الصّفة؛ لأَنَّ هنا تقدّم ذكرُ السّاعة، فصار التقدير: ولدار السّاعة الآخرة، فحذف الموصوف، وفى الأَعراف تقدّم قوله: {عَرَضَ هاذا الأدنى} أَى المنزل الأَدنى، فجعله وصفاً للمنزل، والدّار الدّنيا والدّار الآخرة بمعناه، فأُجْرى مُجْراه. تأَمّل فى السّورة فإِنَّ فيها برهان أَحسنِ القصص.
فضل السّورة
لم يرد فيه سوى أَحاديث واهية. منها حديث أُبىّ: علِّموا أَرقّاءَكم سورة يوسف؛ فإِنَّه أُيُّما مسلمٍ تلاها وعلَّمها أَهلَه، وما ملكت يمينه، هوّن الله عليه سَكَرَات الموت، وأَعطاه القوّة أَلاَّ يحسُد مسلماً، وكان له بكلّ(1/260)
رقيق فى الدّنيا مائةُ أَلف أَلف حسنة، ومثلها درجة، ويكون فى جوار يوسف فى الجنَّة. ثمّ قال: تعلَّموها وعلِّموها أَولادكم؛ فإِنَّه مَنْ قرأَها كان له من الأَجر كأَجر مَن اجتنب الفواحش، وأَجر من غضَّ بصره عن النظر إِلى الحرام. وقال: يا علىّ مَنْ قرأَ سورة يوسف تَقَبّل الله حسناته، واستجاب دعاءَه، وقضى حوائجه وله بكلّ آية قرأَها ثواب الفقراءِ.(1/261)
بصيرة فى.. المر. تلك آيات الكتاب والذى أنزل اليك
السّورة مكِّيّة. وعدد آياتها سبع وأَربعون عند الشاميّين، وثلاث عند الكوفيّين، وأَربع عند الحجازيّين، وخمس عند البصريّين. وكلماتها ثمان مائة وخمس وستون. وحروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وستَّة أَحرف.
والآيات المختلف فيها خمس: (جديد، النور، البصير، وسُوءُ الحساب، من كل باب) .
وفواصل آياتها يجمعها قولك (نقر دِعْبل) منها على العين آية واحدة {إِلاَّ مَتَاعَ} وما على النون فقبل النون واوٌ، وسائر الآيات الَّتى على الباءِ فقبلها أَلف؛ نحو مآب، متاب، سوى (القلوب) ؛ فقبلها واوٌ.
وتسمّى سورة الرّعد؛ لقوله فيها: {يُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} .(1/262)
مقصود السّورة: بيان حُجّة التوحيد فى تخليق السّماوات والأَرض، واستخراج الأَنهار والأَشجار والثمار، وتهديدُ الكفَّار، ووعيدُهم، وذكر تخليق الأَولاد فى أَرحام الأُمهات، على تباين الدّرجات، ومع النقصان والزِّيادات، فى الأَيّام والسّاعات، واطِّلاع الحقِّ تعالى على بواطن الأَسرار، وضمائر الأَخيار والأَشْرار، وذكر السّحاب، والرّعد، والبرق، والصّواعق، والانتظار. والرّدّ على عبادة الأَصنام، وقصّة نزول القرآن من السّماءِ، والوفاءُ بالعهد، ونقض المِيثاق، ودخول الملائكة بالتسليم على أَهل الجنان، وأُنْس أَهل الإِيمان، بذكر الرّحمة، وبيان تأْثير القرآن، فى الآثار والأَعيان، وكون عاقبة أَهل الإِيمان إِلى الجنَان، ومقرّ مرجع الكفَّار إِلى النِّيران، والمحو والإِثبات فى اللَّوح بحسب مَشيئة الديّان، وتقدير الحقِّ فى أَطراف الأَرض بالزِّيادة والنقصان، وتقرير نبوّة المصطفى بنزول الكتاب، وبيان القرآن فى قوله: {وَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} إِلى آخر السّورة.(1/263)
النَّاسخ والمنسوخ:
فى السّورة آيتان {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} م آية السّيف ن {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} م {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} ن وقيل: هى محكمة.
المتشابهات:
قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} ، وفى لقمان: {إِلَى أَجَلٍ} لا ثانى له، لأَنَّك تقول فى الزَّمان: جَرَى ليوم كذا، وإِلى يوم كذا، والأَكثر اللام؛ كما فى هذه السّورة، وسورة الملائكة. وكذلك فى يس {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَهَا} ؛ لأَنَّه بمنزلة التَّاريخ؛ تقول: كتبت لثلاث بَقِين من الشهر، وآتِيك لخمس تبقى من الشَّهر. وأَما فى لقمان فوافق ما قبلها، وهو قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ} ، والقياس: لله؛ كما فى قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ} لكنَّه حُمل على المعنى، أَى يَقصد بطاعته إِلى الله، كذلك: يجرى إِلى أَجل مسمّى، أَى يجرى إِلى وقته المسمّى له.
قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وبعدها {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ(1/264)
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ؛ لأَنَّ بالتفكُّر فى الآيات يعقل ما جعلت الآيات دليلاً له؛ فهو الأَوّل المؤدّى إِلى الثَّانى.
قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} هاهنا موضعان. وزعموا أَنَّه لا ثالث لهما. ليس هذا بتكرار محض؛ لأَنَّ المراد بالأَوّل آية ممّا اقترحُوا؛ نحو ما فى قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض} الآيات وبالثانى آية مَّا، لأَنهم لم يهتدوا إِلى أَن القرآن آية فوق كلِّ آية، وأَنكروا سائر آياته صلَّى الله عليه وسلَّم.
قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض} وفى النحل {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة} وفى الحجّ {أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم} ؛ لأَنَّ فى هذه السّورة تقدّم آية السّجدة ذكرُ العُلْويّات: من البرق والسّحاب والصواعق، ثمّ ذِكر الملائكة وتسبيحهم، وذَكر بأَخرة الأَصنام والكفَّار، فبدأَ فى آية السّجدة بذكر من فى السّماوات لذلك، وذَكَر الأَرض تبعاً، ولم يذكر مَن فيها؛ استخفافاً بالكفاَّر والأَصنام. وأَمّا فى الحجّ فقد تقدّم ذكر المؤْمنين وسائر الأَديان، فقدّم ذكر مَن فى السّماوات؛ تعظيما لهم ولها، وذكر مَن فى الأَرض؛ لأَنهم هم الَّذين تقدّم ذكرهم. وأَمّا فى النَّحل فقد تقدّم ذكرُ ما خلق الله على العموم،(1/265)
ولم يكن فيه ذكر الملائكة، ولا الإِنس تصريحاً، فنصّت الآية ما فى السّماوات وما فى الأَرض؛ فقال فى كلِّ آية ما ناسبها.
قوله: {نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} قد سبق.
قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله} ليس بتكرار؛ لأَنَّ التقدير: كذلك يضرب الله للحقِّ والباطل الأَمثال، فلمّا اعترض بينهما (فأَمّا) و (أَمّا) وطال الكلام أَعاد، فقال: {كذلك يَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ} .
قوله: {لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} وفى المائدة {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ؛ لأَن (لو) وجوابها يتَّصلان بالماضى، فقال: فى هذه السّورة {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} وجوابه فى المائدة {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} وهو بلفط الماضى، وقوله: {لِيَفْتَدُواْ بِه} عِلَّة، وليس بجواب.
قوله: {مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} فى موضعين: هذا ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل متَّصل بقوله: (يَصِلُون) وعطف عليه (ويخْشَوْن) ، والثَّانى متَّصل بقوله: (يقطعون) وعطف عليه (يفسدون) .
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} ومثله فى المؤمنين ليس بتكرار. قال ابن عباس: عَيّروا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باشتغاله(1/266)
بالنِّكاح والتَّكثُّر منه فأَنزل الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} فكان المراد من الآية قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} بخلاف ما فى المؤمنين؛ فإِنَّ المراد منه: لست ببدْع من الرسل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
قوله: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ} مقطوع، وفى سائر القرآن: (وإِمّا) موصول. وهو من الهجاءِ: (إِن) و (ما) وذكر فى موضعين.
فضل السّورة
يذكر فيه من الأَحاديث السّاقطة حديث أُبىّ: مَن قرأَ سورة الرّعد أُعطى من الأَجر عشرَ حسنات، بوزن كلِّ سحاب مضى، وكلِّ سحاب يكون، إِلى يوم القيامة، ودرجاتٍ فى جنات عَدْن، وكان يوم القيامة فى أَولاده، وذرّيّته، وأَهل بيته من المسلمين. وعن جعفر الصادق: من قرأَها لم تصبه صاعقةٌ أَبداً، ودخل الجنة بلا حساب، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ سورة الرّعد كُتب له بكل قطرة تمطر فى تلك السنة ثمانون حسنة، وأَربع وثمانون درجة، وله بكل آية قرأَها مثلُ ثوابِ مَنْ يموت فى طلب العلم.(1/267)
بصيرة فى.. الر. كتاب أنزلناه اليك
السّورة مكيّة إِجماعاً، غير آية واحدة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} الآية. وعدد آياتها خمس وخمسون عند الشاميّين، واثنتان عند الكوفيّين، وأَربع عند الحجازيّين، وواحدة عند البصريّين، وكلماتها ثمانمائة وإِحدى وثلاثون. وحروفها ستَّة آلاف وأَربعمائة وأَربع وثلاثون.
والآيات المختلف فيها سبع: {إِلَى النُّوْرِ} ، وعاد، وثمود، {بِخَلْقٍ جَدِيْدٍ} ، {وَفَرْعُهَا فِيْ السَّمَآءِ} {الليل والنهار} {عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} .
مجموع فواصل آياتها (آدم نظر، صبّ ذلّ) .
وتسمّى سورة إِبراهيم؛ لتضمُّنها قصّة إِسكانه ولده إِسماعيل بواد غير ذى زرع، وشكره لله تعالى على ما أَنعم عليه من الولدَيْن: إِسماعيل وإِسحاق.
مقصود السّورة: بيان حقيقة الإِيمان، وبرهان النبوّة، وأَن الله تعالى أَرسل كلّ رسول بلغة قومه، وذِكر الامتنان على بنى إِسرائيل بنجاتهم من فرعون، وأَنَّ القيام بشكر النّعم يوجِب المزيد، وكفرانها يوجب الزّوال، وذكر معاملة القرون الماضية مع الأَنبياءِ، والرّسل الغابرين، وأَمر الأَنبياءِ(1/268)
بالتَّوكُّل على الله عند تهديد الكفَّار إِيّاهم، وبيان مَذلَّة الكفَّار فى العذاب، والعقوبة، وبطلان أَعمالهم، وكمال إِذلالهم فى القيامة، وبيان جَزعهم من العقوبة، وإِلزام الحجّة عليهم، وإِحال إِبليس اللاَّئمة عليهم، وبيان سلامة أَهل الجنَّة، وكرامتهم، وتشبيه الإِيمان (والتَّوحيد بالشَّجرة الطَّيّبة وهى النخلة وتمثيل الكفر بالشَّجرة الخبيثة وَهى الحنطة وتثبيت أَهل الإِيمان) على كلمة الصّواب عند سؤال منكَر ونكير، والشكوى من الكفَّار بكفران النِّعمة، وأَمر المؤمنين بإِقامة الصّلوات، والعبادات، وذكر المِنَّة على المؤمنين بالنِّعم السّابغات، ودعائه إِبراهيمُ بتأْمين الحَرَم المكِّى، وتسليمه إِسماعيل إِلى كرم الحَقِّ تعالى. ولطفه وشكره لله على إِعطائه الولد، والتهديد العظيم للظَّالمين بمذلَّتهم فى القيامة، وذِكْر أَن الكفار قُرناءُ الشياطين فى العذاب، والإِشارة إِلى أَنَّ القرآن أَبلغ وعظ، وذكرى للعقلاءِ فى قوله: {هاذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} إِلى آخر السّورة.
والسّورة خالية عن المنسوخ فى قول. وعند بعضهم {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} م {إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} م.
المتشابهات:
قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وبعده {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} لأَنَّ الإِيمان سابق على التوكُّل.(1/269)
قوله: {مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} والقياس على شىء ممّا كسبوا كما فى البقرة لأَنَّ على (من صلة القدرة، ولأَن (مما كسبوا) صف لشىء. وإِنَّما قدم فى هذه السورة لأَن) الكسب هو المقصود بالذكر، وأَنَّ المَثَل ضُرب للعمل، يدلّ عليه قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} .
قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وفى النَّمل: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء} بزيادة (لكم) ؛ لأَنَّ (لكم) فى هذه السّورة مذكور فى آخر الآية، فاكتُفِىَ بذكره، ولم يكن فى النَّمل فى آخرها، فذكر فى أَوّلها. وليس قوله: {مَا كَانَ لَكُمْ} يكفى من ذكره؛ لأَنَّه نفى لا يفيد معنى الأَوّل.
قوله: {فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} قدّم الأَرض؛ لأَنَّها خُلِقت قبل السّماءِ؛ ولأَنَّ هذا الدّاعى فى الأَرض. وقدّمت الأَرض فى خمسة مواضع: هنا، وفى آل عمران، ويونس، وطه، والعنكبوت.
قوله: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} (خصّ أُولى الأَلباب) بالذكْر لأَنَّ المراد فى الآية التَّذكُّر، والتدبّر، والتَّفكُّر فى القرآن، وانَّما يتأَتَّى ذلك منهم، مِثله فى البقرة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} يريد فَهْم معانى(1/270)
القرآن، ثمّ خَتَم الآية بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} ومثلها فى آل عمران {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} وذكر فيه المحكمات والمتشابهات، وختمها بقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} ، ولا رابع لها فى القرآن.
فضل السّورة
ذكروا فيه أَحاديث ضعيفة واهية. منها: مَن قرأَ سورة إِبراهيم أُعْطِى من الأَجْر عشرَ حسنات، بعدد كلّ مَن عبد الأَصنام، وعدد من لم يعبدها، وفى لفظٍ: أُعطى بعدد مَن عبد الأَصنام مدينةً فى الجنَّة، لو نزل بها مثلُ يأْجوج ومأْجوج لوسِعتهم ما شاءُوا من اللِّباس، والخَدَم، والمأْكول، وسائر النِّعم، وحرم عليهم سرابيل القطِران، ولا تغشى النّارُ وجهه، وكان مع إِبراهيم فى قباب الجنان، وأُعْطِى بعدد أَولادِ إِبراهيم حسنات ودرجات، وحديث علىّ: يا علىُّ مَن قرأَ سورة إِبراهيم كان فى الجنَّة رفيق إِبراهيم، وله مثلُ ثواب إِبراهيم، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب إِسحاق بن إِبراهيم.(1/271)
بصيرة فى.. ألر. تلك آيات الكتاب وقرآن مبين
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. وعدد آياتها تسع وتسعون بلا خلاف. وكلماتها ستّمائة وأَربع وخمسون. وحروفها أَلفان وسبعمائة وستون.
ومجموع فواصل آياتها (مِلْن) على اللاَّم منها آيتان: {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} ، {فاصفح الصفح الجميل} .
وتسمّى سورة الحِجْر؛ لاشتمالها على قصّتهم، وقوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} .
مقصود السّورة إِجمالاً: بيان حقيقة القرآن، وحفظ الحقِّ وبرهان النبوّة وحفظ الحقِّ كتابَه العزيز من التغيير والتبديل، وتزيين السّماوات بمواكب الكواكب وحفظهما برُجوم النجوم من استراق الشَّيّاطين السّمع، وتقديره تعالى الماء والسّحاب من خزائن برّه، ولُطْفه، وعلمه تعالى بأَحوال المتقدّمين فى الطَّاعة والمتأَخِّرين عنها، وبيان الحكمة فى تخليق آدم، وأَمر الملائكة المقرّبين بسجوده، وتعيير إِبليس، وملامته(1/272)
على تأبِّيه واستكباره وجحوده، واستحقاقه اللَّعنة من الله بعصيانه وطغيانه، وجراءَته بالمناظرة لخالقه ومعبوده، وبيان قَسْم الدّركات (على أَهل اللذات) والضَّلالات، وذكر المستوجبى الجنَّة من المؤمنين، وإِخبار الله تعالى عبادَه بالرحمة والغفران، وتهديدهم بالعذاب والعقاب، والإِشارة إِلى ذكر أَضياف الخليل علَيه السّلام، والنَّهى عن القُنُوط من الرّحمة، وذكر آل لوط، وسكرتهم فى طريق العَماية والضَّلالة، وتسلية النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم عن جفاءِ الكفَّار، وبذىءِ أَقوالهم، والمَنِّ عليه صَلَّى الله عليه وسلَّم بنزول السّبع المثانى، ومشون القرآن العظيم، والشكوى عن الطَّاعنين فى القرآن، وذكر القَسَم بوقوع السّؤال فى القيامة، وأَمر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بإِظهار الدّعوة، والمنّ عليه بإِهلاك أَعداءِ دينه، ووصيّته بالعبادة إِلى يوم الحقِّ واليقين فى قوله: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} .
النَّاسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ أَربع آيات {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} م آية السّيف ن {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} م آية السّيف ن {فاصفح الصفح الجميل} م(1/273)
آية السّيف ن {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} آية السّيف ن.
المتشابهات
قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا} وفى غيرها: (لولا) ؛ لأَنَّ (لولا) يأْتى على وجهين: أَحدهما امتناع الشىء لوجود غيره؛ وهو الأَكثر. والثانى بمعنى (هَلاَّ) وهو التَّحضيض. ويختصّ بالفعل، و (لوما) بمعناه. وخُصّت هذه السّورة بلوما؛ موافقةً لقوله: (رُبَما) فإِنَّها أَيْضاً ممّا خُصّت به هذه السّورة.
قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً} ، وفى البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ} ولا ثالث لهما؛ لأَن (جَعَل) إِذا كان بمعنى (خَلَقَ) يُستعمل فى الشىء يتجدّد ويتكرّر؛ كقوله: {خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} ، لأَنَّهما يتجدّدان زماناً بعد زمان. وكذلك الخليفة يدلّ لفظه على أَنَّ بعضهم يخلف بعضاً إِلى يوم القيامة. وخُصّت هذه السّورة بقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ} إِذ ليس فى لفظ البَشَر ما يدلّ على التجدّد والتكرار، فجاءَ فى كلِّ واحدة من السّورتين ما اقتضاه ما بعدهما من الأَلفاظ.(1/274)
قوله: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فى هذه السّورة، وفى ص؛ لأَنَّه لمّا بالغ فى السّورتين فى الأَمر بالسّجود وهو قوله: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِيْنَ} فى السّورتين بالغ فى الامتثال فيهما فقال: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} ليقع الموافقة بين أُولاها وأُخراها. وتمام قصّة آدم وإِبليس سبق.
قوله هنا لإِبليس: {اللَّعْنَةُ} وقال فى ص {لَعْنَتِي} لأَنَّ الكلام فى هذه السّورة جَرَى على الجنس فى أَوّل القصّة فى قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} {والجآن خَلَقْنَاهُ} {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ} لذلك قال: {اللَّعْنَةُ} وفى ص تقدّم {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فختم بقوله {لَعْنَتِي} .
قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} وزاد فى هذه السّورة {إِخْوَاناً} لأَنَّها نزلت فى أَصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلَّم، وما سواها عامّ فى المؤمنين.
قوله فى قصّة إِبراهيم: {فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} لأَن هذه السّورة متأَخرة، فاكْتُفى بما فى هود؛ لأَنَّ التَّقدير: فقالوا: سلاماً، قال: سلام، فما لبث أَن جاءَ بعجل حنيذ، فلما رأَى أَيديَهم لاتصل إِليه نكِرهم وأَوجس منهم خيفة، قال: إنا منكم وجلون. فحذف للدّلالة عليه.(1/275)
قوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} وفى غيرها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} قال بعض المفسّرين: (عليهم) أَى على أَهلها، وقال بعضهم: على من شَذّ من القرية منهم. وقال تاج القراء: ليس فى القولين ما يوجب تخصيص هذه السّورة بقوله: (عليهم) بل هو يعود إِلى أَوّل القصّة، وهو {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} ثمّ قال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} قال: وهذه لطيفة فاحفظها.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} بالجمع وبعدها {لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} على التَّوحيد. قال الإِمام: الأُولى إشارة إِلى ما تقدّم من قصّة لوط [وضيف إِبراهيم، وتعرّض قوم لوط لهم] طمعاً فيهم، وقلب القرية على من فيها، وإِمطار الحجارة عليها، وعلى من غاب منهم. فختم بقوله: {لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَى لمَن يتدبّر السِّمَة، وهى ما وَسَم الله به قوم لوط وغيرهم، قال: والثانية تعود إِلى القرية: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} وهى واحدة، فوحّد الآية. وقيل: ما جاءَ فى القرآن من الآيات فلجمع الدّلائل، وما جاءَ من الآية فلوحدانيّة المدلول عليه. فلمّا ذكر عقِبه(1/276)
المؤمنين، وهم مُقِرُّون بوحدانية الله تعالى، وحّد الآية. وليس لها نظير إِلاَّ فى العنكبوت، وهو قوله تعالى {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} فوحّد بعد ذكر الجمع لِمَا ذكرت والله أَعلم.
فضل السّورة:
ذكروا أَحاديث واهية. منها: مَن قرأَ سورة الحِجْر كان له من الأَجْر عشرُ حسنات بعدد المهاجرين، والأَنصار، والمستهزئين، بمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم. وعن جعفر أَنَّه قال: من قرأَ سورة الحِجْر لا يصيبه عطش يوم القيامة. ومَنْ قرأها فى ركعتى كلِّ جمعة لم يصبه فقر أَبداً، ولا جنون، ولا بَلْوَى. وحديثُ علىّ: يا علىّ مَن قرأَ سورة الحِجْر لا يُنصب له ميزان، ولا يُنشَر له دِيوان، وقيل له: ادخل الجنَّة بغير حساب. وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب أَصحاب البلاءِ.(1/277)
بصيرة فى.. أتى أمر الله
هذه السّورة مكِّيّة، إِلاَّ قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} إِلى آخر السّورة. وقيل: أَربعون آية منها مكِّيّة، والباقى مَدَنىّ. والأَوّل أَولى. عدد آياتها مائة وثمانية وعشرون. وكلماتها أَلفان وثمانمائة وأَربعون. وحروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أَحرف.
ومجموع فواصل آياتها (نمرّ) منها اثنتان على الرّاءِ آخراهما {قَدِيْرٍ} وسُمّيت سورة النَّحل لِمَا فيها من عجائب ذكر النَّحل.
معظم ما اشتملت عليه السّورة: تخويف العباد بمجئ القيامة، وإِقامة حُجّة الوحدانية، وذكر ما فى الأَنعام من المنافع والنِّعم، وما فى المراكب من التَّجمّل والزينة، وذكر المُسِيم والنبات والشجر، وتسخير الشمس والقمر، وتثبيت الأَرض والجبال والحَجَر، وهداية الكواكب فى السّفر والحضر، والنِعم الزَّائدة عن (العد والإِحصاء) ، والإِنكار(1/278)
على أَهل الإِنكار، وجزاءُ مَكْر المُكَّار، ولعنة الملائكة على الأَشرار، عند الاحتضار، وسلامهم فى ذلك الوقت على الأَبرار والأَخيار، وبيان أَحوال الأَنبياءِ والمرسلين مع الأُمم الماضين، وذكر الهجرة والمهاجرين، وذكر التَّوحيد، وتعريف المنعِم، ونعَمه السّابغات، ومذَمَّة المشركات بوأد البنات، وبيان الأَسماء والصّفات، والمنَّة على الخلائق بإِنزال الرّحمات، وعدّها من الإِنعام فى باب الأَنعام والحيوانات، وبيان فوائد النَّحْل، وذكر ما اشتمل عليه: من عجيب الحالات، وتفضيل الخَلْق فى باب الأَرزاق والأَقوات، وبيان حال المؤمن والكافر، وتسخير الطيور فى الجوّ صافّات، والمِنَّة بالمساكن والصّحارى والبّرِّيَّات، وشكاية المتكبّرين، وذكر ما أُعِدّ لهم من العقوبات، والأَمر بالعدل والإِحسان، والنَّهى عن نقض العهد والخيانات، وأَنَّ الحياة الطَّيّبة فى ضمن الطَّاعات، وتعلم الاستعاذة بالله فى حال تلاوة الآيات المحكمات، وردّ سلطان الشَّيطان من المؤمنين والمؤمنات، وتبديل الآيات بالآيات، لمصالح المسلمين والمسلمات، والرّخصة بالتَّكلم بكلمة الكفر عند الإِكراه والضَّرورات، وبيان التحريم والتحليل فى بعض الحالات، وذكر إِبراهيم الخليل وما مُنح من الدّرجات، وذكر السّبْتِ والدّعاءِ إِلى سبيل الله بالحكمة والعظات الحسنات، والأَمر بالتسوية فى المكافآت بالعقوبات، والأَمر بالصّبر على(1/279)
البليّات، ووعد المتَّقين والمحسنين بأَعظم المثوبات، بقوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} .
النَّاسخ والمنسوخ فى هذه السّورة ثلاث آيات منسوخة م {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} م {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} ن {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} م آية السّيف ن {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
فيها فى موضعين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} بالجمع. وفى خمسة مواضع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} على الوحدة. أَما الجمع فلموافقة قوله: {مُسَخَّرَاتٌ} فى الآيتين؛ لتقع المطابقة فى اللفظ والمعنى. وأَمّا التوحيد فلتوحيد المدلول عليه.
من الخمس قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} وليس له نظير. وخصّ بالذِّكر لاتِّصاله بقوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} ؛ فإِن اختلاف أَلوان الشىء وتغيّر أَحواله يدلّ على صانع حكيم لا يشبهها ولا تشبهه، فمن تأَمل فيها اذَّكَّر.(1/280)
ومن الخمس: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فى موضعين، وليس لهما نظير. وخُصّتا بالفكر؛ لأَن الأُولى متصلة بقوله: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات} وأَكثرها للأَكل، وبه قوام البدن، فيستدعى تفكيراً وتأَمّلاً، ليعرف به المنعِم عليه فيشكره. والثانية متَّصلة بذكر النحل، وفيها أُعجوبة: من انقيادها لأَميرها، واتِّخاذها البيوت على أَشكال يعجز عنها الحاذق منَّا، ثم تتبُّعها الزَهَر والطلى من الأَشجار، ثم خروج ذلك من بطونها لُعابا أَو وَنِيما، فاقتضى ذلك فكراً بليغاً، فختم فى الآيتين بالتفكُّر.
قوله: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} ، وفى الملائكة: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ} ، ما فى هذه السورة جاءَ على القياس؛ فإِن (الفُلك) المفعولُ الأَوّل لترى، و (مَوَاخِرَ) المفعول الثانى، و (فيه) ظرف، وحقُّه التأَخُّر. والواو فى (ولتبتغوا) للعطف على لام العلة فى قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ} . وأَمّا فى الملائكة فقدّم (فيه) موافقة لما قبله، وهو قوله: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِّيًّا} فقدّم الجارّ والمجرور، على الفعل والفاعل، ولم يزد الواو على (لتبتغوا) لأَن اللام فى (لتبتغوا) هنا لام العلة، وليس يعطف على شىء قبله. ثم إِن قوله: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} و {فِيهِ مَوَاخِرَ} اعتراض فى السورتين يجرى مجرى المثل، ولهذا وَحّد الخطاب،(1/281)
وهو قوله: (وترى) وقبله وبعده جمع، وهو قوله: (لتأكلوا) و (تستخرجوا) و (لتبتغوا) . وفى الملائكة: (تأكلون) و (تستخرجون) ، (لتبتغوا) ومثله فى القرآن كثير، منه {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} وكذلك {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} ، {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} وأَمثاله. أَى لو حضرت أَيها المخاطب لرأَيته فى هذه الصفة؛ كما تقول: أَيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، فتأَمل فإِن فيه دقيقة.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} وبعده: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} إِنما رفع الأَول؛ لأَنهم أَنكروا إِنزال القرآن، فعدلوا عن الجواب، فقالوا: أَساطير الأَولين. والثانى من كلام المتقين، وهم مقِرّون بالوحى والإِنزال، فقالوا: خيراً، أَى أَنزل خيراً، فيكون الجواب مطابقاً، و (خيرا) نَصْب بأَنزل. وإِن شئت جعلت (خيرا) مفعول القول، أَى: قالوا خيراً ولم يقولوا شَرّا كما قالت الكفَّار. وإِن شئت جعلت (خيرا) صفة مصدر محذوف، أَى قالوا قولا خيراً. وقد ذكرت مسأَلة (ماذا) فى مواضعه.
قوله: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} ليس فى القرآن نظيره للعطف بالفاءِ على التعقيب فى قوله: {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} واللام للتأكيد تجرى(1/282)
مجرى القسم موافَقة لقوله: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} وليس له نظير، وبينهما: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} .
قوله: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} هنا وفى الجاثية، وفى غيرهما {مَا كَسَبُواْ} ؛ لأَن العمل أَعمّ من الكسب، ولهذا قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وخُصّت هذه السورة (بالعمل) لموافقة ما قبله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولموافقة ما بعده وهو قوله: {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} ومثله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} فى الزمر. وليس لها نظير.
قوله: {لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} قد سبق.
قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات} قد سبق.
قوله: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ومثله فى الروم و (فى) العنكبوت: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} باللام والياءِ. أَما التاءُ فى السورتين فبإِضمار القول أَى قل لهم: تمتعوا، كما فى قوله: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} وكذلك: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} .(1/283)
وخصصت هذه السّورة بالخطاب لقوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم} وألحق ما فى الروم به. وأَمّا [ما] فى العنكبوت فعلى القياس، عطف على اللام قبله، وهى للغائب.
قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} وفى الملائكة: {بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} الهاءُ فى هذه السورة كناية عن الأَرض، ولم يتقدّم ذكرها. والعرب تجوّز ذلك فى كلمات منها الأَرض، تقول: فلان أَفضل مَنْ عليها، ومنها السماء، تقول: فلان أَكرم مَن تحتها، ومنها الغداة (تقول) : إِنها اليوم لباردة. ومنها الأَصابع تقول: والذى شقَّهن خَمسا من واحدة، يعنى الأَصابع من اليد. وإِنما جوّزوا ذلك لحصولها بين يَدَىْ متكلم وسامع. ولمّا كان كناية عن غير مذكور لم يُزد معه الظهر لئلا يلتبس بالدّابة؛ لأَن الظهر أَكثر ما يستعمل فى الدابَّة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "المنبتُّ لا أَرضا قطع ولا ظهرا أَبقى" وأَما فى الملائكة فقد تقدّم ذكر الأَرض فى قوله: {أَوَلَمْ يَسِيْرُواْ فِيْ الأَرْضِ} وبعدها: {وَلاَ فِيْ الأَرْضِ} فكان كناية عن مذكور سابق، فذكر الظهر حيث لا يلتبس. قال الخطيب: إِنما قال فى النحل: {بِظُلْمِهِمْ} ولم يقل (على ظهرها) احترازا عن الجمع بين الظاءين؛ لأَنها تثقل فى الكلام، وليست لأُمّة من الأُمم سوى العرب. قال: ولم يجئ فى هذه السّورة إِلا فى سبعة أحرف؛ نحو(1/284)
الظلم والنظر والظلّ وظلّ وجهه والظفر والعظم والوعظ، فلم يجمع بينهما فى جملتين معقودتين عَقْد كلام واحد، وهو لَوْ وجوابُه.
قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} وفى العنكبوت: {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَآ} وكذلك حذف (من) من قوله: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} وفى الحج {مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} فحذف (من) فى قوله: {بَعْدِ مَوْتِهَآ} موافقة لقوله: {بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} وحذف (من) فى قوله: {بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} لأَنه أَجمل الكلام فى هذه السورة، فقال: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} وفصّله فى الحجّ فقال: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} إِلى قوله: {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} فاقتضى الإِجمال الحذفَ، والتفصيل الإِثباتَ. فجاءَ فى كل سورة ما اقتضاه الحال.
قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} وفى المؤمنين {فِي بُطُوْنِهَا} لأَن فى هذه السورة يعود إِلى البعض وهو الإِناث لأَن اللبن لا يكون للكل. فصار تقدير الآية: وإِن لكم فى بعض الأَنعام، بخلاف ما فى المؤمنين، فإِنه لمّا عطف ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض - وهو قوله: {وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا} لم يحتمل أَن يكون المراد البعض، فأنَّث حملا على الأَنْعام، وما قيل: إِن (الأَنعام) هاهنا بمعنى النعم لأَن الأَلف واللام يُلحِق الآحادَ بالجمع والجمعَ بالآحاد حسنٌ؛ إِلا أَن الكلام وقع فى التخصيص. والوجه ما ذكرت. والله أَعلم.(1/285)
قوله: {وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} وفى العنكبوت {يَكْفُرُونَ} بغير (هم) لأَن فى هذه السورة اتَّصل (الخطاب) {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} ثم عاد إِلى الغيبة فقال: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} فلا بدّ مِن تقييده بهم لئلا يلتبس الغَيْبَة بالخطاب والتاءُ بالباءِ. وما فى العنكبوت اتصل بآيات استمرّت على الغَيبة فلم يحتج إِلى تقييده بالضمير.
قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} كرّر إِنّ، وكذلك فى الآية الأخرى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} لأَن الكلام لمّا طال بصلته أَعاد إِن واسمها وثمّ، وذكر الخبر. ومثله {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} أَعاد (أَنَّ) لمّا طال الكلام.
قوله: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا} وفى النمل: {وَلاَ تَكُنْ} بإِثبات النون. هذه الكلمة كثر دَوْرها فى الكلام فحذف النون فيها تخفيفاً من غير قياس بل تشبُّها بحروف العلَّة. ويأتى ذلك فى القرآن فى بضعة عشر موضعا تسعة منها بالتاءِ، وثمانية بالياءِ، وموضعان بالنون، وموضع بالهمزة. وخصّت هذه السورة بالحذف دون النمل موافقة لما قبلها وهو قوله: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ} والثانى أَن هذه الآية نزلت تسلية للنبى(1/286)
صلى الله عليه وسلم حين قتل حمزة ومثِّل به فقال عليه السلام: لأَفعلنَّ بهم ولأَصنعنَّ، فأَنزل الله تعالى: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} فبالغ فى الحذف ليكون ذلك مبالغة فى التسلِّى، وجاءَ فى النمل على القياس، ولأَن الحزن هنا دون الحزن هناك.
فضل السّورة
رَوَى المفسّرون فى فضل السّورة أَحاديث ساقطة. منها حديث أُبىّ الواهى: مَن قرأَ سورة النَّحل لم يحاسبه الله بالنِّعم الَّتى أَنعَم عليه فى دار الدّنيا، وأُعطى من الأَجر كالَّذى مات فأَحسن الوَصِيّة. وعن جعفر أَن مَن قرأَ هذه السّورة فى كلِّ شهر كُفى عنه سبعون نوعاً من البلاءِ، أَهونها الجذام والبرص، وكان مسكنه فى جنّة عَدْن وسط الجنان، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَ سورة النَّحل فكأَنَّما نَصَر موسى وهارون على فرعون، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب أُمّ موسى.(1/287)
بصيرة فى.. سبحان الذى أسرى بعبده
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. وآياتها مائة وخمس عشرة آية عند الكوفيّين وعشر عند الباقين. وكلماتها أَلف وخمسمائة وثلاث وستُّون. وحروفها ستَّة آلاف وأَربعمائة وستون. والمختَلَف فيها آية واحدة {لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} .
فواصل آياتها أَلِف إِلاَّ الآية الأُولى، فإِنَّها راء. ولهذه السّورة اسمان: سورة سبحان، لافتتحاها بها، وسورة بنى إِسرائيل لقوله: فيها {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} .
مقصود السّورة ومعظم ما اشتملت عليه: تنزيه الحقِّ تعالى، ومعراج النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والإِسراءُ إِلى المسجد الأَقصى، وشكر نوح عليه السّلام، وفساد حال بنى إِسرائيل، ومكافأَة الإِحسان والإِساءَة، وتقويم القرآن الخلائق، وتخليق اللَّيل والنَّهار، وبيان الحكمة فى سير الشمس والقمر ودَورهما، وملازمة البخت المرءَ، وقراءَة الكتب فى القيامة،(1/288)
وبيان الحكمة فى إِرسال الرّسل، والشكوى من القرون الماضية، وذكر طلب الدّنيا والآخرة، وتفضيل بعض الخَلْق على بعض، وجعل برّ الوالدَيْن والتوحيد فى قَرَن واحد، والإِحسان إِلى الأَقارب، والأَمر بترك الإِسراف، وذمّ البخل، والنَّهى عن قتل الأَولاد، وعن الزِّناء، وقتل النَّفس ظلماً، وأَكل مال اليتيم، وعن التكبّر، وكراهية جميع ذلك، والسّؤال عن المَقُول والمسموع، والرّد على المشركين، وتسبيح الموجودات، وتعيير الكفَّار بطعنهم فى القرآن، ودعوة الحقِّ الخَلْق، وإِجابتهم له تعالى، وتفضيل بعض الأَنبياءِ على بعض، وتقرّب المقرّبين إِلى حضرة الجلال، وإِهلاك القُرَى قُبيْلَ القيامة، وفتنة النَّاس برؤيا النبىّ صلَّى الله عليه وسلم، وإِباءُ إِبليس من السّجدة لآدم، وتسليط الله إِيّاه على الخَلْق، وتعديد النِّعم على العباد، وإِكرام بنى آدم، وبيان أَنَّ كلّ أَحد يُدْعَى فى القيامة بكتابه، ودينه، وإِمامه، وقَصْد المشركين إِلى ضلال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وإِذلاله، والأَمر بإِقامة الصّلوات الخمس فى أَوقاتها، وأَمر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بقيام اللَّيل، ووعده بالمَقَام المحمود، وتخصيصه بمُدخل صدق، ومُخْرج صدق، ونزول القرآن بالشفاءِ، والرّحمة، والشكايةُ من إِعراض العبيد، وبيان أَنَّ كلَّ أَحد يصدر منه ما يليق به، والإِشارة إِلى جواب مسأَلة الرّوح، وعجز الخَلْق عن الإِتيان بمثل القرآن، واقتراحات المشركين على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتفصيل حالهم فى عقوبات(1/289)
الآخرة، وبيان معجزات موسى، ومناظرة فرعون إِيّاه، وبيان الحكمة فى تفرقة القرآن، وآداب نزوله، وآداب الدعاء وقراءَة القرآن، وتنزيه الحقِّ تَعالى عن الشريك والوَلَد فى {الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} إِلى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيْرًا} .
النَّاسخ والمنسوخ:
فى هذه السّورة آيتان منسوختان {وَقَضَى رَبُّكَ} إِلى قوله: {رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الدّعاءُ للميّت م فى حَقِّ المشركين {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} ن {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} إِلى قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} وخصّت سورة الكهف {أَجْراً حَسَنًا} ؛ لأَنَّ الأَجر فى السّورتين الجَنَّة، والكبير والحَسَن من أَوصافها؛ لكن خُصّت هذه السّورة بالكبير بفواصل الآى قبلها وبعدها، وهى (حصيراً) و (أَليماً) و (عجولاً) وجُلّها وقع قبل آخرها مَدّة. وكذلك فى سورة الكهف جاءَ على ما يقتضيه(1/290)
الآيات قبلها، وبعدها وهى (عِوَجاً) وكذا (أَبداً) وجُلّها ما قبل آخرها متحرّك. وأَمّا رفع (يبشِّر) فى سبحان ونصبها فى الكهف فليس من المتشابه.
قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلاها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلاها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} فيها بعض التشابه، ويُشْبه التكرار وليس بتكرار؛ لأَنَّ الأُولى فى الدّنيا، والثانية فى العُقْبى، والخطاب فيهما للنَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمراد به غيره، كما فى قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر} وقيل: القول مضمر، أَى قل لكلِّ واحد منهم: لا تجعل مع الله إِلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً فى الدّنيا وتُلْقى فى جهنَّم ملوماً مدحوراً فى الأُخرى. وأَمّا الثانية فخطاب للنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو المراد به. وذلك أَنَّ امرأَة بعثت صبيّاً لها إِليه مرّة بعد أُخرى، سأَلته قميصاً، ولم يكن عليه ولا له صلَّى الله عليه وسلَّم قميصٌ غيره، فنزعه ودفعه إِليه، فدخل وقتُ الصّلاة، فلم يخرج حياءً، فدخل عليه أَصحابه فرأَوه على تلك(1/291)
الصِّفة، فلاموه على ذلك، فأَنزل الله تعالى {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} يلومك النَّاس {مَّحْسُوراً} مكشوفاً. هذا هو الأَظهر من تفسيره والله أَعلم.
قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هاذا القرآن "لِيَذَّكَّرُواْ} ، وفى آخر السّورة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن" مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} فزاد، (للنَّاس) وقدّمه على القرآن، وقال: فى الكهف {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هاذا القرآن لِلنَّاسِ} إِنما لم يذكر فى أَوّل سبحان (للنَّاس) لتقدّم ذكرهم فى السّورة، وذكرهم فى (الكهف) إِذ لم يَجْر ذكرهم، وذكر النَّاس فى آخر سبحان، وإِن جرى ذكرهم؛ لأَنَّ ذكر الإِنْس والجنّ جرى معاً، فذكر (للنَّاس) كراهة الالتباس، وقدّمه على {فِي هاذا القرآن} كما قدّمه فى قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ثمّ قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن} وأَمّا فى الكهف فقدِّم {فِي هاذا القرآن} لأَنَّ ذكره أَجلّ الغرض. وذلك أَنَّ اليهود سألته عن قصّة أَصحاب الكهف، وقصّة ذى القرْنينْ، فأَوحى الله إِليه فى القرآن؛ وكان تقديمه فى هذا الموضع أَجدر، والعناية بذكره أَحرى وأَخلق.
قوله: {وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} ثمّ أَعادها فى آخر السّورة بعينها، من غير زيادة ولا نقصان؛ لأَنَّ هذا ليس بتكرار؛ فإِنَّ الأَوّل من كلامهم فى الدّنيا، حين جادلوا الرّسول،(1/292)
وأَنكروا البعث، والثانى من كلام الله حين جازاهم على كفرهم، وقولهم ذلك وإِنكارهم البعث، فقال {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} .
قوله {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ} وفى الكهف {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} اقتصر هنا على الإِشارة؛ لتقدّم ذكر جهنَّم (ولم يقتصر عليها [فى الكهف] وإِن تقدم ذكر جهنَّم) بل جَمَع بين الإِشارة والعبارة؛ لمّا اقترن بقوله: (جنَّات) فقال: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} الآية ثمّ قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس} ليكون الوعد والوعيد كلاهما ظاهرين.
قوله: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} وفى سبأ {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله} لأَنه يعود إِلى الرّب، وقد تقدّم ذكره فى الآية الأُولى، وهو قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ} وفى سبأ لو ذكر بالكناية لكان يعود إِلى الله، كما صرّح، فعاد إِليه، وبينه وبين ذكره سبحانه صريحاً أَربع عشرة آية، فلمّا طال الفصلُ صَرّح.
قوله: {أَرَأَيْتَكَ هاذا الذي} وفى غيرها {أَرَأَيْتَ} لأَنَّ ترادُف الخطاب يدلّ على أَنَّ المخاطب به أَمر عظيم. وهكذا هو فى السّورة؛ لأَنَّه - لعنه(1/293)
الله - ضمِن احْتِنَاكِ ذريّة آدم عن آخرهم إِلاَّ قليلاً. ومثل هذا {أَرَءَيْتَكُمْ} فى الأَنعام فى موضعين وقد سبق.
قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} وفى الكهف زيادة {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} ؛ لأَنَّ ما فى هذا السّورة معناه: [ما منعهم] عن الإِيمان بمحمد إِلاَّ قولُهم: أَبعث الله بشراً رسولاً، هلاَّ بعث مَلَكاً. وجهلوا أَنَّ التَّجانس يورث التَّوانس، والتغاير يورث التَّنافر. وما فى الكهف معناه: ما منعهم عن الإِيمان والاستغفار إِلاَّ إِتيانُ سنَّة الأَوّلين. قال الزَّجاج: إِلاَّ طلب سنَّة الأَوّلين (وهو قولهم: {إِن كَانَ هاذا هُوَ الحق} فزاد: ويستغفروا ربَّهم، لاتصاله بقوله: سنة الأَولين) وهم قوم نوح، وصالح، وشعيب، كلُّهم أمروا بالاستغفار. فنوح بقوله: {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} وهود يقول: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} وصالح يقول: {فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} وشُعيب يقول: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} فلمّا خوّفهم سُنَّةَ الأَوّلين أَجرى المخاطبين مُجْراهم.(1/294)
قوله: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [وكذا جاءَ فى الرعد] وفى العنكبوت: {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} كما فى الفتح {وكفى بالله شَهِيداً} {وَكفى بالله نَصِيرًا} {وَكفى بالله حَسِيْبًا} فجاءَ فى الرّعد وفى سبحان على الأَصل. وفى العنكبوت أَخَّر {شَهِيداً} لمّا وصفه بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} فطال.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ} وفى الأَحقاف {بِقَادِرٍ} وفى (يس) {بِقَادِرٍ} ؛ لأَنَّ ما فى هذه السّورة خبر أَنَّ، وما فى يس خبرُ ليس، فدخل الباءُ الخبر، وكان القياس أَلاَّ يدخل فى حم؛ لكنَّه شابه (ليس) بترادف النفى، وهو قوله: {أَوَلَمْ يَرَواْ} {وَلَمْ يَعْيَ} وفى هذه السّورة نَفْى واحد. وأَكثر أَحكام المتشابه ثبت من وجهين؛ قياساً على باب مالا ينصرف وغيره.
قوله: {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} قابل موسى كلَّ كلمة من فرعون بكلمة من نفسه، فقال: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} .(1/295)
فضل السّورة
لم يرد فيه سوى أَحاديث ظاهرة الضعف، منها: مَن قرأَ هذه السّورة كان له قنطار ومائتا أُوقيّة، كلّ أُوقية أَثقلُ من السّماوات والأَرض، وله بوزن ذلك درجةٌ فى الجنَّة، وكان له كأَجر مَن آمن بالله، وزاحم يعقوب فى فتنه، وحُشرَ يوم القيامة مع السّاجدين، ويمر على جسر جهنَّم كالبرق الخاطف. وعن جعفر: إِنَّ من قرأَ هذه السّورة كلّ ليلة جمعة لا يموت حتَّى يدرك درجة الأَبدال. وقال علىّ: من قرأَ سبحان لم يخرج من الدّنيا حتى يأكل من ثمار الجنَّة، ويشرب من أَنهارها، ويُغرس له بكلِّ آية نخلةٌ فى الجنَّة.(1/296)
بصيرة فى.. الحمد لله الذى أنزل على عبده الكتاب
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. وعدد آياتها مائة وعشر عند الكوفيين، وست عند الشَّاميّين، وخمس عند الحجازيّين، وإِحدى عشرة عند البصريّين. وكلماتها أَلف وخمسمائة وتسع وسبعون. وحروفها ستَّة آلاف وثلثمائة وستّ.
المختلف فيها إِحدى عشرة آية {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {إِلاَّ قَلِيلٌ} {ذلك غَداً} {زَرْعًا} {مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} {هاذه أَبَداً} {عِنْدَهَا قَوْمًا} {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} ذرّيّته (فى) موضع {الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} .
فواصل آياتها على الأَلف. وسُمّيت سورة الكهف؛ لاشتمالها على قصّة أَصحاب أَهل الكهف بتفصيلها.(1/297)
مقصود السّورة مجملاً: بيانُ نزول القرآن على سَنَن السّداد، وتسلية النَّبىّ صَلَّى الله عليه وسلم فى تأخّر الكفَّار عن الإِيمان، وبيان عجائب حديث الكهف، وأَمر النَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالصّبر على الفقراءِ، وتهديد الكفَّار بالعذاب، والبلاءِ، ووعد المؤمنين بحسن الثَّواب، وتمثيل حال المؤمن والكافر بحال الأَخوين الإِسرائيليّين، وتمثيل الدنيا بماء السّماءِ ونبات الأَرض، وبيان أَنَّ الباقى من الدّنيا طاعةُ الله فقط، وذكر أَحوال القيامة، وقراءَة الكُتُب، وعَرْض الخَلْق على الحقِّ، وإِباءُ إِبليس من السّجود، وذلّ الكافر ساعة دخولهم النار، وجدال أَهل الباطل مع المحقِّين الأَبرار، والتخويف بإِهلاك الأُمم الماضية وإِذلالهم، وحديث موسى ويوشَع وخَضِر، وعجائب أَحوالهم، وقصّة ذى القَرْنيْن، وإِتيانه إِلى المشرقين والمغربين، وبنيانه لسدّ يأجوج ومأجوج، وما يتَّفق لهم آخر الزمان من الخروج، وذكر رحمة أَهل القيامة، وضياع عمل الكفر، وثمرات مساعى المؤمنين الأَبرار، وبيان أَن كلمات القرآن بحور علم: لا نهاية لها، ولا غاية لأَمَدِهَا، والأَمر بالإِخلاص فى العمل الصّالح أَبداً، فى قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} .
الناسخ والمنسوخ:
أَكثر المفسّرين على أَنَّ السّورة خالية من الناسخ والمنسوخ. وقال قتادة:(1/298)
فيه آية م {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ن {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} .
المتشابهات:
قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} بغير واو {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} بزيادة واو. وفى هذا الواو أَقوال أَحدها أَنَّ الأَول والثانى وصفان لما قبلهما، أَى هم ثلاثة رابعهم كلبهم. وكذلك الثانى أَى هم خمسة سادسهم كلبهم. والثالث عطف على ما قبله، أَىّ هم سبعة، ثمّ عطف عليهم {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} . وقيل: كلّ واحد من الثلاثة جملة، وقعت بعدها جملة فيها عائد يعود منها إِليها. فأَنت فى إِلحاق واو العطف وحذفها بالخِيار. وليس فى هذين القولين ما يوجب تخصيص الثالث بالواو. وقال بعض النَّحويّين: السّبعةُ نهاية العدد، ولهذا كَثُر ذكرها فى القرآن والأَخبار، والثَّمانية تَجْرى مَجْرى استئناف كلام. ومن هاهنا لقَّبه جماعة من المفسّرين بواو الثمانية. واستدلُّوا بقوله سبحانه: {التائبون} الآية وبقوله: {مُسْلِمَاتٍ}(1/299)
الآية وبقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ولكلّ واحدة من هذه الآيات وجوه ذكرت فى مباسيط التفسير. وقيل: إِنَّ الله تعالى حكى القولين الأَوّلين، ولم يرتضهما، وحكى القول الثَّالث فارتضاه. وهو قوله: {وَيَقُوْلُوْنَ سَبْعَةٌ} ثمّ استأَنف فقال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} . ولهذا قال: عقيب الأَوّل والثَّانى {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} ولم يقل فى الثالث. فإِن قيل: وقد قال فى الثالث: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فالجواب تقديره: قل ربِّى أَعلم بعدتهم وقد أَخبركم أَنَّهم سبعة وثامنهم كلبهم؛ بدليل قوله تعالى: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} . ولهذا قال ابن عباس: أَنا من ذلك القليل. فعدّ أَسماءَهم. وقال بعضهم الواو فى قوله: {وَيَقُوْلُوْنَ سَبْعَةٌ} يعود الى الله تعالى، فذكر بلفظ الجمع؛ كقوله إِنَّا وأَمثاله. هذا على سبيل الاختصار.
قوله: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} وفى حم: {وَلَئِن رَجِعْتُ إلى رَبِّي} لأَن الرَّد عن شىء يتضمن كراهة المردود، ولما كان [ما فى الكهف تقديره: ولئن رددت عن جنَّتى التى أَظنّ أَنها لا تبيد أَبدا إِلى ربى، كان لفظ الرد الذى يتضمن الكراهة أَولى، وليس فى حم ما يدل على كراهة، فذكر بلفظ الرَجْع ليأْتى لكل مكان ما يليق به.
قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [وفى السجدة {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} ] لأَن الفاء للتعقيب وثم للتراخى. وما فى هذه السورة فى الأَحياء(1/300)
من الكفار، أَى ذُكِّروا فأَعرضوا عقيب ما ذكِّروا، ونَسُوا ذنوبهم، و [هم] بعدُ متوقَّع منهم أَن يؤمنوا. وما فى السّجدة فى الأَموات من الكفار؛ بدليل قوله: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أَى ذُكّروا مرَّة بعد أُخرى، وزماناً بعد زمان [بآياتِ ربِّهم] ثم أعرضوا عنها بالموتِ، فلم يؤمنوا، وانقطع رجاءُ إِيمانهم.
قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر} والآية الثالثة {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البحر} لأَنَّ الفاءَ للتعقيب والعطف، فكان اتخاذ الحوت السّبيلَ عقيب النِّسيان، فذكِر بالفاءِ [و] فى الآية الأُخرى لمَّا حيل بينهما بقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} زال معنى التعقيب وبقى العطف المجرّد، وحرفه الواو.
قوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} وبعده {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرًا} لأَنَّ الإِمْر: العَجَب، والعجب يستعمل فى الخير والشرِّ، بخلافِ النُّكر؛ لأَنَّ النُّكْر ما ينكِره العقلُ، فهو شرّ، وخَرْق السفينة لم يكن معه غَرق، فكان أَسهل من قتل الغلام وإِهلاكِه، فصار لكلِّ واحد معنى يخصّه.
قوله: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ} وبعده {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ} لأَنَّ الإِنكار فى الثانية أَكثر. وقيل: أَكَّد التقرير الثَّانى بقوله (لك) كما تقول لمن توبّخه:(1/301)
لك أَقول، وإِيَّاك أَعنى: وقيل: بيّن فى الثّانى المقولَ له، لمّا لم يبيّن فى الأَوّل.
قوله فى الأَوّل: {فَأَرَدْتُّ} ، وفى الثَّانى: {فَأَرَدْنَا} وفى الثالث: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ؛ لأَنَّ الأَوّل فى الظاهر إِفساد، فأَسنده إِلى نفسه، والثَّالث إِنْعام محض، فأَسنده إِلى الله عزَّ وجلّ. وقيل: لأَنَّ القتل كان منهُ، وإِزهاق الرّوح كان من الله عزَّ وجلَّ.
قوله: {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} جاءَ فى الأَوَّل على الأَصل، وفى الثانى {تَسْطِعْ} على التخفيف؛ لأَنَّه الفرع.
قوله: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} اختار التخفيف فى الأَوّل؛ لأَنَّ مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول، فاختير فيه الحذف. والثَّانى مفعوله اسم واحد، وهو قوله (نَقْبَا) وقرأَ حمزة بالتَّشديد، وأَدغم التَّاءَ فى الطَّاءِ. وقرئ فى الشَّواذِّ: فما أَسطاعوا بفتح الهمزة. ووزنه(1/302)
أَسفعلوا ومثله أَهْراق ووزنه أَهْفَعل، ومثلها استخَذَ فلان أَرضاً، أَى أَخذ، ووزنه اسفعل وقيل: استعل، من وجهين. وقيل: السّين بدل من التَّاءِ، ووزنه افتعل.
فضل السُّورة
لم يُذكر فيها سوى أَحاديث واهية، وحديثٍ صحيح. أَما الحديث الصَّحيح فقوله صلَّى الله عليه وسلم "من حفظ عشر آيات من أَوّل الكهف عُصِمَ من الدجَّال" وفى لفظ: مَنْ قرأَ عشر آيات من سورة الكهف حِفظاً لم يضره فتنةُ الدجال، ومن قرأَها كلَّها دخل الجنَّة. والأَحاديث الواهية، منها: أَلا أَدلُّكم على سورة شَيعها سبْعون أَلف مَلكم حتى نزلت، ملأَ عِظَمها بين السّماءِ والأَرضِ. قالوا: بلى يا رسول الله قال: هى سورة أَصحاب الكهف. من قرأَها يوم الجمعة غُفِرَ له إِلى الجمعة الأُخرى وزيادة ثلاثة أَيّام، ولياليها مثل ذلك، وأَعطى نوراً يبلغ السّماء، ووُقى فتنة الدَّجّال. وعن جعفر: من قرأَ هذه السّورة فى كلِّ ليلة جمعة لم يمت إِلاَّ شهيداً وبُعث مع الشهداءِ، ووقف يوم القيامة معهم، ولا يصيبه آفة(1/303)
الدَّجَّال. وروى أَنَّ مَنْ قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أَشركه الله فى ثواب أَصحاب الكهف؛ لأَنهم وجدوا الولاية يوم الجمعة، وأَحياهم يوم الجمعة، واستجاب دعاءَهم يوم الجمعة، والسَّاعة تقومُ يوم الجمعة، وقال: يا علىّ مَنْ قرأَ سورة الكهف فكأَنَّما عبد الله عشرة آلاف سنة، وكأَنَّما تصدّق بكلِّ آية قرأَها بأَلف دينار.(1/304)
بصيرة فى.. كهيعص
السّورة مكِّيَّة إِجماعاً. وعدد آياتها تسع وتسعون. وكلماتها أَلف ومائة واثتنان وتسعون. وحروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة واثنان.
والآيات المختلف فيها ستَّة: (ع ص) {فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} {الرحمان مَدّاً} .
مجموع فواصل آياتها (مدن) الآية الأُولى على الدَّال (صاد) . وما قبل أَلف كلَّ آية آخرها على الأَلف حروف زيد.
ولهذه السّورة اسمان: سورة كهيعص؛ لافتتاحها بها، وسورة مريم، لاشتمالها على قصّتها مفصّلة.
مقصود السّورة ومعظم المراد منها على سبيل الإِجمال: وَعْد الله العباد بالكفاية والهداية، وإِجابة دعاءِ زكريَّا، والمِنَّة عليه بولد: يحيى، وإِعطائه علم الكتاب، وذكر عجائب ولادة عيسى وأُمّه والخبر عن أَحوال(1/305)
القيامة، ونصيحة إِبراهيم لآزر (ومناظرة آزر له) والإِشارة إِلى قُربة موسى، وذكر صدق وعد إِسماعيل، وبيان رفعة درجة إِدريس، والشكوى من الولد الخَلْف، وحكاية أَهل الجنَّة، وذلّ الكفَّار فى القيامة، ومرور الخَلْق على عَقَبة الصِّراط، وابتلاء بعضهم بالعذابِ، والرّد على الكفَّار فى افتخارهم بالمال، وذلّ الأَصنام، وعُبَّادها فى القيامةِ، وبيان حال أَهل الجنّة والنَّار، وصعوبة قول الكفَّار فى جُرْأتهم على إِثبات الولد والشَّريك للواحد القهَّار، والمِنَّة على الرَّسول بتيسير القرآن على لسانه، وتهديد الكفَّار بعقوبة القرون الماضية، فى قوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} .
النَّاسخ والمنسوخ:
أَربع آيات منها منسوخة: م {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمان مَدّاً} ن آية السيف م {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} ن آية السَّيف، م {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} ن آية السيف، م {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ، والاستثناء فى قوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} ن.
المتشابهات:
قوله: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} وبعده {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}(1/306)
لأَنَّ الأَوّل فى حقِّ يحيى. وجاءَ فى الحديث: ما من أَحد من بنى آدم إِلاَّ أَذنب أَوهَمّ بذنْب إِلا يحيى بن زكريَّا عليهما السّلام، فنفى عنه العصيان؛ والثَّانى فى حقِّ عيسى عليه السلام فنفى عنه الشقاوة، وأَثبت له السّعادة، والأَنبياءُ عندنا معصومون عن الكبائر دون الصَّغائر.
قوله: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} فى قصّة يحيى {والسلام عَلَيَّ} فى قصة عيسى، فنكَّر فى الأَول، وعَرَّفَ فى الثانى؛ لأَنَّ الأَوّل من الله تعالى، والقليل منه كثير كقول القائل:
قليل منك يكفينى ولكنْ ... قليلك لا يقال له قليل
ولهذا قرأَ الحسن {اهدنا صراطاً مستقيما} أَى نحن راضون منك بالقليل، ومثل هذا فى الشعر كثير، قال:
وإنِّى لأَرضى منك يا هند بالذى ... لو أبصره الواشى لقرَّت بلابلُه
بلا، وبأَن لا أَستطيع، وبالمنى، ... وبالوعد حتى يسأَم الوعدَ آمِلُهْ
والثانى من عيسى، والأَلف واللام لاستغراق الجنس، ولو أَدخل عليه السّبعة والعشرين والفروع المستحسنة والمستقبحة، لم يبلغ عُشر معشار سلام الله. ويجوز أَن يكون ذلك بوحى من الله عزَّ وجلّ، فيقرُبَ من سلام يحيى. وقيل: إِنما أَدخل الأَلِف واللام لأَنَّ النكرة إِذا تكرّرت(1/307)
تعرَّفت. وقيل: نكرة الجنس ومعرفته سواء: تقول: لا أشرب ماءً، ولا أَشرب الماءَ، فهما سواء.
قوله {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} وفى حم {لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} ؛ لأَنَّ الكفر أَبلغ من الظُّلم، وقصّة عيسى فى هذه السّورة مشروحة، وفيها ذكر نسبتهم إِيّاه إِلى الله تعالى، حين قال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} ، فذكر بلفظ الكفر، وقصّة فى الزّخرف مجمَلة، فوصفهم بلفظ دونه وهو الظُّلم.
قوله: {وَعَمِلَ صَالِحًا} وفى الفرقان: {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} لأَنَّ ما فى هذه السّورة أَوجز فى ذكر المعاصى، فأَوجز فى التَّوبة، وأَطال (هناك فأَطال) والله أَعلم.
فضل السورة
فيه أَحاديث ضعيفة، منها: مَن قرأَ سورة مريم أُعطِى من الأَجر عشر حسنات، بعدد مَن صَدَّق بزكريّا، ويحيى، ومريمَ، وموسى، وعيسى وهارون، وإِبراهيم، وإِسحاق، ويعقوب، وإِسماعيل، عشر حسنات، وبعدد مَن دعا للهِ ولداً، وبعدد مَن لم يَدْعُ له ولداً، ويعطى بعددهم حسناتِ ودرجات، كلّ درجة منها كما بين السّماءِ والأَرض أَلف أَلفِ مرّة(1/308)
ويُزوّج بعددها فى الفردوس، وحُشِر يوم القيامة مع المتَّقين فى أَوّل زُمرة السّابقين. وعن جعفر أَنّ من قرأَ هذه السّورة لا يموت ولا يخرج من الدّنيا حتى [لا] يصيب الفتنة فى نفسه، وماله، وولده، وكان فى الآخرة من أَصحاب عيسى بن مريم، وأُعطى من الأَجر كمُلْك سليمان بن داود. وقال: يا علىّ مَن قرأَ كاف ها يا ع ص أَعطاه الله من الثواب مثلَ ثواب أَيّوب ومريم، وله بكلِّ آية قرأَها ثوابُ شهيد من شهداءِ بدر.(1/309)
بصيرة فى.. طه
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. وعدد آياتها مائة وأَربعون عند الشاميِّين، وخمس وثلاثون، عند الكوفيِّين، وأَربع عند الحجازيِّين، وثنتان عند البصريِّين. وكلماتها أَلف وثلاثمائة وإِحدى وأَربعون. وحروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأَربعون حرفاً.
والآيات المختلف فيها إحدى وعشرون آية: طه {مَا غَشِيَهُمْ} {رَأَيْتَهُمْ ضلوا} درثه موضع {نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} {مَحَبَّةً مِنِّي} فتونا، لنفسى {وَلاَ تَحْزَنَ} {أَهْلِ مَدْيَنَ} {مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} ولقد {أَوْحَيْنَآ إلى موسى} أَسفا {إلاه موسى} {وَعْداً(1/310)
حَسَناً} {إِلَيْهِمْ قَوْلاً} {السامري} فنسى، صفصفا {مِّنِّي هُدًى} {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} .
فواصل آياتها (يوماً) وعلى الميم {مَا غَشِيَّهُمْ} وعلى الواو {ضَلُّواْ} .
وللسّورة اسمان: طه لافتتاح السّورة، وسورة موسى؛ لاشتمالها على قصّته مفصّلة.
مقصود السّورة ومعظم ما اشتملت عليه: تيسير الأَمر على الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وذكر الاستواء، وعلم الله تعالى بالقريب والبعيد، وذكر حضور موسى عليه السّلام بالوادى المقدّس، وإِظهار عجائب عصاه واليد البيضاء، وسؤال شرح الصدر وتيسير الأَمر، وإِلقاء التابوت فى البحر، وإِثبات محبّة موسى فى القلوب، واصطفاء الله تعالى موسى، واختصاصه بالرّسالة إِلى فرعون، وما جرى بينهما من المكالمة، والموعد يوم الزِّينة، وحِيَل فرعون وسَحَرته بالحِبَالِ والعِصِىّ، (وإِيمان السَّحَرة) وتعذيب فرعون لهم، والمِنّة على بنى إِسرائيل بنجاتهم من الغرق، وتعجيل موسى، والمجىء إِلى الطُّور، ومكر السّامرىّ فى صنعة العِجل، وإِضلال القوم، وتعيير موسى على هارون بسبب ضلالتهم، وحديث القيامة، وحال(1/311)
الكفَّار فى عقوبتهم، ونَسْف الجبال، وانقياد المتكبّرين فى رِبْقة طاعة الله الحىّ القيّوم، وآداب قراءَة القرآن. وسؤال زيادة العلم والبيان، وتعيير آدم بسبب النسيان، وتنبيهه على الوسوسة ومكر الشَّيطان، وبيان عقوبة نسيان القرآن، ونهى النبىّ عن النَّظر إِلى أَحوال الكفَّار، وأَهل الطغيان، والالتفاتِ إِلى ما خُوِّلوا: من الأَموال، والوِلدان، وإِلزام الحجّة على المنكرين بإِرسال الرّسل بالبرهان، وتنبيهه الكفَّار على انتظار أَمر الله فى قوله {قُلْ كُلٌّ مَتَرَبِّصٌ} إِلى آخر السّورة.
الناسخ والمنسوخ:
المنسوخ فيها ثلاث آيات م {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن} ن {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} م {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} ن آية السّيف م {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} ن آية السّيف.
المتشابهات:
قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} ، وفى(1/312)
النَّمل: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وفى القَصَص {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} هذه الآيات تشتمل على ذكر رؤية موسى النَّار، وأَمرِه أَهلَه بالمكث، وإِخبارِه إِيَّاهم أَنه آنس ناراً، وإِطماعهم أَن يأتيهم بنار يَصطلون بها، أَو خبر يهتدون به إِلى الطريق التى ضَلُّوا عنها، لكنَّه نقص فى النَّمل ذكر رؤية النَّار، وأَمره بالمكث؛ اكتفاءً بما تقدّم. وزاد فى القصص قضاءَ موسى الأَجل المضروب، وسيرَه بأَهله إِلى مصر؛ لأَنَّ الشَّىء قد يُجْمَل ثمَّ يفصَّل، وقد يفصّل ثم يجمل. وفى طه فصّل، وأَجمل فى النَّمل، ثم فصَّل فى القصص، وبالغ فيه. وقوله فى طه: {أَوْ أَجِدْ عَلَى النَّارِ هُدًى} أَى مَن يخبرنى بالطَّريق فيهدينى إِليها. وإِنَّما أَخَّر ذكر الخَبَرِ فيها (وقدَّمه فيهما) مراعاة لفواصل الآى فى السّور جميعا. وكرّر (لعلِّى) فى القصص لفظاً، وفيهما معنًى؛ لأَن (أَو) فى قوله {أَوْ أَجِدْ عَلَى النَّارِ هُدًى} نائب عن (لعلِّى) و (سئاتيكم) يتضمَّن معنى (لعلِّى) وفى القصص {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} وفى النَّمل {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} وفى طه {بِقَبَسٍ} ؛ لأَن الجذوة من النَّار [خشبة] فى رأسها قبس به شِهاب، فهى فى السور الثلاث عبارة عن معنى واحد.(1/313)
قوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا} هنا، وفى النَّمل: {فَلَمَّا جَاءَهَا} ، وفى القصص {أَتَاهَا} لأَنَّ أَتى وجاءَ بمعنى واحد، لكن لكثرةِ دَوْر الإِتيان هنا نَحو (فأتياه) ، (فلنأتينَّك) (ثمّ أَتى) (ثمَّ ائتوا) (حيث أَتى) [جاءَ (أَتاها) ] ، ولفظ (جاءَ) فى النَّمل أَكثر؛ نحو {فَلَمّا جَآءَهُمْ} {وجِئْتُكَ مِنْ سَبَأ} {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} وأَلحق القصص بطه، لقرب ما بينهما.
قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ} وفى القصص {فَرَدَدْنَاهُ} لأَنَّ الرَّجْع إِلى الشىءِ والرَّدَّ إِليه بمعنى، والرَّدُّ عن الشىءِ يقتضى كراهة المردود، وكان لفظ الرّجع أَلطف، فخصَّ طه به، وخُصّ القَصَص بقوله: {فَرَدَدْنَاهُ} ؛ تصديقاً لقوله: {إِنَّا رَادُّوْهُ إِلَيْكَ} .
قوله: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} ، وفى الزّخرف: {وَجَعَلَ} لأَنَّ لفظ السّلوك مع السّبيل أَكثر استعمالاً، فخصّ به طه، وخُصّ الزخرف بجَعَل ازدواجاً للكلام، وموافقة لما قبلها وما بعدها.
قوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ} وفى الشعراءِ: {أَنِ ائت القوم الظالمين قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا} ، وفى القصص: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ} ؛ لأَنَّ طه هى السّابقة، وفرعونُ هو الأَصل، والمبعوثُ إِليه، وقومه تَبَع له، وهم كالمذكورين معه، وفى الشّعراءِ {قَوْمُ فِرْعَوْنَ} أَى قوم فرعون وفرعون،(1/314)
فاكتفى بذكره فى الإِضافة عن ذكره مفرداً. ومثله {أَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} أَى آل فرعون وفرعون، وفى القصص {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} فجَمع بين الاثنين، فصار كذكر الجملة بعد التفصِيل.
قوله: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} صرّح بالعُقْدَة هنا؛ لأَنَّها السّابقة، وفى الشعراءِ: {وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} فكَنى عن العقدة بما يقرب من الصّريح، وفى القصص {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} فكنى عن العقدة كناية مبهمة؛ لأَنَّ الأَوّل يدلّ على ذلك.
قوله فى الشعراءِ: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} وليس له فى طه ذِكر؛ لأَنَّ قوله: {وَيَسِّرْ لِيْ أَمْرِيْ} مشتمل على ذلك وغيره؛ لأَنَّ الله عزَّ وجلّ إِذا يَسّر له أَمرَه لم يخف القتل.
قوله: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} صَرَّحَ بالوزير؛ لأَنَّه الأَوّل فى الذكر، وكَنى عنه فى الشعراءِ حيث قال: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} أَى لِيأتينى، فيكونَ لى وزيراً. وفى القصص: {أَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} أَى اجعله لى وزيراً، فكنى عنه بقوله {رِدْءاً} لبيان الأَوّل.
قوله: {فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} وبعده {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} ؛(1/315)
لأَنَّ الرّسول سُمّى به، فحيث وحّده حُمل على المصدر، وحيث ثنى حمل على الاسم. ويجوز أَن يقال: حيث وحّد حُمل على الرّسالة؛ لأَنَّهما أَرسلا لشىء واحد، وحيث ثنى حمل على الشَّخصين. وأَكثر ما فيه من المتشابه سبق.
قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} بالفاءِ من غير (مِن) ، وفى السّجدة بالواو، وبعده (مِن) ؛ لأَنَّ الفاءَ للتعقيب والاتصال بالأَوّل، فطال الكلام، فحسن حذف (مِن) ، والواوُ يدلّ على الاستئناف وإِتيان (من) غير مستثقل وقد سبق الفرق بين إِثباته وحذفه.
فضل السّورة
روى عن النبى صلى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: لا يقرأ أَهلُ الجنَّة من القرآن إِلاَّ طه ويس. وقال: مَنْ قرأَ سورة طه أَعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين. وفى حديث علىّ: يا على مَنْ قرأَ سورة طه أَعطاه الله من الثواب مثل ثواب موسى وهارون، وله بكلِّ آية قرأَها فَرْحَةٌ يومَ يخرج من قبره.(1/316)
بصيرة فى.. اقترب للناس حسابهم
السّورة مكِّيَّة بالاتِّفاق. وآياتها مائة واثنتا عشرة عند الكوفيِّين، وإِحدى عشرة عند الباقين. وكلماتها أَلف ومائة وثمانية وستون. وحروفها أَربعة آلاف وثمانمائة وسبعون، المختلف فيها آية واحدة: {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} .
مجموع فواصل آياتها (م ن) وسمِّيت سورة الأَنبياءِ لاشتمالها على قصصهم على إِبراهيم، واسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وسليمان، وداود وأَيوب، وإِسماعيل، وصالح، ويونس، وزكريا، ويحيى، وعيسى.
مقصود السّورة: ما اشتملت عليه مجملا: من التنبيه على الحساب فى القيامة، وقرب زمانها، ووصف الكفَّار بالغفلة، وإِثبات النبوّة، واستيلاء أَهل الحَقّ على أَهل الضَّلالة، وحُجّة الوحدانيّة، والإِخبار عن الملائكة وطاعتهم، وتخليق الله السّماواتِ والأَرض بكمال قدرته، وسير الكواكب ودَوْر الفَلَك، والإِخبار عن موت الخلائق وفنائهم، وكَلاءُ الله تعالى وحفظه العبدَ من الآفات، وذكر ميزان العَدْل فى القيامَة، وذكر إِبراهيم بالرّشد والهداية، وإِنكاره على الأَصنام وعُبَّادها، وسلامة إِبراهيم من(1/317)
نار نُمرود وإِيقادها، ونجاة لوط من قومه أُولى العُدْوان، ونجاة نوح ومتابعَته من الطوفان، وحُكم داود، وفهم سليمان، وذكر تسخير الشيطان، وتضرّع أَيّوب، ودعاء يونس، وسؤال زكريّا، وصلاح مريم، وهلاك قُرًى أَفرطوا فى الطغيان، وفتح سدّ يأْجوج ومأْجوج فى آخر الزَّمان وذلّ الكفَّار والأَوثان، فى دخول النيران، وعِزّ أَهل الطَّاعة والإِيمان، من الأَزل إِلى الأَبد فى جميع الأَزمان، على علالىّ الجِنَان، وطىّ السّماوات فى ساعة القيامة، وذكر الأُمم الماضية، والمنزلة من الكتب فى سالف الأَزمان، وإِرسال المصطفى صلى الله عليه وسلم بالرأفة والرّحمة والإِحسان، وتبليغ الرّسالة على حكم السّويّة من غير نقصان ورجحان، وطلب حكم الله تعالى على وَفْق الحقّ، والحكمة فى قوله {رَبِّ احكم بالحق وَرَبُّنَا الرحمان} .
الناسخ والمنسوخ:
فى هذه السّورة آيتان م {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} إِلى تمام الآيتين ن {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} .
المتشابهات:
قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} وفى الشعراءِ {مِّن(1/318)
ذِكْرٍ مِّنَ الرحمان مُحْدَثٍ} خصّت هذه السّورة بقوله {مِّن رَّبِّهِمْ} بالإِضافة، لأَن (الرّحمن) لم يأْت مضافاً، ولموافقة ما بعده، وهو قوله: {قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ} وخصّت الشعراءِ بقوله {مِّنَ الرحمان} ليكون كلُّ سورة مخصوصةً بوصف من أَوصافه، وليس فى أَوصاف الله تعالى اسم أَشبهُ باسم الله من الرحمن؛ لأَنَّهما اسمان ممنوعان أَن يسمّى بهما غيرُ الله عزَّ وجلَّ، ولموافقة ما بعده، وهو قوله: {العزيز الرحيم} ؛ لأَنَّ الرَّحمن والرَّحيم من مصدر واحد.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} وبعده {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلَكَ مِنْ رَسُوْلٍ} ، (قبلك) و (من قبلك) كلاهما لاستيعاب الزمان المتقدّم، إِلا أَنَّ (مِن) إِذا دخل دَلَّ على الحَصْر بين الحَدَّيْن، وضبطه بذكر الطَّرفين. ولم يأت {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} إِلاَّ هذه - وخصَّت بالحذف؛ لأَنَّ قبلها {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} فبناه عليه لأَنه هو؛ وآخر فى الفرقان {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ} وزاد فى الثانى {مِنْ قَبْلَكَ مِنْ رَسُوْلٍ} على الأَصل للحصر.
قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} وفى العنكبوت: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ؛ لأَن ثمَّ للتراخى، والرّجوعُ هو الرّجوع إِلى الجنَّة أَو النَّار، وذلك فى القيامة، فخُصّت سورة(1/319)
العنكبوت به. وخُصّت هذه السّورة بالواو لَمَّا حيل بين الكلامين بقوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا} وإِنَّما ذُكِرَا لتقدّم ذكرهما، فقام مقام التراخى، وناب الواو مَنابه، والله أَعلم.
قوله: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} وفى الفرقان {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} لأَنَّه ليس فى الآية التى تقدّمتها ذكر الكفَّار؛ فصرّح باسمهم، وفى الفرقان قد سَبَق ذكر الكفَّار، فخُصّ الإِظهار بهذه السّورة، والكنايةُ بتلك.
قوله: {مَا هاذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ} وفى الشعراءِ {قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ} ؛ لأَنَّ قوله: {وَجَدْنَآ آبَآءَنَا} جواب لقوله: {مَا هاذه التماثيل} وفى الشعراءِ أَجابوا عن قوله {مَا تَعْبُدُوْنَ} بقولهم {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا} ثمَّ قال لهم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} فأَتى بصورة الاستفهام ومعناه النفى {قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ} (أَى قالوا لا بل وجدنا) عليه آباءَنا، لأَن السّؤال فى الآية يقتضى فى جوابهم أَن ينفوا ما نفاه السّائل، فأَضربوا عنه إِضراب مَن ينفى الأَوّل، ويُثبت الثانى، فقالوا: بل وجدنا. فخُصت السّورة به.
قوله: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} ، وفى الصَّافَّات {الأسفلين} ؛ لأَنَّ فى هذه السورة كادهم إِبراهيم؛ لقوله: {لأَكِيدَنَّ(1/320)
أَصْنَامَكُمْ} وهم كادوا ابراهيم لقوله: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} فجرت بينهم مكايدة، فغلبهم إِبراهيم؛ لأَنَّه كسر أَصنامهم، ولم يغلبوه؛ لأَنَّهم (لم يبلغوا من إِحراقه مرادهم) فكانوا هم الأَخسرين. وفى الصَّافَّات {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} ، فأَجّجوا ناراً عظيمة، وبنوا بنياناً عالياً، ورفعوه إِليه، ورمَوه [منه] إِلى أَسفل، فرفعه الله، وجعلهم فى الدّنيا سافلين، ورَدَّهم فى العقبى أَسفل سافلين. فخُصت الصَّافَّات بالأَسفلين.
قوله: {فَنَجَّيْنَاهُ} بالفاءِ سبق فى يونس. ومثله فى الشّعراءِ {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوْزًا فِي الْغَابِرِيْنَ} .
قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} ختم القصّة بقوله {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} وقال فى ص {رَحْمَةً مِّنَّا} لأَنَّه بالغ (فى التضرّع) بقوله {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فبالغ سبحانه فى الإِجابة، وقال {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} لأَنَّ (عند) حيث جاءَ دلَّ على أَنَّ الله سبحانه تولَّى ذلك من غير واسطة. وفى ص لمَّا بدأَ القصة بقوله {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} ختم بقوله (منَّا) ليكون آخِرُ الآية ملتئما بالأَوّل.
قوله: {فاعبدون وتقطعوا} وفى المؤمنين {فاتقون فتقطعوا} لأَنَّ الخطاب فى هذه السّورة للكفار، فأَمرهم بالعبادة التى هى التَّوحيد، ثم(1/321)
قال: {وتقطعوا} بالواو؛ لأَنَّ التقطُّع قد كان منهم قبل هذا القول لهم. ومَن جعله خطاباً للمؤمنين، فمعناه: دُوموا على الطَّاعة. وفى المؤمنين الخطاب للنبىِّ صلى الله عليه وسلَّم وللمؤمنين بدليل قوله قبله {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} والأَنبياءِ والمؤمنون مأْمورون بالتَّقوى، ثم قال {فتقطعوا أَمْرَهُمْ} أَى ظهر منهم التقطُّع بعد هذا القول، والمراد أُمّتُهم.
قوله: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا} وفى التحريم (فيه) ؛ لأَنَّ المقصود هنا ذِكرها وما آل إِليه أَمرها، حتى ظهر فيها ابنُها، وصارت هى وابنها آية. وذلك لا يكون إِلا بالنَّفخ فى جُملتها، وبحَمْلها، والاستمرار على ذلك إِلى يوم ولادتها. فلهذا خُصَّت بالتَّأْنيث. وما فى التحريم مقصور على ذكر إِحصانها، وتصديقها بكلمات ربّها، وكان النفخ أَصاب فرجها، وهو مذكَّر، والمراد به فرج الجَيْب أَو غيره، فخُصّت بالتَّذكير.
فضل السّورة
رُوى فيه أَحاديث ساقطة ضعيفة. منها: مَن قرأَ سورة اقترب للنَّاس حسابهم حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه، وسلَّم عليه كلُّ نبىّ ذكر اسمُه فى القرآن. وفى حديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ هذه السّورة فكأَنَّما عبد الله على رضاه.(1/322)
بصيرة فى.. يأيها الناس اتقوا ربكم
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق، سوى ستّ آياتٍ منها، فهى مَدَنِيَّة: {هاذان خَصْمَانِ} إِلى قوله: {صِرَاطِ الحميد} . وعدد آياتها ثمانٍ وسبعون فى عدّ الكوفيِّين، وسبع للمدَنيين، وخمس للبصرييِّن، وأَربع للشاميِّين. وكلماتها ألفان ومائتان وإِحدى وتسعون كلمة. وحروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون.
والآيات المختلف فيها خمس: الحميم، الجلود، وعاد وثمود، {وَقَوْمُ لُوطٍ} ، {سَمَّاكُمُ المسلمين} . مجموع فواصل آياتها (انتظم زبرجد قطَّ) على الهمزة منها {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} .
سمِّيت: سورة الحج؛ لاشتمالها على مناسك الحجّ، وتعظيم الشَّعائر، وتأذين إِبراهيم للنَّاس بالحج.
مقصود السورة على طريق الإِجمال: الوصيّة بالتَّقوى، والطَّاعة، وبيان هَوْل السّاعة، وزلزلة القيامة، (والحجّة) على إِثبات الحشر والنشر،(1/323)
وجدال أَهل الباطل مع أَهل الحقِّ، والشكاية من أَهل النفاق بعد الثبات، وعَيْب الأَوثان وعبادتها، وذكر نُصْرة الرّسول صَلّى الله عليه وسلَّم، وإِقامة البرهان والحُجَّة، وخصومة المؤمن والكافر فى دين التوحيد، وتأذين إِبراهيم على المسلم بالحجِّ، وتعظيم الحُرُمات والشعائر، وتفضيل القرآن فى الموسم، والمِنَّة على العباد بدفع فساد أَهل الفساد، وحديث البئر المعطَّلة، وذكر نسيان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسهوه حال تلاوة القرآن، وأَنواع الحجّة على إِثبات القيامة، وعجز الأَصنام وعُبَّادها، واختيار الرّسول من الملائكة والإِنس، وأَمر المؤمنين بأَنواع العبادة والإِحسان، والمِنَّة عليهم باسم المسلمين، والاعتصام بحفظ الله وحِياطته فى قوله {واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ} إِلى قوله {وَنِعْمَ النصير} .
الناسخ والمنسوخ:
المنسوخ فيها آيتان: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} م {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} ن {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} م آية السّيف ن. والنَّاسخ فى هذه السّورة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} .
المتشابهات:
قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} وبعده {وَتَرَى الناس سكارى} محمول على: أَيُّها المخاطب كما سبق فى قوله {وَتَرَى الفلك} .(1/324)
قوله: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [فى هذه السورة، وفى لقمان: {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ] لأَنَّ ما فى هذه السّورة وافق ما قبلها [من الآيات، وهى: نذير، القبور، وكذلك فى لقمان وافق ما قبلها] وما بعدها وهى الحمير والسّعير والأُمور.
قوله: {مِن بَعْدِ عِلْمٍ} بزيادة (مِن) لقوله {مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} الآيه وقد سبق فى النحل.
قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وفى غيرها {أَيْدِيْكُمْ} لأَنَّ هذه الآية نزلت فى نضر بن الحارث وقيل [فى] أَبى جهل [فوحده، وفى غيرها] نزلت فى الجماعة الَّذين تقدم ذكرهم.
قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ "والصابئين والنصارى"} (قدّم الصابئين لتقدم زمانهم. وقد سبق فى البقرة.
قوله: {يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات} سبق فى الرّعد.
قوله: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} وفى السّجدة {مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} لأَنَّ المراد بالغمِّ [الكرب] والأَخذ بالنَّفْس حتى(1/325)
لا يجد صاحبه مُتنفَّساً، وما قبله من الآيات يقتضى ذلك، وهو {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} إِلى قوله {مِنْ حَدِيْدٍ} فمَنْ كان فى ثياب من نار فوق رأسه جهنم يذوب من حَرّه أَحشاءُ بطنه، حتى يذوب ظاهرُ جِلده، وعليه موكَّلون يضربونه بمقامع من حديد، كيف يجد سروراً ومُتنفَّساً من تلك الكُرَبِ التى عليه وليس فى السّجدة من هذا ذِكر، وإِنما قبلها {فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} .
قوله: {وَذُوْقُواْ} ، وفى السَّجدة: {وَقِيْلَ لَهُمْ ذُوْقُواْ} القول ها هنا مضمر. وخُصّ بالإِضمار لطُول الكلام بوصف العذاب. وخصّت سورة السّجدة بالإِظهار، موافقة للقول قبله فى مواضع منها {أَم يَقُوْلُونَ افْتَرَاهُ} {وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا} ، و {قُلْ يَتَوَفَّاكُم} و {حَقَّ الْقَوْلُ} وليس فى الحجّ منه شىء. قوله: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} مكرَّرة. وموجِب التكرار قوله: {هاذان خَصْمَانِ} ، لأَنَّه لمّا ذكر أَحَدَ الخَصْمين وهو {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} لم يكن بُدّ من ذِكر الخَصْم الآخر فقال: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ} .
قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين} وفى البقرة {وَالْعَاكِفِيْنَ} وَحَقَّه أَن يذكر هناك لأَنَّ ذكر العاكف هاهنا سبق فى قوله {سَوَآءً العَاكِفَ فِيْهِ وَالبَاد} ومعنى {والقآئمين والركع السجود} المُصَلُّون. وقيل:(1/326)
(القائمين) بمعنى المقيمين. وهم العاكفون [لكن] لمَّا تقدّم ذكرهم عُبِّر عنهم بعبارة أُخرى.
قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} كرّر؛ لأَنَّ الأَوّل متَّصل بكلام إِبراهيم وهو اعتراض ثم أَعاده مع قوله {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} .
قوله: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} وبعده {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} خصّ الأَوّل بذكر الإِهلاك؛ لاتِّصاله بقوله: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أَى أَهلكتهم، والثانى بالإِملاءِ؛ لأَنَّ قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} دَلّ على أَنَّه لم يأتهم فى الوقت، فحسنُ ذكر الإملاءِ.
قوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل} هنا وفى لقمان {مِن دُونِهِ الباطل} لأَنَّ هنا وقع بين عشر آيات كلُّ آية مؤكَّدة مرّة أَو مرَّتيْن، ولهذا أَيضاً زيدَ فى هذه السّورة اللاَّم فى قوله: {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد} وفى لقمان: {إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} إِذ لم يكن سورة لقمان بهذه الصّفة. وإِن شئت قلت: لمّا تقدّم فى هذه السّورة ذِكْرُ الله سبحانه وتعالى وذكرُ الشيطان أَكَّدهما؛ فإِنَّه خبر [وقع] بين خبرين. ولم يتقدّم فى لقمان ذِكرُ الشيطان، فأَكد ذكر الله، وأَهمل ذكر الشَّيطان. وهذه دقيقة.(1/327)
فضل السّورة
ذكر المفسّرون فيه أَحاديث واهية. منها: من قرأَ من سورة الحجّ أَعْطَى من الأَجر كحَجّة حَجَّها، وعمرة اعتمرها، بعدَد مَن حجّ واعتمر، مَنْ مضى منهم ومن بَقى، ويُكتب له بعدد كلّ واحد منهم حجَّة وعمرة وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب مَنْ حَجّ عن أَبويه.(1/328)
بصيرة فى.. قد أفلح المؤمنون
السّورة مكِّية إِجماعا. وعدد آياتها مائة وثمانية عشر عند الكوفيّين، وتسعة عشر عند الباقين. وكلماتها أَلف ومائتان وأَربعون. وحروفها أَربعة آلاف وثمانمائة وواحد. المختلف فيها {وَأَخَاهُ هَارُوْنَ} .
مجموع فواصل آياتها (من) . وسميت سورة المؤمنين لافتتاحها بفلاح المؤمنين.
مقصود السّورة ومعظم ما اشتملت عليه: الفتوى بفلاح المؤمنين، والدّلالة على أَخلاق أَهل الإِسلام، وذكر العجائب فى تخليق الأَولاد فى الأَرحام، والإِشارة إِلى الموت والبعث، ومِنَّة الحق على الخلق بإِنبات الأَشجار، وإِظهار الأَنهار، وذكر المراكب، والإِشارة إِلى هلاك قوم نوح، ومَذَمّة الكفَّار، وأَهل الإِنكار، وذكر عيسى ومريم، وإِيوائهما إِلى رَبْوة ذات قرار، وإِمهال الكُفَّار فى المعاصى، والمخالفات، وبيان حال المؤمنين فى العبادات، والطَّاعات، وبيان حُجّة التَّوحيد وبرهان النبوّات، وذلّ الكفَّار بعد الممات، وعجْزهم فى جهنَّم حال العقوبات، ومكافأَتهم فى العقبى على حسب المعاملات، فى الدّنيا فى جميع الحالات، وتهديد أَهل اللَّهو،(1/329)
واللَّغو، والغَفَلات، وأَمر الرّسول بدعاءِ الأَمّة، وسؤال المغفرة لهم والرّحمات، فى قوله: {رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين} .
النَّاسخ والمنسوخ:
المنسوخ فيها آيتان {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} م آية السّيف ن {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (فواكه) بالجمع و (منها) بالواو، وفى الزّخرف {فَاكِهَةٌ} على التوحيد {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} بغير واو. راعى فى السّورتين لفظ الجَنَّة. وكانت فى هذه (جنَّات) بالجمع فقال: (فواكه) بالجمع، وفى الزخرف: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ} بلفظ التوحيد، وإن كانت هذه جنَّة الخُلْد لكن راعى اللَّفظ فقال {فِيهَا فَاكِهَةٌ} وقال فى هذه السّورة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} بزيادة الواو؛ لأَنَّ تقدير الآية: منا تَدَّخِرون، ومنها تأكلون، ومنها تبيعون، وليست كذلك فاكهة الجنَّة، فإِنها للأَكل فقط. فذلك قال: {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} ووافق هذه السورة ما بعدها أَيضاً، وهو قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيْرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُوْنَ} فهذا للقرآن معجزة وبرهان.
قوله: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وبعده {وَقَالَ الملأ(1/330)
مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ} فقُدِّم (مِن قومه) فى الآية الأُخرى، وأُخِّر فى الأُولى؛ لأَنَّ صلة (الذين) فى الأُولى اقتصرتْ على الفعل وضمير الفاعل، ثمَّ ذكر بعده الجارّ والمجرور ثم ذكر المفعول وهو المَقُول، وليس كذلك فى الأُخرى، فإِن صلة الموصول طالت بذكر الفاعل والمفعول والعطف عليه مَرّة بعد أُخرى، فقدّم الجارّ والمجرور؛ لأَنَّ تأخيره يلتبس، وتوسيطه ركيك، فخُصَّ بالتقدم.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} (وفى حم السجدة: ( {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} ) لأَنَّ فى هذه السّورة تقدّم ذكر الله، وليس فيه ذكر الرّب، وفى السّجدة تقدّم ذكر (ربّ العالمين) سابقا على ذكر لفظ الله، فصرّح فى هذه السورة بذكر الله، وهناك بذكر الرَّب؛ لإضافته إِلى العالمين وهم مِن جملتهم، فقالوا إِمَّا اعتقاداً وإِمَّا استهزاءً: لو شاءَ ربنا لأَنزل ملائكة، فأَضافوا الربّ إِليهم.
قوله: {واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وفى سبأ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} كلاهما من وصف الله سبحانه. وخصّ كلّ سورة بما وافق فواصل الآى.
قوله: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} بالأَلف واللاَّم، وبعده: {لِّقَوْمٍ(1/331)
لاَّ يُؤْمِنُونَ} ؛ لأَنَّ الأَوَّل لقوم صالح، فعرّفهم بدليل قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، والثانى نكرة، وقبله {قُرُوناً آخَرِينَ} وكانوا منكَّرين، ولم يكن معهم قرينة عُرِفوا بها، فخُصّوا بالنَّكرة.
قوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هاذا مِن قَبْلُ} ، وفى النمل {لَقَدْ وُعِدْنَا هاذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} لأَنَّ ما فى [هذه] السّورة على القياس؛ فإنَّ الضَّمير المرفوع المتَّصل لا يجوز العطفُ عليه، حتى يؤكَّد بالضمير المنفصل، فأَكَّد (وعدنا نحن) ثم عُطِف عليه (آباؤنا) ، ثم ذكر المفعول، وهو (هذا) وقُدِّمَ فى النمل المفعول موافقة لقوله (تراباً) لأَنَّ القياس فيه أَيضاً: كنَّا نحن وآباؤنا تراباً (فقدّم "تراباً") ليسُدّ مسدّ نحن وكانا متوافقين.
قوله: {سَيَقُوْلُوْنَ للهِ} ، وبعده: {سَيَقُوْلُوْنَ للهِ} وبعدهُ: {سَيَقُوْلُوْنَ للهِ} الأَوّل جواب لقوله {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} جواب مطابق لفظاً ومعنًى لأَنَّه قال فى السّؤال: (قل لمن) فقال فى الجواب: (لله) وأَمّا الثانى والثالث فالمطابقة فيهما فى المعنى؛ لأَنَّ القائل إِذا قال لك: مَنْ مالِك هذا الغلام؟ فلك أَن تقول: زيدٌ، فيكون مطابقاً لفظاً ومعنى. ولك أَن تقول لزيد، فيكون مطابقاً للمعنى. ولهذا قرأَ أَبو عمرو الثَّانى والثَّالث: (الله) (الله) ؛ مراعاة للمطابقة.(1/332)
قوله {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} وقبله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوَّل فى الدنيا عند نزول العذاب وهو الجَدْب عند بعضهم، ويومُ بدر عند البعض، والثانى فى القيامة، وهم فى الجحيم؛ بدليل قوله: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا} .
فضل السّورة
يذكر فيه من الأَحاديث الواهية حديث أُبى: مَنْ قرأَ سورة المؤمنين بشَّرته الملائكة بالرَّوح، والريْحان، وما تقرُّ به عَيْنُه عند نزول مَلَك الموت، ويروى: أَنَّ أَوّل هذه السّورة وآخرها من كنوز العرش من علم بثمان آيات من أَوّلها، واتَّعظ بأَربع آيات مِن آخرها؛ فقد نجا، وأَفلح، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها تقبل الله منه صلاته، وصيامه، وأَفلح؛ وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها تقبل الله منه صلاته، وصيامه، وجَعَله فى الجنَّة رفيق إِسماعيل، وله بكل آية قرأَها مثلُ ثواب إِسماعيل.(1/333)
بصيرة فى.. سورة أنزلناها
السّورة مدنيَّة بالاتِّفاق. عدد آياتها أَربع وستّون فى العراقىّ والشامىّ، واثنتان فى الحجازى. كلماتها أَلف وثلثمائة وستة عشر. وحروفها خمسة آلاف وستمائة وثمانون. المختلف فيها آيتان: {بالغدو والآصال} و {يَذْهَبُ بالأبصار} .
مجموع فواصل آياتها (لم نربّ) على الَّلام آية واحدة {بالغدو والآصال} وعلى الباءِ آيتان {بِغَيْرِ حِسَابٍ} و {سَرِيعِ الحِسَابِ} سميت سورة النُّور، لكثرة ذكر النور فيها (الله نور.. مثل نوره.. نور على نورٍ يهدى الله لنورهِ.. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) .
مقصود السّورة ومعظمُ ما اشتملت عليه: بيان فرائض مختلفَة، وآداب حدّ الزَّانى والزَّانية، والنَّهى عن قَذْف المحصنات، وحكم القذف، واللِّعان، وقصّة إِفك الصّدّيقة، وشكاية المنافقين، وخوضهم فيه، وحكاية حال المخلصِين فى حفظ اللِّسان، وبيان عظمة عقوبة البهتان، وذمّ إِشاعة(1/334)
الفاحشة، والنهى عن متابعة الشيطان، والمِنَّة بتزكية الأَحوال على أَهل الإِيمان، والشفاعة لمِسْطحٍ إِلى الصّديق، فى ابتداءِ الفضل والإِحسان، ومدح عائشة بأَنَّها حَصَان رَزَان، وبيان أَن الطيّبات للطيّبين، ولعن الخائضين فى حديث الإِفك، والنَّهى عن دخول البيوت بغير إِذن وإِيذان، والأَمر بحفظ الفروج، وغضِّ الأَبصار، والأَمر بالتَّوبة لجميع أَهل الإِيمان، وبيان النكاح وشرائطه، وكراهة الإِكراه على الزِّنا، وتشبيه المعرفة بالسّراج والقنديل، وشجرة الزيتون، وتمثيل أَعمال الكفار، وأَحوالهم، وذكر الطّيور، وتسبيحهم، وأَورادهم، وإِظهار عجائب صُنْع الله فى إِرسال المطر، وتفصيل أَصناف الحيوان، وانقياد أَمر الله تعالى بالتَواضع والإِذْعان، وخلافة الصّديق، وصلابة الإِخوان، وبيان استئذان الصّبيان، والعُبْدَان، ورفع الحَرَج عن العُمْيَان، والزَّمْنى، والعُرْجان، والأَمر بحرمة سيّد الإِنس والجانّ، وتهديد المنافقين، وتحذيرهم من العصيان، وخَتم السّورة بأَن لله المُلْك والملكوت بقوله {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} إِلى قوله {عَلِيمُ} .(1/335)
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ ستُّ آيات {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} م {إِلاَّ الذين تَابُواْ} ن {والزانية لاَ يَنكِحُهَآ} م {وَأَنْكِحُواْ الأيامى} ن. وقيل: محكمة {والذين يَرْمُونَ} م {والخامسة أَنَّ} ن {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} العموم فيه م {والقواعد مِنَ النسآء} ن الخصوص {عَلَيْهِ مَا حُمِّل} م آية السّيف ن {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} م {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال} ن.
المتشابهات:
قوله تعالى {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ}(1/336)
محذوف الجواب، تقديره: لفَضَحكم. وهو متصل ببيان حكم الزانيين، وحكم القاذف وحكم اللِّعان. وجواب لولا محذوفاً أَحسن منه ملفوظاً به. وهو المكان الذى يكون الإِنسان فيه أَفصح ما يكون (إِذا سكت) .
وقوله بعده: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} فحذف الجواب أَيضاً. وتقديره: لعجّل لكم العذاب. وهو متصل بقصّتها رضى الله عنها، وعن أَبيها. وقيل دَلَّ عليه قولُه {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقيل: دلَّ عليه قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} وفى خلال هذه الآيات {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون} {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ} وليس هو الدّال على امتناع الشىء لوجود غيره، بل هو للتحضيض؛ قال الشاعر:
تعدُّون عَقر النِّيب أَفضل مجدكم ... بنى ضَوْطَرَى لولا الكمىَّ المقنَّعا
وهو فى البيت للتحْضيض. والتحْضِيض يختصّ بالفعْل، والفعل فى البيت مقدّر، تقديره: هلاَّ تعدُّون الكمىَّ، أَو هلاَّ تعقرون الكمىَّ.
قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ} ، وبعده: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ} ؛(1/337)
لأَن اتصال الأَوّل بما قبله أَشدّ: فإِنَّ قوله: (وموعظة) محمول ومصروف إِلى قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ} ، وإِلى قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} ، {وَلاَ تُكْرِهُواْ} فاقتضى الواو؛ ليعلم أَنَّه عطف على الأَوّل، واقتضى بيانه بقوله: (إِليكم) ليعلم أَنَّ المخاطبين بالآية الثانية هم المخاطبون بالآية الأُولى. وأَما الثَّانية فاستئناف كلام، فخصّ بالحذف.
قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} إِنَّما زاد (منكم) ؛ لأَنَّهم المهاجِرون. وقيل: عامّ، و (مِن) للتبيين.
قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال} ختم [الآية] بقوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} وقبلها وبعدها {لَكُمْ الآيَاتِ} ؛ لأَنَّ الذى قبلها والذى بعدها يشتمل على علامات يمكن الوقوف عليها. وهى فى الأُولى {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صلاة الفجر وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء} وفى الأُخرى {مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} الآية فعدّ فيها آيات كلُّها معلومة، فختم الآيتين بقوله {لَكُمُ الآيات} . ومثله {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} يعنى حَدّ الزَّانين وحدّ القاذفين، فختم بالآيات. وأَمَّا بلوغ الأَطفال فلم يذكر له علامات يمكن الوقوف عليها، بل تفرّد سبحانه بعلم ذلك، فخصّها بالإِضافة إِلى نفسه، وختم كلّ آية بما اقتضاها أَوّلها.(1/338)
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ المستضعف "من قرأ سورة النور أُعطِى من الأَجر عشرَ حسنات، بعدد كلّ مؤمن فيما مضى، وفيما بقى" وحديث: "لا تُنزلوا النساءَ الغُرَف ولا تعلِّموهنّ الكتابة، وعلِّموهن الغَزْل وسورة النور" وحديث علىّ: "يا علىّ مَن قرأَ سورة النّور نوّر الله قلبه، وقبره، وبيّض وجهه، وأَعطاه كتابه بيمينه وله بكلّ آية قرأَها مثل ثواب مَن مات مبطوناً".(1/339)
بصيرة فى.. تبارك الذى نزل الفرقان
السّورة مكِّيَّة بالاتِّفاق. وعدد آياتها سبع وسبعون. وكلماتها ثمانمائة واثنتان وسبعون. وحروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاث وثلاثون. مجموع فواصل آياتها (لا) على اللاَّم منها آية واحدة: {ضَلُّوا السبيل} سمّيت سورة الفرقان لأَنَّ فى فاتحتها ذكرَ الفرقان فى قوله {نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} .
مقصود السّورة ومعظمُ ما اشتملت عليه: المِنَّة بإِنزال القرآن، ومنشور رسالة سيّد ولد عدنان، وتنزيهُ الحقّ تعالى من الولد، والشَّريك، وذمُّ الأَوثان، والشكاية من المشركين بطعنهم فى المرسلين، بأَكل الطَّعام فى أَخسّ مكان، واستدعائهم مُحالات المعجِزات من الأَنبياءِ كلَّ أَوان، وذُلّ المشركين فى العذاب والهوان، وعِزّ المؤمنين فى ثوابهم بفراديس الجِنَان، وخطاب الحق مع الملائكة فى القيامة تهديداً لأَهل الكفر والطُّغيان، وبشارة الملائكة للمجرمين بالعقوبة فى النِّيران، وبطلان أَعمال الكفَّار يوم يُنصب الميزان، والإِخبار بمقَرّ المؤمنين فى درجات الجِنَان، وانشقاق السّماوات بحكم الهَوْل وسياسة العُبْدان، والإِخبار عن ندامة الظَّالمين يوم الهيبة ونطق الأَركان، وذكر الترتيب والترتيل فى نزول القرآن، وحكاية حال القُرُون الماضية، وتمثيل الكفَّار بالأَنعام، أَخسّ الحيوان، وتفضيل الأَنعام(1/340)
عليهم فى كلِّ شان، وعجائب صنع الله فى ضمن الظلّ والشَّمس وتخليق اللَّيل، والنَّهار، والآفات، والأَزمان، والمِنَّة بإِنزال الأَمطار، وإِنبات الأِشجار فى كلّ مكان، وذكر الحُجّة فى المياه المختلِفة فى البحَار، وذكر النَّسب، والصهر، فى نوع الإِنسان، وعجائب الكواكب، والبروج، ودَوْر الفلك، وسير الشمس، والقمر، وتفصيل صفات العباد، وخواصّهم بالتَّواضع، وحكم قيام اللَّيل، والاستعاذة من النِّيران، وذكر الإِقتار، والاقتصاد فى النفقة، والاحتراز من الشرك والزِّنى وقتل النَّفس بالظُّلم والعدوان، والإِقبال على التَّوبة، والإِعراض عن اللَّغو، والزُّور، والوعد بالغُرَف للصّابرين على عبادة الرّحمن، وبيان أَنَّ الحكمة فى تخليق الخَلْق التضرّع والدّعاء والابتهال إِلى الله الكريم المنَّان، بقوله: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} الآية.
المتشابهات:
قوله: (تبارك) هذه لفظة لا تستعمل إِلاَّ لله تعالى. ولا تستعمل إِلاَّ بلفظ الماضى. وجاءَ فى هذه السّورة فى ثلاثة مواضع {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ} {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء(1/341)
بُرُوجاً} ؛ تعظيماً لذكر الله. وخُصّت هذه المواضع بالذكر؛ لأَنَّ ما بعدها عظائم: الأَوّل ذكر الفرقان، وهو القرآن المشتمل على معانى جميع كتاب أَنزله الله، والثانى ذكر النبى الذى خاطبه الله بقوله: (لولاك يا محمّد ما خلقت الكائنات) . والثَّالث ذكر البروج والسيّارات، والشمس والقمر، واللَّيل والنَّهار، ولولاها ما وجد فى الأَرض حيوان، ولا نبات. ومثلها {فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} .
قوله: {مِن دُونِهِ} هنا، وفى مريم، ويس: {مِن دُونِ الله} ؛ لأَنَّ فى هذه السّورة وافق ما قبله، وفى السّورتين لوجاءَ (من دونه) لخالف ما قبله؛ لأَنَّ ما قبله فى السّورتين بلفظ الجمع؛ تعظيماً. فصرّح.
قوله: {ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} قدّم الضرّ؛ موافقة لما قبله وما بعده. فما قبله نفى وإِثبات، وما بعده موت وحياة. وقد سبق.
قوله: {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} قدّم النَّفع؛ موافقة لقوله تعالى: {هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} .
قوله: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ(1/342)
استوى عَلَى العرش الرحمان} ومثله فى السّجدة يجوز أَن يكون (الَّذى) فى السّورتين مبتدأ (الرّحمن) خبره فى الفرقان، و {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُوْنِهِ} خبره فى السّجدة، وجاز غير ذلك.
فضل السّورة
فيه الأَحاديث الضعيفة الَّتى منها حديث أُبىّ: مَن قرأَ سورة الفرقان بُعِث يوم القيامة وهو يؤمن أَنَّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأَنَّ الله يَبْعث مَنْ فى القبور، ودخل الجَنَّة بغير حساب. ومن قرأَ هذه السورة يُبعث يوم القيامة آمناً مِن هَوْلِها، ويدخل الجَنَّة بغير نَصَب، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَ {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} . فكأَنما قرأَ كلَّ كتاب نزل من السّماءِ، وكأَنما عَبَدَ الله بكلّ آية قرأَها سنَةً.(1/343)
بصيرة فى.. طسم. تلك الشعراء
السّورة مكِّيَّة، إِلا آية واحدة: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} إِلى آخره. عدد آياتها مائتان وسبع وعشرون فى عدّ الكوفىّ والشامىّ. وست فى عدّ الباقين. كلماتها أَلف ومائتان وسبع وسبعون. وحروفها خمسة آلاف وخمْسمائة وثنتان وأَربعون: الآيات المختلف فيها أَربع طسم {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} .
مجموع فواصل آياتها (مِلْن) على اللام أَربع، آخرهنّ إِسرائيل وسميت سورة الشعراءِ لاختتامها بذكر هم فى قوله: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} .
مقصود السّورة وجُلّ ما اشتملت عليه: ذكر القَسم ببيان آيات القرآن، وتسلية الرّسول عن تأَخُّر المنكِرين عن الإِيمان، وذكر موسى وهارون، ومناظرة فرعون الملعون، وذكر السّحرة، ومكرهم فى الابتداءِ، وإِيمانهم وانقيادهم فى الانتهاءِ، وسَفَرِ موسى ببنى إِسرائيل من مصر، وطلب فرعون إِيَّاهم، وانفلاق البحر، وإِغراق القِبْط، وذكر الجَبَل، وذكر المناجاة، ودعاءُ إِبراهيم الخليل، وذكر استغاثة الكفَّار من عذاب النيران،(1/344)
وقصّة نوح، وذكر الطُّوفان، وتعدّى عاد، وذكر هود، وذكر عقوبة ثمود، وذكر قوم لوط، وخُبْثهم، وقصّة شُعيب، وهلاك أَصحاب الأَيْكة، لعبثهم، وتنزيل جبريل على النبىّ بالقرآن العربىّ، وتفصيل حال الأُمم السّالفة الكثيرة، وأَمر الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بإِنذار العشيرة، وتواضعه للمؤمنين، وأَخلاقه اللَّينة، وبيان غَوَاية شعراءِ الجاهلية، وأَنَّ العذاب منقلَب الذين يظلمون فى قوله {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} .
الناسخ والمنسوخ:
المنسوخ فى هذه السّورة آية واحدة: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} العموم م {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} ن الخصوص.
المتشابهات:
قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمان مُحْدَثٍ} سبق فى الأَنبياءِ. {فَسَيَأْتِيهِم} سبق فى الأَنعام، وكذا {أَلَمْ يَرَوْاْ} وما تعلَّق بقصّة موسى وفرعون سبق فى الأَعراف.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} مذكور فى ثمانية مواضع: أَوّلها فى محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإِن لم يتقدّم ذكرُه صريحاً، فقد تقدّم كناية(1/345)
ووضوحاً، والثانية فى قصّة موسى، ثمَّ إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شُعيب.
قوله {أَلاَ تَتَّقُونَ} إِلى قوله: {العَالَمِيْنَ} مذكور فى خمسة مواضع: فى قصّة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشُعيب عليهم السّلام. ثمَّ كرّر {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} فى قصّة نوح، وهود، وصالح فصار ثمانية مواضع. وليس فى ذكر النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} ؛ لذكرها فى مواضع. وليس فى قصّة موسى؛ (لأَنَّه ربَّاه فرعون حيث قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِيْنَا وَلِيْدًا} ولا فى قصة إِبراهيم، لأَن أَباه فى المخاطبين حيث يقول: {إِذْ قَالَ لأَبِيْهِ وَقَوْمِهِ} وهو ربَّاه، فاستحيا موسى) وإبراهيم أَن يقولا: ما أَسأَلكم عليه من أَجر، وإِن كانا منزَّهَيْن من طلب الأَجر.
قوله: فى قصّة إِبراهيم: {مَا تَعْبُدُوْنَ} وفى الصافات {مَاذَا تَعْبُدُوْنَ} لأَنَّ (ما) لمجرّد الاستفهام، فأَجابوا فقالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا} و (ماذا) فيه مبالغة، وقد تضمّن فى الصّافَّات معنى التوبيخ، فلمَّا وبَّخهم ولم يجيبوا،(1/346)
زاد فى التوبيخ فقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} فجاءَ فى كلّ سورة ما اقتضاه ما قبله وما بعده.
قوله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} زاد (هو) فى الإِطعام، والشِّفاءِ؛ لأَنهما ممَّا يدَّعى الإِنسان، فيقال: زيد يُطعم، وعمرو يداوى. فأَكد؛ إِعلاماً لأَنَّ ذلك منه سبحانه وتعالى لا من غيره. وأَمَّا الخَلْق والموت، والحياة، فلا يدَّعيها مدّع، فأَطلق.
قوله فى قصّة صالح: {مَآ أَنتَ} بغير واو، وفى قصّة شعيب: {وَمَآ أَنتَ} لأَنَّه فى قصّة صالح بَدَل من الأَول، وفى الثانية عطف، وخُصّت الأُولى بالبدل؛ لأَنَّ صالحاً قلَّل فى الخطاب، (فقللوا فى الجواب) وأَكثر شعيب فى الخطاب، فأَكثروا فى الجواب.
فضل السّورة
فيه حديث أَبىّ الواهى: مَن قرأَ سورة الشُّعراءِ كان من له الأَجر عشرُ حسنات، بعدد مَنْ صَدّق بنوح، وكَذَّب به، وهود، وشعيب، وصالح، وابراهيم، وبعدد مَنْ كذَّب بعيسى، وصدَّق بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ هذه السّورة كان موته موت الشُّهداءِ، وله بكلِّ آية قرأَها مثل ثواب امرأَة فرعون آسية.(1/347)
بصيرة فى.. طس. تلك آيات القرآن
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق، عدد آياتها خمس وتسعون فى عدّ الحجاز، وأَربع فى عدّ الشام، والبصرة، وثلاث فى عدّ الكوفة، كلماتها أَلف ومائة وتسع وأَربعون. وحروفها أَربعة آلاف وسبعمائة وتسع وتسعون. والآيات المختلف فيها {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} ، {مِّن قَوارِيرَا} ، مجموع فواصل آياتها (من) وسميت سورة النَّمل؛ لاشتمالها على مناظرة النَّمل سليمان فى قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا} .
مقصود السّورة ومعظم ما تضمّنته: بيان شرف القرآن، وما منه نصيب أَهل الإِيمان، والشكاية من مكر أَهل الشرك والعصيان، وإِشارة إِلى ذكر الوادى المقدّس وموسى بن عمران، وذكر خبر داود وسليمان، وفَضْل الله تعالى عليهما بتعليمهما منطق الطَّير وسائر الحيوان، وقصّة النَّمل، وذكر الهدهد وخبر بِلْقِيس، ورسالة الهدهد إِليها من سليمان، ومشاورتها أَركانَ الدّولة، وبيان أَثر الملوك إِذا نزلوا فى مكان، وإِهداء بِلْقيس إِلى سليمان، وتهديده لها، ودعوة آصَف لإِحضار تخت بِلْقِيس فى أَسرع زمان، وتغيير حال العرش لتجربتها وإِسلامها على يدى سليمان، وحديث صالح ومكر(1/348)
قومه فى حقِّه، وطَرَف من حديث قوم لوط أَولى الطغيان، والبرهان فى الحدائق، والأَشجار، والبحار، والأَنهار، وإِجابة الحق دعاءَ أَهل التَّضرّع، والابتهال إِلى الرّحمن، وهداية الله الخَلْقَ فى ظلمات البرّ، والبحر، واطلاع الحق تعالى على أَسرار الغيب، وتسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم فى إِعراض المنكرين من قبول القرآن، وقبول الإِيمان، وخروج الدَّابَّة، وظهور علامة القيامة، والإِخبار عن حال الجبال فى ذلك اليوم، وبيان جزاء المجرمين، وإِعراض الرّسول عن المشركين، وإِقباله على القرآن الكريم، وأَمر الله له بالحمد على إِظهار الحجة، أَعنى القرآن فى قوله {وَقُلِ الْحَمْدُللهِ سَيُرِيْكُمْءَايَاتِهِ} .
الناسخ والمنسوخ:
فى هذه السّورة آية واحدة م {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن} ن آية السّيف.
المتشابهات:
قوله: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ} ، وفى القصص وطه {فَلَمَّآ أَتَاهَا} الآية، قال فى هذه السّورة {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} فكرّر (ءاتيكم) فاستثقل الجمع بينهما وبين {فَلَمَّآ أَتَاهَا} فعدل إِلى قوله: {فَلَمَّا جَآءَهَا} بعد أَن كانا بمعنى واحد. وأَمَّا فى السّورتين فلم يكن {إِلا سَآتِيكُمْ} {فَلَمَّآ أَتَاهَا} .(1/349)
قوله: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} وفى القصص {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ؛ لأَنَّ فى هذه السّورة {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم وَأَلْقِ عَصَاكَ} فحيل بينهما بهذه الجملة فاستُغنى عن إِعادة (أَن) ، وفى القصص: {أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فلم يكن بينهما جملة أُخرى عُطِف بها على الأَوّل، فحسُن إِدْخال (أَن) .
قوله: {لاَ تَخَفْ} ، وفى القصص: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} خُصّت هذه السّورة بقوله: {لاَ تَخَفْ} لأَنَّه بُنى على ذكر الخوف كلام يليق بهِ، وهو قوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُوْنَ} ، وفى القصص اقتُصِر على قوله: {لاَ تَخَفْ} ، ولم يُبْن عليه كلام، فزيد قبله {أَقْبِلْ} ؛ ليكون فى مقابلة {مُدْبِرًا} أَى أَقبل آمناً غير مُدْبِر، ولا تخف، فخصّت هذه السّورة به.
قوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} ، وفى القصص: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} خُصّت هذه السّورة بـ (أَدخل) ؛ لأَنه أَبلغ من قوله: {اسْلُكْ يَدَكَ} ، لأَن (اسلُكْ) يأْتى لازماً، ومتعدِّياً، وأَدْخِلْ متعدٍّ لا غير، وكان فى هذه السّورة {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أَى مع تسع آيات مرسلاً إِلى فرعون. وخصّت القَصَص بقوله {اسْلُكْ} موافقة لقوله {اضْمُمْ} ثم قال: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} (وكان) دون الأَوّل فخُصّ بالأَدْوَنِ من الَّلفظين.(1/350)
قوله {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} ، وفى القصَص: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ} ؛ لأَنَّ الملأَ أَشراف القوم، وكانوا فى هذه السّورة موصوفين بما وصفهم الله به من قولهم {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هاذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا} الآية فلم يسمّهم ملأً، بل سمّاهم قوماً. وفى القَصَص لم يكونوا موصوفين بتلك الصّفات، فسمّاهم ملأً وعقبهُ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرِي} . وما يتعلَّق بقصّة موسى سوى هذه الكلمات قد سبق.
قوله: {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ} وفى حم {وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} ونجينا وأَنجينا بمعنى واحد. وخُصّت هذه السُّورة بأَنجينا؛ موافقة لما بعده وهو: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} وبعده: {وَأَمْطَرْنَا} ، {وَأَنْزَلْنَا} كلّه على لفظ أَفعل. وخصّ حم بنجيّنا؛ موافقة لما قبله: [وزيّنا] وبعده {وقَيَّضْنَا لَهُمْ} وكلَّه على لفظ فعَّل.
قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ} سبق.
قوله: {أإلاه مَّعَ الله} فى خمس آيات، وختم الأُولى بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ثم قال: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ثم قال {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} ثم {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ(1/351)
صَادِقِينَ} أَى عَدَلوا وأَوّل الذنوب العدول عن الحقَّ، ثم لم يعلموا ولو علموا لَمَا عَدَلوا ثم لم يَذكَّروا فيَعْلموا بالنَّظر والاستدلال، فأَشركوا من غير حُجّة وبرهان. قُلْ لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إِن كنتم صادقين.
قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات} وفى الزُّمر: {فَصَعِقَ} : خُصَّت هذه السورة بقوله {فَزَعِ} موافقة لقوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ مَيِّتُوْنَ} ، وخُصّت الزُّمر بقوله: {فَصَعَقَ} موافقة لقوله {إِنَّهُمْ مَيِّتُوْنَ} ؛ لأَن معناه: مات.
فضل السّورة
رُويتْ أَحاديث ضعيفة منها حديث أُبىَّ: مَن قرأَ طس كان له من الأَجر عشرُ حسنات. بعَدَد مَنْ صدَّق سليمان، وكذَّب به، وهود، وشعيب، وإِبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادى: لا إِله إِلاَّ الله؛ وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَ طس النَّمل أَعطاه الله بكلِّ سجدة يسجد بها المؤمنون ثواب المؤمنين كلهم، وله بكلِّ آية ثوابُ المتوكلين.(1/352)
بصيرة فى.. طسم. القصص
السورة مكِّيّة بالاتِّفاق. عدد آياتها ثمان وثمانون وكلماتها أَلف وأَربعمائة وواحدة. وحروفها خمسة آلاف وثمانمائة الآيات المختلف [فيها] اثنتان: طسم، يَسْقُون. فواصل آياتها (لم تر) وسميت سورةَ القَصَص؛ لاشتمالها عليها فى قوله: {وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أَى قصّ موسى على شُعَيب.
مقصود السورة: بيانُ ظلم فرعون بنى إسرائيل، وولادة موسى، ومحبة آسية له، وردّ موسى على أُمّه، وحديث القبطى، والإِسرائيلى، وهجرة موسى من مصر إِلى مَدْيَن، وسَقْيه لبنات شُعيب، واستئجار شعيب موسى، وخروج موسى من مَدْين، وظهور آثار النبوّة، واليد البيضاء، وقلب العصا، وإِمدادُ الله تعالى له بأَخيه هارون، وحيلة هامان فى معارضة موسى، وإِخبار الله تعالى عمّا جرى فى الطُّور، ومدح مؤمنى أَهل الكتاب، وقصّة إِهلاك القرون الماضية، ومناظرة المشركين يوم القيامة، واختيار الله تعالى ما شاءَ، وإِقامة البرهان على وجود الحق إِيّاه بالقهر، ووعد الرسول صلَّى الله عليه وسلم بالرجوع إِلى مكة،(1/353)
وبيان أَنَّ كلَّ ما دون الحقِّ فهو فى عُرْضة الفناء والزَّوال، وأَنَّ زمام الحكم بيده (تعالى) فى قوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
الناسخ والمنسوخ:
المنسوخ فيها آية واحدة. {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى آتَيْنَاهُ} أَى كمَّل أَربعين سنة. وقيل: كَمُل عقلُه. وقيل: خرجت لحيته. وفى يوسف {بَلَغَ أَشُدَّهُ} فحسب؛ لأَنه أُوحى إِليه فى صِباه. قوله: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة} ، وفى يس: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ} قيل: اسمه خربيل مؤمن من آل فرعون، وهو النجار. وقيل شمعون وقيل: حبيب. وفى يس هو هو. قوله: {مِّنْ أَقْصَى المدينة} يحتمل ثلاثة أَوجه. أَحدها أَن يكون (من أَقصى المدينة) صفة لرجل، والثانى أَن يكون صلى لجاءَ.(1/354)
والثالث أَن يكون صلى ليسعى. والأَظهر فى هذه السّورة أَن يكون وصفاً، وفى يس أَن يكون صلة. وخصّت هذه السّورة بالتقديم؛ لقوله تعالى قبله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلاَنِ يَقْتَتِلاَنِ} ثم قال: {وَجَآءَ رَجُلٌ} وخصّت سورة يس بقوله {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة} لِمَا جاءَ بالتفسير أَنَّه كان يعبد الله فى جبل، فلمّا سمع خبر الرُّسل سعى مستعجلاً. قوله {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [وفى الصافات: {مِنَ الصَّابِرِينَ} ، لأَنَّ ما هنا من كلام شعيب، والمعنى: ستجدنى من الصالحين] فى حسن العشرة، والوفاءِ بالعهد، وفى الصَّافات من كلام إِسماعيل حين قال له أَبوه {أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى} فَأَجاب {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} أَى على الذبح.
قوله: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ} وبعده: {مَن جَآءَ} بغير باءٍ. الأَوّل هو الوجه؛ لأَن (أَعلم) هذا فيه معنى الفعل، ومعنى الفعل لا يعمل فى المفعول به، فزيد بعده باء؛ تقويةً للعمل. وخُصَّ الأَوّل بالأَصل، ثم حذف من الآخر الباءُ؛ اكتفاءً بدلالة الأَول عليه. ومحلُّهُ نصب بفعل آخر، أَى يعلم مَن جاءَ بالهدى. ولم يقتض تغييراً، كما قلنا فى الأَنعام؛ لأَنَّ دلالة الأَول قام مقام التغيير. وخصّ الثانى؛ لأَنه فرع.(1/355)
قوله: {لعلي أَطَّلِعُ إلى إلاه موسى} وفى المؤْمن {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إلاه موسى} ، لأَن قوله {أَطَّلِعُ إلى إلاه موسى} فى هذه السّورة خبر لعلَّ، وفى المؤْمن عطف على خبر {أَبْلُغُ الأسباب} وجعل قوله {أَبْلُغُ الأسباب} خبر لعلَّ، ثم أَبدل منه {أَسْبَابَ السماوات} وانما زاد ليقع فى مقابلة قوله {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} ، لأَنه زعم أَنَّه إِله الأَرض، فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرِي} أَى فى الأَرض؛ أَلا ترى أَنَّه قال: {فَأَطَّلِعَ إلى إلاه موسى} فجاءَ فى كلِّ سورة على ما اقتضاه ما قبله.
قوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} وفى المؤْمن {كَاذِبًا} لأَن التقدير فى هذه السورة: وإنى لأَظنه كاذبا من الكاذبين، فزيد {مِنَ الكاذبين} لرءُوس الآى، ثم أَضمر (كاذباً) ؛ لدلالة (الكاذبين) عليه. وفى المؤْمن جاءَ على الأَصل، ولم يكن فيه موجب تغيير.
قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} بالواو، وفى الشورى {فَمَآ أُوتِيتُم مِّن} بالفاءِ؛ لأَنه لم يتعلق فى هذه السّورة بما قبله أَشدّ تعلَّق، فاقتُصر على الواو؛ لعطف جملة على جملة، وتعلَّق فى الشُّورى بما قبلها أَشدّ تعلق؛ لأَنَّه عقَّب ما لهم من المخافة بما أُوتوه من الأَمَنة، والفاء حرف التّعقيب.
قوله: {وَزِيْنَتُهَا} ، وفى الشُّورى {فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَّا} فحسب؛ لأَنَّ فى هذه السُّورة ذكر جميع ما بسط من الرزق، وأَعراض الدّنيا،(1/356)
كلَّها مستوعبة بهذين اللفظين. فالمتاع: ما لا غِنى عنه فى الحياة: من المأَكول، والمشروب، والملبوس، والمسكن، والمنكوح. والزينة: ما يتجمَّل به الإِنسانُ، وقد يُستغنى عنه؛ كالثياب الفاخر، والمراكب الفارهة، والدُّور المجصّصة، والأَطعمة الملبَّقة. وأَمّا فى الشورى فلم يقصد الاستيعاب، بل ما هو مطلوبهم فى تلك الحالة: من النجاة، والأَمْن فى الحياة، فلم يحتج إلى ذكر الزينة.
قوله {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً} وبعده {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً} قَدَّم اللَّيل على النهار لأَنَّ ذهاب اللَّيل بطلوع الشَّمس أَكثر فائدة من ذهاب النَّهار بدخول اللَّيل، ثم ختم الآية الأُولى بقوله: {أَفَلاَ تَسْمَعُوْنَ} بناءً على اللَّيل، وختم الأُخرى بقوله: {أَفَلاَ تَبْصِرُوْنَ} بناءً على النهار، والنَّهار مبصر، وآية النهار مُبصرة.
قوله: {وَيْكَأَنَّ} {وَيْكَأَنَّهُ} ليس بتكرار؛ لأَنَّ كل واحد منهما متصل بغير ما اتَّصل به الآخر. قال ابن عبّاس: وَىْ صلة. وإِليه ذهب سيبويه، فقال: وَىْ: كلمة يستعملها النَّادم بإِظهار ندامته. وهى مفصولة من (كَأَنَّهُ) . وقال الأَخفش: أَصله وَيْكَ (وَأَنَّ) بعده منصوب بإِضمار العِلْم، أَى أَعلم أَنَّ الله ... . وقال بعضهم أَصله: ويلك.(1/357)
وفيه ضعف. وقال الضَّحّاك: الياءُ والكاف صلة، وتقديره وأَنَّ الله. وهذا كلام مزيَّف.
فضل السورة
رُوِيت الأَحاديث الَّتى لا تُذكر إِلاَّ تنبيها على وَهْنها. منها حديث أُبيّ: من قرأَ طسم القصص لم يبق ملك فى السماوات والأَرض إِلا يشهد له يوم القيامة أَنَّه كان صادقاً أَنَّ كلَّ شىءٍ هالك إِلاَّ وجهه، والحديث الآخر: مَنْ قرأَ سورة القَصَص كان له من الأَجر بعدد من صدَّق موسى وكذَّبه عشر حسنات، وحديث علىّ: يا علىَّ من قرأَ طسم القصص أَعطاه الله من الثواب مثلَ ثواب يعقوب، وله بكلِّ آية قرأَها مدينة عند الله.(1/358)
بصيرة فى.. ألم. أحسب الناس
السّورة مكِّيَّة إِجماعاً. عدد آياتها تسع وستون، بالاتفاق. وكلماتها تسعمائة وثمانون. وحروفها أَربعة آلاف ومائة وخمس وتسعون. المختلف فيها ثلاث: الم {وَتَقْطَعُونَ السبيل} {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} . فواصل آياتها (نمر) . فواصل آياتها (نمر) . على الرَّاءِ آية واحدة (قدير) سمِّيت سورة العنكبوت؛ لتكرُّر ذكره فيه {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت} .
معظم مقصود السّورة: توبيخُ أَهل الدّعوى، وترغيبُ أَهل التَّقوى، والوصيَّة ببرِّ الوالدين للأَبرار، والشكاية من المنافقين فى جُرْأَتهم على حَمْل الأَوزار، والإِشارة إِلى بَلْوَى نوح والخليل، لتسلية الحبيب، وهجرة ابراهيم من بين قومهم إِلى مكان غريب، ووعظ لوط قومَه باختيار الخُبُث، وعدم اتِّعاظهم، وإِهلاك الله إِيَّاهم، والإِشارة إِلى حديث شُعيب، وتعيير عُبَّاد الأَصنام، وتوبيخهم، وتمثيل الصَّنم ببيت العنكبوت، وإِقامة حُجَج التوحيد، ونهى الصّلاة عن الفحشاءِ والمنكر،(1/359)
وأَدب الجدال مع المنكرين، والمبتدعين، وبيان الحكمة فى كون رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم أُمِّيّاً، والخبر من استعجال الكفار العذاب وأَن كلَّ نفْس بالضرورة مَيِّت ووعد المؤْمنين بالثواب، وضمان الحقِّ رزق كلِّ دابة، وبيان أَنَّ الدنيا دارُ فناءٍ وممات، وأَن العُقْبى دار بقاءٍ وحياة، وبيان حُرْمة الحَرم وأَمنه، والإِخبار بأَنَّ الجهاد بثمن الهداية، وأَن عناية الله مع أَهل الإِحسان، فى قوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} إِلى آخر السّورة.
النَّاسخ والمنسوخ:
المنسوخ فيها آية واحدة {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} م {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} ن.
المتشابهات:
قوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} ، وفى لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} وفى الأَحقاف {بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} الجمهور على أَنَّ الآيات الثلاث نزلت فى سعد بن مالك (وهو سعد بن أَبى وقَّاص) وأَنَّها فى سورة لقمان اعتراض بين كلام لقمان لابنه. ولم يذكر فى لقمان(1/360)
(حسناً) ؛ لأَنَّ قوله بعده {اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} قام مقامه، ولم يذكر فى هذه السّورة (حمله) ولا (وضعه) ، موافقة لما قبله من الاختصار، وهو قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، فإِنَّه ذكر فيها جميع ما يقع بالمؤمنين بأَوجز كلام، وأَحسن نظام، ثم قال بعده: {وَوَصَّيْنَا الإنسان} أَى أَلزمناه {حَسَنًا} فى حقِّهما، وقياماً بأَمرهما، وإِعراضاً عنهما، وخلافاً لقولهما إِن أَمرَاهُ بالشرك بالله. وذكر فى لقمان والأَحقاف حاله فى حمله ووضعه.
قوله {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} ، وفى لقمان: {عَلَى أَن تُشْرِكَ} ؛ لأَنَّ ما فى هذه السُّورة وافق ما قبله لفظاً، وهو قوله {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} - وفى لقمان محمول على المعنى؛ لأَنَّ التقدير: وإِن حملاك على أَن تشرك.
قوله: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} بتقديم العذاب على الرّحمة فى هذه السّورة فحسْب؛ لأَن إِبراهيم خاطب به نمُرودَ وأَصحابَه، فإِنَّ العذاب وقع بهم فى الدّنيا.
قوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} ، وفى الشُّورى {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض} ؛ لأَنَّ (ما) فى هذه السّورة خطاب لنُمرود(1/361)
حين صَعِدَ الجَوّ موهِماً أَنه يحاول السّماءَ، فقال له ولقومه: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض} أَى من فى الأَرض: من الجنّ، والإِنس، ولا مَن فى السّماءِ: من الملائكة، فكيف تُعْجزون الله! وقيل: ما أَنتم بفائتين عليه، ولو هَرَبتم فى الأَرض، أَو صعدتم فى السّماءِ (فقال: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ} لو كنتم فيها. وما فى الشورى خطاب للمؤْمنين، وقوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فِبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْكُمْ} يدل عليه. وقد جاءَ {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} فى قوله {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هاؤلاء} من غير ذكر الأَرض ولا السّماءِ.
قوله: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقال بعده: {خَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} فجمع الأُولى، ووحّد الثانية؛ لأَنَّ الأُولى إِشارة إِلى إِثبات النبوّة، وفى النَّبيِّين (صَلوات الله وسلامه عليهم) كثرة، والثَّانى إِشارة إِلى التَّوحيد وهو - سبحانه - واحد لا شريك له.
قوله: {إِنَّكُمْ} جمع بين استفهامين فى هذه السّورة. وقد سبق فى الأَعراف.
قوله: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} ، وفى هود. {وَلَمَّا جَآءَتْ}(1/362)
بغير (أَن) ؛ لأَنَّ (لمَّا) يقتضى جواباً، وإذا اتَّصل به (أَنْ) دلّ على أَن الجواب وقع فى الحال من غير تراخ؛ كما فى هذه السّورة، وهو قوله: {سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ومثله فى يوسف {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً} وفى هود اتَّصل به كلام بعد كلام، إِلى قوله: {قَالُواْ يَا لُوْطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُواْ إِلَيْكَ} فلمَّا طال لم يحسن دخول أَنْ.
قوله: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ} هو عطف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوْحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ} .
قوله: {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} أَخَّره فى هذه السّورة لما وصف. وقد سبق.
قوله: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} وفى القصص {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} وفى الرّعد والشُّورى: {لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة اتَّصل بقوله: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} الآية، وفيها عموم، فصار تقديره، يبسط الرّزق لمن يشاءُ من عباده أَحياناً، ويقدر له أَحياناً؛ لأَنَّ الضَّمير يعود إِلى (مَن) وقيل: يقدّر له البسط من التقدير. وفى القصص تقديره: يبسط الرّزق لمن يشاءُ ويقدر لمن يشاءُ. وكلُّ واحد منهما غير الآخر، بخلاف الأُولى. وفى السّورتين يحتمل الوجهين فأَطلق.(1/363)
قوله: {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} وفى البقرة والجاثية: {بَعْدِ مَوْتِهَا} لأَنَّ فى هذه السّورة وافق ما قبله وهو {مِن قَبْلِهِ} فإِنهما يتوافقان وفيه شىء آخر وهو أَنَّ ما فى هذه السورة سؤال وتقرير، والتقرير يحتاج إِلى التحقيق فوق غيره، فقيّد الظرف بمن، فجمع بين طَرَفيه؛ كما سبق. قوله: {لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [سبق. قوله] : {فَسَوْفَ تَعْلَمُوْنَ} سبق. قوله: {نِعْمَ أَجْرُ العَامِلِيْنَ} بغير واو لاتصاله بالأَول أَشدّ اتصال. وتقديره: ذلك نعم أَجر العاملين.
فضل السورة
عن أُبىّ رفعه: من قرأَ العنكبوت كان له من الأَجر عشرُ حسنات، بعدد كل المؤمنين، والمنافقين، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَها كتب له بكل يهودىّ ونصرانىّ مائةُ حَسَنة، ورُفع له مائةُ درجة، وله بكل آية قرأَها ثوابُ الذين فتحوا بيت المقدس.(1/364)
بصيرة فى.. ألم. غلبت الروم
السورة مكِّيّة إِجماعا. عدد آياتها خمس وستون عند المكِّيّين، وستُّون عند الباقين وكلماتها ثمانمائة وسبع وحروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وثلاثون، والآيات المختلف فيها أَربع: أَلم {غُلِبَتِ الروم} {فِي بِضْعِ سِنِيْنَ} ، {يُقْسِمُ المجرمون} فواصل آياتها نمر، على الراءِ آيتان {قَدِيْر} فى موضعين. وسميت سورة الروم لما فيها من ذكر غلبة الروم.
معظم مقصود السورة: غلبة الروم على فارس، وعَيْب الكفار فى إِقبالهم على الدنيا، وأَخبار القرون الماضية، وذكر قيامة الساعة، وآيات التوحيد، والحجج المترادِفة الدالَّة على الذات والصفات، وبيان بعث القيامة، وتمثيل حال المؤمنين والكافرين، وتقرير المؤمنين على الإِيمان، والأَمر بالمعروف، والإِحسان إِلى ذوى القربى، ووعد الثواب على أَداءِ الزكاة، والإِخبار عن ظهور الفساد فى البر والبحر، وعن آثار القيامة، وذكر عجائب الصنع فى السحاب والأَمطار، وظهور آثار الرحمة فى الربيع، وإِصرار الكفار على الكفر، وتخليق الله الخلق مع الضعف والعجز، وإِحياءُ الخلق بعد(1/365)
الموت، والحشر والنشر، وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسكينه عن جفاءِ المشركين وأَذاهم فى قوله: {وَلاَ يَسْتَخِفَنَّكَ الَّذِيْنَ لاَ يُوْقِنُوْنَ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} م آية السيف ن) .
المتشابهات:
قوله: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض} ، وفى فاطر وأَوّل المؤمن بالواو، وفى غيرهنَّ بالفاءِ، لأَنَّ ما قبلها فى هذه السّورة {أَوْلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} وكذلك ما بعدها (وأَثاروا) بالواو، فوافق ما قبلها، وما بعدها، وفى فاطر أَيضاً وافق ما قبله وما بعده، فإِنَّ قبله {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} ، وبعدها {وَمَا كَانَ الله} ، وكذلك أَوّل المؤمن [قبله] {وَالَّذِيْنَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} وأَمّا آخر المؤمن فوافق ما قبله وما بعده، وكان بالفاءِ، وهو قوله: {فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} ، وبعده {فَمَآ أغنى عَنْهُم} .
قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} {مِن قَبْلِهِمْ} متَّصل بكَوْن آخَر مضمر وقوله: {كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} :(1/366)
إِخبارٌ عمَّا كانوا عليه قبل الإِهلاك، وخصّت هذه السّورة بهذا النسق لمّا يتَّصل به من الآيات بعده وكلّه إِخبار عمَّا كانوا عليه وهو {وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوْهَا} وفى فاطر: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَكانوا} بزيادة الواو، لأَنَّ التَّقدير: فينظروا كيف أُهلِكوا وكانوا أَشدَّ منهم قوّة. وخصّت [هذه] السّورة به لقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ} الآية. وفى المؤْمن {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كانوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم قُوَّةً} فأَظهر (كان) العامل فى (من قبلهم) وزاد (هم) لأَنَّ فى هذه السّورة وقعت فى أَوائل قصّة نوح، وهى تَتِمُّ فى ثلاثين آية، فكان اللائق به البسط، وفى آخر المؤمن {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} فلم يبسط القول؛ لأَن أَوّل السّورة يدلّ عليه.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} ، وختم الآية بقوله {يَتَفَكَّرُوْنَ} ؛ لأَنَّ الفكر يؤدى إِلى الوقوف على المعانى التَّى خُلِقَت لها: من التوانس، (والتجانس) ، وسكون كلّ واحد منهما إِلى الآخر.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض} ، وختم بقوله {لِلْعَالَمِيْنَ} لأَن الكل تظلّهم السّماء، وتُقِلهم الأَرض، فكل واحد منفردٌ بلطيفة فى صورته يمتاز بها عن غيره؛ حتى لا ترى اثنين فى أَلف يتشابه(1/367)
صورتاهما ويلتبس كلاهما؛ وكذلك ينفرد كلّ واحد بدقيقة فى صورته، يتميّز بها من بين الأَنام، فلا ترى اثنين يشتبهان. وهذا يشترك فى معرفته النَّاس جميعاً. فلهذا قال {لآَيَاتٍ لِلْعَالَمِيْنَ} . ومن حمل اختلاف الأَلسن على اللغات، واختلاف الأَلوان على السّواد والبياض، والشُّقْرة، والسّمرةِ، فالاشتراك فى معرفتها أَيضاً ظاهر. ومن قرأَ {لِلْعَالَمِيْنَ} بالكسر فقد أَحسن، لأَنَّ بالعلم يمكن الوصول إِلى معرفة ما سبق ذكره.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار} وختم بقوله {يَسْمَعُوْنَ} فإِن مَن سمع أَنَّ النوم مِن صنع الله الحكيم لا يقدر أَحد على اجتلابه إِذا امتنع، ولا على دفعه إِذا ورد، تيقَّن أَنَّ له صانعاً مدبِّراً. قال الإِمام: معنى (يسمعون) هاهنا: يستجيبون إِلى ما يدعوهم إِليه الكتابُ. وختم الآية الرّابعة بقوله {يَعْقِلُوْنَ} لأَن العقل مِلاك الأَمر فى هذه الأَبواب، وهو المؤدِّى إِلى العلم، فختم بذكره.
قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} أَى أَنَّه يريكم. وقيل: تقديره: ويريكم من آياته البرق. وقيل: أَن يُرِيكم، فلمَّا حُذِفَ (أَنْ) سكن الياءُ وقيل: {وَمِنْ آيَاتِهِ} كلام كافِ؛ كما تقول: منها كذا، ومنها كذا ومنها ... . وتسكت، تريد بذلك الكثرة.(1/368)
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ} وفى الزمر {أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ} لأَن بسط الرزق مِمَّا يشاهَد ويرى، فجاءَ فى هذه السّورة على ما يقتضيه اللَّفظ والمعنى. وفى الزمر اتَّصل بقوله {أُوتِيْتُهُ عَلَى عِلْمٍ} وبعده: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُوْنَ} (فحسن "أَو لم يعلموا".
قوله: {وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ} ، وفى الجاثية: {فِيْهِ بِأَمْرِهِ} ، لأَنَّ فى هذه السّورة تقدّم ذكر الرّياح، وهو قوله: {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} بالمطر، وإِذاقة الرّحمة، ولتجرى الفلك بالرياح بأَمر الله تعالى. ولم يتقدّم ذكر البحر. وفى الجاثية تقدّم ذكر البحر، وهو قوله: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} فكنى عنه، فقال: {لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} .
* * *
(فضل السورة. فيه الأَحاديث الساقطة. عن أُبىّ من قرأَ سورة الروم كان له من الأَجر عشر حسنات بعدد كل مَلك سبّح الله فى السماءِ والأَرض، وأَدرك ما ضيّع فى يومه وليلته) وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَ غلبت الرّوم كان كمَن أَعتق بعدد أَهل الرّوم، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب الَّذين عَمروا بيت المقدس.(1/369)
بصيرة فى.. الم. لقمان
السّورة مكِّيَّة، سوى آيتين: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} إِلى آخر الآيتين. عدد آياتها ثلاث وثلاثون عند الحجازيِّين، وأَربع عند الباقين. وكلماتها خمسمائة وثمانٍ وأَربعون. وحروفها أَلفان ومائة وعشر. المختلف فيها آيتان: الم {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} . فواصل آياتها (ظن مرد) و (مد نظر) على الدال منها آية واحدة: {غَنِيٌ حَمِيدٌ} ، وعلى الظَّاءِ آية: {عَذَابٌ غَلِيظٌ} . سمِّيت سورة لقمان لاشتمالها على قصّته.
معظم مقصود السّورة: بشارة المؤمنين بنزول القرآن، والأَمر بإِقامة الصَّلاة، وأَداءِ الزَّكاة، والشكاية من قوم اشتغلوا بلَهْو الحديث، والشكاية من المشركين فى الإِعراض عن الحقِّ، وإِقامة الحجّة عليهم، والمِنَّة على لقمان بما أُعطِى من الحكمة، والوصيّة ببرّ الوالدين، ووصية لقمان لأَولاده، والمِنَّة بإِسباغ النعمة، وإِلزام الحجّة على أَهل الضَّلالة، وبيان(1/370)
أَنَّ كلمات القرآن بحور المعانى، والحجّة على حَقِّيَّة البَعْث، والشكاية من المشركين بإِقبالهم على الحقِّ فى وقت المِحْنة، وإِعراضهم عنه فى وقت النعمة، وتخويف الخَلْق بصعوبة القيامة وهَوْلها، وبيان أَنَّ خمسة علوم ممَّا يختصّ به الرّبّ الواحد تعالى فى قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إِلى آخرها.
النَّاسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} م آية السّيف ن.
المتشابهات التى فى سورة لقمان (المتقدّم تفسيرها بصفحتين قبل) .
قوله: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ [وَقْراً} وفى الجاثية {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ} زاد فى هذه السورة {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} ] : جلّ المفسرين على أَنَّ الآيتين نزلتا فى النَضْر بن الحارث. وذلك أَنَّه ذهب إِلى فارس، فاشترى كتاب كليلة ودِمْنة، وأَخبار رُسْتُم وإِسفَنْديار، وأَحاديث الأَكاسرة، فجعل يرويها ويحدّث بها قُريشاً، ويقول: إِنَّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد، وثمود، وأَنا أُحدّثكم بحديث رُسْتم وإِسفنديار، ويستملحون حديثه، ويتركون استماع القرآن [فأَنزل الله هذه الآيات، وبالغ(1/371)
فى ذمه؛ لتركه استماع القرآن] فقال: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} أَى صَمَماً، لا يقرع مَسامعه صوت. ولم يبالغ فى الجاثية هذه المبالغة؛ لِمَا ذكر بعده {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً} لأَنَّ ذلك العلم لا يحصل إِلاَّ بالسّماع، أَو ما يقوم مقامه: من خطٍّ وغيره.
قوله: {يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وفى الزّمر {لأَجَلٍ} قد سبق شَطْر من هذا. ونزيد بياناً أَن (إِلى) متَّصل بآخر الكلام، ودالّ على الانتهاءِ، واللام متَّصلة بأَوّل الكلام، ودالَّة على الصّلة.
فضل السّورة:
فيه الأَحاديث الضعيفة التى منها حديث أُبىّ: مَنْ قرأَ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً يوم القيامة، وأُعطى من الحسنات بعدد مَنْ أَمر بالمعروف، ونَهَى عن المنكر، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ لقمان كان آمنا من شدّة يوم القيامة، ومن هَوْل الصراط.(1/372)
بصيرة فى.. ألم. تنزيل
السّورة مكِّيّة بالاتفاق، سوى ثلاث آيات، فإِنها مدنيّة {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} إِلى آخر الآيات الثلاثة. عدد آياتها تسع وعشرون عند البصريِّين، وثلاثون عند الباقين. كلماتها ثلاثمائة وثلاثون. وحروفها أَلْف وخمسمائة وتسع وتسعون. المختلف فيها آيتان (الم) {خَلْقٌ جَدِيْدٌ} فواصل آياتها (ملن) على الميم اثنان: الم و {العَزِيزُ الرّحِيم} وعلى اللام آية {هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} ولها ثلاثة أَسماء: سورة السّجدة، لاشتمالها على سجدة التلاوة، الثانى سجدة لقمان؛ للتميّز عن حم السّجدة الثالث المضاجع: لقوله {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} .
مقصود السّورة: تنزيل القرآن، وإنذار سيِّد الرُّسُل، وتخليق السماءِ والأَرض، وخَلْق الخلائق، وتخصيص الإِنسان من بينهم، وتسليط مَلَك الموت على قبض الأَرواح، وتشوير العاصين فى القيامة، ومَلْءُ جهنَّم من أَهل الإِنكار، والضَّلالة، وإِسقاط خواصّ العِبَاد فى أَجواف اللَّيالى(1/373)
للعبادة، وإِخبارهم بما ادُّخِر لهم فى العُقْبى: من أَنواع الكرامة، والتفريق بين الفاسقين والصادقين فى الجزاءِ، والثواب، فى يوم المآب، وتسلية النبى صلى الله عليه وسلم بتقرير أَحوال الأَنبياءِ الماضين، وتقرير حُجَّة المنكرين للوحدانية، وأَمر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بالإِعراض عن مكافأَة أَهل الكفر، وأَمره بانتظار النَّصر، بقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانْتَظِرْ إِنَّهُم مُنْتَظِرُوْنَ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} م (آية السّيف ن) .
المتشابهات:
قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} ، وفى سأَل سائل {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} موضع بيانه التفسير. والغريب فيه ما رُوى عن عِكْرِمة فى جماعة: أَن اليوم فى المعارج عبارة عن أَول أَيّام الدّنيا إِلى انقضائها، وأَنَّها خمسون أَلْفَ سنة، لا يدرى أَحدٌ كمْ مضَى وكم بقى إِلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ. ومن الغريب أَنَّ هذه عبارة عن الشدة، واستطالة أَهلها إِياها؛ كالعادة فى استطالة أَيَّام الشدة والحزن، واستقصار أَيَّام الرَّاحة والسّرور، حتى قال القائل: سَنة الوصل سِنَة [و] سِنة الهجْر سَنَة. وخُصّت هذه السّورة بقوله: أَلف سنة، لما قبله، وهو قوله: {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} وتلك الأَيَّام(1/374)
من جنس ذلك اليوم وخصّت سورة المعارج بقوله {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} لأَن فيها ذكر القيامة وأَهوالِها، فكان هو اللائق بها.
قوله {ثُمَّ أَعْرِضْ عَنْهَا} (ثمَّ) هاهنا يدلّ على أَنَّه ذُكِّرَ مرّات، ثم تأَخَّر (و) أَعرض عنا. والفاءُ على الإِعراض عقيب التذكير.
قوله: {عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وفى سبأ {التي كُنتُم بِهَا} لأَنَّ النَّار وقعت فى هذه السُّورة موقع الكناية، لتقدّم ذكرها، والكنايات لا توصف، فوُصف العذاب، وفى سبأ لم يتقدم ذكر النَّار، فحسن وصف النار.
قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون} بزيادة (مِن) سبق فى طه.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} ليس غيره؛ لأَنَّه لما ذكر القرون والمساكن بالجمع حسن جمع الآيات، ولمّا تقدّم ذكر الكتاب - وهو مسموع - حسن لفظ السّماع فختم الآية به.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىٍّ السّاقط سنده: من قرأَ سورة {الاما تَنزِيلُ} أُعطى من الأَجر كمن أَحيا ليلة القدر، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم لا ينام حتَّى يقرأَ(1/375)
{الاما تَنزِيلُ} السّجدة، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك} ويقول: هما يَفْضُلان كلَّ سورة فى القرآن بسبعين حسنة، ومن قرأَها كتب له سبعون حسنة ومُحِى عنه سبعون سيِّئة ورفع له سبعون درجة؛ وحديث علىّ مَنْ قرأَ {الاما تَنزِيلُ} ضَحك الله إِليه يوم القيامة، وقُضى له كلُّ حاجة له عند الله وأَعطاه إِيَّاه بكلِّ آية قرأَها غرفة فى الجنة.(1/376)
بصيرة فى.. يأيها النبى اتق الله
السّورة مدنية بالاتفاق. آياتها ثلاث وسبعون. كلماتها أَلف ومائتان وثمانون. حروفها خمسة آلاف وسبعمائة وستّ وتسعون، فواصل آياتها (لا) على اللام منها آية واحدة {يَهْدِي السبيل} . سمّيت سورة الأَحزاب، لاشتمالها على قصّة حَرْب الأَحزاب فى قوله {يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} .
معظم مقصود السّورة الذى اشتملت عليه: الأَمر بالتَّقوى، وأَنه ليس فى صدرٍ واحد قلبان، وأَنَّ المتبَنَّى ليس بمنزلة الابن، وأَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم للمؤمنين بمكان الوالد، وأَزواجه الطاهرات بمكان الأُمهات، وأَخذ الميثاق على الأَنبياءِ، والسؤال عن صدق الصّادقين، وذكر حَرْبِ الأَحزاب، والشِّكاية من المنافقين، وذمّ المعرضين، ووفاء الرِّجال بالعهد، وردّ الكفَّار بغيظهم، وتخيير أُمّهات المؤمنين، ووعظهنَّ، ونصحهنَّ، وبيان شرف أَهل البيت الطَّاهرين ووعد المسلمين والمسلمات بالأُجور الوافرات، وحديث تزويج زيد وزينب ورفع الحَرَج عن النّبى صلَّى الله عليه وسلَّم، وختم الأَنبياءِ به عليه السّلام، والأَمر بالذكر الكثير،(1/377)
والصّلوات والتسليمات على المؤمنين، والمخاطبات الشريفة لسيِّدنا المصطفى - صلى الله عليه وسلَّم -، وبيان النكاح، والطَّلاق، والعدّة، وخصائص النبى صلَّى الله عليه وسلَّم فى باب النكاح، وتخييره فى القَسْم بين الأَزواج والحجر عليه فى تبديلهنَّ، ونهى الصحابة عن دخول حُجْرة النَّبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بغير إِذن منه، وضَرْب الحجاب، ونهى المؤمنين عن تزوّج أَزواجه بعده، والموافقة مع الملائكة فى الصلاة على النبى صلَّى الله عليه وسلَّم، وتهديد المؤذين للنَّبى وللمؤمنين، وتعليم آداب النساءِ فى خروجهن من البيوت، وتهديد المنافقين فى إِيقاع الأَراجيف، وذلِّ الكفار فى النار، والنَّهى عن إِيذاءِ الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والأَمر بالقول السّديد وبيان عَرْض الأَمانة (على السماوات والأَرض) وعذاب المنافقين، وتوبة المؤمنين فى قوله {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} إِلى آخر السّورة.
النَّاسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان م {وَدَعْ أَذَاهُمْ} ن آية السّيف م {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} ن {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} .
المتشابهات
ذهب بعض القرّاء إِلى أَنَّه ليس فى هذه السورة متشابه. وأَورد بعضهم فيها كلمات، وليس فيها كثير تشابه؛ بل قد تلتبس على الحافظ القليل(1/378)
البضاعة. فأَوردناها؛ إِذ لم يخل من فائدة. وذكرنا مع بعضها علامة يستعين بها المبتدىء فى تلاوته.
منها قوله: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} وبعده {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} ليس فيها تشابه؛ لأَنَّ الأَوّل من لفظ السّؤال، وصلته {عَن صِدْقِهِمْ} وبعده {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} ، والثَّانى من لفظ الجزاءِ، وفاعله الله، وصلتُه {بِصِدْقِهِمْ} بالباءِ، وبعده {وَيُعَذِّبَ المنافقين} .
ومنها قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا "نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ"} وبعده {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} فيقال للمبتدىءِ: إِنَّ الذى يأْتى بعد العذاب الأَليم نعمة من الله على المؤمنين، وما يأتى قبل قوله {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} شكراً على أَن أَنزلكم منزلة نبيِّه فى صلاتِه وصلاة ملائكته عليه حيث يقول: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} .
ومنها قوله: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} ليس من المتشابه لأَنَّ الأَوّل فى التخيير والثانى فى الحجاب.
ومنها قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} [فى موضعين] وفى الفتح {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ} التقدير فى الآيات: سنَّة الله(1/379)
الَّتى قد خلت فى الذين خلوا (فذكر فى كل سورة الطرف الذى هو أَعمّ، واكتفى به عن الطرف الآخر، والمراد بما فى أَول هذه السورة النكاح نزلت حين عيَّروا رسول الله بنكاح زينب) فأَنزل الله {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أَى النكاحُ سنَّة فى النَّبيين على العموم. وكانت لداود تسع وتسعون، فضمّ إِليها الَّتى خطبها أُورِيَا، ووَلَدت سليمان. والمراد بما فى آخر هذه السّورة القتل؛ نزلت فى المنافقين والشاكيّن الَّذين فى قلوبهم مرض، والمرجفين فى المدينة، على العموم. وما فى سورة الفتح يريد به نُصرة الله لأَنبيائه. والعمومُ فى النُّصرة أَبلغ منه فى النكاح والقتل. ومثله فى حم {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ} فإِنَّ المراد بها عدم الانتفاع بالإِيمان عند البأْس فلهذا قال: {قَدْ خَلَتْ} .
ومنها قوله: {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} {وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيءٍ رَقِيْبًا} {وَكَانَ الله قَوْيًّا عَزِيزًا} {وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيماً} . وهذا من باب الإِعراب، وإِنما نصب لدخول كان على الجملة: فتفرّدت السّورة، وحسن دخول (كان) عليها، مراعاة لفواصل الآى والله أَعلم.(1/380)
فضل السّورة
فيه الأَحاديث الموضوعة الَّتى نذكرها للتنبيه عليها: من قرأَ سورة الأَحزاب وعلَّمها أَهلَه وما ملكت يمينه أُعطىَ الأَمان من عذاب القبر، وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَ سورة الأَحزاب قال الله لملائكته: اشهدوا أَنَّ هذا قد أَعتقتُه من النَّار، وكان يوم القيامة تحت ظلِّ جناح جَبْرائيل، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب البارِّ بوالديه.(1/381)
بصيرة فى.. الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض
السّورة مكِّية بالاتفاق. عدد آياتها خمس وخمسون فى عدِّ الشَّام، وأَربع فى عدِّ الباقى. وكلماتها ثمانمائة وثمانون. وحروفها أَربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر. المختلف فيها آية واحدة: {عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} فواصل آياتها (ظن لمدبّر) سمِّيت سورة سبأ، لاشتمالها على قصّة سبأ {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} .
مقصود السّورة: بيان حجّة التوحيد، وبرهان نبوّة الرسول - صَلَّى الله عليه وسلَّم - ومعجزات داود، وسليمان، ووفاتهما، وهلاك سبأ، وشؤم الكفران، وعدم الشكر، وإِلزام الحجّة على عُبّاد الأَصنام، ومناظرة مادَّة الضَّلالة، وسَفِلتهم، ومعاملة الأُمم الماضية مع النَّبيِّين، ووعد المنفقين والمصَّدّقين بالإِخلاف، والرّجوع بإِلزام الحجّة على منكِرى النبوّة، وتمنى الكفَّار فى وقت الوفاة الرّجوعَ إِلى الدّنيا فى قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} إِلى آخره.
النَّاسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة: م {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} ن آية السّيف.(1/382)
المتشابهات:
قوله: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} مرّتين، بتقديم السّماوات؛ بخلاف يونس؛ فإِن فيها {مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} ؛ لأَنَّ فى هذه السّورة تقدَّم ذكرُ السّماوات فى أَوّل السّورة {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وقد سبق فى يونس.
قوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا} بالفاءِ ليس غيره. زيد الحرف؛ لأَنَّ الاعتبار فيها بالمشاهدة على ما ذكرنا، وخصّت بالفاءِ لشدّة اتِّصالها بالأَوّل، لأَنَّ الضَّمير يعود إِلى الذين قَسَموا الكلام فى النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقالوا: محمّد إِمّا عاقل كاذب، وإِما مجنون هاذِ، وهو قولهم: {أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} فقال الله: بل تركتم القِسم الثالث، وهو إِمّا صحيح العقل صادق.
قوله: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله} وفى سبحان: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} ، لأَن فى هذه السّورة اتَّصلت بآية ليس فيها لفظ الله، فكان التصريح أَحسن، وفى سبحان اتَّصل بآيتين فيهما (بضعة عشر) مرّة ذكر الله صريحاً وكناية، (وكانت) الكناية أَولى. وقد سبق.(1/383)
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} ، وبعده، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} بالجمع؛ لأَن المراد بالأَوّل: لآية على إِحياءِ الموتى فخُصّت بالتوحيد، وفى قصّة سبأ جمع؛ لأَنَّهم صاروا اعتباراً يضرب بهم المثل: تفرّقوا أَيدى سبا: فُرِّقُوا كلَّ مفرَّق، ومُزِّقوا كلَّ ممزق، فوقع بعضهم إِلى الشأم، وبعضهم إِلى يَثْرِب، وبعضهم إِلى عُمان، فخُتم بالجمع، وخُصَّت به لكثرتهم، وكثرة مه يعتبر بهنّ، فقال {لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على المِحنة {شَكُورٍ} على النِّعمة، أَى المؤمنين.
قوله {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} وبعده: {لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} سبق. وخصّ هذه السّورة بذكر الربِّ لأَنه تكرّر فيها مرّات كثيرة. منها {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} {رَبَّنَا بَاعِدْ} {يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} {مَوْقُوفُوْنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ولم يذكر مع الأَول {مِنْ عِبَادِهِ} ؛ لأَن المراد بهم الكفَّار. وذكر مع الثانى؛ لأَنهم المؤمنون. وزاد (له) وقد سبق بيانه.
قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} ولم يقل: من قبلك، ولا قبلَك. خُصّت السورة به، لأَنه فى هذه السّورة إِخبار مجرّد وفى غيرها إِخبار للنبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتسلية له، فقال: {قَبْلِكَ} .(1/384)
قوله {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، وفى غيرها {عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} ؛ لأَن قوله {أَجْرَمْنَا} بلفظ الماضى، أَى قبل هذا، ولم يقل: نُجْرم فيقع فى مقابلة (تعملون) ؛ لأَن مِن شرط الإِيمان وصف المؤمن أَن يعزم أَلاَّ يُجرِم. وقوله: {تَعْمَلُوْنَ} خطاب للكفاَّر، وكانوا مصرِّين على الكفر فى الماضى من الزَّمان والمستقبل، فاستغنت به الآية عن قوله {كُنْتُمْ} .
قوله: {عَذَابَ النار التي} قد سبق.
فضل السّورة
فيه حديث ساقط: من قرأَ سورة سبأ فكأَنما كانت له الدنيا بحذافيرها فقدّمها بين يديه، وله بكل حرف قرأَه مثلُ ثواب إِدريس.(1/385)
بصيرة فى.. الحمد لله فاطر السماوات
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. عدد آياتها خمس وأَربعون عند الأَكثرين، وعند الشاميّين ستّ. وكلماتها سبعمائة وسبعون. وحروفها ثلاثة آلاف ومائة وثلاثة وثلاثون. المختلف فيها سبع آيات؛ {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} جديد، النور، البصير {مَنْ فِي القُبُوْرِ} ، {أَنْ تَزُوْلا} تبديلاً. فواصل آياتها (زاد من بز) لها اسمان: سورة فاطر (لما فى أَولها فاطر) السماوات وسورة الملائكة؛ لقوله: {جَاعِلِ الملائكة} .
معظم مقصود السّورة: بيان تخليق الملائكة، وفتح أَبواب الرّحمة، وتذكير النّعمة، والتحذير من الجِنّ، وعداوتهم، وتسلية الرّسول (وإِنشاءِ السحاب، وإِثارته، وحوالة العزَّة إِلى الله، وصعود كلمة الشهادة وتحويل الإنسان) من حال إِلى حال، وذكر عجائب البحر، واستخراج الحِلْية منه، وتخليق اللَّيل، والنَّهار، وعجز الأَصنام عن الرُّبوبيّة، وصفة الخلائق بالفقر والفاقة، واحتياج الخَلْق فى القيامة، وإقامة البرهان، والحجة، وفضل القرآن، وشرَفَ التلاوة، وأَصناف الخَلْق فى ميراث(1/386)
القرآن، ودخول الجنَّة من أَهل الإِيمان، وخلود النار لأَهل الكفر والطغيان، وأَن عاقبة الكفر الخسران، والمِنَّة على العباد بحفظ السّماءِ والأَرض عن تخلخل الأَركان، وأَنَّ العقوبة عاقبة المكر، والإِخبار بأَنَّه لو عَدَلَ رَبُّنَا فى الْخَلْقِ لم يسلم من عذابه أَحد من الإِنس والجانّ.
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح} بلفظ الماضى؛ موافقة لأَوّل السّورة {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ} لأَنهما للماضى لا غير وقد سبق قوله: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} بتقديم (فيه) موافقة لتقدّم {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُوْنَ} وقد سبق.
قوله: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب} بزيادة الباءَات قد سبق.
قوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} وبعده {أَلْوَانُهَا} ثمّ {أَلْوَانُهُ} لأَنَّ الأَوّل يعود إِلى ثمرات، والثاني يعود إِلى الجبال؛ وقيل إِلى حُمْر، والثالث يعود(1/387)
إلى بعض الدّال عليه (مِن) ؛ لأَنه ذكر (من) ولم يفسّره كما فسّره فى قوله {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} فاختصّ الثالث بالتذكير.
قوله: {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} بالتصريح وبزيادة اللاَّم، وفى الشُّورى {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} ، لأَن الآية المتقدمة فى هذه السّورة لم يكن فيها ذكر الله فصرّح باسمه سبحانه وتعالى، وفى الشورى متَّصل بقوله: {وَلَوْ بَسَطَ الله} فخُصّ بالكناية، ودخل اللام فى الخبر موافقة لقوله {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .
قوله: {جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} على الأَصل قد سبق.
{أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي} سبق.
{عَلَى ظَهْرِهَا} سبق.
قوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} كرّر، وقال فى الفتح: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} وقال فى سبحان {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} التبديل تغيير الشئ عمّا كان عليه قبلُ مع بقاءِ مادّة الأَصل؛ كقوله تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} ، وكذلك {تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} ؛ والتحويل: نقل الشىء من مكان إِلى مكان آخر، وسنة الله لا تبديل ولا تحوّل، فخص هذا الموضع بالجمع بين الوصفين لمّا وصف الكفار بوصفين، وذكر لهم(1/388)
عَرَضين، وهو قوله، {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} وقوله: {استكبارا فِي الأرض وَمَكْرَ السيىء} وقيل: هما بدلان من قوله: {نُفُوراً} فكما ثنَّى الأَوّل والثَّانى ثَنَّى الثالث؛ ليكون الكلام كلُّه على غِرار واحد. وقال فى الفتح {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} فاقتصر على مرّة واحدة لمّا لم يكن (التكرار موجَباً) وخصّ سورة سبحان بقوله: {تَحْوِيلاً} لأَنَّ قريشاً قالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لو كنت نبيّاً لذهبت إِلى الشأم؛ فإِنَّها أَرض المبعث والمحشر، فهَمّ النبى صلى الله عليه وسلَّم بالذهاب إِليها، فهيّأَ أَسباب الرّحيل والتحويل، فنزل جبرائيل عليه السّلام بهذه الآيات، وهى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} وخَتَم الآيات بقوله {تَحْوِيلاً} تطبيقا للمعنى.
فضل السّورة
فيه أَحاديث ضعيفة، منها: مَن قرأَ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانيةُ أَبوابِ الجنَّة: أَنِ ادخل مِن أَىّ باب شئت. ورُوى: مَنْ قرأَ سورة الملائكة كتب له بكلّ آية قرأَها بكلّ ملك فى السّماوات والأَرض عشرُ حسنات، ورفع له عشرُ درجات. وله بكلّ آية قرأَها فُصّ من ياقوتة حمراء.(1/389)
بصيرة فى.. يس. والقرآن الحكيم
السّورة مكِّيّة بالإِجماع. عدد آياتها ثمانون وثلاث آيات عند الكوفيّين واثنتان عند الباقين. وكلماتها سبعمائة وتسع وعشرون. وحروفها ثلاثة آلاف. المختلف فيها آية واحدة. يس. مجموع فواصل آياتها (من) وللسّورة اسمان: سورة يس؛ لافتتاحها، وسورة حبِيب النجار؛ لاشتمالها على قصّته.
معظم مقصود السّورة: تأكيد أَمْر القرآن، والرسالة، وإِلزام الحجّة على أَهل الضَّلالة، وضرب المَثَل فى أَهل أَنطاكِية، وذكر حَبِيب النَّجار، وبيان البراهين المختلفة فى إِحياءِ الأَرض الميتة، وإِبداءِ اللَّيل، والنهار، وسير الكواكب، ودَوْر الأَفلاكِ، وَجَرى الجوارى المنشآت فى البحار، وذلَّة الكفار عند الموت، وحَيْرتهم ساعة البَعْث، وسعد المؤمنين المطيعين، وشُغُلهم فى الجنَّة، وميْز المؤمن من الكافر فى القيامة، وشهادة الجوارح على أَهل المعاصى بمعاصيهم، والمِنَّة على الرّسول صَلَّى الله عليه وسلَّم بصيانته من الشِّعْر ونظمِه، وإِقامة البرهان على البعث، ونفاذ أَمر الحق فى كن فيكون، وكمال مُلْك ذى الجلال على كلّ حال فى قوله: {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .(1/390)
السّورة خالية من النَّاسخ والمنسوخ.
المتشابهات:
قوله: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} سبق.
قوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} مرتين ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأُولى هى النفخة الَّتى يموت بها الخَلْق، والثانية التى يحيا بها الخَلْق.
قوله: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً} ، وكذلك فى مريم. ولم يقل: {مِنْ دُوْنِهِ} ؛ كما فى الفرقان، بل صرّح كيلا يؤدّى إِلى مخالفة الضمير قبله؛ فإِنه فى السورتين بلفظ الجمع تعْظيما. وقد سبق فى الفرقان.
قوله: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} وفى ويونس {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} تشابَهَا فى الوقف على (قولُهم) فى السّورتين، لأَنَّ الوقف عليه لازم، (وإِنَّ) فيهما مكسور بالابتداءِ بالحكاية، ومحكىُّ القول محذوف ولا يجوز الوصل؛ لأَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم منزَّه من أَن يخاطَب بذلك.
قوله: {وَصَدَقَ المرسلون} ، وفى الصّافَّات: {وَصَدَّقَ المرسلين} ذكر فى المتشابه، وما يتعلَّق بالإِعراب لا يُعَدُّ من المتشابه.(1/391)
فضل السّورة
روى عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: "من قرأَ يس فى ليله أَصبح مغفوراً مغفوراً [له] " وروى أَيضاً: من دخل المقابر فقرأَ يس خُفّف عنهم يومئذ، وكان به بعدد من فيها حسنات، وفتحت له أَبواب الجنَّة. وفى لفظ: مَن قرأَ يس يريد بها الله غفر الله له، وأُعطى من الأَجر كأَنَّما قرأَ القرآن اثنتى عشرة مرّة. وأَيُّمَا مريض قرئ عنده سورةُ يس نزل عليه بعدد كلّ حرف عشرةُ أَملاكٍ يقومون بين يديه صفوفاً، فيُصلُّون ويستغفرون له، ويشهدون قبضهُ وغُسله، ويشيّعون جنازته، ويصلُّون عليه ويشهدون دفنه. وأَيُّما مريضٍ قرأَ سورة يس وهو فى سكرات الموت لم يقبض مَلَك الموت روحه حتى يجيئه رِضوانُ خازن الجنان بشَرْبة من الجَنَّة فيشربُها وهو على فراشه، فيموت وهو رَيَّان، ولا يحتاج إِلى حوض من حياض الأَنبياءِ، حتى يدخل الجنَّة، وهو رَيَّان. وفى حديث علىّ: يا علىّ من قرأَ يس فتحت له أَبواب الجنَّة، فيدخل من أَيِّها شاءَ بغير حساب، وكُتب له بكلّ آية قرأَها عشرة آلاف حسنة.(1/392)
بصيرة فى.. والصافات صفا
السّورة مكِّيَّة بالاتِّفاق. عدد آياتها مائة وثمانون وآية عند البصريِّين، وآيتان عند الباقين. وكلماتها ثمانمائة واثنتان وستون. وحروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وستّ وعشرون. المختلف فيها: آيتان {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} {وَإِنْ كَانُواْ لَيَقُولُونَ} مجموع فواصلها (قدم بنا) سمِّيت (والصافات) لافتتاحها بها.
معظم مقصود السّورة: الإِخبار عن صَفِّ الملائكة والمصلِّين للعبادة، ودلائل الوحدانية، ورَجْم الشياطين، وذُلّ الظَّالمين، وعِزّ المطيعين فى الجِنَان، وقهر المجرمين فى النِّيران، ومعجزة نوح، وحديث إِبراهيم، وفداء إسماعيل فى جزاءِ الانقياد، وبشارة إِبراهيم بإِسحاق، والمنَّة على موسى وهارون بإِيتاء الكتاب، وحكاية النَّاس فى حال الدّعوة، وهلاك قوم لوط وحبْس يونس فى بطن الحوت، وبيان فساد عقيدة المشركين فى إِثبات النسبة، ودرجات الملائكة فى مقام العبادة، وما مَنَح اللهُ الأَنبياء من النُّصرة والتأْييد، وتنزيه حضرة الجلال عن الضّدّ والنديد فى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} إِلى آخره.(1/393)
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ، وبعده: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} لأَنَّ الأَوّل حكاية كلام الكافرين، وهم ينكرون البعث، والثانى قول أَحد القرينين لصاحبه عند وقوع الحساب والجزاءِ، وحصوله فيه: كان لى قرين ينكر الجزاءَ وما نحن فيه فهل أَنتم تطلعوننى عليه، فاطَّلع فرآه فى سواءِ الجحيم. قالَ: تالله إِن كدت لَتُرْدِين. قيل: كانا أَخوين، وقيل: كانا شريكين، وقيل: هما بطروس الكافر، ويهوذا المسلم. وقيل: القرين هو إِبليس.
قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} وبعده {فَأَقْبَلَ} بالفاءِ. وكذلك فى {ن والقلم} لأَنَّ الأَوّل لعطف جملة على جملة فحسب، والثانى لعطف جملة على جملة بينهما مناسبة والتئام؛ لأَنه حَكَى أَحوال أَهل الجنة(1/394)
ومذاكرتهم فيها ما كان يجرى فى الدنيا بينهم وبين أَصدقائهم، وهو قوله: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أَى يتذاكرون، وكذلك فى {ن والقلم} هو من كلام أَصحاب الجنَّة بصنعاءَ، لمَّا رأَوْها كالصَّريم ندموا على ما كان منهم، وجعلوا يقولون: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِيْنَ} ، بعد أَن ذكَّرهم التسبيحَ أَوسطُهم، ثم قال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُوْنَ} أَى على تركهم الاستثناءَ ومخافتتهم أَن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} وفى المرسلات: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} ؛ لأَنَّ فى هذه السّورة حِيل بين الضمير وبين (كذلك) بقوله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العَذَابِ مَشْتَرِكُونَ} فأَعاد، وفى المرسلات متَّصل بالأَول، وهو قوله: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} فلم يحتج إِلى إِعادة الضَّمير.
قوله: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إلاه إِلاَّ الله} وفى القتال {فاعلم أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ الله} بزيادة (أَنَّه) وليس لهما فى القرآن ثالث؛ لأَنَّ ما فى هذه وقع بعد القول فحكِى، وفى القتال وقع بعد العِلْم فزيد قبله (أَنَّه) ليصير مفعولَ العلم، ثمّ يتصل به ما بعده.(1/395)
قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} وبعده {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ} ثم {سَلاَمٌ على مُوْسَى وَهَارُونْ} وكذلك {سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِين} فيمن جعله لغة فى إِلياس، ولم يقل فى قصّة لوط ولا يونس ولا إِلياس: سلام؛ لأَنه لمّا قال: {وَإِنَّ لُوْطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، {وَإِنَّ يُوْنُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، وكذلك؛ {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} فقد قال: سلام على كلّ واحد منهم؛ لقوله آخر السّورة {وَسَلاَمٌ على الْمُرْسَلِيْنَ} .
قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} وفى قصّة إِبراهيم: {كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ، ولم يقل: (إِنَّا) ، لأَنَّه تقدّم فى قصته {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} وقد بقى من قصته شىء، وفى سائرها وقع بعد الفراغ. ولم يقل فى قصّتىْ لوط ويونس: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} ؛ لأَنَّه لمّا اقتصر من التسليم على ما سبق ذكر اكتفى بذلك.
قوله: {بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} وفى الذاريات {عَلِيمٍ} وكذلك فى الحِجْر، لأَنَّ التقدير: بغلام حليم فى صباه، عليم فى كِبره، وخُصّت هذه السّورة. بحليم؛ لأَنه - عليه السّلام - حَلُم فانقاد وأَطاع، وقال: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} والأَظهر أَنَّ الحليم إِسماعيل،(1/396)
والعليم إِسحاق؛ لقوله: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} قال مجاهد: الحليم والعليم إِسماعيل. وقيل: هما فى السّورتين إِسحاق. وهذا عند من زعم أَنَّ الذبيح إِسحاق.
قوله: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ثمّ قال: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} كرّر وحذف الضمير من الثانى؛ لأَنه لمَّا نَزَل {وَأَبْصِرْهُمْ} قالوا: متى هذا الذى تُوعدنا به؟ فأَنزل الله {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} ثم كرّر تأْكيداً. وقيل: الأُولى فى الدّنيا، والثانية فى العُقْبى. والتقدير: أَبصر ما ينالهم، وسوف يبصرون ذلك. وقيل: أَبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون معاينةً. وقيل: أَبصر ما ضيّعوا من أَمرنا فسوف يبصرون ما (يحل بهم) وحُذِف الضّمير من الثانى اكتفاءً بالأَوّل. وقيل: التقدير: ترى اليوم (عِيرهم إِلى ذلّ) وترى بعد اليوم ما تحتقِر ما شاهدتهم فيه من عذاب الدّنيا. وذكر فى المتشابه: {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} بالفاءِ، وفى الذاريات {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} بغير فاء؛ لأَنَّ ما فى هذه السّورة (جملة اتَّصلت) بخمس جمل كلّها مبدوءَة بالفاءِ على التَّوالى، وهى: {فَمَا(1/397)
ظَنُّكُم} الآيات، والخطاب للأَوثان تقريعاً لمن زعم أَنَّها تأْكل وتشرب، وفى الذاريات متَّصل بمضمر تقديره: فقرّبه إِليهم، فلم يأْكلوا فلمّا رآهم لا يأْكلون، {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} والخطاب للملائكة. فجاءَ فى كلّ موضع بما يلائمه.
فضل السّورة
فيه أَحاديث غير مقبولة. منها حديث أُبىّ: مَن قرأَ (والصّافات) أُعطِى من الأَجر عشرَ حسنات، بعدد كلّ جِنِّى، وشيطان، وتباعدت منه مَرَدة الشَّياطين، وبَرِئ من الشِّرْك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أَنه كان مؤمناً بالمرسلين، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَ (والصَّافَّات) لا يصيبه يوم القيامة جُوع، ولا عطش، ولا يفزع إِذا فزع النَّاس، وله بكلّ آية قرأَها ثواب الضَّارب بسيفين فى سبيل الله.(1/398)
بصيرة فى.. ص. والقرآن
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. وآياتها ثمان وثمانون فى عدّ الكوفة، وستّ فى عدّ الحجاز، والشأم، والبصر، وخمس فى عَدّ أَيّوب بن المتوكِّل وحده. وكلماتها سبعمائة واثنتان وثلاثون. وحروفها ثلاثة آلاف وسبع وستّون. المختلف فيها ثلاث: الذكر، وغوّاص، {والحق أَقُولُ} مجموع فواصل آياتها (صدّ قُطْرُب مَن لجّ) ولها اسمان سورة صاد؛ لافتتاحها بها، وسورة داود؛ لاشتمالها على مقصد قصَّته فى قوله: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد} .
معظم مقصود السورة: بيان تعجّب الكفَّار من نبوّة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم، ووصف المنكرين رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلَّم - بالاختلاق والإفتراءِ، واختصاص الحقِّ تعالى بمُلْك الأَرض والسّماءِ، وظهور أَحوال يوم القضاءِ، وعجائب حديث داود وأُوريَا وقصّة سليمان فى حديث المَلَك، على سبيل المِنَّة والعطاءِ، وذكر أَيّوب فى الشفاءِ، والابتلاءِ، وتخصيص(1/399)
إِبراهيم وأَولاده من الأَنبياءِ، وحكاية أَحوال ساكنى جَنَّةِ المأْوَى، وعجز حال الأَشقياءِ فى سقر ولَظَى، وواقعة إِبليس مع آدم وحوّاء وتهديد الكفَّار على تكذيبهم للنبىّ المجتبى فى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان: {إِن يوحى إِلَيَّ} م آية السّيف ن {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} م آية السّيف ن.
ومن المتشابهات: قوله تعالى: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون} بالواو، وفى ق: (فقال) بالفاءِ؛ لأَنَّ اتَّصاله بما قبله فى هذه السّورة معنوى، وهو أَنَّهم عجِبُوا من مجئ المنذر وقالوا: هذا المنذر ساحر كذاب، واتِّصاله فى ق معنوىّ ولفظىّ؛ وهو أَنهم عجبُوا، فقالوا: هذا شئ عجيب. فراعى المطابقة بالعَجُزِ والصّدر، وختم بما بدأَ به، وهو النّهاية فى البلاغة.
قوله: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} وفى القمر {أَأُلْقِيَ} لأَنَّ ما فى هذه السّورة حكاية عن كفَّار قريش يُجيبون محمّدا - صلى الله عليه وسلَّم - حين قرأَ عليهم {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ(1/400)
إِلَيْهِمْ} فقالوا: أَأُنزل عليه الذكر. ومثله {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} و {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} هو كثير. وما فى القمر حكاية عن قوم صالح. وكان يأْتى الأَنبياءَ يومئذ صحفٌ مكتوبة، وأَلواح مسطورة؛ كما جاءَ إِبراهيمَ وموسى. فلهذا قالوا: {أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} مع أَنَّ لفظ الإِلقاءِ يستعمل لما يستعمل له الإِنزال.
قوله: {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا} ، وفى الأَنبياءِ: {مِنْ عِنْدِنَا} ؛ لأَنَّ الله - سبحانه وتعالى - ميّز أَيُّوب بحسن صبره على بلائه، من بين أَنبيائه، فحيث قال لهم: من عندنا قال له: منَّا، وحيث لم يقل لهم: من عندنا قال له: من عندنا [فخصت هذه السورة بقوله: منا لما تقدم فى حقهم (من عندنا) ] فى مواضع. وخُصّت سورة الأَنبياء بقوله: (من عندنا) لتفرّده بذلك.
قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} وفى ق: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرس} إِلى قوله: {فَحَقَّ وَعِيْد} قال الإِمام: سورة ص بُنيت فواصلها على رَدْف أَواخرها [بالأَلف؛ وسورة ق على ردف أَواخرها] بالياءِ والواو. فقال فى هذه السّورة: الأَوتاد،(1/401)
الأَحزاب، عقاب، وجاءَ بإِزاءِ ذلك فى ق: ثمود، وعيد، ومثله فى الصافات: {قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ} وفى ص {قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ} فالقصد إِلى التَّوفيق بين الأَلفاظ مع وضوح المعانى.
قوله فى قصّة آدم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} قد سبق.
فضل السورة
فيه حديث أُبىّ الواهى: مَن قرأَ سورة ص كان له بوزن كلّ جبل سخّره الله لداود عشرُ حسنات، وعُصِم أَن يُصرّ على ذنب صغير أَو كبير، وحديث علىّ مثله: يا على من قرأَ (ص والقرآن) . فكأَنما قرأَ التَّوراة، وله بكلِّ آية قرأَها ثوابٌ الأَسخياءِ.(1/402)
بصيرة فى.. تنزيل الكتاب من الله
السّورة مكِّيّة، إِلاَّ ثلاث آيات: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} إِلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْعُرُوْنَ} . عدد آياتها خمس وسبعون فى عدّ الكوفىّ، وثلاث فى عَدّ الشامى، والباقين. وكلماتها أَلْف ومائة وسبعون. وحروفها أَربعة آلاف وسبعمائة وثمان. والآيات المختلف فيها سبع: {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، {مُخْلِصاً لَّهُ الدين} ، الثانى {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} ، و {مِنْ هَادٍ} الثانى، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، أَربعهن {فَبَشِّرْ عِبَادِ} ، {مِن تَحْتِهَا الأنهار} . مجموع فواصل آياتها (من ولى يُدر) وللسورة اسمان: سورة الزُّمر؛ لقوله: {إِلَى الجنة زُمَراً} وسورة الغُرَف؛ لقوله: {لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} قال وَهْب: من أَراد أَن يعرف قضاءَ الله فى خَلْقه فليقرأْ سورة الغُرَف.(1/403)
معظم مقصود السّورة: بيان تنزيل القرآن، والإِخلاص فى الدّين، والإِيمان، وباطل عُذْر الكفَّار فى عبادة الأَوثان، وتنزيه الحقّ تعالى عن الوَلَد بكلمة {سُبْحَانَهُ} ، وعجائب صنع الله فى الكواكب والأَفلاك بلا عَمَد وأَركان، والمِنَّة على العباد بإِنزال الإِنعام من السّماءِ فى كلِّ أَوان، وحفظ الأَولاد فى أَرحام الأُمهات بلا أَنصار وأَعوان، وجزاءُ الخَلْق على الشكر والكفران، وذكر شرف المتهجّدين فى الدّياجر بعبادة الرّحمن، وبيان أَجر الصابرين وذلِّ أَصحاب الخسران، وبشارة المؤمنين فى استماع القرآن بإِحسان، وإِضافة غُرف الجنان لأَهل الإِخلاص والعِرفان، وشرح صدر المؤمنين بنور التوحيد والإِيمان، وبيان أَحوال آيات الفرقان، وعجائب القرآن، وتمثيل أَحوال أَهل الكفر وأَهل الإِيمان، والخطاب مع المصطفى بالموت والفناءِ وتحلُّل الأَبدان، وبشارة أَهل الصّدق بحسن الجزاءِ والغفران، والوعد بالكِفاية والكِلاءَة للعُبدان، وبيان العجز عن العون، والنّصرة للأَصنام والأَوثان، وعجائب الصنع فى الرّؤيا، والنوم وماله من غريب الشان، ونُفرة الكفَّار من سماع ذكر الواحد الفَرْد الديَّان، والبشارة بالرّحمة لأَهل الإِيمان، وإِظهار الحسرة والنَّدامة يوم القيامة من أَهل العصيان، وتأَسفهم فى تقصيرهم فى الطَّاعة زمان الإِمكان، وإِضافة المُلْك إِلى قبضة قدرة الرّحمن، ونفْخ الصُور على سبيل الهيبة، والسِّياسة، وإِشراق العَرَصات بنور العدل، وعظمة السلطان، وسَوْق الكفَّار بالذلِّ والخزى(1/404)
إِلى دار العقوبة والهوان، وتفريح المؤمنين بالسّلام عليهم فى دار الكرامة، وغُرف الجنان، وحكم الحقِّ بين الخَلْقِ بالعدل، وختمه بالفضل والإِحسان، فى قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ خمس آيات: {إِنَّ الله يَحْكُمُ} م {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} م {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} م {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} م {فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ} م آية السّيف ن قل {إني أَخَافُ} م {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} ن.
المتشابهات:
قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} وفى هذه السّورة أَيضاً {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق} الفرق بين {أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} و {أَنزَلْنَا عَلَيْكَ} قد سبق فى البقرة. ويزيده وضوحاً أَن كلَّ موضع خاطب (فيه) النَّبى صلى الله عليه وسلَّم بقوله: إنا أَنزلنا إِليك الكتاب(1/405)
ففيه تكليف، وإِذا خاطبه بقوله: إِنا أَنزلنا عليك ففيه تخفيف. اعتبِرْ بما فى هذه السّورة. فالذى فى أَوّل السّورة (إِليك) فكلَّفه الإِخلاص فى العبادة. والذى فى آخرها (عليك) فختم الآية بقوله {وَمَآ أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيْل} أَى لست بمسئول عنهم، فخفَّف عنه ذلك.
قوله: {إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} زاد مع الثانى لاماً؛ لأَنَّ المفعول من الثانى محذوف، تقديره: وأُمرت أَن أَعبد الله لأَن أكون، فاكتفى بالأَول.
قوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} بالإِضافة، والأَول {مُخْلِصاً لَّهُ الدِّيْن} ، لأَنَّ قوله: {الله أَعْبُدُ} إِخبار عن المتكلم؛ فاقتضى الإِضافة إِلى المتكلم، وقوله: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} ليس بإِخبار عن المتكلم، وإِنما الإِخبار (أُمرت) ، وما بعده فضلة ومفعول.
قوله: {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وفى النحْل {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وكان حقُّه أَن يذكر هناك. خصَّت هذه السورة بـ (الذى) ليوافق ما قبله. وهو {أَسْوَأَ الذي} ، وقبله {والذي جَآءَ بالصدق} . وخصّت النَّحل بـ (ما) للموافقة أَيضاً. وهو {إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} و {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} فتلاءَم اللفظان فى السّورتين.
قوله: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} وفى الجاثية {مَا عَمِلُواْ}(1/406)
علْته مثل عِلَّة الآية الأُولى؛ لأَن {مَا كَسَبُواْ} فى هذه السّورة وقع بين أَلفاظ كَسَب، وهو قوله: {ذُوْقُواْ مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُوْنَ} وفى الجاثية وقع بين أَلفاظ العمل وهو: {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} {عَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} وبعده {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} فخُصّت كلّ سورة بما اقتضاه طرفاه.
قوله: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} وفى الحديد {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} ؛ لأَنَّ الفعل الواقع قبل قوله {ثُمَّ يَهِيْجُ} فى هذه السّورة مسند إِلى الله تعالى، وهو قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} فكذلك الفعل بعده: {ثُمَّ يَجْعَلْهُ} . وأَمَّا الفعل قبله فى الحديد فمسند إِلى النبات وهو {أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} فكذلك ما بعده وهو {ثُمَّ يَكُونَ} ليوافق فى السّورتين ما قبل وما بعد.
قوله {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} وبعده {وَفُتِحَتْ} بالواو للحال، أَى جاءُوها وقد فتحت أَبوابُها. وقيل: الواو فى {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} زيادة، وهو الجواب، وقيل: الواو واو الثمانية. وقد سبق فى الكهف.
قوله: {فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ} ، وفى غيرها: {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} ؛ لأَنَّ هذه السّورة متأَخرة عن تلك السّورة؛ فاكتفى بذكره فيها.(1/407)
فضل السّورة:
عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقرأُ كلَّ ليلة بنى إِسرائيل والزمرَ، وحديث أُبىّ الواهى: مَنْ قرأَ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءَه يوم القيامة، وأُعطى ثواب الخائفين الَّذين خافوه، وحديث على: يا علىُّ مَنْ قرأَ سورة الزُّمر اشتاقت إِليه الجنَّة، وله بكلِّ آية قرأَها مثلُ ثواب المجاهدين.(1/408)
بصيرة فى.. حم. المؤمن
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. عدد آياتها خمس وثمانون فى عدّ الكوفة والشَّام، وأَربع فى الحجاز، واثنتان فى البصرة. وكلماتها أَلْف ومائة وتسع وتسعون. وحروفها أَربعة آلاف وتسعمائة وستون. الآيات المختلف فيها تسع: حم، كاظمين، التلاق، بارزون، {بني إِسْرَائِيلَ} ، {فِي الحَمِيْمِ} {وَالبَصِيْرِ} {يُسْحَبُونَ} {كُنْتُمْ تُشْرِكُوْنَ} مجموع فواصل آياتها (من علق وتر) .
ولها ثلاثة أَسماء: سورة المؤمن؛ لاشتمالها على حديث مؤمن آل فرعون - أَعنى خربيل - فى قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} ، وسورة الطَّوْل؛ لقوله: {ذِي الطَّوْلِ} . والثالث حم الأُولى؛ لأَنها أُولَى ذوات حم.
معظم مقصود السّورة: المِنَّة على الخَلْق بالغفران، وقبول التوبة، وخطبة التوحيد على جلال الحقّ، وتقلب الكفار بالكسب والتجارة، وبيان وظيفة حَمَلة العرش، وتضرّع الكفَّار فى قَعْر الجحيم، وإِظهار أَنوار العَدْل فى القيامة، وذكر إِهلاك القرون الماضية، وإِنكار فرعون على موسى وهارون، ومناظرة خربيل لقوم فرعون نائباً عن موسى، وعَرْض أَرواح(1/409)
الكفَّار على العقوبة، ووعد النَّصر للرّسل، وإِقامة أَنواع الحجّة والبرهان على أَهل الكفر والضَّلال، والوعد بإِجابة دعاءِ المؤمنين، وإِظهار أَنواع العجائب من صنع الله، وعجز المشركين فى العذاب، وأَنَّ الإِيمان عند اليأْس غير نافع، والحكم بخسران الكافرين والمبطلين فى قوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُوْنَ} .
النَّاسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} فى موضعين م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض} ، وبعده: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} ما يتعلَّق بذكرهما سبق.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم} ، وفى التغابن: {بِأَنَّهُ كَانَت} لأَنَّ هاءَ الكناية إِنما زيدت لامتناع (أَنَّ) عن الدّخول على (كان) فخُصّت هذه السّورة بكناية المتقدّم ذكرهم؛ موافقة لقوله: {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وخُصّت سورة التغابُن بضمير الأَمر والشأْن توصّلا إِلى (كان) .
قوله: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق} فى هذه السورة فحسْبُ، لأَنَّ الفعل لموسى، وفى سائر القرآن الفعل للحقِّ.(1/410)
قوله: {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} وفى طه {آتِيَةٌ} لأَنَّ اللام إِنَّما يزاد لتأْكيد الخبر، وتأْكيد الخبَر إِنَّما يُحتاجُ إِليه إِذا كان المخبرَ به شاكّاً فى الخبر، والمخاطبون فى هذه السّورة هم الكفَّار، فأَكَّد. وكذلك أَكّد {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} (وافق ما قبله) فى هذه السّورة باللاَّم:
قوله {ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} ، وفى يونس {ولاكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} - وقد سبق -، لأَنَّه وافق ما قبله فى هذه السّورة: {ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُوْنَ} ، وبعده: {ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُوْنَ} ثم قال: {ولاكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} .
قوله فى الآية الأُولى {لاَ يَعْلَمُوْنَ} أَى لا يعلمون أَنَّ خَلْق الأَصغر أَسهل من خَلْق الأَكبر، ثمَّ قال: {لاَ يُؤْمِنُوْنَ} أَى لا يؤمنون بالبعث ثم قال: {لاَ يَشْكُرُونَ} أَى لا يشكرون الله على فضله. فختم كلّ آية بما اقتضاه.
قوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إلاه إِلاَّ هُوَ} سبق.
قوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} مدح نفسه سبحانه، وختم ثلاث آيات على التَّوالى بقوله {رَبِّ العالمين} وليس له فى القرآن نظير.
قوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} وختم السّورة بقوله {وَخَسِرَ هُنَالِكَ(1/411)
الكافرون} ؛ لأَنَّ الأَوّل متصل بقوله: {قَضَى بِالحَقِّ} ونقيض الحق الباطل، والثانى متصل بإِيمان غير مُجْد، ونقيض الإِيمان الكفر.
فضل السورة
فيه حديث أُبىّ السّاقط: الحواميم ديباج القرآن. وقال: الحواميم سبع، وأَبواب (جهنم سبعة) : جهنم، والحُطمة، ولَظَى، والسّعير، وسقر، والهاوية، والجحيم. فيجىءَ كلّ حاميم منهنّ يوم القيامة على باب من هذه الأَبواب، فيقول: لا أُدخِل الباب من كان مؤمناً بى ويقرؤنى، وعن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنَّ لكلّ شىءٍ ثمرة، وثمرة القرآن ذوات حاميم، هى رَوْضات محصنات، متجاورات. فمن أَحبَّ أَن يَرْتَع فى رياض الجنَّة فليقرأْ الحواميم. وقال ابن عباس: لكلّ شىءٍ لُباب، ولباب القرآن الحواميم؛ وقال: ابن سيرين: رأَى أَحد فى المنام سبع جوار حِسَان فى مكان واحد، لم يُرَ أَحسنُ منهنّ فقال لهنّ: لمَن أَنتنّ؟ قلن: لمن قرأَ آل حاميم. وقال: مَن قرأَ حم المؤمنَ لم يبق رُوح نبىّ، ولا صِدِّيق، ولا شهيد، ولا مؤمن، إِلاَّ صَلَّوا عليه، واستغفروا له، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَ الحواميم السّبع بعضٌ إِثر بعض، من قرأَ هذه السّورة لا يصف الواصفون من أَهل السّماءِ والأَرض ماله عند الله من الثَّواب، وله بكلّ سورة قرأَها من الحواميم مثل ثواب ابن آدم الشهيد، وله بكلّ آية قرأَها مثل ثواب الأَنصار.(1/412)
بصيرة فى.. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم
السورة مكِّيّة بالاتِّفاق. عدد آياتها أَربع وخمسون فى عدّ الكوفة، وثلاث فى عدّ الحجاز، واثنتان فى عَدّ البصرة، والشَّأْم. وكلماتها سبعمائة وست وتسعون. وحروفها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون. المختلف فيها آيتان: حم {عَادٍ وَثَمُوْدٍ} مجموع فواصل آياتها (ظن طب حرم صد) وللسّورة اسمان: حم السّجدة، لاشْتمالها على السجدة، وسورة المصابيح؛ لقوله: {زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً} .
معظم مقصود السّورة: بيان شرف القرآن، وإِعراض الكفَّار من قبوله، وكيفيّة تخليق الأَرض والسّماءِ، والإِشارة إِلى إِهلاك عاد وثمود، وشهادة الجوارح على العاصين فى القيامة، وعجز الكفَّار فى سجن جهنَّم، وبشارة المؤمنين بالخلود فى الجِنان، وشرف المؤذِّنين بالأَذان، والاحتراز من نزغات الشيطان، والحُجّة والبرهان على وحدانيّة الرّحمن، وبيان شرف القرآن، والنفع والضرّ، والإِساءَة، والإِحسان، وجزع الكفَّار عند الابتلاءِ والامتحان، وإِظهار الآيات الدَّالة على الذَّات والصّفات(1/413)
الحسان، وإِحاطة علم الله بكلّ شىء من الإِسرار والإِعلان، بقوله: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آية واحدة {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله تعالى: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أَى مع اليومين اللَّذين تقدّما فى قوله: {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} كيلا يزيد العدد على ستَّة أَيّام، فيتطرّق إِليه كلام المعترض. وإِنما جَمَع بينهما ولم يذكر اليومين على الانفراد بعدهما؛ لدقيقة لا يهتدى إِليها إِلا كلّ فطن خِرِّيت وهى أَنَّ قوله: {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} صلة {الذي} و {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} عطف على {لَتَكْفُرُونَ} و {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} عطف على قوله: {خَلَقَ الأرض} وهذا ممتنع فى الإِعراب لا يجوز فى الكلام، وهو فى الشعر من أَقبح الضرورات، لا يجوز أَن يقال: جاءَنى الذى يكتب وجلس ويقرأُ: لأَنَّه لا يحال بين صلة الموصول وما يُعطف عليه بأَجنبىّ من الصّلة؛ فإِذا امتنع هذا لم يكن بُدّ من إِضمار فعل يصحّ الكلام به ومعه، فيضمر {خَلَقَ الأرض} بعد قوله {ذَلِكَ رَبُّ العالمين} فيصير التقدير: ذلك ربّ العالمين، خَلَق الأَرض وجعل فيها رواسى من فوقها، وبارك فيها، وقدّر فيها أَقواتها، فى أَربعة أَيّام؛ ليقع(1/414)
هذا كلَّه فى أَربعة أَيام. فسقط الاعتراض والسّؤال. وفيه معجزة وبرهان.
قوله: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ} ، وفى الزخرف وغيره {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا} بغير (ما) ؛ لأَنَّ (حتى) هاهنا الَّتى تجرى مجرى واو العطف فى نحو قولك: أَكلت السّمكة حتى رأْسَها أَى ورأْسها. وتقدير الآية: فهم يوزعون، وإِذا ما جاءُوها و (ما) هى الَّتى تزاد مع الشَّرط، نحو أَينما، وحيثما. وحتى فى غيرها من السّوره للغاية.
قوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} ومثله فى الأَعراف، لكنه ختم بقوله {سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} ؛ الآية فى هذه السّورة متَّصلة بقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وكان مؤكَّداً بالتكرار، وبالنفى والإِثبات، فبالغ فى قوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} بزيادة (هو) وبالأَلف واللام، ولم يكن فى الأَعراف هذا النَّوع من الاتِّصال، فأَتى على القياس: المخبرُ عنه معرفة، والخبر نكرة.
قوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} وفى عسق بزيادة قوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وزاد فيها أَيضا: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ؛ لأَنَّ المعنى: تفرق قول اليهود فى التَّوراة، وتفرّق قولُ الكافرين فى القرآن، ولولا كلمة سبَقَت من ربِّك بتأْخير العذاب إِلى يوم الجزاءِ، لقُضى بينهم بإِنزال العذاب عليهم، وخُصّت عسق بزيادة قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}(1/415)
لأَنَّه ذكر البداية فى أَوّل الآية وهو {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} وهو مبدأُ كفرهم، فحسن ذكر النَّهاية الَّتى أُمهِلوا إِليها؛ ليكون محدوداً من الطَّرفين.
قوله: {وَإِن مَّسَّهُ الشر [فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} وبعده: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر] فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} لا منافاة بينهما؛ لأَنَّ معناه: قَنُوط من الصّنم، دَعَّاء لله. وقيل: يئوس قَنُوط بالقلب دَعَّاء باللِّسان. وقيل: الأَوّل فى قوم والثَّانى فى آخرين. وقيل الدُّعاءُ مذكور فى الآيتين، وهو {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} فى الأَوّل، و {ذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} فى الثَّانى.
قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} [بزيادة مِن] وفى هود: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} ، لأَنَّ فى هذه السّورة بيّن جهة الرّحمة، وبالكلام حاجة إِلى ذكرها وحَذَف فى هود؛ اكتفاءً بما قبله، وهو قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِّنَّا رَحْمَةً} ، وزاد فى هذه السّورة (من) لأَنه لمّا حدّ الرّحمة والجهة الواقعة منها، حَدَّ الطَّرف الَّذى بعدها فتشاكلا فى التحقيق. وفى هود لمّا أَهمل الأَوّل أَهمل الثَّانى.
قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} وفى الأَحقاف {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} بالواو؛ لأَنَّ معناه فى هذه السّورة: كان عاقبة أَمركم بعد الإِمهال للنَّظر والتدبّر الكفر، فحسن دخول ثُمّ، وفى الأَحقاف(1/416)
عطف عليه {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} ؛ فلم يكن عاقبة أَمرهم. (وكان) من مواضع الواو.
فضل السّورة:
فيه حديث أُبىّ المردود: من قرأَ هذه السورة أَعطاه الله بكلّ حرف عشرَ حسنات.(1/417)
بصيرة فى.. حم. عسق
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. عدد آياتها ثلاث وخمسون فى الكوفى، وخمسون فى الباقين. كلماتها ثمانمائة وستّ وستّون. وحروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمان وثمانون. المختلف فيها من الآى ثلاث: حم عسق، كالأعلام مجموع فواصل آياتها (زرلصب قدم) ولها اسمان: عسق؛ لافتتاحها بها، وسورة الشورى؛ لقوله {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} .
معظم مقصود السّورة: بيان حُجّة التوحيد، وتقرير نبوّة الرّسول، وتأْكيد شريعة الإِسلام، والتَّهديد بظهور آثار القيامة، وبيان ثواب العاملين دنيا وأُخرى، وذلّ الظَّالمين فى عَرَصات القيامة، واستدعاء الرّسول - صَلَّى الله عليه وسلَّم - من الأُمّة محبّة أَهل البيت العِترة الطَّاهرة، ووعد التَّائبين بالقبول، وبيان الحكمة فى تقدير الأَرزاق وقسمتها، والإِخبار عن شؤم الآثام والذنوب، والمدح والثناءِ على العافين من النَّاس ذنوبَ المجرمين، وذلّ الكفَّار فى مَقَام الحساب، والمِنَّة على الخَلْق بما مُنحوا: من الأَولاد وبيان كيفيّة نزول الوحى على الأَنبياءِ، والمنَّة على الرّسول بعطيّة الإِيمان، والقرآن، وبيان أَن مرجع الأُمور إِلى الله الدّيان فى قوله: {إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} .(1/418)
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ ثمان آيات: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} م {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} ن {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} م آية السّيف ن {واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} م {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} ن {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} م {يُرِيدُ العاجلة} ن {إِلاَّ المودة فِي القربى} م {مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} ن وقيل: محكمة {أَصَابَهُمُ البغي} وقوله: {وَلِمَنِ انْتَصَرَ} م {وَلَمَنْ صَبَرَ} ن {فَإِنْ أَعْرَضُواْ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} وفى لقمان: {مِنْ عَزْمِ الأمور} ؛ لأَنَّ الصّبر على وجهين: صبرٍ على مكروه ينال الإِنسان ظلماً؛(1/419)
كمن قُتل بعضُ أَعِزّته، وصبر على مكروه ليس بظلم؛ كمن مات بعضُ أَعِزَّته. فالصّبر على الأَوّل أَشدّ، والعزم عليه أَوكد. وكان ما فى هذه السّورة من الجنس الأَوّل؛ لقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} فأَكَّد الخبر باللاَّم. وما فى لقمان من الجنس الثانى فلم يؤكده.
قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ} وبعده: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ليس بتكرار؛ لأَنَّ المعنى: ليس له من هاد ولا مَلْجَأ.
قوله: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ} ليس له نظير. والمعنى: تعالى عن أَن يُكَلِّم شِفَاهاً، حكيم فى تقسيم وجوه التكليم.
قوله: {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} وفى الأَحزاب {تَكُونَ قَرِيْبًا} زيد معه (تكون) مراعاة للفواصل. وقد سبق.
فضل السّورة
فيه حديث ضعيف جدًّا: من قرأَ حم عسق كان ممَّن يصلى عليه الملائكةُ، ويستغفرون له، ويسترحمون له.(1/420)
بصيرة فى.. حم. والكتاب المبين. انا جعلناه
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. عدد آياتها [ثمان وثمانون] عند الشَّاميّين، وتسع عند الباقين. وكلماتها ثمانمائة وثلاث وثلاثون. وحروفها ثلاثة آلاف وأَربعمائة. الآيات المختلف فيها اثنتان: حم، مهين. مجموع فواصل آياتها (ملن) تسمّى سورة الزّخرف؛ لقوله {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً} .
معظم مقصود السّورة: بيان إِثبات القرآن فى اللَّوح المحفوظ، وإِثبات الحُجّة والبرهان على وجود الصانع، والرد على عبّاد الأَصنام الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والمنَّة على الخليل - صلى الله عليه وسلم - بإِبقاءِ كلمة التوحيد فى عَقِبه، وبيان قسمة الأَرزاق، والإِخبار عن حسرة الكفار، وندامتهم يوم القيامة، ومناظرة فرعون، وموسى ومجادلة المؤمنين مع ابن الزِّبَعْرَى بحديث عيسى، وبيان شرف الموحّدين فى القيامة وعجز الكفَّار فى جهنَّم، وإِثبات إِلهيّة الحقّ فى السماءِ والأَرض، وأَمر الرّسول بالإِعراض عن مكافأَة الكفَّار فى قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} .(1/421)
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان {فَذَرْهُمْ يَخُوْضُواْ} وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} ، وفى الجاثية: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ، لأَنَّ [ما] فى هذه السّورة متّصل بقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة} [الآية] والمعنى أَنَّهم قالوا: الملائكة بناتُ الله، وإِنَّ الله قد شاءَ منا عبادتنا إِيَّاهم. وهذا جهل منهم وكذب. فقال - سبحانه -: ما لهم بذلك من علم إِن هم إِلاَّ يخرصون أَى يكذبون. وفى الجاثية خلطوا الصّدق بالكذب؛ فإِن قولهم: نموت ونحيا صِدق؛ فإِن المعنى: يموت السّلف ويحيا الخلف، وهو كذلك إِلى أَن تقوم السّاعة. وكَذَبوا فى إِنكارهم البعث، وقولِهم: ما يهلكنا إِلاَّ الدّهر. ولهذا قال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّوْنَ} أَى هم شاكُّون فيما يقولون.
قوله: {وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} ، وبعده: {مُقتَدُوْنَ} خصّ الأَول بالاهتداءِ؛ لأَنه كلام العرب فى محاجّتهم رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وادّعائهم أَن آباءَهم كانوا مهتدين فنحن مهتدون. ولهذا قال عَقِيبه: {قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى} . والثانى حكاية عمّن كان قَبْلهم من الكفَّار،(1/422)
وادّعوا الاقتداءِ بالآباءِ دون الاهتداءِ، فاقتضت كلّ آية ما خُتِمت به.
قوله: {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} وفى الشعراءِ: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} ، لأَنَّ ما فى هذه السّورة عامّ لمن ركب سفينة أَو دابّة. وقيل: معناه {إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} على مركب آخر، وهو الجنازة، فحسن إِدخال اللاَّم على الخبر للعموم. وما فى الشعراءِ كلام السّحَرة حين آمنوا ولم يكن فيه عموم.
فضل السّورة
فيه حديث ضعيف: من قرأَ الزّخرف كان ممّن يقال لهم يوم القيامة: يا عبادى لا خوف عليكم ولا أَنتم تحزنون، وادخلوا الجنَّة بغير حساب.(1/423)
بصيرة فى.. حم. والكتاب المبين. انا أنزلناه
السّورة مكِّيّة إِجماعاً. آياتها تسع وخمسون فى عدّ الكوفة، وسبع فى عدّ البصرة، وستّ للباقين. كلماتها ثلاثمائة وست وأَربعون. وحروفها أَلف وأَربعمائة وأَحد وثلاثون. المختلف فيها من الآى أَربع: حم، {إِنَّ هاؤلاء لَيَقُولُونَ} ، {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} ، {فِي البطون} . فواصل آياتها كلّها (من) سمّيت سورة الدّخان لقوله فيها: {يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} .
معظم مقصود السورة: نزول القرآن فى ليلة القدر، وآيات التوحيد، والشكاية من الكفَّار، وحديث موسى وبنى إِسرائيل وفرعون، والرّد على منكرى البعث، وذلّ الكفار فى العقوبة، وعزّ المؤمنين فى الجنَّة، والمنَّة على الرّسول بتيسير القرآن على لسانه فى قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} .
(الناسخ والمنسوخ:
فيها آية منسوخة: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} م آية السيف ن) .(1/424)
المتشابهات:
قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} مرفوع. وفى الصّافات منصوب. ذكر فى المتشابه، وليس منه؛ لأَنَّ ما فى هذه السّورة مبتدأ وخبر، وما فى الصّافّات استثناء.
قوله: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} أَى على علم منَّا. ولم يقل فى الجاثية: {وَفَضَّلْنَاهُمْ} على علم لأَنه ذكر فيه: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} .
قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض} بالجمع؛ لموافقة أَوّل السّورة: {رَبِّ السماوات والأرض} .
فضل السّورة
عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: مَنْ قرأَ حم الَّتى يذكر فيها الدّخان فى ليلة الجمعة أَصبح مغفوراً له.(1/425)
بصيرة فى.. حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
السّورة مكِّيّة بالإِجماع. آياتها سبع وثلاثون فى الكوفة، وست فى الباقين. كلماتها أَربعمائة وثمانون. وحروفها أَلفان ومائة وتسعون. مجموع فواصل آياتها (من) ولها اسمان: سورة الجاثية؛ لقوله {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} ، وسورة الشريعة؛ لقوله {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر} .
معظم مقصود السّورة: بيان حُجّة التّوحيد، والشكاية من الكفار والمتكبرين، وبيان النفع، والضرّ والإِساءَة، والإِحسان، وبيان شريعة الإِسلام والإِيمان، وتهديد العصاة والخائنين من أَهل الإِيمان، وذَمّ متابعى الهوى، وذلّ الناس فى المحشر، ونَسْخ كُتُب الأَعمال من اللَّوح المحفوظ، وتأبيد الكفَّار فى النَّار، وتحميد الرّب المتعال بأَوجز لفظ، وأَفصح مقال، فى قوله: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض} إلى آخر السورة.
المنسوخ فيها آية واحدة: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
{وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر} نزلت فى اليهود. وقد سبق.(1/426)
قوله: {نَمُوْتُ وَنَحْيَا} سبق. وقيل: فيه تقديم وتأْخير، أَى نحيا ونموت. وقيل: يحيا بعض، ويموت بعض. وقيل: هذا كلام مَن يقول بالتناسُخ.
قوله: {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} بالباءِ موافقة لقوله: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
قوله: {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} لتقدّم {كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} و {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قوله: {ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} تعظيما لإِدخال الله المؤمنين فى رحمته.
فضل السّورة
فيه حديث ضعيف: من قرأَ سورة الجاثية كان له بكلّ حرف عشرُ حسنات، ومَحْوُ عشر سيئات، ورفع عشر درجات.(1/427)
بصيرة فى.. حم. الأحقاف
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. آياتها خمس وثلاثون فى الكوفيّين، وأَربع فى الباقين.. كلماتها ثلاثمائة وأَربع وأَربعون. وحروفها أَلفان وخمسمائة وخمس وتسعون. المختلف فيها آية واحدة: حم. فواصل آياتها (من) سمّيت سورة الأَحقاف، لقوله فيها: {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} .
معظم مقصود السّورة: إِلزام الحجّة على عبادة الأَصنام، الإِخبار عن تناقض كلام المتكبّرين، وبيان نبوّة سيّد المرسلين، وتأْكيد ذلك بحديث موسى، والوصيّة بتعظيم الوالدَيْن، وتهديد المتنعّمين، والمترفِّهين، والإِشادة بإِهلاك عاد العادين، والإِشارة إِلى الدّعوة، وإِسلام الجنّيين، وإِتيان يوم القيامة فجأَة، واستقلال لبث اللابثين فى قوله: {كَأَنْ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي} م {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} ن {كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} م آية السيف ن.(1/428)
ما فى هذه السّورة من المتشابه سبق وذكر [فى المتشابه] {أَوْلِيَآءُ أولائك} [أَى] لم يجتمع فى القرآن همزتان مضمومتان غيرهما.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ المردودُ صحة: مَنْ قرأَ الأَحقاف أُعطى من الأَجر بعدد كلّ رجل فى الدّنيا عشر حسنات، ومُحِى عنه عشرُ سيئات.(1/429)
بصيرة فى.. الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
السّورة مَدَنِيَّة بالاتِّفَاق. وآياتها أَربعون فى البصرة، وثمان فى الكوفة وتسع وثلاثون عند الباقين. وكلماتها خمسمائة وتسع وثلاثون. وحروفها أَلفان وثلثمائة وتسع وأَربعون. المختلف فيها آيتان: أَوزارها، للشاربين. فواصل آياتها (ما) ولها اسمان: سورة محمّد؛ لقوله فيها: {نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} ، وسورة القتال؛ لقوله {وَذُكِرَ فِيهَا القتال} .
معظم مقصود السّورة: الشكاية من الكفَّار فى إِعراضهم عن الحقِّ، وذكر آداب الحرب والأَسرى وحكمهم، والأَمر بالنُّصرة والإِيمان، وابتلاء الكفَّار فى العذاب، وذكر أَنهار الجنة: من ماء، ولبن، وخمر، وعسل، وذكر طعام الكفَّار وشرابهم، وظهور علامة القيامة، وتخصيص الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأَمره بالخوض فى بحر التوحيد، والشكاية من المنافقين، وتفصيل ذميمات خِصالهم، وأَمر المؤمنين بالطاعة والإِحسان، وذمّ البخلاءِ فى الإِنفاق، وبيان استغناءِ الحَقِّ تعالى، وفقر الخَلْق فى قوله: {والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء} .(1/430)
فيها من المنسوخ آية واحدة: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} نزِّل وأُنزل كلاهما متعدٍّ. وقيل: نزَّل للتعدِّى والمبالغة، وأَنزل للتَّعدِّى. وقيل: نزِّل دفعة مجموعاً وأَنزل متفرّقًا، وخصّ الأُولى بنزِّلت؛ لأَنَّه من كلام المؤمنين، وذكر بلفظ المبالغة، وكانوا يأْنسون لنزول الوحى، ويستوحشون لإِبطائه. والثَّانى من كلام الله تعالى، ولأَنَّ فى أَوّل السّورة {نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} وبعده: {أَنزَلَ الله} وكذلك فى هذه الآية قال: {نُزِّلَتْ} ثم {أَنزَلَت} .
قوله: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} نزلت فى اليهود، وبعده: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} نزلت فى قوم ارتدّوا. وليس بتكرار.
فضل السّورة
فيه حديث أُبى الضَّعيف: مَنْ قرأَ سورة محمّد كان حقّاً على الله أَن يسقيه من أَنهار الجنة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ هذه السّورة وجبت له شفاعتى، وشُفِّع فى مائة أَلف بيت، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب خديجة.(1/431)
بصيرة فى.. انا فتحنا لك فتحا مبينا
السّورة مدنيّة إِجماعاً. آياتها تسع وعشرون. وكلماتها خمسمائة وستّون. وحروفها أَلفان وأَربعمائة وثمان وثلاثون. وفواصل آياتها على الأَلف. وسميت سورة الفتح؛ لقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} .
معظم مقصود السّورة؛ وَعْد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالفتح والغفران، وإِنزال السَّكِينة على أَهل الإِيمان، وإِيعاد المنافقين بعذاب الجحيم، ووعد المؤمنين بنعيم الجِنَان، والثناءُ على سيّد المرسلين، وذكر العهد، وبَيْعة الرّضوان، وذكر ما للمنافقين من الخِذلان، وبيان عُذْر المعذورين، والمنَّة على الصّحابة بعدم الظفر عليهم من أَهل مكة ذوى الطغيان، وصدق رؤيا سيّد المرسلين على حَقِّيّة الرّسالة، وشهادة الملِك الدّيّان، وتمثيل حال النبىّ والصّحابة بالزَّرع والزُّرَّاع فى البهجة والنضارة وحسن الشان.
والسّورة خالية عن المنسوخ.
المتشابهات:
قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} وبعد: {عَزِيزاً حَكِيماً} لأَنَّ الأَوّل متَّصل بإِنزال السّكينة، وازدياد إِيمان المؤمنين،(1/432)
(وكان) الموضع علم وحكمة. وقد تقدّم ما اقتضاه الفتح عند قوله: {وَيَنْصُرُكَ الله} وأَمَّا الثانى والثالث الذى بعد فمتصلان بالعذاب والغضب وسلب الأَموال والغنائم (وكان الموضع) موضع عِزّ وغلبة وحكمة.
قوله: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} ، وفى المائدة: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح} زاد فى هذه السّورة (لكم) لأَنَّ ما فى هذه السّورة نزلت فى قوم بأَعيانهم وهم المخلَّفون، وما فى المائدة عامّ لقوله: {أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} .
قوله: {كذلكم قَالَ الله} بلفظ الجميع، وليس له نظير. وهو خطاب للمضمرين فى قوله {لَنْ تَتَّبِعُوْنَا} .
فضل السّورة
عن ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه السّورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: لقد أُنزِل علىّ سورة هى أَحبّ إِلىّ من الدنيا وما فيها. وفيه حديث(1/433)
أُبىّ السّاقط: مَن قرأَ سورة الفتح فكأَنَّما كان مع مَنْ بايع رسول الله تحت الشجرة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها دعته ثمانية أَبواب الجنَّة، كلّ باب يقول: إِلىّ إِلىّ يا ولىّ الله، وله بكلّ آية قرأَها مثل ثواب مَن يموت غريباً فى طاعة الله.(1/434)
بصيرة فى.. أيها الذين آمنوا لا تقدموا
السّورة مَدَنِيّة. وآياتها ثمان عشرة. وكلماتها ثلاثمائة وثلاث وأَربعون. وحروفها أَلف وأَربعمائة وأَربع وسبعون. مجموع فواصل آياتها (من) سمّيت سورة الحُجُرات لقوله فيها؛ {يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} .
معظم مقصود السورة: محافظة أَمر الحقّ تعالى، ومراعاة حُرْمة الأَكابر، والتُّؤدة فى الأُمور، والاجتناب عن التَّهور، والكوْن فى إِغاثة المظلوم، والاحتراز عن السخرية بالخَلْق، والحذر عن التجسّس والغِيبة، وترك الفخر بالأَحساب والأَنساب، والتحاشى عن المنَّة على الله بالطَّاعة، وإِحالة علم الغَيْب إِلى الله - تعالى - فى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} .
السّورة محكمة خالية عن النَّاسخ والمنسوخ:
المتشابهات:
قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} مذكور فى السّورة خمس مرات، والمخاطبون المؤمنون، والمخاطب به أَمر ونهى، وذكر فى السّادس {ياأيها(1/435)
الناس} فعمّ المؤمنين والكافرين، والمخاطب به قوله {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} لأَن النَّاس كلَّهم فى ذلك شَرع سواء.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ الضَّعيف جِدّاً: من قرأَ سورة الحُجُرات أُعطى من الأَجر عشر حسنات، بعدد مَنْ أَطاع الله وعصاه، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَها كان فى الجنَّة رفيق سليمان بن داود، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب المحسنين إِلى عيالهم.(1/436)
بصيرة فى.. ق. والقرآن المجيد
السّورة مكِّيَّة بالاتِّفاق. وآياتها خمس وأَربعون. وكلماتها ثلاثمائة وخمس وسبعون. وحروفها أَلف وأَربعمائة وأَربع وسبعون. مجموع فواصل آياتها (صر جد ظب) سمّيت بقاف، لافتتاحها بها.
مقصود السّورة: إِثبات النبوّة للرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبيان حُجّة التَّوحيد، والإِخبار عن إِهلاك القرون الماضية، وعلم الحقّ تعالى بضمائر الخَلْق وسرائرهم، وذكر الملائكة الموكَّلين على الخَلْق، المشرفين على أَقوالهم، وذكر بَعْث القِيامة، وذُلّ العاصين يومئذ، ومناظرة المنكرين بعضهم بعضاً فى ذلك اليوم، وتَغَيُّظ الجحيم على أَهله، وتشرّف الجنَّة بأَهلها، والخبر عن تخليق السّماءِ والأَرض، وذكر نداءِ إِسرافيل بنفخة الصُّور، ووعظ الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم الخَلْق بالقرآن المجيد فى قوله: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} م آية السّيف ن.(1/437)
المتشابهات:
قوله: {فَقَالَ الكَافِرُوْنَ} بالفاءِ سبق.
قوله: {وَقَالَ قَرِينُهُ} وبعده: {قَالَ قَرِينُهُ} لأَن الأَوّل (خطاب الإِنسان) من قرينه ومتّصل بكلامه، والثانى استئناف خطاب الله سبحانه من غير اتّصاله بالمخاطب الأَوّل وهو قوله: {رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} ، وكذلك الجواب بغير واو، وهو قوله: {لا تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} وكذلك {مَا يُبَدِّلُ القَوْلَ لَدَيَّ} فجاءَ الكُلّ على نَسَق واحد.
قوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} وفى طه ( {وَقَبْلَ غُرُوْبِهَا} لأَنَّ فى هذه السورة راعى الفواصل، وفى طه) راعى القياس، لأَنَّ الغروب للشَّمس، كما أَنَّ الطُّلوع لها.
فضل السّورة
فيه الحديث الضعيف: من قرأَ سورة ق هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها بشَّره مَلَك الموت بالجنَّة وجعل الله منكراً ونكيراً عليه رحيماً، ورفع الله له بكلّ آية قرأَها درجة فى الجنَّة.(1/438)
بصيرة فى.. والذاريات
السّورة مَكِّيّة، عدد آياتها ستُّون. وكلماتها ثلثمائة وستُّون. وحروفها أَلْف ومائتان وسبع وثمانون. مجموع فواصل آياتها (قفاك معن) سمّيت بالذَّاريات لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: ذكر القَسَم بحقِّيّة البعث والقيامة، والإِشارة إِلى عذاب أَهل الضَّلالة، وثواب أَرباب الهداية، وحُجّة الوحدانيّة، وكرامة إِبراهيم فى باب الضِّيافة، وفى إِسحاق له بالبشارة، ولقوم لوط بالهلاكة، ولفرعون وأَهله من الملامة، ولعاد وثمود وقوم نوح من الدمار والخسارة، وخَلْق السّماءِ والأَرض للنَّفع والإِفادة، وزوْجيَّة المخلوقات؛ لأَجل الدّلالة، وتكذيب المشركين لما فيه للرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من التسلية، وتخليق الخَلْق لأَجل العبادة، وتعجيل المنكرين بالعذاب والعقوبة فى قوله: {فَلاَ تَسْتَّعْجِلُوْنَ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} م {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى} ن {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} م (آية الزكاة) ن.(1/439)
المتشابهات:
قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ} وفى الطُّور {في جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ} ليس بتكرار؛ لأَن ما فى هذه السّورة متَّصل بذكر ما به يصل الإِنسان إِليها، وهو قوله {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِيْنَ} ، وفى الطَّور متَّصل بما ينال الإِنسانُ فيها إِذا وَصَل إِليها، وهو قوله: {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم كُلُواْ واشربوا} الآيات.
قوله: {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وبعده: {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ليس بتكرار؛ لأَنَّ كلّ واحد منهما متعلق بغير ما يتعلَّق به الآخر. فالأَوّل متعلِّق بترك الطَّاعة إِلى المعصية، والثانى متعلق بالشرك بالله تعالى.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الضعيفة حديث أُبىّ: مَنْ قرأَ (والذَّاريات) أُعطِىَ من الأَجر عشرَ حسنات، بعدد كلّ ريح هبّت، وجرَت فى الدنيا، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ (والذَّاريات) رضى الله عنه ويَشَمّ ريح الجنَّة من مسيرة خمسمائة عام، وله بكلّ آية قرأَها مثل ثواب فاطمة.(1/440)
بصيرة فى.. والطور
السّورة مكِّيّة بالاتفاق آياتها تسع وأَربعون فى عدّ الكوفة والشأم، وثمانٍ فى البصرة، وسبع فى الحجاز. كلماتها ثلاثمائة واثنتا عشرة. وحروفها أَلف وخمسمائة. الآيات المختلف فيها اثنتان: (والطُّور) دَعّاً.
مجموع فواصل آياتها (من رعا) سمّيت سورة الطَّور، لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: القَسَم بعذاب الكفَّار، والإِخبار عن ذلَّهم فى العقوبة، ومنازلهم من النار، وطرب أَهل الجنة بثواب الله الكريم الغفَّار، وإِلزام الحجّة على الكفرة الفجّار، وبِشارتهم قبل عقوبة العُقْبَى بعذابهم فى هذه الدّار، ووصيّة سيّد رُسُل الأَبرار بالعبادة والاصطبار، فى قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإدْبَارَ النُّجُوْمِ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها آية واحدة: {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} أَعاد (أَم) خمسة عشر مرّة، وكلّها إِلزامات ليس للمخاطبين بها عنها جواب.(1/441)
قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} بالواو، وعطَف على قوله: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} ، وكذلك: {وَأَقْبَلَ} بالواو، وفى الواقعة: {يَطُوْفُ} بغير واو فيحتمل أَن يكون حالاً، أَو يكون خبراً بعد خبر. وفى الإِنسان {وَيَطُوْفُ} عطف على (وَيُطَافُ) .
قوله: {واصبر} بالواو سبق.
فضل السّورة
فيه من الضَّعيف حديث أُبىّ: مَن قرأَ (والطُّور) كان حَقّاً على الله عزَّ وجلَّ أَن يُؤمنه من عذابه، وأَن ينعّمه فى جنَّته، وحديث على: يا علىّ مَن قرأَها كتب الله له ما دام حيّاً كلّ يوم اثنى عشر أَلف حسنة، ورفع له بكلّ آية قرأَها اثنى عشر أَلف درجة.(1/442)
بصيرة فى.. والنجم اذا هوى
السّورة مكِّيّة بالاتفاق. آياتها اثنتان وستون فى عدّ الكوفيّين، وواحدة فى عدّ الباقين. وكلماتها ثلاثمائة وستون. وحروفها أَلْف وأَربعمائة وخمسون. والآيات المختلف فيها ثلاث: {مِنَ الحق شَيْئاً} ، {عَن مَّن تولى} {الحياة الدنيا} . مجموع فواصل آياتها (واه) سمّيت النجم؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السورة: القَسَم بالوحى، وهداية المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبيان معراج الكرامة، وذكر قبيح أَقوال الكفار، وعقيدتهم فى حَقِّ الملائكة والأَصنام، ومدح مجتنبى الكبائر، والشكوى من المعرضين عن الصّدَقة، وبيان جزاءِ الأَعمال فى القيامة، وإِقامة أَنواع الحجّة على وجود الصّانع، والإِشارة إِلى أَحوال مَن أُهلِكوا من القرون الماضية، والتخويف بسرعة مجىء القيامة، والأَمر بالخضوع والانقياد لأَمر الحقِّ تعالى، فى قوله: {فَاسْجُدُواْ للهِ وَاعْبُدُواْ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى} م آية السّيف ن {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} م {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} ن.(1/443)
المتشابهات:
قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} ، وبعده: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل متَّصل بعبادتهم اللاَّت والعُزَّى [ومناة] والثَّانى بعبادتهم الملائكة، ثمّ ذَمَّ الظَّن، فقال: {إِنَّ الظَنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .
قوله: {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} فى جميع القرآن بالأَلف، إِلاَّ فى الأَعراف.
فضل السّورة
فيه حديث ضعيف عن أُبىّ: من قرأَ (والنَّجم) أُعطِى من الأَجر عشر حسنات بعدد مَنْ صدّق. بمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم وجحد به، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَها أَعطاه الله بكلّ آية قرأَها نوراً وله بكلّ حرف ثلاثُمائة حسنة، ورفع له ثلاثمائة درجة.(1/444)
بصيرة فى.. اقتربت الساعة
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. وآياتها خمس وخمسون. وكلماتها ثلاثمائة واثنتان وأَربعون. وحروفها أَلْف وأَربعمائة وثلاث وعشرون. فواصل آياتها كلّها على حرف الرّاءِ. وسمِّيت سورة القمر؛ لاشتمالها على ذكر انشقاق القمر.
معظم مقصود السّورة: تخويف بهجوم القيامة، والشكوى من عبادة أَهل الضَّلالة وذلّهم فى وقت البعث وقيام السّاعة، وخبر الطُّوفان، وهلاك الأَمم المختلفة، وحديث العاديّين ونكبتهم بالنكباءِ، وقصة ناقة صالح، وإِهلاك جبريل قومه بالصيحة، وحديث قوم لوط، وتماديهم فى المعصية، وحديث فرعون، وتعدّيه فى الجهالة، وتقرير القضاءِ والقدر، وإِظهارِ علامة القيامة، وبروز المتقين (فى الجنَّة) فى مقعد صدق، ومقام القُرْبة فى قوله: {مَقْعَدَ صِدْقٍ} .
المنسوخ:
فيه آية {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} آية السّيف ن.(1/445)
[المتشابه من سورة القمر
قصة نوح وعاد وثمود ولوط ذكر فى كل واحد منها من التخويف والتحذير ما حلّ بهم ليتَّعظ به حامل القرآن وتاليه ويعظ غيره. وأَعاد فى قصة عاد {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} مرّتين؛ لأَنَّ الأُولى فى الدنيا والثانية فى العُقبى؛ كما قال فى هذه القصة: {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} وقيل: الأَول لتحذيرهم قبل إِهلاكهم، والثانى لتحذير غيرهم بعد إِهلاكهم] .
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ الواهى السند: مَنْ قرأَ سورة اقتربت فى كلّ غِبٍّ بُعث يوم القيامة، ووجهه (على صورة القمر ليلة البدر من كل ليلة بل [أَفضل] وجاءَ يوم القيامة ووجهه مُسفِر على وجوه الخلائق) ، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ {اقتربت السّاعة} فكأَنَّما قرأَ القرآن كلَّه، وكُتِب له بكلّ آية قرأَها ثوابُ الدّالّ على الخير.(1/446)
بصيرة فى.. الرحمن
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. آياتها ثمانٍ وسبعون فى عدّ الكوفة والشام، وسبع فى الحجاز، وست فى البصرة. وكلماتها ثلاثمائة وإِحدى وخمسون. وحروفها أَلف وثلاثمائة وستّ وثلاثون. المختلف فيها خمس آيات: الرّحمن، {خَلَقَ الإنسان} ، الأوّل {لِلأَنَامِ} {الْمُجْرِمُوْنَ} {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} . مجموع فواصل آياتها (مرن) وقيل هذه الحروف الأَلف إِلا {الْمَغْرِبَيْنِ} و {الْمُجْرِمُوْنَ} .
معظم مقصود السّورة: المِنَّة على الخَلْق بتعليم القرآن، وتلقين البيان، وأَمر الخلائق بالعدل فى الميزان، والمنَّة عليهم بالعَصْف والرّيحان، وبيان عجائب القدرة فى طِينة الإِنسان، وبدائع البحر، وعجائبها: من استخراج اللؤلؤ والمَرْجان، وإِجرَاءِ الفُلْك على وجه الماءِ أَبدع جريان، وفناءِ الخَلْق وبقاءِ الرّحمن، وقضاءِ حاجات المحتاجين، وأَن لا نجاة للعبد من الله إِلاَّ بحجّة وبرهان، وقهره الخلائق فى القيامة بلهيب النَّار والدُّخَان، وسؤال أَهل الطاعة والعصيان، وطَوْف الكفار فى الجحيم، ودلال(1/447)
المؤمنين (فى نعيم الجنان. ومكافأَة أَهل الإِحسان بالإِحسان، ونشاط المؤمنين) بأَزواجهم من الحور الحِسان، وتقلبهم ورَودهم فى رياض الرضوان، على بساط الشاذَرْوان، وخطبة جلال الحقِّ على لسان أَهل التوحيد والإِيمان بقوله: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} .
السّورة محكمة خالية عن النَّاسخ والمنسوخ.
المتشابهات:
قوله: {وَوَضَعَ الميزان} أَعاده ثلاث مرّات فصرّح ولم يُضمر؛ ليكون كلّ واحد قائما بنفسه غير محتاج إِلى الأَوّل. وقيل: لأَنَّ كلّ واحد غير الآخر: الأَوّل ميزان الدّنيا، والثانى ميزان الآخرة، والثالث ميزان العقل. وقيل: نزلت متفرّقة، فاقتضى الإِظهار.
قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} كرّر الآية إِحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها ذُكِرت عقيب آيات فيها تعداد عجائب خَلْق الله وبدائع صنعه، ومبدأ الخَلْق ومَعاَدهم، ثمّ سبعة منها عَقِيب آيات فيها ذكر النَّار وشدائدها على عَدَد أَبواب جهنَّم، وحَسُن ذكر الآلاءِ عقيبها؛ لأَن فى صرفها ودفعها نِعما توازى النعم المذكورة، أَوْ لأَنَّها حَلَّت بالاعداءِ،(1/448)
وذلك يُعد من أَكثر النّعماءِ، وبعد هذه السّبعة ثمانية فى وصف الجنان وأَهلها على عدد أَبواب الجنة، وثمانية أُخرى [بعدها] للجنَّتين اللَّتين دونها فمن اعتقد الثمانية الأُولى، وعمل بموجَبها استحقَّ كلتا الثمانيتين من الله، ووفّاه السبعة السابقة، والله أَعلم.
السّورة محكمة.
فضل السّورة
فيه أَحاديث منكرة، منها حديث أُبىّ: لكلّ شىءٍ عَرُوس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره. وقال: مَنْ قرأَ سورة الرّحمن رحم الله ضعْفَهُ، وأَدَّى شكر ما أَنعم اللهُ عليه. وقال: يا على، مَنْ قرأَها فكأَنَّما أَعتق بكلّ آية فى القرآن رَقبة، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب امرأَة تموت فى نفاسها.(1/449)
بصيرة فى.. اذا وقعت الواقعة
السّورة مَكِّيّة بالاتِّفاق. آياتها تسع وتسعون فى عدّ الحجاز والشام، وسبع فى البصرة، وستّ فى الكوفة. وكلماتها ثلاثمائة وثمان وسبعون. وحروفها أَلف وسبعمائة وثلاث. المختلف فيها أَربع عشرة آية: {فَأَصْحَابُ الميمنة} {وَأَصْحَابُ المشأمة} {وَأَصْحَابُ الشمال} {وَأَصْحَابُ اليمين} إنشاءً {فِي سَمُوْمٍ وَحَمِيمٍ} {وَكَانُواْ يِقُولُونَ} {وَأَبَارِيقَ} {مَّوْضُونَةٍ} {وَحُورٌ عِينٌ} تأْثيما {والآخرين} {لَمَجْمُوْعُونَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} . مجموع فواصل آياتها (لا بدّ منه) على الباءِ منها آية واحدة: {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} . سمّيت بسورة الواقعة؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السورة: ظهور واقعة القيامة، وأَصناف الخلق بالإِضافة إِلى العذاب والعقوبة، وبيان حال السّابقين بالطاعة، وبيان حال قوم يكونون متوسّطين بين أَهل الطاعة وأَهل المعصية، وذكر حال أَصحاب الشِمال، والغَرْقَى فى بحار الهلاك، وبرهان البعث من ابتداءِ الخِلْقة،(1/450)
ودليل الحشر والنشر من الحَرْث والزّرع، وحديث الماءِ والنَّار، وما فى ضمنهما: من النّعمة والمِنَّة، ومَسّ المصحف، وقراءَته فى حال الطَّهارة، وحال المتوفَّى فى ساعة السّكرة، وذكر قوم بالبشارة، وقوم بالخسارة، والخُطْبة على جلال الحقّ تعالى بالكبرياءِ والعظمة بقوله: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
والسّورة محكمة لا ناسخ فيها ولا منسوخ. وعن مقاتل أَنَّ {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} فى أَوّل السّورة منسوخٌ بثلَّة من الآخرين الَّذى بعده.
المتشابهات:
قوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} أَعاد ذكرها. وكذلك {وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة} ثمّ قال: {السابقون} لأَنَّ التقدير عند بعضهم: والسابقون ما السّابقون، فحذف (ما) لدلالة ما قبله عليه وقيل: تقديره: أَزواجاً ثلاثة فأَصحاب الميمنة وأَصحاب المشأَمة والسّابقون ثم ذكر عقيب كلّ واحد منهم تعظيماً أَو تهويلاً فقال: ما أَصحاب الميمنة ما أَصحاب المشأَمة، والسّابقون أَى هم السّابقون. والكلام فيه يطول.
قوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُوْنَ} {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} بدأَ بذكر خَلْق الإِنسان، ثمّ بما لا غنى له عنه، وهو الحَبّ الَّذى منه قُوتُه (وقوّته)(1/451)
ثمّ الماء الَّذى منه سَوْغه وعَجْنه، ثمّ النَّار التى منها نُضْجه وصلاحه. وذكر عقيب كلّ واحد ما يأْتى عليه ويفسده، فقال فى الأُولى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ} وفى الثَّانية {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} وفى الثالثة {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} ولم يقل فى الرّابعة ما يفسدها، بل قال: نحن جعلناها تذكرة: يتَّعظون بها [ومتاعا] للمُقْوِين: أَى للمسافرين ينتفعون بها.
فضل السّورة
فيه حديث ابن مسعود: "من قرأَ سورة الواقعة فى كلّ ليلة لم تصبه فاقةٌ أَبداً" وحديث علىّ الضَّعيف: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله من الثواب مثل ثواب أَيّوب، وله بكل آية قرأَها مثل ثواب امرأَة أَيّوب.(1/452)
بصيرة فى.. سبح. الحديد
السّورة مدنية، وقيل: مكِّيّة. وآياتها تسع وعشرون فى عدّ الكوفة والبصرة، وثمان فى عدّ الباقين. وكلماتها خمسمائة وأَربع وأَربعون. وحروفها أَلفان وأَربعمائة وستّ وسبعون. المختلف فيها آيتان: {مِن قِبَلِهِ العذاب} و {الإنجيل} مجموع فواصل آياتها (من بزَّ ردّ) على الزاءِ {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وعلى الدّال {هُوَ الغني الحميد} سمّيت سورة الحديد لقوله تعالى فيها: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} .
معظم مقصود السّورة: الإِشارة [إِلى] تسبيح جملة المخلوقين والمخلوقات فى الأَرض والسّماوات، وتنزيهُ الحقّ تعالى فى الذَّات والصفات، وأَمر المؤمنين بإِنفاق النفقات والصّدقات، وذكر حيرة المنافقين فى صحراءِ العَرَصَات وبيان خِسّة الدّنيا وعزّ الجَنَّات، وتسلية الخَلْق عند هجوم النكبات والمصيبات، فى قوله: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} بهذه الآيات. والسّورة محكمة: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.(1/453)
المتشابهات:
قوله تعالى: {سَبَّحَ للَّهِ} وكذلك فى الحَشْر، والصَّفِّ، ثمّ {يُسَبِّحُ} فى الجمعة والتَّغابن. هذه كلمة استأْثر الله بها، فبدأَ بالمصدر فى بنى إِسرائيل؛ لأَنه الأَصل، ثمّ بالماضى؛ لأَنَّه أَسبق الزَّمانين، ثمَّ بالمستقبل، ثم بالأَمر فى سورة الأَعلى؛ استيعاباً لهذه الكلمة مِن جميع جهاتها. وهى أَربع: المصدر، والماضى، والمستقبل، والأَمر للمخاطب.
قوله: {مَا فِي السماوات والأرض} وفى السّور الخمس {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إِعادة (ما) هو الأَصل. وخُصّت هذه السّورة بالحذف؛ موافقة لما بعدها. وهو {خَلْقُ السماوات والأرض} وبعدها {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ، لأَنَّ التَّقدير فى هذه السّورة: سبّح لله خَلْق السماوات والأَرض. ولذلك قال فى آخر الحشر بعد قوله: {الخالق البارىء المصور} {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض} أَى خَلْقُها.
قوله: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} وبعده: {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأُولى فى الدّنيا؛ لقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} والثَّانية فى العقبى؛ لقوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} .
قوله: {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} بزيادة {هُوَ} لأَن {بُشْرَاكُمُ} مبتدأ {جَنَّاتٌ} خبره {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة لها {خَالِدِينَ فِيهَا} حال {ذَلِكَ} إِشارة إِلى ما قبله. و {هُوَ} تنبيه على عظم شأْن المذكور {الفوز العظيم} خبره.(1/454)
قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} ابتداء كلام {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} عَطْف عليه.
{ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} سبق.
قوله: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} ، وفى التَّغابن {مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فصّل فى هذه السّورة، وأَجمل هناك؛ موافقة لما قبلها فى هذه السّورة، فإِنَّه فصّل أَحوال الدّنيا والآخرة فيها، بقوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا} الآية.
فضل السّورة
فيه الحديث الضعيف عن أُبىّ: مَن قرأَ سورة الحديد كُتِب من الذين آمنوا بالله ورسوله، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَها شرّكه الله فى ثواب المجاهدين، ولا يغلُّه بأَغلال النَّار، وله بكل آية قرأَها مثلُ ثوابِ القائم بما أَمر الله.(1/455)
بصيرة فى.. قد سمع
السّورة مدنيّة بالاتِّفاق. آياتها اثنتان وعشرون عند الجمهور، وإِحدى وعشرون عند المكِّيّين. وكلماتها أَربعمائة وثلاث وسبعون. وحروفها أَلف وسبعمائة واثنتان وتسعون. المختلف فيها آية واحدة: {فِي الأذلين} مجموع فواصل آياتها (من زرد) وعلى حرف الزّاءِ آية واحدة: {عَزِيْزٌ} فحسب. سمّيت سورة المجادلة، لقوله: {تَجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} .
معظم مقصود السّورة: بيان حُكْم الظِّهار، وذكر النجوى والسّرار، والأَمر بالتَّوسع فى المجالس، وبيان فضل أَهل العلم، والشكاية من المنافقين، والفرق بين حِزب الرّحمن، وحزب الشيطان، والحكم على بعض بالفلاح، وعلى بعض بالخسران، فى قوله: {هُمُ الخَاسِرُونَ} و {هُمُ المُفْلِحُوْنَ} .
المتشابهات
{الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} وبعده: {والذين يُظَاهِرُونَ مِّن نِّسَآئِهِمْ} لأَنَّ الأَوّل خطاب للعرب؛ وكان طلاقهم فى الجاهلية الظِّهار، فقيّده بقوله: {مِنكُمْ} وبقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} ثمّ بيّن أَحكام(1/456)
الظِّهار للنَّاس عامّة، فعطف عليه فقال: {والذين يُظَاهِرُونَ} فجاءَ فى كلّ آية ما اقتضاه معناه.
قوله: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وبعده: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} لأَنَّ الأَوّل متَّصل بضدّه، وهو الإِيمان فتوعّدهم على الكفر بالعذاب الأَليم الَّذى هو جزاء الكافرين، والثَّانى متَّصل بقوله: {كُبِتُواْ} وهو الإِذْلال والإِهانة، فوصف العذاب بمثل ذلك فقال: {مُهِينٌ} .
قوله: {جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} بالفاءِ؛ لما فيه من التعقيب، أَى فبئس المصِيرُ ما صاروا إِليه، وهو جهنَّم.
قوله: {مِّنَ الله شَيْئاً أولائك} بغير واو، موافقة للجمل الَّتى قبلها، وموافقة لقوله: {أولائك حِزْبُ الله} .
فضل السّورة
فيه حديثان ضعيفان: مَن قرأَ سورة المجادلة كُتِب من حزب الله يوم القيامة، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَها قضى الله له أَلف حاجة أَدناها أَن يُعتقه من النَّار، ونزلت عليه أَلْفُ ملك يستغفرون له باللَّيل، ويكتبون له الحسنات، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب مَنْ يطلب قُوتَه من الحلال.(1/457)
بصيرة فى.. سبح. الحشر
السّورة مدنيّة بالاتِّفاق. آياتها أَربع وعشرون. كلماتها أَربعمائة وخمس وأَربعون. حروفها أَلف وتسعمائة وثلاث عشرة. فواصل آياتها (مَن برّ) على الباءِ آيتان: العقاب فى موضعين. سمّيت سورة الحشر؛ لقوله: {لأَوَّلِ الحشر} .
معظم مقصود السّورة: الخبر عن جلاءِ بنى النَّضير، وقَسْم الغنائم، وتفصيل حال المهاجرين والأَنصار، والشكاية من المنافقين فى واقعة قُرَيظة، وذكر بَرْصِيصاء العابد، والنّظر إِلى العواقب، وتأْثير نزول القرآن، وذكر أَسماءِ الحقِّ تعالى وصفاته، وبيان أَنَّ جملة الخلائق فى تسبيحه وتقديسه فى قوله: {لَهُ الأسمآء الحسنى} إِلى آخر السّورة.
ليس فيها منسوخ.
المتشابهات
قوله تعالى: {وَمَآ أَفَآءَ الله} وبعده: {مَآ أَفَآءَ الله} بغير واو؛ لأَنَّ الأَوّل معطوف على قوله: {مَا قَطَعْتُمْ} والثَّانى استئناف ليس له به تعلُّق. وقول من قال: إِنَّه بدل من الأَوّل مزيّف عند أَكثر المفسّرين.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} وبعده: {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُوْنَ}(1/458)
لأَنَّ الأَوّل متّصل بقوله: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} لأَنَّهم يرون الظَّاهر، ولا يفقهون على ما استتر عليهم، والفقه معرفةُ ظاهر الشىء وغامضه بسرعة فِطنة، فنَفَى عنهم ذلك. والثانى متَّصل بقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} أَى لو عَقَلوا لاجتمعوا على الحقِّ، ولم يتفرّقوا.
فضل السّورة
فيه أَحاديث منكَرة، منها حديث أُبىّ: مَن قرأَ سورة الحشر لم يبق جنَّة، ولا نار، ولا عَرْش، ولا كُرْسىّ، ولا حجاب، ولا السّماوات السّبع، والأَرضون السّبع، والهوامّ، والرّيح، والطَّير، والشجر، والدّواب، والجبال والشمس، والقمر، والملائكة - إِلاَّ صَلَّوْا عليه. فإِن مات مِن يومه أَو ليلته مات شهيداً، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها قال الله عز وجلّ له يوم القيامة: عبدى استظِلّ بظلّ عرشى، وكُلْ من من ثمار جنَّتى [حتى] أَفرغ إِليك. فإِذا فرغ الله عزَّ وجلّ من حساب الخلائق وَجّهه إِلى الجنَّة، فيتعجّب منه أَهلُ الموقف. وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب إِسحاق وإِبراهيم.(1/459)
بصيرة فى.. يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى
السّورة مدنيّة بالاتِّفاق. وآياتها ثلاثة عشر. وكلماتها ثلاثمائة وأَربعون. وحروفها أَلْف وخمسمائة وعشر. مجموع فواصل آياتها (لم نردّ) على اللاَّم منها آية: السّبيل. وعلى الدّال آية: الحميد. ولها ثلاثة أَسماء: سورة الممتحنة، وسورة الامتحان، كلاهما بقوله فيها {فَامْتَحِنُوهُنَّ} الثَّالث سورة المَوَدّة. لقوله: {تُلْقُوْنَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} و {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} و {وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِّنْهُمْ مَّوَدَّةً} .
معظم مقصود السّورة: النهى عن موالاة الخارجين عن مِلَّة الإِسلام، والاقتداءُ بالسّلف الصّالح فى طريق الطَّاعة والعبادة، وانتظار المودّة بعد العداوة، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة، وأَمر الرّسول بكيفيّة البَيْعة مع أَهل الستْر والعفَّة، والتَّجنّب من أَهل الزّيغ والضّلالة، فى قوله: {لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} .
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ ثلاث آيات م {لاَ يَنْهَاكُم} ن {إِنَّمَا يَنْهَاكُم} م(1/460)
{المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ} ن نقض عهد الكفار ببراءّة م {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ} ن {فاقتلوا المشركين} .
المتشابهَات:
قوله تعالى {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} وبعده: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} الأَوّل حال من المخاطبين. وقيل: أَتلقون إِليهم، والاستفهام مقدّر. وقيل: خبرُ مبتدأ، أَى أَنتم تُلْقون، والثانى بدل من الأَوّل على الوجوه المذكورة. والباءُ زيادة عند الأَخفش. وقيل بسبب أن تَوَدّوا. وقال الزجّاج: تلقون إِليهم أَخبار النبىّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسِرّه بالمودّة.
قوله: {كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وبعده: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْهِمْ أُسْوَةٌ} أَنَّث الفعل الأَوّل مع الحائل، وذكَّر الثَّانى، لكثرة الحائل. وإِنَّما كَرّرَ، لأَنَّ الأَوّل فى القول؛ والثَّانى فى الفعل. وقيل: الأَوّل فى إِبراهيم، والثَّانى فى محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الضعيفة حديث أُبىّ: مَنْ قرأَ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفيعاً يوم القيامة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها كان له بكلّ مؤمن ومؤمنة من الأَحياءِ والأَموات أَلفا حسنة، ورفع له أَلفا درجة، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب مَنْ يموت فى طريق مكَّة.(1/461)
بصيرة فى.. سبح لله. الصف
السّورة مكِّيّة بالاتِّفاق. آياتها أَربع عشرة. وكلماتها مائتان وإِحدى وعشرون. وحروفها تسعمائة. مجموع فواصل آياتها (صمن) . وعلى الصّاد آية واحدة: مرصوص. ولها اسمان: سورة الصّف؛ لقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} ، وسورة الحَوَاريّين. لقوله: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله} وقيل: تسمّى سورة عيسى.
معظم مقصود السّورة: عتاب الذين يقولون أَقوالاً لا يعملون بمقتضاها، وتشريف صفوف الغُزَاة والمصلِّين، والتَّنبيهُ على جفاءِ بنى إِسرائيل، وإِظهار دِين المصطفى على سائر الأَديان، وبيان التجارة الرّابحة مع الرّحيم الرحمن، والبشارة بنصر أَهل الإِيمان، على أَهل الكفر والخِذلان، وغلبة بنى إِسرائيل على أَعدائهم ذوى العُدْوان، فى قوله {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} .
والسّورة محكمة، خالية عن الناسخ والمنسوخ.
المتشابهات:
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب} بالأَلف واللام،(1/462)
وفى غيرها {افترى عَلَى الله كَذِبًا} بالنكرة [لأَنها أَكثر استعمالا مع المصدر من المعرفة، وخصّت هذه السورة بالمعرفة لأَنه] إِشارة إِلى ما تقدّم من قول اليهود والنَّصارى.
قوله: {لِيُطْفِئُواْ} باللام؛ لأَن المفعول محذوف. وقيل: اللام زيادة. وقيل: محمول على المصدر.
قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جزْم على جواب الأَمر؛ فإِن قوله: {تُؤْمِنُوْنَ} محمول على الأَمر أَى آمِنوا وليس بعده: (من) ولا (خالدين) .
فضل السّورة
فيه حديث مُنْكَر عن أُبىّ: مَنْ قرأَ سورة عيسى كان عيسى مصلِّياً مستغفراً له ما دام [فى] الدّنيا، وهو يوم القيامة رفيقه، ولم نجد فى رواية علىّ لهذه السّورة ذكر فضيلة والله أَعلم.(1/463)
بصيرة فى.. يسبح. الجمعة
السّورة مَدَنِيَّة بالاتِّفاق. وآياتها إِحدى عشرة. وكلماتها مائة وثمانون. وحروفها سبعمائة وعشرون. فواصل آياتها (من) وتسمّى سورة الجمعة، لقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} .
معظم مقصود السّورة: بيان بَعْث المصطفى، وتعْيير اليهود، والشكاية منهم، وإِلزام الحجّة عليهم، والترغيب فى حضور الجمعة والشكاية من قوم بإِعراضهم عن الجمعة، وتقوية القلوب بضمان الرّزق لكلّ حَىّ فى قوله: {والله خَيْرُ الرازقين} .
والسّورة خالية عن النَّاسخ والمنسوخ.
المتشابهات:
قوله: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ} وفى البقرة {وَلَنْ يَتَمَنَّوهُ} سبق.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ: مَنْ قرأَ سورة الجمعة كتِب له عشر حسنات، بعدد مَنْ ذهب إِلى الجمعة من أَمصار المسلمين، ومَنْ لم يذهب، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ [ها] فكأَنَّما فُتح له أَلف مدينة، وعُصِم من إِبليس وجنوده، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ المنفِق على عياله.(1/464)
بصيرة فى.. اذا جاءك المنافقون
السّورة مدنيّة بالاتِّفاق. آياتها إِحدى عشرة. كلماتها مائة وثمانون. حروفها سبعمائة وست وسبعون. فواصل آياتها (نون) سمّيت سورة المنافقين بمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: تقريع المنافقين وتبكيتهم، وبيان ذلِّهم وكذبهم، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم، وبيان عزّهم وشرفهم، والنَّهى عن نسيان ذكر الحقِّ تعالى، والغفلة عنه، والإِخبار عن ندامة الكفَّار بعد الموت، وبيان أَنَّه لا تأْخير ولا إِمهال بعد حلول الأَجل، فى قوله: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً} الآية.
وليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
المتشابهات
قوله: {ولاكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} وبعده: {لاَ يَعْلَمُوْنَ} ، لأَنَّ الأَوّل متّصل بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} وفى معرفتها غموض يَحتاج إِلى فطنة، والمنافق لا فطنة له؛ والثانى متّصل بقوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولاكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} أَى لا يعلمون بأَنَّ الله مُعِزّ لأَوليائه ومذِلٌّ لأَعدائه.(1/465)
فضل السّورة
روى فيه من الأَحاديث المردودة حديث أُبىّ: من قرأَها برىء من النِّفاق، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله مثل ثواب (من أَنفق حمل بعير دينارا فى طاعة الله، وخرج من الدنيا على رضا الله، وله مثل ثواب) مَن يقضى دَيْن أَبويه بعد موتهما، وجعل الله اثنى عشر منافقاً فداه من النَّار.(1/466)
بصيرة فى.. يسبح. التغابن
السّورة مكِّيّة، إِلاَّ آخرها: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ} إِلى آخر السّورة. وآياتها ثمان عشرة. وكلماتها مائتان وإِحدى وأَربعون. وحروفها أَلف وسبعون. فواصل آياتها (من درّ) وعلى الدّال آية واحدة: حميد. وسمّيت سورة التَّغابُن، لقوله فيها: {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} .
معظم مقصود السّورة: بيان تسبيح المخلوقات، والحكمة فى تخليق الخَلْق، والشكاية من القرون الماضية، وإِنكار الكفَّار البعثَ والقيامة، وبيان الثواب والعقاب، والإِخبار عن عداوة الأَهل والأَولاد، والأَمر بالتَّقوى حسب الاستطاعة، وتضعيف ثواب المتَّقين، والخبر عن اطِّلاع الحقّ على علم الغيب فى قوله: {عَالِمُ الغَيْبِ} الآية.
السّورة خالية عن المنسوخ، وفيها الناسخ: {فاتقوا الله مَا استطعتم} .
المتشابهات:
قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وبعده: {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} إِنَّما كرّر (ما) فى أَوّل السّورة لاختلاف تسبحي أَهل الأَرض وأَهل السّماءِ فى الكثرة والقِلَّة،(1/467)
والبعد والقرب من المعصية والطَّاعة. وكذلك اختلاف ما يُسرّون وما يعلنون؛ فإِنهما ضدّان. ولم يكرّر مع (يعلم) لأَنَّ الكلّ بالإِضافة إِلى علم الله سبحانه جنس واحد؛ لا يخفى عليه شىء.
قوله: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} ومثله فى الطَّلاق سواءً؛ لكنَّه زاد هنا {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} ؛ لأَنَّ هذه السّورة بعد قوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} الآيات، فأَخبر عن الكفَّار بسيّئات [تحتاج إِلى تكفير إذا آمنوا بالله، ولم يتقدّم الخبر عن الكفار بسيّئَات] فى الطلاق فلم يحتج إِلى ذكرها.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ الواهى: مَن قرأَ التغابُن رفع عنه موتُ الفُجاءَة، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَها فكأَنَّما تصدّق بوزن جبل أَبى قُبيس ذهباً فى سبيل الله، وكأَنما أَدرك أَلف ليلة من ليالى القَدْر، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثوابِ مَنْ يصومُ ثلاثة أَيّام كلّ شهر.(1/468)
بصيرة فى.. يأيها النبى اذا طلقتم النساء
السّورة مدنيّة بالاتِّفاق. وآياتها خمس عشرة فى عَدّ البصرة، واثنتا عشرة عند الباقين. وكلماتها مائتان وأَربعون. وحروفها أَلْف وسِتُّون. والمختلف فيها ثلاث آيات: مخرجاً و {واليوم الآخر} {ياأولي الألباب} فواصل آياتها على الأَلف. ولها اسمان: سورة الطَّلاق لقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ} والثَّانى سورة النِّساءِ القُصْرى. قاله عبد الله بن مسعود.
معظم مقصود السّورة: بيان طلاق السُنَّة، وأَحكام العِدَّة، والتَّوكُّل على الله تعالى فى الأُمور، وبيان نفقة النِّساءِ حال الحمل والرّضاع، وبيان عُقُوبة المتعدِّين وعذابِهم، وأَنَّ التَّكليف على قَدْر الطاقة، وللصّالحين الثوابُ والكرامة، وبيان إِحاطة العلم، والقُدْرَة، فى قوله: {لتَعْلَمُواْ} الآية.
السّورة خالية عن المنسوخ. وفيها النَّاسخ {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} .
ومن المتشابِه قولُه تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} أَمر بالتَّقوى فى أَحكام الطَّلاق ثلاث مرّات، ووعد فى كلِّ مرّة بنوع من(1/469)
الجزاءِ، فقال أَوّلاً: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} : يُخرجه ممّا أُدخِل فيه وهو يكرهه، ويُتيح له محبوبه من حيث لا يأمُل. وقال فى الثانى: يسهّل عليه الصّعب من أَمره، ويُتيح له خيراً ممَّن طلَّقها. والثالث وَعَد عليه أَفضل الجزاءِ، وهو ما يكون فى الآخرة من النعماءِ.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ: مَن قرأَها مات على سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها فكأَنما رَبَّى أَلْف يتيم، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب مَنْ يلقِّن أَلف ميّت.(1/470)
بصيرة فى.. يأيها النبى لم تحرم
السّورة مدنيّة. وآياتها اثنتا عشرة. وكلماتها مائتان وأَربعون. وحروفها أَلف وستُّون. وفواصل آياتها (منار) على الأَلف آية فحسب: {أَبْكَاراً} سميت سورة التَّحريم والمتحرم؛ لمفتتحه: {لِمَ تُحَرِّم} .
معظم مقصود السّورة: عتاب الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فى التَّحريم والتحليل قبل ورود وَحْى سماوىّ، وتعيير الأَزواج الطَّاهرات على إِيذائه وإِظهارِ سرّه، والأَمر بالتحرّز والتجنّب من جهنَّم، والأَمر بالتَّوبة النَّصُوح، والوعد بإِتمام النُّور فى القيامة، والأَمر بجهاد الكفَّار بطريق السّياسة، ومع المنافقين بالبرهان والحجّة، وبيان أَنَّ القرابة غير نافعة بدون الإِيمان والمعرفة، وأَن قرب المفسدين لا يَضُرّ مع وجود الصّدق والإِخلاص، والخبر عن الفُتُوّة، وتصديق مريم بقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} .
السورة محكمة: لا ناسخ فيها ولا منسوخ.(1/471)
المتشابهات
قوله تعالى: {خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} ذكر الجميع بغير واو، ثم خَتَم بالواو، فقال: {وَأَبْكَاراً} لأَنَّه استحال العطف على {ثَيِّبَاتٍ} فعطفها على أَوّل الكلام. ويحسن الوقف على {ثَيِّبَاتٍ} لَمّا استحال عطف {أَبْكَاراً} عليها. وقول من قال: إِنها واو الثمانية بعيد. وقد سبق تعجبنا فيه. والله أَعلم.
فضل السّورة
فيه الحديث الضَّعيف عن أُبىّ: مَنْ قرأَها تاب توبة نَصوحاً، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَها كان رفيقى فى الجَنَّة، وله بكل آية قرأَها مثلُ ثواب مَن يعدِل فى وصيّته بعد موته.(1/472)
بصيرة.. فى تبارك الذى بيده الملك
السّورة مكية. وآياتها ثلاثون عند الجمهور، وإِحدى وثلاثون عند المكيّين. وكلماتها ثلاثمائة وثلاثون. وحروفها أَلف وثلاثمائة وثلاث عشرة. والمختلف فيها آية {قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ} مجموع فواصل آياتها (تمر) على الميم اثنان: أَليم ومستقيم.
ولها فى القرآن والسُّنن سبعة أَسماء: سُورة المُلْك؛ لمفتتحها، والمُنجية لأَنها تنجى قارئها من العذاب، والمانعة؛ لأَنها تمنع مِن قارئها عذابَ القبر - وهذا الاسم فى التوراة - والدافعة؛ لأَنها تدفع بلاءَ الدنيا وعذابَ الآخرة من قارئها، والشافعة؛ لأَنها تشفع فى القيامة لقارئها، والمجادِلة؛ لأنها تجادل منكراً ونكيراً، فتناظرهما كيلا يؤذيا قارئها، السابعة: المخلِّصة؛ لأَنها تخاصم زَبانية جهنم؛ لئلا يكون لهم يدٌ على قارئها.
معظم مقصود السّورة: بيان استحقاق الله المُلْك، وخَلْقُ الحياة والموت للتجربة، والنظرُ إِلى السماوات للعِبرة، واشتعال النجوم والكواكب للزينة، وما أُعد للمنكرين: من العذاب، والعقوبة، و (ما) وُعد به المتَّقون: من الثَّواب، والكرامة، وتأْخير العذاب عن المستحقين بالفضل(1/473)
والرّحمة، وحفظ الطُّيور فى الهواءِ بكمال القدرة، واتصال الرّزق إِلى الخليقة، بالنَّوال والمِنَّة، وبيان حال أَهل الضَّلالة، والهداية، وتعجُّل الكفَّار بمجىءِ القيامة، وتهديد المشركين بزوال النعمة بقوله: {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} .
والسّورة محكمة: لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
المتشابهات
قوله: {فارجع البصر} وبعده: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أَى مع الكرّة الأُولى. وقيل: هى ثلاث مرّات، أَى ارجع البصر - وهذه مرّة - ثم ارجع البصر كرّتين، فمجموعها ثلاث مرّات. قال أَبو القاسم الكرمانى: ويحتمل أَن يكون أَربع مرّات؛ لأَنَّ قوله {ارجِعِ} يدلُّ على سابقة مرّة.
قوله: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} ، وبعده: {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} خوّفهم بالخسف أَوّلا، لكونهم على الأَرض، وأَنها أَقرب عليهم من السّماءِ، ثم بالحصْب من السماءِ. فلذلك جاءَ ثانية.
فضل السّورة
فيه حديث حسن عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: إِن سورة من كتاب الله ما هى إِلاَّ ثلاثون آية، شفعت لرجل، فأَخرجته يوم القيامة(1/474)
من النار، وأَدخلته الجنَّة، وهى سورة تبارك؛ وأَحاديث ضعيفة: منها حديث أُبىّ: ودِدْتُ أَنَّ {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} فى قلب كلّ مؤمن، وحديث: إِنَّ فى القرآن سُورةً تجادل عن صاحبها يوم القيامة خُصَماءَه، وهى الواقية: تقيه من شدائد القيامة، وهى الدّافعة: تدفع عنه بَلْوَى الدّنيا، وهى المانعة: تمنع عن قارئها عذاب القبر، فلا يؤذيه منكر ونكير؛ وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها جاءَ يوم القيامة راكباً على أَجنحة الملائكة، ووجهه فى الحسن كوجه يوسف الصّدّيق، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب شُعَيْب النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم.(1/475)
بصيرة فى.. ن. والقلم
السّورة مكِّيّة. آياتها اثنتان وخمسون. وكلماتها ثلاثمائة. وحروفها أَلف ومائتان وستّ وخمسون. فواصل آياتها (من) . ولها اسمان: سورة ن، وسورة القلم. وهذا أَشهر.
معظم مقصود السّورة: الذَّبّ عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعذابُ ما نعى الزَّكاة، وتخويف الكفَّار بالقيامة، وتهديد المجرمين بالاستدراج، وأَمر الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالصّبر، والإِشارةُ إِلى حال يونس عليه السّلام فى قلَّة الصّبر، وقصد الكفَّار رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليصيبوه بالعين فى {لَيُزْلِقُوْنَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} الآية.
الناسخ والمنسوخ:
فيها من المنسوخ آيتان: {فَذَرْنِي} م {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} م آية السّيف.
المتشابهات
قوله تعالى: {حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} إِلى قوله: {زَنِيم} تسعة أَوصاف، ولم يدخل بينها واو العطف [ولا بعد السابع] فيدلّ على ضعف القول بواو الثمانية.(1/476)
{فَأَقْبَلَ} بالفاءِ سبق.
{فَاصْبِر} بالفاءِ سبق.
فضل السّورة
فيه حديثان منكران، حديث أُبىّ: مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب الَّذين حسّن الله أَخلاقَهم، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها نوّر الله قلبه، وقبره، وبيّض وجهه، وأَعطاهُ كتابه بيمينه، وله بكلِّ آية قرأَها ثوابُ مَن مات مبطوناً.(1/477)
بصيرة فى.. الحاقة
السّورة مكِّيّة. وآياتها إِحدى وخمسون فى عدّ البصرة والشام، واثنتان فى عَدّ الباقين. وكلماتها مائتان وخمس وخمسون. وحروفها أَلف وأَربعمائة وثمانون. والمختلف فيها آيتان: {الحَآقَّةُ} الأُولى {بِشِمَالِهِ} . مجموع فواصل آياتها (نم له) على اللاَّم منها آية واحدة: {بَعْضَ الأقاويل} . ولها اسمان: سورة الحاقة؛ لمفتتحها، وسورة السِّلسلة؛ لقوله: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ} .
معظم مقصود السّورة: الخبر عن صعوبة القيامة، والإِشارة بإِهلاك القرون الماضية، وذكر نَفْخة الصُّور، وانشقاق السّماوات، وحال السّعداءِ والأَشقياءِ وقت قراءة الكتب، وذلّ الكفَّار مقهورين فى أَيدى الزّبانية، ووصف الكفَّار القرآنَ بأَنه كِهانة وشعر، وبيان أَنَّ القرآن تذكِرة للمؤمن، وحسرة للكافر، والأَمر بتسبيح الرّكوع فى قوله: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
السّورة محكمة، خالية عن النَّاسخ والمنسوخ.(1/478)
المتشابهات
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} بالفاءِ، وبعده: (وأَمَّا) بالواو؛ لأَنَّ الأَوّل متَّصل بأَحوال القيامة وأَهوالها، فاقتضى الفاءَ للتَّعقيب، والثَّانى متَّصل بالأَوّل، فأَدخل الواو؛ لأَنَّه للجمع.
قوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} خصّ ذكر الشِّعر بقوله: {مَّا تُؤْمِنُونَ} لأَنَّ مَن قال: القرآن شعر، ومحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم شاعر - بعد ما علم اختلاف آيات القرآن فى الطُّول والقِصَر، واختلافَ حروف مقاطعِه - فلكفره وقلَّة إِيمانه، فإِنَّ الشعر كلام موزون مقفًّى. وخصّ ذكر الكِهانة بقوله: {مَّا تَذَكَّرُونَ} ؛ لأَنَّ مَن ذهب إِلى أَنَّ القرآن كِهانة، وأَنَّ محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم كاهن فهو ذاهل عن ذكر كلام الكهَّان؛ فإِنَّه أَسجاع لا معانى تحتها، وأَوضاع تنبو الطِّباع عنها، ولا يكون فى كلامهم ذكرُ الله تعالى.
فضل السّورة
فيه الحديثان السّاقطان. عن أُبىّ: مَنْ قرأَها حاسبه الله حساباً يسيراً، وعن علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها، ثم مات مِن يوم قرأَها إِلى آخر السنة، مات شهيداً، وله بكلّ آية قرأَها مثل ثواب صالح النبىّ عليه السّلام.(1/479)
بصيرة فى.. سأل سائل
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثلاث وأَربعون فى عدّ الشام، وأَربع فى عدّ الباقين. كلماتها مائتان وثلاث عشرة. وحروفها سبعمائة وسبع وخمسون. المختلف فيها آية: {أَلْفُ سَنَةٍ} فواصل آياتها (جعلناهم) على الميم [ {مَعْلُوْمٌ} و {الْمَحْرُوْمُ} ] وعلى الجيم {الْمَعَارِج} وعلى اللاَّم {كَالْمُهْلِ} . وللسّورة ثلاثة أَسماء: الأَول سأَل؛ لمفتتحها. والثَّانى الواقع؛ لقوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعْ} . الثالث {ذِى الْمَعَارِج} .
مقصود السّورة: بيان جُرْأَة الكافر فى استعجال العذاب، وطول القيامة وهولها، وشُغْل الخلائق فى ذلك اليوم المَهيب، واختلاف حال الناس فى الخير والشرّ ومحافظة المؤمنين على خصال الخير، وطمع الكفَّار فى غير مَطْمَع، وذُلّ الكافرين فى يوم القيامة فى قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة} .
الناسخ والمنسوخ
فيها من المنسوخ آيتان: م {فاصبر صَبْراً} م {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ} ن آية السّيف.(1/480)
المتشابهات
قوله: {إِلاَّ المصلين} عَدّ عقيب ذكرهم الخصالَ المذكورة أَوّل سورة المؤمنين، وزاد فيها {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} ؛ لأَنَّه وقع عقيب قوله: {لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وإِقامة الشهادة أَمانة، يؤدّيها إِذا احتاج إليها صاحبُها، لإِحياءِ حقّ. فهى إِذاً من جملة الأَمانة، وقد ذكرت الأَمانة فى سورة المؤمنين، وخصّت هذه السّورة بزيادة بيانها؛ كما خصّت بإِعادة ذكر الصلاة حيث قال: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بعد قوله: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُم على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} .
فضل السورة
فيه حديث أُبىّ الضَّعيف: مَنْ قرأَها أَعطاه الله تعالى ثواب الَّذين هم لأَماناتهم وعهدهم راعون، والَّذين هم على صلاتهم يحافظون، وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَها كتب الله له بكلّ كافر وكافرة، من الأَحياءِ والأَموات ستِّين حسنة، ورَفَع له (ستِّين درجة وله) بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب يونس.(1/481)
بصيرة فى.. انا أرسلنا
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثمان وعشرون فى عدّ الكوفة، وتسع فى عدّ البصرة والشام، وثلاثون عند الباقين. وكلماتها مائتان وأَربع وعشرون. وحروفها تسعمائة وتسع وخمسون. والمختلف فيها أَربع: سُوَاعاً، {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} {وَنَسْرًا} ، {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيرًا} . فواصل آياتها (منا) على الميم آية: أَليم. سمّيت سورة نوح لذكره فى مفتتحها ومختتمها.
معظم مقصود السّورة: أَمر نوح بالدعوة، وشكاية نوح مِن قومه، والاستغفار لسعة النعمة، وتحويل حال الخَلْق من حال إِلى حال، وإِظهار العجائب على سقف السّماءِ، وظهور دلائل القدرة على بسيط الأَرض، وغَرَق قوم نوح، ودعاؤه عليهم بالهلاك، وللمؤمنين بالرّحمة، وللظَّالمين بالتَبَار والخسارة، فى قوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} .
السّورة محكمة: لا ناسخ ولا منسوخ.
المتشابه
{قَالَ نُوحٌ} بغير واو، ثم قال: {وَقَالَ نُوحٌ} بزيادة الواو؛ لأَنَّ الأَوّل ابتداء دعاء والثانى عطف عليه.(1/482)
قوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} وبعده: {إِلاَّ تَبَاراً} ؛ لأَنَّ الأَوّل وقع بعد قوله: {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} ، والثَّانى بعد قوله {لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض} فذكر فى كلّ مكان ما اقتضاه، وما شاكل معناه.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الواهية حديث أُبىّ: مَنْ قرأَها كان من المؤمنين الَّذين تدركهم دعوة نوح (وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها كان فى الجنَّة رفيق نوح وله ثواب نوح) وله بكلّ آية قرأَها مثل ثواب سام ابن نوح.(1/483)
بصيرة فى.. قل أوحى
السّورة مكِّيّة. آياتها ثمان وعشرون عند الكلّ، إِلاَّ مكة؛ فإِنَّها فى عدّهم سبع. عدّوا {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ} ، وأَسقطوا {مُلْتَحَداً} فى غير رواية البَزِّىّ. وفى رواية البَزّى: لم يعدّ {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ} ، ولم يعد {مُلْتَحَداً} فصار فى روايته سبعاً وعشرين. وفى الرواية الأُخرى: ثمانياً وعشرين. وكلماتها مائتان وخمس وثمانون. وحروفها تسعمائة وتسع وخمسون. فواصل آياتها على الأَلف. سمّيت سورة الجنّ، لاشتمالها على الجنّ فى قوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن} ، وقوله: {نَفَرٌ مِنَ الجن} .
معظم مقصود السّورة: عجائب علوم القرآن، وعظمة سلطان المَلِك الدّيّان، وتعدّى الجنِّ على الإِنسان، ومنعهم عن الوصول إِلى السّماءِ بالطَّيران، والرّشد والصّلاح لأَهل الإِيمان، وتهديدُ الكفَّار بالجحيم والنيران، وعِلْم الله تعالى بالإِسرار والإِعلان، وكيفية تبليغ الوحى من الملائكة إِلى الأَنبياءِ(1/484)
بالإِتقان، وحَصْر المعلومات فى علم خالق الخَلْق فى قوله: {وَأَحْصَى كُلَّ شىءٍ عَدَدًا} .
السّورة محكمة: لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
المتشابه
قوله: {وَأَنَّهُ} (كرّرت مراتٍ أَن وأَنه) . واختلف القرَّاءُ فى اثنتى عشرة منها وهى من قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى} إِلى قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُوْنَ} : ففتحها بعضهم عطفاً على {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} وكسرها بعضهم؛ عطفاً على قوله: {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا} ، وبعضهم فتح {أَنَّهُ} ؛ عطفاً على {أَنَّهُ} وكسر {إِنَّا} عطفاً على {إِنَّا} . وهو شاذّ.
فضل السّورة
عن أُبىّ: مَنْ قرأَها أُعطِىَ بعدد كلّ جِنّ وشيطان صدّق بمحمّد وكذَّب به، عِتقَ رقبة، وعن على: يا علىّ مَنْ قرأَها لا يخرج من الدّنيا حتى يرى مكانه من الجنَّة، وله بكل آية قرأَها ثوابُ الزاهدين.(1/485)
بصيرة فى.. يأيها المزمل
السّورة مكِّيّة، سوى آية واحدة من آخرها. وآياتها ثمان عشرة فى عَدّ الكوفة، وتسعة عشر فى البصرة، وعشرون فى الباقين. وكلماتها مائتان وخمس وثمانون. وحروفها ثمانمائة وستّ وثلاثون. المختلف فيها ثلاث آيات: المزَّمِّل، شيبا، {إِلَيْكُمْ رَسُولاً} . فواصل آياتها على الأَلف، إِلاَّ الآية الأُولى؛ فإِنه باللاَّم، والأَخيرة؛ فإِنَّها (بالرّاءِ) . مجموعها (رال) . سمّيت سورة المزَّمل؛ لافتتاحها.
معظم مقصود السّورة: خطاب الانبساط مع سيّد المرسلين، والأَمرُ بقيام اللَّيل، وبيان حُجّة التَّوحيد، والأَمر بالصّبر على جفاءِ الكفَّار، وتهديدُ الكافر بعذاب النار، وتشبيه رسالة المصطفى برسالة موسى، والتخويف بتهويل القيامة، والتسهيل والمسامحة فى قيام اللَّيل، والحَثّ على الصدقة والإِحسان، والأَمر بالاستغفار من الذّنوب والعصيان، فى قوله: {واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .(1/486)
الناسخ والمنسوخ
فيها من المنسوخ ستّ آيات: ثلاث من أَوَّل السّورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} ن {واهجرهم هَجْراً} ، وقوله: {وَذَرْنِي والمكذبين} م وقوله: {إِنَّ هاذه تَذْكِرَةٌ} ن آية السّيف.
المتشابهات
قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} ، وبعده: {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ؛ لأَنَّ الأَوّل فى الفَرْض، وقيل: فى النافلة: خارج الصّلاة. ثم ذكر سبب التخفيف، فقال: {سَيَكُوْنُ مِنْكُمْ مَّرْضَى} ، ثم أَعاد فقال: {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} والأَكثرون على أَنَّه فى صلاة المغرب، والعشاءِ.
فضل السّورة
حديث أُبىّ المعلوم ضعفه: من قرأَها (دُفع عنه العُسْر فى الدنيا والآخرة، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَها) أَعطاه الله ثواب العلماءِ، وله بكلّ آية قرأَها سِتْرٌ من النَّار.(1/487)
بصيرة فى.. يأيها المدثر
السّورة مكِّيّة. وآياتها ست وخمسون فى عدّ العراقى والبَزِّىّ، وخمس فى عدّ المكِّىّ. وكلماتها مائتان وخمس وخمسون. وحروفها أَلف وعشر. المختلف فيها اثنان: {يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين} فواصل آياتها (رُدْنها) على الدّال آية: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} . سمّيت المدّثِّر؛ لمفتتحها.
مقصود السّورة: أَمر النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم بدعوة الخَلْق إِلى الإِيمان، وتقرير صعوبة القيامة على (الكفَّار و) أَهل العصيان، وتهديد وليد ابن مُغيرة بنقض القرآن، وبيان عدد زبانية النِّيران، وأَنَّ كلّ أَحد رَهْن بالإِساءَة والإِحسان، وملامة الكفَّار على إِعراضهم عن الإِيمان، وذكر وَعْد الكريم على التقوى بالرّحمة والغفران، فى قوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَة} .
المنسوخ فيها آية واحدة: م {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} ن آية السيف.(1/488)
المتشابهات
قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أَعاد {كَيْفَ قَدَّرَ} مرّتين، وأَعاد {قَدَّرَ} ثلاث مرّات، لأَنَّ التقدير: إِنَّه - أَى الوليد - فكَّر فى شأْن محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما أَتى [به] وقدّر ماذا يمكنه أَن يقول فيهما. فقال الله سبحانه -: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أَى القولَ فى محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أَى القولَ فى القرآن.
قوله: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أَى تذكير وعدل إِليها للفاصلة. وقوله: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} وفى عبس {إِنَّهَا تَّذْكِرَة} لأَنَّ تقدير الآية فى هذه السّورة: إِنَّ القرآن تذكرة، وفى عبس: إِنَّ آيات القرآن تذكرة، وقيل: حمل التذكرة على التذكير، لأَنَّها بمعناه.
فضل السّورة
فيه الحديث الضعيف عن أُبىّ: مَنْ قرأَها أُعطِى من الأَجر عشر حسنات، بعدد مَن صَدّق بمحمّدٍ، وكذَّب به بمكَّة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب المتحابّين فى الله، وله بكلّ آية قرأَها مائةُ شفاعة.(1/489)
بصيرة فى.. لا أقسم بيوم القيامة
السّورة مكِّيّة. وآياتها أَربعون فى عدّ الكوفيّين، وتسع وثلاثون فى عدّ الباقين. وكلماتها مائة وتسع وتسعون. وحروفها ثلاثمائة واثنتان وخمسون. المختلف فيها آية: {لِتَعْجَلَ بِهِ} فواصل آياتها (يقراه) . سمّيت سورة القيامة، لمفتتحها، ولقوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} .
مقصود السّورة: بيان هَوْل القيامة، وهيبتها، وبيان إِثبات البعث، وتأْثير القيامة فى أَعيان العالم، وبيان جزاء الأَعمال، وآداب سماع الوَحْى، والوعد باللِّقاءِ والرّؤية، والخبر عن حال السَّكرة، والرّجوع إِلى بيان برهان القيامة، وتقرير القُدْرة على بعث الأَموات فى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} .
المنسوخ فيها آية واحدة: م {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ن {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} .(1/490)
المتشابهات
قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} ثمّ أَعاد، فقال: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} فيه ثلاثة أَقوال: أَحدها أَنَّه سبحانه أَقسم بهما، والثانى: لم يقسم بهما، والثَّالث: أَقسم بيوم القيامة، ولم يُقسم بالنَّفس. وقد ذكرنا بَسْطه فى التفسير.
قوله: {وَخَسَفَ القمر} وكرّره فى الآية الثَّانية {وَجُمِعَ الشمس والقمر} ؛ لأَنَّ الأَوّل عبارة عن بياض العين بدليل قوله: {فَإِذَا بَرِقَ البصر وَخَسَفَ القمر} . وفيه قول ثان - وهو قول الجمهور - أَنهما بمعنى واحد. وجاز تكراره لأَنَّه أَخبر عنه بغير الخبر الأَوَّل. وقيل: الثانى وقع موقع الكناية؛ كقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله ... . وتشتكي إِلَى الله ... . والله يَسْمَعُ ... . إِنَّ الله} فصرّح؛ تعظيما، وتفخيما، وتيمّناً، قال تاج القرّاءِ: ويحتمل أَن يقال: أَراد بالأَوّل الشّمس؛ قياساً على القمرين. ولهذا ذكَّر فقال: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} أَى جُمِع القمران؛ فإِنَّ التَّثنية أُخت العطف. وهذه دقيقة.(1/491)
قوله: {أولى لَكَ فأولى} كرّرها مرّتين، بل كرّرها أَربع مرّات؛ فإِنَّ قوله: {أولى لَكَ} تمام فى الذمّ؛ بدليل قوله: {فأولى لَهُم} ؛ فإِنَّ جمهور المفسرين ذهبوا إِلى أَنَّه للتَّهديد. وإِنَّما كرّرها لأَنَّ المعنى: أَولى لك الموت، فأَولى لك العذاب فى القبر ثمّ أَولى أَهوالُ القيامة، فأَولى لك عذاب النَّار، نعوذ بالله منها.
فضل السّورة
عن أُبىّ: مَنْ قرأَها شهِدْت أَنا وجبرائيل يوم القيامة أَنَّه كان مؤمناً بيوم القيامة، وجاءَ ووجهه مُسْفِرٌ على وجوه الخلائق يوم القيامة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب أُمّتى ذكرا وأُنثى، وكتب الله له بكلّ آية قرأَها ثمانين حسنة.(1/492)
بصيرة فى.. هل أتى على الانسان
السّورة مكِّيّة. وآياتها إِحدى وثلاثون. وكلماتها مائتان وأَربعون. وحروفها أَلْف وخمسون. وفواصل آياتها على الأَلِف، ولها ثلاثة أَسماء: سورة (هل أَتى) ؛ لمفتتحها، وسورة الإِنسان؛ لقوله {عَلَى الإنسان} ، وسورة الدّهر؛ لقوله: {حِينٌ مِّنَ الدهر} .
معظم مقصود السّورة: بيان مُدّة خِلقة آدم، وهداية الخَلْق بمصالحهم، وذكر ثواب الأَبرار، فى دار القرار، وذكر المِنّة على الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأَمره بالصّبر، وقيام اللَّيل، والمِنَّة على الخَلْق بإِحكام خَلْقهم، وإِضافة كلِّيّة المشيئة إِلى الله، فى قوله: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
الناسخ والمنسوخ
فيها من المنسوخ ثلاث آيات: م {أَسِيرًا} فى قوله {وَيُطْعِمُونَ الطعام} م، والصّبر من قوله {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} م، والتخيير من قوله: {فَمَن شَآءَ اتخذ} ن آية السّيف.(1/493)
المتشابهات
قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} ، وبعده: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} إِنَّما ذكر الأَوّل بلفظ المجهول؛ لأَنَّ المقصود ما يطاف به لا الطَّائفون. ولهذا قال: {بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} ثمّ ذكر الطَّائفين، فقال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} .
قوله: {مِزَاجُهَا كَافُوراً} وبعدها: {زَنْجَبِيلاً} ؛ لأَنَّ الثَّانية غير الأُولى. وقيل: {كَافُوراً} اسم عَلَم لذلك الماءِ، واسم الثانى زنجبيل. وقيل اسمها: سلسبيل. قال ابن المبارك: معناه: سَلْ من الله إِليه سبيلاً. ويجوز أَن يكون اسمها زنجبيلاً، ثمّ ابتدأَ فقال: سلسبيلا. ويجوز أَن يكون اسمها هذه الجملة، كقوله: تأَبّط شرّاً، وشاب قرناها. ويجوز أَن يكو معنى تُسمّى: تُذكر، ثمّ قال الله: سل سبيلا، واتصاله فى المصحف لا يمنع هذا التأْويل؛ لكثرة أَمثاله فيه.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث المنكَرة حديثُ أُبىّ: مَنْ قرأَها كان جزاؤه على الله جَنَّة وحريراً، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} أَعطاه الله من الثواب مثلَ ثواب آدم، وكان فى الجنَّة رفيق آدم، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب سيّدَىْ شباب أَهل الجنَّة الحسن والحسين.(1/494)
بصيرة فى.. والمرسلات
السّورة مكِّيّة. وآياتها خمسون. وكلماتها مائة وإِحدى وثمانون. وحروفها ثمانمائة وستَّة عشر. مجموع فواصل آياتها (عبرتم لنا) على اللاَّم الفَصْل فى الموضعين، وعلى الرّاءِ القصْر، وصُفْر، وعلى الباءِ {ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} ، و {اللهب} . سمّيت سورة المرسلات؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: القَسَم بوقوع القيامة، والخبرُ عن إِهلاك القرون، الماضية، والمِنَّة على الخلائق بإِيجادهم فى الابتداء، وإِدخال الأَجانب فى النَار، وصعوبة عقوبة الحقِّ إِيّاهم وأَنواع كرامة المؤمنين فى الجنَّة، والشكاية عن الكفَّار بإِعراضهم عن القرآن فى قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .
[متشابه سورة المرسلات
قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} مكرّر عشر مرات: لأَن كل واحدة منها ذكرت عقيب آية غير الأُولى، فلا يكون تكرارها مستهجَنا. ولو لم يكرّر كان متوعّدا على بعض دون بعض. وقيل: إن من عادة العرب التكرار(1/495)
والإطناب؛ كما من عادتهم الاقتصار والإِيجاز. وبسط الكلام فى الترغيب والترهيب أَدعَى إِلى إِدراك البغية من الإِيجاز] .
فضل السّورة
فيه حديثان ضعيفان: مَنْ قرأَها كُتب [له] أَنَّه ليس من المشركين: وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها أَظلَّه الله فى ظلّ عرشه مع الصّدّيقين والشُّهداءِ، وكَتَبَ الله له بكلّ آية قرأَها أَلفَ حسنة.(1/496)
بصيرة فى.. عم يتساءلون
السّورة مكِّيّة. وآياتها إِحدى وأَربعون فى عدّ المكِّى والبصرىّ، وأَربعون فى عدّ الباقين. وكلماتها مائة وثلاث وسبعون. وحروفها ثمانمائة وستّ عشرة. المختلف فيها آية {عَذَابًا قَرِيْبًا} . فواصل آياتها: (منا) وعلى الميم آية {العَظِيمِ} ولها اسمان: {عَمَّ يَتَسَآءَلُوْنَ} لقوله: {يَتَسَآءَلُوْنَ} والنبأ؛ لقوله: {عَنِ النبإ العظيم} .
معظم مقصود السورة: ذكر القيامة، وخَلْق الأَرض والسّماءِ، وبيان نفع الغَيْث، وكيفيّة النَشْر والبعث، وعذاب العاصين، وثواب المطيعين من المؤمنين، وقيام الملائكة فى القيامة مع المؤمنين، وتمنِّى الكفَّار المحالَ فى قوله: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} .
السّورة محكمة.
المتشابهات
قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} قيل: التكرار للتأكيد. وقيل: الأَوّل للكفَّار، والثَّانى للمؤمنين. وقيل: الأَوّل عند النزع، والثانى فى القيامة. وقيل: الأَوّل رَدْع عن الاختلاف، والثانى عن الكفر.(1/497)
قوله: {جَزَآءً وِفَاقاً} وبعده: {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} ؛ لأَنَّ الأَوّل للكفَّار، وقد قال الله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فيكون جزاؤهم على وَفْق أَعمالهم. والثَّانى للمؤمنين، وجزاؤهم [يكون] وافياً كافياً. فلهذا قال: {حِسَابًا} أَى وافياً من قولك: حسبى (وكفانى) .
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الشَّاذَّة حديث أُبىّ: مَنْ قرأَها سقاه الله بَرْد الشراب يوم القيامة، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَها سُمّى فى السّماوات أَسِير الله فى الأَرض، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب هود عليه السّلام.(1/498)
بصيرة فى.. والنازعات غرقا
السّورة مكِّيّة. آياتها ستّ وأَربعون فى عدّ الكوفة، وخمس عند الباقين. وكلماتها مائة وتسع وسبعون. وحروفها سَبْعمائة وثلاث وخمسون. المختلف فيها اثنتان: {وَلأَنْعَامِكُمْ} طغى. فواصل آياتها (هم) ، على الميم آية واحدة: {وَلأَنْعَامِكُمْ} .
معظم مقصود السّورة: القَسَم بنَفْخَة الصُّور، وكيفِيّة البَعْث والنُّشُور، وإِرسال موسى إِلى فرعون، والمِنَّة بخَلْق السّماءِ والأَرض، وتحقيق هَوْل القيامة، وبيان حال مَنْ آثر الدّنيا، والخبر من حال أَهل الخوف، واستعجال الكافرين بالقيامة، وتعجّبهم منها فى حال البعث فى قوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا} إِلى آخرها.
والسّورة محكمة.
المتشابهات
قوله: {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى} ، وفى عبس {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} ؛ لأَنَّ الطَّامّة مشتَقَّة من طمَمْت البِئر إِذا كبستَها. وسمّيت القيامة(1/499)
طامة، لأَنَّها تكبِس كلّ شىء وتكسِره. وسمّيت الصَّاخة - والصّاخَّة: الصّوت الشَّديد - لأَنَّ من شدّة صوتها يحيا النَّاس؛ كما ينتبه النَّائم (من الصّوت) الشديد. وخُصّت النازعات بالطَّامة: لأَنَّ الطَّم قبل الصّخ، والفزع قبل الصّوت، فكانت هى السّابقة، وخُصّت (عبس) بالصّاخَّة؛ لأَنَّها بعدها. وهى اللاَّحقة.
فضل السّورة
فيه حديثان منكَران: عن أُبىّ: مَنْ قرأَها كان حَبْسه فى القبور، وفى القيامة، حتى يدخل الجنَّة قدْرَ صلاةٍ مكتوبة، وعن علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها استغْفَرَت له الملائكة أَيّام حياته، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب الَّذين آمنوا بموسى.(1/500)
بصيرة فى.. عبس وتولى
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثنتان وأَربعون فى الحجاز، والكوفة، وواحدة فى البصره، وأَربعون فى الشأم. وكلماتها مائتان وثلاث وثلاثون. وحروفها خمسمائة وثلاث وثلاثون. والمختلف فيها من الآى ثلاث: {وَلأَنْعَامِكُمْ} {طَعَامَهُ} الصّاخَّة. فواصل آياتها (هما) وعلى الميم آية: {وَلأَنْعَامِكُمْ} وسمّيت عبس لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: بيان حال الأَعمى، وذكر شرفِ القرآن، والشّكاية من أَبى جهل، وإِنكاره البعث والقيامة، وإِقامة البرهان من حال النبات على البعث، وإِحياءِ الموتى، وشُغُل الخلق فى العَرَصات، وتفاوُت حال أَهل الدّرجات والدّركات، فى قوله: {وُجُوْهٍ} إِلى آخرها.
المنسوخ فيها آية واحدة: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} م آية السّيف ن.
المتشابه
قوله: {الصآخة} سبق فى النَّازعات.(1/501)
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ الشَّاذّ: مَن قرأَها جاءَ يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها جاءَ يوم القيامة ووجهه يتلأْلأ، وله بكلّ آية قرأَها ثواب (المتشحّط فى دمه) .(1/502)
بصيرة فى.. اذا الشمس كورت
السّورة مكِّيّة. وآياتها تسع وعشرون فى عدّ الجميع، وثمان فى عدّ أَبى جعفر، أَسقط أَبو جعفر {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} وكلماتها مائة وأَربعون. وحروفها خمسمائة وثلاث وثلاثون. فواصل آياتها (تسنَّم) . تسمّى سورة كُوّرت، وسورة التكوير؛ لمفتتحها.
مقصود السّورة: بيان أَحوال القيامة، وأَهوالِها، وذِكر القَسَم بأَنَّ جبريل أَمين على الوحى، مكِينٌ عند ربّه، وأَنَّ محمّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأمتَّهم ولا بخيل بقول الحقِّ، وبيان حقيقة المشيئة والإِرادة قى قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} .
المنسوخ فيها آية واحدة: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [م] وَمَا تَشَآءُونَ} ن.
المتشابهات
قوله: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} ، وفى الانفطار: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} ؛ لأَنَّ معنى {سُجِّرَتْ} عند أَكثر المفسّرين: أُوقدت، فصارت ناراً، من قولهم: سجّرت التنوّرة. وقيل: بحار جهنَّم تُملأُ حميماً، فيعذَّبُ(1/503)
بها أَهلُ النَّار. فخُصّت هذه السّورة بسُجّرت؛ موافقةً لقوله تعالى {سُعِّرَتْ} ليقع الوعيد بتسعير النار وتسجير البحار، وفى الانفطار وافق قوله: {وَإِذَا الكواكب انتثرت} أَى تساقطت {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} أَى سالت مياهها ففاضت على وجه الأَرض، {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} : قلبت وأُثيرت. وهذه أَشياءُ كلّها زالت [عن] أَماكِنها، فلاقت كلُّ واحدة قرائنَها.
قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} ، وفى الانفطار {قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} ، لأَنَّ ما فى هذه السّورة متَّصل بقوله: {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} فقرأَها أَربابها، فعلمت ما أَحضرت، وفى الانفطار متَّصل بقوله: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} والقبور كانت فى الدنيا فتتذكر ما قدّمت فى الدّنيا، وما أَخَّرت فى العُقْبى، وكلّ خاتمة لائقة بمكانها. وهذه السّورة من أَوّلها إِلى آخرها شرط وجزاء، وقسم وجواب.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الواهية حديث أُبىّ: مَنْ أَحبّ أَن ينظر إِلى يوم القيامة فليقرأ {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} ، ومن قرأَها أَعاذه الله أَن يفضحه حين ينشر صحيفته، وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب الصّالحين، وله بكلّ آية ثوابُ عِتْق رقبةٍ، ووجدت فى بعض الحواشى عن بعض المفسرين: مَنْ لدغته العقربُ يقرأ ثلاث مرَّات {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} ، وينفُخها فى ماء، ثمّ يشربه، يسكنْ فى الحال.(1/504)
بصيرة فى.. اذا السماء انفطرت
السّورة مكِّيّة. وآياتها تسع عشرة. وكلماتها مائة. وحروفها ثلاثمائة وتسعَ عشرة. فواصل آياته (مَكِنه) . على الهاءِ آخِرُ السّورة. تسمّى سورة (انفطرت) وسورة (الانفطار) ؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: الخبر عن حال السّماءِ ونجومها فى آخر الزَّمان، وبيان غَفْلَة الإِنسان، وذكر الملائكة الموكَّلين بما يصدر من اللسان والأَركان، وبيان إِيجاد الحقِّ - تعالى - الحكم يوم يُحشر الإِنس والجان.
السورة محكمة.
وسبق ما فيها من المتشابه. وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} تكرار أَفاد التعظيم ليوم الدّين. وقيل: أَحدهما للمؤمنين، والثَّانى للكافرين.
فضل السّورة
فيه عن أُبىّ: مَنْ قرأَها أَعطاه الله من الأَجر بعدد كلّ قبر حسنةً، وبعدد كلّ قَطْرة ماءِ حسنة، وأَصلح الله شأنه يوم القيامة. وعن على: يا علىّ مَنْ قرأَها جعل الله كلّ آية فى ميزانه أَثقل من السّماوات، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب الَّذين عَمروا بيت المقدس.(1/505)
بصيرة فى.. ويل للمطففين الذين
السّورة مكِّيّة. وآياتها ستّ وثلاثون. وكلماتها مائة وتسع. وحروفها أَربعمائة وثلاثون. وفواصل آياتها (من) سمّيت (المطفِّفين) لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: تمام الكيل والميزان، والاحترازُ عن البَخْس والنُّقصان، وذكر السّجّين لأَهل العصيان، وذكر العِلِّيّين لأَهل الإِيمان، ودَلال المؤمنين والمطيعين فى نعيم الجنان، وذُلّ العصيان فى عذاب النِّيران، ومكافأَتهم على وَفْق الجُرْم (والكفران فى قوله {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .
السّورة محكمة بتمامها.
فيها من المتشابه قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} وبعده: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} التقدير فيها: إِنَّ كتاب الفجّار لكتاب مرقوم فى سجّين، وإِنَّ كتاب الأَبرار لكتاب مرقوم فى عليّين. ثمّ ختم(1/506)
الأَوّل بقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، لأَنه فى حقِّ الكفَّار، وختم الثَّانى بقوله: {يَشْهَدُهُ المقربون} فختم كلّ واحد بما لا يصلح سواه مكانه.
فضل السّورة
فيه الحديثان الضَّعيفان: عن أُبىّ: مَنْ قرأَها سقاه الله من الرّحيق المختوم يوم القيامة، وعن علىّ: يا علىّ من قرأَها كان فى الجنَّة رفيق خَضِر، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب العادلين بالحقِّ.(1/507)
بصيرة فى.. اذا السماء انشقت
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثلاث وعشرون عند الشَّامى والبصرىّ، وخمس عند الباقين. وكلماتها مائة وسبع. وحروفها أَربعمائة وثلاث وثلاثون. والمختلف فيها اثنان {بِيَمِيْنِهِ} {وَرَآءَ ظَهْرِهِ} . فواصل آياتها (قهرتمان) على الرّاءِ {يَحُوْر} وعلى الميم {أَلِيْم} . وتسمّى سورة (انشقت) وسورة الانشقاق؛ لافتتاحها.
مقصود السّورة: بيانُ حال الأَرض والسّماءِ فى طاعة الخالِق - تعالى - وإِخراج الأَموات للبعث، والاشتغال بالبِرّ والإِحسان، وبيان سهولة الحساب للمطيعين، والإِخبار عن فَرَحهم وسرورهم بنعيم الجنان، وبكاء العاصين والكافرين، وويلهم بالثبوت فى دَرَكات النيران، والقَسَم بتشقُّق القمر، واطِّلاع الحقّ على الإِسرار والإِعلان، وجزاء المطيعين من غير امتنان، فى قوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
السّورة محكمة بتمامها.(1/508)
متشابه سورة انشقت
قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} مرتين، لأَن الأَول متصل بالسماءِ، والثانى متصل بالأَرض. ومعنى أَذِنت: سمعت وانقادت، وحق لها أَن تسمع وتطيع، وإِذا اتصل واحد بغير ما اتصل به الآخر لا يكون تكرارا.
قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} وفى البروج {فِى تَكْذِيبٍ} راعى فواصل الآى، مع صحة اللفظ وجودة المعنى.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث المتروكة حديث أُبىّ: مَن قرأَها أَعاذه الله أَن يعطيه كتابه وراءَ ظهره، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها كَتَب الله له بعدد أَوراق الأَشجار، ونبات الأَرض حسنات، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثوابِ أَولياءِ الله.(1/509)
بصيرة فى.. والسماء ذات البروج
السّورة مكِّيّة. وآياتها اثنتان وعشرون. وكلماتها مائة وتسع. وحروفها أَربعمائة وثمان وخمسون. وفواصل آياتها (قرط ظب جدّ) . سمّيت سورة البروج؛ لذكرها فى أَوّلها.
معظم مقصود السّورة: القَسَم على أَصحاب الأخدود، وكمال ملكة الملِك المعبود، وثواب المؤمنين فى جِوار المقام المحمود، وعذاب الكافرين فى الجحيم المورود، وما للمطيع والعاصى من كرم الغفور الودود، والإِشارة إِلى هلاك فرعون وثمود.
والسّورة محكمة بكمالها.
متشابه سورة البروج:
قوله: {ذَلِكَ الفوز الكبير} (ذلك) مبتدأ، و (الفوز) خبره. و (الكبير) صفته. وليس فى القرآن نظيره.
فضل السّورة
فيه حديث أُبى: من قرأَها فله (بكلّ يوم الجمعة وكل يوم عرفة)(1/510)
يكون فى دار الدّنيا عشرُ حسنات، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها كتب الله له بكلّ نجم فى السّماءِ عشر حسنات، ورَفَع له عشر درجات، وكأَنَّما صام بكل آية قرأَها عشرة أَيّام.(1/511)
بصيرة فى.. والسماء والطارق
السّورة مكِّيّة. وآياتها سبعَ عشرة فى عدّ الجميع، غير أَبى جعفر؛ فإِنَّها عند ستَّ عشرة. أَسقط {يَكِيْدُوْنَ كَيْدًا} ، وعدّها الباقون. وكلماتها إِحدى وستُّون. وحروفها مائتان وتسع وثلاثون. فواصل آياتها (ظلّ بق عار) . سمِّيت بأَوّلها الطارق.
مقصود السّورة: القسم على حفظ أَحوال الإِنسان، والخبر عن حاله فى الابتداءِ والانتهاءِ، وكشف الأَسرار فى يوم الجزاءِ، والقَسَم على أَنَّ كلمات القرآن جَزْل، غير هَزْل، من غير امتراءِ، وشفاعة حضرة الكبرياءِ إِلى سيّد الأَنبياءِ بإِمهال الكافرين، فى العذاب والبلاءِ، فى قوله: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .
المنسوخ فيها آية واحدة: م {فَمَهِّلِ الكافرين} ن آية السّيف.
ومن المتشابه {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} وهذا تكرار، وتقديره: مهِّل مهِّل مهِّل؛ لكنَّه عدل فى الثَّانى إِلى (أَمهل) ؛ لأَنَّه من أَصله، وبمعناه: كراهة التكرار، وعدل فى الثالث إِلى قوله: {رُوَيْداً} ؛ لأَنَّه بمعناه، أَى أَرْودهم إِرواداً. ثم صُغِّر (إِرواداً) تصغير التَّرخيم، فصار: رويداً. وقيل: (رويدًا) صفة مصدر محذوف، أَى إِمهالاً رُويْدًا، فيكون التكرار مرّتين. وهذه أُعجوبة.(1/512)
فضل السّورة
فيه حديثان ضعيفان: عن أُبىّ: مَنْ قرأَها أَعطاه الله من الأَجر بعدد كلّ نجم فى السّماءِ عشرَ حسنات. وقال: يا علىّ من قرأَها فكأَنَّما قرأَ ثلثى القرآن، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ مَن يأْمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.(1/513)
بصيرة فى.. سبح اسم ربك الأعلى
السّورة مكِّيّة. آياتها تسعَ عشرة بالإِجماع. وكلماتها ثمان وسبعون. وحروفها مائتان وإِحدى وسبعون. فواصل آياتها على الأَلف. سمّيت سورة الأَعلى؛ لمفتتحها.
مقصود السّورة: بيان عُلُوّ الذات، والصّفات، وذكر الخِلْقة، وتربية الحيوانات، والإِشادة بالثمار، والنبات، والأَمنُ مِن نَسْخ الآيات، وبيان سهولة الطاعات، وذل الكفَّار فى قَعْر الدّركات، والتحضيض على الصّلاة والزَّكات، وفى الدّنيا بقاءُ الخيرات، وفى الآخرة بقاءُ الدّرجات، فى قوله: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} .
السّورة محكمة.
ومن المتشابه قوله: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ} ، وفى العلق: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} زاد فى هذه السّورة: {الأعلى} ؛ مراعاة للفواصل وفى هذه السّورة: {خَلَقَ فَسَوَّى} ، وفى العلق {خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} .
فضل السّورة
فيه أَحاديث لا يصحّ منها سوى ما رواه عُقْبَة: لمّا نزل {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} قال صلَّى الله عليه وسلَّم: اجعلوها فى ركوعكم،(1/514)
ولمّا نزل {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قال صلَّى الله عليه وسلَّم: اجعلوها فى سجودكم. ومن الضَّعيف المتروك حديث أُبىّ: مَنْ قرأَها أَعطاه الله من الأَجر عشر حسنات بعدد كل حرف أَنزله على إِبراهيم، وموسى، ومحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم. وقال: مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب الشاكرين، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ الصّابرين (وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يحبّ هذه السّورة) ويقرأ بها فى صلاة الوِتْر، ويروى أَنَّ أَوّل من قال سبحانه ربِّى الأَعلى ميكائيل، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَخبِرنى عن ثوابِ مَنْ قالها فى صلاته أَو غير صلاته، فقال يا محمّد ما مِن مؤمن، ولا مؤمنة يقولها فى سجوده، أَو فى غير سجوده، إِلاَّ كانت له فى ميزانه أَثقلَ من العرش، والكرسىّ، وجبال الدّنيا، ويقول الله - تعالى -: صدق عبدى، أَنا الأَعلى، دونى كلُّ شىء، أَشهدوا ملائكتى أَنِّى قد غفرت لعبدى، وأُدخله فى جنتى، وإِذا مات زاره ميكائيل يوماً، يوماً، فإِذا كان يوم القيامة حمله على جَناحه، فيوقفه بين يدى الله عزَّ وجلّ فيقول: يارب شفِّعنى فيه، فيقول: قد شفَّعتك فيه، اذهب به إِلى الجنَّة.(1/515)
بصيرة فى.. هل أتااك حديث الغاشية
السّورة مكِّيّة. وآياتها ستّ وعشرون. وكلماتها اثنتان وتسعون. وحروفها ثلاثمائة وأَحد وثمانون. فواصل آياتها (عمرته) . سمّيت سورة الغاشية؛ لذكرها.
معظم مقصود السّورة: التخويف بظهور القيامة، وبيانُ حال المستوجبين للعقوبة، وذكر حال المستحِقِّين للمَثُوبة (وإِقامة الحُجة على وجود الحقِّ) ووعظ الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - للأُمّة، على سبيل الشَّفَقَة، وأَن المرجع إِلى الله تعالى فى العاقبة فى قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} .
المتشابه:
قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} وبعده: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل هم الكفَّار، والثَّانى المؤمنون. وكان القياس أَن يكون الثانى بالواو للعطف؛ لكنَّه جاءَ على وفاق الجُمل قبلها، وبعدها، وليس معهنَّ واو العطف البتَّة.
قوله: {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ} كلّها قد سبق.
{وَإِلَى السمآء} و {وإلى الجبال} ليس من الجُمل، بل هى إِتباع لما قبلها. المنسوخ: فيها آية واحدة م {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} ن آية السّيف.(1/516)
فضل السّورة
فيه أَحاديث ضعيفة. منها مَنْ قرأَها حاسبه الله حساباً يسيراً، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها كَتَب الله له بعدد آيات القرآن حسنات، وله بكلّ آية قرأَها بيتٌ من الزعفران فى وسط الجنَّة.(1/517)
بصيرة فى.. والفجر
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثلاثون فى عدّ الشام، والكوفة، وتسع وعشرون (فى البصرة، واثنتان وثلاثون فى الحجاز، وكلماتها مائة وسبع وعشرون) وحروفها خمسمائة وتسع وتسعون. المختلف فيها أَربع: نعّمه، رزقه بجهنَّم، {فِي عِبَادِي} فواصل آياتها (هاروت ندم) . سمّيت سورة الفجر، لمفتتحها.
السورة محكمة.
معظم مقصود السّورة: تشريف العِيد، وعرفة، وعشْرِ المحرّم، والإِشارةُ إِلى هلاك عاد، وثمود، وأَضرابهم، وتفاوتُ حال الإِنسان فى النعمة، وحرصه على جَمْع الدّنيا، والمال الكثير، وبيان حال الأَرض فى القيامة، ومجىء الملائكة، وتأَسّف الإِنسان يومئذ على التقصير، والعصيان، وأَنَّ مرجع المؤمن عند الموت إِلى الرّحمة، والرضوان، ونعيم الجنان، فى قوله: {وادخلي جَنَّتِي} .
متشابه سورة والفجر
قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} وبعده: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه} لأَن التقدير فى الثانى أَيضا: وأَما الإِنسان، فاكتفى بذكره فى الأَول؛(1/518)
والفاءُ لازم بعده؛ لأَن المعنى: مهما يكن من شىء فالإِنسان بهذه الصفة، لكن الفاء أُخِّر ليكون على لفظ الشرط والجزاءِ.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ المنكَر: مَنْ قرأَها فى الليالى العشر غفر الله له، ومَنْ قرأَها فى سائر الأَيام كانت له نوراً يوم القيامة، وحديث علىّ: مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب المصلِّين، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ الحامدين له على كلّ حال.(1/519)
بصيرة فى.. لا أقسم بهذا البلد
السّورة مكِّيّة. وآياتها عشرون. وكلماتها اثنتان وثمانون. وحروفها ثلاثمائة وإِحدى وخمسون. فواصل آياتها (هدنا) . سمّيت سورة البلد؛ لمفتتحها، وسورة العقَبَة، لقوله: {فَلاَ اقتحم العقبة} .
معظم مقصود السّورة: تشريف مكَّة بحكم القَسَم بها، وشدّة حال الأَدنى، والخبر من سرّه وعلانيته، والمِنَّة عليه بالنعم المختلفة، وتهويل عَقَبَة الصِّراط وبيان النجاة منها، ومدح المؤمنين وصبرهم على البلاءِ، ورحمة بعضهم بعضاً، وخلود الكفَّار فى النَّار فى قوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} .
السّورة محكمة.
ومن المتشابهات قوله: {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} ثم قال {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} كرّره وجعله [فاصلا] فى الآيتين. وقد سبق القول فى مثل هذا، وممَّا ذكر فى هذه السّورة على الخصوص أَنَّ التقدير: لا أُقسم بهذا البلد وهو حَرَام وأَنت حِلّ بهذا البلد وهو حلال؛ لأَنَّه أُحِلَّت له مكَّة حتى قيل فيها:(1/520)
مَن شاءَ قاتل فلما اختلف معناه صار كأَنه غير الأَوّل، ودخل فى القِسْم الذى يختلف معناه ويتَّفق لفظه.
فضل السّورة
فيه حديثان من نحو ما سبق: مَنْ قرأَها أَعطاه الله الأَمن من غُصّة يوم القيامة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها قام من قبره، وعليه جناحان خضراوان، فيطير إِلى الجنَّة، وله بكلّ آية ثواب القانتين.(1/521)
بصيرة فى.. والشمس وضحاها
السّورة مكِّيّة. وآياتها خمس عشرة عند القرّاءِ. وعند المكِّى ستَّ عشرة. وكلماتها أَربع وخمسون. وحروفها مائتان وأَربعون. المختلف فيها آية {فَعَقَرُوْهَا} . فواصل آياتها على الأَلِف؛ سمِّيت سورة (والشمس) ؛ لمفتتحها.
مقصود السّورة: أَنواع القَسَم المترادفة، على إِلهام الخَلْق فى الطَّاعة والمعصيّة، والفلاح والخَيْبَة، والخبرُ من إِهلاك ثمود، وتخويف لأَهل مكَّة فى قوله: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} .
السّورة محكمة.
[المتشابه] :
قوله: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} قيل هما رجلان: قُدار ومصدع، فوَحّد لرَوِىّ الآية.
فضل السّورة
فيه حديث أُبىّ المردودُ: مَن قرأَها فكأَنَّما تصدّق بكلّ شىء طلعت عليه الشمس والقمر، وحديث على: يا علىّ مَن قرأَ {والشمس وَضُحَاهَا} فكأَنَّما قرأَ الزَّبور، وله بكلّ آية قرأَها ثواب مَن صلَّى بين الرّكن والمقام أَلفَ ركعة.(1/522)
بصيرة فى.. والليل اذا يغشى
السّورة مكِّيّة. وآياتها إِحدى وعشرون بلا خلاف. وكلماتها إِحدى وسبعون. وحروفها ثلاثمائة وعشر. فواصل آياتها على الأَلف. قيل لها سورة اللَّيل؛ لمفتتحها.
مقصود السّورة: القسم على تفاوتُ حال الخَلق فى الإِساءَة والإِحسان، وهدايتُهم إِلى شأْن القرآن، وترهيب بعض بالنار، وترغيبُ بعض بالجِنان والبدارُ إِلى الصّدقة كفارةً للذنوبِ والعصيان، ووعد برضى الرحمن المنَّان، فى قوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} .
السّورة محكمة.
ومن المتشابه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} وبعده: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أَى سنهيّئه للحالة اليسرى، والحالة العسرى. وقيل: الأُولى الجنَّة، والثانية النَّار، ولفظة: {سَنُيَسِّرُهُ} للإِزواج وجاءَ فى الخبر "كلٌّ ميّسر لما خُلِق له".(1/523)
فضل السّورة
فى حديث أُبىّ: من قرأَها أَعطاه الله الحُسْنى، ويرضى عنه، وعافاه من العسر، ويَسّر له اليسر، وحديث علىّ: يا علىّ من قرأَها أَعطاه الله ثواب القائمين، وله بكلّ آية قرأَها حاجة يقضيها.(1/524)
بصيرة فى.. والضحى
السّورة مكِّيّة. وآياتها إِحدى عشرة. وكلماتها أَربعون. وحروفها مائة واثنتان وسبعون. وفواصلها على (ثرا) . سمّيت (والضُّحى) ، لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: بيان ما للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: من الشرف والمنقَبَة، ووعده فى القيامة بالشفاعة، وذكر أَنواع الكرامة له، والمِنَّة، وصيانة الفقر واليُتْم من بين الحرمان والمذلَّة، والأَمر بشكر النِّعمة فى قوله، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} .
فضل السّورة
فيه الحديث الضعيف عن أُبىّ: مَن قرأَها كان فيمن أَوصى الله - تعالى - بأَن يشفع له، وعشر حسنات تكتب له بعدد كلّ يتيم وسائل؛ وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب النبيّين، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ المتصدّق.
من المتشابه:
{فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} كُرّر ثلاث مرّات؛ لأَنَّها وقعت فى مقابلة ثلاث آيات أَيضاً. وهى {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} واذكر يتمك {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} واذكر فقرك {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَْ} النبوّة والإِسلام {فَحَدِّثْ} واذكر ضلالك.(1/525)
بصيرة فى.. ألم نشرح
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثمانٍ. وكلماتها ستّ وعشرون. وحروفها مائة وخمسون. وفواصل آياتها (بكا) . وسمّيت لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: بيان شرح صدر المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورفعُ قدرِهِ وذكرِه، وتبديل العسر من أَمره بيسره، وأَمره بالطَّاعة فى انتظار أَجره، والرّغبة إِلى الله - تعالى - والإِقبال على ذكره فى قوله: {وإلى رَبِّكَ فارغب} .
السّورة محكمة.
المتشابه:
قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} ليس بتكرار؛ لأَنَّ المعنى: إِنَّ مع العسر الَّذى أَنت فيه من مقاساة الكفار يُسْراً عاجلاً، إِنَّ مع العسر الَّذى أَنت فيه من الكفار يُسْراً آجلاً، والعسر واحد واليسر اثنان. وعن عمر - رضى الله عنه - لن يغلِب عُسْر يُسْرَيْن.
فضل السّورة
فيه الحديثان الضَّعيفان: مَنْ قرأَها فكأَنَّما جاءَنى وأَنا مغتَمّ، ففَرّج عنى، وقال: يا علىُّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما أَشبع فقراءَ أُمَّتى، وله بكلّ آية قرأَها حُلَّةٌ يومَ الحَشْر.(1/526)
بصيرة فى.. والتين
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثمان. وكلماتها أَربع وثلاثون. وحروفها مائة وخمسون. وفواصل آياتها (من) . سمّيت لمفتتحها.
مقصود السّورة: القَسَم على حُسْنِ خِلْقة الإِنسان، ورجوع الكافر إِلى النيران، وإِكرام المؤمنين بأَعظم المَثُوبات الحِسَان، وبيان أَن الله حكيم وأَحكم فى قوله: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} .
المنسوخ فيها آية: {أَلَيْسَ الله} م آية السّيف ن.
المتشابهات:
قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، وقال فى البلد {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كَبَد} لا مناقضة بينهما؛ لأَنَّ معناه عند كثير من المفسّرين: منتصِب القامة معتدِلها، فيكون فى معنى أَحسن تقويم، ولمراعاة الفواصل فى السّورتين جاءَ على ما جاءَ.(1/527)
فضل السّورة
فيه حديثان ضعيفان: مَنْ قرأَها أَعطاه الله خَصْلَتَيْن: العافية واليقين ما دام فى دار الدّنيا، وأَعطاه الله من الأَجر بعدد من قرأَ هذه السّورة وصام سنة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَ {والتين والزيتون} فكأَنَّما تصدَّق بوزن جبل ذهباً فى سبيل الله، وكتب الله له بكل آية قرأَها ستين حسنة.(1/528)
بصيرة فى.. اقرأ باسم ربك
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثمان عشرة فى الشَّامى، وتسع عشرة فى العراقى، وعشرون فى الحجازى. وكلماتها اثنتان وتسعون. وحروفها مائتان وثمانون والمختلف فيها آيتان: (العلق) {عَلَّمَ بالقلم} .
معظم مقصود السّورة: ابتداءٌ فى جميع الأُمور باسم الخالق الربّ - تعالى - جلَّت عظمته، والمِنَّة على الخَلْق بتعليم الكتابة، والحكمة، والشكايةُ من أَهل الضَّلالة، وتهديد أَهل الكفر والمعصية، وتخويف الأَجانب بالعقوبة، وبشارة السّاجدين بالقُرْبة، فى قوله: {واسجد واقترب} .
السّورة محكمة.
المتشابهات:
قوله تعالى: {اقرأ باسم رَبِّكَ} وبعده: {اقرأ وَرَبِّكَ} وكذلك: {الذي خَلَقَ} وبعده: {خَلَقَ} ومثله {عَلَّمَ بالقلم} و {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} ؛ لأَنَّ قوله: {اقرأ} مطلق فقيّده بالثَّانى و {والذي خَلَقَ} عام، فخصّه بما بعده: و {عَلَّمَ} مبهم فقال: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} تفسيراً له.(1/529)
فضل السّورة:
فيه من الأَحاديث الواهية حديث أُبىّ: مَنْ قرأَ سورة (اقرأَ) فكأَنَّما قرأَ المُفَصَّلَ كلَّه، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب المجاهدين وله بكلّ آية قرأَها مدينةٌ، وله بكلّ حرف نورٌ على الصّراطِ.(1/530)
بصيرة فى.. انا أنزلناه
السّورة مكيّة عند بعض المفسّرين، مدنية عند الأَكثرين. آياتها ستّ فى عدّ الشام، وخمس عند الباقين؛ وكلماتها ثلاثون. وحروفها مائة واثنتا عشرة. المختلف فيها آية (القدر) الثالث. فواصل آياتها على الرّاءِ. سمّيت سورة القَدْر؛ لتكرُّر ذكره فيها.
معظم مقصود السورة: بيان شرف ليلة القدر فى نصِّ القرآن، ونزول الملائكة المقرّبين من عند الرحمن، واتصال سلامهم طوَال اللَّيل على أَهل الإِيمان، فى قوله: {حتى مَطْلَعِ الفجر} .
السّورة محكمة.
المتشابهات:
قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} (وبعده: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} ) ثم قال: {لَيْلَةُ القدر} فصرّح به، وكان حقّه الكناية؛ رفعاً لمنزلتها؛ فإِنَّ الاسم قد يُذكر بالصّريح فى موضع الكناية؛ تعظيماً وتخويفاً.
كما قال الشَّاعر:(1/531)
لا أَرى الموتَ يسبق الموتَ شىءٌ ... نغّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا
فصرّح باسم الموت ثلاث مرّات؛ تخويفًا. وهو من أَبيات كتاب سيبويه.
فضل السّورة
فيه أَحاديث ضعيفة: عن أُبىّ مَنْ قرأَها أُعطِىَ من الأَجر كمن صام رمضان، وأَحيا ليلة القدر. وقال جعفر: من قرأَها فى ليلة نادى منادِ: استأْنِفِ العمل فقد غفر الله لك، وقال: يا علىّ: من قرأَها فتح الله فى قبره بابين من الجنَّة، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ مَن صلَّى بين الرّكن والمقام أَلف ركعة.(1/532)
بصيرة فى.. لم يكن الذين كفروا
السّورة مكِّيّة. آياتها فى عدّ البصرى سبع، وعند الباقين ثمان. وكلماتها أَربع وسبعون. وحروفها ثلاثمائة وتسع وتسعون. المختلف فيها آية: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} . فواصل آياتها على الهاءِ. ولها اسمان: سورة المنفكِّين: لقوله: {والمشركين مُنفَكِّينَ} ، وسورة القيِّامة؛ لقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} .
معظم مقصود السّورة: بيان تمرّد أَهل الكتاب، والخبرُ من صحة أَحكام القرآن، وذكر وظيفة الخَلْق فى خدمة الرحمن، والإِشادة بخير البريّة من الإِنسان، وجزاء كلّ أَحد منهم بحسب الطَّاعة والعصيان، وبيان أَن موعود الخائفين من الله الرّضا والرضوان، فى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} .
السّورة (محكَّمة.
والمتشابه فيها إِعادة البينة، والبرية، وقد سبق) .
فضل السّورة:
صحّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلَّم أَنه قال لأُبىّ بن كعب: يا أُبىّ إِنَّ الله أَمرنى أَن أقرأَ عليك {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} قال أُبىّ: وسمَّانى؟!. قال:(1/533)
نعم، فبكى أُبىّ من الفرح. وفيها أَحاديث ضعيفة، منها: لو يعلم الناس ما فى {الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} لعطَّلوا الأَهل، والمال، وتعلَّموها. فقال رجل من خُزَاعة: ما فيها من الأَجر يا رسول الله؟ فقال: لا يقرؤها منافق أَبداً ولا عبدٌ فى قلبه شك فى الله، والله إِن الملائكة المقربين ليقرءونها منذ خلق الله السماوات [والأَرض] لا يَفْتُرون من قراءَتها. وما من عبدٍ يقرؤها بليل إِلا بعث الله ملائكة يحفظونه فى دينه ودنياه، ويَدْعون الله له بالمغفرةِ والرّحمة. فإِن قرأَها نهاراً أُعطِى من الثواب مثلَ ما أَضاءَ عليه النَّهار، وأَظلم عليه الليلُ، فقال رجل: زدنا من هذا الحديث، فذكر سُوَراً أُخرى قد بيّناها، وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَ (لم يكن) شهد له أَلف مَلَك بالجَنَّة، وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثوابِ رجل أَطعم أَلْف مَريض شهوتَهم.(1/534)
بصيرة فى.. اذا زلزلت
السّورة مَكِّيّة. آياتها ثمان فى عَدّ الكوفة، وتسع فى عدّ الباقين. وكلماتها خمس وثلاثون. وحروفها مائة وتسعَ عشرة. المختلف فيها آيةٌ {أَشْتَاتًا} فواصل آياتها (هما) على الميم آية {أَعمَالَهُمْ} . سمّيت سورة الزلزلة؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: بيان أَحوال القيامة وأَهوالها، وذكر جزاءِ الطَّاعة، وعقوبة المعصية، وذكر وزن الأَعمال فى ميزان العَدْل فى قوله: {فَمَنْ يَّعْمَل} إِلى آخره.
السّورة محكمة كلّها.
المتشابهات:
قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} وإِعادته مرّة أُخرى ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل متصل بقوله: {خَيْراً يَرَهُ} ، والثانى متصل بقوله: {وشَرّاً يَرَهُ} .
فضل السّورة
فيه أَحاديث ضعيفة. منها حديث أُبى: مَنْ قرأَها أَربع مرّات كان كمن قرأَ القرآن كله. وفى حديث صحيح أَنَّه قال صلَّى الله عليه وسلَّم {إِذَا(1/535)
زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن و {قُلْ ياأيها الكافرون} تعدل ربع القرآن. وفى حديث على المنكر: يا علىّ من قرأَها فله من الأَجر مثلُ أَجر داود، وكان فى الجنَّة رفيق داود، وفتح له بكلّ آية قرأَها فى قبره باب من الجنَّة.(1/536)
بصيرة فى.. والعاديات ضبحا
السّورة مكِّيّة. آياتها إِحدى عشرة. وكلماتها أَربعون. وحروفها مائة وستُّون. فواصل آياتها على (دار) . سمّيت سورة العاديات؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: بيان شرف الغُزاة فى سبيل الرحمن، وذكر كفران الإِنسان، والخبر عن اطلاع الملك الدّيّان، على الإِسرار والإِعلان، وذمّ محبّة ما هو فان، والخبر من إِحياءِ الأموات بالأَجساد والأَبدان، وأَنَّه - تعالى - خبير بما للخلق من الطَّاعة والعصيان.
السّورة محكمة:
متشابه سورة والعاديات
قوله: {والعاديات} : أَقسم بثلاثة أَشياء: العاديات والموريات والمغيرات، وجعل جواب القسم أَيضا ثلاثة أَشياء: إِن الإِنسان لربه لكنود، وإِنه على ذلك لشهيد وإِنه لحب الخير لشديد.(1/537)
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الضَّعيفة: مَنْ قرأَها أُعطى من الأَجر عشر حسنات، بعدد مَنْ يأْتى المزدلفة، ويشهد جَمْعاً وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما كسا كلّ يتيم فى أُمّتى، وأَعطاه الله بكلّ آية قرأَها حديقة فى الجنَّة.(1/538)
بصيرة فى.. القارعة
السّورة مكِّيّة. آياتها إِحدى عشرة فى عدّ الكوفة، وعشرة فى الحجاز، وثمان فى البصرة، والشَّام. وكلماتها ستّ وثلاثون. وحروفها مائة وخمسون فواصل آياتها (شثه) . سمّيت بالقارعة، لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: بيان هيبة العَرَصات، وتأْثيرها فى الجمادات والحيوانات، وذكر وَزن الحسنات والسّيئات، وشرح عيش أَهل الدرجات وبيان حال أَصحاب الدّركات فى قوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} .
المتشابهات:
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} ، ثمّ {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} جمع ميزان. وله كِفَّتان (و) عمود ولسان. وإِنَّما جمع لاختلاف الموزونات، وتجدّد الوزن، وكثرة الموزون، أَو جمع على أَنَّ كلّ جزءٍ منه بمنزلة ميزان والله أَعلم.
فضل السّورة
فيها أَحاديث واهية؛ منها حديث أُبىّ: مَنْ قرأَها ثقَّل الله بها ميزانه يوم القيامة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما ذَبَح أَلف بَدَنة بين الرّكن والمقام، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ المرابِطين، وبكلّ حرف درجة فى الجنَّة، وكُتِب عند الله من الخاشعين.(1/539)
بصيرة فى.. ألهاكم
السّورة مكِّيّة. وآياتها ثمان. وكلماتها ثمانية وعشرون. وحروفها مائة وعشرون. فواصل آياتها (نمر) . سمّيت سورة التكاثر لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: ذمّ المُقْبِلين على الدّنيا، والمفتخرين بالمال، وبيان أَنَّ عاقبة الكلّ الموت والزَّوال، (وأن) نصيب الغافلين العقوبة والنكال، وأَعدّ للمتمولين المذلَّة والسّؤال، والحساب والوبال، فى قوله: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} .
السّورة محكمة.
المتشابهات:
قوله: {كَلاَّ} فى المواضع الثلاثة فيه قولان. أَحدهما أَنَّ معناه: الرّدع والزجر عن التكاثر. فيحسن الوقف عليه والابتداءِ بما بعده، والثانى أَنه يجرى مجرى القَسَم. ومعناه: حقَّا.
قوله: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبعده: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكرار للتأْكيد عند بعضهم. وعند بعضهم: هما فى وقتين: فى القبر والقيامة. فلا يكون تكراراً. وكذلك قول من قال: الأَول للكفَّار، والثانى للمؤمنين.(1/540)
قوله: {لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} تأْكيد أَيضاً. وقيل: الأَوّل قبل الدّخول، والثانى بعد الدّخول. ولهذا قال بعده: {عَيْنَ اليقين} أَى عِيانًا، لستم عنها بغائبين. وقيل: الأَوّل من رؤية العَيْن، والثانى من رؤية القلب.
فضل السّورة
فيه أَحاديث ساقطة: من قرأَها لم يحاسبه الله بالنِّعم التى أَنعم عليه فى الدّنيا، وأُعطى من الأَجر كأَنَّما قرأَ أَلف آية، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما ذَبَح أَلف بَدَنة فيما بين الرّكن والمقام، وله بكلّ آية وحرف درجةٌ فى الجنَّة، وكُتب عند الله من الخاشعين، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ المرابطين.(1/541)
بصيرة فى.. والعصر
السّورة مكِّيّة. آياتها ثلاث. وكلماتها أَربع عشرة. وحروفها ثمانٍ وستون المختلف فيها آيتان: {والعصر} {بالحق} . وفواصلها على الرّاءِ. سمّيت بِوَ العصر؛ لمفتتحها.
مقصود السّورة: بيان خسران الكفَّار والفجّار، وذكر سعادة المؤمنين الأَبرار، وشرح حال المسلم الشكور الصبّار، فى قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} .
السّورة محكمة. وقيل: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} منسوخ بالاستثناءِ.
المتشابهات:
قوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} كرّر لاختلاف المفعولين، وهما {بالحق} و {بالصبر} وقيل: لاختلاف الفاعلين؛ فقد جاءَ مرفوعاً أَنَّ الإِنسان فى قوله: {والعصر} أَنَّه أَبو جهل {إِلاَّ الذين آمَنُواْ} أَبو بكر {وَعَمِلُواْ الصالحات} عُمَر {وَتَوَاصَوْاْ بالحق} عثمان {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} علىّ رضى الله عن الخلفاءِ (الأَربع) ولعن أَبا جهل.
فضل السّورة
فيه أَحاديث منكَرة: حديث أُبىّ: مَنْ قرأَها ختم الله له بالصّبر، وكان من أَصحاب الحقِّ يوم القيامة، وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما أَلجم أَلف فرس فى سبيل الله وأَعطاه الله بكلّ آية قرأَها تاجاً من الجوهر.(1/542)
بصيرة فى.. ويل لكل همزة
السّورة مكِّيّة. آياتها تسع إِجماعاً. وكلماتها ثلاث وثلاثون. وحروفها مائة وثلاثون. فواصل آياتها على الهاءِ. سمّيت سورة الهُمَزة، لمفتتحها، وسورة الحُطَمَة؛ لذكرها فيها.
معظم مقصود السّورة: عقوبة العَيّاب المغتاب، وذمّ جَمْع الدّنيا ومنعه وبيان صعوبة العقوبة فى قوله: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} .
السّورة محكمة.
ومن (المتشابه) : (الذى جمع) فيه اشتباه ويحسن الوقف على (لُمَزة) حيث لم يصلح أَن يكون (الذى) وصفا له، ولا بدلاً عنه. ويجوز أَن يكون رفعاً بالابتداءِ (يحسب) خبره، ويجوز أَن يرفع بالخبر أَى هو الذى جَمَع. ويجوز أَن يكون نصباً على الذمّ، بإِضمار أَعنى ويجوز أَن يكون جَرّا بالبدل من قوله: (كلّ) .
فضل السّورة
فيه أَحاديث ضعيفة. منها حديث أُبىّ: من قرأَها أُعطِى من الأَجر عشر حسنات بعدد من استهزأَ بمحمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأَصحابه، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما تصدّق بوزن جَبَل أُحُد ذهبا فى طاعة الله، وأَعطاه الله بكلّ آية قرأَها ستّمائة حسنة.(1/543)
بصيرة فى.. ألم تر كيف
السّورة مكِّية آياتها خمس إِجماعاً. وكلماتها ثلاث وعشرون. وحروفها ثلاث وتسعون. فواصل آياتها على اللاَّم. سمّيت سورة الفيل؛ لقوله: {بِأَصْحَابِ الفيل} .
معظم مقصود السّورة: بيان جزاءِ الأَجانب، ومكرهم، وردُّ كيدهم فى نحرهم، وتسليط أَنواع العقوبة على العصاة والمجرمين، وسوء عاقبتهم بعد حين فى قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} .
السّورة محكمة.
المتشابهات:
قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ} أَتى فى مواضع وهذا آخرها. ومفعولاه محذوفان و {كَيْفَ} مفعول {فَعَلَ} لا يعمل فيه ما قبله؛ لأَنه استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
فضل السّورة
فيه عن أُبىّ: مَنْ قرأَ سورة الفيل عافاه الله أَيّام حياته فى الدّنيا من القَذْف والمسْخ، وحديث علىّ: يا علىّ مَن قرأَها فكأَنَّما تصدّق بوزنه ذهبا، وله بكلّ آية قرأَها شربة يشربها إِذا خرج من قبره، وأَعطاه الله ثواب الصدّيقين.(1/544)
بصيرة فى.. لايلاف قريش
السّورة مَكِّيّة. آياتها خمس فى عدّ الحجاز، وأَربع فى عدّ الباقين. وكلماتها تسع عشرة. وحروفها ثلاث وسبعون. المختلف فيها آية: {مِنْ جُوْعٍ} فواصل آياتها (شَفَتْ) . سمّيت سورة قريش؛ لذكر أُلفتهم فيها.
معظم مقصود السّورة: ذكر المِنَّة على قريش، وتحضيضهم على العبادة، وشكر الإِحسان، ومعرفة قَدْر النِّعمة والعاقبة والأَمان، فى قوله: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} .
المتشابهات:
قوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ} كرّر؛ لأَنَّ الثَّانى بدل من الأَوّل أَفاد بيان المفعول، وهو {رِحْلَةَ الشتآء} . وعن الكسائى وغيره تَرْكُ التسمية بين السّورتين، على أَنَّ اللاَّم فى (لإِيلاف) متَّصل بآخر السّورة التى قبلها.
فضل السّورة
فيه من الأَحاديث الضعيفة: من قرأَها (أُعطى من الأَجر عشر حسنات بعدد مَنْ طاف بالكعبة واعتكف بها) ، وحديث على: يا علىّ من قرأَها فكأَنَّما قرأَ ثلث القرآن، وكتب الله له بكلّ آية مائة حسنة.(1/545)
بصيرة فى.. أرأيت
السّورة مكِّيّة. آياتها سبع فى عدّ العراقى، وستٌ عند الباقين. وكلماتها خمس وعشرون (وحروفها مائة وخمس وعشرون) . المختلف فيها آية {يُرَآءُونَ} فواصل آياتها على النون. سمّيت سورة الماعون، لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: الشكاية من الجافين على الأَيتام والمساكين، وذمّ المقصّرين والمُرَائين، وما نعى نفع المعونة عن الخيرات والمساكين، فى قوله: {وَيَمْنَعُونَ الماعون} .
السّورة محكمة.
المتشابهات:
قوله: {الذين هُمْ} كرّره ولم يقتصر على مرّة واحدة؛ لامتناع عطف الفعل على الاسم. ولم يقل: الَّذين هم يمنعون؛ لأَنَّه فعل، فحسن العطف على الفعل.
فضل السّورة
فيه حديثان ضعيفان: مَنْ قرأَها غفر الله له إِن كان للزَّكاة مؤدّيا، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها جعل الله قبره روضة من رياض الجنَّة، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ حِجّة وعمرة.(1/546)
بصيرة فى.. انا أعطيناك الكوثر
السّورة مكِّيّة. آياتها ثلاث بالإِجماع. وكلماتها عشر. وحروفها ثنتان وأَربعون. فواصل آياتها على الرّاءِ. سمّيت سورة الكوثر؛ لذكره فيها.
معظم مقصود السّورة: بيان المِنَّة على سيّد المرسلين، وأَمره بالصّلاة والقُرْبان، وإِخباره بإِهلاك أَعدائه أَهل الخيبة والخذلان.
المتشابهات:
قوله تعالى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} وبعده: {إِنَّ شَانِئَكَ} قيد الخبرين بإِنَّ، والخبر إذا قيّد بإِنَّ قارب الاسم.
فضل السّورة
فيه حديثان متروكان: مَنْ قرأَها سقاه الله من أَنهار الجنَّة، وأُعطى من الأَجر عشر حسنات بعدد كلّ قُرْبان قربه العِباد فى يوم عيد، ويقرّبون من أَهل الكتاب والمشركين، وحديث على: يا علىّ مَنْ قرأَ {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} أَعطاه الله ثواب حَمَلة القرآن، وله بكلّ آية قرأَها ثواب الذاكرين لله على كلّ حال.(1/547)
بصيرة فى.. قل يأيها الكافرون
السّورة مكِّيّة. آياتها ستّ بالإِجماع. وكلماتها ثمانٍ وعشرون. وحروفها أَربع وتسعون. فواصل آياتها على النّون. سمّيت سورة (الكافرون) ، لمفتتحها، وسورة الدّين، لقوله: {وَلِيَ دِينِ} . والمقشقشة. قال أَبو عبيدة: سورتان من القرآن يقال لهما المقشقِشتان: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} و {قُلْ ياأيها الكافرون} تقشقشان الذنوب كما يقشقش الهناءُ الجَرَب.
معظم مقصود السّورة: يأْس الكافرين من موافقة النبىّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالإِسلام والأَعمال، فى الماضى، والمستقبل، والحال، وبيان أَن كلّ أَحد مأْخوذ بمالَه عليه إِقبال، وعليه اشتغال.
المنسوخ منها {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} م آية السّيف ن.
من المتشابهات:
قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فى تكراره أَقوال خمسة، ومعانٍ كثيرة، ذكِرت فى التفاسير. وقال محمود بن حَمزة الكرمانىّ: هذا التكرار اختصار وإِيجاز، هو إِعجاز، لأَنه نفى عن نبيّه عبادة الأَصنام فى الماضى، والحال، والاستقبال، ونفى عن الكفار المذكورين عبادة الله فى الأَزمنة الثلاثة أَيضاً. فاقتضى القياس تكرار هذه اللفظة ستَّ مرّات فذكر لفظ الحال،(1/548)
لأَنَّ الحال هو الزَّمان الموجود. واسم الفاعل واقع موقع الحال، وهو صالح للأَزمنة. واقتصر من الماضى على المسند إِليهم، فقال: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} ولأَنَّ اسم الفاعل بمعنى الماضى فعل على مذهب الكوفيّين. فاقتصر من المستقبل على المسند إِليه فقال: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} وكان اسم الفاعلين بمعنى المستقبل. وهذا معجزة للقرآن وبرهان.
فضل السّورة
فيه أَحاديث: مَنْ قرأَها فكأَنَّما قرأَ ربع القرآن، وتباعدت منه مَرَدة الشَّياطين، وبرئ من الشرك وتعافى من الفزع الأَكبر. ويروى أَنًَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لرجل: اقرأْ عند لُبس ثيابك: {قُلْ ياأيها الكافرون} ؛ فإِنها براءَة من الشِّرك. وقد سمّاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مُقَشقِشةً أَى مُبرئة من النِّفاق. وفيه حديث علىّ الضعيف أَيضاً: يا علىّ مَنْ قرأَها أَنجاه الله من شدّة يوم القيامة، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ المستغفرين بالأَسحار.(1/549)
بصيرة فى.. اذا جاء
السّورة مدنيّة. وآياتها ثلاث. وكلماتها ستّ وعشرون. وحروفها أَربع وسبعون. فواصل آياتها على الحاءِ والأَلف. وليس فى القرآن آية على الحاءِ غير الفتح. سُمّيت سورة النَّصر؛ لقوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله} ، وسورة التَّوديع، لما فيه من بيان نعى المصطفى صلى الله عليه وسلَّم.
معظم مقصود السّورة: بيان نعيه، وذكر تمام نُصرة أَهل الإِسلام، ورغبة الخلق فى الإِقبال على دِين الهدى، وبيان وظيفة التسبيح والاستغفار، والأَمر بالتّوبة فى آخر الحال بقوله: {واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
السّورة محكمة.
وجواب إِذا مضمر تقديره: إِذا جاءَ نصر الله إِيّاك، على من ناواك، حضر أَجلك. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: لمّا نزلت هذه السّورة: نعى الله - تعالى - إِلىّ نفسى.
فضل السّورة
فيه أَحاديث واهية. منها حديث أُبىّ مَنْ قرأَها فكأَنَّما شهِد مع محمّد فتح مكَّة، وحديث علىّ: يا على مَنْ قرأَها أَنجاه الله من شِدّة يوم القيامة، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ المستغفرين بالأَسحار. يا علىّ مَنْ قرأَها كان(1/550)
فى الدّنيا فى حِرْز الله، وكان آمناً فى الآخرة من العذاب، وإِذا جاءَه مَلك الموت قال الله تعالى له: أَقْرِئ عبدى منى السّلام، وقل له: عليك السّلام. وله بكلّ آية قرأَها مثلُ ثواب مَن أَحسن إِلى ما ملكت يمينه.(1/551)
بصيرة فى.. تبت
السّورة مكِّيّة. وآياتها خمس بالإِجماع. وكلماتها ثلاث وعشرون. وحروفها سبع وسبعون. فواصل آياتها (دبّ) وتسمّى سورة تبّت، وسورة أَبى لَهَب، وسورة المَسد؛ لذكرها فيها.
مقصود السّورة: تهديد أَبى لَهَب على الجفاءِ والإِعراض، وضياع كَسْبه وأَمره، وبيان ابتلائه يوم القيامة، وذمّ زَوْجه فى إِيذاءِ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبيان ما هو مدّخَر لها من سوءِ العاقبة.
السّورة محكمة.
ومن المتشابه.
قوله تعالى: ( {تَبَّتْ} وبعده: {وَتَبّ} هذا ليس بتكرار؛ لأَنَّ الأَوّل جرى مجرى الدّعاءِ، والثَّانى خَبَر، أَى وقد تبّ. وقيل تبت يدا أَبى لهب أَعملُه، وتبّ أَبو لهب. وقال مجاهد: وتبّ ابنه (وتبّ ابنه) .
فضل السّورة
فيه حديثان ضعيفان: منْ قرأَها رجوت أَلا يجمع الله بينه وبين أَبى لهب فى دار واحدة، وحديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها أَعطاه الله ثواب الصّالحين، وله بكلّ آية قرأَها ثوابُ عِتق رقبة.(1/552)
بصيرة فى.. قل هو الله أحد
السّورة مكِّيّة. وآياتها خمس فى عدّ المكِّيّين، والشَّاميّين، وأَربع عند الباقين. وكلماتها إِحدى عشرة وحروفها سبع وأَربعون. المختلف فيها آية {لَمْ يَلِدْ} . فواصل آياتها على الدال. ولها عشرون اسماً: سورة التوحيد، وسورة التفريد، وسورة التجريد، وسورة الإِخلاص، وسورة النجاة، وسورة الولاية، السّابع نسبة الرّب، لقوله (لكل شىء نِسْبة ونسبة [الرّب] قل هو) . الثامن سورة المعرفة. التَّاسع سورة الجمال. العاشر المقشقشة. وقد سبق فى {قُلْ ياأيها الكافرون} الحادى عشرة: المعوّذة. الثَّانى عشر سورة الصّمد. الثَّالث عشر الأَساس. الرّابع عشر المانعة. الخامس عشر المُحْضِرة؛ لأَنَّ الملائكة تحضر لاستماعها من القارئ. السّادس عشر المنفِّرة، لأَنَّها تنفِّر الشَّيطان. السّابع عشر البراءَة، أَى من النّفاق. الثامن عشر المذكّرة. التَّاسع عشر الشافية. العشرون سورة النور؛ لما فى الخبر: إِنَّ لكلّ شىء نوراً، ونورُ القرآن {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} .
معظم مقصود السّورة: بيان الوحدانيّة، وذكر الصّمد، وتنزيه الحقّ من الولد والوالد والولادة، والبراءَة من الشركة والشريك فى المملكة.(1/553)
السّورة محكمة.
ومن المتشابه: قوله تعالى: {الله الصمد} كُرّر ليكون كلّ جملة بها مستقلَّة بذاتها، غير محتاجة إِلى ما قبلها. ثمّ نَفَى عنه سبحانه الولد بقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ، والصّاحبة بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
فضل السّورة
صحّ عن النبى صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: " {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} يعدل ثلث القرآن"، وصحّ أَنَّ بعض الصّحابة كان إِذا صَلَّى أَضاف {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إِلى السّورة الَّتى يقرؤها بعد الفاتحة، فسأَله النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن سبب ذلك فقال: إِنى أُحبّها يا رسول الله، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: حُبّك إِيّاها أَدخلك الجنَّة. وفيه من الضَّعيف حديث أُبىّ: مَنْ قرأَ هذه السّورة حين يدخل منزله نُفِى الفقرُ عن منزله. وقال: مَنْ قرأَها مرَّة بورِك عليه، ومَنْ قرأَها مرّتين بورك عليه وعلى أَهل بيته، ومن قرأَها ثلاثا بورك عليه وأَهله وماله، ومَنْ قرأَها اثنتى عشرة مرّة بُنى له بكلّ مرّة قصرٌ فى الجنَّة، ومَنْ قرأَها مائة مرّة كفِّر عنه ذنب خمس وعشرين سنة، ومَنْ قرأَها أَربعمائة مَرّة كُفِّر عنه جميع ذنوبه - ما خلا الدّماءَ والأَموال، ومَنْ قرأَها أَلف مرّة لم يمت حتى يَرَى مكانه فى الجنَّة.(1/554)
وقال جبريل: ما زلت خائفا على أُمّتك حتى نزلت {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فَأَمِنْتُ عليهم. وقال: رأَيتُ ليلة أُسْرِىَ بى ملائكة يبنون قصرًا فى الجَنَّة، فأَمسكوا عن البِناءِ، فقلت لماذا أَمسكتم؟ فقالوا نفِدتِ النفقة. فقلتُ وما النفقةُ؟ قالوا قراءَة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فإِذا أَمسكوا عن القراءَة أَمسكنا عن البناءِ. وفيه حديث علىّ: يا علىّ مَنْ قرأَها ضحك الله إِليه يوم يلقاه، ويُدخله الجنَّة آمِناً، وأَعطاه الله بكلّ آية قرأَها ثوابَ نبىٍّ.(1/555)
بصيرة فى قل أعوذ برب الفلق
السّورة مَدَنِيّة. وآياتها خمس بالإِجماع. وكلماتها ثلاث وعشرون. وحروفها أَربع وسبعون. وفواصل آياتها (دبق) . سمّيت سورة الفَلَق؛ لمفتتحها.
معظم مقصود السّورة: الاستعاذة من الشرور، ومن مخافة اللَّيل الدّيجور، ومن آفات الماكرين والحاسدين فى قوله: {إِذَا حَسَدَ} .
السورة محكمة.
ومن المتشابهات: قوله تعالى: {قُلْ} نزلت فى ابتداءِ خمس سُوَر، وصار مَتْلُوّا بها؛ لأَنَّها نزلت جواباً، وكَرّرَ قوله: {مِنْ شَرِّ} أَربع مرّات؛ لأَنَّ شرّ كلّ واحد منها غير شرّ الآخر.
فضل السّورة
فيه حديث عُقْبة أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "أَلاَّ أُخبرك بأَفضل ما تعوّذ به المتعوّذون؟ قال: قلت: بلى [قال] : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} . وقال يا عقبة أَلا أُعلمك سورتين هما أَفضل القرآن، أَو من أَفضل القرآن! قال قلت: بلى يا رسول الله [قال] : {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} وقال: فعلَّمنى المعوّذتين، ثمّ قرأَهما فى صلاة الغداة، وقال لى: اقرأْهما كلَّما قمت ونمت.(1/556)
بصيرة فى.. قبل أعوذ برب الناس
السّورة مَدَنِيّة. وآياتها سبع عند المكِّيّين، والشَّاميّين، وستّ عند الباقين. المختلف فيها آية: {مِن شَرِّ الوسواس} . وكلماتها عشرون. وحروفها تسع وسبعون. وفواصلها على السين. وسمّيت سورة النَّاس؛ لتكرّره فيها خمس مرّات.
معظم مقصود السّورة: الاعتصام بحفظ الحقِّ - تعالى - وحياطته، والحذر والاحتراز من وَسْواس الشيطان، ومِن تعدّى الجنّ والإِنسان، فى قوله: {مِنَ الجنة والناس} .
ومن المتشابه قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} ثمّ كرّر {الناس} خمس مرّات. قيل: كرّر تبجيلاً لهم على ما سبق. وقيل: كرّر لانفصال كلّ آية من الأُخرى بعدم حرف العطف. وقيل: المراد بالأَوّل الأَطفال ومعنى الرّبوبيّة يدلّ عليه، وبالثَّانى الشُّبّان ولفظ المُلْك يدلّ عليه؛ لأَنَّه مُنبئ عن السّياسة - وبالثالث الشيوخ - ولفظ (إله) المنبئ عن العبادة يدلّ عليه؛ وبالرابع الصّالحون والأَبرار - والشيطان مولع بإِغوائهم، وبالخامس المفسدون والأَشرار، وعَطْفه على المعوَّذ منهم يدل ّ عليه.(1/557)
بصيرة فى.. مجملات السورة
اعلم أَنَّ عدد سور القرآن - بالاتِّفاق - مائة وأَربعة عشر سورة. وأَمّا عدد الآيات فإِن صدر الأُمّة وأَئمة السّلف من العلماءِ والقراءِ كانوا ذوى عنايةٍ شديدة فى باب القرآن وعِلمه؛ حتى لم يبق لفظ ومعنى إِلاَّ بحثوا عنه، حتى الآيات والكلمات والحروف، فإِنهم حَصَروها وعدُّوها. وبين القرّاءِ فى ذلك اختلاف؛ لكنَّه لفظى لا حقيقىّ.
مثال ذلك أَنَّ قرّاءَ الكوفة عدُّوا قوله {والقرآن ذِي الذكر} آية، والباقون لم يعدّوها آية. وقراء الكوفة عدّوا {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ} آية والباقون لم يعدّوها، بل جعلوا آخر الآية {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ، و {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وهكذا عدّ أَهل مكَّة والمدينة والكوفة والشَّام آخر الآية {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ} ، وأَهل البصرة جعلوا آخرها {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} ولا شكَّ أَنَّ ما هذا سبيله اختلاف فى التَّسمية لا اختلاف فى القرآن.(1/558)
ومن هاهنا صار عند بعضهم آيات القرآن أَكثر، وعند بعضهم أَقلّ، لا أَن بعضهم يزيد فيه، وبعضهم ينقص، فإِنَّ الزّيادة والنّقصان فى القرآن كفر ونفاق؛ على أَنَّه غير مقدور للبشر؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
فإِذا علمت هذه القاعدة فى الآيات. فكذلك الأَمر فى الكلمات والحروف، فإِنَّ بعض القرّاءِ عدّ (فى السّماءِ) و (فى الأَرض) و (فى خَلْق) وأَمثالَها كلمتين، على أَنَّ (فى) كلمةٌ، و (السّماء) كلمة، وبعضهم عدّهما كلمة واحدةً فمن ذلك حصل الاختلاف؛ لأَنَّ مَن عدّ (فى السّماءِ) وأَمثَاله كلمتين كانت كلمات القرآن عنده أَكثر.
وأَما الحروف فإِن بعض القراءِ عدّ الحرف المشدّد حرفين، فيكون على هذا القرآن عنده أَكثر.
فإِذا فهِمت ذلك فاعلم أَنَّ عدد آيات القرآن عند أَهل الكوفة ستة آلاف ومائتان وستّ وثلاثون آية. هكذا مسند المشايخ من طريق الكسائى إِلى علىّ بن أَبى طالب. وقال سليم عن حمزة قال: هو عدد أَبى عبد الرّحمن السُّلَمى. ولا شكَّ فيه أَنَّه عن على، إِلا أَنى أجبُن عنه. وروى عبد الله بن وهب عن عبد الله بن مسعود أَنَّه قال: آيات القرآن ستَّة آلاف ومائتان وثمان عشرة آية. وحروفها ثلاثمائة أَلْف حرف وستمائة حرف وسبعون حرفاً، بكلّ حرف منها عشر حسنات لقارئ القرآن. وروينا عن الفضل بن عبد الحنَّان قال: سمعت أَبا معاذ النحوىّ يقول: القرآن ستَّة آلاف آية ومائتان(1/559)
وسبع عشرة آية. وهو ثلاثمائة أَلف حرف وأَحد وعشرون أَلفَ حرف ومائتان حرف. وقال: صاحب الإِيضاح: عدد آيات القرآن فى قول المدَنىّ الأَوّل ستَّة آلاف ومائتان (وأَربع عشرة آية، وهو أَحد وعشرون وأَلْف. وهو العدد الذى رواه أَهل الكوفة عن أَهل المدينة، قال: وفى قول المدنىّ الأَخير ستة آلاف ومائتان) وسبع عسرة آية. وهو عدد شَيْبة بن نِصَاح قال: وفى عدد يزيد بن القعقاع: ستَّة آلاف ومائتان وعشر آيات. قال: وعددها عند أَهل مكَّة ستة آلاف وعشر آيات. وفى بعض الرّوايات مائتان وخمس وفى بعضها مائتان وأَربع. وعند أَهل الشام ستة آلاف ومائتان وستّ (وعشرون آية. وروينا عن ابن عباس وابن سيرين أَنه ستة آلاف ومائتان وست) عشرة آية وعن عطاءِ بن يسارٍ أَنَّه ستَّة آلاف ومائة وتسعون وسبع آيات. وعن قتادة مائتان وثمان عشرة آية.
هذه جملة الاختلاف فى عدّ الآى.
قلت: ومن هذه الجملة أَلف آية وستمائة آية فى قِصَصِ الأَنبياءِ، وأَلف ومائتان فى شرائع الإِيمان، وأَلف وعشرون فى التوحيد والصّفات، وأَلْف فى ترتيب الولايات، وأَربعمائة فى الرُّقية وتعويذ الآفات، وأَربعمائة فى أَنواع المعاملات، ومائة فى عذر جُرْم العُصات، ومائة فى(1/560)
ضمان أَرزاق البرّيات، وسبعون فى جهاد الغزات، وخمسون فيما يتعلق بقصد مكّة وعرفات. والباقى فى أَحكام النكاح، وطلاق المنكوحات.
أَمّا عدد كلمات القرآن على سبيل الإِجمال.
اعلم أَنَّ كلمات القرآن مع أَوائل السّور - نحو حم والم - سبعون أَلفاً وسبعة آلاف وأَربعمائة وسبع وثلاثون كلمة. ورُوى عن عطاءِ بن يَسار أَنَّها سبعون أَلفًا وسبعة آلاف وأَربعمائة وسبع وثلاثون كلمة، ومائتان وسبع وسبعون.
وأَمّا عدد الحروف فإِنَّ جملتها ثلاثمائة أَلف وثلاث. وعشرون أَلفاً وستمائة وإِحدى وسبعون حرفاً. قال صاحب الإِيضاح: [أَخبرنى] بذلك أَبو الحسن بن الحسين إِجازةً، أَخبرنا عبد الرّحمن بن محمّد، أَنا ابن سلم، انا وكيع، حدّثنى الحسن بن عباس أَنا محمّد بن أَيوب، قال حَسَبُوا حروف القرآن وفيهم حُمَيد بن قيس فعرضوه على مجاهد وسعيد بن جُبَيْر، فلم يخطئوهم فبلغ ما عدّوه ثلاثمائة أَلفِ حرف وثلاثة وعشرين أَلف حرف وأَحد وسبعين حرفاً، وعدُّوا كِلم القرآن بما فيه من الحَرْف - يعنى الم وحم - فبلغ سبعاً وسبعين أَلف كلمة وأَربعمائة كلمة وسبعاً وثلاثين كلمة. قال: وأَخبرنا الحسن، أَنا أَبو الحسن، أَنا ابن سلم، أَنا وكيع، أَنا إِسماعيل بن مجمع، أَنا محمّد بن يحيى،(1/561)
أَنا عبد الملك بن عبد الرّحمن، حدّثنى أَيوب، وأَبو عكرمة، عن مرجّى، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، وراشد وغيرهما قالوا: قال لنا الحَجَّاج: عُدّوا لى حروف القرآن، ومعنا الحسن وأَبو العالية، ونصر بن عاصم فحَسَبْنَا بالشعير، وأَجمعنا على أَنَّه ثلاثمائة أَلف حرف وثلاثة وعشرون حرفاً. وفى رواية عطاء بن يَسَار: ثلاثمائة أَلف حرف وستّون أَلفًا وثلاثة وعشرون حرفًا. وكلماته سبع وسبعون أَلف كلمة ومائتان وسبع وسبعون كلمة. قال وكيع: قال: أَبو عُمَر حفص بن عُمَر: حدّثنى أَبو عمارة حمزة بن القاسم، عن حمزة الزَّيّات، وأَبى حفص الخراز، قالا: حروف القرآن ثلاثمائة أَلف حرف وثلاثة وسبعون أَلف حرف ومائتان وخمسون حرفاً. وقال وكيع: أَخبرنى الحارث بن محمّد، عن محمّد بن مسعود عن محمّد بن عمر، عن سُوَيد بن عبد العزيز، عن يحيى بن الحارث الذَمارى قال: عدد حروف القرآن ثلاثمائة أَلف حرف وأَحدٌ وعشرون أَلفَ حرف ومائتا حرف وخمسون حرفاً. قال: وكيع: وذكر ابن شمّاس عن أَبى عُمَرَ عن سهل ابن حمّاد، عن شهاب بن شرنُقة، عن راشد أَبى محمّد - وكان شهد الحجّاج حين ميّز القرآن قال: القرآن ستَّة آلاف ومائة وسبع وتسعون آية. وحروفه ثلاثمائة أَلف وأَحد وعشرون أَلف حرف ومائة وثمانية وثمانون حرفاً. وروى بسنده عن عبد الواحد الضَّرير. قال: القرآن ثلاثمائة أَلف حرف وأَحد وعشرون أَلف حرف ومائتان وخمسون حرفاً. وقال: القرآن ستَّة وسبعون أَلف كلمة.
وأَمّا نُقَطُةُ فجملة نُقط القرآن مائة أَلف وخمسون أَلفا وستَّة آلاف وإِحدى وثمانون نقطة.(1/562)
وجملة أَلِفات القرآن أَربعون أَلِفا وثمانية آلاف وثمانمائة أَلف.
وجملة الباءَات أَحد عشر أَلفاً ومائتان واثنان باء.
وجملة التَّاءَات عشرة آلاف ومائة وتسع وتسعون تاء.
وجملة الثاءَات (أَلف ومائتان وست وسبعون ثاء) .
وجملة الجيمات ثلاثة آلاف ومائتان وثلاث وسبعون جيماً.
وجملة الحاءَات ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعون حاءً.
وجملة الخاءَات أَلفان وأَربعمائة وستَّ عشرة خاءَ.
وجملة الدّالات خمسة آلاف وستمائة واثنان وأَربعون دالاً.
وجملة الذَّالات أَربعة آلاف وستمائة وتسع وتسعون ذالاً.
وجملة الرّاءَات إِحدى عشرة أَلفاً وسبعمائة وثلاث وتسعون راء.
وجملة الزّايات أَلف وخمسمائة وسبعون زاياً.
وجملة السّينات خمسة آلاف وثمان مائة وأَحَد وتسعون سيناً.
وجملة الشِّينات أَلفان ومائتان وثلاث وخمسون شيناً.
وجملة الصّادات أَلف وإِحدى وثمانون صاداً.
وجملة الضَّادات أَلفان ومائتان وثلاثمائة وتسع ضادات.
وجملة الطَّاءَات أَلفان ومائتان وأَربع وسبعون طاء.(1/563)
وجملة الظَّاءَات ثمانمائة واثنتان وأَربعون ظاء.
وجملة العَيْنات تسعة آلاف وعشرون عَيْناً.
وجملة الغَيْنَات أَلفان ومائتان وثمان غينات.
وجملة الفاءَات ثمانية آلاف وأَربع مائة وتسع وتسعون فاء.
وجملة القافات ستَّة آلاف وثمانمائة وثلاثة عشر قافاً.
وجملة الكافات عشرة آلاف وثلاثمائة وأَربع وخمسون كافاً.
وجملة اللاَّمات ثلاثون أَلفًا وثلاثة آلاف وخمسمائة واثنتان وعشرن لاماً.
وجملة الميمات عشرون أَلفاً وستَّة آلاف ومائة وخمس وعشرون ميماً.
وجملة النُّونات عشرون أَلفًا وستَّة آلاف وخمسمائة وخمس وعشرون نوناً.
وجملة الواوات عشرون أَلفًا وستَّة آلاف وخمسمائة وخمس وستُّون واوا.
وجملة الهاءَات تسعة عشر أَلفاً وسبعون هاء.
وجملة اللاءَات أَربعة آلاف وتسع وتسعون لاءً.
وجملة الياءَات عشرون أَلفاً وخمسة آلاف وتسعمائة وتسع ياءَات.
وأَمّا ما ينقله أَبو الفضائل المعينى فى تفسيره ففيه زيادة ونقص على هذا. فإِنَّه قال: جملة الأَلفات أَربعون أَلفًا وثمانية آلاف واثنان وتسعون أَلفًا والباءَات اثنا عشر أَلْفا وأَربعمائة وثمان وعشرون.(1/564)
والتاءَات أَلفان وأَربعمائة وأَربع.
والثاءَات أَلف ومائة وخمس.
والجيمات أَربعة آلاف وثلاثمائة واثنتان وعشرون.
والحاءَات أَربعة آلاف ومائة وثلاثون.
والخاءَات أَلفان وخمسمائة وخمس.
والدّالات خمسة آلاف وتسعمائة وثمان وسبعون.
والذَّالات أَربعة آلاف وتسعمائة وتسع وثلاثون.
والرّاءَات اثنتا عشرة أَلْفا ومائتا وستّ وأَربعون.
والزَّايات ثلاثة آلاف وستّ وثلاثون.
والسّينات خمسة آلاف وتسعمائة وستّ وتسعون.
والشِّينات أَلفان ومائة وإِحدى عشرة.
والصّادات أَلف وستّمائة واثنتان وسبعون.
والضّادات أَلفان وسبع وثلاثون.
والطّاءَات أَلفان ومائتان وأَربع وسبعون.
والظَّاءَات ثمانمائة واثنتان وأَربعون.
والعينات تسعة آلاف وأَربعمائة وسبعة عشر.
والغَيْنَات أَلف ومائتان وسبعة عشر.
والفاءَات ثمانية آلاف وأَربعمائة وتسعة عشر.
والقافات ستَّة آلاف ومائتان وثلاثة عشر.
والكافات عشرة آلاف وخمسمائة وثمان وعشرون.(1/565)
واللاَّمات ثلاثون أَلْفاً وثلاثة آلاف وخمسمائة واثنتا عشرة.
والميمات عشرون أَلفاً وستَّة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسون.
والنونات أَربعون أَلفاً وخمسة آلاف ومائة وتسعة.
والواوات عشرون أَلفاً وخمسة آلاف وخمسمائة وستّ وثمانون.
والهاءَات ستَّة عشر أَلفاً وسبعون.
واللاَّءَات أَربعة آلاف وتسعمائة وتسع.
والياءَات عشرون أَلفاً وخمسة آلاف وتسعمائة وتسعة عشر.
***
هذه سُوَر القرآن - بكمالها - مع ذكر موضوع النزول، وعدد الآيات، والحروف، والكلمات، والنِقاط، وما اشتملت عليه السّورة: من المقاصد، وما فيها من المنسوخ والناسخ، وما اختلف فيها من الآيات، وما ورد فى فضل السّورة.(1/566)
الباب الثاني - فى وجوه الكلمات المفتتحة بحرف الألف
بصيرة فى الألف
هى كلمة على وزن (فَعِل) ، مشتقة من الأُلْفة: ضدّ الوحشة. وقد أَلِفَهُ يَأْلَفُهُ - كعلمه يعلمه - إِلْفاً بالكسر. (وإِلافاً ككتاب) . وهو إِلْف ج آلاف. وهى إِلْفة ج إِلْفَات وأَوالف.
والإِيلاف فى سورة قُرَيْش: شِبْه الإِجازة بالخفارة. وتأْويله أَنَّهم كانوا سكَّان الحرم، آمنين فى امتيارِهم، شتاءً وصيفاً، والنَّاسُ يُتَخَطَّفون مِن حولهم. فإِذا عَرَض لهم عارض قالوا: نحن أَهل حرم الله، فلا يُتَعَرّض لهم. وقيل: اللاَّم لام التعجّب، أَى اعجبوا لإِيلاف قريش.
وأَلَّف بينهما تأْليفاً: أَوقع الأُلْفة. والمؤلَّفة قلوبُهم أَحد وثلاثون من سادات العرب، أُمر النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بتأَلُّفهم وإِعطائهم؛ ليرغِّبوا مَن وراءَهم فى الإِسلام. وتأَلَّف فلان فلانا أَى قاربه، ووصله، حتى يستميله إِليه. والإِلْف والأَليف بمعنى. وفى الحديث "المؤمن أَلوف مألوف" وفيه "للمنافقين علامات يعرفون بها: لا يشهدون المساجد(2/4)
إلاَّ هَجْراً، ولا يأتون الصّلاة إِلاَّ دَبْراً متكبرين متجبّرين لا يألفون ولا يؤلفون. جِيفة باللَّيل بُطَّال بالنّهار". وفى الصحيحين: "الأَرواح جنود مجنَّدة. فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". ويقال: النَّفْس عَزُوفٌ أَلُوفٌ.
واشتُقَّت الأَلِف من الأُلفة؛ لأَنها أَصل الحروف، وجملة الكلمات، واللغات متأَلِّفة منها. وفى الخبر: لمّا خلق الله القَلَم أَمره بالسّجود، فسجد على اللَّوح، فظهرت من سجدته نقطةٌ، فصارت النقطة همزة، فنظرت إِلى نفسها، فتصاغرت، وتحاقرت. فلمّا رأَى الله عزَّ وجلّ تواضعها، مدّها وطوّلها، وصيّرها مستوياً مقدّماً على الحروف، وجعلها مفتتح اسمه: الله، وبها انتظمت جميعُ اللغات، ثمّ جعل الْقَلَمُ يجرى، وينطق بحرفِ حرف إِلى تمام تسعة وعشرين، فتأَلَّفت منها الكلمات إِلى يوم القيامة.
والأَلْفُ من العدد سُمّى به، لكون الأَعداد فيه مؤتلفة؛ فإِنَّ الأَعداد أَربعة: آحاد، وعشرات، ومئات، وأُلوف. فإِذا بلغت الأَلْف فقد ائتلفت، وما بعده يكون مكرّراً.
والأَلِف فى القرآن ولغة العرب يرد على نحو من أَربعين وجهاً:(2/5)
الأَوّل حرف من حروف التهجّى، هَوَائِىّ. يظهر من الجَوْف، مخرج قريب من مخرج العين، والنّسبة أَلَفِىّ ويجمع أَلِفُون - على قياس صَلِفون، وأَلفات على قياس خَلِفات. والأَلِف الحقيقى هو الأَلِف السّاكنة فى مثل لا، وما، فإِذا تحرّكت صارت همزة. ويقال للهمزة أَلِف، توسُّعاً لا تحقيقاً. وقيل: الأَلِف حرف على قياس سائر الحروف، يكون متحركاً، ويكون ساكنا. فالمتحرك يُسَمّى همزة والساكن أَلِفاً.
الثاني: الأَلِف اسم للواحد فى حِساب الجُمّل؛ كما أَنَّ الباءَ اسم للاثنين.
الثالث أَلِف العَجْز والضَّرورة؛ فإِنَّ بعض النَّاس يقول للْعَيْن: أَيْن، وللعَيْب: أيْب.
الرّابع الأَلف المكرّرة فى مثل راَّب ترئيباً.
الخامس الأَلِف الأَصلىّ؛ نحو أَلِف أَمر، وقرأ، وسأَل.
السّادس أَلِف الوصل؛ كالَّذى فى ابن وابنة من الأَسماءِ، وكالَّذى فى: انصرُ واقطع من الأَفعال.
السّابع أَلف القَطع؛ نحو أَلف أَب، وأُمٍّ، وإِبل فى الأَسماءِ، وأَكرم، وأَعلم، فى الأَفعال. قال: تعالى {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} .(2/6)
الثَّامن أَلِف الفَصْل: تكون فاصلة بين واو الجماعة واو العطف؛ نحو آمنوا، وكفروا، وكذَّبوا.
التَّاسع أَلف الاستفهام نحو {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} {أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} .
العاشر أَلِف الترنُّم: وقولى إِن أَصبتِ لقد أَصابا.
الحادى عشر أَلِف نداءِ القريب: يا آدم، يا إِبراهيم، يا ربّ.
الثَّانى عشر أَلِف النُّدبة. ويكون فى حال الوصل مفردا، وفى حال الوقف مقترناً بهاءِ؛ نحو وايَدَاه، ويا زيدا رحمك الله.
الثالث عشر أَلف الإِخبار عن نفس المتكلِّم؛ نحو {أَعُوذُ بِاللهِ} {وَأَعْلَمُ مِنَ الله} .
الرّابع عشر أَلف الإِشباع موافقةً لفواصل الآيات، أَوْ لتقوافى الأَبيات. والآية نحو {فَأَضَلُّونَا السبيلا} {وَأَطَعْنَا الرسولا} . والشعر نحو:
وبَعْدَ غَد بما لا تَعْلَمِينَا(2/7)
ونحو:
فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
الخامس عشر أَلِف التأْنيث. ويكون مقصوراً؛ كحُبلى وبشرى، وممدوداً؛ كحمراء وخضراء.
السّادس عشر أَلف التثنية؛ نحو الزيدان فى الأَسماءِ، ويضربان فى الأَفعال؛ قال تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} .
السابع عشر أَلف الجمع {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} ، ونحو مسلمات، وقانتات.
الثامن عشر أَلِف التعجّب، {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} .
التاسع عشر أَلف الفَرْق. وذلك فى جماعة المؤنث المؤكَّدة بنون مشدّدةٍ؛ نحو: اضربنانِّ واقطعنانِّ.
العشرون أَلف الإِشارة: للحاضر، نحو هذا وهاتا وذا؛ وللغائب، نحو ذاك وذلك.
الحادى والعشرون أَلف العِوض فى ابن واسمٍ؛ فإِنَّ الأَصل بَنَو وسِمُوْ، فلمّا حُذِفَ الواو عُوّض بالأَلف.(2/8)
الثَّانى والعشرون أَلف البناءِ، نحو صباح ومصباح فى الأَسماءِ، وصالح فى الأَفعال.
الثالث والعشرون الأَلف المبدلة من ياءٍ أَو واو؛ نحو قال وكال، أَو مِن نون خفيفة؛ نحو {لَنَسْفَعاً} فى الوقف على لنسفعَنْ، أَو من حرف يكون فى مقدّمته حَرْف من جنسه؛ نحو تقضّى فى تقضَّض {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أَى مَن دَسّسها.
الرّابع والعشرون أَلف الزَّائدة. وهى إِمّا فى أَوّل الكلمة؛ نحو أَحمر وأَكرم؛ فإِنَّ الأَصل حَمِر وكَرُم، وإِمّا فى ثانيها؛ نحو سالم وعالم، وإِمّا فى ثالثها؛ نحو كتاب وعتاب، وإِمّا فى رابعها: نحو قِرْضاب، وشِمْلال، وإِمّا فى خامسها؛ نحو شَنْفَرَى، وإِمَّا فى سادسها؛ نحو قبعثرى.
الخامس والعشرون أَلف التَّعريف؛ نحو الرّجل، الغلام.
السّادس والعشرون أَلف تقرير النِّعم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً} {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} .
السّابع والعشرون أَلِف التحقيق. ويكون مقترناً بـ (ما) فى صدر الكلام، نحو أَمَا إِنَّ فلاناً كذا.(2/9)
الثامن والعشرون أَلِف التنبيه. ويكون مقترناً بـ (لا) {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} .
التَّاسع والعشرون أَلف التوبيخ {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} .
الثلاثون أَلف التعدية؛ نحو أَجلسه وأَقعده.
الحادى والثلاثون أَلف التّسوية {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} .
الثانى والثلاثون أَلف الإِعراب فى الأَسماءِ السّتّة حالَ النَّصب؛ نحو أَخاك وأَباك.
الثالث والثلاثون أَلف الإِيجاب {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} .
أَلستم خير مَنْ ركب المطايَا
الرّابع والثلاثون أَلف الإِفخام؛ نحو كَلْكال وعَقْراب فى تفخيم الكلكل والعقرب. قال الراجز:
نعوذ بالله من العَقْراب ... الشائلاتِ عُقَد الأَذناب
الخامس والثلاثون الأَلف الكافية. وهى الأَلف الَّذى يكتفى به عن الكلمة نحو الم.
السّادس والثلاثون أَلف الأَداة؛ نحو إِنْ وإِنَّ وأَنَّ.(2/10)
السابع والثلاثون الأَلف اللُّغوىّ. قال الخليل: الأَلِف: الرجل الفَرْدُ، قال الشاعر:
هنالك أَنت لا أَلِف مَهِينٌ ... كأَنَّك فى الوغى أَسَدٌ زَئِيرٌ
وقال صاحب العُبَاب: الأَلِف: الرّجل العَزَب.
الثامن والثلاثون الأَلِف المجهولة. وهو كلّ أَلِف لإِشباع الفتحة فى الاسم والفعل.
الأَربعون أَلِف التعايى بأَن يقول: إِن عمر ثم يُرتَج عليه فيقف قائلاً؛ إن عمرَا فيمدّها، منتظرا لما ينفتح له من الكلام.
وأُصول الأَلِفات ثلاث ويتبعها الباقيات: أَصلية، كأَلِف أَخذ؛ وقطعيّة. كأَحمد وأَحسن؛ ووصليّة، كاستخرج واستوفى.(2/11)
بصيرة فى.. الله
وهو اسم مختصّ بالبارئ تعالى. وهو اسم الله الأَعظم عند جماعة من عظماءِ الأُمّة، وأَعلام الأَئمة. وممّا يوضّح ذلك أَنَّ الاسم المقدّس يدلّ على الأَسماءِ الحسنى من وجوه كثيرة سنذكرها إِن شاءَ الله.
وللعلماءِ فى هذا الاسم الشريف أَقوال تقارِب ثلاثين قولاً. فقيل: معَرّب أَصله بالسّريانية (لاها) فحذفوا الأَلف، وأَتَوْا بأَلْ. ومنهم مَن أَمسك عن القول تورُّعاً، وقال: الذات، والأَسماءُ، والصّفات جلَّت عن الفهم والإِدراك.
وقال الجمهور: عربىّ. ثمّ قيل: صفة؛ لأَنَّ العَلَم كالإِشارة الممتنع وقوعها على الله تعالى. وأُجيب بأَنَّ العَلَم للتعيين، ولا يتضمّن إِشارة حسّيّة. وقال الأَكثرون: عَلَمٌ مرتجل غير مشتقّ. وعُزى للأَكثرين من الفقهاءِ، والأُصوليّين، وغيرهم. ومنهم الشافعى، والخَطَّابىّ، وإِمام الحرمين والإِمام الرّازىّ، والخليل بن أَحمد، وسيبويه. وهو اختيار مشايخنا.
والدّليل أَنَّه لو كان مشتَقّاً لكان معناه معنى كليّاً [لا] يمنع نفسُ مفهومه من وقوع الشركة؛ لأَنَّ لفظ المشتقّ لا يفيد إِلاَّ أَنَّه شئٌ مّا مبهَم حصل له ذلك المشتقّ منه؛ وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين. وحيث أَجمع العقلاءُ على أَنَّ قولنا: لا إِله إِلاَّ الله يوجب التَّوحيد المحْض(2/12)
علمنا أَنَّه عَلَم للذات، وأَنَّها ليست من المشتقَّات. وأَيضاً إذا أَردنا أَن نذكر ذاتاً، ثمّ نصفه بصفات، نذكره أَوّلا باسمه، ثمّ نصفه بصفات. نقول: زيدُ العالمُ الزَّاهدُ، قال تعالى: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} ولا يرد {العزيز الحميد * الله} لأَنَّ على قراءة الرّفع تُسقط السّؤال، وعلى قراءَة الجرّ هو نظير قولهم: الكتاب مِلْك للفقيه الصّالح زيد؛ ذكر (زيد) لإِزالة الاشتباه.
وقيل: بل هو مشتقّ، وعزاه الثَّعلبى لأَكثر العلماءِ. قال بعض مشايخنا: والحقّ أَنَّه قول كثير منهم، لا قول أَكثرهم. واستدلّ بقول رُؤبة:
لله دَرُّ الغانيات المُدّهِ ... سَبّحن واسترجعن من تأَلُّهى
فقد صرّح الشاعر بلفظ المصدر، وبقراءَة ابن عبّاس {وَيَذَرَكَ وَإِلِهَتَكَ} .
ثمّ قيل: مادّته (ل ى هـ) من لاه يليه إِذا ارتفع؛ لارتفاعه - تعالى - عن مشابهة المِثليّات. وقيل: مادّته (ل وهـ) من لاه يلوه إِذا احتجب؛ لاحتجابه - تعالى - عن العقول والعيون، أَو من لاه يلوه: اضطرب؛ لاضطراب العقول والأَفهام دون معرفة ذاته وصفاته، أَو من لاه البرقُ(2/13)
يَلُوه: إِذا لمَعَ وأَضاءَ؛ لإِضاءَة القلوب، ولمعانها بذكره - تعالى - ومعرفته، أَوْ: لاه الله الخلقَ يَلُوههم: أَى خَلَقَهم.
وقيل: مادّته (أَل هـ) من أَلِه إِليه يألَهَ كِسمع يسمع - إِذا فَزِعَ إِليه؛ لأَنَّه يُفزَع إِليه فى المهمّات. قال ابن إِسحاق، أَو من أَلِه: سكن لأَنه يَسكن إِليه القلوب والعقول؛ قال المبرّد، أَو من أَلِه يَأْلَهُ أَلَهاً - كفرح يفرح فرحا - إِذا تحيّر، قاله أَبو عمرو بن العلاءِ. ومعناه أَنَّه تَحَيّرُ العقول فى إِدارك كمال عظمته، وكُنْه جلال عزّته، أَو من أَلِهَ الفَصِيلُ إِذا أُولع بأمّه. وذلك لأَنَّ العباد مولَعون بالتضرّع إِليه فى كلّ حال، أَو من أَلَهَ يَأْلُهُ إِلهةً وتَأَلُّهاً كعَبد يعبُدُ عبادَةً وتَعَبُّداً زنةً ومعنى، قاله النَّضر بن شُمَيْل. والمعنى: المستحِقّ للعبادة، أَو المعنى: المعبود. فعلى الأَوّل يرجع لصفة الذَّات، وعلى الثَّانى لصفة الفعل، قاله الماوردىّ. وصحّح الأَوّل؛ لما يلزم على الثَّانى من تسمية الأَصنام آلِهة، لأَنَّها عُبِدت، هكذا قال، وفيه بحث. وهو أَن المراد بالمعبود المعبودُ بالحقّ أَيضاً.
وقيل: مادّته (وَلَ هـ) من وَلِهَ من قوله: طرِب أُبدلت الهمزة من الواو؛ كما قالوا فى وِشاح. وسُمّى بذلك لطرب العقول والقلوب عند ذكره. وحُكى ذلك عن الخليل، وضعّف بلزوم البدل، وقولِهم: آلِهة. ولو كان كما ذكر لقيل أَوْلهة كأَوشحة. ويجوز أَن يجاب بأَنّه لمّا أَبدلت الهمزة (من الواو فى تمام التصاريف حيث قالوا أَلِهَ أَلَها صارت الهمزة) المبرزة(2/14)
كالأَصلية. فخالف ما نحن فيه إِشاح، فإِنَّها ليست أَصلاً، ولا شبيهة به. قال اللَّغويّون - ومنهم أَبو نصر الجوهرى - أَلِه يأْلَه أَلَها، وأَصله: وَلِه يَوْله وَلَها.
وحاصل ما ذكر فى لفظ الجلالة على تقدير الاشتقاق قولان.
أَحدهما: لاَهٌ. ونُقل أَصل هذا عن أَهل البصرة. وعليه أَنشدوا:
بحَلْفة من أَبى رِيَاح ... يسمعه لاهُهُ الكُبَار
والثَّانى: إِلاَه. ونقل عن أَهل الكوفة. قال ابن مالك: وعليه الأَكثرون، ونقل الثعلبى القولين عن الخليل، ونقلهما الواحدىّ عن سيبويه.
ووزنه على الأَوّل فَعَل، أَو فَعِل، قلبت الواو والياءُ أَلِفاً، لتحرّكها وانفتاح ما قبلها؛ وأُدخلت أَلْ، وأُدغمت اللاَّم فى اللاَّم، ولزمت أَل، وهى زائدة؛ إِذ لم تفد معرفةً؛ فتعرُّفُه بالعلميّة. وشذّ حذفها فى قولهم: لاهِ أَبوك، أَى لله؛ كما حذفت الأَلف فى قوله:
أَقْبلَ سيلٌ جاءَ مِنْ عِنْدِ اللهْ
وقيل: المحذوف فى (لاه) اللاَّم الَّتى من نفس الكلمة. وقال سيبويه فى باب الإِضافة: حذفوا اللامين من لاه أَبوك. حذفوا لام الإِضافة(2/15)
ثمّ حذفوا اللام الأُخرى؛ ليُخَفِّفوا على اللِّسان. وقال فى باب كم: وزعم الخليل أَن قولهم لاهِ أَبوك، ولقيته أَمسِ، إِنَّما هو على: لله أَبوك ولقيته بالأَمس؛ ولكنهم حذفوا الجارّ والأَلف واللام: تخفيفاً على اللسان. وظاهر هذا الكلام يوافق القول الأَوّل.
ووزن أَصل لفظ الجلالة على الثانى - أَعنى قول الكوفيّين - فِعال، ومعناه مفعول؛ كالكتاب بمعنى المكتوب؛ ثم قيل أُدخلت أَلْ على لفظ إِلاه، فصار الإِْلاه، ثمّ نقلت حركة الهمزة إِلى لام التعريف، وحذفت الهمزة فصار أَلِلاَه، ثمّ أُدغم فصار أَلله، وقيل: حُذِفت الهمزة ابتداءً، كقولهم فى أُناس: ناس، ثم جئَ بأَل عوضاً عنها، ثمّ أُدغم. ولم يذكر الزّمخشرى فى الكشَّاف غيره. وهو محكىّ عن الخليل.
وأَل فى الله إِذا قلنا: أَصله أَلِلاَه قالوا للغلبة. قرّروه بأَنَّ (إِلاه) يطلق على المعبود بالحقّ والباطل، والله مختصّ بالمعبود بالحقّ، فهو كالنَّجم للثُريّا. ورُدّ بأَنه بعد الحذف والنَّقل لم يُطْلق على كلّ إِله، ثمّ غلب على المعبود بالحقّ. وقد ينفصل عنه بأَنَّ القائل بهذا أَطلق عليها ذلك؛ تجوّزاً باعتبار ما كان؛ لأَن اللفظة منقولة من أَلِلاَه وأَل فى أَلِلاَه للغلبة. فهى فى لفظ الله على هذا مثلُها فى عَلَم منقول من اسمٍ أَل فيه للغلبة. ولكن فيه نظر من جهة أَنَّ النَّقل يتعيّن كونُه ممَّا أَلْ فيه للغلبة: لأَنَّ (أَلِلاَه) من أَسماءِ الأَجناس.(2/16)
فإِن قيل: المحكىُّ عن الخليل - كما ذكر الثَّعلبىّ - أَن غيره تعالى يطلق عليه (إِله) منكَّرا ومضافاً؛ كقوله تعالى: {اجعل لَّنَآ إلاها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قيل: المراد من هذه أَنَّه صار بالغلبة مختصّاً به تعالى.
وقد أَوضح هذا الزمخشرىّ فقال: والإِلاه من أَسماءِ الأَجناس؛ كالرّجل: يقع على كلّ معبود بحقّ أَو باطل، ثم غلب على المعبود بالحقِّ. وأَمّا الله فمختصّ بالمعبود بالحقّ لم يطلق على غيره. انتهى.
وما اختاره القاضى أَبو بكر بن العربى والسّهيلى: من أَنَّ أَلْ فى الله من نَفْس الكلمة إِذا أُخِذ بظاهره ضعيف؛ إِذ وزنه على هذا فَعَّال، فلا مانع من تنوينه حينئذ. وقال شيخى سراج الدّين رحِمه الله فى الكَشْف: حُذِفت الهمزة من الإِلاه حَذْفاً ابتدائِيّاً من غير قياس. والدّليل عليه لزوم الإِدغام، وقولُهم: لاهِ أَبوك. وقيل: الحذف على قياس التخفيف بنقل حركة الهمزة إِلى اللاَّم، ثمّ حذفِها: كما تقدّم؛ لكن لزوم الحذف والتعويض بحرف التعريف مع وجوب الإِدغام مِن خواصّ هذا الاسم؛ ولكونه أَعرف المعارف لا يمكن فى مدلوله الشركةُ بوجه فيستغنى عن التعريف اللاَّمى جعلت لمحض التَّعويض، لتأكيد الاختصاص. وجَوّزوا نداءَه مع اللاَّم العِوضيّة وأَنَّها بمنزلة الهمزة المحذوفة. ولم يجوّزوا فى مثل يا الذى والصّعِق لعدم إِجرائها مُجْرى الأَصليّة، وإن كانت أَلْ فيها جُزْءًا مضمحِلاًّ(2/17)
عنها معنى التعريف، لأَن رعاية الأَصل واجبة ما لم يعارضه موجِب؛ كالتَّعويض فيما نحن فيه.
وأَمّا قطع الهمزة عند القائل بأَنَّ المجموع حرف التعريف، وخُفِّفَتْ وَصْلاً للكثرة فظاهر؛ لأَنَّ ذلك فى لام التعريف، وهذا لا يستمرّ به التخفيف. وعند القائل بأَنَّ اللاَّم وحدها له فلإِنَّه يقول: لمّا كانت اللاَّمُ السّاكنة بدلاً عن حرف وحركتها، كان للهمزة المجتلَبة للنطق بالسّاكنة المعاقِبة للحركة مَدْخَل فى التَّعويض، فلذلك قُطع. والاختصاصُ بحال النِّداءِ فى القولين لأَنَّ التّعويض متحقِّق من كل وجه، للاستغناءِ بالتَّعريف الندائى لو فُرض تعريف مّا باللاَّم. ولوحظ باعتبار الأَصل. وأَيضاً لمّا خولف الأَصلُ فى تجويز الجمع بينهما قطع الهمزة للإِشعار من أَوّل الأَمر بمخالفة هذه اللاَّم لام التَّعريف. ولهذا لم يقطع فى غيره، أَما قول الشَّاعر:
من اجلكِ يا الَّتى تَيَّمت قلبى ... وأَنتِ بخيلة بالوصل عنى
فشاذّ.
وأَطبقوا على أَنَّ اللاَّم فى الله لا تفَخَّم بعد كسرة بسم الله، والحمد لله؛ لأَنَّ الكسرة توجب السُّفل، واللاَّم المفخَّمة حرف صاعد، والانتقال من السُّفْل إِلى التصعّد ثقيل. وأَطبقوا على التفخيم فى غير ذلك. وقال الزنجانى فى تفسيره: تفخيم اللاَّم فيما انفتح ما قبله أَو انضمّ سُنَّة. وقيل: مطلقاً. وأَبو حنيفة - رحمه الله - على الترقيق. وقول الثعلبىّ: غلَّظ بعضُ القرّاءِ اللام حتى طبقوا اللِّسان بالحَنَك، لعلَّه يريد به التغليظ على الوجه المذكور.(2/18)
وإِنَّما فخَّموا فيه؛ تعظيماً وتفرقةً بينه وبين اللاَّت. وقَوْل الإِمام فخر الدّين: اختُلِف هل اللاَّمُ المغلَّظة من اللغات الفصيحة أَم لا، لا يظهر له أَثر ههنا؛ لإِطباق العرب على التَّغليظ؛ كما قدّمناه.
وكتبوا (الله) بلامين، والَّذى والَّتى بواحدة، قيل: تفرقةً بين المعرب والمبنىّ. ويُشكِل بأَنَّهم قالوا الأَجود كَتْب اللَّيل واللَّيلة بلام واحدة. وقيل: لئلا يلتبس بلفظ إِله خطّاً.
وحذفوا الأَلِف الأَخيرة خَطًّا؛ (لئلا يشكل) باللاه اسمَ فاعل من لها يَلْهُو، وقيل [تحذف الأَلف] تخفيفاً. وقيل: هى لغة فى الممدودة - وممّن حكاه أَبو القاسم الزّجاجىّ - فاستُعملت خَطّاً. ومنها قول الشاعر:
أَقبل سيل جاءَ من عندِ الله ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغلَّهْ
وقوله:
أَلا لا بارك الله فى سهيل
والمشهور أَنَّه من باب الضرورة.
وقول الزمخشرى: ومن هذا الاسم اشتقَّ تأَلَّه واستَأْله، غيرُ سديد؛ لأَنَّ لفظ الإِلاه مشتق، وله أَصل عند الزَّمخشرى، وعلى زعمه، فكيف يكون الأَفعال المجرّدة والمزيدة مشتقَّة منه، بل يكون الأَفعال مشتقَّة من المصادر، كما هو رأى البصريّين، وبالعكس كما هو رأْى الكوفيّين.(2/19)
وأَمّا كون الأَفعال مشتقَّة من الأَسماءِ المشتقة فلم يذهب إِليه ذاهب. والتشبيه باستَنْوق واستحجر أَيضاً محلّ نظر، وذلك أَنَّ النَّاقة والحجر ليسا من المشتقَّات التى يمكن أَخذ الأَفعال من أُصولها بخلاف الإِلآه.
ولهذا الاسم خصائص كثيرة:
1- أَنَّه يقوم مقامَ جملةِ أَسماءِ الحقّ - تعالى - وصفاته.
2- أَنَّ جملة الأَسماءِ فى المعنى راجعة إِليه.
3- تغليظ لامه كما سبق.
4- الابتداء به فى جميع الأُمور بمثل قولك: بسم الله.
5- ختم المناشير والتواقيع فى قولك: حسبى الله.
6- ختم الأُمور والأَحوال به {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ} .
7- تعليق توحيد الحَقّ - تعالى - به فى قول لا إِله إِلا الله.
8- تأكيد رسالة الرّسول به فى قولك: محمّد رسول الله.
9- تزيين حَجّ الحُجّاج به فى قولهم: لبّيك اللهم لبّيك.
10- انتظام غزو الغُزاة به فى قولك: الله أَكبر الله أَكبر.
11- افتتاح الصّلاة واختتامها به فى قولك: الله أَكبر، وآخراً: ورحمة الله.(2/20)
12- به يُفتتح دعاء الدّاعين: اللَّهم اغفر، اللَّهمّ ارحم.
13- لا (ينتقِص معناه بنقص) حروفه.
ولا شئَ من الأَسماءِ يتكرّر فى القرآن المجيد وفى جميع الكتب تكرّرَه. أَمّا فى نصّ القرآن فمذكور فى أَلفين وخمسمائة وبضع وستِّين موضعاً. وأَكثر الأَسماء. والصفات، والأَفعال الإِلهية، وأَحوال الخَلْق مرتبطة به.
1- الأَحَديّة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} .
2- الصّمدية: {اللهُ الصَّمَدُ} .
3- القُدْرة: {واللهُ قَدِيرٌ} .
4- العِزَّة: {والله عزيز} .
5- الغنى: {الله الغنىّ} .
6- اللَّطيف: {اللهُ لَطِيفٌ} .
7- الرّبوبيّة: {اللهُ رَبُّكُم} .
8- علم الأَسرار: {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} .
9- الاطلاع على الفساد والصّلاح: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} .
10- الوقوف على الأَعمال والأَحوال: {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} .
11- الحمد والثناءُ: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} .(2/21)
12- التسبيح والتقديس: {سُبْحَان اللهِ} .
13- الفَضْل {قُلْ بِفَضْلِ الله} .
14- الغَلَبة على الأَعداءِ: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} .
15- قهر الجَبّارين: {هُوَ الله الواحد القهار} .
16- ابتداءُ الخَلْق: {الله يَبْدَأُ الخلق} .
17- تخصيص ذكر السّماءِ: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات} .
18- تخصيص ذكر الأَرض: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً} .
19- تسخير الله البحر: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} .
20- المِنَّة على الخَلْق بالرّياح: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} .
21- المطر والثلج والبَرَد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} .
22- رزق العباد: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} .
23- هداية الموحّدين: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا} .
24- المِنَّة علينا بالهداية إِلى الإيمان: {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ} .
25- المِنَّة على المؤمنين بسيّد المرسلين: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} .
26- حفظ العباد من الآفات: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} .(2/22)
27- نصْرة الغُزَاة: {إِن يَنصُرْكُمُ الله} .
28- كفاية أَمر العباد: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} .
29- المِنَّة بجميع النِّعم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} .
30- الأَمر بالشكر وذكر النعمة: {واشكروا للَّهِ} : {واذكروا نِعْمَتَ الله} .
31- الأَمر بدوام الذكر: {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} .
32- تحبيب الإِيمان إِلى المؤمنين: {ولاكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} .
33- اتِّصال التّراب من قبضة المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم إِلى أَعين الكفار: {ولاكن الله رمى} .
34- وضع تاج الاجتباءِ على رءُوس الأَنبياءِ: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} .
35- تسليط الرّسل على الأَعداءِ: {ولاكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ} .
36- التأليف بين قلوب العارفين: {ولاكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} .
37- ذكر الشَّهادة: {شَهِدَ الله} {لاكن الله يَشْهَدُ} .
38- قتل المتمرّدين: {ولاكن الله قَتَلَهُمْ} .(2/23)
39- شَرْح صدر المسلمين: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} .
40- الدّعوة إِلى دار السّلام: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} .
41- الدّعوة إِلى الجنَّة: {والله يدعوا إِلَى الجنة} .
42- إِضافة المُلْك: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} .
43- الإِنجاء من الهلكة: {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا} .
44- الإِشراف على علم الغيب: {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} .
45- خزائن النعمة فى عالم الحكمة: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات} .
46- كمال السّمع: {إِنَّ الله سميعٌ} .
47- كمال البصر: {واللهُ بَصِيرٌ بما يَعْمَلُونَ} .
48- ذكر الرّحمة: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} .
49- ذكر المغفرة: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} .
50- إِنزال القرآن: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق} .
51- اصطفاء الرّسل السّماويَّة: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً} .
52- اصطفاء آدم ونوح: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً} .
53- عِصْمة خاتَم الأَنبياءِ: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} .(2/24)
54- بسط الرّزق: {الله يَبْسُطُ الرزق} .
55- الجمع بين القبض والبسط: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} .
56- خلق الإِنسان من عين الضعف: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} .
57- خلق المخلوقات: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
58- الأَمر بالتَّوحيد والإِيمان: {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} .
59- اللُّطف بالعباد: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} .
60- الأَمر بالخدمة والطاعة: {وَأَطِيعُواْ الله} ، {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} .
61- الأَمر بالتَّقوى: {يأَيُّها الَّذين آمَنوا اتَّقوا اللهَ} .
62- الأَمر بعبادة المعبود: {واعبدوا الله} .
63- الأَمر بالتوكُّل: {وَعَلَى الله فتوكلوا} .
64- الأَمر بالاستغفار: {واستغفروا الله} .
65- الأَمر بالفرار إِلى حضرة الْمَوْلَى: {ففروا إِلَى الله} .
66- الأَمر بالجهاد: {وَجَاهِدُوا فِي الله} .
67- الأَمر بالوفاءِ: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله}(2/25)
68- الإِخلاص فى الدّين: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} .
69- الإِخبار عن تسبيح الموجودات: {سَبَّحَ للهِ} ، {يُسَبِّح للهِ} .
70- سجدة السّاجدين: {وَللَّهِ يَسْجُدُ} ، {واسجدوا لِلَّهِ} .
71- تفاوُت حال الخلائق: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله} .
72- الهداية إِلى نور الله: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ} .
73- تنوير العالم: {الله نُورُ السماوات} .
74- الشفاعة بأَمره: {قُل لِلَّهِ الشفاعة} .
75- الصّلاة على الرّسول: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} .
76- وعد القبول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} .
77- رؤية الأَعمال: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} .
78- قبض الأَرواح: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} .
79- جَمْع الرّسل فى القيامة: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} .
80- إِضافة الحُكْم إِليه: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} .
81- الأَمر يرجع إِليه: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
82- ذكر التثبيت: {يُثَبِّتُ الله} .(2/26)
83- ذكر البركة: {فَتَبَارَكَ الله} .
84- سرعة الحساب: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} .
85- شديد العقاب: {إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} .
86- صعوبة العذاب: {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} .
87- وعد الأَجر والثواب: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ} .
88- جزاءُ أَهل الصّدق: {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين} .
89- الثناء عليهم: {قَالَ الله هاذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} .
90- علم القيامة: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} .
91- مَحْق الربا: {يَمْحَقُ الله الربا} .
92- صنع اللطيف: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} .
93- علامة الإِيمان: {صِبْغَةَ الله} .
94- الفطرة الأُولى: {فِطْرَتَ الله} .
95- عطاءَ المُلْك: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ} .
96- اختصاص النبوّة: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} .
97- تخليق الليل والنّهار: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} .(2/27)
98- وعد اليسر والسّهولة: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} .
99- بيان حكم الشريعة: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} .
100- إرادة التخفيف: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} .
101- نفى الحَرَج فى العبوديّة: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} .
102- عَقْد عَلَم الولاية لنا: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} .
103- فَلْق الحبّ: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} .
104- شرى المؤمنين عناية بهم: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ} .
105- دفع العذاب حماية لهم: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} . {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس} .
106- رفع الدّرجة والمنزلة: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ} .
107- إِنفاذ القضاءِ والمشيئة: {لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} .
108- الوعد السّالم من الخُلْف: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} .
109- الدّعوة إِلى الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} .
110- ثواب الجنَّة: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} .
111- طلب العَوْن والنُصْرة: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} .(2/28)
112- وعد الرضا فى العاقبة: {لَّقَدْ رَضِيَ الله} .
113- توفيق الطَّاعة: {وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله} .
114- ضمان الأَجر على الشهادة: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} .
115- قبول التوبة من الزَّلَّة: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} .
116- حوالة الحكم إِلى الحضرة: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} .
117- المرجع بعد الموت إِليه: {ثُمَّ ردوا إلى الله} .
118- طلب العدل والحقّ من كتاب الله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله} .
119- حوالة النِّعمة، والرّأفة، والرّحمة: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} .
120- حصر الخالِقِيّة: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} .
121- الكلّ منه، وبه، وإِليه، أَوّلاً وآخِراً، دنيا وعُقْبى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} .
122- ابتداء القرآن: {بِسْمِ الله} .
123- ختمه: {قُلْ هُوَ الله} .(2/29)
هذه مائة وعشرون ونيف خَصْلة، بعضها فى صفات الربوبيّة، وبعضها فى خصال العبوديّة، وبعضها قهر أَهل الضلال، وبعضها ملاطفة أَهل الكمال، وبعضها تفصيل الأَحوال المنسوبة إِلى حضرة الجلال، ولله الآخرة والأُولى، يشهد على ذلك بلسان الحال والقال.(2/30)
بصيرة فى الانسان
وهو اسم على وزن فِعلان. وجمعه من حيث اللفظ أَناسِين؛ كسِرحان وسراحين، غير أَنَّ الجمع الأَصلىّ غير مستعمل. وجمعه المعروف ناس وأُناس وأَنَس وآنُس. والإِنس جمع جنس. وفى الأَناسىّ خلاف: فقيل: جمع إِنسِىّ؛ ككُرسىّ وكراسىّ. وقيل: الإِنْس جمع إِنسىّ؛ كروم ورومىّ وزَنْج وزَنْجىّ. وقيل: الأَناسِىّ جمع إِنسان، وأَصله أَناسين، حذفوا نونه، وعَوّضوا عنه ياءً؛ اجتمع ياءَان فأَدغموا، فصار، أَناسىّ. والناس تخفيف الأُناس، حذفوا الهمزة طلبا للخفَّة. والأَنيس أَيضا بمعنى الإِنسان.
سمّى به؛ لأَنَّه يأَنس ويؤنس به. وقيل: للإِنسان أُنْسانِ: أُنس بالحقِّ وأُنس بالخَلْق. فروحه تأَنس بالحق، وجسمه يأنس بالخَلْق. وقيل: لأَنَّ أُنْساً بالعقبى، وأُنْساً بالدّنيا. وإِلى هذا المعنى أَشار القائل:
ولقد جعلتك فى الفؤاد محدّثى ... وأَبحتُ منى ظاهرى لجليسى
فالجسم منى للجليس مؤانِس ... وحبيب قلبى فى الفؤاد أَنيسى(2/31)
ويقال: إِنَّ اشتقاق الإِنسان من الإِيناس. وهو الإِبصار والعلم والإِحساس لوقوفه على الأَشياءِ بطريق العلم، ووصوله إِليها بواسطة الرُّؤية، وإِدراكه لها بوسيلة الحواسّ. وقيل: اشتقاقه من النَوْس بمعنى التَّحرك؛ سمّى لتحرّكه فى الأُمور العظام، وتصرُّفه فى الأَحوال المختلفة، وأَنواع المصالح وقيل: أَصل النَّاس النَّاسى. قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} بالرّفع وبالجرّ. والجرّ إشارة إِلى أَصله: إِشارة إلى عَهد آدم، حيث قال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} ، وقال الشاعر:
وسمّيت إِنساناً لأَنَّك ناسى
وقال الآخر:
فاغفر فأَوّل ناس أَوّل النَّاسى
وفى المثل: الإِنسان عُرْضة النسيان، وجلسة النّسوان. وقيل: عجباً للإِنسان، كيف يُفلح بين النسيان والنِّسوان.
وقد ورد لفظ الإِنسان فى نصّ القرآن على عشرين وجْهاً:
الأَوّل بمعنى آدم عليه السلام: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} يعنى آدم. وكذا(2/32)
{خَلَقْنَا الإنسان} ، {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} وله نظائر.
الثانى بمعنى بنى آدم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} .
الثالث بمعنى وليد بن المغيرة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا}
الرّابع بمعنى قُرْط بن عبد الله: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} .
الخامس أَبو جهل: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} .
السّادس النَّضْر بن الحارث: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} .
السّابع بَرْصِيصاء العابد: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر} .
الثامن بُدَيل بن وَرْقاءَ: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} .(2/33)
التَّاسع الأَخنس بن شَرِيق: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} .
العاشر أُبىّ بن خَلَف الجمحىّ: {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ} .
الحادى عشر كَلَدة بن أَسِيد: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} .
الثانى عشر عُقْبَة بن أَبى مُعَيْط: {وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} .
الثالث عشر أَبو طالب: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} .
الرّابع عشر عَدىّ بن ربيعة: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} .
الخامس عشر عُتْبَة بن أَبى لهب: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} . {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} .
السّادس عشر سَعْد بن أَبى وَقَّاص: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} .
السّابع عشر عبد الرّحمن بن أَبى بكر الصّديق فى سورة الأَحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} .(2/34)
الثامن عشر عيّاش بن أَبى ربيعة: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} .
التاسع عشر أُمَيّة بن خَلَف: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} . {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان} ، {يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} .
العشرون: النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} . أَى فى دعوة الخَلْق إِلى الحقّ {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} يروى عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: أَنا أَوّل من يُشَقّ عنه الأرض، وأَنا أَوّل مَنْ يَركب البراق، فإِذا قوائم البراق لا تستقرّ يوم القيامة من شدّة زلزاها، فأَقول: يا جبريل ما لأَِرض ربِّى تَزَلزلُ! فيقول: هذا يوم القيامة وإِنَّ زلزلة الساعة شئٌ عظيم.(2/35)
بصيرة فى الاضافة
هى لغةً: الإِمالة. فإِنَّ أَصل الضَّيف المَيْل؛ تقول: ضِفْت إِلى كذا، وأَضفت كذا إِلىّ، وضافت الشمسُ للغروب، وتضيّفَت، وضاف السّهمُ عن الهَدَف، وتضيّف.
والضَّيف: مَن مَال إِليك؛ نُزُولاً بك. وصارت الضِّيَافَةُ متعارَفةُ فى القِرَى؛ لأَنَّ كلّ أَحد يميل إِليه غالباً.
والضَّيف فى الأَصل مصدر؛ ولذلك استوى فيه الواحد والجمع فى عامّة كلامهم. وقد يقال: أَضياف. وضُيوف، وضِيفان. وقد يقال: استضفت فلاناً فأَضافنى. وقد ضِفته ضَيْفاً، أَى صرت ضيفاً له.
ويستعمل الإِضافة عند النَّحاة فى اسم مجرور يُضَمّ إِليه اسم قبله.
وقيل: الإِضافة فى كلام العرب على عشرة أَنواع.
الأَوّل: إِضافة البعض إلى الكلّ، كماءِ النَّهر وماءِ البحر.
الثانى: إِضافة السّبب؛ كآلة الخيَّاط، وأَداة الحياكة.
الثالث: إِضافة المِلْك؛ كدار زيد، وعبد عمرو.
الرّابع: إِضافة النَّسب، كابن جعفر، وابن بكر.
الخامس: إِضافة الشركة؛ كزوجة زيد وقرين عمرو.
السادس: إِضافة الجزءِ، نحو يده ورجله.(2/36)
السّابع: إضافة الصّفة؛ نحو عِلمه وقدرته.
الثَّامن: إِضافة العمل إِلى العامل؛ نحو صلاته، وصيامه.
التَّاسع: إِضافةُ المُكْنةِ والقُدْرَةِ: {عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} .
العاشر: إِضافة التخصيص: {وَعِبَادُ الرحمان} .
وقد أَضاف الله - عزَّ وجلّ - إِلى نفسه فى القرآن والسنَّة عشرين شيئاً على سبيل التشريف والتبجيل: كلماتُ القرآن: {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} العرش المجيد: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} . محمّد المصطفى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} . كلمة الحمد: الحَمْدُ لِلهِ. كلمات التحيّات: (التَّحِيَّاتُ للهِ) . شهر رجب: رجب شهر الله. النِّعمة والمِنَّة على الخَلْق {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله} ناقة صالح: {نَاقَةَ الله} . المساجد: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} . دين الإِسلام {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} . الكعبة المعظَّمة. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} . الاسم الشَّريف: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} الرّوح المطهَّر: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} . خِلْقَة الخَلْق على ملَّة التوحيد: {فِطْرَتَ الله} . عَلاَمة الإِيمان على المؤمنين: {صِبْغَةَ الله} صوم رمضان: الصّوم لى. عيسى بن مريم:(2/37)
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} . مُلْك الأَرض والسّماءِ: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . الأَمر والخَلق: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} ، {أَلاَ لَهُ الحكم} . العشرون: العباد المطيعون والعصاة: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} ، و {وَعِبَادُ الرحمان} {فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي} .(2/38)
بصيرة فى الأمر
وهو لفظ عامّ للأَفعال والأَقوال، والأَحوال، كلّها. على ذلك قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} ويقال للإِبداع: أَمْر، نحو {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} وعلى ذلك حَمَل بعضهم قوله تعالى: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أَى هو من إِبداعه، ويختصّ ذلك بالله دون الخلائق. وقوله - تعالى -: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فالإِشارة إِلى إِبداعه. وعبّر عنه بأَقصر لفظ، وأَبلغ ما يُتقدّم به فيما بيننا بفعل الشئِ. وعلى ذلك قوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ} فَعبّر عن سرعة إِيجاده بأَسرع ما يدركه وَهْمنا.
والأَمر: التقدّم بالشئِ، سواءٌ كان ذلك بقولهم: افعل، ولِيفعلْ، أَو كان ذلك بلفظ خبرٍ؛ نحو {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} ، أَو كان بإِشارة، أَو غير ذلك، أَلا ترى أَنَّه قد سمّى ما رأَى إِبراهيم عليه السلام فى المنام مِن ذَبْح ابنه أَمراً، حيث قال: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} ؛ وقوله: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} عامّ فى أَفعاله وأَقواله.(2/39)
وقوله: {أتى أَمْرُ الله} إِشارة إِلى القيامة، فذكره بأَعمّ الأَلفاظ. ويقال: أَمِرَ القومُ - مثال سَمِعَ - أَى كثروا. وذلك لأَنهم إِذا كثروا صاروا ذا أَمير، من حيث إِنَّه لا بدّ لهم من سائس يسوسهم.
والأَمر ورد فى نصّ التنزيل على ثمانية عشر وجها:
الأَول بمعنى الدّين والمِلَّة {حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله} أَى دينُ الله، {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أَى دينهم.
الثانى: بمعنى الكتاب والمَقَالة {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أَى قولهم.
الثالث: بمعنى وجوب العذاب والعقوبة: {وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر} .
الرابع: بمعنى إِيجاد عيسى بكمال القدرة {سُبْحَانَهُ إِذَا قضى أَمْراً} .
الخامس: بمعنى القتل فى المحاربة: {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله} أَى الحكم بقتلهم.(2/40)
السّادس: بمعنى قتل بنى قُريضة وبنى النَّضير على وَفْق الحكمة {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} .
السّابع: بمعنى فتح مكَّة على سبيل البشارة {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} .
الثامن: بمعنى ظهور القيامة: {أتى أَمْرُ الله} أَى القيامة.
التَّاسع: بمعنى القضاءِ والقدر على حكم الرّبوبيّة: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} {يُدَبِّرُ الأمر مَا مِن شَفِيعٍ} .
العاشر: بمعنى الوحى إِلى أَرباب النبوّة والرّسالة {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} .
الحادى عشر: بمعنى الذَّنْب والزلَّة: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} .
الثَّانى عشر: بمعنى العَوْن والنُّصرة {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للهِ} .
الثالث عشر: بمعنى الشأْن والحالة: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} ، {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} .
الرّابع عشر: بمعنى الغَرَق والهلاك: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} .(2/41)
الخامس عشر: بمعنى الرّحمة والكثرة {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} .
السّادس عشر: بمعنى العِلْم والحقيقة: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} .
السّابع عشر: بمعنى مُضىّ الحكم {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً} .
الثامن عشر: بمعنى الحُكْم واستدعاءِ الطاعة: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} .(2/42)
بصيرة فى الاتيان
هو مجىءٌ بسهولة. ومنه قيل للسّيل المارّ على وجهه: أَتِىُّ، وأَتاوىٌّ. وبه شُبّه الغريبُ، فقيل: أَتاوىّ. والإِتيان قد يقال للمجىءِ بالذات، وبالأَمر، والتدبير. ويقال فى الخير، وفى الشرّ، وفى الأَعيان، وفى الأَعراض، كقوله تعالى: {أَتَى أَمرُ اللهِ} {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} {أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} وعلى هذا النحو قول الشاعر:
أَتيت المروءَة من بابها
وقول الصاحب:
أَتتنِىَ بالأَمس إِتيانةً ... تُعَلِّل رُوحى برَوْح الجبان
كعهد الصِّبا ونسيم الصَّبا ... وظلّ الأَمان، ونيل الأَمانى
فلو أَنَّ أَلفاظه جُسّمت ... لكانت عقود نُحور الغوانى
وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} أَى لا يتعاطَوْن وقوله: {يَأْتِينَ الفاحشة} فاستعمال الإِتيان هنا كاستعمال المجئ فى(2/43)
{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} يقال: أَتيته، وأَتَوْتُهُ، ويقال للسّقاءِ إِذا مُخِض وجاءَ زُبْدُه: قد جاءَ أَتْوهُ. وتحقيقه: جاءَ ما مِن شأْنه أَن يأْتى منه. فهو مصدر فى معنى الفاعل. وأَرض كثيرة الإِتاءِ - بالمدّ - أَى الرَّيْع. وقوله: {مَأْتِيّاً} مفعول من أَتيته (وقيل معناه آتيا فجعل المفعول فاعلا. وليس كذلك، بل يقال: أَتيت الأَمر وأَتانى الأَمر. ويقال: أَتيته بكذا وآتيته) كذا. قال تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} .
وكلّ موضع ذكر فى وصف الكتاب: (آتينا) ، فهو أَبلغ من كلّ موضع ذُكِر فيه (أُوتوا) ، لأَنَّ (أُوتوا) قد يقال إِذا أُوتى مَنْ لم يكن منه قَبُول، و (آتينا) يقال فيمن كان منه قبول.
والإِتيان جاءَ فى القرآن على ستَّةَ عشرَ وجهاً:
الأَوّل: بمعنى القُرْب الزَّمانى: {أَتى أَمْرُ الله} أَى قَرُب وقتهُ.
الثَّانى: بمعنى وصول شىءٍ بشىءٍ {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} أَى أَصابكم.
الثالث: بمعنى القَلْع وخراب البناءِ: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أَى قلعها وخرَّبها.(2/44)
الرّابع: بمعنى العذاب والعقوبة: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أَى عذَّبهم.
الخامس: بمعنى سَوْق الرِّزق {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} أَى يسوقه الله.
السّادس: بمعنى الصّحبة وقضاءِ الشَّهوة: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء} .
السّابع: بمعنى الخَوضْ فى المنكَرات من الأَعمال: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} أَى تخوضُون فيه.
الثامن: بمعنى الانقياد والطاعة: {إِلاَّ آتِي الرحمان عَبْداً} أَى إِلاَّ وينقاد للرحمن.
التَّاسع: بمعنى الإِيجاد والخَلْق {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أَى يخلق ويوجِد.
العاشر: بمعنى حقيقة الإِتيان والمجئ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} أَى جاءَت.
الحادى عشر: بمعنى الظهور والخروج: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} أَى يظهر ويخرج.(2/45)
الثانى عشر: بمعنى الدّخول: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا} أَى وادخلوها.
الثالث عشر: بمعنى المرور والمضىّ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ} أَى مَضَوْا.
الرابع عشر: بمعنى إِرسال الآيات، وإِنزال الكتاب، {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أَى أَرسلنا وأَنزلنا.
الخامس عشر: بمعنى التعجيل والمفاجأَة: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} أَى فاجأَها.
السّادس عشر: بمعنى الحلول والنُّزول: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ} أَى يحِلّ بهِ.
قوله: {آتُونِي زُبَرَ الحديد} قرأَها حمزة موصولة أَى جيئونى. والإِيتاءِ: الإِعطاءِ. وخصّ دفع الصّدقة فى القرآن بالإِيتاءِ نحو {آتُوا الزَّكاةَ} .(2/46)
بصيرة فى أفمن
اعلم أَنَّ (أَمَن) و (أَمْ مَنْ) و (أَوَمَنْ) و (أَفَمَنْ) كانت فى الأَصل (مَنْ) ، وأَلحقوا بها هذه الحروف للاستفهام. والأَصل فى الاستفهام الهمزة وحدها، ثم أَلحقوا الواو، والفاءَ، والميم، لزيادة التقرير والتأْكيد. {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} لإِلزام الحُجّة {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} ؛ لبيان التمثيل.
وقد ورد (أَفَمَنْ) فى التَّنزيل على ستَّةَ عشرَ وجهاً. منها ثلاثة فى حَقِّ الله تعالى، وثلاثة فى ذكر الرّسول صَلَّى الله عليه وسلَّم، وخمسة فى شأن الصّحابة رَضى الله عنهم واثنان لتشريف المؤمنين، وثلاثة فى توبيخ الكافرين.
أَمّا التى فى حقّ الله تعالى فالأَول للدليل والهداية: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} . الثانى للحفظ والرّعاية: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الثالث لإِظهار القُدْرة {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} .
وأَمّا الثلاثة الَّتى فى ذكر المصطفى - صلَّى الله عليه وسلم - فالأوّل للبرهان والحُجّة: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} . الثانى فى وعد الرّضا والرّؤية: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} الثالث فى بيان الثبات والاستقامة: {أَفَمَن(2/47)
يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ} يعنى أَبا جهل. {أَمْ مَنْ يَمْشِى سَوِيّاً} يعنى محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأَمّا الخمس الَّتى للصّحابة، فالأَوّل للصّدّيق ذى الصّدق والحقيقة: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} . الثانى للفاروق ذى العَدْل، والأَمْن، والأَمانة: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً} . الثالث لذى النُّورين أَهلِ الطاعة والعبادة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً} الرّابع للمَرْضىّ صاحب الدّيانة والصّيانة {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} . الخامس للصّحابة أَهلِ الصحبة والحُرْمة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} .
وأَمَّا الاثنان فى تشريف أَهل الإِيمان فالأَوّل الوعد بنعمة الجنَّة: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} . الثانى اشتعال سِراج المعرفة: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} .
وأَمّا التى لتوبيخ الكفَّار فالأَوّل لبيان كمال الضلالة {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} : الثانى فى تحقيق العذاب والعقوبة: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} . الثالث لإِتمام الطَرْد والإِهانة: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} .(2/48)
بصيرة فى الانزال
وهو إِفعال من النُّزول، وهو فى الأَصل انحطاط من عُلُوّ. يقال: نَزَل عن دابّته، ونزل فى مكان كذا: حَطَّ رحلَه فيه. وأَنزل غيره. وأَنزل الله نِعمه على الخَلْق: أَعطاها إِيّاهم. وذلك إِمّا بإِنزال الشئِ نفسه، كإِنزال القرآن، وإِمّا بإِنزال أَسبابه والهداية إِليه، كإِنزال الحديد والّلباس.
والفرْق بين الإِنزال والتَّنزيل فى وصف القرآن والملائكة، أَنَّ التنزيل يختصّ بالموضع الَّذى يشير إِلى إِنزاله متفرّقاً، ومَرّةً بعد أُخرى، والإِنزال عامّ {لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ} فإِنَّما ذكر فى الأَوّل (نزَّل) وفى الثانى (أُنزل) ، تنبيهاً أَنَّ المنافقين يقترحون أَن ينزل شيءٌ فشئٌ من الحَثِّ على القتال؛ ليتولَّوه. وإِذا أُمِروا بذلك دفعة واحدة تحاشَوا عنه، فلم يفعلوه، فهم يقترحون الكثير، ولا يَفُون منه بالقليل. و {إِنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ} إِنَّما خصّ بلفظ الإِنزال، لأَنَّ القرآن نزل دفعة إِلى السّماءِ الدّنيا، ثمّ نزل نَجْماً نجماً. وقوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هاذا القرآن على جَبَلٍ} دون نزَّلنا تنبيهاً أَنَّا لو خوّلناه تارةً واحدة ما (خوّلناكم مراراً) إِذا لرأَيته خاشعاً.(2/49)
والتنزل النزول، قال: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} .
والإِنزال فى القرآن ورد على خمسة عشر وجها:
الأَوّل: إِنزال المَنّ والسّلْوَى على سبيل الكفاية.
الثانى: إِنزال العذاب والبَلْوَى على سبيل اللَّعنة. {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء} .
الثالث: إِنزال الملائكة المقرّبين فى بدر، للتقوِّى: {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} .
الرّابع: إِنزال النُّعَاس على أَهل الحَرْب؛ لتأْمين الصّحابة: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} .
الخامس: إِنزال اللِّباس من السّماءِ؛ ستراً للعورة: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} .
السّادس: إِنزال السّكينة؛ لتحقيق العَوْن والنُّصْرة: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} .
السّابع: إِنزال الصّاعقة والبَرَد؛ لإِظهار السّياسة والهيْبة: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} .(2/50)
الثَّامن: إِنزال المطر؛ لكمال النِّعمة والرّحمة: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} .
التَّاسع: إِنزال الأَنعامِ؛ لكمال الإِنْعامِ والمنفعة: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} .
العاشر: إِنزال الرِّزق على الحيوانات للغِذاءِ والتربية: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً} .
الحَادى عشر: إِنزال الغيث وإِرسال الرّياح للبشارة: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} الآية.
الثانى عشر: إِنزال ميزان العدل، لأَجل الإِنصاف والأَمانة: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} .
الثالث عشر: إِنزال الحديد لتقرير المنافع والمصلحة: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} .
الرّابع عشر: إِنزال المائدة للامتحان والمُعْجِزة: {رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} .
الخامس عشر: إِنزال الوَحْى والقرآن لإِلزام الحجّة وإِهداءِ هدِيّة الهداية {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فى لَيْلَةِ القَدْرِ} .(2/51)
ولا يقال فى المفتَرَى والكذب، وما كان من الشياطين إِلاَّ التّنَزُّل قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} .
والنُزل - بالضمّ وبضمّتين -: ما يُعَدّ للنَّازل من الزاد. وأَنزلت فلاناً: أَضفته. ويعبّر بالنَّازلة عن الشِّدّة، وجمعه نوازل. والنِّزَال فى الحرب: المنازلة.(2/52)
بصيرة فى الأرض
هو الجِرْم المقابل للسّماءِ. وجمعه أَرَضُون، وأَرَضات، وأُرُوض، وآراض والأَراضى جمعٌ غير قياسىّ. ولم يأْت بجمعها القرآن. ويُعَبِّر بها عن أَسفل الشَّىء؛ ما يعبّر بالسّماءِ عن أَعلاه. والأَرض أَيضاً: أَسفلُ قوائم الدّابة، والزُكَامُ والنُفْضة، والرعدة.
وقوله تعالى: {يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} عبارة عن كلّ تكوين بعد إِفساد، وعود بعد بَدْء ولذلك قال بعض المفسّرين: يُعنى به تلْيين القلوب بعد قساوتها. وأَرْض أَريضة: حَسَنة النبْت، زكيّة معجبة للعين، خليقة للخير. والأَرَضة محرّكة: دودة خبيثة مفسِدة. وخَشَب مأْروض: أَكلته الأَرضة. والأُرْضة - بالكسر وبالضمّ، وكعِنبة -: الكلأُ الكثير. وأَرِضت الأَرضُ - كسمع -: كثر كلؤها. والتَّأريض: تشذيب الكلام، وتهذيبه، والتثقيل، والإِصلاح. وفى بعض الآثار: إِنَّ الأَرض بَيْن إِصبعَىْ مَلَك يقال له: قصطائل. وفيه: خلق الله جوهرا غِلَظه كغلظ سبع سماوات، وسبع أَرضين، ثمّ (نظر إِلى) الجوهر، فذاب الجوهر(2/53)
من هَيْبَة الجَبَّار، فصار ماءً سَيّالاً، ثمّ سَلَّط ناراً على الماءِ، فعلا الماءُ وعلاهُ زَبَدٌ، وارتفع منه دخان، فخلق الله السّماوات من الدّخان، والأَرضَ من الزَّبَد، وكانت السّماوات والأَرضون متراكمة، ففتقهما الله تعالى، ووضع بينهما الهواءَ. فذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} قال الشاعر:
منها خُلِقْنَا وكانت أُمّنا خُلقت ... ونحن أَبناؤها لو أَننا شُكُر
هى القَرَار فما نبغِى به بدلاً ... ما أَرحمَ الأَرضَ إِلاَّ أَننا كُفُر
وسئل بعضهم، وقيل: إِنَّ ابن آدم يعلم أَنَّ الدّنيا ليست بدار قرار، فلِمَ يطمئنّ إِليها؟ فقال: لأَنَّه منها خُلق، فهى أُمّه، وفيها وُلد فهى مَهْده، وفيها نشأَ فهى عُشُّه، وفيها رُزِق فهى عَيْشُه، وإِليها يعود فهى كِفَاتُه، وهى ممرّ الصّالحين إِلى الجنَّة.
وذكر الأَرض فى القرآن على أَربعة عشر وجهاً.
الأَوّل: بمعنى الجنَّة: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} .
الثانى: بمعنى أَرض الشَّأْم وبيت المقدس: {كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض} يعنى أَرض الشام.
الثالث: بمعنى المدينة النبويّة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً} {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون} {يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً} .(2/54)
الرّابع: بمعنى أَرض مصر خصوصاً: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} {عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} .
الخامس: بمعنى أَرض ديار الإِسلام {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض} .
السّادس: بمعنى جميع الأَرض: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض} ، {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} ، {خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ والأَرْض} .
السّابع: بمعنى تراب القبر {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} أَى القبر.
الثامن: بمعنى تِيه بنى إِسرائيل: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} .
التَّاسع: كناية عن القلوب: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} يعنى منفعة مواعظ القرآن فى قلوب الخَلْق.
العاشر: بمعنى ساحة المسجد وصَحْنه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} .
الحادى عشر: بمعنى المُقام: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أَى بأَىّ مقام.(2/55)
الثانى عشر: بمعنى أَرض مكَّة شرّفها الله تعالى: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} .
الثالث عشر: بمعنى أَرض قُريظة وبنى النَّضير: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} .
الرابع عشر: بمعنى أَرض المحشر {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} .(2/56)
بصيرة فى الاتخاذ
وهو مصدر من باب الافتعال. وقد اختُلِف فى أَصله. فقيل: من تَخِذ يَتْخَذ تَخْذاً؛ اجتمع فيه التَّاء الأَصلىّ، وتاء الافتعال، فأُدغما. قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} وهذا قول حَسَن، لكنّ الأَكثرين على أَن أَصله من الأَخذ، وأَنَّ الكلمة مهموزة. ولا يَخلو هذا من خلل، لأَنَّه لو كان كذلك لقالوا فى ماضيه: ائتخذ بهمزتين على قياس ائتمر، وائتمن، قال تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ} و {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن} ومعنى الأَخذ والتَّخْذ واحد. وهو حَوْز الشئ وتحصيلُه. وذلك تارة يكون بالتَّناول؛ نحو {مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} ، وتارة بالقَهْر؛ نحو {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى} ويعبر عن الأَسير بالمأْخوذ، والأَخيذ. والاتِّخاذ يُعَدّى إِلى مفعولين، ويجرى مجرى الجَعْل؛ نحو {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} تخصيص لفظ المؤاخذة تنبيه على معنى المجازاة والمقابلة لِمَا أَخذوه من النِّعَم، ولم يقابلوه بالشكر.(2/57)
والاتِّخاذ ورد فى القرآن على ثلاثة عشر وجهاً.
الأَوّل: بمعنى الاختيار: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .
الثَّانى: بمعنى الإِكرام: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} أَى يكرمهم بالشَّهادة.
الثالث: بمعنى الصّياغة: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً} أَى صاغُوهُ.
الرابع: بمعنى سلوك السّبيل: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً} أَى سلك.
الخامس: بمعنى التسمية: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} أَى سَمَّوهم.
السّادس: بمعنى النَّسْج: {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} أَى نَسَجَتْ.
السّابع: بمعنى العبادة {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} . ولهذا نظائر كثيرة.
الثامن: بمعنى الجَعْل: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أَى جعلوها.
التَّاسع: بمعنى البناءِ: {اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} أَى بَنَوا.
العاشر: بمعنى الرّضَا: {فاتخذه وَكِيلاً} أَى ارضَ به.(2/58)
الحادى عشر: بمعنى العَصْر: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} أَى تعصرون.
الثَّانى عشر: بمعنى إرخاءِ السِّتْر: {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً} أَى أَرْخت سِتْراً.
الثالث عشر: بمعنى عَقْد العهد: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمان عَهْداً} أَى عَقَدَ.(2/59)
بصيرة الامرأة
اعلم أَنَّ المَرْءَ والمرأَة اسمان على فَعْل وفَعْلة. وهما من الاسماءِ الموصولة؛ مثل ابن، وابنة، واثنين، واثنتين.
والأَصل فيهما مرٌ ومرَة من غير همزة، لكن أَلحقوا بهما همزتين، إِحداهما فى الآخرِ للوقف، والأُخرَى فى الأَوّل لتسهيل النّطق والابتداءِ. ومن عجائب الأَسماءِ امُرؤ؛ لأَنَّ إِعراب الأَسماءِ فى آخرها دون أَوّلها ووسطها. وهذا فيه ثلاث لغات: فتح الرّاءِ دائماً: وضمّها دائماً، وإِعرابها دائماً. وتقول أَيضاً: هذا امرؤ، ومُرْءٌ، ورأَيت امرءًا، ومررت بامرئ وبِمِرءٍ، معرباً من مكانين.
والمَرْءُ والمرأَةُ - مثَلثة الميم - الإِنسان. ولا يجمع من لفظه. وقيل: سُمِع مَرْءُون؛ قال الحَسَن: أَحسِنُوا أَخلاقكم أَيّها المَرْءُون.
وجاءَ الامرأَة فى القرآن على اثنى عشر وجهاً.(2/60)
الأَوّل: بمعنى زَلِيخا المصريّة. {امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} {لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} .
الثانى: بمعنى بِلْقِيس: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} .
الثالث: بمعنى آسِية {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ} .
الرّابع: بمعنى سارة زوج الخليل إِبراهيم عليه السّلام: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ} .
الخامس: بمعنى حَنَّة امرأَة عمران بن هامان أَمّ مريم الصدّيقة: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ} .
السّادس: بمعنى زَوْج لُوط النبىّ واسمها واهلة {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك} .
السّابع: بمعنى واعلة زوج نوح عليه السلام {مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ} .
الثامن: بمعنى أَمَّ جَمِيل زوج أَبى لهب: {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} .(2/61)
التَّاسع: بنت محمّد بن مَسْلمة، وقيل أُخته {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} .
العاشر: بنتا شعيب عليه السلام {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ} .
الحادى عشر: أَمّ شَرِيك الَّتى قدّمت نفسها للنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وخصّصها الله تعالى بالذِّكر، وشهد لها بالإِيمان {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} .
الثانى عشر: واحدة من نساءِ المسلمين الصّالحات العادلات {فَرَجُلٌ وامرأتان} .(2/62)
بصيرة فى الآيات
الآية: العلامة الظَّاهرة. وحقيقته لكلّ شئٍ ظاهر هو ملازم لشئ لا يظهر ظهورهَ، فمتى أَدْرَك مُدْرِكٌ الظَّاهرَ منهما علِم أَنَّه أَدرك الآخر الَّذى لم يُدْركه بذاته؛ إِذْ كان حكمهما سَوَاءً. وذلك ظاهر فى المحسوسات، والمعقولات، فمن علم بملازمة العلَم للطريق المنهج ثم وجد العلَم عَلِمَ أَنَّه وجد الطَّريق. وكذا إِذا عَلِم شيئاً مصنوعاً علِم أَنَّه لا بدّ له من صانع.
واشتقاق الآية إِمّا مِن أَىٍّ، فإِنَّها هى الَّتى تبين أَيّا مِن أَىّ، أَو مِن قولهم: (أَوَى إِليه) .
وقيل للبناءِ العالى: آية: {من أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ، ولكلّ جملة من القرآن دالَّة على حكمٍ آيةٌ، سورة كانت، أَو فصولاً، أَو فَصْلاً من سورة. وقد يقال لكلّ كلام منه منفصل بفَصْل لفظىّ: آية. وعلى هذا اعتبار آيات السّورة الَّتى تُعَدُّ بها السورة.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فهى من الآيات المعقولة(2/63)
الَّتى تتفاوت بها المعرفةُ بحسب تفاوت النَّاس فى العلم. وكذلك قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} .
وذكر فى مواضع آية [و] فى مواضع آيات. وذلك لمعنى مخصوص يقتضيه ذلك المقام. وإِنما قال: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ولم يقل: آيتين؛ لأَنَّ كلّ واحد صار آية الآخر. وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} فالآيات ههنا قيل: إِشارة إِلى الجَرَاد والقُمَّل، والضَّفادع، ونحوه من الآيات الَّتى أُرْسِلَت إِلى الأُمم المتقدّمة، فنبّه أَنَّ ذلك إِنَّما يُفْعل بمن يفعله تخويفاً. وذلك أَخسّ المنازل للمأْمورين؛ فإِنَّ الإِنسان يتحَرَّى فعل الخير لأَحد ثلاثة أَشياءٍ: إِمّا أَن يتحرّاه [رغبة أَو رهبة؛ وهو أَدنى منزلة، وإِما أَن يتحرّاه] لطلب مَحْمَدَة، وإِمّا أَن يتحرّاه لفضيلة. وهو أَن يكون ذلك الشئُ فى نفسه فاضلاً. وذلك أَشرف المنازل. فلمّا كانت هذه الأُمّة خير أُمّة - كما قال - رفعهم عن هذه المنزلة، ونبّه أَنَّه لا يعمّهم العذاب؛ وإِن كانت الجَهَلة منهم كانوا يقولون؛ أَمطِرْ علينا حجارة من السّماءِ أَو ائتنا بعذاب أَليم. وقيل: الآيات إِشارة إِلى الأَدلَّة؛ ونبّه أَنّه يُقتصر معهم على الأَدلَّة، ويُصانون عن العذاب الَّذى يستعجلون به فى قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} .(2/64)
وقال المعينى: وردت الآية فى القرآن على وجوه.
الأَوّل: بمعنى العلامة {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم} {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات} {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض} .
الثانى: بمعنى آيات القرآن {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} .
الثالث: بمعنى معجزات الرّسل: {فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا} .
الرّابع: بمعنى عِبْرَة المعتبرين. {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} .
الخامس: بمعنى الكِتَاب والبرهان: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} .
السّادس: بمعنى الأَمْر، والنَّهى: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ} يعنى الأَمْر والنَّهى وله نظائر.
وحينئذ تصير جملة الآيات فى القرآن من طريق الفائدة والبيان على اثنى عشر نوعاً.
الأَوّل: آية البيان والحكمة: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} .
الثانى: آية العَوْن، والنُّصرة: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} .
الثالث: آية القيامة: {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ} .
الرّابع: آية الابتلاءِ والتجربة: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} .(2/65)
الخامس آية العذاب والهَلَكة: {هاذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} .
السّادس: آية الفضيلة والرّحمة: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} .
السّابع: آية المعجزة والكرامة: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ} .
الثامن: آية العظة والعبرة: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} .
التاسع: آية التشريف والتكريم {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} .
العاشر: آية العلامة: {رَبِّ اجعل لي آيَةً} .
الحادى عشر: آية الإِعراض والنّكرة: {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .
الثانى عشر: آية الدّليل والحجّة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} .(2/66)
بصيرة فى الاحسان
إِفعال من الحُسْن، وهو كلّ مُبْهج مرغوب فيه، عقلاً، أَو حسّاً، أَو هوىً. وقد حَسُن يحسن ككرم يكرم، وحَسَن يَحْسُن كنصر ينصر، فهو حاسِنٌ وَحَسَنٌ وَحَسِينٌ وحُسَانٌ وحُسَّان. والجمع حِسَان وحُسَّانون، وهى حَسَنةٌ وحَسْناء وحُسَّانة. والجمع حِسان، وحُسّانات. ولا يقال: رجل أَحْسَن وإِنما يقال: هو الأَحسن، على إِرادة التفضيل. الجمع الأَحاسن. وأَحاسن القوم حِسَانهم.
والحَسَنة يعبَّر بها عن كلّ ما يَسُرّ من نِعْمَة تنال الإِنسان فى نفسه وبَدنه وأَحواله. والسّيئّة تضادّها. وهما من الأَلفاظ المشتركة؛ كالحيوان الواقع على أَنواع مختلفة. وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِ الله} أَى خِصب وسَعَة وظفر {وإِن تصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أَى جَدْب وضيق وخَيْبَة، وقوله تعالى: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أَى من ثواب {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةِ} أَى من عذاب.
والفرق بين الحَسَنة والحَسَن والحُسْنى أَنَّ الحَسَن يقال فى الأَعيان والأَحداث. وكذلك الحَسَنة إِذا كانت وصفاً. فإذا كانت اسما فمتعارف فى الأَحداث؛ (والحُسْنى لا يقال إِلاَّ فى الأَحداث) دون الأَعيان، والحَسَن أَكثر(2/67)
ما يقال فى تعارُف العامّة فى المستحسن بالبصر. وأَكثر ما جاءَ فى القرآن من الحَسَن فللمستحسن من جهة البصيرة.
وقوله تعالى: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أَى الأَبعد عن الشبهة. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إِن قيل حكمه حَسَن لمَنْ يوقن ولمن لا يوقن فلِم خُصّ؟ قلنا: القَصد إِلى ظهور حسنه، والاطلاع عليه. وذلك يظهر لمن تزكَّى، واطَّلع على حكمة الله تعالى، دون الجَهلة.
والإِحسان يقال على وجهين. أَحدهما الإِنعام على الغير: أَحسن إِلى فلان. والثانى إِحسان فى فعله وذلك إِذا علم عِلْماً حسناً أَو عمل عملاً حسناً. ومنه قول علىّ - رضى الله عنه -: النَّاس أَبناء ما يحسنون، أَى منسوبون إِلى ما يعلمونه ويعملونه من الأَفعال الحسنة. والإِحسان أَعمّ من الإِنعام.
ورد الإِحسان فى التَّنزيل على ثلاثة عشر وجهاً:
الأَوّل: بمعنى الإِيمان {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ} إِلى قوله {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} .
الثانى: بمعنى الصّلاة على النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} .(2/68)
الثالث: بمعنى قيام اللَّيل للتهجد: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} .
الرّابع: بمعنى الإِنفاق والتصدق على الفقراء: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} .
الخامس: بمعنى خِدْمة الوالدين، وبِرّهما {وبالوالدين إِحْسَاناً} .
السّادس: بمعنى العفو عن المجرمين: {والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} .
السّابع: بمعنى الاجتهاد فى الطاعة: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} إِلى قوله: {لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
الثامن: بمعنى أَنواع الطَّاعة: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} .
التاسع: بمعنى الإِخلاص فى الدّين والإِيمان: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} .
العاشر: بمعنى الإِحسان إِلى المستحِقِّين: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} .(2/69)
الحادى عشر: بمعنى كلمة النَّجاة والفوز من النيران: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} .
الثانى عشر: بمعنى كلمة الشهادة على اللِّسان مع الإِيقان بالجَنان.
الثالث عشر: بمعنى نعيم الجنان والرضوان: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} .(2/70)
بصيرة فى اذا واذا واذن والاذى
(إِذْ) يعبّر به عن الزَّمان الماضى؛ ولا يجازى به إِلاَّ إِذا ضُمّ اليه (ما) ، نحو:
إِذ ما أَتيت على الرسول فقل له
وقد يكون (فى المفاجأَة) وهى الَّتى بعد بينا، وبينما.
و (إِذا) يكون فى المفاجأَة، فيختصّ للجمل الاسميّة. ولا يحتاج لجواب، ولا يقع فى الابتداءِ. ومعناها الحال؛ نحو خرجت فإِذا الأَسدُ بالباب، {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} . وقال الأَخفش: حرف. وقال المبرّد: ظرف مكان. وقال الزَّجاج: ظرف زمان.
[وإِذَا اسم] يدلّ على زمان مستقبل. ويجئ للماضى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} . ويجئ للحال، وذلك بعد القسَم: {واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، {والنَّجْمِ إِذَا هَوَى} .(2/71)
وناصبها شرطها، أَو ما فى جوابها: من فعل أَو شِبْهِهِ. وقد تُضمّن معنى الشرط فيجزم به. وذلك فى الشِّعر أَكثر.
والأَذى: ما يصل إِلى الحيوان من ضرر، إِمّا فى نفسه، أَو فى جسمه، أو قُنياته، دنيويّاً كان أَو أخرويّاً {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} وقوله: {فَآذُوهُمَا} إِشارة إِلى الضرب. وقوله تعالى {قُلْ هُوَ أَذًى} (سمّاه أَذىً) باعتبار الشَّرع، واعتبار الطِّبّ، على حسب ما يذكره أَصحاب هذه الصّناعة. وأَذِى به كبقِى أَذىً أَى تأَذّى. والاسم الأَذِيَّة، والأَذاة، وهى المكروه اليسير. وآذى صاحبه (أَذىً وأَذاة وأَذيّة) ولا تقل: إِيذاءً كأَنَّه اسم للمصدر. ومنه الآذىّ للموج المؤذِى لركَّاب البحر. وورد فى نصّ القرآن على أَحد عشر وجهاً.
الأَوّل بمعنى الحرام: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} . أَى حرام.
الثانى: بمعنى القَمْل: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} .
الثالث: بمعنى الشِدّة والمِحْنة: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} .(2/72)
الرابع: بمعنى الشتم والسبّ: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} {وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} .
الخامس: بمعنى الزُّور، والبهتان على البرئ {كالذين آذَوْاْ موسى} ، {ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي} .
السّادس: بمعنى الجفاءِ والمعصية: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أَى يعصونهما. السّابع: بمعنى التخلُّف عن الغَزَوات: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أَى بالتَّخلُّف عن غزوة تَبُوك.
الثامن: شَغْل الخاطر وتفرقة القلب: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبي} .
التَّاسع المنّ عند العطِيّة: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} .
العاشر: بمعنى العذاب والعقوبة: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله} .
الحادى عشر: بمعنى غِيبة المؤمنين: {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا}(2/73)
بصيرة فى الاسم
اعلم أَنَّ الاسم لغةً: الكلمة. وتخصيصه بما ليس بفعل ولا حرف اصطلاح طارئ. قاله الرّاغب فى تفسيره. وقال فى موضع آخر: الاسم: ما يعرف به (ذات الأَصل) .
وأَصله سِمُوْ عند البصريّين، حذفت الواو، ونقل سكون الميم إِلى السّين فجئ بهمزة الوصل. وعلَّة الحذف كَثْرة الاستعمال. ولذا لم يحذف من من عِضو ونِضْو، ونحوهما. وقال الكوفيّون: هو من الوَسْم، أُخّرت فاءُ الكلمة، وحذفت [أَو حذفت] من غير تأخير. وبعض الكوفيّين يقول: قلبت الواو همزة؛ كما فَعَل من قال: إِشَاح فى وشاح، ثم كثر استعماله، فجعلت أَلف وصل. [و] قول الكوفيّين أَبين من حيث المعنى. فأَخْذه من العلامة أَوضحُ من أَخذه من الرفعة. وقول البصريّين أَقرب من جهة اللَّفظ. وشذَّ بعضُ المفسرين وقال: أَصله من الأُسم بالضَّمّ وهو القوّة والغضب. وسمّت الأَسَد أُسَامة، لقوّته وشدّة غضبه. والهمزة على هذا أَصلية.
وسئل أَبو عمرو بنُ العلاء عن تصغير اسم، فقال: أُسَيْمٌ.(2/74)
وفيه سبع لغات: إِسم وأُسْم - بكسر الهمزة وضمّهَا - وسم مثلثة - وسُمّى مثلثة. وقرئ (بِسُمَى الله) على وزن هُدَى.
وحذِفت الأَلف من بسم الله خَطّاً لكثرة الاستعمال. وقيل: لا حذف، بل دخلت الباءُ على (سِمِ الله) المكسورة السّين، وسكنت، لئلاّ يتوالى الكَسَرات.
والأَسماء على نوعين: أَسماءُ الخالق تعالى، وأَسماءُ المخلوقات. وكلّ منهما نوعان: مجمل، ومفصّل.
ومجمل أَسماء المخلوقات أَن يكون الاسم إِمّا لشخص، أَو لغير شخص، أَو لما كان خَلَفاً منهما. والشَّخص إِمّا أَن يكون عاقِلاً؛ كالمَلَك والبشر، وإِمّا غير عاقل؛ كالفرس، والبقر، وإِمّا أَن يكون نامياً، كالنبات والشجر، أَو جماداً، كالحجر، والمَدَر. وغير الشخص إِمّا أَن يكون حوادث؛ كالقيام والقعود، أَو اسم زمان؛ كاليوم واللَّيلة. والخَلَفُ منهما إِمّا أَن يكون مضمراً؛ كأَنا وأَنت وهو، أَو مبهماً، كهذا وذاك والَّذى. هذا على سبيل الإِجمال.
وأَمّا المفصّل فأَسماءُ المخلوقات ترد على أَربعين وجهاً: خاصّ وعامّ، مشتقّ وموضوع، (تامّ وناقص) ، معدول وممتنع، وممكن، معرب ومبنىّ، مضمر ومظهر، مبهم وإِشارة، لقب وعلم، معروف ومنكَّر، جنس ومعهود، مزيد وملحق، مقصور وممدود، معتلّ وسالم، مذكَّر ومؤنَّث، مضاف(2/75)
ومفرد، مضموم ومجموع، مرخَّم ومندوب، منسوب ومضاف، منادى ومفخَّم، مكبّر ومصغّر. وأَمثلتها مشهورة.
ولفظ الاسم ورد فى القرآن على ستّة أَوجه.
الأَوّل: بمعنى المسمّى {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} أَى تبارك ربّك. والمسأَلة مختلف فيها. وقد بسطنا القول فيها فى محلِّها.
الثَّانى: بمعنى التَّوحيد: {واذكر اسم رَبِّكَ} أَى قل: لا إِله إِلاَّ الله.
الثالث: بمعنى الصفات والنُّعُوت: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} أَى الصّفات العُلَى.
الرابع: بمعنى مُسَمّيات العالَم:
الخامس: بمعنى الأَصنام والآلهة: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ} .
السّادس: بمعنى الشَبَه والمِثل والعَدِيل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أى عديلاً وبديلاً.
ومجمَل أَسماءِ الحقّ - تعالى - إِمّا راجع إِلى الذات، نحو الله والإِله والرّب، أَو إلى الصّفات؛ كالعالِم والقادِر والسّميع والبصير، أَو إِلى الأَفعال؛ كالصّانع، والخالق، والرازق، أَو إِلى الأَقوال؛ كالصّادق، والمتكلِّم.(2/76)
وأَمّا مفصّلها - فنقول: على نوعين. إِمّا مختص به تعالى، ولا يجوز إِطلاقه على غيره، نحو الله والإله والأَحد والصّمد، وإِما اسم قد استأثر الله بعلمه، وهو الاسم الأَعظم. على أَنهم اختلفوا فى تعيينه. فقيل: يا ذا الجلال والإِكرام، وقيل يا أَلله. وقيل: يا مسبّب الأَسباب. وقيل: يا بديع السّماوات والأَرض. وقيل: يا قريباً غير بعيد. وقيل: يا حَنَّان، يا مَنَّان. وقيل: يا مجيب دعوة المضطرّين. وقيل: صَمَد. وقيل هو فى قوله: {هُوَ الأول والآخر} . وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: يا حىّ يا قيّوم. وقيل: فى الحروف المقطَّعة الَّتى فى أَوائل السّور؛ نحو الم، وكهيعص، وحم عسق.
وإِمّا اسم مشترك بين الحَقِّ والخَلْق؛ فيكون للحقّ حقيقة، وللخَلْق مجازاً، كالعزيز، والرّحيم، والغنىّ، والكريم.
الرّابع اسم يجوز إِطلاقه وإِطلاق ضِدّه على الحقِّ تعالى؛ كالمُعطى والمانع، والضَّارّ والنَّافع، والهادى والمُضِلّ، والمُعِزّ والمُذِلّ، والباسط والقابض، والرّافع والخافض.
الخامس: اسم يجوز إِطلاقه عليه تعالى، ولا يجوز إِطلاق ضدّه؛ كالعالم، والقادر، ولا يجوز إِطلاق الجاهل، والعاجز.
السّادس: يكون مدحا فى حقِّه - تعالى - وفى حقّ غيره يكون ذمّاً؛ كالجبّار والقهَّار والمتكبّر.(2/77)
السّابع: اسم يكون معناه مأخوذاً فى فعله، ولا يجوز إِطلاق لفظه عليه، كالمَكَّار، والقتَّال، والكيّاد والمستهزئ.
الثامن: اسم يجوز إِطلاقه عليه - تعالى - على الإطلاق، نحو الرحمن الرّحيم، القُدّوس، المهيمن.
التاسع: اسم يكون إِطلاقُه عليه تعالى على حكم التقييد، والتوقيف؛ كاللَّطيف، والجواد، والنُّور، والواسع.
العاشر: اسم للإِثبات، ولا يجوز أَن يُدْعَى به؛ كالشئ، والموجود، وغيره.(2/78)
بصيرة فى الأمة
الأُمَّة لغة: الرّجُل الجامع للخير، والإِمام، وجماعةٌ أَرسل إِليهم رَسُول، والجيل من كل حىّ، والجنس، ومَن هو على الحقّ، ومُخالف لسائر الأَديان، والحِين، والقامة، والأُمُّ، والوجه، والنشاط، والطَّاعة، والعالِم، ومن الوجه: مُعظمُه، ومن الرجل قومه. وأُمَّه الله تعالى: خَلْقه.
وقد ورد فى نصّ القرآن على عشرة أَوجه.
الأَوّل: بمعنى الصَّف المصفوف {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أَى صفوف.
الثانى: بمعنى السّنين الخالية: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} أَى بعد سنين.
الثالث: بمعنى الرّجل الجامع للخير: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} .
الرابع: بمعنى الدّين، والمِلَّة: {إِنَّ هاذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} .
الخامس: بمعنى الأُمَم السّالفة، والقرون الماضية: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} .
السّادس: بمعنى القوم بلا عدد {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}(2/79)
السابع: بمعنى القوم المعدود: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} ، {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} أَى أَربعين رجلاً.
الثامن: بمعنى الزَّمان الطَّويل: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} .
التاسع: بمعنى الكُفَّار خاصّة: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ} .
العاشر: بمعنى أَهل الإِسلام: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أَى صِنفاً واحداً، وعلى طريقة واحدة فى الضَّلال والكفر، {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أَى فى الإِيمان، {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} أَى جماعة يتَخَيَّرُون العلم، والعمل الصَّالح، أَى يكونون أُسْوة لغيرهم.(2/80)
بصيرة فى الأكل
الأَكْل تناول المَطْعَم. وعلى طريق التشبيه [به] يقال: أَكلت النارُ الحطب. والأُكلْ - بالضمّ [وبضمّتين]-: اسم لما يؤكل. والأَكْلَة للمرة. والأُكْلة - بالضمّ -: اللُقمة. وأَكِيلة الأَسد: فريسته. وفلان ذو أَكْل من الزَّمان: ذو نصِيب وحَظّ. واستوفى أُكلَه: كناية عن بلوغ الأَجل وأَكل فلاناً: اغتابه.
وقد ورد فى نصّ القرآن على تسعة أَوجه.
الأَوّل: بمعنى الفواكه والثمرات {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} .
الثانى: بمعنى تناول المطعم: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} .
الثالث: بمعنى الإِحراق: {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} .
الرّابع: بمعنى الابتلاع: {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أَى يبتلعهنّ.
الخامس: بمعنى الإِبطال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} .
السّادس: بمعنى الافتراس: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} أَى يفترسه(2/81)
السّابع: بمعنى الانتفاع بالمأْكول والمشروب والملبوس: {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .
الثامن: بمعنى أَخْذ الأَموال بالباطل: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} .
التاسع: بمعنى الرّزق المأْكول: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أَى لجاءَتهم الأَمطار من السّماءِ، والثمار من الأَرض.
وقد يعبّر بالأَكْل عن الفساد؛ {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} وتَأَكَّل الشئ: فسد، وأَصابه أُكال فى رأْسه وتأَكّلٌ أَى فساد. وكذا فى أَسنانه. وهُمْ أَكَلة رأْس: عبارة عن ناس مِن قلَّتهم يُشبعهم رأسٌ مَشْوىّ.(2/82)
بصيرة فى الأهل
أَهل الرّجل: مَن يجمعه وإيّاهم نسب، أَو دين، أَو ما يَجرى مجراهما: من صناعة، وبيت، وبلد، (وصنعة) . فأَهل الرّجل [فى الأَصل] من يجمعه وإِيّاهم مسكن واحد ثمّ تجوّز به (وقيل) أَهل بيت الرّجل لمن يجمعه وإِياهم [نسب] وتعورف فى أُسْرة النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم مطلقاً وعُبِّر بأَهل الرّجل عن امرأَته.
ولمّا كانت الشريعة حكمت برفع النَّسب فى كثير من الأَحكام بَيْنَ المسلم والكافر قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} وفى المثل: الأَهل إِلى الأَهل أَسرع من السيْل إِلى السّهل. وفى خبرٍ بلا زمام: إِن لله مَلَكاً فى السّماءِ السّابعة تسبيحُه: سُبحان مَنْ يسوق الأَهل إِلى الأَهل. وقال الشاعر:
لا يمنعنَّك خفض العيش فى دَعَة ... نُزُوعُ نفس إِلى أَهل وأَوطان
تلقى بكلّ بلاد إِن حَلَلْت بها ... أَهلاً بأَهل وجيراناً بجيران
والأَهل فى نصّ التنزيل ورد على عشرة أَوجه:(2/83)
الأَول: بمعنى سُكَّان القرى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} .
الثانى: بمعنى قُرَّاءِ التوارة والإِنجيل: {ياأهل الكِتَابِ} وله نظائر.
الثالث: بمعنى أَصحاب الأَموال وأَرباب الأَملاك: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} أَى أَربابها.
الرّابع: بمعنى العِيَال والأَولاد: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أَى بزوجه وولده.
الخامس: بمعنى القوم، وذوى القرابة: {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} .
السادس: بمعنى المختار، والخليق، والجدير: {كانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} .
السّابع: بمعنى الأُمّة، وأَهل الملَّة: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} .
الثَّامن: المستوجب المستحقّ للشئ: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة}
التَّاسع: بمعنى العِترة، والعشيرة، والأَولاد، والأَحفاد، والأَزواج، والذريات: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} ، {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} .
العاشر: بمعنى الأَولاد، وأَولاد أَولاد الخليل: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} .(2/84)
وأَهَّلَك الله فى الجنَّة أَى زوّجك، وجعل لك فيها أَهلاً يجمعك وإياهم. وجَمْع الأَهل أَهلون وآهال وأَهْلات. وفى الحديث: "اصنع المعروف إِلى من هو أَهله، وإِلى من ليس أَهله. فإِن أَصبت أَهله فهو أَهله، وإِن لم تصب أَهله فأَنت من أَهله".(2/85)
بصيرة فى الأول والأولى
وقد ورد الأَوّل فى نصّ القرآن على اثنى عشر وجهاً:
الأَوّل: بمعنى بيت الله الحرام: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} .
الثانى: بمعنى الكليم موسى عليه السّلام: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} .
الثالث: بمعنى الكفَّار من اليهود: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} .
الرّابع: بمعنى سيّد المرسلين: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} ، {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} .
الخامس: بمعنى سَحَرَة فرعون: {أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين} .
السّادس: بمعنى قوم عيسى وقت نزول المائدة: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} .
السّابع: بمعنى أَهل العقوبة فى النَّار: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} .
الثامن: بمعنى المظلومين من بنى إِسرائيل: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} .
التاسع: فى تشبيه سيّد المرسلين بالأَنبياءِ والرّسل الماضين: {كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} .(2/86)
العاشر: بمعنى مَجْمَع الخلائق فى معسكر المآبر: {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ} .
الحادى عشر فى خضوع سيّد المرسلين وخشوعه، وانقياده حال الصّلاة: {وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} .
الثانى عشر: فى الجمع بين صِفتى الأَوّليّة والآخريّة للحقِّ تعالى: {هُوَ الأول والآخر} .
وأَمّا من طريق المعنى فإِنَّه يأتى على ستَّة أَوجه: إِمّا على سبيل التقريب؛ كالفعل والفاعل. وإِمّا على حكم الترتيب، كالتشبيه والجسميّة. وإِمّا من طريق التركيب؛ كالفرد والبسيط مع المركَّبات. وإِمّا بحسب العقل؛ كالبديهيّات مع الاستدلاليات. وإِمّا بطريق الحِسّ: كالضَّروريّات مع القضايا. وإِمّا على حكم المجاورة؛ كالدنيا مع الآخرة.
وأَصل الأَوّل أَوْأَلُ. وقيل: وَوْأَلُ. والجمع الأَوائل، والأَوالى على القلب، والأَوّلون. وتأنيثه الأُولى، والجمع الأُوَلُ.
وإِذا جعلته صفة منعته من الصّرف، وإِلاَّ فصرفته. تقول: لقيته عاماً أَوّلَ. وعاماً أَوّلا، وعامُ الأَوّلِ مردود أَو قليل. وتقول: ما رأَيته مذ عامٌ أَوّل، ترفعه على الوصف، وتنصبه على الظَّرف. وابدأْ به أَوَّلُ يُضَمّ على الغاية، كفعلته قبلُ، وأَوّلَ كلّ شئ بالنصب. وتقول: ما رأَيته مذ أَوّل مِن أَوّل من أَمس، ولا يجاوَز ذلك.(2/87)
وقال الخليل: تأسيس الأَوّل من همزة وواو ولام. قال: وقد قيل: من واوين ولام. والأَوّل أَصحّ؛ لقلَّة وجود ما فاؤه وعينه حرف واحد؛ كدَدَن. فعلى الأَوّل يكون من آل يئول. وأَصله آول؛ فأُدغمت المدّة؛ لكثرة الكلمة. وهو فى الأَصل صفة لقولهم فى مؤنّثهِ: أُولى.
قال أَبو القاسم الأَصبهانى: الأَوّل يستعمل على أَوجه:
الأَوّل: المقدّم بالزمان؛ كقولك: عبد الملك أَوّلاً، ثم منصور.
الثَّانى: المتقدّم بالرّياسة فى الشئِ، وكون غيره محتذيا به؛ نحو الأَمير أَوّلاً [ثم] الوزير.
الثالث: المتقدّم بالوضع والنسبة؛ كقولك للخارج من العراق إِلى مكة: القادِسيّة أَوّلاً، ثمّ فَيْد. وتقول للخارج من مكَّة: فَيد أَوّلاً ثمّ القادسيّة.
الرّابع المتقدّم بالنظام الصّناعى؛ نحو أَن يقال: الأَساس أَوّلاً، ثمّ البناء. وإذا قيل فى صفة الله تعالى: هو الأَوّل فمعناه الَّذى لم يسبقه فى الوجود شئ. وإِلى هذا يرجع من قال: هو الَّذى لا يحتاج إِلى غيره، ومن قال: هو المستغنى بنفسه. وقوله: أَنا أَوّل المسلمين وأَنا أَول المؤمنين معناه أَنا المقتدى بى (فى) الإِسلام، والإِيمان. {وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِر بِهِ} أَى مّمن يُقتدى بكم فى الكفر والله أَعلم.(2/88)
بصيرة فى الآخرة والآخر والأخرى
الآخِر: اسم يقابَل به الأَوّل، موضع للنَّهاية؛ كما أَن مقابِله للبداية، مشتقّ من أَخَرَ يَأْخِرُ كضرب يضربُ، أُخُوراً، فهو آخِرْ، وهما آخِران وهم آخِرون. وفى المؤنّث: آخِرة، وآخرتان، وآخِرات، وأَواخر.
وآخَرُ - بفتح الخاءِ - يقابل به الواحد. وهما آخَران، وهم آخرون، وفى المؤنَّث تقول: أُخرى، وأُخريان، وأُخَرُ.
والأَخير والأَخيرة بمعنى الآخِر، والآخرةِ. وأُخر الأَمر: آخِره. وأُخرى اللَّيالى: آخر الدّهر.
ويعبّر بالدّار الآخرة عن النّشأَة الثانية؛ كما يعبّر بالدّار الدّنيا عن النشأَة الأُولى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} . وربّما تُرك ذكر الدّار؛ كقوله: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} . وقد يوصف الدّار بالآخرة تارة، ويضاف إِليها أُخرى؛ نحو {والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ، {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} والتقدير هنا: دار الحياة الآخرة.
وذُكرت هذه الأَلفاظ فى نَصّ القرآن على ثلاثة عشر وجهاً.
الأَوّل: بمعنى أَهل المعصيّة والطَّاعة؛ {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} .(2/89)
الثانى: آخر بمعنى العذاب والعقوبة: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} .
الثَّالث: أُخرى بمعنى أَهل النَّار فى حال التوبيخ والتعيير {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} .
الرابع: أُخرى بمعنى إِحياء الخَلْق يوم القيامة. {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} .
الخامس: الآخرة بمعنى يوم القيامة {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} .
السّادس: بمعنى الجنَّة خاصّة: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} أَىْ فى الجنَّة.
السّابع: بمعنى الجحيم خاصّة {سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة} بمعنى النار.
الثامن: بمعنى الأَخير فى المدّة: {مَا سَمِعْنَا بهاذا فِى الملة الآخرة} أَى الأَخيرة.
التاسع: بمعنى القبر: {بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} أَى فى القبر.
العاشر: أَهل النفاق: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} .
الحادى عشر: بمعنى المتأَخِّرين عن الغَزْو: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} .
الثانى عشر: بمعنى طبّاخ مالك بن الرّيان فى حال الحَبْس: {وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ} .
الثالث عشر: بمعنى الأَزلىّ الَّذى لا بِدَايَة له ولا نهاية: {هُوَ الأول والآخر} .(2/90)
بصيرة فى الأحد
وهى كلمة تستعمل على ضربين. أَحدهما فى النفى فقط؛ والثانى فى الإِثبات. فأَمّا المختصّ بالنْفى فلاستغراق جنس الناطقين. ويتناول القليل، والكثير، على طريق الاجتماع، والافتراق، نحو ما فى الدّار أَحد أَى لا واحدٌ، ولا اثنان فصاعداً، لا مجتمعين ولا مفترقين. ولهذا المعنى لا يصحّ استعماله فى الإِثبات؛ لأَنَّ نفى المتضادّين يصحّ، وإِثباتهما لا يصحّ. فلو قال: فى الدّار أَحد لكان فيه إِثبات واحدٍ منفرد، مع إِثبات ما فوق الواحد مجتَمعين، ومفترقين، وذلك ظاهر الإِحالة. ولِتناول ذلك ما فوق الواحد يصحّ أَن يقال: ما مِن أَحد فاضلين، كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
وأَمّا المستعمل فى الإِثبات فعلى ثلاثة أَوجه.
الأَوّل: فى الواحد المضموم إِلى العشرات؛ نحو أَحد عشر، وأَحد وعشرين. والثانى أَن يستعمل مضافاً إِليه، كقوله تعالى: {أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} ، وقولهم: يوم الأَحد أَى يوم الأَوّل، ويوم الاثنين.
الثالث: أَن يستعمل مطلقاً وصفاً، وليس ذلك إِلاَّ فى وصف الله تعالى.(2/91)
وأَصله وَحَد، أَبدلوا الواو همزة، على عادتهم فى الواوات الواقعة فى أَوائل الكلم؛ كما فى أُجوه ووجوه، وإِشاح ووِشاح، وامرأَة أَناة ووَناة.
وورد فى النصّ على عشرة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى سيّد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} يعنى أَحمد.
الثانى: بمعنى بِلاَل بن رَبَاح: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أَى لبلال.
الثالث: بمعنى يمليخا أَحدِ فِتية الكهف: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} .
الرّابع: بمعنى زيد بن حارثة مولى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} .
الخامس: بمعنى فَرْد من الخَلْق من أَهل الأَرض، والسّماءِ، من المَلَك، والإِنس والجِنَّ والشيطان {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} .
السّادس: بمعنى دقيانوس {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} .
السّابع: بمعنى إِبليس: {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} .
الثامن: بمعنى ساقى مالك بن الرّيّان:(2/92)
{قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} .
التَّاسع: بمعنى الصّنم، والوَثَن: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} ، {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ} .
العاشر: بمعنى الحقّ الواحد، الصّمد تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} .(2/93)
بصيرة فى الاثنين
وهو اسم للعدد الكائن بين الواحد والثلاث كأَنَّه ثَنى الواحدَ ثَنْياً. وقال بعضهم: هو أَقلّ الجمع. وقال الجمهور: أَقلّ الجمع ثلاث. والصّواب أَن يقال: هذا أَقل جمع الفَرْد، وذلك أَقل جَمْع الزَّوج. حكاه الشيخ أَبو عبد الله الخاتمى عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم فى بعض مرائيه. واثنان. واثنتان أَصلهما ثِنيَان، وثنتيان؛ حذفوا اليَاءَ منهما، بقى ثِنَان، وثنتان. ولمّا كان (ثنان) ناقصاً فى العدد أَلحقوا بها همزة، وسكَّنوا ثاءَها، ثمّ زادوا على (ثنتان) أَيضاً همزة (للمجانسة والموافقة فقالوا اثنان واثنتان) ويستعمل اثنتان بغير الهمزة أَيضاً؛ يقال: ثنتان، ولا يقال: ثنان.
وقد ورد فى القرآن على عشرة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الوارثات من البنات: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين} .
الثانى: بمعنى الكلالة من الإِخوة والأَخوات: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} .
الثالث بمعنى النَّعَم من الحيوانات: {مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} .
الرّابع: بمعنى النَّهى عن اعتقاد تثنية إلاين: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلاهين اثنين} .(2/94)
الخامس: بمعنى الجمع بين الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم والصدّيق فى حالات الخَلَوات: {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار} .
السّادس: فى تقرير شَرْع الأَحكام بشاهدين عدلين: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} .
السّابع: فى الإِشارة إِلى الأَعين الَّتى انفجرت من الحَجَر ساعة إِظهار المعجزة: {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} .
الثامن: تفريق قوم موسى على عِدّة أَسباط {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} .
التَّاسع: بَعْث بنى إِسرائيل الذين ساروا نحو العمالقة: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} .
العاشر: عددُ الأَشهر فى العام: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} .(2/95)
بصيرة فى الأربع والأربعين
والأَربع: اسم للعدد الَّذى يزيد على الثلاث، وينقص عن الخمس. وسمّى أَربعاً؛ لأَنَّ الشئ يصير به مربّعاً، ورُبَاع ومَرْبع، بمعنى أَربعة أَربعة
وجاءَ فى القرآن بمعنيين: الأَول إِشارة إِلى عدد (أَجنحة) الملائكة: {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} .
الثانى: عبارة عن النِّساء المحلَّلَة بعَقْد النكاح: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} .
وأَمّا الرُبُع فإِنه ورد للدّرجة الأُولى فى ميراث الزوجة من الزَّوج: {وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ} (وللدرجة الثانية فى ميراث الزوج من الزوجة) {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ} .
والأَربع والأَربعون ورد فى التَّنزيل على اثنى عشر وجهاً.
الأَوّل: بيان تربُّص مدّة الإِيلاءِ: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} .
الثانى: بيان عدّة الوفاة: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .
الثالث: إِظهار معجزة الخليل: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير} .(2/96)
الرّابع: بيان أَشهر الحرم {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} .
الخامس: تمهيد قادة شهادة الزناة {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} .
السّادس: بيان حكم اللِّعان: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} .
السّابع: لدَرْءِ العذاب والعقوبة عن الملاعَنة: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله} .
الثامن: لتهديد الخائضين فى قصّة الإِفْك: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} .
التَّاسع: بيان خِلْقة الحيوانات: {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} .
العاشر: بيان تقدير الأقوات، والأَوقات: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} .
الحادى عشر: الأَربعون لبيان سنّ التَّوبة والشكر: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} .
الثانى عشر: ميقات موسى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .(2/97)
بصيرة فى الارسال
وقد ورد فى التنزيل على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى التَّسليط {أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} {أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} أَى سُلِّطُوا.
الثَّانى: بمعنى البعث والتَّصديق: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} {أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} .
الثالث: بمعنى الفتح: {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} .
الرّابع: بمعنى الإِخراج: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} أَى مخرجوها.
الخامس: بمعنى التَّوجيه: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} أَى وجّه، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً} .
السّادس: بمعنى الإِطلاق من العذاب: {أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} .
السّابع: بمعنى إِنزال المَطَر: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} .
وأَصل الرّسْل الانبعاث على التؤدة، ناقة رَسْلة: سهلة السّير، وإِبل مَرَاسيل: منبعثة انبعاثاً سهْلاً. وسيأْتى فى باب الرّاءِ تمامُه إِن شَاء الله تعالى.(2/98)
بصيرة فى الاتباع
وقد ورد فى التَّنزيل على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الصّحبة: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ} أَى أَصحَبُك، {واتبعك الأرذلون} أَى صَحِبك.
الثانى: بمعنى الاقتداءِ والمتابعة: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} : اقتدوا به
الثَّالث: بمعنى الثبات والاستقامة: {اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أَى دُم واثْبتْ عليها.
الرّابع: بمعنى الاختيار والموافقة: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} .
الخامس: بمعنى العمل: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أَى عمِلوا به.
السّادس: بمعنى التَّوجُّه إِلى الكعبة، أَو إِلى بيت المقدس فى الصّلاة {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} .
السّابع: بمعنى الطاعة {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} أَى لأَطعتم.
والمادّة موضوعة للقَفْو، تبِعه واتَّبعه أَى قفا أَثره. وذلك تارة بالجسم،(2/99)
وتارة بالارتسام والائتمار. وعلى ذلك قوله تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} . ويقال أَتبعه إِذا لحِقه؛ كقوله - تعالى - {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} ويقال: أُتْبع فلا بملئِ أَى أحيل عليه. وتُبّع كانوا رءوساً، سُمّوا بذلك لاتِّباع بعضهم بعضا فى الرّياسة والسياسة. والتُّبَّع: الظِّل. والمُتْبع من البهائم: التى يتبعها ولدها. والتّبِيع خُصّ بولد البقرة إِذا اتَّبع أُمّه.(2/100)
بصيرة فى الافك
وقد ورد فى نصّ القرآن على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الكذب: {فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} أَى كذِب.
الثانى: بمعنى العبادة: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} .
الثَّالث: بمعنى وصف الحقِّ بالشريك والولد: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله} .
الرّابع: بمعنى قَذْف المحصنات: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ} .
الخامس: بمعنى الصّرف والقَلْب {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أَى يُصْرف، {فأنى تُؤْفَكُونَ} أَى تُصرفون.
السّادس: بمعنى الانقلاب: {والمؤتفكة أهوى} .
السّابع: بمعنى السّحر: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أَى ما يسحرون.
والإِفك فى الأَصل كلّ مصروف عن وجهه الذى يحقّ أَن يكون عليه. وقوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} استعمله فى ذلك لمّا اعتقدوا أَنَّ ذلك من الكذب. ورجل مأفوك: مصروف عن الحقِّ إِلى الباطل، وعن العقل إِلى الخيال.(2/101)
بصيرة فى الامساك
وقد ورد فى النصّ على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى رَجعة المطلِّق بعد الطَّلاق {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أَى مراجعة.
الثانى: بمعنى الحبس: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} أَى احتبسوهنّ.
الثالث: بمعنى البخل: {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} أَى بخلتم.
الرابع: بمعنى الحفظ: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} ، {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أَى يحفظ.
الخامس: بمعنى المنع: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أَى فلا مانع؛ {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} .
السّادس: بمعنى الاستيثاق بالشئ والتعلُّق به: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أَى تعلَّق وتمسّك.
السَّابع: بمعنى العمل بالشئ: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} أَى اعمل به. ويقال: مسك به، وأَمسك، وتماسك، ومَسَّك، واستمسك، وتمسك أَى احتبس [واعتصم به] قال الشاعر:(2/102)
ودّعت إِلْفى وفى يدى يدُهُ ... مثل غريق به تمسّكت
فراح عنى وراحتى عَطِرت ... كأَنَّنى بعده تمسّكت
والمُسْكة: ما يتمسّك به، وما يُمسِك الأَبدان من الغِذاءِ والشَّراب. وقيل: ما يتبلَّغ به منهما. والمُسْكة أَيضاً، والمَسِيك: العقل الوافر. ورجل مَسِيك، ومِسّيك، ومُسَكة - كهُمَزة - ومُسُك - بضمّتين -: بخيل. وفيه مُسْكة، ومُسُكة، ومَساك، ومِسَاك، ومِسَاكة وإِمساك: بُخْل. والمَسَك والمَسَاك، والمَسِيك: موضع يُمسِك الماءَ. والمَسَكُ: الذبْل المشدود على المِعْصَم.(2/103)
بصيرة فى الأخذ
وقد ورد فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى القبول: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} : قبلتم.
الثانى: بمعنى الحَبْس: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أَى احبس، {مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ} أَى نحبس، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} أَى ليحبس.
الثالث: بمعنى العذاب والعقوبة: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أَى عذابه.
الرّابع: بمعنى القتل: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أَى يقتلوه.
الخامس: بمعنى الأَسْر {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} .
والأَصل فيه حَوْز الشئ وتحصيله. وذلك تارة يكون بالتَّناول؛ كقولك أَخذنا المال، وتارة بالقهر؛ نحو قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ} {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} ، وأَخذته الحُمّى. ورجل أَخِذ، وبه أُخُذ - بضمّتين -: كناية عن الرّمد وتقدّم فى بصيرة الاتخاذ شئ من معناه.(2/104)
بصيرة فى الاسراف
وقد ورد فى التنزيل على ستَّة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الحرام: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً} .
الثانى: بمعنى مخالفة الموجبات: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أَى فلا يُخالف ما يجب.
الثَّالث: بمعنى الإِنفاق فيما لا ينبغى: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} .
الرابع: بمعنى التجاوز عن الحَدّ، وهو معناه الأَصلىّ: {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} .
الخامس: بمعنى الشِرْك: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} أَى المشركين.
السّادس: بمعنى الإِفراط فى المعاصى: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} أَى أَفرطوا عليها بالمعاصى.
والسّرف وإِن كان موضوعاً لتجاوز الحدّ فى كلّ فعل يفعله الإِنسان، لكن فى الإِنفاق أَشهر. ويقال تارة باعتبار القَدْر، وتارة باعتبار الكيفيّة. ولهذا قال سفيان: ما أَنفقت فى غير طاعة الله فهو سَرَف، وإِن كان قليلاً، وسُمّى قوم لوط - عليه السّلام - مسرفين مِن حيث إِنَّهم تعدّوا فى وضع البَذْر فى غير المحلّ المخصوص بقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} .(2/105)
بصيرة فى الاستواء
وقد ورد فى النَّص على ستَّة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى القَصْد إِلى الشئ: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} أَى قصد إِلى خَلْقها.
الثانى: بمعنى التمكُّن والاستقرار: {واستوت عَلَى الجودي} أَى استقرّت.
الثالث: بمعنى الرّكوب، والاستعلاء: {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم} أَى ركِبتم واستعليتم.
الرّابع: بمعنى الشدّة والقوّة: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى} أَى قوى واشتدّ.
الخامس: بمعنى المعارضة والمقابلة: {وَمَا يَسْتَوِي البحران} {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} أَى يقابل هذا ذاك.
السّادس: بمعنى القهر والقدرة: {استوى عَلَى العرش} {الرحمان(2/106)
عَلَى العرش استوى} أَى أَقبل على أَمره، واستولى على مِلكه، وقدر عليه بالقهر والغلبة. وهو أَعظم المخلوقات، وأَكبر الموجودات. فإِذا قهره وقدر عليه، فكيف ما دونه لديه.
قال أَبو القاسم الأَصبهانى: استوى يقال على وجهين. أَحدهما يُسند إِلى فاعلَين فصاعداً، نحو استوى زيد وعمرو فى كذا، أَى تساويَا.
الثانى: أَن يقال لاعتدال الشئ فى ذاته، نحو قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فاستوى} ، ومتى عدّى بعلى اقتضى معنى الاستيلاء، نحو {الرحمن عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} . وقيل معناه: استوى له ما فى السّماوات، وما فى الأَرض بتسويته تعالى إيّاه؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ} . وقيل: معناه استوى كلّ شيءٍ فى النسبة إِليه، فلا شئَ أَقربُ إِليه من شىءٍ؛ إِذ كان تعالى ليس كالأَجسام الحالَّة فى مكان دون مكان. وإِذا عُدّى بإِلى اقتضى معنى الانتهاءِ إِليها إِمّا بالذَّات، أَو بالتَّدبير. والله أَعلم.(2/107)
بصيرة فى الأجل
وقد ورد فى النصّ على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الموت المقدّر: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} .
الثانى: بمعنى وقت معيّن معتبر {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} إِمّا العشر وإِمّا الثمانية.
الثالث: بمعنى إِهلاك الكفَّار: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} أَى إِهلاكهم.
الرّابع: بمعنى عِدّة النساءِ بعد الطَّلاق: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} .
الخامس: بمعنى العذب والعقوبة: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} أَى عذابه.
والأَجل فى الأَصْل: موضوع للمدّة المضروبة للشئ؛ قال الله تعالى: {ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى} ويقال للمدّة المضروبة لحياة الإِنسان: أَجَل. فيقال: دنا أَجله، عبارة عن دُنوّ الموت. وأَصله استيفاء الأَجل أَى مدّة الحياة.(2/108)
وقوله: {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} أَى حدّ الموت. وقيل: حَدّ الهَرَم. وقوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} فالأَول البقاءُ فى هذه الدّنيا، والثانى البقاءُ فى الآخرة. وقيل: الأَوّل هو البقاءُ فى الدّنيا، والثانى (مدة) ما بين الموت إِلى النشور، عن الحسن. وقيل: الأَوّل للنوم، والثانى للموت، إِشارة إِلى قوله - تعالى - {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} عن ابن عبّاس رضى الله عنه. وقيل: الأَجَلان جميعاً: الموت، فمنهم مَن أَجلُه بعارض؛ كالسّيف والغَرَق والحرَق وكلّ مخالف، وغير ذلك من الأَسباب المؤدية إِلى الهلاك. ومنهم من يُوَقّى ويعافى حتى يموت حَتفَ أَنفه. وهذان المشار إِليهما: مَنْ أَخطأَته سهم الرّزية لم يخطئه سهم المنيّة؛ وقيل: للنَّاس أَجلان، منهم مَنْ يموت عَبْطة، ومنهم من يبلغ حدّاً لم يجعل الله فى طبيعة الدنيا أَن يبقى أَحد أَكثر منه فيها. وإِليهما أَشار بقوله: {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} وقصدهما الشاعر بقوله:
رأَيتُ المنايا خَبْط عَشْواءَ من تُصبْ ... تُمِتْهُ ومن تُخْطِئ يُعَمّر ويهرمِ(2/109)
بصيرة فى الامام
وهو المؤتمّ به، إِنساناً كان يقتدى بقوله وفعله، أَو كتاباً، أَو غير ذلك، مُحِقّاً كان أَو مبطِلاً. وقد ورد فى النَّص على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى مقَدّم القوم وقائد الخيرات: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} : قائداً لهم.
الثَّانى: بمعنى اللَّوح المحفوظ المشتمل على جملة الأَقوال والأَفعال والأَحوال: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} .
الثالث: بمعنى الراحة والرّحمة: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} .
الرابع: بمعنى الطَّريق الواضح: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} : طريق واضح.
الخامس: بمعنى الكتاب؛ كالتوارة والإِنجيل والصّحف والزَّبور والفرقان: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} .(2/110)
بصيرة فى الأم
وهى لغةً: بإِزاءِ الأب. وهى الوالدة القريبة الَّتى ولدته، والبعيدة التى ولدت مَن ولدته. ولهذا قيل لحوّاءَ: هى أُمّنا، وإِن كان بيننا وبينها وسائط. ويقال لكلّ ما كان أَصلاً لوجود الشَّئ، أَوْ تربيته، أَو إِصلاحه أَو مبدئه: أُمّ. قال الخليل: كل شئ ضُمّ إِليه سائر ما يليه يُسمّى أُمّا. ويقال: أُمّ وأُمّة، الجمع أُمَّات وأُمّهات. وقيل: الأُمّات للبهائم، والأُمّهات لبنى آدم. والهاءُ فيه زائدة. ولا يوجد هاء مَزِيدة فى وسط الكلمة أَصلاً إِلاَّ فى هذه الكلمة، قال:
رُزئت بأَمّ كنت أَحيا برُوحها ... وأَستدفع البلْوى واستكشف الغُمم
وما الأُمّ إِلا أُمّة فى حياتها ... وأُمّ إِذا ماتت وما الأُمّ بالأَمَمْ
من الأَمر ما للناس جُرّعت فقدها ... ومن يبك أُمّا لم تُذَمْ قط لا يُذَمّ
وقد ورد فى النصّ على ثمانية أَوجه:
الأَوّل: بمعنى نفس الأَصل: {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أَى أَصل الكتاب.
الثانى: بمعنى المرجع والمأْوى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أَى مسكنه النار.
الثالث: بمعنى الوالدة: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} .
الرّابع: بمعنى الظِئْر {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} .(2/111)
الخامس: بمعنى أَزواج النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} .
السّادس: بمعنى اللَّوح المحفوظ: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب} .
السّابع: بمعنى مكَّة شرّفها الله تعالى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى} . سمّيت بها لأَنَّ الأَرض دُحِيت مِن تحتها.
(وأُم الرباع مكَّة) . وأُمّ النُّجوم: المجَرّة. وأُمّ الجيش: الرئيس. وأُمّ الكتاب: الفاتحة.
والأُمّة والإِمام تَقَدّم فى بصيرتيهما.(2/112)
بصيرة فى الأب
وهو الوالد. ويسمّى كلّ من كان سبباً فى إِيجاد شئ أَو إِصلاحه وظهوره: أَباً. ولذلك سُمّى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَباً للمؤمنين. ويروى أَنَّه قال صلَّى الله عليه وسلَّم لعلى رضى الله عنه "أَنا وأَنت أَبوا هذِه الأَمّة"
وأَصله أَبَوٌ، فلمّا كثر استعماله حذفوا الواو. على قياس يدٍ ودمٍ وأَخٍ. والجمع آباء، وأَبُون. وأَبوت وأَبيْت: صرت أَبا، وأَبوته إِباوة - بالكسر - صرت له أباً. والاسم الإِبْواء. وتأَبّاه: اتَّخذه أَبا. وقالوا فى النِّداءِ: يا أَبت - بسكر التَّاءِ، وضمّها - ويا أَبه - بالهاء - ويا أَباه. والأَبا لغة فى الأَب. وكذا الأَبّ مشدّدة. ويقال: لابَ لك، ولا أَب لك، ولا أَبا لك، ولا أَباك، ولا أَبك. كلّ ذلك دعاءٌ فى المعنى لا محالة، وفى اللَّفظ خبر، يقال لمن له أَب ولمن لا أَب له. قال الشاعر:
إِنَّ أَباها وأَبَا أَباها ... قد بلغا فى المجد غايتاها
وقال آخر:
خالِلْ خليل أَخيك وابغ إِخاءَه ... واعلم بأَنَّ أَخا أَخيك أَخوكا(2/113)
واعطف بجَدّك رحمة وتعطُّفاً ... واعلم بأَنَّ أَبا أَبيك أَبوكا
أَبُنىّ ثم بنى بنيك فكن لهم ... بَرَّا فإِنَّ بنى بنيك بنوكا
وورد الأَب فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الجَدّ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أَى جدّكم.
الثانى: بمعنى العَمّ: {وإلاه آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ [وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلاها وَاحِداً} وإِسماعيل لم يكن من آبائه وإِنما كان عمه] . والعرب تطلق على العمّ الأَب، وعلى الخالة الأُمّ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} يعنى أَباه، وخالته.
الثالث: بمعنى الوالد: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} ، {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ} .
الرابع: الأَبُّ مشدّدة بمعنى المَرْعَى {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} .(2/114)
بصيرة فى الاتقاء
افتعال من التقوى، وهو جعل الشئ فى وقاية ممّا يُخاف منه. هذا حقيقته. ثمّ يسمّى الخوف تارة تَقْوَى، والتقوى تارة خوفاً، حسب تسمية المقتضَى بمقتضيه، والمقتضِى بمقتضاه.
وصار التَّقوى - فى عرف الشَّرع - حفظ النَّفس عمّا يُؤثم. وذلك يتجنَّب المحظور. و [يتم] ذلك بترك كثير من المباحات، كما فى الحديث "الحَلال بيّن والحرام بيّن. ومَنْ رتَع حول الحِمَى يوشك أَن يقع فيه"، "لا يبلُغُ الرّجل أَن يكون المتَّقين حتى يَدَع ما لا بأْس به حذرا مّما به البأْس" قال الماع: منازل التقوى ثلاثة: تقوَى عن الشرك، وتقوَى عن المعاصى، وتقوى عن البِدْعة.
وقد ذكرها الله سبحانه فى آية واحدة، وهى قوله - عزَّ وجلّ - {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين} التَّقوى الأُولى تقوى عن الشرك، والإِيمان فى مقابلة التَّوحيد، والتَّقوى الثانية عن البدعة، والإِيمان المذكور معها إِقرار السنَّة والجماعة. والتقوى(2/115)
الثالثة عن المعاصى الفرعيّة، والإِقرار فى هذه المنزلة قابلها بالإِحسان، وهو الطَّاعة وهو الاستقامة عليها.
وورد فى التنزيل على خمسة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الخوف والخشية: {اتقوا رَبَّكُمُ} .
الثَّانى: بمعنى التحذير والتخويف: {لاَ إلاه إِلاَّ أَنَاْ فاتقون} .
الثَّالث: بمعنى الاحْتراز عن المعصية: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله} .
الرّابع: بمعنى التَّوحيد والشِّهادة: {اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أَى وحّدوا الله.
الخامس: بمعنى الإِخلاص واليقين: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} {أولائك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} .
وقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} يُشْعِر بأَنَّ الأَمرِ كلَّه راجع إِلى التَّقوى. وقوله تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} يُفهِم أَنَّه لو كانت فى العالم خَصْلة هى أَصلح للعبد، وأَجمع الخير، وأَعظم للأَجر، وأَجَلّ فى العُبوديّة، وأَعظم فى القدر.(2/116)
وأَوْلى فى الحال (وأَنجح) وفى المآل من هذه الخَصْلة، لكان الله - سبحانه - أَمر بها عباده، وأَوصى خواصّه بذلك؛ لكمال حكمته ورحمته. فلمّا أَوصى بهذه الخَصْلة الواحدة جميعَ الأَوّلين والآخرين من عباده، واقتصر عليها، علمنا أَنَّها الغاية الَّتى لا متجاوَز عنها، ولا مقتصر دونها، وأَنه - عز وجلّ - قد جمع كلّ محض نُصْح، ودلالة، وإِرشاد، وسُنَّة، وتأْديب، وتعليم، وتهذيب فى هذه الوصيّة الواحدة. والله ولىّ الهداية.(2/117)
بصيرة فى ان وان وانا
وقد يرد (إِنْ) فى كلامهم، وفى القرآن على وجوهِ:
الأَوّل: حرف شرط: إِن تخرج أَخرج.
الثانى المخفَّفة من المثقَّلة تأْكيدا: إِنَّ كُلاَّ، وإِنْ كلا؛ وقد قرئَ بهما.
الثالث: أَمر مِن أَنَّ يَئِنّ، إِذا أَمرت قلت: إِنَّ.
الرّابع: بمعنى: "إِذْ" كقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَى إِذا كنتم.
الخامس: بمعنى قَدْ: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أَى قد كنَّا، {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} .
السّادس: إِن المزيدة للتأْكيد: ما إِن رأَيت زيدا: أَى ما رأَيت:
ورَجّ الفتى للخير ما إِن رأَيته ... على السنّ خير لا يزال يزيد
السّابع: بمعنى ما النافية للجنس: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} .
وإِنَّ حرف ينصب الاسم، ويرفع الخبر. وقد ينصبهما: نحو:
إِذا اسودّ جنحُ اللَّيل فلتأْت ولتكن ... خُطَاك خفافاً إِن حُرّاسنا أُسْدا
ويؤكَّد بها الخبر؛ وما بعدها فى تأْويل المصدر. وقد يخفَّف. وقد يكون بمعنى نَعَمْ ويبطل عن العمل {إِنْ هاذان لَسَاحِرَانِ} .(2/118)
بصيرة فى أن وأن وأنى
أَنْ من نواصب الفعل المستقبل، مبنىّ على السّكون
ويَرِد فى كلام العرب، وفى القرآن العزيز على ستَّة أَوجه:
الأَوّل: أَن يعمل فى الفعل المستقبل بالنَّصبيّة: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} .
الثانى: أَلاَّ يعمل. وذلك حين يتوسّط السّين بينها وبين الفعل: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} .
الثالث: أن تكون مخفَّفة من الثقيلة؛ كقولك: علمت أن زيد لمنطلق، مقترنا بلام فى الإِعمال، وعلمت أَن زيد منطلق بلا لام فى الإِلغاءِ.
الرابع: أَن يكون بمعنى أَىْ: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} .
الخامس: أَن تكون زائدة للتأْكيد: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا} وفى موضع آخر {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا} .(2/119)
السّادس: أَن تكون مع الفعل فى تاويل المصدر: أَحبَبْت أَن تقوم أَى قيامك.
السّابع: أَن المضمرة الَّتى تعمل، وإِن لم تكن فى اللفظ؛ لأَلْزَمنَّك أَو تقضينى حقِّى، أَى إِلى أن تقضينى.
وأَنَّ ينصب الاسم ويرفع الخبر، كإِنَّ المكسورة وقد يكون بمعنى لَعلّ. وإِذا أَضفته إِلى جمع أَو عظيم قلت: إِنا، وإِنَّنا.
وأَنَّى يرد فى الكلام على أَوجه: بمعنى كَيف، وحيث، وأَيْن {أنى شِئْتُمْ} محتمل الأَوجه الثلاثة. وقوله: {أنى لَكِ هاذا} أَى مِن أَين لكِ. ويكون حرف شرط: أَنى يكن أَكن.
وهمزة أَن مفتوحة إِلاَّ فى مواضع (نظمتُها فى قولى) .(2/120)
بصيرة فى أى
وهى ترد فى القرآن والكلام على خمسة أوجه.
الأَوّل: اسم نكرة موصوفة: {يأَيها النَّاس} .
الثَّانى: للتعظيم: جاءَنى رجل أَىُّ رجل.
الثالث: بمعنى الَّذى: أَيّهم فى الدّار أَحول، أَى الَّذى.
الرّابع: للاستفهام: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} .
الخامس: للشَّرْط: أَيُّهم يكرمنى أَكرمْه، {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} . وقد يستفهم به عن نكرة فى نحو مَن قال: جاءَ رجل تقول: أَىُّ يا فتى؟ فى الرّفع، وأَيا فى النَّصب، وأَىٍّ فى الجرّ، وأَيّانِ وأَييّيْن فى التثنية، وأَيُّون وأَيّين فى الجمع.(2/121)
بصيرة فى أو
ويرد على اثنى عشر وجهاً:
للشكِّ؛ نحو جاءَنى زيد أَو عمرو، وللتخيير: اشرب الماءَ أَو اللّبن، وللإِباحة: جالس الحسن أَو ابن سيرين، وبمعنى حتى: لأَلزمنك أَو تعطينى حقِّى، وبمعنى الواو: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} ، وبمعنى بَلْ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، وبمعنى إِلى، وبمعنى إِلاَّ فى الاستثناءِ. وهذه ينتصب المضارع بعدها بإِضمار أَن، نحو:
كسرت كعوبها أَو تستقيما
وللتبعيض: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} ويكون للتقريب وللتقسيم. وتكون شرطيّة: لأَضربنَّه عاش أَو مات، وبمعنى إِذَنْ وإِذا جعلتها اسماً ثقَّلت الواو، يقال: دع الأَوَّ جانبا.(2/122)
بصيرة فى الاسفار
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى المنازل والقُرى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أَى بَيْن قرانا.
الثانى: بمعنى الكُتُب والصّحائف: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} .
الثالث: بكسر الهمزة بمعنى اللَّمعان والبرق، والنضارة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} .
الرابع: بمعنى الإِضاءَة والتنوير: {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} .(2/123)
بصيرة فى الأشعار
ويرد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الإِعلام: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} .
وبالفتح جمع شَعر: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} .
والشعراءُ جمع شاعر {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} .
الرّابع: الشَّعائر بمعنى مناسك الحجّ: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} جمع شعيرة، وهى ما يُهْدَى إِلى بيت الله من الأَنعام. وسُمّى بذلك لأَنها تُشعَر أَى تعلَّم بأَن تُدْمَى بشِعيرة أَى حديدة يُشْعر بها.
والشِّعْرى: نجمان فى السّماءِ. وهما شعريان: شِعْرَى العبورُ وشعرى الغُمَيصاءُ، وخصّه تعالى بقوله: {هُوَ رَبُّ الشعرى} ، لأَنَّ قوماً عبدوها.
وشعرت أَصبت الشَّعر. ومنه استعير شَعَرت. بمعنى علِمت أَى أَصبْتُ عِلْماً هو فى الدّقَّة كاصابة الشَّعر. وسمّى الشاعر لدقَّة معرفته. فالشِّعر فى الأَصل اسم للعِلْم الدّقيق، وصار فى التعارف اسماً للموزون المقفَّى والشَّاعر للمختصّ بصناعته
وقوله - تعالى - حكاية عن قول الكُفَّار {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}(2/124)
حمله كثير من المفسّرين على أَنَّهم رَمَوه بكونه آتِيا بشِعْر منظوم، [حتى تأَوّلوا ما جاءَ فى القرآن من كل كلام يشبه الموزون، من نحو {وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِيَاتٍ} ] . وقال بعض المحصّلين: لم يقصدوا هذا المقصِد فيما رمَوه به. وذلك أَنَّه ظاهر من القرآن المجيد أَنَّه ليس على أَساليب الشّعر، وهذا ممّا لا يخفى على الأَغتام من الأَعجام، فضلاً عن بُلَغَاءِ العرب. وإِنَّما رمَوه بالكذب: فإِنَّ الشّعر يعبّر به عن الكذب، والشَّاعرُ الكاذبُ: حتى سَمّى قوم الأَدلة الكاذبة: (الأَدلَّة) الشعريّة. ولكون الشعر مَقَرّا للكذب قيل: أَحسن الشعر أَكذبه. وقال بعض الحكماء: لم يُرَ متديّن صادق اللَّهجه مُفْلِقا فى شعره.
والمشاعر: الحواسّ، {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} ونحوه معناه: لا تدركونه بالحواسّ. ولو قال فى كثير ممّا جاءَ فيه {لاَ يَشْعُرُونَ} : لا يعقلون، لم يكن يجوز؛ إِذ كان كثير ممّا لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً.
والشِّعار: الثَّوب الَّذى يلى الجَسَد لمماسّة الشَّعَر. والشعار أَيضاً: ما يُشعِر الإِنسان به نفسَه فى الحرب، أَى يُعلم.(2/125)
بصيرة فى الاحاطة
وقد وردت فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى العلم: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أَى عَلِم.
الثانى: بمعنى الجمع: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أَى جامع لهم فى العقوبة.
الثالث: بمعنى الهلاك: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} .
الرّابع: بمعنى خسارة الشئ من كلّ جانب: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} وقيل: الإِحاطة يقال على وجهين:
أَحدهما: فى الأَجسام؛ نحو أَحطت بمكان كذا، ويستعمل فى الحفظ نحو {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أَى حافظ له من جميع جهاته. ويستعمل فى المنع؛ نحو {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أَى أَن تُمنعوا. وقوله: - تعالى - {أَحَاطَتْ به خَطِيئَتهُ} أَبلغ استعارة. وذلك أَنَّ الإِنسان إِذا ارتكب ذنباً، واستمرّ عليه استجرّه إِلى إِتيان ما هو أَعظم منه، فلا يزال يرتقى، حتى يُطْبَع على قلبه، فلا يمكنه أَن يخرج عن تعاطيه. والاحتياط: استعمال ما فيه الحِياطة أَى الحفظ.(2/126)
والثانى: فى العِلْم؛ نحو قوله: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فالإِحاطة بالشئ عِلماً هو أَن يعلم وجوده، وحسنه، وقدره، وكيفيّته، وغرضه المقصود به، وبإِيجاده، وما يكون هو منه. وذلك ليس إِلاَّ لله تعالى. وقال: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} فنى ذلك عنهم. وقال صاحب موسى {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ؛ تنبيهاً أَنَّ الصّبر التَّامّ إِنَّما يقع بعد إِحاطة العلم بالشئ، وذلك صعب إِلاَّ يفَيض إِلهى. وقوله - تعالى - {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} فذلك إِحاطة بالقدْرة.(2/127)
بصيرة فى الاحصاء
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الحفظ والضبط: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} أَى حفِظها.
الثانى: بمعنى الكتابة: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} .
الثالث: بمعنى الحَصْر والإِحاطة: {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} .
الرّابع: بمعنى الطَّاقة والقُدرة: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا أُحْصِى ثناءً عليك أَنت كما أَثنيت على نفسك".
واشتقاقه من الحَصَى. وذلك لأَنَّهم كانوا يعتمدونه بالعدد كاعتمادنا فيه على الأَصابع.
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم - فى الأَسماءِ الحسنى: "مَن أَحصاها دخل الجنَّة" قيل: أى مَنْ عدّها. وقرأَها. وقيل: مَنْ حفظها وضبطها. وقيل: مَنْ عرفها، وعرف معناها. وقيل: مَن تخلَّق بها حَسَب الطَّاقة(2/128)
البشريّة. وقوله: "استقيموا ولن تُحْصُوا" أَى لن تحصّلوا ذلك. ووجه تعذُّر إِحصائه وتحصيله هو أَنَّ الحقّ واحد، والباطل كثير، بل الحقّ بالإِضافة إِلى الباطل كالنقطة بالإِضافة إِلى سائر أَجزاءِ الدائرة، وكالَمْرمَى من الهَدَف، وإِصابة ذلك صعب عسيرٌ. وإِلى هذا أَشار صلَّى الله عليه وسلَّم "شيْبتنى سورة هود"، وقال بعض أَهل العلم: لن تُحصوا أَى لن تحصوا ثوابه. وقولهم: ماله حَصَاة ولا أَصاة، الحصاة: العقل، والأَصَاة إِتباع.(2/129)
بصيرة فى الادرااك
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَول: بمعنى الإِلجاءِ والاضطرار: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} أَى أَلجأَه واضطرّه.
الثانى: بمعنى الإِدراك واللُّحوق: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} .
الثالث: بمعنى الاجتماع: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أَى تدارك واجتمع بعضه على بعض. وقوله تعالى: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً} أَى لحِق كلّ بالآخر.
الرّابع: رؤية البَصَر {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ومنهم من حَمَله على البصيرة. وذلك أَنه قد نبّه به على ما رُوِى عن أَبى بكر: يا مَنْ غايةُ معرفته القصورُ عن معرفته؛ إِذ كان غاية معرفته - تعالى - أَن يعرف الأَشياءَ، فيعرف أَنَّه ليس بشئ منه، ولا بمثله، بل هو موجِد كلّ ما أَدركته. وأَصْل الإِدراك: بلوغ أَقصى الشئ. وأَدرك الصبىُّ: بلغ غاية الصبا. وذلك حين البلوغ. والدّرك - بالتَّحريك - أقصى قَعْر البحر. ومنه دَرَكات جهنَّم. ويقال للحبْل الذى يوصَل به حبل آخر ليدرك الماءَ: دَرَكٌ، ولما يلحق الإِنسان من تَبعة: دَرَك؛ كالدّرك فى البيع.(2/130)
بصيرة فى الاجر
وقد ورد فى النَّصّ على أَربعة أَوجه:
الأَول: بمعنى صَدُقات الأَزواج: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
الثانى: بمعنى ثواب الطَّاعة: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ} أَى ثوابهم. ولها نظائر.
الثالث: بمعنى الجُعْل والغُرْم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} ، {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} .
الرّابع: بمعنى نقة الدَايات: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} بمعنى نفقة الرّضاع.
والأَصل فى معنى الأَجر: ما يعود من ثواب العمل، دنيويّاً أَو أَخرويّاً. والأُجرة فى الثَّواب الدّنيوىّ، والأَجْر فى الآخرة، يقال فيما كان من عقد وما يجرى مَجْرى العقد، ولا يقال إِلاَّ فى النفع دون الضرّ، نحو {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} . والجزاءُ يقال فيما كان من عَقْد وغير عقد. ويقال فى النافع والضَّار نحو {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً}(2/131)
و {جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ} وأَجَره كنصره: أَعطاه الشئَ بأَجْره {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} وآجره كذلك. والفرق أَن أَجره يقال إِذا اعتبر (فعل أَحدهما، وآجره إِذاً اعتبر فعلاهما، وكلاهما يرجعان إِلى معنى. ويقال: أَجَره الله وآجره) . والأَجير فعيل بمعنى فاعل أَو مُفاعِل. والاستئجار: طلب الشئّ بأُجْرة، ثمّ يعبّر به عن تناول بالأُجْرة. {ياأبت استأجره} .(2/132)
بصيرة فى الأبيض
(هو) ضِدّ الأَسود: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ} {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} ؛ {وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ} .
وبِيْض (أَصله بُيْض) بالضمّ أَبدلوه بالكسر؛ ليصحّ الياءُ. والأَبيض: السّيف. والأَبيض: الفضَّة. والأَبيض: الرجل النقىّ العِرض. والأَبيض: كوكب فى حاشية المَجَرّة، وقَصْر للأَكاسرة، نقضه المكتفى، وبنى بشرفاته أَساس التَّاج، وبأَساسه شرفاته. والأَبيضان: اللَّبن والماءُ، أَو الشحم والشباب، أَو الخبر والماءُ، أَو الحنطة والماءُ. والموت الأَبيض الفجاءَة. وابيضَّ وابياضَّ ضدّ اسودّ واسوادّ. والبَيَاض: لونُ الأَبيض، واسم للَّبن. وفى كلامهم: إِذا قلّ البَيَاض كثر السّواد وإِذا كثر قلّ.
ولمّا كان البياض أَفضل لونٍ عندهم - كما قيل: البياض أَفضل، والسّواد أَهول، والحمرة أَجمل، والصّفرة أَشكل - عُبّر عن الفضل والكرم بالبياض، حتى قيل لمن لم يتدنَّس بمعاب: هو أَبيض الوجه. وسمّيت البَيْض؛ لبياضه، الواحدة بَيْضَة. وكُنى عن المرأَة بالبَيْضة؛ تشبيهاً بها باللَّون، وفى كونها مَصُونة تحت الجناح.(2/133)
بصيرة فى الأسود
السّواد مضادّ البياض. وقد اسودّ واسوادّ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فابيضاض الوجوه عبارة عن المَسَرّة، واسودادها عن المَسَاءَة. وحمل بعضهم (الابيضاض والاسوداد) على المحسوس. والأَول أَولى؛ كقوله تعالى فى البياض {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} ، وفى السّواد {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} وعلى هذا النَّحو ما روى: أَنَّ المؤمنين يحشرون يوم القيامة غُرّاً محجّلين مِن آثار الوضوءِ.
ويعبّر بالسّواد عن الشخص المترائى من بعيد، وعن سواد العين: قال بعضهم: لا يفارق سوادى سواده، أَى عينى شخصه. ويعبّر به عن الجماعة الكثيرة.
والأَسود من أَسماءِ الرّجال، ومن أَسماءِ الحَيّة. والأَسودان: التَّمر، والماءُ، والليل والحَرّة. (والسيد: المتولِّى للسواد أَى الجماعة الكثيرة) ؛ ولما كان من شرط المتولِّى للجماعة أَن يكون مهذَّب النَّفس قيل لكلّ مَنْ كان فاضلاً عن نفسه: سَيّد. وعلى ذلك قوله: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} وسمّى الزَّوج سيّداً لسياسته زوجته: وقوله تعالى {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا} أَى وُلاتنا وسائسينا.(2/134)
بصيرة فى االأخضر
هو لون بين السّواد والبياض، وإِلى السّواد أَقرب. ولهذا سُمّى الأَسود أَخضر، والأَخضر أَسود. وسواد العراق للموضع الَّذى يكثر فيه الخضرة. وسُمّى الخُضْرة بالدُّهْمة فى قوله: تعالى {مُدْهَآمَّتَانِ} أَى خضراوان. وخَضَراءُ الدِّمَن مفسّر فى الحديث بالمرأَة الحسناءِ فى المنبت السُّوءِ. وفى الحديث سمّى الخَضِرُ خَضِراً، لأَنَّه جلس فى فَرْوة بيضاءَ، فاهتزَّت تحته خضراءَ. الفروة: الأَرض لا نبات فيها.(2/135)
بصيرة فى الأصفر
الصُّفرة بين السّواد والبياض، وهى إِلى البياض أَقرب. قال الحسن فى قوله تعالى: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ} : سوداءُ شديدة السّواد. وقول مَنْ قال لا يقال فى تأْكيد السّواد: فاقع مردود. وقوله {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ} قيل: جمع أَصفر. وقيل: المراد الصُّفْر المعدنىُّ، ومنه قيل للنُّحاس صُفْر، ولِيَبِيس البُهْمى صُفَارٌ. ويقال للرُّوم: بنو الأَصْفر؛ لصفْرة أَلوانهم. ويقال: الصّفِير للصّوت حكاية لما يُسمع. ومن هذا صَفِر الإِناءُ إِذا خلاَ. حتى يُسمع منه صفير لخلوّه، ثمّ صارَ متعارَفا فى كلّ خالِ من الآنية وغيرها. وسمّى خُلُوّ الجوف والعُرُوق من الغِذَاءِ صَفَراً. ولمّا كانت تلك العروق الممتدّة من الكبد إِلى المعدة إِذا لم تجد غِذَاء امتصّت أَجزاءَ المعدة اعتقدت جَهَلة العرب أَنَّ ذلك حيّة فى البطن تَعَضُّ الشراسيف، حتى نفى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك فقال: لاصفَرَ أَى ليس فى البطن ما يعتقدون أَنَّه حيّة.(2/136)
بصيرة فى الأمسح
المسح: إِمرار اليد على الشئِ، وإِزالة الأَثر عنه. وقد يستعمل فى كلّ واحد منهما، يقال: مسحت يدى بالمنديل. ويقال للدّرهم الأَطلس: مَسِيح، وللمكان الأَملس: أَمسح، وهى مسحاءُ. ومسح الأَرض: ذَرَعها وعُبّر عن السّير بالمَسْح؛ كما عُبّر عنه بالذرع، فقيل: مسح البعيرُ المفازة، وذرعها.
والمَسْح فى تعارف الشرع: إِمرار الماءِ على الأَعضاءِ؛ يقال: مسحْت للصّلاة وتمسّحت. ومنه {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} ومسحته بالسّيف: كناية عن الضرب؛ كما يقال: مَسِست. ومنه {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} .
واختلف فى اشتقاق المسيح فى صفة نبىّ الله، وكلمته: عيسى، وفى صفة عدوّ الله الدّجّال - أَخزاه الله - على أَقوال كثيرة تنيف على خمسين.
قال ابن دِحْية فى كتابه: "مَجْمع البحرين فى فوائد المشرقين والمغربين": فيها ثلاثة وعشرِون قولاً. ولم أَرَ مَنْ جمعها قبلى ممّن رَحَل وجال، ولقى الرّجال.(2/137)
قال مؤلِّف هذا الكتاب محمّد الفيروزابادى - تاب الله عليه - فأَضفت إِلى ما ذكره الحافظ من الوجوه الحسنة، والأَقوال البديعة، فتمّت بها خمسون وجهاً.
وبيانه أَن العلماءَ اختلفوا فى اللفظة هل هى عربيّة أَم لا.
فقال بعضهم: سريانيّة. وأَصلها مشيحا - بالشين المعجمة - فعرّبها العرب. وكذا ينطق بها اليهود. قاله أَبو عُبيد. وهذا القول الأَوّل.
والذين قالوا: إِنها عربية اختلفوا فى مادّتها. فقيل: مِن (س ى ح) وقيل من (م س ح) ثمّ اختلفا، فقال الأَوّلون: مَفْعِل من ساح يسيح؛ لأَنَّه يسيح فى بلدان الدنيا وأَقطار العالم جميعها، أَصلها: مَسْيح، فأَسكنت الياءُ، ونقلت حركتها إِلى السّين؛ لاستثقالهم الكسرة على الياءِ. وهذا القول الثانى.
وقال الآخرون: مسِيح: مشتقّ من مَسَح إِذا سار فى الأَرض وقطعها: فعيل بمعنى فاعل. والفرق بين هذا وما قبله أَنْ هذا يختصّ بقطْع الأَرض، وذلك بقطع جميع البلاد. وهذا الثالث.
والرّابع عن أَبى الحسن القابِسىّ، وقد سأَله أَبو عمرٍو الدانىّ: كيف يقرأ المَسِيح الدّجال؟ قال: بفتح الميم وتخفيف السّين، مثل المسيح ابن مريم، لأَنَّ عيسى عليه السّلام مُسِح بالبركة، وهذا مُسِحت عَيْنه. الخامس قال أَبو الحسن: ومن الناس مَن يقرؤه بكسر الميم والسّين مثقِّلاً(2/138)
كسِكَّيت، فيفرُق بذلك بينهما. وهو وجه. وأَمّا أَنا فما أَقرؤه إِلاَّ كما أَخبرتك.
السّادس عن شيخه ابن بَشْكُوَال: أَنَّه قال: سمعت الحافظ أَبا عُمَر بن عبد البَرّ يقول: ومنهم من قال ذلك بالخاءِ المعجمة. والصّحيح أَنَّه لا فرق بينهما.
السّابع المسيح لغةً: الذى لا عَين له ولا حاجب؛ سمّى الدّجال بذلك؛ لأَنَّه كذلك.
الثامن المسيح: الكذَّاب، وهو أَكذب الخَلْق.
التَّاسع المسيح: المارد الخَبِيث. وهو كذلك.
العاشر قال ابن سِيده: مَسَحت الإِبلُ الأَرض: سارت فيها سيراً شديداً سُمّى به لسرعة سيره.
الحادى عشر: مَسَح فلان عُنق فلان أَى ضرب عُنُقه؛ سُمّى لأَنَّه يضرب أَعناق الذين لا ينقادون له.
الثانى عشر قال الأَزهرى: المسيح بمعنى الماسح، وهو القَتَّال. وهذا قريب من معنى ما قبله.
الثالث عشر المسيح: الدّرهم الأَطلس لا نقش عليه؛ قاله ابن فارس فهو مناسب للأَعور الدّجال إِذْ أَحَدُ شِقّىْ وجهه ممسوح.
الرابع عشر المَسَح: قِصَر ونقص فى ذَنَب العُقَاب؛ كأَنَّه سُمّى به لنقصه، وقِصَر مُدّته.
الخامس عشر مشتقّ من المماسحة، وهو الملاينة فى القلوب، والقلوبُ غير صافية. كذا فى المحكم؛ لأَنَّه يقول خلاف ما يُضْمر.(2/139)
السّادس عشر المَسِيح: الذوائب الواحدة (مَسيحة) وهى ما نزل من الشَّعَر على الظَّهر؛ كأَنَّه سمّى به؛ لأَنَّه يأْتى فى آخر الزمان.
السّابع عشر المَسْحِ: المَشْط والتزيين. والماسحة: الماشطة؛ كأَنه سمّى به؛ لأَنَّه يزيّن ظاهره، ويموّهه بالأَكاذيب، والزَّخارف.
الثامن عشر المَسِيح الذرَّاع؛ لأَنَّه يذرع الأَرض بسيره فيها.
التَّاسع عشر المَسِيح: الضِّلِّيل. وهو من الأَضداد، ضدّ للصّدِّيق، سمّى به لضلالته. قاله أَبو الهيثم.
العشرون قال المنذرى: المَسْح من الأَضداد: مَسَحه الله أَى خلقه خَلْقاً حسناً مباركاً، ومسحه أَى خلقه خَلْقاً مقبّحاً ملعّناً. فمن الأَوّل يمكن اشتقاق المَسِيح كلمةِ الله، ومن الثانى اشتقاق المسيح عدوّ الله. وهذا الحادى والعشرون.
الثانى والعشرون مَسَح النَّاقة ومَسَّحها إِذا هَزَلها، وأَدبْرها، وأَضعفها؛ كأَنَّه لوحظ فيه أَن منتهى أَمره إِلى الهلاك والدّبَار.
الثالث والعشرون الأَمسح: الذِّئب الأَزلّ المسرع، سمى به تشبيهاً له بالذِّئب؛ لخبثة وسرعة سيره.
الرّابع والعشرون المَسْح: القول الحسن من الرّجل، وهو فى ذلك خادع لك، سمّى به لخداعه ومكره. قاله النَضْر بن شُميل. يقال: مَسَحه بالمعروف إِذا قال له قولاً وليس معه إِعطاءٌ، فإِذا جاءَ إِعطاءٌ ذهب المَسح. وكذلك الدّجّال: يخدع بقوله ولا إِعطاءَ.(2/140)
الخامس والعشرون المَسِيح: المِنديلُ الأَخشنُ. والمنديلُ ما يمسَك للنَّدْل، وهو الوَسَخ، سمّى به لاتِّساخه بدَرَن الكفر والشرك.
السّادس والعشرون المِسْح: الكساءُ الغليظ من الشعر، يُفرش فى البيت: سمّى به لذِلَّته، وهَوَانه، وابتذالهِ.
السّابع والعشرون المَسْحاءُ: الأَرض الَّتى لا نبات فيها. وقال ابن شُمَيْل: الأَرض الجرداءُ الكثيرة الحَصَى، لا شجر بها، ولا تُنبت، غليظة جدّاً. وكذلك المكَّار الأَمسح، سمّى به لعدم خَيْره وعظم ضيره.
الثامن والعشرون المَسِيح فى اللُّغة: الأَعور.
التَّاسع والعشرون التِمْسح: دابّة بحريّة كثيرة الضَّرر على سائر دوابّ البحر، سمّى به لضرّه وإِيذائه.
الثلاثون مَسَح سيفه إِذا استلَّه من غمده، سمّى به لشهرهِ سيوف البغى والطغيان.
الحادى والثلاثون المَسِيح والأَمسح: من به عيب فى باطن فخذيه، وهو اصطكاك إِحداهما بالأُخرى، سمّى به لأَنَّه مَعْيوب بكلّ عيب قبيح.
الثانى والثلاثون رجل أَمسح وامرأَة مسحاءُ وصبىّ ممسوح إِذا لزِقت أَلْيَتاه بالعَظْم. وهو عيب أَيضاً.
الثالث والثلاثون يمكن أَن يكون المَسِيح الدّجالُ من قولهم: جاءَ فلان يتمسّح أَى لا شئ معه كأَنَّه يمسح ذراعه. وذلك لإِفلاسه من كلّ خير وبركة.
الرّابع والثلاثون يمكن أَن يكون المسيح كلمةُ الله من قولهم: فلان(2/141)
يُتمسّح به أَى يتبرَّك به؛ لفضله وعبادته؛ كأَنَّه يتقرّب إِلى الله تعالى بالدّنوّ منه. قاله الأَزهرى.
الخامس والثلاثون: لأَنَّه كان لا يَمْسح ذا عاهة إِلاَّ برئَ ولا ميّتاً إِلاَّ أُحْيىَ، فهو بمعنى ماسح.
السّادس والثلاثون قال إِبراهيم النخعِىّ، والأَصمعىّ، وابن الأَعرابىّ: المَسِيح: الصّدِّيق.
السّابع والثلاثون عن ابن عبّاس سمّى مَسيحاً؛ لأَنَّه كان أَمسح الرّجْل، لم يكن لرجله أَخْمَص، والأَخمص: ما لا يمسّ الأَرض من باطن الرّجْل.
الثامن والثلاثون سمّى به، لأَنَّه خرج من بطن أُمّه كأَنَّه ممسوح الرأْس.
التاسع والثلاثون؛ لأَنَّه مُسح عند ولادهِ بالدّهن.
الأَربعون قال الإِمام أَبو اسحاق الحَرْبىّ فى غريبه الكبير: هو اسم خصّه الله تعالى به، أَو لمسْح زكريّا إِيّاه.
الحادى والأَربعون سمّى به لحسن وجهه. والمسيح فى اللغة: الجميل الوجه.
الثانى والأَربعون المَسِيح فى اللغة: عَرَق الخيل وأَنشدوا:
إِذا الجياد فِضْن بالمسيح
الثالث والأَربعون المسيح: السّيف، قاله أَبو عمر المطرّز. ووجه التَّسمية ظاهر.
الرابع والأَربعون المَسِيح المُكارِى.(2/142)
الخامس والأَربعون المَسْح: الجماع. مَسَح المرأَة: جامعها قاله ابن فارس.
السّادس والأَربعون قال أَبو نُعَيم فى كتابه دلائل النبوّة: سُمّى ابن مريم مَسِيحاً؛ لأَنَّ الله تعالى مَسَح الذنوب عنه.
السّابع والأَربعون قاله أَبو نعيم فى الكتاب المذكور: وقيل سمّى مَسِيحاً لأَنَّ جبريل مسحه بالبركة وهو قوله تعالى {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} .
الثامن والأَربعون المَسِيح القِسِىّ الواحدة مَسِيحة؛ سمّى به لقوّته، وشدّته، واعتداله، ومَعْدِلته.
التَّاسع والأَربعون يمكن أَن يكون من المِسح بالكسر، وهو الطَّريق المستقيم؛ لأَنَّه سالكها. قال الصّغانى: المُسُوح الطرق الجادّة، الواحدة مِسْح يعنى بالكسر. وقال قطرب: مَسَح الشئَ إِذا قال له: بارك الله عليك. الخمسون قال ابن دريد: هو اسم سمّاه الله به، لا أُحبّ أَن أَتكلَّم فيه.
الحادى والخمسون قال أَبو القاسم الراغب: سُمّى الدّجال مَسِيحاً؛ لأَنَّه قد مُسحت عنه القُوة المحمودة: من العلم، والعقل، والحلم، والأَخلاق الجميلة، وإِنَّ عيسى قد مُسِحت عنه القوة الذميمة: من الجهل والشرَه، والحرص، وسائر الأَخلاق الذميمة.
الثانى والخمسون سمّى به؛ للُبْسة المِسْح أَى البَلاس الأَسود.
الثالث والخمسون المَسِيح: هو الَّذى مُسحت إِحدى عينيه. وقد(2/143)
روى أَنَّ الدّجال كان ممسوح اليمنى، وأَنَّ عيسى كان ممسوح اليسرى. قاله الرَّاغب. والله أَعلم.
الرابع والخمسون قيل: لأَنَّه كان يمشى على الماءِ؛ كمشيه على الأَرض.
الخامس والخمسون المَسِيح: المَلِك. وهذان القولان عن المَعِينى فى تفسيره.
السّادس والخمسون سُمِّى به؛ لأَنَّه كان صِدّيقاً. وقيل: لمّا مشى عيسى على الماءِ قال له الحواريّون: بم بلغت ما بلغت؟ قال: تركتُ الدنيا لأَهلها، فاستوى عندى بَرُّ الدّنيا وبحرها:
سِرْ فى بلاد الله سَيّاحاً ... وكُنْ على نفسك نَوَّاحاً
وامْشِ بنورِ الله فى أَرضهِ ... كفى بنور الله مصباحاً(2/144)
بصيرة فى الاختيار
وقد جاءَ فى التنزيل على أَربعة أَوجهٍ:
الأَوّل: اختيار فضل وهداية: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} .
الثانى: اختيار سفَرٍ وصحبة: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} .
الثالث: اختيار نبوّة ورسالة: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحىه} .
الرابع: اختيار مِدْحة وخاصّة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} .
قال الشاعر:
الربّ ذو قَدَرٍ والعبدُ ذو ضجرٍ ... والدهر ذو دُوَلٍ والرزقُ مقسومُ
والخير أَجمعُ فيما اختار خالقُنا ... وفى اختيارِ سواه الشومُ واللُوم
والاختيار فى الأَصل: طلب ما هو خير وفعله.
وقد يقال لما يراه الإِنسان خيراً وإِن لم يكن خيراً. وأَمَّا قوله {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} يصحّ أَن يكون إِشارة إِلى إيجاده تعالى (إياهم) خيراً وأَن يكون إشارة إِلى تقديمهم على غيرهم.
والمختار فى عُرْف المتكلِّمين يقال لكلّ فعل يفعله الإِنسان، لا على سبيل الإكراه. فقولهم: هو مختار فى كذا ليس يريدون به ما يراد بقولهم: فلان له اختيار؛ فإن الاختيار أَخْذ ما يراه خيراً. والمختار قد يقال للفاعل والمفعول.(2/145)
بصيرة فى الاستقامة
وقد ورد فى التنزيل والسنَّة على أَربعة أَوجهٍ.
الأَوّل: بمعنى تبليغ الرّسالة: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} وكذلك {فادع واستقم} .
الثَّانى: بمعنى الدّعاءِ، والدّعوة: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما} .
الثالث: بمعنى الإِقبال على الطَّاعة: "اسْتَقيمُوا ولَنْ تُحْصُوا".
الرّابع: بمعنى الثبات على التوحيد والشهادة: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} .
والاستقامة يقال فى الطَّريق الَّذى يكون على خَطٍّ مستقيم وبه شُبّه طريق الحقّ؛ نحو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} واستقامة الإِنسان لزومُه للمنهج المستقيم.(2/146)
بصيرة فى الاصحاب
وقد ورد فى التنزيل على خمسة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الجنسيّة: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ، و {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} أَى بالذى هو من جنسكم.
الثَّّانى: بمعنى حقيقة الصّحبة: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} يعنى أَبا بكر فى الغار.
الثَّالث: بمعنى: (السّكون والفراغة) {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أَى ساكنيها ومنه {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} ، {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة} أَىْ سُكَّانهما.
الرّابع: بمعنى المرافقة والموافقة {أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم} .
الخامس: بمعنى التصرّف والاستيلاءِ: {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} أَى الموكِّلين بها المتصرّفين فيها.
والأَصل فيه أَنَّ الصَّاحب: هو الملازم، إِنساناً كان، أَو حيواناً، أَو مكاناً، أَو زماناً. ولا فرق بين أَن يكون مصاحبتُه بالبدن - وهو الأَصل(2/147)
والأَكثر -، أَو بالعناية، والهمّة. ولا يقال (فى العرف إِلا لمن كثر ملازمته ويقال) لمالك الشئِ: هو صاحبه. وقد يضاف الصّاحب إِلى مَسُوسِهِ؛ نحو صاحب الجيش، وإِلى سائسه، نحو صاحب الأَمير.
والمصاحبة والاصطحاب أَبلغ من الاجتماع؛ لأَنَّ المصاحبة تقتضى طول لُبْثه. وكلّ اصطحاب اجتماع، وليس كلّ اجتماع اصطحاباً.
والإِصحاب للشئ: الانقياد له. وأَصله أَن يصير له صاحبا. ويقال. أَصحب فلان: إِذا كبِرَ ابنُه، فصار صاحبَه، وأَصحب فلان فلاناً: جعله صاحباً له؛ قال تعالى: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أَى لا يكون لهم من جهتنا ما يَصْحبهم: من سكينة، ورَوْح، وتوفيق، ونحو ذلك ممّا يُصْحِبه أَولياءَه.(2/148)
بصيرة فى الأذان
وقد ورد فى التنزيل على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: أَذانُ العقوبة والبراءَة: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} إِلى قوله: {بَرِىءٌ مِنَ المُشْركِينَ} .
الثانى: أَذان السّرقة والخيانة: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير} .
الثالث: أَذان الطَّرْد واللَّعنة: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله} .
الرّابع: أَذان السُنَّة والشريعة: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} .
والأَذَنُ والأَذان: (الإِصغاءُ) لما يُسْمَع. ويعبّر بذلك عن العِلْم، إِذ هو مبدأُ كثير من العلم. وأَذَّنته وآذنته بمعنى. والمؤذِّن: كلّ مَن تكلَّم بشئٍ نِداءً. والأَذين: المكان الذى يأْتيه الأَذان. وأَذن كفرح - استمع.(2/149)
بصيرة فى الايمان
وقد ورد فى التنزيل على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى إِقرار اللِّسان: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا} أَى آمنوا باللسان، وكفروا بالجَنَان.
الثَّانى: بمعنى التصديق فى السرّ والإِعلان: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولائك هُمْ خَيْرُ البرية} .
الثالث: بمعنى التوحيد وكلمة الإِيمان: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أَى بكلمة التَّوحيد.
الرّابع: إِيمان فى ضمن شرك المشركين أُولى الطُّغيان: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} . وقولنا: إِيمان فى ضمن الشِّرك هو معنى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} .
الخامس: بمعنى الصّلاة: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .
قال أَبو القاسم: الإِيمان يستعمل تارة اسماً للشريعة الَّتى جاءَ بها محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} ويوصف به كلُّ مَنْ دخل فى شريعته، مقرّا بالله وبنبوّته. وتارة يستعمل على سبيل المدح،(2/150)
ويراد به إِذعان النفس للحقّ على سبيل التَّصديق. وذلك باجتماع ثلاثة أَشياء: تحقيق بالقلب، وإِقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح. ويقال لكلّ واحد من الاعتقاد، والقول الصّدق، والعمل الصّالح: إِيمان. (إِلاَّ أَن الإِيمان هو التصديق الذى معه الأَمن) . وقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} مذكور على سبيل الذمّ لهم، وأَنه قد حَصّل لهم الأَمن بما لا يحصل به الأَمن؛ إِذْ ليس من شأْن القلب - ما لم يكن مطبوعاً عليه - أَن يطمئن إِلى الباطل. وهذا كما يقال: إِيمانهُ الكفر، وتحيّته القتل.
ورجل أُمَنة، وأَمَنة: يثق بكلّ واحد، وأَمينُ، وأُمّانُ: يؤمَن به والأَمُون: النَّاقة الَّتى يؤمن فُتورها وعثارها.(2/151)
بصيرة فى الأمانة
وقد وردت فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل فى الدّين والدّيانة: {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} .
الثانى فى المال والنّعمة: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} .
الثالث: فى الشرع والسنَّة: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} أَى إِن تركوا الأَمانة فى السُّنَّة فقد تركوها فى الفريضة.
الرّابع: الخيانة: بمعنى الزّنى {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} أَى الزَّانين.
الخامس: بمعنى نَقْض العهد والبَيْعَة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أَى نقضَ عهد. هذا تفصيل الخيانة فى الأَمانة.
ويرد الأَمانة على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الفرائض: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} .
الثَّانى بمعنى العِفَّة والصّيانة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} .(2/152)
بصيرة فى الاحساس
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَول: بمعنى الرُّؤية: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} أَى أَبصر ورأَى، {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} ، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} .
الثانى: بمعنى القتل والاستئصال: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أَى تستأْصلونهم قتلاً.
الثالث: بمعنى البحث وطلب العلم: {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} .
الرّابع: بمعنى الصّوت: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} أَى صوتها.
والأَصل فيه راجع إِلى الحاسّة، وهى القوّة الَّتى بها يدرك الأَعراض الجِسمِيّة. والحواسّ: المشاعر الخمس. يقال: حَسَسْت، وحَسِسْت، وحسِيت. وأَحْسَسْت، وأَحَسْت. فحَسسْت على وجهين. أَحدهما: أَصبته بِحِسِّى؛ نحو عِنْته. والثانى: أَصبت حاسّته؛ نحو كَبَدْته. ولمّا كان ذلك قد يتولَّد منه القتلُ (عُبر به عن القتل) فقيل: حَسَسْتُه: أَى قتلته: كقَوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بإِذْنِهِ} والحَسِيس: القتيل. ومنه جَرَاد محسوس: إِذا طُبخ، وقولهم: البَرْد مَحَسّة للنَّبت. وانحس(2/153)
أَسنانه: انفعال منه (وأَما حسِست فنحو علمت وفهمت، ولكن لا يقال ذلك إِلاَّ فيما كان من جهة الحاسّة) وأَمّا حسِيت فتقلب إِحدى السّينين ياءً. وأَمّا أَحسسته فحقيقته: أَدركته. وأَحَسْتُ مثله؛ لكن حُذف إِحدى السّينين تخفيفاً؛ نحو ظَلْت. وقوله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أى هل تجد بحاسَّتك أَحداً منهم. وقوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ} تنبيه أَنه ظهر منهم الكفر ظهورا بان للحسّ، فضلاً عن التفهّم. والحُساس: عبارة عن سُوءِ الخُلُق، على بناءِ زُكام وسعال.(2/154)
بصيرة فى الاستحياء
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الاستبقاءِ للخدمة: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أَى يستبقونهنّ للخدمةِ.
الثانى: بمعنى التَّرك والإِعراض: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} أَى لا يترك.
الثالث: بمعنى استعمال الحياءِ. وهو لغة: انقباض النَّفْس عن القبيح وتركه: يقال حي فهو حَيّ، واستحيا فهو مُسْتَحىٍ. وقيل: استحَى فهو مُسْتَح. وفى الحديث "إِنَّ الله يستحْي من ذى الشَّيبَة المُسلم أَن يعذَّبه" وليس المراد به: انقباض النَّفس، وإِنَّما المراد به: تركُ تعذيبه. وعلى هذا ما يروى (إِنَّ الله حيُّ) أَى تارك للمقابح، فاعل المحاسن. وفى الحديث "إِذا لم تستحْىِ فاصنع ما شتئت" وقال:
إِذا لم تخش عاقبة الليالى ... ولم تستحْىِ فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما فى العيش خير ... ولا الدّنيا إِذا ذهب الحياءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيا بخير ... ويبقى العُودُ ما بقِى اللِّحَاءُ(2/155)
بصيرة فى الأعلى
وقد ورد فى القرآن على خمسة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى عُلوّ الحقّ فى العَظمة والكبرياءِ: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} .
الثَّانى بمعنى استيلاءِ موسى على سَحَرة فرعون بالعصا: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} .
الثالث: بمعنى غلبة المؤمنين على الكفَّار يوم الحرب، والوغَى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} .
الرابع: بمعنى دعوى فرعون، وما به اعتدى: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} .
الخامس: فى إِخلاص الصّدّيق فى الصّدقة، والعَطَا طمعاً فى اللِّقاءِ والرّضَا. {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} .
وأَصل العلوّ: الارتفاع. وقد علا يَعْلُو عُلُوّاً، وعَلِىَ يَعْلَى علاءً، فهو عَلِىّ. فعَلا - بالفتح - فى الأَمكنة والأَجسام أَكثر. والعلُّىِ هو الرّفيع القَدْرِ مِنْ عَلِىَ. وإِذا وُصِف به - تعالى - فمعناه: أَنَّه يعلو أَن يحيط به وصفُ الواصفين، بل عِلْم العارفين. وعلى ذلك يقال: {تَعالَى عمّا يُشْرِكُون} . وتخصيص لفظ التعالى لمبالغة ذلك منه، لا على سبيل التكلُّف، كما يكون من البشر. والأَعلى: الأَشرف. والاستعلاءُ قد يكون طلبَ العلوّ(2/156)
المذموم. وقد يكون طلب العَلاَءِ أَى الرّفعة. وقوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} يحتمل الأَمرين جميعاً. وقوله: {خَلَق الأرض والسماوات العلى} جمع تأْنيث الأَعَلى. والمعنى: هو الأَشرف والأَفضل بالإِضافة إِلى هذا العالَم.
وتعالَ: أَصله أَن يُدعى الإِنسان إِلى مكان مرتفع، ثمّ جُعِل للدّاعى إِلى كلّ مكان.(2/157)
بصيرة فى الأسفل
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى أَدْون، فى مقابل الفَوْق: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} ، {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} .
الثانى: بمعنى الخسران لأَهل العقوبة: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} أَى الأَخسرين فى العقوبة.
الثالث: بمعنى الأَرذل: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} : أَرذل الأَرذلين.(2/158)
بصيرة فى الأمى
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى العرب. وهم الَّذين لم يكن لهم كتاب من قبل: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً} أَى فى العرب.
الثانى: بمعنى اليهود الذين لا يعلمون معنى التَّوراة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} .
الثالث: بمعنى النَّبى المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي} .
قيل: هو منسوب إِلى الأُمّة الذين لم يكتبوا؛ لكونه على عادتهم؛ كقولك: عامىّ؛ لكونه على عادة العامّة. وقيل: سُمّى بذلك؛ لأَنَّه لم يكن يكتب، ولا يقرأُ من كتاب. وذلك (فضيلة له) ؛ لاستغنائه بحفظه، واعتماده على ضمان الله منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} . وقيل: سمّى لنسبته إِلى أُمّ القرى. والله أَعلم.(2/159)
بصيرة فى الاتمام
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الوفاءِ نحو الأَمر والنَّهى {فَأَتَمَّهُنَّ} أَى وفى بحقِّهنّ.
الثَّانى: بمعنى إِتمام النِّعمة والمِنَّة: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} .
الثالث: بمعنى إِكمال الأَمر: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} وبمعناه الاستتمام: يقال: استتمام المعروف خَير من ابتدائه.
إِن ابتداءَ العرف مجد باسق ... والخير كل الخير فى استتمامه
هذا الهلال يرى لأَبصار الورى ... حَسَنا وليس لحسنه كتمامه
وأَصل المادة موضوع لانتهاءِ الشئِ إِلى حدٍّ لا يحتاج إِلى شيءٍ خارج عنه.(2/160)
بصيرة فى الاكنة
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الغِطاءِ: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أَى أَغطيَة.
الثَّانى: بمعنى الغيران فى الجبال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} .
الثالث: بمعنى الإِضمار: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} أَى أَضمرتم، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أَى تُضمر.
قال أَبو القاسم: الكِنّ: ما يُحفظ فيه الشئُ: كننت الشئَ كَنّاً: جعلته فى كِنٍّ. وخصّ كننت بما يُستر بِبَيْتٍ، أَو ثوبٍ، وغيره: من الأَجسام، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} ، وأَكننت بما يُستر فى النَّفس. والكِنَان: الغطاءُ الَّذى يُكنّ فيه الشئُ. والجمع أَكِنَّةٌ؛ نحو غطاء وأَغطية. وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} قيل: (عنى به) اللَّوح المحفوظ، وقيل: هو قلوب المؤمنين. وقيل: ذلك إِشارة إِلى كونه محفوظاً عند الله. وسُمّيت المرأَة المتزوجة كَنَّة؛ لكونها فى حِصْنٍ من حفظ زوجها. والكِنانة: جَعْبة غير منقوبة.(2/161)
بصيرة فى الآل
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى القوم والتَّبع: {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} .
الثانى: بمعنى أَهل البيت والحاضرين من أَهل القوت والنفقة: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} .
الثالث: بمعنى القرابة والذرّية الكليّة: {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} ، {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} . وقيل: الآل مقلوب من الأَهْل؛ لأَنَّه يصغِّر على أُهَيْل، إِلاَّ أَنَّه خُصّ بالإِضافة إِلى أَعلام النَّاطقين، دون النكرات، ودون الأَزمنة، والأَمكنة. يقال: آل فلان، ولا يقال: آل رجل، ولا آل زمان كذا. وموضع كذا؛ كما يقال: أَهل زمان كذا. وقيل: هو فى الأَصل اسم الشخص. ويصغر أُويلا. ويستعمل فيمن يختصّ بالإِنسان (اختصاص ذاته) ، إِمّا بقرابة قريبة، أَو بموالاة.
وآل النبىّ: أَقاربه. وقيل: المختصّون به من حيث العِلْم. وذلك أَنّ أَهل الدّين ضربان: ضرب مختصّ بالعِلْم المتقن والعمل المحكَم. فيقال لهم: آل النبىّ وأُمّته وضرب مختصّون بالعمل على سبيل التقليد.(2/162)
ويقال لهم: أُمّة محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يقال لهم: آل النبىّ. وكلّ آل النبى أُمّته، وليس كلّ أُمّته آله. وقيل لجعفر الصّادق: النَّاس يقولون: المسلمون كلُّهم آل النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: صَدَقوا وكَذَبوا. فقيل: ما معناه؟ قال: (كذبوا فى أَنَّ) الأُمّة كافَّتهم آلهُ وصدقوا أَنَّهم إِذا قاموا بشرائط شريعته فهم آله.
ولا يستعمل الآل إِلاَّ فيما شَرُف، لا يقال: آل الإِسكاف. والآل أَيضاً: ما أَشرف من البعير. والآل: السَّرَاب، ويؤنّث. وقيل: خاصّ بما فى أَوّل النَّهار. والآل: الخَشَب. والآل: أَطراف الجبل ونواحيه. والآل: الشَّخص. والآل: عَمَد الخَيْمَة.(2/163)
بصيرة فى الانشاء
وقد ورد على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الخَلْق: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} ، {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} .
الثانى: بمعنى التَّربية: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} .
الثالث: بمعنى عبادة اللَّيل: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} .
وموضع النَّشْأ والنَّشْأَة لإِحداث الشئِ، وتربيته. منه {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} . وسيأْتى فى بصيرة نشأَ، إِن شاءَ الله.(2/164)
بصيرة فى الاطمئنان
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍٍ:
الأَوّل: بمعنى السكون والقرار: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
الثَّانى: بمعنى المَيْل والرّضا: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} {ياأيتها النفس المطمئنة} .
الثالث: بمعنى الإِقامة الَّتى هى ضدّ السّفر: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة} .
والمادة موضوعة للسّكون بعد الانزعاج. واطمأَنَّ وتطامن يتقاربان لفظاً ومعنى.(2/165)
بصيرة فى الاستغفار
وقد ورد على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الرّجوع عن الشرك، والكفر: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ، {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} .
الثَّانى: بمعنى الصّلاة: {والمستغفرين بالأسحار} أَى المصلِّين.
الثالث: بمعنى طلب غفران الذنوب: {واستغفر لِذَنبِكَ} ، {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} . وفى الخبر "مَن أَكثر الاستغفار جعل الله له من كلّ همٍّ فرجاً، ومن كلّ ضيق مخرجاً" وفيه: "إِنِّى لأَستغفر الله فى كلّ يوم سبعين مرّة" وفى لفظ: "أكثر من مائة مرّة".
والغَفْر لغةً: إلباس الشئِ ما يصونُه عن الدّنس. ومنه قولهم: اغفِرْ ثوبك فى الوِعاءِ. واصبغ ثوبك؛ فإِنَّه أَغفرُ للوَسَخ. والغُفْران والمَغْفِرة(2/166)
من الله: هو أَن يصون العبدَ من أَن يمسّه العذابُ. وقد يقال: غفر له إِذا تجافى عنه فى الظَّاهر، وإِن لم يتجاف عنه فى الباطن؛ نحو {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} وسيأْتى بسطه فى بصيرة الغفران إِن شاءَ الله.(2/167)
بصيرة فى الأولى
وهو وارد فى التَّنزيل على وجهين:
الأَوّل بمعنى التهديد، والوعيد: {أولى لَكَ فأولى} أَى قاربه ما يهلكه.
الثانى: بمعنى الأَحقّ الأَجدر: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وقيل: أَولى لك من هذا المعنى أَيضاً؛ أَى: العقاب أَحقّ لك وأَجدر. وقيل: معناه: قرِبك الشَّرُ فاحذرْه. وتثنيته أَوْليَان. وجمعه: أَوْلَون على قياس أَعلَون.(2/168)
بصيرة فى االافواه
وقد ورد فى القرآن على معنيين:
الأَوّل: بمعنى اللِّسان: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} .
الثَّانى: بمعنى الفم: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} وقال:
لا أُوالى أَحدا ذا بدعة ... لا ولا مَنْ كان من أَشباههم
لو أَمُتْ بينهم من عطش ... ما شربت الماءَ من أَمواههم
لا تلُمْنى صاحبى فى ذاك قد ... بَدَت البغضاءُ من أَفواههم
والأَفواهُ جمع فمٍ وأَصل فمٍ فَوهٌ. وكلّ موضع علَّق الله (فيه) حكمَ القول بالفم فإِشارةٌ إِلى الكذب، وتنبيهٌ على أَنَّ الاعتقاد لا يطابقه. قال - تعالى - {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} ومن ذلك فُوّهة الطَّريق؛ كقولهم: فم النَّهر.
قال ابن سِيده: الفاه، والفُوه، والفِيه، والفم سواء. والجمع أَفواه، وأَفمام - ولا واحد - لها - لأَنَّ فماً أَصله فَوَهٌ، حذفت الهاءُ كما حذفت من سنة، وبقيت الواو طرفاً متحرّكةً، فوجبَ إِبدالها أَلفاً لانفتاح(2/169)
ما قبلها، فبقى "فَا" ولا يكون الاسم على حرفين أَحدهما التنوين، فأَبدل مكانها حرف جَلْد مُشاكِل لها - وهو الميم - لأَنَّهما شفهيّتان، وفى الميم هُوِىّ فى الفم، يُضَارع امتداد الواو. ويقال فى تثنيتها: فَمَان، وفَميان، وفَمَوَانِ. ورجل مُفَوّة، وفَيّه: مِنْطيق. وتَفَاوَهُوا به: تكلَّمُوا. واستفاه استِفاهةً واستِفَاهاً: اشتدّ أَكله، وشربه.(2/170)
بصيرة فى الارادة
وقد ورد فى القرآن على وجوهٍ كثيرة بحسب إِرادة المريدين. وهى منقولة من راد يرود: إِذا سعى فى طلب شيءٍ.
والإِرادة فى الأَصل: قوّة مركَّبة من شهوة، وحاجة، وأَمل. وجُعِل اسماً لنُزُوع النَّفس إِلى الشئِ مع الحكم فيه بأَنه ينبغى أَن يُفعل أَوْلا يفعل. ثمّ يستعمل مرّة فى المبدإ، وهو نزوعُ النفس إلى الشيءِ، وتارة فى المنتهى، وهو الحكم فيه بأَنَّه ينبغى أَن يُفعل أَوْ لا يفعل. فإِذا استُعمل فى الله تعالى فإِنه يراد به المنتهى دون المبدإِ. فإِنَّه يتعالى عن معنى النزوع. فمتى قيل: إِن أَراد الله كذا فمعناه حكم فيه أَنَّه كذا، أَوْ ليس بكذا.
وقد يُذْكر الإِرادة ويراد بها الأَمر؛ كقوله: أُريد منك كذا أَى آمُرْك به. ومنه {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} وقد يذكر ويراد به القصد؛ نحو قوله تعالى {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض} أَى لا يقصدونه ويبطلونه. والمراودة: أَن تنازع غيرك فى الإِرادة، فتريد غير ما يريدُهُ، أَو ترود غير ما يَرُوده. والإِرادة قد تكون بحسب القوة التسخيريّة، والحسّيّة؛ كما تكون بحسب القوّة الاختيارية. ولذلك يستعمل فى الجَمَاد، وفى الحيوان، نحو قوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} . وتقول فرسى يريد الشعير.(2/171)
بصيرة فى الاخلاص
وقد ورد فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: قال فى حقّ الكفَّار عند مشاهدتهم البلاءَ: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} .
الثانى: فى أَمر المؤمنين: {فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} .
الثَّالث: فى أَنَّ المؤمنين لم يؤمروا إِلاَّ به: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ} .
الرّابع: فى حقّ الأَنبياءِ {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} .
الخامس: فى المنافقين إِذا تابوا: {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} . السّادس: أَنَّ الجنَّة لم تصلح إِلاَّ لأَهله: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} .
السّابع: لم يَنْجُ من شَرَك تلبيس إِبليس إِلاَّ أَهله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} . وقيل: الناس كلُّهم هلكى إِلاَّ العالمون. والعالمون كلُّهم موتى إِلاَّ العامِلون، والعاملون كلُّهم حَيَارَى إِلاَّ المخلصون. والمخلصون على خَطَر(2/172)
عظيم. وفى الأَحاديث القدسيّة "الإِخلاص سِرّ من سِرّى استودعته قلبَ من أَحبَبْتُهُ من عبادى".
وإِخلاص المسملين: أَنَّهم تبرّءوا ممّا يدّعيه اليهود: من التشبيه، والنَّصارى: من التَّثليث. فحقيقة الإِخلاص: التعرّى مِن دون الله. و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} سمّيت سورة الإِخلاص؛ لأَنَّها خالص التَّوحيد؛ وسبب خلاص أَهله.(2/173)
بصيرة فى أولو
وهذه الكلمة جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: اسم جمع، واحده ذو، وأُولات للإِناث واحدها ذات.
وأَولَى جمع ويمدّ. ولا واحد له من لفظه. وقيل: واحده ذا للمذكَّر وذه للمؤنَّث. ويدخل ها التنبيه: هؤلاءِ، وكاف الخطاب: أُولئك، أَولالك، أُلاَّك، مشدَّدة لغة. قال:
"ما بين ألاَّك إِلى أَلاَّكا"
وأُولو وأُولات وأُولى قد ورد فى خمسة عشر موضعاً من القرآن: {وَأُوْلاَتُ الأحمال} {أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة} ، {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} {وَأُوْلُواْ العلم} {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ(2/174)
لأُوْلِي النهى} {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} {أُوْلِي الأيدي والأبصار} {أولي أَجْنِحَةٍ} {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} {أولائك الذين هَدَاهُمُ الله} {واتقون ياأولي الألباب} {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} {فاعتبروا ياأولي الأبصار} .(2/175)
بصيرة فى الأبد
وقد ذُكر فى اثنى عشر موضعاً من التنزيل: {لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} ، {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هاذه أَبَداً} {فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً} {والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} .
والأَبَد: عبارة عن مُدّة الزَّمان الممتدّ الَّذى لا يتجزَّأُ كما يتجزَّأُ الزمان. وذلك أَنَّه يقال: زمان كذا، ولا يقال أَبد كذا. وكان حقَّه أَلاَّ يثنى ولا يُجْمع، إِذ لا يتصوّر حصُول أَبدٍ آخر يضمّ إِليه، فيثنى، ولكن قد قيل آباد. وذلك على حَسَب تخصيصه فى بعض ما يتناوله؛ كتخصيص اسم الجنس فى بعضه ثمّ يثنى، ويجمع. على أَنَّ بعض النَّاس ذكر أَنَّ (آباد) مولَّد، وليس من الكلام العربىّ الفصيح. وأَبَدُ آبد، وأَبِيدُ أَى دائم. وذلك على التأْكيد. وتأَبّد الشَّيءُ: بقِى أَبَداً.(2/176)
بصيرة فى الاصطفاء
وقد ورد فى التنزيل لثمانية:
الأَوّل: لآدم عليه السّلام: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ} .
الثانى: للخليل إِبراهيم: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} .
الثالث: للكليم موسى: {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} .
الرّابع: لجبريل عليه السّلام: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً} .
الخامس: لِمَرْيَمَ بنة عِمران: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ} .
السّادس لجملة الأَنبياءِ عليهم الصّلاة والسلام: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} .
السّابع لأَخيار أُمّة محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم: {على عِبَادِهِ الذين اصطفى} .
الثَّامن: لسيّد المرسلين صلَّى الله عليه وسلَّم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} .(2/177)
والاصطفاءُ لغة: تناول صَفْو الشىءِ؛ كما أَنَّ الاختيار: تناول خَيره والاجتباءُ تناول جِبايته أَى جُمْلَته.
واصطفاءُ الله بعض عباده قد يكون بإِيجاده صافيا عن الشَّوْب الموجود فى غيره. وقد يكون باعتباره وحكمه، وإِن لم يتعرّ ذلك من الأَوّل. واصطفيت كذا على كذا أَى اخترته. قال تعالى: {أَصْطَفَى البنات على البنين} . والصّفِىّ والصّفِيّة: ما يصطفيه الرئيس من الغنيمة لنفسه.
قال:
لك المِرباع منها والصَّفايا ... وحَظُّك والنَّشيطة والفضُول(2/178)
بصيرة فى الادنى
وقد ورد على أَربعة أَحوال. الأَوّل بمعنى الأَجْدر الأَحرَى: {وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا} .
الثانى: بمعنى القُرْب: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى} أَى الأَقرب.
الثالث: بمعنى القِلَّة: {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} أَى ولا أَقلّ.
الرّابع: بمعنى الأَدْوَنِ الأَخسّ: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} .
والدنُوّ (القرب بالذات، أَو بالحكم. ويستعمل فى الزمان والمكان والمنزلة {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} ، وأَمّا {دَنَا فتدلى} فهو بالحكم. قال:
دنوتَ تواضعا وعلوت قدرا ... فشأْناك انحدار وارتفاع
كذاك الشمس تبعد أَن تُسَامى ... ويدنو الضوءُ منها والشعاع(2/179)
بصيرة فى أفلح
أَصل المادّة للشقّ. وسُمّى الفَلاَّح لكونه يشُقّ الأَرضَ. وفى المثل: الحديدُ بالحديث يُفْلَح. والفَلاَح: الظفر، والفوز بالبُغْية. وذلك ضربان: دنيوىّ، وأُخروىّ.
فالدّنيوى: نيل الأَسباب الَّتى بها تطِيب الحياة. وهى البقاءُ، والغِنى، والعِزَّ.
والأُخروىّ: أَربعة أَشياءَ: بقاءٌ بلا فناءٍ، وغنى بى فقرٍ، وعزّ بلا ذُلٍّ وعلم بلا جهل. لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهمّ لا عيش إِلا عيش الآخرة"
وقد وُعد الفَلاَحُ فى القرآن لأَربعة عشر:
الأَوّل للمتقين: {وأولائك هُمُ المفلحون} .
الثَّانى: لدُعاة الخير: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} إِلى قوله: {أولائك هُمُ المفلحون} .
الثالث: لأَتْباع خاتم المرسلين: {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولائك هُمُ المفلحون} .(2/180)
الرّابع للمجاهدين، والغُزاة {لاكن الرسول} إِلى قوله: {أولائك هُمُ المفلحون} .
الخامس: للمصلحين: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
السّادس: للمكثرين من صالحات الأَعمال: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولائك هُمُ المفلحون} .
السّابع: للمطيعين {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله} إِلى قوله: {المُفْلِحُونَ} .
الثامن: لأَرباب السّمْع والطَّاعة: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله} الآية.
التَّاسع: أَهل الإِخلاص واليقين {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} إِلى آخر الآية.
العاشر: لأَهل الإِحسان: {هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ} إِلى قوله: {المُفْلِحُونَ} .
الحادى عشر: لحزب الله وأَهل طاعته {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .(2/181)
الثانى عشر: للأَسخياءِ الكرماءِ: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولائك هُمُ المفلحون} .
الثَّالث عشر: المطهَّرون من الأَلواث: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} .
الرّابع عشر: للمؤدّين فرض الزَّكاة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} .
وأَمّا قوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} فصحّ أَنَّهم قصدوا به الفَلاَح الدّنيوىّ. وقول المؤذن: حَىّ على الفلاح أَى على الظَّفر الذى جعله الله لنا فى الصّلاة.(2/182)
بصيرة فى الاسلام
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الإِخلاص: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أَى أَخْلِص.
الثانى: بمعنى الإِقرار: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات} أَى أَقرّ له بالعبوديّة.
الثالث: بمعنى الدّين {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} .
قال أَبو القاسم الأَصفهانى: الإِسلام فى الشَّرع على ضربين:
أَحدهما دون الإِيمان. وهو الاعتراف باللِّسان، وبه يُحقَن الدّم، حصل معه الاعتقاد، أَولم يحصل. وإِيّاه قَصَد بقوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولاكن قولوا أَسْلَمْنَا} .
والثانى فوق الإِيمان. وهو أَن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب، ووفاءٌ بالفعل. وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} أَى اجعلنى ممّن استسلم لرضاك. ويجوز أَنْ يكون معناه: اجعلنى سالماً عن كيد الشيطان حيث قَال: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} .
وقوله: {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} أَى منقادون(2/183)
للحقّ، مذعنون له. وقوله {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} أَى الذين انقادوا من الأَنبياء الَّذين لسيوا من أُولى العزم، الذين يهتدون بأَمر الله، ويأْتون بالشَّرائع.
والإِسلام أَيضاً: الدّخول فى السّلم. وهو أَن يَسْلم كلُّ واحد منهما أَن يناله أَلَمٌ من صاحبه، ومصدر أَسلمت الشئَ إِلى فلان إِذا أَخرجته إِليه. ومنه السَّلَم فى البيع.(2/184)
بصيرة فى الأسف
وقد ورد على معنيين:
الأَوّل: بمعنى الحُزْن والمصيبة: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أَى حزيناً.
الثانى: بمعنى السخط والغضب {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا} أَى أَغضبونا. وحقيقة الأَسف: ثوران دم القلب شهوة الانتقام. فمتى كان ذلك على مَن دونه انتشر فصار (غضبا، ومتى كان على مَن فوقه انقبض فصار) حزنا. ولذلك سئل ابن عبّاس عن الحزن والغضب؛ فقال: مَخْرجها واحد، واللَّفظ مختلف. فمَن نازع مَن يقوى عليه أَظهره غيظاً وغضباً، ومن نازع مَن لا يقوى عليه أَظهره حُزْناً وجَزَعاً. وبهذا اللَّفظ قال الشاعر:
فحُزْن كلّ أَخى حُزْن أَخو الغضب
قال الرّضا: إِنَّ الله لا يأْسف كأَسفنا، ولكن له أَولياء يأْسفُون ويرضَوْن، فجعل رضاهم رضاه، وغضبهم غضبه. وعلى ذلك قال: "مَن أَهان لى ولِيّاً فقد بارَزنى بالمحاربة".(2/185)
بصيرة فى الاقامة
وقد وردت فى القرآن على ستَّة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الإِتمام {وَأَقِيمُوا الصَلاَة} أَى أَتمّوها بحقوقها وحدودها.
الثانى: بمعنى استقبال القبلة: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أَى استقبلوها بها القبلة.
الثالث: بمعنى الإِخلاص فى الدّيانَة: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أَى أَخْلِص.
الرّابع: بمعنى عمل الفرائض، وشرائع الكِتاب: {أَقَامُواْ التوراة} أَى عمِلوا بها.
الخامس: بمعنى التسوية، والعمارة: {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} أَى سوّاه وعَمَره.
السّادس: بمعنى الاستقرار فى الوطن: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} .(2/186)
بصيرة فى الاستطاعة
قد وردت فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى السّعةِ والغِنى بالمال: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} .
الثانى: بمعنى القوة والطَّاقة: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} .
الثالث: بمعنى القُدْرة والمُكْنة البدنيّة: {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} ، {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ} .
والاستطاعة استفعالة من الطَّوع. وذلك وجود ما يصير به الفعل (متأتيا. وهو عند المحققين اسم للمعانى [التى] بها يتمكَّن الإِنسان مّما يريده من إِحداث الفعل) . وهى أَربعة أَشياءَ: بِنْية مخصوصة للفاعل، وتصوّر للفعل، ومادّة قابلة لتأْثيره، وآلة إِن كان الفعل آليّاً، كالكتابة؛ فإِن الكاتب محتاج إِلى هذه الأَربعة فى إِيجاده للكتابة. ولذلك يقال: فلان غير مستطيع للكتابة إِذا فَقَد واحداً من هذه الأَربعة، فصاعداً. ويضادّه العَجْز، وهو أَلاَّ يجد أَحد هذه الأَربعة فصاعداً. ومتى وَجَدَ هذه الأَربعة كلَّها فمستطيع(2/187)
مطلقا، ومتى فقدها فعاجز مطلقا، ومتى وجد بعضها دون بعض فمستطيع من وجهٍ، عاجزٌ من وجهٍ. ولأَن يوصَف بالعجز أَولى.
والاستطاعة أَخصّ من القدرة. وقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} فإِنَّه يحتاج إِلى هذه الأَربعة.
وقوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} قيل: قالوا ذلك قبل أَن يَقْوى معرفتُهم بالله. وقيل: إنَّهم لم يقصِدوا قصد القُدْرة، وإِنَّما قصدوا أَنَّه هل يقتضى الحكمةُ أَن يفعل ذلك، وقيل: يَستطيع ويُطيع بِمعنى واحدٍ، ومعناه: هل يجيب؛ كقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أى يُجاب. وقرئ {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} على الخطاب، ونصب (ربّك) أَى سؤال ربّك؛ كقولك: هل تستطيع الأَمير أَن يفعل كذا؟ ويقال فيه استاع واسطاع؛ قال الله تعالى: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} قال:
تكثَّرْ من الإخوان ما اسطعت إنهم ... عمادٌ إذا استنجدتهم وظهورُ
فما بكثير أَلف خلّ وصاحب ... وإنَّ عدوّا واحدا لكثير(2/188)
الباب الثالث - فى الكلمات المفتتحة بحرف الباء(2/189)
بصيرة فى الباء
وقد ورد فى القرآن، وفى كلام العرب، على وجوه:
الأول: حرف مِن حروف المتهجى بها. ومخرجه من انطباق الشفتين قرب مخرج الفاء. ويمدّ ويُقصر. والنسبة باوىّ وبائِى. وبيّب باء حسنة، وحسنا. وجمع المقصور أَبواء (كذَا وأَذْواءٍ) وجمع الممدودِ باءَات كحالات.
الثانى: اسم لعدد اثنين فى حساب الجُمَّل.
الثالث: الباءُ الأَصلى؛ كباء برك، وكبر، وركب.
الرّابع: باءُ الإِلصاق. ويكون حقيقة؛ كأَمَسكْتُ بزيد، ومجازاً؛ كمررت به.
الخامس: يكون للتعدية؛ نحو {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} .
السّادس: باءُ السّببية: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} ، وقال الشاعر:
قد سُقِيت آبالهم بالنَّار(2/190)
وفى الحديث: "لن يدخُل أَحدكم الجنَّة بعمله".
السّابع: باءُ الاستعانة؛ كباءِ بسم الله الرّحمن الرّحيم، وقولك: نَجَرتُ بالقدوم، وكتبت بالقلم.
الثامن: باءُ العِوَض؛ كقول الشاعر:
ولا يواتيك فيما ناب من حدَث ... إِلاَّ أَخُو ثِقَة فانظر بمن تثق
أَراد مَن تثق به فزادها عوضاً عنه.
التَّاسع: باءُ المصاحبة: {اهبط بِسَلاَمٍ} ، {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، سبحانك الله وبحمدك.
العاشر: باءُ المقابلة: {ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وقولك: كافأْت إِحسانه بضعف. اشتريته بأَلف.
الحادى عشر: باءُ المجاوزة: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} .
الثانى عشر: باءُ الغاية، وهى الَّتى بمعنى إِلى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} .(2/191)
الثالث عشر: باءُ البدل:
فليت لى بهمُ قوما إِذا ركبوا ... شَنُّوا الإِغارة فرساناً وركباناً
الرابع عشر: باءُ الاستعلاءِ بمعنى عَلى: {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} بدليل {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} وقال:
أَربّ يبول الثُعْلبان برأسه ... لقد ذَلّ من بالت عليه الثعالب
{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} ، زَيْد بالسطح.
الخامس عشر: باءُ التبعيض: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أَى منها.
شربن بماءِ النحر ثم ترفعتْ
وقول الآخر:
فلثِمْتُ فاها آخِذاً بقرونها ... شُرب النزيف ببرْد ماءِ الحَشْرج(2/192)
السّادس عشر: باءُ القسم: أَقسم بالله.
السّابع عشر: باءُ التعليل: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} .
الثامن عشر: باء الظرفيّة: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} وقال الشَّاعر:
ويُستخرجُ اليربوع من نافقائه ... ومن جُحْرِه بالشَّيْخَة اليُتقصّع
التَّاسع عشر: الباءُ الَّتى تدخل على الاسم لإِرادة التشبيه، كقولهم: لقيت بزيد الأَسد، ورأَيت بفلان القمر. والصحيح أَنها للسبب.
العشرون: باءُ التقليل، كقول الشاعر:
فلئن صرت لا تُحير جوابا ... لما قد تُرى وأَنت خطيب
الحادى والعشرون: الباءُ الزَّائدة، وهى المؤكِّدة. وتزاد فى الفاعل. {كَفى بِاللهِ شَهِيداً} أَحْسِنْ بزيد، أَصله حَسُن زيد، وقال الشاعر:
كفى ثعلا فخراً بأَنَّك منهم ... ودهرٌ لأَن أَمسَيْت من أَهله أَهل
وفى الحديث "كفى بالمرءِ كذباً أَن يحدِّث بكلّ ما سمع" ويزاد ضرورة كقوله:(2/193)
أَلم يأْتيك والأَنباءُ تَنْمى ... بما لاقت لبونُ بنى زياد
وقوله:
مهمالى الليلة مهماليه ... أَودى بنعلىّ وسِرْباليه
وتزادُ فى المفعول {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} .
نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج
سود المحاجر لا يقرأْن بالسور
وقلَّت فى مفعول ما يتعدّى لاثنين؛ كقوله:
تَبَلَتْ فؤادَك فى المنام خَرِيدَةٌ ... تسقى الضَّجيعَ بباردٍ بسّامِ
ويزاد فى المبتدأ: {بِأَيِّكُمُ المفتون} ، بحسبك درهم، خرجت فإِذا بزيدٍ. ويزاد فى الخبر {وَمَا الله بِغَافِلٍ} ، {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} .
ومنعكها بشئ يستطاع(2/194)
ويزاد فى الحال المنفىّ عاملها:
فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيّب منتهاها
وليس بذى سيف وليس بنبَّال
ويزاد فى التوكيد بالنَّفس والعين {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} .
ومن أقسام الباءِ الباءُ المبدلة؛ كمكَّة وبكَّة، ولازم ولازب، والباءُ المكرّرة، كباءِ الرّب، وكبّر، وتكبّر. ومنها باءُ الاستقامة {آمَنَّا بِرَبِّنَا} أَى استقمنا {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} . ومنها باءُ التعبير. وتكون متضمّنة لزيادة العلم: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} ومنها الباءُ اللُّغوى، وهو الرّجل الشَّبق. الباءُ أَيضاً: النكاح. وكذلك الباءَة والباه.(2/195)
بصيرة فى البيت
وقد ورد فى القرآن على خمسة عشرة وجهاً.
الأَوّل: بمعنى المنازل والمساكن: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} وقال {مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ} {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} .
الثانى: بمعنى الخانات ومنازل الرفاق {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} .
الثالث: بمعنى المساجد، ومواضع العبادة: {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} ، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} .
الرّابع: بمعنى سفينة نوحٍ: {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} .
الخامس: بمعنى الكَعْبَة: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} ، {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} ، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} .
السّادس: بمعنى غُرف الكرامة {رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} .(2/196)
السابع: بمعنى حُجُرات النبوّة: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ} .
الثَّامن: بمعنى المحابس: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} أَى فى السّجون.
التَّاسع: بمعنى أَعشاش الزنابير {أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً} .
العاشر: بمعنى الخيام من الجلود: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً} .
الحادى عشر: بمعنى الغِيران فى الجبال: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} .
الثانى عشر: بمعنى الدُّور المعروفة: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً} .
الثالث عشر: بمعنى المِلْك: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} أَى فى مِلكها قاله الضحّاك عن ابن عباس.
الرّابع عشر: بمعنى الضُراح فى السّماءِ: {والبيت المعمور} .
الخامس عشر: بمعنى بيت النبوّة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} قال:
كل بيت أَنت ساكنه ... غير محتاج إِلى السُرُج
وجهك المأْمول حُجّتنا ... يوم يأْتى الناس بالحُجج
والبيت أَيضا: الشرف. والبيت: الشريف. والبيت: القبر. وجمع البيت أَبيات وبيوت. وجمع الجمع أَباييت، وبيوتات، وأَبياوات، وتصغيره بُيَيْتٌ، وبِيَيْت. ولا تقُل: بُوَيت. وامرأَة مُتَبَيّتَةٌ: أَصابت بيتاً. وبعلاً.(2/197)
بصيرة فى الباب
وقد ورد فى القرآن لاثنى عشر معنى:
الأَوّل: لمنازل العقوبة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} .
الثانى: لمساكن المَثُوبة: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} ، {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
الثالث: بمعنى السّكَّة والمحلَّة: {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} أَى من سِكَكٍ.
الرّابع: باب المكر والحِيلة: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} .
الخامس: باب الهَرب والهزيمة من المعصية: {واستبقا الباب} ، {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب} .
السّادس: الأَبواب المعروفة {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} .
السابع: دروب مدينة (أَرِيحا وأَذْرُح) {وادخلوا الباب سُجَّداً} {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} .(2/198)
الثامن: بمعنى مَدْخل الأَمر ومخرجه: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا} أَى الأُمورَ من وجوهها.
التاسع: بمعنى مفتتح الأَمر {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
العاشر: بمعنى طرُق أَعمال العباد إِلى السّمَاءِ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} .
الحادى عشر: بمعنى أَبواب الاستدراج بإِظهار النِّعمَ: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} .
الثانى عشر: الباب المشترك بين المؤمنين والمنافقين: {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} .
والباب أَيضاً، والبابة فى الحدود والحساب: الغاية. ويجمع الباب على أَبوابٍ، وبيبان، وعلى أَبْوِبة. وهذا نادر. وباب له يَبُوب: صار له بَوّاباً. وحرفته البِوَابة. وتبّوب بوّاباً: اتَّخذه. ومنه يقال فى العلم: باب كذا، وهذا العلم باب إِلى كذا أَى يتوصّل إِليه. وقد يقال: أَبواب الجنَّة، وأَبواب جهنَّم للأَسباب الَّتى يتوصّل بها إِليهما. وبابات الكتاب: سطوره لا واحد له. وهذا بابته أَى يصلح له؛ قال الشاعر:
تركت النبيذ وشُرَّابة ... وصرتُ حبيباً لمن عابَهُ
شراب يُضلّ سبيل الرّشاد ... ويفتح للشرّ أَبوابَه(2/199)
بصيرة فى البشارة
وهى الخَبَر السّارّ. ويقال لها: البُشْرى أَيضاً. وبَشَرته، وأَبشرته وبشَّرته: أَخبرته بِسارّ بَسَط بَشَرةَ وجهه. وذلك أَنَّ النَّفس إِذا سُرَّت انتشر الدّم فيها انتشارَ الماءِ فى الشجر.
وبين هذه الأَلفاظ فروق؛ فإِنَّ بَشَرته عامّ، وأَبشرته نحو أَحمدته، وبشَّرته على التكثير. وقرئَ (يَبْشُرُك) ، و (يُبْشِرُك) ، و (يُبشِّرُكِ) . واستبشر إِذا وجد ما يسرُّه من الفرح. والبشير المبشِّر.
والبِشَارة وردت فى القرآن على اثنى عشر وجهاً، لاثنى عشر قوماً باثنتى عشرة كرامة.
الأَوّل: بشارة أَرباب الإِنابة بالهداية: {وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى} إِلى قوله: {هداهُمُ اللهُ} .
الثَّانى: بشارة المخْبتين والمخلصين بالحفظ والرّعاية: {وَبَشِّرِ المخبتين} .
الثالث بشارة المستقيمين بثبات الولاية: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} إِلى قوله: {وأَبْشِرُوا بِالجنَّةِ} .(2/200)
الرّابع: بشارة المتَّقين بالفوز والحماية: {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ البشرى} .
الخامس: بشارة الخائفين بالمغفرة، والوقاية: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} إِلى قوله: {فبشِّرْهُ} .
السّادس: بشارة المجاهدين بالرّضا والعناية: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ} إِلى قوله: {يُبشِّرُهُمْ ربُّهُمْ بِرحْمةٍ مِنْهُ ورِضْوانٍ} .
السّابع: بشارة العاصين بالرّحمة والكفاية: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} إِلى قوله: {ومَنْ يقْنطُ مِنْ رحْمةِ ربِّهِ} .
الثامن: بشارة المطيعين بالجنَّة والسّعادة: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} .
التاسع: بشارة المؤمنين بالعطاءِ والشَّفاعة: {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} .
العاشر: بشارة المنكِرين بالعذاب والعقوبة {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وهذه استعارة ولكن تنبيهٌ أَنَّ أَسرّ ما يسمعونه الخبر بما ينالهم من العذاب. وذلك نحو قول الشَّاعر:
تحيّةُ بَيْنِهم ضربٌ وجيع(2/201)
ويصلح أن يكون ذلك مثل قوله: {تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} .
الحادى عشر: بشارة الصّابرين بالصّلوات والرّحمة: {وَبَشِّرِ الصابرين} إِلى قوله: {أُولئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} .
الثانى عشر: بشارة العارفين باللقاءِ والرّؤية: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً} .(2/202)
بصيرة فى البشر
وهو جَمْع البَشَرة، وهى ظاهر الجِلْد. والأَدَمَة: باطنُه. ويجمع على أَبشار أَيضاً. وعُبّر عن الإِنسان بالبَشَر؛ اعتباراً بظهور جلده من الشَعَر؛ بخلاف الحيوانات الَّتى عليها الصّوف، أَو الشعرَ، أَو الوبر. ويستوى فى لفظ البَشَر الواحد والجمع، وثُنِّىَ فقال - تعالى -: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} .
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة عشر وجهاً:
الأَوّل: بمعنى أَبِينا آدم الصّفِىّ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
الثانى: بمعنى شَيخ المرسلين نوح: {مَا هاذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} .
الثالث: بمعنى صالحٍ النبىّ: {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} .
الرّابع: بمعنى يوسف الصّديق: {مَا هاذا بَشَراً} .
الخامس: بمعنى موسى وهارون: {فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} .(2/203)
السّادس: بمعنى جبريل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} . أَى مَلَكا. ونبّه أَنه تشبّحَ لها بصورة بشر.
السّابع: بمعنى ابن ماثان: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} .
الثامن: بمعنى شخص من الإِسرائيليين: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} أَى من بنى إِسرائيل.
التَّاسع: بمعنى الغلامَين العجميّين اللذين قال كفَّار مكّة: إِنَّ محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم يتعلَّم القرآن وأَخبار الماضين منهما: {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} إِنما يعنون جَبْراً ويساراً.
العاشر: بمعنى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} وفيه تنبيه أَنَّ الناس يتساوون فى البشريّة، وإِنَّما يتفاضلون بما يختصون به من المعارف الجليلة، والأَعمال الجميلة. ولذلك قال بعده: {يُوحَى إِلىّ} تنبيهاً أَنِّى بذلك تميّزتُ عنكم.
الحادى عشر: بمعنى جُمْلة المرسلين: {فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} .
الثانى عشر: بمعنى جَمْع البشرة: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} .
الثالث عشر: بمعنى جُمْلَة الآدميّين: {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} ولها نظائر.(2/204)
بصيرة فى البشير، والبشرى، والمبشر
يروى أَنَّه - تعالى - أَوحى إِلى داود: يا داوُد بشِّر المذنبين، وأَنذر الصّديقين. فقال: يا ربّ: وكيف ذلك؟ فقال: بشِّر المذنبين إِذا تابوا، وأَنذر الصّدّيقين إِذا أُعجبوا. وفى لفظ: بشِّر المذنبين بأَنى غفور، وأَنذر الصّدّيقين بأَنى غَيُور. وقال:
ورد البشير مبشِّرا بقدومه ... فملئت من قول البشير سرورا
فكأَننى يعقوب من فرحى به ... إِذ عاد مِن شمّ القميص بصرا
واللهِ لو قنع البشيرُ بمهجتى ... أَعطيتُه ورأَيت ذاك يسيرا
لو قال هَب لى ناظريك لقلتها ... خذ ناطرىّ فما سأَلت كثيرا
وقد ورد بالبشير، والبشرى، (والتبشير) والمبشِّر فى القرآن على أَوجهٍ: [فالبشير فى ثلاثة مواضع] .
الأَوّل: فى حقّ القرآن المجيد: {بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} .
الثانى: فى يهوذا: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} .
الثالث: بمعنى سيّد المرسلين: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} . وبشرى فى ثلاثة:
الأَوّل: بشرى فى مالك بن دعر لغلامه بأَحسن الحِسان: {يابشرى هاذا غُلاَمٌ} .(2/205)
الثانى: بشارة المطيعين بخلود الجِنَان: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ} .
الثالث: مَنْع الملائكة البشرى عن المجرمين والكفار: {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} .
والتبشير فى أَربعة مواضع:
الأَول: فى حال ولادة البنات {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} .
الثانى: لإِبراهيم الخليل بإِسحاق {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} ، وبأَولاد آخرين {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} يعنى إِسماعيل، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} .
الثالث: لزكريّا بيحيى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً} .
الرّابع: لمريم بعيسى: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح} . والمبشِّر فى ثلاثة مواضع:
الأَوّل عامّة الرّسل: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} .
الثانى: تبشير عيسى بَمَقْدَم سيّد المرسلين: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} .(2/206)
الثالث: تبشير النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم للعاصين برحمة أَرحم الرّاحمين: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} .
ويقال: أَبشر الرّجلُ أَى وجد بشارة؛ نحو أَبقل، وأَمْحل: {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
وقول ابن مسعود: من أَحبّ القرآن فليَبْشَر (أَى فليُسَرّ) يقال بشرته مبشِر؛ نحو جبْرته فجبر. وقال سيبويه: فأَبشر (وقال ابن قتيبة: هو من بشرت الأَديم إِذا رَقَّقت وجهه. قال ومعناه: فليضمِّر نفسه؛ كما روى: إِن وراءَنا عقبةً كئودا لا يقطعها إِلاَّ الضُّمَّرُ من الرّجال.
وتباشير الوجه: ما يبدو من سروره. وتباشير النخل: ما يبدو من رُطَبه، ومن الصّبح: ما يبدو من أَوائله. ويسمّى ما يعطى المبشِّر البُشْرى. والبُشَارة بالضم.(2/207)
بصيرة فى البركات
وقد وردت البركة فى القرآن فى أَربعة عشر شيئاً:
الأَوّل: فى الكعبة الَّتى هى قبلة العالمين: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} .
الثانى: فى المَطَر الَّذى به حياة المتنفِّسين: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} .
الثالث: فى السّلام الذى هو شِعَار المسلمين: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} .
الرابع: فى أَولاد إِبراهيم خليل ربّ العالمين: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ} {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} .
السّادس: فى أَولاد نوح شيخ المرسلين: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} .
السّابع: فى الأَرض التى هى مَقَرّ الآدميين: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} .
الثامن: فى البُقْعة الَّتى هى محلّ موسى [حيث ناداه] ربّ العالمين: {فِي البقعة المباركة} .(2/208)
التَّاسع: (فى نار موسى ليلة طور سينين {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} أَى فى طلب النار) .
العاشر: فى شجرة الزَّيتون، الممثّل بنور معرفة العارفين: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} .
الحادى عشر: فى المسجد الأَقصى الَّذى هو مَمَرّ سيّد الرّسل إِلى أَعلى علِّيّين: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} .
الثَّانى عشر: فى ليلة القَدْر التى هى موسم الرّحمة والغفران للعاصين والمذنبين {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} .
الثالث عشر: فى القرآن الذى هو أَعظم معجزِات البَشَر: {وهاذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} .
الرابع: عشر فى المَنْزل الَّذى قُصِد، لا على التعيين: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أَى حيث يوجد الخير الإِلهى.
والبركة معناها ثبوت الخير الإِلهى فى الشئِ. والمادّة موضوعة للزوم والثبوت. وقوله - تعالى - {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} سمّى بذلك لثبوت الخير (فيه ثبوت الماءِ فى البِرْكة. والمبارك ما فيه ذلك الخير) وقوله - تعالى -: {هاذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} تنبيه على ما يَفِيض من الحياة الإِلهية. ولمّا كان الخير الإِلهىّ يصدر من حيث لا يُحَسّ، وعلى وجه(2/209)
لا يُحْصى ولا يُحْصَر، قيل لكلّ ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك، وفيه بركة. وإِلى هذه الزّيادة أشير بما روى (لا يَنْقص مال من صدقة) لا إِلى النّقصان المحسوس، حيث ما قال بعض الملاحدة الخاسرين حيث قيل له ذلك، فقال له: بينى وبينك الميزان. على أَنَّ عمّى - وكان من أَكابر الصّالحين - أَخبرنى أَنَّه كال كُدْساً من الطعام، ثمّ أَخرج منه الزكاة، ثمّ إِنَّه كاله ثانيةً عند النقل إِلى المنزل، فوجده لم ينقص شيئاً من الكيل الأَوّل.(2/210)
بصيرة فى البر، والبر
وقد ورد فى القرآن على أَربعة عشر وجهاً:
الأَوّل: - أَعنى البَرّ - بالفتح - خمس.
الأَوّل: بمعنى الحَقّ - جَلّ اسمه وعلا - {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} .
الثَّانى: بمعنى الصّحراءِ ضدّ البَحْر: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} ، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} ، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر} .
الثالث: فى مدح يحيى بن زكريا {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} .
الرّابع: فى المسيح عيسى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} .
الخامس: فى ساكنى مَلَكوت السّماءِ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} . وأَما البِرّ - بالكسر - فأَربعة:
الأَوّل بمعنى البارّ: {ولاكن البر مَنْ آمَنَ بالله} أَى البارّ.
الثانى: بمعنى الخير: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} .
الثَّالث: بمعنى الطَّاعة: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} .(2/211)
الرّابع: بمعنى تصديق اليمين: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ} .
وقد جاءَ بمعنى صلة الرّحم {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} أَى تصلوا أَرحامكم.
والأَبرار مذكور فى خمسة مواضع:
الأَوّل: فى صفة الأَخيار، فى جوار الغفَّار: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} .
الثانى: فى صفة نظارتهم على غُرَف دار القرار: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} .
الثالث: فى مجلس أُنْسهم، ومجاورة المصطفى، وصحابته الأَخيار: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} .
الرّابع: فى تقريرهم فى قُبّة القُرْبَة من الله الكريم الستَّار: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} .
الخامس: فى مرافقة بعضم بعضاً يوم الرحيل إِلى دار القرار {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} .(2/212)
وأَصل الكلمة ومادّتها - أَعنى (ب ر ر) - موضوعة (لخلاف البحر) ، وتُصوّر منه التوسّع، فاشتُقّ منه البِرّ أَى التوسّع فى فعل الخير. وينسب ذلك تارة إِلى الله تعالى فى نحو {إِنَّه هُو البرُّ الرَّحيمُ} ، وإِلى العبد تارة، فيقال: برّ العبدُ ربّه، أَى توسّع فى طاعته. فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعةُ. وذلك ضربان: ضرب فى الاعتقاد، وضرب فى الأَعمال. وقد اشتمل عليهما قولُه تعالى {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية (وعلى هذا ما روى أَنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البرّ فتلا هذه الآية) فإِن الآية متضمّنة للاعتقاد، ولأَعمال الفرائض، والنَّوافل. وبِرّ الوالدين: التَّوسُّع فى الإِحسان إِليهما. ويستعمل البِرّ فى الصدق لكونه بعضَ الخير. يقال: برّ فى قوله، وفى يمينه، وحَجّ مبرورُ: مقبول. وجمع البارّ أَبرار، وبَرَرة. وخصّ الملائكة بالبَرَرة من حيث إِنَّه أَبلغ من الأَبرار؛ فإِنه جمع بَرّ. والأَبرار جمع بَارٍّ، وبرٌّ أَبلغ من بارّ؛ كما أَنَّ عَدْلاً أَبلغ من عادل. والبُرّ معروف وتسميته بذلك لكونه أَوسع ما يُحتاج إِليه فى الغذاءِ.(2/213)
بصيرة فى البعث
وقد ورد فى القرآن على ثمانية معانٍ:
الأَوّل: بمعنى الإِلهام: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ} أَى أَلهم.
الثانى: بمعنى إِحياءِ الموتى فى الدنيا: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} ، {فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} ، {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أَى أَحييناهم.
الثالث: بمعنى الاستيقاظ من النوم: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} أَى من النَّوم، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} .
الرابع: بمعنى التسليط {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً} .
الخامس: بمعنى نَصْب القيّم والحاكم: {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} .
السّادس: بمعنى التعيين: {ابعث لَنَا مَلِكاً} أَى عيّن وبَيّن، {قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} أَى قد عَيّن وبَيّن.(2/214)
السابع: بمعنى الإِخراج من القبور للحشر: {وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} .
الثامن: بمعنى الإِرسال: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} ، {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً} أَى أَرسل.
وأَصل البعث إِثارة الشئِ وتوجيهه. يقال: بعثتُه فانبعث.
ويختلف البعث بحسب اختلاف ما عُلِّق به. فالبعث ضربان: بَشَرىّ؛ كبعث البعير، وبعث الإِنسان فى حاجة، وإِلهى، وذلك ضربان: أَحدهما إِيجاد الأَعيان، والأَجناس، والأَنواع عن ليس وذلك يختص به البارئُ - تعالى - ولم يُقْدِر عليه أَحداً من خَلْقه.
والثانى: إِحياءُ الموتى. وقد خَصّ به بعض أَوليائه؛ كعيسى وغيره. ومنه {فهاذا يَوْمُ البعث} نحو يوم المَحْشر. وقوله: {ولاكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أَى توجُّههم ومُضيّهم.(2/215)
بصيرة فى البدل
وهو الشىّ يكون مكان آخر. وهو أَعمّ من العوَضِ، فإِنَّ العوض هو أَن يصير لك الثانى بإِعطاءِ الأَوّل. والتَّبديل، والإِبدال، والاستبدال: جعل الشَّئِ مكان آخر.
وقد ورد فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى الهلاك {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أَى نهلك.
الثانى: بمعنى نسْخ الشريعة والآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} أَى نسخنا، {أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} .
الثالث: بمعنى التغيير: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} أَى يغيّرونه، {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} ومنه قوله - تعالى {فأولائك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} وقيل: هو أَن يعملوا أَعمالاً صالحة تُبطل ما قدّموه من الإِساءَة. وقيل: هو أَن يعفو - تعالى - عن سيئاتهم، ويحتسب بحسناتهم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} أَى تغيّر عن حالها. وقوله: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أَى لا يغيّر ما سبق فى اللَّوح(2/216)
المحفوظ؛ تنبيهاً على أَن ما علمه أَن سيكون يكون على ما قد علمه، لا يتغيّر عن حاله. وقيل: لا يقع فى قوله خُلْف. وعلى الوجهين قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} وقيل: معناه: النهى عن الخِصاءِ.
الرّابع: بمعنى تجديد الحالة: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} أَى جَدّدنا.
الخامس: بمعنى اختيار الكفر، والنكرة على الإِيمان {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} .
السّادس: بمعنى إِبليس فى طريق الظلم والضلالة: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} .
والأَبدال: قوم صالحون، يجعلهم الله تعالى مكان آخرين مثلهم ماضين. وحقيقته: قوم بدّلوا أَحوالهم الذميمة (بأَحوالهم الحميدة) . قيل: وهم المشار إِليهم بقوله: تعالى - {فَأُولَئكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتهِمْ حَسَنَاتٍ} .(2/217)
بصيرة فى البسط
وهو لغة: النَّشر والتوسيع. فتارةً يتصور منه الأَمران، وتارة يتصوّر منه أَحدهما: بسط الثوب: نشره. ومنه البِساط، وهو اسم لكلّ مبسوط. والبَسَاط - بالفتح -: الأَرض المنبسطة، والمستوية. والبسيطة: الأَرض. واستعار قوم البسيط لكلّ شيءٍ لا يتصوّر فيه تركيب، وتأْليف، ونَظْم.
قوله - تعالى - {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ} أَى وسّعه، {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} أَى سعة. قال بعضهم: بَسْطتُه فى العلم هو أَن انتفع هو به، ونفع غيره، فصار له به بسطة أَى جُود. وبَسْط اليد: مَدّها.
وبَسْط الكفّ يستعمل تارة للطَّلب نحو {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ} ، وتارة للأَخذ؛ نحو {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ} ، وتارة للصّولة، والضَّرب؛ نحو {ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء} ، وتارةً للبَذْل والإِعطاءِ؛ نحو {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . ورجل بَسِيط الوجه: متهلِّل، وبسيط اليدين: منبسط. وانبسط النَّهار: امتدّ، وطال.(2/218)
والبُسْطة - بالضمّ -: الفضيلة: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ} والبَسْطة بالفتح: المرأَة الحسنة الجسم. والبِسْط - بالكسر والضمّ -: النَّاقة المتروكة مع ولدها، لا تُمنع. والجمع أَبساط، وبُسْط، وبُسَاط. وهذا من الجموع العزيزة.(2/219)
بصيرة فى البقية
وقد وردت على وجوه.
الأَوّل: بمعنى المال والحلال: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .
الثانى: الباقية بمعنى الصّلاة: {والباقيات الصالحات} أَى الصّلوات الخمس.
الثالث: بمعنى ميراث الأَموات: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} .
الرّابع: بمعنى قِلَّة القوم والتَّبَع {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} .
وأَصل البقاء: ثبات الشئِ على الحالة الأُولى. وهو يضادّ الفناءَ. وقد بقِى يبقى بقاءً، وبَقَى - كرمى - لغةٌ. وفى الحديث: بَقَينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أَى انتظرناه، ورصدنا له مدّة كثيرة.
والباقى ضربان: باقٍ بنفسه لا إِلى مدّة. وهو البارئُ تعالى، ولا يجوز عليه الفناءُ، وباقٍ بغيره، وهو ما عداه، ويصحّ عليه الفناءُ. والباقى بالله ضربان: باقٍ بشخصه إِلى أَن يشاءَ الله أَن يفنيه: كبقاءِ الأَجرام السّماويّة،(2/220)
وباقٍ بجنسه، ونوعِه، دون شخصه، وجزئه، كالإِنسان، والحيوانات. فكذا فى الآخرة باقٍ بشخصه؛ كأَهل الجنَّة؛ فإِنهم يَبْقَوْن على التأْبيد لا إِلى مُدة، وباقٍ بنوعه، وجنسه؛ كما روى عن النبى صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّ ثمار الجنَّة يقطعها أَهلها، ويأْكلونها، ثمّ تُخلف مكانها مثلَها.
ولكون ما فى الآخرة دائما قال الله تعالى: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} .(2/221)
بصيرة فى البصيرة
وهى قوّة القلب المدركة. ويقال لها: بَصَر أَيضاً: قال الله - تعالى -: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} وجمع البصر أَبصار، وجمع البصيرة بصائر. ولا يكاد يقال للجارحة الناظرة بصيرة؛ إِنما هى بَصَرٌ؛ نحو {كَلَمْحٍ بالبصر} ويقال للقوّة الَّتى فيها أَيضاً: بَصَر. ويقال منه: أَبصرت، ومن الأَوّل: أَبصرته، وبَصُرت به. وقلَّما يقال فى الحاسّة إِذا لم تضامّه رُؤية القلب: بَصُرت. ومنه {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} أَى على معرفة وتحقُّق. وقوله: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أَى عليه من جوارحه بصيرة، فتبصّره وتشهد عليه يوم القيامة. وقال الأَخفش: جعله فى نفسه بصيرة؛ كما يقال: فلان جُود وكرم. فههنا أَيضا كذلك؛ لأَنَّ الإنسان ببديهة عقله يعلم أَن ما يقرّبه إِلى الله هو السّعادة، وما يبعده عن طاعته الشقاوة.(2/222)
وتأْنيث البصير لأَنَّ المراد بالإِنسان هنا جوارحه. وقيل: الهاءُ للمبالغة؛ كعلاَّمة، وزاوية. والضَّرير يقال له: البصير، على سبيل العكس. والصّواب أَنه قيل له ذلك لمالَه من قوّة بصيرة القلب.
وقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} حمله كثير من المتكلِّمين على الجارحة. وقيل: فى ذلك إِشارة إِلى ذلك، وإِلى الأَذهان، والأَفهام. والباصرة: الجارحة الناظرة.
{وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} قيل معناه: صار أَهله بُصَراءَ؛ نحو رجل مُخْبِث، ومُضْعِف أَى أَهله خُبثاءُ وضعفاءُ. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} : آية جعلناها عِبرة لهم. وقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أَى انتظر حتى ترى ويرون. وقوله: {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} أَى طالبين للبصيرة. ويصحّ (أَن يستعار) الاستبصار للإِبصار؛ نحو استعارة الاستجابة للإِجابة. وقوله: {تَبْصِرَةً وذكرى} أَى تبصيرا وتنبييناً. يقال: بَصّرته تبصيراً، وتَبْصِرة؛ نحو ذكَّرته تذكيراً وتذكرة.(2/223)
والبصيرة: قطعة من الدّم تلمع، والتُرْس اللامع، وما بين شِقَّتى الثوب، والمزادة، ونحوها الَّتى تبصر منه. والبَصْرة: حجارة رِخوة تلمع كأَنَّها تُبصر.
وورد البصر فى القرآن على وجوه: بصر النظر والحجّة: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً} ، وبَصَر الأَدب، والحرمة: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} ، وبصر للتعجيل والسّرعة: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} ، وبصر الحيرة والحسرة: {فَإِذَا بَرِقَ البصر} ، وبصر للعمى فى الكافر، والجهالة: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} ، وبصر السّؤال عن المعصية، والطَّاعة: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد} ، وبصر فى عدم الفائدة والمنفعة: {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ} ، وبصر للغىّ والغفلة: {أولائك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ، وبصر للغِطاءِ واللعنة: {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} ، وبصر لإِبعاد المنكرين عن اللِّقاءِ والرّؤية: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ، وبصر للختم والخسارة: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ} وبصر للنَّظر والعِبْرة: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} .(2/224)
بصيرة فى البحر (والبحيرة)
وقد ورد على أَنحاءٍ: بمعنى ضِدّ البرّ: {واترك البحر رَهْواً} ، {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} ، وبمعنى بحر فارس والرّوم: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، وبمعنى البحر الذى تحت العرش المجيد، وفيه عجائب لا يعلمها إِلا الله وبمائه يُحيي الله الأَموات: {والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} ، وبمعنى الأَرياف والقرى: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} أَى فى البوادى والحواضر.
وأَصل البحر: كل مكان واسع جامع للماءِ الكثير. ثم اعتبر تارة سعته المكانيّة؛ فيقال: بحرت كذا: أَوسعته سعة البحر؛ تشبيهاً به. ومنه بَحَرت البعير: شققتُ أُذنه شقّاً واسعاً. ومنه البحيرة: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} وذلك ما كانوا يجعلونه بالنَّاقة إِذا ولدَتْ عشرة أَبطن(2/225)
شقُّوا أُذنها وسيَّبوها، فلا تُركب، ولا يُحمل عليها. وسمَّوْا كلّ متوسع فى شئٍ بحراً. فالرّجل المتوسّع فى علمه بحر، والفرس المتوسّع فى جريه بحر. واعتبر من البحر تارةٌ ملوحته، فقيل: ماءُ بَحْر أَى مِلْح. وقد أَبْحَر الماءُ. قال:
وقد عاد ماءُ الأَرض بحرا وازدنى ... إِلى مرضى أَن أَبحر المشربُ العذبُ
وقال بعضهم: البحر فى الأَصل المِلْح، دون العذب. وقوله تعالى: {البحران هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} إِنَّما سمى العذاب بحراً؛ لكونه مع الملح؛ كما يقال للشَّمس والقمر: قمران.(2/226)
بصيرة فى البخل
والبُخْل - بالضَّم، وبالفتح -، والبَخَل - بالتَّحريك -، والبُخُول مصادر بَخل يبخل، كعلم يعلم، فهو باخل من بُخَّل - كَرُكَّع -، وبخيلٌ من بُخَلاءَ. ورجل بَخَل - محرّكة - وصف بالمصدر (وبَخَال وبَخَّال ومبَخَّل) كسحَاب وشَدَّاد ومُعَظَّم.
والبُخْل: إِمساك المتقنَيَات عمّا لا يحِقُّ حَبْسها عنه. ويقابله الجود. والبُخْل ثمرة الشُّحّ، والشُّحُّ يأْمر بالبُخْل؛ كما قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِيّاكم والشُّحّ؛ فإِنَّ الشُّحّ أَهلك مَنْ كان قبلكم: أَمرهم بالبخل فبخِلوا، وأَمرهم بالقطعية فقطَعُوا" فالبخيل: مَنْ أَجاب داعى الشحّ، والمُؤثر مَن أَجاب داعىَ الجُود، والسّخاءِ، والإِحسان.
والبخل ضربان: بخل بقنيات نفسه، وبخل بقنيات غيره. وهو أَكثرهما ذَمّاً. وعلى ذلك قوله - تعالى -: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} .
والبخيل مِن [الباخل] : الذى يكثر منه البخل؛ كالرّحيم من الرّاحم.(2/227)
بصيرة فى البخس
وهو نقص الشئِ على سبيل الظلم. والبَخْس، والباخِس: الشئُ الطفيف النَّاقص. وقوله - تعالى - {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} قيل: معناه: باخس، أى ناقص. وقيل: مبخوس أَى منقوص. وتباخسوا أَى تغابنوا فَبَخس بعضُهم بعضاً. قيل كان الثمن عشرين (درهماً، وقيل اثنين وعشرين) .(2/228)
بصيرة فى البخع
وهو لغة: قَتْل النفس غَمّاً، بخع نفسه يبخع بخعا كمنع يمنع. وبخع بالحقّ بُخوعاً، وبَخاعة: أَقرّ به، وخضع له. وبخع الرّكية بخْعاً: حفرها، حتى ظهر ماؤها. وبَخَع له نصحه: أَخلصه، وبالغ فيه. وبخَع الأَرض بالزِّراعة: نهكها، وتابع حراثتها، ولم يُجمّها عاماً. وبَخع الرجلَ خبره: صَدَقه. وبخع الشَّاة: بالغ فى ذبحها {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أَى مهلكها، وقاتلها؛ حرصاً على إِسلامهم. وفيه حثّ على ترك التأَسّف؛ نحو {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .(2/229)
بصيرة فى البدار
قال - تعالى -: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أَى مسارعة. يقال: بدَرتُ إِليه، وبادرت. ويعبّر عن الخطأ الَّذى يقع عن حِدّة: بادرة يقال: كانت من فلان بوادر فى هذا الأَمر. والبَدْر قيل: سمّى به لمبادرته الشمس بالطلوع. وقيل: لامتلائه، تشبيهاً بالبَدْرة. فعلى ما قيل يكون مصدراً فى معنى الفاعل. قال الرّاغب: "الأَقرب عندى أَن يجعل البَدْر أَصلاً فى الباب، ثم يعتبر معانيه الَّتى تظهر منه، فيقال تارة: بَدَر كذا أَى طلع طلوع البدر. ويعتبر امتلاؤه تارة فتشبّه البَدْرة به. والبَيْدَر: المكان المرشَّح لجمع الغلَّة فيه ومَلْئه منه.(2/230)
بصيرة فى البديع
وقد جاءَ بمعنى (المبتدِع وبمعنى المبتدَع) . والبديع أَيضاً. حَبْل ابتُدئَ فَتله، ولم يكن حبلاً فنُكِث، ثم غُزِل، ثم أُعيد فتله. والبديع: الزقّ الجديد، والرّجُل السّمين. قال - تعالى - {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} {بَدِيعُ السماوات والأرض وَإِذَا قضى أَمْراً} بمعنى المبدِع، والمبتدِئِ لإِيجاده، ورُوى أَنَّ اسم الله الأَعظمَ: يا بديع السّماوات والأَرض، ياذا الجلال والإِكرام. والبِدْع - بالكسر -: المبتدَع، والبديع، والغُمْر من الرّجال والغاية فى كلّ شئ. وذلك إِذا كان عالِماً، أَو شجاعاً، أَو شريفاً. والجمع أَبداع. وهى بِدْعة من بِدَع. وقد بَدُع بَدَاعة، وبدوعاً و {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} قيل: معناه: مُبْتَدعاً لم يتقدمنى رسول. وقيل: مبدِعاً فيما أَقوله.
والبِدْعَة: الحَدث فى الدّين بعد الإِكمال. وقيل: ما استُحدث بعده - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الأَهواءِ، والأَعمال. والجمع بِدَع. وقيل: البِدْعة: إِيراد قول، أَو فعل، لم يَسْتنّ قائلها، ولا فاعلها فيه بصاحب(2/231)
الشريعة، وأَماثلها المتقدّمة، وأُصولها المقنَّنة. ورُوى "كلّ مُحْدَثٍ بدْعة وكلّ بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النَّار". وأَبدع: أَبدأ، والشاعر: أَتى بالبديع، وفلان بفلان: قَطَع به، وخذله، ولم يقم بحاجته، وحُجّتُه: بطلتْ، وبِرُّه بشكرى، وقصده بوصفى: إِذا شكره على إِحسانه إِليه، معترفاً بأَن شكره لا يفى بإِحسانه.(2/232)
بصيرة فى البدن
وهو [من] الجسد: ما سوى الرّأَس، والشَّوَى. وقيل: العضو، وقيل: البدن خاصّ بأَعضاءِ الجَزُور. وقيل فى الفرق بين البدن والجسد: إِن البدن يقال اعتبارا بعظم الجُنَّة، والجسد اعتباراً باللَّون. ومنه قيل: ثوب مُجَسّد. ومنه قيل: امرأَة بادنة، وبادن، وبَدين أَى عظيمة الجسم. وسمّيت البَدَنةُ بذلك لِسمَنها. ويقال: بَدُن إِذا سمِن. وكذلك بدّن. وقيل: بل بدّن (مشدّدة) معناه: أَسَنَّ. ومنه الحديث: "لا تبادرونى بالرّكوع والسّجود فإِنى قد بدَّنت" أَى كبِرَت وأَسننت. وقوله: تعالى: {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أَى بجسدك. وقيل: بدرعك. وقيل: سمّى الدّرع بَدَنة، لكونه على البَدَن؛ كما يسمّى موضع اليد من القميص يدا، وموضع الظهر، والبطن ظهراً، وبطناً. وقوله - تعالى - {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} هى جمع البَدَنة الَّتى تُهْدَى. والبَدَنة من الإِبل والبقر كالأضحية من الغنم. وهنَّ للذكر والأُنثى. والجمعُ بُدْن، وبُدُن.(2/233)
بصيرة فى البرج
وهو القَصْر، وجمعه بُرُوج.
وقد جاءَ فى القرآن على وجوه ثلاثة.
الأَوّل: بمعنى مَدَار الكواكب: {والسمآء ذَاتِ البروج} ، {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} .
والثانى: بمعنى القصور: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} أَى قصور محكمة، مطوَّلة. قيل: يجوز أَن يراد بها بروج فى الأَرض، وأَن يراد بروج النجوم، ويكون استعمال لفظ المشيّدة فيها على سبيل الاستعارة. ويكون الإِشارة بالمعنى إِلى نحو ما قال زُهَير:
ومن هاب أَسباب المنايا يَنَلْنَهُ ... ولو نال أَسباب السّماءِ بسلَّم
(وأَن يكون البروج فى الأَرض) ويكون الإِشارة إِلى ما قال الآخر:
ولو كنت فى غُمْدَان يحرس بابه ... أَراجيلُ أَحبوش وأَسودُ آلف
إِذا لأَتتنى - حَيث كنت - منيّتى ... يَخُبُّ بها هادٍ لإِثرى قائف(2/234)
وثوب مبرَّج: صوّر عليه بروج.
الثالث: بمعنى التزيّن والتَّوسّع {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية} ، {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ} . وهذا كلّه مأْخوذ من (المبرَّج) فى اعتبار حسنه. فقولهم: تبّرجت المرأَةُ: تشبّهت بالمبرّج فى إِظهار المحاسن. وقيل: ظهرت من بُرْجها أَى قصرها. والبَرَج: سعة العين، وحسنها؛ تشبّهاً بالبُرْج فى الأَمرين. كتب إِلىّ بعض الفضلاءِ:
بنفسى مَنْ أَهدى إِلىّ كتابه ... فأَهدى لى الدّنيا مع الدّين فى دَرْج
كتاب معانيه خلال سطوره ... كواكبُ فى بُرْج لآلئ فى دُرْج(2/235)
بصيرة فى البراح
وهو المكان الواسع الّذى لا بِنَاءَ فيه، ولا شجر. فيعتبر تارة ظهوره، فيقال: فعل كذا بَرَاحاً، أَى صُرَاحاً لا يستره شىءٌ. وبَرِح الخفاءُ: ظهر كأَنَّه حصل فى براحٍ يُرَى. وبَرَاح الدّار: ساحته، وبَرِح - كسمع صار فى البَرَاح. ومنه البارح للرّيح الشديدة. وبَرِح: (ثبت فى البَرَاح) ومنه لا أَبرح. وخصّ بالإِثبات؛ كقولهم: لا زال؛ لأَن برِح، وزال اقتضيا معنى النفى. ولا للنَّفى، والنَفْيان يحصل من اجتماعهما إِثبات. ومنه قوله - تعالى -: {لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} . ولما تصوّر من البارح معنى التشاؤم اشتقَّ منه التبريح والتباريح. فقيل، بَرَّح به الأَمرُ وبرّح بى فلان فى التقاضى. ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلم: "واضربوهنّ ضرباً غير مُبَرّح". ولقى منه البرحِين - مثلَّثة الأُولى - أَى الدّواهى والشدائد. وبُرْحة من البُرَح أَى ناقة من خيار الإِبل. والبارح: الرّيح الحارّة فى الصّيف. قال الشاعر:
يا ساكن الدنيا لقد أَوطنتها ... ولتبرَحنّ وإِن كرهت بَرَاحها
ما زلت تُنْقَل مُذْ خُلِقت إِلى البلا ... فانظر لنفسك إِن أَردت صلاحها
وقوله - تعالى -: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} أَى أَنتقل من مصر إِلى كَنْعَان.(2/236)
بصيرة فى البروز
وهو الظهور البيّن. وأَصله البَرَاز. وهو الفضاء. وبَرَز: حصل فى بَرَاز. وذلك إِما أَن يظهر بذاته؛ نحو {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} تنبيهاً أَنَّه يَبْطُل فيها الأَبنية. وسكَّانها. ومنه المبارزة فى القتال، وهى الظهور من الصّفِّ، أَو الظُّهور لما عنده من فضل الشجاعة. وهو أَن يُظهِر نفسه فى فعل محمود، وإِمّا أَن ينكشف عنه ما كان مستوراً به. ومنه قوله - تعالى -: {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} ، وقوله: {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} تنبيهاً أَنَّهم يُعرضون عليها. وامرأَة بَرْزة: عفيفة؛ لأَنَّ رفعتها بالعفَّة.(2/237)
بصيرة فى البرزخ
هو الحاجز بين الشيئين. وهو تارة قدرة الله تعالى، وتارة بقدرة الله تعالى. والبَرْزَخ من وقت الموت إِلى القيامة: مَن مات دخله. وبرازخ الإِيمان: ما بين أَوّله وآخره. والبَرْزخ فى القيامة: الحائل بين الإِنسان وبين بلوغ المنازل الرّفيعة فى الآخرة. وذلك إِشارة إِلى العقبة المذكورة فى قوله: {فَلاَ اقتحم العقبة} . وتلك العقبة موانع من أَحوال لا يصل إِليها إِلاَّ الصّالحون.(2/238)
بصيرة فى البرق
وهو لمعان السّحاب. والبَرْق، والبارقة: السّيف. سُمّى للمعانه. ويقال فى البرق: يَشْرَى ويُومض، ويَعِنُّ ويعترضُ، ويوبصُ، ويستطير، ويستطيل، ويَلمع ويتبوّج، ويخطَف، ويخفِق، ويبرق، ويتأَلَّق، ويتلألأ، ويستشرِى، ويَنْبِض، ويهبّ، ويخرق، ويتسلسل، ويستَنَّ، ويبتسم، ويضحك، وينبعق، وينشقّ، ويَرْتَعِص، ويَفْرِى، ويهُضَّ، وينبعث، ويلوح، ويتهلَّل، ويتكلَّل.
ومما يستحسنُ فى وصف البرق وخفائه، والرّعد فى حُدَائه، والثَّلج ولأْلائه، قول بعضهم:
يَنْبض نَبْض العِرْق فى استخفاءِ ... شرارةً تطرف من قَصْباءِ
أَو طَرْف طَيْر هَمّ باقتذاءِ ... حتى إِذا امتدَّت على السّواءِ
ورجفت بزَجل الحُدَاءِ ... وقعقعت بالرّعد ذى الضَّوضاءِ
كأَنَّ بين الأَرض والسّماءِ ... رِجْل جراد ثار فى عَماءِ(2/239)
أَو سَرَعاناً مِن دَبى غوغاءِ ... أَو كُرْسُفا يندف فى الهواءِ
تُطيرهُ الريح على القواءِ ... أَو (حَلبا ينطف فى الخباءِ)
أَو رغوة تنفشّ من عَزْلاءِ ... أَو كنقىّ الفِضَّة البيضاءِ
أَو كانتشار الدُرّ ذى اللآلاءِ ... أَو كانتظام الوَدْع فى الإِخفاءِ
فاشمَطَّت الأَرض على فتاءِ ... واستوت الآكام بالضَّواءِ
وقال الأَصمعىّ: أَحسن ما قيل فى البرق والغيث قول عَدِىّ بن الرِّقاع:
فقمت أُخبره بالغيث لم يره ... والبرق إِذا أَنا محزون له أَرق
مُزْن يسبّح فى ريح شآمية ... مكلَّل بعماءِ الماءِ منتطِق
أَلقى على ذات أَجفار كلاكله ... وشبّ نيرانه وانجاب يأْتلق
وبات يحتلِب الجوزاءَ دِرّتها ... فنوؤها حين ناحت مُرْبع لَثِق
تبكى ليُدرك مَحْلا كان ضيّعه ... يزيله سَبِط منه ومندفق
جَوْن المَشَارب رَقراق تظلّ به ... شمّ المخارم والأَثناءُ تصطفق
يكاد يظلع ظلما ثم يغلبه ... عن الشواهق والوادى به شرق(2/240)
وقال العتَّابىّ:
أَرِقتُ للبرق يخبو ثم يأْتلقُ ... يخفيه طورا ويبديه لنا الأُفق
كأَنها غُرَّة شهباءُ لامحة ... فى وجه دهماءَ ما فى جدلها بَلَق
أَو ثغر رنجيّة تفترُّ ضاحكةً ... تبدو مشافرها طوراً وتنطبق
أَو غُرَّة الصّبح عند الفجر حين بَدَت ... أَو فى المساءِ إِذا ما استعرض الشَفَق
له بدائِع حُمْر اللَّون هائلة ... فيها سلائل بيض ما لها حلق
والغيم كالثَّوب فى الآفاق منتشرٌ ... من فوقه طَبَق مِن تحته طبق
تظنَّه مُصْمَتاً لافتق فيه فإِن ... سالت عَزَاليه قلت: الثوب منفتق
إِن قعقع الرّعد فيه قلت منخرق ... أَولأْلأَ البرق فيه قلت يحترق
تستكّ من رعده أُذن السّميع كما ... تعْشى إِذا نظرت (فى برْقه) الحَدَق
فالرّعد صهصلِق والرّيح محترق ... والبَرْقُ مؤتلِق والماءُ منبعق
غيث أَواخره تحدو أَوائله ... أَربّ بالأَرض حتى ماله لبق
قد حاك فوق الرُبا نَوراً له أَرج ... كأَنه الوشى والدّيباج والسرق
فطار فى الأَنف ريح طيّب عَبِق ... ونار فى الطَّرف لونٌ مشرق أَنق
من خُضرة بينها حمراءُ قانية ... أَو أَصفرٌ فاقع أَو أَبيض يَقق(2/241)
بصيرة فى البرهان
وهو فُعْلان، بزنة الرّجحان. ومعناه: بيان الحجّة. وقيل: هو مصدر بَرِهَ يبْره كسمع يسمع إِذا ثاب جسمُه بعد عِلَّة، وابيضَّ جسمه. ومنه البَرَهْرَهة: للمرأَة البيضاءِ الشَّابّة، أَو التى تُرْعَد رطوبةً، ونعومةً. والبرهة بالضمّ، والفتح: الزَّمان الطَّويل، أَو مطلق الزَّمان، أَو مدّة منه. فالبرهان أَوكد الأَدلَّة. وهو الَّذى يقتضى الصّدق أَبداً لا محالة.
وذلك أَنَّ الأَدلَّة خمسة أَضرب: (دلالة تقتضى الصّدق أَبدا، ودلالة تقتضى الكذب أَبدا) ، ودلالة إِلى الصّدق أَقرب، ودلالة إِلى الكذب أَقرب، ودلالة اليهما سواء.
وجاءَ البرهان فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى المعجزة، والولاية: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} .
الثانى: بمعنى الدّليل، والحجّة: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ} .
الثَّالث: بمعنى القرآن، والنبوّة: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى كتاب ورسول. أَنشدنى بعض الفضلاءِ:
من استشار صُروفَ الدّهر قام له ... على حقيقة طبع الدّهر برهان
من استنام إِلى الأَشرار نام وفى ... قميصه منهم صِلّ وثُعبان(2/242)
بصيرة فى الابرام
وهو الإِحكام. وأَصله من إِبرام الحَبْل، وهو أَن يجعله طاقين، ثم يفتِله. والمَبَارِم: المغازل الَّتى يُبْرم بها، قال تعالى: {أَمْ أبرموا أَمْراً} أَى أَتقنوا إِحكامه. ويقال أَيضاً: بَرَمَ الأَمر يبرِمه ويَبْرُمه بمعنى المزيد. وأَبرم فلاناً فبرِم (وتبرّم: أَملَّه: فَمَلّ) . والبَرِيم: المبْرم، أَى المفتول فَتْلاً محكما. ومن هذا قيل للبخيل الَّذى لا يدخل فى المَيْسر: بَرَمٌ - محرّكة - كما يقال للبخيل أَيضاً: مغلول اليد. والمُبْرِم: الَّذى يُلِحّ ويشدِّد فى الأَمْرِ؛ تشبيهاً بمُبْرم الحبل.
ولمّا كان البريم من الحبل قد يكون ذا لونَيْن سمّى كلّ ذى لونين من شئٍ مختلط أَبيض، وأَسود، وكغنَم مختلطٍ وغير ذلك ممّا فيه لونان مختلطان: بَرِيماً، ومنه قيل للصبح: بَرِيم. وحَبل فيه لونان مزيّن بجوهر تشدّه المرأَة على وسَطها بَريم. والبُرْمة فى الأَصل: هى القِدْر المحكة ثم خَصّوه بما كان من الحجارة لإِحكامها. والجمع بِرَام كجُفْرة وجِفار.(2/243)
بصيرة فى البزوغ
وهو ابتداءُ الطُّلوع. وقيل: بزغت الشمس بَزْغاً وبُزُوغاً: شرَقَت، وبزغ ناب البعير طلع، وبزغ الحاجم: شَرط. والمِبْزَغ المِشراط. وابتزغ الرّبيعُ: جاءَ أَوّله: {فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً} أَى طالعاً (منتشر الضوءِ) .(2/244)
بصيرة فى البس
البَسّ: الفَتّ والذُّلّ: {وَبُسَّتِ الجبال} أَى فُتَّتْ، من قولهم: بَسسْت الحنطة، والسّويقَ بالماءِ: فتَتُّه به وهى البَسِيسة. وقيل معناه: سِيقت سَوقاً سريعاً، من قولهم: انبسّت الحيَّاتُ: أَى انسابت انسياباً سريعاً. فيكون كقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} وبسسْت بالإِبل: زجرتها عند السّوق. وأَبْسَسْتُ بها عند الحلب، وناقةٌ بَسُوس: لا تُدِرّ إِلاَّ على الإِبساس.(2/245)
بصيرة فى بسر
البَسْر فى الأَصل: الاستعجال بالشئِ قبل أَوانه. وبَسَر الرّجُل حاجتَه: طلبها فى غير أَوانها، (والفحل الناقة: ضربها فى غير أَوانها) قبل الضبَعة. وَمَاءٌ بَسْر: متناول من غديره قبل سكونه. ومنه قيل لِمَا [لم] يدرك من التمر: بُسْر.
وقوله - تعالى -: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} أَى أَظهر العبوس قبل أَوانه، وفى غير وقته. فإِن قيل: فقوله - تعالى -: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ليس يفعلون ذلك قبل الوقت، وقد قلت: إِن ذلك يقال فيما كان قبل وقته، [قيل: إِن ذلك إِشارة إِلى حالهم قبل الانتهاءِ بهم إِلى النار. فخص لفظ البسر تنبيها أَن ذلك مع ما ينالهم من بَعْدُ يجرى مجرى التكلُّف، ومجرى ما يفعل قبل وقته] . ويدلّ على ذلك قوله عز وجل: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .(2/246)
بصيرة فى البسوق
بَسَقَت النخلةُ: طالت. وبَسَق على أَصحابه، علاهم. والبَسُوق والمِبسَاق: الطويلة الضَّرْع من الغنم. ولا تُبَسِّق علينا تبسيقاً: لا تطوّل {والنخل بَاسِقَاتٍ} طويلات مرتفعات.(2/247)
بصيرة فى البسل
هو الضمّ والمَنْع. والبَسْل: الحرام؛ لأَنَّه ممنوع عنه. والبَسْل: الحلال؛ لأَنَّه يُضمّ ويجمع. فهو من الأَضداد. وتبسّل الرّجلُ: عَبَس غضباً، أَو شجاعة. وبه سمّى الأَسد باسلاً، ومبَسّلاً. والباسل الشّجاع؛ لعبوسه، أَو لكونه محرّماً على أَقرانه أَن ينالوه، أَو لمنعه ما تحت يده عن أَعدائه. وقد بَسُل - ككرم - بَسَالةً، وَبَسالاً.
وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أَى تُمنع الثَّواب وتُحرمه.
والفرق بين الحرام والبسل أَنَّ الحرام عامّ فيما كان ممنوعاً منه بالحُكم والقهر، والبَسْل هو الممنوع منه بالقهر. وقوله تعالى {أولائك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} أَى مُنعوا الثواب، وحُرمُوا. وفُسّر بالإِرهان، كقوله - تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} .
وأَبسلت المكان: جعلته بَسْلاً على من يريده. وأَبسله لكذا: رَهَنه. وأَبسل عِرْضه: فضحه. وأَبسله لعمله: وكَله إِليه. وفلاناً: جعله بَسْلاً، شجاعاً، قويّاً على مدافعة الشيطان، أَو الحيّات، أَو الهوامّ. والبُسْلة: أَجرة الرّاقى. وبَسَلت الحنظل بَسْلاً طيّبَتْه، كأَنه أَزال بَسَالته أَى شدّته، أَو ما فيه من المرارة الجارية مجرى المحرّم.(2/248)
بصيرة فى البسم
قال - تعالى - {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا} . والتبسّم، والابتسام. والبَسْم بمعنى واحدٍ، وهو أَقل الضحك. وأَحسنه. وقد بسَم يبسم - كضرب - بَسْماً فهو مِبْسَام، وبَسّام والمَبْسِم - كمنزل - الثَّغْر. والمَبْسَم - كمقعد -: التبسُّم.(2/249)
بصيرة فى البضاعة
وهى: قِطعة وافرة من المال، تُقْتَنى للتجارة. يقال: أَبضَع بضاعة، وابتضعها. وأَصله البَضْع: القطع: بَضَعه يَبْضَعه - كمنعه يمنعه - وبضَّعه تبضيعاً: قطعه. وبَضَعهُ. أَيضاً: شقَّه (والبضع أَيضاً التزوّج والمجامعة والتبيّن) . والبُضْع - بالضمّ - الجماع وعَقد النكاح - وبالكسر والفتح - ما بين الثلاث إِلى التسع، أَو إِلى الخمس، أَو إِلى أَربعة، أَو من أَربع إِلى تسع، أَو هو سبع. وإِذا جاوزت العَشْر ذهب البِضْع: لا يقال: بضع وعشرون، وقيل: يقال، وقال الفَرّاء: لا يُذْكر [إِلا] مع العشرة، والعشرين إِلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، ولا أَلف. وقال مَبْرَمان: البضع: ما بين العَقْدين من واحد إِلى عشرة، ومن أَحد عشر إِلى عشرين. ومع المذكر بهاءٍ، ومع المؤنث بغير هاءٍ: بضعة وعشرون رجلا، وبضع وعشرون امرأَة.
وورد فى التنزيل من هذه المادَّةِ على وجوه:
الأَول: اسمٌ لمال التجارة {وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ} {هاذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} .(2/250)
الثانى: اسم للمأْكُولاتِ، وأَسبابُ المعيشة: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} .
الثالث: اسم لحقيقة البضاعة {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} .
الرّابع: لمدّة من الزمان {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} . وفلان حسن البَضع، والبَضِيع، والبَضْعَة؛ عبارة عن السّمن. والبَضِيع: الجزيرة المنقطعة عن البرّ. والباضعة الشَّجّة تبضَع اللَّحم. وهو بِضْعة منى: أَى جار مَجْرَى بعض جسدى.(2/251)
بصيرة فى الباطل
وهو مالا ثبات له عند الفحص عنه. وقد يقال ذلك فى الاعتبار إِلى المقال. والفعال، بطل بُطْلاً، وبُطُولا وبُطلاناً - بضمّهنّ -: ذهب ضياعاً، وخَسِرَ، وأَبطله غيره. وبطل فى حديثه بَطَالة أَى هَزَل (كأَبطل) إِبطالا. وأَبطل أَيضاً: جاءَ بالباطل. والباطل أَيضاً: إِبليس. ومنه قوله: {وَمَا يُبْدِىءُ الباطل} . ورجل بطَّالٌ: ذو باطل بيّن البُطُول. وتبطَّلوا بينهم: تداولوا الباطل. ورجل بَطَل، وبطَّال، بيِّن البَطَالة والبُطُولة: شجاع تبطل جراحَته، فلا يكترث لها ولا يبطلُ نجادته، أَو تبطل عنده دماءُ الأَقران. والجمع أَبطال. وهى بهاءٍ. وقد بَطُل ككرُمَ، وتبطَّل. والبُطَّلات: التُرّهات، وبينهم أُبطولة وإِبطالة: باطل. والبَطَلة: السّحَرة.
والإِبطال يقال فى إِفساد الشئ وإِزالته، حقّاً كان ذلك الشئ أَو باطلاً. قال تعالى: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} .
وقد جاءَ بمعنى الكذب: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ}(2/252)
، {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} ، وبمعنى الإِحباط: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} ، {وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} وبمعنى الكفر والشّرك: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} ، وبمعنى الصّنم، {والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله} أَى بالصّنم، أَو بإِبليس، وبمعنى الظُّلم والتعدّى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} أَى بالظُّلم.(2/253)
بصيرة فى البطن
وهو خلاف الظَّهر - والجمع أَبطن، وبُطون، وبُطْنان، - والجماعة دون القبيلة، أَو دون الفَخذ، وفوق العِمَارة. والجمع أَبطن وبطون. والبطن: جوف كلّ شئٍ. ورجل بَطِين: عظيم البطن، وبَطِنٌ - ككتف -: هَمّه بطنه، أَو رَغِيب لا يَنتهى عن الأَكْلِ. ويقال لما تدركه الْحاسّة: ظاهر، ولما يخفى عنها: باطن؛ قال تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} ورجل مُبَطَّن: خميص البطن، وبُطِن - كعنى - أُصيب بطنه، فهو مبطون أَى عليل البطن. والبطانة: خلاف الظِّهارة. ويستعار البطانة لمن تختصّه بالاطِّلاع على باطن أَمرك. قال تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} أَى مختصّاً بكم: يَستبطِن أُموركم. وذلك استعارة من بِطَانة الثوب، بدلالة قولهم: لبِست فلاناً إِذا اختصصته، وفلان شِعارى ودثارى. وفى الصّحيح عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبىٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ خليفة إِلاَّ كانت له بِطَانتان: بِطَانة تأْمره بالخَيْر، وتحضُّه عليه، وبطانة تأْمره بالشَّرّ، وتحُثُّه عليه".
والظَّاهر، والباطن فى صفة الله - تعالى - لا يقال إِلاَّ مزدوجَيْن؛ كالأَوّل والآخر. والظَّاهر قيل: إِشارة إِلى معرفتنا البديهيّة؛ فإِنّ الفطرة(2/254)
تقتضى فى كلّ ما نظر إِليه الإِنسان أَنَّه موجود؛ كما قال - تعالى -: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إلاه وَفِي الأرض إلاه} . ولذلك قال بعض الحكماءِ: مَثَل طالب معرفتِه مَثَلُ مَن طوّف الآفاق فى طلب ما هو معه. والباطن إِشارة إِلى معرفته الحقيقية. وهى الَّتى أَشارة إِليها أَبو بكر الصّدّيق - رضى الله تعالى عنه - بقوله: يا من غاية معرفته، القصور عن معرفته. وقيل: ظاهر بآياته، باطن بذاته، وقيل: ظاهر بأَنَّه محيط بالأَشياءِ، مدرك لها، باطن من أَن يحاط به؛ كما قال: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} . وقد رُوى عن أَمير المؤمنين علىّ - رضى الله عنه - ما دلَّ على تفسير اللفظتين، حيث قال: تجلَّى لعباده من غير أَن رأَوه، وأَراهم نفسَه من غير أَنْ تجلَّى لهم. ومعرفة ذلك تحتاج إِلى فهم ثاقب، وعقل وافر. وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} قيل: الظاهر بالنبوّة، والباطنة بالعقل. وقيل: الظَّاهرة: المحسوسات، والباطنة: المعقولات: وقيل: الظاهرة: النُّصرة على الأَعداءِ بالنَّاس، والباطنة: النصرة بالملائكة. وكلّ ذلك يدخل فى عموم الآية. والله أَعلم.(2/255)
بصيرة فى البطء
بَطُؤ - ككرم - بُطأً - بالضم -، وبِطاء - ككتاب - وأَبطأَ، وتَبَاطَأَ: واستبطأَ: تأَخَّر عن الانبعاث فى الأَمر. وأَبطئوا إِذا كانت دوابّهم بِطَاءً وبطَّاهُ وأَبطاه: أَخَّره عن الانبعاث قال - تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} أَى يثبّط غيره. وقيل: يُكثر هو من البطءِ فى نفسه. والمقصد بذلك: أَن منكم مَنْ يتأَخَّر، ويؤخِّر غيرهُ. ولم أَفعله بُطْءَ يا هذا، وبُطْأَى يا هذا: أَى الدّهَر. وبُطْآن ذا خروجا - بالضمّ، والفتح - أَى بَطُؤَ.(2/256)
بصيرة فى البعد
وهو ضدّ القرب، وما لهما حدّ محدود، وإِنَّمَا هو أَمر اعتبارىّ. ويستعمل فى المحسوس وفى المعقول ولكن استعماله فى المحسوس أَكثر. مثاله فى المعقولة قوله - تعالى -: {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} يقال بَعُد - ككرم -: أَى تباعَدَ، فهو بعيد. قال - تعالى -: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} .
وبَعِدَ بَعَداً - كفرِحَ فَرَحاً: مات. والبَعَد أَكثر ما يقال فى الهلاك، والبُعْد والبَعَد كلاهما يقال فى الهلاك، وفى ضدّ القرب. قال - تعالى -: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} . وقوله: {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد} أَى الضلال الذى يصعبُ الرجوع منه إِلى الهدى؛ تشبيهاً بمَنْ ضلَّ عن مَحَجَّة الطَّريق بُعْداً متناهياً، فلا يكادُ يُرجَى له إِليها رجوع، وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} أَى تقاربونهم فى الضَّلال، فلا يبعد أَن يأْتيكم ما أَتاهم من العذاب.(2/257)
بصيرة فى بعض
بعض كلّ شئ: طائفة منه. والجمع أَبعاض. ولا يدخله أَل خلافاً لابن درسْتويه. بعَّضته تبعيضاً: جعلته أَبعاضاً؛ كجزَّأْته. وهو من الأَضداد: يقال للجزءِ وللكلّ. قال أَبُو عبيدة {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أَى كلّ..؛ كقول الشاعر:
أَو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوس حِمامها
قيل: هذا قصور نظر منه. وذلك أَنَّ الأَشياءَ على أَربعة أَضرب:
ضربٌ فى بيانه مفسدة، فلا يجوز لصاحب الشَّريعة بيانه؛ كوقت القيامة، ووقت الموت.
وضربُ معقولاتٍ يمكن للنَّاسِ إِداركه، من غير نبىّ؛ كمعرفة الله، و (معرفة خَلْقه) السَّماواتِ والأَرضِ، فلا يلزم صاحب الشرع أَن يبيّنه؛ أَلا ترى أَنه كيف أَحال معرفته على العقول فى نحو قوله: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} ، وقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ}(2/258)
وضرب يجب عليه بيانه؛ كأُصول الشرعيّات المختصّة بشرعه.
وضرب يمكن الوقوف عليه بما يبيّنه صاحب الشرع؛ كفروع الأَحكام. فإِذا اختلف الناس فى أَمرٍ غير الَّذى يختصّ بالنبىّ بيانُه، فهو مخيّر بين أَن يبيّن وبين أَلاَّ يبيّن، حسبما يقتضيه اجتهاده وحكمته، وأَمّا الشاعر فإِنَّه عنى نفسه. والمعنى: إِلا أَن يتداركنى الموت؛ لكن عَرَّضَ ولم يصرّح؛ تفَادياً من ذكر موت نفسه. والبَعوض اشتق لفظه من بَعْضِ: وذلك لصغر جسمه، بالإِضافة إِلى سائر الحيوانات. وبُعِضُوا: آذاهم البُعُض وليلة بَعِضة، ومبعوضة، وأَرض بَعِضَة: كثيرة البَعُوض.(2/259)
بصيرة فى البعل
وهو الزَّوج. والجمع بِعَال، وبُعُول. والمرأَة بَعْل، وبَعْلة. وبَعَل يَبْعَل بُعُولة: صار بعلاً. وكذا اسْتَبْعَل. والبِعال. والتباعُل. والمباعلة: الجماع، وملاعبة الرّجل المرأَة. وباعلت: اتخذتْ بعلاً، وتبعَّلتْ: أَطاعت بعلها، أَو تزيَّنَتْ له.
وذكر فى القرآن البَعْل على وجهين:
الأَوّل: اسم صنم لقول إِلياس عليه السّلام: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} .
الثانى: بمعنى الأَزواج: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} {وهاذا بَعْلِي شَيْخاً} وله نظائر.
ولمَّا تُصوّر من الرّجل استعلاء على المرأَة، وأَن بسببه صار سائسَها، والقائم عليها، شُبّه كلّ مستعل على غيره به، فسمّى به. فسمَّى قوم معبودهم الذى يتقَرَّبُون به إِلى الله تعالى "بعلا" لاعتقادهم ذلك فيه. وقيل للأَرضِ المستعلية على غيرها: بَعْل، ولفَحْل النخل: بعل. تشبيها بالبعل من الرّجال، وكذا سمّوا ما عَظُم من النخل حتى شرب بعروقه بعلاً، لاستعلائه واسغنائه عن السّاقى، ولمّا كانت وَطْأَة العالى على المستولَى عليه مستثقلة فى النَّفس قيل: أَصبح فلان بَعْلاً على أَهله أَى ثقيلاً، لعلوّه عليهم.(2/260)
بصيرة فى بعثر
قال - تعالى -: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} أَى قُلِب ترابها، وأُثير ما فيها ومن رأَى أَن تركيب الرّباعىّ والخماسىّ من ثلاثيين نحو هلَّل وبَسْمل، - إِذا قال: لا إِله إِلاَّ الله، وبسم الله - يقول: إِن بُعْثِر مركَّب من بُعث، وأُثِيرَ. وهذا غير بعيد فى هذا الحرف؛ وإِنَّ البعْثرة يتضمّن معنى بُعِث، وأُثير.(2/261)
بصيرة فى البغى
وهو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرّى، تجاوزَه أَولم يتجاوزه. فتارة يُعتبر فى القَدْر الَّذى هو الكَمّيّة، وتارة يعتبر فى الوصف الَّذى هو الكيفيّة. يقال: بَغَيت الشئَ إِذا طلبت أَكثر ممّا يجب، وابتغيت كذلك. والبغْى على ضربين:
أَحدهما محمود، وهو تجاوز العَدْل إِلى الإِحسان، والفَرضِ إِلى التطوّع.
والثانى مذموم. وهو تجاوز الحقّ إِلى الباطل، أَو تجاوزه إِلى الشُّبَه؛ كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ الحلال بيّن، وإِنَّ الحرام بيّنٌ، وبينهما أَمور مشتبهات. ومن يرتعْ حول الحمى يوشكْ أَن يقع فيه".
وقد ورد فى القرآن لفظ البغى على خمسة أَوجه:
الأَوّل بمعنى الظُّلم: {وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي} ، {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي} .
الثانى: بمعنى المعصية، والزَلَّة، {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} أَى يعصون.
الثالث: بمعنى الحَسَد: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أَى حسدا.(2/262)
الرَّابع: بمعنى الزِّنى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} .
الخامس: بمعنى الطلب: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أَى يطلبون لها اعوجاجا، {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} ولها نظائر.
ولأَنَّ البغى قد يكون محموداً ومذموماً قال - تعالى -: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} فَخَصّ العقوبة بمن بغيُهُ بغير الحقِّ.
وأَبغيتك الشئَ: أَعنتك على طَلبِه. وبَغَى الجرحُ: تجاوز الحَدّ فى فساده. وبغت المرأَة: إِذا فجَرَتْ؛ لتجاوزها إِلى ما ليس لها. وبغت السّماءُ تجاوزة فى المطر حَدّ الحاجة. وبغى: تكبّر؛ لتجاوزه منزلتَه. ويستعمل ذلك فى أَىّ أَمر كان، فالبغى فى أَكثر المواضع مذموم. وقوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أَى غير طالب ما ليس له طلبه، ولا متجاوز لما رُسم له. وقال الحسن: غير متناول للَّذَّةِ، ولا متجاوز سَدّ الجَوْعَةِ [وقال] : مجاهد: "غير باغ" على إِمام، "ولا عادٍ" فى المعصية طريق الحقّ.
وأَمّا الابتغاءُ فالاجتهاد فى الطلب، فمتى كان الطَّلب لشئٍ محمودٍ كان الابتغاءُ محموداً؛ نحو {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} .(2/263)
انبغى مطاوع بَغَى، فإِذا قيل ينبغى أَن يكون كذا فعلى وجهين:
أَحدهما: ما يكون مسخَّراً للفعل؛ نحو النارُ ينبغى أَن تحرق الثوب.
والثانى على معنى الاستئهال؛ نحو فلان ينبغى أَن يُكْرَم لِعِلْمِهِ.
وقوله - تعالى -: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} على الأَوّل فإِنَّ معناه: لا يتسخَّر، ولا يتسهَّل له؛ أَلا ترى أَنَّ لسانه لم يكن يجرى به؟!(2/264)
بصيرة فى البقاء
وهو ثبات الشئ على الحالة الأُولى. (وهو يضادّ الفناءَ) وبَقِىَ يَبْقَى كَرَضِىَ يَرْضَى، وبَقَى كَسَعَى يَسْعَى: ضدّ فنِى. وأَبقاه وتبقَّاه واستبقاه والاسم البَقْوى بالفتح وبالضَّمِّ والبُقيا بالضمّ وقد توضع الباقية موضع المصدر، و {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} أَى طاعة الله، أَو انتظار ثوابه، أَو الحالة الباقيةُ لكم من الخير، أو ما أُبقِى لكم من الحلال. و {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ} أَى إِبقاءٍ، أَو فهمٍ. و (الباقيات الصالحات) كل عمل صالح، أَو سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلاَّ الله والله أَكبر، أَو الصّلوات الخمس. وفى الحديث: "بَقينَا رسول الله صلى الله عليه وسلم": أَى انتظرناه وترصّدنا له مدّة كثيرة.
والباقى ضربان: باق بنفسه لا إِلى مدّة. وهو البارئ تعالى. ولا يصحّ عليه الفناء. وباقٍ بغيره. وهو ما عداه، ويصحّ عليه الفناء. والباقى بالله ضربان:
باقٍ بشخصه، إِلى أَن يشاءَ الله أَن يفنيه؛ كبقاءِ الأَجرام السماويّة.
وباقٍ بنوعه وجنسه، دون شخصه وجزئه؛ كالإِنسان، والحيوانات. وكذا فى الآخرة باق بشخصه؛ كأَهل الجنة؛ فإِنَّهم يبقون على التأْبيد؛ لا إِلى مدّة. وباق بنوعه، وجنسه؛ كما روى عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم "إِنَّ ثمار أَهل الجنَّة يقطفها أَهلها، ويأْكلونها، ثمّ يخلَف مكانها مثلُها". ولكون ما فى الآخرة دائماً قال الله - عز وجلّ -: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} .(2/265)
بصيرة فى البك
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، قيل: هى اسم لمكَّة. وقيل: لغة فيها؛ كلازب فى لازم. وقيل: اسم لما بين جبليها. وقيل: هى اسم للمَطَاف.
والبَكُّ لغة: الخرق والتَّخريق، والشَّقُّ والتفريق. وبكَّ فلاناً: أَى زاحمه، فيُشبه أَن يكون من الأَضداد. وبكَّهُ: وضعه. وبَكَّ عُنُقه: دَقَّها. وبكَّ فلاناً: ردّ نَخْوته، والشئ: فسخه، والمرأَة: جهَدَها جماعاً، وفلان: افتقر، وخَشُنَ بدنُه؛ شجاعة. وتباكّ: تراكم، والقوم: ازدحموا؛ كَتبكبكوا. والبكبكة: طرح الشئِ بعضه على بعض، والازدحامُ. وسمّيت مَكَّةُ بها لازدحام الحجيج؛ أَوْ لأَنَّها تدُقُّ أَعناق الجبابرة إِذا أَرادوا بإِلحاد فيها.(2/266)
بصيرة فى البكم
الأَبكم: هو الَّذى يولَد أَخرس. وكل أَبكم أَخرس، وليس كلّ أَخرس أَبكم. قال - تعالى -: {صُمٌّ بُكْمٌ} وقيل: البَكَم، والبَكَامة: الخَرَس. وقيل: الخَرَس مع عِىٍّ وبلاهة. وقيل: هو أَن يولد لا ينطق، ولا يسمع، ولا يبصر. بَكِم يَبْكَم - كفرِح يفرح - فهو أَبكم، وبكيم. وبَكُم - كَكَرُم - امتنع عن الكلام تعمّداً، وانقطع عن النكاح، جهلاً أَو عَمْداً. وتبكَّم عليه الكلامُ: أُرتج.(2/267)
بصيرة فى البكاء
بكى يبكى بُكاءً وبُكىً، فهو باكٍ. والجمع بُكَاة وبُكِىّ، والتَِبكاء - بالفتح والكسر: البكاءُ، أَو كثرته. وأَبكاه: فعل به ما يوجِب بكاه. وبَكَّاه على المَيّت تبكية: هيّجه للبكاءِ. وبكاه بكاءً، وبَكَّاه: بكى عليه، ورثاه. وبَكى: غَنَّى. فهو من الأَضداد. وقيل: البكاءُ بالمدّ (سيلان الدمع عن حزن وعويل. هكذا يقال بالمدّ) إِذا كان الصوت أَغلب كالرّغَاءِ، والثُّغَاءِ، وسائر الأَبنية الموضوعة للصّوت؛ والبُكَى - بالقصر -: إِذا كان الحزن أَغلب. وبَكى يقال فى الحزن، وإِسالة الدّمع معاً، ويقال فى كلّ واحد منهما منفرداً عن الآخر.
وقوله - تعالى -: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} إِشارة إِلى الفرح، والتَّرح، وإِن لم يكن مع الضَّحك قهقهة ولا مع البكاءِ إِسالة دمع. وكذا قوله - تعالى - {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} وقيل: إِنَّ ذلك على الحقيقة. وذلك قول من يجعل له حياة، وعلماً. وقيل: ذلك على المجاز، على تقدير مضاف أَى أَهلهما.(2/268)
بصيرة فى بل
وقد ورد فى القرآن على وجهين.
الأَوّل: للتأْكيد نيابة عن إِنَّ: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أَى إِنَّ الذين.
الثانى: لاستدراك ما بعده، أَو للإِضراب عما قبله: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} ، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} .
قال الراغب: بَلْ كلمة للتدارك. وهو ضربان.
ضرب يُناقض ما بعده ما قبله؛ لكن ربّما يقصد لتصحيح الحكم الَّذى بعده، وإِبطال ما قبله، وربّما يقصد تصحيح الَّذى قبله، وإِبطال الثانى، نحو قوله - تعالى -: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} ، {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أَىْ ليس الأَمر كما قالوا، بل جهلوا. فنبّه بقوله: {رَانَ على قُلُوبِهِمْ} على جهلهم. وعلى هذا قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هاذا} وممّا قُصِد به تصحيح الأَوّل(2/269)
وإِبطال الثانى قولُه - تعالى -: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه} إِلى قوله: {كَلاَّ بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ} أَى ليس إعطاؤهم من الإِكرام، ولا منعْهم من الإِهانة، لكن جهلوا ذلك بوضعهم المال فى غير موضعهِ. وعلى ذلك قوله - تعالى -: {ص وَالقُرْآنِ ذِى الذِّكْرِ بَلِ الذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فإِنه دلّ بقوله: (والقرآن) أَنَّ القرآن مَقَرّ للتذكر، وأَن ليس امتناع الكفَّار من الإِصغاءِ إِليه أَنَّه ليس موضعاً للذكر، بل لتعزُّزهم ومشاقَّتهم. وعلى هذا {ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا} أَى ليس امتناعهم من الإِيمان بالقرآن أَن لا مَجْد (فى القرآن) ، ولكن لجهلهم. ونبّه بقوله: (بل عجبوا) على جهلهم؛ لأَنَّ التعجّب من الشئِ يقتضى الجهل بسببه. وعلى هذا قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} إِلى قوله: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} ، كأَنه قيل: ليس ههنا ما يقتضى أَن يَغُرّهم به - تعالى ولكن تكذيبهم هو الَّذى حملهم على ما ارتكبوه.
والضَّرب الثانى من بل هو أَن يكوم مبينّاً للحكم الأَوّل، وزائداً عليه بما بعد بل، نحو قوله - تعالى -: {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فإِنَّه نبّه أَنهم يقولون: أَضغاث أَحلام، بل افتراه (يزيدون على ذلك بأَن الذى أَتى به مفترى افتراه، بل يزيدون) فيدّعون أَنَّه كذَّاب؛ فإِن الشَّاعر فى القرآن عبارة عن الكاذب بالطَّبع. وعلى هذا قوله:(2/270)
{لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار} إِلى قوله: {بل تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} أَى لو يعلمون ما يعلمون ما هو زائد على الأَوّل، وأَعظم منه وهو أَن تأْتيهم بغتة.
وجميع ما فى القرآن من لفظ (بل) لا يخرج من أَحد هذين الوجهين، وإِن دَقَّ الكلام فى بعضه.(2/271)
بصيرة فى البلد
وقد ورد فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى مَكَّة {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} ، {وهاذا البلد الأمين} {اجعل هاذا البلد آمِناً} {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ} .
الثانى: بمعنى مدينة سبَأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} .
الثالث: كناية عن جُمْلة المدُن: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} .
الرّابع: بمعنى الأَرض لا نبات فيها: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} .
الخامس: بمعنى الأَرض الَّتى بها نبات: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} . وقيل: هو كناية عن النفوس الطَّاهرة، وبالذى خبث عن النفوس الخبيثة.
والبلد لغة: المكان المحدود، المتأَثِّر باجتماع قُطَّانِهِ، وإِقامتهم فيه. وجمعه(2/272)
بلاد، وبُلْدان. وسمّيت المفازة بلداً؛ لكونها موضع الوحشيّات، والمقبرةُ بلداً؛ لكونها موطن الأَموات (والبلدة منزل من منازل القمر) والبلد: البُلْجَةُ ما بين الحاجبين؛ تشبيها بالبلد؛ لتحدّدِهِ. وسمّيت الكِرْكرة بَلْدة لذلك. وربّما استعير ذلك لصدر الإِنسان. ولاعتبار الأَثر قيل: بجلده بَلْدة: أَى أَثر. وجمعه أَبلاد، قال:
وفى النُّحورِ كلومٌ ذاتُ أَبلادِ
وأَبلد: صار ذا بلد؛ كأَنجد وأَتْهم، وَبَلد: لزم البلد. ولمّا كان اللاَّزم لوطنه كثيراً ما يتحيّر إِذا حصل فى غير وطنه، قيل للمتحيّر: بَلَدَ فى أَمره وأَبَلَدَ، وتبلَّدَ.(2/273)
بصيرة فى البلاء (وبلى)
قد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى النعمة: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً} أَىْ وليُنْعِم.
الثانى: بمعنى الاختبار والامتحان: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
الثالث: بمعنى المكروه: {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} أَى مِحْنة.
والمادّة موضوعة لضدّ الجِدَّة: بَلِى الثَّوب بِلاً، وبَلاءً: خَلُق. وقولهم: بلوته: اختبرته، كأَنى أَخلقْتَهُ من كثرة اختبارى. وقرئ {هُنَالِكَ تَبْلوا كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} أَى تعرِف حقيقة ما عملت.
وسُمّى الغمّ بلاءً؛ من حيث إِنَّه يُبلىِ الجسم. وسُمّى التكليف بلاءً؛ لأَنَّ التكاليف مَشَاقُّ على الأَبدان، أَوْ لأَنَّها اختبارات. ولهذا قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ} وقيل: اختبار الله تعالى لعباده تارة بالمسارّ ليشكروا، وتارة بالمضارّ ليصبروا. فصار المِنحة والمحنة جميعاً بلاءً. فالمِحْنة مقتَضِية للصّبر، والمِنحة مقتضية للشكر، والقيامُ بحقوق الصّبر أَيسر من القيام بحقوق الشكر. فصارت المِنْحة أَعظم البلاءَين.(2/274)
لهذا قال عمر - رضى الله عنه - بُلينا بالضَّرّاءِ فصبرنا، وبلينا بالسَّراءِ فلم نصبر. وقال علىّ - رضى الله عنه -: من وُسّع عليه دنياه، فلم يعلم أَنه قد مُكِر به، فهو مخدوع عن عقله. وقال - تعالى -: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} . وقوله: {بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} راجع إِلى المحنة التى فى قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} ، وإِلى المنحة الَّتى أَنجاهم. وإِذا قيل: بَلاَ الله كذا، وابتلاه، فليس المراد إِلاَّ ظهور جودته ورداءَته، دون التعرّف لحاله، والوقوف على ما يُجهل منه، إِذ كان الله تعالى علاَّم الغيوب، وعلى هذا قوله - تعالى -: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} وأَبلاه: أَحْلفه و [أَبلى] حلف له، لازم متعدّ.
وبَلَى: رَدّ للنفى: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} إِلى قوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} أَو جوابٌ لاستفهام مقترن بنفى؛ نحو {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} ونعم يقال فى الاستفهام المجرّد؛ نحو {هَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ} ، ولا يقال ههنا: بلى. فإِذا قيل: ما [عندى] شئٌ فقلت: بلى كان ذلك ردّاً لكلامه. فإِذا قلت: نعم كان إِقرارا منك.(2/275)
بصيرة فى البنان
وقد ورد فى موضعين. وهى الأَصابع، وقيل: رءُوس الأَصابع. الواحدة بَنَانة. سمّيت بذلك لأَن بها إِصلاح الأَحوال الَّتى (تمكِّن الإِنسان) أَن يُبِنَّ فيما يريد أَى يقيم. ويقال بَنَّ بالمكان، وأَبَنَّ: أَى أَقام به. ولذلك خَصّ فى قوله: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} خَصّه لأَجل أَنَّها يقاتَل بها ويدافع. والبَنَّة: الريح الطَّيّبّة والمنتنة: ضدّ. والجمع بِنَان بالكسر. والبُنَان - بالضَّمّ -: الرّوضة المُعْشبة.(2/276)
بصيرة فى البنيان
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الصّرح، والقصر العالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} بنيانَهم: أَى صَرْحهم.
الثَّانى: بمعنى المسجد: {فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} (مسجدا) {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ} ، {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ} أَى مسجدهم.
الثالث: بمعنى بيت النار: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} .
الرّابع: بمعنى تشبيه صَفّ الغازين بالجدران المرصوصة: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} .
والبنيان واحد لا جمع له. وقال بعضهم: جمع واحدته بُنْيَانة، على حدّ نخلة ونخل. وهذا النَّحوُ من الجمع يصحّ تذكيره وتأْنيثه.
وابْنٌ أَصله بَنَىٌ لقولهم فى الجمع: أَبناءٌ، وفى التّصغير بُنىّ. وسمّى(2/277)
بذلك؛ لكونه بناءً للأَب؛ فإِنَّ الأَب قد بناه. ويقال لكلّ ما يحصل من جهة شئٍ، أَو من ترتبيته أَو بتفقده، أَو كثرة خدمته له، وقيامه بأَمره: هو ابنه؛ نحو فلانٌ ابن الحرب، وابن السّبيل للمسافر. وابن بطنِه، وابن فرجه إِذا كان همّه مصروفاً إِليهما، وابن يومه إِذا لم يتفكَّر فى غدِه. وجمع ابن أَبناءٌ، وبنون. ومؤنَّثه ابنة وبنت. والجمع بنات.
وقوله: {هاؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ، وقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} فقد قيل: خاطب بذلك أَكابر القوم، وعَرَض عليهم بناته، لا أَهلَ قريته كلَّهم؛ فإِنَّه محال أَن يعرض بنات قليلة على الجمّ الغفير. وقيل: بل أَشار بالبنات إِلى بنات أُمّته. سمّاهنّ بنات له؛ لكون النبىّ بمنزلة الأَب لأُمّته، بل لكونه أَكبر الأَبوين لهم. وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} يريد به قولهم: الملائكة بنات الله.(2/278)
بصيرة فى الباب
وهو مَدْخل الشئِ. وأَصل ذلك مداخل الأَمكنة؛ كبَاب المدينة والدّار، وجمعه أَبواب، وبيبانٌ، وأَبْوِبة نادر. والبِوَابة: حرفة البَوَّاب من وباب له يَبُوب: صار بوّاباً له. وتبوّب بوّاباً: اتَّخذه. ومنه يقال فى العلم باب كذا، وهذا العلم باب إلى كذا: أَى يتوصّل إِليه. وقد يقال: أَبواب الجنَّة، وأَبواب جهنَّم للأَسباب الَّتى بها يتوصّل إِليهما. والباب، والبابة فى الحساب، والحدود: الغايةُ. وهذا بابته: أَى يصلح له. وبابات الكتاب: سطوره لا واحد لها.
بصيرة فى البياض
وهو ضدّ السّواد. وجمع الأَبِيض بِيض. وأَصله بُيْض بالضمّ أَبدلوه بالكسر، ليصحّ الياءُ. وقد ابيضّ يَبْيضُّ ابيضاضاً.
ولمّا كان البياض أَفضل لون عندهم - كما قيل: البياض أَفضل، والسّواد أَهْوَل، والحُمرة أَجمل، والصُّفرة أَشكل - عُبّر عن الفضل والكرم بالبياض؛ حتى قيل لمن لم يتدنَّس بمعاب: هو أَبيض الوجه. وقد تقدّم فى بصيرة الأَبيض.(2/279)
بصيرة فى البيع
وهو إِعطاءُ المُثْمَن، وأَخذ الثمن. والشِّرى: إِعطاءِ الثمن، وأَخذ المُثْمن. ويقال للبيع: الشِرَى، وللشرى: البَيْع. وذلك بحسب ما يتصوّره من الثمن، والمُثْمن. وعلى ذلك قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ، وقال عليه السّلام "لا يبيعَنَّ أَحدُكم على بيع أَخيه" أَى لا يشتر على شِراه. وأَبعْت الشئَ: عَرَضته للبيع. وبايع السّلطان: إِذا تضمّن بذل الطَّاعة بما رَضخ له. ويقال لذلك: بَيْعة ومبايعة.
وقوله: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} إِشارةٌ إِلى بَيْعَة الرّضوان التى فى قوله - تعالى -: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} والتى فى قوله - تعالى -: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، وقوله - تعالى -: {وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} جمع بِيعة هو: مصلَّى النَّصارى، فإِن كان عربيّاً فى الأَصل فلِما قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ} الآية.(2/280)
بصيرة فى البال
وهو الحال الَّتى تكثرت بها. ولذلك يقال: ما باليتُ بكذا بالةً أَى ما اكترثت. ويعبّر به عن الحال الَّذى ينطوى عليه الإِنسان، وقوله - تعالى - {فَمَا بَالُ القرون الأولى} : أَى حالهم وخبرهم. والبال: الخاطر والقلب، يقال: ما خطر ببالى كذا.(2/281)
بصيرة فى البواء
وأَصله: مساواة الأَجزاءِ فى المكان، خلافُ النُبوّ الَّذى هو منافاة الأَجزاءِ. ويقال: مكان بَوَاءٌ: إِذا لم يكن نابيا بنازِلِه. وبوّأْت له مكاناً: سوّيته. وتبوّأَ المكان: حلَّه، وأَقام به. قال - تعالى -: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} وفى الحديث: "مَنْ كذب على متعمّداً فليتبوّأْ مقعدَه من النَّار" ويستعمل البَوَاءُ فى مراعاة التكافؤ فى المصاهرة، والقصاص، فيقال: فلان بوَاءٌ بفلان: إِذا ساواه.
وقوله - تعالى -: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} أَى حَلّوا متبوَّأً، ومعهم غضب الله، أَى عقوبتُه. وقوله: (بغضب) فى موضع الحال، نحو خرج بسيفه، لا مفعول، نحو مرّ بزيد. واستعمال (باءَ) تنبيه أَنَّ مكانه الموافق يلزمه فيه غضبُ الله، فكيف غيره من الأَمكنة. وذلك على حدّ ما ذكره فى {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . وقوله: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أَى تقيم بهذه الحالة.(2/282)
الباب الرابع - فى وجوه الكلمات المفتتحة بحرف التاء
بصيرة فى التاء
هو حرف هجاءٍ، لِثوىّ، من جِوار مخرج الطَّاءِ. ويمدّ ويقصر. والنسبة إِلى الممدود: تائىّ، وإِلى المقصور: تاوىّ. وجمعه أَتْوَاءٌ؛ كداءٍ وأَدْواءٍٍ. وقصيدة تائيّة، وتيَويّة. وتيّيت تاءً حسنة.
والتَّاءُ المفردة محرّكة فى أَوائل الأَسماءِ وفى أَواخرها، وفى أَواخر الأَفعال، [ومسكنة فى أَواخرها] .
والمحرّكة فى أَوائل الأَسماءِ حرف جرّ للقسم. وتختصّ بالتعجب، وباسم(2/283)
الله تعالى. وربّما قالوا: تربِّى، وتربِّ الكعبة، وتالرحمن، والمحرّكة فى أَواخرها حرف خطاب؛ كأَنْت.
والمحرّكة فى أَواخر الأَفعال ضمير؛ كقمت. والسّاكنة فى أَواخرها علامة للتَّأْنيث: كقامت.
وربّما وُصلت بثُم ورُبّ، والأَكثر تحريكها معهما بالفتح.
و"تا" اسم يشار به إِلى المؤنث [مثل] "ذا"، و "ته" مثل ذِه، وتان للتثنية، وأُولاءِ للجمع. وتصغير "تا": تيَّا، وتيّاك، وتيّالِك، وتدخل عليها ها، فيقال هاتا. فإِن خوطب بها جاءَ الكاف، فقيل: تيك، وتاك، وتِلْك، وتَلك بالكسر والفتح، وهى رديئة. وللتثنية تانِك، وتانِّك [تخفف] وتشدّد، والجمع أَولئك وأُلاكَ وأَولالك، وتدخل الهاءُ على تيك، وتاك، فيقال: هاتيك، وهاتاك.
والتاءُ فى حساب الجُمّل أَربعمائة. والتاءُ المبدلة من الواو كالتراث والوُراث، والتجاه والوجاه {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} . وأَصله الوراث ومنها التَّاءُ المبدلة من السّين فى الطَّسْت والطسّ.(2/284)
بصيرة فى التسبيح
وهو تنزيه الله تعالى. وأَصله المَرُّ السّريع فى عبادة الله. وجُعِل ذلك فى فعل الخير؛ كما جعل الإِبعاد فى الشرّ، فقيل: أَبعده الله. وجعل التَّسبيح عامّاً فى العبادات، قولاً كان، أَو فعلاً، أَو نِيّة. وقوله - تعالى -: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} قيل: من المصلِّين. والأَولى أَن يُحمل على ثلاثها
والتَّسبيح ورد فى القرآن على نحو من ثلاثين وجهاً. ستَّة منها للملائكة، وتسعة لنبينّا محمّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأَربعة لغيره من الأَنبياء، وثلاثة للحيوانات والجمادات، وثلاثة للمؤمنين خاصّة. وستَّة لجميع الموجودات.
أَما الّتى للملائكة فدعوى جبريلَ فى صفّ العبادة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} .
الثانى: دعوى الملائكة فى حال الخصومة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} .
الثالث: تسبيحهم الدّائم من غير سآمة: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} .
الرابع: تسبيحهم المعرَّى عن الكسل، والفَتْرة: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} .(2/285)
الخامس: تسبيحهم المقترن بالسجدة: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} .
السادس: تسبيحهم مقترناً بتسبيح الرّعد على سبيل السياسة والهيبة {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} .
وأَمّا التسعة الَّتى لنبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، فالأَول: تسبيح مقترن بسجدة اليقين، والعبادة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ} .
الثانى: تسبيح فى طرفى النّهار، مقترنٌ بالاستغفار من الزلَّة: {واستغفر لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار} .
الثالث تسبيح فى بطون الدياجر، والخلوة: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} .
الرّابع تسبيح فى الابتداءِ، والانتهاءِ، حال العبادة: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النجوم} .
الخامس تسبيح مقترن بالطُّلوع، والغروب لأَجل الشَّهادة {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السجود} .(2/286)
السّادس تسبيح دائم لأَجل الرّضا والكرامة {فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى} .
السّابع: تسبيح مقترِن بذكر العظمة: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
الثَّامن: تسبيح بشكر النعمة: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى} .
التَّاسع: تسبيح لطلب المغفرة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} قال صلَّى الله عليه وسلم: "ما أُوحى إِلىَّ أَن اجمعِ المال وكن من التّاجرين، ولكن أُوحى إِلى أَن سبّح بحمد ربّك وكن من السّاجدين، واعبد ربّك حتى يَأْتيك اليقين".
وأَمّا الأَربعة التى للأَنبياءِ فالأَوّل لزكريّا علامةً على ولادة يحيى: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} إِلى قوله: {وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} .
الثَّانى: فى وصيّته لقومه على محافظة وظيفة التسبيح: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} .
الثالث: فى موافقة الجبال، والظباءِ، والحيتان، والطيور لداود فى التسبيح: {يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق} .
الرَّابع: فى نجاة يونس من ظلمات البحر وبطن الحوت ببركة التسبيح {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} .(2/287)
وأَمّا الثلاثة التى لخواصّ المؤمنين، فالأَوّل فى أَمر الله تعالى لهم بالجمع بين الذكر والتسبيح دائماً: {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} .
الثانى: فى ثناءِ الحقّ تعالى على قوم إِذا ذُكر الله عندهم سجدوا له وسبّحوا: {خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .
الثالث: فى أُناس يختلُون فى المساجد. ويواظبون على التسبيح والذكر، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} .
وأَمّا الثلاثة الَّتى فى الحيوانات، والجمادات، فالأَول: فى أَنَّ كلّ نوع من الموجودات مشتغِل (بنوع من التسبيحات: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولاكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} .
الثانى) : فى أَنَّ الطُّيور فى الهواءِ مصطفَّة لأَداءِ وِرْد التسبيح: {والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} .
الثَّالث: أَنّ حَمَلة العرش والكرسىّ فى حال الطواف بالعرش والكرسىّ مستغرقون فى التسبيح والاستغفار: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} ، {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} .(2/288)
وأَمّا الستَّة الَّتى للعامّة فالأَوّل: على العموم فى تسبيح الحقّ على الإِحياءِ والإِماتة: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} إِلى قوله: {يُحْيى وَيُمِيتُ} .
الثانى: فى أَنَّ كلّ شىءٍ فى تسبيح الحقّ على إِخراج أَهل الكفر، وإِزعاجهم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إِلى قوله: {هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} .
الثَّالث: أَنَّ الكلّ فى التسبيح، ومَن خالف قوله فعله مستحِقّ للذمّ والشكاية: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات} إِلى قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مالاَ تَفْعَلُونَ} .
الرّابع: فى أَنَّ الكلّ فى التسبيح للقدس والطَّهارة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} إِلى قوله: {المَلِكِ القُدُّوسِ} .
الخامس: فى أَنَّ الكلّ فى التسبيح على تحسين الخِلْقة والصّورة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} إِلى قوله: {وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} .
السادس: فى الملامة والتعيير من أَصحاب ذلك النسيان بعضِهم لبعض من جهة التقصير فى تسبيح الحقّ - تعالى -: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} .
الحادى والثلاثون: خاصّ بالنبىّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فى الأَمر بالجمع بين التوكُّل والتسبيح: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} .(2/289)
بصيرة فى التابوت
وهو شِبْه صُندوق يُنْحت من خشب. وأَصله تَابُوَة كتَرْقُوة، سكِّنت الواو، فانقلب هاءُ التأْنيث تاءً. والتَّبُوت كزبُور: لغة فى التَّابوت.
وقد ورد فى القرآن على وجهين:
الأَوّل: بمعنى الصُّندوق الَّذى وضَعَت أُمُّ موسى ولدهَا فيه، ورمته فى البحر: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم} .
الثَّانى: بمعنى الصّندوق الَّذى ورثه الأَنبياءُ من آدم عليه السّلام: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} .
وأَمّا التابوت الَّذى يجعل فيه الميّت فمستعار من هذا. وقيل: التَّابوت عبارة عن القلب، والسّكينةُ عمّا فيه من العلم. ويسمّى القلب سَفَط العلم، وبيت الحِكْمة، وتابوته، ووِعاءَه، وصُندوقه.(2/290)
بصيرة فى التأويل
وجاءَ فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى المُلْك {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أَى مُلْك محمّد {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} أَى نهاية ملكه. فزعم اليهود أَنَّهم أَخذوه من حساب الجُمَّل.
الثَّانى: بمعنى العاقبة، ومآل الخير والشَّرّ الَّذى وعد به الخَلْق: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أَى عاقبته، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أَى عاقبة {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع} أَى عاقبته.
الثالث: بمعنى تعبير الرّؤيا: {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أَى تعبير الرّؤيا.
الرابع: بمعنى التحقيق والتفسير: {هاذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} أَى تحقيقها وتفسيرها.
الخامس: بمعنى أَنواع الأَطعمة وأَلوانها: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} أَى بأَلوانه وأَنواعه.
والتأْويل أَصله من الأَوْل، وهو الرجوع. ومنه المَوْئل: للموضع الَّذى(2/291)
يُرْجَعِ إِليه. وذلك هو رَدّ الشئ إِلى الغاية المرادة [منه] عِلْماً كان، أَو فعلاً. ففى العلم نحو {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} ، وفى الفعل كقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأْويل
وقوله - تعالى -: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} : أَى غايته. وقد تقدّم. وقيل فى قوله - تعالى -: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} : أَى أَحسن معنى وترجمة، وقيل: أَحسن ثواباً فى الآخرة.
بصيرة فى التب
وهو الخسران والنقص. وبمعناه التَبَبَ، والتَبَاب، والتَتْبيب. وتبّا له، وتبّاً تتبيباً: مبالغة. وتبّبه: قال له ذلك. وتبّب فلاناً: أَهلكه. و {تَبّتْ يَدَا أَبى لَهَبٍ} أَى ضَلَّتا، وخسِرتا، واستمرتا فى خسرانه {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أَى تخسير.
بصيرة فى التبر
وهو الكَسْر، والإِهلاك. يقال: تَبَره، وتَبَّره. وقوله - تعالى -: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} أَى هلاكاً.(2/292)
بصيرة فى التبع
تبعه تبَعاً وتَبَاعة: مشى خَلْفه أَو مَرّ به، فمضى معه. والتبع تارة يكون بالجسم، وتارة بالارتسام، والائتمار. وعلى ذلك قوله تعالى -: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} ويقال: أَتْبعه: إِذا لحقه. ومنه قوله - تعالى -: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} أَى لحقهم، أَو كاد يلحقهم. ومنه {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} . ويقال أُتبع فلان بمال على آخر: أَى أُحِيل عليه. وتُبّع كانوا رءُوساً؛ سُمّوا بذلك لاتِّباع بعضهم بعضاً فى الرّياسة، والسّياسة. و "أَتْبع الفرسَ لجامَها والنَّاقةَ زمامَها" يضرب عند الأَمر باستكمال المعروف. والتَّبَع واحد، ويجمع. وقد يجمع على أَتباع.(2/293)
بصيرة فى تبارك
وقد ذُكِر فى ثمانية مواضع من القرآن:
الأَوّل: عند بيان الخَالِقيّة: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} .
الثانى: فى بيان الرُّبوبيّةِ: {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} .
الثالث: فى بيان الكَرَم والجلالة: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} .
الرّابع: فى بيان المُلْك: {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} .
الخامس: فى بيان القهر، والقدرة: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
السّادس: عند إِظهار عجائب صنع الملكوت: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} .
السابع: فى بيان نفاذ المشيئة والإِرادة: {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} .
الثامن: فى بيان عظمة القرآن، وشرفه: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} .
واختُلِف فى معناه: فقِيل: لم يزل ولا يزال. وقيل: تبارك تقدّس. وقيل: تَعظَّم. وقيل تعالى.
وكلّ موضع ذُكِر فيه (تبارك) فهو تنبيه على اختصاصه - تعالى - بالخيرات المذكورة مع تبارك. مثل قوله: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} ؛ فإِنَّه تنبيه على اختصاصه بما يُفيضه علينا: من نِعمِهِ، بوساطة هذه البروج.(2/294)
بصيرة فى تترى
وهى فَعْلَى من المواترة أَى المتابعة وتراً وتراً. وأَصلها واو، فأُبدلت تاءً؛ كتراث وتُجاه. فمن صرفه جعل الأَلف زائدة لا للتأْنيث. ومن [منع] صرفه جعل أَلفه للِتأْنيث. قال - تعالى -: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أَى متواتِرين، وقال الفرّاءُ: يقال: تَتْرٌ فى الرّفع، وتَتْراً فى النَّصب، وتَتْرٍ فى الجرّ. والأَلف فيه بدل من التنوين. وقال ثعلب: هى تَفْعَل. وغلَّطه أَبو علىّ الفسَوىّ، وقال: ليس فى الصّفات تَفْعَل.
بصيرة فى التجارة
وقد ذكرها الله تعالى فى ستَّة مواضع.
الأَوّل: تجارة غُزَاة المجاهدين بالرُّوح، والنفْس، والمال: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إِلى قوله: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم} .
الثانى: تجارةُ المنافقين فى بَيْع الهدى بالضَّلالة: {اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} .
الثالث: تجارة قراءَة القرآن: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله} إِلى قوله: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} .(2/295)
الرّابع: تجارة عُبّاد الدّنيا بتضييع الأَعمار، فى استزادة الدرهم والدّينار: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} .
الخامس: فى معاملة الخَلْق بالبيع والشِّرَى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} .
السّادس: تجارة خواصّ العباد بالإِعراض عن كلّ تجارة دنيويّة: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} .
وهى لغةً: التَّصرّف فى رأْس المال؛ طلباً للرّبح. تجَر يَتْجُرُ فهو تاجر. والجمع تَجْر - كصاحب وصَحْب - وتُجّار وتِجَار. وليس فى الكلام تاءٌ بعده جيم غيرها. ويقال: هو تاجر بكذا: أَى حاذِق، عارف لوجه المكتسب منه. ويقال: نِصف البركة فى التجارة. وقيل، نعم الشئُ التجارة، ولو فى الحجارة. ويروى فى الكلمات القدسيّة: من تاجَرَنِى لم يخسر. وأُوحى إِلى بعض الأَنبياءِ: قل لعبيدى: تاجرونى تربحوا علىّ؛ فإِنى خلقتكم لتربحوا علىّ لا لأَربح عليكم. وفى الحديث: الرفق فى المعيشة خير من بعض التجارة. وقال الشاعر:
خُذوا مال التجار وسوّفوهم ... إِلى وقت فإِنهمُ لئام
وليس عليكم فى ذاك إِثْمٌ ... فإِن جميع ما جَمَعوا حرام(2/296)
بصيرة فى التراب
وقد جاءَ فى القرآن على وجوه:
الأَوّل: بمعنى العظام البالية: الرّميمة: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} .
الثَّانى: بمعنى البهائم: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} أَى بهيمة من البهائم. وقيل: هو بمعنى آدم عليه السّلام. وهذا ممّا يقوله إِبليس.
الثالث: بمعنى حقيقة التُرْبة: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} .
وفيه لغات: التُّرْب، والتُرْبة، والتُّرْباء، والتَّيْرب، والتَّيراب، والتَّوْرب، والتوارب، والتَّريب. وجمع التُّراب أَتربة، وتِرْبان. ولم يسمع لسائر لغاته بجمع. قال بعض الشعراءِ:
خُلِقتُ بغير ذنب من تراب ... فأَرجع بالذنوب إِلى التراب
أَلا وجميعُ من فوق التراب ... فداءُ تراب نعل أَبى تراب
وترب - كفرح -: كثر ترابه، وصار فى يده الترابُ، ولزق بالتُّراب، وافتقر، وخسر. وأَترب: استغنى، وقلّ ماله. فهو من الأَضداد. وكذا تَرَّبَ تتريباً. وبَارِحٌ تَرِبٌ: ريح فيها تراب. والترائب: ضلوع الصّدر، أَو ما ولىِ التَرْقُوتيْن منها، أَو ما بين الثَدْيين والترقوتين، أَو أَربع أَضلاع من يَمْنة الصّدر، وأَربع من يَسْرته، أَو اليدان، والرّجلان، والعينان، أَو موضع القلادة. و {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ} أَى لِدَات نشأن معاً؛ تَشبيهاً فى التساوى والتَّماثل بضلوع الصَّدر، أَو لوقوعهنّ معاً على التُّراب عند الوِلاَد. والتَّربْة: الضَّعْفة.(2/297)
بصيرة فى الترك
وهو رفض الشئِ قصداً واختياراً، أَوْ قهراً واضطراراً. تركه تَرْكاً، وتِرْكَاناً، واتَّركَه: وَدَعه. والترك أَيضاً الجَعْل؛ كقولك: تركته وَقيذاً، كأَنَّه ضدّ. وقوله - تعالى -: {واترك البحر رَهْواً} من القصد الاختيارى وقوله: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} من القهرىّ الاضطرارىّ. وقد يقال فى كلّ فعلٍ يُنتهى به إِلى حالة مّا: تركته كذا.(2/298)
بصيرة فى التقوى
وهى مشتقَّة من الوِقَايَة، وهى حفظ الشئِ ممّا يؤذيه، ويضرّه. يقال: وقاه وَقْياً ووِقاية وواقية: صانه. والتَّوقية: الكلاءَة، والحفظ. وقيل: الأَصل فيها وِقاية النِّساءِ الَّتى تستُر المرأَةُ بها رأْسها، تقيها من غبار، وحرّ، وبرد. والوِقاية: ما وقيت به شيئاً. ومن ذلك فرس واق: إِذا كان يَهاب المشىَ من وجَعٍ يجده فى حافره. فأَصل تقوى: وَقَوى، أَبدلت الواو تاءً؛ كتراث، وتجاه. وكذلك اتَّقى يتَّقى أَصله: اوتقى، على افتعل. فقلبت الواو يَاءً، لانكسار ما قبلها، وأُبدلت منها التَّاءُ، وأُدغمت. فلمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهَّموا أَنَّ التَّاءَ من نفس الكلمة، فجعلوه تَقَى يَتَقى، بفتح التَّاءِ فيها. ثمّ لم يجدوا له مثالاً فى كلامهم يلحقونه به، فقالوا: تَقَى يَتْقِى مثل قضى يقضى. وتقول فى الأَمر: تَقِ، و (فى المؤنَّث) تَقِى. ومنه قوله:
زيادَتنا نعمانُ لا تقطعنها ... تق الله فينا والكتاب الذى تتلو(2/299)
بنى الأَمر على المخفَّف، فاستغنى عن الأَلف فيه بحركة الحرف الثانى فى المستقبل.
والتَّقوى والتُّقى واحد. والتُّقَاةُ: التقِيّة. يقال: اتَّقى تقِيّة، وتُقَاةً. قال الله - تعالى -: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} .
والتَّقِىّ: المتَّقى، وهو مَن جعل بينه وبين المعاصى وِقاية تحول بينه وبينها: من قوّة عزمه على تركها، وتوطين قلبه على ذلك. فلذلك قيل له: متَّقٍ.
والتَّقوى البالغة الجامعة: اجتنابُ كلّ ما فيه ضرر لأَمر الدين، وهو المعصية، والفضول. فعلى ذلك ينقسم على فرض، ونفل.
وقد ورد فى القرآن بخمسة معانٍ:
الأَوّل: بمعنى الخوف والخشية: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} ، وقال: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ولهذا نظائر.
الثانى: بمعنى الطَّاعة، والعبادة: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} .
الثالث: بمعنى ترك المعصية، والزَلَّة: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله} أَى اتركوا خلاف أَمره.
الرّابع: بمعنى التَّوحيد والشَّهادة: {اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} .
الخامس: بمعنى الإِخلاص، والمعرفة: {أولائك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} .(2/300)
وأَمّا البِشَارَات الَّتى بشَّر الله تعالى بها الْمُتَّقِين فى القرآن فالأَوّل: البشرى بالكرامات: {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ البشرى} .
الثانى: البشرى بالعون والنّصرة: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} .
الثَّالث: بالعلم والحكمة: {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} .
الرّابع: بكفَّارة الذّنوب وتعظيمه: {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
السّادس: بالمغفرة: {واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
السّابع: اليُسْر والسّهولة فى الأَمر: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} .
الثَّامن: الخروج من الغمّ والمِحنةِ: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} .
التَّاسع: رزق واسع، بأَمن وفراغ: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} .
العاشر: النَّجاة من العذاب، والعقوبة: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} .
الحادى عشر: الفوز بالمراد: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} .
الثانى عشر: التَّوفيق والعصمة: {ولاكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} إِلى قوله: {وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} .(2/301)
الثالث عشر: الشهادة لهم بالصدق: {أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون} .
الرابع عشر: بشارة الكرامة والأَكرمية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} .
الخامس عشر: بشارة المحبّ: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} .
السّادس عشر: الفلاح: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
السّابع عشر: نيل الوصال، والقُربة: {ولاكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} .
الثامن عشر: نيل الجزاء بالممحنة: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} .
التَّاسع عشر: قبول الصّدقة: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} .
العشرون: الصّفاء والصّفوة: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} .
الحادى والعشرون: كمال العبودية: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} .
الثانى والعشرون: الجنَّات والعيون: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
الثالث والعشرون: الأَمْن من البليّة: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} .
الرابع والعشرون: عزّ الفوقيْة على الخَلْق: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} .(2/302)
الخامس والعشرون: زوال الخوف والحزن من العقوبة: {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
السادس والعشرون: الأَزواج الموافِقة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} إِلى قوله: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} .
السّابع والعشرون: قُرب الحضرة، واللِّقاءِ والرّؤية: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} .
{أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} تنبيهٌ على شدّة ما ينالهم وأَن أَجدرَ شئ يتَّقون به من العذاب يوم القيامة هو وجوههم. فصار ذلك: كقوله. وقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التقوى} أَى أَهل أَن يُتَّقى عقابُه. ورجل تقِىّ من أَتقياء وتُقَواء.(2/303)
بصيرة فى التوبة
تاب إِلى الله تَوْباً، وتوبة، ومَتَاباً، وتابةً، وتَتْوِبةً: رجع عن المعصية، وهو تائب، وتوّاب. وتاب الله عليه: وفَّقه للتوبة، أَو رجع به من التَّشديد إِلى التخفيف، أَو رجع عليه بفضله، وقبوله. وهو توّاب على عباده. واستتابه: سأَله أَن يتوب.
والتوبة من أَفضل مقامات السّالكين؛ لأَنَّها أَوّل المنازل، وأَوسطها، وآخرها، فلا يفارقها العبد أَبداً، ولا يزال فيها إِلى الممات. وإِن ارتحل السّالك منها إِلى منزل آخر ارتحل به، ونزل به. فهى بداية العبد، ونهايته. وحاجته إِليها فى النِّهاية ضروريّة؛ كما حاجتُه إِليها فى البداية كذلك.
وقد قال تعالى: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهذه الآية فى سورة مدنيّة، خاطب الله تعالى بها أهل الإِيمان، وخيار خَلْقه أَن يتوبوا إِليه بعد إِيمانهم، وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثمّ علَّق الفلاح بالتوبة تعلُّق المسبّب بسببه، وأَتى بأَداة (لعلّ) المشعرِ بالتَّرجّى؛ إِيذاناً بأَنَّكم إِذا تبتم كنتم على رجاءِ الفلاح، فلا يَرْجوا الفلاحَ إِلاَّ التائبون، جعلنا الله منهم. وقد قال - تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولائك هُمُ الظالمون} قسّم العباد إِلى تائبٍ، وظالم. وما قِسْم ثالث البتَّة، وأَوقع(2/304)
الظُّلم على مَن لم يتُبْ، ولا أَظلم منه بجهله بربّه، وبحقِّه، وبعيب نفسه، وبآفات أَعماله. وفى الصّحيح: "يا أَيُّها النَّاسُ توبوا إِلى الله؛ فإِنى أَتوب إِليه فى اليوم أَكثر من سبعين مرّة"، وكان أَصحابه يَعُدّون له فى المجلس الواحد قبل أَن يقوم: (ربّ اغفر لى وتُبْ علىّ إِنَّك أَنت التَّواب الرّحيم) مائة مرّة، وما صلَّى قطُّ بعد نزول سورة النَّصر إلا قال فى صلاته: سبحانك اللَّهمّ ربّنا وبحمدك، اللَّهمّ اغفر لى.
وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ} يريد بالتَّوبة تمييز البقيّة من العزَّة: بأَن يكون المقصود من التَّوبة تقوى الله، وهو خوفه، وخشيته، والقيام بأَمره، واجتناب نهيه، فيعمل بطاعته على نور من الله، يرجو ثواب الله، ويترك معصية الله على نور من الله، يخاف عقاب الله، لا يريد بذلك عِزّ الطَّاعة؛ فإِنَّ للطَّاعة والتَّوبة عزّاً ظاهراً وباطناً، فلا يكون مقصوده العزَّة، وإِن علم أَنها تحصل له بالطَّاعة، والتَّوبة. فمن تاب لأَجل أَمر فتوبتُه مدخولةٌ.
وسرائر التوبة ثلاثة أَشياءَ هذا أَحدها، والثانى نسيان الجِناية. والثالث التَّوبة من الإِسلام والإِيمان. قلنا المراد منه التَّوبة من رؤية التَّوبة(2/305)
وأَنها إِنَّما حصلت له بتوفيق الله، ومشيئته؛ ولو خُلِّى ونفسه لم يسمح بها البتَّة. فإِذا رآها من نفسه، وغفل عن مِنَّة الله عليه، تاب من هذه الرّؤية، والغفلة. ولكن هذه الرّؤية ليست التَّوبة ولا جُزْأَها، ولا شرطها، بل جناية أُخرى حصلت له بعد التوبة، فيتوب من هذه الجناية؛ كما تاب من الجناية الأُولى. فما تاب إِلاَّ من ذنب أَوّلاً، وآخراً. والمراد التَّوبة من نُقْصان التوبة وعدم توفيتها حقَّها.
ووجهٌ ثالثٌ لطيف. وهو أَنَّه منْ حصل له مقام الأُنْس بالله - تعالى - وصفاءُ وقته مع الله - تعالى - بحيث يكون إِقباله على الله، واشتغاله بذكر آلائه وأَسمائه وصفاته، أَنفع شئٍ له، مَتى نزل عن هذا الحال اشتغل بالتَّوبة من جناية سالفة، قد تاب منها، وطالع الجناية، واشتغل بها عن الله تعالى، فهذا نقص ينبغى أَن يتوب إِلى الله منه. وهى توبة من هذه التَّوبة، لأَنَّه نزول من الصّفاءِ إِلى الجفاءِ. فالتَّوبة من التوبة إِنما تُعْقل على أَحد هذه الوجوه الثلاثة. والله أَعلم.
واعلم أَنَّ صاحب البصيرة إِذا صدرت منه الخطيئة فله فى توبته نظر إِلى أُمور. أَحدها النظر إِلى الوعد والوعيد فيُحدث له ذلك خوفا، وخشيةً تحمله على التوبة.
الثانى: أَن ينظر إِلى أَمره تعالى ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة، والإقرار على نفسه بالذنب.
الثالث: أَن ينظر إِلى تمكين الله تعالى إِيّاه منها، وتخليته بينه وبينها،(2/306)
وتقديرها عليه، وأَنَّه لو شاءَ لعصمه منها، فيحدث له ذلك أَنواعاً من المعرفة بالله، وأَسمائه وصفاته، وحكمته، ورحمته، ومغفرته، وعفوه، وحلمه، وكرمه، وتوجب له هذه المعرفة عبوديّةً بهذه الأَسماء، لا تحصل بدون لوازمها، ويعلم ارتباط الخَلْق، والأَمر، والجزاءِ. بالوعد والوعيد بأَسمائه، وصفاته، وأَنَّ ذلك موجَب الأَسماء، والصفات، وأَثرها فى الوجود، وأَنَّ كلّ اسم مُفيضٌ لأَثره. وهذا المَشْهد يُطْلعه على رياض مؤنقة المعارف، والإِيمان، وأَسرار القدر، والحكمة يضيق عن التعبير [عنها] نطاق الكلم والنَّظر.
الرّابع: نظره إِلى الآمر له بالمعصية، وهو شيطانه الموكَّل به، فيفيده النظر إِليه اتخاذه عدوَّا، وكمال الاحتراز منه، والتَّحفُّظ والتَّيقُّظ لما يريده منه عدوُّه، وهو لا يشعر؛ فإِنَّه يريد أَن يظفر به فى عَقبة من سبع عقبات بعضُها أَصعب من بعض: عقبة الكفر بالله، ودينه، ولقائه، ثمّ عَقَبة البِدْعة، إِمّا باعتقاده خلافَ الحقّ، وإِمّا بالتَّعبّد بما لم يأْذن به الله من الرّسوم المحدثة. قال بعض مشايخنا: تزوّجت الحقيقةُ الكافرةُ، بالبِدْعة الفاجرة، فولد بينهما خسران الدّنيا والآخرة، ثمّ عقبة الكبائر (يزينها له وأَن الإِيمان فيه الكفاية. ثم عَقَبة الصغائر بأَنها مغفورة ما اجتُنبت الكبائر) ولا يزال يجنيها حتى يصرّ عليها، ثمّ عقبة المباحات، فيشغله بها عن الاستكثار من الطَّاعات. وأَقلُّ ما يناله منه تفويت الأَرباح العظيمة،(2/307)
ثمّ عقبة الأَعمال المرجوحة، المفضولة يُزيّنها له، ويَشْغله بها عمّا هو أَفضل وأَعظم ربحاً. ولكن أَين أَصحاب هذه العقبة! فهم الأَفراد فى العالم. والأَكثرون قد ظفِر بهم فى العقبة الأُولى. فإِن عَجَز عنه فى هذه العقبات جاءَ فى عقَبَة تسليط جُنده عليه بأَنواع الأَذى، على حسب مرتبته فى الخير. وهذه نبذة من لطائف أَسرار التَّوبة رزقنا الله تعالى [إِيّاها] بمنِّه وفضله إِنَّه حقيق بذلك.
وورد التَّوبة فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى التجاوز والعفو. وهذا مقيّد بعلى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} .
الثَّانى: بمعنى الرّجوع، والإِنابة. وهذا مقيّد بإِلى: {تُبْتُ إِلَيْكَ} ، {توبوا إِلَى الله} ، {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} .
الثالث: بمعنى النَّدامة على الزَلَّة، وهذا غير مقيّد لا بإِلى، ولا بعلى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} ، {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} .
ويقال: إِن التَّوبة من طريق المعنى على ثلاثة أَنواع، ومن طريق اللَّفظ وسبيل اللُّطف على ثلاثة وثلاثين درجة:
أَمّا المعنى فالأَوّل: التَّوبة من ذنب يكون بين العبد وبين الرّب. وهذا يكون بندامة الجَنَان، واستغفار اللسان.(2/308)
والثانى: التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين طاعة الرّب. وهذا يكون بجبْر النقصان الواقع فيها.
الثالث: التوبة من ذنب يكون بين العبد وبين الخَلْق. وهذه تكون بإِرضاءِ الخصوم بأَىّ وجه أَمكن.
وأَمّا درجات اللطف فالأُولى: أَنَّ الله أَمر الخَلْق بالتَّوبة، وأَشار بأَيُّها الَّتى تليق بحال المؤمن {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤمِنُونَ} .
الثانية: لا تكون التَّوبة مثمِرة حتى يتمّ أَمرها {توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} .
الثالثة: لا تنظر أَنَّك فريد فى طريق التَّوبة؛ فإِنَّ أَباك آدم كان مقدّم التَّائبين: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، والكليم موسى لم يكن له لمّا عَلاَ على الطُّور تحفة غير التَّوبة {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} .
ثمّ إِنَّه بشَّر النَّاس بالتَّمتع من الأَعمار، واستحقاق فضل الرّءُوف الغفَّار: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} . وأَشار صالح على قومه بالتَّوبة، وبشَّرهم بالقُرْبة والإِجابة: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} . وسيّد المرسلين مع الأَنصار والمهاجرين سلكوا طريق الناس: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين} . والصّدّيق الأَكبر اقتدى فى التَّوبة بسائر النَّبيّين: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} .(2/309)
أَصحاب النبىّ ما نالوا التوبة إِلاَّ بتوفيق الله. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} تحرُّزاً من انتشار العصمة أُمِرنَ بالتَّوبة {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ومن توقَّف عن سلوك طريق الناس وُسِمَ جبين حاله بميسم الخائبين: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولائك هُمُ الظالمون} الأَزواج اللائقة بخاتم النَّبيّين تعيّنّ بالتَّوبة: {قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ} .
الرّجال لا يُقعدهم على سرير السّرور إِلاَّ التَّوبة: {التائبون العابدون} ولا يظنّ التوَّاب اختصاص النَّعت به (فإِنَّا جعلنا) هذا الوصف من جملة صفات العَلِى: {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً} وإِذا وفَّقنا العبد للتَّوبة تارة قربناه بالحكمة {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} وإِذا قبلنا منه التَّوبة قرّبناه بالرّحمة: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} . والمؤمن إِذا تاب أَقبلنا عليه بالقبول، وتكفَّلنا له بنيل المأْمول: {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} .
وإِن أَردت أَن تكون فى أَمان الإِيمان، مصاحباً لسلاح الصّلاح، فعليك بالتَّوبة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً} {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} وإِذا أَقبل العبد على باب التَّوبة استحكم عَقْد أُخُوّته، مع أَهل الإِسلام: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ(2/310)
الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} . ومن تاب، وقصد الباب، حصل له الفرج بأَفضل الأَسباب: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ومن أَثار غبار المعاصى، وأَتبعه برشاش النَّدم، غلَّبت حكمتنا الطَّاعة على المعصية، وسُترت الزَّلَّة بالرّحمة: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} .
السّارق المارق إِذا لاذ وتحرّم بالتَّوبة قبل القدرة عليه، فلا سبيل للإِيذاءِ إِليه: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} . وإِذا أَردت التَّوبة فأَنا المريد لتوبتك قبلُ: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وإِذا تبت بتوبتى عليك، وتوفيقى لك، جازيت بالمحبّة: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} . وإِنا لا نقبل توبةَ مَن يؤخِّر توبتَه إِلى آخر الوقت: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} . وإِنَّما يتقبّل توبة مَن تتَّصل توبتُه بزَلَّته، وتقترن بمعصيته: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} . أَعظم الذنوب قتل النفس وإِذا حصل خَطَأً من غير عمدٍ فبِالتوبة والصّيام كفِّر: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله} . نَهَينَا سيّد المرسلين عن التحكُّم على عبادنا؛ فإِنَّ ذلك إِلينا. ونحن نتوب عليهم لو نشاءُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ(2/311)
أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} لا تفرّ من التوبة؛ فإِنها خير لك فى الدّارين: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} ، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلكم خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} ومن رَمَى بنفسه فى هُوّة الكفر فلا توبة له {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أَيظنون أَنا لا نقبل توبة المخلص من عبادنا: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} نحن نأْخذ بيد المذنب، ونقبل باللُّطف توبته: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} ، {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} .
ولهذا قيل: التَّوبة قَصّار المذنبين، وغسّال المجرمين، وقائد المحسنين، وعَطَّار المريدين، وأَنيس المشتاقين، وسائق إِلى ربّ العالمين.(2/312)
بصيرة فى التوكل
وهو يقال على وجهين: يقال: توكَّلت لفلان بمعنى تولَّيت له. يقال: وكَّلته توكيلاً، فتوكَّل لى. وتوكَّلت عليه بمعنى اعتمدته.
وقد أَمر الله تعالى بالتَّوكُّل فى خمسة عشر موضعاً من القرآن:
الأَوّل: إِن طلبتم النَّصر والفرج فتوكَّلوا علىّ: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} إِلى قوله: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} ، {وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .
الثانى: إِذا أَعرضتَ عن أَعدائى فليكن رفيقك التَّوكُّل: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} .
الثَّالث: إِذا أَعرض عنك الخلْقُ اعْتَمِدْ على التَّوكُّل: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إلاه إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} .
الرابع: إِذا تُلِى القرآن عليك، أَو تلوته، فاستَنِدْ على التوكُّل: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
الخامس: إِذا طلبت الصّلح والإِصلاح بين قومٍ لا تتوسّل إِلى ذلك إِلاَّ بالتَّوكُّل: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} .(2/313)
السّادس: إِذا وصلت قوافل القضاءِ استقبِلْها بالتَّوكُّل: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} الآية.
السّابع: إِذا نَصبتِ الأَعداءُ حِبالات المكر ادخُلْ أَنت فى أَرض التوكُّل {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إِلى قوله: {فَعَلَى اللهِ توكَّلْتُ} .
الثامن: وإِذا عرفت أَنَّ مرجع الكلّ إِلينا، وتقدير الكلّ منَّا، وطِّنْ نفسك على فَرْش التوكُّل: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} .
التاسع: إِذا علمت أَنى الواحدُ على الحقيقة، فلا يكن اتِّكالك إِلاَّ علينا: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إلاه إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} .
العاشر: إِذا عرفت أَنَّ هذه الهداية من عندى، لاقِها بالشُّكر، والتَّوكُّل: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} إِلى قوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} .
الحادى عشر: إِذا خشِيت بأْس أَعداءِ الله، والشيطان الغدّار، لا تلتجئ إِلاَّ إِلى بابنا: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
الثانى عشر: إِن أَردتَ أَن أَكون أَنا وكيلك فى كلّ حال، فتمسّك بالتَّوكُّل فى كلّ حالٍ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً} .(2/314)
الثالث عشر: إِن أَردتَ أَن يكون الفردوس الأَعلى منزلك انزل فى مقام التوكُّل: {الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
الرابع عشر: إِن شئت النزول محلّ المحبّة اقصد أَولاً طريق التوكُّل: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} .
الخامس عشر: إِن أَردتَ أَن أَكونَ لكَ، وتكون لى، فاستقرَّ على تَخْت التوكُّل: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} ، {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} .
ثمّ اعلم أَنَّ التَّوكُل نصف الدّين، والنصف الثانى الإِنابة. فإِنَّ الدّين استعانة، وعبادة. فالتَّوكُّل هو الاستعانة، والإِنابة هى العبادة.
ومنزلة التوكُّل (أَوسع المنازل: لا يزال معمورا بالنازلين لسعة متعلّق التوكُّل) وكثرة حوائج العاملين، وعموم التَّوكُّل، ووقوعه من المؤمنين والكفَّار، والأَبرار، والفُجّار، والطَّير، والوحوش، والبهائم، وأَهل السّماوات، والأَرض، وأَنَّ المكلَّفين، وغيرهم فى مقام التوكُّل [سواءٌ] وَإِنْ تباينَ متعلِّق توكُّلهم.
فأَولياؤه وخاصّته متوكِّلون عليه فى حصول ما يُرضيه منهم، وفى إِقامته فى الخَلْق، فيتوكَّلون عليه فى الإِيمان، ونُصْرة دينه، وإِعلاءِ كلماته، وجهاد أَعدائه، وفى محابّه، وتنفيذ أَوامره.(2/315)
ودون هؤلاءِ مَن يتوكَّل عليه فى معلومٍ يناله: مِن رزق، أَو عافية، أَو نَصْرٍ على عدوٍّ، أَو زوجة، أَو ولد، ونحو ذلك.
ودون هؤلاءِ مَن يتوكَّل عليه فى حصول ما لا يحبّه الله، ولا يرضاه: من الظُّلم، والعدوان، وحصول الإِثم، والفواحش. فإِنَّ أَصحاب هذه المطالب لا ينالون غالباً إِلاَّ باستعانتهم، وتوكُّلهم عليه. بل قد يكون توكُّلهم أَقوى من توكُّل كثير من أَصحاب الطَّاعات. ولهذا يُلقُون أَنفسهم فى المهالك، معتمدين على الله - تعالى - أَن يُشمّهم، ويُظِفرهُم بمطالبِهم. فأَفضل التَّوكُّل فى الواجب: أَعنى واجبَ الحقّ، وواجبَ الخَلْق، وواجبَ النَّفس. وأَوسعُه وأَنفعُه التَّوكُّل فى التأْثير فى الخارج فى مصلحة دينه، أَو فى دفعِ مفسدة دينه. وهو توكُّل الأَنبياءِ - عليهم الصّلاة والسّلام - فى إِقامة دين الله، ودفع المفسدين فى الأَرض. وهذا توكُّل وَرَثتهم.
ثمّ النَّاس فى التوكُّل على حسب [أَغراضهم] . فمن متوكل على الله فى حصول المُلْك، ومتوكِّل عليه فى حصول (رغيف. ومَنْ صدق توكُّله على الله فى حصول) . شئٍ ناله. فإِن كان محبوباً له مرضيّاً كانت له فيه العاقبة المحمودة. وإِن كان مسخوطاً مبغوضا كان ما حصل له بتوكّله مَضرّة. وإِن كان مباحاً حصلت لهُ مصلحة التوكُّل، دون مصلحة ما توكَّل فيه، إِن لم يستعن به على طاعة.
فإِن قلت: ما معنى التوكُّل؟ قلت: قال الإِمام أَحمد: التوكل: عمل القلب: يعنى ليس بقولٍ، ولا عمل جارحة، ولا هو من باب العلوم،(2/316)
والإِدراكات. ومن الناس مَن يجعله من باب المعارف، فيقول: هو علم القلب بكفاية العبد من الله. ومنهم من يقول: هو جُمُود حركة القلب، واطِّراحه بين يدِ الله كاطّراح الميّت بين يدى الغاسِل: يقلِّبه كيف يشاءُ. وقيل: ترك الاختيار، والاسترسالُ مع مجارى الأَقدار. ومنهم من يفسّره بالرّضا، ومنهم من يفسره بالثِّقة بالله، والطُّمأْنينة إِليه.
وقال ابن عطاءٍ. هو أَلاَّ يظهر فيه انزعاج إِلى الأَسباب، مع شدّة فاقته إِليها؛ ولا يزول عن حقيقة السّكون إِلى الحقِّ، مع وقوفه عليها. وقيل: ترك تدبير النَّفس، والانخلاعُ من الحَوْل والقُوّة.
وإِنَّما يَقْوَى العبد على التوكُّل إِذا علمِ أَن الحقّ سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقيل: التوكُّل أَن ترد عليك مواردُ الفاقات، فلا تسمو إِلاَّ إِلى مَنْ له الكفايات، أَو نفى الشكوك، أَو التفويض إِلى مالك الملوك، أَو خلع الأَرباب، وقطع الأَسباب، أَى قطعها مِن تعلَّق القلب بها [لا] من ملابسة الجوارح لها. وقال أَبو سعيد الخَّراز: هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب. وقال سهل: مَنْ طعن فى الحركة، فقد طعن فى السُّنَّة. ومَنْ طعنَ فى التَّوكُّل فقد طعن فى الإِيمان. فالتوكُّل حال النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والكَسْب سُنَّته. فمَن عمل على حاله فلا يتركنَّ سنَّته.(2/317)
وحقيقة الأَمر أَنَّ التوكُّل: حال مركَّب من مجموع أُمورٍ لا يتمّ حقيقة التَّوكُّل إِلاَّ بها. وكلّ أَشار إِلى واحدٍ من هذه الأُمور، أَو اثنين أَو أَكثر. فأَوّل ذلك معرفة الرّبّ وصفاتِه: من قدرته، وكفايته، وفيوضه، وانتهاءِ الأُمور إِلى علمه، وصدورها عن مشيئته، وقدرته. وهذه المعرفة أُولى درجة والثَّانية إِثبات الأَسباب والمسبّبات، فإِنَّ مَنْ نفاها فتوكّله مَزْح. وهذا عكس ما يظهر فى بادئ الرّأْى: من أَنَّ إِثبات الأَسباب يقدح فى التوكُّل. ولكنّ الأَمر بخلافه: فإِنَّ نُفَاةَ الأَسباب لا يستقيم لهم توكُّل البتَّة. فإِنَّ التوكُّل أَقوى الأَسباب فى حصول المتوكَّل به؛ فهو كالدّعاءِ الذى جعله الله سبباً فى حصول المدعُوّ به.
الدّرجة الثالثة رسوخ القلب فى مقام التَّوحيد؛ فإِنَّه لا يستقيم توكُّله حتى يصحّ توحيده.
الدرجة الرابعة اعتماد القلب على الله تعالى، واستناده عليه، وسكونه إِليه، بحيث لا يبقى فيه اضطراب من جهة الأَسباب.
الخامسةُ حُسن الظنّ بالله. فعلى قدر حسن ظنِّك به يكون توكُّلك عليه.
السّادسة استسلام القلب له، وانجذاب دواعيه كلِّها إِليه.
السّابعة التفويض. وهو رُوح التوكُّل، ولُبّه، وحقيقته. فإِذا وَضَع قدمه فى هذه الدّرجة انتقل منها إِلى درجة الرضا وهى ثمرة التوكُّل. ونستوفى الكلام عليه إِن شاءَ الله تعالى فى محلِّه من المقصد المشتمل على علم التَّصوّف.(2/318)
بصيرة فى التذكر والتفكر
التَّذكُر: تَفعُّل من الذِّكر. والذِكر: هيئة للنَّفْس، بها يمكن للإِنسان أَن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة. والفكرة: قوّة مُطَرِّقة للعلم إِلى المعلوم. والتفكُّر غيره؛ فإِنَّ تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإِنسان دون الحيوان. ولا يقال إِلاَّ فيما يمكن أَن يَحصل له صورة فى القلب. ولهذا رُوِىَ "تَفَكّروا فى آلاءِ الله، ولا تفكّروا فى ذاتِ اللهِ". إِذ كان الله منزَّهاً أَن يوصَف بصورة. قال - تعالى -: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ} ، {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} .
ثمّ اعلم أَنَّ التذكُّر قرين الإِنابة. قال - تعالى -: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} .
والتَّذكُّر والتفكُّر مَنْزلان يُثْمران أَنواع المعارف، وحقائق الإِيمان والإِحسان. فالعارف لا يزال يَعُود تفكُّره على تذكُّره، وتذكُّره على تفكُّره، حتى يُفتح قُفْل قلبه بإِذن الفتَّاح العليم. قال الحسن البصرىّ: ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر، وبالتَّفكُّر على التَّذكُّر، ويناطقون القلوب(2/319)
حتى نطقت. قال الشيخ أَبو عبد الله الأَنصارىّ: والتَّذكُّر فوق التَّفكُّر؛ لانَّ التفكُّر طلبٌ، والتَّذكُّر وجودٌ. يعنى أَنَّ التَّفكر التماسُ الغايات من مبادئها. وقوله: التذكُّر وجود؛ لأَنه يكون فيما قد حصل بالتَّفكُّر، ثمّ غاب عنه بالنِّسيان، فإِذا تذكَّره وجده، وظفِر به. واختير له بناءُ التفعّل؛ لحصوله بعد مُهْلة وتدريج؛ كالتبصّر، والتفهُّم. فمنزلة التذكُّر من التفكُّر منزلةُ حصولِ الشئِ المطلوب بعد التفتيش عليه. ولهذا كانت آيات الله المتلوّة والمشهودةُ ذكرى؛ كما قال فى المتلوّة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} ، وقال فى القرآن: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} ، وقال فى الآية المشهودة: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ. والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} فالتَّبصرة آية البصر، والتَّذكرة آية القلب. وفرقٌ بينهما. وجُعِلا لأَهل الإِنابة؛ لأَنه إِذا أَناب إِلى الله أَبصر مواقع الآيات والعِبَر، فاستدلَّ بها على ما هى آيات له، فزال عنه الاعتراضُ بالإِنابة، والعمى بالتبصرة، والغفلةُ بالتَّذكر؛ لأَنَّ التبصّرة توجب له حصول صورة المدلول فى القلب، بعد غفلته عنها. فترتَّبت المنازل الثلاثة أَحسن ترتيب. ثمّ إِنَّ كلاَّ منها يمدّ صاحبها، ويقوّيه، ويثمره. وقال - تعالى - فى آياته المشهودة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن(2/320)
مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} .
والنَّاس ثلاثة: رجل قلبه مَيّت، فذلك الَّذى لا قلب له: فهذا ليست هذه الآية تذكرة فى حقِّه. ورجل حَىّ مستَعِدّ، لكنَّه غير مستمِع للآيات المتلوّة، التى تُجزئه عن الآيات المشهودة: إِمّا لعدم ورودها، أَو لوصولها إِليه، ولكن قلبه مشغول عنها بغيره. فهو غائب القلب، ليس حاضرا. فهذا أَيضاً لا يحصل له الذكرى، مع استعداده، ووجود قلبه. والثالث رجل حَىّ القلب، مستعدّ، تليت عليه الآيات، فأَصْغَى بسمعه، وأَلقى السّمع، وأَحضر قلبه، ولم يَشغله بغيره، فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، مُلْقٍ للسمع. فهذا القسم هو الَّّذى ينتفع بالآيات المتلوّة والمشهودة. فالأَوّل بمنزلة الأَعمى الَّذى لا يبصر. والثانى بمنزلة الطَّامح بصرُه إِلى غير جهة المنظور إِليه. والثالث بمنزلة المبُصر الذى فتح بصره الطامح لرؤية المقصود، وأَتبعه بصره، وقلبه، على توسُّط من البعد والقرب. فهذا هو الَّذى يراه.
فإِن قيل: فما موقع (أَو) من قوله - تعالى -: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} قيل: فيها سرّ لطيف. ولسنا نقول: إِنَّها بمعنى الواو كما يقول ظاهريّة النحاة. فاعلم أَنَّ الرّجل قد يكون له قلب وقَّاد، مُلِئَ باستخراج العِبَر، واستنباط الحِكَم. فهذا قلبه يُوقعه على التَّذكُّر، والاعتبار. فإِذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور. وهؤلاءِ أَكملُ خَلْق الله - تعالى -، وأَعظمهم إِيماناً، وبصيرة؛ حتى كأَنَّ الَّذى أَخبرهم به الرّسولُ قد كان مشاهَداً لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله، وأَنواعه. حتى قيل: إِنَّ الصّدِّيق - رضى الله(2/321)
عنه - كان حاله مع النبىّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كحال رجلين دخلا داراً. فرأَى أَحدهما تفاصيل ما فيها، وجزئيّاتها، والآخر وقع بصرُه على ما فى الدّار، ولم ير تفاصيله ولا جزئيّاته؛ لكنه علم أَنَّ فيها أُموراً عظيمة، لم يدرِك بصرُه تفاصيلها، ثم خرجا، فسأَله عمّا رأَى فى الدّار، فجعل كلَّما أَخبره بشئٍ صدّقه، لِمَا عنده من شواهده. وهذه أَعلى درجات الصّدّيقيّة. ولا يستبعد أَن يَمُنّ الله تعالى على عبد بمثل هذا الإِيمان؛ لأَنَّ فضل الله لا يدخل تحت حَصْر ولا حسبان. فصاحب هذا القلب إِذا سمع الآيات. وفى قلبه نور من البصيرة ازداد بها نوراً إِلى نوره. فإِن لم يكن للعبد مثلُ هذا القلب فأَلقى السّمع، وشهد قلبُه، ولم يغِبْ، حصل له التَّذكُّر أَيضاً {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} والوابل والطَّلّ فى جميع الأَعمال، وآثارها، وموجباتها. وأَهل الحبّ سابقون ومقرّبون، وأَصحاب يمين، وبينهما من درجات التفضيل ما بينهما، والله أَعلم.(2/322)
بصيرة فى التبتل
قال تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} .
والتبتُّل: الانقطاع. وهو تفعّل من البَتْل وهو القطع. وسمّيت مَرْيم البَتُول لانقطاعها عن الأَزواج وعن نظراءِ زمانها، ففاقت نساءَ عالَمِها شرفاً وفضلاً. {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} كالتعلُّم والتفهُّم. ولكن جاءَ على التَّفعيل مصدر بَتَّل تَبْتيلاً لسرٍّ لطيف؛ فإِنَّ فى هذا الفعل إِيذاناً بالتدريج، وفى التفعيل إِيذان بالتكثير والمبالغة، فأُتى بالفعل الدّال على أَحدهما، والمصدر الدَّالّ على الآخر، كأَنَّه قيل: بَتِّل نفسَك إِليه تَبْتِيلاً، وتبتَّل أَنت إِليه تبتُّلاً، ففهم المعنَيان من الفعل ومصدرِه. وهذا كثير فى القرآن، وهو من أَحسن الاختصار والإِيجاز. فالتَّبَتُّل: الانقطاع إِلى الله فى العبادة وإِخلاص النيّة انقطاعاً يختصّ به. وإِلى هذا المعنى أَشار تعالى {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} وليس هذا منافِياً لما صحّ عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "لا رهبانيّة ولا تبتُّل فى الإِسلام" فإِنَّ التَّبتل هاهنا هو الانقطاع من النكاح، والرّغبةُ عنه محظورٌ.
والتَّبَتُّل يجمع أَمرين: اتَّصالاً وانفصالاً لا يصحّ إِلاَّ بهما، فالانفصال انقطاع قلبه عن حظوظ النَّفس المزاحِمة لمراد الربّ منه، وعن التفات قلبه(2/323)
إِلى ما سوى الله خوفاً منه، أَو رغبةً فيه، أَو مبالاةً وفِكراً فيه، بحيث يشتغل قلبهُ عن الله تعالى. والاتِّصال لا يصحّ إِلاَّ بعد هذا الانفصال. وهو اتِّصال القلبِ باللهِ، وإِقبالُه عليه، وإِقامة وجهه له حُبّاً وخوفاً ورجاءً وإِنابةً وتوكلاً. وهذا إِنما يحصل بحَسْم مادة رجاء المخلوقين من قلبك، وهو الرّضا بحكم الله وقَسْمه لك، وبِحَسْم مادة الخوف وهو التسليم لله؛ فإِنَّ مَنْ سلَّم لله واستسلم له علم أَنَّ ما أَصابه لم يكن ليُخطئه فلا يبقى للمخلوقين فى قلبه موقع؛ فإِنَّ نفسه الَّتى يَخاف عليها قد سلَّمها إِلى مولاها وأَودعها عنده وجعلها تحت كَنَفه، حيث لا يناله يَدُ عادٍ ولا بغىُ باغٍ، وبحَسْم مادَّة المبالاة بالنَّاس. وهذا إِنَّما يحصل بشهود الحقيقة وهو رؤية الأَشياءِ كلّها من الله وبالله وفى قبضته وتحت قهر سلطانه، لا يتحرّك منها شئ إِلاَّ بحَوْله وقوّته، ولا ينفع ولا يضرّ إِلاَّ بإِذنه ومشيئته، فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود.(2/324)
بصيرة فى التفويض
يقال: فَوّض إِليه أَمرَه أَى ردّه إِليه. وأَصله من قولهم: أَمرهم فوضَى بينهم وفوْضُوضَى وفَوْضُوضاءُ إِذا كانوا مختلِطين يتصرّف كلّ منهم فى (مال الآخر) . وقوم فَوْضَى: متساوون لا رئيس لهم. أَو متفرّقون أَو مختلِط بعضُهم ببعض. ومنه شركة المفاوضة وشركة التفاوض. وهو الاشتراك فى كلّ شيءٍ.
واختُلِف فى التفويض والتَّوكُّل أَيّهما أَعلى وأَرفع. فقال الشيخ أَبو عبد الله الأَنصارى: التفويض أَلطف إِشارةً وأَوسع معنى؛ فإِنَّ التَّوكُّل بعد وقوع السّبب، والتَّفويض قبل وقوعه وبعده. وهو من الاستسلام، والتوكُّل شُعبةٌ منه يعنى أَنَّ المفوِّض بين أَمر الحَول والقوّة، ويُفوضّ الأَمر إِلى صاحبه من غير أَن يقيمه مُقام نفسه فى مصالحه. بخلاف التوكُّل فإِنَّ الوكالة تقتضى أَن يقوم [الوكيل] مقام الموكِّل. والتفويض براءَة وخروج من الحول والقوة وتسليم الأَمر كلَّه إِلى مالكه. وقال غيره: كذلك التوكل أَيضاً، و [ما] قَدَحْتُم به فى التوكُّل يرِد عليكم نظيره فى التّفويض سواءً، فإِنَّا نقول: كيف يفوّض شيئاً لا يملكه البتَّة إِلى مالكه وهل يصحّ أَن يفوّض واحد من آحاد الرّعيّة المُلْك إِلى ملِك زمانه. فالعلَّة إِذاً فى التَّفويض أَعظم منها فى التوكُّل. بل لو قال: قائل: التَّوكُّل فوق التفويض وأَجلّ(2/325)
منه وأرفع، لكان مصيباً. ولهذا القرآن مملوء به أَمراً وإِخباراً عن خاصّة الله وأَوليائه وصفوة عباده؛ فإِنَّه حالهم، وأَمر به رسوله فى أَربعة مواضع كما تقدّم فى بصيرة التوكُّل. وسماه المتوكِّلَ فى التوراة؛ ثبت ذلك فى صحيح البخارى، وأَخبر عن رُسُله بأَنَّ حالهم التوكُّل، وأَخبر النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن السبعين أَلفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أَنَّهم أَهل مقام التَّوكُّل. ولم يجىءْ التفويض فى القرآن إِلاَّ فيما حكاه تعالى عن مؤمن آل فرعون من قوله {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله} وسيعود تمام الكلام عليه فى مقصد التَّصوف إِن شاءَ الله تعالى.(2/326)
بصيرة فى التسليم
وهو نوعان: تسليم لحُكْمِهِ الدّينىّ الأَمْرىّ، وتسليم لحُكمِهِ الكونىّ القدَرىّ.
فأَمّا الأَوّل فهو تسليم المؤمنين العارفين. قال الله تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فهذه ثلاث مراتب: التحكيم، وسعة الصّبر بانتفاءِ الحَرَج، والتسليم.
وأَمّا التسليم للحُكْم الكَونىّ فمزَلَّة أَقدام، ومضَلَّة أَفهام. حَيّر الأَنام، وأَوْقع الخِصَام. وهى مسأَلة الرّضا بالقضاءِ. وسيجئ الكلام عليه فى محلِّه، ونبيّن أَنَّ التسليم للقضاءِ يُحمد إِذا لم يُؤْمر العبد بمنازعته ودفعه ولم يقدر على ذلك؛ كالمصائب التى لا قُدْرَةَ على دفعها. وأَمّا الأَحكامُ التى أُمر بدفعها فلا يجوز له التسليم إِليها، بل العبوديّة مدافعتها بأَحكامٍ أُخْرى أَحسنَ عند الله منها.
فاعلم أَنَّ التسليم هو الخَلاص من شُبهةٍ تعارضُ الخَبَر، أَو شهوة تعارض الأَمر، أَو إِرادة تعارض الإِخلاص، أَو اعتراض يعارض القَدَر والشرع، وصاحب (هذه التخاليص) هو صاحب القلب السّليم الَّذى لا ينجو إِلاَّ مَن أَتى اللهَ به. فإِنَّ التسليم ضدّ المنازعة، والمنازعة إِمّا بشبهة فاسدة تعارض الإِيمان بالخبر عما وَصَف الله تعالى به نفسه من صفاته وأَفعاله،(2/327)
وما أَخبر به عن اليوم الآخر وغير ذلك. فالتسليم له ترك منازعته بشبهات المتكلِّمين الباطلة، وإِمّا بشهوة تعارض أَمر الله. فالتَّسليم للأَمر بالتخلُّص منها، أَو إِرادة تعارِض مراد الله من عبْده، فتعارضه إِرادة تتعلق بمراد العبد من الرّب. فالتَّسليم بالتَّخلُّص منها. أَو اعتراض [ما] يُعارض حكمته فى خلقه وأَمره بأَن يظنّ أَنَّ مقتضى الحكمة خلاف ما شرع وخلاف ما قضَى وقدّر. فالتَّسليم التخلُّص من هذه المنازعات كلها.
وبهذا تبيّن أَنَّه من أَجلِّ مقامات الإِيمان، وأَعلى طُرُق الخاصّة، وأَنَّ التسليم هو محض الصّدِّيقيّة.
ثمّ إِنَّ كمال التسليم السّلامةُ من رؤية التسليم بأَن يعلم أنَّ الحقّ تعالى هو الَّّذى يسلِّم إِلى الله نفسه دونه. فالحقّ تعالى هو الَّذى سلَّمك إِليه، فهو المسلِّم وهو المسلَّم إِليه، وأَنت آلة التسليم. فمن شهد هذا المشهد ووجد ذاته مسلَّما إِلى الحقّ، وما سلَّمها إِلى الحقّ غيرُ الحقّ، فقدْ سَلِم العبدُ من دعوى التسليم؛ والله أَعلم.(2/328)
بصيرة فى التربص
يقال: تربّص به تربُّصاً أَى انتظر به خيراً أَو شرّاً يحُلّ به.
وقد ورد فى القرآن لثمانية أُمور:
الأَوّل: تربّص الإِيلاءِ {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} :
الثانى: تربّص المطلَّقة ثلاثة أَشهر أَو ثلاثة أَطْهار.
الثالث: تربّص المعتدّة {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} .
الرّابع تربّص المنافقين للمؤمنين بالغنيمة أَو الشَّهادة {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} .
الخامس: تربّص كفَّار مكَّة فى حقِّ سيّدِ المرسلين لحادثة أَو نكبة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} .
السّادس: تربّص المؤمنين للمنافقين بالنكال والفضيحة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} .(2/329)
السّابع: تربّص سيّد المرسلين لهلاك أَعداءِ الدّين {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين} .
الثامن: تربّص العموم والخصوص للقضاءِ والقَدَر {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ} .
ويقرب من معنى التربّص الترقُّب والترصّد والتَّنظُّر والتطلُّع.
وقد ورد فى القرآن من مادّة هذه الكلمات حروف تذكر فى مواضعها من بصائر رقب ورصد ونظر وطلع إِن شاءَ الله تعالى.(2/330)
بصيرة فى التفصيل
وقد ورد فى القرآن على وجهين:
الأَوّل: بمعنى التَّبيين والإِيضاح، إِمّا لجملة الأَحكام كقوله تعالى: {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وقوله {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} وإِمّا لبيان القرآن فى نفسه {بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ} {أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً} أَى مُبَيَّناً، وإِمّا لتبيين آيات القرآن أَحكامَ الشَّرع {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} ، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وقيل هو إِشارة إِلى ما قال تعالى {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} .(2/331)
الباب الخامس - وهو باب الثاء
بصيرة فى الثاء
وهو يرد فى كلام العرب على ثمانية وجوه:
الأَوّل: حرف من حروف التهجّى لِثَوىّ، يظهر من أُصول الأَسنان، قريباً من مخرج الذَّال. ويمدّ ويقصر. والنسبة إِليه ثائىٌّ وثاوِىّ وثَوَوِىّ وقد ثيّيت ثاءً حَسَنة. ويذكَّر ويؤنَّث. والجمع أَثواءٌ وأَثياءٌ وثاءات.
الثَّانى: اسم فى حساب الجُمَّل لخمسمائة من العدد.
الثالث: الثاءُ المكرّرة كما فى رثَّ وغثَّ وأَثِّ.
الرّابع: الثاءُ الكافِيَة وهى الَّتى يُكتفى بها من الكلمة، كما يكتفى بالثاءِ عن ذكرِ الثناءِ والثَّواب ونحوه، قال الشَّاعر:
فى ثاءٍ قومه يُرى مبالغاَ ... وعن ثَناءٍ مَن سواهمُ فارغا(2/332)
الخامس: ثاءُ العجز والضرورة كثاءِ الأَلثغ الَّّذى يقول فى أَساس: "أَثاث"، وفى عبّاس: "عباث"، قال الشاعر:
وشادِنٍ قلت به إِذْ بدَا ... ما اسمكَ قُلْ لى قال عبّاث
فصرت من لُثغته أَلْثغا ... وقلت أَين الطَّاث والكاث
السادس: الثاءُ المبدلة من الفاءِ كما يقال فُمَّ فى ثُمَّ، وفُومٌ وثُومٌ، وجَدَفٌ وجَدَثٌ.
السّابع: الثَّاءُ الأَصلىّ كثاءِ ثلم ومثل.
الثامن: الثاءُ اللَّغوىّ. قال الخليل: الثاءُ عندهم: الخيار من كلّ شىءٍ. قال الشَّاعر:
إِذا ما أَتى ضيف وقد جَلَّل الدُجَى ... أَتيتُ بثاءِ البُرّ واللَّحم والسّكَّرْ(2/333)
بصيرة فى الثقل
اعلم أَنَّ الثِّقَل والخفَّة متقابلان. فكلّ ما يترجّح على ما يوزَن أَو يقدّر به يقال: هو ثقيل. وأَصله فى الأَجسام، ثمّ يقال فى المعانى؛ نحو أَثْقَلَهُ الغُرْم والوِزْر. قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} .
والثقيل يستعمل تارة فى الذَّمِّ، وهو أَكثر فى التَّعارف، وتارة فى المدح؛ نحو قول الشاعر:
تَخِفُّ الأَرْضُ إِمَّا بِنْتَ عنها ... وتبقى ما بقيت بها ثقيلاَ
حَلَلت بمستقرّ العِزَّ منها ... فتمنع جانبَيْهَا أَن يميلاَ
ويقال: فى أُذنه ثِقَل إِذا لم يَجُدْ سمعُه، كما يقال: فى أُذنه خِفَّة إِذا جاد سمعه، كأَنه يثْقُل عن قبول ما يُلْقى إِليه. وقد يقال: ثَقُل القولُ إِذا لم يطِبْ سماعُه. وكذلك قال تعالى فى وصفة القيامة {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض} .
وقوله تعالى {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} قيل: كنوزها. وقيل: ما تضمّنته من أَجساد الأَموات {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} أَى أَحمالكم الثقيلة(2/334)
وقوله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} أَى آثامهم الَّتى تثبّطهم وتثقِّلهم عن الثواب.
وقوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} أَى شَبَاباً وشيوخاً، أَو فقراء وأَغنياء. وقيل: عَزَباً ومتأَهِّلاً. وقيل: نِشَاطاً وكُسَالَى. وكلّ ذلك يدخل فى عمومها؛ فإِنَّ القصد بالآية الحثّ على النَّفْر على كلّ حال يسهل أَو يصعب. وقوله تعالى {فأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} الآيتين، إِشارةٌ إِلى كثرة الخيرات وقلَّتها.
والثَّقَلان: الإِنس والجنّ لكثرتهم.
والثقيل والخفيف يستعملان على وجهين:
أَحدهما: على سبيل المضايفة وهو أَلاَّ يقال: الشئ ثقيل أَو خفيف إِلاَّ باعتباره بغيره ولهذا يصحّ للشئِ الواحد أَن يقال له: خفيف إِذا اعتُبر به ما هو أَثقل منه، وثقيل إِذا اعتبر به ما هو أَخفُّ منه.
والثَّانى: أَن يستعمل الثقيل فى الأَجسام المُرجَحِنِّة إِلى أَسفل كالحجر والمَدَر، والخفيفُ فى الأَجسام المائلة إِلى الصّعُودِ كالنَّار والدُّخَان. ومن هذا قوله تعالى {اثاقلتم إِلَى الأرض} .(2/335)
بصيرة فى الثياب والثواب
وقد ورد فى القرآن على ثمانية أَوجه:
الأَوّل: ثوب الفراغ والاستراحة {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} .
الثانى: لباس التجمُّل والزِّينة {أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} .
الثالث: ثياب الغفلة والجراءة {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} .
الرّابع: لصناديد قريش ثوب الاطِّلاع على السرِّ والعلانيةِ {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} .
الخامس: للنبىّ صلَّى الله عليه وسلم ثوب الصلاة والطّهَارة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
السّادس: للكفَّار ثوب العذاب والعقوبة {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} .
السابع: لأَهل الإِيمان ثوب العزِّ والكرامة {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} .
الثامن: للخواصّ ثياب النُّصرة والخُضْرة فى الحضْرة {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ} .(2/336)
وأَصل الثَّوب رجوع الشئِ إِلى حالته الأُولى التى كان عليها، أَو إِلى حالته المقدّرة المقصودة بالفكرة، وهى الحالة المشار إِليها بقولهم: أَول الفكرة آخر العمل.
فمن الرّجوع إِلى الحالة الأُولى قولهم: ثاب فلان إِلى داره، وثاب إِلىَّ نَفْسى. ومن الرّجوع إِلى الحالة المقصودة المقدّرة بالفكرة الثوب، سمّى بذلك لرجوع الغَزْل إِلى الحالة الَّتى قُدِّر لها. وكذا ثوب العمل. وجمع الثوب أَثواب، وثياب.
والثواب: ما يرجع إِلى الإِنسان من جزاءِ أَعماله. فسمّى الجزاءُ ثواباً تصوّراً أَنَّه هو. أَلا ترى أَنه كيف جعل الجزاء نفس الفعل فى قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ولم يقل: ير جزاءَه.
والثواب يقال فى الخير والشر، لكن الأكثر المشهور فى الخير. وكذلك المَثُوبة. وقوله تعالى {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً} فإِنَّ ذلك استعارة فى الشرّ كاستعارة البشارة فيه. والإِثابة يستعمل فى المحبوب {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ} وقد قيل ذلك فى المكروه أَيضاً نحو {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} على الاستعارة كما تقدّم. والتثويب لم يرد فى التَّنزيل إِلاَّ فيما يكره نحو {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} .
وقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} قيل: معناه: مكاناً(2/337)
يثوب النَّاس إِليه على مرور الأَوقات. وقيل: مكاناً يكتسب [فيه] الثَّواب قال الشَّاعر.
وما أَنا بالباغى على الحُبِّ رِشوة ... قبيحٌ هوىً يُبْغى عليه ثوابُ
وهل نافعى أَن تُرْفع الحُجْب بيننا ... ومن دون ما أَمّلتُ منك حجاب
إِذا نلت منك الودّ فالمال هَيّن ... وكل الذى فوق التراب تراب
وقد ورد الثواب فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى جزاء الطَّاعة {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} .
الثانى: بمعنى الفتح والظفر والغنيمة {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} فثواب الدّنيا هو الفتح والغنيمة.
الثالث بمعنى وعد الكرامة {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ} أَى وعدهم.
الرَّابع: بمعنى الزِّيَادة على الزِّيادة {فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ} أَى زَادكُمْ غَمّاً (على غم) .
الخامس: بمعنى الرَّاحة والمنفعة {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة} .(2/338)
بصيرة فى الثمرات
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الفواكه المختلفة {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب} {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} ولها نظائر.
الثانى: عبارة عن كثرة المال {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أَى مال كثير مستفاد. قاله ابن عبّاس.
الثالث: بمعنى الأَولاد والأَحفاد فى قول بعض المفسّرين {وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات} .
الرابع: بمعنى الأَزهار والأَنوار {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} أَى من الأَزهار والأَنوار.
والثَّمَر فى الأَصل اسم لكلِّ ما يُتَطعَّم من أَحمال الشجر، الواحدة ثمرة والثَّمَار نحوه. والثُّمُر هو الثَّمَار. وقيل: هو جمعه. ويكنى به عن المال المستفاد كما تقدّم عن ابن عبّاس. ويقال ثمّر الله ما له أَىْ كثَّره. ويقال لكلّ نفعٍ يصدُر عن شئٍ: ثمرته؛ كقولك: ثمرة العلم العمل(2/339)
الصّالح، وثمرة العمل الصّالح الجنَّة. وثمرة السّوطِ عُقَد أَطرافها تشبيهاً بالثمر فى الهيئة والتدلِّى عنه، كتدلِّى الثمر عن الشجرة.
وأَثمر القومَ: أَطعمهم من الثِّمار. وفى كلامهم: من أَطعم ولم يُثمر كان كمن صلَّى العشاءَ ولم يوتر.
وفيه يقول الشاعر:
إِذا الضّيفانُ جاءُوا قم فقدّم ... إِليهم ما تيسّر ثمّ آثر
وإِن أطعمت أقواماً كراماً ... فبعد الأَكل أَكرمهم وأَثمِر
فمن لم يُثمر الضّيفان بُخلاً ... كمن صلَّى العِشَاءَ وليس يوتر(2/340)
بصيرة فى الثلاث والثلاثة والثلاث وما يشتق منه
وقد ورد كلّها فى القرآن على ثلاثة وعشرين نحواً:
الأَوّل: فى عدد ملائكة النَّصر {بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} .
الثانى: فى عدد سنى أَصحاب الكهف {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} .
الثالث: فى عدد ليالى وَعْد الكليم للمناجاةِ {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} .
الرّابع: فى عدد شهور الحمل والرضاع والفِصَال {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} .
الخامس: فى عدد الحيض أَو الطُّهر للطَّلاق {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} .
السادس: فى عدد ليالى زكريّا للتضرع والدّعاءِ {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} .
السّابع: فى عدد أَيَّامه {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} .
الثامن: فى عدد أَيّام الحجّ للفدْية {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} .
التاسع: أَيّام الصّيام عن الكفَّارة {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} .(2/341)
العاشر: عدد المتخلِّفين عن غزوة تَبُوكَ التَّائبين {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} .
الحادى عشر: عدد أَيّام الوعيد من صالحٍ لقومه بالعذاب {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} .
الثانى عشر: عدد أَصحاب الكهف فى بَدْءٍ الأَمر {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} .
الثالث عشر: عدد أَوقات يكشف به العورة {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ... ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} .
الرابع عشر: أَصناف الْخَلْق فى القيامة {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} .
الخامس عشر: عدد شُعَب درجات جهنم {ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ}
السّادس عشر: فى عدد حُجُب الخلق {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} .
السّابع عشر: فى اعتقاد النَّصارى فى اللاهوت والناسوتِ ورُوح القدس {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} .
الثامن عشر: فى حال اللات والعزَّى ومَناة على اعتقاد أهل الضلالات {وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} .
التاسع عشر: عدد النساء فى حال جواز العقد {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ} .(2/342)
والعشرون: عدد أَجنحة الملائكة {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ} .
الحادى والعشرون: فى بيان قيام اللَّيل للطَّاعة {مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} .
الثانى والعشرون: فى بيان نصيب أَصحاب الفرائض {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} .. {فلأُمّه الثُّلُثُ} .
{فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث} وفيه يقول القائل:
ثلاثة إِخوة لأَب وأُمّ ... وكلهمُ إِلى خير فقيرُ
فحظُّ الأَكثرين الثلْث منه ... وباقى المال أَحرزه الصغير(2/343)
بصيرة فى ثم
[هى] حرف عطف يقتضى تأَخُّر ما بعده عمّا قبله، إِمّا تأْخيراً بالذات أَو بالمرتبة أَو بالوضع. وثُمَّتْ لغة فيه.
وقد ورد فى القرآن على ستَّة أَوجه:
الأَوّل: للعطف {آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} .
الثَّانى: للتعجّب {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} .
الثالث: للابتداءِ {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} .
الرّابع: بمعنى الواو {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} .
الخامس: بمعنى مع {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} .
السّادس: بمعنى قبل {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} ومنه قول الشاعر:
إِنَّ من مات ثم مات أَبوه ... ثمّ قد مات قبل ذلك جَدُّهْ(2/344)
وثَمَّ إِشارة إِلى المتبعّد عن المكان، وهناك للمتقرّب وهما ظرفان فى الأَصل.
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} فهو فى موضع المفعول.
بصيرة فى الثنى والاثنين
[هما] أَصل لمتصرّفات هذه الكلمة. وذلك يقال باعتبار العدد، أَو باعتبار التكرير الموجود فيه، أَو باعتبارهما معاً. يقال: ثَنَى الشَّئَ يَثْنِيه ثَنْياً: ردّ بعضه على بعض، فتثنّى وانثنى. وثَنَيْت كذا ثَنْياً: كنت له ثانياً أَو أَخذت نصف ماله، أَو ضممت إِليه ما صار به اثنين. والثِّنَى: ما يعاد مرّتين. وامرأَة ثِنْىٌ: ولدَت اثنين. والولد يقال له ثِنْىٌ. وثناه ثَنْياً: لواه. قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} وقرأَ ابن عبّاس {يَثْنَوْنِى} مضارع اثْنَوْنَى أَى انعطف. وقوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} عبارة عن النُّكْر والإِعراض، نحو لوى شِدْقَه، ونأَى بجانبه. والاثنان: ضعف الواحد. والمؤنَّث ثنتان. وأَصله ثِنْىٌ لجمعهم إِيّاه على أَثناءٍ. وهو لا يَثْنِى ولا يَثْلِث، أَى كبير لا يقدر أَن ينهض لا فى مرّةٍ ولا فى مرّتين ولا فى الثالثة. والمثانى: القرآن أَو ما ثنِّى منه مرّة بعد مرة أَو فاتحة الكتاب(2/345)
أَو البقرة إِلى براءَة أَو كلّ سورة دون الطُّوَل ودون المئتين وفوق المفصّل، أَو سورة الحجّ والقَصَص والنَّمل والعنكبوت والنُّور والأَنفال ومريم والرّوم ويس والفرقان والحِجْر والرّعد وسبأ والملائكة وإِبراهيم وص ومحمّد ولقمان والغُرَف والزُّخرف والمؤمن والسّجدة والأَحقاف والجاثية والدّخان والأَحزاب. قال الله تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} سمّيت مثانى لأَنَّها تُثْنَى وتكرر على مرور الأَوقات، فلا تنقطع ولا تندرس اندراس سائر الأَشياءِ الَّتى تضمحلّ على ممرّ الأَيّام. المثانى من الوادى: معاطفه، ومن الدّابة: ركبتاها ومِرْفقاها. ولا ثِنَى فى الصّدقة كإِلى، أَى لا تؤخذ مرّتين فى عام، أَولا تؤخذ ناقتان مكان واحدة أَولا رجوع فيها. وثِنْىٌ من اللَّيل: ساعة. والثَّنِيّة: العَقَبة أَو طريقها أَو الجبل أَو الطَّريقة فيه، والشُّهداء الَّذين استثناهم الله عزَّ وجلّ عن الصّعْقة، ومن الأَسنان: الأَربع الَّتى فى مقدّم الفم ثنتانِ من فوقٍ وثنتان من أَسفل، والنَّاقة الطَّاعنة فى السَّادسة والبعير ثَنِىّ، والفرس الدّاخلة فى الرّابعة، والشَّاة والبقرة والدّاخلتان فى الثالثة، والنَّخلة المستثناة من المساومة.(2/346)
والثَّنَاءُ: ما يذكر من محاسن الناس. وقيل: عامّ فى المَدح والذمّ. وقد أَثنى عليه وثنَّى والثِّناءُ الفِناءُ.
بصيرة فى الثقف
ثَقُف يثْقُف كَكَرُمَ يكْرُم، وكَفَرِحَ يَفْرَحُ ثَقْفاً وثَقَفاً وثَقَافةً: صار حاذقاً خفيفاً فَطِناً، فهو ثِقْف وثَقِف، وثَقُفٌ وثَقِيف، وَثِقِّيف كحِبر وحَذِر وحَذُر وعَزِيز وسِكيّر. وثقِفه كسمعه: صادفه، أَو أَخذه، أَو ظفِر به، أَو أَدركه ببصره لحِذْق في النظر. ورمح مثقَّف: مقوَّم. وما يثقف به ثِقَاف. هذا هو الأَصل، ثم تجوّز به فاسْتُعْمِلَ فى الإِدراك وإِنْ لم يكن معه ثقافة؛ كقوله تعالى {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} .
بصيرة فى الثبات
وهو ضِدّ الزَّوال. وقد ثَبَت يثبُت فهو ثابت. ورجل ثَبْت وثَبِيت فى الحرب. والإِثبات والتَّثبيت تارة يقال بالفعل، فيقال لما يخرج من العدم إِلى الوجود؛ نحو أَثبت الله كذا، وتارة لما يثبت بالحكم فيقال: أَثبت الحاكم عليه كذا أَو ثَبَّته. وتارة لما يكون بالقول سواءٌ كان صدقاً أَو كذباً. فيقال: أَثبت التَّوحيد وصدّق النّبوّة، وفلان أَثبتَ مع الله إِلهاً آخر.(2/347)
وقوله: {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} أَى يثبّطوك ويحيروك وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} أَى يقوّيهم بالحجج القويّة. وقوله تعالى: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أَى أَشدّ لتحصيل علمهم. وقيل: أَثبت لأَعمالهم واجتناءِ ثمرة أَفعالهم. ويقال ثبّتُّه أَى قوّيته، قال {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} .
بصيرة فى الثبى
قال تعالى: {فانفروا ثُبَاتٍ} أَى جماعات. والثُّبة والأُثْبِيَّة: الجماعة أَو العُصْبة من الفرسانِ، ووسط الحوض. والجمع ثُبات وثُبُون. والتثبية: الجمع.
بصيرة فى الثرب
ثَرَبه يَثْرِبه ثَرْباً، وثرَّبُه تثريبا وأَثربه: لامَه وعيّره بذنبه. قال: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} وثَرَب المريض يَثْرِبه ثَرْباً: نزع عنه ثوبه. والمُثْرِب: كمُحْسِن القليل العطاء. والمُثرّب مشدّدة: المخلَّط المفسد. والثَّرْب: شحمٌ رقيق يُغَشّى الكَرِش والأَمعاء.(2/348)
وقوله تعالى: {ياأهل يَثْرِبَ} أَى أَهل المدينة يصحّ أَن يكون أَصله من هذه المادّة والياء تكون فيه زائدة.
بصيرة فى الثمن
وهو اسم لما يأْخذه البائع فى مقابلة المَبِيع، عيناً كان أَو سِلْعَة، وكُلّ ما يحصل عوضاً عن شىءٍ فهو ثمنه. والجمع أَثمان وأَثْمُن. وأَثمنه سلعتَه وأَثمن له [أَعطاه ثمنها] وأَثمنت له: أَكثرت له الثمن. وشئٌ ثمين: كثير الثَّمن. والثُّمُنُ والثُّمْن والثَّمِين، جزءٌ من ثمانية، أَوْ يطَّرد ذلك فى هذه الكسور. الجمع أَثمان. وثَمَنَهُمْ كَنَصَرهُم: أَخذ ثُمُن مالِهم، وكضربهم كان ثامنهم. وثمانٍ كيمانٍ: عدد معروف وليس بنسب. والثمانية والثمانون معروفان. والمثمَّن: ما جعل له ثمانية أَركان. وأَثمنوا صاروا ثمانيةً.(2/349)
الباب السادس - فى وجوه الكلمات المفتتحة بالجيم
بصيرة فى الجيم
ويرد فى القرآن والعرف على عشرة أَوجه:
الأَوّل: اسم لحرف شَجْرىّ مخرجه مفتتح الفم قريباً من مخرج الياءِ، يذكَّر ويؤنَّث. وقد جيّمت جيماً حسنة. وجمعه أَجْيام وجيمات.
الثَّانى: اسم للثلاثة من الأَعداد فى حساب الجُمَّل.
الثالث: الجيم الكافية. وهى الَّتى يكتفى بها عن تمام الكلمة فيه فى مثل الجمال والجلال والجنان وغيرها. قال الشاعر:(2/350)
أَلا تتَّقين الله فى جيم عاشق ... له كبد حَرَّى عليك تَقَطَّع
ويروى فى جَنْب عاشق.
الرّابع: الجيم المكرّرة فى نحو بجَّل وأَجَّج.
الخامس: الجيم المدغمة فى مثل حَجَّ، وحِجّة، و {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} .
السّادس: جيم العجز والضَّرورة كجعْل الهندىّ الجيم زاياً.
السّابع: الجيم كناية عن شعور الأَصداغ.
قال الشاعر:
له جيم صدغ فوق عاج مصقل ... كلَيْل على شمس النِّهار يموج
الثامن: الجيم الأَصلى نحو جرم ورجم ومرج.
التَّاسع: الجيم المبدلة من الياءِ المشدّدة نحو أجّل، فى إِيَّل، وعَلجّ فى علىّ، أَو من ياءِ النسب نحو دارجّ فى دارىّ.
قال الشاعر:
يا رب إِن كنت قبلت حِجَّجْ
أَى حجّتى.
العاشر: الجيم اللّغوى قال الخليل الجيم عندهم الجمل المغتلِم قال:
كأَنِّى جيم فى الوغى ذو شكيمة ... ترى البُزْل منه راقعات ضوامرا
وقال أَبو عمرو الشَّيْبَانى: الجيم فى لغة العرب الدّيباج؛ وله كتاب فى اللُّغة سمّاه بالجيم كأَنَّه شبّهه بالدّيباج لحُسْنه. وله حكاية حسنة مشهورة.(2/351)
بصيرة فى الجنة
وهى وما يُشتقّ من مادتها، ترد على اثنى عشر وجها.
الأَوّل: بمعنى التوحيد {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة} قال المفسّرون: أَى إِلى الإِيمان.
الثانى: بمعنى بستان كان باليمن {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة} .
الثالث: بمعنى أَخوين من بنى إِسرائيل {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} الآية.
الرَّابع: بمعنى البساتين المحفوفة بالأَشجار والمياه الجاريات {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .
الخامس: بمعنى رياض الرَّوح والرّضوان. وبساتين الأَحباب والإِخوان {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض} وهى أَربع جنان. ثنتان للخواصِّ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وثنتان لعامّة المؤمنين {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} وإِحدى هذه الأَربع جنَّة النَّعيم {إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم}(2/352)
{أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} والأُخرى جنَّة الْمَأْوَى {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} .
والثالثة: جنَّة عَدْن {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} .
الرّابعة: جنَّة الفِرْدَوْسِ {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} ومن جملة الجنان دار السلام، ودار الخلد، وعِلِّيُّون تكملة السبع.
السّادس: الجِنَّة - بكسر الجيم - بمعنى الجنّ {مِنَ الجنة والناس} {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس} .
السابع: الجِنَّة بمعنى الجنون {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} .
الثامن: الجَنَّ بمعنى السَّتر عن الحاسّة. يقال: جَنَّه اللَّيل وأَجَنَّه، وجَنّ عليه فَجُنَّ: ستره وأَجَنَّه: جعل له ما يَجنه وجَنَّ عليه كذا، ستره. والجَنَانُ: القلبُ لكونه مستوراً عن الحاسّة، والمِجنّ والجُنَّة: التُّرْسُ الَّذى يَجُنّ صاحبه.
التَّاسع: الجنين بمعنى الطَّفل فى بطن أُمّه {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ} والجَنِين أَيضاً: القبر فعيل بمعنى فاعل. والأَول بمعنى مفعول.
العاشر: الجِنّ. ويقال على وجهين.(2/353)
أَحدهما: للرّوحانيّين المستَترةِ عن الحوّاسّ كلِّها بإِزاءِ الإِنس. فيدخل فيه الملائكة والشياطين. وكل ملائكةٍ جِنٌ وليس كلّ جنّ ملائكة. وقيل: بل الجِنّ بعض الروحانيين. وذلك أَن الرّوحانيّين ثلاثة: أَخْيَارٌ وهم الملائكة، وأَشرارٌ وهم الشياطين، وأَوساطٌ فيهم خيار وشِرار وهم الجِنّ. ويدلّ على ذلك قوله تعالى {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} إِلى قوله {ومِنَّا القَاسِطُون} . (والجنون أَمر حائل بين النَّفس والعقل) .
الحادى عشر: الجانّ بمعنى الحيّة الصغيرة {كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً} .
الثانى عشر: الجانّ بمعنى أَب الجنّ {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ} وقيل هو نوع من الجنّ.
الثالث عشر: الجُنَّة التُرْس العريض الوسيع الَّذى يختفى الرّاجل وراءَه {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} .(2/354)
بصيرة فى الجرم وما من مادته
وقد ورد فى القرآن على ستَّة أَوجهٍٍ:
الأَوّل: الْجُرْم بمعنى الشرك، والمجرم بمعنى المشرك {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} وقيل المراد أَبو جهل وأَصحابه.
الثانى: الْجُرم بمعنى اعتقاد أَهل القَدَر، والمجرم القَدَرىّ {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} قال محمّد بن كعب: هم القَدَريّة.
الثالث: بمعنى الفاحشة أَى اللِّواطة. والمجرم اللُّوطىّ {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} أَى المشتغلين بها.
الرّابع: بمعنى حمل العداوة {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي} أَى لا يحملنَّكم خلافى {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} .
الخامس: لا جرم بمعنى حَقاً {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون}(2/355)
و {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} أَى ليس بجُرْم لنا أَنَّ لهم النَّار، تنبيهاً أَنَّهم اكتسبوها بما ارتكبوه.
السّادس: بمعنى الإِثم والذنب والزَّلَّة {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أَى فعلىّ إِثمى. وأَصل الجَرْم قطع الثمرة عن الشَّجرة. والجُرامة: ردئ الثمر المجروم، وجعل بناؤه بناءَ النُّقَاية. واستعير ذلك لكلّ اكتساب مكروه، ولا يكاد يستعمل فى الكسب المحمود، والجِرْم فى الأَصل المجرومُ؛ نحو نِقْض ونِفض للمنقوض والمنفوض، وجعل اسماً للجسم المجروم. وقولهم فلان حسن الجِرْم أَى اللون فحقيقته كقولك: حسن السَحْنَاء. وأَمّا قولهم: حسن الجِرْم أَى الصّوت فالجِرم فى الحقيقة إِشارة إِلى موضع الصّوت لا إِلى ذات الصّوت، ولكن لمّا كان المقصود بوصفه بالحسن هو الصّوت فُسِّر به، كقولك: فلان طيّب الحلْق، وإِنَّما ذلك إِشارة إِلى الصّوت لا إِلى الْحلْق. وقيل: الفرق بين الجرْم والجسم أَنَّ الجسم يطلق على الأَشخاص الكثيفة، والجِرْم على الموجودات اللَّطيفة كَجرْم الفلك وجرْم الكواكب.(2/356)
بصيرة فى الجار
وقد ورد فى القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى المجير والمعين {وإِنِّى جارٌ لَكُمْ} أَى معين.
الثَّانى: بمعنى طلب الجِوار {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} .
الثالث: بمعنى القضاءِ {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أَى يقضى ولا يقضَى عليه.
الرّابع: بمعنى القريب الدّار {والجار الجنب} أَى القريب الأَجنبىّ، وفى الحديث "الجار أَحقّ بصَقَبه" وفيه "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم جاره" وقيل: مكتوب فى التَّوراة: حُسْن الجوار، يَعْمُرُ الدّيار، ويطوّل الأَعمار، ويؤبّد الآثار. والجَوْر على الجار، يخرّب الدّيار، وينقص الأَعمار ويمحو الآثار. قال الشاعر:
إِنِّى لأَحسد جاركم لجوراكم ... طوبى لمن أَمسى لدارك جارا
يا ليت جاركَ باعنى من داره ... شِبْراً فأُعطيَه بشِبرٍ داراً(2/357)
والجار من الأَسماءِ المتضايفة؛ فإِن الجار لا يكون جاراً لغيره إِلاَّ وذلك الغير جار له كالأَخ والصديق.
ولمّا استُعظم حقّ الجار عقلاً وشرعاً عُبّر عن كلّ من يعظم حقُّه أَو يستعظم حقّ غيره بالجار كقوله {والجار ذِي القربى والجار الجنب} وباعتبار القُرب قيل: جار عن الطَّريق. ثمّ جُعل ذلك أَصلا فى كلّ عدولٍ عن الحقّ فبنى منه الجَوْر. قال تعالى: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أَى عادل عن المَحَجّة. وقيل: الجائر [من الناس] : الممتنع من التزام ما أَمَر به الشَّرع.
بصيرة فى الجب
وهو البئر التى لم تُطْوَ قال تعالى: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} وتسميته بذلك إِمّا لكونه محفورا فى جَبُوب أَى فى أَرضٍ غليظة، وإِمّا لأَنَّها قد جُبّت، والجَبّ قطع الشئِ من أَصله كجبّ النَّخل. ويقال: زمن الجِبَابِ كما يقال زمن الصِرَام. وبعيرٌ أَجَبّ: مقطوع السّنام. وجَبَّت المرأَة النساءَ أَى غلبتْهُنّ حُسْناً. استعارة من الجَبّ الَّذى هو القطْع. والجُبّة الَّتى هى اللَّباس منه أَيضاً. وبه شُبِّه ما دخل فيه الرّمحُ من السّنان.(2/358)
بصيرة فى الجبت
الجِبْتُ والجِبْس: الفَسْل الَّذِى لا خير فيه. وقيل التَّاءُ بدل تنبيهاً على مبالغته فى الفُسُولة كقول الشاعر:
عَمرْو بنَ يربوع شرارَ النَّات
أَى خِساس الناس.
ويقال لكلّ ما عُبِد من دون الله تعالى: جِبْت. قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} وقد يسمّى السّاحر والكاهن جبْتاً.(2/359)
بصيرة فى الجبار والجبر
وقد ورد الجبّار فى القرآن على أَربعة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى القهَّار {العزيز الجبار المتكبر} وقيل: هذا من قولهم جَبَرتُ الفقير، لأَنَّه يَجْبر النَّاس بفائض نِعَمه {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} .
الثانى: بمعنى القَتَّال بغير حقّ {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} {يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أَى قَتَّال.
الثالث: بمعنى الزيادة فى القُوّة والشدّة وطول القَدّ والقامة {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} أَى أَقوياء عِظَام الأَجسام. ومنه نخلةٌ جَبَّارة.
الرّابع: بمعنى المتكبّر {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أَى متكبراً {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
والمادّة موضوعة لإِصلاح الشئِ بضرب من القهر. يقال: جبرته فانجبر واجتبر. وقد قيل، جَبَرته فجَبَر، قال الشاعر:
قد جَبَرَ الدينَ الإِلهُ فَجَبَرْ
وقيل الثَّانى تأْكيد للأَوّل أَى قَصَد جَبْره فتمَم جَبْرَه. وقد يستعمل(2/360)
الجَبْر فى الإِصلاح المجرّد؛ كقول أَمير المؤمنين على: يا جابرَ كل كسير، ومُسَهِّلَ كلّ عسيرٍ، ومنه قولهم للخُبْز: جابر بن حَبَّة. ويستعمل تارة فى القهر المجرّد نحو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم "لا جَبْر ولا تفويض".
والجَبْرُ فى الحساب: إِلحاق شيءٍ به إِصلاحاً لما يريد إِصلاحه. وسمّى السّلطان جَبْراً كقول الشاعر:
وانعم صباحاً أَيّها الجَبْر
لقهره النَّاس على ما يريده أَو لإِصلاح أُمورهم. والإِجبار فى الأَصل حَمل الغير على أَن يَجبر الأَمر، لكن تعورف فى الإِكراه المجرد فقيل: أَجبرته على كذا، كقولك: أَكرهته. وسُمّى الذين يدَّعون أَن الله يُكره العباد على المعاصى فى عرف المتكلِّمين مُجْبِرة. وفى قول المتقدّمين: جَبَريِّةٌ وجَبْرِيَّةٌ.
والجَبّار فى حَقّ الإِنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادّعاءِ منزِلة من التَّعالى لا يستحقّها. وهذا لا يقال إِلاَّ على طريق الذَّمّ. وما فى الحديث "ضِرْسُ الكافر فى النَّار مثل أُحُدٍ، وغِلَظ جلده أَربعون ذراعاً بذرَاع الجبّار" قال ابن قتيبة: هن الذراع المنسوب إِلى الملِك، الَّذى يقال له ذراع الشَّاه. والجُبَار كغراب الهَدَرُ فى الدّيات، والسّاقطُ من الأَرْشِ. قال:
وشادنٍ وجهه نهارُ ... وخدّه الغَضّ جُلَّنار
قلت له قد جرحت قلبى ... فقال جُرْح الهَوَى جُبَار(2/361)
بصيرة فى الجبل
وجمعه أَجْبُل وجِبال. وقد ورد فى القرآن على عشرين وجهاً.
الأَوّل: جبَال المَوْج للسلامة فى حقّ نُوح، والهَلَكةِ فى حقّ المشركين من قومه {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال} .
الثانى: جبال ثَمُود للمهارة والحِذَاقة {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} وفى موضع {فَارِهِينَ} .
الثَّالث: محلّ موسى حال الرؤية {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} .
الرابع: جَبَل إِبراهيم لإِظهار القدرة والإِحياء بعد الإِماتة {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} .
الخامس: جبل بنى إِسرائيل لقبول الأَمر والشريعة {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} .
السّادس: الجبل المذكور لتأْثير المَكْر والحِيلة من القرون الماضية {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} .
السّابع: جبل النَحْل لتحصيل العَسَل للشِّفاءِ والرّاحة {أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً} .(2/362)
الثامن: المذكور للكنّ والكفاية {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} .
التاسع: المذكور لقهر المتكبّرين عن الرّعونة والتكبّر {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} .
العاشر: تَزَعْزُعُ الجبال بياتاً لصعوبة حال القيامة {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} .
الحادى عشر: المذكور للمتكبّرين والمدّعين لإِظهار السّياسة {وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} .
الثانى عشر: السّؤال عن حال الجبال وبيان صعوبتها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} .
الثالث عشر: المذكور بالتَّسبيح موافقةً لداود عليه السّلام {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال} {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} .
الرّابع عشر: المذكور للانقياد وموافقته للشجر والنجوم إِظهارا للخدمة {والشمس والقمر والنجوم والجبال} .
الخامس عشر: جبال البَرَد والمَطَر {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} .(2/363)
السّادس عشر: الإِخبار عن حال الجبال فى القيامة لبيان الحيرة والدّهشة {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ} .
السّابع عشر: المذكور لِعَرْض الأَمانة {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} .
الثامن عشر: المذكورة فى سورة الواقعة والحاقَّة والقارعة لتأْثير صعوبة القيامة {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} .
التَّاسع عشر: المذكور لتثبيت الأَرض وتسكينها {والجبال أَرْسَاهَا} .
العشرون: لبيان برهان الموحّدين {وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ} .
وقد ذكر الله تعالى للجبال فى القرآن خمس مناقب.
الأَوّل: الاندكاك {جَعَلَهُ دَكّاً} .
الثَّانى: الانشقاق {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} .
الثَّالث: الإِشفاق {وأَشْفَقن منها} .
الرّابع، والخامس: الخشوع والخشية {لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله} .(2/364)
وفى بعض الآثار: إِن الله تعالى زيّن السّماءَ بالكواكب، والكواكبَ بالأَنوار. والأَنوارَ بالحَدَق تنظر إِليها. فإِذا انتثرت الواكب أَتى أَهل السّماء ما يوعدون وزيّن الأَرض بالجبال، والجبالَ بالمعادن، والمعادنَ بالمنافع، والمنافعَ بانتفاع الخَلْق بها، فإِذا انشقَّت الجبالُ أَتى أَهلَ الأَرض ما يوعدون.
ويقال: فلان جبل لا يتزحزح تصوّراً لمعنى الثبات فيه. وجَبَله الله على كذا إِشارة إِلى ما رُكِّب فيه من الطبع الَّذى يأْبى على النَّاقل نقلُه.
وتُصوّر منه معنى العِظَم فقيل للجماعة جِبِلّ {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} أَى جماعة تشبيهاً بالجَبَل فى العظم. وقرئ: جِبْلاً وجِبِلاً مخفَّفاً ومثقَّلاً. وقوله تعالى {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} أَى المجبولين على أَحوالهم الَّتى بُنُوا عليها، وسبيلهم التى قُيّضوا لسلوكها المشار إِليها بقوله {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} .(2/365)
بصيرة فى الجبين
وهما جَبِينان من جانبى الجبهة قال تعالى {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} .
والجُبْن: ضعف القلب عمّا يحقّ أَن يُقَوّى فيه. ورجل جَبَان وامرأَة جبان. وأَجبنته: وجدته جباناً، وحكمتُ بجبنه.
بصيرة فى الجبهة
وهى موضع السّجود من الرّأْس. وقيل: مُستوَى ما بين الحاجبين إِلى النَّاصية. قال تعالى {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ} والجَبْهة أَيضاً: سيّد القوم، ومنزل للقمر، والخَيْلُ. وفى الحديث "ليس فى الجَبْهَة صَدَقة" والجبهة: القمر، واسمُ صنم، والمَذلَّةُ. والأَجْبهُ: الأَسَد، والواسع الجبهة الحَسَنُها أو الشاخصها وهى جَبْهَاءُ. وفى الحديث "شكونا إِلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حَرّ الرَّمضاء فى جِباهنا فلم يُشْكنا" أَى لم يُزِل شكوانا. ومن تسبيح الملائكة: سبحان من سجدت له الجباه، سبحان من تحرّكت بذكره الشِّفاه، سبحان من سبّحت له الأَلسنة فى الأَفواه، سبحان من بقدرته يتفجّر الصّخور بالأَمواه.(2/366)
بصيرة فى الجبى
وهو جَمْع الماءِ فى الحوض. والموضع الجامع له جابية. وجمعا جَوَابٍ؛ كقوله تعالى {وَجِفَانٍ كالجواب} وعنه استعير جَبَيت الخراج جِبَايةً. ومنه قوله تعالى {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} أَى يقولون: هَلاَّ احتبيتها تعريضاً منهم بأَنَّك تخترع هذه الآيات وليس من عند الله.
واجتباءُ الله العبد تخصيصيه إِيّاه بفيض إِلهى يتحصّل له من أنواع من النِّعم بلا سعىٍ. وذلك للأَنبياءِ ولبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداءِ. قال تعالى: {يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} .
بصيرة فى الجث
وهو القَلْع يقال: جَثَثْته فانجثَّ، وجَثَثته فاجتثَّ. قال تعالى: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} أَى اقتُلعت جثتها. والمِجَثَّة: ما يُجثّ به. وجُثَّة الشئِ: شخصه الناتئ. والجُثّ: ما ارتفع من الأَرضِ كالأَكَمَة.(2/367)
بصيرة فى الجثى
وجثا كدَعَا ورمى جُثوّا وجُثِيَّا بضمِّهما: جلس على ركبتيه، أَو قام على أَطراف أَصابعه. وأَجثاه غيره. وهو جاثٍ والجمع جُثِىّ وجِثِىّ. وجاثيت رُكْبتى إِلى ركبته، وتجاثَوْا على الرُكَب. والجَثَاء كسحاب: الشخص - ويُضم - والجزاءُ والقَدْر والزُّهَاءُ. وجَثَوث الإِبل وجَثَيْتها: جمعتها
وقوله تعالى: {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} [يصح أَن يكون] جمعا [وأَن يكون مصدراً موصوفا به] .
بصيرة فى الجثم
قال تعالى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} وهو استعارة للمقيمين من قولهم: جَثَم الطائر إِذا قعد ولطئ بالأَرض. والجُثْمان: شخص الإِنسان قاعداً. وجُثْمانِيّة المَاء: وَسَطه أَو مجتمعهُ. والجثَّامة: السيّد الحليم والرّجل البليد والنَئُوم الكسلان الَّذى لا يسافر. وكذلك الجُثَمة والجُثَم والجاثوم.(2/368)
بصيرة فى الجحد
وهو نَفْى ما فى القلب ثَبَاتُه، أَو إِثباتٌ ما فى القلب نفيه. قال تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} وتَجَحّد تخصّصَ بفعل ذلك. يقال: رجل جَحْد: شحيح قليل الخير يظهر الفقر. وأَرض جَحْد: قليلة النبت.
بصيرة فى الجحم
والجَحْمة: شدَّة تأَجّج النَّار. ومنه الجحيم وهو النَّار الشديدة التأَجُّج. وكل نار بعضُها فوق بعض جحِيم وجَحْمَة وجُحْمة. وجَحَمهَا: أَوقدها فجُحمَت جُحوماً أَى عظمت. وجحِمتْ - كعلمتْ - جَحَماً وجُحْماً وجُحوماً: اضطرمت. والجاحم: الجَمْر الشَّديد الاشتعال والمكانُ الشَّديد الحَرّ، ومن الحرب: معظمُها. وتجاحم: تحرّق حِرْصاً وبُخلاً. والجُحُم - بضمّتين - القليل الحياءِ. وفى بعض الآثار أَنَّ دَرَكات النَّار سبعة: هاويةُ للفراعنة، ولَظى لعبدة الأَوثان، وسَقر للمجوس، والجحيم لليهود، والحُطَمة للنَّصارى، وسعير للصّابئين، وجهنَّم لعصاة المؤمنين.(2/369)
وورد الجحيم فى القرآن على وجهين:
أَحدهما: بمعنى النَّار الَّتى أَوقدها نمرُود اللَّعين للخليل إِبراهيم عليه السّلام {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} .
الثَّانى: بمعنى النار الَّتى أَعَدّها الله للمجرمين والكفَّار {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} ولهذا نظائر.
بصيرة فى الجد
وورد فى القرآن والأَخبار واللُّغة على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى أَبِ الأَبِ وأَب الأُمّ، وبمعنى البَخت، وبمعنى العظمة، وبمعنى الحَظِّ، وبمعنى القَطْع. وهو أَصل الكلمة. وجددتُ الثوب إِذا قطعته على وجه الإِصلاح، وثوب جديد أَصله المقطوع ثمّ جعل لكلّ ما أُحدث إِنشاؤه. وقال تعالى: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} إِشارة إِلى النَّشأة الثانية. وقوبل الجديد بالخَلَق لمّا كان المقصود بالجديد القريب العهد بالقطع من الثوب، ومنه قيل لِلَّيل والنَّهار: الجديدان والأَجَدَّان.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ} جمع جُدَّةٍ أَى طريقة ظاهرة، من قولهم: طريق مجدودٌ أَى مسلوك مقطوع. ومنه جادّة الطَّريق. وسمّى الفيض الإِلهىُّ جَدّاً. قال تعالى: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} أَى(2/370)
فَيضه. وقيل: عظمته وهو يرجع إِلى الأَوّل، وإِضافته إِليه على سبيل اختصاصه بملكه. وسمّى ما جعله الله للإِنسان من الحظوظ الدنيويّة جَدّاً وهو البخت فقِيل جُدِدْت حَظِظْتُ.
وقوله "لا ينفع ذا الجَدّ منك الجد" أَى لا يُتوصّل إِلى ثواب الله فى الآخرة بالجَدّ، وإِنَّما ذلك بالجِدّ فى الطّاعة. ومنه قولهم: الأَمرُ بالجَدّ لا الجِدّ يعنون الأُمور الدّنيوية.
قال الشاعر:
وما بالمرءِ من عيبٍ وعار ... إِذا ما النَّائبات إِليه قَصْدُ
بجَدّك لا بجِدّك ما تلاقى ... وما جِدُّ إِذا لم يُغْنِ جَدُّ
وللشافعى:
أَرى هِمم المرءِ اكتئاباً وحسْرة ... عليه إِذا لم يُسْعدِ الله جَدّه
وما للفَتى فى حادثِ الدّهرِ حيلةً ... إِذا نَحْسُه فى الأَمر قابل سعدَه
وقيل: فى معنى (لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ) أَى لا ينفع أَحداً نسبُه وأُبوته. فكما نفى نفع البنين فى قوله {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} كذلك نفى نفع الأُبوّة فى هذا الحديث: قال الشاعر:
الجَدّ والجِدّ مقرونان فى قَرَنٍ ... والجَدّ أَوجد للمطلوب وِجْداناً(2/371)
بصيرة فى الجدر
والجِدار كالحائط، إِلاَّ أَنَّ الحائط يقال اعتباراً بالإِحاطة، والجدار يقال اعتباراً بالنتوءِ والارتفاع. وجمعه [جُدُر، وجُدُورٌ وجُدْران] .
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى حصار بنى قُرَيْظَة والنَّضير {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} .
الثانى: جدار موسى والخَضِر {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} .
الثَّالث: سرّ الجدار فى حقِّ اليتيمين {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ} .
وجدَدْت الجدار: رفعته. واعتُبر فيه معنى النتوءُ فقيل: جَدَر الشَّجرُ إِذا خرج ورقُه. ويسمّى النبات الناتئ من الأَرض جَدَراً، الواحدة جَدَرَة. وأَجدرت الأَرضُ: أَخرجت ذلك. وجُدِر الصبىّ وجَدّر إِذا خرج جُدَرِيُّهُ تشبيهاً بجَدَر الشجر. والجَيْدَر: القصير، اشتُقّ من الجدار وزيد فيه حرف على سبيل التهكُّم. والجَدِير المنتهَى لانتهاءِ الأَمر إِليه كانتهاءِ الشَّئِ إِلى الجدار. وقد جَدُر بكذا - ككرمَ - فهو جَدِير، وما أَجدره بكذا وأَجْدِرْ به.(2/372)
بصيرة فى الجدال
وهو المعارضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأَصله من جَدَل الحَبْل: أَحكم فَتْله؛ كأَنَّ كلا من المتجادلين يفتِل الآخر عن رأيه.
وقد ورد فى القرآن على وجوه مختلفة:
الأَوّل: معارضة نوح وقومه {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا} .
الثانى: مجادلة أَهل العُدْوان {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ} .
الثالث: جدال إِبراهيم والملائكة فى باب قوم لوط {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} .
الرّابع: جدال صناديد قريش فى إِثبات إِله العالمين {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} وجدال الكفَّار فى باب القرآن {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله} وجدال المنكِرين فى إِنكار الحجّة والبرهان، بالشُّبهة والبطلان {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} وجِدَالُ النبىّ صلّى الله عليه وسلَّم فى باب الخائنين من المنافقين {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} وجدال الصّحابة فى حقِّهم {هَا أَنْتُمْ هاؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ} وجدال النبىّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَهل الكتاب(2/373)
باللّطف والإِحسان {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} وجدال الصّحابة إِيّاهُمْ {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} وجدال بمعنى الخصومة بين الحُجَّاج {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وجدال ابن الزِّبَعْرَى فى حقّ عيسى وعُزَير والأَصنام {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} وجدال موجودٌ فى جِبلَّة الإِنسان {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} .
وقيل الأَصل فى الجدل: الصّراع وإِسقاط الإِنسان صاحبه على الجَدَالة أَى الأَرض الصُّلبة. والأَجدل: الصّقر المحكَّم البنْية. والمِجْدَل: القصر المحكَم البناء.
بصيرة فى الجذ
وهو كسر الشئِ وتفتيته. ويقال لحجارة الذهب المكسورة ولُفتات الذهب: جُذاذٌ. قال تعالى {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أَى كِسَراً وقِطَعاً. قال الشاعر:
شِمْ ما انتَضيْت فقد تركت غِرارَه ... قِطَعاً وقد ترك العباد جُذَاذاً
وقوله تعالى: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أَى غير مقطوع عنهم ولا مخترم ولا منقوص.(2/374)
بصيرة فى الجذع
وهو واحِدُ جذوع النَّخل. وفى المثل: خُذْ من جِذع ما أَعطاك، يضرب فى اغتنام ما يجود به البخيل. وقيل: المراد بالجذع فى المثل جذع بن عمرو الغَسّانى، كان من أَبخل النَّاس. قال تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} .
بصيرة فى الجذوة
وهى - بتثليث - الجيم - القَبْسة من النَّار. والجذوة أَيضاً: الجمرة. والجذوة أَيضاً: الَّذى يبقى من الحطب بعد الالتهاب. والجمع جِذاً وجَذاً وجِذَاءٌ كرِشاءٍ. قال تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وأَجْذتِ الشجرة صارت ذات جذوة. والجذَاة - كقناة - أُصول الشجر العظام. والجمع جِذَاء كجبال.(2/375)
بصيرة فى الجرح
وهو كلّ أَثرٍ دامٍ فى الجلد. جَرَحه جَرْحاً فهو جريح مجروح. وسمّى القَدْح فى الشاهد جَرْحاً تشبيهاً به. وتسمّى الصّائدة من الفهود والكلاب جارحة، والجمع جوارح: إِمّا لأَنها تَجْرح، وإِمّا لأَنَّها تكسِب. وسمّى الأَعضاء جوارح لأَحد هذين. والاجتراح: اكتساب الإِثم. وأَصله من الجِرَاحة؛ كما أَنَّ الاقتراف من قرف القَرْحة.
وورد الجرح فى القرآن على معنيين:
الأَوّل: الجَرْح بمعنى الكسب {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ} أَى الكواسب.
الثانى: بمعنى الجراحة {والجروح قِصَاصٌ} قال الشاعر:
رميتكِ من حكم القضاءِ بنظرة ... ومالى عن حكم القضاءِ مَنَاصُ
فلمّا جَرحْتُ الخَدّ منكِ بنظرة ... جَرحتِ فؤادى والجروح قصاص(2/376)
بصيرة فى الجراد
وهو معروف. ويجوز أَن يجعل أَصلاً يشتقّ من فعله جَرَد الأَرض. ويصحّ أَن يقال: سُمّى بذلك لجردهِ الأَرض من النبات. يقال: أَرض مجرودة أَى أُكِل ما عليها حتَّى تَجَرَّدت، وفرس أَجرد: منحسِر الشعر، وثوب جَرْد أَى خَلَق وذلك لذهاب زهرته وقوّته. وروى "جَرِّدوا القرآن" أَى لا تُلبِسُوهُ شيئا آخر ينافيه. وجَرِد الإِنسانُ - كفرح - شَرِى جِلدُه من أَكل الجراد. قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد} وفى بعض الآثار ما معناه: إِنَّ لله ثلثمائة أَلف جُنْدٍ أَحدها الجرادُ، فإِذا أَراد فناء العالم بدأ بالجراد فأَهلكه فإِذا هلك الجراد هلك الجميع بعده. وكان عمر - رضى الله عنه - إِذا قلّ الجراد يحزن خوفاً منه على قرب زوال الدّنيا.
بصيرة فى الجرز
قال تعالى: {صَعِيداً جُرُزاً} أَى منقطِع النبات من أَصله. وأَرض مجروزة: أُكِل ما عليها. والجُرُوز: الَّذى يأْكل ما على الخِوَان. والجارِز: الشديد من السُّعال، تُصوّر منه معنى الجَرْز وهو قطع الشَّيءِ بالسّيف. وسَيفٌ جُرَازٌ - كغراب -قَطَّاع.(2/377)
بصيرة فى الجرف
قال تعالى: {على شَفَا جُرُفٍ هارٍ} يقال للمكان الَّذى يأْكله الماءُ فيجْرُفه أَى يذهب به: جُرُف وجُرْف. وقد جَرف الدّهر ماله أَى اجتاحَه تشبيهاً به. ورجل جُرَاف - كغراب - نُكَحة كأَنَّه يَجْرُف فى ذلك العمل.
بصيرة فى الجرى
وهو المرّ السّريع، وأَصله لمرّ الماءِ ولما يجرى بجريه. جرى يجرى جِرْية وجَرَيَاناً وجَرْياً.
وقوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} وقوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} أَى فى السّفينة التى تجرى فى البحر. وجمعها جَوَارٍ. قال تعالى: {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر} ويقال للحوصلة: جَرِّيَّة إِمّا لانتهاءِ الطَّعام إِليه فى جَرْيه، أَو لأَنَّه مَجْرَى الطَّعَام. والإِجريَّا: العادة التى يجرى عليها الإِنسان. والجَرِىُّ: الوكيل والرّسول الجارى فى الأَمر، وهو أَخصّ من الرّسول والوكيل. وقد جرَّيتُ جَرِيّاً: أَرسلت رسولاً. وقوله عليه(2/378)
السلام: (لا يستجرينَّكم الشَّيطان) يصحّ أَن يدّعى فيه معنى الأَصل أَى لا يحملنَّكم أَن تجروا فى ائتماره وطاعته، ويصحّ أَن تجعله من الجرَى أَى الرّسولِ والوكِيل ومعناه: لا تتولَّوْا وكالة الشيطان ورسالته.
بصيرة فى الجزء
جُزْءُ الشئ: ما يتقوّم به جُملته كأَجزاءِ السّفينة وأَجزاءِ البيت وأَجزاء الجملة من الحساب.
وقوله {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أَى نصيب وذلك [جزءُ] من الشئ. وقوله {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أىَ نصيبا من الأَولاد، وقيل: ذلك عبارة عن الإِناث من قولهم: أَجزأَت المرأَة: ولدتْ أُنثى. وجَزَأَ الإِبلُ مَجْزأً وجَزْءًا: اكتفى بالبقل عن شرب الماءِ. وجُزْأَة السّكين: العُود الَّذى فيه السِّيلان، تصوّراً أَنَّه جزءٌ منه. وفى الأَثر: إِنَّ الله تعالى جزَّأَ الدنيا على ثلاثة أَجزاء. فجزءٌ للكافر، وجزءٌ للمنافقين، وجزءٌ للمؤمن. فالكافر يتمتَّع، والمنافق يتزيّن، والمؤمن يتردّد. وقيل: إِنَّ الله تعالى جعل العقل أَلف جزءٍ أَعطَى منها تسعمائة وتسعين لمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وفرّق جزءاً واحداً على جميع الخلائق وضرب الله له من ذلك الجزءِ نصيبا، قال الشاعر:
فهِى أَلفُ جزءٍ، رأْيُه فى زمانه ... أَقَلُّ جُزَىْءٍ بعضُه الرَّأْى أَجمعُ(2/379)
بصيرة فى الجزاء
وهو الغَنَاءُ والكفاية والمكافأَة بالشئِ وما فيه الكفاية من المقابلة إِنْ خيراً فخير وإِنْ شرّاً فشرٌّ.
وقد ورد فى القرآن على ستَّة أَوجهٍ:
الأَوّل بمعنى: المكافأَة والمقابلة {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أَى تقابل.
الثَّانى بمعنى: الأَداءِ والقضاءِ {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} أَى لا تَقْضِى ولا تؤدّى.
الثالث بمعنى: الغُنْية والكفاية {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} .
الرَّابع بمعنى: العِوَض والبَدَل {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} أَى فبدلُه ومبدله.
الخامس: خَرَاج أَهل الذِّمّة {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} السَّادس بمعنى: ثواب الخير والشرّ {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ثمّ يختلف. فالجزاءُ على الإِحسان {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} وجزاءُ السيئة {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ(2/380)
سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} والجزاءُ على شكر النِّعم {إِنَّ هاذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} وجزاءُ الصَّبر على البلاءِ والابتلاءِ {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} {يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} وجزاء العمل الصَّالح وكسب الخيرات {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وجزاءُ كسب السيّئات وعمل المعاصى {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وجزاءُ الوَرَع والتَّقوى {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} وجزاءُ عَدَاوَةِ أَهل الحقّ {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار} وجزاءُ القول الباطل {اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق} وجزاءُ الجامعين بين الإِساءَةِ والإِحسان {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} وجزاءٌ على خزائن الخاص {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وجزاءٌ عطائىّ بلا واسطةِ عِلَّةٍ ووسيلةٍ عنديّة {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} .
وسمّيت ما يؤخذ من أَهل الذِّمة جزية للاجتزاءِ بها فى حَقْنِ دمهم. ويقال: جازيك فلان أَى كافيك. قال بعض المفسّرين: لم يجئ(2/381)
إِلاَّ جَزَى دون جازى. وذلك أَنّ المجازاة هى المكافأَة والمكافأَة مقابلة نعمةٍ بنعمةٍ هى كفؤها، ونعمة الله تتعالى عن ذلك. ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأَة فى الله تعالى.
بصيرة فى الجس
قال تعالى {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} وأَصل الجَسّ مَسُّ العِرْق وتَعَرُّف نَبْضه للحكم به على الصحّة والسّقم. وهو أَخصّ من الحَسّ؛ فإِنَّ الحَسّ تعرُّف ما يدركه الحسّ والجسُّ تعرُّف حال ما من ذلك. ومن لفظ الجَسّ اشتقّ الجاسوس.
بصيرة فى الجسد
وهو كالجسم إِلاَّ أَنّه أَخصّ. قال الخليل: لا يقال الجسد لغير الإِنسان من خَلْق الأَرض ونحوه. وأَيضاً فإِنَّ الجسد يقال لما له لونٌ والجسم لما لا يبين له لَوْن كالماءِ والهواءِ.
وورد فى القرآن على ثلاثة وجوه.
الأَوّل بمعنى: الشيطان {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً} أَى شيطاناً.
الثانى بمعنى: صورة لا روح فيها {عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} .
الثالث بمعنى: البَدَن {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} وباعتبار(2/382)
اللَّون قيل للزعفران: جِسَادٌ، وثوبُ مُجَسّد: مصبوغ به. والجَسَد والجاسد: ما يبِس من الدّم. والجسم ماله طول وعرض وعمق، ولا يخرج أَجزاءُ الجسم عن كونها. أَجساماً وإِن قُطِعَ وجزِّئ. وقوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} تنبيهاً أَن لا وراءَ الأَشباح معنى معتدّ به. والجُسْمان هو الشخص والشخص قد يخرج عن كونه شخصاً بتقطيعه وتجزئته بخلاف الجسم.
بصيرة فى الجعل
ويرد فى القرآن وكلامهم على ثلاثة عشر وجها.
الأَوّل بمعنى: التَّوَجّه والشُّروع فى الشئِ. يقال: جعل يفعل كذا وطفِق وأَنشأَ وأَخذ وأَقبل يفعل كذا أَى اشتغل به.
الثانى بمعنى: الخَلْق {وَجَعَلَ الظلمات والنور} {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} .
الثالث بمعنى: القول والإِرسال {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أَى قلناه وأَنزلناه.
الرّابع بمعنى: التسوية {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أَى يهيِّئ.
الخامس بمعنى: التَّقدير {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أَى قَدَّرَ.(2/383)
السّادس بمعنى: التبديل {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} .
السّابع بمعنى إِدخال شئ فى شئٍ {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} .
الثامن بمعنى: الإِيقاع فى القلب والإِلهام {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه} .
التَّاسع بمعنى: الاعتقاد {الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلاها آخَرَ} {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} .
العاشر بمعنى: التسمية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} .
الحادى عشر بمعنى: إِيجاد شئ عن شئ وتكوينه منه {جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} .
الثَّانى عشر: فى تصيير الشئ على حالةٍ دون حالة، نحو: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} .
الثَّالث عشر: الحكم على الشئ حقّاً كان أَو باطلاً، أَمّا الحقُّ فنحو: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} وأَمّا الباطل فنحو قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} .
وفى الجملة يكون بمعنى: فَعَل فى أَصل المعنى. وعلى أَىّ معنًى ذكرته فلا يخلو من معنى الفعل، والجَعْلُ أَعمّ من الفعل والصنع وسائر أَخواتهما(2/384)
والجُعْل والْجُعَالة والجَعِيلة: ما يُجعل للإِنسان على فعل شئ. وهو أَعمّ من الأَجر والثواب.
بصيرة فى الجفن
الجَفْنة خصّت بوِعاءِ الإِطعام. وجمعها جِفان، قال تعالى {وَجِفَانٍ كالجواب} وفى الحديث "وأَنت الجَفْنة الغَرّاء" أَى المطعام. وقيل للبئر الصّغيرة: جَفْنة تشبيهاً بها. والجَفْن خُصَّ بوعاءِ السّيف والعين، والجمع أَجفان. وسُمّى الكَرْم جَفْنا تصوّراً أَنه وِعاء للعِنب.
بصيرة فى الجفاء
وهو ما يَرمِى به الوادى أَو القِدْر من الغثاءِ إِلى جوانبه. يقال أَجفأَت القِدْر زَبَدَها: أَلقته جُفَاءً. وأَجفأَت الأَرضُ: صارت كالجُفاءِ فى ذهاب خيرها. وقيل: أَصل ذلك الواو لا الهمزة، يقال: جَفَت القدرُ وأَجْفَت، ومنه الجَفَاء وقد جفوته أَجفُوهُ جَفْوة وجَفَاءً ومن أَصله أُخذ: جفا السرْجُ عن ظهر الدابّة: نبا عنه.
بصيرة فى الجلال والجليل والجلالة
الجَلاَلة: عِظَمُ القَدْر والجلال - بغير هَاءٍ -: التَّناهى فى ذلك. وخُصّ بوصف الله تعالى فقيل: ذو الجلال والإِكرام. ولم يُستعمل فى غيره قَطُّ.(2/385)
والجليل: العظيم القَدْرِ فى ذاته وصفاته وأَقواله وأَفعاله. ووصفُه به إِمّا لخَلْقِه الأَشياءَ العظيمة المستدلَّ بها عليه، أَو لأَنَّه - تعالى - يجلُّ عن الإِحاطة به، أَو لأَنَّه يجلُّ عن إِدارك الحواسِّ.
وموضوعه للجسم العظيم الغليظ ولمراعاة معنى العِظَم فيه قوبل بالدّقيق، وقوبل العظيم بالصّغير. فقيل: جليل ودقيق، وعظيم وصغير. وقيل للبعير: جليل، وللشَّاة: دقيق لاعتبار أَحدهما بالآخر، فقيل ما له جليل ولا دقيق، وما أَجَلَّنى وما أَدَقَّنى: ما أَعطانى بعيراً ولا شاةً، ثمّ جُعل ذلك مَثَلاً فى كل كبيرٍ وصغيرٍ. والجليل نوع من الشَّوكِ من أَعظم أَصنافه، قال:
أَلا لَيْتَ شِعْرى هل أَبيتَنَّ ليلةً ... بمكَّة حولى إِذخِرٌ وَجَلِيلُ
بصيرة فى الجلب
وهو السَّوقِ. وأجلب عليه: صاح عليه بقهر. قال تعالى {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} جَلَبَ الشيءَ يجلُبُه ويجلِبه جَلْباً وجَلَباً. وجلبت الشئ إِلى نفسى واجتلبته بمعنى. قال الشاعر:
وقد يجلِبُ الشئ البعيدَ الجوالبُ
والجَلُوبة: ما يُجلب للبيع.
جالوتُ أَعجمىّ لا سبيل له فى العربيّة.(2/386)
بصيرة فى الجلد
وهو قِشْر البدن. والجمع جُلُود قال تعالى {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} فالجُلُود عبارة عن الأَبدان، والقلوب عن النفوس. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} فقد قيل: الجُلُود هنا كناية عن الفروج. وجَلَده: نَحْوُ بَطَنه وظَهَره، أَو ضربه بالجِلْد نحو عَصَاه إِذا ضربه بالعصا. وفى الحديث: "مَنْ مسّ جلده جلدى لم تَمَسّ النارُ جلده أَبداً" وقال بعض الأَعراب وقد عُزِّر وحُبِس:
وليس بتعزير الأَمير خَزَايةٌ ... علىَّ ولا عارٌ إِذا لم يكن حَدّا
وما السجْنُ إِلا ظلّ بيت سكينةٍ ... وما السوط إِلاَّ جِلدة صافحت جِلْدا
وقال آخر:
وجدْت الحُبّ نيراناً تَلَظَّى ... قلوبُ العاشقين لها وَقُودُ
فلوفنيت إِذا احترقت لهانت ... ولكن كلما احترقت تعود
كأَهل النَّار إِذْ نَضِجَتْ جُلُودٌ ... أُعيدت للشَّقاءِ لهم جُلُود
قال تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} .
وجاءَ بمعنى: بيان عذاب الأَشقياء {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود}(2/387)
وفى حدّ الزَّانيين {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} إِلى قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} وفى شهادتهما على عصيان العاصين فى المحشر {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم} {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} وقيل: هو كناية عن الفَرْج، وفى اتِّخاذ الأَخبية {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا} الآية، وفى خشية الخائفين وقت سماع القرآن {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وفى الاطمئنان بالذِّكر واللُّطف والرّحمة من الله تعالى {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} .
بصيرة فى الجلس
أَصل الوضع فيه أَنَّ الجَلْس: الغليظ من الأَرض. ويسمّى النَجْد أَى المكان المرتفع جَلْسا أَيضاً. وأَصل الجلوس أَن يقصد وضع مقعدِه فى جَلْسِ من الأَرض، ثمّ جعل الجلوس لكلِّ قعود، والمجلس لِكلِّ موضع يقعد فيه الإِنسان. وقيل: الجلوس إِنَّما هو لمن كان مضطجعاً، والقعود لمن كان قائماً، باعتبار أَنَّ الجالس مَن يقصد الارتفاع أَىْ مكاناً مرتفعاً وإِنَّما هذه يتصوّر فى المضطجع، والقاعدُ بخلافه فيناسب القائم.(2/388)
بصيرة فى الجلاء والتجلى
جلا القومُ عن الموضعِ ومنه جَلْواً وجَلاَءً، وأَجْلُوا: تفرّقوا. وقيل: جلا يكون من الخوف، وأَجلى من الجدْب. وأَصل الجَلْو الكشف الظَّاهر. وقد أَجليت القوم عن منازلهم فجلَوْا عنها أَى أَبرزتهم. ويقال جلاه. ومنه جلالى خبر وخبر جَلِىّ وقياس جَلِىّ، وجلوت العروس جِلْوة، والسّيفَ جِلاَءً. والسماءُ جَلْواء أَىْ مُصْحية.
والتجلِّى قد يكون بالذَّات نحو {والنهار إِذَا تجلى} وقد يكون بالأَمر والفعل نحو {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} .
والجالية: أَهلُ الذِّمّة؛ لأَنَّ عمر رضى الله عنه أَجلاهم من جزيرة العرب. وأَجلولَى: خرج من بلد إِلى بلد.
بصيرة فى الجم
قال تعالى {حُبّاً جَمّاً} أَى كثيراً والجَمّ والجميم الكثير من كل شئ. جَمّ يجِمّ ويَجُمّ جُمُوماً: كثر واجتمع، كاستجمّ. وجمّ البئرُ: تراجع ماؤها. وجَمّة السّفينة: الموضع الَّذى يجتمع فيه الماءُ الراشح من خِرُوزها. والجُمَّة - بالضمّ - مجتمعِ شَعَرِ الرأْس. وأَصل الكلمة من(2/389)
الجَمَام أَى الراحة للإِقامة. وجِمَام المكُّوك دقيقاً وجُمام القدح ماء إِذا امتلأَ حتى عجز عن تحمُّل الزِّيادة. وجاءَ القوم جَمَّا غفيراً والجَمَّاء الغفير أَى بأَجمعهم. وشاة جمَّاء. لا قَرْنَ لها، اعتبارا بجمَّة الناصية.
بصيرة فى الجمع
وهو ضمّ الشئ بتقريب بعضه من بعض. جمعته فاجتمع.
وقد ورد الجمع فى القرآن على ثلاثين وجهاً:
الأَوّل لجمع المال والنِّعمة {جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} ، وجمع النَّهْب والغارة {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} وجمع الإِلزام والحجّة {جَمَعْنَاكُمْ والأولين} وجمع إِظهار القُدرة {أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} وجمع الهَوْل والهَيْبة وجَمْع الشَّمس والقمر، وجمع القراءَة والمتابعة {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وجمع الحِرص والآفة {وَجَمَعَ فأوعى} وجمع يوم القيامة {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} وله نظائر. وجمع الجماعة والجُمعة {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} وجمع الانتظار بين الدّنيا والآخرة {لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وجمع الحرب والهزيمة {سَيُهْزَمُ الجمع} ،(2/390)
وجمع الإِرادة والمشيئة {جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} وجمع المصير والرّجعة {يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير} وجمع القضاءِ والحكومة {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} وجمع السجدة والتحيَّة {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وجمع الوسواس والغوَايَة {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وجمع هديَّة الهداية {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وجمع الرّجوع من الغُربة {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} وجمع السَّحَرَة للمكر والحيلة {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وجَمْع النَّاس للنِظَارَةِ والعِبْرَة {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} وجمع التعظيم والحرمة {على أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأْذِنُوهُ} وجمع الغلبة والنُصرة {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} وجمع العجز والجهالة {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} وجمع العَرْض والسّياسة {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} وجَمْع التأْخير والْمهْلة {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وجمع التعْبير والملامة {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} وجمع التحذير والخَشية {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} وجمع طلب العلم والحكمة {حتى(2/391)
أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} {بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} وجمع أَرباب النبوّة والرّسالة {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} وجمع الاتِّفاق والعِزَّة {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} وجمع الجُرأَة والغفلة {وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب} وجمع الحضور فى الحضرة {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} وجمع الفضل والرّحمة {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وجمع الهُدَى والضَّلالة {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} وجمع الظَّفر والغنيمة {يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} ويقال المجموع جَمْع وجَمَاعة وجميع.
وورد الجمع فى القرآن على ثلاثين وجهاً أَيضاً: للمِنَّة علينا بما فى السّماوات والأَرض {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} وتسخير الموجودات لنا {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} وقرئ: جميعاً مِنَّةً. رجوع الكلِّ إِلىّ فى العاقبة {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} حَشْر الكلَّ عندنا {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} القوّة كلّها لنا {أَنَّ(2/392)
القوة للَّهِ جَمِيعاً} العزَّة كلّها لنا {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} نَشْر الكل من بطن الأَرض جميعاً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} يودّ الكافر او يفتدى بكل ما فى الأَرض جميعاً {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} اليهود لا يقاتلونكم إِلاَّ وهم فى حصونٍ حصينة {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} لا تحسبوا أَنَّ اليهود متَّفقون ظاهراً وباطناً {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} ادّعت كفَّارُ مكَّة أَنَّهم كلُّهم متوازرون منتقمون {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} السّماءُ والأَرض فى قَبضة قدرتنا {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} جميعُ الشفاعات مسلَّمة بحكمنا {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} نحطُّ العفو على الذنُّوب كلِّها {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} الخلائق كلّهم يأْتون حضوراً بحضرتنا {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} لمّا عصيتَنا يا آدم اخْرجْ من جهتنا مع سائر العاصين {اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً} ادّعى عسكر فرعون أَنَّهم كلّهم على حَذَرٍ فى أَمرهم {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} لا بأْس عليكم فى التَّفرّق والاجتماع إِذا كنتم أَصدقاء {أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} توبوا يا أَهل الإِيمان {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} نادِ يا محمّد أَنِّى رسول الله(2/393)
إِلى كلِّ الخلائق {إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} ولو أَردنا لهدينا الكُلّ {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} ولو أَراد الله لأَورد النَّاس مورد الإِيمان {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} تعلّق رجاءُ يعقوب بوصول أَولاده إِليه كلِّهم {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} نحن قهرنا فرعون ومن معه {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} سيبرز الكل فى عَرَصات القيامة {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} الأَخابث وما عملوا إِلى النَّار {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} يعاقب بعضُهم بعضاً فى دخولها {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً} ونحن نجمع المنافقين والكافرين فيها {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} لأَنَّ جهنَّم موعد المسيئين يملؤها منهم {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} .
قال الشاعر:
صَوْن الفتى عِرْضَه عمّا يدنِّسه ... وصونه ماله ما ليس يجتمع
ما طاب قوم وإِن عَزُّوا وإِن كَثُروا ... حتى يطيب لهم تفريقُ ما جمَعوا(2/394)
بصيرة فى الجمال
وهو الحُسْن الكثير. وهو على ضربين:
جمال مختصّ بالإِنسان فى ذاته أَو شخصه أَو فِعله.
والثانى: ما يصل منه إِلى غيره. وعلى هذا الوجه يُحمل ما صحّ عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه قال: "إِنَّ الله جميل يحبّ الجمال" تنبيهاً أَنَّه يُفيض الخيرات الكثيرة فيحبّ من يختصّ بذلك.
جَمُل ككرم فهو جميل وجُمَالٌ وجُمّالٌ على التكثير. وجامَله: لم يُصْفِه الإِخاءَ وماسحه بالجميل. وجَمَالَكَ أَلاَّ تفعل كذا أَى لا تفعلْه والزم الأَجمل.
واعْتُبِرَ من هذه المادّة معنى الكثرة، فقيل لكلِّ جماعة غير منفصِلة: جُمْلة. ومنه قيل للحساب الَّذى لم يفصَّل، والكلام الَّذى لم يبيّن تفصيله: مُجمل. والجميل: الشَّحم يذاب فيجمع ويَجْمُل أَكله. وقالت أَعرابية لبنتها: تجمّلى وتعفَّفِى، أَى كلى الجَمِيل واشربى العُفافة أَى اللَّبن الحليب.
وقد ورد فى القرآن هذه المادّة على وجوه: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} أَى مجتمعاً كما أُنزل نجوماً متفرّقة، وبمعنى المحاسنة والمجاملة {فاصفح الصفح الجميل} وبمعنى الصَّبر بلا جزاء {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} وقال يعقوب عليه السّلام {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وبمعنى مقاطعة الكفَّار(2/395)
على الوجه الحسن {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} وبمعنى إِطلاق النِّساءِ على الوجه الجميل {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وبمعنى الحُسْن والزِّينة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وبمعنى البعير البازل {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} وجمعه جِمَالٌ وأَجمال وجِمَالة وجمائل وجامل، وهذا من نوادر الجموع كالباقر لجماعة البقر وراعيها، ومنه قوله تعالى {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ} وقرئ جُمَالات وهى جمع جُمَالة بالضمِّ وقيل هى القُلُوس: قُلُوس السُّفُن.
ومن دعائه صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللَّهمّ جمِّلنى بالتَّقوى وزيّنى بالحِلْم وأَكرمنى بالعافية". قال الشاعر:
ليسَ الجَمَالُ بمئْزَرٍ ... فاعْلَمْ وإِن رُدِّيتَ بُردا
إِنّ الجَمَالَ معادِنٌ ... ومَنَابِتٌ أَورثن مجدا
وقال آخر:
أُقبِّل أَرضا سار فيها جِمَالها ... فكيف بدار دار فيها جَمَالها
على كلِّ حال أُمُّ عمرو جميلة ... إِذا لبست خَلْقانها أَو جديدها
وقال آخر:
جَمَال معيشة المُثرِى ... جِمَالٌ تُدْمِن الحركهْ
فإِذا أُنيخ ببابه ... أُنيخت حوله البركة(2/396)
بصيرة فى الجنب
وأَصله الجارحة. وجمعه جُنُوب ثمّ يستعار فى النَّاحية الَّتى تليها، كعادتهم فى استعارة سائر الجوارح كذلك؛ نحو اليمين والشَّمال. وقيل: جَنْب الحائط وجانبه. والصّاحب بالجَنْب أَى القريب. وقيل كناية عن المرأَة، وقيل: عن الرّقيق فى السّفر. وقوله {والجار الجنب} أَى القريب وقوله {فِي جَنبِ الله} أَى فى أَمره وحدّه الَّذى حَدّهُ لنا وسار جَنْبيه وجَنَابَيْهِ وجَنَابَتَيْهِ أَى جانبه. وجَنَبْتُهُ: أَصبت جَنْبه نحو كَبَدَته ورأَسته. وجُنِب بمعنى اشتكى جَنْبه نحو كُبِدَ وفُئِدَ.
وبُنى الفعل من الجَنْب على وجهين: أَحدهما الذّهابُ عن ناحيته، والثانى الذّهاب إِليه. فالأَول نحو جَنَبْته واجتنته، قيل: ومنه الجار الجُنُب أَى البعيد قال:
فلا تَحْرِمَنِّى نائلا عن جَنَابة
أَى عن بعد [نسب] . [غربة] وقوله تعالى {واجتنبوا الطاغوت} عبارة عن تركهم إِيَّاها {فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وذلك أَبلغ من قولك:(2/397)
اتركوه. وجُنِب بنو فلان كعُنى، إِذا لم يكن فى إِبلهم لَبَن. وجُنب فلان خيراً وجُنِّب شرّاً، وإِذا أُطلق فقِيل: جُنب فلان فمعناه: أُبعد عن الخير وذلك يقال فى الدّعاءِ وفى الخَبَرِ. قال تعالى {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} من جَنَبته عن كذا أَى أَبعدته. وقيل: هو من جَنَبت الفَرَس: جعلته جَنِيباً، كأَنَّمَا سأَله أَن يقوده عن جانِب الشِّرك بأَلطاف منه وأَسباب خفيّة. والتجنيب: الرَّوْح فى الرّجلين، وذلك إِبعاد إِحدى الرّجلين عن الأُخرى خِلْقة. وقوله تعالى {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} أَى أَصابتكم الجنابة. وذلك بإِنزال الماءِ أَو بالْتقاءِ الخِتانَيْن. وقد جُنِب كعُنْى وأَجْنب كأَكرم واجتنب وتجنَّب. وسمّيت الجَنَابة بذلك لكونها سبباً لتجنب الصلاة فى حكم الشَّرع. والجَنُوب يصحّ أَن يعتبر فيها معنى المجئ من جَنْب الكعبة، وأَن يعتبر فيها معنى الذِّهاب عنه، لأَنَّ المعنيين فيها موجودان. واشتُقّ من الجَنُوب جَنَبَتِ الرّيحُ: هبّت جَنُوباً. وأَجنبنا: دخلنا فيها. وجُنبنا: أَصابتنا. وسحابة مجنوبة: هبّت عليها الجَنُوبُ.
والجَنْب وما اشتقّ من هذه المادّة ورد فى القرآن على أَنحاءِ:
الأَوّل: الجَنْب بمعنى الأَمر {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} أَى فى أَمر الله.
الثانى: جُنُوب المقصّرين فى أَداءِ الزكاة {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} .(2/398)
الثالث: جنب المشتاقين إِلى اللِّقاءِ {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} .
الرابع: جَنْب المشتغلين بذكر الحقّ تعالى {يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ} .
الخامس: الجَنْب بمعنى العصمة {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} .
السادس: بمعنى الجنابة {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} وبمعنى الأَجنبىِّ البعيد من النّسبة والقرابة (والجار الجُنُب) .
السابع: التجنب أَى تبعد أَبى جهل عن موعظة القرآن {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} .
الثامن: بمعنى صيانة الله تعالى أَبا بكرٍ من العذاب {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} .
التاسع: الأَمر بالتباعد عن عبادة الأَوثان {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} .
العاشر: الأَمر بالتَّبَاعد عن الزُّور والبهتان {واجْتَنِبُوا قوْلَ الزُّور} .
الحادى عشر: الأَمر بالتَّبَاعد عن شرب الخمر {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} .
الثانى عشر: الأَمر بالتَّوقى عن سوءِ الظنّ فى حق المؤمنين {اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} .
الثالث عشر: فى الثناءِ على المتبعِّدين من الكبائر والفواحش {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش} {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} .(2/399)
بصيرة فى الجنح
وقد ورد فى القرآن من هذه المادّة على وجوه: بمعنى الميل {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} وبمعنى جَنَاح المَلَك {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} وبمعنى الإِبْط {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أَى يدك. وبمعنى التواضع {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَى أَلِنْ جانبك. ومنه {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} استعارة، لأَنَّ الذُّلَّ ضربان: ضرب يضع الإِنسان، وضرب يرفعه. وقُصِدَ هنا ما يرفعه، فاستعير لفظ الجناح له. والمعنى: استعمل الذل الذى يرفعك عند الله من أَجل رحمتك لهم. وبمعنى أَجنحة الطُّيور {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وسمّى جانبا الشئ جناحيه، فقيل: جناحاَ السفينة، وجناحا العسكر، وجناحَا الوادى، وجناحا الإِنسان لجانبيه.
وأَمّا الجُناح بالضمّ فورد بمعنيين: بمعنى الحَرَج {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ} {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} وبمعنى الإِثم فى العُقبى {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ} ولكلٍّ نظائرُ. سمّى به لأَنَّه مائل بالإِنسان عن الحقّ.(2/400)
والجِنْح - بالكسر -: قطعة من اللَّيل مظلمة لأَنَّها جانب منه. وفى الحديث "إِنّ الملائكة لَتَضَعُ أَجنحتَها لطالبِ العلمِ رضاً بما يصنع".
بصيرة فى الجند
وهو العسكر، سمّى به اعتباراً بالغِلَظ والاجتماع من الجَنَد بالتَّحريك وهو الأَرض الَّتى فيها الحجارة المجتمِعة؛ ثمَّ يقال لكلِّ مجتمع: جُنْد نحو "الأَرواحُ جنود مجنَّدة" وجَمْع الجُنْد أَجناد وجُنود. وقوله تعالى {إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} فالجنود الأُولى من الكفَّار، والثانية من الملائكة.
بصيرة فى الجهد بالفتح والضم
وهو الطَّاقة والمَشَقَّة. وقيل بالفتح: المشقَّة، وبالضمّ الْوُسْع. وقيل: الجهد: ما يَجْهَد الإِنسان.
قوله تعالى {لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَى حَلفوا واجتهدوا فى الحلفِ أَن يأْتوا به على أَبلغ ما فى وُسْعهم. والاجتهاد: أَخْذ النَّفس ببذل الطَّاقة، وتحمّل المشقَّة فى العبادة. يقال جَهَدت رأْيى واجتهدت: أَتعبته بالفكر. والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوُسْع فى مدافعة(2/401)
العدُوِّ. قال صلَّى الله عليه وسلَّم "المجاهِد مَن جاهد نفسه فى طاعة الله" وكان إِذا رجع من الغَزْو يقول: "رجعنا من الجهاد الأَصغر إِلى الجهاد الأَكبر" وقال "أَفضل الجهادِ مجاهدة النَّفس" وقال للنِّساءِ "لكنَّ أَفضل الجهاد: حجّ مبرور" وسأَله رجل عن الخروج إِلى الغَزْو فقال "أَوالدَِاك فى الأَحياءِ؟ قال: بلى. قال: ففيهما فجاهِدْ".
قال الشاعر:
يا من يجاهد غازيا أَعداءَ دين الله ... يرجو أَن يعان ويُنْصرا
هلاَّ غشِيت النفس غزواً إِنها ... أَعدى عدوّك كى تفوز وتظفرا
مهما عنَيت جهادها وعنادها ... فلقد تعاطيت الجهاد الأَكبرا
وقال آخر فى الجهد ومعنييه:
تعاليت عن قدر المدائح صاعداً ... فسيّان عفو القول عندك والجَهْد
وإِنى لأَدرى أَنَّ وصفك زائد ... على منطقى لكن على الواصف الجُهْد
وإِنّ قليل القول يكثر وَقْعُه ... إِذا عُرِفت فيه الموالاة والودّ
وورد فى القرآن على معان:
الأَول: مجاهدة الكفَّار والمنافقين بالبرهان والحجّة {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً} .(2/402)
الثانى: جهاد أَهل الضَّلالة بالسّيف والقتال {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} {هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} .
الثالث: مجاهدة مع النفس {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} .
الرابع: مجاهدة مع الشيطان بالمخالفة طمعاً فى الهداية {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} .
الخامس: جهاد مع القلب لنيل الوصْل والقُرب {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم} .
والحقّ أَن يقال: المجاهدة ثلاثة أَضرب: مجاهدة العدوّ الظَّاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النَّفْس. ويدخل الأَضرب الثلاثة فى {وَجَاهِدُوا فى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وفى الحديث: "جاهدوا أَهواءَكم كما تجاهدون أَعداءَكم" والمجاهدة تكون باليد واللِّسان. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "جاهدوا الكفَّار بأَيديكم وأَلسنتكم".(2/403)
بصيرة فى الجهر
قال الله تعالى {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} وقال تعالى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} .
والمادّة موضوعة لظهور الشئ بإِفراط لحاسّة البصر أَو لحاسّة السّمع. أَمّا للبصر فنحو قولك: رأَيته جِهَاراً. وأَمّا للسّمع فنحو قولك: جهر بالكلام. وكلام جَهْورِىّ وجَهِير ورجل جَهير: رفيع الصوت، والَّذى يجهر بحسنه: وجَهَر البئر، واجتهرها: أَظهر ماءَها. والجوهر فَوْعل منه، وهو ما إِذا بطل بطل محمولُه، وسمّى بذلك لظهوره للحاسّة.
بصيرة فى الجل
وقد ورد فى القرآن على خمسة عشر وجهاً:
الأَوّل: فى ذكر آدم بحمل الأَمَانَة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
الثانى: خطاب لنوح عليه السّلام أَن يحفظ رَقْم الجهالة على نفسه بدعوة الجَهَلة ودعائهم {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} .
الثالث: ذكر هود عليه السّلام قومه لمّا امتنعوا عن إِجابة الحقّ {ولاكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} .(2/404)
الرّابع: استعاذة موسى بالحقّ عن ملابسة الجَهَلة {أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} وقال مرّة {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وقال يوسف: إِن لم تُبَذْرِقْنى بعصمتك أَصير من جملة الجُهَلاءِ {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} وقال تعالى {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} وخاطب نبيّه وحبيبه. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} قل يا محمّد لنسائك يَجْتَنِبْنَ من التَزيىّ بزىّ الجهلاءِ {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية} {فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية} {ولاكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} ما صدر من العصاةِ من المعاصى فبسبب جهلهم {عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ} ليكن جوابك لخطاب الجاهلين سلاماً طلباً للسّلامة {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} .
والجهل نقيض العلم، جهِله يَجْهَله جَهْلاً وجَهَالة. وجَهِل عليه: أَظهر الجَهْل كتجاهل. وهو جاهل. والجمع جُهُل وجُهْل وجُهّل وجُهّال وجُهَلاءُ.(2/405)
والجهل على ثلاثة أَضرب:
الأَول: خلوّ النَّفس من العِلْم، هذا هو الأَصل. وقد جَعَل بعض المتَكَلِّمين الجهل معنًى مقتضياً للأَفعال الخارجة عن النِّظام، كما جعل العِلْم معنًى مقتضياً للأَفعال الجارية على النِّظام.
الثانى: اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه.
الثالث: فعل الشئ بخلاف ما حقًَّه أَن يُفعل، سواءٌ اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أَو فاسداً كمن يترك الصّلاة عمداً. وعلى ذلك قوله {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} . فجعل فعل الهُزُو جهلاً.
والجاهل يُذكر تارة على سبيل الذمّ وهو الأَكثر، وتارة لا على سبيل الذمّ نحو {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} أَى مَنْ لا يَعْرِف حالهم. وليس المراد المتَّصف بالجهل المذموم. والمَجْهل كَمَقْعد: الأَمر والأَرض والخَصْلة التى تحمل الإِنسان على الاعتقاد بالشئ بخلاف ما هو عليه. واستجهلت الرّيحُ الغُصْن: حَرّكته كأَنها حملته على تعاطى الجهل. وذلك استعارة حسنة. والمَجْهلة: ما يحملك على الجهل. والمِجْهَل والمِجْهلة - بكسر ميمهما - والْجَيْهَلُ والْجَيْهَلة: خَشَبة يُحَرّك بها الجَمْر.(2/406)
بصيرة فى الجهم
وهو الوجه الغليظ المجتمع السّمْج. وقد جَهُم جُهُومةً وجَهَامة. وجَهَنَّم: اسم لنار الله الموقدة فارسىّ معرّب، أَصله جَهَنَّام وقيل: عربىّ سمّيت به نار الآخرة لبعد قعرها، من قولهم: بئر جَهَنَّام وجِهَنَّام وجُهَنَّام أَى بعيدة القَعْر. وإِنَّمَا لم يُجْرَ لثقل التَّعريب وثقل التَّأْنيث.
بصيرة فى الجوب
وهو قَطْع الجَوْبة وهى الغائط من الأَرض، ثمّ يستعمل فى قطع كل أَرض كقوله تعالى {جَابُواْ الصخر بالواد} ويقال هل عندك جائبة خبرٍ. وجواب الكلام هو ما يقطع الجُوَب فيصلُ من فم القائل إِلى سمع المستمع، لكن خُصّ بما يعود من الكلام، دون المبتدإِ من الخطاب.
والجوابُ يقال فى مقابلة السؤال. والسّؤال على ضربين: طلب مقال وجوابه المقالُ، وطلب نوال وجوابه النَّوالُ. فعلى الأَوّل قوله تعالى {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} وعلى الثانى {أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} أَى أُعطِيتما ما سأَلتما.(2/407)
والاستجابة قيل: هى الإِجابة. وحقيقتها هى التحرّى للجواب والتَّهيّؤ له، لكن عبّر به عن الإِجابة لقلَّة انفكاكها منها. قال تعالى {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
بصيرة فى الجار والجأر والجارى
أَمّا الجار فمَن يَقرب مسكنه من مسكنك. وهو من الأَسماءِ المتضايفة، فإِنَّ الجار لا يكون جاراً لغيره حتَّى يكون ذلك الغير جاراً له؛ كالأَخ والصّديق ونحو ذلك. ولمّا استُعظم حقّ الجار شرعاً وعقلاً عُبّر عن كلِّ مَنْ يعظم حقَّه أَو يَستعظم حقّ غيره بالجار، كقوله تعالى {والجار ذِي القربى والجار الجنب} ويقال: استجرت فأَجارنى، وعلى هذا قوله تعالى {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} وقوله تعالى {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} .
وقد تُصوّر من الجار معنى القُرْب فقيل لما يقرب من غيره: جارُه. وجاوره وتجاوروا قال تعالى {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} وباعتبار القرب قيل: جارَ عن الطَّريق. ثم جُعِل ذلك أَصلاً فى كلِّ عدول عن كلِّ حَقّ، فبُنى منه الْجوْر، قوله تعالى {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أَى عادل عن المُحَجَّة. وقيل: الجائر من النَّاس هو الذى يمتنع عن التزام ما يأمر به الشَّرع.(2/408)
وأَمّا الجَأَر بالهمزة، فهو الإِفراط فى الدّعاءِ والتضرّع، تشبيهاً بجوار الوَحْشِيَّات؛ كالظّباءِ وغيرها.
وأَمّا الجارى والجارية والجوار ففى القرآن على ستَّة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى مَسير الشَّمس فى الفَلَك {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} .
الثانى: لسَيَلان الأَنهار فى الجَنَّةِ {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ولهذا نظائر فى التنزيل.
الثالث: بمعنى سَيَلان أَنهار الدُّنيا {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} أَى تحت أَمرهم وتصرُّفهم.
الرّابع: بمعنى جَرَيَان أَنهار مصر {وهاذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} قاله فرعون.
الخامس: بمعنى السّفينة {حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} {فالجاريات يُسْراً} {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر} .
السّادس: بمعنى الحَوْراءُ من الحُور العين. قال الشاعر:
فى الخُلْد جارية بالفُنْج ماشية ... للزَّوج ساقية فى شَطِّ أَنهار
من عنبر خُلِقت بالمسك قد عُجِنت ... باللُّطفِ قد ثقبت فى نفس أَبكار(2/409)
بصيرة فى الجواز
قال تعالى {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أَى تجاوَز جَوْزَهُ والْجَوْز: وَسَط الطَّريق. وجاز الشَّئ جَوَازاً كأَنَّه لزم جَوْز الطَّريق، وذلك عبارة عمّا يَسُوغ. وجَوْز السّماءِ: وَسَطها. والجوزاء قيل سمّيت بذلك لأَنَّها معترِضة فى جَوْز السّماءِ. وشاة جَوْزَاءُ: أَبيض وسطُها. وجُزْت المكان: ذهبتُ فيه. وأَجزته أَنفذته وخلفته. وقيل: استجزت فلاناً فأَجازنى إِذا استسقيته فسقاك، وذلك استعارة. والمَجَاز من الكلام: ما تجاوز موضوعَه الذى وضع له، والحقيقة ما لم يتجاوز ذلك.
بصيرة فى الجوس
وهو الدّخول فى وسط المكان. ولعلَّ السّين مبدلة من الزاى لقرب المخرج. وقال تعالى {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} أَى توسّطوها وتردّدوا بينها. وقيل: الجَوْس: طلب، الشَّئ بالاستقصاءِ. يقال: جاسوا وداسوا.(2/410)
بصيرة فى المجيء والجيئة
وقد ورد فى القرآن على خمسة عشر وجهاً: الأَوّل: جَيْئة الهَيْبة من الملِك والملَك {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} . الثانى: جَيْئة السيّارة {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} . الثالث: جيئة الخَجَالة {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} . الرّابع: جَيْئة الصّيانة {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء} . الخامس: جَيْئَة النَّصيحة من حزقيل لموسى {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} . السّادس: جَيْئة الدّعوة من حبِيب النَّجار لأَصحاب ياسين {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} السّابع جَيئة الرّسالة من المصطفى {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} . الثامن: جيئة المَعْذِرة {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} . التاسع: جَيْئَة النَّصيحة من المنافقين {إِذَا جَآءَكَ(2/411)
المنافقون} . العاشر: جيئة الغَمْز والنَّميمة {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} . الحادى عشر: جيئة أَهل الطَّاعة والمعصية إِلى جهنَّم والجنَّة {حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} . الثَّانى عشر: جيئة الحَسْرة والنَّدامة على قُرناءِ السّوءِ بالصّحبة {حتى إِذَا جَآءَنَا قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} . الثالث عشر: جَيْئة المكر والحِيلة من الكَفَرة لبنىّ الأُمّة {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} . الرّابع عشر: جيئة النَّصرة من ربّ المغفرة لنبىّ المَلْحَمة {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} . الخامس عشر: جيئة المناجاة والقُرْبة {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} .
والجَيْئة والمجئ بمعنى الإِتيان لكن المجئ أَعمّ؛ لأَنَّ الإِتيان مجئ بسهولة، والإِتيان قد يقال باعتبار القصد وإِن لم يكن منه الحصولُ، والمجئ يقال اعتباراً بالحصول.
وقد يقال: جاءَ فى الأَعيان والمعانى، وربّما يكون مجيئهُ بذاته وبأَمره، ولمن قصد مكاناً أَو عملاً أَو زماناً قال تعالى {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} {فَإِذَا جَآءَ الخوف} {فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً} أَى قصدوا الكلام وتعمّدوهُ، فاستعمل فيه المجئ كما استعمل فيه القصد. وقوله تعالى {وَجَآءَ رَبُّكَ} فهذا بالأَمر لا بالذَّات، وهو قول ابن عباس. ويقال:(2/412)
جاء بكذا وأَجاءَه. قال تعالى {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} قيل ألجأَها، وإِنما هو معدّىً عن جاءَ. وجاءَ بكذا: استحضره نحو {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} ويختلف معناه بحسب اختلاف المجئ به. وجاياه مجاياة لغة فى المهموز أَى قابله.
والجَوُّ والجَوَّة: الهواءُ، قال تعالى {فِي جَوِّ السمآء} والجمع جِوَاءٌ كجبال. والجَوُّ: اليمامة، وثلاثة عشر موضعاً غيرها.(2/413)
الباب السابع - فى وجوه الكلمات المفتتحة بحرف الحاء(2/414)
بصيرة فى الحاء
وهى يَرد على عشرة أَنحاء:
الأَوّل: حرف من حروف التَهَجّى يذكَّر ويؤنَّث، مخرجه وَسَطُ الحَلْق قرب مخرج العين، ويمدّ ويقصر، والنسبة حائىّ وحاوىّ وحَيَوىّ وتقول منه حَيّيت حاء حَسَنة وحَسَناً والجمع أَحْواء وأَحْيَاءُ وحاءَات.
الثانى: فى حساب الجُمّل اسم لعدد الثمانية.
الثالث: الحاءُ الكافية الَّتى يكتَفى بها عن سائر حروف الكلمة كقول الله تعالى (حم) فقيل: الحاءُ حكمهُ، وقيل حكمته، وقيل مِن حُمّ الأَمْرُ أَى قُضِىَ ما هو كائن.
الرّابع: الحاءُ المكرّرة مثل سحّر وصحّحَ.
الخامس: الحاءُ المدغمة مثل صحّ وأَلحّ.
السّادس: حاءُ العَجْز والضَّرورة، كقول الهنود الهَمْدُ لله.
السّابع: الحاء الصّوت من قبيل الزَّجر. مبنىّ على الكسر كقولك: حاءِ وعاءِ فى زَجْر الغنم ودعائه.
الثامن: الحاءُ الأَصلىّ فى الكلمة نحو حاءُ حمد ومدح ورحم.
التَّاسع: الحاءُ المبدلة نحو مَدَحَ ومَدَهَ وأَنَه أُنُوها وأَنَح إِذا زَحَرَ عند السّؤال.(2/415)
العاشر: الحاءُ اللغوىّ قالَ [الخليل] الحاءُ عندهم المرأَة البذيئة اللِّسان السّليطة قال:
جدودى بنو العنقاءِ وابن محرّق ... وأَنت ابن حاء بَظْرها مثل مُنخُل
بصيرة فى الحب والمحبة
ولا يُحدّ المحبّة بحدّ أَوضح منها، والحدود لا تزيدها إِلاَّ خفاءً وجفاءً فحدّها وجودها. ولا توصف المحبّة بوصف أَظهر من المحبّة، وإِنَّما يتكلَّم النَّاس فى أَسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأَحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستّة.
وهذه المادّة تدور فى اللُّغة على خمسة أَشياءَ: أَحدها الصّفاء والبياض ومنه قيل حَبَب الأَسنان لبياضها ونضارتها. الثانى: العُلُوّ والظُّهور ومنه حَبَب الماءِ وحَبَابه وهو ما يعلوه من النفاخات عند المطر، وحَبب الكأْس منه. الثالث: اللُّزوم والثبات ومنه حَبَّ البعير وأَحبّ إِذا برك فلم يقُم. الرَّابع: اللُّباب والخلوص. ومنه حَبّة القلب لِلبّه وداخله. ومنه الحَبّة لواحدة الحبوب إِذ هى أَصل الشئ ومادَّته وقوامه. الخامس: الحفظ والإِمساك(2/416)
ومنه حُبّ الماءِ للوعاءِ الَّذى يُحفظ فيه ويمسكه، وفيه معنى الثُّبوت أَيضاً.
ولا ريب أَنَّ هذه الخمسة من لوازم المحبّة، فإِنَّها صفاءُ المودّة وهَيَجان إِرادة القلب وعلوّها وظهورها منه لتعلُّقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوم لا تفارق، ولإِعطاءِ المحبّ محبوبه لبّه وأَشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عَزَماته وإِراداته وهُمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعانى الخمسةُ. ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للشَّئ غاية المناسبة: الحاء الَّتى من أَقصى الحَلق والباء للشفة الَّتى هى نهايته، فللحاءِ الابتداء وللباء الانتهاء، وهذا شَأْن المحبّة وتعلُّقها بالمحبوب، فإِنَّ ابتداءَها منه وانتهاءَها إِليه.
ويقال فى فعله: حبَبت فلاناً بمعنى أَصبت حَبَّة قلبه، نحو شَغَفته وكَبَدته وفأَدته، وأَحببت فلاناً جعلت قلبى مُعَرَّضاً لأَن يُحِبّه. لكن وضع فى التعارف محبوب موضعَ مُحَبّ واستعمل حبَبت أَيضاً فى معنى أَحببت، ولم يقولوا مُحَبّ إِلاَّ قليلاً قال:
ولقد نزلتِ فلا تظنى غيره ... منى بمنزلة المُحَبّ المكرم
وأَعطَوْا الحُبّ حركة الضمّ الَّتى هى أَشدّ الحركات وأَقواها، مطابَقة لشِدّة حركة مسمَّاه وقوّتها، وأَعطَوُا الحِبّ وهو المحبوب حركة الكسر لخفَّتها عن الضمَّة، وذلك لخفَّة ذكر المحبوب على قلوبهم وأَلسنتهم مع إِعطائه(2/417)
حكم نظائره كنِهْد وذِبْح للمنهود والمذبوح وحِمْل للمحمول، فتأَمّل هذا اللُّطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين اللَّفظ والمعنى يُطلعْك على قَدْر هذه اللغة الشريفة وإِنَّ لها لشأْنا ليس كسائر اللغات.
وقد ذكر الله تعالى ذلك فى مواضع كثيرة من التنزيل الحميدىّ منها {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} {والله يُحِبُّ المحسنين} {والله يُحِبُّ الصابرين} {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} {إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} {ولاكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} وقال تعالى {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال تعالى {إِنِ(2/418)
استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} أَى آثروه عليه. وحقيقة الاستحباب أَن يتحرّى الإِنسانُ فى الشئ أَن يحبّه. واقتضى تعديتُه بعَلى معنى الإِيثار، وفى الحديث الصّحيح "إِذا أَحبّ الله عبداً دعا جَبْرئيلَ فقال: إِنى أُحِبُّ فلاناً فأَحِبَّه فيحبّه جبرئيل، ثم ينادى فى السّماءِ فيقول: إِنَّ الله يحبّ فلاناً فأَحِبُّوه فيحبّه أَهْلُ السّماءِ، ثمّ يوضَع له القَبولُ فى الأَرض" وفى البُغْض ذُكِر مثل ذلك. وفى الصّحيح أَيضاً: "ثلاث مَن كُنَّ فيه وَجَد بهنّ حلاوة الإِيمان: أَن يكون الله ورسولُه أَحبَّ إِليه مِمَّا سواهما، وأَن يحبّ المرءُ لا يحبّه إِلاَّ لله"، وفى صحيح البخارىّ: "يقول الله تعالى: مَن عادى لى وليّاً فقد آذَنْتُهُ بالحرب، وما تقرب إِلىّ عبدى بشىءٍ أَحبَّ إشلىَّ من أَداءِ ما افترضته عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إِلىّ بالنَّوافل حتَّى أُحبّه. فَإِذَا أَحببته كنت سمعَه الَّّذى يسمع به، وبصرَه الَّذى يبصر به، ويدَه الَّتى يبطِش بها ورجلَه التى يمشى بها. وإِن سأَلنى أَعطيته ولئن استعاذنى لأُعيذنَّه". وفى الصّحيحين من حديث أَمير السّريَّة الذى كان يقرأُ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} لأَصحابه فى كلِّ صلاة وقال: لأَنَّها صفة الرّحمن وأَنا أُحبّ أَن أَقرأَ بها فقال النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَخبروه أَنَّ الله يحبّه" وعن التِّرمذى عن(2/419)
أَبى الدَرداءِ يرفعه: "كان مِن دعاءِ داود عليه السّلام: اللهمّ إِنِّى أَسأَلك حبّك وحبّ من يحبّك، والعملَ الَّذى يبلِّغنى حبَّك. اللَّهم اجعل حُبّك أَحبّ إِلىّ من نفسى وأَهلى، ومن الماء البارد". وفيه أَيضاً من حديث عبد الله بن يزيد الخَطْمِىِّ أَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول فى دعائه: "اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ مَن ينفعنى حبُّه عندك. اللهمّ ما رزقتنى ممّا أُحبّ فاجعله قوّة لى فيما تحبّ، وما زَوَيت عنِّى ممّا أُحبّ فاجعله فراغاً لى فيما يحبّ".
والقرآن والسنَّة مملوءَان بذكر مَن يحبّ اللهُ سبحانه من عباده، وذكر ما يحبّه من أَعمالهم وأَقوالهم وأَخلاقهم. فلا يلتفت إِلى مَن أَوَّل محبّته تعالى لعباده بإِحسانه إِليهم وإِعطائهم الثواب، ومحبّةَ العباد له تعالى بمحبّته طاعته والازدياد من الأَعمال لينالوا به الثواب، فإِن هذا التأْويل يؤدّى إِلى إِنكار المحبّة، ومتى بطلت مسأَلة المحبّة بطلت جميع مقامات الإِيمان والإِحسان، وتعطَّلت منازلُ السَّيْر، فإِنَّها رُوح كلِّ مَقَام ومنزلةٍ وعمل، فإِذا خلا منها فهو ميّت، ونسبتها إِلى الأَعمال كنسبة الإِخلاص إِليها، بل هى حقيقة الإِخلاص، بل هى نفس الإِسلام، فإِنَّه الاستسلام بالذُّل والحُبّ والطَّاعة لله. فمن لا محبَّة له لا إِسلام له البتَّة.
ومراتب المحبّة عشرة: الأَوّل العلاقة والإِرادة والصبابة، والغرام(2/420)
وهو الحبّ اللاَّزم للقلب ملازمةَ الغريم لغريمه، ثمّ الوُدّ وهو صفو المحبّة وخالصها ولُبّها، ثمّ الشغَف، شُغِفَ بكذا فهو مشغوف أَى وَصَل الحُبّ شَغَاف قلبه وهو جِلدة رقيقة على القلب، ثمّ العشق وهو الحبّ المفرط الَّذى يُخاف على صاحبه منه، وبه فسّر {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ثمّ التَتَيُّم وهو المحبّة والتذلُّل، تَيَّمه الحُبّ أَى عَبَّده وذَلَّله وتَيْم الله عَبْد الله، ثمَّ التعبّد وهو فوق التتيُّم فإِنَّ العبد الذى مَلَك المحبوبُ رِقَّه فلم يبق له شئ من نفسه البتَّة، بل كلُّه لمحبوبه ظاهراً وباطناً. ولمَّا كَمّل سيّد ولد آدم هذه المرتبة وصفه الله بها فى أَشرف مقاماته بقوله {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وفى مقام الدّعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} وفى مقام التحدّى {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} وبذلك استحقّ التقدّم على الخلائق فى الدّنيا والآخرة. العاشر: مرتبة الخُلَّة الَّتى استحقّ التقدّم على الخلائق فى الدّنيا والآخرة. العاشر: مرتبة الخُلَّة الَّتى انفرد بها الخيلان إِبراهيم ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام؛ كما صحّ عنه "إِنَّ اللهَ اتَّخذنى خليلاً كما اتَّخَذَ إِبراهيم خليلاً" وقال "لو كنت متَّخِذاً من أَهل الأَرض خليلاً لاتَّخذتُ أَبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرّحمن" والخلَّة هى المحبّة الَّتى تخلَّلْت روح [المحب] وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه.
والأَسبابُ الجالبة للمحبة عشرة: الأَول: قراءَة القرآن بالتَّدبّر والتفهُّم لمعانيه وتفطُّن مراد الله منه. الثانى: التَّقَرّب إِلى الله تعالى بالنَّوافل بعد(2/421)
الفرائض؛ فإِنَّها توصِّل إِلى درجة المحبوبيَّة بعد المحبّة. الثالث: دوام ذكره على كلِّ حال باللٍّسان والقلب والعلم والحال فنصيبه من المحبّة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع: ايثار مَحَابِّه على محابّك عند غلبات الهوى. الخامس: مطالعة القلب لأَسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلُّبه فى رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرَف الله بأَسمائه وصفاته وأَفعاله أَحبّه لا محالة. السادس مشاهدة بِرّه وإِحسانه ونِعمه الظَّاهرة والباطنة. السابع: وهو من أَعجبها - انكسار القلب بكلِّيَّته بيْن يديه. الثامن: الخَلْوة به وقت النُّزول الإِلهىّ لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقالب والقلب بين يديه، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتَّوبة. التَّاسع: مجالسة المحبّين والصّادقين والتقاطُ أُطايب ثمرات كلامهم وأَلاَّ يتكلم إِلاَّ إِذا ترجّحت مصلحةُ الكلام وعَلِم أَنَّ فيه مزيداً لحالِهِ. العاشر: مباعدة كلِّ سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجَلَّ.
فمن هذه الأَسباب وصل المحبّون إِلى منازل المحبّة، ودخلوا على الحبيب وفى ذلك أَقول:
تِلاوةُ فهمٍ معْ لزوم نوافل ... وذكرٌ دواماً وانكسارٌ بقلبه
وإِيثار ما يُرْضِى شهودَ عطائه ... ووقت نزول الحقّ يخلو بربّه
مطالعة الأَسما مجالسة القُدَى ... مجانبة الأَهوا جوالب حُبه(2/422)
بصيرة فى الحبر
وهو الأَثر المستحسن. وبالكسر والفتح: الرّجل العالم؛ لما يبقى من أثر علومه فى قلوب النَّاس، ومن آثار أَفعاله الحسنة المقتدى بها، وجمعه أَحبار. قال تعالى {والربانيون والأحبار} وقال {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار} وإِلى المعنى المذكور أَشار المرتضى رضى الله عنه بقوله: العلماءُ باقون ما بقى الدَّهر، أَعيانهم مفقودة، وآثارهم فى القلوب موجودة، وقول النبىّ صلى الله عليه وسلَّم "يخرجُ من النَّار رجل قد ذهب حِبْره وسِبْره" أَى جماله وبهاؤه. ومنه شاعر محبِّر وشعر محبّر وثوب حَبِير: محسّن. والحَبْرة: السّرور والبهجة لظهور أَثره على صاحبه، قال تعالى: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أَى يفرحون حتَّى يظهر عليهم حَبَار نعيمهم.(2/423)
بصيرة فى الحبط
قال تعالى {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وقال تعالى {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
حَبِط عملُه - بكسر الباءِ وفتحها - حَبْطاً وحُبُوطاً: بطل. وأَحبطه الله: أَبطله. وهو من قولهم: حَبِطَ ماءُ الرَّكيَّة إِذا ذهب ذهاباً لا يعود أَبداً.
وحَبْط العمل على أَضرب:
أَحدها: أَن تكون الأَعمال دنيويّة فلا تُغنى فى القيامة غَنَاء؛ كما أَشار إِليه تعالى {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} .
والثانى: أَن تكون أَعمالاً أُخرويّة لكن لم يقصِد صاحبها بها وجهَ الله؛ كا رُوى أَنَّه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له: بم كان اشتغالك؟ فيقول: بقراءَة القرآن. فيقال: كنتَ تقرأُ القرآن ليقال: هو قارئ وقد قيل، فيؤمَر به إِلى النَّار.
والثالث: أَن تكون أَعمالاً صالحة يكون بإِزائها سيّئات تزيد عليها، وذلك هو المشار إِليه بخِفَّة الميزان.
وقيل: أَصل الحَبْط من الحَبَط، وهو أَن تكثر الدّابّة أَكلا ينفخ(2/424)
بطنَها. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم "إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ ما يَقْتُل حَبَطاً أَو يُلمّ".
والحَبِط - بكسر الباءِ وفتحها - لقب الحارث بن عمرو لحَبَط أَصابه فى سفرٍ، والحَبِطات أَبناؤه.
بصيرة فى الحبك
وهو الشَّدّ والإِحكام. وبعير محبوك القراءِ أَى مُحْكمُهُ. والاحتباك: شدّ الإِزار. والحُبُك - بضمّتين -: الطَّرائق، قال تعالى {والسمآء ذَاتِ الحبك} أَى: الطَّرائق. فمن النَّاس مَنْ تصوّر منها الطَّرائق المحسوسة بالنُّجوم والمَجرّة، ومنهم من اعتبر ذلك بما فيه من الطَّرائق المعقولة المدركة بالبصيرة، وإِلى ذلك أَشار بقوله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} إِلى قوله {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} .(2/425)
بصيرة فى الحبل
وقد ورد فى القرآن على ستَّة معان. الأَوّل بمعنى: العهد {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} أَى بعهد منه. الثانى بمعنى: الأَمانة {وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} أَى أَمانٍ منهم. الثالث بمعنى: الإِسلام والإِيمان وبه فَسَّرَ ابن عبّاسٍ قوله تعالى {إِلاَّ بحبلٍ من اللهِ} . الرّابع بمعنى: الرَّسَين {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} الخامس بمعنى: القرآن المجيد {واعتصموا بِحَبْلِ الله} . السادس بمعنى: عِرْق فى البدن {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} شُبّه بالحبل المعروف من حيث الهيئة. وكذلك الحبل المستطيل من الرّمل ثمّ استعير للوصل ولكلِّ ما يتوصّل به إِلى شئ..
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ} قال المحقِّقُون: حبلُه هو الَّذى يمكن معه التَّوصّلُ به إِليه: من القرآن والنبى والعقل والإِسلام وغير ذلك، ممَّا إِذا اعتصمتَ به أَدّاك إِلى جِواره.
وقوله تعالى {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} فيه تنبيه على أَنَّ الكافر يحتاج إِلى عهدين: عهد من الله وهو أَن يكون من أَهل كتاب أَنزله الله، وإِلاَّ لَمْ يُقَرّ على دينه ولم يُجعل على ذمّة، وإِلى عهدٍ من النَّاس يبذلونه.(2/426)
والحابُول: حَبْل يُصْعَد به على النخل. والحِبَالة خُصّت بحَبْل الصّائد والجمع حبائل وحِبَالات. وفى الحديث: "النساءُ حبائل الشيطان". قال الشاعر:
مطالبُ العالمينَ أَشتاتُ ... وكلُّهم معناهمُ هاتوا
وإِنما العلمُ وما دونَه ... من الصناعاتِ حِبالاتُ
وفى الحديث: "القرآن حَبْل ممدود بين الله وبين خَلْقه، فمن تعلَّق به نجا، ومن فاته الحبلُ هلك وهَوَى". قال:
أَصْلِى وفرعى فارَقانى معاً ... واجتُثَّ مِنْ حَبْلَيْهما حَبْلى
فما بقاءُ الغصن فى ساقه ... بعد ذهاب الفرع والأَصل(2/427)
بصيرة فى حتى
وهى حرف يجرّ به تارة كإِلى، لكن يدخل الحدُّ المذكور بعده فى حكم ما قبله، ويعطف به تارة، ويستأنف به تارةً؛ نحو أَكلت السّمكة حتَّى رأَسِها ورأَسَها ورأَسُها. ويدخل على الفعل المضارع فيرفع ويُنصب. وفى كلِّ واحد وجهان، فأَحد وجهى النَّصب إِلى أَن، والثَّانى كى. وأَحد وجهى الرّفع أَن يكون الفعل قبله ماضيا نحو: مشيت حتَّى أَدخلُ البصرة، أَى مشيت فدخلت. والثَّانى أَن يكون ما بعده حالاً نحو: مرض حتى لا يرجونه، وقد قُرِئ {حتى يَقُولَ الرسول} بالرّفع والنَّصب، حُمل كلُّ واحدة من القراءَتين على الوجهين.
وقيل: إِنَّ ما بعد حتَّى يقتضى أَن يكون بخلاف ما قبله نحو {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ} وقد يجئ ولا يكون كذلك نحو ما فى الحديث: "إِنَّ الله لا يَمَلُّ حتَّى تَمِلُّوا" ولم يُرِدْ أَن يُثبت ملالاً لله بعد ملالهم.(2/428)
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أوجه:
الأَوّل بمعنى: إِلى {تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} أَى إِلى أَجلهم {حتى مَطْلَعِ الفجر} أَى إِلى طلوع الصّبح.
الثانى بمعنى: فَلَمَّا {حتى إِذَا استيأس الرسل} {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} أَى فلَمّا.
الثالث بمعنى إِلى كنايةً عن وقت معيَّن {حتى يُعْطُواْ الجزية} {حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَى إِلى حال يتحقَّقُ [فيه] ذلك.
والأَصل فى حتَّى حتّ لكن أَلحقوا أَلِفا فى اللفظ وياءً في الخطِّ لئلاَّ يلتبس باسمٍ أَو فعل. وقد يُحذف ما بعده لحصول العلم به، قال:
حَضَرْتُ الباب مرَّاتٍ وغبتم ... فإِنَّ نوائب الأَيّام شتَّى
فلمّا لم أَجدك - فدتك نفسى - ... رجعت بحسرة وصبرت حتَّى
وقد يبدّل حاؤها عيناً، وقرئ فى الشَّاذ {عتى حِينٍ} قرأَ بها ابن مسعود رضى الله عنه، فلمّا بلغ ذلك عمرَ - رَضى الله عنه - قال: إِنَّ القرآن لم ينزل على لغة هُذَيل فأَقرئ النَّاس بلغة قريش. قال الفرّاءُ:(2/429)
حتَّى لغة قريش وجميعِ العرب إِلاَّ هذيلاً وثَقِيفاً فإِنَّهم يقولون: عتَّى. وأَنشدنى بعض أَهل اليمامة:
لا أَضع الدّلو ولا أُصلِّى
عتَّى أَرى جِلَّتها تولِّى
صَوادراً مثل قِباب التَلِّ
وقال الفرَّاءُ: حتَّاهُ أَى حتَّى هو، وحتَّام أَصله حتاما فحذفت أَلِف (ما) للاستفهام. وكذلك كلُّ حرف من حروف الجرّ يضاف فى الاستفهام إِلى (ما) كقوله تعالى {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} و {فِيمَ كُنتُمْ} و {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} .(2/430)
بصيرة فى الحجة
وهى اسم مضعَّف على زنة (فُعْلة، لبرهان) أَهل الحقِّ والدّلالة البيّنة للمحجَّة أَى المقصد المستقيم الذى يقتضى صحّة أَحد النقيضين.
وقد وردت الحجّة فى القرآن بمعنى المنافرة والمخاصمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ} {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ} {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ} .
وورد بمعنى البرهان تارة من المؤمنين مع الكفَّار {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} وتارة من الكفَّار بحسب اعتقادهم الباطل {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ} وتارة من إِبراهيم عليه السّلام فى تمهيد قواعد الإِيمان {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} وتارة من الحقّ إِلى الخلق بآيات القرآن وإِظهار البرهان {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} و {لِئَلاَّ(2/431)
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} جعل ما يَحتجّ بها الَّذين ظلموا مستثنًى من الحجّة وإِن لم يكن حجّة، كذلك قول الشاعر:
ولا عَيبَ فيهم غيرَ أَنَّ سيوفَهُمْ ... بهنّ فُلُولٌ من قِراعِ الكتائبِ
ويجوز أَنَّه سمّى ما يحتجّون به حجّة كقوله {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} فسمّى الداحضة حجّة، والمحاجّة: أَن يطلب كلُّ واحد أَن يردّ الآخر عن حجّته ومحجّتِه.
وأَصل الحجّ القصد للزِّيارة. وخُصّ فى تعارف الشَّرع بقصد بيت الله إِقامة للنُّسُك. فقيل الحَجّ والحِجّ، فالحَج مصدر والحِجّ اسم. ويوم الحَجّ الأَكبر يومُ النحر أَو يوم عرفة. وورى: "العُمْرة الحجّ الأَصغر" وقيل غير ذلك. وفى الحديث "من مات ولم يحجّ حجّة الإِسلام لقى الله وفيه شُعبة من النِّفاق" وفيه "الحَجّ المبرور ليس له جَزَاءٌ إِلاَّ الجنَّة" قال:
إِذا حَجَجْتَ بمالٍ أَصلُه دنسٌ ... فما حججتَ ولكنْ حجَّتِ العيرُ
لا يقبل الله إِلا كلَّ صافية ... ما كلّ مَن حجّ بيتَ الله مبرور(2/432)
بصيرة فى الحجاب
[هو] اسم على زنة فِعالٍ وجمعه حُجُب ككتاب وكتبٍ. وهو ما يَمنع عن الوصول. وحجاب الجَوف: ما يحجب عن الفؤاد. وفى الحديث: إِنَّ لله بين العرش والكرسىّ سبعين أَلف حجاب غِلَظ كلَّ حجاب كغلظ سبع سماوات وسبع أَرضين، من الحجاب إِلى الحجاب كما بين السّماءِ السّابعة إِلى الأَرض السّابعة فسبحان مَن هو بالمنظر الأَعلى.
وقد ورد الحجاب فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوَّل: بمعنى الجَبَل الَّذى تحتجب به الشمس آخر النَّهار {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} أَى الجبل.
الثَّانى بمعنى: السِّتر الشِّرعى {فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} .
الثالث بمعنى: قصور درجة النبوّة عن درجة الرّسالة بالإِضافة إِلى حضرة الرّبوبية {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} .
الرَّابع بمعنى: الأَعراف للسّور الَّذى بين الجنَّة والنَّار {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ} قيل: ليس المراد بالحَجْب ما يحجب النَّظر وإِنَّما المراد ما يمنع وصول لذَّة الجنَّة إِلى أَهل النَّار وأَذيَّة أَهل النار إِلى أهل الجنَّة كقوله تعالى {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} الآية.(2/433)
والحاجب: المانع عن السلطان، قال:
وكم حاجب غضبان كاسر حاجب ... يقابلنى بالزهْو والتِيه والكِبْر
ومن شِيَمِ الحُجَّاب أَن قلوبَهم ... قلوبٌ على الأَحرار أَقسى من الصخر
والحاجبان فى الرّأس لكونهما كالحاجبين للعين فى الدّرْءِ عنهما، وحاجب الشمس لتقدّمه عليها تقدّمَ الحاجب للسّلطان.
بصيرة فى الحجر بالكسر
وقد ورد فى القرآن واللغة على وجوه: الأَوّل العقل، قال الله تعالى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} . الثَّانى: حِجْر الكعبة المعظَّمة زادها الله تعظيماً وهو ما حواه الحَطِيم المُدَار بالبيت من جانب الشَمَال. الثالث: الحِجْر ديار ثمود ومنازلهم ناحية الشام عند وادى القُرى، قال الله تعالى {كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} . الرّابع: الحِجْر البيت وبه فسِّر قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} . الخامس: الحِجْر الأُنثى من الخيل والجمع حُجُور وحُجُورة وأَحجار. وقول العراقيّين: حِجْرة، ليس من كلام العرب. السادس: الحِجْر القرابة، قال:
يريدون أَن يُقصوه عنِّى وإِنه ... لذو حَسَب دَانٍ إِلىّ وذو حِجر(2/434)
السّابع: الحِجْرُ والحَجْر بالكسر والفتح: حجر الإِنسان، والجمع الحجور.
الثَّامن: الحجْر بالكسر والفتح والضمّ - والكسر أَفصح - الحرام، قال تعالى {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أَى حراماً محرَّماً، يظنُّون أَنَّ ذلك ينفعهم كما كانوا يقولونه لمن كانوا يخافونه فى الشهر الحرام. وقال ابن عبّاس: هذا من قول الملائكة، يقولوه لهم: حجراً محجوراً: حجرتْ عليهم البُشَر فلا يبشرون بخير.
بصيرة فى الحجارة
وقد وردت فى القرآن على خمسة أَوجهٍ: الأَول بمعنى: حَجَر الكبريت {وَقُودُهَا الناس والحجارة} وقيل: بل هى الحجارة بعينها، ونبّه بذلك على عظم تلك النَّار وأَنَّها ممّا توقد بالنَّاس والحجارة بخلاف نار الدّنيا إِذ هى لا يمكن أَن توقد بالحجارة. وقيل: أَراد بالحجارة الَّذِين [هم] فى امتناعهم وصلابتهم عن قبول الحقّ كالحجارة، كمن وصفهم بقوله {فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} . الثَّانى بمعنى: الجبال {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار} . الثَّالث: حَجَر موسى عليه السّلام {فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} . الرّابع: حجر العذاب لقوم لوط {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} . الخامس: حَجَر الكعبة على أَصحاب الفيل {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} .(2/435)
والحَجَر: الجوهر الصّلب وجمعه أَحجار فى القلَّة، وفى الكثرة حِجَار وحِجَارَة. ويقال للحَجَر. أُحْجُرّ، قال:
يرمينىَ الضعيفُ بالأُحْجُرِّ
ومثله أُكبُرُّهم أَى أَكْبَرهم.
والحُجْرَةُ - بالضمّ -: حَظِيرة الإِبل. ومنه حجرة الدّار. والجمع الحُجر والحُجُرات بضمتين والحُجْرَات. والحُجْرة: الرُّقْعة من الأَرض المحجورة بحائط يحوَّط عليها، فُعْلة بمعنى مفعول كالغُرفة والقُبْضة.
بصيرة فى الحجز
وهو المنع بين الشيئين بفاصل بينهما {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} وسُمّى الحِجَاز حجازاً لكونه حاجزا بين الشأم والبادية. وقال تعالى {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فقوله: (حاجزين) صفة لأَحدٍ فى موضع الجمع. والحِجَاز: حَبْل يُشَدّ من حَقْو البعير إِلى رُسْغِه.
وتُصوّر منه معنى المنع فقيل: احتَجَزَ فلان عن كذا، واحتجز بإِزاره. ومنه حُجْزة السّراويل. وقيل: إِن أَردتم المحاجزة، فقبل المناجزة. وقيل: حَجَازيك أَى احْجِزْ بينهم.(2/436)
بصيرة فى الحدود والحديد
الحَدّ: الحاجز بين الشيئين الَّذى يمنع اختلاط أَحدهما بالآخر. يقال: حدَدْت كذا: جعلت له حدّاً يميّزه. وَحدُّ الدّار: ما تتميّز به عن غيرها. وحَدّ الشئ: الوصف المحيط بمعناه المميّز له عن غيره. وحدّ الزَّانى والخمر سمّى لكونه مانعاً لمتعاطيه عن معاودة مثله ومانعاً لغيره أَن يسلك مسلكه. وقوله تعالى {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله} أَى أَحكامه، وقيل: حقائق معانيه.
وجميع حدود الله على أَربعة أَضرب: إِمّا شئ لا يجوز أَن يُتعدّى بالزيادة عليه، ولا يجوز النقصان عنه، كأَعداد ركعات صلاة الفرض؛ وإِما شئ يجوز الزيادة عليه ولا يجوز النقصان عنه؛ وإِمّا شئ يجوز النقصان عنه ولا يجوز الزِّيادة عليه؛ [وإِمّا شئ يجوز كلاهما] .
والحدود جاءَت فى القرآن على سبعة أَوجهٍ: الأَوّل حَدّ الاعتكاف لإِخلاص العبادة {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله} الثَّانى: حد الخُلْع لبيان الفِدْية {فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله} . الثَّالث:(2/437)
حَدُّ الطَّلاق لبيان الرَّجعة {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . الرّابع: حَدّ العِدّة لمنع الضرار وبيان المدّة. الخامس: حَدّ الميراث لبيان القسمة {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} السادس: حدّ الظِّهار لبيان الكفارة {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} إِلى قوله {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} . السَّابع: حَدّ الطَّلاق لبيان مُدّة العِدّة {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} إِلى قوله {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} .
وقولُه تعالى {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أَى يمانعون. وذلك إِمّا اعتباراً بالممانعة، وإِمّا باستعمال الحديد.
والحديد معروف، قال تعالى {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وحدَدت السّكين: رقَّقت حَدّه، وأَحددته: جعلت له حَدّاً. ثمّ يقال لكلّ ما دَقَّ فى نفسه من حيث الخلقة أَو من حيث المعنى كالبصر والبصيرة: حديد. فيقال: هو حديد النَّظر وحديد الفهم. قال تعالى {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} ويقال: لسانٌ حديدٌ نحو لسان صارم وماض وذلك إِذا كان يؤثِّر تأثير الحديد، قال تعالى {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ولتصوُّر المنع سُمّى البوّابُ حَدّاداً. وفى الحديث: "مَنْ أَشار إِلى أَخيه بحديدةٍ فإِنَّ الملائكة تلعنه" وفى المثل: الحديد بالحديد يُفْلَح.(2/438)
بصيرة فى الحديث
وقد ورد فى القرآن على خمسة أَوجه: الأَوّل بمعنى: الأَخبار والآثار. {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} أَى أَتخبرونهم. الثَّانى بمعنى: القول والكلام {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أَى قولاً. الثَّالث بمعنى: القرآن العظيم {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} . الرّابع بمعنى: القِصَصَ ذات العِبَرِ {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} أَى أَحسن القِصَصِ. الخامس بمعنى: العِبَر فى حديث الكفَّار والفجّار {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} قال الشاعر:
كلُّ العلومِ سوى القُرْآنِ مَشْغَلة ... أَو الأَحاديث من دون الدواوينِ
فبالقرَانِ أُقيمت كلُّ مائلةٍ ... وبالحديث استقامتْ دولةُ الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سواه فوسواس الشياطين
وكلُّ كلام يَبلغ الإِنسان من جهة السّمع أَو الوحى فى يقظته أَو منامه يقال له: حديث. قال تعالى {وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} وقوله {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أَى ما يحدّث به الإِنسان فى نومه.(2/439)
والحديث أَيضاً: الطرىّ من الثمار. ورجل حَدُث: حسن الحديث. ويقال لكلِّ ما قرب عهده: حديث، فَعَالا كان أَو مقالاً، قال تعالى {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} .
والحُدُوث: كون الشئ بعد أَن لم يكن، عَرَضاً كان أَو جوهراً، وإِحداثه: إِيجاده. وإِحداث الجوهر ليس إِلاَّ لله تعالى. والمحدَث: ما أُوجد بعد أَن لم يكن، وذلك إِمّا فى ذاته أَو إِحداثه عند من حصل عنده نحو: أَحدثت مِلكاً. ورجل حَدَث وحديث السّنِّ بمعنًى، وحِدْث النساء بالكسر أَى محادثهنَّ وتحادثوا وصاروا أحدوثة. والحادثة: النَّازلة العارضة.(2/440)
بصيرة فى الحذر
وهو احتراز عن مُخيف. ويقال حِذْر وحَذَر، قال الفرَّاء: أَكثر الكلام الحِذْر بالكسر وهو التحرّز. ورجل حَذِر وحَذُر أَى متيقِّظ متحرّز، وقد حَذِرَ يحذَر حَذَراً وحذّرته. قال تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} وقوله تعالى {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} أَى ما فيهِ الحَذَر من السلاح وغيره. حَذَارِ أَى احذر.
وقد ورد الحَذَر فى القرآن على ثلاثة أَوجه: الأَوّل بمعنى: الخوف والخطر {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أَى يخوّفكم. الثَّانى بمعنى: الإِباءِ والامتناع {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} أَى امتنعوا. الثالث بمعنى: كتمان السرّ {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أَى مظهر ما تكتمون.
ثمّ يختلف الحذر تارة من فتنة الأَولاد {عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} وتارة حذر النبى صلى الله عليه وسلم من مكر المنافقين {هُمُ العدو فاحذرهم} وتارة حذره صلَّى الله عليه وسلَّم من فتنة اليهود {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} وتارة حذر المنافقين من فضيحتهم بنزول القرآن {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} وحذر فرعون وهامان من عسكر موسى بن عمران {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} وحذر المسلم ممَّن يخالف الرّحمن {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} .(2/441)
بصيرة فى الحر وما يشتق منه
الحَرّ: ضدّ البَرْدِ، والحرارة: ضدّ البرودة. تقول منه: حَرَرْت يا يوم بالفتح وحرِرت بالكسر، فأَنت تَحِرُّ وتَحَرّ حَرّاً وحرارةً وحُروراً، سمع ذلك الكسائىُّ. والحرارة ضربان: حرارة عارضة فى الهواءِ من الأَجسام المُحْمِيَةِ كحرارة الشَّمس والنَّار، وحرارة عارضة فى البدن من الطَّبيعة كحرارة المحموم.
وحُرّ الرّجل فهو محرور، وكذا حُرّ يومُنا وحرّ بالضمّ وبالفتح. والحَرُور: الريح الحارَّة. واستحرَّ القَيظُ: اشتدّ حرّه. والحُرّ خلاف العبد، حَرَّ العبد بالفتح يَحَرّ حَرَاراً: عَتَقَ، قالَ:
فما رُدّ تَزْويج عليه شهادة ... وما رُدّ من بعد الحَرَار عَتيق
ورجل حُرّ بيِّن الحَرُوريّة والْحُروريّة كالخَصُوصيّة والخُصوصية.
والحُرّية ضربان: الأَوّل مَن لم يَجْرِ عليه حكم السَّبْى نحو {الحر بِالْحُرِّ} والثَّانى مَن لم يتملكه قواه الذميمة: من الحِرْص والشرَهِ على القُنْيات الدّنيوية.(2/442)
وإِلى العبوديَّةِ المضادّة لهذا أَشار النبى صلى الله عليه وسلم "تعِس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم" وقول الشاعر:
ورِقُّ ذوى الأَطماع رِقُّ مخلد
وقيل عبد الشهوة أَذَلُّ من عبد الرّقِّ. والتَّحرير: جَعْلُ الإِنسانُ حُرّاً فمِن الأَول {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ومن الثانى {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} قيل: هو أَنَّه جعل ولده بحيث لا ينتفع به الانتفاع الدّنيويى المذكور فى قوله {بَنِينَ وَحَفَدَةً} بل جعله مخلصاً للعبادة. ولهذا قال الشَّعبى: مخلصاً للعبادة، وقال مجاهد: خادماً بالبِيعة، وقال جعفر: معتَقاً من أَمر الدّنيا، كلُّ ذلك إِشارة إِلى معنى واحد. وحرّ الدّار وحُرّ الرّمل: وسَطه. وحُرّ الوجه ما بدا من الوجه. والحُرّ أَيضاً: فَرْخ الحمامة وولد الظَّبية وولد الحيّة والصّقر والبازى. والحُرّ أَيضاً: رُطَب الأَزَاذ. والحُرّ من الفرس: سواد فى ظاهر أُذنَيهِ. وساقُ حُرّ: الوَرَشانُ وذكر القمارىّ. وأَحرار البُقُول: ما يؤكل غير مطبوخ. ويقال ما هذا بُحرّ أَى بحسَن ولا جميل. وطينٌ حُرّ: لارمل فيل.(2/443)
بصيرة فى الحرب
وهو معروف يذكَّرَ ويؤنَّث. يقال: وقعت بينهم حرب. قال الخليل: تصغيرها حُرَيب روايةً عن العرب. قال المازنىّ لأَنَّه فى الأَصْلِ مصدر. قال المبرّد: الحرب قد يذكَّر. وأَنشد:
وهو إِذا الحرب هَفَا عُقابه ... مِرْجَمُ حَرْب يلتظِى حرابه
وأنا حَرْب لمن حاربنى أَى عدوّ. وفى الحديث "الحرب خدعة" وقال:
وصالكمُ صَدُّ وحبّكمُ قِلىً ... وقُرْبكمُ بُعْدٌ وسِلْمُكُمُ حَرْبُ
وأَنتم بحمد الله فيكمْ فظاظةٌ ... وكلُّ ذَلُولٍ من مَرَاكِبِكُمْ صَعْبُ
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه: الأَوّل بمعنى: المخالفة {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله} أَى بخلاف {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} يخالفون. الثَّانى بمعنى: الكفر والضلالة. يقال: دار الحَرْب أَى الكفر {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أَى الكافر الحربىّ. الثَّالث بمعنى القتال {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} أَى فى القتال {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ} أَى القتال. ورجل مِحرَب كأَنَّهُ آلة فى الحرب. والحَرْبة: آلة للحرب معروفة. والجمع حِرَاب. وسيأتى المحراب فى الميم إِن شاءَ الله تعالى.(2/444)
بصيرة فى الحرث
وهو إِلقاءُ البَذْر فى الأَرض وتهيِئتها للزرع، ويسمى المحروث حَرْثا، قال تعالى {أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ} وتُصُوّر منه العمارة التى تحصل عنه فى قوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية، والدّنيا مَحْرَث للناس وهم حُرّاث فيها. وفى الحديث "أَصدق الأَسماء الحارث والهمَّام" وذلك لتَصوُّر معنى الكسب فيه. وروى "احرث لدنياك كأَنَّك تعيش أَبداً" وتُصوّر [من] معنى الحرث معنى التّهييج فقِيل: حَرَثت النَّار. ويقال احُرث القرآن أَى أَكثر تلاوته. وفى حديث ابن مسعود: احرُثوا هذا القرآن أَى فَتِّشوه وتدبَّروه. وَحَرث ناقته إِذا استعملها. وقال معاوية للأَنصار: ما فعلتْ نواضحكم قالوا حرثناها يوم بدر. قال تعالى {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} وذلك على سبيل التشبيه. فالبنّساء زَرْع مابه بقاء نوع الإِنسان، كما أَن بالأَرض زرع ما به بقاءُ أَشخاصهم.
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه. الأَّول: بمعنى الزّرع المعهود {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} {وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ} {وَيُهْلِكَ الحرث(2/445)
والنسل} الثانى بمعنى النساء {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} الثالث بمعنى منفعة الدّنيا وثواب الآخرة {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا} أَى نفعها {مَنْ كان يُريدُ حَرْثَ الآخِرةِ} أَى ثوابها، قال:
إِذا أَنت لم تحرث وأَبصرت حاصدا * ندمت على التفريط فى زمن الحرث
وأَصل الحرث كسب المال وجمعه يقال حرث يَحْرُث مثال كتب يكتب، وحرث يحرث مثال سمع يسمع. وحَرَث عصاه براها حيث يقع اليد عليه منها وجعل لها مِقْبَضا. والحرث المحَجّة المكدودة بالحوافر.(2/446)
بصيرة فى الحرج
وهو مصدر بزنة فَعَل، وأَصله مجتمع الشجر. وتصُوِّر منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حَرَج، وللإِثم حَرَج، وقد حرج صدره يَحْرَج كعلم يعلم.
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة معان. الأَول: بمعنى الشَّك والرَّيْب {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} قيل هو نهىٌ وقيل دعاءٌ وقيل حُكْم {في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} أَى شكّاً. الثانى: بمعنى الضيق {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} أَى ضيّقاً بكفره. الثَّالث. بمعنى الإِثم {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} أَى إِثم، والمتحِّرج: المتجنِّب عن الحرج.(2/447)
بصيرة فى الحرد
وهو المنع عن حِدّة وغضب، قال تعالى {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} أَى على امتناع أَن يتناولوه قادرين على ذلك. ونزل فلان حَريداً أَى ممتنعا عن مخالطة القوم، وهو حريد المحلّ وحاردتِ السّنةُ: منعَتْ قَطْرها، والنَّاقةُ: منعت دَرّها. وحردَ كعلم: غضب وَحَرَّدَهُ تحريداً أَغضبه وبعير أَحْرَدُ: فى إِحدى يديه حَرَدٌ. والحُرْديَّة حَظيرة من قصب.(2/448)
بصيرة فى الحرس
الحرَس والحُرّاس جمع حارسٍ وهو حافظ المكان. والحَرْسُ والحَرْز متَقَاربان معنىً تقارُبَهما لفظا، لكنَّ الحرْز يستعمل فى النَّاضِّ والأَمتعة أَكثر، والحرسَ يستعمل فى الأَمكنة أَكثر. وحَرَيسة الجبل: ما يُحْرس فى الجبل بالليل. قال أَبو عُبيدة: الحَريسة هى المحروسة. قال: والحَرَيسة: المسروقة، يقال حرس يحْرِس كضرب يضرب، والظاهر أَن ذلك تُصوّر من لفظ الحَريسة لأَنَّه جاءَ عن العرب فى معنى السرقة.(2/449)
بصيرة فى الحرص
وهو فَرْط الشَّرَه، وأَصل ذلك من حَرَص القصّارُ الثوبَ أَى قَشَره بدَقِّه.
وقد ورد فى القرآن على وجهين:
الأَول: بمعنى التمنى والإِرادة {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} أَى: إِن يفرط إِرادتك فى هدايتهم.
الثانى: بمعنى الشفقة والرّأْفة {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، قال:
يا طالبَ الرزقِ فى الآفاق مجتهداً ... كَبِّحْ لجامَك إِن الرّزق مقسومُ
لا تحرصَنَّ على ما لست تُدْرِكُه ... إِنّ الحريصَ على المحبوبِ محروم
ومن الحِكَم: البخيل مذموم، والحسود مَرجوم، والحريص محروم.
ويقال: لا تكن حريصا على الدنيا تكن حافظا، فإِن الحرص على الدنيا يورث النسيان.
ومن كلامهم: قُرن الحرصُ بالحرمان.(2/450)
بصيرة فى الحرض
رجل حَرَض كجَبَل وحَرِضٌ ككتف وحارضة، أَى فاسد مريض، واحده وجمعه سواء، قال الله تعالى {حتى تَكُونَ حَرَضاً} قال قتادة: حتى تهرم أَو تموت. ابن عرفة: وهو الفساد يكون فى البدن والمذهب والعقل. ورجل حَرِضٌ وحارض اذا أَشفى على الهلاك. وقيل الحرض والحارضة الذى لا خير عنده. قال:
يا رُبّ بيضاءَ لها زوجٌ حَرَضْ ... حلاَّلة بين عُرَيْقٍ وحَمَضْ
وفى حديث عوف بن مالك الأَشجعى رضى الله عنه قال: رأَيت محلِّم بن جَثَّامة الليثى رضى الله عنه فى المنام فقلت له [كيف] أَنت يا محلِّم؟ فقال: بخير. وجدنا ربّاً رحيماً غفر لنا، قلت لكلِّكم؟ قال: لكلنا غير الأَحراض. قلت: ومن الأَحراض؟ قال: الَّذين يُشار إِليهم بالأَصابع، أَراد الفاسدين المشتهرين بالشر، الذين لا يخفى على أحد فسادهم، شبّههم بالسَّقْمَى المشرفين على الهلاك فسمّاهم أَحراضاً. وقال: أَبُو عبيدة: الحرَض الَّذى أَذابه الحزن والعشق. وأَحرضَه الحُبّ: أَفسده.(2/451)
والتحريض على القتال: الحَثّ والإِحماء عليه، قال الله تعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أَى حثَّهم عليه بالتَّزيين وتسهيل الخَطْب فيه، كأنه فى الأَصل إِزالة الحَرَض، نحو: قذَّيته أَى أَزلت عنه القَذى.
بصيرة فى الحرف
حرف كل شئ طَرَفه وشَفيرهُ وحَدّه. ومنه حرف الجبل وهو أَعلاه المحدَّد. قال الفرَّاء: جمع حَرْف الجبل حِرَف كعِنَبَ ومثله طَلّ وطِلَل ولم يُسمع غيرهما. وقوله تعالى {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} أَى على وجهٍ. وهو أَن يعبده فى السرَّاء دون الضراء. وقيل: على شكٍّ، وقيل على غير طُمأْنينة من أَمره، أَى يدخل فى الدين دخولَ غيرِ متمكن. وقيل: معناه ما بعده {فإِن أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمأَنَّ به} وفى معناه {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} . وقوله: صلى الله عليه وسلم "نزل القرآن على سبعة أَحرف كلها شاف كاف". قال: أَبو عبيدة أَى سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أَن تكون فى الحرف الواحد سبعة أَوجه، ولكن يقول: هذه اللغات السبع مفرقة فى القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعض بلغة هوزان، وبعضه [بلغة] أَهل اليمن.
وتحريف الشئ: إِمالته، وتحرَّف وانحرف: مال. قال الله تعالى {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أَى مستطرداً يريد الكرَّة.(2/452)
بصيرة فى الحرق
حرَقت الشئَ أَحرُقه كنصرته أَنصره أَى بَرَدْته وحككت بعضه على بعض، ومنه قراءَة علىّ وابن عبّاس رضى الله عنهم وأَبى جعفر {لَنَحْرُقَنَّه} والنون مشددة. وعن أَبى جعفر {لنُحْرِقَنْهُ} والنَّون مخفَّفة. والحَرَق بالتَّحريك: النَّار. يقال: فى حَرَقِ الله، ومنه الحديث "الحَرَق والغَرَق والشَّرَق شهادة" ويقال حَرَقُ النَّار: لَهَبها. وفى الحديث "ضالَّة المؤمِن أَو المسلم حَرَق النَّار" يعنى إِذا أَخذها إِنسان وتملكها أَدّته إِلى النار. والحُرْقة بالضم والحَريق: اسمان من الاحتراق.
وقوله تعالى {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} أَى لهم عذاب بكفرهم، وعذاب إِحراقهم المؤمنين. وحرقت الشئ حَرْقاً [و] أَحرقته. وقال الفرّاء: الحَرْقة والحُرْقة. وأَحرقه بالنار وحرّقه شُدد للكثرة، وقرئ: {لَتُحَرِّقَنَّهُ} يقول للسَّامِرىّ لتُحَرِّقَنَّ بيدك إلهك الذى ظَلْت عليه عاكفاً. والإِحراق إِيقاع نارٍ ذاتِ لهب فى الشئ ومنه استعير أَحرقنى بلومه إِذا بلغ فى أَذيته بلوم.(2/453)
بصيرة فى الحرام
وهو الممنوع منه، إِمّا بتَسْخير إِلهى، وإِمَّا بمنع بَشَرىّ، وإِما بمنع من جهة العقل أَو من جهة الشرع أَو من جهة من يُرْتَسم أَمره.
أَما قوله تعالى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} فذلك تحريم بتسخير، وقد حُمِل على ذلك قوله تعالى {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ} وقوله تعالى {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وقيل بل كان حراماً عليهم من جهة القهر [لا] بالتخسير الإِلهى. وقوله تعالى {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} فهذا من جهة القهر.
والمحرم من جهة الشرع ما أُشِير إليه بقوله {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} هذا كان محرَّماً عليهم بحكم شرعهم. وقوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية.
وقيل: ورد الحرام فى القرآن على عشرة أَوجه:
الأَول: حرام الصّحبة والمناكحة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية.
الثانى: حرام الفسق والمعصية {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} .(2/454)
الثالث: حرام العجائب والمعجزة {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ} .
الرابع: حرام العذاب والعقوبة {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} .
الخامس: حرام فسخ الشريعة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} إِلى قوله: {ذَلكُمْ فِسْقٌ} .
السادس: حرام الحرمان والهلكة {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ} .
السابع: حرام الهوى والشهوة {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} {وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} .
الثامن: حرام النذر والمصلحة {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} أَى لِمَ تحكم بتحريم ذلك {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} .
التاسع: حرام الحظْر والإِباحة {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} .
العاشر: حرام التوقير والْحُرْمَة {رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا} وهذا النوع يأْتى على وجوه:
الأَول: وصف المسجد بالحرام {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام}
الثانى: نعت الأَشهر بالحرام {الشهر الحرام بالشهر الحرام}(2/455)
الثالث: دعاءُ البيت بالحرام {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} . وسُمِّىَ الحَرَم حَرَماً لتحريم الله تعالى فيه كثيراً مما ليس بمحرَّم فى غيره من المواضع. ورجلٌ حرام وحلال ومُحِلٌّ ومُحْرِم. وكلّ تحريم ليس من قِبَل الله تعالى فليس بشئ. وقوله تعالى {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أَى ممنوعون من جهة الجَدِّ. وقوله تعالى {لَّلسَّآئِلِ والمحروم} أَى الذى لم يوسَّع عليه فى الرِّزق كما وُسِّع على غيره. ومن قال: (أَراد به) الْكَلْب، فلم يَعْنِ اَن ذلك اسمٌ للكلب كما ظنه بعض من رَدّ عليه، وإِنما ذلك منه مثال لشئ كثيرا ما يَحْرِمُه الناس أَى يمنعونه.(2/456)
بصيرة فى الحزب
وهو جماعة فيها غِلظ، وقيل: الحزب الأَصحاب، والحزب الطائفة، وهُذيل تسمى السلاح الحِزْب تشبيهاً وسعةً. والأَحزاب: الطوائف التى تجتمع على محاربة الأَنبياء عليهم السلام. وقوله تعالى {فَإِنَّ حِزْبَ الله} يعنى أَنصار الله. قال بلال عند وفاته: "غداً نلقى الأَحبَّهْ، محمداً وحزْبَهْ".
وفى الحديث أَنّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم حَزَّب أَصحَابه فى بعض الغزاوت حزبين، أَى جعلهم فرقتين: فرقة تقابل العدوَّ، وفرقة تصلِّى معه.
وورد فى القرآن على وجوه:
الأَول: بمعنى أَصناف الخلائق فى اختلاف المذاهب والمِلَل والأَديان {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
الثانى: بمعنى عسكر الشيطان {أولائك حِزْبُ الشَّيْطَانِ} .
الثالث: بمعنى جُنْد الرحمن {أولائك حِزْبُ الله} وهم فى الدنيا غالبون مصلحون {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} وفى العُقْبى فائزون مفلحون {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .(2/457)
بصيرة فى الحزن
والحُزْن والحَزَنُ خشونة فى الأَرض وخشونة فى النفْس لما يحصل فيه من الغمّ، ويضادّه الفرح. ولاعتبار الخشونة بالغمّ قيل خشَّنتُ بصدره إِذا حَزَنته. يقال: حَزِنَ يحزن كعلم يعلم، وحَزَنته. وقوله {وَلاَ تَحْزَنْ} ليس بنهىٍ عن تحصيل الحزن، لأَن الحزن ليس يدخل باختيار الإِنسان. ولكن النهى فى الحقيقة إِنما هو عن تعاطى ما يورث الحزن واكتسابِه. وإِلى هذا المعنى أَشار الشاعر بقوله:
ومَن سَرّه أَلاَّ يرى ما يسوءُه ... فلا يتخِذْ شيئاً يخاف له فقداً
وأَيضاً يحُث على أَن يتصوّر الإِنسان ما عليه جِبِلَّة الدّنيا، حتى إِذا غافصته نائبةٌ لم يكترث لها لمعرفته إِيّاها، وحث على أَن يروض نفسه على تحمل صِغَار النُّوَب حتى يتوصّل بها إِلى تحمّل كبارها.(2/458)
بصيرة فى الحس
وهو القتل، ومنه قوله تعالى {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أَى تقتلونهم وتستأْصلونهم، وحَسّ البرْدُ الجرادَ: قتله. والحَسِيس: القتيل، فعيل بمعنى مفعول.
وقوله تعالى {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} أَى حِسّها وحركة تلهُّبها. قال إِبراهيم الحربى: الحِسّ والحَسِيس أَن يمرَّ بك قريبا فتسمعَه ولا تراه. والحاسة: القوّة التى بها تدرَك الأَعراض الجسمِيّة. والحواسّ: المشاعر الخمس، يقال: حَسَسْت وَحَسيت وأَحسست وأَحسيت.
فحَسْست على وجهين: أَحدهما يقال أَصبته بحسّى، نحو: عِنْته ورمحته. والثانى أَصبت حاسته، نحو كبدته. ولمّا كان ذلك قد يتولد منه القتلُ عبّر به عن القتل فقيل حسَسته أَى قتلته. وأَما حسِست فنحو علمت وفهمت، ولكن لا يقال ذلك إِلا فيما كان من جهة الحاسّة. وأَمّا حَسَيت فقلبت إِحدى السّينين ياء. وأَمّا أَحسسته فحقيقته أَدركته بحاستى، وأَحَسْت مثله، لكن حذف إِحدى السينين تخفيفاً نحو ظِلَت.
وقوله تعالى {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} تنبيه أَنَّه ظهر منهم الكفر ظهوراً بانَ للحسّ فضلاً عن التفهّم. وكذلك قوله تعالى {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} وقوله تعالى {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أَى هل تجد بحاسّتك أَحداً منهم. وقد يعبر عن الحركة بالحسيس والحِس، قال تعالى {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} .(2/459)
بصيرة فى الحساب
وهو استعمال العدد. يقال حَسَبت أَحْسُب ككتبت أَكتب حِسَاباً وحُسْبَاناً وحِسَابَه وَحِسْبَةً وَحَسْباً. قال عمر رضى الله عنه: حاسبوا أَنفسكم قبل أَن تحاسبوا، وزِنُوها قبل أَن توزنوا. قال:
وكنت حسبت فلما حَسِبْـ ... تُ زاد الحساب على المحسبَهْ
وقد خِلتُها مَرْتَعا مُمْرِعا ... فصادفتها دِمْنَةً مُعْشبه
وقال:
فإِن تَزُرْنِى أَزُورْكَ أَوْ إِنْ ... تقفْ ببابى أَقفْ ببابكْ
والله لا كنتَ فى حسابى ... إِلا إِذ كنتُ فى حسابك
وقد ورد الحساب فى التنزيل على عشرة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الكثرة {عَطَآءً حِسَاباً} أَى كثِيراً.
الثانى: بمعنى الأَجر والثواب {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي} أَى أَجرهم.
الثالث: بمعنى العقوبة والعذاب {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أَى لا يخافون عذاباً.
الرّابع: الحَسِيب بمعنى الحفيظ {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} أَى حفيظاً.(2/460)
الخامس: الحسِيب بمعنى الشاهد الحاضر {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} أَى شهيداً.
السّادس: الحساب بمعنى العَرْض على الملِك الأَكبر {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أَى الْعَرْض على الرّحمن.
السّابع: بمعنى العدد {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أَى عدد الأَيام.
الثامن: بمعنى المنَّة {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَى بغير مِنَّة عليهم ولا تقتير.
التَّاسع: الحُسْبان بمعنى دوران الكواكب فى الفَلَك {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أَى يدوران حول القُطْب كدوران الرّحى.
العاشر: الحِسْبان بالكسر بمعنى الظن {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً} وله نظائر.
وأَمّا قوله تعالى {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء} فقيل معناه ناراً وعذاباً، وإِنما هو فى الحقيقة ما يحاسب عليه فيجازى بحَسَبه. وفى الحديث أَنَّه قال فى الريح: "اللهمّ لا تجعلها عذاباً ولا حسَاباً".
وذكر بعضهم فى قوله تعالى {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَوجها:
الأَول: يعطيه أَكثر مما يستَحِقه.
الثانى: يعطيه ولا يأْخذ منه.(2/461)
الثالث: يعطيه عَطاءَ لا يمكنُ إِحصاؤه كَثْرةً.
الرابع: يعطيه بلا مضايقة، من قولهم: حاسبته إِذا ضايقته.
الخامس: أَكثر ممّا يحسُبُه.
السّادس: أَنه يعطيه بحسب ما يعرفه من مصلحة لا على حَسَب حسابهم. وذلك نحو ما نبّه عليه بقوله {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمان} الآية.
السابع: يعطى المؤمن ولا يحاسبه عليه. ووجه ذلك أَن المؤمن لا يأْخذ من الدّنيا إِلاَّ قدر ما يجب وكما يجب فى وقت ما يجب، ولا ينفق إِلاَّ كذلك، ويحاسب نفسه فلا يحاسبه الله تعالى حسابا يضرّه، كما روى: مَنْ حاسب نفسه لم يحاسبه الله يوم القيامة.
الثامن: يقابل المؤمنين يوم القامة لا بقدر استحقاقهم بل بأَكثر منه كما قال {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} ، وعلى هذه الأَوجه قوله تعالى: {يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقوله تعالى: {فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . قيل: تصرّفْ فيه تصرفَ من لا يحاسَب، أَو تناولْ كما يجب فى وقت ما يجب وعلى ما يجب وأَنفقه كذلك.
و"حَسْب" يستعمل فى معنى الكفاية {حَسْبُنَا الله} أَى كافينا {وكفى(2/462)
بالله حَسِيباً} أَى رقيباً يحاسبهم عليه. وقوله تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} نحو قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وقيل معناه: ما كفايتهم عليك بل الله يكفيهم وإِيّاك، من قوله تعالى: {عَطَاءً حساباً} أَى كافياً، من قولهم حسبى كذا. وقيل: أَراد من عملهم فسمّاه بالحساب الَّذى هو منتهى الأَعمال. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} مصدره الحِسْبَان، وهو أَن يحكم لأَحد النقيضين من غير أَن يَخْطِر الآخر بباله فيحسبه ويعقد عليه الإِصبع ويكون فى معرِض أَن يعتريه فيه شكٌّ. ويقارب ذلك الظنّ، لكن الظنّ أَن يخطِر النَّقيضُ بباله فيغلبَ أَحدهما على الآخر.(2/463)
بصيرة فى الحسن
وهو عبارة عن كلّ مُبْهِج مرغوب فيه. وذلك ثلاثة أَضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهَوَى، ومستحسن من جهة الحِسّ. والحَسَنة يعبّر بها عن كلّ ما يَسُرّ من نعمة تنال الإِنسان فى نفسه وبدنه وأَحواله، والسيئة تضادّها، وهما من الأَلفاظ المشتركة كالحيوان الواقع على أَنواع مختلفة.
وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِ الله} أَى خِصْب وسعة وظفر، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أَى جَدْب وضِيق وخَيْبَة. وقوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أَى ثواب {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} أَى عذاب.
والفرق بين الحَسَنة والحسَن والحُسْنَى أَنَّ الحَسَن يقال فى الأَعيان والأَحداث، وكذلك الحَسَنة إِذا كانت وصفا. فإِذا كانت اسماً فمتعارَف فى الأَحداث، والحُسْنى لا يقال إِلا فى الأَحداث دون الأَعيان، والحَسَن أَكثر ما يقال فى تعارف العامّة فى المستحسَن بالبصر، يقال رجل حسن وحُسَان وحسّان وامْرَأَةٌ حسناءُ أَو حُسَانة وحُسّانة. وأَكثر ما جاءَ فى القرآن من الحَسَن فللمسْتَحسن من جهة البصيرة، وقوله تعالى: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أَى الأَبعد عن الشُّبهة. وقوله تعالى:(2/464)
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} إِن قيل: حكمه تعالى حَسَن لمن يوقن ولمن لا يوقن فَلِمَ خصّ؟ قيل: القصد إِلى ظهور حسنه والاطِّلاَع عليه؛ وذلك يظهر لمن تزكَّى واطَّلع على حكمة الله تعالى، دون الجَهَلة.
والإِحسان يقال على وجهين: أَحدهما الإِنعام على الغير، وقد أَحسن إِلى فلان. والثَّانى إِحسان فى فعله. وذلك إِذا علم علماً حَسَناً، أَو عمل عملاً حَسَناً. وعلى هذا قول أَمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه: "النَّاس أَبناءُ ما يحسنون" أَى منسوبون إِلى ما يعملونه من الأَفعال الحسنة. والإِحسان أَعمّ من الإِِنعام.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} فالإِحسان فوق العدل. وذلك أَنَّ العدل هو أَن يعطِى ما عليه ويأْخذ ما له، والإِحسان أَن يعطى أَكثر ممّا عليه ويأْخذ أَقلّ ممّا له. فالإِحسان زائد عليه. فتحرِّى العدل واجب، وتحرى الإِحسان نَدْب وتطوع، ولذلك عظم الله ثواب أَهل الإِحسان، قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} .
والإِحسان من أَفضل منازل العبوديّة؛ لأَنه لبّ الإِيمان ورُوحُه وكمالُه. وجميع المنازل منطوية فيها. قال تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم "الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ"(2/465)
وَأَمّا الآيَة فقال ابن عباس والمفسّرون: هل جزاءُ مَنْ قال لا إِله إِلا الله وعمل بما جاءَ به محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم إِلاَّ الجَنَّة، وقد رُوِى عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنه قرأ {هَلْ جَزَاءُ الإِحسانِ إِلاَّ الإِحسانُ} ثمَّ قال: هل تدرون ما قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أَعلم. قال: يقول: هل جزاءُ مَن أَنعمتُ عليه بالتَّوحيد إِلاَّ الجنَّة؟!. فالحديث إِشارة إِلى كمال الحضور مع الله تعالى ومراقبته، الجامع لخشيته ومحبّته ومعرفته والإِنابة إِليه والإِخلاص له ولجمع مقامات الإِيمان.
والإِحسان يكون فى القصد بتنقيته من شوائب الحظوظ، وتقويته بعزم لا يصحبه فتور، وبتصفيته من الأَكدار الدالَّة على كَدَر قصدِهِ. ويكون الإِحسان فى الأَحوال بمراعاتها وصونها غيرة عليها أَن تحُول، فإِنَّها تمرّ مرّ السّحاب، فإِن لم يَرْع حقوقها حالت. ومراعاتها بدوام الوفاءِ، وتجنُّب الجفاءِ، وبإِكرام نُزُلها؛ فإِنَّه ضيف، والضَّيف إِن لم يكن له نُزُل ارتحل. ويراعيها بسترها عن النَّاس ما أَمكن لئلاَّ يعلموا بها إِلاَّ لحاجة أَو مصحلة راجحة، فإِن فى إظهارها بدون ذلك آفات. وإِظهار الحال عند الصادقين من حظوظ النفس والشيطان، وأَهلُ الصّدق أَكتم وأَسْتر لها من أَرباب الكنوز لأَموالهم، حتى إِنَّ منهم مَنْ يُظهر أَضدادها كأَصحاب المَلاَمة. ويكون الإِحسان فى الوقت، وهو أَلاَّ يفارق حال الشُّهود، وهذا إِنَّمَا يقدر(2/466)
عليها أَهل التمكُّن الَّذين قطعوا المسافات الَّتى بين النَّفس وبين القلب، والمسافات الَّتى بين القلب وبين الله تعالى، وأَن تُعلِّق همّتك بالحقّ وحده، ولا تُعَلَّق بأَحد غيره، فإِنَّ ذلك شرك فى طريق الصّادقين، وأَن تجعل هجرتك إلى الحقّ سَرْمداً. ولله على كلّ قلب هجرتان فرضاً لازماً: هجرة إِلى الله بالتَّوحيد والإِخلاص والتَّوبة والحبّ والخوف والرّجاءِ والعبوديّة، وهجرة إِلى رسوله بالتسليم له والتَّفويض والانقياد لحكمه، وتلقِّى أَحكام الظَّاهر والباطن من مِشْكَاته. ومن لم يكن لقلبه هاتَان الهجرتان فليحْثُ على رأْسه الترابَ، وليراجع الإِيمان من أَصله.(2/467)
بصيرة فى الحشر
وهو إِخراج الجماعة عن مَقَرّهم وإِزعاجُهم عنه إِلى الحرب وغيرها. ورُوى عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أَنَّه قال فى حجّة الوداع: "النِّسَاءُ لا يُعْشَرن ولا يُحشرن". وذُكِر له معنيان، أَحدهما: أَنَّهنّ لا يُحشرن إِلى المصدّق ولكن يؤخذ منهنّ الصّدقة بمواضعهنَّ. والثَّانى: أَنَّهنّ لا يُحشَرْن إِلى المغازى ولا يضرب عليهنّ البُعُوث. وهذا هو القول، لأَن القول الأَوّل يستوى فيه الرّجال والنِّسَاءُ. وأَصل الحشر الجمع، حشرت الناس أَحشُرهم وأَحشِرهم أَى جمعتهم، ومنه يوم الحشر.
وقوله تعالى: {لأَوَّلِ الحشر} قيل هو الجلاءُ. وذلك [أَن] بنى النَّضير أَوّل مَن أُخرِج من ديارهم وأُجْلوا. وقيل: هو أَوّل حشرٍ إِلى الشام، ثمّ يحشر النَّاس إِليها يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} قال عكرمة: حَشْرها موتها. الأَزهرى وأَكثر المفسرين قالوا: تحشر الوحوش كلّها، والدّوابّ حتى الذُّباب تحشر للقِصَاص. والمَحْشَر والمَحْشِر - بفتح الشِّين وكسرها - موضع الحشر، والكسر أَفصح، كذا فى العباب.
وقد ورد الحشر فى القرآن على وجهين:
الأَوّل: الجمع {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} أَى جُمعت {وَحَشَرْنَاهُمْ} أَى جمعناهم.(2/468)
والثانى: بمعنى السَّوْق والطَّرد {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} .
والحشر بهذا المعنى يختلف لمعانٍ:
حَشْر الطُّيور لداود وطيب أَلحانهِ {والطير مَحْشُورَةً} .
وحَشْر الجنّ وغيره لسليمان عليه السّلام {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ} . وحَشْر السّحرة لفرعون وهامان {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} وحَشْر الخلائق للملِك الدّيّان {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} .
وحَشْر لأَهل الظُّلم والعدوان لعقوبتهم بالنِّيران {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} .
وحشر للمتَّقين إِلى نعيم الجِنَان والرّضوان {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمان وَفْداً} .(2/469)
بصيرة فى الحصر
حَصَرَهُ يحصُره حَصْراً: ضيّق عليه. وقوله تعالى {واحصروهم} أَى ضيِّقوا عليهم. وحصرنى الشئ: حبسنى. والحَصِير البارِىُّ. وفى المثل: أَسِيرٌ على حَصِير، قال:
فأَضحى كالأَمير على سرير ... وأَمسى كالأَسير على حصير
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أَى حابسا. قال فى العباب: الحَصِير السِّجن. ومنه الآية (حَصِيراً) أَى مَحْبِساً. قال الحسن: معناه: مِهاداً، كأَنَّهُ جعله الحصير المَرْمول؛ كقوله {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} ففى الأَوّل بمعنى: الحاصر، وفى الثانى بمعنى: المحصور، فإِنَّ الحصير سُمّى بذلك لحِصْر بعض طاقاته على بعض. وقال لَبيد:
وقَمَاقمٍ غُلْب الرّقاب كأَنهم ... جِنٌّ لدى باب الحصير قيام
دافعت خُطَّتها وكنت ولَّيها ... إِذ عَىّ قصد جوابها الحكَّام
سُمّى المَلِك حَصِيراً لأَنَّه محجوب، وإِمّا لكونه حاصراً أَى مانعاً لمَن أَراد الوصول إِليه. والحَصِير أَيضاً: البخيل، والرّجل الَّذى لا يشرب الشراب(2/470)
بخلا. والحَصِير عِرْق يَمتدّ معترضاً على جَنْب الدَّابة إِلى ناحية بطنها. وقول النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "تُعرض الفتنُ على القلوب عَرْض الحصير" فسّره أَهلُ الحديث فقالوا: الحصير كلّ ما نسج من جميع الأَشياءِ لأَنَّ بعضه نسج ببعض، سَدَاه بلُحمته. وقالوا: المراد من هذا أَنَّ الحَصِيرَ ثوب مزخرف مَوْشِىّ حَسَن إِذا نُشر أَخذتِ القلوبَ مآخِذُه لحسن وشْيه وصنعته، وكذلك الفتنة تزيّن للناس وتزخرف، وعاقبة ذلك إِلى غرور. قال:
فليت الدّهر عاد لنا جديداً ... وعُدْنا مثلنا زمن الحصير
أَى زمنا كان بعضنا يُزخرف القول لبعض فيتوادّ عليه. والحصير: الجنب، والحصيران الجنبان.
وقوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} قيل: الحصور: الَّذى لا يأْتى النِّساءَ، إِمّا من العُنَّةِ، وإِمَّا من العِفَّة والاجتهاد فى إِزالة الشهوة، والثانى أَظهر فى الآية لأَن بذلك يستحق الرّجلُ المحْمِدة. والحَصُور أَيضاً: المجبوب. والحصُور أَيضاً الضَّيّق البخيل كالحَصِر. والحصْر والإِحصار: المنع عن طريق البيت. والإِحصارُ يقال فى المنع الظَّاهر كالعدوّ، والمنعِ الباطن كالمرض، والحصْر لا يقال إِلاَّ فى المنع الباطن. وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} محمول على الأَمرين، وكذلك قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ} وقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أَى ضاقت بالبخل والجُبْن، وعبّر عنه بذلك كما عُبّر [عنه] بضيق الصدر، وعن ضدّه بالبرّ والسّعة.(2/471)
بصيرة فى الحصن
وهو واحد الحُصُون. وقوله تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} أَى مجعولة بالإِحكام كالحصون. وحَصَّن القَرْيَة: بنى جولها، وتحصّن: اتَّخذ الحصْن مسكناً. ثمّ يتجوّز به فى كل تحرز. ومنه دِرْع حصينة لكونها حصناً للبدن، وفَرس حِصان لكونه حصْناً لراكبه، وإِلى هذا أَشار الشاعر:
أَنَّ الحُصون الخيلُ لا مدَرُ القُرى
وقوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أَى تُحرِزون فى المواضع الحصينة الجارية مجرى الحِصْن. وامرأَة حَصَان وحاصن: عفيفة. وقد حَصُنت بالضمّ حُِصْناً فهى حَصْناءُ بيِّنة الحصانة، وأَحصنت. وقوله تعالى {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} أَى تزوّجن و (أُحْصِنّ) أَى زُوِّجن. والحَصَان فى الجملة المحصنة إِمّا بعفَّتها أَو بزوجها أَو بمانع آخر. ويقال: امرأَة مُحصِن إِذا تُصوّر حُصْنها من نفسها، ومُحْصَن إِذا تُصوّر حصنها من غيرها.
وقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف مُحْصَنَاتٍ} إِلى قوله:(2/472)
{فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} قيل: المحصنات: المزوّجات تصوّر أَن زوجها هو الَّذى أَحصنها. {والمحصنات} بعد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ} بالفتح لا غير، وفى سائر المواضع بالفتح والكسر لأَنَّ الَّتى حرّم التزوّج بها المزوّجات دون العفيفات، وفى سائر المواضع يحتمل الوجهين.
بصيرة فى الحصى
أُخِذ من لفظه الإِحصاءُ وهو التَّحصيل بالعدد يقال: أَحصيت كذا. واستعمال ذلك فيه من حيث إِنَّهم كانوا يعتمدونه بالعدد كاعتمادنا فيه على الأَصابع.
قوله تعالى: {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أَى حصّله وأَحاط به. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ للهَ تعالى تسعة وتسعين اسماً مَنْ أَحصاها دخل الجنَّة" وقال "استقيموا ولن تُحْصُوا" أَى لن تحصّلوا ذلك. ووجه تعذُّر إِحصائه وتحصيله هو أَنَّ الحقّ واحد والباطل كثير بل الحقّ بالإِضافة إِلى الباطل كالنقطة بالإِضافة إِلى سائر أَجزاءِ الدائرة وكالمَرْمَى من الهَدَف، وإِصابة ذلك شديد، وإِلى هذا أَشار ما روى أَنَّ النبىّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "شيَّبتنى سورة هود وأَخواته" فسئل من الذى شيبك منه، فقال قوله تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} وقال أَهل اللُّغة: لن تحصوه أَى لن تحصوا ثوابه.(2/473)
بصيرة فى الحضر
الحاضر خلاف البادى. ومنه الحديث "لا يبعْ حاضر لبادٍ، دَعُوا النَّاس يرزقِ اللهُ بعضَهم من بعض" والحاضرة خلاف البادية. والحاضِر: الحَىُّ العظيم وهو جمع كما يقال سامر للسُّمّار، وحاجّ للحُجَّاج. والحَضَارة والحِضَارة: الكَوْن بالحَضر كالبَدَاوة والبِدَاوة.
وقوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} من باب الكناية أَى أَن يحضُرنى الجِنّ: وفى العباب: أَى أَن يصيبنى الشَّياطين بسُوءٍ، وكُنِّى عن المجنون بالمحتضَر وعمّن حضره الموت كذلك. وقوله: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} أَى مشاهَداً معايَناً فى حكم الحاضر عنده. وقوله {حَاضِرَةَ البحر} أَى قُرْبه. وقوله {تِجَارَةً حَاضِرَةً} أَى نَقْدا. وقوله: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أَى يحضُره أَصحابُه.
وحَضَر الرّجل يَحْضُر حُضُوراً، وحضِر بكسر الضَّاد، ورجل حَضِر ككتف: لا يريد السّفر، وكلَّمته بحضرة فلان مثلثة الحاءِ، وبمحضَرٍ من فلان وبحضَر فلان بالتَّحريك. والحُضْر بالضمّ العَدْو وخصّ بما (يُحضر به)(2/474)
الفرس إِذا طُلِب جَرْيه. يقال أَحضَر الفرَسُ [واستحضرته] : طلبت ما عنده من الحُضْر. وحاضرته محاضرة وحِضاراً إِذا حاججته من الحضور كأَنَّه يُحضر كلُّ واحدٍ حُجَّته، أَو من الحُضْر كقولك جاريته. والحَضِيرة الأَربعة والخمسة يغزون أَى تحضر بهم الغزو، وقالت سُعْدى الْجُهَنِيَّة:
يرِد المياه حَضِيرة ونَفِيضة ... وِرْدَ القطاة إِذا اسمأَلَّ التُّبَّع
واللبن محضور ومحتضَر أَى كثير الآفة وأَنَّ الجنّ تحضره. وفى الحديث "إِنَّ هذه الحُشُوش مُحْضَرة محتضَرة".(2/475)
بصيرة فى الحطب
وهو ما يُعدّ للإِيقاد. وقد حَطَبت حَطْباً واحتطبتُ أَى جمعته. وحطبنى فلان إِذا أَتاك بالحَطَب، قال الجُلَيح الجحاشىّ:
تسأَلنى عن بعلها أَىُّ فتى
خَبٌّ جَرُوز وإِذا جاع بكى
لا حطَبَ القومَ ولا القومَ سَقَى
ولا رِكَابَ القوم إِن ضَلَّت بَغَى
ولا يوارى فَرْجَه إِذا اصطلى
ويأكل التَّمر ولا يُلْقى النَّوى
كأَنه غِرَارة مَلأْى حَثى
وقوله تعالى: {حَمَّالَةَ الحطب} نزل فى أُم جَمِيل امرأَة أَبى لهب، وكانت تمشى بالنَّميمة، فكُنى عنها بالنَّميمة. وإِذا نَصَر الرّجُل القَوْمَ قيل: حَطَب فى حَبْلِهم. والحطباء: المرأَة المشئومة. والحَطِب ككتف والأَحطب: الشديد الهُزَال. ويقال لمن يتكلَّم بالغَثِّ والسّمين: حاطب ليل، لأَنَّه لا يبصر ما يَجْمع فى حَبْله. وحَطَب به إِذا سعى به. والمحتطِب: المطر الَّذى يَقْلَع أَصولَ الشَّجر. وناقة محاطِبة: تأكل الشَّوك اليابس. والحِطاب ككتاب: ما يُقطع من أَعالى شجر العنب كلَّ عام، واستحطَب العنبُ: حان أَنْ يقطع حِطَابه.(2/476)
بصيرة فى الحلف
حَفَّهُ بالشَّئ يَحُفَّه: أَحاط كما يُحَفُّ الهودجُ بالثوب. وقوله تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} أَى محدِقين بأَحِفَّتِهِ أَى جوانبه. وحِفَافَا الشئ جانباه. قال:
كأَن جناحَىْ مَضْرَحِىّ تكنَّفا ... حِفَافيْه شُكَّا فى العَسِيب بمِسْرَد
وقوله تعالى: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أَى جعلْنا النخل مطِيفة بأَحِفَّتهما أَى جوانبهما. وفى الحديث أَنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم لم يشبع من طعام إِلا على حَفَف أَو شَظَف أَو ضَفَف. والرّوايات الثلاثة فى معنى ضِيق العيش وقلَّتهِ وغلظه. ومن أَمثالهم: "مَنْ حَفَّنا أَو رَفَّتا فليقتصِد" أَى مَن طاف بنا واعتنى بأَمرنا وأَكرمنا وَخَدَمَنَا وحاطنا وتعَطَّف علينا بالمدح ونحوه فلا يَغلُونَّ فى ذلك، ولكن ليتكلَّم بالحقّ منه. والحُفُوف: اليُبْس. وحَفتهم الحاجةُ إِذا كانوا محاويج؛ وهم قوم محفوفون. وحَفِيف الشجر والأَفعى والطَّائر والسّهم النَّافِذِ: صوتُه.(2/477)
بصيرة فى الحفر
حَفَر الأَرضَ: قلعها سُفْلا. وحفر الدَّابة: هَزَلها. يقال الحَمْل يحفِر الجَمَل ولا يحفر النَّاقة، فإِنَّها تسمن عليه. وحفر. جامَعَ، وحفر ثَرَى فلانٍ إِذا فتَّش عن أَمره ووقف عليه.
وقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ} أَى مكان محفور. ويقال لها حَفِيرة أَيضاً. والحَفَر - محرَّكَة - التُّراب الَّذى يُخرج من الحُفْرة، وهو مثل الهَدَم والنَّقض. والحَفَر أَيضاً: المكان الَّذى حُفِر. قال الأَخطل:
حتَّى إِذا هنّ وَرّكن القَصِيم وقد ... أَشرفن أَو قلن هذا الخَنْدق الحَفَر
وسمّى حافر الفرس تشبيهاً لِحفْره فى عَدْوه. وقوله تعالى: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} أَى إِلى أَمرنا الأَوّل وهو الحياة. وقال مجاهد: أَى خَلْقاً جديداً. وقال ابن الأَعرابى: أَى إِلى الدّنيا كما كنَّا. يقال: عاد إِلى حافرته أَى رجع إِلى حالته الأُولى، وإذا رجع من الطَّريق الَّذى جاءَ منه أَيضاً. وأَنشد:
أَحافرةً على صَلَع وشَيْب ... معاذَ الله من سَفَهٍ وعارِ
أَىْ: أَأَرجع إِلى أَمرى الأَوّل بعد أَن شِبت؟! يعنى الغَزَل والصَبْوة إِلى النساءِ.(2/478)
وفى الحديث قال أُبَىّ بن كعب: سأَلتُ النبىّ صلَّى الله عليه وسلم عن التَّوبة النَّصُوح فقال: هو الندم على الذنب حين يفْرُطُ منذ، وتستغفرَ الله بندامتك عند الحافر، ثمّ لا تعود إِليه أَبداً. وقال أَبو العبّاس هذه كلمة كانوا يتكلَّمون بها عند السّبْق والبرهان يقول: أَوّلَ ما يقع حافر الفرس على الحافر - أَى المحفور - أَو الحافرة - أَى المحفورة - فقد وجب النَّقد. وإِذا قيل عند الحافرة بالهاءِ أَى عند أَوّل كلمة. وقيل: فيه وجهان:
أَحدهما: أَنَّه لمّا جعل الحافر فى معنى الدّابّة نفسها وكثر استعماله على ذلك من غير ذكر الذَّات فقيل: اقتنى فلان الخُفَّ والحافر أَى ذواتهما، أُلحقت به علامةُ التأنيث استعارة بتسمية الذَّات بها.
والثَّانى: أَن يكون "فاعلة" من الحَفْر، لأَنَّ الفرس بشدّة الدّوس تحفر الأَرض، كما سمّى فرساً لأَنها تفْرِسها أَى تدُقّها. هذا أَصل الكلمة ثمّ كثرت حتى استعملت فى كلّ أَوّليَّة، فقيل رجع إِلى حافرتة. ويقال التقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة أَى عند أَوّل ما التقَوْا.(2/479)
بصيرة فى الحفظ
حفِظت الشئ حِفظاً بالكسر أَى حرسته، وقوله تعالى: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} أَى حفظُ الله خير حفظ. ومن قرأَ (حافظا) وهى قراءَة الكوفيّين غير أَبى بكر فالمراد خير الحافظين. وقوله تعالى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} أَى ذلك الحفظ بأَمر الله.
والحِفظ يقال تارة لهيئة النَّفس الَّتى بها يثبت ما يؤدِّى إِليه الفهم، وتارة لضبط الشئ فى النَّفس. ويُضادّه النِّسيان، وتارة لاستعمال تلك القوّة، فيقال: حفظت كذا حفظاً، ثمّ يستعمل فى كلّ تفقُّد وتعهُّد ورعاية.
قوله تعالى: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} كناية عن العِفَّة و {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله} أَى يحفظن عهد الأَزواج عند غيبتهم بسبب أَنَّ الله يحفظهنّ أَن يطلع عليهنّ. وقرئ بنصب الجلالة أَى بسبب رعايتهنّ حقّ الله لا (لرياءِ وتصنُّع) منهنّ. وقوله {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أَى حافظاً؛ كقوله {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}(2/480)
{وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أَى حافظ لأَعمالهم، أَو بمعنى مفعول أَى محفوظ لا يَضِيع، كقوله تعالى: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} .
والحَفَظَة، الملائكة الَّذين يكتبون أَعمال بنى آدم، وجمع الرّجل الحافظ الحافظون والحُفَّاظ والحَفَظَة. والحفيظ: الموكِّل بالشئ يحفظه. والحفيظ فى صفات الله تعالى: الَّذى لا يَعْزُب عنه مثقالُ ذَرَّة فى الأَرض ولا فى السّماءِ، وقد حفظ على عباده ما يعملون من خير وشرّ، وقد حفظ السماوات والأَرض {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} . والحِفاظ المحافظة على العهد، والوفاء بالعَقْد، والتَّمسّك بالودّ. والحِفاظ أَيضاً أَن يحفظ كلّ واحد الآخر. وقوله تعالى: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فيه تنبيه أَنَّهم يحفظون الصّلاة بمراعاة أَوقاتها، ومراعاة أَركانها، والقيام بها فى غاية ما يكون من الطَّوق، وأَنَّ الصّلاة تحفظهم الحفظ الَّذى نبّه عليه فى قوله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} .
وأَهل الحفِيظة والحفائظ هم المحامون من وراءِ إِخوانهم، المتعاهدون لعوْراتهم، الذابّون عنها. والتحفُّظ هو قلَّة الغَفْلة. وحقيقته إِنَّما هو تكلُّف الحفظ لضعف القوّة الحافظة. والحفيظةُ: الغَضَب الَّذى يَحمل على المحافظة(2/481)
ثمّ استعمل فى الغضب المجرّد. والمُحْفِظات: الأُمور الَّتى تُحفِظ الرّجل أَى تُغضبه إِذا وُتِر فى حَمِيمه وجارِه. قال القطامىّ:
أَخوك الذى لا تملك الحِسَّ نفسُه ... وترفَضُّ عند المحفِظات الكتائفُ
يقول: إِذا استوحش الرّجُلُ من ذى قرابته فاضطغَن عليه لإِساءَة بدت منه فأَوحشه ثمّ رآه يضام زال عن قلبه ما أَلمَّ به من الحِقد وغضِب له ونصره وانتقم له من ظالمه. قال قُرَيط بن أُنَيف:
إِذن لقام بنصرى معشر خُشُنٌ ... عند الحَفِيظة إِن ذو لُوثة لانا
وقال:
وما العفو إِلاَّ لامرئ ذى حفيظة ... متى يُعْفَ عن ذنب امرئ السَّوءِ يَلْجَج(2/482)
بصيرة فى الحفا
يقال: حَفِيت بفلان وتحفَّيت به إِذا عُنيت بكرامته. والحَفِىّ فى قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} : البَرّ اللَّطيف. والحَفِىّ أَيضاً: العالمِ الَّذى يتعلَّم الشئ باستقصاء. والإِحفاء فى السّؤال: التَّترع فى الإِلحاح والمطالبة، أَو فى البحث عن تعرّف الحال. وعلى الوجه الأَوّل يقال: أَحفيتُ السؤال، وأَحفيت فلاناً فى السّؤال؛ قال تعالى: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} وأَصل ذلك من أَحفيت الدّابة: جعلته حافياً، وأَحفيت الشَّارب: أَخذته أَخذاً متناهياً.(2/483)
بصيرة فى الحق
أَصل الحَقّ المطابقةُ والموافقة، كمطابقة رِجْل الباب فى حُقِّه لدَوَرانه على الاستقامة.
والحَقّ يقال على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: يقال لموجِد الشئ بحسب ما تقتضيه الحكمة. ولذلك قيل فى الله تعالى: هو الحقّ.
الثَّانى: يقال للموجَد بحسب ما تقتضيه الحكمة. ولذلك يقال: فِعْل الله تعالى كلُّه حَقّ؛ نحو قولنا: الموت حقّ، والبعث حقّ {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} إِلى قوله {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} .
الثالث: الاعتقاد فى الشئ المطابِقُ لما عليه ذلك الشئ فى نفسه؛ كقولنا: اعتقاد فلان فى البعث والثواب والعقاب والجنَة والنَّار حقّ.
الرّابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفى الوقت الذى يجب، كقولنا: فعلك حق، وقولك حق. وقوله تعالى {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ} يصح أَن يكون المراد به الله تعالى، ويصحّ أَن (يراد) به الحُكْم الَّذى هو بحسب مقتضى الحكمة. ويقال: أَحققت كذا(2/484)
أَى أَثبتُّه حقَّا، أَو حكمت بكونه حقّاً. وقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الحق} فإِحقاقُ الحقّ على ضربين: أَحدهما بإِظهار الأَدِلَّة والآيات، كما قال {وأولائكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} أَى حجّةً قويّة. والثَّانى بإِكمال الشريعة وبَثِّها، كقوله تعالى: {والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} وقوله: {الحاقة مَا الحاقة} إِشارة إِلى القيامة كما فسّره بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس} لأَنَّه يحِقّ فيه الجزاء.
ويستعمل استعمال الواجب اللازم والجائز نحو {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} وقوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} [قيل معناه جدير] . وقرئ (حقيق علىَّ) قيل واجب.
والحقيقة تستعمل تارة فى الشئ الذى له ثبات ووجود: كقول النبى صلَّى الله عليه وسلَّم لحارثة "لكلّ حقّ حقيقة فما حقيقة إِيمانك" أَى ما الذى ينبئ عن كون ما تدّعيه حقّاً. وفلان يحمى حقيقته أَى ما يحقّ عليه أَن يحميه، وتارة تستعمل فى الاعتقاد كما تقدّم، وتارة فى العمل وفى القول فيقال: فلان لفعله حقيقةٌ إِذا لم يكن مرائياً فيه؛ ولقوله حقيقةٌ إِذا لم(2/485)
يكن فيه مترخِّصاً ومتزايداً. ويُستعمل فى ضدّه المتجوَّز والمتوسّع والمتفسّح. وقيل: الدّنيا باطل والآخرة حقيقة، تنبيهاً على زوال هذه وبقاءِ تلك. وأَمَّا فى تعارف الفقهاءِ والمتكلِّمين فهى اللَّفظ المستعمل فيما وضع له فى أَصل اللُّغة.(2/486)
بصيرة فى الحكم والحكمة
الحُكْم لغة: القضاء، والجمع أَحكام. وقد حكم عليه بالأَمر حكماً وحكومة. والحاكم. منفِّذُ الحكم وكذلك الحَكَم والجمع حُكَّام. وحاكمه إِلى الحاكم: دعاه وخاصمه. وحكَّمه فى الأَمر: أَمره أَن يحكم، فاحتكم. وتحكَّم. جاز فيه حكمُه. والاسم الأُحكومة والحكومةُ. و [تحكيم الحُروريّة] قولهم لا حكم إِلاَّ لله. وحكَّام العرب فى الجاهلية أَكثم بن صَيْفِىّ وحاجب ابن زُرارة والأَقرع بن حابس وربيعة بن مُخَاشِنٍ وضَمْرة بن ضَمْرة لتميم، وعامر بن الظرِب وغَيْلان بن سَلَمة لقيس، وعبد المطَّلب (وأَبو طالب) والعاص بنُ وائل والعلاءُ بن حارثة لقريش، وربيعة بن حِذَار لأَسد، ويَعْمَر بن الشُّدّاخ وصفوان بن أُميّة وسَلْمى ابن نوفل لكنانةَ.
والحِكْمَة: العدل والعلم والحِلم والنبوّة والقرآن والإِنجيل وطاعة الله والفقهُ فى الدّين والعملُ به أَو الخشية أَو الفهم أَو الورع أَو العقل أَو الإِصابة فى القول والفعل والتفكر فى أَمر الله واتِّباعه. وهو حكيم أَى عَدْل حليم. وحَكَمه وأَحْكمه: أَتْقته وَمَنَعَه من الفساد. وسُورة محكَمة: غير مسوخةٍ. والآيات المحكَمَات {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}(2/487)
إِلى آخر السّورة، أَو الَّتى أُحكِمت فلا يَحتاج سامِعُها إِلى تأْويلها لوضوحها كأَقاصيص الأَنبياءِ عليهم السّلام. والمُحَكِّم - بكسر الكاف -: الشيخ المجرَّب. والحَكَم محرّكة: الرّجل المُسِنّ.
والحكْم وردت فى القرآن على نيّف وعشرين وجهاً:
الأَول: حكم الله تعالى {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} .
الثانى: حكم نوح فى شفاعة النَّبيّين {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} حكم لوط عند اشتغاثته من جَوْر المجرمين {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وحُكم يوسف الصّدّيق عند الخلْوة بسيّدة الحِسَان {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} وحكمُه أَيضاً بتعبير الرّؤيا لأَهل الاسجان {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} وحكم إِخْوة يوسف عند توقُّف بعضهم عن الرّواح إِلى كنعان {حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله} وحكم داود لمّا ترافع إِليه الخصمان {فاحكم بَيْنَنَا بالحق} وحكم خلفاءِ الله بين نوع الإِنسان {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} والحكم بين الزَّارع والرَّاعى من داود وسليمان {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} وحكم اليهود بالتَّوراة وشرائعها {وَعِنْدَهُمُ(2/488)
التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} وحكم النَّصَارى بالإِنجيل وأَحكامها {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ} وحكم سيّد الأَنبياءِ بما تضمّنه القرآن {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} والحكم الجاهلىّ الَّذى طلبه الجهّال من أَهل الكفر والطُّغيان {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} والحكم الحَقّ المنصوص فى القرآن {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} والحكم الجزم البتّ فى شأْن أَهل النفاق والخذلان {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} والحكم المقبول من المؤمنين بواسطة الإِيمان، المقابَلُ بالتَّذلل والتَّواضع والإِذعان {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} والحكم فى القيامة بين جميع الإِنس والجانّ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} والحكم بين الرّجال والنِّسوان {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} وحكم بجزاءِ الصّيد على المُحْرِم عند العُدْوان {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ} وحكم من الله بالحقّ إِذا اختلف المختلفان {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} وحكم الكفَّار فى دعوى مساواتِهم مع أَهل الإِيمان {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وحكم بتقديم الأَرواح وتأْخيرها من الرّحمن {والله(2/489)
يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} وحكم بتخليد الكفَّار فى النِّيران {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} وحكم بتخليد ثواب أَهل الإِيمان فى الجِنَان.
وأَمَّا الحِكمة فمن الله - تَعَالى - معرفة (الأَشياءِ وإِيجادُها) على غاية الإِحكام والإِتقان، ومن الإِنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات.
وقد وردت فى القرآن على ستَّة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى النبوّة والرّسالة {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة} {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} {وَآتَاهُ الله الملك والحكمة} أَى النبوّة.
الثانى: بمعنى القرآن والتَّفسير والتأْويل وإِصابة القول فيه {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} .
الثالث: بمعنى فهم الدّقائق والفقه فى الدّين {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} أَى فهم الأَحكام.
الرّابع: بمعنى الوعظ والتَّذكير {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة} أَى المواعظ الحسنة {أولائك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة} .(2/490)
الخامس: آيات القرآن وأَوامره ونواهيه {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} .
السّادس: بمعنى حُجّة العقل على وَفْق أَحكام الشَّريعة {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} أَى قولاً يوافق العقل والشرع.
وأَصل المادّة موضوع لمنع يُقصد به إِصلاح ومنه سمّى حَكمة الدّابة فقيل: حكمته وحكمت الدّابة منعتها بالحَكَمة، وأَحكمتها: جعلت لها حَكَمةً والحُكْم بالشئ أَن تقضى بأَنه كذا أَو ليس بكذا سواء أَلْزمت ذلك غيرك أَولم تلزمه، قال الشاعر:
واحكم كحكم فتاة الحىّ إِذا نظرت ... إِلى حمامٍ سِرَاعٍ واردِ الثَّمَد
وإِذا وُصِفَ القرآن بالحِكْمَةِ فلتضمُّنه الحكمة نحو {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} وقيل: معنى الحكيم المحكم نحو {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وكلا المعنيين صحيح. والحكم أَعمّ من الحِكمة فكلّ حِكْمة حُكْم وليس كلّ حكم حِكمةً. وقوله الصّمت حُكْم وقليل فاعله أى حِكْمة(2/491)
{واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} قيل: تفسير القرآن. والمحكّمون أَصحاب الأُخدود يروى بفتح الكاف وكسرها، سُمّو الأَنَّهم خُيّروا بين أَن يُقتَلوا مُسلمين وبين أَن يرتدُّوا. ومنه الحديث "إِنَّ الجَنَّةَ للمحكَّمين" وقيل عنى المختصّصين بالحِكمة.
وأَمّا الحكيم فقد ورد فى القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الأُمور المقَّضيَّةِ على وجه الحكمة {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} .
الثانى: بمعنى اللَّوح المحفوظ {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
الثالث: بمعنى الكتاب المشتمل على قبول المصالح {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} وقيل فى معناه غير ذلك وقد تقدّم.
الرّابع: بمعنى القرآن العظيم المبيّن لأَحكام الشَّريعة {يس والقُرْآنِ الحَكِيمِ} .
الخامس: المخصوص بصفة الله عزَّ وجلّ تارة مقروناً بالعلوّ والعظمة {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} وتارة مقروناً بالعلم والدّراية {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} وتارة مقروناً بكمال الخِبْرَة {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وتارة مقروناً بكمال العزَّة {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} .(2/492)
بصيرة فى الحل
حلّ المكان وحَلّ به يحُلّ ويحِلّ حَلاًّ وحُلولاً وحَلَلاً - وهو نادرٌ - نزل به [فهو حالّ] . وكذلك احتلَّه واحتلّ به. والجمع حُلُول وحُلاَّل وحُلَّل. وأَحلَّهُ المكان وبه وحلَّله إِيّاه. وحَلّ به جعله يحلُّه. وحالَّه: حلّ معه. وحَلِيلتك: أمرأَتك وأَنت حليلها. ويقال للمؤنَّث: حليل أَيضاً. وحليلتك جارتك.
وأَصل الحلّ حَلّ العُقْدة. ومنه قوله تعالى: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} وحللتُ: نزلتُ، من حلّ الأَحمال عند النُّزول، ثمّ جُرّد استعمالُه للنزول قال تعالى {تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} ويقال: حلّ الدَّيْن أَى وجب أَداؤه. والمَحَلَّة: مكان النُّزول. وعن حَلّ العُقْدة استعير قولهم حلّ الشئُ حلالاً. ومنه قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} ومن الحلول أَحلَّت الشَّاة: نزل اللَّبنُ فى ضرعها. وقوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} وأَحلّ الله كذا.
وقوله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} فإِحلال الأَزواج فى الوقت لكونهنّ تحته، وإِحلال بنات العم وما بعدهنّ إِحلال التَّزوج بهنّ. ورجل(2/493)
حَلاَل ومُحِلّ إِذا خرج من الإِحرام أَو خرج من الحَرَم. وقوله تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهاذا البلد} أَى حلال.
وقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَى بَيَّن ما تنحلّ به عقدةُ أَيمانكم من الكفَّارة. وفى الحديث "لا يموت لرجل ثلاثةٌ من الولد فمتسُّه النَّار إِلاَّ تحِلَّةَ القَسَم" أَى إِلاَّ قدر ما يقول إِن شاءَ الله تعالى. والحَلِيلُ: الزَّوج [إِمّا] لحَلّ كلِّ واحد منهما إِزارَه للآخر، وإِمَّا لنزوله معه، وإِمّا لكونه حلالاً له.(2/494)
بصيرة فى الحلم والحليم
[الحلم] الأَناة والعقل. وقيل: ضبط النفس والطَّبع عن هَيَجان الغضب. وجمعه أَحلام.
قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} قيل: معناه عقولهم، وليس الحِلْم فى الحقيقة العقل، لكن فسّروه بذلك لكونه من مسبّبات العقل. وقد حَلُم وحلَّمه العقلُ فتحلَّم، وأَحلمت المرأَة: ولدت أَولاداً حُلَمَاء.
وقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} أَى وُجد منه قوّة الحِلْم. وقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} أَى زمان البلوغ. وسمّى الحُلُمَ لكونه جديراً صاحبُه بالحِلْم. وفى الحديث "لا يُتْم بعد حُلُم" وقال "أَوّل عِوَض الحليم أَن يكون النَّاس أَنصاره" وقال "طوبى لمن كان له حِلْم يردُّ به جَهل الجاهلِ، وورَع يصدّه عن المحَارِم، وخُلق يدارى به النَّاس". قال:
فإِن كنت محتاجاً إِلى الحِلم إِنَّنى ... إِلى الجهل فى بعض الأَحايين أَحوجُ
ولى فرس للحلم بالحلم ملجَم ... ولى فرس للجهل بالجهل مُسْرَج(2/495)
فَمَنْ شاءَ تقويمى فإِنى مقوَّم ... ومَن شاءَ تعويجى فإِنِّى معوَّج
وقال آخر:
إِذا قيل حلماً قال للحلم موضع ... وحِلُم الفتى فى غير موضعه جهلُ
والحليم ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى إِبراهيم الخليل {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} .
الثَّانى: بمعنى إِسحاق وإِسماعيل على اختلاف القولين {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} وفى موضع آخر {وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} قيل معناه: فى صِغَرِه حليم، وفى كبره عليم.
الثالث: صفة من صفات الله تعالى: تارة قُرن بالعلم {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} وتارة قرن بالشُّكر {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} وتارة ضُمّ مع الغفران {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} .(2/496)
بصيرة فى الحميم
الحَمِيم والحَمِيمة: الماءُ الحارّ، والماءُ البارد، من الأَضداد. وقيل: الشَّديد الحرارة. قال:
وسَاغ لىَ الشَّرَابُ وكنت قبلاً ... أَكاد أَغصُّ بالماءِ الحميم
أَى البارد. وقال آخر:
سقياً لظلِّك بالعشىّ وبالضُّحى ... ولبَرْد مائك والمياهُ حميمُ
لو كنت أَملك منع مائك لم يذق ... ما فى قِلاتك ما حييتُ لئيم
وقال تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} وقيل للماءِ الحارّ فى خروجه من منبعه: حَمَّة. ورُوِىَ: العالِم كالحَمّة، يأْتيها البُعَداءُ، ويزهد فيها القُرباءُ. وسُمّى العَرَق حميماً على التشبيه. وسمّى الحَمّام إِمّا لأَنَّه يعرّق، وإِمّا لما فيه من الماءِ الحارّ، واستحمّ: دخل الحمّام.
وقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ. وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} هو القريب المشفِق. وكأَنَّه الَّذى يَحْتَدُّ حماية لذويه. وقيل لخاصة الرّجل: حامَّتُه وذلك لما قلنا. ويدلّ على ذلك أَنَّه قيل للمشفِقين من أَقارب الإِنسان:(2/497)
حُزَانَته، أَى الَّذين يحزنون له. واحتمّ لفلان اَى احتدّ. وأَحَمَّ الشَّحمَ: أَذابه فصار كالحميم.
وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} فهو يفعول من ذلك. قيل: أَصله الدّخان الشَّديد السّواد، وتسميته إِمّا لما فيه من فَرْط الحرارة كما فسّر فى قوله تعالى: {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} أَو لِما تصوّر فيه من الحُمَمَة وإِليه أُشِير بقوله: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار} .
وعُبّر عن الموت بالحِمَام لقولهم حُمّ كذا أَى قُدِّر. والحُمَّى سمّيت [إما] لما فيها من الحرارة المفرِطة. ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلم "الحُمَّى من فَيْح جهنَّم" وإِمّا لما يَعْرض فيها من الحَميم أَى العَرَق، أَو لكونها من أَمارات الحِمَام، لقولهم الحمّى رائد الموت أَو بَريد الموت، وقيل: باب الموت. وحمّم الفَرْخُ إِذا اسودَّ جِلْدُهُ من الرّيش. ومنه الحَمَام لا زمام له لا يدخل الشيطان بيتاً فيه حمامة. وفيه أَيضا: الحَمام حبيبى وحبيب الله. وتسبيحه أَن يقول سبحان المعبود بكلّ مكان، سبحان المذكور بكل لسان، ضعيف جدّاً.(2/498)
بصيرة فى الحمد والحميد
الحمد: الثَّناءُ بالفضيلة، وهو أَخَصّ من المَدْح وأَعمّ من الشكر [فإِن المدح] يقال فيما يكون من الإِنسان باختياره وممّا يكون منه وفيه بالتَّسخير، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحَمْدُ يكون فى الثانى دون الأَوّل، والشكر لا يقال إِلاَّ فى مقابلة نِعمة: فكلُّ شكر حمد وليس كلّ حمدٍ شكراً، وكلّ حَمْد مدحٌ وليس كلّ مدحٍ حمداً. وفلان محمود إِذا حُمِد، ومحمَّد إِذا كثرت خصالُه المحمودة، ومُحْمَد كمكْرَم إِذا وُجد محموداً.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} يصحّ أَن يكون فى معنى المحمود، وأَن يكون فى معنى الحامد. وحُمادَاك أَن تفعل كذا أَى غايتك المحمودة.
وقوله تعالى: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} فأَحمد إِشارة إِلى النبىّ صلَّى الله عليه وسلم باسمه [وفعله] تنبيهاً على أَنَّه كما وُجد أَحمدَ يوجد وهو محمود فى أَخلاقه وأَفعاله. وخُصّ بلفظ أَحمد فيما يبشِّر به عيسى عليه السّلام تنبيهاً أَنَّه أَحمد منه ومن الَّذين قبله.(2/499)
وقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} فمحمّد ههنا وإِن كان اسماً له علماً ففيه إِشارة إِلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه كما فى قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} على معنى الحياة كما يبيّن فى بابه إِن شاءَ الله.(2/500)
بصيرة فى الحمل
مادّة (ح م ل) لمعنى واحد. واعتُبِر فى أَشياءَ كثيرة فسُوّى بين لفظه فى فَعَلَ، وفُرِق بين كثير منها فى مصادرها. فقيل فى الأَثقال المحمولة [في الظاهر كالشئ المحمول على الظهر: حِمْل، وفى الأَثقال المحمولة] فى الباطن: حَمْل كالولد فى البطن والماءِ فى السّحاب والثَّمرة فى الشجرة تشبيهاً بحمْل المرأَة، يقال حملتُ الثِقْل والرّسالة والوِزْر حَمْلاً.
وقوله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أَى كُلِّفُوا أَن يتحمّلوها أَى يقوموا بحقِّها فلم يحملوها. ويقال حَمّلته كذا فتحمَّله، وحملته على كذا فتحمّله واحتمله، وحَمَله. وحملت المرأَه: حَبِلت، وكذا حملت الشجرةُ. ويقال: حَمْل وأَحمال. قال تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال} وقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} والأَصل فى ذلك الحمل على الظَّهر فاستعير للحَبَل، بدلالة قولهم وَسَقت النَّاقة إِذا حَمَلت، وأَصل الوَسْق الحِمل المحمول على الظَّهر: ظهر البعير. وقيل الحَمُولة لما يُحمل عليه كالقَتُوبَة والرَّكوبة، والحمولة لما يُحمل، والحَمَل للمحمول(2/501)
وخُصّ الضأْن الصّغير بذلك لكونه محمولاً لعجزه أَو لقربه من حَمْل أُمّه إِيّاه. وجمعه أَحمال وحُمْلان [وبها] شبّه السّحاب فقيل {فالحاملات وِقْراً} والحَمِيل: السّحابُ الكثير الماءِ لكونه حاملاً للماءِ. والحَمِيل: ما يحمله السّيلُ، والغريبُ تشبيهاً بالسّيل، والولدُ فى البطن. والحَمِيل: الكَفِيل لكونه حاملاً للحقّ مع مَنْ عليه الحقّ. وحَمَّالةُ الحطب كنايةٌ عن النَّمَّام وفلان يحمل الحطب الرَّطْب أَى ينُمّ. قال الشَّاعر:
نِعْم المُعين على احتما ... لك أَيُّها الرجل الجهولُ
علمى بأَنك ميّت ... ومُسَاءَلٌ عمّا تقولُ
وقال:
سَهّل على حامل لبداً تُبَلِّلُه الشَّـ ... مَالُ فى حَمْلِ ذاك اللِّبدِ مَبْلُولاَ
والحمل ورد فى القرآن على اثنى عشر وجهاً:
الأَوّل: بمعنى قبول الأَمانة {وَحَمَلَهَا الإنسان} أَى قَبِلَها.
الثانى: بمعنى الحفظ والرّعاية {حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أَى حفِظناه.
الثالث: بمعنى الضبط بشدّة القوّة {الذين يَحْمِلُونَ العرش} ، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} .(2/502)
الرّابع: بمعنى الرّفع {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ} .
الخامس: بمعنى تحمُّل المُؤَنة والنفقة {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} أَى لتُنفِق عليهم.
السّادس: بمعنى الالزام وطرح الحُرَم والجناية {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ} .
السّابع: حمل الوالدة {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ} .
الثَّامن: بمعنى الولد فى الرّحم {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
التَّاسع: فى وضع الشْئ فى موضعه عنايةً به {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} .
العاشر: بمعنى الإِيجاب والإِلزام {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة} .
الحادى عشر: بمعنى التَّقصير فى الواجبات {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} .
الثَّانى عشر: بمعنى حقيقة الحمل {إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} أَى حاملة الشَّوك.(2/503)
بصيرة فى الحمى والحن
والحنث والحنجرة والحنذ والحنف والحنك والحوذ والحور والحيز والحوش [والحيص] والحوط والحيف والحيق.
أَمّا الحَمْى فهو الحرارة المتولِّدة من الجواهر المُحْمِيَة كالنَّار والشَّمس، ومن القوّة الحارّة فى البدن. قال تعالى: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أَى حارّة. وقرئ (حَمِئَةٍ) أَى ذات حَمْأَة وهى الطِّين الأَسود المُنْتِن.
وقوله تعالى: {وَلاَ حَامٍ} قيل: هو الفحل إِذا ضَرَبَ عشرة أَبطن قالوا: قد حَمَى ظهرَه فلا يُرْكَب. وأَحماء المرأَة: كلّ مَنْ كان من قِبَل زوجها. وقوله تعالى: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أَى طين أَسود مُنْتِن.
وقوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} أَى رحمةً وعطفاً. وأَصله الحنين، ولمّا كان الحنين نزاعا متضمِّناً للإِشفاق [والإِشفاق لا ينفك من الرحمة] عبّر عن الرّحمة به فى قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} .(2/504)
وقوله تعالى: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} أَى الغلاصم جمع حَنْجرة وهى رأْس الغَلْصمة من خارج.
وقوله تعالى: {أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَى مَشْوِىّ بين حجرين وإِنَّما يُفعل ذلك لينصبّ عنه اللُّزوجة الَّتى فيه، من قولهم: حنذت الفَرَس أَى أَحضرته شوطاً أَو شوطين ثمّ ظاهرت عليه الجِلال ليَعْرَق، وهو محنوذ وحَنيذ.
وقوله تعالى: {قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} أَى مائلاً عن الباطل إِلى الحقّ، وعن الضَّلال إِلى الاستقامة. وسمّت العربُ كلّ مَن اختَتَن أَو حَجّ حنيفاً تنبيهاً على أَنَّه على دين إِبراهيم عليه السّلام.
وقوله تعالى: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} يحتمل أَنَّه مأْخوذٌ من حَنَكْت الدّابة: أَصبت حَنَكه باللِّجام والرَّسَن، نحو قولك: لأَلْجمَنَّ فلاناً ولأَرِْسُننَّهُ. ويحتمل أَن يكون مأْخوذاً من قولهم: احتنك الجرادُ الأَرْضَ أَى استولى بحنكه عليها فأَكلها واستأصلها. فيكون معناه: لأَستولينّ عليهم استيلاءً.(2/505)
وقوله تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أَى اسْتاقهم مستولياً عليهم، من حاذ الابلَ يحوذها إِذا ساقها سوقاً عنيفا، أَو من قولهم: استحوذ العَيْرُ [على] الأَتان إِذا استولى على حاذَيْها أَى جانبى ظهرها.
وقوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} جمع أَحور وحوراءُ. والحَوَر - محرّكة -: ظهور قليل من البياض فى العين من بين السّواد. وقد احورّت عينُه. وذلك نهاية الحسن من العين. وقوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أَى لن يبعث. وذلك نحو قوله تعالى: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} والحواريّون: أَنصار عيسى: قيل: كانوا قَصَّارين وقيل: كانوا صيّادين، وقال بعضهم: سُمّوا به لأَنَّهم كانوا يُطهِّرُونَ نفوس النَّاس من الأَدناس بإِفادتهم العلم والدّين.
وقوله تعالى: {مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} أَى صائراً إِلى حَيِّز، وأَصله من الواو. وذلك كلّ جمعٍ منضمٍّ بعضُه إِلى بعض.
و {حَاشَ للَّهِ} أَى بعيداً منه. قال أَبو عُبَيدة: هى تنزيه واستثناءٌ.(2/506)
وقال أَبو علىّ الفسَوىّ: حاش ليس باسم لأَنَّ حرف الجرّ لا يَدخل على مثله، وليس بحرف لأَنَّ الحرف لا يحذف منه ما لم يكن مضعّفاً تقول حاشى وحاشَ. فمنهم من جعل حاش أَصلاً فى بابه وجعله من لفظ الحوش أَى الوَحْش. والحُوشِىُّ: الغامض من الكلام، والوحشىُّ من الإِبل وغيرها، منسوب إِلى الحُوش وهو بلاد الجنّ: وقيل الحُوش فحول جنّ ضربت فى نَعَم مَهْرة فنُسِب إِليها.
وقوله تعالى: {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أَى مَحِيد ومَعْدِل ومَمِيل ومَهْرَب، من حاصَ عنه حَيْصاً وحَيْصَةً وحُيُوصاً ومَحِيصاً ومَحَاصاً وحَيَصاناً: عدل وحادَ.
والحائط: الجدار، والإِحاطة يقال على وجهين:
أَحدهما: فى الأَجسام نحو أَحطت بمكان كذا. ويستعمل فى الحفظ نحو: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أَى حافظ له من جميع جهاته. ويستعمل فى المنع نحو قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أَى إِلاَّ أَن تُمنعوا.(2/507)
وقوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} فذلك أَبلغ استعارة. وذلك أَنَّ الإِنسان إِذا ارتكب ذنباً واستمرّ عليه استجرّه إِلى ارتكاب ما هو أَعظم منه، فلا يزال يرتقى حتَّى يُطبع على قلبه فلا يمكنه أَن يخرج من تعاطيه. والاحتياط: استعمال ما فيه الحِياطة أَى الحفظ.
والثَّانى: فى العلم نحو قوله تعالى {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فالإِحاطة بالشئ علماً هو أَن يعلم وجوده وجنسه وكيفيّته وقَدْره وغرضه المقصود به وبإِيجاده وما يكون هو منه، وذلك ليس إِلاَّ لله. وقال {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} فنفى ذلك عنهم. وقال صاحب موسى {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} تنبيهاً أَنَّ الصّبر التَّام إِنَّمَا يقع بعد إِحاطة العلم بالشَّئ. وذلك صَعْبٌ إِلاَّ بفيض إِلهى.
وقوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} فذلك إِحاطة بالقدرة.
وقوله تعالى: {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ} أَى أَن يجوز فى حكمه.
{وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أَى لا ينزل ولا يصيب.(2/508)
بصيرة فى الحول
أَصله تغيّر الشَّئ وانفصالُه عن غيره. وباعتبار التغيّر قيل: حال الشَّئٌ يَحُول حُوُولاً واستحال: تهيّأَ لأَن يَحُول، وباعتبار الانفصال قيل: حال بينى وبينك كذا وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} هو إِشارة إِلى ما قيل فى وصفه تعالى: مقلِّب القلوب وهو أَن يُلقى فى قلب الإِنسان ما يصرفه عن مراده لحكمة تقتضى ذلك. وقيل: يحول بينه وبين قلبه هو أَن يهلكه أَو يردّه إِلى أَرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً.
وحوّلت الشَّئ فتحوّل: غيّرته إِمّا بالذَّات وإِمّا بالحكم والقول ومنه أَحَلْتُ على فلان بالدّين. وقولهم: حوّلت الكتاب هو أَن ينقل صورة ما فيه إِلى غيره من غير إِزالة الصّورة الأُولى. وقوله تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أَى تحوّلاً. والحَوْل: السّنةُ اعتباراً بانقلابها ودوران الشَّمس فى مطالعها ومغاربها. ومنه حالت السنةُ تحول. وحالت الدّارُ: تغيّرت وأَحالت وأَحْوَلت: أَتى عليها الحَوْل نحو أَعامت وأَشهرت. وأَحال فلان بمكان كذا. أَقام به حولاً. وحالت النَّاقةُ تحول حِيالاً إِذا لم تحمل. وذلك لتغيّر ما جرت به عادتُها.(2/509)
والحال لما يختصّ به الإِنسان وغيره من أُموره المتغيّرة فى نفسه وجسمه وقنْياته. والحَوْل: ما له من القوّة فى أَحد هذه الأُصول الثلاثة. ومنه لا حول ولا قُوّة إِلاَّ بالله. وحَوْل الشَّئ: جانبه الَّذى يمكنه أَى يحول إِليه. والحِيلةُ والحَوِيلة: ما يُتوصّل به إِلى حالةٍ مّا فى خُِفية، وأَكثر استعماله فيما فى تعاطيه خُبْثٌ. وقد يستعمل فيما فيه حكمة ولهذا قيل فى وصف الله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} أَى الوصول فى خُِفية من النَّاس إِلى ما فيه من حكمة. وعلى هذا النَّحو وصف بالكيد والمكر لا على الوجه المذموم، تعالى الله عن القبيح.
وأَمّا المُحَال فما جُمِع فيه بين المتناقضين. وذلك يوجد فى المقال نحو أَن يقال جسمٌ واحدٌ فى مكانين فى حالة واحدة. واستحال: صار محالاً فهو مُستحِيل أَى أَخَذَ فى أَن يصير محالاً.(2/510)
بصيرة فى الحين
وهو وقت مبهم يصلح لجميع الأَزمان طالت أَو قصرت يكون سنة وأَكثر. وقيل الحِين الدّهر. وقيل: يختصّ بأَربعين سنة، وقيل سبعِ سنين وقيل سنتين وقيل ستةِ أَشهر وقيل شهرين وقيل فى كلّ غدوة وعشيّة حينٌ. وقيل الحِين: المدّة ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} أَى حين ينقضى المدّة الَّتى أُمْهِلُوهَا والجمع أَحيان وجمع الجمع أَحايين.
{وَّلاَتَ حِينَ} أَى ليس حين. وإِذا باعدوا بين الوقتين باعدوا بإِذ فقالوا: حينئذ. وقوله تعالى: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أَى إِلى أَجل. وقوله {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} أَى كلَّ سنةٍ. وقوله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ} أَى ساعة تمسون. وقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} المراد به الزَّمان المطلق. وكذلك قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} وإِنما فسّروا ذلك مما ذكرناه بحسب ما وجدوه قد عُلِّق به. وحان حِينُه: قرب أَوانه. والْحين يعبّر به عن حِين الموت. وحيّنت الشئ: جعلت له حيناً. وأَحينت بالمكان: أَقمت به حِيناً.(2/511)
بصيرة فى الحى
وهو ضدّ الميّت. والحِىُّ بالكسر والحيوان - محرّكة - والحياة والحَيَوْة بفتح الياء وسكون الواو: نقيض الموت.
والحياة يستعمل على أَوجه:
الأَوّل: للقوّة النَّامية الموجودة فى النبات والحيوان. ومنه قيل: نبات حَىّ: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} .
الثَّانى: للقوّة الحسّاسة، وبه سمّى الحيوان حيواناً {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات} وقال تعالى {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى} فقوله {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا} إِشارة إِلى القوة النَّامية. وقوله {لَمُحْىِ الموتى} إِشارة إِلى القوّة الحسّاسة.
الثالث: للقوّة العالِمة العاقلة كقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} .
قال الشاعر:
لقد أَسمعت لو ناديتَ حيّاً ... ولكن لا حياة لمن تنادى
الرّابع: عبارة عن ارتفاع الغَمِّ. وبهذا النَّظر قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بمَيْت ... إِنما المَيْت ميّت الأَحياءِ(2/512)
وعلى هذا قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ} أَى [هم] متلذِّذون، لما روى فى الأَحاديث الصّحيحة من بيان أَرواح الشهداءِ.
الخامس: الحياة الأُخروية الأَبديّة. وذلك يتوصّل إِليه بالحياة الَّتى هى العقل والعلم. وقوله تعالى: {ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يُعْنى به الحياة الأُخرويّة الدّائمة.
السّادس: الحياة الَّتى يوصف بها البارئ تعالى، فإِنَّه إِذا قيل فيه تعالى: هو حىّ فمعناه: لا يصح عليه الموت، وليس ذلك إِلاَّ لله تعالى.
والحياة باعتبار الدّنيا والأُخرى ضربان: الحياة الدّنيا والحياة الآخرة.
قال تعالى: {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} أَى الأَعراض الدنيوية.
وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} أَى حياة الدنيا.
وقوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} كان يطلب أَن يُريه الحياة الأُخرويّة المعرّاةَ عن شوائب الآفات الدّنيوية.
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} أَى يرتدع بالقصاص مَن يريد الإِقدام على القتل، فيكونُ فى ذلك حياة النَّاس. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} أَى من نَجَّاها من الهلاك. وعلى هذا قوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أَى أَعفو فيكون إِحياءً.(2/513)
والحيوان: مقرّ الحياة. ويقال على ضربين: أَحدهما ماله الحاسّة، والثَّانى ماله البقاءُ الأَبدىّ. وهو المذكور فى قوله تعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} وقد نبّه بقوله (لهى الحيوان) أن الحيوان الحقيقىَّ السّرمدىُّ الَّذى لا يفنى، لا ما يبقى مدّةً ويفنى بعد مدّةٍ. وقال بعض اللغويّين الحيوان والحياة واحدٌ. وقيل: الحيوان ما فيه الحياة والمَوَتان ما ليس فيه الحياة. والحيا: المطر لأَنَّه يحيى به الأَرض بعد موتها. وقوله تعالى: {نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} فيه تنبيه أَنه سماه بذلك من حيث إِنَّه لم تمته الذُّنوب، كما أَماتت كثيراً من ولد آدم، لا أَنَّه كان يعرف بذلك فقط فإِنَّ هذا قليل الفائدة. قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} أَى يخرج النَّبات من الأَرض والإِنسان من النطفة.
وقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} فالتحيّة أَن يقال: حيّاك الله أَى جَعَل لك حياة. وذلك إِخبار ثمّ يجعل دعاء [ويقال: حيّا فلان فلانا تحيّة إِذا قال له ذلك، وأَصل التحية من الحياة، ثم جعل ذلك دعاء] تحيّة لكوْن جمعيه غير خارج عن حصول الحياة أَو بسبب الحياة إِمّا لِدنيا أَو لآخرة. ومنه التَّحِيَّاتُ لله.(2/514)
بصيرة فى الحياء
وهو انقباض النفس عن القبائح وعن التَّفريط فى حقّ صاحب الحقّ. وقال ذو النُّون: الحياء وجود الهَيْبة فى القلب مع وحشة ممّا سبق منك إِلى ربّك، والحبّ يُنطق. والحياءُ يُسْكت، والخوف يُقلق.
وقد قُسم الحياء على عشرة أَوجه: حياء جنايةٍ وحياء تقصير، وحياء إِجلال، وحياء كَرَم، وحياء حِشْمَةٍ، وحياء (استقصار النَّفس) ، وحياء محبّة، وحياء عبوديّة، وحياء شرف وعزَّةٍ، وحياء المستحى من نفسِه.
فأَمّا حياء الجناية فمنه حياء آدم لما فرّ هارباً فى الجنَّة، قال الله تعالى: إِفراراً منِّى يا آدم؟! قال: لا يا ربّ بل حياءً منك. وحياء التقصير كحياءِ الملائكة الَّذين يسبّحون اللَّيل والنَّهار لا يفترون، فإِذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك. وحياءُ الإِجلال هو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة العبد بربّه يكون حياؤه منه. وحياءُ الكرم كحياءِ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم من القوم الَّذين دعاهم إِلى وليمة زَيْنَبَ وطوَّلوا عنده فقام واستحى أَن يقول لهم: انصرِفوا. وحياء الحِشْمَةِ كحياءِ على بن أَبى طالب أَن يسأَل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عن المَذْى لمكان ابنته. وحياء الاستحقار(2/515)
واستصغار النفس كحياءِ العبد من ربّه حين يسأَله حوائجه احتقاراً لشأْن نفسه واستصغاراً لها.
وأَمّا حياءُ المحبة فحياءُ المحبِّ من محبوبه، حتَّى إِنَّه إِذا خطر على قلبه فى حال غيبته هاج الحياءُ فى قلبه وظهر أَثرُه فى وجهه ولا يدرى ما سببه. وكذلك يعرض للمحِبّ عند ملاقاة محبوبه ومناجاته له روعةٌ شديدة. ومنه قولهم جمال رائع. وسبب هذا الحياء والرّوعة ممّا لا يعرفه أَكثر الناس. ولا ريب أَنَّ للمحبّة سلطاناً قاهراً للقلب أَعظم من سلطان مَن يقهر البدن، فأَين من يقهر قلبك وروحك ممّن يقهر بدنك؟! ولذلك تعجّبت الملوك والجبابرة من قهرهم للخلق وقهر المحبوب لهم. فإِذا فاجأَ المحبوبُ محبَّه ورآه بغتة أَحسّ القلبُ بهجوم سلطانه فاعتراه رَوْعة وخوفٌ.
وأَمّا حياءُ العبوديَّة فهو ممتزِج من حُبٍّ وخوف ومشاهدة عدم صلاحية عبوديّته لمعبوده، وأَنَّ قَدْره أَعلى وأَجلّ منها، فعبوديته له توجب استحياءَه منه لا محالة.
وأَمّا حَياءُ الشَّرف والعِزَّة فحياءُ النَّفْسِ العَظيمة الكبيرة إِذا صدر منه ما هو دون قَدْرها من بَذْل أَو إِعطاءٍ أَو إِحسان، فإِنَّه يستخرج مع بذله حياء وشرف نفس وعزَّة. وهذا له سببان: أَحدهما هذا، والثانى استحياءُه من الآخذ، حتَّى إِنَّ بعض الكُرماءِ يستحى من خَجْلة الآخذ.
وأَمّا حياءُ المؤمن من نفسه فهو حياءُ النفوس الشَّريفة العزيزة من رضاها لنفسه بالنَّقص وقنعها بالدُّون، فيجد نفسه مستحيياً مِن نفسه حتَّى كأَنَّه(2/516)
له نَفْسان تستحى إِحداهما من الأُخرى، وهذا أَكمل ما يكون من الحياءِ، فإِنَّ العبد إِذا استحيا من نفسه فهو بأَن يستحى من غيره أَجدر. وقال يحيى بن مُعاذ رحمه الله: من استحى من الله مطيعا استحى الله منه وهو مذنب. وهذا الكلام يحتاج إِلى شرح، ومعناه أَنَّ من غلب عليه خُلُق الحياءِ من الله حتَّى فى حال طاعتة فقلبه مطرق من بين يديه إِطراق مستحْى خَجِل، فإِنَّه إِذا واقع ذنبا استحى الله عزَّ وجلّ مِن نظره إِليه فى تلك الحالة لكرامته عليه فيستحى أَن يرى مِن وَليّه وَمَنْ يكرُم عليه ما يَشينه. وفى الشاهد [ما يشهد] بذلك، فإِن الرّجل إِذا اطَّلع على أَخصّ النَّاس به وأَحبّهم إِليه من صاحب أَو ولدٍ أَو حبيبٍ وهو يخونه فإِنَّه يلحقه من ذلك الاطِّلاع حياءٌ عجيب حتَّى كأَنَّه هو الجانى، وهذا غاية الكرم. وقد قيل: إِنَّ سبب هذا الحياء أَنَّه يمثِّل نفسه الجانى فيلحقه الحياءُ كما إِذا شاهد الرّجل مَن أحصِر على المنبر عن الكلام فيلحقه الحياءُ فإِنَّه يَخْجل تمثيلاً لنفسه تلك الحالة.
وأَمّا حياءُ الربّ - تبارك وتعالى - من عبده فنوع آخر لا تدركه الأَوهام ولا تكيّفه العقول، فإِنَّه حياءُ كرمٍ وبرٍّ وجُودٍ، فإِنَّه خير كريم يَستحى من عبْده إِذا رَفَعَ إِليه يديه أَن يردَّهما صِفراً، ويستحى أَن يعذّب ذا شَيْبة شابت فى الإِسلام. وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبْدُه ويستحى هو.(2/517)
واختلف العلماءُ فى الحياءِ ممّا ذا يتولَّد. فقيل: من تعظيمٍ منوط بودّ. وقال الجُنَيد: يتولَّد من مشاهدة النِّعم ورؤية التَّقصير. وقيل: يتولَّد من شعور القلب بما يُستَحى منه وشدّة نُفْرته عنه فيتولَّد من هذا الشعور والنفرة حالة تسمّى الحياءُ. ولا تَنَافِىَ بين هذه الأَقوال، لأَنَّ للحياءِ عدّةَ أَسباب، كلّ أَشار إِلى بعضها.(2/518)
الباب الثامن - فى وجوه الكلمات المفتتحة بحرف الخاء
بصيرة فى الخاء
اعلم أَنَّ الخاءَ ورد فى القرآن وفى لغة العرب على وجوه عشر:
الأَوّل: الخاءُ حرف من حروف التَّهجىّ. وهى من حروف الحَلْق من قرب مخرج العين فى أَنحاءِ الْحَلْق، يمدّ ويقصر. وهو خائىّ وخاوىّ وخَيَوىّ وقد خَيَّيت خاءً حسناً وحسنةً، ويذكَّرُ ويؤنَّث. ويجمع على أَخياءٍ وأَخواءٍ وخاءَات.(2/519)
الثَّانى: الخاءُ اسم للعدد الَّذى هو ستُّمائة.
الثَّالث: الخاءُ الكافيَة، يقتصرون على الخاءِ من الخليل والأَخ، قال:
هو خائى وإِننى لأَخوه ... لستُ ممَّن يُضيع حقّ الخليلِ
أَى هو أَخى.
الرّابع: الخاءُ المكرّر نحو خاء سخَّن وسخَّر.
الخامس: الخاءُ المدغمة فى مثل فخَّ وزَخَّ فى قفاه.
السّادس: خاءُ العجز والضَّرورة، فإِنَّ بعض النَّاس يجعل الخاءَ حاءً.
السّابع: خاء ملحق بنوع من الأَصوات نحو بخ بخ فى حال التلذُّذ وأَخ فى حال التوجّع، قال:
وكان وَصْلُ الغانيات أَخَّا
الثَّامن: الخاءُ الأَصلىّ فى سخر وخسر ورسخ.
التَّاسع: الخاءُ المبدلة من الحاءِ نحو خَمَص الْجُرْح وحَمَصَ إِذا تورّم
العاشر: الخاءُ اللُّغوى، قال الخليل: الخاءُ عندهم شعر العانة وما حَوْليها.
قال الشاعر:
بجسمك خاء فى الْتواءٍ كأَنها ... حبال بأَيدى صالحات نوائح(2/520)
بصيرة فى الخبت
وهو المطمئن من الأَرض. وأَخبت الرّجل. قصد الخَبْت أَو نزله نحو أَنجد وأَسهل، ثمّ استعمل الإِخبات استعمال اللِّين والتَّواضع. قال تعالى: {وَبَشِّرِ المخبتين} أَى المتواضعين. وقيل معناه: المخلصين. وقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أَى تلينَ وتخشع. وقيل: معناه تطمئن، والإِخْبَات ههنا قريب من الهبوط فى قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} . وقوله تعالى: {وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} أَى سكنوا إِليه وتواضعوا له.(2/521)
بصيرة فى الخبث
الخُبْث والخبيث ما يُكره رداءَةً وخساسة، محسوساً كان أَو معقولاً وأَصله الردئ الدُّخْلة الجارى مجرى خَبَث الحديد، قال:
سبكناه ونحسبه لُجَيناً ... فأَبدى الكِيرُ عن خَبَث الحديد
وذلك يتناول الباطل فى الاعتقاد، والكذبَ فى المقال، والقبيح فى الفعال. قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} أَى ما لا يوافق النَّفْس من المحظورات.
وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} كناية عن إِتيان الرّجال. وقوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} أَى الأَعمال الخبيثة من الأَعمال الصالحة، والنفوس الخبيثة من النُّفوس الزَّكِيَّة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} أَى الحرام بالحلال. وقوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} أَى الأَفعال الرديئة والاختيارات المبهرَجة لأَمثالها. وقوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أَى كثرة الحرام، وقيل أَى الكافر والمؤمن، والأَعمال الفاسدة والأَعمال الصالحة. وقوله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} إِشارة إِلى كلّ كلمةٍ قبيحةٍ من كفر وكذب ونميمةٍ وغير ذلك. وفى الحديث "المؤمن أَطيب من عمله والكافر أَخبث من عمله" وفيه(2/522)
أَيضاً "أعوذ بك من الخُبْثِ والخبائث" وفى رواية "من الرّجس النجس الخبيث المُخبث الشيطان الرّجيم". الْمُخْبِث أَى فاعل الخُبْث، قال:
أُفَّ للدنيا الدنيَّهْ ... خَبُثَتْ فعلا ونيَّهْ
ولِعيش كُلُّه هَـ ... مُّ وعقباه منيَّهْ
وقال:
نبِّئت عَمْراً غَيْرَ شاكرِ نعمتى ... والكفرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ المنعِم
وسَبُى خِبْثَةٍ أَى فى حِلَّة شُبْهة، يقال فى مقابلته سَبْى طيبَة أَى حلال بلا شبهة. ويا خَبَاثِ أَى يا خَبيثة.
بصيرة فى الخبر والخبر
الخُبْرُ - بالضَّمّ -: العلم بالشَّئ قال تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ويقال: صدَّق الْخُبْرُ الْخَبَرَ، ويقال لأَخْبُرنَّ خُبْرك أَى لأَعلمنّ علمك، يقال منه: خبرته أَخْبُرُهُ كنصرته أَنصره خُبْراً بالضَّمّ وخِبْرةً بالكسر إِذا بَلوتَه واختبرته. ووجدت النَّاس اخْبُر تَقْلَهْ، المعنى: وجدتهم مقولاً فيهم هذا القولُ، أَى ما منهم إِلاَّ وهو مسخوط الفعل عند الخِبرة، إِذا اختبرتَهم قَلِيتَهم، فأُخرج الكلام على لفظ الأَمر ومعناه الخَبَر. العالمِ، قال تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} والخبير فى صفات الله تعالى:(2/523)
العالِم بما كان وبما يكون. وأَخبرت أَعلمت بما حصل لى من الخُبْر. وقيل الخِبْرة: المعرفة ببواطن الأُمور.
وقوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أَى من أَحوالكم الَّتى يُخبر عنها. وقوله تعالى: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَى عالم بأَخباركم وأَعمالكم. وقيل: أَى عالم ببواطن أُموركم. وقيل: خبير بمعنى مُخْبِر كقوله تعالى: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وتخبّرته أَى سأَلته عن الخبر. وقد جاءَ يتفعّل بمعنى يستفعل كتكبّر واستكبر وتضعّفه واستضعفه. وفى الحديث: بَعَث بين يديه عيناً من خُزَاعة يتخبّر له خَبَر كفَّار قريش. والمخابرة: المزارعة على الخُبْرة وهى النَّصيب كالثُّلث والرّبع ونحوه. وقيل أَصل الكلمة من خَيْبَرِ لأَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلم كان أَقرّها فى أَيدى أَهلها على النصف؛ فقيل: خابرهم أَى عاملهم فى خَيْبَر.(2/524)
بصيرة فى الخبط والخبل والخبء واالختر
الخَبْط: الضَّرب على غير استواءِ كخبط البعير الأَرض بيده. وخَبَطه وتخبّطه واختبطه بمعنىً، أَى ضربه ضرباً شديداً. وخبطه الشيطانُ وتخبّطه: مسّه بأَذًى. قال تعالى: {يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} يجوز أَن يكون من خَبْط الشجر، وأَن يكون من الاختباط الَّذى هو طلب المعروف، خبطه واختبطه: سأَل معروفهُ. وفى دعاءِ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "وأَعوذُ بك أَن يتخبّطنى الشَّيطانُ عند الموت".
والخَبَال: الفساد يلحق الحيوان فيورثه إِضراباً كالجنون والمرض المؤثر فى العقل والفكر، قال تعالى: {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} والخبال: النقصان، والخبال: الهلاك، والخبال: العَنَاءُ. والخبال السمّ القاتل. والخَبْل: فساد الأَعضاءِ، وقطع الأَيدى والأَرجل، والجنون. ويضمّ خاؤه. والخَبَل - بالتحريك - والخابل: الجنّ. واختبله. جَنَّنهُ. وقول زهير:
هنالك إِن يُسْتَخْبَلوا المالَ يَخْبلوا(2/525)
أَى إِن طلب منهم إِفساد شئ من إِبلهم أَفسدوه.
والْخَبْءِ كلّ مدّخر مستور، وقال تعالى: {يُخْرِجُ الخبء} ومنه جاريَة مخبَّأَةٌ. الخُبَأَة. الجارية التى تظهر مرّة وتخبأ أُخرى.
والخَتْر الغدر.
بصيرة فى الختم
الخَتْم والطَّبْع: مصدرَا ختَمت وطبعت. وهو تأْثير الشئ كنقش الخاتَم والطَّابع، والثانى الأَثر الحاصل عن الشئ. وتُجوّز بذلك تارة فى الاستيثاق من الشئ والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالخَتْمِ على الكُتُب والأَبواب؛ نحو قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} وتارة فى تحصيل أَثر شئ اعتباراً بالنَّقش الحاصل، وتارة يعتبر منه بلوغ الآخِرِ. ومنه قيل: ختمت القرآن أَى انتَهيت إِلى آخره.
وقوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهم} إِِشارة إِلى ما أَجرى الله به العادة: أَن الإِنسان إِذا تناهى فى اعتقاد باطل أَو ارتكاب محظور ولا(2/526)
يكون منه تلفُّت بوجه إِلى الحقّ. يورثه ذلك هيئة تمرِّنُه على استحسان المعاصى كأَنما يُختم بذلك على قلبه. وعلى ذلك {أولائك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} وعلى هذا النحو استعارة الإِغفال فى قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} ، واستعارة الكِنّ فى قوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} ، واستعارة القساوة فى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} . قال الجُبَّائىّ: يجعل الله ختماً على قلوب الكفَّار ليكون دلالةً للملائكة على كفرهم فلا يَدْعُون لهم، وليس ذلك بشئ لأَنّ هذه الكتابة إِن كانت محسوسة فمن حقِّها أَن يدركها أَصحاب التشريح، وإِن كانت معقولة غير محسوسة فالملائكة باطِّلاعهم على اعتقاداتهم مستغنية عن الاستدلال. وقال بعضهم: ختمه شهادته تعالى عليه أَنَّه لا يؤمن، وقوله تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} أَى نمنعهم من الكلام. {وَخَاتَمَ النبيين} لأَنَّه ختم النبوّة أَى تممها بمجيئه. وقوله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} يريد به ختم الحِفظ والحِياطة فى صدره صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [قيل] أَى ما يختم به أَى يطبع، وإِنما معناه منقَطَعهُ وخاتمة شربه أَى سُؤره [فى] الطّيب مسك. وقول من قال(2/527)