هناك بيقين من ينفخ فيه الروح في العشر ولا قبلها.
* * *
قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
راجع - والله أعلم - على من مضى من الآيسات من المحيض، واللائي لم
يبلغنه أي إن كن أولات حمل فليس عدتهن الأشهر، ولكنه وضع
الحمل، ففيه - الآن - دليل على أن من جعل عدتهن ثلاثة أشهر هن
من يمكن أن تحمل، لا الأصاغر اللواتي لا يمكن فيهن حمل يرتاب به.
* * *
قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) .
دليل على أن كل عسير من الأمور يتيسَر بالتقوى، حتى عسر تقتير الرزق، وشفاء الداء العسر العلاج، والخلاص من المحبس - من الفكاك من الأسر -
وأشباه ذلك.
* * *
قوله: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) .
حجة فى أن القرآن غير مخلوق، لأن الله سماه بالأمر، والأمر لا يكون إلا كلامًا متكلمًا(4/340)
به وكلام الآمر نعت من نعته، ونعوت الخالق غير مخلوقة، وهو مثل قوله
-: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) .
(أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ، رد على من لا يقر أن الله - سبحانه بنفسه - في السماء.
ذكر التوبة:
* * *
قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) .
دليل على أن التوبة مع ما تحط من السيئات، تنمي له أجرًا برأسه، وهو
مثل قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
وهذه الغنيمة الباردة لمن عقلها وتيقظ لها.
قال محمد بن علي: وقد مضى ذكر الدليل على أن المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها، ولا نفقة، عند قوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) .
ثم قال - سبحانه - في الآية الأخرى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ)(4/341)
فقد شبّه اشتراط النفقة بالحمل عليهن على الناظر فيه، وأراه أن الأمر بالإسكان - هاهنا -
هو للمطلقة ثلاثًا، إذ لو كان غيرها من المطلقات لوجب عليه لها النفقة
حاملاً، وغير حامل، فهو يحتمل هذا، ويحتمل أن يكون الإسكان -
في هذه الآية،أيضاً - لمن طلقت دون ثلاث، ويكون زيادة في البيان
والتأكيد.
واشتراط النفقة بالحمل حقًا من حقوق الولد - الذي في البطن - لا
من حقها. ويكون وجوب النفقة لغير المبتوتة بالإجماع مسلّمًا له.
كما سُلّم له إيقاع طلاق جديد، والإيلاء، والظهار، ووجوب
الميراث، إذ الطلاق إذا قطع عصمة النكاح كان حق النظر أن
لا ينظر فيه إلى العدد، ألا ترى أنها تحل للأزواج بعد انقضاء العدة
بالواحدة، كما تحل بالثلاث، فلو لم تكن العصمة منقطعة كانت
أحكام الزوجات لها قائمة، من أجل ثبوت العصمة ولما حلت(4/342)
للأزواج، ولا احتاجت إلى العدة، ولا الزوج إلى الرجعة، فدل أن هذه
الأشياء قائمة بينها وبين زوجها بالإجماع الذي لا تعقل علته، إذ العلة
المعقولة انفساخ النكاح بالتطليقة الواحدة، وهذه أحكام كانت قائمة بينها
وبين زوجها قبل إحداث الطلاق، فلما حصل الإجماع على فسخ النكاح
، بالتطليقة الواحدة، كما ينفسخ بالطلاق الثلاث مفرقًا، وغير
مفرق، عندنا وعند من يراه والوطء محرم دون إحداث الرجعة
بكلام، أو جماع يقصد به الرجعة عند من يراه، وإباحتها للأزواج
بترك الرجعة عُلم أن النفقة لا تفرض لمن ليست بزوجة، كما
تفرض لها وهي زوجة، فلما أوجب لها السكنى القرآن، وأوجب لها
النفقة الإجماع - مع ما ذكر من السكنى، - سُلّم لهما.
وكانت المبتوتة بالثلاث زائلاً كل ذلك عنها إذ محال أن يزول الإيلاء
والظهار والميراث، ويبقى لها السكنى والنفقة، وليس فيه قرآن يسلم
له، ولا سنة، ولا إجماع يترك عندهما، كما ترك عند الأولى.
وليس توهم المتوهم أن اشتراط الله النفقة بالحمل - بعد ذكر الإسكان - إنما هو في المبتوتات بالثلاث دون غيرهن، ومحال أن يكون نزول الآية بعد اتفاق الأمة على إيجاب النفقة لغيرهن، وكيف(4/343)
تتفق الأمة على فرع شرع قبل أن يفرض أصله؟! ، هذا ما لا وجه
وإيجاب النفقة بالحمل ممكن أن يكون من حق الولد الواجب نفقته على
الآباء، ويحُبس عليه قسمة الميراث، فهذا الاحتمال أبين مما ذكرناه في
الآية الأولى.
من قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بيُوتِهِنَّ) ، والله أعلم كيف هو.(4/344)
القياس:
قال محمد بن علي: ولو لم يكن من الدليل على بطلان القياس إلا
إجماع الأمة على إبقاء أحكام بين زوجين قد قطع الطلاق عصمة نكاحهما
لكفى، فعلى أي علة وقع هذا الحكم - ليت شعري - والعلة المسماة
بالنكاح الذي كانت الأحكام تجب بها زائلة بالطلاق الذي يحلها
للأزواج، ويقطع ميراثها بعد انقضاء العدة. لو حدث الموت بعده.
ففي هذا أكبر معتبر لمن اعتبر أن الأحكام لا تقع معللة، إنما تقع
تعبدًا محضًا لا شوب فيه، وعلى المحكوم عليه اتباعها، وترك البحث(4/345)
عن عِلَلِها، فضلاً عن أن يحمل عليها أشباهها عنده.
ذكر وجوب نفقة الولد:
* * *
قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .
حجة في وجوب نفقة الولد، وفي أن الأمَّ لا تحرم الأجرة وجد الأب متطوعة، من الأجنبيات، أو لم يجد، لأن الله - جل وتعالى - أمر بإيتاء
أجورهن أمرًا عامًا، وهو يعلم أن في الآباء من يجد متطوعة -
مغنى - مع عموم الآية بالأمر.
وفيها -أيضاً - دليل على أن ما لا يمكن تعريته من المجهول، ولا يضبط بالتسمية في الإجارات جائزة.
* * *
وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) .
دليل على أن الأم إذا أرادت الإجحاف بالأب في إغلاء أجرة الرضاع، كان للأب دفعه إلى أجنبية، ولم يجبر الأب على أكثر من أجرة مثلها في إرضاعها.(4/346)
وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) .
دليل على أن التقتير في الإنفاق - مع السعة - على الأنفس والعيال مذموم، ولا نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده قتروا على أنفسهم مع السعة، وكانوا كما قال الله - سبحانه وتعالى في هذه الآية -.
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) .
وفي (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) .
دليل على أن نفس المال يسمى رزقًا، لا أن اسم الرزق لا يقع إلا على ما استهلك بالأكل، واللباس، وما أشبههما.
* * *
قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
دليل على أن من وجب عليه نفقة قوم فلم يقدر على تمامها
لم يلزمه الإقحام على ما لا يحل له، ووجب عليه الاقتصار على ما أوتي
من الرزق، وعلى من يمون الصبر معه على انتقال حاله من العسر(4/347)
إلى اليسر الذي وعده الله في هذ" الآية، ولو جعل هذا المعنى جاعل حجة
في ترك التفرقة يين المعسر بنفقة أمرأته وجد فيها متفسحا - والله
أعلم - إذ سبيل من أعسر بجميع الكفاية، ومن أعسر ببعضها
واحد لإحاطة العلم بأن ما لابد منه من حد محدود لم يغن بعضه
عن جميعه.
الكافر يحاسب يوم القيامة:
* * *
قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ)
إلى قوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) .
دليل على إجازة تأخير المعنى إلى آخر الكلام، والإشارة إليه في أوله، إذ العتو من القرية، وما ذكر من شأنها كله مقصود به أهلها الذين رجحت " الهاء والميم " عليهم في (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ) ، وفيه دليل على أن الكافر يحاسب.(4/348)
قوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا)
حجة في استعارة الكلام من المخلوقين، ووضعه موضع غيره إذا دل عليه لفظه، إذ أصل الذوق إنما هو بالفم، فلما أراد الإخبار عن وجود مضض العذاب، وسوء العاقبة، به أخبر، والقرآن نازل بلغة العرب، واذا كان الجليل - سبحانه - يفعل ذلك والكلام غير معوز عنده، ونسبة الضيق -
عنه - إليه كفر ممن توهمه فالمضطر إليه من البشر أحرى أن
يستعمله، ومثله قوله في سورة المائدة: (وَبَالَ أَمْرِهِ)(4/349)
قوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا) .
حجة في أن الله - سبحانه وتعالى - بنفسه في السماء، أو، هو رد على من ينكره.
* * *
وقوله: (رسولاً)
إضمار - والله أعلم - كأنه قال: (أنزل اللَّه إليكم ذكرًا وأرسل رسولاً) ، لأن الذكر هو القرآن، والله أعلم.
وفي قوله: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)
دليل على جواز التأكيد في لغة العرب، لأن " الخلود " مغن عن " الأبد " ودال عليه، فقوله: (أَبَدًا) تأكيد من غير إشكال.
* * *
قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) .
المثل - والله أعلم - راجع على العدد، لا على الصورة، وفيه دليل على أن الأرض قد توضع موضع الجمع،(4/350)
إذ لم يقل - سبحانه - (ومن الأرضين) ثم يجمع بعد ذلك على
لفظ الجمع أيضاً.
في قوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) ، دليل على أن الأرضين طباق
مثل السموات، وأن بين كل أرض وأرض خلق مستعبدون، ومنزول
عليهم الأمر، والأمر في هذا الموضع والله أعلم، إخبار عن
كلامه - جل وعلا - في كل ما ينزله مما يتعبدهم به من أمر ونهي.
كما قال: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، فكان أمره القرآن.(4/351)
وفيه - مع الأمر - نهي وإرشاد وندب إلى كل خير، وقصص الأنبياء
وغير ذلك، لا الأمر وحده.
وفيه دليل -أيضاً - على أنه سبحانه في السماء بنفسه، والأمر ينزل
منه إلى الأرضين، لولا ذلك ما كان " للفظ " التنزيل معنى.
* * *
قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)
زوال كل لبسة من أنه في السماء، وعلمه محيط بالأشياء، ولو كان كما يقول الجهلة
لكان - والله أعلم - ((وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ) فقط من غير أن
يكون فيه (عِلْمًا) ، وهذا قد فسر كل محيط في القرآن ليس معه العلم.
وهو أعلم.(4/352)
سورة التحريم
قوله - تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) .
يقال: إنه نزل في عسل حرمه على نفسه ألاَّ يشربه.
ويقال: بل نزل في تحريمه مارية(4/353)
أم إبراهيم.
والذي يشبه - عندي، والله أعلم - أن يكون في تحريم مارية إذ(4/354)
ليس في تركه صلى الله عليه وسلم شرب عسل - حرمه عند من كان من
أزواجه، أو جاريته - ما يبتغي به مرضات سائرهن، ولا ما يزول به
غيرتهن، إذا دخل عليها ووطيها بعد أن لا يشرب عندها عسلاً، بل أشبه
شيء أن يقلن له - عليه السلام -: نجد منك ريح المغافير، طمعا في
تزييف من شرب عندها ذلك العسل، ليزهد فيها فيحرمها، لا ليترك
شرب العسل عندها.
ومما يزيده تاكيدًا أن العسل داخل في جملة الطيبات، التي نهى الله عن
تحريمها في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) .
نزلت في رجل حرم اللحم(4/355)
على نفسه فعمه الله - جل جلاله - هو وسائر المؤمنين بالنهي عن
تحريم ما حللَّه من الطيبات لهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجل المؤمنين قد دخل في هذا النهي
مع أمته، والمائدة آخر ما نزل من القرآن، فلو كانت آية المتحرّم نازلة في
العسل لقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل - والله أعلم -: حلل
يمينك في تحريم اللحم، ولما سكت عنه حين سأله منتظرًا للوحي حتى نزل.
وما أحل الله في سورة المتحرّم، كلمة جامعة يدخل فيها العسل
واللحم، وغيرها من المأكول والمشروب، بمنصوص على لفظ
العسل فيحتاج - عند من يأبى القياس - إلى نص مجُدّد في تحريم(4/356)
اللحم، مع أن قوله: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) .
دليل واضح في أنه الجارية، لا العسل.
فإن قيل: لو كان كما ذكرت لكان: لم تحرم من أحل الله لك، ولم
يكن (مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، إذ لفظ "من " يخبر بها عن الحيوان، ولفظ " ما "
يخبر بها عن غير الحيوان.
قيل له: فقد قال الله - تبارك وتعالى -: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، فدخل فيه الحيوان وغيره، وأخبر بلفظ "ما" عنهم، كما
أخبر بلفظ "من " في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .
بل المفسرون على تسبيح الحيوان مجمعون، وفي غير الحيوان مختلفون.(4/357)
ولو لم يكن لنا في الجمع بين "ما" و"من " إلا في هذا الموضع هذا الشاهد -
أيضا - "لأمكن أن تكون "ما" واقعا على تحريم الوطء، فلا يكون لمن
يقصر عن سعة لسان العرب متعلق بما بيناه من قوله.
فلنا الآن أدلة في ذلك:
منها: أن كل حلف - وإن كان بغير الله، جل جلاله - يسمى
يمينًا، لقوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) .
ولم تكن يمينه صلى الله عليه وسلم بالله جل وتعالى.
ومنها: أن المباح من فرج الأمة - الذي أباحه ملكها - حَرُم بلفظ
التحريم حتى تحلله الكفارة، كما حَرُمَ فرج الحرة المباح بعقد النكاح(4/358)
بلفظ الظهار حتى تحلله الكفارة، إلا أن كفارة الظهار أغلظ من كفارة
التحريم في الأمة، لأن تلك مذكورة، وهذه مبهمة، فهي بردها إلى
* * *
قوله: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) - لاتفاق اللفظين من
الأيمان - أحق من ردها إلى لفظ الظهار، أو لفظ الموعظة في
قوله: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) ، أو لفظ الحدود في قوله: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، بعد ذكر الكفارة في الظهار، فيكون على اللافظ بتحريم فرج أحل الله له من أمَة، أو حرة كفارة يمين، يخير فيها من إطعام، أو كسوة، أو تحرير رقبة.
وعلى اللافظ بالظهار عتق رقبة - لا غير - إن وجدها، وصيام
شهرين إن لم يجدها، وإطعام ستين مسكينًا إن لم يستطع صيامهما.
ليحمل كل على شرط الله - جل جلاله - فيه.(4/359)
وليس لإسقاط الكفارة عن محرم الحرة - وإن لم يجعل قوله طلاقًا -
معنى مع قوله: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) ، وقوله على إثره: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) .
وهي مما أحل الله لنا، وإذا كانت مما أحل الله لنا فسواء كانت حرة، أو أمة لا يكون إيجاب الكفارة فيها إلا بالنص، لا بالقياس.
وليس لقول من جعل (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) ، ابتداء لا ردًّا على ما قبله - مع تكفير النبي صلى الله عليه وسلم، قوله هذا - معنى، إذ لو كان ابتداء كما زعم ما كفر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه.(4/360)
فقولنا - الآن - فى إبطال الكنايات مستقيم، لا نجعل التحريم في
الحرة طلاقًا، ولا في الأمة عتقًا، غير أنا نجعله مانعا للوطء
حتى يحلله قائله بالكفارة، التي فرضها الله لنا، وأحكام الزوجة
قائمة مع زوجها، وأحكام الأمة مع سيدها كما كان، غير الوطء
وحده.
ومنها: أن محرم غير الزوجة والأمة من المأكول والمشروب لا كفارة
عليه إذ حصلت الكفارة على محرم الزوجات والإماء في هذه
الآية، وقد بان ذلك في سورة المائدة، حتى نهى - سبحانه - عن
تحريم الطيبات ولم يفرض فيه تحلة كما فرضه في سورة التحريم.
لنزولها بعدها، وهي وإن نزلت بعدها فليس يتبين أنها ناسخة لما
قبلها، فتسقط بها الكفارة عن محرم الفروج المحللة الطيبة بالملك
والنكاح، إذ لو جاز أن يقال ذلك ما كان على من حرم زوجته
بالظهار - أيضا - كفارة، والإجماع محصل في وجوبها عليه فكان تحريم(4/361)
الفروج مخصوصًا بها، وموضوعًا عن غيرها من المأكول والمشروب، وما أشبههما، والله أعلم كيف هو.
وما يزيد ما قلناه تأكيدًا من أن فرض تحلة الأيمان راجع على ما قبله
وليس بمبتدأ ذكره المغفرة - سبحانه - على إثر التحريم، ِ كما ذكره
على إثر التحريم بالظهار فقال - ها هنا -: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) ، وقال - هناك -:
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) .
فدل على أنه جعل الكفارة بعد المغفرة للقولين زيادة في ستر ما غفره
من تحريم المحلل ليمحو بها المنكر من لفظ "الظهار" و "التحريم " والله
أعلم.
قوله (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا)
إلى قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)
ذكر فى هذا "السر" تفسيران:
أحدهما: أنه ما أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حفصة من(4/362)
تحريم جاريته مارية، فأخبرت به عائشة، وهذا يروى عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، وعنهما.
والآخر: أنه أسر إليها بأن أباك وأباها يليان بعدي
وهذا يروى عن حبيب بن أبي ثابت.(4/363)
فإن كان السر كما فسره حبيب فهو يثبت خلافتهما من القرآن
كما بينها (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ) .
لأبي بكر. وأن كان ما فسره عمر، رحمة الله عليه، ففي تلك لأبي بكر -
رضي الله عنه - كفاية من القرآن، مع ما فيه من السنن، ولعمر
باستخلاف أبي بكر إياه، مع ما ذكر فيه -أيضاً - من سنن قد
حواها كتابنا "المجرد في الرد على المخالفين بالأخبار".
* * *
قوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) .
دليل على أن إفشاء السر ذنب من مفشيه، لولا ذلك ما دُلتا - والله أعلم - على التوبة منه، وهما وإن كانتا أفشتا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد ما أمرتا بالتحفظ به، وكتمانه، وطاعته فرض في حال وندب في(4/364)
أخرى، لا يشاركه فيهما أحد من أمته، فمن دونه صلى الله عليه وسلم
أيضًا من المؤمنين إذا ائتمن إنسانًا بوضع سره عنده فخانه بإفشائه عليه
فهو لا محالة آثم " إذ لو لم يكن آثماً إلا بإبدائه لكفاه عما سواه.
* * *
قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ)
بعد ذكر التظاهر دليل واضح أن
المولى هو الناصر، لا المالك، إذ لو كان مالكًا لما شاركه فيه
جبريل، وصالح المؤمنين، فهو - الآن - رد على الرافضة فيما
يحملون عليه قول النبي صلى الله عليه زسلم: "من كنت مولاه فعلي
مولاه) ، أنها ولاية النصرة، لا ولاية التمليك، وهذا من(4/365)
حماقات الرافضة التي لا تشكل على عالم، ولا جاهل، فلم ابتاع إذًا -
ليت شعري - الجواري والمماليك بالأثمان الغالية إن كان على زعمهم
مالكهم، ومالك ساداتهم،!.
بل لم أصدق حرائره إن كن بالملك جواريه،، أم لم فعله رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قبله الذي ورث الولاية عنه، واستحقا
به؟!.
إن هذا لأقبح مقال، وأجدره بطرق المحال، نعوذ بالله من الضلال.
ويقال: إن صالح المؤمنين هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خاصة.
ويقال: هو أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما.(4/366)
وهو في القرآن موحد، وقد يجوز أن يكون اللفظ موحدًا والإشارة
إلى أكثر منه، على سعة اللسان، كما ذكرناه في غير موضع من
هذا الكتاب والله أعلم كيف هو.
قوله (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)
إلي قوله (وَأَبْكَارًا) ، دليل على المرجئة فيما يزعمون أن الإيمان لا يزيد
ولا ينقص، إذ لا يشك أحد أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن لا
محالة مسلمات مؤمنات، ولم يكن كوافر، فهل تكن المفضلات عليهن بالإسلام والإيمان إن طلقن يكن خيرًا منهن إلا بزيادة في الإيمان والإسلام، وهو بين لمن أنصف من نفسه، ولم يكابر عقله.
وفي إدخال الثيب مع البكر - في موضع المدح - دليل على أنها
ممدوحة أيضاً، وإن كانت البكر أفضل منها بما بين على لسان النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله لجابر(4/367)
وغيره: " فهلاَّ تزوجت بكرًا، تعضها وتعضك، وتلاعبها وتلاعبك "(4/368)
وفي قوله: (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا، وأرضى باليسير ".
* * *
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) ،(4/369)
دليل على أن تعليم الأهلين، وتأديبهن فرض، وهو اسم جامع
للزوجة، والولد، والإخوة، والأخوات، وغيرهم، إذ لا يقدر
أحد يقي غيره النار - وهو لا يملكها - إلا بما يدله على ما يباعده منها
من العمل الصالح، واجتناب الطالح، وكذا جاء في التفسير -
أيضًا - أنه تعليمهن، وتأديبهن.
وقد أفرد الأهل - في سورة طه - بالأمر بالصلاة والاصطبار
عليها، وهو يؤكد ما قلناه، وقاله المفسرون قبلنا.
ويؤيده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع.
وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول(4/370)
عنهم ".
وأخاف أن يكون الفرض أغلب عليه من الندب، إذا ظاهر لفظ
القرآن أمر، والسؤال لا يكون في إهمال الندب، والله أعلم.
* * *
قوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) - لا محالة - خصوص " إذ ليس بواقع على جميع الناس، ولا على كل الحجارة.
ويقال: إنها حجارة خلقه الله من كبريت أحمر.(4/371)
ولو لم يكن من الدليل على سعة اللسان إلا خروج النار - في اللفظ -
مخرج النكرات وهي معرفة، لنعتها بوقود الناس والحجارة، اللذين
لفظهما لفظ معرفة، وإن كان فيهما خصوص.
والإشارة إلى نار بعينها قد جرى ذكرها في كثير من آي القرآن.
والعرب تعرف المشار إليه في كلامها، وإن كان لفظه لفظ نَكِرٍ.
قال الأعشى:
قالت هريرة لما جئت زائرها
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
فرفع "رجلا" وهي نكرة مفردة مناداة، لإشارة المرأة إليه.
* * *
قوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) .
قد دخل في ظاهر الكلام الصحابة - رضي الله عنهم -(4/372)
بلا شك، واستوجبوا ما وعدهم الله - جل جلاله - في
الآية، فمن تنقص واحدًا منهم، أو أخرجه مما وعده الله، فقد رد على الله.
وأرجو أن يكون سائر المؤمنين داخلين معهم في ذلك، لأن من آمن
بعده فقد دخل في الاسم معه وإن لم يكن في الرؤية والفضيلة أسوة
الصحابة.
والباء في (وَبِأَيْمَانِهِمْ) هي - والله أعلم - في معنى عن، مثل
قوله في الفرقان: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) ، أي عنه،، إن شاء الله.
قال علقمة ابن عَبَدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهن نصيب.
أي عن النساء.(4/373)
سورة الملك
قوله - تبارك وتعالى -: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، دليل على أن ترقب الموت أكبر مواعظ الله - جل
جلاله - وأجدر بالمعونة على العمل الصالح، إذ ترقبه مقصر للأمل.
ومهوّن مضض المصائب، وتجرع مرارات الفقر إذا ترك، وتزهد في
شهوات النفس إذا اتصل.
* * *
قوله: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)
دليل على أن العرب
تسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، ألا ترى أن الله - جل
وتعالى - سمى الكواكب ها هنا بمصابيح وفي الفرقان، (سِرَاجًا)
في قوله - تبارك وتعالى -: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا) ، ويحتمل أن يكون السراج الشمس، وفي الصافات
" شهابًا " في قوله: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) .(4/374)
فإن كان جعلها أسماء كلها خواص فهو ما قلناه، وإن كان سماها
"شهابًا" و "مصابيح " بضوئها ونورها وشعاعها فهو أدل على سعة اللسان.
والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
ذكر (ذَلُولًا) - والله أعلم - على لفظ (اَلأرضَ) وإن كانت مؤنثة.
* * *
قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) .
حجة في السعي والحركة في طلب الرزق والتماسه بالمكاسب في الأسفار، والحضر، لاتفاق المسلمين - جميعًا - على أن القاعد ليس بفرض عليه أن يقوم فيمشي في مناكب الأرض، فلا يكون المشي في مناكبها، والأكل من رزقة - إن شاء الله - إلا على هذا المعنى.
وقد يجوز أن يكون ذكّرهم نعمته عليهم بتذليل الأرض لهم.
وتمهيدها ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزقه فيها، والله أعلم كيف
هو.(4/375)
قوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ)
إلى قوله (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) .
حجة على المعتزلة فيما يزعمون: أنه - جل بنفسه في السماء، وعلمه في الأرض.
* * *
قوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) .
زوال كل لبسة وريب، يرتابون به - أنه كما قلناه -
في السماء على العرش، وعلمه في الأرض محيط بها.
وقد لخصناه في كتاب "الرد على الباهلي ".
قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) .
" إِلَى " - في هذا الموضع جار مجرى الصلات، والطير جمع لا محالة لقوله (وَيَقْبِضنَ)
وقوله (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ)
حجة على المعتزلة فى باب الاستطاعة؛ إذ قد أخبر بإمساكهن عن نفسه، ولم يقل يستمسكن(4/376)
بالذي جعله في استطاعتهن من سلطان الطيران بالأجنحة والقبض والبسط
بهن، كما جعل للناس سلطان الحركات، والأعمال بالجوارح التي في
أدوات الأفعال، وهم لايستطيعونها إلا به سبحانه.
* * *
قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) .
دليل على إقامة المجاز مقام الحقائق - في اللفظ، لأن الإصباح في الروحانيين، وقد(4/377)
جعل للماء إصباحًا كما ترى، وفي جواز ذلك إنباء عن سعة اللسان.
ورد على المتنطعين من المنتسبين إلى التنسك - بغير علم - العادّين ما ضاهى
هذا النمط من كلام المخلوقين في عداد الكذب، وإلحاق الحرج بقائله.
والغور - والله أعلم - مكانه غائر، خرج على سعة اللسان.
والمعنى: أنة يبعد قعره، حتى لا تناله الدلاء، كذلك قال
المفسرون، يذكّر نِعَمه في الماء المعين الذي تناله أيدي الناس.
وأفواه مواشيهم وبهائمهم بلا مشقة، له الحمد والشكر، تبارك تعالى.(4/379)
سورة ن
قوله - تعالى -: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
"الباء " - والله أعلم - مقحمة على سعة اللسان.
* * *
قوله: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
دليل على أن من أكثر الأيمان هان على الرحمن، واتضعت مرتبته عند الناس.
قوله: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
دليل على أن في كلام العرب
استعارة، ووضع الكلمهَ موضع غيرها، فالخرطوم للسباع أخبر به عن
الناس كما ترى، وقد يخبرون بما للناس عن السباع، قال زهير:(4/380)
له لبد أظفاره لم تقلم
فأخبر عن مخاليب الأسد بالأظفار التي هي للناس، وكل هذا دليل
على سعة اللسان، فمن زاحم في لسانها قبل أن يعرف هذا من
كلامها - وسائر ما ذكرناه من لطيف إشارتها - ركب خطة عظيمة.
وأخاف أن يخوض النار خوضًا، وهو لا يعلم.
* * *
قوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)
إلى قوله: (كَالصَّرِيمِ) .
دليل على أن الشيء يسمى باسم غيره، وإن لم يشبهه بجميع
صفاته، ألا ترى أن الله - جل جلاله - قد جمع بين جنة الدنيا التي هي
بستان وبين جنة الآخرة بالاسم، وهما لا يجتمعان في جميع صفاتهما.
وهذا رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الله - جل جلاله - لا يجوز أن
يوصف بشيء مما يقع اسمه موافقًا لاسم ما في المخلوق، وأغفلوا مثل
هذا وأشباهه، وما هو أعظم من هذا وهو الجمع بين أسمائه -
سبحانه - وأسماء خلقه مثل: "الملك " و"الجبار" و"العزيز" و"العظيم "
و"الكريم " وما ضاهاها، فلم يوجب ذلك أن يساوي خلقه في جميع
صفاته، ولا على خلقه أدط يساووه في جميع صفاتهم، وإذا كان(4/381)
هذا غير ضيِّق في الاسم وجب ألاَّ يضيق فيما وقع عليه الاسم، لولا
الجهل المفرط والعناد الشديد.
وفي معاقبة تاركي الاستثناء - في هذه الآية - عظة شديدة، وتنبيه
لمن يرسل كلامه ولا يقيده بالاستثناء، الذي هو سبب النجاح
والظفر بالحاجة، ومخرج من المآثم، ومؤمّن درك العقوبة.
وقد زجر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، وأدبه، وعلمه أن لا
يقول لفعل شيء هو فاعله إلا مقرونًا بالاستثناء، وكذلك بسائر
الأنبياء فعل - إن شاء الله - وعاقبهم على تركه.
فقد روي أن سليمان بن داود - صلى الله عليه - قال: لأطوفنّ
الليلة على مائة امرأة، تحمل كل واحدة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله.
ولم يستثن، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة، حملت بشق غلام. فقال
نبينا، صلى الله عليه وسلم: " لوكان استثنى، لكان كما قال ".(4/382)
قوله: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
نظير قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) ، إذ ليس للجنة فعل في الإصباح، وإنما هو على سعة اللسان.
* * *
قوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) .
دليل على أن الشيء المتقرب به إلى الله - جل الله -
فرضًا كان، أوندبًا إذا فرط فيه تلوفي فنفع، إذ تسبيح القوم بعد
وقته - الذي كان موضعه - نفعهم تداركه.
ودليل على أن المذنب الظالم لنفسه محتاج - مع ربه - إلى الاعتراف
بذنبه، وسوء صنيعه بلسانه، وإن كان نادمًا عليه بقلبه، وكذا كان
نبينا - صلى الله عليه - يقول في دعاء الاستفتاح: "ظلمت نفسي.
واعترفت بذنبى".(4/383)
فكان هذا الاعتراف من تمام التوبة، وتحقيق الاستكانة، والتواضع.
، وكان بعض أهل العلم يزعم: أن التسبيح يوضع موضع
الاستثناء فيقع، ويحتج بهذه الآية، لأن القوم عيبوا بترك
الاستثناء، فنبههم عليه أوسطهم، بلفظ "التسبيح " كما ترى فقالوا
هم -: (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا) ، ولم يقولوا: (إن شاء اللَّه) .
وهو - لعمري - محتمل لما قال، غير أني لا أعرف أحدًا من الفقهاء
ذكره، والله أعلم كيف هو.
فإن احتج محتج بأن الاستثناء ينفع بعد قطع المستثنى فيه، والأخذ في
غيره، فقد أغفل عندي، لأن تداركه في هذا الموضع مخرج - إن
شاء الله - من المأثم، لا أنه يرد شيئًا أخرجه المتكلم بلسانه فيصير غير
مقول إلا مع الاستثناء.(4/384)
وقد أخبرنا بالحجة في هذا الفصل، وأخبرنا عن خلله في سورة
الكهف، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) .
حجة على المعتزلة والجهمية في باب "الجعل " الذي يعدونه
خلقًا في جميع الأماكن، فإن أعدوه هاهنا خلقًا كان أبلغ حجة عليهم.
إذ يعترفون - بألسنتهم - أنه لا يخلق المسلم كالمجرم، فمن خولف بينه
وبين غيره في الخلق لم يستطع أن يكون مثله في العقل، لأن الخلق
هاهنا واقع على ما وقع عليه الاسم، والاسم لم يقع على الصورة.
إنما وقع على ما سُمي الشخصان به مسلمًا ومجرمًا.
وإن أعدوه غير خلق - وهو القول في هذا الوضع - رجعوا عن
إعدادهم إياه خلقًا في كل موضع.
وفي قوله: (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) ، دليل على أن لا
تكون الحجة إلا مقروءة مسطرة، ولا تكون مخترعة متوهمة، إذ لا
يكون المدروس إلا المسطور، لا المشبه بالمسطور، والله أعلم.
* * *
قوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
حجة في تصحيح الكفالة،(4/385)
وقد احتج بها الفقهاء قبلنا.
* * *
قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) .
يتأوّله الجهمية والمعتزلة، وكثير من أهل اللغة على الشدة، والأمر العظيم.
ونحن لا ندفع أن الساق - في اللغة - قد يقع على الشدة، غير أن
ما وقع على الشدة، لا يحيل أن يقع على غيرها، وهو عندنا في هذا
الموضع واقع على النور، كذلك روي عن رسول، الله صلى الله عليه
وسلم، أنه قال في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) قال: " عن نور
عظيم فيخرون له سجدًا ".(4/386)
فهذا هو القول، ولا يكون هذا النور إلا نور الله - جل وعز - لأن
السجود لا يصلح إلا له، ولا يدعى الخلق إلا إليه.
وقد ذكرناه بأتم من هذا في كتاب " الرد على الباهلي ".
وقد حقق ذلك قوله: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)(4/387)
أنهم دعوا إلى السجود له - في دار الدنيا فامتنعوا، بما سبق في قضائه عليهم أنهم لا يفعلونه، فلم يستطيعوه في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا حجة ثابتة عليهم في باب " الاستطاعة "، ألا ترى أنه قد أخبر - نصًّا - عنهم أنهم لا يستطيعون السجود، لما يدعون إليه في الآخرة، واستطاعه غيرهم ممن سبقت لهم منه الرحمة، فاستطاعوه في الدنيا والآخرة.
* * *
قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) .
حجة عليهم خانقة، لأن الاستدراج - في اللغة - هو كالخديعة.
كأنه يفعل بهم الشيء الذي يحسبونه خيرًا، وهو في الحقيقة ضده.
فقد أخبر الله - جل جلاله، كما ترى - أنه سيستدرجهم من حيث
لا يعلمون، ويملي لهم، وقد حقق ذلك بقوله: (كَيْدِي مَتِينٌ) ، فهل بقي بعد هذا ارتياب، لو أنصفوا من أنفسهم.
وسلموا مقاليد معرفة هذا العدل إلى ربهم، وأقروا على أنفسهم بجهلهم.(4/388)
قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) .
دليل على أن مواعظ آخذ نيل الدنيا زائلة عن القلوب، غير نافعة للموعوظين، وقد بينا في سورة"عسق " فأغنى عن تلخيصه في هذا الموضع.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) .
دليل على أن في أحكام الله على عباده محيرًا، تنبو عنه النفوس، ولا تهش لها العقول، فيحتاج النبي صلى الله عليه وسلم، في جلالته، ومعرفته، بالله -
جل جلاله - أن يصبر عليها، ويحمل نفسه على تجرع مرارتها، ولا يستبطىء النصرعلى أعدائه، فتضيق نفسُه من ذلك.
وفي إمهال الله - جل جلاله - الظالمين المفسدين في الأرض.
المؤذين أنبياءه، وأولياءه، وهم مستوجبون للعقوبة في أول قدم منهم
دليل على أنهم قد ضرب لهم في قضائه مدة ينتهون إليها، لا يتقدمون
عنها، ولا يتأخرون، فهو يستدرج أعداءه بأذى أوليائه مدة،(4/389)
لا يعجل الولي ذوق جزائه الحسنى، ولا العدو ذوق جزائه السيئ -
مقدمين كانا في الدنيا، أومؤخرين في الآخرة - وكل هذا من العدل
الذي لا يُعرف وجهه، وهو حجة على المعتزلة والقدرية.
وفي قوله - هاهنا في صاحب الحوت - وهو يونس عليه السلام -
: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) ،
وإضافة كل ذلك إلى نفسه سبحانه، وقوله - في موضع آخر -: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) .
أكبر الدليل أن لا يؤثر بعض ذلك في بعض، وإن لم يكن التسبيح الذي
كان به من أهله ممدوح به إلا من إنعام الله -أيضاً - عليه، من غير
مرية ولا شك، وما بقي بيننا وبين القوم إلا تبصر ما أثرناه عليهم على
نسق الآيات، ولن يستطيعوه بأنفسهم حتى يوفقهم له خالقهم.
وهذا - أيضا - حجة عليهم.(4/390)
سورة الحاقة
قوله - تعالى -: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) .
وارد - والله أعلم - على الاختصار، كأنه ينبه على عظم ما في
الحاقة من الأهوال، والشدائد لا على نفس الاسم، ويعظه بما فيها
يومئذ.
* * *
قوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
ولم يقل: (بالحاقة) كالدليل على ما قلناه، مما في الحاقة، من القوارع التي تقرع القلوب بالأهوال العظيمة، وهو أعلم.
* * *
قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) .
أنث فعلها مع ثمود في أول الكلام مقدمه، وذكّر فعلها مؤخره، كما ترى، فهو دليل على سعة اللسان، وذكر للريح - وهي مؤنثة - صفتين، ذكَّر إحداهما على اللفظ وهي "الصرصر" وأنث الأخرى وهي " العاتية " فأي شيء يلتمس بعد هذا، وكيف يضيق المبتدعون عن هذا اللسان، حتى(4/391)
يزعموا: أن الجعل ليس له إلا موضع واحد وهو الخلق، وأن الاسم
إذا وقع على شيء وجب أن يشبهه من جميع جهاته، وإلا أنكروه بالكلية.
وطلبوا له التأويلات المستنكرة.
ولو تدبروا الأمور بروية مستقيمة، وعقل ناقد، واستعانوا بالله على
معرفتها، وتبرأوا من الحول والقوة لأنعشهم الله، وبصَّرهم جلي ما
دق على أفهامهم، ووفقهم، وكشف لهم عما لبسته عليهم بدعتهم.
ودخولهم في الأشياء بأنفسهم، فخذلوا فيها.
* * *
قوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) .
دليل على أن القوم واقع على الرجال والنساء، وإنما يقع على الرجال دون
النساء إذا أراده الموقع، لا أنه لا يقع على النساء - بتة -(4/392)
إذ لا يشك أحد أن عادًا لم تهلك بالريح العاتية رجالهم دون نسائهم.
وتشبيههم صرعى بأعجاز النخل حجة في تشبيه الروحانيين بغيرهم.
وأن هذا التشبية لا يجوز أن يكون حجة - في القياس، وقد بيناه في غير
موضع.
* * *
قوله: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) .
أي حملنا من أنتم من نسلهم، ومن كانوا آباءكم، لأن الجارية - وهي السفينة - لم يحُمل فيها محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الموجودون عند نزول الآية، وقد حقق ذلك.
* * *
قوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً)
كما قال: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) ، فجعل بعضهم من بعض، الآباء من الأبناء، والأبناء من الآباء، وكل ذلك على سعة اللسان.(4/393)
(وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)
"الهاء" راجعة على التذكرة، وجعل للأذن
وعْيًا، والمعروف أنه للقلب، وللأذن السمع، فإما أن يكون بمعنى
شدة استماعها، وإما لأداء الأذن ما تسمع إلى القلب فيعيه القلب، فأخبر
بالفعل عنها واعية، وإن كان نعتًا لها فهو فعلها، والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
رد على من يزعم من المعتزلة: أن العرش ملكه فكيف يكون ملكه محمولاً، أم كيف يكون الملائكة خارجين من الملك، فقد بان - بغير إشكال - أنه
السرير.
* * *
قوله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) .
وارد على ما في سجايا البشر من أنه إذا انفرد الأمر له من حيث يراه الكافر والمؤمن لم يخف المستور، فأما عليه - جل جلاله - فلا يخفى اليوم،(4/394)
ولا ذلك اليوم، وهذا كقوله: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وقد بيناه في غير هذا الموضع.
* * *
قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) .
دليل على أنه لا يدعو إلى قراءة كتابه إلا وقد محيت منه سيئاته، وبقيت حسناته فقر بذلك عينه، فعرضه على من يقرؤه.
وهو قرير العين، إذ محال أن يعرض عليهم قراءة سيئاته.
وكتاب المغفورين لهم - بدليل الكتاب والسنة - على لونين:
فمن كان منهم مات تائبًا كانت سيئاته محولة - له - حسنات، فهو
يقرأ، ويعرض على القرأة ما أنجزه الله من تبديل السيئات له حسنات
بقوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
ومن مات منهم غير تائب - والغفران له سابق من ربه - محيت منه.
والله أعلم لتستر عن أعين قرأته، وكذا معنى المغفرة في اللغة هو ستر
الشيء، ومنه اشتُق المغفر، لأنه يستر الرأس ويقيه من وصول السلاح
إليه.(4/395)
ورُوي في الخبر أنه إذا كان عند آخر قنطرة من قناطر جهنم الذي
منه يضع قدمه في الجنة عرضت سيئاته مفردة عليه في كتاب لا يطلع
عليها غيره، وفيها مكتوب "عبدي لم يمنعني من عرضها إلا حياء منك.
فادخل الجنة برحمتي، فقد غفرتها لك "، فيدخل الجنة.
* * *
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) .
دليل على أن الكافر يحاسب لقوله - في آخر الكلام -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) .
* * *
قوله: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
فيه - والله أعلم - إضمار
الموتة، وكذلك قال المفسرون: يا ليتها موتة لا حياة بعدها.(4/396)
قوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) .
حجة في إضافة الشيء إلى نعته، ألا ترى أن اليقين صفة للحق، لأنه في المعنى - والله أعلم - حق يقين، ومثله: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) ، الحصيد نعت للحب كما ترى، ومثله كثير.
وفي هذا رد على من يُلحن المحدثين في روايتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في الجنين غُرةُ عبدٍ، أو أمةٍ"، مضافًا.(4/397)
وأن قولهم ينبغي أن يكون: " في الجنين غُرة عبدٌ، أو أمةٌ "مرفوعًا
مبدلاً خطأ، لا وجه له.(4/398)
سورة المعارج
قوله - عز وجل -: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ) ،
دليل على أن الله - جل جلاله - بنفسه في السماء، لأن " الهاء " في " إليه " راجعة على الله ذي المعارج، فلو كان معهم في الأرض - كما يزعمون ويفترون به عليه - ما كان لذكر العروج إليه معنى، فقد وضح - بلا إشكال - خطأ قولهم، لمن يلبسون عليه من الجهال، وإن كان غير مشكل على أكثرهم بحمد الله ونعمته.
وفي قوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
هو - عندي - الزكاة المفروضة، على ما قال قتادة وغيره من(4/399)
المفسرين، لأنه لو كان مناولة السائل والمحروم لكان مجهولاً غير
معلوم، فلا معلوم إلا الزكاة، التي بيّن - جل جلاله - حدها
ووقتها على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم، في أنواع الأموال، إذ
لا فرق بين ما بينه في كتابه، أو أظهره على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم. إذ قد أخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى، وإنما ينطق
فبوحي ينطق.
وليس حديث الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: " إن في المال حقًّا
سوى الزكاة "(4/400)
وتلاوته هذه الآية من جهة النقل بشيء لإرسال الثقات
إياه، وإنما يصله أبو حمزة من رواته، وأشباهه ممن لا تقوم بروايتهم حجة.(4/401)
وحديث أبي هريرة " في الحمل على النجيبة، وذبح السمينة، واللبن
يوم الورود "(4/402)
أضعف من حديث أبي حمزة
فحصل من الآية أن الحق المعلوم هي الزكاة المفروضة على ما بيناه.
وإذا كانت الزكاة.
وفيها أكبر الدليل على أن مال الأيتام لا زكاة فيها، ولا في أموال
الأصاغر - غير الأيتام - الذين لم تجب عليهم الصلاة، ولم تجر عليهم
الأقلام بالفرائض المحتومات، التي يستوجب لها تاركوها العقوبات، ألا(4/403)
تراه يقول سبحانه: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) .
فأضاف الأموال إليهم، وجعل الحق المعلوم من مدحهم، فمن لا يديم إقامة الصلاة لم يكن في ماله حق معلوم وغير معلوم في حكم الآية.
فإن قيل: أفلا تكون "الواو" في (والذين) قاطعة نعت المصلين، ومستأنفة ذكر غيرهم؟.
قيل: لا يجوز ذلك، لأنا إن جعلنا الواو قاطعة لذكر المصلين
ومستأنفة لغيرهم، لزمنا أن نوجب الزكاة على أموال الكفار، فنخرج
من قول أهل الصلاة.
والواو لا تكون للاستئناف في كل موضع، بل قد تكون ناسقة
ببعض الصفات على بعض ألا ترى أنك لو قلت: قدمت على زيد
مكرم الزوار، ومنزل الأضياف، وحامل الأثقال كانت الواو في
" منزل" و "حامل " ناسقتين بتمام نعت زيد المكرم الزوار على ما تقدم من
ذكره، ولم تكن مستأنفة بهذا النعت لغيره، قال الله - تبارك(4/404)
وتعالى -: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) .
كما يزعم هذا الزاعم أن لو كان (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
ليس من نعت المصلين لكان (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون الذين في أموالهم حق معلوم) بلا واو، لأن الواو عنده مستأنفة في كل
موضع، فهل يقول: إن قوله: (إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) ، استأنفت
الواو بإله غير إله إبراهيم، فكيف؟! ، أو ليس قد بان له - بغير
إشكال - أن الواو نسقت بإله الآباء على إله إبراهيم، وهو إله واحد.
وأن الواو في هذا الباب يكون كونها وحذفها غير مغير من معنى
الصفات شيئًا، وكذلك نقول، والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) .
دليل على أن الزكاة تجعل فى صنف
واحد وصنفين فتجزىء، وليس نُحتِّم أن، تجعل في الثمانية(4/405)
الأصناف كلها وقد لخصنا ذلك في سورة براءة، وسورة بني إسرائيل فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) .
خصوص - وهو أعلم - لأن المسميات بالتحريم في سورة النساء حرَّم فروجهن بالوطء المنسوب إلى الحلال، لا باسم النكاح، فلو جاز أن تشكل
تحريم الأختين من ملك اليمين جاز أن تشكل العمة، والخالة،(4/406)
والأخت من النسب، والرضاع منه، بل جاز أن تشكل الأمهات.
والبنات ولا أعرف للاشتباه في هذا وجهًا، ولا الروايات فيها إلا معلولة، أو أوهامًا من الراوين.(4/407)
وقد ذكرناه في سورة النساء بأشرح من هذا، فليس تحل ملك
اليمين إلا ماعدا المسميات هناك - فقط - دونهن.
و@ي قوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) .
دليل على تحريم الاستمناء، وأحسب الشافعي - رضي الله عنه أيضاً - قد
ذكره في بعض كتبه.
وفيما ذكر - جل وتعالى - من هذه الخصال كلها من عند قوله:
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) .
إلى آخر السورة دليل على أن المؤمن لا يسلك مسلكهم، ولا يؤخذ به طريقهم، ولا يرهقهم ذلك ولا هوان، إذ لو ساواهم المؤمنون - في هذه النعوت أو في بعضها - ما كانت عقوبة لهم، وذلك بشارة للمؤمنين كبيرة.(4/408)
سورة نوح
قوله - تعالى، إخبارًا عن نوح عليه السلام -: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) .
حجة على المعتزلة والقدرية فيما يزعمون: أن المقتول ميت، بغير أجله، فالأجل المؤجل من الموت لا تقدم فيه، ولا تأخر.
فإن قيل: فما معنى قول النبي، صلى الله عليه وسلم: " صلة الرحم تزيد في الأجل "؟.
قيل: معناه تزيد في الأجل الذي أجل بغير صله الرحم، كأنّه قد
سبق في القضاء أن يوهب لواصلي الأرحام عُمُرًا يكون زيادة في(4/409)
أعمارهم، كما سبق فيه أنه يهب آدم لداود - عليهما السلام - أربعين
عامًا، من عمره، تكون زيادة في عمر داود، ونقصانًا من عمر
آدم عليهما السلام.
وهو مثل قوله، صلى الله عليه وسلم: " أرأيت ما نعمله من
الأعمال، أهو في أمر قد فرغ منه، " قيل له: يا رسول الله، ففيم
العمل؟! ، قال " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".(4/410)
فكان القضاء بموهبة آدم لداود كان سابقًا فتيسَّر لما خلق له فزيد في
عمره.
وقد رُوي: " أن الزنا ينقص من العمر"، فهو على ما ذكرناه.(4/411)
من تقدم القضاء به، وهذا معنى قول الله - عز وجل -: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) ، فيزاد فيه فضيلة
الرحم، وينقص منه بالزنا، كما أداه الخبر، وبما شاء الله من
الأعمال، التي لم يؤدها الخبر، وكذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - حين سُئل عن قول: النبي، صلى الله عليه وسلم: " الدعاء يرد القضاء " فقال: هو من القضاء أن يرد الدعاء القضاء ".(4/412)
فكل هذه الأشياء منتظمة مؤتلفة، غير مختلفهّ، لا تشكل على أفهام
العلماء بالله، وبأمره ومنهاه سبحانه.
فإن قيل: فما معنى قول النبى، صلى الله عليه وسلم، حين أخبر
عن ربه في قاتل النفس: " إن عبدي بادرني بنفسه، فحرمت عليه الجنة "، وقوله - عليه السلام للسائل حين ألقى إليه
التمرة -: " خذها لو لم تأتها لأتتك ".(4/413)
قيل: معناه أن الله - تبارك وتعالى - قضى أجل الموت، وقضى
مبلغ الرزق، وحده، ومقداره، فيحرص قاتل النفس على ما
يتزين له من قتلها، فيرى أنها لا تموت إن لم يقتلها، وينسى الأجل
المقدور فيقحم على السبب الذي جعل لموته، ويقحم طالب الرزق على
السبب الذي قضى له ويرى لشدة حرصه وجشعه أنه مدركه بسعيه.
فأعلمه النبي، صلى الله عليه وسلم، أن ليس إتيانه الذي ساق إليه
التمرة، ولكن ساقها إليه ما سبق له من تقدير ربه، وجعله إيّاها من
وهكذا قاتل نفسه قدّر أن يبادر أجله، ولم يعلم أن فعله بنفسه ليس
هو الذي أماتها، وإنما أماتها أجله. مكتوب عليه من فعله بنفسه.
فحُرمت عليه الجنة، لتقديره الغلط، وظنه بما قام له من فرض(4/414)
التزيين أنه يغلب ربه بتعجيل ما أخره، ومعرفة كيفية العدل في هذا مغيب
عنا منفرد بعلمه ربنا.
* * *
قوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) .
دليل على أن اسم القوم واقع على الرجال والنساء، وأنه لا يفرد به الرجال إلا بإرادته ذلك وإضماره، لا أنه اسم لا يقع إلا على الرجال فقط، لإحاطة أن نوحًا دعا الرجال والنساء إلى دينه، وقد لخصناه في غير هذا الموضع.
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) .
ذكَّر المدرار - والله أعلم - لأن السماء في هذا الموضع اسم للمطر، لا للسقف المرفوع، وذلك سائر في كلام العرب قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا(4/415)
فهو بين أن السماء اسم للمطر، وأحسبه سمىِ به لأنه من السماء
ينزل، أو لأنه عالٍ ينزل إلى سافل، والله أعلم.
* * *
قوله: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) .
دليل على استنزال الرزق، وتكثير الأولاد بالعمل الصالح، لأن نوحا وعد قومه على الاستغفار إمدادًا بالأموال والبنين.
وذكر أن رجلاً كان ميناثًا لا يلد له ذكور فلزم الاستغفار متأولاً لهذه
الآية، محتسبًا ما وُعد أهل الاستغفار فيها، فأذكر بعد ذلك.
* * *
قوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) .
كان بعض أهل النظر يذهب إلى أن القمر نور في إحداهن، وهي سماء الدنيا، ليس في جميعهن، ويجعل ذلك حجة لقوله، حيث جعل الأيام المعدودات.
أيام التشريق، فلم يلزمه أن يبيح النحر في جميعها، اعتمادًا على أن(4/416)
الله جعل القمر نوراً في بعض السموات - وهو فى اللفظ فيهن -
لا فيها. وليس هو عندي كذلك، إذ ممكن أن لكوّن القمر يضيء
بوجهه الذي إلى السماء جميع أهل السموات لصفائهن، بقدرة الله -
تبارك وتعالى - فيكون نورًا في جميعهن ليس في إحداهن)
وليس في جعله الأيام المعدودات أيام التشريق ما يلزمه أن يبيح النحر
فى جميعهن، لعدم جرى النحر وذكره في الأيام المعدودات، وإنما أمر
الله - سبحانه - أن يذكّر فيها
فإن كان النحر الذي هو في يوم العاشر من ذي الحجة يجوز عند قوم -
بضرب من التأويل في هذه الأيام - فليس ذلك لأن الأيام سميت
بالمعدودات حتى يلزمه أن يجيز، النحر في جميعها، ولكن أجازوه -
والله أعلم - لأنها بقايا أيام مناسك الحج لرمي الجمار والبيتوتة بمنى.
فلما كان النحر منسكًا من مناسك الحج ففات وقته أجيز في الأيام
المنسوبة إليه، والمجعولة من تمام مناسكه.
ويحيى - عندنا - فى ذلك سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4/417)
صحيحة الإسناد أنه أجاز الذبح في جميع أيام التشريق، فاستغنينا بها
عن التأويل في إجازة ذلك.
فإن قال: لم يرد هذا الناظر ما ذهبت إليه بل تتحجج عليه، إنما
أراد إبطال قول من يُلزمه النحر ثلاثة أيام، في كل يوم نحرًا جديدًا كان
ذلك أبعد من الصواب، لأن ابتداء النحر ليس هو في أول يوم من الأيام
المعدودات حتى يلزمه أن يحدد النحر في كل يوم بالاسم، وإنما ابتداؤه
في يوم الحج الأكبر، الذي ليس من الأيام المعدودات في شيء، والأيام(4/418)
المعدودات بعده قد فصل بينهما الليل بلا شك.
فلا أعرف لذكره ذلك معنى في هذا الموضع، ولا أرى فيه فائدة -
بتة - أكثر من أنه تأوّل على (فِيهنَّ نورًا) ما يمكن - وغير مستنكر -
أن يكون ضد قوله، وخلاف تأويله، والله يغفر لنا ولقائله.
* * *
قوله: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) .
أبلغ حجة في التوسع في الكلام، الذي يدل سياقه على معناه، وأرد شيء لقول المتنطعين من المتنسكين، لإحاطة العلم بأنه - سبحانه - لم ينبتنا من الأرض كهيئة النجم والشجر، وإنما أراد - وهو أعلم - أنا من نسل من خلقه من التراب المجعول طينًا، والتراب من الأرض، فكأنا نبتنا منه نباتًا.
فأين تحذلق المتحذلقين، وتضيّق المضيقين على المتوسعين في ألفاظ
الكلام، المقتصرين فيه على الإشارات إلى المعاني المفهومة بالألفاظ
المختصرة؟!
فإن قيل: أفلا يكون هذا ذريعة إلى إباحة القياس؟.
قيل: إن كان القياس عند مستعمليه فهم الشيء نفسه، باختصار
اللفظ في ذكره، فهذا - لعمري - ذريعة إليه، ومبيح القول به.(4/419)
وإن كان القياس عند أهله حمل الشيء على نظيره، وسالك شبه
المسكوت عنه مسلك المذكور باسمه فهذا بعيد منه، إذ لو كان هذا مثله
وجب أن يكون جميع الروحانيين من الطير والهوام، وسائر الدبيب.
والحشرات نابتًا من الأرض كما كان آدم وذريته نابتين منه، بمعنى أنهم
مخلوقون منها.
ولو فهم القوم عن دافعي القياس قولهم لعلموا أنهم لا ينكرون فهم
خفي الخطاب بفصيح الكلام، وأن الذي يمتنعون منه إنما هو إنشاء العلل
في الملفوظ، ليحملوا عليها غير الملفوظ.
فأمّا العلة الدالة عليها لفظ النص وسياقه، فلا يتمانعوها، إذ هي
ودليل الشيء على نفسه، وفهم ما يدق على غير أهل اللسان بالجليل عند
أهل اللسان.
وقد بينا في سورة آل عمران في فصل قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ، وهو أكثر اشتباهًا من هذا الفصل.
وفي فصول كثيرة على نسق السور ما لو فهموه لأغناهم عن كثير من
توهمهم، وأنبأهم عما يشكل عليهم مما ليس بمشكل عند من شرح
الله صدره، ولم يكابر عقله.
وهم يضربون عن تبصره صفحًا اقتداء بمن لا يفهمون فهمه،(4/420)
ولا يسلك في السبيل إلى إباحة القياس مسلكهم، ويجوز عليه من السهو -
فيه - ما يجوز في المسائل الذي يوصلون ترك الاقتداء به دون وضوح
الحجة لهم.
والنبات مصدر خارج على غير قياس المصادر المشاكلة له، إذ لو كان
خارجًا على شكله لكان - والله أعلم - "إنباتًا"، لا"نباتًا".
ومن النحويين من قال: إنه خارج على ضمير " فعل " كأنه: والله
أنبتكم من الأرض فنبتم نباتًا، وهو أعلم سبحانه كيف هو.
* * *
قوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
دليل على أن ما اختاره أبو عبيد - من إعمال الفعل المتلاصق بالاسم.
وإن كان وجها حسنًا، فإعمال المتباعد عنه -أيضاً - حسن، وأن ليس
واحد منهما مختارًا على صاحبه، إذ كلاهما وارد في القرآن.
ولا يجوز أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض، لأنه كله كلام الله -(4/421)
جل وتعالى - ألا تراه ردّ السلوك إلى الأرض، ولم يرده إلى البساط
المتلاصق به.
* * *
قوله: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) .
دليل على أن في كلام العرب تأكيدًا، كما ذكرناه في غير موضع من هذا الكتاب، إذ ليس يخلو الود والسواع ويغوث ويعوق والنسر من أن يكونوا تفسيرًا للآلهة المجملة، أو يكونوا غيرها.
فإن كانو تفسيرًا لها فقد أكد الكلام بـ (وَلَا تَذَرُنَّ) الثاني. وإن
كانوا غيرها فقد أكد الكلام بها نفسها.
وإنما صرفها كلها، ولم يصرف يغوث، ويعوق، لأن هذين على
لفظ الأفعال المستقبلة، والأسماء الأعجمية.
قوله - إخبارًا عن دعاء نوح عليه السلام -: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) .
حجة على المعتزلة والقدرية، من أجل أن نوحًا - عليه السلام - لا يجوز عليه أن يدعو بالباطل، ولا الله - تبارك وتعالى - يُسأل باطلاً، وقد سأله كما ترى أن يزيد الظالمين ضلالاً، فدل على أن الكفر فيهم، والزائد بدعائه معا من،(4/422)
عند ربه، ومعرفة كيفيته متفرد به - جل جلاله - بعلمه.
* * *
قوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا)
دليل على أن اسم الخطيئة واقع على الكفر، ومعناها أنها ضد الصواب، فمن خالف
اللَّه - سبحانه وتعالى - في الإيمان الذي آمن به، أو واقع ما نهى عنه
من كفر، أو معصية فهو مخطئ غير مصيب، وإنما تختلف عقوبة
الفعلين فقط.
فليس لتعلق المعتزلة في باب الوعيد باسم خطيئة ذكر في عقوبتها
خلود وجه، لو أنصفوا من أنفسهم، وتدبروا الأمور بحقائقها، ولو
ميزوا تناقض قولهم، وقلة النظر إلى ذلك، في باب العدل، لعلموا
أن جمع الخلود على من عصى الله - جل جلاله - عمره، ومن عصاه
يومه الذي مات فيه بغير توبة بعيد من العدل، الذي يدعون معرفته.
فضلاً عمن كفر به عمره، فيجمع بينه وبين من آمن به دهره.
ولئن كان هذا - عندهم - غير ثالم في العدل، وثلم في جمع القضاء
والعقوبة على عبد، مع عظم ذاك، وخفة هذا، ألا يزول العجب ممن
يتعجب من مكابرتهم، أو فرط جنونهم - أكبر - نعوذ بالله من(4/423)
الضلالة.
* * *
قوله: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) .
رد على المعتزلة والقدرية شديد لو تدبروه، وذلك أن نوحًا - مع
نبوته - جمع في دعائه بين إضلالهم للعباد، وإيلادهم الفجار والكفار
فلم ينكره عليه ربه، ثم أنزله على نبينا، صلى الله عليه وسلم، في
كتابه، كما ترى مدحًا للداعي، وذمَّا للمدعو عليه، وأخبر - نصّا
بغير تفسير، ولا تأويل - أن المولود يلد فاجرًا كافرًا، قبل أن
يكتسبهما كبيرًا بسييء عمله.
فإن قيل: لم يرد أنهم يلدون كذلك قبل الاكتساب، إنما أراد أنهم
يبلغون فيكتسبون.
قيل: ليس هذا في التلاوة، ولو كان فيها أيضاً لما نفعهم، لأن من
أخبر الله - جل جلاله - عنه بأنه يكتسب الفجور والكفر بعد البلوغ.
لا يقدر على اجتنابهما، وقد سوّى في الخطاب بينه وبين من لم يخبر ذلك
عنه، وأمره أن يجتنبهما، كما أمر غيره باجتنابهما.
فإن زعموا: أنه قادر على اجتنابهما إن شاء، أفليس(4/424)
إذا اجتنبها لم يكن فاجرًا ولا فاسقًا؟.
فإن قال: نعم. ولابد من نعم، نسب ربه - جل جلاله - إلى
الكذب في قوله، والجهل بما يكون من فعل عبده، وكان ما يلحقه
من الكفر في مقالته أكثر مما أردناه من مناقضته، وكفينا مؤنة الاشتغال
وإن قال: لا يقدر على اجتنابهما، بعد إخبار الله عنه بهما -
قيل له: أوَ خاطبه - مع ذلك - باجتناجهما، أو لم يخاطبه، وترك
سدى؟.
فإن قال: لم يخاطبه. كابر في قوله، وخرج من قول، متبعيه
ومخالفيه، وكافة البشر، ولن يقوله إن شاء الله.
وإن قال: بل خاطبه كما خاطب غيره، رجع إلى ما أنكره
واستخف ما استكبره، واستسهل ما استوعره، واستراح من
محالاته، وعرف ضلال نفسه، وكافة أصحابه، ولن يجد من ذلك
مخلصًا، وعلم أن نسبة الإضلال إلى من لا يقدر على حفظه نفسه غير
مؤثر في قضائه، بشقوته وشقوة غيره، ولا ملحق بربه - سبحانه -
جورًا تصوره هو من عدل لم يحط بمعرفته، ولا جاز أن يكون شريكه
في كنه وصفه "
ومثل هذا المولود الذي قتله الخضر - صلى الله عليه - وإخبار الكفر(4/425)
عنه بلفظه، قبل بلوغ حينه واكتسابه بعمله، وقد ذكرناه في
موضعه.
وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن الله تبارك وتعالى
خلق يحى بن زكريا - عليه السلام - في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون
في بطن أمه كافرًا ".
* * *
قوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ، بشارة لكل مؤمن ومؤمنة يكون إلى يوم القيامة، لأن نوحًا - عليه السلام - نبي، ودعاؤه مستقيم.(4/426)
سورة الجن
وقوله - جل جلاله -: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) .
حجة لمن يدعو في الحجج، إليه، إذ كان هاديًا إلى الرشد على الحقيقة، فلا أعرف عذر من ينحرف فيها عنه، بعد مدح الله - جل جلاله - الإنس
والجن بالدعاء، وذمه المنحرفين عنه، وقد لخصناه في كتابنا المؤلف في
"شرح النصوص "فأغنى ذلك عن إعادته.
* * *
قوله: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) .
دليل على أن العرب تسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة، إذ الجد في هذا الموضع العظمة والجلال، وفي غيره البخت وأبو الأب.
وفيه - أيضاً - رد على المعتزلة فيما يزعمون: أن الشيء إذا سمي به
شيء لم يعد به إلى غيره، وقد لخصنا خطأه عليهم في غير موضع.
ومثله قوله: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) ،(4/427)
و"الأحد" اسم من أسماء الله تبارك وتعالى.
وفيه - أيضا - حجة على تسمية المخلوقين بأسماء الخالق عز وجل.
* * *
قوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
دليل على سعه اللسان، لأن الحرس جمع، وجعل الشديد في نعته، على لفظ
الواحد، ولم يقل: أشدادً
فأما أن يكون - والله أعلم - على اللفظ، لأن لفظ الحرس
لفظ الواحد، وإن كان جمعًا، وأما أن يكون رُدَّ على الحارس، أي كل
حارس من الحرس شديد.
وكذلك (شُهُبًا) دليل على السعة، لأن الشهب جمع شهاب.
والشهاب النار، لقوله - إخبارًا عن موسى -: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) .
فأما أن يكون شبه لنا ضوء الكواكب وحرها بالنار، إذ جعله اسمًا لها
وللنار معًا، وأيهما كان فالسعهّ فيه بينة.(4/428)
قوله: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) ، حجة على المعتزلة والقدرية، لإخبار الله - جل جلاله -
عن الجن بإرادته الشر بمن في الأرض، كإرادته بهم الرشد، ولم ينكره من قولهم، ولا نسبهم إلى الكذب عليه فيه، بل أنزله في جملة
القرآن العجب على رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) .
هو - لامحالة - عصيان الكفر، لا عصيان الذنب، فمن شبه عليه من المعتزلة، وتعلق بظاهر لفظ العصيان نبهه عليه قوله: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) .
لأن المسلم - عاصيًا كان أو غير عاص - لم ينسب قط رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا ناصر له، ولا كثرة عدد تغلب بهم، وإنما كان ينسبه إلى ذلك الكفار، ويرون أنه مغلوب لقلة عدده، وأنصاره، وكانوا يعصونه.
ولا يطيعونه، ويتربصون به ريب المنون، وكانت معصيتهم للرسول
معصية لله - تبارك وتعالى - فأنزل الله هذه الآية فيهم، وأخبر أنهم إذا(4/429)
أفضوا إلى الخلود في النار عرفوا أنهم كانوا هم الأقلين عددًا وأنصارًا.
إلا الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو بين.
* * *
قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) .
رد على من يزعم من الشيعة أن الإمام يعلم الغيب وهذا من كبار حماقاتهم، وقد أخبر الله - جل جلاله - أنه لا يظهر عليه إلا من ارتضاه رسولاً، والإمام ليس برسول.
مع أن دعوتهم لهذا الإمام - نفسه، أيضاً - حماقة، لأن إمامًا لم يسعد به من قد مات من منتظريه، لا يسعد به مدركوه، وليس بشيء
إذ كل إمام أقامه الله - جل جلاله - في زمان من الأزمنة سعد به
الجميع، لا بعضهم دون بعض، إلا من شق عصاه.
والإمام المستور ليس بإمام، إنما الإمام الظاهر الآمر الناهي، قوي
في أمره ونهيه أم ضَعُف.
* * *
قوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) ،(4/430)
أشد ما يكون من الاختصار، إذ نصب " الرصد " لابد من اختصار ضمير يكون فيه، كأنه - والله أعلم - " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه
ملائكة يكونون رصدًا له " فينصب على ضمير خبر يكونون، أو يكون
نصبه حالاً، كأنه ملائكة رصدًا له.
وقد يجوز - والله أعلم - أن يكون المراد به أن الله جل جلاله يسلك
من بين يديه ومن خلفه بالرصد من الملائكة، كما تقول: سلك الرجل
الطريق، وسلك به غيره، فيكون نصب الرصد بانتزاع الخافض.
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) .
فعلمه بذلك - سبحانه - ليس بمحدث في وقت تبليغ رسالة الرسل، بل علمه قديم أزلي بالأشياء كلها، قبل كونها بتكوينه لها، وهو في هذا على سعه
اللسان، أي يراهم مبلغين للرسالة، سامعين لربهم، مطيعين.(4/431)
سورة المزمل
قوله - تعالى -: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
دليل على أن من لم يؤمن بالقيامة فهو كافر.
* * *
وقوله: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)
يحتمل أن يجعلهم شيبًا بطوله.
ويحتمل بأهواله وأفزاعه، وأنواع شره المستطير، التي تشيب
النواصي، على المبالغة، والله أعلم -(4/432)
قوله: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)
ذكر السماء - والله أعلم - على اللفظ
و (به) قد يحتمل أن تكون الباء فيه بمعنى "في " كما قال: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) ، والله أعلم.
* * *
قوله: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ)
يجوز أن تكون " الهاء "(4/433)
راجعة على الموعظة، أو على السورة، وإن كانت كلها مواعظ.
ويجوز أن تكون لتأنيث التذكرة نفسها، كما تقول: هذه جارية.
والله أعلم.
قوله: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ)
ليس بناقض لما ذكرناه فى سورة بعد
سورة من تبع مشيئة العباد لمشيئة الله جل جلاله.
* * *
قوله: (إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)
أي إلى طاعة يتقرب بها إلى ربه.
فيأمن بها من أفزاع القيامة، وأهوالها، والله أعلم
* * *
قوله: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)
دخلت (هُوَ) في الكلام، ولم تغير الإعراب، لأن ما تقدمه من الفعل أقوى منها، فعمل فى الإعراب دون هو، ومثله في القرآن موجود، مثل قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ، وأشباهه، مع أني أحسب(4/434)
أنهم قد استعملوها أيضاً.(4/435)
سورة المدثر
* * *
قوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) .
بشارة للمؤمنين كبيرة، إذ لا يكون على الكافرين غير يسير، إلا وهو على المؤمنين يسير، والله أعلم.
ولو كان عليهما - معًا - عسيرًا ما كان للمؤمنين عليهم فضل، ولا
كان في الكلام فائدة.
فمن يسره تقصير طوله - في أعينهم - واستظلالهم في ظل عرش
ربهم يوم لا ظل إلاّ ظلُّه، إذ ليس يخلو مؤمن - إن شاء الله - من فيض
عينيه إذا ذكر الله خاليًا، وربما كان ذلك في عمره ما لا يحصي عدده غير
ربه، فهذا أعم ما في السبع الخصال التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله - تبارك وتعالى - يظل أصحابها في ظله، يوم لا ظل إلا ظله.
فيسعد بها - إن شاء الله - جميعهم، ويشارك كثير منهم في الستة(4/436)
المذكورة معه من وفقه له ربه.
والسبع: " إمام عادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجل كان قلبه معلقًا بالمسجد إذا خرج منه حتى
يعود إليه، ورجل دعته امرأة ذات نسب وجمال فقال: إني أخاف
الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تصدق به يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ".
* * *
قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) .
من المواضع التي يحسن فيها حذف هاء المفعول، لأنه لم يقل: " خلقته ".
* * *
قوله: (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) .
قد أزال كل لبسة عن أن القرآن كلام الله، غير مخلوق.
واللفظ به غير مخلوق، لتواعده الوليد بن المغيرة فيما نسبه إلى قول(4/437)
البشر، وإذا لم يكن قول البشر، فلا يكون إلا قول الخالق، وإن تلاه
البشر -أيضاً - فلا يكون قوله، بل يكون قول من بدأ به، وهو اللَّه جل جلاله.
فلم يصر بتلاوة جبريل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
مخلوقًا، وجبريل مخلوق، ولا بتلاوة رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، على أصحابه مخلوقاً، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم.
مخلوق، ولا بتلاوة التالين إلى يوم القيامة، وإن كان التالون له مخلوقينْ.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " إن أفواهكم طرق
للقرآن، فطهروها بالسواك " والأفواه مخلوقة، وهي تؤديه،(4/438)
فلا يصير مخلوقا.
وقد قال: طرق للقرآن - كما ترى - ولم يقل: لحكاية القرآن.
فالقرآن لا يكون لفظًا للعباد، ولا حكاية لهم عن غيرهم أبدًا لأنه
ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله جل جلاله، كيف احتمل، وكيف
أدي.
ولا أدري كيف اشتبه هذا على اللفظية، والقائلين بالحكاية، ولو
أنعموا الرويّة باتقاء وخشية، ونصحوا أنفسهم،(4/439)
ولم يعتبوا عقولهم لعلموا: أن كل كلام ابتدأ به متكلم، ولفظ به
لافظ، لا يقدر أحد غيره أن يتكلم به، ولا يلفظ به أبدًا، لأن الذي
يحتمله من نطق غيره، ويؤديه إلى الأسماع هو كلام المبتدي به - لا
محالة - لا كلامه، إذ محال أن يكون كلام واحد لمتكَلِّمَين، ولفظ
واحد للافظين في حال واحدة، ولا في حالين -أيضاً - إن ظن
ظان أنه يمكن في حالين، لأنه لا يكون إلا حالاً واحدة، إذ حال
الكلام واحد بالسبق إليه.
والحال الثانية: تكون للأداء والإخبار، وكلاهما غير كلام المبتدي
. وكلام المبتدي واحد حين ابتدأ، وحين أخبر عنه وأدي.
فإن كان هذا الإخبار والأداء عن كلام غير القرآن من كلام البشر.
كان -أيضاً - كلام ذلك البشر، لأن كلام المخبر والمؤدي إخبار
وأداء وإن كان الأداء والإخبار عن القرآن، الذي هو(4/440)
كلام الخالق فهو كلامه، وهو غير مخلوق، وإن كان يؤديه مخلوق، ويخبر
به مخلوق، فتفهمه وإن دق عليك، فإنك تجده كذلك، إن شاء الله.
* * *
قوله: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
حجة على المعتزلة والقدرية، في الإضلال والمشيئة - منه - فيه الذين لا يؤمنون بهما بتة، ويخالفون نص القرآن فيه، ويتابعون أهل الكفر فيه.
فقد روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب، وعنده جاثليق (1) يترجم
له، فلما قال عمر: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، نفض الجاثليق جبته كهيئة المنكر لقول عمر.
فقال عمر: ما يقول، فسكتوا عنه ثلاث مرات، كل ذلك ينفض
جبته.
فقال عمر: ما يقول، قالوا: يا أمير المؤمنين: يزعم أن الله لا يضل أحدًا.
فقال عمر: كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك، وهوأضلك، ثم
يدخلك النار - إن شاء الله - أما والله لولا ولث (2) عقد لك لضربت
__________
(1) الجاثليق: فسره ابن عباس أنه عظيم عظماء النصارى. انظر كتاب القدر لابن وهب ص (114) .
(2) في المخطوط " ولت، والتصحيح من المصادر التي أوردت الأثر، مثل كتاب السنة (2/ 423) ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 659) . والولث: بقية العهد -(4/441)
عنقك. إن الله - تبارك وتعالى - خلق أهل الجنة وما هم عاملون.
وخلق أهل النار وما هم عاملون، فقال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه.
فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر.
* * *
وقوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) .
دليل على أن الإسفار هو يعقب طلوعه إذا وضح، وأن الإسفار بصلاة الصبح يكون حينئذ، لا تركه إلى امتحاق النجوم، مضاهاة النصرانية، كما روي عن(4/442)
رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وأن قوله: " أسفروا بصلاة الصبح، فإنه أعظم للأجر ".
هو هذا الإسفار، وهكذا قال أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -
حين سُئل عن الإسفار ماهو، فقال: هو أن يصبح فلا يشك في
طلوعه.(4/443)
وهو كما قال، لأنه يبدو عند ابتداء طلوعه خفيًّا لا يتبينه كل أحد.
فإذا وضح عرفه الجميع.
* * *
قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) .
وكل ما في القرآن من مثل هذه المشيئة، فهي على ما بينته في غير موضع، أن مشيئتهم تبع لمشيئة الله - جل وتعالى - لقوله سبحانه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
فمن زعم: أن مشيئته غالبة مشيئة الله فقد كفر بيقين، فصح أن
مشيئة العباد تبع لمشيئة الله - عز وجل - إذ لا ثالث له
* * *
قوله: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) .
يقال - في التفسير -: إنهم ولدان المسلمين فى هذا الموضع، لا يحاسبون، لأنهم لم يعملوا معصية ارتهنوا بها.(4/444)
فإن قيل: فإذا كان هكذا، فما معنى قول النبي، صلى الله عليه
وسلم، حين قالت له عائشة - في طفل أتي به ليصلي عليه -:
عصفور من عصافير الجنة لم يعمل خطيئة. فقال: " أو
غير ذلك يا عائشة، إن الله - تبارك وتعالى - خلق للجنة أهلا.
بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، مدمن عليهم، لايزاد فيهم ولا
ينقص منهم إلى يوم القيامة".(4/445)
قيل: القرآن - والله أعلم - ذكرهم على الظاهر الأعم، والنبي.
صلى الله عليه وسلم، أجاب عائشة على الباطن الأخص، حين أشارت
إلى طفل بعينه، وشهدت له بالجنة، فأعلمها - عليه السلام - أن
الإشارة إلى شخص بعينه لا تجوز، لأنه لا يدرى كيف كتب عند
الله، وفي أي القبضتين خرج.
وهذا كما يقال: المقتول في سبيل الله شهيد، فإذا قُتل شخص بعينه
لم يجز أن يشهد عليه بالشهادة، كما قال عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - في حديث أبي العجفاء السلمي: والأخرى تقولونها في
مغازيكم، قتل فلان شهيدًا، ولعله قد أوقر ركابه ذهبًا وفضة -
يريد الغلول - فلا تقولوا: فلان شهيد، ولكن قولوا كما قال رسول
الله، صلى الله عليه وسلم: " من قتل في سبيل الله، فهو شهيد".(4/446)
وكحديث مِدْعم مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين
جاءه سهم غرب في بعض مغازي رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فقتله. فقال الناس: هنيئًا له الجنة. فقال النبي، صلى الله عليه
وسلم: " كلا إن الشملة التي أخذها من الغنائم - لم تصبها
المقاسم - لتشتعل عليه نارًا " فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك.
وشراكين إلى رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4/447)
" شراك من نار، وشراكان من نار".
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن قتل مِدْعم، وإن كان ظاهره شهادة
فباطنها غيرها، للغلول الذي تقدّمه، فلم يصر من أجلة في جملة
الشهداء. والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
* * *
قوله: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) .
دليل على توكيد حرمة المسكين، حين قرن تضييعه بترك الصلاة، وخوض
الخائضين، وتكذيب بيوم الدين، وكما قال - تبارك وتعالى، في
سورة الحاقة -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) .
وكقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) .
فقد أكده - سبحانه - هذا التأكيد، والناس في غفلة عنه، فقصارهم(4/448)
تضييع حقوقهم، والتهاون بإطعامهم، ونسيانهم بالكلية، وربما.
زبروهم (1) ، وطردوهم، وانتهروهم، فماذا عسى يكون
وزن هؤلاء عند ربهم؟! ، وما يكون حالهم في معادهم؟!.
* * *
قوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) .
دليل على أن هناك شفعاء يشفعون غير محمد، صلى الله عليه وسلم، فيشفعون، إذ لا يزيل منفعة الشفاعة عن قوم، إلا وهناك من ينتفع بها.
* * *
قوله: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) .
مثل قوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، نظير ما مضى من أشباهه، في أن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله، وأن مشيئته - جل وتعالى - متقدمة على مشيئته، لولا ذلك ما استطاع العبد فعل شيء، ولا كانت مشيئة في شيء.
__________
(1) الزبر: هو الزجر والمنع. انظر لسان العرب (6/ 11) ، ومختار الصحاح ص (203) ، مادة " زبر ".(4/449)
سورة القيامة
* * *
قوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) .
رد على من يقول بالدهر، وقدم العالم، ومن يقول: إن المعتاد من مجاري الليل والنهار والشمس والقمر لا يتغير، وقد أخبر الله - تعالى، نصاً، كما ترى - أن الشمس والقمر يجمع بينهما، وفي الجمع بينهما ذهاب المعتاد من
مجاريهما، فإن كان مؤمنًا بالقرآن، فالقرآن قد نقض قوله، وإن لم
يؤمن تلي عليه، فإن قبله ورجع عن قوله، وأقر بالقيامة، وقيام
الساعة، وإلا استُتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
ولا يقر على هذا القول، لأنه ليس من أهل الجزية، فتؤخذ منه ويخلى
بينه وبين مذهبه، واعتقاده.
* * *
قوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) .
من العلماء بالقرآن من قال: يريد بل للإنسان من نفسه عليها بصيرة. كأنه يذهب به إلى الاعتبار بما يراه منها، ومن أحوالها، كما قال: وَفِئ أَنفُسِكم أَفَلاَ تبصرون) ، يقول أهل، التفسير:(4/450)
إنه سبيل الغائط والبول، يجعلهما الإنسان عبرة يعتبر بها، فيعلم
أنه مدبر مملوك، وأن مالكه الذي أدخل الطعام والشراب في جحر
واحد، وأخرجهما من جحرين مختلفين، مميزًا بينهما، مبقيًا
نفعهما، هو القادر على كل شيء، وهو الرب الذي يفعل ما يشاء.
فيوطن نفسه على طاعته، ويجتنب مساخطه، فإنه في قبضته لا يقدر
على الفرار منه.
وقد يجوز أن يكون على ظاهره، فيكون بل الإنسان بنفسه بصير
فتدخل فيه "الهاء" على التأكيد والمبالغة، كما قالوا: رجل علامة
ونسابة، ويكون (عَلى) بمعنى"الباء" كما بدل العرب حروف
الصفات بعضها من بعض، والله أعلم كيف هو.
* * *
قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) .
أي ولو أسبل ستوره عند(4/451)
خلوته بالمعاصي.
وأهل اليمن يسمون الستور المعاذير، واحدها معذار.
* * *
قوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) .
دليل إلى الإشارة إلى المعنى، وإن لم يجر لفظه في أول الكلام، لأن "الهاء" في (به) راجعة على القرآن، ولم يذكر قبلها، فاستغنى بما دل عليه آخر
الكلام، إذ يقول: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) .
وهو من المواضع التي يبين آخر اللفظ فيه عن أوله، وهو مع ذلك من أدل دليل على أن القرآن المسموع من لسان العباد كلام الله غير مخلوق، ولم يصر لفظًا ولا حكاية، وأنه القرآن المحض الذي تكلم الله به، وليس للعباد به
لفظ أصلاً، إنما حملوه حملاً، وأدوه أداء، كما يحمله الكاتب بكتابته
من غير أن يكون له فيه ممازجة لفظ، وهو بين لا ينبغي أن يدق على
فهم من أقر بأنه كلام الله غير مخلوق، فيشك في اللفظ والحكاية.
لأنه ليس للتالي، ولا للكاتب، ولا للحافظ، ولا للسامع صنع في
اللفظ، ولا في الحكاية، ومن شك فيهما وقدر أن له لفظًا فيه إذا
أدّاه، ويصير بأدائه حكاية فقد رجع عن قوله: إنه كلام الله غير(4/452)
مخلوق، واستوى مع من يقول بخلقه، وكفر كفرًا صراحًا لأن اللفظ
لا يكون من لافظين في حال واحدة، ولا الكلام يكون حكاية ومحكيًّا من
واحد في حال واحدة، إذ لابد من عدم أحدهما بوجود الآخر.
فلما كان المتكلم لا يقدر على ابتداء كلام قد سبق إليه، فيكون هو -
أيضًا - مبتدئًا به، كما كان الأول مبتدئًا به، فتلا القرآن الذي
ابتدأ الله بالتكلم به كان الكلام لله وحده، وكان هو الموجود.
وكلام التالي الذي يظن الظان أنه كلامه عدمًا بيقين، إذ لا يجوز أن
يكون كلام الله عدمًا - وهو كلامه - بأداء مخلوق بالله، والآية ليست
بكلام، وقد أيَّس الله الناس جميعًا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال:(4/453)
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) .
أفليس من يظن على أن يقدر على اللفظ بالقرآن فقد زعم أنه من أتى بمثله وحده من غير تظاهر، وكذب الله -
جل جلاله - في قوله، واستحق القتل.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
نص بلا تأويل أنها تنظر إلى ربها نظر العين - لا محالة - ومن قال: إنها منتظرة تنتظر الثواب فليس بخلاف، لما دل عليه القرآن إذ لا ثواب أجل من انتظاره رؤية الرب - سبحانه - لأنه غايه الطالبين، وأمتع تمتع المتمتعين، ولولا خذلان الجهمية ما أنكروا ذلك، ولو لم يكن فيه قرآن يتلى، ولا
أخبار عن الرسول التي تروى برواية الصادقين الأعلام المشهورين.(4/454)
وهو موضوع بشرحه في ردنا على الباهلي، والدوري وابن أبي يعقوب.
* * *
قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) .
الظن فيها بمعنى العلم، وهو كلمة من الأضداد، قد ذكرناها في غير هذا
الموضع، وهكذا (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) .
أي وعلم، والله أعلم.
* * *
قوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) .
يؤيد أن ترك الصلاة كفر.
إذ قرنه - جل جلاله - مع تكذيب الرسل، وترك تصديقهم.
* * *
قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) .
فيه خصوص، إذ آدم، وحواء، وعيسى - عليهم السلام - خارجون
من الإمناء.(4/455)
سورة هل أتى
قوله - تعالى -: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) .
يذهب ناس إلى أن (هَل) بمعنى"قد" أتى على الإنسان.
وليس هو عندي كذلك، بل هو - والله أعلم - على ظاهره
(هَل) إذ محال أن يأتي الحين على الشيء العدم، إنما يأتي الحين على
الشيء الموجود، فكأنه قال - والله أعلم -: هل أتى على الإنسان
منذ خلق فصار إنسانًا حين من الدهر لم يذكر في جملة المخلوقين، أو لم
يذكر بخير، أو بشر، أو بتهديد، أو بتبشير، أو بتعديد النعم
عليه، أو بتخويف مما وراءه من أهوال القيامة، والنار، وما أشبه
ذلك ولا أدري كيف اضطر من جعله بمعنى "قد" فخرج عن(4/456)
العرف، مع بيانه ووضوحه، وقلة تشابهه.
* * *
قوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) حجة على الجهمية شديدة خانقة، ألا تراه كيف أخبر
عن تجعيله الأمشاج المبتلى سميعًا بصيرًا، ووصفه - به - بما وصف به نفسه من السمع والبصر، إذ يقول: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) .
فسوى بين الصفتين، ولم يخالف بين اللفظين فأخبر
ذلك، لأن الله سميع بسمع وبصر غير مخلوقين، يعرف صفتهما
من نفسه كهيئة ما هما له سبحانه.(4/457)
ولا نقول نحن بكيفيتهما من غير أن نتجاهلهما، فنزيل عنهما
الحقائق ونأخذ بهما طريق المجازات، فندخل في التعطيل، لأن من
نفى عن الله جل جلاله - حقائق وصفه، أو حقائق فعله فقد عطله.
ومن عطله، فقد كفر وحل دمه. وإن لم يثبت وأخذ بالسميع
والبصير إلى معنى الإدراك خوفًا من التشبيه لم يسلم من التشبيه بل
تعجل الخسران في ترك لفظين نازلين في كتابه، ورد اسمين له -
سبحانه - إلى اسم واحد، وهو "المدرك ".
وكيف يسلم من التشبيه؟! أليس للمخلوق - أيضاً - إدراك لأشياء.
وإن لم يدرك جميعها، كما يدرك الله جميعها؟! ، كما له أن علمًا
بأشياء، وإن لم يحس بجميعها، كما يعلم الله جميعها فهو يسمى عالمًا
وعليمًا، ويسمى الله عالمًا وعليمًا، فلا يكون تشبيهًا كما يظنه
الجهمي المخدوع، لأن علم المخلوق الذي سُمي به عالمًا وعليمًا مستفاد
متعلم، وعلمه - سبحانه - أزلي صفة من صفاته غير متعلم ولا مستفاد، كذلك سمع المخلوق مصنوع فان، وبصره مثله يفنيهما الله إذا شاء، ثم يعيدهما إذا أحياه كما ابتدأهما بقدرته، وكذلك بصره.(4/458)
وسمع الله وبصره كائنان أزليتان فيه بلا إحداث محدث، ولا صنع
صانع، حقيقيا غير مجازين، معروفان عند نفسه، معروف حقيقتهما
عنده، معروف عندنا حقيقتهما بغير معنى الإدراك، بل بمعنى
السمع والبصر، مسكوت عن كيفيتهما، كهيئة ما هما عنده سبحانه.
* * *
قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) .
دليل على أن المؤمن وإن دخل النار بعصيانه وجرمه وأحرق في النار بقدر جنايته لم يغل، ولم يجعل في السلاسل حتى يعتقه الله برحمته، ويذر الكافرين في
السلاسل، والأغلال، والسعير الذي يستعر عليهم، كلما نَضَّجَ له
جلدًا استعر على الجلد الذي يبدل له، خالدًا مخلدًا.
* * *
وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) .
دليل على أن "الباء" إذا دخلت مقحمة - في الكلمة على سعة اللسان - لم يغير من المعنى شيئًا.(4/459)
وفيه حجة لمن يقول: إن قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) .
لم يغير من مسح جميع الرأس شيئًا، كما قال في التيمم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلم يغير من مسح جميع الوجه شيئًا.
وإن قول القائل: إن دخولها في مسح الرأس للتبعيض إغفال.(4/460)
قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
دليل على أن إطعام الأسير يؤجر المطعم عليه، وهو مرضي أخلاقه، وإن كان الأسير كافرًا لأن الله - تبارك وتعالى - قرنه بإطعام اليتيم والمسكين كما
ترى، وجعله مدحًا لفاعله، فليس لأحد أن يتنطع فيقول: لا أطعمه.
ولا أحسن إليه، لأنه معونة على كفره، لأن الله - تبارك وتعالى - قد
أعد له في الآخرة عذابًا على خلوده في النار، إن مات على كفره، ما
هو كاف من إجاعته في الدنيا، ألا ترى إلى الخليل إبراهيم - صلى اللَّه عليه - حين دعا للبلد الحرام فقال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
قال الرب - عز وجل -: (وَمَنْ كَفَرَ)(4/461)
أي ومن كفر فأنا أرزقهم.
* * *
وقوله: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ) الآية.
دليل على أن من خافه في الدنيا، وأخذ أهبته من طاعة ربه، أمَّنَه من
أهواله، ووقاه أفزاعه، وكذا قال في سورة النمل: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) .
ويقال: إن الحسنة - في هذا الموضع - لا إله إلا الله، والسيئة الشرك.(4/462)
قوله: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) ، إلى قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
قال بعض المفسرين: بما صبروا عن الدنيا جملة، فدخل
فيه كل مصيبة شديدة ورزية، بفقد مال وموت حميم، وقريب، ونسيب
وصديق، ومضض الفقر والأوجاع والأمراض، وخوف العدو، وجور
السلطان، وأشباه ذلك، إذا جرع غصصه، وصبر على آلامه، وسلم
فيها لحكم ربه، وعلم أنه منظور له بذلك، ومجعول كفارات لذنوبه.
ورافع له في درجاته، ومسلوك به سبيل أنبيائه ورسله، وأوليائه.
والصالحين من عباده، هان عليه - عندها - ما هو فيه، وأيقن بثواب
ربه، ولم يكره بالازدياد منه.
وقد قال رسول الله صلى، الله عليه وسلم: " ليودنَّ أهل العافية في
الدنيا - يوم القيامة - أن جلودهم قرضت بالمقاريض، بما يرون من
ثواب أهل البلاء".(4/463)
وقال: "إن الله - تبارك وتعالى - ليتعاهد وليه بالبلاء كما تتعاهد الوالدة ولدها بالخير".
وسئل - عليه السلام - أي الناس أشد بلاء، قال: "الأنبياء، ثم
الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه " أو قال: " على قدر
دينه، فإن كان صلب الدين على حسب ذلك، وإن كان رخو الدين
فعلى حسب ذلك، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي في الأسواق
وما عليه خطيئة".(4/464)
وقال: " إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن
سخط فله السخط ". مع أشباه لهذا.
وإذا كان كذلك استوجب - برحمته - ما وعده في هذه الآية، إلى
* * *
قوله: (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) .
يقال في (وَذُلِّلَتْ) : أدنيت حتى يتناولوها بالقطف قيامًا،(4/465)
وقعودًا، ونيامًا، وعلى كل حال، تتطامن لهم الشجرة حتى
يتناولوا ثمارها بلا تعب، ولا نصب، فإذا فرغوا من تناولها استعلت
فعادت كما كانت، هذه سبيلهم أبد الأبد.
وقد قيل في: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا) : إنهم صبروا عن
الشهوات. والشهوات - أيضا - من الدنيا في تركها مضض.
وشدة على النفوس، فهو موافق لما قلناه.
* * *
قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) .
يقال: قدروها على مقدار ريهم.
وفيه دليل على أنهم عوضوا من تركهم إدارة المحّرم(4/466)
عليهم من خمر الدنيا في أقداح الزجاج، بأواني الفضة، التي هي في
صفاء الفضة، وبياض المرجان من خمر الجنة، التي (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
أي لا تنزف عقولهم بالسكر، ولا أموالهم التي كانوا يجعلونها - في الدنيا - أثمانًا للأعناب المعصورة، ومنقودة فيها نفسها، وشربه فيما أعان على شربها، ومجعوله في الملك، وأثمان المغنيات، وأجدادهن، وعطاياهن، وعطايا غيرهن ممن يجري مجراهن في ملاذ النفوس، وشهوات القلب.
فصار الداخلون إلى الجنة في أمن من كل ذلك، يغرف الخمر من.
أنهار الجنة الجارية فيها بلا ثمن، والاستمتاع بما يحبرون في رياضها.
بلا حذر، ولا عطية، رغدًا كيف شاءوا، ومتى شاءوا، كما قال -
تبارك وتعالى -: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) .(4/467)
قال: السماع في الجنة.
وقد قيل في قوله: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) .
إنه ضرب الأوتار تصوّت بالتسبيح والتقديس بنغم لم يسمع الخلائق
بمثلها.
وقيل في الشغل: إنه افتضاض العذارى.
وهو عندي هذا وهذا، يلهون تارة بالسماع وأصوات الأوتار، وتارة
بافتضاض العذارى، وكذا قال - في سورة أخرى: - (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) .
أي بكأس الخمر - والله أعلم - فلا يكون فيها لغو أهل الدنيا
وأباطيلهم.(4/468)
وهَدْر القول الذي يؤثم قائله ومستمعه، والنظر إلى المدير، وتمني
المعصية معه، فعرضوا في الإدارة عليهم في الجنة - لما تجنبوا في الدنيا
مثله - بغلمان يديرونها، ويطوفون بها عليهم، من غير إثم يلحقهم
بالنظر إليهم، لما نزع من صدورهم من الغل في تمني الباطل.
واستغنائهم بالحور العين، وافتضاض الأبكار.
* * *
قوله: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) .
دليل على أن لذع الألسنة في الخمر مدح لها، ولذة لشاربها، ولذلك مدحها بمزاج الزنجبيل على ما في سجايا البشر، غير أنه حرمها بجميع صفاتها في الدنيا، فعوض - سبحانه - من تركها في الدنيا بما هو فيها لذة من اللذع، وأزال عنها السكر الذي هو فيها عيب.
يقال: إنها تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا.
ويقال: السلسبيل، هو الحديد الجرية. ولها مزاج آخر(4/469)
وهو الكافور، ولكنه - والله أعلم - ذكر الكافور لطيبه، لا لمرارته.
إذ ليس في الجنة مرارة تكدر شيئًا من أطعمتها، وأشربتها.
ذكر الله هذه الكأس في أول السورة للأبرار يشربونها هكذا ممزوجة
لهم بالكافور، جزاء على وفائهم بالنذر، وخوفهم يومًا كان شره
مستطيرًا.
* * *
قوله: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) .
يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وصفهم بصفاء الألوان.
ورطوبة الأبدان، وذهاب الأدناس، كما يوصف اللؤلؤ الرطب
المكنون عن الغبار وغيره، ليبقى صفاؤه، ولا يذهب ماؤه
فيكون الولدان - في حسبان الناظر إليهم - أبدًا كذلك.
والوجه الآخر: أن يكون وصفهم بالنفاسة، وغلاء الأثمان لو كانوا
في الدنيا، كما يغلوا النفيس فيكثر ثمنه، ويعز أشباهه.
* * *
وقوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
حجة على المعتزلة(4/470)
والقدرية، لنفي المشيئة عنهم قبل مشيئته، وكذلك: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) .(4/471)
سورة المرسلات
قوله - عز وجل -: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) .
هو - والله أعلم - إهلاكهم بعقوبة الذنب، لا إهلاك الموت الذي يسوى
كل فيه، والدليل عليه قوله: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) .
فجعله خصوصًا لهم، لأن إهلاك الموت الذي ليس بعقوبة الذنب، يشترك فيه النبيون والمرسلون، والملائكة المقربون، والصالحون والطالحون، وهو
قوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) .
وهو - والله أعلم - تقريع للآخرين أن لايعملوا بأعمالهم، ولا يسيروا بسيرتهم، فيستوجبوا مثل إهلاكهم.
* * *
قوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
خطاب لمن كان في زمن
الوحي إلى يوم القيامة، وإن كان من قبلهم -أيضاً - مخلوقًا من هذا
الماء، إلا آدم، وحواء، وعيسى - عليهم السلام - فإنهم لم يخلقوا.
وهو خصوص خارج عن العموم.
* * *
قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
وتكراره، دليل على إجازة التأكيد(4/472)
في الكلام، ورد على من نفاه.
* * *
قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
على لفظ الأمر، كأنه -
والله أعلم - يقال لهم: ذلك يوم القيامة.
وهو حجة في إجازة الضمير، واختصار الكلام، والتحري بفهم
سامعه عن إظهاره.
* * *
قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
يقال إن الكفار إذا اشتد عليهم لهب النيران ذكروا الظل
الذي كانوا يستظلون به في الدنيا، فرفعت لهم أصنامهم
التي كانوا يعبدونها، وجعل لها ظل في أعينهم، فقيل لهم: انطلقوا
إلى ظل أصنامكم فاستظلوا بها، فإذا مروا إليه كان حر ذلك الظل
أشد عليهم مما فروا منه، فلم يقهم من اللهب.
والظل واللهب مذكران، فقوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) .
كأنه رجع إلى ذكر النار التي هي مؤنثة، أو إلى جهنم.(4/473)
قوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
يحتمل - والله أعلم - أن لا ينطقوا بالاعتذار، لأنه لا يؤذن لهم فيه، وإن نطقوا بغيره.
وقد قيل: إنه مقام في اليوم، ووقت لا ينطقون فيه بشيء، ثم
ينطقون في مقام آخر بالتسايل والخصومات.
* * *
قوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) .
أي بالقرآن، والله أعلم.
وهو - إن شاء الله - كقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ،(4/474)
سماه حديثًا، لأنه يتلى فيه الأنباء والقصص، والمواعظ، وغير ذلك، لا أنه أحدثه إحداث الخلق، كما يزعم الجهلة من الجهمية.
ولا يعلمون أن من لم يكن له عهد بشيء، ثم عهده كان ذلك المعهود
حديثًا عنده، لا أنه كان عدمًا فخلق.
والعجب أنهم لا يقولون، ولا يؤمنون بشيء يخرج عن فطن
العقول، ثم يزعمون أن القرآن كلام مخلوق، فكيف يأمر وينهى
الكلام بكلام، إنما يأمر وينهى المتكلم بكلامه، افعل ولا تفعل.
ولكن من شاء أن يجنن نفسه جننها، نعوذ بالله من العمى بعد
البصيرة.
والذي يزيل الريب عن الحديث أنه لا يكون بمعنى المخلوق
والمصنوع في كل موضع.
قوله عز وجل في سورة الجاثية -: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) ، فسمى نفسه وآياته - معًا - حديثًا.
فهل بقي بعد هذا لهم مقال يتعلقون به، - ويلهم - لو تبصروا، ولم يجهلوا، أو يتجاهلوا.(4/475)
سورة النبأ
قوله عز وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
رد على المعتزلة والقدرية، لأنه مجمع الأشياء فدخل فيه الخير والشر، والإيمان والكفر، وصارت متقدمة على الأفعال فخرجت الأفعال عليها، ولم
يمكن المحيص عنها.(4/476)
سورة النازعات
* * *
قوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
دليل على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلم به تكلمًا، لأن النداء
كلام مسموع لا محالة، والكلام للمتكلم والنداء منه، وصفة من
صفاته، وهو بجميع صفاته غير مخلوق، ثم أخبر عن فرعون
فقال: (فَحَشَرَ فَنَادَى) ، فكان نداء فرعون مخلوقًا، لأن
المنادي مخلوق، وكل صفة تبع للموصوف فإن كان الموصوف مخلوقًا
كان كلامه مخلوقاً، وإن كان الموصوف خالقًا كان كلامه غير مخلوق.
وهو بين.
قوله: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
فالآخرة هاهنا قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ، أو الأولى، قوله في سورة القصص: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .(4/477)
قوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
دليل على أن الماء والكلأ، وحجارة الجبال وحطبه الناس فيه شركاء، ما لم يقع فيها الحيازات بالأملاك الظاهرة، التي تستفاد بوجوه الفوائد، فإذا وقعت الحيازات فكل من ملك أرضا، ملك كل ما تخرجه من عين وكلأ، إلا ماء الشفه ما لم تجعل في الظروف، والكلأ من المارة.(4/478)
سورة عبس
قوله عز وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
بشارة للمؤمن كبيرة، لأنه لا محالة حاصل له هذا الإخبار، لأنه قال -
على إثره -: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
فحصل هذا للكافر، وذلك للمؤمن إن شاء الله، إذ لم يذكر معهما ثالثة.
و" القترة " ما يغشى الوجه من غبرة الموت.
تغشيها، و" السفرة " النيرة المشرقة بياضًا وحسنًا.(4/479)
سورة التكوير
* * *
قوله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
إذا قرئت هذه القراءة المعروفة (سُئِلَتْ) بضم السين بغير ألف كان فيها
غموض، ومعناه - والله أعلم - أن قتلتها سئلوا بأي ذنب قتلوها.
كما لو سألت هي.
ومن قرأ " سألت " بفتح السين والألف كان معناها بينًا غير مشكل، وهي قراءة أبي صالح، وجابر بن زيد، وأبي(4/480)
الضحى، والضحاك بن مزاحم.(4/481)
سورة الانفطار
* * *
قوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) .
عام المخرج خاص المعنى، لأن الكل لم يكذب بالدين، إنما كذب البعض، ثم رجع إلى العام فقال: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) .
لأن الحافظين على الكل، فعلمهم على وجهين:
فما كان من ظاهر قول، أو حركة جوارح علموه بظاهره، وكتبوه
على جهته.
وما كان من باطن ضمير، يقال: إنه يجدون لصاحبه ريحًا طيبة.
ولطالحه ريحًا خبيثة، فكتبوه عملاً صالحًا وآخر سيئًا.(4/482)
سورة المطففين
* * *
قوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
أي من الناس، والله أعلم.
والعرب تبدل حروف الجر بعضها من بعض، إذا أرادت ذلك.
* * *
قوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
روي عن سعيد بن جبير أنه قال: تحت خد إبليس. كأنه يريد أن ما أحصاه
فباستفزازه ووساوسه وتزيينه اكتسبه فجعل تحت خده(4/483)
عن قربه منه.
وقد يجوز أن يكون جعل تحت خده ليقرن معه في جهنم إذا
دخلاه فإن كان على ما فسره سعيد لحضناه من قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) ، تعظيم له، وتهويل، كما قال: @وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الدِّينِ)
وشبهه في القرآن.
وإن كان سعيد خولف في هذا التفسير، فظاهر الكلام يدل على أن
الكتاب المرقوم هو تفسير للسجين على التشبيه، كأن ما رقم فيه، وأودعه
من قبائح أفعال الفاجر في ضيق وإياس من أن يفلت فيه شيء.
كالمسجون الذي قد ضيق عليه فلا يستطيع أن يفلت، والله أعلم بما أراد.(4/484)
قوله: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) .
أدل دليل على الرؤية لأنه لا يخص قوم بالاحتجاب عقوبة لهم إلا ويظهر لآخرين كرامة لهم، وهو بين وقد لخصناه في غير موضع من كتبنا في الرد على الباهلي، وابن أبي يعقوب، وابن حرمان.(4/485)
قوله: (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
قد أنبأ أن المحجوبين عن الرؤية هم الكفار الذين كانوا يكذبون بالجحيم، والمؤمن عاصيًا كان أو مطيعًا لم يكذب به فدخل في حكم الآية فيمن يرى ربه
سبحانه.
* * *
قوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
يحتمل في الخير ما
احتمله كتاب الفجار في الشر من أنه إذا رفع صاحبه في الجنة - والجنة
في السماء السابعة - فكأنَّ كتابه موضوع هناك.(4/486)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
تعظيم له، وإعجاب للمخاطب به، والله أعلم.
* * *
قوله: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
يريد الملائكة الذين يناهيهم بالمطيعين من عباده، والله أعلم.
* * *
قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ) . دليل على أن المؤمن مندوب إلى الرغبة في ملاذّ النفوس، وشهواتها في الآخرة(4/487)
والسعي في اكتسابها.
وإن تنطع الصوفية كما يدعون من ترك الاشتغال بها، والاقتصار على
العمل الصالح الرضي وحده، لا للرغبة في الجزاء عليه.
من مباشرة ما وعده الله - تبارك وتعالى - وأعده لأهل الجنة مذموم من
قولهم، وغير مرضي من فعلهم، لأن رضى الله - جل جلاله - وإن كان
من أجلّ الجزاء وأعظم النعيم فليس بمانع من الرغبة في مباشرة ملاذ
النفوس، والتمتع بما هو من حظها، وإنه لا يحطه من درجة طلاب
الرضى.
وإنما نهوا عنه في الدنيا وندبوا إلى الزهد فيها، لأن محظورها يفضي
بهم إلى المحرم ويكسبهم النار، ومباحها يفضي بهم إلى الفتور والكسل
والرغبة في الدنيا عن مباشرة تعب العبادة ونصبها، وتصعّب عليهم
تجرع المرارات، وتطمئن إلى الراحات وإيثار الحلاوات عليها.
فإذا دخلوا الجنة وانتقلوا عن دار المحن، ورفعت عنهم العبادة تلذذوا
بمحابّ النفوس من الأكل، والشرب، وأنواع النعيم من معانقة الحور.
ومن يزوجون من الآدميات المطيعات، ويرد إليهم من الزوجات اللواتي
كن لهم في الدنيا، فلم يضرهم ذلك، ولا خشوا مقتًا من ربهم،(4/488)
ولا حذروا فتورًا عن العبادة، لأنه جزاء لهم على ما أطاعوه في الدنيا.
وآثروا طاعته على ملاذهم ومحابهم فيها، ألا تراه يقول - سبحانه -:
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) .
والقرآن مملوء به
من قوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) .
وكيف يكون مذمومًا مع قوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
فلم أمرهم إذًا بالتنافس، ولم وصفه وملأ القرآن بذكره، ولذلك قال عبد الله بن مسعود: " ما رأيت أحدًا أشد على المتنطعين من رسول الله، صلى الله
عليه وسلم، ولا رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد
خوفًا عليهم من أبي بكر - رضي الله عنه - وإني لأظن أن عمر كان
أشد خوفًا عليهم، أو لهم " رضي الله عنه.
وروى الأحنف بن قيس، عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله، صلى الله عله وسلم، قال: " ألا هلك المتنطعون " ثلاثًا.(4/489)
فالتنطع في أشياء هذا أحدها، وهو من كبارها.
وقوله: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
روي أنها تمزج لأصحاب اليمين، ويشربها المقربون صرفًا.
* * *
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
دليل على أن المجرم - في أكثر القرآن - الكافر، وقد حققه في قوله:
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) .
وفيه عظة شديدة لمن يتضحك من المؤمنين، وممن يتخذونه ضحكة إذ
هو شيء من أخلاق الكفار، فإذا تشبه بهم أهل الإيمان خيف عليهم أن يكونوا مثلهم لما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: " من تشبه بقوم فهو منهم ".
وإنما يضحكون في الآخرة والله أعلم، لأنه جزاء لهم وعقوبة لما
كان منهم إليهم في الدنيا فيصيبهم من مضضه ما كان يصيب المؤمنين
في الدنيا، فصار كالاقتصاص.
فعلى المضحوك أن يتقي الله، ولا يضع نفسه هذا الموضع، وعلى(4/490)
الضاحك أن يجتنبه في الجد، والهزل لأنه من عظيم الذنب وفعل
الظالمين، ومن قد نسي أمر معاده، وما هو مفض إليه.
وروي أن بعض الصالحين مرّ بلعاب يلعب بالمدينة، وهو في لعبه.
فقال له: أما علمت أن لله يومًا يخسر فيه المبطلون.
فما رُئي بعد ذلك يلعب، وكذلك التغامز مثله، والتفكه مثله محرمان
مؤثمان، لقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) .(4/491)
سورة الانشقاق
قوله - عز وجل -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
روي عن رسول الله - عز وجل - " أنه العرض ".
وإن كان سمي بالحساب، وإنما يسره، لأنه لا مناقشة فيه، فأما من
نوقش في الحساب عذب.
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) ، أي إلى أهله الذين أعدوا له في الجنة
والله أعلم.
* * *
قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) .
أي أهله الذين كانوا في الدنيا،(4/492)
يريد - والله أعلم - إنه كان مسرورا بحياته، لا يظن أنه يحور، أي
يرجع إلى الآخرة فتهوله، وينقص سروره، فقال: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) ، أي لا يرجع.
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول - في السفر -: "
اللَّهم إني أعوذ بك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ ".
وروي " بعد الكون " بالنون والراء.(4/493)
فمن رواه بالنون: أراد أنه بعد أن كان على حال جميلة، صار إلى
حال مكروهة أي رجع.
ومن رواه بالراء أراد: من النقصان بعد الزيادة، كأنه ينتقص أمره من
المحبوب إلى المكروه، كما ينتقص شد العمامة، إذا حل كورها.
ووعثاء السفر مشقته، وما يصيب الإنسان فيه من النصب والتعب.
وكآبة المنقلب ما يكتئب الإنسان منه، أي يغتم من مصيبة، أو
فاجعة، إذ المسافر لا يأمن أن يقدم على مصيبته قد حدثت على
أهله، أو ولده، أو ماله، وكذلك مخلفوه لا يأمنون من غم، أو
مصيبة تلحق غائبهم، فتعوذ النبي، صلى الله عليه وسلم، من الحالين معًا.
* * *
قوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
يؤيد قول عمران ابن الحصين - رحمه الله -: " إن القرآن سجود كله "
أي متى قرأه،(4/494)
أو قرئ عنده فأحب أن يسجد سجد، وإن لم تكن الأماكن المعروفة
بالسجود، وهى خمسة عشر مكانًا: الأعراف، والرعد، والنحل.
وبني إسرائيل، ومريم، والحج في مكانين، والفرقان، والنمل.
وسجدة الأحزاب، وص، وسجدة المؤمن، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. غير أنهم اختلفوا في الحج: فمنهم
من سجد فيها سجدة، ومنهم من سجد سجدتين، ونحن نذهب إلى
سجدتين.
واختلفوا في سجدة ص: فمنهم من لم يسجد فيها وقال: هي توبة
نبي.
وقال الشافعي: هي سجدة شكر، كأنه يريد شكر داود - عليه
السلام - حين عرفه الله - تبارك وتعالى - ذنبه حتى تاب منه، وبكى عليه(4/495)
أيام حياته، وأنا أرى السجود فيها.
فقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، غير حديث صحيح أنه
سجد فيها.
واختلفوا في السجود في المفصل: وهي سجدة
النجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، ونحن نسجد فيها
ثلاثتها.
ومثل قوله: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) .
قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)(4/496)
وقوله: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) .
فإن أخذ الإنسان بقول عمران بن حصين وسجد عند تلاوته في كل
موضع - غير الخمسة عشر - كان حسنًا، لأنها تذلل لله، وبراءة من
الكبر، وخلاف على الكفار.
* * *
قوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
حجة في أن البشارة تكون في
الخير والشر، كقلى له: ميو بَشِّرِ اَلْمُتَفِقِينَ لمحاَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) .
وقال في المؤمنين (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) .
وأشباهه في القرآن.
* * *
قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) .
دليل على أن الاستثناء قد يجوز من غير جنسه، لأن المؤمن غير
الكافر، وقد استثني منه كما ترى، ومن قال: إن (إلا) قد تكون بمعنى (لكن) فقد ترك اللفظ وأتى بغيره، وإن كان قد قيل.(4/497)
سورة البروج
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)
فتنوا أي: قتلوهم بالنار.
روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: هم أناس من مذارع أهل
اليمن اقتتل مؤمنوها وكافروها فظهر مؤمنوها على كافريها ثم اقتتلوا
الثانية، ثم أخذ بعضهم على بعض المواثيق والعهود ألا يغدر بعضهم ببعض، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذًا، ثم إن رجلا من المؤمنين قال لهم: هل لكم أن توقدوا نارًا تعرضونا عليها فمن بايعكم على دينكم فذاك الذي تشتهون، ومن لا استقدم النار فاسترحتم منه، فأججوا نارًا، وعرضوا عليها، فجعلوا يقتحمونها
ضنًّا بدينهم، حتى بقيت منهم عجوز، فكأنها تلكأت، فقال لها
طفل في حجرها: يا أمه امضي ولا تنافقي.(4/498)
وفي قوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) دليل - في ظاهره - على أن التوبة من قتل
المؤمنين مقبولة.
وأجمع المسلمون أنها من الكافر مقبولة في جملة توبته من الكفر، لأن
الإسلام يجب ما كان قبله.
واختلفوا فيها من المؤمن يقتل المؤمن عمدًا، وقد شرحته في سورة
بني إسرائيل.
* * *
قوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
هو جواب القسم.
واختلف المفسرون في القسم، فروي عن يحي بن رافع أن
" السماء ذات البروج " قصور في السماء.(4/499)
وقال قتادة: بروجها نجومها، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم مثله.
واختلف -أيضاً - في (وَشَاهِدٍ وَمَشهُودٍ) ، فروى أبو الضحى.
عن أابن الزبير قال: " الشاهد " يوم الجمعة، و" المشهود " يوم
عرفة.(4/500)
قال أبو الضحى: فلقيت الحسن، أو الحسين فذكرت ذلك، فقال:
ليس كما قال، الشاهد محمد، صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم
القيامة، وقرأ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) .
وفي رواية أخرى عن أبي الضحى قال: فذكرته لمحمد بن علي.
وروي عن ابن عباس مثل قول ابن الزبير.(4/501)
وروي عن شمر بن عطية قال: " الشاهد " يوم عرفة، و"المشهود"
يوم القيامة.
وروي عن مجاهد، قال: " الشاهد " ابن آدم، و" المشهود " يوم القيامة.(4/502)
قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
وجه القراءات فيه الخفض على أن يكون من نعت اللفظ، ليصير اللوح هو
المحفوظ.
وأما قراءة نافع، وابن محيصن (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٌ) ، برفع " الظاء " على أن يكون نعتًا للقرآن،(4/503)
فلا وجه له إلا أن يجعل المحفوظ في معنى المكتوب أي هو قرآن
مجيد مكتوب في لوح، لأن اللوح مخلوق تقع عليه حفظ الحراسة.
والقرآن لا يقع عليه حفظ الحراسة، إنما يقع عليه الإيعاء والكتابة.
وذلك أنه كلام الله غير مخلوق، صفة من صفات ذاته، ومحال أن
يحفظ نفسه، أو يحفظ صفته، أو يحفظه غيره، لأن هذا كفر، وإنما
يوقع الحفظ على القرآن من يجعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فقد كفر.
وهذا شيء يغرب على أهل هذا الزمان، ويدق على أفهامهم، وهو
عند النحارير جلي واضح، وكذلك قوله -
سبحانه، في سورة الحجر -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ، فالذكر هو القرآن، و " الهاء " في (لَهُ) ليست
براجعة على الذكر، إنما هي راجعة على محمد - صلى الله عليه وسلم -(4/504)
ومن لم يقرأ أوائل الآيات ويتدبرها، ويتعلق بأواخرها لم يهد
رشده، ولم يهذب فهمه، ألا ترى إلى إخبار الله - سبحانه
وتعالى، فى أول ابتداء الذكر - عن الكفار حيث قالوا لمحمد، صلى
اللَّه عليه وسلم: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
أي أنت مجنون في ادعائك أن الذكر تنزل عليك من السماء أمره.
(لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ، أي هلاّ تأتينا
بالملائكة فتشهد لك إنك صادق فيما تدعيه، فقال الله: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) ، أي لو رأيتم الملائكة
الذي تنزل على، محمد، صلى الله عليه وسلم، عيانًا وسمعتم
شهادتهم له ما أمهلتم ولا أنظرتم، ولعوجلتم بالعقوبة قبل القيامة.
هذا أو معناه، والله أعلم.(4/505)
ثم شهد هو - جل جلاله - لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فقال:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ، أي نحفظ محمدًا من
مكروهكم، وغائلتكم وتكذيبكم فلا تصلون إلى قتله، ولا هضمه.
إلا ما تقولونه بألسنتكم، وهو بين.
ولو سمي محمد، صلى الله عليه وسلم، ذكرًا، لأن الذكر عليه
ينزل لاتسع ذلك في لسان العرب، وما ضاق، قال الله - عز
وجل - في آخر سورة الطلاق: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) ، فسمى الرسول - كما ترى بالذكر نصا.
ومن رد " الهاء " في " الحفظ " من متقدم أو متأخر على " الذكر " فقد
هفا، وقاله على السلامة، ولم يدر ما تحته مما أثرناه عليه، من هذا
الواضح البين، والله يعفو عنه إن شاء الله.
ومن لج من أهل زماننا فيه - جاهلاً أو متجاهلاً - فقد أنبت
للجهمية جناحًا وباء بسخط من الله، وصار معهم بالسوية.(4/506)
وقوله - في سورة المائدة -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) ، فإنما هو بما ألزموا أن يعوه، ولا ينسوه، ليدروا
كيف يحكمون بين الناس.
فإن قيل: أليس قد قلت - في سورة الطلاق -: إن في الرسول
ضميرًا كأنه قال: " وأرسل رسولاً، ".(4/507)
قيل: ذلك احتمال، وما قلناه - ها هنا - ظاهره أن يكون الرسول تفسيراً
للذكر، والظاهر أولى من الاحتمال.(4/508)
سورة الطارق
قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
عظة للإنسان، وتنبيه له على معرفة خلقه، وضعف تركيبه وعلى ما يزيل به
دواعي الكبر والنخوة عن نفسه، فلا ينازع فيها خالقه الذي لا يشاركه
في الكبرياء والعظمة، ولا يستطيل به على المخلوقين، إذ من يكون
هذا بدء خلقه، ثم يصير آخره إلى البلى والرفات، إلى أن يجدد اللَّه خلقه بالنشور يوم يحيي العظام النخرة، والأجسام البالية جدير بأن لا
يفارقه الذل والاستكانة في جميع الأحوال، ولا يتعرض بسخط من هو
قادر على رده في صلب أبيه قبل الآخرة، ثم الجنة والنار، وأنواع
الأهوال من ورائه.
* * *
قوله: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) .
رد على الجهمية في نفي الصفات بالكلية، وقد أخبر الله - سبحانه - عن نفسه بأنه يكيد بلفظ " الكيد " الذي أخبر به عن الكائدين، وهم ينكرونه، يردون نص القرآن، نعوذ باللَّه من صفاقه الوجه، وقلة الدين.(4/509)
سورة الأعلى
قوله - عز وجل -: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) .
فيه - والله أعلم - ضمير " الباء "، ثم نزعت عنه - في اللفظ - فانتصب الاسم، كما قال - في موضع آخر - (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) ، فخفض الاسم مع إظهارها، فلا يكون لمن يجعل الاسم والمسمى واحدًا متعلق.
* * *
قوله: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
دليل على نفي(4/510)
الاستطاعة وإعلام أن من لا يقدر على أن يكون خلقًا بنفسه، لا يقدر أن
يهتدي بنفسه حتى يُهدى، كما لا يقدر أن يكون خلقًا حتى يخُلق.
* * *
قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) .
الاستثناء - ها هنا - بمشيئة الله، دليل على أن قوله: (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيطَانُ) ، داخل إنساؤه تحت إنساء الله، لأنه لا يقدر على إنسائيه وحده، ولا يكون شريكًا معه، وإن إضافة المشيئة إليه - في ذلك الموضع - على
مجاز اللغة، لا على حقيقة القدرة.
* * *
قوله: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
أي لا تنفع الكافر، كما تنفع المؤمن، والله أعلم.
وفي قوله: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) .
ألا تراه يقول - سبحانه -: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) .(4/511)
قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
منهم من قال: يكون عمله زاكيًا.
وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " أنها صدقة الفطر "، لقوله (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) ، كأنه يخرج صدقة
الفطر، ثم يخرج إلى الفطر فيصليها.(4/512)
سورة الغاشية
قوله - تعالى -: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) ، إلى قوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) .
دليل على اختصار الكلام، والإشارة إلى المعنى، لأن الغاشية - والله أعلم - هي القيامة، فلم
يذكر يومها، واختصر على فعلها، ثم قال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) .
فذكر الوجوه وحدها، وهي لا تكون منفردة
عن الأجسام بهذه الأوصاف إلا بمشاركتها، ثم قال: (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) ، وهي لا تصليه وحدها، ثم قال: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) ، وإنما تسقى البطون، فأخبر بكل ذلك عن الوجوه.
لأنها غرة الأبدان، وأرفع شيء في الأجساد، والله أعلم.
وكذلك الوجوه الأخر التي وصفها بالناعمة، وهي تنعم مع أبدانها،(4/513)
ولا تنفرد بسعيها، وتكون مع الأبدان في الجنة العالية، و (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) ، إلى آذانها فنسب كل ذلك إليها اختصارًا، وفصاحة
وإشارة إلى المعاني المفهومه عند العرب، الذين نزل القرآن بلغتهم.
* * *
وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
يقال: هو الشبرق (1) المحمى.
ويقال: نبت لا ينجع ولا ينمي في البدن، وإذا أكلته الإبل ردته
من فورها بالسلح، فلم يسمنها، ولا ذهب بجوعها.
وقد قيل: إنه - تبارك وتعالى - ضربه مثلاً، لا أنه يكون الضريع
بعينه.
__________
(1) قال الزجاج: الشبرق جنس من الشوك، إذا كان رطبًا فهو شبرق، فإذا يبس فهو الضريع. معاني القرآن وإعرابه (5/ 317) . وقوله: فإذا يبس فهو الضريع هذا تسمية أهل الحجاز، اللسان، " شبرق ".(4/514)
وهذا لا أحبه، لأنه يدعو إلى مضارعة من ينكر النبات في النار، ويرده
إلى فطرة العقل، ويقول: كيف يجتمع النبت والنار في مكان واحد؟.
وهذا جهل وإنكار قدرة الرب، الذي جعل النار على خليله إبراهيم -
صلى الله عليه - بردًا وسلامًا، وحولها عليه روضة خضراء، وكما
قال في سورة والصافات: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) .
يقال: إن الشياطين ها هنا الحيات. ورؤوسها مجتمع سمومها فمن
ينكر قدرة الباري - في مثل هذه الأشياء التي تنبو عنها العقول - فليس
بمؤمن، ولا له في الإسلام حظ، نعوذ ب الله من مثل هذه المقاتلة.
ونسأله التمسك بتوحيده، والإيمان بكل هذه الأشياء من قدرته، جل
وتعالى.(4/515)
سورة الفجر
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) .
إلى قوله: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) ، تنبيه وتقريع لمن بعدهم أن لا يعملوا بمثل عملهم فينزل، بهم ما أنزل بأولئك، مع بأسهم.
وشدتهم، وعددهم، وأموالهم التي أنفقوها في ذات العماد، وما
فعلته ثمود جوب الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد فاعل أفاعيله الهائلة المنكرة، كيف أفناهم، وأبادهم، ومحا آثارهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.
وفي قوله: في إرم: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) ، رد على
المعتزلة في الخلق، لأنا نعلم أن الله سبحانه لم يخلقها - معمولة كهيئتها
- وإنما عملها عبادة. فإن رُد الخلق من عملهم إلى الله دل على خلق
الأفعال.(4/516)
وإن رد إليهم فقد أخبر عنهم باللفظ الذي يخبر عن الله في الخلق.
وأيهما كان فهو حجة عليهم، ولا ثالث له.
* * *
قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
حجة عليهم أيضاً في ذكر
المرصاد، لأنه مكان.
وجاء في التفسيبر: أنه يضع كرسيه على جسر جهنم، فيقول: "
وعزتي وجلالي لا تجوزي اليوم بظلم ظالم، ولو ضربة بيده ".
* * *
وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا)
حجة عليهم شديدة بذكر
الجية، وهو نظير قوله - في سورة البقرة -:(4/517)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) ، وهي حجة خانقة لهم، شديدة عليهم.(4/518)
سورة البلد
* * *
قوله: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
حجة في الإفراط في وصف
الأشياء، لأن العقبة كناية عن العمل الذي يشق على النفوس.
فسماه - سبحانه - بالعقبة، ثم فسره بفك الرقبة، والإطعام في
المجاعة، فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) .
وهو نظير قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، وما أشبه ذلك.
* * *
قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) .
دليل على أن التواصي بالخير من محمود الأخلاق، ومرضي الأفعال.
ومكتسب الفوز بالجنة، والنجاة من النار.(4/519)
سورة الشمس
* * *
قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
حجة على المعتزلة
والقدرية شديدة إذ قد أخبر - نصا - أنه ألهم النفس فجورها، كما
ألهمها تقواها.
روى عمران بن حصين أن رجلاً من جهينة، أتى النبي، صلى
الله عليه وسلم، فقال: أرأيت ما يعمل الناس فيه، ويكدحون.
أشيء قد قُضي عليهم، ومضى من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون
مما جاءهم واتخذت عليهم فيه الحجة، قال: " لا، بل شيء قد قضي
عليهم " قال: ففيم يعمل العاملون،. قال: " من خلق لواحد المنزلين
أتاه بعمله، وتصديق ذلك في كتاب الله - تبارك وتعالى - (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) .
فأجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما في كتاب اللَّه سواء. فأي شيء بقي لهم، لولا بلاؤهم، وشقاؤهم.(4/520)
ولو لم يكن عليهم من الحجة إلا أنفسهم لكفاهم.
حيث يسمعون هذه الأشياء الواضحة المسكتة، فلا يقررون قوله، ولا
يستطيون فهمه، لأن أفهامهم عنها مقيدة بما سبق من القضاء
عليهم بالشقاء، فلا يستطيعون أن يسعدوا.
ومن فسر (ألهمها) على ألزمها فليس بمخالف لهذا، لأن
الإلهام إذا كان منه، فالإلزام غل في أعناقهم، لا يستطيعون
حله، فكان الأمر في ذلك واحدًا.(4/521)
سورة الليل
قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
حجة على المعتزلة والقدرية في تيسير اليسرى والعسرى، وكذا روى
علي بن أبي طالب عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "
ما منكم من أحد إِلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار " فقيل له: أفلا
نتكل،، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له "، ثم قرأ
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هاتين الآيتين.
واختلفوا في تفسير (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) . فمنهم
من قال: بلا إله إلا الله ومنهم من قال: بالخلف في العطية الأول، وبخل الثاني.(4/522)
قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ، حجة عليهم في نفي الاستطاعة.
* * *
وقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
دليل على أْن لا يجزئ دفع الزكاة إلى الأبوين الصحيحين كانا أو زمنين، ولا إلى أحد يقدم منه إلى المعطي إحسان، لأنه يصير مكافأة ومجازاة، وإنما هي لمن لا
يكافي ولا يجازي، ولا يدفع بها ذمًّا، بل تكون لله عز وجل خالصًا
لوجهه فقط، فإنما المكافأة تكون في إخراج الأموال في التطوع، لا
في الفرض.(4/523)
سورة الضحى
* * *
قوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
دليل على توكيد حرمتهما، وإيجاب حقهما، وترك الاستهانة بهما، وكذا قال -
في سورة الحاقة، في صفة من أوتي كتابه بشماله -: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) .
فقرنه مع الكفر إذا لم يحض عليه، وذلك معه.
وأرى الناس قد أهملوا أمرهما، وضيعوه.(4/524)
سورة الشرح
* * *
قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
يعدد عليه آلاءه ونعماءه.
بشرح صدره، ووضع وزره الذي كان قبل النبوة، ورفع ذكره.
حتى لا يذكر - سبحانه - في الإيمان، والأذان، والطاعة إلا ذكر معه.
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) ، غنيمة للمؤمن ليطمئن إليه، ولا يضيق
صدره من عسر يلحقه، فإن مع كل عسر يسرين.(4/525)
سورة والتين
* * *
قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) .
فضيلة لمن أسن في الإسلام، لأن الله - جل جلاله - يكتب أجر ما كان يعمله في شبيبته، ولا يقطعه عنه.(4/526)
سورة اقرأ
قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
يحتج بها جهلة الجهمية.
يزعمون: أنه أخبر عن خلق الاسم، وحذف " هاء " المفعول من (خَلَقَ) كأنه " خلقه " وهذا جهل كبير من جهتين:
إحداهما: أن مجازه باسم ربك الخالق، الذي خلق الأشياء، فهو من
نعت الرب، لا نعت الاسم.
والأخرى: أنه لو كان كما يقولون: لكان دالاًّ على أن له أسامي غير
مخلوقة، ومنها - بزعمهم - اسم مخلوق، فأمره أن يقرأ بذلك الاسم
المخلوق، دون التي هي غير مخلوقة، فهم يحتجون على أنفسهم، ولا
يعلمون، أو يعلمون ويكابرون، وأتباعهم يقبلونه منهم بجهلهم.
وهم لا يشعرون.
والذي يزيل كل الالتباس - عما قلناه، وإن كان بحمد الله زائلاً -(4/527)
قوله في سورة البقرة -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) .
أفيرتابون بأن ليس رب سواه خلقهم فلا يعبدون إلا الذي خلقهم.
هانما هو رب واحد خلقهم لا خالق سواه، وكذلك (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ، وهو بين، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.
* * *
قوله: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) .
ذم للغنى، لأنه يعين على الطغيان، ويدعو إلى العصيان، لقدرته على الشهوات المذمومات المبتغاة بالمال.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " اللَّهم إني أعوذ
بك من غنى يطغي.
واختار الفقر على الغنى، ودعا أن يجعل رزقه ورزق أهله(4/528)
قوتًا، وكفافًا.
ولهذه المسألة موضع آخر شرحناه في مسائلنا المنثورة في أبواب شتى.(4/529)
سورة القدر
* * *
قوله: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
مستعملة للعبادة والإحياء.
خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته حين جعل أعمارهم
قصيرة، فأعطاهم فضل هذه الليلة ليبلغوا بها وحدها فوق ما بلغ الأمم
السالفة في طول أعمارهم، جودا، وكرمًا، وتفضيلاً لهذا النبي على
من تقدمه من الأنبياء، وتفضيلاً منه على أمتهم، لأنه خاتم الأنبياء إلى أن
تقوم الساعة، يعمل بما جاء به من عند الله من شريعته، وإن أخل
بعضهم ببعضها فلا يدعونه كافة، ولا يرتدون جملة، كما كان يفعله
سائر الأمم بعد موت نبيهم، فكانوا يدعون شيئًا شيئًا حتى يتركوا
جميعه، ويرجعوا في الجاهلية الجهلاء، إلى أن يبعث الله - جل جلاله
- نبيًّا آخر فيجدد دينهم.
وليست هذه الأمة كذلك، بل يكونون عليه قائمين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة(4/530)
من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين حتى يأتي أمر الله، وهم على
ذلك ".
وقد قيل: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
ليس فيها ليلة القدر.
وقد قيل غير هذين، وما أحسبه يثبت،(4/531)
والأول أشبه والله أعلم.(4/532)
سورة البينة
* * *
قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ)
أي منفكين من كفرهم، والله أعلم.
(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
أي البيان - والله أعلم - والبينة
والبيان بمعنى واحد، قال الله عز وجل، لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) .
* * *
قوله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
أي ما في الصحف، مكتوب على سعة اللسان.
(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي عادلة.(4/533)
سورة الزلزلة
* * *
قوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
أي تحركت من أسفلها.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) ، دليل على التأكيد في الكلام، لرده ذكر الأرض.
* * *
قوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
أي ما عمل إليها من خير،(4/534)
سورة العاديات
* * *
قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
فيه خصوص - والله أعلم
-، لأن الأنبياء داخلون في الإنسان، خارجون من الكنود.
والكنود هم الكفور، وفي الصالحين -أيضاً - من ليس بكفور، وإن كانوا لا يقومون بكنه الشكر.
* * *
قوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
يقال: إن " الهاء " راجعة على
اللَّه - عز وجل - هكذا قال مجاهد، وغيره.
ولم يجر له ذكر فهو أعلم.(4/535)
سورة القارعة
* * *
قوله: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)
هي القيامة يعظم أمرها
وهي وعيد إلى آخرها، والناس في غفلة عنها.(4/536)
سورة التكاثر
* * *
قوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
يقال: إنها نزلت في قبيلتين من
الأنصار تفاخروا فقال كل واحد منهما: فلان خير من فلان، يريد كل
واحد منهما رجال قومه، فما زالوا كذلك حتى جاءوا إلى المقابر.
وأشاروا إلى قبر رجل ممن كان مات معهم، فذلك قوله:
(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) .
وقد قيل: إنها نزلت في أهل الكتاب. والتكاثر في المال، والولد.
وروى عياض بن غنم عن رسول الله صلى الله عله وسلم أنه قال
- في حديث طويل -: " فأما وعيد وعيده فقوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) .
يقول: لو قد دخلتم(4/537)
القبور، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
يقول: لو قد خرجتم من قبوركم.
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) ، محشركم إلى ربكم، (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) أي في الآخرة، حق اليقين، كرأي العين (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ، يوم القيامة، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) ، بين يدي ربكم عن بارد الشراب، وظلال المساكن، وشبع البطون واعتدال الخلق، ولذاذة النوم.
وحتى خطبة أحدكم المرأة - أجمل منه - مع خطاب سواه.
فزوجه ومنعها غيره ".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِن الله - تبارك
وتعالى - ليذكر عبده آلاءه، ويعدد عليه نعماءه، حتى يقول له: عبدي
سألتني أن أزوجك فلانة - يسميها باسمها - فزوجتكها.(4/538)
سورة العصر
* * *
قوله: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
فهذه بشارة للمؤمن جليلة وغنيمة عظيمة، أن يكون
الإنسان في خسر، ويكون هو في زيادة، لأن الخسر النقصان.
وذلك أنه ما دام شبابًا، أو كهلاً مطيقًا فهو يزيد بعمل الخير.
والمسارعة إلى الطاعة، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له ما كان
يعمله في وقت الطاعة، وإن كان له ولد صالح يدعو له فهو يلحقه
في قبره، أو كان ممن وقف وقفًا في سبيل الخير، أو علم علمًا فهو
يجري له أجوه إلى يوم القيامة.
فأي زيادة أزيد من هذا،، للَّه الحمد والشكر على هذا.
* * *
قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ، تواصوا بكل ما يدعو
إلى طاعة الله، وبكل ما يقرب من جنته، وزجروا عن كل ما يقرب
من سخطه، والدخول إلى ناره، وبالصبر على المصائب، والرزايا.
والفقر، والأمراض، والأوجاع.(4/540)
سورة الهمزة
* * *
قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) .
فالهمزة الطعان على الناس، وباغي عثراتهم، واللمزة المغتاب العياب.
وقد قيل: إذا رأيت الرجل يعتاب أخاه فإنما يمدح نفسه. ومن
نظر إلى نفسه بعين المدح، ورضي عملها دخل في جملة المعجبين، وحبط
عمله، ولعب به عدوه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الذنب خير
للمؤمن من العجب، ما خلى الله بين مؤمن، وبين ذنب أبدًا "
وذلك أن المذنب خائف، والخوف طاعة، والمعجب آمن، والأمن
معصية.
وروي أنه قيل لابن عمر: أنزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: ما عنينا بها، ولا عنينا بعشر(4/541)
القرآن.
فقد حصل تسعة أعشاره فينا، ونحن في غفلة عنه، أيقظنا الله
من رقدة الغفلة، وعرفنا ما له خلقنا، وما نحن إليه صائرون بجوده.
* * *
وقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
زاجر للمؤمن من الاشتغال
لجمع المال عن الأخذ بطاعة الله، واجتناب معاصيه، لا سيما من لم
يرض باليسير والبلغة، وأراد التفاخر والتكاثر، ونسي أنه تاركه.
والراحل عنه بثقل الأوزار التي حملها باكتسابه، وفات من عمره الذي
لا سبيل له إلى رده.
فإن كان يطلب من حل ويعنى مع ذلك بأمر آخرته، ولم ينهمك
انهماك الحريص الذي يريد الكثرة، ولا يفكر في العاقبة كان
خارجًا من هذه الآية، وداخلاً فيما قال في سورة النور: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ، إلى آخر الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من طلب الدنيا حلالاً(4/542)
استعفافًا عن المسألة، وسعيًا على عياله، وتعطفًا على جاره لقي الله
ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مرائيًا، مفاخرًا، مكاثرًا
لقي الله وهو عليه غضبان ".
وقال: "التاجر الصدوق، الأمين، المسلم، مع الشهداء يوم القيامة ".(4/543)
سورة الفيل
* * *
قوله: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
والأبابيل الذي يتبع بعضها
بعضًا، كأنها جماعات متفرقة، فهي تنظم بعضها إلى بعض.
واختلفت الأخبار في صفتها. فقال عكرمة: هي طير بيض وجوهها
وجوه السباع لا تصيب شيئا، إلا جدرته أو جذذته.
وقال عبد الرحمن بن سابط: خرجت من البحر كأنها رجال(4/544)
الهند، في أرجلها حجارة، وفي مناقيرها حجارة، كالإبل البزل.
لا تصيب شيئا إلا قتلته.
وفي رواية أخرى عن ابن سابط -أيضاً - قال: هىِ طير تشتت من
قبل البحر، كأنها رجال الهند، ترميهم بحجارة من سجيل، واسمها
سنككل، أعظمها مثل مبارك الإبل، وأصغرها مثل رؤوس الرجال.
لا تريد شيئا فتخطئه، ولا تصيب شيئًا إلا أحرقته.
وروي عن سعيد بن جبير قال: أقبل أبو اليكسوم -
صاحب الحبشة - ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل، فأبى
أن يدخل الحرم، فإذا وجه راجعًا أسرع راجعًا، وإذا أريد على الحرم(4/545)
أبى، فأرسل عليهم طير بيض صغار، في أفواهها حجارة أمثال
الحمص، لا يقع على أحد إلا أهلكه.
وروى أبو مكين عن عكرمة قال: فأظلتهم من السماء، فلما
جعلهم الله كعصف مأكول، أرسل عليهم عينًا، فسال بهم حتى
ذهب بهم إلى البحر.
وعن سعيد بن المسيب قال: سبق إلى الكعبة فيلان، فأما أحدهما
فهو الذي هلك، وأما الآخر فلما كان بالمُغَمَّس برك، فأتاه أصحابه
فعاقدوه، وحلفوا له، ولحيث توجهت توجهنا معك، قال: فرفع
إحدى أذنيه على الأخرى، ثم توجه راجعًا، فلم يصب من أولئك(4/546)
أحد.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لقد رأيت قائد الفيل.
وسائقه، أعميين مقعدين، يستكفان الناس بمكة.
واختلفوا في " العصف " ما هو، فروي عن عطية أنه قال: العصف المأكول أصول الزرع حين تقطع
وتبقى أصوله فيه كهيئة الحجر.
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: هو طعام مطعوم.
وقال غيرهما: هو ورق الزرع.(4/547)
سورة قريش
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
قال بعضهم - أراه عكرمة - يريد نعمتي على قريش.
وقال غيره: فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل لتأتلف قريش برحلة
الشتاء والصيف، فتقيم بمكة.
وتجعل السورتين سورة واحدة.(4/548)
سورة الماعون
وأرى الله - تبارك - قد أكد أمر المساكين، والناس بهم متهاونون.
وقد رددناه في غير موضع من هذا الكتاب.
وقال - في هذه السورة -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
أي يدفعه عن حقه - والله أعلم - ويزجره، ولا يرحمه.
قوله: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) ، فما يكون حال من لا يطعمه، ولا يحض غيره عليه.
* * *
قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
هم الذين يؤخرونها، عن وقتها، وهم مضمرون على إقامتها، لولا(4/550)
ذلك لكفروا، وقد توعدوا بالتأخير هذا التواعد.
* * *
قوله: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
فإن راءوا بإقامتها لم تقبل لهم "
لقوله: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملًا أشرك فيه
غيري فأنا بريء منه ".
وإن راءى بها وبغيرها من أعمال الطاعة فهو شر، قال الله (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) ، هم الذين يعملون بالرياء.
وقال - تبارك وتعالى -: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
أي لا يرائي، لأن أدنى الرياء شرك.(4/551)
(وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) .
قالوا: هي الزكاة المفروضة.
وقالو ا: هي العارية، إعارة القدر، والدلو، والفأس، ونحوه(4/552)
سورة الكوثر
* * *
قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
قالوا: هو الخير الكثير.
وقالوا: نهر في الجنة أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، حافتاه
الذهب، يجري على الدر والياقوت، تربته أطيب من ريح
المسك، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل.(4/553)
قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
قال مجاهد وعكرمة: الصلاة والنسك.
وقال محمد بن علي بن الحنفية: النحر أول ما يكبر الرجل، كأنه(4/554)
رفع اليدين إلى النحر.
وقال الضحاك: ذبيحة الناس يوم النحر.
وكان عطاء يقول: إذا رفعت رأسك من الركوع فاستو قائمًا.
وقال غيرهم: هو وضع اليمين على الشمال عند النحر.(4/555)
قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قال عطاء: هو أبو لهب.
وقد قيل: إنه غير أبي لهب.(4/556)
سورة الكافرون
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
هي براءة من الشرك، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يقرأها عند المنام، وقال: " هي براءة من الشرك ".
ومن قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن.(4/557)
سورة النصر
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ)
هي - أيضاً - ربع القرآن.
ونعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه في نزولها.
فكان لا يصلي صلاة إلا قال: " سبحانك ربنا وبحمدك، اللَّهم اغفر
لي.(4/559)
سورة المسد
* * *
قوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
يقال كانت تحتطب الكلام تمشي بالنميمة.
* * *
قوله: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قال عروة: سلسلة في النار.
ويقال: هي مثل حديدة البكرة.
ويقال: حبل من ليف، لا تحرقه النار بقدرة الله، وهي تجد الألم.(4/561)
(مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
هو ولده، هكذا قال ابن عباس، وعائشة، وابن سيرين.(4/562)
سورة الإخلاص
هذه السورة نسبة الرب تبارك وتعالى.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انسب لنا
ربك، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
إلى آخر السورة، فهو أحد لا ثاني، وصمد لا يأكل، ولا حاجة له به إليه.(4/563)
(لَمْ يَلِدْ) ، فيكون كالمخلوق، (وَلَمْ يُولَدْ) ، فيكون له أول، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ، فيرام، فهو أول كل شيء، وآخر كل شيء، لم يكن شيء قبله ولا معه، وكون الأشياء بقدرته، وأخرجها من العدم إلى
الوجود، ثم يردها إلى العدم، إلا الجنة والنار وأهلها المخلوقين
في الجنة من الحور والولدان وأنواع نعيمها، وفي النار من الزبانية
مالك وأصحابه، وأنواع عذابها، وما أعد لأعداء الله، ثم يحيي
من أماته أجمعين، حتى البق والبعوض والنمل، ويبقى الجن(4/564)
والإنس، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فلا يفنيهم أبدًا، ويجعل
سائرهم ترابًا.
وهي سورة تعدل ثلث القرآن، من قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله.(4/565)
المعوذتان
اختلفوا في تفسير " الفلق " فمنهم من قال: هم الخلق.
ومنهم من قال: هو الصبح، ومنهم من قال: هو سجن في جهنم.
واختلفوا في " الغاسق إذا وقب " فمنهم من قال: هو الليل إذا
ذهب، ومنهم من قال: هو القمر، نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -(4/566)
قد طلع فقال لعائشة: " استعيذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب ".
فمن فسره على الليل، اختلفوا في وقوبه:
فمنهم من جعله دخوله، ومنهم من جعله ذهابه.
و (النَّفَّاثَاتِ) السواحر، و (الْعُقَدِ) السحر،(4/567)
و (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
الشيطان، يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكروا الله انخنس أي انقمع حتى يصير مثل الذباب.
ومنهم من قال في " الغاسق إذا وقب ": إنه القمر إذا انكسف.
فدخل في الكسوف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يتعوذ من كل هذا.
وهما من القرآن، ومن قال: ليستا من القرآن فقد أعظم القول.
وما ذكر عن ابن مسعود، فهو عنه غير صحيح، ولو صح عنه
أنها غير مكتوبة في مصحفه، ما دل على أنهما لم تكونا عنده من
القرآن، لأنه كان يحفظهما، ومن حفظ شيئا فليس بحتم عليه أن
يكتبه،(4/568)
ولو أن حافطا للقرآن كله لم يكتبه، واقتصر على تلاوته آناء الليل(4/569)
والنهار قي الصلاة، وغير الصلاة ما ضره، وإنما كتب إشفاقا على من لا يقدر أن يحفظه فكتب، ليستوي فيه الحافظ، وغير الحافظ، وليرجع إليه الناسي إذا نسي منه الشيء، أو اشتبه عليه الحرف، ولينظر فيه الناظر فيصير نظره فيه عبادة، وليقرأ فيه الحافظ - أيضًا - فيجمع الثوابين ثواب التلاوة، وثواب النظر.
وقد سأل عقبة بن عامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
المعوذتين، فأمه بهما في صلاة الفجر.
وهذا حين اختتام الكتاب، والله - عز وجل - المحمود بجميل بلائه
وجزيل عطائة، والمسؤول من جسيم فضله وكريم طوله أن يوالي ديم
صلواته، وتحيته، ووفود كراماته، ورحمته على المصطفئ محمد، سيد
المرسلين، وقدوة المصطفين، وعلى آله السادة الغر، وأصحابه الأنجم
الزهر، وسلم تسليماً كثيراً.(4/570)