أتم الحيوان ذلك صنع سردابًا آخر فوقه على هذا المنوال، وهكذا يضع جملة أدوار، فانظر كيف شملت الرحمة ما خلق وما لم يخلق، فإن ذلك الطعام المخزون في السرداب رحمة ألهمها ذلك الحيوان من الحشرات لولده الذي سيخلق.
"ومن هذه العجائب" ما شاهده العلماء الباحثون في أمر النحل والنمل والعنكبوت: "فأما النحل" فتعجب كيف جعل الرحمن الرحيم له سبلًا مذللة، فإنه متى فتح زهرة أول النهار ليمتص رحيقها المختوم ويرجع به إلى الخلية فيضعه فيها، يلهم ألا يفتح زهرة في ذلك اليوم، إلا ما كان من جنس تلك الزهرة لرحمة النحل ورحمة الناس، أما رحمة النحل: فإنه لا يعوزه أن يحتال في فتح زهرات أخرى من نوع آخر فيطول عناؤه، وأما رحمة الناس: فإن ما يعلق برجلي النحلة من حبوب طلع الذكور من النبات، إذا وصل إلى زهرة أنثى علق بها من ذلك الطلع بعضه؛ فأثمر ذلك النبات لحصول الإلقاح بهذه الرحمة العجيبة.
"وأما النمل" فمن عجائب الرحمة الخاصة به أن الله خلق له حشرة تسمى "إفس" باللسان الإفرنجي، يحاربها النمل ويغلبها، ومتى غلبها أخذ يستولدها ويربيها ويسميها في ورق الورد، ومتى أكلت وشبعت أقبل النمل عليها وامتص منها مادة حُلوة؛ فكأنه بقر له بشرب لبنه.
"وأما العنكبوت" فإنها ألهمت النسج البديع بهندسة فاقت هندسة الإنسان، وعلل ذلك العلماء بقولهم: إن هندسته إلهية وهندسة الإنسان بتعليم البشر؛ فلذلك يغلط الإنسان، ولا يغلط العنكبوت في الهندسة. ولما كان بيت العنكبوت أضعف بيت ألهمها الله أن تبحث عن صمغ وغراء من أماكنها وأشجارها، وتلطخ بها خيوطها التي نسجتها؛ فتكسبها لزوجة؛ فلذلك لا تمزقها الرياح إذا فاجأتها، ولا الأعاصير إذا ساورتها، وإذا مر بها الذباب التقطته بمادتها اللزجة.
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف كانت المادة الصمغية صائنة بيت العنكبوت الضعيف من التمزيق إذا هبت الزعازع واهتاجت الأعاصير، مع أنها قد تقتلع(2/671)
الأشجار وتخرب المساكن، ثم تكون شبكة صائد وحيلة محتال، هذا هي الرحمة والحكمة1.
وهكذا ألهم الله الأنبياء وأوحى إليهم أن يعلِّموا العباد كيف يتبركون باسم الله في أول أعمالهم؛ كالقراءة والأكل، ذاكرين ربهم ورحمته الواسعة التي عمت سائر العوالم، فيمتلئ قلب العبد إيقانًا بالرحمة، واستبشارًا بالنعمة، وفرحًا برحمة الرحمن الرحيم"2.
ولسنا نحن الذين نشعر بتحميله لهذه السورة وغيرها ما لا تحتمل من المعاني؛ بل هو نفسه يدرك ذلك؛ فيوجه لنفسه سؤالًا عن ذلك قائلًا: "لعلك تقول: ما لي أراك تحمل الفاتحة ما لا تحتمل، وتدخل فيها من العلوم ما لا يعقل؟ "، ويجيب على هذا السؤال بما خلاصته: أنه لا يلزم أن يلحظ كل قارئ للقرآن تلك المعاني فيه، وضرب لذلك مثلًا: كفلاح ركب دابته ومعه ولده الصغير، واتجه إلى حقله فرأى مهندسًا للري وعالمًا للطبيعة وحكيمًا، وذكر كل واحد من هؤلاء تختلف نظرته إلى الحقل علوًا وانخفاضًا، وأن الأمر في القرآن الكريم كذلك تختلف نظرات قرائه إليه ومداركهم فيه3.
ولا شك أن هذا جواب غير مقنع؛ ذلكم أن القرآن الكريم أُنزل لهداية الناس، لا ليكون موسوعة علمية يحشر فيها كل ما هب ودب من النظريات والعلوم، ويكفيه هنا وفي غيره من المواضع أني يشير إليها إشارة من غير استيعاب لها، ويصرف اهتمامه إلى مفهومها اللغوي ومدلولاتها الشرعية، وحسبه وحسبنا هذا.
بعض آراء العلماء في هذا التفسير:
قلنا: إن المؤلف نفسَه يشعر أحيانًا كثيرة بتوسعه في تفسير الآية؛ فيطرح على نفسه سؤالًا عن هذا الأمر ثم يجيب عليه، وأحيانًا يطرح هذا الاعتراض
__________
1 سترى عجائب وصورًا شتى في سورة النحل والنمل والعنكبوت "الجوهري".
2 الجواهر: طنطاوي جوهري ج1 ص3-5.
3 المرجع السابق: ج1 ص16، 17.(2/672)
صديقه الذي يدارسه التفسير، وأحيانًا يكون من أحد العلماء أو غيرهم الذين يحضرون مجلسًا من مجالسه، وكثيرًا ما يورد هذه الاعتراضات في تفسيره ويرد عليها.
وحساسيته المفرطة من نقد تفسيره أو اتجاهه العلمي تظهر كثيرًا بين ثنايا تفسيره، وتتجلى بصور متعددة؛ فهو حينًا ينقد العلماء السابقين الذين فرطوا بهذا العلم، وأحيانًأ يذم علماء المسلمين الذين أولوا 150 آية هي آيات الفقه -بحسابه- عناية كبيرة، ولا يولون الآيات الكونية وهي 750 آية -بحسابه- مثل هذه العناية، وأحيانًا تظهر حساسيته هذه بدعوته الملحة لسلوك هذا المنهج العلمي في التفسير، وأنه بهذا يرتقي المسلمون، وأنه بهذا يكون نصرهم وفلاحهم، وأحيانًا يذكر بعض ما يراه في منامه -بل وخياله- وما يسميه إلهامًا، من ثناء على تفسيره وطريقته فيه، ويؤرقه كثيرًا أن يذم تفسيره أو يمنع.
وقد سطر في تفسيره الرسالة التي بعثها إلى عبد العزيز بن سعود ملك نجد والحجاز -حينذاك- حين منع تفسيره في البلاد السعودية، ومن هذه الرسالة يدرك قارئها مدى تأثره النفسي لهذا القرار، والتماسه السماح بتداول تفسيره، وخاطب في رسلته هذه المراقبين الذين منعوا كتابه مستنكرًا: "بأي كتاب أم بأية سنة يدخل تفسيري للقرآن جميع أقطار الإسلام شرقًا وغربًا، وأكثرهم في قبضة المستعمرين من غير ديننا، وتوصد الأبواب دونه في الحرمين الشريفين وسائر بلاد الحجاز ونجد، وتصدون عن قراءته عموم المملكة السعودية وحجاج بيت الله الحرام من سائر الأقطار مع أنهم يقرءونه في بلادهم، أليس أهل نجد والحجاز أمس بنا رحمًا وأقرب منا نسبًا؟ أفليس هذا الصد إذا لم يكن بدليل يكون تقطيعًا للأرحام؟ أليست هذه العلوم هي التي أوجبها القرآن في آخر سورة التوبة؟ أوليست تراث أجدادنا الفاتحين؟ "1.
وليست هذه المشاعر التي أحس بها من نفسه، ولا الاعتراضات من جلسائه، ولام مصادرة كتابه ومنعه هي نهاية المطاف، فقد توالت الردود على
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج5 ص245.(2/673)
تفسيره ونقده في تطرقه في هذا السبيل. وسأذكر هنا بعض ردود وآراء المعتدلين في الرد الذين يحسنون به ظنًّا ويثنون عليه في دنيه وغيرته؛ لكن هذا لا يمنعهم من نقد تفسيره وقوله ما يرونه حقًّا.
فمن هؤلاء الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- الذي قال بعد أن أورد بعض الأمثلة من تفسيره: "هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.
والكتاب -كما ترى- موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير"؛ بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأَوْلَى به، وإذا دل الكتاب على شيء فهو أن المؤلف -رحمه الله- كان كثيرًا ما يسبح في ملكوت السماوات والأرض بفكره، ويطوف في نواحٍ شتَّى من العلم بعقله وقلبه؛ ليجلي للناس آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ثم ليظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنًا لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث؛ تحقيقًا لقول الله تعالى في كتابه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؛ ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه"2.
أما الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير، فقد ذكر أيضًا بعض الأمثلة من تفسيره ثم عقب عليها قائلًا: "في وسعنا بعد أن عرفنا نماذج مما كتبه، أن نسمي كتابه هذا جواهر العلوم، لا جواهر التفسير، فهو في وادٍ، وتفسير القرآن في وادٍ آخر"3.
وقال أيضًا: "وعلى الرغم من أن الشيخ -رحمه الله- كان رجلًا تقيًّا على
__________
1 سورة الأنعام: من الآية 38.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص183.
3 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى محمد الحديدي الطير ص73.(2/674)
ما عرفته فيه وجربته منه، فإنه كان ذا خيال خصيب، وكان لهذا يخضع القرآن لما يتخيله في معانيه بأفكاره العريضة ذات الآفات البعيدة وإن جانبها الصواب، غفر الله له ما قال عن حسن ظن مما خالف فيه ما ينبغي في تفسير كتاب الله المجيد"1.
أما الدكتور عبد المجيد المحتسب فقال: "والحق يقال: إن الشيخ طنطاوي جوهري مع مخالفتنا إياه في منحاه ونزعته، يبدو حسن النية فيما ذهب إليه؛ فقد وجد أن السبيل التي سلكها تبعث الأمة الإسلامية بعثًا جديدًا في ميدان التقدم العلمي"2.
ثم علَّق الدكتور على قرار منع الكتاب ومصادرته في الحجاز ونجد فقال: "والحق يقال: إن المانعين لهذا التفسير لاحظوا جنوح صاحبه؛ بل ولوعه الشديد بإخضاع الآيات القرآنية وقهرها لكي تحمل الكثير من مسائل العلوم الكونية.
وهذا تعسف ظاهر وميل بالقرآن عن مقصده الأسمي؛ ألا وهو هداية البشر لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإن دل هذا المنع على شيء فإنما يدل على الورع وصيانة القرآن عن أن ينحرف أحد بتفسيره"2.
أما الدكتور محمد إبراهيم شريف فقال: "ومع توافر حُسْن النية لدى طنطاوي جوهري فيما ذهب إليه من هذا الاتجاه العلمي في التفسير؛ حيث رأى أن السبيل التي سلكها تبعث في الأمة الإسلامية بعثًا جديدًا في ميدان التقدم العلمي، كما تدل عليه نداءاته وخطاباته للأمة الإسلامية وعلمائها وفيضها بالغيرة والإشفاق والإخلاص، مع ذلك قُوبل تفسيره في الأوساط الإسلامية في مصر والبلاد العربية بالمعارضة والإنكار، فقيل عنه ما قيل عن غيره من قديم: إن فيه كل شيء إلا التفسير؛ حيث يذكر من الفصول المطولة في العلوم المختلفة ما يصد قارئه عما أنزل الله لأجله القرآن، ونظر إليه على أنه مخدر للأمة وملهاة
__________
1 المرجع السابق: ص75.
2 اتجاهات التفسير في العصر الراهن ص276، 277.(2/675)
لها عن طريق التقدم الحقيقي بما يقدم لها ما يطمئنها إلى أنها سبقت عصرها في كل ما يتطاول به الغرب من علوم حديثة"1.
وقال أيضًا: "لقد كان تفسير الجواهر أول محاولة كاملة في الاتجاه العلمي في التفسير حديثًا، ولم تخلُ هذه المحاولة من تعجل واندفاع في أحضان بعض النظريات الجديدة التي لم تستحكم طاقات فتلها، ولم يتأكد بعد أنها حقائق ثابتة لا تقبل الجدل"1.
وقال: "ومن هنا كانت بعض التجاوزات في هذا التفسير مما يخضع فيه جوهري لخياله الخصب، خاصة فيما يتعلق بالأمور الغيبية؛ كعالم الجن والشياطين، واستحضار الأرواح، والتنويم الصناعي، والوقوع في أسر بعض النظريات العلمية القديمة والحديثة، والتورط في النقل عن مصادر غير موثوق صحتها، أو ليست لها قيمة علمية أو دينية؛ ككتب الأدب والأساطير، والفلسفات، والمذاهب القديمة، والأناجيل، وقد أسهب طنطاوي في ذلك كثيرًا، كما أسهب في بيان كثير من العلوم المختلفة التي تشير إليها الآيات الكونية والعلمية حتى جاوز حدود معانيها، ولم يحاول الجمع بينها؛ فخفي بذلك كثير من حقيقة ومقدار العلم المنزل فيها.
ولكن من الحق أن نقول: إن طنطاوي في محاولته المبكرة هذه قد وضع بعض الملاحظات الهامة والقواعد التي تحكم تفسيره في هذه الناحية، كما وضع بعض القواعد المنهجية الخاصة به، والتي تتيح لقارئ تفسيره التعرف على مضمون الآيات مع عدم التعرض لتفصيلات العلوم المرتبطة بها، ومن حق هذا التفسير الذي هُوجم كثيرًا بحق وبغير حق أن نسجل هذه الملاحظات والقواعد"2.
ثم ذكر أن الملاحظات تأتي في شكل حوار مع صديق له يسأله ويجيبه؛ بما يرفع ظنونه وشكوكه في مسلك التفسير واتجاهه العلمي.
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم الشريف ص709، 711.
2 المرجع السابق: ص712.(2/676)
وذكر أن أظهر ما اختص به هنا جانبان؛ الأول: تفسيره لآيات القرآن الكريم تفسيرًا لفظيًّا مختصرًا، باستطاعة القارئ للتفسير أن يتعرف على هذه المعاني دون متابعة البحوث المستفيضة، والثاني: أنه يقسم السورة إلى أجزاء متعددة، يتناولها جزءًا جزءًا1.
هذه بعض آراء العلماء المعاصرين في هذا التفسير.
رأيي في هذا التفسير:
وإن كان لي من رأي في هذا التفسير فهو لا يخرج عمَّا ذكرت من الآراء فيه؛ لكن يجب أن أنبه إلى ملاحظة تمر هنا وتمر في مواضع أخرى: إني وأولئك العلماء الأفاضل الذين ذكرت رأيهم في تفسير الجواهر كلنا ندرس ونحكم على التفسير لا على صاحبه.
وعلى هذا فإني أرى بغض النظر عن حسن الظن بالمؤلف -مع حسنه عندي- أن تفسيره خاطئ، انحرف عن جادة الصواب في تفسير القرآن الكريم انحرافًا لا يقبله ذو الذوق السليم، فضلًا عن الخبير بشروط التفسير.
ولا شك أن تحميل هذه النصوص القرآنية ما لا تحتمل، وإدخال العلوم والنظريات التي لم يستقر قرارها، والصور الشمسية للبشر والحيوانات بين ثنايا صفحات التفسير، وتلك الأوهام والخرافات التي يتخيلها في خياله الواسع حتى يتمثل أشخاص الخيال ذات أجساد واقفة أمامه، وينسلخ حينًا من عالم الأجساد إلى ما يسميه عالم الأرواح، وإدخاله تلك المنامات التي يراها في منامه، أو تلك الأوهام التي يسميها إلهامًا، كل هذا وذاك لا يُقبل في تفسير القرآن الكريم.
فعلينا -وإن أحسنا الظن به- أن نعلن ونحذر من هذا التفسير وأمثاله، ولو كان كتبها مستقلة عن آيات القرآن الكريم لكان له وجه من القبول، أما والحالة هذه فإني لا أرى له وجهًا.
__________
1 المرجع السابق: ص713-715.(2/677)
غفر الله للمؤلف ورحمه، ووفق الله المسلمين لما فيه الحق والخير في حياتهم الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
هذا ما أحببت قوله عن هذا التفسير؛ وإنما أطلت فيه لعدة أسباب؛ أهمها: أنه أول تفسير علمي شامل لآيات القرآن الكريم في العصر الحديث، وإضافة إلى أنه من أوائل التفاسير عامة في هذا القرن، وفوق هذا وذاك هو أشهر وأوفَى كتب التفسير العلمي؛ فكان حقه وحق هذه الدراسة الاستيفاء.
ومن هنا فإنني سألتزم الاختصار غايته في عرض الكتب التالية التي اخترتها كنماذج للتفسير العلمي في العصر الحديث.(2/678)
ثانيًا: كشف الأسرار النورانية القرآنية
أولًا: المؤلف
هو محمد بن أحمد الإسكندراني ثم الدمشقي، أحد علماء الطب في دمشق، عَمِلَ في العسكرية البحرية في مصر إلى سنة 1256، ثم رحل إلى دمشق حيث تولى رئاسة أطباء الجيش إلى سنة 1258، وعمل طبيبًا للحكومة في مستشفى الغرباء ودائرة البلدية مدة طويلة، وتُوفي في دمشق سنة 1306، ولم يُولد له.
وله من المؤلفات:
1- تبيان الأسرار الربانية بالنباتات والمعادن والخواص الحيوانية، طبع.
2- الأزهار المجنية في مداواة الهيضة الهندية، طبع.
3- البراهين البينات في بيان حقائق الحيوانات، طبع معظمه.
4- وهذا التفسير الذي ندرسه.
ثانيًا: الكتاب
كشف الأسرار النوراية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية.
وطبع هذا الكتاب بالمطبعة الوهبية وبتاريخ 5/ 2/ 1297، وذلك في ثلاثة مجلدات.
سبب تاليفه:
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه في سنة 1290 اجتمع في محفل حافل ببعض الأطباء "المسيحيين"؛ فشرعوا يتحادثون في كيفية تكوُّن الأحجاز الفحمية،(2/679)
وفي أنها هل أشير إليها في التوراة والإنجيل أم لا؟ فبعد الأسئلة والأجوبة حكموا أنه لا يوجد لها ذكر فيها أصلًا لا صريحًا ولا إشارة، ثم خصوه بالسؤال: هل أشير إليها في القرآن الشريف أم صرح بذكرها؟ وإن لم يشر إليها فكيف قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؟ وإن أشير إليها فيه ففي أي موضع؟ فتصدر للجواب، وتلطف في الخطاب، وتصفح ألوفًا من مسائل الفصحاء، وتتبع كلام العلماء وطلبه من كتب التفسير والطب، ثم ازدادت همته بعد وقوفه على حقيقة تكون الحجر المشار إليه؛ فبيَّن كيفية تكوُّن الحيوانات والنباتات والأجرام السماوية والأرضية والجواهر المعدنية.
ثم وضح خطته فقال: "وأبرزت ذلك في ثلاثة ابواب كأنها بساتين أزهار أو حدائق معارف تفجرت منها الأنهار".
إلى أن قال: "وتشاورت مع أرباب المعارف وأهل الإشارات فانحط الرأي على أن من اللازم لما قصدته من بيان كيفية التكونات التي ذكرتها تأليف كتاب يشتمل على شرح الآيات القرآنية المتعلقة بذلك شرحًا يكشف معناها وحقيقتها؛ فاستنهضت جواد الفكر كرًّا وفرًّا، وغصت في ميادين تفسير الآيات مؤملًا ظفرًا ونصرًا، وشجعني على ذلك صدق النية فيما هممت، وخلوص الطوية فيما عرضت؛ فجمعت من كتب التفسير والطب ما تفرق، ومن شتات المسائل ما تمزق، وسلكت في هذا المختصر جزالة الألفاظ مع تمام المعاني".
إلى أن قال: "ورتبته على مقدمة في الأحجار الفحمية وثلاثة أبواب في الحيوانات والنباتات والأجرام الأرضية والسماوية، وكل باب منها مشتمل على مسائل ومباحث وخاتمة"2.
وإذا ما نظرت أجزاء الكتاب الثلاثة وجدتها قد تقاسمت الأبواب الثلاثة؛ فتحدث في الجزء الأول: الباب الأول: في كيفية تكون الحيوانات وما يتعلق بذلك.
وأورد في الجزء الثاني: الباب الثاني: في كيفية خلق السماوات والأرض.
__________
1 سورة الأنعام: من الآية 38.
2 كشف الأسرار النورانية: محمد بن أحمد الإسكندراني ج1 ص3-5.(2/680)
وأورد في الجزء الثالث: الباب الثالث: في تفسير الآيات الشريفة المتضمنة لذكر النباتات، وسنذكر مثالًا من كل باب إن شاء الله تعالى.
نماذج من تفسيره:
من الباب الأول الخاص بالحديث عن الحيونات تحدث عن دابة الأرض التي دلت على موت سليمان -عليه السلام- وذلك في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} 1.
قال عن الدابة: "وهذه الدابة هي السوس؛ أي: سوس الخشب، من رتبة الحشرات، فلا يمكننا أن نذكر في شأنها كلامًا عامًّا، وعددها كثير جدًّا؛ لأنه يدخل تحتها أكثر من خمسين ألف نوع، وحياة الإنسان لا تكفي لدراستها جيدًا بمفردها، وهي إحدى الرتب المهمة بسبب تنوع أشكالها ولطاقة ألوانها، خصوصًا الخصال والقوى الإلهامية الخاصة بكل نوع، وتقسميها إلى أقسام ثانوية مؤسسة خصوصًا على صفات متخذة من جهازها الفمي وأجنحتها وأربطتها وقرونها وانقلاباتها؛ منها الحشرات ذات الأجنحة الشبكية، والنمل الأبيض ينسب لهذا القسم، ومنها الحشرات ذات المنقار وذات المنقاب؛ أي: الآلة التي تنقب بها هذه الحشرات النباتات لإحداث العفص، ومنها الحشرات ذات الأجنحة القشرية، وأبدان هذه الحشرات لها ستة أرجل، وتقرض أوراق الأشجار والأزهار والجذور والأزرار والحبوب وتحدث إتلافًا، ومنها ما يقرض الجوخ والأقمشة التي من الصوف والفراء، ومنها دودة القز، ومنها الحشرات الجناحية النصف، وهذه الحشرات دودة الصبغ ودودة البلوط والبق وحشرة الملك وسوس الخشب المسمى بالدابة وسوس القمح وجنس القمل والقمل والحشرات الماصة كالبرغوث ونحوه، ومنها ما سبق الكلام عليه؛ مثل: النمل والدراريح والنحل وغير ذلك"2.
ومن الباب الثاني الخاص بالحديث عن السماوات والأرض، تحدث عن الصواعق والكهربائية، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:
__________
1 سورة سبأ: من الآية 14.
2 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج1 ص229.(2/681)
{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} 1.
أسوقه بنصه لترى أن ليس ثمة صلة بين ما قاله وبين التفسير، ولئلا يحسب أني حذفت منه ما يصح تسميته بالتفسير قال:
"قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربعية، أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمانه ويجادلانه ويريدان الفتك به، فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة: أخبرنا عن ربنا أمن النحاس هو أم من الحديد؟ فردعهم النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا على أربد بما يلحق بالحديد، وعلى عامر بغُدَّة، ثم إنه لما رجع أربد أرسل الله عليه صاعقة فأحرقته، ورُمي عامر بغُدَّة كغُدَّة البعير ومات في بيت سلولية. وههنا نذكر الآثار الجوية النارية، فنقول:
"الآثار الجوية النارية": قد زاد بسبب هذه الآثار في الأزمنة السالفة اندهاش الناس وخوفهم، إما من التلف الذي يتبع ظهورها، وإما من الضوء الساطع الذي ينتشر منها، وإما من عظمها المهول مع تدميرها الأشياء معًا، وطالما صدرت خرافات وتوهمات فاسدة في منشأ الرعد والأضواء الشمالية؛ أي: الفجر الكاذب، والذي تقدم ذكره والأكر النارية.
"والكهربائية الجوية والصاعقة والرعد": هذا السائل وجده أرسطاطاليس في قطعة كهرباء، وسماه بهذا الاسم، وهو نوعان كالمغناطيس، والجو يحتوي دائمًا على مقدار من هذا السائل يختلف قلة وكثرة، فإذا كان الهواء ساكنًا والسماء مصحية كانت كهربائية الجو زجاجية، وتغير حالتها كل مرتين؛ فقبل طلوع الشمس بزمن قليل تكون في غاية ضعفها، ثم تتزايد بسرعة وتصل إلى غاية قوتها الأولى نحو الساعة الثامنة الفلكية؛ أعني: قبل الظهر بأربع ساعات في الشهر الثالث من الربيع، ثم تأخذ في الضعف شيئًا فشيئًا، وبعد الزوال بساعتين يكون الاستشعار بها قليلًا؛ أعني: أنها تكون زائدة في الضعف جدًّا، وفي الساعة الرابعة
__________
1 سورة الرعد: من الآية 13.(2/682)
تقريبًا تكون في غاية ضعفها، ثم في المساء بعد مغيب الشمس بساعة أو ساعتين تكون قوتها كهي في الصباح؛ أعني: في غاية قوتها، ثم تأخذ في التناقص أولًا بسرعة، ثم تبطئ حتى تصل إلى غاية ضعفها الثاني، وهذا التغيران يشاهدان السنة كلها حتى في زمن الغيم، غير أن قوتهما تختلف باختلاف كثرة الغمام وسمكه، وكهربائية الصيف أقوى من كهربائية الشتاء بمرتين، والغالب أنها في جميع الأشهر تزيد أو تنقص على طريقة النسبة المستقيمة لارتفاع الشمس على الأفق، وثبت من المشاهَدات أن العواصف تكون أقوى وأكثر في زمن القمر الجديد والامتلاء منها في أوقات الربيع.
"في النسبة الكهربائية": وليس هناك نسبة بين كهربائية الجو وثقله وحرارته بخلاف رطوبته؛ فإن لها بها نسبة عظيمة؛ لأن غايتي ارتفاع الكهربائية تكونان في الوقت الذي يكون يه الهواء متحملًا لمقدار عظيم من الرطوبة، ومتى تكاثف البخار المائي المتحمل له الجو، وسقط على هيئة مطر أو ثلجٍ أو برد؛ فإنه يتكهرب بكهربائية تزيد جدًّا عن كهربائية الجو إذا كان الزمن هادئًا وصحيًّا.
"في بيان الكهربائية": ثم إن كهربائية الماء الجوي تارة تكون زجاجية، وتارة راتنجية ككهرباء الهواء، وتكون أيضًا في الصيف أعظم منها في الشتاء.
"تنبيه" اعلم أن المغناطيس سيال واحد؛ ولكن جعل الله تعالى فيه خاصيتين: إحداهما جنوبية والأخرى شمالية، وجعل تعالى السيال الكهربائي متنوعًا إلى نوعين: أحدهما زجاجي والآخر راتنجي على حسب تسلطنه في أفراد المعادن، وأيضًا هو سار في السائلات الجوية، ويكون على حسب تجمعه وقوته زجاجيًّا أو راتنجيًّا؛ وذلك إذا سح المطر مرتين وتخلل بينهما زمن قليل فإنه قد يتفق أن أحدهما يتكهرب بكهربائية مخالفة لكهربائية الآخر، وإن كان متساويين في الشدة، ويندر جدًّا وجود أمطار غير مكهربة، ولا يشاهَد ذلك إلا في الأمطار التي تحصل في المسافة التي تخلل بين سحتي مطر مختلفتي الكهربية أو حينما يكون المطر خفيفًا.
"في بيان الضباب": الضباب الرطب يكون عمومًا أقل كهربائية من(2/683)
الضباب البارد الجاف، وزجاجية الثلج أكثر من راتنجيته، ولم تعرف إلى الآن الحالة الكهربائية للبَرَد -بفتح الراء-.
"في كهربائية الغمام": قد اعتبرت الغمامة الكثيفة الحاملة للعواصف جسمًا واحدًا يتراكم على سطحه مقدار مخصوص من السائل الكهربائي المنتشر في الفضاء المعرَّض لتأثير هذه الغمامة، ولعل ذلك هو الذي يحدث شكل هذه الكتل المتكونة من الأبخرة الحوصلية المائية، فثبت بموجب ما ذكر أن الجو يكون دائمًا مكهربًا، ومثله في ذلك الغمام، وأنه يمكن أن كهربائية إحدى سحابتين قريبتين لبعضهما تكون مخالفة لكهربائية الأخرى.
"في تداخل السحاب في بعضه": إذا كان الهواء مضطربًا، ولم يكن لكتلته إلا اتجاه واحد؛ فإن السحب تنجذب بالريح وتتبع اتجاهه، ولا يحصل بينها وبين بعضها ملامسة ولا معارضة ولا اختلاط، أما إذا تقلب الجو برياح متعارضة فإنه يشاهَد إذ ذاك شرر كهربائي واضطراب وانزعاج متى تقاربت السحب لبعضها حتى تتجاذب؛ أي: يدخل كل منها في سلطنة جذب الأخرى؛ فحينئذ يشقق البرق والسحابة العاصفة ويسمع الرعد، وكثيرًا ما يشاهَد سير طبقات من السحب في اتجاهات متعارضة، أو أن تلك الطبقات تأتي من السماء من مواضع مختلفة وتنضم بعد ذلك في محل واحد، ومن هذا المحل تظهر العواصف، وذلك عقب تأثير الغمام على بعضه بيسير.
"في الغمامة الصاعقية": قد يشاهَد أحيانًا على الأفق غمامة مظلمة مسودة تبقى واقفة جزءًا من النهار، وتكون السماء في غير هذا الموضع نقية مصحية، ثم يتجه الريح نحو تلك الغمامة الصاعقية وتتقدم نحو السمت حتى تصل إليه بسرعة، وتغطي الكون ببرقع معتم، وتسير مسبوقة بالرياح والبرق والرعد، ومتبوعة بالأمطار الوابلة والبَرَد -بفتح الراء- الذي ينتشر ويتدحرج في ممرها.
"في كهربائية الأرض ونزول الصواعق": قد ثبت في الأرض مكهربة كالهواء؛ ولكن يقال: هل كهربائيتها من نوع كهربائية الهواء؟ أقول: المقرر خلافه؛ فإن علماء الهيئة ذكروا أن كهربائية الهواء في الغالب تكون زجاجية بخلاف كهربائية(2/684)
الأرض فإنها راتنجية، فإذا انقطعت الموازنة بين هذين السائلين، وانجذب بموجب أسباب مخصوصة في محل ما مقدار كبير من أي نوع كان من الكهربائية حصل في الموضع المقابل لذلك المحل تراكم كهربائية مخالفة في الاسم للأولى، والغالب تولد العواصف من هذا الحادث، فإذا كان في شدة قوته فإن الشرر المنقذف من الغمام جهة الأرض أو من الأرض جهة الغمام يحصل الموازنة بينهما ثانيًا، وهذا هو أصل الصاعقة الصاعدة والصاعقة النازلة التي هي مهولة مخيفة؛ بسبب ما يحدث عنها من الإتلاف والإهلاك المدهش الغريب، كيف لا وهي صورة تتشكل بأشكال غريبة مخالفة لبعضها ولم تصل العلوم إلى الآن لتوضيحها.
وبعد ذَهاب الريح العاصف والصاعقة يظهر كأن الكون اكتسب قوة جديدة، وتعظم قوة الحيوانات وتشتد، وتزيد حيويتها، ويحسن الإنبات، وتصير الروائح العطرية للأزهار أقبل وألطف، وبالاختصار يظهر كأن الكائنات كلها حظيت بحياة جديدة قوية.
وقد غلط من ظن أن أصوات النواقيس ولغط طلق المدافع يشتت الصواعق؛ إذ الغالب أن الحركة المنطبعة في الهواء من اهتزازات الأجسام الرنانة تجذب هذه الصاعقة إليها، وإنه كثيرًا ما يحصل أن الصاعقة تصيب أبراج النواقيس وتهدمها زمن ضربها، وتحرق السفينة زمن طلقها مدافعها، ومما يشتت الصواعق القوية جدًّا المطر الغزير الذي هو موصل جيد للسائل الكهربائي؛ فيحصل موازنة بين الأرض والجو، ولم يعرف إلى الآن سبب لغط الصاعقة والرعد، هل ذلك بمجرد قعقعة منعكسة من الغمام، أو تتابع أصوات متواصلة بينها وبين بعضها مسافة قصيرة، أو أن ذلك من مصادمة الهواء الذي يتكون فيه وقت حصول الصاعقة خلو؛ بسبب اتحاد كتلة عظيمة من السائل الناري؛ حيث يحصل ذلك في الطبقات المرتفعة من الجو، أو أن ذلك من مصادمة الهواء لشرر كهربائي، اجتاز فيه بسرعة قوية، وحيث إن حالة اهتزازاته الرنينة وسَعَتها وشدتها تكون على حساب قوة هذا الأثر المهول؟ والذي يظهر لي أن الأخير هو القريب للعقل"1.
هذا هو كل ما قاله في تفسيرها، فهل تراه كذلك؟!
__________
1 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج2 ص135-138.(2/685)
الزوج البهيج:
ومن الباب الثالث الخاص بذكر النباتات فسر قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 1 بقوله:
"قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} إشارة إلى ما تقطف ثماره ويثمر من غير زراعة في كل سنة، وإلى ما يزرع ويقطف في كل سنة؛ فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع، وما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلهما، ولولا التأبير العام في النبات لم يثمر، فالله تعالى هو الذي قدَّر ذلك لذلك؛ فجعل أعضاء التناسل منضودة بالطلع فوق بعضه، وجعل الأكمام وقاية لها ونعمة للعباد.
وقوله تعالى: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} المراد بالبهيج: الحسن، فالأكمام مركب كل منها من النوار؛ أي: الزهر المسمى بالتويج والكأس، وفيه مباحث:
"المبحث الأول في الغلافات الزهرية": الأعضاء -التي تقدم الكلام عليها- محيطة بغلافين؛ هما: الزهر والتويج، فالغلاف الزهري يسمى بسيطًا إذا لم يكن مكونًا إلا من غلاف زهري واحد، ويسمى مزدوجًا إذا كان مكونًا من الكأس والتويج، ومتى كان الغلاف الزهري بسيطًا فالغلاف الذي يفقد هو التويج دائمًا؛ لأن النباتيين يسمون الغلاف الموجود بالكأس على أي حال كان لونه وشكله وقوامه؛ وحيث إنه لا يوجد للنباتات ذات الفلقة الواحدة إلا غلاف بسيط واحد يمكن أن يقال: إن النباتات المذكورة عديمة النوار -أي: التويج- ومع ذلك فقد يتفق أحيانًا أن النباتات ذات الفلقة الواحدة يظهر أن لها غلافين زهريين؛ لأن التقاسيم المكونة لغلافها تكون على هيئة حراشيف صغيرة موضوعة صفين، تنشأ من الجزء الظاهر للذنيب الزهري.
"المبحث الثاني في التويج": التويج: الغِلاف الزهري الأكثر قربًا من أعضاء التناسل، وقوامه رخو، ولونه مختلف جدًّا، وفي بعض الأحيان تكون له ألوان جميلة بهية، ومكثه قليل للغاية جدًّا، وغالبًا يزول متى ابتسم الزهر. وفيه أمور:
__________
1 سورة ق: من الآية 7.(2/686)
"الأول: في تركيب التويج": يتكون التويج من وريقات تويجية، وسبب تسميتها بالوريقات كثرة مشابهتها للأوراق، وكل وريقة تويجية مكونة من جزأين؛ وهما: الظفر والصفيحة، فالأول يقابل ذنيب الورقة، والثاني يقابل قرصها، فالظفر هو الجزء السفلي المستضيق غالبًا، وهو الذي تلتصق بواسطته الوريقة التويجية في الحامل الزهري، والصفيحة هي الجزء العلوي المستعرض، ذو الشكل المختلف، وهو يعلو الظفر.
"الثاني: في الوريقة التويجية العديمة الظفر": أحيانًا لا يوجد الظفر في الوريقات التويجية؛ فيحنئذ تسمى وريقة التويج بعديمة الظفر؛ أي: بعديمة الذنيب، وقد يكون الظفر طويلًا أو قصيرًا أو مسطحًا أو قنويًّا، ولا فائدة لنا في تفسير هذه التسميات؛ لأنها واضحة، ولها أسماء مختلفة أيضًا تعرف بها الأوضاع المختلفة للوريقات التويجية، وكذا شكلها، فمثلًا يمكن أن تكون قائمة أو منبسطة أو مائلة إلى الداخل وإلى الخارج أو مقعرة أو على هيئة قلنسوة أو مهمازية أو غير ذلك.
"الثالث: في ذي الوريقات الكثيرة": عدد وريقات التويج يكون مختلفًا جدًّا؛ ولأجل بيانها تستعمل أسماء مخصوصة لها فيقال مثلًا: إن التويج ذو وريقتين أو ثلاثة أو أربعة وهكذا، فيسمى بالتويج ذي الوريقات الكثيرة، وقد يكون التويج ذو الوريقات الكثيرة منتظمًا؛ أي: مكونًا من وريقات تويجية متساوية موضوعة بانتظام حول أعضاء التناسل، وفي هذه الحالة يكتسب أشكالًا تخدم لتمييز بعض فصائل عن بعضها، كما في وريقات الفصيلة الوردية والقرنفلية والصليبية، وقد يكون غير منتظم كوريقات تويج القسم الفراشي من الفضيلة البقولية.
"الرابع: في التويج الوردي": يسمى التويج ورديًّا إذا كان مكونًا عادة من ثلاث وريقات إلى خمس، أظافرها قصيرة جدًّا، وصفيحتها منبسطة على شكل وردة، وهذا الوصف العام خاص بجميع النباتات التي تُنسب إلى الفصيلة الوردية.
"الخامس: في التويج القرنفلي": يسمى التويج بهذا الاسم إذا كان مركبًا من خمس وريقات ذات أظافر طويلة، ومغطاة نحو قاعدتها بالكأس، وفي هذه(2/687)
الحالة تكون صفائح وريقات التويج منبسطة على هيئة وردة، كما في القرنفل البستاني، وجميع نباتات الفصيلة القرنفلية.
"السادس: في التويج الصليبي": يسمى التويج صليبيًّا إذا كان مكونًا من أربع وريقات ظفرية موضوعة على هيئة الصليب كما في الفصيلة الصليبية.
"السابع: في التويج الكثير الوريقات غير المنتظم": يكون التويج غير منتظم إذا كان مكونًا من خمس وريقات غير متساوية، لها أشكال مختلفة، ويدخل تحته التاج الفراشي، وذلك التويج يقال: إنه فراشي إذا كان مكونًا من خمس وريقات غير منتظم شكلها، شبيه بالفراش الذي تكون أجنحتها منبسطة، وهذا النوع يشاهَد في الفصيلة البقولية، ويسمى غير منتظم إذا كان ولم يمكن نسبته إلى التويج الفراشي، وفي التويج ذو الوريقات الكثيرة تسقط الوريقات التويجية كل واحدة على حدتها أو يقال: إن سقوطها بهذه الكيفية هي الحالة الأغلبية"1.
وهكذا يذكر أنواع التويج، وذكر في المبحث الثالث الكأس؛ وهو الغِلاف الظاهر للزهر، وذكر فيه أبحاثًا كثيرة متشعبة.
رأيي في هذا التفسير:
إذا ما ذهبنا نقارن هذا التفسير بالتفسير الذي سبقه وجدنا هذا الأخير يمتاز بأنه لا يدعو ولا يلح إلى هذا الاتجاه في التفسير، وأمر آخر أهم من هذا أنك تجد في مواضع منه نكهة التفسير؛ فتجد الروايات من السنة، وتجد القراءات في الآية الواحدة، وتجد أقوال المفسرين السابقين في الآية، ومن الفروق أيضًا أن هذا الأخير لا يعتد بتلك الخيالات والأوهام والمنامات الكثيرة الحق منها والباطل ولا يزعم إلهامًا، ومنها خلو هذا التفسير من المصورات للنباتات والحيوانات والبشر وغير ذلك، ومنها عدم اعتماده فلسفات الأمم الكافرة في القديم والحديث، ومنها أن هناك من الآيات ما يفسر تفسيرًا لا تكاد فيه ما تنكره.
__________
1 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج3 ص42، 43.(2/688)
ومع هذا، فإن هذا التفسير مغرق في الاتجاه العلمي، وإذا ما نظرت في فهرس هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة لا يظهر لك أنه كتاب في التفسير إلا بتمهل، فإذا قلبت صفحاته ازددت شكًّا حتى تقع على أول كل بحث؛ فتجد فيه ما يدل على أنه كتاب في التفسير، وإليك شاهدًا لما أقول فهرسًا لأحد الأبحاث.
المقالة "السادسة عشر" في قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} ، وفيه مسألتان في كيفية القراءات:
المسألة الأولى: في الزيادة، وفيها مباحث تسعة
الأول: في ذكورة الجنين.
الثاني: هل يمكن بالاختيار أن المتجامعين يولدان أحد النوعين؟
الثالث: في بيان علامات الحمل.
الرابع: في العلامات العقلية في ظواهر الحمل.
الخامس: في انقطاع الحيض.
السادس: في انتفاخ البطن.
السابع: في بيان الحركات الذاتية للجنين.
الثامن: في الحمل المضاعف.
التاسع: في بيان الحبل على الحبل.
المسألة الثانية: في قوله تعالى {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَام} ، وفيه مباحث سبعة:
الأول: في سيلان الحيض.
الثاني: في اندفاع الطمث.
الثالث: في سير الطمث وكمية الدم.
الرابع: في أسباب الطمث ودوريته.
الخامس: في بيان مجلس الحيض.
السادس: في انقطاع الطمث في سن اليأس.
السابع: في العلوق الفاسد، وفيه أنواع:
- الأول: في البذور الكاذبة.(2/689)
- الثاني: في بيان المضغ اللحمية.
- الثالث: في بيان المضغ الحوصيلية1.
هذا مثال واحد لأحد أبحاثه، يكاد القارئ يجزم أنه كتاب في طب النساء والولادة، وهكذا أبحاثه الأخرى بحث في الفلك، وبحث في النبات، وبحث في المعادن، ولا شك أني كما رفضت طريقة الشيخ الجوهري فإني أرفض أيضًا طريقة هذا التفسير؛ لما فيه من الإغراق المذموم في المسائل العلمية، وطغيانها على المعاني المتعلقة بالآية المباشرة من التفاسير الصحيحة.
وإنما أطلت في هذا التفسير -قليلًا- لأني لم أجد أحدًا كَتَبَ عنه إلا مجرد إشارة لا تتجاوز أسطرًا فيما أعلم.
__________
1 كشف الأسرار النورانية: محمد الإسكندراني ج1 ص7.(2/690)
ثالثًا: الكون والإعجاز العلمي للقرآن
أولًا: المؤلف
هو الدكتور منصور حسب النبي، أستاذ ورئيس قسم الطبيعة بكلية البنات بجامعة عين شمس، ولم أجد له ترجمة.
ثانيًا: الكتاب
هو الكون والإعجاز العلمي للقرآن، عدد صفحاته 391.
وقد قسَّم المؤلف كتابه إلى ستة أبواب؛ تحدث في الباب الأول عن وجود الله ووحدانيته، وفي الباب الثاني عن دستور الكون ويقصد به نظام الكون، وتحدث في الباب الثالث عن المجموعة الشمسية، وفي الرابع عن كوكب الأرض، أما الباب الخامس فتحدث عن النجوم والمجرات، وفي الباب السادس والأخير عن الكونيات.
وقد أبدى المؤلف عجبه في مقدمة كتابه من المهاجرين للتفسير العلمي حاليًا بدعوى أن العلم يتغير، وهذه مغالطة؛ لأن العلم الصحيح لا يتغير؛ لأنه نتيجة لحقيقة ثابتة ثبوتًا قطعيًّا1.
والذي أعتقده أن المؤلف أخطأ الفَهْم هنا؛ فلا أحد ينكر أن "العلم الصحيح" لا يتغير؛ ولكن إلى أن يصل إلى هذه الدرجة لم يزل متغيرًا متقلبًا، وهو في هذه الحالة يسمى نظرية، وفي حالة الاستقرار الصحيح يسمى حقيقة علمية. فهل يعتقد المؤلف أن العلم في القرن العشرين وصل كله إلى درجة الحقيقة العلمية؟!
__________
1 الكون والإعجاز العلمي للقرآن: منصور حسب النبي ص8.(2/691)
لا أظن جوابه إيجابًا إذ هو يخالف الواقع، وإذا ما أجاب بالسلب قلنا: إن المهاجمين للتفسير العلمي يهاجمون الذين حشروا مؤلفاتهم بالعلم في درجته المتقلبة "النظرية"، وربطهم هذا المتأرجح يمنة ويسرة بالقرآن الكريم الثابت الراسخ.
وهو نفسه يتناول في تفسيره نظريات علمية لم تستقر، فهل يرى أو يعتقد ان هذا هو العلم الصحيح؟
اقرأ له عن حديثه عن المكان والزمان بين العلم والقرآن، وتأمل في لفظة "تعيين" التي يكررها وليست تقدير. قال مثلًا: "ولقد استخدم العلماء بعض المواد المشعة كاليورانيوم والكربون "14" لتعيين عمر الأرض وعمر الحياة على الأرض، كما استخدم العلماء ظاهرة تمدد الكون وإتساعه المتواصل لتعيين عمر الكون"1.
ثم انظر للجدول الذي وضعه للحوادث الكونية وزمنها، مع اعترافه بأنه زمن تقريبي، وأنه طبقًا لتصورات العلم الحديث؛ ومن هذه التواريخ التي ذكرها أن انفجار كرة الكون الأولية "البيضة الكونية" بيج بانج "!! " منذ 13 بليون سنة، وسلسل الأحداث إلى أن وصل إلى تكون الأرض بكتلتها الحالية منذ 4.5 بليون سنة. أما ظهور الإنسان في هذا الجدول منذ فترة تتراوح بين 11 و35 ألف سنة1.
العجيب حقًّا أن المؤلف يُورد هذا عند تناوله لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 2، وقوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون} 3.
ومرة أخرى يقول في تفسير آخر: "ويحتوي جوف الأرض على الحديد،
__________
1 الكون والإعجاز العلمي للقرآن: د/ منصور حسب النبي ص98، 99.
2 سورة البقرة: من الآية 189.
3 سورة الحج: من الآية 47.(2/692)
فلقد أثبتت جميع البحوث بأن لب الأرض مكون أساسًا من الحديد والنيكل، مصداقًا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 1.
ولقد ثبت فعلًا أن الحديد أحد العناصر التي توجد في الشمس بوفرة، وذلك بواسطة التحليل الطيفي الحديث، وبهذا يتضح دقة التعبير في الآية الكريمة في فعل "أنزلنا"؛ حيث نزل الحديد من الشمس إلى الأرض"2.
والكتاب مليء بالشواهد على ما ذكرنا، ومليء أيضًا -كتفسير الجواهر- بالصور العلمية، ويشترك مع ما سبق في الحكم، والله أعلم.
__________
1 سورة الحديد: من الآية 25.
2 الكون والإعجاز العلمي للقرآن: د/ منصور حسب النبي ص174.(2/693)
رابع: مع الطب في القرآن الكريم
...
رابعًا: مع الطب في القرآن الكريم
أولًا: المؤلف
اشترك في تأليف هذا الكتاب الدكتور عبد الحميد دياب والدكتور أحمد قرقوز.
ثانيًا: الكتاب
هو مع الطب في القرآن الكريم، صدرت الطبعة الأولى سنة 1400 في 208 صفحة.
والطريف أن هذا الكتاب أعدَّه المؤلفان لنيل إجازة دكتور في الطب وليس في التفسير.
ومع أن المؤلفين ينصان نصًّا: "إننا راعينا في البحث عدم تحميل الآيات القرآنية أكثر مما تحمل، وتجنبنا تطويعها للمعطيات العلمية، كما لم يكن البحث محاولة لتفسير الآيات القرآنية بنتائج العلوم الحديثة، إلا إذا كانت الآية قاطعة الدلالة، وكانت المعطيات العلمية حقائق ثابتة أيضًا"1.
إلا أنهما أحيانًا ينسيان هذا الالتزام؛ فيفسران الآية بما لا تدل عليه دلالة قاطعة بغض النظر عن كونه حقيقة أو نظرية علمية، نضرب لذلك مثلًا ما ذكراه عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} 2.
__________
1 مع الطب في القرآن الكريم: عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز ص12.
2 سورة النجم: الآيتين 45، 46.(2/694)
فقالا: "تحوي البيضة الملقحة التي سيتشكل منها الجنين 22 زوجًا من الصبغيات الجسمية مع زوج من الصبغيات الجنسية، وتأتي هذه الصبغيات من اجتماع بويضة الأنثى التي تحوي دائمًا "22 صبغي جمسي + الصبغ الجنسي x".
ومن نطفة الرجل التي تحوي "22 صبغي جسمي + صبغي جنسي إما x أو y"؛ لأن نصف نطاف الرجل تحوي الصبغي "x" ونصفها تحوي الصبغي "y". أما بويضة الامرأة فدائمًا تحمل الصبغي الجنسي "x"، فإذا اتحدت البيضة مع نطفة حاوية على الصبغى الجنسي "x" كان الجنين أنثى، وإذا اتحدث مع نطفة حاوية على الصبغى الجنسي "y" كان الجنين ذكرًا؛ أي حسب المعادلة:
نطفة "y" + "بويضة "x" = "x y" ذكر
نطفة "x" + بويضة "xx" = "x" أنثى
فنطاف الرجل إذًا هي المسئولة عن تحديد الجنس؛ لأنها تحمل الأشكال المتغايرة من الصبغيات الجنسية، وهذا ما ذكره قبل أربعة عشر قرنًا حين قال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} "1.
هذا ما قالاه، والحق أني لم أجد أي دلالة أو إشارة في الآية على هذا، فضلًا عن أن يكون له دلالة قاطعة، كما ذكرنا آنفًا.
ونذكر مثالًا آخر نحو هذا، ما قالاه عند تفسير قوله تعالى: {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} 2.
قالا: "العنب فاكهة واسعة الانتشار في العالم، وتشكل جزءًا أساسيًّا من راتب معظم السكان الغذائي، وأهم ما يميز هذه الفاكهة الطيبة هو احتواؤها على سكر العنب "غلوكوز" بنسبة عالية حتى سُمي باسمها، وسكر العنب هو شكل بسيط للسكاكر، تمتصه الأمعاء بسهولة كبيرة، ويدخل مباشرة في عمليات
__________
1 مع الطب في القرآن الكريم: دياب وقرقوز ص27.
2 سورة عبس: الآية 28.(2/695)
الاستقلاب دون تغير أو تحول؛ بل إن باقي السكاكر يلزمها أن تتحول إلى سكر عنب في الجسم؛ حتى يمكنه الاستفادة منها في تزويد الجسم بالطاقة والقدرة، ويشذ عن ذلك سكر الفواكه "فركتوز" الذي يمكنه ذلك"1.
وهذا القول -كسابقه- لم أجد في الآية دلالة عليه إلا من باب الدلالة التي يفهمها أولئك.
وكذلك لا ترد في القرآن كلمة الشمس مثلًا إلا ويذكر هؤلاء بُعدها وعرضها ومحيطها وحرارتها، ثم ينتقلون إلى الكواكب السيارة حولها وخصائص كل كوكب.
وأحيانًا ينصرف المؤلفان عن المعنى الحق المتبادر من الآية الواضح البيِّن إلى معنى آخر لا يدل عليه النص، خذ مثلًا قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} 2، كلنا نفهم مدلول هذه الآية المتبادر؛ وهو الحث على قراءة القرآن والتهجد به آخر الليل؛ لكنهما قالا معنى آخر؛ وهو أنه ترغيب بالنوم المبكر والاستيقاظ منذ الفجر، ثم ذكرا الفوائد الصحية للقيام المبكر من النوم، وأن من مزاياه ارتفاع نسبة غاز الأوزون في الجو عند الفجر3، وغير ذلك من فوائد الاستيقاظ المبكر، ولم يتعرضها لقراءة القرآن أو العبادة عامة من هذا الوقت، وهي المقصود الأول في الآية.
إضافة إلى هذا اشتمل الكتاب على لوحات توضيحية لأجزاء الإنسان، ومع هذا فإن في الكتاب -في أكثره- تفاسير علمية محمودة التزما فيها ما وعدا به في مقدمة الكتاب التزامًا يجعله في مقدمة المؤلفات العلمية المعتدلة في التفسير.
__________
1 مع الطب في القرآن الكريم: دياب وقرقوز ص161.
2 سورة الإسراء: من الآية 78.
3 مع الطب في القرآن الكريم: دياب وقرقوز ص108، 109.(2/696)
خامسًا: الإعجاز العددي للقرآن الكريم
أولًا: المؤلف
هو عبد الرزاق نوفل، وُلد سنة 1337 تقريبًا، وتُوفي في شهر شعبان سنة 1404هـ إثر نوبة قلبية مفاجئة في أعقاب مرضه بالملاريا.
وله عدد كبير من المؤلفات بغلت 68 كتابًا؛ ومنها:
1- الله والعلم الحديث1.
2- الإسلام والعلم الحديث.
3- القرآن والعلم الحديث.
4- المسلمون والعلم الحديث.
5- الإسلام دين ودنيا.
6- محمد رسولًا نبيًّا.
7- كيف ولماذا.
8- بين الدين والعلم.
9- القرآن والمجتمع الحديث.
10- بين يدي الله.
11- الرحمن الرحيم.
12- دين وفكر.
13- من الآيات العلمية.
14- الحياة الأخرى.
15- السماء وأهل السماء.
16- أسئلة حرجة.
17- يوم القيامة.
18- أسرار وعجب.
19- عالم الجن والملائكة.
20- الدعوة إلى الإسلام.
وله غير هذه المؤلفات كثير، وبنظرة سريعة على عناوين هذه الكتب ندرك الاتجاه العلمي الراسخ عند صاحبها رحمه الله تعالى.
__________
1 وهو أول كتاب صدر للأستاذ عبد الرزاق نوفل، عام 1957.(2/697)
ومن الطريف أن الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- يحذِّر من تفسير القرآن الكريم بأكمله تفسيرًا علميًّا، ويعد هذا من أخطر ما يمكن على التفسير، وعلل ذلك بأنه لا يمكن للفرد -مهما كانت طاقته ودرجة علمه- القيام بتفسير آيات القرآن كلها، فكيف يلم الإنسان منفردًا بكل ما تضمنه القرآن من علوم وإعجاز إلمامًا يجعله على درجة من العلم تمكِّنه من القيام بهذا العمل الضخم الجليل الخطير؟ 1، ولعله -رحمه الله تعالى- يرمز إلى الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله تعالى.
مع أن كتبه -ما ذكرنا منها وما لم نذكر- تطفح بالتفسير العلمي المحمود منه والمذموم، ومؤلفاته مليئة بالتفسير بالنظريات العلمية التي لم يستقر قرارها بعد، وسنعرض هنا لواحد من مؤلفاته.
ثانيًا: الكتاب
هو الإعجاز العددي للقرآن الكريم، ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، ولم يكن المؤلف عند إصداره الجزء الأول يقدر إصدار جزء ثانٍ؛ وإنما خطر له ذلك بعد صدور أوله. وتبلغ صفحات الكتاب بأجزائه الثلاثة 524 صفحة من الحجم الوسط.
ودراسة الأعداد في القرآن الكريم ظاهرة برزت في العصر الحديث سريعًا؛ فكتب عن العدد 19، ثم أدخل ما يسمى بـ"الكمبيوتر"؛ أي: الحاسب الآلي، وظهرت أعداد أخرى وأخرى.
ولن نعرض لهذه الدراسات المتشعبة؛ حتى لا يتشتت الذهن هنا، ونكتفي بذكر عنوان لمقالة نشرها الدكتور محمد أحمد أبو فراخ عنوانها: "بدعة الإعجاز الحسابي".
أما موضع بحثنا هنا -أعني: كتاب الأستاذ عبد الرزاق نوفل- فليس المقام هنا مقام دراسة موسعة؛ بل هو إشارة سريعة ليس إلا، وإذا كان الأمر كذلك
__________
1 بين الدين والعلم: عبد الرزاق نوفل ص65.(2/698)
فلن أشير إلى مواضع الحسن فيه؛ وإنما إلى جانب الآحر؛ إذ الأول هو الأصل في الدراسات القرآنية، وأما الثاني فهو الجسم الغريب الذي يجب التنبيه والتحذير منه.
خاصة إذا علمنا أن أرباب الإعجاز الحسابي يعترفون اعترافًا صريحًا إلى إن هذا الجهاز "الكمبيوتر" قد يعطي أعدادًا غير صحيحة، أو ترتكب في الجدول أخطاء مطبعية، وقد تأكد هذا لديهم في بعض السور وأعداد بعض الحروف1.
وهناك سبب آخر أهم وأخطر؛ وهو أن الدارس في هذا الفن يدفعه حرصه على إثبات هذا الإعجاز العددي إلى التمحل والتكلف في سبيل الوصول إلى أعداد متطابقة؛ فيعد مرة ما لا يُعد، ويحذف أخرى من غير سبب، ويتضح هذا بمثالين أذكرهما من موضع بحثنا كتاب الإعجاز العددي في القرآن.
خذ مثلًا ما ذكره أنه تكرر ذكر إبليس في القرآن الكريم 11 مرة فقط، وبنفس العدد -أي: 11 مرة- تكرر الأمر بالاستعاذة منه2.
وإذا نظرنا إلى لفظ الاستعاذة وجدنا المؤلف لا يورد منه إلا ما هو بلفظ "أعوذ" ولفظ "فاستعذ"، أما الألفاظ "عذت"، "ويعوذون"، "أعيذها"، "معاذ الله"، فإنه لا يعد شيئًا منها مع أن بعضها نص بالاستعاذة من الشيطان: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 3، فإن قلت: إنه نص على ما هو أمر بالاستعاذة من إبليس، قلت: إنه عد من الآيات ما ليست أمرًا بالاستعاذة منه: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 4، {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} 5، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} 6، فأين الأمر بالاستعاذة
__________
1 معجزة القرآن العددية: صدقي البيك ص23.
2 الإعجاز العددي للقرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل ج2 ص15.
3 سورة آل عمران: من الآية 36.
4 سورة البقرة: من الاية 67.
5 سورة هود: من الآية 47.
6 سورة مريم: من الآية 18.(2/699)
هنا؟ بل أين الاستعاذة من إبليس هنا؟ في الأولى استعاذ بالله من الجهل، وفي الثانية استعاذ به سبحانه من أن يسأل الله ما ليس له به علم، وفي الثالثة استعاذت بالله ممن تمثل لها بشرًا سويًّا قبل أن تعرفه.
وعلى هذا كله لا يستقيم له الأمر فيما ذكر؛ ولهذا يبدو التكلف واضحًا بينًا.
خذ مثالًا آخر، قال: ورد اليوم مفردًا 365 مرة بعدد أيام السنة1، وإذا ما نظرنا فيما جمع وجدناه لفظي "اليوم" و"يومًا" وترك "يومكم"، "يومهم"، "يومئذ"؛ لأنه لو فعل لاختلف الحساب والعد.
والأدعى من ذلك والأخطر أنه أدَّى به إلى أمر لا يُرتضَى ولا يصح بحال من الأحوال.
فقد أراد أن يظهر اتفاق عدد ذكر الرسل والأنبياء وعدد ذكر أسمائهم في القرآن؛ فقال: "بلغ عدد مرات ذكر الرسل ومشتقاتها في القرآن الكريم 368 مرة ... ولما كان النبي قد تكرر 75 مرة، والبشير تكرر 18 مرة، والنذير تكرر 57مرة، ومجموع ذلك 518"، ذكر أنه باستعراض عدد مرات ذكر أسماء الرسل والأنبياء والمبشرين والمنذرين نجد أنهم تكرروا بالأعداد التالية:
"موسى 136"، "إبراهيم 69"، "نوح 43"، "يوسف 27"، "لوط 27"، "عيسى 25"، وهكذا إلى أن ذكر: "ناقة الله 7"!!
وبهذا فقط تساوى مجموع ذكر الرسل والنبيين والمبشرين والمنذرين بعدد مرات ذكر أسمائهم تمامًا2؟!
ولا شك أن عدَّه لناقة الله مع أسماء الأنباء تمحل لا يُقبل منه ولا من غيره أبدًا، وما ألجأه إلى ذلك في هذا الموضع وفي مواضع أخرى كثيرة إلا الفتنة بحب الجديد على العقول والأذهان.
__________
1 الإعجاز العددي للقرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل ج3 ص168، 169.
2 الإعجاز العددي في القرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل ج3 ص149-153.(2/700)
بقي أن أقول: إن هذا الإعجاز ما زال بحرًا مظلمًا فيه فجوات وفيه مهلكات، فالحذر الحذر من أن تقودنا العاطفة إلى المهالك، لست أشك في سلامة قصد عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- ولكن هذا شيء والخطأ والصواب والتحذير منه شيء آخر، غفر الله له، ورحمه جزاء نيته، ولنحذر أن نقع في مثل هذه الأمور حتى تنبلج الحقيقة، ويشرق ضوؤها؛ وحينئذ فليتجه إليها المؤمنون، فهي ضالتهم، ومَن اتبع الأوهام وقع في المهالك.(2/701)
رأيي في هذه المؤلفات:
أُورد هنا خلاصة رأيي في هذه المؤلفات مجموعة: أما الرأي الذي اخترته في التفسير العلمي التجريبي عامة فقد سلف بيانه؛ وإنما قدمته على ما ذكرته من هذه التفاسير؛ حتى يعرف القارئ موقفي من الرفض والقبول لكل ما أنقله من نصوصها.
وإنما أذكر أخيرًا رأيي في هذه المؤلفات العلمية مجتمعة، وهو رأي لا أطيل بيانه أكثر مما أطلت.
وبنظرة عجلى على هذه المؤلفات لمن أراد أن يتصفحها يدرك أننا بحاجة في هذا العصر لمؤلَّف في التفسير العلمي التجريبي، تؤلفه مجموعة من العلماء في الشريعة وفي التفسير وفي اللغة وفي العلوم الحديثة، يجتمعون ويقررون ما يوافق الحقائق القرآنية ذات الدلالة الصريحة، ويضمون إليها الحقائق العلمية الثابتة التي قرَّ قرارها وأمن ثبوت زيفها وبطلانها، يثبتونه لا على أن تفسير؛ وإنما كشاهد وزيادة بيان لمعاني الآية ومدلولاتها.
وإنما ألجأني إلى هذا أني نظرت إلى هذه المؤلفات الموجودة فوجدتها إما لعالم في الشريعة يخطئ في العلوم الحديثة فيثبت ما لم يثبت، وإما لعالم في العلوم الحديثة يجهل أصول التفسير ولا يدري من أمرها شيئًا؛ فيحمل الآية ما لا تحتمل، ويوجهها إلى ما لا تتجه إليه.
حذرًا من هذا وخشية من ذاك، اتجهتُ إلى هذا الاقتراح، ولعل الله يهيئ لهذه الأمة مَن يحققه، إنه سميع مجيب.(2/702)
الباب الثالث: منهج المدرسة الاجتماعية الحديثة في التفسير
تمهيد 1:
كأني بك تنظر إليَّ مندهشًا، وتحدق بي متعجبًا، وألمح على شفتيك سؤالًا؛ بل أسئلة تزاحمت في الظهور، فلم يُتح الزحام لها سبيلًا للخروج؛ فانعكست بين ثنايا وجهك معلنة عن معناها! قرأت منها فيما قرأت:
أليس الإسلام هو دين العقل؟ هل جاء في الإسلام ما يخالف العقل، أو جاء العقل بما يبطل شيئًا من الإسلام؟ إذًا فكيف تضع للعقل منهجًا في التفسير؟ هل المناهج الأخرى مجردة من العقل؟ أوليس أصحاب بعضها هم العقلاء؟ إذًا فكيف يكون المنهج هنا هو الموسوم بالعقل وهو هناك مجرد منه؟!
أسئلة كثيرة مدارها العقل والتفسير ومنهج الإسلام، فيها قطعت استرسالي في قراءتها لأربت على كتف صاحبها قائلًا: على مهلك وعلى رَسْلك، لا أظنك أول مَن شكك بين هذا المنهج وصفته، فلا يلزم إذًا ما اتصفت طائفة بصفة اتصافها بها حقيقة، كما لا يلزم من تجرد اسمها من هذه الصفة خلوها منها، في المؤلفات العلمية إذا لم يطابق العنوان محتوى الكتاب وصفوه -حديثًا- بأنه من خداع
__________
1 كنت أود أن أستغني عن هذا الباب بكتابي "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير"؛ لولا أني أحببت وفاء هذه الدراسة بالمناهج والاتجاهات في القرن الرابع عشر؛ فكتبت ما كتبت في هذا الباب ملخصًا في غالبه من ذاك، ومن أراد التوسع فقد أشرت إلى سبيله.(2/705)
العناوين، قس على هذا -إن شئت- الملل والنحل والمذاهب والمناهج، فكثيرًا من هذه وتلك لا صلة لها بأسمائها ... خذ مثلًا المعتزلة في العصر القديم، يسمون أنفسهم أهل التوحيد!
وهل التوحيد الحقيقي يعترف بتعدد الخالقين وأن كل إنسان يخلق فعله، أم هو الاعتراف بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء؟! خذ مثلًا آخر، الشيعة يزعمون حب علي ونصرته، وهل يكون حب أحد يفعل ما يكره ويذم؛ بل بغير الاقتداء بفعله؟! خذ مثلًا الخوارج، يصفون أنفسهم بأنهم "الشراة"، يزعمون أنهم اشتروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وهل شراؤها يكون بقتال علي رضي الله عنه وأرضاه؟!
وخذ مثلًا النصارى، يزعمون أنهم "مسيحيون"، فهل المسيح قال: اتخذوني وأمي إلهين؟! حاشى وكلا؛ إذًا فليسوا هم بمسيحيين.
وهل أضرب لك مثلًا بالمبادئ والملل في العصر الحديث؛ كالبعثية التي تنكر البعث، وغيرها وغيرها.
إذًا فلا يلزم من رفع الشعار الدلالة على الالتزام، فكم من راية رفعها أعداؤها، ناهيك عن هذه الأزمة التي تلونت المذاهب فيها تلون الحرباء، فلا تعرف المقبل منها من المدبر إن لم يخصك الله بنور إيماني تتبين به المحجة البيضاء؛ فلا تزيغ عنها فتهلك.
ثم أربت على كتفك مرة أخرى، لن تعرف المنهج العقلي ولن نعرفه حقًّا حتى تعرف ونعرف مدلول العقل ومعناه ومداركه ومجالاته ومنزلته في الإسلام ومكانته، لا أريد أن أجعل البحث هنا مبحثًا كلاميًّا جدليًّا؛ ولكنها مقدمة لَا بُدَّ منها، وباب لَا بُدَّ من الولوج منه؛ لنصل إلى المراد، فلنأتِ البيوت إذًا من أبوابها.(2/706)
المراد به:
وما علينا أن يقول غيرنا في تعريفه ما يقولون، وكتاب الله بين أيدينا، الذي هو عصمة أمرنا، وبه نجاتنا، وبالعمل به فلاحنا، فلنأخذ من مَعِينِهِ، ولنبحث فيه -وهو الكتاب الذي لا يخالفه العقل ولا ينقضه- عن معنى العقل ومدلوله وعمله؛ إذًا فلنعرف العقل في القرآن الكريم.(2/706)
العقل في القرآن:
من المعلوم أن العقل ينقسم إلى قسمين:
1- عقل غريزي: يهبه الله لمن يشاء من عباده فيُسمى عاقلًا، ويسلبه عمن يشاء فيُسمى مجنونًا وتسقط عنه التكاليف، فهو -إذًا- مناط التكليف، والحق أن الناس تتفاوت درجاتهم في هذا العقل بين المعدم منه كالمجنون ثم المعتوه، وهكذا إلى مَن به خفة، إلى أن يصلوا إلى درجة العقلاء؛ إذًا فهم فيه متفاوتون، خلافًا للأشاعرة والمعتزلة الذين قالوا: إن العقل لا يختلف؛ لأنه حجة عامة يرجع إليها الناس عند اختلافهم، ولو تفاوتت العقول لما كان كذلك1، ولا يمنع هذا الذي قالوه تفاوت عقول الناس؛ لأن التكاليف على قدر العقول، وإلا فما معنى أن يسقط التكليف عن المجنون وغير ذلك؛ لكن الذي ينبغي أن نقوله: إن هذا العقل هبة من الله ينعم بها على مَن يشاء مِن عباده.
2- عقل مكتسب: والمراد به العلم والفَهْم؛ بل هو عمل ونتاج العقل الغريزي، ومتولد منه، ولا ثمرة ولا فائدة للعقل الغريزي إن لم يكن عقلًا متحركًا منتجًا، وهذا العقل هو الذي خصَّه القرآن الكريم بالخطاب، قال الراغب في مفرداته: "كل موضع ذم الله الكفار بعدم العقل فإشارة إلى الثاني دون الأول: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} إلى قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2، ونحو ذلك من الآيات، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى الأول"3.
فلننظر بعد هذا قول علماء التفسير ذلكم قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن
__________
1 شرح الكوكب المنير: لأبي البقاء محمد بن شهاب الدين الفتوحي ص25.
2 سورة البقرة: الآية 171.
3 المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني ص346.(2/707)
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون} 1، فإنا سنجدهم يتفقون على أن معنى "عقلوه" فهموه وضبطوه بعقولهم2. وهكذا سائر الآيات التي جاء بها ذكر العقل، نجدها كلها تدور حول معنى العلم والفَهْم والإدراك والتدبر، وبهذا ندرك أن المقصود من العقل في القرآن الكريم هو العلم والفَهْم.
ومما يزيد الأمر وضوحًا أن أكثر آيات القرآن الكريم جاءت على وجهين متقابلين3:
الوجه الأول: آيات تنعى على أولئك الذين لا يعلمون عقولهم التي وهبهم الله إياها، وأنعم بها عليهم؛ فعطلوها عن عملها الذي خلقها الله له، وأنقادوا لشهواتهم ورغباتهم؛ فأصبحوا كمن لا عقل له؛ بل هم أضل.
الوجه الثاني: ويقابل ذلك النعي على أولئك دعوة مَن استعمل عقله إلى إعماله على الوجه الأمثل حسب إرشاد القرآن الكريم وتوجيهاته، وتوجيه أعماله وتفكيره وتدبره لما فيه الخير والصلاح، وإلا صار وبالًا على صاحبه وعلى مجتمعه.
إذًا، فالمقصود فيما نرى بالعقل في القرآن الكريم العقل المكتسب الناشئ عن حركة العقل الغريزي، حركة يدرك بها الحق، ويعمل به، وينقاد إليه، ويفهم بها الباطل؛ فيحذره ويجتنبه، مسترشدًا بهذا وذاك بدليل الوحي، وبدون هذه الحركة فإن العقل الغريزي لا أثر له إلا كونه حُجة على صاحبه يوم القيامة.
فالقرآن إذًا إنما يستثير فينا تحريك العقل؛ حتى يؤدي عمله، وعمله الفقه
__________
1 سورة البقرة: الآية 75.
2 انظر: تفسير ابن كثير ج1 ص118، وتفسير الشوكاني "فتح القدير" ج1 ص102، وتفسير أبي السعود ج1 ص116، وتفسير الخازن ج1 ص60، وتفسير القاسمي ج2 ص166، والتفسير الوسيط ص116.
3 العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام: رسالة قيمة أعدَّها لنيل درجة الماجستير الشيخ عبد الرحمن بن زيد الزنيدي ص46.(2/708)
والتفكر والتذكر والتدبر؛ ولهذا فإنا نرى القرآن الكريم يحث أحيانًا كثيرة على نتاج العقل؛ إذ هو المراد وهو المقصود؛ ولذلك نرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: "فالعقل لا يُسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم؛ بل إنما يُسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم؛ ولهذا قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 3.
لا أريد أن أقول: إن هذا هو العقل بكل إطلاقاته، فلا ماشحة في الاصطلاح؛ ولكن أريد أن أقول: هذا ما أحسبه المراد بالعقل في القرآن الكريم، وهذا هو العقل الذي يخاطبه ويوجه إليه أوامره كتابُ الله، ومن حُرِمَ منه فقد حُرِمَ، أما من حُرِمَ الأول -أعني: الغريزي- فهو غير مكلف، وبالتبع غير مخاطب، جعلنا الله وإياكم ممن يسمعون كلامه فيعقلونه.
__________
1 سورة الملك: من الآية 10.
2 سورة الحج: من الآية 46.
3 رسالة في العقل والروح: لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية ج2 ص34.(2/709)
مكانة العقل في الإسلام:
وللعقل بعد هذا في الإسلام منزلة كبيرة ودرجة رفيعة، يتبوأ فيها ويتفيأ ظلالها، فليس ثمة عقيدة تحترم العقل الإنساني وتعتمد عليه في ترسيخها كالعقيدة الإسلامية، وليس ثمة كتاب خاطب العقل وغالَى بقيمته وكرامته ككتاب الإسلام، ونظرة إلى آيات القرآن الكريم تلقى عبارات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} {لِقَوْمٍ يَفْقَهُون} تتكرر عشرات المرات، مؤكدة المنهج القرآني الفريد في الاقتناع العقلي للإيمان، كل هذا يؤكد ما للعقل من منزلة كبرى في الإسلام.
وإذا ما ذهبت تلتمس مظاهر أخرى عديدة لتكريم الإسلام للعقل برزت لك جوانب مشرقة؛ أذكر منها:(2/709)
أولًا: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي: وتظهر سمات ذلك بأساليب شتى؛ مثل:
1- الدعوة إلى التفكر والتدبر في كتابه {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، ثم يستثير العقل الإنساني متحديًا له أن يأتي بمثل هذه القرآن، حتى إذا ما عجز سلَّم مقتنعًا بأنه من عند الله {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} 2، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 3.
ودعا العقل إلى التدبر في مخلوقات الله {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} 4، ثم يستثيره مرة أخرى أن يجد خللًا في شيء منها حتى إذا ما عجز زاد تسليمًا واقتناعًا {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير} 5.
ودعاه إلى التدبر في تشريعاته، ففيها عبرة وفيها إعجاز {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 6.
ودعاه إلى التدبر والنظر في أحوال الأمة الماضية وعاقبة معاصيهم التي أصروا عليها {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 7، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ
__________
1 سورة ص: آية 29.
2 سورة هود: آية 13.
3 سورة الطور: آية 34.
4 سورة الروم: آية 8.
5 سورة الملك: آية 3، 4.
6 سورة البقرة: آية 179.
7 سورة الأنعام: آية 11.(2/710)
وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين} 1.
ودعاه إلى التدبر والنظر والتأمل في هذه الحياة الدنيا ونعيمها الزائل {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} 2.
هذه بعض مظاهر التأمل التي دعا القرآنُ العقلَ إليها، وهو حين يدعوه إلى ذلك لا يريد منه أن يقف عند حدود التأمل والنظر، فليس ذلك بمراد لذاته؛ وإنما ليعبر منه إلى ثمرته وفائدته؛ فيقوِّم به عقيدته، ويرسي أركانها، ويثبت قواعدها ثباتًا لا تزعزعه هبات؛ بل رياح الشهوات؛ وحينئذ يكون الفلاح، وحينئذ يكون الإيمان الحق؛ ذلكم هو المراد وهو الهدف؛ لكنه ليس هو نهاية المطاف.
ثانيًا: وحين يصل القرآنُ بالعقل إلى هذه الدرجة فإنه لا يدعه هملًا؛ بل وجه طاقته إلى هدف آخر أوسع رُقعة وأعظم نتيجة؛ تلكم هي مراقبة الحياة الاجتماعية مراقبة إصلاح وتوجيه لما فيه فلاحها وسعادتها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3.
وليست هذه المهمة لإصلاح المجتمع مسئولية المجتمع كله فحسب؛ بل هي مسئولية كل فرد فيه، فلا قيمة للصلاح إذا اقتصر على إصلاح الذات ولم يتسع لإصلاح الآخرين مع القدرة على ذلك {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 4، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 5.
__________
1 سورة الأنعام: آية 6.
2 سورة الكهف: آية 45.
3 سورة آل عمران: آية 104.
4 سورة الأنفال: آية 25.
5 سورة المائدة: الآيتين 78، 79.(2/711)
ثالثًا: والقرآن حين يدعو إلى الإيمان ينعى على المقلدين الذين لا يُعملون عقولهم، ويتبعون نظريات واهية وآراء زائفة، لا لشيء إلا لأنهم ألفوا آباءهم عليها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 1، وحذر من هذا السلوك، وأن يتبع الإنسان ما ليس له به علم {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 2.
رابعًا: وكرَّمه ودعاه إلى العلم، وطلبه وقرن سبحانه ذِكْرَ أولي العلم بذِكْرِه عز وجل وذِكْرِ ملائكته {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.
وجعل العلم مشاعًا؛ لأنه غذاء العقل، ولعن أولئك الذين يحتكرونه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 4.
خامسًا: وكرَّمه فأسند إليه استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
سادسًا: وتوَّج تكريمه له بالأمر بالمحافظة عليه، وتحريم كل ما يغطي فعله وأثره، فضلًا عما يزيله؛ فحرم شرب الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 5، وجعل فيه الدية كاملة على مَن تسبب في إزالته عن آخره6.
__________
1 سورة البقرة: الآية 170.
2 سورة الإسراء: الآية 36.
3 سورة آل عمران: الآية 18.
4 سورة البقرة: الآيتين 159، 160.
5 سورة المائدة: من الآية 90.
6 انظر: المغني: لابن قدامة ج8 ص37.(2/712)
لكن الإسلام مع هذا التكريم كله وهذا الاهتمام حَدَّ للعقل حدودًا، هي كل ما يستطيع تبيينه، وحذره من الولوج فيما لا يستطيع إدراكه؛ خشية عليه، وحرصًا على سلامته حتى لا يضل، وكيف له وهو المخلوق أن يدرك ذات الخالق؟! بل أنَّى له أن يدرك كل المخلوقات؟! فليؤمن بما استطاع إدراكه، وليبني على ما أدرك ما لم يدرك، وما أعظمها من شفقة حين قال عليه الصلاة والسلام: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خَلَقَ الله الخَلْق فمن خَلَقَ الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا؛ فليقل: آمنت بالله" 1.
وما أعظمه من توجيه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 2، صرف الجواب عن ماهيتها؛ لأنه ليس من شئون العقل ولا من مداركه.
توجيه وشفقه هما التوجيه السديد حتى لا يتيه العقل فيما ليس من دركه، وليس من طاقته، وهما لا شك تكريم وأي تكريم.
ولذا، كذا الصحابة -رضي الله عنهم- لا يخوضون فيما لا يستطيعون دركه ومعرفته؛ فهذا عمر -رضي الله عنه- يقرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 3، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر4.
وليس هذا من عمر بالتسليم الأعمى -كما يعبر عنه- أو بمطلق التقليد؛ بل هو وقوف منه عند حد المعرفة، وإعراض عما زاد عنها مما هو تكلف، فهو وغيره يعرف أن "أبًّا" نبت يخرج من الأرض؛ بدليل سياق الآيات {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا} 4 الآيات.
__________
1 رواه مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص119.
2 سورة الإسراء: من الآية 85.
3 سورة عبس: الآية 31.
4 مجموع فتاوى ابن تيمية ج13 ص372.(2/713)
والأمثلة على وقوف السلف عند حدود المعرفة الواجبة وتَرْك التكلف فيما بعد ذلك كثيرة.
وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام، عرفوا ما للعقل فدرسوه، وما ليس له فاجتنبوه؛ بل اجتنبوا مَن عُرف بالأهواء والسؤال عن المتشابه، فهذا "صبيغ بن عسل" جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قَدِمَ مصر؛ فبعث عمرو بن العاص به إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ أبصر لا يكون ذهب فتصيبك مني العقوبة الوجيعة، فأتى به؛ فقال عمر: سبيل محدثة؛ فضربه وأعاده إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: ألا يجالسه أحد من المسلمين، قال أبو عثمان النهدي: فلو جاءنا ونحن مائة لتفرقنا عنه1.
ثم لم تزل هذه الأمور تتسع حتى تكلم معبد بن خالد الجهني في القَدَر، فقال: "لا قَدَر والأمر أُنُف"2، وقد أخذ عن معبد هذا غيلان الدمشقي3 -الذي نشره بين المسلمين، وقُتل من أجله- وقد أنكر عليهم مذهبهم هذا مَن كانه حيًّا من الصحابة؛ كعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني4.
وأساس مذهب القدرية إنكار القدر، وأن للإنسان الحرية المطلقة في أفعاله، لا سلطان لأحد على إرادته.
وفي مقابل هؤلاء نشأت فرقة أخرى تقول بأن الإنسان مجبور على الفعل، لا اختيار له ولا قدرة؛ كالريشة في الهواء، وتعددت الفِرَق بعد هذا وافترقت.
__________
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر: هذَّبه عبد القادر بن أحمد الدومي المعروف بابن بدران ج6 ص385.
2 تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: لابن عساكر الدمشقي ص10.
3 تهذيب التهذيب: ابن حجر ج1 ص236.
4 الفَرْق بين الفِرَق: عبد القاهر البغدادي ص15.(2/714)
ولم تزل العلوم العقلية بعد هذا تنمو وتتسع متوازنة مع توسع الفتوحات الإسلامية، ومع دخول الناس على اختلاف مشاربهم، وتعدد منازعهم، وتنوع رغباتهم وحقائقهم في الإسلام، اتسعت هذه العلوم؛ فترجمت العلوم إلى العربية، وأقبلوا بصفة خاصة على الفلسفة اليونانية؛ لحاجتهم إليها في الجدل والمناظرة؛ فتجاوز الحديث عن المنطق أدناه إلى الحديث عن حدوده وقضاياه وأقيسته، فظهرت في المؤلفات عبارات واصطلاحات ومدلولات لم يكن لها سابق وجود؛ فتحدثوا عن العرض والهيولى والجوهر والصورة والقياس والقضايا السالبة والموجبة.
ومن الطريف أن العقل نفسه لم يسلم من هذا التنازع؛ فتنازعت فيه طوائف؛ طائفة تمجده وترفع من مقامه إلى درجة تقديسه، وإعطائه أكثر من حقه، وعُرف هؤلاء بالمعتزلة؛ ولهذا سماهم بعض المستشرقين بـ"العقليين"1 أو المدرسة العقلية الأُولَى.
وفي مقابل هؤلاء ذهبت طائفة إلى احتقار العقل وامتهانه، واعتقدوا في بعض البله والمجانين، وزعموا أنهم أولياء، وفضلوهم على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم2.
ولكل مِن هؤلاء وأولئك شبهات وضلالات، والحق وسط بينهما، تجاوزه الأولون فضلوا، وقصر دونه الآخرون فضلوا، واستقر السلف وما زالوا على عرشه فاهتدوا وما زالوا مهتدين.
__________
1 ضحى الإسلام: أحمد أمين ج3 ص89.
2 شرح العقيدة الطحاوية: علي بن علي بن أبي العز الحنفي ص573.(2/715)
نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة:
كانت هذه صورة عن بعد للموقف من العقل في ضحى الإسلام؛ لكنها لم تلبث أن هدأت -إن لم تكن خمدت- تبعًا للشعوب الإسلامية التي أنهكتها الحروب الصليبية وهجمات التتار والمآسي والنكبات التي مر بها العالم الإسلامي،(2/715)
التي أسلمته إلى فترة البيات -وليس بياتًا شتويًّا؛ وإنما بيات طويل- أخلد فيها العالم الإسلامي إلى الدعة، وآثر السكون والخمول.
فتداعت عليه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها؛ فأكلوا منه وشربوا وراحوا يقتسمون البلاد ويستخرجون ثرواتها وأهلها نائمون.
وأمست البلاد الإسلامية كافة تحت سيطرة البلاد الأوربية التي استغلت خيراتها وثرواتها، وكان أن استيقظ نفر على هذا الضجيج الحضاري؛ فكانوا تمامًا كنفر ناموا حقيقة، ثم وقع على رءوسهم وهم نائمون جلبة وضوضاء مفزعة؛ فقامت طائفة مضطربة تقفز يمنةً ويسرةً على غير هدى، وتتكلم بكلام هو وليد دهشتها ورعبها، وقامت طائفة أخرى بهدوء وسكينة؛ فهللوا وكبروا وذكروا الله فأنزل الله على قلوبهم السكينة.
ولم تزل الطائفة الثالثة نائمة لم تشعر بشيء، وأنَّى لهم؟! تلكم الطوائف الثلاث هي واقع المسلمين -فيما أحسبه- في نهضتهم الحديثة قامت طائفة -كما قام الأولون- مندهشين مبهورين فزعين مضطربين، يدعون إلى الحضارة الغربية دعوة
عمياء، وينعقون بما لا يفهمون أو بما يفهمون ولا يعقلون، وقام الآخرون فنظروا بعيون بصيرة وقلوب مطمئنة فاختاروا السبيل السوي ودعوا إليه، ولم تزل الطائفة النائمة تغط في سبات عميق.
أما العدو الصائل فقد أعد للأمر عُدته؛ فأقصى أصحاب الثقافة الدينية أصحاب القلوب المطمئنة عن ميادين الإصلاح الاجتماعي، وحصر وظائفهم في المساجد التي قَلَّ روادها عمومًا، وسلم المضطربين الفزعين الوظائف الحكومية وأدوات التوجيه الاجتماعي؛ فكانوا لا يسيرونها إلا بوحي وتوجيه منه وكان المراد!! وأبقى على النائمين نومهم.
فكان للاستعمار -بل الاستهدام إن صح التعبير- السيطرة على أجهزة التعليم في كثير من البلاد الإسلامية، فضلًا عن جهوده الدائبة لنشر التغريب واللادينية بكل الوسائل الممكنة، وأوهموا الناس أن حالة العالم الإسلامي تمامًا كحالة أوربا في العصور الوسطى، وأنه لن ينهض إلا بما نهضت به أوربا من(2/716)
فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية ومن ... ومن ... ومن ... وبذلك يتحقق له ما تحقق للأوربيين.
ودهش علماء المسلمين دهشة وأي دهشة، وأنَّى يسمع لهم صوت وسط هذا الضجيج! وأنَّى يسمع لهم صوت وأفواههم مكممة!! ونادوا بقدر ما يستطيعون، وذهبوا يردون على تلك الأفكار والمذاهب بأساليب وطرق شتى.
وحاولت فئة منهم التقريب والتوفيق بين العلم والدين، وبينت للناس أن الدين الإسلامي الحق لا يحارب العلم الصحيح، ولا ينافي العقل الصريح، وبينت للناس أن الإسلام دين العقل والحرية والفكر، وذهبت تبين لهم ذلك المنهج، وتقيم الدين الإسلامي على العقل -الذي لا يقر أرباب الثقافة الغربية غيره حَكَمًا- وبينت أن ليس في الإسلام ما لا يقره العقل، وحاولت أن تفسر القرآن الكريم على هذا المنهج وهذا الأساس؛ فكانت بحق المدرسة العقلية الاجتماعية.
وكان لهذه المدرسة رجال، وكان لها مفسرون لهم نشاط واسع في: نشر هذه الثقافة، ومكافحة الاستعمار، ومقاومة الهجوم على الدين عامة والدين الإسلامي خاصة، وإلقاء تبعة التخلف الحضاري عليه.
وكان من رجال هذه المدرسة المؤسسين لها جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، وتلاميذه: محمد مصطفى المراغي، ومحمد رشيد رضا، وغير هؤلاء كثير.
وسميت حركتهم هذه بالنهضة الإصلاحية، وكان لها جوانب إصلاحية محمودة، وكان لها بجانب هذا شطحات ما كانوا ليقعوا فيها لولا تطرفهم في تحكيم العقل في كل الأمور؛ حتى جاوزوا الحق والصواب في أمور لا تَخْفَى.
والمتمعن في طريقتهم في التفسير يجد أسسًا واضحة بيِّنة يقوم عليها تفسيرهم ويرتكز، وهذا أوان بيان هذه الأسس.(2/717)
منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير
الأساس الأول: الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم
...
منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير:
يقوم منهج التفسير لدى المدرسة العقلية الاجتماعية على أسس متعددة، ولئن كان لا يسعنا أن نطيل الحديث في بيانها فإنه لا يسعنا أن نوجزه إيجازًا مخلًّا، فليكن أمرنا فيه وسطًا بين هذا وذاك، والأسس التي استطعت أن أضبطها هي:
الأساس الأول: الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم
وقد أيد كثير من علماء السلف الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم؛ ومنهم ابن العربي الذي قال: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم"1.
وقال ولي الدين الملوي ردًّا على مَن أنكر الوَحْدَة الموضوعية: "قد وهم مَن قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة"، إلى أن قال: "والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له"2.
ومال رجال المدرسة العقلية الاجتماعية إلى هذا الرأي فقالوا بالوَحْدَة الموضوعية في سور القرآن الكريم، وعدوه أساسًا في فَهْم القرآن الكريم، فقال محمد رشيد رضا: "مَن نظر في ترتيب السور كلها في المصحف يرى أنه قد رُوعي في ترتيبها الطول والتوسط والقصر في الجملة، ومن حكمته أن في ذلك عونًا على تلاوته وحفظه، فالناس يبدءون بقراءته من أوله فيكون الانتقال من السبع الطوال إلى المئين فالمثاني فالمفصل أنفى للملل وأدعى إلى النشاط، ويبدءون بحفظه من آخره؛ لأن ذلك أسهل على الأطفال؛ ولكن في كل قسم من الطول والمئين والمفصل تقديمًا لسور قصيرة على سور أطول منها، ومن حكمة
__________
1 الاتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص108، والبرهان: للزركشي ج1 ص36.
2 الإتقان: السيوطي ج2 ص108.(2/718)
ذلك أنه قد رُوعي التناسب في معاني السور مع التناسب في الصور؛ أي: مقدار الطول والقصر"1.
ثم تحدث -رحمه الله تعالى- عن التناسب بين سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام، أما الفاتحة فلم يراعِ مناسبتها لما بعدها وحده؛ إذ هي فاتحة القرآن كله، فقال عن المناسبة بين هذه السور: "سورة البقرة أجمع سور القرآن لأصول الإسلام وفروعه، ففيها بيان التوحيد، والبعث، والرسالة العامة والخاصة، وأركان الإسلام العملية، وبيان الخَلْق والتكوين، وبيان أحوال أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في دعوة القرآن، ومحاجة الجميع، وبيان أحكام المعاملات المالية والقتال والزوجية، والسور الطوال التي بعدها متممة لما فيها؛ فالثلاث الأولى منها مفصلة لكل ما يتعلق بأهل الكتاب؛ ولكن البقرة أطالت في محاجة اليهود خاصة، وسورة آل عمران أطالت في محاجة النصارى في نصها الأول، وسورة النساء حاجتهم في أواخرها، واشتملت في أثنائها على بيان شئون المنافقين مما أُجمل في سورة البقرة، ثم أتمت سورة المائدة محاجة اليهود والنصارى فيما يشتركان فيه، وفيما ينفرد كل منهما به.
ولما كان أمر العقائد هم الأهم المقدَّم في الدين، وكان شأن أهل الكتاب فيه أعظم من شأن المشركين؛ قدمت السور المشتملة على محاجتهم بالتفصيل، وناسب أن يجيء بعدها ما فيه محاجة المشركين بالتفصيل؛ وتلك سورة الأنعام، لم تستوفِ ذلك سورة مثلها، فهي متممة لشرح ما في سورة البقرة مما يتعلق بالعقائد، وجاءت سورة الأعراف بعدها متممة لما فيها ومبينة لسنن الله تعالى في الأنبياء المرسلين وشئون أممهم معهم، وهي حجة على المشركين وأهل الكتاب جميعًا؛ ولكن سورة الأنعام فصَّلت الكلام في إبراهيم الذي ينتمي إليه العرب وأهل الكتاب في النَّسَب والدين، وسورة الأعراف فصَّلت الكلام في موسى الذي ينتمي إليه أهل الكتاب، ويتبع شريعته جميع أنبيائهم حتى عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام.
ولما تم بهذه السورة تفصيل ما أُجمل في سورة البقرة من العقائد في
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص287.(2/719)
الإلهيات والنبوات والبعث، ناسب أن يذكر بعدها ما يتم ما أجمل فيها من الأحكام، ولا سيما أحكام القتال والمنافقين، وكان قد فصَّل بعض التفصيل في سورة النساء؛ فكانت سورتا الأنفال والتوبة هما المفصلتين لذلك، وبهما يتم ثلث القرآن"1.
وقال ايضًا بهذا القول من رجال المدرسة العقلية الاجتماعية محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- فقال: "إن جميع ما في القرآن، وإن اختلفت أماكنه، وتعددت سوره وأحكامه؛ فهو وَحْدَة عامة، لا يصح تفريقه في العمل، ولا الأخذ ببعضه دون البعض"2.
ولتأكيد الوَحْدَة الموضوعية بين سور القرآن الكريم نرى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية يوازنون بين التفاسير؛ فيختارون منها ما يرونه ملتئمًا مع السياق؛ ولهذا فلربما استعرضوا آراء المفسرين السابقين في تفسير آية أو كلمة قرآنية ورفضوها لمخالفتها لهذا الأساس؛ فالإمام محمد عبده -رحمه الله تعالى- مثلًا عند تفسيره لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 3 يستعرض آراء المفسرين، ثم يقول بعد ذلك: "هذا تقرير ما جرى عليه المفسرون في الآيات، وإذا وازنا بين سياق آية {مَا نَنْسَخْ} وآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} 4 نجد أن الأولى ختمت بقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} 3، والثانية بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} 4، ونحن نعلم شدة العناية في أسلوب القرآن بمراعاة هذه المناسبات، فذكر العلم والتنزيل ودعوى الافتراء في الآية الثانية يقتضي أن يُراد بالآيات فيها آيات الأحكام، وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضوع الأحكام ونسخها؛ وإنما يناسب هذا ذكر العلم
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص288، 289.
2 الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت ص487.
3 سورة البقرة: الآية 106.
4 سورة النحل: من الآية 101.(2/720)
والحكمة فلو قال: "ألم تعلم أن الله عليم حكيم" لكان لنا أن نقول: إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة، وقد تحير العلماء في فَهْم الإنساء على الوجه الذي ذكروه؛ حتى قال بعضهم: إن معنى "ننسها" نتركها على ما هي عليه من غير نسخ، وأنت ترى أن هذا -وإن صح لغة- لا يلتئم مع تفسيرها؛ إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة.
"قال"1: والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره أن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم؛ أي: "ما ننسخ من آية" نقيمها دليلًا على نبوة من الأنبياء؛ أي: نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة أو مثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسَعَة ملكه فلا يتقيد بآية مخصوصة يمنحها جميع أنبيائه"2.
وانطلاقًا من هذا الأساس لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، فإنا نرى الأستاذ محمد عبده يرفض تحديد "فجر" بعينه أو "ليال عشر" بعينها من قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 3؛ بل هما مطلقان، والعلة في ذلك الوَحْدَة الموضوعية في آيات القرآن الكريم.
قال: "كثر خلاف المفسرين والرواة في معنى كل من الفجر وليال عشر إلى آخر ما أقسم به، وقد يفسر الواحد منهم الفجر بمعنى ثم يأتي في الليالي العشر بما لا يلائمه، وغالب ذلك يجري على خلاف ما عودنا الله في نسق كتابه الكريم، وقد جرت سنة الكتاب بأنه إذا أريد تعيين يوم أو وقت ذكره بعينه؛ كيوم القيامة في {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4، وكاليوم الموعود في سورة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} 5، وكليلة القدر في سورتها، فإذا أطلق الزمن ولم يقيد كان المراد ما يعمه معنى الاسم، كما سبق في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا
__________
1 أي: الأستاذ الإمام محمد عبده.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص416، 417.
3 سورة الفجر: الآيتين 1، 2.
4 سورة القيامة: الآية الأولى.
5 سورة البروج: الآية الأولى.(2/721)
عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1، فالفجر هنا -على هذا- هو جنس ذلك الوقت المعروف الذي يظهر فيه بياض النهار في جلد الليل الأسود، وينبعث الضياء لمطاردة الظلام، وهو وقت تنفس الصبح، وهو معهود في كل يوم؛ فصح أن يُعرَّف بالألف واللام"2، وقال نحو هذا في "وليال عشر".
واستنادًا إلى هذا الأساس أيضًا ينفي عن تفسير الآية القرآنية كل ما لا يتفق عنده مع مفهوم الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم؛ فتراه ينفي عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3 الآيات، ينفي الأستاذ الإمام عن تفسير هذه الآيات قصة الغرانيق التي يلصقها بعضهم في تفسير الآية، فقال: "ما أقرب هذه الآيات في مغازيها إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 4، وقد قال بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار} 5، ثم قال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} 6 إلخ الآيات.
وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى؛ فالذين في قلوبهم زيغ هم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، والراسخون في العلم هم الذين أوتوا العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم؛ فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا؛ فتخبت له قلوبهم، وإن الله ليهديهم إلى صراط
__________
1 سورة التكوير: الآيتين 17، 18.
2 تفسير جزء عم: محمد عبده ص76.
3 سورة الحج: الآية 52.
4 سورة آل عمران: الآية 7.
5 سورة آل عمران: الآية 10.
6 سورة آل عمران: الآية 12.(2/722)
مستقيم، وأولئك هم الذين يفتنون بالتأويل، ويستغلون يقال وقيل ما يلقي إليهم الشيطان ويصرفهم عن مرامي البيان ويميل بهم عن محجة الفرقان، وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد لن يغني عنهم من الله شيئًا فستوافيهم آجالهم، وتسقبلهم أعمالهم، فإن لم يوافهم الأجل على فراشهم فسيغلبون في هواشهم1، وهذه سُنة جميع الأنبياء مع أممهم، وسبيل الحق مع الباطل من يوم رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه، وكما لا مدخل لقصة الغرانيق في آيات آل عمران لا مدخل لها في آيات سورة الحج"2.
وبهذا الأساس أيضًا فسر الأستاذ عبد القادر المغربي "المرسلات" بالرياح قائلًا: "وقلما ذكر القرآن إطلاق الرياح إلا عبَّر عنه بفعل أرسل ففي؛ سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} 3، وفي الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 4، وفي الأحزاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} 5، وفي الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} 6، وفي الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاح} 7، وفي آيات أخرى غيرها، فقوله تعالى هنا: {وَالْمُرْسَلات} من هذا القبيل"8.
ويتضح مدى التزامهم لهذا الأساس حين نراهم يذمون رواة اسباب النزول الذين عمدوا إلى الآيات ذوات أسباب النزول؛ ليفردوها عن بقية الآيات، ويتناولوها بالتفسير والشرح من هذا الجانب، وهم بهذا -كما يقول الأستاذ محمد
__________
1 الهراش: المواثبة والمخاصمة.
2 الإثارة الثالثة: محمد عبده ص182-184، ضمن تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن رشيد رضا.
3 سورة فاطر: من الآية 9.
4 سورة الحجر: من الآية 22.
5 سورة الأحزاب: من الآية 9.
6 سورة الأعراف: من الآية 57.
7 سورة الروم: من الآية 46.
8 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص126.(2/723)
رشيد رضا- يمزقون الطائفة الملتئمة من الكلام الإلهي، ويجعلون القرآن عضين متفرقة بما يفككون الآيات ويفصلون بعضها من بعض، وبما يفصلون بين الجمل الموثقة في الآية الواحدة؛ فيجعلون لكل جملة سببًا مستقلًّا، كما يجعلون لكل آية من الآيات الواردة في مسألة واحدة سببًا مستقلًّا"1.
تلكم أمثلة يظهر منها التزامهم للقول بالوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم التزامًا يجعله أساسًا من الأسس البارزة في منهجهم.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص11.(2/724)
الأساس الثاني: الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية
وهو كالأساس الذي قبله من الأسس الواضحة في منهج المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير، وقد وقف العلماء السابقون منه موقفهم من سابقه أيضًا بين منكر ومؤيد.
طائفة قالت بالتناسب بين آيات القرآن الكريم وتناسقها؛ ومنهم الشيخ ولي الدين الملوي الذي قال: "وقد وهم مَن قال لا يُطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا وتأصيلًا، فالمصحف على وَفْق ما في اللوح المحفوظ، مرتبة سورة كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له"1، وقال بالمناسبة أيضًا الإمام الشاطبي2، والإمام السيوطي3، وغيرهم.
وذهبت طائفة أخرى إلى أن القرآن الكريم لم يأتِ على نسق الكتب
__________
1 الإتقان: للسيوطي ج2 ص108.
2 انظر: الموافقات: الشاطبي ج4 ص414، 415.
3 انظر: الإتقان: السيوطي ج2 ص110.(2/724)
الموضوعية؛ إذ ليست له مقدمة وليست فيه مباحث موضوعية مرتبة لها مقاصد وأغراض في فصول وأبواب؛ وإنما كان القرآن مشتملًا على عدة سور، كل سورة منه احتوت على آيات متعددة، كل آية في غرض، فهذه للوعظ، وتلك للزجر، وهذه قصة وأخرى لحكم من الأحكام، وأخرى لوصف الجنة أو النار1.
وقد عاب الإمام عز الدين بن عبد السلام ذلك وعد طالبه متكلفًا؛ حيث قال: "المناسبة علم حسن؛ لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومَن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيِّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض"2.
وكما قال رجال المدرسة العقلية الاجتماعية بالوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم قالوا بالوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية؛ فقال الشيخ عبد العزيز جاويش: "قد يغفل المفسر عمَّا بين آيات القرآن من الارتباط والتناسب، وما قد يفيد بعضها بعضًا من البيان أو التقييد؛ فيأخذها بالتأويل مفككة العرى مبددة النظم، حتى إذا استعصى عليه أمرها ونبا عقله عن فَهْمِها، لا يزال يركب في تأويلها صعاب المراكب، ويلتمس بلوغ معانيها بتسنم الجبال وقطع السباسب، وقلما سلمت أقدامهم من العثار أو استطاعوا إبراز ما فيها من الآثار"3.
وكما ردوا من التفاسير التفسير الذي يخالف الوَحْدَة الموضوعية في القرآن، فإنهم يردون هنا ما يخالف الوَحْدَة الموضوعية في السورة أو هدفها العام؛ حتى جعلوا هذا الأخير أساسًا في فَهْم آياتها؛ ولذلك فإنا نرى -مثلًا- الأستاذ الإمام محمد عبده يرفض تفسير الرزق في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
__________
1 الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم: محمد محمود حجازي ص13.
2 الإتقان: السيوطي ج2 ص108.
3 أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش ص117.(2/725)
وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} 1، بأنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. ويؤكد هذا الرفض بقوله: "والله لم يقل ذلك، ولا قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا هو مما يُعرف بالرأي، ولم يثبته تاريخ يعتد به، والروايات عن مفسري السلف متعارضة، وفي أسانيدها ما فيها".
ثم أورد التفسير الذي يراه موفقًا للهدف العام للسورة فقال: "وأنت ترى أنه لا دليل في الآية على أن الرزق كان من خوارق العادات، وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في مثل هذا المقام معهود في القديم والحيدث".
ثم قال: "أما ما سيقت القصة لأجله، وهو الذي يجب أن نبحث فيه، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه، فهو تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله، وجعلوه خاصًّا بشعب إسرائيل، وشبه المشركين الذين كانوا ينكرون نبوته لأنه بشر، وبيان ذلك أن المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية، وأهم مسائلها مسألة الوحدانية، وتقرير عقيدة البعث والجزاء، وعقيدة الوحي والأنبياء، وقد افتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب، ثم كانت الآيات من أولها إلى هذه القصة -أوقبيل هذه القصة- في الألوهية والجزاء، وبعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك، ثم بيَّن أن الإيمان بالله وادعاء حبة ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها؛ إنما تكون باتباع رسوله، وقفى على ذلك بهذه القصة التي تزيل شُبَه المشركين وأهل الكتاب في رسالته، وتردها على وجوههم.
رد عليهم بما يعرفونه من أن آدم أبو البشر، وأن الله اصطفاه، ومن اصطفاء نوح، ومن اصطفاء إبراهيم، فإن كان الأمر له في اصطفاء مَن يشاء مِن عباده -وبذلك اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم- فما المانع له من اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك"2.
وكما رد الإمام محمد عبده قصة الغرانيق التي يوردها بعض المفسرين في
__________
1 سورة آل عمران: من الآية 37.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص293، 294.(2/726)
تفسيرهم لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1، كما رد قصة الغرانيق لالتزامه الوَحْدَة الموضوعية في القرآن الكريم، فإنه أنكرها أيضًا لالتزامه الوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية، فقال: "والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذي تحتمله ألفاظها، وتدل عليه عباراتها، والله أعلم".
ثم استعرض هذه الآيات قائلًا: "ذكر الله لنبيه حالًا من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله؛ ليبين لهم سنته فيهم وذلك بعد أن قال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} 2، إلى آخر الآيات، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} 3 إلخ.
فالقصص السابق كان في تكذيب الأمم لأنبيائهم، ثم تبعه الأمر الإلهي بأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: إنني لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه، ولأبشر المؤمنين بالنعمي، وأما الذين يسعون في الآيات والأدلة التي أقيمها على الهدى وطرق السعادة؛ ليحولوا عنها الأنظار، ويحجبوها عن الأبصار، ويفسدوا أثرها الذي أُقيمت لأجله، ويعاجزوا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ أي: يسابقونهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول، وذلك بلعبهم بالألفاظ، وتحويلهم عن مقصد قائلها -كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة- هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم، وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلي به النبي صلى الله عليه وسلم من المعاجزة في الآيات، قد ابتلي به الأنبياء السابقون، فلم يبعث نبي في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف، ويضادون أمانيه، ويحولون بينه وبين ما يبتغي بما يقولون في سبيله من العثرات؛ فعلى هذا
__________
1 سورة الحج: من الآية 52.
2 سورة الحج: الآيات 41-44.
3 سورة الحج: الآيات 49-52.(2/727)
المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا يجب أن تفسير الآية"1.
ثم ذكر تفسيرين للآية مع القول بالوَحْدَة الموضوعية في السورة القرآنية وفي السور القرآنية.
وقد برزت ظاهرة في تفاسير أصحاب المدرسة العقلية الاجتماعية؛ ألا وهي اهتمامهم ببيان الغرض العام في السورة؛ حتى يكون محور ارتكاز في التفسير.
__________
1 الإثارة الثالثة: الإمام محمد عبده ص178-180.(2/728)
الأساس الثالث: تحكيم العقل في التفسير
لا ينكر صاحب لب ما للعقل من قيمة، وما له من مكانة كبيرة في الحياة عامة، ولا ينكر صاحب فَهْم وعلم ما له من قيمة ومكانة في الإسلام أيضًا، تشهد لذلك النصوص العديدة والآثار البارزة والعلامات البينة، كلها تدل عليه وتشير إليه.
دعا الإسلام إلى استعمال العقل في مواضع عديدة: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 1، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2، وغير هذا كثير3.
وذم الإسلام بعض الأفعال لمخالفتها العقل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} 5، {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 6، وغير هذا كثير7.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 73.
2 سورة البقرة: من الآية 242.
3 مثلًا آل عمران: الآية 118، والنحل الآية 12.
4 سورة الحجرات: من الآية 4.
5 سورة الحشر: من الآية 14.
6سورة الأنبياء: من الآية 67.
7 مثلًا سورة البقرة: الآية 44 والآية 76، وآل عمران: الآية 65، والأنعام: الآية 32.(2/728)
وذكر الإسلام من أسباب دخول النار عدم الاهتداء بالعقل {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1.
هذه بعض أمثلة على مكانة العقل في الإسلام، بعضها يرسي له مكانة سامية ودرجة عالية، ومع هذا التكريم فقد كرمه مرة أخرى تكرمة عدها بعض مَن لا علم له ولا معرفة امتهانًا، وعدها ذوو العقول والألباب لا تقل عن سابقها من المكارم؛ تلكم المكرمة أنه حد له حدودًا لا يتجاوزها، ورسم له مراسم لا يتعداها، لا لشيء إلا لأنه سيضل فيها ويتيه، ولا لشيء إلا لأنها فوق مداركه وفوق قدراته وطاقاته، ومن الخير له كل الخير أن يقف دونها لايخوض فيها، وفي هذا -ولا شك- تكريم له وأي تكريم.
وكما مر بنا فقد نبتت في الإسلام نابتة أعطت العقل أكثر من حقه، وزعمت أنه خُلق ليعرف، وهو قادر على أن يعرف كل شيء المنظور وغير المنظور، وجعلوه الحَكَمَ الذي يحكم في كل شيء، والنور الذي يجلو كل ظلمة، حكموه في إيمانهم وفي جميع شئونهم الخاصة والعامة2، حتى قال عالمهم ومفسرهم الزمخشري رامزًا للعقل بالسلطان: "امشِ في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه، وما العنز الجرباء تحت الشمأل البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل"3.
وقد أدى بهم تحكيم العقل المجرد عن النص إلى ان شطحوا بعقولهم شطحات وهفوا هفوات في الكتاب والسنة؛ بل في جوانب كثيرة من العقيدة، ما كانوا ليقعوا فيها لو اهتدوا إلى سبيل الحق.
وقد امتطى هذه الصهوة رجال جاءوا من بعدهم، فمال بهم وأدى بهم إلى أمور خاطئة، واعتقادات باطلة، وأحكام زائفة، وهم وإن لم يوافقوهم كل الموافقة
__________
1 سورة الملك: من الآية 10.
2 الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم: محجوب بن ميلاد ص114.
3 أطواق الذهب في المواعظ والخطب: الزمخشري مقالة 37 ص28.(2/729)
فهناك قواعد مشتركة وعقائد متماثلة تجمع بين هؤلاء وهؤلاء؛ حتى أطلق على هؤلاء المتأخرين: "معتزلة العصر الحديث"1، ولن نسميهم باعتزال؛ بل نسميهم بالصفة المشتركة بينهم، فليكونوا ولتكن مدرستهم المدرسة العقلية الحديثة، وقد اتجهت المتأخرة إلى الإصلاح الاجتماعي؛ فكان حقًّا لها أن يلصق بها هذا الوصف فتكون المدرسة العقلية الاجتماعية.
كيف لا والأستاذ الإمام محمد عبده يعد أصول الإسلام؛ فيعد الأول والثاني منها النظر العقلي وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض؛ حيث يقول: "الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجوز أو يثور عليه؟! "2.
ولا شك أن وصف الإسلام بأنه "يذعن لسلطة العقل" تعبير مخالف للصواب ومخالف للحق؛ فالإسلام عقيدة أوسع من أن تذعن لوسيلة، والعقل وسيلة أضيق من أن تحيط بالعقيدة، تلكم صفات الله تعالى، ما حقيقتها؟! وهل يدرك العقل ذلك منها؟! إن زعم ذلك زاعم فقد كذب وافترى على العقل، وإن فوض أمرها فقد اعتقد ما لا يدرك العقل فأنَّى للعقيدة الصحيحة الصادقة أن تذعن لسلطة هي أضعف من إداركها!
ولنعجل بالأصل الثاني من أصول الإسلام عند الأستاذ الإمام قال: "الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض"، إلى أن قال: "وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مُهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأُزيلت من سبيله جمع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد"3.
__________
1 اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: أنور الجندي ص132.
2 الإسلام والنصرانية: محمد عبده ص72، 73.
3 الإسلام والنصرانية: محمد عبده ص74، 75.(2/730)
وقال أيضًا مما يبين درجة العقل عنده: "وتقرر بين المسلمين كافة -إلا مَن لا ثقة بعقله ولا بدينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل؛ كالعلم بوجود الله وبقدرته على إرسال الرسل، وعلمه بما يوحي به إليهم"1.
وهذا الشيخ عبد العزيز جاويش يرفع العقل إلى مرتبة تستطيع أن تصل بالنفس الإنسانية إلى مراتب الكمال في الأحكام والتصورات والنظم الاجتماعية وغيرها؛ ليس بالوحي ولكن بالبحث والتنقيب والتجارب! يقول: "إن من الممكن أن تصل العقول البشرية بالبحث والتنقيب والتجارب إلى ما تصبو إليه النفس الإنسانية من مراتب الكمال في الأحكام والتصورات والنظم الاجتماعية والمسائل العلمية والآداب الخلقية ... إلخ"2.
إذًا فإذا كانت العقول قادرة على هذا، فما الحكمة من إرسال الرسل؟! لإتمام الحجة. لا، لا يصح هذا؛ لأن الحجة قائمة بقدرة العقل المزعومة، ويبقى السؤال معلقًا ما بقي هذا الزعم.
ويقول الشيخ جاويش أيضًا: "إن القرآن الذي هو كتاب دين الفطرة ما كان ليأتي بما ينافي الآراء القويمة أو تغم حكمته على العقول السليمة، ولم يكن ليكلف العقل الإيمان بما لا يعقل، أو يحمل الجسم ما لا طاقة له به، أو أن يفترض على الإنسان ما ليس من موسوعات فطرته؛ إذًا فوظيفته في البشر رسم أقرب الطرق إلى الهداية، وحفظ العباد عن مواطن الهلاك التي يغشاها طلاب الحق والحقيقة، لا من طريق الوحي؛ بل من طرائق التجارب ... إلخ"3.
وذلكم الأستاذ محمد فريد وجدي يستدل بأحاديث باطلة أو منكرة أو ضعيفة سندًا لعقيدته في العقل، ويصف هذه الأحاديث -وهي بهذه الدرجة- بأنها
__________
1 رسالة التوحيد: محمد عبده ص7.
2 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص137.
3 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص145.(2/731)
"قواعد إلهية"! فأورد حديث: "الدين هو العقل، ولا دين لمن لا عقل له"1، وحديث: "يأيها الناس، اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعلموا أنه ينجدكم عند ربكم" 2 ... إلخ، ثم عقب عليهما قائلًا: "بهذه القواعد الإلهية نال العقل حريته، وتخلص من وثاق كان يثن منه ويتعثر في أصفاده، وصار هو المرشد الحقيقي للإنسان، وهي الوظيفة التي خلقه لأجلها الملك الديان"3.
إذًا، فهذه درجة الحكم العقلي لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، طبقوه ودعوا لذلك في تفسير القرآن الكريم، وهذا الأستاذ محمد فريد وجدي يقول في تفسير بعض الآيات: "كل هذه الآيات تتناولها القاعدة الأصولية التي انفرد بها هذا الدين؛ وهي أنه لو تعارض نص وعقل أو علم صحيح أُوِّلَ النص وأُخِذَ بحكم العقل أو العلم، وقد أَوَّل آباؤنا من هذه الآيات ما خالف عقولهم أو ناقض العلم الصحيح، ونحن نجري على سننهم فنؤول ما يخالف عقولنا منها.
جرى المسلمون على هذا السمت؛ فكان تطورهم العلمي يمدهم بالمعلومات، وعلماؤهم يؤولون الآيات؛ حتى تآخي العلم والدين، وسارا كفرسي رهان لا يسبق أحدهما الآخر، فانقسم الناس إلى فريقين: فريق للدين يقل كل يوم عددًا، وفريق للمدنية يزداد كل يوم مددًا؛ ولكن كانوا في وَحْدَة
__________
1 قال الشيخ الألباني في كتابه: "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة": "الدين هو العقل ومَن لا دين له لا عقل له" باطل، أخرجه النسائي في الكنى، وعنه الدولابي في الكنى والأسماء ج2 ص104، وقال النسائي: حديث باطل منكر. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ص13.
2 قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: حديث: "يأيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل" الحديث، داود بن المحبر أحد الضعفاء، في كتاب العقل من حديث أبي هريرة، وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة عن داود. انظر: إحياء علوم الدين: للغزالي ج1 ص89.
3 المدنية والإسلام: محمد فريد وجدي ص52.(2/732)
لا انفصام لها؛ فبلغوا إلى ما لا تبلغه أمة قبلهم من بسطتي الدنيا والدين"1.
لذا فهم يصرفون الآيات القرآنية عن ظاهرها إذا صعب عليهم فَهْمُها أو التبست على عقولهم معانيها، وأنكروا كثيرًا من المعجزات أو أولوها بما لا تكون به معجزة خارقة، وردوا بعض الأحاديث الصحيحة، وغير ذلك مما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وخذ مثلًا لذلك تفسير الشيخ عبد القادر المغربي لقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور} 2؛ حيث قال: "مَن في السماء هو الله تعالى؛ لكن قام البرهان العقلي على أن الإله الأزلي خالق الكل وضابط الكل لا يتصور أن يكونه مستقرًّا في مكان؛ فوجب إذًا صرف الآية عن ظاهرها وحملها على معنى يلتحم مع ما أثبته العقل وقام عليه البرهان، والقرآن يفسر بعضه بعضًا؛ فآية {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 3 تنفي أن تكون ذات الله في السماوات وفي الأرض؛ إذ كيف يعقل أن تكون الذات الواحدة في مكانين في آنٍ واحد؟! لا جرم أن يكون المراد بكونه تعالى في السماء وفي الأرض أن مشيئته وحكمه نافذ فيهما، وسلطانه وقهره غالب عليهما"4.
ومن تفسير الشيخ عبد القادر أيضًا تفسيره لقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} 5؛ حيث قال: "هذا هو خبر سيدنا يونس حسبما أخذناه من النصوص الصحيحة، وليس فيه ما يستبعد وقوعه، اللهم إلا التقام الحوت له ومكثه في طبنه حينًا من الزمن حيًّا يُرزق ثم نبذه في ذلك الفضاء، على أنه إن حق لأهل القرون الماضية أن يستبعدوا خبر صاحب الحوت؛ فلا يحق لأبناء عصرنا ذلك الاستبعاد بعد أن رأوا بأعينهم سبح
__________
1 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص92.
2 سورة الملك: الآية 16.
3 سورة الأنعام: من الآية 3.
4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص9.
5 سورة القلم: الآية 48.(2/733)
الكثير منهم في بطون الغواصات أيامًا متطاولات تحت البحار الطاميات، وطيرانهم مثل ذلك في أجواء السماوات، فالإله الذي خلق العقل البشري، ومهد له سبيل الوصول إلى مثل هذه العجائب؛ ألا يكون قادرًا على أن ييسر حصول مثله لعبده يونس ببعض الأسباب التي لم تزل مجهولة لنا؟! هذا ما نقوله للمتسائل المتعجب، أما نحن معشر المسلمين فنؤمن بما ورد في الكتاب ما دام أنه غير محال في العقل"1.
ومن التفسير العقلي التفسير بالرأي المجرد عن الدليل الصحيح، وهذا الأستاذ محمد عبده يفسر قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} 2 بقوله: "وفرعون هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى -عليه السلام- وللمفسرين في الأوتاد اختلاف كبير، وأظهر أقوالهم ملاءمة للحقيقة أن الأوتاد: المباني العظيمة الثابتة، وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد؛ فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض؛ بل إن شكل هياكلهم العظيمة في أقسامها شكل الأوتاد المقلوبة، يبتدئ القسم عريضًا وينتهي بأدق مما ابتدأ، وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين"3.
ويعلق الأستاذ الإمام على تفسير الجلال السيوطي لقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} 4 بقوله: "وقال مفسرنا الجلال السيوطي: إن الرعد مَلَك أو صوته، والبرق سوطه يسوق به السحاب"، كأن الملَك جسم مادي؛ لأن الصوت المسموع بالآذان من خصائص الأجسام، وكأن السحاب حمار بليد لا يسير إلا إذا زجر بالصراخ الشديد والضرب المتتابع"5.
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص29، 30.
2 سورة الفجر: الآية 10.
3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص79.
4 سورة البقرة: الآية 19.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص174.(2/734)
ولكنه يقول في موضع آخر عن الملائكة: "وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فأننا نستدل بذلك على أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا؛ بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به"1.
وهذا تلميذه الأستاذ محمد رشيد رضا يرى أن الإمداد في قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين} 2، إمداد روحاني لا مادي، وقال: "وما أدري أين يضع بعض العلماء عقولهم عندما يغترون ببعض الظواهر وببعض الروايات الغريبة التي يردها العقل ولا يثبتها ما له قيمة من النقل، فإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التي تضاعف القوة المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كإنزال المطر، وما كان له من الفوائد لم يكن كافيًا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين؛ حتى كان ألف -وقيل: الآف- من الملائكة يقاتلونهم معهم، فيفلقون منهم الهام، ويقطعون من أيديهم كل بنان، فأي مزية لأهل بدر فُضلوا بها على سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم وأذلوا المشركين وقتلوا منهم الألوف؟ ".
إلى أن قال: "ألا إن في هذا من شأن تعظيم المشركين، ورفع شأنهم، وتكبير شجاعتهم، وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم، ما لا يصدر عن عاقل، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة، لا يصح لها سند، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس، ذكره الألوسي وغيره بغير سند، وابن عباس لم يحضر غزوة بدر؛ لأنه كان صغيرًا، فروايته عنها حتى في الصحيح مرسلة، وقد روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله"3.
وغريب من الشيخ محمد رشيد رضا أن يغمز مرويات عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنها حتى في الصحيح مرسلة، وهو العارف بالحديث وعلومه
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص254.
2 سورة الأنفال: الآية 9.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص566، 567.(2/735)
ولا أظنه يخفى عليه حكم مرسل الصحابي حتى إن ابن الصلاح لم يعده من أنواع المرسل قائلًا: "ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يُسمى في أصول الفقه "مرسل الصحابي" مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول والله أعلم"1.
وغريب منه أيضًا أن يغمز ابن عباس -رضي الله عنهما- بأنه روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله، فهل يرى الشيخ رشيد بأن ابن عباس -رضي الله عنهما- يروي عمن لا يثق بصدقه وأمانته؟! بل وما دخل روايته عن كعب الأحبار بروايته عن غزوة بدر؟! لا أرى هذا إلا ضعفًا في الحجة.
ومن تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا بالرأي المجرد تفسيره للمسخ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 2 بقوله: "أي: فكانوا بحسب سُنة الله في طبع الإنسان وأخلاقه كالقردة المستذلة المطرودة من حضرة الناس؛ والمعنى: أن هذا الاعتداء الصريح لحدود هذه الفريضة قد جرأهم على المعاصي والمنكرات بلا خجل ولا حياء؛ حتى صار كرام الناس يحتقرونهم ولا يرونهم أهلًا لمجالستهم ومعاملتهم".
ثم قال: "وذهب الجمهور أيضًا إلى ان معنى {كُونُوا قِرَدَةً} أن صورهم مُسخت فكانوا قردة حقيقيين، والآية ليست نصًّا فيه، ولم يبقَ إلا النقل ولو صح لما كان في الآية عبرة ولا موعظة للعصاة؛ لأنهم يعلمون بالمشاهَدة أن الله لا يمسخ كل عاص فيخرجه عن نوع الإنسان؛ إذ ليس ذلك من سننه في خَلْقه؛ وإنما العبرة الكبرى في العلم بان من سنن الله تعالى في الذين خلوا من قبل أن مَن يفسق عن أمر ربه، ويتنكب الصراط الذي شرعه له؛ ينزل عن مرتبة الإنسان، ويلتحق بعجماوات
__________
1 علوم الحديث: ابن الصلاح ص50، 51.
2 سورة البقرة: الآية 65.(2/736)
الحيوان، وسنة الله تعالى واحدة، فهو يعامل القرون الحاضرة بمثل ما عامل به القرون الخالية"1.
ولا أظن هذا الذي قاله الشيخ رشيد رضا إلا زَلَّة قلم في أمر واضح بيِّن، فليس هذا العقاب هو الوحيد من نوعه في الأمم السابقة؛ عذبت أمة بالطوفان، وعذبت أخرى بالصيحة، وعذبت ثالثة بحجارة من سجيل، وعذب آخرون بالخسف وبالجراد وبالقُمَّل والضفادع وغير ذلك، والعصاة يعلمون بالمشاهَدة أن الله لا يعذب كل عاصٍ بهذا العذاب، فهل يعد هذا مبطلًا لحقيقة هذه العقوبات أو مبررًا لتأويلها -بل تحريفها- عن معانيها لمجرد كونهم لا يرونها سُنة من سنن الله في العصاة؟!
هذا بعض ما أدى بهم إليه تحكيم العقل المجرد عن النص، وهي قضايا آحادية تولدت حتى أصبح بعضها أساسًا مستقلًّا بذاته في منهجهم في التفسير، نذكر من هذه الأسس التي تولدت عن هذا لأصل لديهم إنكار التقليد وذمه، وموقفهم من التفسير بالمأثور، ورد بعض الأحاديث الصحيحة، والتحذير من الإسرائيليات، وتأويل المعجزات والخوارق بما يبطلها، وكان تأويل بعض القصص القرآنية بالتمثيل وعدم وقوعها، وموقفهم من بعض الغيبيات كالملائكة والجن، وبعض علامات الساعة وأماراتها، وموقفهم من السحر، وغير ذلك كثير.
كلها أمور تولدت من هذا الأساس العميق المتأصل في منهجهم؛ بل عمود منهجهم الأول، ونحن هنا -في دراستنا هذه- سنعرض لبعض هذه الأبحاث عرضًا سريعًا غرضنا منه جلاء الصورة وبيان أبعادها وحدودها ليس إلا، وليس من شأننا دراسة هذا الأساس أو هذا المنهج دراسة نقدية موسعة، فلذلك شأن آخر؛ وإنما غرضنا عرض مناهج التفسير في العصر الحديث، وندع لمن شاء أن يدرس كل منهج دراسة نقدية موسعة ففي كل منها مادة وفيرة للدراسة ومعالم بارزة محمودة ومذمومة.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص344.(2/737)
الأساس الرابع: إنكار التقليد وذمه والتحذير منه
وهو أساس متولد -كما ذكرنا- من سابقه، ويطلق التقليد ويراد به في عرف الفقهاء "وقبول قول الغير من غير حجة"، ولا يُسمى الأخذ بالكتاب أو السنة أو الإجماع تقليدًا؛ لأن ذلك هو الحجة في نفسه1.
ولا يخفى أمر الاجتهاد والتقليد في عمومه، وقد حدثت بين المسلمين حوادث تحز في نفس المسلم من عبارات مؤيدي الاجتهاد أو أنصار التقليد، وما أدى التطرف بطائفة من هؤلاء وأخرى من أولئك إلى أقوال وأفعال لا تحمد، وليس بحثنا هنا بحثًا أصوليًّا نعرض فيه أقوال هؤلاء وهؤلاء؛ ولكنه بيان لموقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير.
وهو موقف تلحظه في كل سطر؛ بل في كل كلمة من كلماتهم، يرفضون التقليد وينكرونه ويذمون أصحابه وينعون عليهم فعلهم.
وهذا الأستاذ الإمام محمد عبده -أستاذ المدرسة ورائدها- جعل تحرير الفكر من قيد التقليد أول أمر دعا إليه؛ حيث قال: "ثم لم ألبث بعد قطعه من الزمن أن سئمت الاستمرار على ما يألفون، واندفعت إلى طلب شيء مما لا يعرفون؛ فعثرت على ما لم يكونوا يعثرون عليه، وناديت بأحسن ما وجدت ودعوت إليه، وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين؛ الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفَهْم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله؛ لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومَن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومَن هو في ناحيتهم"2.
وهذا الاجتهاد الذي يدعو إليه الأستاذ الإمام سهل المنال على الجمهور
__________
1 روضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة المقدسي ص205.
2 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص11.(2/738)
الأعظم، وقد وضح ذلك بقوله: "فرض الإسلام على كل ذي دين أن يأخذ بحظه من علم ما أودع الله في كتبه، وما قرره من شرعه، وجعل الناس في ذلك سواء بعد استيفاء الشرط بإعداد ما لَا بُدَّ منه للفَهْم، وهو سهل المنال على الجمهور الأعظم من المتدينين، لا تختص به طبقة من الطبقات، ولا يحتكر مزيته وقت من الأوقات"1.
ولأنه سهل المنال فإن تلميذه السيد رشيد رضا يعد ما اشترطه العلماء في بلوغ رتبة الاجتهاد افتياتًا على الله تعالى، فقال: "وإن في إطلاق مقلدة المصنفين من خلف القرون الوسطى القول بإيجاب تقليد المجتهدين في أمور الدين، وتحريم الأخذ بالدليل فيه -لاشتراطهم فيه استعداد كل مستدل مستقل للتشريع- لافتياتًا على دين الله، ونسخًا لكتاب الله، وشرعًا لم يأذن به الله، خلاصته: تحريم العلم وإيجاب الجهل، وهذا منتهى الإفساد للفطرة والعقل، وهو أقطع المدى لأوصال الإسلام، وأفعل المعاول في هدم قواعد الإيمان، وعلة العلل لانتشار البدع التي ذهبت بهداية الدين واستبدلت بها الخرافات ودخل الدجالين"2.
ولهذا فإنك ترى الحرص الشديد لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية على ذم التقليد والتشنيع على المقلدين، وخلطوا بين التقليد في العقيدة والتقليد في الأحكام، وقلبوا الآيات، ففي تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 3 قال الأستاذ محمد عبده: "فما جرى عليه المقلدون من المسلمين من الأخذ بآراء بعض الفقهاء في العبادات والحلال والحرام هو عين ما أنكره كتاب الله تعالى على أهل الكتاب، وجعله منافيًا للإسلام؛ بل جعل مخالفتهم فيه هي عين الإسلام، فليعتبر المعتبرون"4.
وخذ مثلًا ما قاله في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
__________
1 رسالة التوحيد: محمد عبده ص162، 163.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص114.
3 سورة آل عمران: من الآية 64.
4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص327.(2/739)
وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} 1: "لولا أن حيل بين المقلدين وهداية القرآن لكان لهم في هذه الآية أشد زلزال لجمودهم على أقوال الناس وآرائهم في الدين، سواءكانوا من الأحياء أم الميتين، وسواء كان التقليد في العقائد والعبادات أم في أحكام الحلال والحرام؛ إذ كل هذا مما يؤخذ عن الله ورسوله، ليس لأحد فيه رأي ولا قول إلا ما كان من الأحكام متعلقًا بالقضاء، وما يتنازع فيه للناس فلأولي الأمر فيه الاجتهاد بشرط إقامة للعدل".
إلى أن قال: "في مثل هؤلاء المتبوعين والتابعين نزل في قوله تعالى في سورة الأعراف: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} 2، فكلٌّ يؤاخذ بعمله، فإذا حمل الأول الآخر على رأيه، ودعاه إلى اتباعه فيه، أو في رأي غيره الذي يقلده هو فيه فهو من الأئمة المضلين، وعليه إثمة ومثل إثم مَن أضلهم مِن غير أن ينقص من إثمهم شيء؛ إذ حرم الله عليهم اتخاذ الأنداد من دون الله فاتخذوهم"3.
وهذا الشيخ عبد العزيز جاويش يرى أن الاجتهاد يلزم كل مَن قدر على فَهْم القرآن والكتب الصحاح! حيث يقول: "فكل مَن يعرف لغة القرآن لا ينبغي له بحال ما أن يقلد غيره تقليدًا متى قدر على فَهْمِه وفهم الكتب الصحاح في السنة، فلم ينسد ولن ينسد باب الاجتهاد برغم أنف مَن أرادوا أن يحجروا على العقول البشرية، ويقيموا عليها أوصياء من الأولين؛ حتى تسير كما ساروا، وتقول بما قالوا"4.
هذه بعض نصوصهم وعباراتهم، ولا شك أن الدعوة المتطرفة لا يتولد عنها
__________
1 سورة البقرة: الآية 166.
2 سورة الأعراف: من الآيتين 38، 79.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص79.
4 الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش ص70.(2/740)
إلا نتائج متطرفة وأحكامًا كذلك. خذ مثلًا الشيخ محمد مصطفى المراغي أمر بتشكيل لجنة تنظيم الأحوال الشخصية وأوصاهم بقوله: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم"1.
إن هذه العبارة أخطر من أن يُعلق عليها بكلمة أو كلمتين، فلنترك التعليق عليها لذوي الألباب؟!
وخذ مثلًا آخر اجتهد؛ الشيخ محمد عبده فتبين له أنه: "من العجيب أن فقهاء المذاهب الأربعة وربما غيرهم أيضًا قالوا: إن الصلاة بلا حضور ولا خشوع يحصل بها أداء الفرض ويسقط الطلب، ما هذا الكلام! إنه لباطل، كل آية تذكر في القرآن تبطله"2، أتدرون ما نتيجة هذا الاجتهاد، اسمعوها من أقرب الناس إليه، يقول السيد رشيد رضا عن أستاذه: "وأصرح مع هذا بأنه كان كثيرًا "!! " ما يجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، حتى في الحضر إذا لم يتيسر له صلاة الأولى بالخشوع والحضور الذي يعتقد وجوبه"3.
وخذ مثلًا ثالثًا من الشيخ محمد رشيد رضا؛ فهو يرى إباحة التيمم للمسافر حتى مع وجود الماء؛ حيث يقول: "ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأَوْلَى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} 4 بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} 4 بعيد؛ بل ممنوع ألبتة -كما تقدم- على أنهم لا يقولون به في المرضى؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه
__________
1 المجددون في الإسلام: عبد المتعال الصعيدي ص548، والفتح المبين في طبقات الأصوليين: عبد الله مصطفى المراغي ج3 ص198.
2 تاريخ الأستاذ الإمام: السيد رشيد رضا ج1 ص941.
3 المرجع السابق: ج1 ص1043.
4 سورة النساء: من الآية 43.(2/741)
فيكون ذكرهم لغوًا يتنزه عنه القرآن. ونقول: إن ذِكْرَ المسافرين كذلك، فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب للرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة؛ ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك"1.
وهاك مثلًا رابعًا لاجتهاد الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا؛ وذلك في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} 2، يرى السيد رشيد أن الربا المحرم هو ما كان أضعافًا مضاعفة، فيقول: "والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزولها، لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم"3.
ومن قبله قال شيخه الأستاذ الإمام: "إن الناس تحدث لهم باختلاف الزمان أمور ووقائع لم ينص عليها في هذه الكتب، فهل نوقف سير العالم لأجل كتبهم؟ هذا لا يستطاع؛ وذلك اضطر العوام والحكام إلى ترك الأحكام الشرعية، ولجئوا إلى غيرها.
إن أهل بخارى جوَّزوا الربا لضرورة الوقت عندهم، والمصريون قد ابتلوا بهذا؛ فشدد الفقهاء على أغنياء البلاد فصاروا يرون أن الدين ناقص؛ فاضطر الناس إلى الاستدانة من الأجانب بأرباح فاحشة استنزفت ثرورة البلاد وحولتها للأجانب، والفقهاء هم المسئولون عند الله تعالى عن هذا، وعن كل ما عليه الناس من مخالفة الشريعة؛ لأنه كان يجب عليهم أن يعرفوا حالة العصر والزمان، ويطبقوا عليه الأحكام بصورة يمكن للناس اتباعها "!! " أي: كأحكام الضرورات، لا أنهم يقتصرون على المحافظة على نقوش هذه الكتب ورسومها، ويجعلونها كل شيء، ويتركون لأجلها كل شيء"4.
هذه إشارات موجزة لبعض مواضع اجتهاداتهم في تفسير آيات الأحكام في القرآن الكريم، يظهر منها المدى الذي وصلوه في دعوتهم إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وجلها بل كل عباراتهم في هذا السبيل تعلن اتخاذهم له أساسًا هامًّا في منهجهم في التفسير.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص121.
2 سورة آل عمران: الآية 130.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص123.
4 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص944.(2/742)
الأساس الخامس: التقليل من شأن التفسير بالمأثور
ومن المعلوم أن التفسير بالمأثور يشمل أنواعًا أربعة:
أولها: تفسير القرآن بالقرآن.
ثانيها: تفسيره بالسنة النبوية.
ثالثها: تفسيره بأقوال الصحابة -رضي الله عنهم-.
رابعها: تفسيره بأقوال التابعين -رحمهم الله تعالى-.
أما أولها، فقد أشرنا إلى قبولهم له، وأنه أشرف أنواع التفسير وأصح طرقه، ونقصد بحديثنا هذا النوع الثاني؛ وإنما قصرنا الحديث عليه دون الثالث والرابع؛ لأن مَن رد التفسير بالسنة النبوية فهو أسرع إلى رد أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
ومن المعلوم منزلة التفسير بالسُّنة النبوية ومكانتها لدى علماء السلف، وأنها تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم بدليل الكتاب والسنة.
وقد درج علماء المدرسة العقلية الاجتماعية على التقليل من شأن التفسير بالمأثور، والتشكيك فيه، وعدم الاحتجاج به، وإن كانوا يظهرون قبوله واعتباره.
وهذا السيد محمد رشيد رضا -إمام المدرسة في علم الحديث- يقول: "وأما الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير؛ فمنها ما هو ضروري أيضًا؛ لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شيء، ويليه ما صح من علماء الصحابة مما يتعلق بالمعاني اللغوية أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قليل، وأكثر التفسير بالمأثور قد سرى إلى الرواة من(2/743)
زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير"1.
وقال الأستاذ رشيد أيضًا: "فالحق أن كل ما لا يُعلم إلا بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل في إثباته إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة الإمام ابن جرير التي يصرح بها
كثيرًا"2.
ثم قال: "وغرضنا من هذا كله أن أكثر ما رُوي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن، وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول، فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها سندًا ولا موضوعًا"2.
وقال أيضًا: "فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخَلْق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا في هذه التنبيهات"1.
ثم قال: "فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالًا؛ فالأصل فيها الصدق، ومَن ارتاب في كل شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالًا في متونها؛ فليحمله على ما ذكرنا من عند الثقة بالرواية؛ لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات، أو خطأ الرواية بالمعنى، أو غير ذلك مما أشرنا إليه، وإذا لم يكن شيء منها ثابتًا بالتواترالقطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بالقطع، ولا على غير ذلك من القطعيات"3.
وقال أيضًا على أستاذه: "لقد كان الأستاذ الإمام يقول: إن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن، ولم يكن يثق إلا بأقل القليل مما رُوي في الصحاح من أحاديث الفتن"3.
وقال أيضًا: "وقد ثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم- كان يروي بعضُهم عن بعض وعن التابعين حتى عن كعب الأحبار وأمثاله، والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدولٌ؛ فلا يخل جهل اسم راوٍ منهم بصحة السند،
__________
1 تفسير المنار: رشيد رضا ج1 ص7، 8، ولم يُشر رشيد رضا إلى المصدر، ولم نقف لابن كثير -رحمه الله تعالى- على مثل هذا.
2 المرجع السابق: ج1 ص10.
3 المرجع السابق: ج9 ص465-467.(2/744)
وهي قاعدة أغلبية لا مطردة، فقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منافقون ... "1.
وقال: "ولا شك في أن أكثر الأحاديث قد رُوي بالمعنى كما هو معلوم، واتفق عليه العلماء، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها، وما دخل على بعض الأحاديث من المدرجات؛ فعلى هذا كان يروي كل أحد ما فهمه، وربما وقع في فَهْمِه الخطأ؛ لأن هذه أمور غيبية"1.
هذا بعض ما قاله إمام هذه المدرسة في الحديث وعلومه، ومن بعضه ندرك مدى تشكيكه وقلة ثقته في التفسير بالماثور بل السنة عمومًا؛ لأن عباراته أوسع من أن تخصص، وإذا كان هذا من الشيخ رشيد فلا عجب ألا يثق أستاذه محمد عبده إلا بأقل القليل مما رُوي في الصحاح من أحاديث الفتن.
وأما الشيخ محمد مصطفى المراغي فيقول: "وطاعة الرسول واجبة في حياته وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من السنن العملية المبينة للكتاب، ومن السنن القولية القطعية في الرواية والدلالة ... "2.
وقال الشيخ أحمد مصطفى المراغي في بيان منهجه في التفسير: "ومن ثم رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول، ولم نرَ فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة، وأشرف لتفسير كتاب الله، وأجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة"3.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص465-467، علمًا أنه لم يجرؤ أحد من المنافقين على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم في الرواية، لا في عهده ولا في عهد أصحابه رضي الله عنهم؛ لأن المنافق يعلم علمًا يقينًا أن الصحابة سيكشفون أمره ويهتكون ستره؛ فلا يصح التشكيك بعدالة الصحابة لوجود المنافقين، فالقضية هنا عكسية؛ إذ موقفهم من المنافقين يزيد الثقة في مروياتهم.
2 الدروس الدينية لسنة 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص24.
3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص19.(2/745)
ومن قبلهم قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "إن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند مَن صح عنده، أما مَن قامت له الأدلة على أنه غير صحيح؛ فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل"1.
كانت هذه بعض نصوصهم القولية، وإذا ما نظرنا إلى الجانب التطبيقي فإنا نراهم حينًا يوردون ما يتعلق بالآية من السنة النبوية، وحينًا ما يفسرونها، وحينًا ثالثًا يوردون التفسير المأثور من غير إشارة إلى الحديث الذي ورد فيه، وحينًا رابعًا يرفضون التفسير بالمأثور وإن صح.
فمن الأول ما أورده الشيخ محمود شلتوت في تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} 2: "وإذا كان شخص الرسول قد غاب عن أعين الآخرين، فهو حاضر في قلوبهم، ماثل في أنفسهم، ولم تنقطع أسوتهم به ... فمنزلة وجوده فيهم بعد مماته هي منزلة وجود الكتاب فيهم، كلاهما متواتر يلقاه جيل من المؤمنين عن جيل، وقد ورد في الخبر أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي" 3، 4.
ومنه ما أورده الشيخ محمد مصطفى المراغي في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 5 فقال: "وفي الحديث الشريف: "من أحب أن يكون أكرم الناس فليتقِ
__________
1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص181.
2 سورة آل عمران: من الآية 101.
3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص129.
4 رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص93، ورواه مالك في الموطأ، باب النهي عن القول بالقدر.
5 سورة البقرة: الآية 183.(2/746)
الله"1، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" 2، 3.
وفي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 أورد الشيخ محمد مصطفى المراغي حديث: "خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله عز وجل لن يمل حتى تملوا" 5، وفي حديث معاذ عندما أطال الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ؟ 6 إن منكم منفرين، فإذا ما صلى أحدكم بالناس فليتجوز؛ فإن منهم الكبير والضعيف وذا الحاجة" 7، 8.
ومن الثاني ما نقله السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 9، فقال: "وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: "ألا أن القوة الرمي" قالها ثلاثًا، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث: "الحج عرفه" بمعنى: أن كلًّا منهما أعظم الأركان في بابه ... "10.
__________
1 لم أجده، ويشهد لمعناه قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وما رواه البخاري سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم". صحيح البخاري ج5 ص216.
2 الدروس الدينية لعام 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص 8، 9.
3 رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة ج4 ص634، وابن ماجه، كتاب الزهد ج2 ص553.
4 سورة البقرة: 185.
5 رواه البخاري، كتاب الصيام ج2 ص244، ورواه مسلم كتاب الصيام ج2 ص811.
6 رواه البخاري، كتاب الأذان ج1 ص173، ومسلم كتاب الصلاة ج1 ص339، والإمام أحمد في مسنده ج3 ص299.
7 رواه البخاري، كتاب الأذان ج1 ص173، ومسلم كتاب الصلاة ج1 ص340.
8 الدروس الدينية لعام 1357هـ: محمد مصطفى المراغي ص20.
9 سورة الأنفال: من الآية 60.
10 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج10 ص69، وحديث مسلم ج3 ص1522، كتاب الإمارة.(2/747)
وأورد أيضًا تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} 1، فيقول: "روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود: أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله، وأينا لَمْ يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} 2؛ إنما هو الشرك. وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأُبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم" 3.
ومنه أيضًا تفسير الأستاذ الإمام محمد عبده المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 4، بقوله: وللعلماء في ذلك ثمانية عشر قولًا، أوردها الشوكاني "في نيل الأوطار"، أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر؛ لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعًا: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" 5.
ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي للحساب اليسير في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} 6 بما رُوي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا" قلت: وما الحساب اليسير؟ قال: "ينظر في كتابه ويتجاوز عن سيئاته، فأما من نُوقش الحساب فقد هلك" 7، 8.
__________
1 سورة الأنعام: الآية 82.
2 سورة لقمان: من الآية 13.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص582.
4 سورة البقرة: الآية 238.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص437.
6 سورة الانشقاق: الآيتين 7-8.
7 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج30 ص91.
8 رواه الإمام أحمد في مسنده ج6 ص48.(2/748)
ومنه ما أورده الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} 1، قال: "ويُروى أنه صلى الله عليه وسلم أمر وفد ثقيف بالصلاة فقالوا: "لا ننحني؛ فإنها سبة لنا"، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود" 2، على أن الإسلام إنما جاء لترويض النفوس العاتية وتذليل أَنَفَتِها"3.
ومن الثالث تفسير أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 4 بقوله: "وكلمة التقوى هي لا إله إلا الله"5، وهو تفسير ورد فيما أخرجه الترمذي وابن جرير عن أُبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: لا إله إلا الله"؛ لكن الشيخ المراغي لم يشر إلى الحديث.
ومن الرابع وهو كثير في تفسيرهم؛ حيث ردوا كثيرًا من السنة النبوية الطاهرة التي تفسر بعض آيات القرآن الكريم أو تتعلق به، لم يردوها لضعف في سندها أو لمخالفة ما هو معلوم من الشريعة؛ وإنما فعلوا ذلك لأنها لا تتفق مع ما ذهبوا إليه في تفسير الآية؛ فردوا أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث.
فمن ذلك ما ورد في السنة عن الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري -رحمه الله- عنه أنس -رضي الله عنه- قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب الؤلؤ مجوفًا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" 6، وأخرج أحمد
__________
1 سورة المرسلات: الآية 48.
2 رواه الإمام أحمد ج4 ص218، وأبو داود كتاب الخراج ج3 ص163، وكلاهما وراه بلفظ: "لا خير في دين ليس فيه ركوع".
3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص135، 136.
4 سورة الفتح: من الآية 26.
5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج26 ص109.
6 صحيح البخاري، كتاب التفسير {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ج6 ص219.(2/749)
ومسلم -رحمهما الله تعالى- عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة" 1. قال السيوطي رحمه الله تعالى: "له طرق لا تُحْصَى"2.
هذا ما ورد في السنة في بيان المراد بالكوثر، وهذه هي درجته فيها؛ ولكن الأستاذ الإمام محمد عبده يقول بغير هذا، واقرأ معي قوله: "وأما أن هناك نهرًا في الجنة اسمه الكوثر، وأن الله أعطاه نبيه، فلا يفهم من معنى الآية؛ بل الذي يدل عليه سياق السورة وموضع نزولها هو الذي بيَّناه من أحد القولين، والأول -وهو النبوة وما في معناها- أرجح.
أما الاعتقاد بوجود هذا النهر في الجنة فموقوف على تواتر الأخبار التي وردت به، وقد ذهب جماعة إلى أنها متواترة المعنى؛ فيجب الاعتقاد بوجود النهر على وجه عام دون تفصيل أوصافه؛ لكثرة الخلاف فيها.
ولكن التواتر لا يصح أن يكون برأي جماعة أو برأي آخرين، فحد التواتر هو ما تراه في القرآن: تعرفه طبقة عن طبقة، يُؤْمَنُ تواطؤ كل منها على الكذب، إلى أن وصل إليك، لا تنكره فرقة من فرق المسلمين قاطبة، فهذا التواتر هو الذي يوجب اليقين، وليس الأمر كذلك في أحاديث النهر؛ فإنها -وإن كثرت طرقها- لم تبلغ هذا المبلغ؛ فلا يصدق عليها اسم المتواتر، خصوصًا وأنه يظن بالرواة سهولة التصديق في مثل هذا الخبر؛ لما فيه من غرابة الكرامة وجمال الوصف؛ فيسهل على كل راوٍ الميل إلى تصديق ما يقال له، وهذا يخل بشرط التواتر؛ لأن أول شرط فيه ألا يكون في الطبقات رائحة التشيع للمروي"3.
ومن هذه الأقوال للأستاذ الإمام يظهر موقفه من السنة، وأنه يرد صحيحها لأسباب واهية، لم يقل بها أحدٌ من قبله، لا من علماء الحديث، ولا من سواهم، ومثل
__________
1 مسند أحمد ج3 ص220، 236، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى
براءة ج4 ص113.
2 الإتقان في علوم القرآن: الإمام السيوطي ج2 ص204.
3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص165.(2/750)
هذه الأسباب لا اعتبار لها، وقد اعترف الأستاذ رشيد رضا بأن الأستاذ الإمام "كان مقصرًا في علوم الحديث؛ من حيث:
الرواية، والحفظ، والجرح والتعديل"1، ومر بنا أيضًا وصفه له بأنه كان لا يثق إلا بأقل القليل مما رُوِيَ في الصحاح من أحاديث الفتن2.
وتارة يرفضون التفسير بالمأثور بأسلوب آخر؛ وهو الزعم بأنه من الإسرائيليات، حتى وإن رواه البخاري ومسلم، خذ مثلًا
تفسير الأستاذ محمد رشيد رضا لقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3؛ حيث قال: "ولا ثقة لنا بشيء مما رُوي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعية، كما قاله الأستاذ الإمام هنالك، وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفًا ومرفوعًا؛ كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما: "قبل
لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} 4، فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حطة حبة في شعرة"، وفي رواية: "شعيرة"، ورواه البخاري في تفسير السورتين5 من طريق همام بن منبه أخي وهب، وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، ولم يصرح أبو هريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار؛ إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ -رحمه الله تعالى- على مثل هذا من الإسرائيليات وإن صح سنده "!! "؛ ولكن قلما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها"6.
وخذ مثلًا آخر لهذا الأسلوب في رد التفسير بالمأثور بما قاله السيد محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا
__________
1 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص5.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص466.
3 سورة الأعراف: من الآية 162.
4 سورة البقرة: الآية 58.
5 يقصد سورتي: البقرة والأعراف.
6 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص348.(2/751)
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} 1، قال: "وأقوى الأحاديث الواردة في طلوع الشمس من مغربها ما رواه البخاري في كتاب الرقاق عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانه خيرًا". اهـ، وأخرجه أيضًا أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم"2.
ثم قال: "هذا وإن أبا هريرة -رضي الله عنه- لم يصرح في هذه الأحاديث بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار وأمثاله فتكون مرسلة؛ ولكن مجموع الروايات عنه وعن غيره ثبت هذه الآية بالجملة؛ فننظمها في سلك المتشابهات، ونحمل التعارض بين الروايات وما في بعضها من مخالفة الأدلة القطعية على ما أشرنا إليه من الأسباب؛ كالرواية عن مثل كعب الأحبار من رواة الإسرائيليات، والله أعلم"3.
وخذ مثلًا ثالثًا وأخيرًا لهذا الأسلوب، ما قاله السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 4، قال: وفي حديث أخرجه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله عز وجل التربة يوم السبت ... الحديث ".
ثم قال: "إن كل ما رُوي في هذه المسألة من الأخبار والآثار مأخوذ من الإسرائيليات لم يصح فيها حديث مرفوع، وحديث أبي هريرة هذا -وهو أقواها- مردود بمخالفة متنه لنص كتاب الله "!! " وأما سنده فلا يغرنك رواية مسلم له به "!! " فهو قد رواه كغيره عن حجاج بن محمد الأعور المصيص عن ابن جرير، وهو قد تغير في آخر عمره، وثبت أنه حدَّث بعد اختلاط عقله، كما في
__________
1 سورة الأنعام: من الآية 158.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص210، 211.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص210، 211.
4 سورة الأعراف: من الآية 54.(2/752)
تهذيب التهذيب وغيره والظاهر "!! " أن هذا الحديث مما حَدَّث به بعد اختلاطه"1.
وهكذا ترى السيد محمد رشيد رضا يرد الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبارات: "يحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار"، و"فيخشى أن يكون قد روى بعضها عن كعب الأحبار"، و"الظاهر أن هذا الحديث مما حدث به بعد اختلاطه"، ولا أدري متى كانت هذه الأوهام سبيلًا لرد الحديث، وإذًا لو فعلنا لذهبت البقية الباقية.
أما ثالث أساليب رفضهم للتفسير بالماثور فهو وإن لم يكن رفضًا مباشرًا إلا أنه إغفال له يجعله في درجة المرفوع، فهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي مثلًا يفسر المغضوب عليهم والضالين في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2 بقوله: "والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده؛ فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريًا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة؛ تقليدًا لما ورثوه عن الآباء والأجداد ... والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق"3.
يقول هذا مع أن تفسير المغضوب عليهم والضالين باليهود والنصارى هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافًا بين المفسرين4.
ومن هذا الأسلوب أيضًا ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} 5:" أي: أعطيناك يا محمد الخير الكثير ... إلخ"6. وقد تقدم بيان ما ورد في الكوثر من الحديث الصحيح.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص449.
2 سورة الفاتحة: من الآية السابعة.
3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص37.
4 الإتقان: السيوطي ج2 ص190.
5 سورة الكوثر: الآية الأولى.
6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص89.(2/753)
ومنه أيضًا تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1، فقال: "أي: أن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة قبل قيام الناس من أجداثهم ... إلخ"2.
مع أنه ورد فيما أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ... إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} 3، كان صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: "أتدرون أي يوم ذلك؟ " قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم -عليه السلام- ابعث بعث النار ... إلخ "، قال الألوسي: وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما؛ لكن بلفظ آخر، وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة4.
هذه إشارات وتلميحات لبعض مواقفهم من التفسير بالمأثور، أحسبها تدل دلالة بينة على منهجهم في هذا اللون من التفسير.
__________
1 سورة الحج: من الآية الأولى.
2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج17 ص84.
3 سورة الحج: الآيتين الأولى والثانية.
4 تفسير روح المعاني: لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي ج17 ص110، 111.(2/754)
الأساس السادس: التحذير من التفسير بالإسرائيليات
خلاصة موقف السلف -رحمهم الله تعالى- من الإسرائيليات ذكره ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث ذكر أن الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، وأنها على ثلاثة أقسام:
"أحدها" ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
و"الثاني" ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
و"الثالث" ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل.(2/754)
فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم -يقصد حديث: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" - وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني1.
وقد شن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حملة شعواء على الإسرائيليات، وحذروا من تناولها في تفسير القرآن الكريم، وعابوا على المفسرين السابقين تداولهم لها، واعتبروا هذا خطأ لا يغتفر.
وهذا الأساس عندهم متولِّد من الأساس السابق تحكيم العقل وتطرفهم فيه تولد عنه رفضهم الشديد للإسرائيليات، وقد أدى بهم تطرفهم هذا إلى تكذيب بعض الإسرائيليات التي وافقت ما جاء في شريعتنا، وأدى بهم أيضًا إلى تكذيب بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة خشية أو احتمال أو للظاهر أن يكون الصحابي الذي روى الحديث سمعه من كعب الأحبار!!
وأدى بهم أيضًا إلى أن تناولوا بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- بالتجريح، وشككوا في إيمان بعض التابعين الذين شهد لهم السلف الصالح بالعدالة، وروى لهم البخاري ومسلم، ونسبوا العلماء الذين وثقوهم إلى الغفلة.
ومع هذا الموقف الصُّلْب، والرفض الحاسم الجازم، فإن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية -أو غالبهم- أباح لنفسه ما حرم على غيره؛ فقد أوردوا من الإسرائيليات ونصوص التوراة والإنجيل كثيرًا وكثيرًا؛ بل -ويا للعجب- فقد أوردوا ما يخالف النص القرآني!! وأحسب هذا -ولا شك- نتيجة كل دعوة متطرفة.
فلنرتب الأوراق ولنسق الشواهد على ما ذكرنا واحدًا واحدًا، هذه أولًا بعض النصوص لرجال المدرسة التي تبين حكم الأخبار الإسرائيلية، وهذا الأستاذ الإمام محمد عبده يقول عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خطَايَاكُمْ} 2 الآية، فقد ذكر الأستاذ الإمام بعض أقوال المفسرين، ثم قال:
__________
1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص366، 367.
2 سورة البقرة: من الآية 58.(2/755)
"ومنشأ هذه الأقوال الروايات الإسرائيلية، ولليهود في هذا المقام كلام كثير وتأويلات خُدِعَ بها المفسرون، ولا نجيز حشوها في تفسير كلام الله تعالى"1.
وقال عن هذه التفاسير: "كما ولعوا بحشوها بالقصص والإسرائيليات التي تلقفوها من أفواه اليهود وألصقوها بالقرآن؛ لتكون بيانًا له وتفسيرًا، وجعلوا ذلك ملحقًا بالوحي والحق الذي لا مرية فيه، إنه لا يجوز إلحاق شيء بالوحي غير ما تدل عليه ألفاظه وأساليبه، إلا ما ثبت بالوحي عن المعصوم الذي جاء به ثبوتًا لا يخالطه الريب"2.
وقال الشيخ عبد العزيز جاويش عن الإسرائيليات: "وهذا وليحذر المسلمون قراءة ما جاء في تفاسير القرآن في هذا الموضوع من الإسرائيليات، وما ابتدعه أصحابها من التأويلات وغريب الروايات، فإنها مضلة للعقول، مبعدة لها عما قصده كتاب الله الحكيم"3.
وأما الشيخ محمود شلتوت فوصفها بقوله: "قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفَهْم القرآن والانتفاع بهداية القرآن ... "4.
أما الشيخ أحمد مصطفى المراغي، فيصف رواة الإسرائيليات بأنهم "ساقوا إلى المسلمين من الآراء في تفسير كتابهم ما ينبذه العقل، وينافيه الدين، وتكذبه المشاهَدة، ويبعده كل البعد ما أثبته العلم في العصور اللاحقة"5.
والأستاذ رشيد رضا هو أشد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية حربًا على الإسرائيليات ورواتها، واقرأ قوله: "كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية والهداية السامية؛ فمنها ما يشغله
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325.
2 المراجع السابق: ج1 ص175.
3 أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش ص138.
4 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص9، 10.
5 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص19.(2/756)
عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وأكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب"1.
وقد رد الأستاذ رشيد رضا بعض الأحاديث الصحيحة زاعمًا أنها من الإسرائيليات؛ ومن ذلك حديث البخاري الذي رواه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في كتاب التفسير: "قيل لبني إسرئيل: ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة؛ فدخلوا يزحفون على أستاهم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة" 2، واختاره السيوطي في التفسير فقال عنه السيد رشيد: "ما اختاره الجلال مروي في الصحيح؛ ولكنه لا يخلو من علة إسرائيلية"3.
وأدى به تطرفه إلى أن ذم رواة الإسرائيليات الثقات ككعب الأحبار ووهب بن منبه، فقال عن وهب عند روايته أن موسى -عليه السلام- كان يقرع لهم أقرب حجر فتفجر منه عيون: "وهذا من الخرافات التي اختلقها وهب، ليس لها أصل عند اليهود ولا عند المسلمين"، إلى أن قال: "وقد عدوه مع أمثال هذه الخرافات ثقة في الرواية"4.
وقال عن كعب الأحبار: "بمثل هذه الروايات كان كعب الأحبار يغش المسلمين؛ ليفسد عليهم دينهم وسُنتهم، وخُدع به الناس لإظهاره التقوى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"5.
وقال في موضع آخر: "ولكن البلية في الرواية عن مثل كعب الأحبار وممن روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومعظم التفسير المأثور مأخوذٌ عنه وعن تلاميذه
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص7، 8.
2 صحيح البخاري: كتاب التفسير، سورة البقرة ج6 ص23.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص325.
4 المرجع السابق: ج9 ص343.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص459.(2/757)
ومنهم المدلسون كقتادة، وكذا غيره من كبار المفسرين كابن جريج"1، وقال عن كعب أخيرًا: "وكعب الأحبار الذي أجزم بكذبه؛ بل لا أثق بإيمانه"2.
وقال عن كعب ووهب: "إن بطلي الإسرائيليات وينبوعي الخرافات كعب الأحبار ووهب بن منبه"3، وقال عنهما: "ولو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما وخطأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل لخفاء تلبيسهم عليهم لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل"4، وقال: "ثم ليعلم أن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين هذان الرجلان: كعب الأحبار ووهب بن منبه"5.
وشاركه في الهجوم الشيخ أحمد مصطفى المراغي الذي وصف بعض الروايات بقوله: "وما هي إلا إسرائيليات تلقفها المفسرون من أهل الكتاب الذين كانوا يكيدون للإسلام والعرب كروايات وهب بن منبه وهو فارسي الأصل، ومثله روايات كعب الأحبار الإسرائيلي، وقد كان كلاهما كثير الرواية للغرائب التي لا يُعرف لها أصل معقول ولا منقول، وقومهما كانوا يكيدون للمسلمين الذين فتحوا بلاد فارس وأجلوا اليهود من الحجاز"6.
هذا غيض من فيض، من بحر ذمهم لكعب الأحبار ووهب بن منبه، مع اعترافهم في النصوص التي سقناها وفي غيرها بتعديل الجمهور وتوثيقهم لهما، واعترافهم أيضًا أن أبا هريرة وابن عباس -رضي الله عنهم- وغيرهم من الصحابة قد رووا عن كعب الأحبار، فهل يعتقد هؤلاء أن الصحابة -رضي الله عنهم- تروي عن كذاب وضَّاع لا يوثق فيه؟! أليست روايتهم عنه تزكية له؟! أفلا نقبل إذًا بتزكية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 المرجع السابق: ج9 ص466.
2 مجلة المنار: محمد رشيد رضا ج9 المجلد 27 ص697.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج9 ص438.
4 المرجع السابق: ج9 ص442.
5 مجلة المنار: ج10 مجلد 27 ص783.
6 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص24.(2/758)
أما كعب فقد روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي؛ بل إن الجمهور على توثيقه؛ ولذا لا تجد له ذكرًا في كتب الضعفاء والمرتوكين، وقد اتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه1.
وأما وهب فقد روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الذهبي في ميزانه: كان ثقة صادقًا كثير النقل من كتب الإسرائيليات، قال العجلي: ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء، وقد ضعفه الفلاس وحده ووثقه جماعة2، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات3.
إذًا، فلا شك مطلقًا في خطأ رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في ذم كعب الأحبار ووهب بن منبه ... ولكن مهلًا لا أقصد بهذا مطلقًا أن كل ما رُوي عنهما صحيح، ولا أقول: إنه ليس فيه كذب ولا افتراء؛ ولكن لا يعني وجود هذا أن ينسب إليهما ويحملا تبعته، فكم حديث موصوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نسب ظلمًا وزورًا إلى أبي هريرة أو ابن عباس أو غيرهما، فهل يجرؤ أحد -إلا معتدٍ- على التشكيك فيهما وفي عدالتهما، الأمر هناك في كعب وفي وهب كما هو هنا في أبي هريرة وابن عباس، فقد يكون الكذب من غيرهما، أو أنهما نقلاه على أنه مما في كتبهم، وهما يعتقدان صحته ولم يعلما كذبه؛ لخفاء الثابت والمحرَّف في كتب أهل الكتاب، كما قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "إن بعض الذي يُخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا؛ لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار"4، قلت: ومثل هذا يقال عن وهب.
عودة إلى الموضع في صُلْبه؛ ذلكم موقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية من رواية الإسرائيليات يظهر منه الرفض الشديد والمتطرف لها؛ ولكنهم -وبكل أسف- لم يلتزموا بأنفسهم ما دعوا إليه، وقديمًا قال الشاعر:
__________
1 مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري ص32، 33.
2 ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي ج4 ص352، 353.
3 تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني ج11 ص167.
4 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص335.(2/759)
لا تنهَ عن خلق وتأتِيَ مثلَهُ ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
بل لم يأتِ هؤلاء مثله، فتجاوزوا المثل، فزجوا بما لم يزج به المفسرون السابقون؛ فرووا من الإسرائيليات ما رواه السابقون، وزادوا عليهم برجوعهم بأنفسهم إلى المصادر التي أخذ منها كعب ووهب!! ولم يقل أحد منهم في نفسه ما قاله في كعب ووهب، فأباحوا لأنفهسم ما لم يبيحوه لسواهم، ونقلوا من الإسرائيليات ما يخالف النص القرآني الكريم ولم ينقدوه أو يبطلوه؛ بل وحرفوا معاني نصوص القرآن الكريم حتى توافق ما جاءوا به من الإسرائيليات.
لست أقول ما قلت من غير تأمل وتفكر، ولست ألقي الكلام على عواهنه -كما يقولون- وليس هذا من قبيل استفزاز المشاعر ضدهم؛ بل هو الحقيقة والواقع، ولنسق الأمثلة واحدًا واحدًا.
أما روايتهم لما ورد من الإسرائيليات من غير رد لها حسب منهجهم الذي ذكروه، فما أورده السيد رشيد رضا في تفسيره حيث قال: "روى نحو هذا ابن جرير، قال: حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: وُكِّلَ بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونها ... إلخ"1.
وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} 2: "ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة، قيل: إن المراد اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها، وقيل: بذنبها"3.
ومنه أيضًا ما ذكره الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في المائدة التي أُنزلت من السماء فقال: "وللعلماء في الطعام الذي نزل في المائدة آراء؛ فقيل: هو خبز وسمك، وقيل: خبز ولحم، وقيل: كان ينزل عليهم طعامًا أينما ذهبوا، كما كان ينزل
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص484.
2 سورة البقرة: من الآية 73.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.(2/760)
المن على بني إسرائيل، كما رواه ابن جرير عن ابن عباس"1.
ومنه ما قاله أيضًا في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} 2، قال: "وقد كان العلماء قديمًا يعلمون تخلخل الهواء في الطبقات العالية في الجو، وهي نظرية لم تدرس في العلوم الطبيعية إلا حديثًا، فقد أُثِرَ عن كعب الأحبار أنه قال: إن الطير يرتفع في الجو اثني عشر ميلًا، ولا يرتفع فوق ذلك"3.
ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 4، حيث قال: "وجاء في كتب الأوائل أن في زمن "أنوش بن شيث بن آدم" ابتدأت عبادة الأوثان، وجعل الناس يسمون المخلوقات آلهة، فكان أنوش يجمع أهل بيته وذويه للصلاة والتسبيح وعبادة الله وحده، وفي زمن إدريس -عليه السلام- وهو "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش - كثر النفاق، وانغمس الناس في الآثام؛ فأنزل عليه وحي في سفر هو صحف إدريس المشهورة، ولم يبقَ من ذلك السفر سوى فِقْرَةٍ، يقولون: إنها وجدت في أطواء بعض الكتب المقدسة"5.
هذا هو النوع الأول من وقوعهم في الإسرائيليات، ينقلون منها ما نقله السابقون، أما النوع الثاني وهو نقلهم ما يخالف النص القرآني من غير تكذيب له؛ فمنه ما نقله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره لسورة نوح -عليه السلام- حيث قال: "وذكر في الأسفار القديمة أن نوحًا ولد لسنة 182 من عمر أبيه "لامك" ولسنة 1056 لجده الأكبر آدم -عليه السلام- ومعنى نوح: الراحة والتعزية. وكان عمر نوح 500 سنة لما أخذ يلد أولاده: سامًا وحامًا ويافث، وكان
__________
1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص59.
2 سورة النحل: من الآية 79.
3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج14 ص119.
4 سورة نوح: من الآية الأولى.
5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص55.(2/761)
عمره 600 سنة لما حصل الطوفان"1.
أما مصدر المعارضة للقرآن الكريم فقد أبرزته مراقبة الثقافة بالأزهر التي علقت على الطبعة التي بين يدي عند هذا الموضع بقولها: "قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَان} 2 يفيد أن الطوفان حدث بعد أن أمضى نوح بين قومه 950 سنة؛ فالقرآن يخالف في ذلك ما نقله المؤلف عن الأسفار القديمة"3.
قلت: ولا ينفع الشيخ قوله بعد هذا: "هذا منخول ما جاء في الكتاب القديمة من خبر نوح -عليه السلام- ونحن معشر المسلمين لا نصدقها ولا نكذبها؛ بل نَكِلُ أمرها إلى العلم الحديث، فهو الذي يمحصها ويميز غثها من سمينها"4.
وإنما قلت: لا ينفعه هذا؛ لأن منهجنا -معشر المسلمين- ليس ما ذكر؛ بل تكذيب ما خالف النص القرآني لا التوقف أو تفويض أمره إلى العلم الحديث!
أما النوع الثالث من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات التي حذروا منها فهو رجوعهم بأنفسهم إلى مصادر أهل الكتاب، ونقلهم منها مباشرة لمجملات القرآن الكريم وبمهماته؛ بل وجعل هذه النصوص دليلًا مرجحًا وميزانًا للمفاضلة بين أقوال المفسرين؛ بل رد التفاسير التي تخالف هذه النصوص؛ حتى قال أحدهم: "ومنه نعلم أن كل ما خالفها -أي: التوراة- من أقوال المفسرين في معنى الطمس على أموالهم، فهو من أباطيل الروايات الإسرائيلية التي كان من مقاصد كعب الأحبار وأمثاله منها، كما نرى صد اليهود عن الإسلام بما يرويه في تفسير المسلمين للقرآن مخالفًا لما هو متفق عليهم عندهم"5.
__________
1 المرجع السابق: ص56.
2 سورة العنكبوت: الآية 14.
3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي هامش ص56.
4 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص56.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص474.(2/762)
وأمثلة هذا النوع كثيرة جدًّا في تفاسيرهم؛ ومنها ما قاله الأستاذ أحمد مصطفى المراغي في تفسير {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1، فقال: "وجاء في إنجيل يوحنا: وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته"2.
ومنه أيضًا قوله في تفسيره قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 3، قال: "وقد جاء في الفصل السادس من سِفْرِ الخروج من التوراة: فقال الرب لموسى الأثرى: ما أصنع بفرعون، إنه بيد قديره سيطلقكم، وبيد قديره سيطردكم من أرضه ... "4.
ومنه ما قاله الشيخ عبد القادر المغربي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 5 الآية، قال: "ويكفي في الاستشهاد على ذلك ما جاء في "رؤى دانيان" من أسفار العهد القديم "ورؤيا يوحنا" من أسفار العهد الجديد، وقد قال المفسرون من علماء أهل الكتاب: إنه وإن يكن يوجد في سفر دانيال حوادث غير اعتيادية، فليس هذا بمستغرب؛ لأنه يعم الكتاب المقدس تقريبًا "وقالوا في رؤيا يوحنا": إن معناها عويص، وهي مشحونة بمسائل محيرة لا يمكن حلها قبل تتمة ألف سنة"6 إلخ.
ومنه ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 7 الآية، قال: "وهذا التابوت المعرف صندوق له قصة معروفة في كتب اليهود؛ ففي أول الفصل
__________
1 سورة المائدة: من الآية 117.
2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج7 ص64.
3 سورة الأعراف: من الآية 129.
4 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج9 ص39.
5 سورة المدثر: من الآية 31.
6 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص95.
7 سورة البقرة: من الآية 248.(2/763)
الخامس والعشرين من سفر الخروج ما نصه: وكلم الرب موسى قائلًا: كلم بني إسرائيل ... إلخ"1، ثم ذكر النص. وقال أيضًا: "وفي سفر تثنية الاشتراع أن موسى لما كمل كتابة هذه التوراة أمر اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون شاهدًا عليكم [31: 24-30] "2.
وقال أيضًا في موضع آخر: "وأما ما ورد في التوراة الحاضرة في شأن الألواح فمنه ما جاء في سفر الخروج من [23: 12] وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها؛ لتعلمهم الكلمات العشر، وجاء في وصف اللوحين منه [32: 15] ثم انثنى موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده: لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هناك كانا مكتوبين" 3.
أما النوع الرابع -وهو النوع الأخطر من أنواع وقوعهم في الإسرائيليات- فهو صرفهم معنى النص القرآني؛ ليوافق نصوص أهل الكتاب، ونضرب لذلك مثلًا بتفسير الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين} 4 الآيات، حين مال الشيخان إلى أن المراد في الآيات بيان نوع من التشريع الموجود عند بني إسرائيل، يتوصل به إلى معرفة القاتل المجهول.
ثم يربط بين هذا المعنى وبين ما جاء في التوراة فيقول: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة؛ وهو أنه إذا قتل قتيل لم يعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي ... إلخ"5.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص480.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص482.
3 المرجع السابق: ج9 ص185.
4 سورة البقرة: من الآية 67.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.(2/764)
وقد أيد الشيخ رشيد رضا ما ذهب إليه شيخُه بذكر النص الوارد في التوراة المتعلق بقتل البقرة، ثم قال بعد هذا: "فعُلم من هذا أن الأمر بذبح البقرة كان لفصل النزاع في واقعة قتل"1، ثم قال: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله؛ ليعرف الجاني من غيره ... ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تُسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي: يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى: {مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [5: 32] ، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين، ثم قال: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات"2.
وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه صَرَفَا معنى الآية عن أن تكون قصة واقعة أحيا الله فيها القتيل {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} ليكون آية للناس {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} صرفا هذه الآيات عن هذا المعنى إلى أنها وردت لبيان حكم كان في بني إسرائيل، فعلوا هذا ليوافق ما جاء عن أهل الكتاب "والإسرائيليات".
هذه بعض مواطن وقوعهم فيما حذروا منه، فوقعوا في مثله أو أسوأ منه، وقد ترددت في اعتبار هذا من أسس منهجهم ما داموا لم يلتزموا، لولا أني رأيت أن القول الصريح مقدَّم على الفعل في الاستدلال، فأقوالهم صريحة في رفض الإسرائيليات؛ فاعتبرته كذلك وإن لم يلتزموه.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.
2 المرجع السابق: ج1 ص351.(2/765)
الأساس السابع: القرآن هو المصدر الأول في التشريع
وتظهر أبعاد هذا الأساس لدى رجال المدرسة في قول الأستاذ الإمام محمد عبده: "وأريد أن يكون القرآن أصلًا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلًا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون"1.
ويؤكد هذا التأصيل تلميذُه السيد رشيد رضا بقوله: "إن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين -رضي الله عنهم- أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وأن حكم الله يُلتمس فيه أولًا، فإن وُجد فيه يؤخذ وعليه يعول ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، وإن لم يوجد التُمس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين أرسله إلى اليمن، وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين"2.
وأيد هذا الشيخ محمود شلتوت قائلًا: "إن مصادر التشريع في الإسلام ثلاثة: القرآن والسنة والرأي، وهي في المصدرية على هذا الترتيب، فما وجد في القرآن أخذ منه ولا يطلب له مصدر سواه، وما لم يوجد فيه بحث عنه فيما صحت روايته وثبت وروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم"3.
ومع هذه النصوص نصوص أخرى تميز المراد من النصوص الأولى وتظهره؛ ذلكم أن تلك النصوص السالفة قابلة لهذا وذاك، قابلة لمن يجعل القرآن هو المصدر الأول ولا يقبل معه ما يبين مجمله ولا يخصص عمومه، وقابلة لمن جعل القرآن هو المصدر الأول من غير رد لما صح من السنة، والذي يظهر أن رجال المدرسة العقلية الاجتماعية كثيرًا ما يميلون إلى المراد الأول؛ فينكرون من صحيح السنة ما لا يوافق تفسيرهم لآية في القرآن الكريم، وكأن التفسير الذي مالوا إليه قد قامت أركانه، وصحت قوائمه، وتبوأ منزلة هي أقوى درجة من صحيح السنة، فردوا هذا الأخير لأجل فَهْمِهم الخاطئ.
فهذا الإمام محمد عبده ينكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر
__________
1 فاتحة الكتاب: محمد عبده ص46.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120.
3 الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت ص469.(2/766)
فيقول: "والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد ما يثبته وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه -عليه السلام- حيث نسب القول بإثبات حصوله إلى المشركين وأعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا؛ فإذن هو ليس بمسحور قطعًا.
وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون"1، إلى أن قال: "وعلى أي حال، فلنا -بل علينا- أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل".
وقد كفانا مؤنة الرد على الأستاذ الإمام الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حيث قال: "وهذا الحديث الذي يرده الأستاذ الإمام رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة؛ فإن السحر الذي أُصيب به النبي عليه الصلاة والسلام كان من قبيل الأمراض التي تَعْرِضُ للبدن بدون أن تؤثر على شيء من العقل"2، وقال: "ثم إن الحديث روايه البخاري وغيره من كتب الصحيح؛ ولكن الأستاذ الإمام -ومَن على طريقته- لا يفرقون بين رواية البخاري وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخاري، كما أنه لو صح في نظرهم فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا في نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة، التي هي بالنسبة للكتاب بمنزلة الْمُبَيِّن من الْمُبَيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتصق بالمبيَّن"3.
وخذ مثلًا لذلك -آخر- تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي لقوله
__________
1 تفسير جزء عم: محمد عبده ص180، 181.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص240، 241.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص241.(2/767)
تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، قال الشيخ المراغي مكتفيًا بالقرآن دون السنة: "وما صح من الأحاديث في النهي عن طعام غير هذه الأنواع الأربعة فهو إما مؤقت وإما للكراهة فقط، ومن الأول تحريم الحُمُر الأهلية، فقد روى ابن أبي شيبة والبخاري عن ابن عمر قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر"، ومن الثاني ما رواه البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"1.
لكن الشيخ المراغي جعل تحريم غير هذه الأربعة إما مؤقتًا وإما للكراهة، ولم يتحدث عما ورد بلفظ التحريم من غير علة عارضة تقيده بزمان أو مكان، وقد كفاه مؤنة هذا الصنف الأستاذ محمد رشيد رضا حيث قال: "وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى2 لا بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس مراد من رد تلك الأحاديث بآية الأنعام من الصحابة وغيرهم أنه لا يقبل تحريم ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن منصوصًا في القرآن؛ بل معناه أنه لا يمكن أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا جاء نص القرآن المؤكد بحله، واعتبر هذا بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسُئِلَ عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث"، فقال ابن عمر: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال. اهـ. فقوله "إن كان"
__________
1 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج8 ص58.
2 جرأة غريبة من الشيخ محمد رشيد رضا على رد الأحاديث، وبكل سهولة يزعم بصيغة العموم: "وما ورد منه بلفظ التحريم فهو مروي بالمعنى"، وهل يصلح هذا لرد الأحاديث بدون تتبع؟!!(2/768)
مشعر بشكه فيه، وأنه إن فرض أنه قال وجب قبوله؛ لأن الله أمر بإتباعه؛ ولكن بمعنى أنه خبيث غير محرم كالثوم والبصل على أن الحديث ضعيف"1.
وهذا الذي قاله محمد رشيد رضا غريب منه، فهل خفي عليه -ولا أظنه- أن قول ابن عمر رضي الله عنهما: "إن كان ... إلخ" رجوع منه -رضي الله عنه- عن فَهْمِه إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وغريب منه أيضًا أن يجهل -ولا أظنه كذلك- حُكْم الخبائث في الإسلام؛ فيكفي أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه خبيثة من الخبائث؛ لنعرف من القرآن أنه عليه الصلاة والسلام يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث.
ليس لي أن أذكر أمثلة أكثر من هذا فهي كثيرة في تفاسيرهم، وفيما ذكرت ما يكفي للمراد إن شاء الله تعالى.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص163.(2/769)
الأساس الثامن: الشمول في القرآن الكريم
وهو أمر مسلَّم؛ إذ الشمول فيه فرع عن الشمول في الرسالة الإسلامية عامة، فهي ليست لأمة دون الأمم، ولا لطائفة دون طائفة، ولا لزمن دون زمن {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1؛ ولذا جاء القرآن الكريم أيضًا -وهو كتاب هذه الرسالة- شاملًا {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} 3.
أدرك هذا رجال المدرسة العقلية الاجتماعية فالتزموه في تفسيرهم، فقال أستاذهم الإمام محمد عبده: "إن القرآن هادٍ ومرشد إلى يوم القيامة، وإن معانيه عامة وشاملة، فلا يعد ويوعد ويعظ ويرشد أشخاصًا مخصوصين؛ وإنما نيط وعده
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 158.
2 سورة الأنعام: من الآية 19.
3 سورة يوسف: من الآية 104.(2/769)
ووعيده وتبشيره وإنذاره بالعقائد والأخلاق والعادات والأعمال التي توجد في الأمم والشعوب"1.
وقال تلميذه من بعده: "فإن كان مات مَن كانوا سبب النزول فالقرآن حتى لا يموت ينطق حُكْمَه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان"2.
ولعلنا ندرك من هذا النص الأخير أنهم يحرصون كثيرًا على عدم تخصيص الآيات ذوات سبب النزول بالسبب؛ بل يلتزمون القول بالشمول في غالب ذلك.
خذ مثلًا لذلك ما قاله الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير الأتقى والأشقى من قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} 3 الآية، قال: "وبتفسير الأتقى والأشقى على النحو الذي سمعته تبطل تلك الإشكالات التي أوردها المفسرون في الحصر، وما أشكل عليهم إلا تقييدهم بالعادة في استعمال ألفاظ: كذب وتولى، وتحكيمهم عاداتهم واصطلاحاتهم التي وضعوها من عند أنفسهم لأنفسهم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ثم إنهم يوردون ههنا أسبابًا للنزول، وأن الآيات نزلت في سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لأنه اشترى من أرقاء المسلمين ضعفاء وأعتقهم من ماله لا يبتغي في ذلك إلا وجه الله، ورووا غير ذلك، وقالوا: إن الأشقى هو أمية بن خلف، وقيل غير ذلك، ومتى وجد شيء من ذلك في الصحيح لم يمنعنا من التصديق به مانع؛ ولكن معنى الآيات لا يزال عامًّا -كما رأيت- والله أعلم"4.
ومن ذلك تفسير الشيخ محمد رشيد رضا لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 5؛ حيث قال: "وهذه الآيات
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص179.
2 المرجع السابق: ج1 ص153.
3 سورة الليل: الآيات 14-17.
4 تفسير جزء عم: محمد عبده ص106.
5 سورة البقرة: الاية 8.(2/770)
التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال الفرقة الرابعة، وهي فرقة من الناس توجد في كل آنٍ وفي كل عصر، وليست الآيات -كما قيل- في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل؛ ولذلك قال تعالى في بيان حالهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، ولم يقل عنهم: إنهم يقولون مع ذلك: "وآمنا بك يا محمد"، وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر الذين لم يلبثوا أن انقرضوا كل هذه العناية ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس"1.
ومثلًا آخر تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغي للمغضوب عليهم والضالين، وذلك في سورة الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 2.
فقد ورد في السنة تخصيص هذا العموم بأن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى؛ لكن الشيخ المراغي يميل إلى العموم فيقول في تفسيرها: "والمغضوب عليهم هم الذين بلغهم الدين الحق الذي شرعه الله لعباده؛ فرفضوه ونبذوه وراءهم ظهريًّا، وانصرفوا عن النظر في الأدلة؛ تقليدًا لما ورثوه عن الآباء والأجداد، والضالون هم الذين لم يعرفوا الحق أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح، وهؤلاء هم الذين لم تبلغهم رسالة أو بلغتهم على وجه لم يستبن لهم فيه الحق"3.
ومثل ذلك تفسير الشيخ عبد القادر المغربي لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} 4، والخطاب في قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ} وإن كان موجهًا إلى الفريقين: المصدقين والمكذبين، كان سببه صادرًا عن المكذبين وهم المشركون، فإنهم كانوا يوصي بعضهم بعضًا بألا يجهروا ما يدور بينهم؛ لئلا يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم"5.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص149.
2 سورة الفاتحة: من الآية 7.
3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج1 ص37.
4 سورة الملك: من الآية 13.
5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص7، 8.(2/771)
وهذا أخيرًا مثل من تفسير الشيخ محمد مصطفى المراغي على هذا النحو في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1، فقد ذكر سبب نزول الآية، ثم قال: "يصح أن يكون هذا أو غيره سبب نزول الآية؛ لكن الآية عامة تشمل كل خيانة الله ورسوله"2.
ولعل فيما ذكرنا من أمثلة ما فيه الكفاية لتقريره أساسًا من أسس التفسير لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية.
ونحن حين نقول بالشمول في القرآن والعموم في الرسالة الإسلامية فلا يعني إطلاق ذلك؛ فلا شك أن في القرآن آيات خاصة جاءت الأدلة على خصوصها؛ فلا ينبغي أن يطلق العموم في القرآن على هذا النحو، خاصة إذا أورد التخصيص للآية في السنة النبوية المطهرة.
ولو كان منهجنا في الدراسة مناقشة المذاهب والآراء مناقشة واسعة؛ لتتبعنا هنا ما ذكرنا وغيره مما لم نذكر من تفاسيرهم، وذكرنا مواقع التطرف ومواقع الاعتدال في كلٍّ.
__________
1 سورة الأنفال: الآية 27.
2 الدروس الدينية لعام 1357: محمد مصطفى المراغي ص29.(2/772)
الأساس التاسع: التحذير من الإطناب
فيما ورد مبهمًا في القرآن الكريم، والحديث عن هذا الأساس مرتبط بالحديث عن الأساس السادس؛ وهو تحذيرهم من الإسرائيليات، فكلاهما إعراض عن الحديث عن شيء من غير دليل صحيح وسند مقبول.
وهذا الأساس من الوضوح لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية بمكان؛ فقد رفعوا أصواتهم، وكرروا نداءاتهم، ودعوا إلى تنقية التفاسير مما عَلَقَ بها من أحاديث وضعها القصاص والوضاعون في بيان مبهم في القرآن الكريم؛ ليدعموا به معتقدًا زائفًا أو دعوة باطلة، أو لغرض دنيوي، أو لطلب مكانة ومنزلة بين العامة؛ فلجئوا إلى ذلك الأسلوب الهجين.(2/772)
وأول ما يواجه القارئ للقرآن الكريم مما استأثر الله تعالى بعلمه ما يسمى بـ"فواتح السور"، وقد بيَّن الشيخ محمود شلتوت ما هو خير للناس في فَهْم هذه الفواتح، فقال: "ولعل من الخير للناس أن يوفروا على أنفسهم عناء البحث في معاني هذه الحروف وأسرار ترتيبها واختيارها على هذا النحو، وأن يكفوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه ولم يكلفهم الله به، ولم يربط به شيئًا من أحكامه أو تكاليفه"1.
ومن أشهر المبهمات أيضًا والتي توقف عندها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم قال لنفسه: "إن هذا لهو التكلف يا عمر"؛ ذلكم هو "أبًّا" من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 2، وقد أعرض الأستاذ الإمام محمد عبده عن الخوض في ذلك عند تفسيرها فقال: "فالمطلوب منك في هذه الآيات هو أن تعلم أن الله يمن عليك بنعم أسداها إليك في نفسك وتقويم حياتك، وجعلها متاعًا لك ولأنعامك، فإذا جاء في سردها لفظ لم تفهمه لم يكن من جد المؤمن أن ينقطع لطلب هذا المعنى بعد فَهْم المراد من ذِكْرِه؛ بل الواجب على أهل الجد والعزيمة أن يعتبروا بتعداد النعم، وأن يجعلوا معظم همهم الشكر والعمل، هكذا كان شأن الصحابة -رضي الله عنهم- ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ، وجعلوها شغلًا شاغلًا، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها وتحميلها ما لا تحتمله، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر، وأعضاءهم معطلة عن العمل الصالح والشكر"3.
وكما توقف عن القول في معنى "أبًّا" توقف عن القول فيما لا علم له به؛ فتوقف عن القول بالحافظين من قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِين} 4؛ فأعلن إيمانه بذلك إجمالًا، ولم يبحث عمَّا وراء ما ورد في النصوص
__________
1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص61.
2 سورة عبس: الآية 31.
3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص21.
4 سورة الانفطار: الآيتين 10، 11.(2/773)
الصحيحة فقال: "ومن الغيب الذي يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به في كتابه من أن علينا حفظة يكتبون أعمالنا حسنات وسيئات؛ ولكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء، ومن أي شيء خُلقوا، وما هو عملهم في حفظهم وكتابتهم، هل عندهم أوراق وأقلام ومداد كالمعهود عندنا -وهو ما يبعد فَهْمه- أو هناك ألوح تُرسم فيها الأعمال؟ وهل الحروف والصور التي تُرسم هي على نحو ما نعهد، أو إنما هي أرواح تتجلى لها الأعمال؛ فتبقى فيها بقاء المداد في القرطاس إلى أن يبعث الله الناس؟ كل ذلك لا نكلف العلم به؛ وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر، وتفويض الأمر في معناه إلى الله، والذي يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل في عملنا هو أن أعمالنا تُحفظ وتُحصى، لا يضيع منها نقير ولا قطمير"1.
ونحو هذا تفسير تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 2؛ حيث قال: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنة مخلوقة الآن؛ لأن الفعل الماضي يُفهم هذا؛ غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} 3، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث في هذا لا فائدة له ولا طائل تحته"4.
وفي تفسير قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} 5 يقول: "وهل هذا الصوت صوت جهنم نفسها؛ بمعنى: أن المواد التي تلتهب فيها يُسمع لها هذا الصوت، أو هو صوت أهلها الذين ألقوا ويلقون فيها؟ لم يكلفنا الشرع تعيين أحد الأمرين، كما لم يكلفنا أن نعرف جهنم والجنة وسائر شئون عالَم الغيب معرفة كُنْه وتحديد؛ وإنما كل ما على المؤمن أن يعتقد أنه تعالى أعدَّ دارًا للأشرار تُسعر فيها النار وتفور، ويُسمع لها صوت على المعنى الذي يريده سبحانه
__________
1 جزء عم: محمد عبده ص36.
2 سورة آل عمران: الآية 132.
3 سورة الزمر: من الآية 68.
4 الدروس الدينية لعام 1356هـ: محمد مصطفى المراغي ص21.
5 سورة الملك: الآية 7.(2/774)
وتعالى، أما ما وراء ذلك من اعتقاد أن مواد جهنم وعناصرها وطبائعها وغليانها وحسيسها من جنس ما نعرفه في الدنيا أو لا، فهذا مما لم نكلفه رحمة بنا؛ إذ القصد أن يؤدي علمنا بالنار إلى الخشية والازدجار، وهذا يحصل بمجرد ما قصه الله علينا من أمرها، وأن الداخل إليها يشعر من الألم بأقصى ما يعهده في دار الدنيا"1.
وعودة إلى أستاذ هذه المدرسة وإمامها الشيخ محمد عبده، نذكر له توقفه عن الإطناب في شأن الميزان يوم القيامة؛ وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} 2، قال: "ومن عجيب ما قاله بعض المفسرين: "إنه ميزان بلسان وكفتين كأطباق السماوات والأرض، ولا يعلم ماهيته إلا الله"!!، فماذا بقي من ماهيته بعد لسانه وكفتيه حتى يفوض العلم فيه إلى الله؟! والكلام فيه جرأة على غيب الله بغير نص صريح متواتر عن المعصوم، ولم يرد في الكتاب إلا كلمة الميزان، وقدر ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد وما عدا ذلك فعلمه إلى الله سبحانه ... وعليك أيها المؤمن المطمئن إلى ما يخبر الله به أن تؤمن أن الله يزن الأعمال، ويميز لكل عمل مقداره، ولا تسل: كيف يزن؟ ولا كيف يقدر؟ فهو أعلم بغيبه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون"3.
هذه بعض الأمثلة على توقف رجال المدرسة العقلية الاجتماعية عن الإطناب فيما أبهمه القرآن الكريم مما لا طائل في معرفته.
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص7.
2 سورة القارعة: الآيتين 6، 7.
3 جزء عم: محمد عبده ص145، 146.(2/775)
الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي
مدخل
...
الأساس العاشر: الإصلاح الاجتماعي
وبلغت منزلة هذا الأساس ودرجتُه عند رجال المدرسة العقلية الاجتماعية أن أصبح كالأساس الثالث -تحكيم العقل- صفة من صفاتهم التي بها يُعرفون وإليها يُنسبون؛ حتى أضيف إلى اسم المدرسة؛ فعرفت بالمدرسة العقلية الاجتماعية.(2/775)
ذلكم أن رجال المدرسة وهم يواجهون أو يعاصرون يقظة العالم الإسلامي الذي انبهرت طائفة منه بمعالم الحضارة الغربية اتجهوا كغيرهم من المصلحين إلى تلمس السبيل الأمثل لإصلاح المجتمع الإسلامي وَفْقَ أحكام الشريعة الإسلامية؛ بحيث تسبق هذه الأمة أمة الغرب أو تلحق بها مع التزامها لمبادئ دينها.
وهي مهمة غير ميسرة تحف بها العقبات، وتحيط بها المتاهات، وتزيغ بها الأهواء، وتلتبس بها السبل، فإن أحاط صاحبها نفسه بنور القرآن الكريم، ولم يَحِدْ عن نوره يَمْنَةً أو يَسْرَةً لم يزل على جادة الحق حتى ينجو وينجِّي، وإلا هلك وأهلك.
لا عجب أن يكون القرآن الكريم هو النبراس في دياجير الظلام؛ فقد وصفه منزله -عز شأنه- بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1.
ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو الهداية {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 2.
ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو النور؛ فقد أنزله الله كذلك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 3.
والتاريخ شاهد للقرآن بهذا؛ فليتأمل المتأمل في تاريخ المسلمين، وينظر إلى تلك الروح التي سرت في جسد الأمة الإسلامية في القرن الأول ما إن أشرقت أول شعاعة لهذا القرآن الكريم من غار حراء إلا والقلوب تأوي إليه والأفئدة تهفو إليه، وإذا بالفرد قد أصبح جماعة، وإذا بالجماعة قد أصبحت أمة، وإذا بالأمة قد أصبحت أممًا حتى خاطب حاكمها سحابة في عِنَانِ السماء: أيتها السحابة أمطري حيث شئت، فإن خراجك سيأتي إليَّ.
__________
1 سورة إبراهيم: الآية الأولى.
2 سورة الإسراء: من الآية 9.
3 سورة النساء: من الآية 174.(2/776)
كانت هذه الأمة أمة مستذلة قبل أن يسري فيها نور القرآن، كانت تقول: "للبيت رب يحميه"، وما إن أشرق فيها نوره حتى صارت جنود مَن يحميه؛ بل لم تقف موقف الحماية؛ فهبت لتاج كسرى الوثني تلقيه، ولتاج قيصر الرومي تحطمه وترميه؛ حتى لا يقف حاجزًا لهذا النور، فليس هو لأمة دون أمة ولا لأرض دون أرض؛ إذًا فليفسح له السبيل، وليفتح له الطريق؛ حتى تشرق الأرض بنور ربها، وهكذا كان.
أشرق النور وانجلت الظلمات فصار الناس يرون الحق والسبيل السوي فيسلكونه، ويرون الباطل وطريق الضلال فيجتنبونه، نعموا بالعدل، وما أدراك ما هو؛ فقد بسطه نبي هذه الأمة، وما زالت كلمته تجلجل "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، وبسطه خلفه مَن بعده حتى قال خليفتهم: والله لو عثرت شاة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لَمْ أمهد لها الطريق، قال ذلك في منتهى إدرك المسئولية على عاتقه.
ونعموا بالأمن فلا يضيع دم أحد هدرًا، حتى ولو اشترك أهل صنعاء في قتله، ولا يضيع مال حتى تقطع يد لنصف دينار منه، ولا يضيع شرف حتى يجلد صاحب كلمة تخدشه، أو ترجم نفس تنتهكه، أو تقطع أيدي وأرجل اعتدت عليها، ولن يُهدر سن ولا عين ولا جرح ولا شَعَرَة حتى يقاد لصاحبها ويقتص.
أي أمن هذا؟! وأي سلام؟! إنه أمن الإيمان، وسلامة الإسلام، الذي عجزت وتعجز أن تدانيه آية قوانين مستحدَثة، وآية أنظمة وضعية.
إذًا، فلا عجب أن يكون ذلكم الكتاب الكريم شاملًا لصلاح الدنيا وسعادة الاخرة، ولا عجب أبدًا أن يكون ملاذ المصلحين ودستور الحاكمين ومنار المهتدين، إليه يأوي أولئك يستمدون منه قواعد الإصلاح الاجتماعي وأسسه، وإليه يأوي هؤلاء الحاكمون يستمدون منه أصول الحكم الإسلامي، وإرساء قواعد الدولة الإسلامية، ويأوي إليه المهتدون ينعمون بفييء ظلاله وأمن جواره.(2/777)
كنت أقول: إن التاريخ شاهد على ما ذكرنا، وإنه شاهد -لا أشك في شهادته- أن الأمة الإسلامية تقوى بتمسكها به، وتضعف بتركها له أو إعراضها عنه.
سادت الدولة الإسلامية أرجاء واسعة من الأرض، بسطت عليها سلطتها، وأرست دعائم حُكْمها العادل، ثم ضعف تمكسها بالقرآن الكريم وأحكامه؛ فما لبثت أن بدأت تتهاوَى وتسقط الواحدة تلو الأخرى؛ حتى أصبحت غثاء كغثاء السيل، وحتى تداعت عليها الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها.
حتى أفاق العالم الإسلامي من نومته، واستيقظ من غفلته؛ فإذا به مكبلًا مقيدًا يبغي الفكاك، شمرت طائفة من العلماء عن سواعدها داعية إلى سبيل السلامة وما فيه النجاة، والتفتوا إلى القرآن الكريم يرسلون أنواره في زوايا الظلمات؛ حتى يكشفوا ما فيه هلاكهم فيحذروه، وما في نجاتهم فيسلكوه.
أرسلوا هذا النور القرآني إلى عادات باطلة صارت عقائد راسخة، وإلى عقائد أصيلة أصبحت في عالم النسيان، نبهوا المسلمين إلى عدوهم الحقيقي ليحذروه، ودعوهم إلى الإسلام وتحكيم مبادئه وترسيخ أصوله.
وكان من هؤلاء رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، الذين شاء الله أن يعيشوا -أو كثير- منهم تلك الفترة؛ فقاموا حسب طاقتهم وجُهْدهم بهذه المهمة؛ فخاضوا في شتى القضايا، وبسطوا كثيرًا من الإصلاحات، وكان لهم شأن البشر حسنات وكان لهم غيرها.
اتجهوا إلى تفسير القرآن الكريم يطبقونه على مجتمعهم، فإن جاء ذكر عمل محمود أشادوا به ودعوا إلى امتثاله، وإن جاء ذكر عمل مذموم شنئوه وحذروا الناس منه؛ فكان هذا -وهو كذلك- هو المدخل الصحيح للمصلح الاجتماعي.
كانت القضايا الاجتماعية لا تكاد تحد ولا تعد، بدءًا من الحكومة الإسلامية والقواعد التي تقوم عليها، ومرورًا بالوَحْدَة الإسلامية والحرية الفردية والحرية السياسية وحرية العقيدة، ثم إصلاح العقائد من الخرافات والأوهام التي ألصقت بها إلصاقًا، ثم إصلاح التعليم وما أدراك ما التعليم! ثم إصلاح الاقتصاد عامة، ونشر الاقتصاد الإسلامي خاصة، ثم القضية التي يسمونها قضية(2/778)
المرأة، ما لها وما عليها، ما تطلبه وما يطلب منها، شغلت الناس حينًا من الدهر وما زالت، ثم قضايا التربية الإسلامية والالتزام بمبادئه التهذيبية كالأمانة والصدق والصبر، مما يهذب النفس الإسلامية، ويصبغها بمثله ومبادئه، ثم قضايا الخمر والزنا والسرقة، وبيان آثارها وأضرارها في المجتمع.
ولا أظن القلم سيتوقف من قريب إن ذهبت أُعدِّد -مجرد تَعداد- القضايا الاجتماعية في تلك الفترة، حتى إنه لا يخلو تفسير آية من آيات القرآن الكريم من ألف مدخل ومدخل إلى قضية من تلكم القضايا.
وقد جد رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في أن يلتزموا عند تفسير كل آية ما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي، ويتخذوا منها مدخلًا إلى الإصلاح؛ حتى وُصف أستاذ هذه المدرسة ضمن أوصافه بـ"المصلح الاجتماعي".
وليس علينا ونحن نعرض هنا التزامهم لهذا الجانب في التفسير أن نعرض لكل الجوانب الإصلاحية ولا لأكثرها؛ فلنعرض إذًا لبعض جوانب الإصلاح الاجتماعي مما يُثبت سلوكهم إياه وعملهم به؛ حتى صار أساسًا من أسس تفسيرهم؛ بل صفة تطلق عليهم.(2/779)
الحريَّة:
وحين نطلق -نحن المسلمين- لفظ الحرية فإنا لا نعني بها ذلك المفهوم الغربي؛ بمعنى التجرد من الدين والمبادئ؛ بل التحرر
من سلطان ورجال الكنيسة في العصور الوسطى، ومن سلطان الإقطاعيين والفكر الأجوف والتقليد الأعمى، فتلك الحرية نتاج فكر لا وجود له في الإسلام، وبالتبع فليست تلك الحرية من مقاصد الإسلام.
فلقد بوأ الإسلام الحرية منزلة لا تدعوها إلى الهجوم عليه؛ لأنها نابعة منه وقائمة عليه، فكيف تثور الحرية على قاعدتها الراسخة، تشعبت الحرية في الإسلام، ورسخت فيه عروقها؛ فصارت ماءه الذي تشربه، وهواءه الذي تتنفسه، خذ من تلك الشعب إن شئت:(2/779)
الحرية في العقيدة:
فقد أعلنها الإسلام صريحة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، قال الشيخ محمد عبده في تفسيرها: " {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام، وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يُكره أحدًا من أهله على الخروج منه؛ وإنما نكون متمكنين من إقامة هذا الركن وحفظ هذه القاعدة إذا كنا أصحاب قوة ومنعة، نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا اعتداء علينا بما هو آمن أن نعتدي بمثله عليه، إذًا أمرنا أن ندعوا إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة، فالجهاد من الدين بهذا الاعتبار؛ أي: أنه ليس من جوهره ومقاصده؛ وإنما هو سياج له وجنة، فهو أمر سياسي لازم له للضرورة"2.
وزاد الأستاذ محمد رشيد رضا وضوحًا بقوله: "ولكن قد يرد علينا أننا قد أمرنا بالقتال"، ثم يجيب على هذا بقوله: "إن الإكراه ممنوع، وإن العمدة في دعوة الدين بيانه حتى يتبين الرشد من الغي، وإن الناس مخيرون بعد ذلك في قبوله وتركه، شرع القتال لتأمين الدعوة ولكف شر الكافرين عن المؤمنين؛ لكيلا يزعزعوا ضعيفهم قبل أن تتمكن الهداية من قلبه، ويقهروا قويهم بفتنته عن دينه كما كان يفعلون في مكة جهرًا؛ ولذلك قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 3، 4.
ومما يتصل بحرية العقيدة حرية الجدل الديني ما دام جدالًا بالتي هي أحسن، فقد قال الأستاذ محمد فريد وجدي في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 5: "ولا تجادلوا أهل
__________
1 سورة البقرة: من الآية 256.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص37.
3 سورة البقرة: من الآية 193.
4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص39.
5 سورة العنكبوت: من الآية 46.(2/780)
الكتاب إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال؛ كمقابلة خشونتهم باللين، وشغبهم بالنصح، إلا الذين ظلموا منهم بالإفراط في الاعتداء"1.
وحرية من العبودية لغير الله:
فالأصل في الإنسان حريته من العبودية إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكِّرنا بقول عمر -رضي الله عنه- مستنكرًا: "ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ".
ولذلك حث الإسلام على العتق وتحرير الأرقاء، قال الشيخ محمد عبده في تفسيره قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ} 2: "وفك الرقبة عتقها أو المعاونة عليه، وقد ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلًا عما ورد في الكتاب، وهو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية وجفوته للأَسْرِ والعبودية"3.
حرية سياسية:
فشرع الشورى، قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 4: "وشاورهم في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية؛ أي: دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة -غزوة أحد- وأن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابًا؛ لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم "المشاورة"، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر، قال الأستاذ الإمام:
__________
1 المصحف المفسر: محمد فريد وجدي ص537.
2 سورة البلد: الآيات 11-13.
3 تفسير جزء عم: محمد عبده ص89.
4 سورة آل عمران: من الآية 159.(2/781)
ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارًا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أَمَرَ الله تعالى نبيه أن يقرر سُنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل؛ فكان يستشير أصحابه بغاية اللطف، ويصغى إلى كل قول، ويرجع عن رأيه إلى رأيهم"1.
ويعلل عدم وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة ونظامًا للشورى بحِكَم وأسباب؛ منها:
أ- أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان.
ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينًا، وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين.
ج- ومنها أنه لو وضع تلك القواعد من نفسه عليه الصلاة والسلام لكان غير عامل بالشورى، وذلك محال في حقه؛ لأنه معصوم من مخالفة أمر الله، ولو وضعها بمشاورة مَن معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم، كما فعل في الخروج إلى أُحُد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفًا لرأيه صلى الله عليه وسلم، أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم2.
كانت تلكم بعض جوانب الحرية في الإسلام، نبه إليها رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ودعوا إلى إصلاح الأوضاع الاجتماعية على ضوئها.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص199، 200.
2 المرجع السابق: ج4 ص201، 202.(2/782)
التحذير من البدع والمنكرات في العقائد:
وهذا السبيل في الإصلاح منتشر في تفاسيرهم وبكثرة، كيف لا وقد كانت العقائد الإسلامية في عصرهم يشوبها كثير من البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعون ما أنزل الله بها من سلطان.
انتشر بين المسلمين تقديس الأولياء، والتمسح بعتباتهم، ولزوم المقابر، ودعاء الأموات، والذبح لغير الله، بله العقائد المنحرفة والملل الملحدة.
وحذر رجال المدرسة الاجتماعية المسلمين مما وقع فيه أكثرهم من البدع والمنكرات؛ كتقديس الأولياء، والذبح عند قبورهم، ودعائهم لهم، واستغاثتهم واستعانتهم بهم، ففي قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} 1 قال السيد رشيد: "إن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله، وقد فهم الوعاظ والفقهاء من خلفنا الجاهل خلاف ما كان يفهمه السلف الصالح من بركة الصالحين المتقدمين، وحفظ الله الأمم بهم؛ فظنوا أن المراد بهم الذين يكثرون من الصيام والقيام وقراءة الأوراد والأحزاب. كلا، إن من أصحاب الأوراد من يقوم ليلة بورد من تشريع مبتدع هو به عاصٍ لله تعالى؛ لعبادته بغير ما شرعه، فكان مما قال فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 2؛ أي: بهلاكهم.
وفي الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" 3، كم من مصلٍّ هو مصداق لحديث: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعْدًا" 4، وكذا كان دراويش مهدي السودان وأمثالهم من المسلمين الجاهلين لهداية القرآن، فنكل بهم الإفرنج بمساعدة الفاسقين من المسلمين واستولوا على بلادهم، وقد علمنا من أخبار المهدي أنه كان على علم وبصيرة في صلاحه؛ ولكن قواده لم يكونوا بعده مثله، وصلاح دراويشه لا بصيرة فيه ولا علم"5.
__________
1 سورة هود: من الآية 116.
2 سورة الشورى: من الآية 21.
3 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وأحمد والحاكم بتقديم وتأخير".
4 قال محمد رشيد رضا معلقًا: "رواه أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفًا، وابن جرير عنه مرفوعًا".
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص244، 245.(2/783)
وهذا الشيخ أحمد مصطفى المراغي يستدل بقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} 1 على "أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يُوجب على المؤمن أن يفكر طويلًا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم، وكيف أن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين، ولا يكون لهم وازع من نواهيه وقوارعه الشديدة وزواجره التي تخر لها الجبال سجدًا"2.
وأكد هذا الشيخ محمد عبده بتفسيره الآية نفسها بقوله: "نقرأ هذا التشديد والوعيد، ونسمعه من القارئين، ولا نزدجر عن اتباع أهواء الناس ومجاراتهم على بدعهم وضلالتهم؛ حتى أنك ترى الذين يشكون في هذه البدع والأهواء، ويعترفون ببعدها عن الدين، يجارون أهلها عليها، ويمازجونهم فيها، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا: ماذا نعمل؟ ما في اليد حيلة، العامة عمى، آخر زمان.
وأمثال هذه الكلمات هو جيوش الباطل، تؤيده وتمكنه في الأرض؛ حتى يحل بأهله البلاء، ويكون من الهالكين"3.
وقد علق الأستاذ محمد رشيد رضا على تفسير أستاذه هذا بقوله: "وأعجب من هذا الذي ذكره الإمام أنك ترى هؤلاء المعترفين بهذه البدع والأهواء ينكرون على منكرها، ويسفهون رأيه، ويعدونه عابثًا أو مجنونًا؛ إذ يحاول ما لا فائدة فيه عندهم، فهم يعرفون المنكر وينكرون المعروف، ويدعون مع ذلك أنهم على شيء من العلم والدين.
وأعجب من هذا الأعجب أن منهم مَن يرى أن إزالة هذه المنكرات والبدع ومقاومة هذه الأهواء والفتن جناية على الدين، ويحتج على هذا بأن العامة تحسبها من الدين، فإذا أنكرها العلماء عليهم تزول ثقتهم بالدين كله لا بها خاصة!! وبأنها لا تخلوا من خير يقارنها؛ كالذكر الذي يكون في المواسم
__________
1 سورة البقرة: من الآية 145.
2 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج2 ص12.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص18، 19.(2/784)
والاحتفالات التي تُسمي بالموالد، وكلها بدع ومنكرات، حتى إن الذكر الذي يكون فيها ليس من المعروف في الشرع!!
والسبب الصحيح في هذا كله هو محاولة إرضاء الناس بمجاراتهم على أهوائهم وتأويلها لهم، ولولا ذلك لما سكت العالمون بكونها بدعًا ومنكرات عليها؛ إنهم إنما سكتوا بالثمن {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} 1، وهم مع ذلك يظهرون التعجب من جحود أهل الكتاب للنبي والقرآن، وما كانوا أشد منهم جحودًا، ولا أقوى جمودًا!
هذا إيماء إلى اتباع العلماء أهواء العامة بعد ما جاءهم من العلم، وما نزل عليهم في الكتاب من الوعيد عليه، ولو شرح شارح اتباعهم لأهواء السلاطين والأمراء والوجهاء والأغنياء، وكيف يفتونهم ويؤلفون الكتب لهم، ويخترعون الأحكام والحيل الشرعية لأجلهم، وكيف حرموا على الأمة العمل بالكتاب والسنة، وألزموها كتبهم -لظهر لقارئ الشرح كيف أضاع هؤلاء الناس دينهم؛ فسلط الله عليهم مَن لم يكن له عليهم سبيل"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 3 يتحدث الأستاذ عبد القادر المغربي عن نشأة الوثنية، ثم يقول: "مَن تأمل ما قلناه في مناشئ ظهور الوثنية في البشر، فهم السر في كون الدين الإسلامي يحرم إقامة الصور ونصب التماثيل وتشييد القبور وتجصيصها على رمم العظماء، وفي حديث علي -رضي الله عنه-: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: "لا تدع صنمًا إلا طمسته ولا قبرًا إلا سويته" 4، فإن الوثنيين كانوا يتخذون من مواثل القبور والأصنام ذكرى لرجالهم الصالحين، وليست ذكراهم لهم ذكرى عظة واعتبار؛ وإنما هي ذكرى استمداد أسرار واقتباس أنوار واستغراق واستحضار واسترزاق واستمطار والتماس منافع واستكفاء أضرار؛
__________
1 سورة التوبة: من الآية 9.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص19.
3 سورة نوح: الآية 23.
4 رواه أحمد ومسلم وأبو داود؛ ولكن بلفظ: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".(2/785)
فَسَدَّ دين الإسلام الذريعة بتحريم هذه المواثل؛ خشية أن تسترهب ضعفاء العقول وتستهويهم، ومن مزالق الوثنية تقربهم وتدنيهم، فلله الإسلام فما أعدله فيما شرع وحكم، وما أوضح نهجه فيما خط لنا من الهداية ورسم"1.
وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 الآية، يقول السيد رشيد رضا: "فإذا قيل لهم: إن أصله الغلو في الصالحين -ولا سيما الميتين منهم- واعتقاد تصرفهم في الكون، ودعاؤهم في طلب النفع ودفع الضَّر، وأن مثله أو منه ما كان يُحكى عن مسلمي بخارى: إن شاه نقشبند هو الحامي لها؛ فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها، وما كان يُحكى من مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب أن تستولي عليها فرنسا أنكروا على القائل أن هذا كذلك، وقالوا: إنما هو توسل بجاه الأولياء عند الله، وليس من المنكر أن يدفعوها بكرامتهم؛ فكرامة الأموات ثابتة كالأحياء.
وقد بينا لهم جهلهم هذا بتبدل الأسماء ومخالفتهم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من الأمة في فتوحاتهم وتأسيس ملكهم وحفظه، وخصصنا أخواننا أهل المغرب الأقصى بالإنذار منذ أنشئ المنار، وأرشدناهم إلى تنظيم قواتهم الدفاعية العسكرية، وطلب الضباط له من الدولة العثمانية، وإلى العلوم والفنون المرشدة إلى القوة والثروة والنظام، وإلا ذهبت بلادهم من أيديهم قطعًا، فقال المغوون لهم من أهل الطرائق القدد بلسان حالهم أو مقالهم: إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء، وما هو بمعتزلي ولا أشعري؛ بل هو قرآني سني.
وها هي ذي فرانسا استولت على بلادهم كما أنذرهم، وظهر أن أكبر مشايخ الطريق نفوذًا ودعوى للكرامات بالباطل كالتجانية كانوا وما زالوا من خدمة فرانسا ومساعديها على فتح البلاد واستعباد أهلها، أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد أو النصرانية، من حيث يدرون أو لا يدرون.
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص62.
2 سورة هود: من الآية 101.(2/786)
يجهل أمثال هؤلاء وغيرهم من الذين يظنون أن الشرك بالله تعالى خاص بعبادة الأصنام والأوثان، إن أصل هذا الشرك هو الغلو في تعظيم الصالحين، والتبرك أو التوسل بأشخاصهم؛ لإبطال سنن الله.
وأكبر مصائب الإسلام أن افتتان المسلمين بالصالحين الذين اتبعوا فيه سنن مَن قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد كان سببًا لإلحاد فريق كبير من الذين يتعلمون علوم العصر، ومنها سنن الخلق والاجتماع ومروقهم من الدين باعتقادهم أن الإسلام دين خرافي هو الذي أضاع ملك المسلمين"1.
وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2 يجمل لنا السيد رشيد رضا تفسير أستاذه محمد عبده فيقول: "ثم ذكر أن هذا الشرك قد فشا في المسلمين اليوم، وأورد شواهد على ذلك عن المعتقدين الغالين في البدوي "شيخ العرب" والدسوقي وغيرهما لا تحتمل التأويل، وبيَّن أن الذين يؤولون لأمثال هؤلاء إنما يتكلفون الاعتذار لهم لزحزحتهم عن شرك جلي واضح إلى شرك أقل منه جلاء ووضوحًا؛ ولكنه شرك ظاهر على كل حال، وليس هو من الشرك الخفي الذي وردت الأحاديث بالاستعاذة منه، الذي لا يكاد يَسْلَمُ منه إلا الصديقون"3.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج12 ص246، 247.
2 سورة النساء: من الآية 36.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص83.(2/787)
الجانب التهذيبي:
وعُنِيَ أربابُ المدرسة ببيان الفضيلة ودعوة المجتمع إليها والرذيلة وتحذير المجتمع منها، ففي تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1 يطنب الأستاذ رشيد رضا في بيان حُكْم الصلاة في الإسلام، ثم يقول بعد هذا: "أرأيت هذه الآيات العزيزة والأحاديث الناطقة بالعزيمة، قد
__________
1 سورة البقرة: الآية 238.(2/787)
نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر؛ حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون، وقل عدد المصلين الساهين، وندر المصلون المحافظون؛ ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين قد خرج عن كونه عقيدة دينية إلى كونه جنسية سياسية، آية الاستمساك به والمحافظ عليه والدفاع عنه مدح كبراء حكامه، وإن كانوا لا يقيمون حدوده، ولا ينفذون أحكامه؛ بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام.
ماذا كان من أثر ترك الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع؟ كان من أثره في المدن فشو الفواحش والمنكرات، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار غاصة بخاصة الناس وعامتهم، حتى في ليالي رمضان ليالي الذكر والقرآن، وعَبَدَ الناس المال، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير، وانبسطت في أفعال الشر، وزال التعاطف والتراحم، وقلت الثقة من أفراد الأمة بعضهم ببعض؛ فلا يكاد يثق المسلم إلا بالأجنبي، وغير ذلك من فساد الأخلاق وقبح الفعال في الأفراد، وأكبر من ذلك انحلال الروابط الملية؛ بل تقطع أكثرها.
المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ينتهي عن الفحشاء والمنكر.
المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون.
المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حق غيره عليه.
المحافظ على هذه الصلاة لا يضيع حقوق أهله وعياله، ولا حقوق أقاربه وجيرانه، ولا حقوق معامليه وإخوانه.
المحافظ على هذه الصلاة يُعظِّم الحق وأهله، ويحتقر الباطل وجنده.
المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب، ولا تفل غرار عزمه المصائب، ولا تبطره النعم، ولا تقطع رجاءه النقم"1.
ويحث الإمام محمد عبده على خُلُق الصبر في تفسير قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص440-443، بتلخيص.(2/788)
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} 1 بقوله: "والصبر خُلُق من أمهات الأخلاق؛ بل مساك كل خلق، قالوا في فضل الصبر: إنه ذُكر في القرآن نحو سبعين مرة، وليس لنا فائدة كبرى في تحديد العدد؛ ولكن جاء في الكتاب العزيز ذكر الصبر ومدح أهله وتبشيرهم بالفوز والفلاح، والصبر مَلَكَةٌ في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضا بما يكره في سبيل الحق، وهو خُلُق يتعلق به؛ بل يتوقف عليه كمال كل خُلُق، وما أتى الناس من شيء ما أتوا من فقد الصبر أو ضعفه"2.
وعن الخصام والرِّشوة يقول السيد رشيد: "وكم من ثروة نفدت، وبيوت خربت، ونفوس أهينت، وجماعة فرقت، وما كان لذلك من سبب إلا الخصام والإدلاء بالمال إلى الحكام، ولو تأدب هؤلاء الناس بآداب الكتاب الذي ينتسبون إليه لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم، ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ويحل فيهم التراحم والتلاحم محل التزاحم والتلاحم"3.
وفي بيان أحوال الأمم المقهورة يفسر السيد رشيد رضا قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} 4 "ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها ويغلب عليها الجبن والمهابة، فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها ينفخ رُوح الشجاعة والإقدام في خيارها -وهم الأقلون- فيعملون ما لا يعمله الأكثرون، قال الأستاذ الإمام: وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف، قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها، وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها، على حد قول لشاعر:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعان وحده والنزالا
__________
1 سورة العصر: من الآية 3.
2 تفسير سورة العصر: محمد عبده ص23، 24.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص201.
4 سورة البقرة: من الآية 246.(2/789)
ثم إذا توافرت الشروط يضعفون ويجبنون ويزعمون أنها غير كافية؛ ليعذروا أنفسهم، وما هم بمعذورين"1.
وفي ذم بخس الناس أشياءهم يقول السيد رشيد في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 2: "وهذه النقيصة فاشية بين الأمم والشعوب في هذا العصر؛ فنجد بعضهم يذم بعضًا وينكر فضله كالأفراد، وترى التجار في عواصم أوربا يغالون من الأسعار للغرباء ما يرخصون لأهل البلاد، وترى بعض الغرباء يستحلون من نهب أموال المصريين بضروب الحيل والتلبيس ما لا يستحلون مثله في معاملة أبناء جلدتهم، وأما المصريون وأمثالهم من الشرقيين كما قال الشاعر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
ويا ليتهم يعاملون أنفسهم ومَن تجمعهم معهم أقوى المقومات هذه المعاملة؛ بل يكثر منهم مَن يبخسون أبناء قومهم وملتهم أشياءهم، ويهضمون حقوقهم، ويعظمون الأجنبي ويعطونه فوق حقه؛ وإنما استذلهم للأجانب حُكَّامهم، فَهُم في جملتهم مبخوسون لا باخسون، ومظلومون لا ظالمون، وهم على ذلك مذمومون لا محمودون، ومكفورون لا مشكورون"3.
ويتحدث الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 4 الآية، عن حكمهما، ثم عن مضار كل منهما، وذكر مضار الخمر الصحية بإفساد المعدة، وفقد شهوة الطعام، ومرض الكبد والكُلَى والسل؛ حتى قال أحد الأطباء: اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، ثم
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص474.
2 سورة الأعراف: من الآية 85.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج8 ص526.
4 سورة البقرة: من الآية 219.(2/790)
يتحدث عن مضارها العقلية ومضارها المالية، ثم عن مضارها في المجتمع، ووقوع النزاع والخصام بين بعض السكارَى، وبينهم وبين مَن يعاشرهم لأدنى بادرة تصدر من واحد منهم، ويتحدث عن مضارها النفسية من إفشاء الأسرار، ولا سيما إذا كان متصلًا بالحكومات وسياسة الدول وشئونها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس في نجاحهم في مهامهم التي ندبوا إليها، ويتحدث عن مضارها الدينية، وينتقل إلى ذكر مضار الميسر من أنه يُورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، ويفسد الأخلاق، ويخرب البيوت بغتة.
ويقول: "وإذا استمر انتشار الخمر والزنا في هذه البلاد -ولا سيما الخمور التي تباع للفقراء، فهي مواد سامة محرقة "سبيرتو" يضاف إليها قليل من الماء والسكر- فليس بالبعيد أن تنقرض الأمة بعد جيلين أو أكثر كما انقرض هنود أمريكا، لا يبقى منهم إلا بعض الأجراء والخدم، فالسكر والزنا مقراضان يقرضان الأمم، وقد شاع حديثًا في مصر ما هو أفتك بالأمة من الخمور، وأقتل لها؛ وهو بعض السموم التي تستعمل حقنًا تحت الجلد أو شمًّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهرويين"1.
والحديث عن الأخلاق في الإسلام حديث عن الأخلاق في أسمى معانيها، وما ذكرنا إلا أمثلة قليلة لبعض الجوانب الأخلاقية التي تناولوها في تفاسيرهم لإصلاح المجتمع.
__________
1 تفسير المراغي ج2 ص140-144.(2/791)
الإصلاح الاقتصادي:
وحاول رجال هذه المدرسة إصلاح الاقتصاد في البلاد حسبما فهموه من نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة؛ فكان لهم صولات وجولات على مستوى الدولة بين الساسة والقادة، وعلى مستوى العامة بين الفلاحين والعمال، وفيما أودعوه في كتبهم من بيان لمزايا الشريعة الإسلامية في إدارة الأموال والطريق السليمة لذلك، وقارنوا بين نظرة الإسلام والسياسة المالية عند اليهود والنصارى(2/791)
والشيوعية والرأسمالية، وبيَّنوا أن منهج الإسلام هو منهج السلام.
"والحق أن الإسلام هو الدين الوسط الجامع بين مصالح الرُّوح والجسد للسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، فهو وسط بين اليهودية المالية الدنيوية والنصرانية الروحية الزهدية، وأن من مقاصده الإصلاحية في الاجتماع البشري هداية الناس إلى العدل والفضل في أمر المال؛ ليكتفي الناس شر طغيان الأغنياء وذلة الفقراء، ونصوص القرآن والسنة في هذا هي الغاية القصوى في الإصلاح، وهي هادمة لمزاعم هؤلاء المفتاتين على الإسلام بالجهل والهوى.
غلا عباد المال من اليهود والإفرنج في جمعه واستغلاله واستعباد الألوف وألوف الألوف من العمال الفقراء به بجعله دولة بينهم، وغلا خصومهم من الاشتراكيين في مقاومتهم ومحاولة جعل الناس فيه شرعًا وجعله بينهم حقًّا شائعًا، فانتهى هذا الغلو بالشيوعية الروسية في عصرنا أن استعبدت أكثر من مائة ألف من البشر، تسخرهم في تنفيذ مذهبها كالأنعام والدواب.
ولا منقذ للأمم من هذه الفتنة وعواقبها إلا بدين الإسلام -أعني: بالتدين به والعمل بأحكامه المالية وغيرها- ولا يمكن التزامها بالعمل إلا بإذعان الدين، وقد بدأ عقلاء الإفرنج يشعرون بالحاجة إلى دين معقول يصلح بالتزامه فساد هذه المدينة المادية، ولن يجدوا حاجتهم إلا في دين القرآن وسنة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، وأخشى ألا يهتدوا إليه إلا بعد البطشة الكبرى والطامة العظمى؛ وهي حرب التدمير المنتظرة من تنازع البلشفية والرأسمالية، وإنني أذكر هنا أهم أصول الإصلاح الإسلامي في المسألة المالية التي تبتدر فكري وتبدهه فأقول ... "1.
ثم ذكر السيد رشيد رضا ما يراه من الأصول الإسلامية لإصلاح المسألة المالية، فعد منها إقرار الملكية الشخصية، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الربا والقمار، ومنع جعل المال دولة بين الأغنياء، والحجر على السفهاء في أموالهم حتى لا يضيعوها، وفرض الزكاة، وفرض نفقة الزوجية والقرابة وإيجاب
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص29-31.(2/792)
كفاية المضطر من كل جنس ودين، وجعل بذل المال كفارة لبعض الذنوب، وندب صدقات التطوع والترغيب فيها، وذم الإسراف والتبذير والبخل والشح وإباحة الزينة بشرط اجتناب الإسراف، ومدح القصد والاعتدال في النفقة على النفس والعيال، ثم قال بعد هذا: "أرأيت أمة من الأمم تقيم هذه الأركان ويوجد فيها فقر مدقع أو غرم موجع أو شقاء مفظع؟ "1.
وقال في موضع آخر: "فماذا جرى لنا -نحن المسلمين- بعد هذه الوصايا والحكم حتى صرنا أشد الأمم إسرافًا وتبذيرًا، وإضاعة للأموال وجهلًا لطرق الاقتصاد فيها وتثميرها، وإقامة مصالح الأمة بها في هذا الزمن الذي لم يسبق له نظير في أزمنة التاريخ؛ من حيث توقف قيام مصالح الأمم ومرافقها وعظمة شأنها على المال؛ حتى إن الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد التي ليس في أيديها مال كثير قد صارت مستذلة ومستعبدة للأمم الغنية بالبراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد"2.
ثم يُرجع السبب في ذلك إلى أولئك "الذين لبَّسوا علينا بلباس الصالحين؛ فنفثوا في الأمة سموم المبالغة في التزهيد، والحث على إنفاق جمع ما تصل إليه اليد؛ وإنما كان يريد أكثرهم إنفاق كسب الكاسبين عليهم، وهم كسالَى لا يكسبون لزعمهم أنهم بحب الله مشغولون"2.
وجهود رجال المدرسة العقلية الاجتماعية في إصلاح أحوال البلاد الإسلامية الاقتصادية لا تُنكر، إلا أنه مع هذا وقع منهم ما نرفضه ولا نقره منهم؛ فكان لهم رأي في الربا المحرم، وأن المراد به ما كان أضعافًا مضاعفة، وقد بيَّنا -فيما سبق- ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده في ذلك، ودعوته إلى إباحة الربا للضرورة الاقتصادية، وزعمه أن تحريم الربا كان السبب في انتقال أموال المسلمين إلى الأجانب بأرباح فاحشة3.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص29-31.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص382، 383.
3 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص944، وانظر آخر الأساس الرابع من هذا البحث.(2/793)
قضية المرأة:
أحسب أن المرأة مركز الدائرة في المجتمع؛ ذلكم أنها الأم وهي البنت وهي الأخت وهي الزوجة وهي المربية والمعلمة.
وأحسب أنها في كل قاعدة تقف عليها لا تخلو من جواذب تجذب إليها جذبًا الرجل والشاب والطفل، فلا عجب إذًا أن يكون لها تأثير قوي في المجتمع، إن صلحت أصلحت، وإن فسدت أفسدت؛ ولذا حث الإسلام على الظفر بذات الدين، وأنها خير متاع الدنيا.
ولهذا أيضًا جنَّد الاستعمار جنودَه لإفساد المرأة فيما يُسمى بتحريرها، وتبنَّى وأربابه هذه القضية، وانخدعت بدعوته طائفة، وتبنت فكرته أخرى، وحاربتها البقية الباقية وقليل ما هم.
وعاصر رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة فترة طويلة هذه المرحلة، وعاشوا بين متقابلين؛ أولهما: واقع المرأة عامة في تلك الفترة التي طغى عليها الجهل والخرافات، وتخلت عن كثير مما أعطاها الإسلام لا رغبة وإنما إما جهلًا وإما مكرهة، وثانيهما: الدعوات المتطرفة التي أعطتها أكثر من حقها، وجرتها إلى متاهات لا تقوى جبلتها على خوضها ولا تدرك أبعادها، تهلك إن سلكتها، وتضيع إن تبعتها.
وجاء المصلحون يريدون الإصلاح والتوفيق، منهم من ثبت لم تهزه الأعاصير ولم يجرفه الطوفان، ومنهم من لم يخلُ بين حين وآخر من رأي غير سديد، وقول غير حكيم، ومدخل غير سوي، أولجه إياه حرصه على أن يقبض بكلتا يديه كلا الفريقين؛ فلم يستطع دركًا، ولم يستطيع ثباتًا.
تناول رجال المدرسة الاجتماعية آيات من القرآن الكريم، حاولوا أن يصلحوا على ضوئها، وأن يبثوا من خلال تفسيرها ما يرون فيه إصلاحًا لأوضاع المرأة.
قال السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ(2/794)
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين} 1: "أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية، وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل حتى في الأمور العامة، إلا ما استثني منها؛ ككونها لا تباشر الحرب بنفسها؛ بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداوة الجرحى"2.
ثم يقول: "فأين هذا من حال نسائنا اليوم ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه؟ لا علم لهن بحقائق الدين، ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق، ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية، فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء -لا سيما في المدن- ألا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن3، وعلى نساء الفقراء -لا سيما القرى والبوادي- أن يكن كالأُتُن الحاملة والبقر العاملة؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شئون العالمين؟ كلا، بل فسق الرجال عن أمر ربهم؛ فوضعوا النساء في هذا الموضع بحكم قوتهم؛ فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن، ونحفت إنسانيتهن، وصرن كالدواجن في البيوت أو السوائم في الصحراء.
لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابًا حتى قام فيهم اليوم مَن يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن، ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والآدب وشئون الحياة، منهم مَن يطالب بهذا اتباعًا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح، ومنهم مَن يطالب به تقليدًا لمدينة أوربا، وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل، وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول، فأنشأ المسلمون يعلِّمون بناتهم القراءة والكتابة، وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو، وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز؛ ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية
__________
1 سورة آل عمران: الآية 61.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323.
3 التطرس: التنوق في الطعام والشراب؛ أي: تحري الأطيب منهما، والتطرز في اللباس: توخي الفاخر النفيس منه، والتورن: المبالغة في التطيب والتنعم، تعليق: السيد رشيد رضا.(2/795)
ولا من إصلاح الأخلاق والعادات؛ بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته"1.
وفي قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 2 قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي: "إن هذا التشريع قد أصلح معاملة الرجل للمرأة، واعترف لها بالكرامة، وأنكر تلك المعاملة القاسية التي كانت تعاملها بها بعض الأمم؛ فقد كان بعضها يعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل، وبعضها يعدها غير أهل للتكاليف الدينية؛ إذ زعموا أنه ليس لها رُوح خالد، فما زعمه الإفرنج من أنهم السباقون إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل ليس مبنيًّا على أساس صحيح، فالإسلام هو الذي سبق كل الشرائع في هذا، ولا تزال شرائعهم الدينية والمدنية تميز الرجل عن المرأة. نعم، إن المسلمين قصروا في تعليم النساء وتربيتهن؛ ولكن هذا لا يصلح حجة على الدين نفسه"3.
وقال الأستاذ محمد فريد وجدي: "ومما اختص به الإسلام الذهاب في احترام الحقوق الطبيعية للمرأة إلى حدود لم تدر في خيال مشرع مدني إلى اليوم، فالإسلام لم يكلف المرأة وهي زوجة بأي حق تؤديه للرجل غير حفظ عِرْضِه وطاعته في المعروف، باعتبار أنه الرئيس الطبيعي للأسرة.
والمرأة المسلمة لا تفقد بزواجها شيئًا من استقلالها المالي؛ فتظل على حريتها في التصرف بمالها وأملاكها. هذا الحق لم تنله المراة الغربية إلى اليوم، فإنها بزواجها تقع -من ناحية تصرفاتها الاقتصادية- تحت وصاية زوجها4.
ويرد الشيخ محمود شلتوت على خصوم الإسلام الذين اتخذوا التفاوت بين نصيبي الذكر والأنثى هكذا مطعنا على الإسلام من جهة أن فيه إهدارًا لحق
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص323، 324.
2 سورة آل عمران: من الآية 195.
3 تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج4 ص166.
4 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص175.(2/796)
بنوة الأنثى المساوية تمامًا في نسبتها إلى المورث لبنوة الذكر، وقالوا: إن هذا من فروع هضم الإسلام حق المرأة، وهي إنسان كالرجل، وفاتهم أن الذكر تتعدد مطالبه، وتكثر تبعاته في الحياة، فهو ينفق على نفسه وعلى زوجه وعلى أبنائه، ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوجها، أما الأنثى فإنها لا تدفع مهرًا، ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها، وهذا باب يتضح منه أن نصيب الأنثى في الوضع الإسلامي أعظم وأكثر من نصيب الذكر1.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 2 يقول الشيخ محمود شلتوت: "ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدَّمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة مقدمة على سيئتها، وفي هذا إيحاء قوي للنساء بأن يعملن جُهْدهن على تحسين سمعتهن، وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولقد كان لما اتخذته الفتاة لنفسها أو مكنها ولي أمرها من حرية واسعة في هذه الأيام نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج وإعراض الشباب عنه لما يعلمون عن الفتاة من أخلاق جعلت الزواج في نظرهم بابًا من أبواب الشقاء، فعلى الفتاة وعلى ولي أمرها أن يتدبرا الأمر، فإن عليهما وحدهما تقع تبعة هذه المشلكة، وعليهما أن يعملا على حلها إن أرادا الخير والسعادة"3.
فإن كنت قد أطلت -وما أظني إلا وقد فعلت- فإنه يشفع لي أن الموضوع هنا بحر واسع، يزخر بالعديد من الأبحاث التي لا يكاد الباحث يفاضل بينها فيقدم أحدها أو يؤخر غيره.
ومع هذا، فإني أعترف بأني قد اختصرت المقال هنا اختصارًا أرجو ألا يكون مخلًّا بالبحث.
__________
1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172.
2 سورة النساء: من الآية 25.
3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص172.(2/797)
ذلكم أن من القضايا التي ألمحنا إليها ما يحتاج بنفسه لمن أراد التفصيل فيه إلى بحث مستقل. خذ مثلًا المرأة وقضيتها، من أي النواحي أتيتها وجدت الأبحاث حبلى بما دار حولها، إن شئت فمن ناحية المساواة بينها وبين الرجل، وإن شئت فمن ناحية حقوقها في الإسلام، وإن شئت فمن ناحية تعدد الزوجات، وإن شئت فمن الطلاق، وإن شئت فمن جهة عملها ومجالاته، وإن شئت فمن ناحية التعليم، وإن شئت فمن ناحية الحجاب والسفور والاختلاط، وإن شئت.... وإن شئت ...
إذًا، فلا عتب إذا ما أطلت الحديث عن هذا لأساس لدى رجال المدرسة العقلية الاجتماعية، ولا عتب إذ ما اختصرت فيه أبحاثه حتى نذكر أنواعًا من الإصلاح الاجتماعي.
لكن الذي أجزم به كل الجزم أن المدرسة العقلية الاجتماعية قد تناولت كثيرًا من القضايا الاجتماعية، وبذلت وسعها في نشر ما تعتقد فيه صلاح المجتمع.
وقد أصابت الحق في جوانب وأخطأته في أخرى، ونحن هنا نعرض المنهج عرضًا ولا ننقده نقدًا، وإذًا لو فعلنا لاحتاج هذا الأساس وحده لرسالة مستقلة، ولعل لنا في ذلك عذرًا أو بعض عذر.
وبعد:
هذه أبرز الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير.
ولعلنا بعد هذا نعرض أهم مؤلفات رجال المدرسة في التفسير، ثم نختار بعضها كنموذج لتفاسيرهم بعد أن عرضنا منهجهم جميعًا فيه.(2/798)
أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير
مدخل
...
أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية في التفسير:
وقد خلَّف رجال المدرسة عددًا لا بأس به من المؤلفات في التفسير.
ويدرك المتأمل في مؤلفاتهم في التفسير بروز ظواهر في تأليفها؛ أولها: أن
بعضهم -كالأستاذ محمد عبده ومحمد مصطفى المراغي وابن باديس- لم يقصدوا التأليف قصدًا، ويكفي أن الأستاذ محمد رشيد رضا قد كابد حتى وافق شيخُه محمد عبده على تفسير القرآن، ونشر تلميذه محمد رشيد رضا له.
أما الشيخ محمد مصطفى المراغي، فقد كان تفسيره دروسًا دينية يلقيها في شهر رمضان أمام الملك فاروق الأول في المسجد.
وأما الشيخ عبد الحميد بن باديس، فإن تفسيره هو تلك الافتتاحيات التي كان ينشرها الشيخ في مجلة الشهاب في الجزائر، جمعها من بعده بعض تلاميذه.
والظاهرة الثانية: أنه لم يكمل التفسير من رجال المدرسة إلا الشيخ أحمد مصطفى المراغي في 10 مجلدات، والأستاذ محمد فريد وجدي في مجلد واحد.
وثالثة الظواهر: أن غالبهم لم يقصد تأليف تفسير شامل للقرآن، فقد كانوا يختارون آيات معينة، أو سورًا محدودة، أو جزءًا خاصًّا للتفسير، فلم يبدأ أحد منهم القرآن من أوله إلا الشيخ محمد عبده ولم يتمه، وأحمد مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وأتماه، ومحمود شلتوت ولم يتمه.
ومع بدو هذه الظواهر في تلكم المؤلفات إلا أنها لاقت صدى واسعًا بين المسلمين، وبغض النظر عمَّا لهذه التفاسير وما عليها إلا أنها لاقت منزلة عند أرباب الثقافة في العصر الحديث.
وسنذكر هنا أهم مؤلفاتهم إجمالًا، ثم نفرد بعضها بدراسة خاصة أوسع كنموذج لمؤلفاتهم في التفسير بعد أن تناولنا منهجهم فيه.
1- تفسير القرآن الحكيم، المعروف بـ"تفسير المنار". تأليف: السيد محمد رشيد رضا، وسنفرد الحديث عنه إن شاء الله.
2- تفسير جزء عم. للأستاذ الإمام محمد عبده، عدد صفحاته 185، وقد طُبع عدة طبعات؛ أولها في القاهرة سنة 1322.
3 تفسير سورة العصر. للأستاذ الإمام محمد عبده، عدد صفحاته 92 القطع الصغير، أما تفسير السورة فيخصه 54 صفحة، وأما باقيه فدرس(2/799)
عام في العلم الإسلامي والتعليم، وقد طُبع أيضًا هذا التفسير عدة طبعات؛ أولها سنة 1321.
وهذا التفسير وليد اقتراح بعض العلماء في الجزائر على الأستاذ الإمام أيام كان عندهم أن يقرأ لهم درسًا عامًّا، يستفيدون منه ويتحقق به تلقيهم عنه؛ ففسر لهم سورة العصر، ثم نشرته مجلة المنار، ثم طبع مستقلًّا.
4- فاتحة الكتاب. للأستاذ الإمام محمد عبده، وعدد صفحاته 47 القطع الكبير، وطبع بالقاهرة سنة 1319، ثم طبع الطبعة الثانية سنة 1382 بالقاهرة، وهي مفردة من تفسير المنار.
5- تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن "العصر، الكوثر، الكافرون، الإخلاص، المعوذتين". تأليف: السيد محمد رشيد رضا، وعدد صفحاته 237، أما تفسير الفاتحة فمن تفسير المنار، وأما تفسير سورة العصر فهو للأستاذ محمد عبده الذي أشرنا إليه، وطُبع ضمن هذا التفسير خمس آثارات للأستاذ الإمام في التوسل والتوحيد ومشكلات التفسير، محاضرة في العلم والتعليم، وصدرت الطبعة الثانية من دار المنار سنة 1367.
6- الدروس الدينية لسنة 1357. للأستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وعدد صفحاته 31، ويحتوي على درسين ألقاهما الشيخ المراغي أمام الملك فاروق الأول:
أولهما: في المسجد الزينبي وهو تفسير لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} الآيات، إلى قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية.
وثانيهما: في مسجد البوصيري بالإسكندرية أمام الملك أيضًا، وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} إلى آخر الآية 29 من سورة الأنفال، وقد طبع هذا التفسير بمطبعة الأزهر.(2/800)
7- الدروس الدينية لسنة 1361. له أيضًا، وعدد صفحاته 28، ويحتوي على ثلاثة دروس:
الدرس الأول: تفسير قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} إلخ سورة الأنعام.
الدرس الثاني: في تفسير قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، إلى قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [الآيات 199-203، الأعراف] .
الدرس الثالث: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون} ، إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [الآيات 30-36، فصلت] .
وطبع أيضًا بمطبعة الأزهر.
8- تفسير سورة الحجرات. له أيضًا، وذلك في ثلاثة دروس ألقاها الشيخ محمد المراغي شيخ الجامع الأزهر في شهر رمضان سنة 1358 أمام الملك فاروق الأول، وطبع بمطبعة الأزهر، ويقع في 30 صفحة.
9- الدروس الدينية لسنة 1356. له أيضًا، ويحتوي على أربعة دروس:
أولها: قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [الآية 177، البقرة] .
ثانيها: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الآيتان 13، 14، الشورى] .
رابعها: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} [الآيات 151-153، الأنعام] .(2/801)
10- تفسير جزء تبارك. الأستاذ عبد القادر المغربي. وطبع في المطبعة الأميرية سنة 1366، وقام بالتعليق عليها بتكليف من وزارة التربية والتعليم بالقاهرة الأستاذ علي محمد حسب الله، وراجع التفسير الشيخ عطية صقر من علماء المراقبة العامة للثقافة بالأزهر، ويقع هذا التفسير في حوالي 136 صفحة من القطع الكبير، وسيأتي إن شاء الله الحديث عنه.
11- تفسير القرآن الكريم "الأجزاء العشرة الأولى". تأليف: الشيخ محمود شلتوت، وطبع عدة مرات بين يدي الطبعة السادسة سنة 1394، الناشر دار الشروق، ويقع في 659 صفحة.
12- المصحف المفسر. للأستاذ محمد فريد وجدي، وهو تفسير مختصر كامل للقرآن الكريم في مجلد واحد كبير الحجم تبلغ صفحاته 827 صفحة، وجاء التفسير مكتوبًا على هامش القرآن الكريم.
13- تفسير المراغي. تأليف: الشيخ أحمد مصطفى المراغي، وهو تفسير كامل للقرآن الكريم، ويقع في عشرة مجلدات، وطبع أيضًا عدة طبعات، وبين يدي الطبعة الثالثة سنة 1394.
14- تفسير جزء عم. تأليف: محمد المبارك عبد الله، مطبعة: محمد علي صبيح، عدد صفحاته 222 من الحجم الكبير.
15- تفسير ابن باديس "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير". وهو دروس في التفسير، ألقاها الإمام عبد الحميد بن باديس في مجلد واحد، عدد صفحاته 724، بين يدي الطبعة الثانية، دار الفكر.(2/802)
أولا: تفسير القرآن الكريم المشهور "بتفسير المنار"
أولا: المؤلف
...
أولًا: تفسير القرآن الحكيم المشهور بـ"تفسير المنار"
أولًا: المؤلف
هو محمد رشيد بن علي بن رضا بن محمد شمس الدين بن السيد بهاء الدين، ولد يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى 1282 في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام، والتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية فيها، وبعد إغلاقها لم تنقطع صلته بمنشئها أستاذه حسين الجسر، والتحق بالمدارس الدينية حتى نال الشهادة العالمية.
وقد تأثر الأستاذ محمد رشيد رضا بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وبمجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها من باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
وقد اتصل السيد رشيد بشيخه محمد عبده حينما كان الأخير منفيًّا عن مصر؛ فالتقى به مرتين في طرابلس كان نتيجتها إعجاب السيد رشيد بالإمام محمد عبده ورغبته في الاتصال به.
وقد كان ذلك الاتصال بعد وصول محمد رشيد رضا إلى القاهرة يوم السبت 23 رجب 1315؛ حيث زاره غداة وصوله في ضحوة الأحد، فكان أول حديث بينهما عن إصلاح الأزهر، وكان أول اقتراح له عليه أن يكتب تفسيرًا للقرآن ينفخ فيه من روحه التي وجد روحها ونورها في مقالات العروة الوثقى، فلم يوافق الإمام على الكتابة؛ فاقترح عليه رشيد أن يقرأ درسًا في التفسير، وأكثر(2/803)
عليه القول حتى وافق وبدأ الدرس في غرة المحرم سنة 1317، وانتهى منه في منتصف المحرم سنة 1323 عند تفسير قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [الآية 125، النساء] .
فواصل التفسير من بعده تلميذه محمد رشيد رضا حتى الآية 101 من سورة يوسف؛ حيث أتم تفسير سورة يوسف من بعده الأستاذ بهجت البيطار.
وكان من أغراض السيد رشيد التي دفعته إلى الانتقال من الشام إلى مصر رغبته في إنشاء صحيفة؛ فصدر العدد الأول من مجلة المنار في 22 شوال سنة 1315، واستمرت في الصدور حتى الجزء الثاني من المجلد الخامس والثلاثين في 29 ربيع الثاني 1354.
وقد جعل السيد رشيد رضا مجلته منبرًا للإصلاح؛ فكتب بها، واستكتب علماء العصر وأدباءه، وحذَّر من البدع والخرافات، ودعا إلى إصلاح التعليم، ودعا الناس إلى إنشاء المدارس بأنفسهم؛ لأن المدارس الحكومية في عهده خاضعة للاستعمار مع انتشار المدارس التنصيرية.
وكان ينشر في مجلته تفسير أستاذه الإمام محمد عبده قبل أن يطبعه في كتاب خاص.
وكان له نشاط في الدعوة؛ حيث أنشأ مدرسة لتخريج الدعاة وإرسالهم إلى أطراف العالم الإسلامي، وكانت تعطي الطالب شهادة مرشد بعد ثلاث سنوات تؤهله للدعوة بين المسلمين، وإذا ما واصل ثلاث سنوات أخرى أصبح داعيًا لغير المسلمين للدخول في الإسلام، وكان لهذه المدرسة أثر كبير في إعداد الدعاة.
أما السياسة، فكان أستاذه محمد عبده ينهاه عن الخوض فيها ويحذره، ولما تُوفي الأستاذ دخل السيد رشيد ميدان السياسة جهارًا؛ فنقد الدولة العثمانية، وأنشأ مع العثمانيين المقيمين في القاهرة "جمعية الشورى العثمانية" وتولى رئاستها، وبدأت ترسل منشوراتها السرية إلى سائر أرجاء البلاد العثمانية؛ فأقلق مضاجع(2/804)
السلطة، إلى أن وقع الانقلاب العثماني، وكان رشيد من الساعين إلى هذا الانقلاب بالخفاء1.
أما التأليف، فقد كان فيه من المكثرين، فإضافة إلى نشاطه الكبير في الصحافة فقد كان مهتمًّا بالتأليف، ومن أشهر مؤلفاته:
1- تاريخ الأستاذ الإمام، في ثلاثة مجلدات، وهو أوسع ترجمة للإمام محمد عبده؛ بل أوسع ترجمة لرجل واحد في العصر الحديث فيما أعلم.
2- نداء للجنس اللطيف.
3- الوحي المحمدي.
4- المنار والأزهر.
5- الوَحْدَة الإسلامية.
6- ذكرى المولد النبوي.
7- الخلافة.
8- الوهابيون والحجاز.
9- السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة.
10- مناسك الحج.
11- تفسير المنار، وهو موضوع حديثنا هنا.
12- الربا والمعاملات في الإسلام.
13- شبهات النصارى وحجج الإسلام.
14- تفسير الفاتحة وستة سور من خواتيم القرآن.
15- إنجيل برنابا.
16- المسلمون والقبط.
17- فتاوى السيد رشيد رضا.
18- ترجمة القرآن.
__________
1 مجلة المنار: مجلد 4 ص43.(2/805)
هذه أهم مؤلفات السيد رشيد رضا، وله غيرها من المؤلفات كثير، زد على هذا المقالات والرسائل التي لا تقل عن هذه المؤلفات قيمة وحجمًا.
وقد اشتهر السيد محمد رشيد رضا -خاصة بعد وفاة الأستاذ محمد عبده- بميله إلى التفسير بالمأثور، والاهتمام بكتب السلف وطبعها في مطبعة المنار؛ حتى أثار عليه ذلك الخصوم، وحتى سموه بـ"الوهابي"، وقد بذل جُهْدًا كبيرًا في الدفاع عن عقيدة السلف المتمثلة في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب مقالات عديدة في الدفاع عنها؛ بل تجاوز ذلك إلى التأليف؛ فأفردها بما سبق ذكره من المؤلفات عن الوهابيين كما يسميهم خصومهم.
وفاته:
تُوفي السيد رشيد رضا يوم الخميس 23 جمادى الأولى سنة 1354، وتُوفي وهو يقرأ القرآن في السيارة قبل وصوله إلى مصر الجديدة عائدًا من السويس مودعًا الأمير سعود بن عبد العزيز، ودُفن في قرافة المجاورين بجوار أستاذه محمد عبده.(2/806)
ثانيًا: التفسير
تفسير القرآن الحكيم "تفسير المنار".
قلنا: إن السيد محمد رشيد رضا قد استطاع أن يقنع أستاذه محمد عبده بأن يُلقي دروسًا في تفسير القرآن الكريم، وأنه قد ابتدأ هذه الدروس في غرة المحرم سنة 1317، وكان رشيد رضا يبادر بكتابة تفسير أستاذه ثم نشره في مجلة المنار التي يصدرها محمد رشيد رضا نفسه؛ ولهذا فقد عُرف هذا التفسير بتفسير المنار.
ثم بدا له أن ينشره بطبعة مستقلة؛ فبدأ بطبع الجزء الثاني منه، وعلل ذلك بأن الجزء الأول منه كان مختصرًا ولم يلتزم فيه ما التزمه فيما بعده من تفسير جميع عبارات الآيات وذكر نصوصها ممزوجة فيها؛ فاقترح على أستاذه أي يعيد النظر فيه، ويزيد ما يسنح له من زيادة أو إيضاح ففعل، وزاد هو أيضًا زيادات أخرى1.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص16.(2/806)
وقد صدر هذا التفسير في اثني عشر مجلدًا متوسطة الحجم، وقد وصل فيه التفسير إلى نهاية الآية 52 من سورة يوسف، وكان السيد رشيد رضا قد تُوفي عند تفسير الآية 101 من السورة نفسها.
وجاء من بعده الأستاذ محمد بهجت البيطار، فضم تفسير السورة بعضه إلى بعض وأكمل تفسيرها، وأصدر ذلك كله في كتيب واحد باسم السيد محمد رشيد رضا وعنوانه: "تفسير سورة يوسف عليه السلام"، وصدرت طبعته الأولى سنة 1355، وتبلغ صفحاته 157 صفحة.
نماذج من التفسير:
وأيها نذكر؟ وأيها ندع؟ والتفسير مليء بالأمثلة في موضوعات شتى، منها ما هو محمود، ومنها ما هو سواه، ونحن حين نورد ما نورد من أمثلة لا نقصد الأخير قصدًا، ولا ما قبله عمدًا؛ فليس حمد تفسيرهم ولا ذمه مرادنا؛ وإنما هو العرض، فإن كان غالبه من هذا أو ذاك فما قصدناه؛ وإنما اخترنا مواضيع حرصنا على تنوعها، وأوردنا فيها أمثلة حرصنا على بيانها ... فمن ذلك:
أولًا: الخوارق والمعجزات:
وأمر الخوارق قديم، وما يزال الحديث عنها بين مثبت ومنكر، وبين مثبت لحجيتها ومنكر لها.
ولا شك أن المعجزات حجة للرجل، لا ينكر هذا إلا خاضع لهوى أو جاهل؛ ولذلك توعَّد الله سبحانه مَن يكفر بعدها بالعذاب الشديد، فحين طلب الحواريون من عيسى -عليه السلام- أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء أحس -عليه السلام- بعاقبتها فقال: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وحين أصروا قال الله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} 1.
ولأنها حجة وصفها موسى -عليه السلام- بأنها {شَيْءٍ مُبِين} حين أراد
__________
1 انظر: سورة المائدة: الآية 112-115.(2/807)
أن يظهر حجته عند فرعون وقومه، فقال لفرعون: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 1.
ولكن المعجزة تلك أمر خارق للعادة، وأمر كهذا يصيب العقل بالدهشة، ويوقفه عند حد لا يستطيع معه اكتناه سرها ومعرفة حقائقها ودقائقها؛ مما يوقف صاحبها عند حد مفترق طرق، إما أن يعرف قصور العقل عن دركها، وأن هذا أمر خارج عن قدرة البشر؛ فيبحث عن منشئه حتى يصل إلى الإيمان بالله تعالى، وإما أن يبقى مصرًّا على أن العقل خُلق ليعرف، وأنه قادر على أن يعرف، لا يعجزه شيء، وما عجز عنه فليس لقصور فيه؛ بل فيما عجز عن دركه؛ إما لعدم ثبوته أو بتأويله بما لا يكون به خارقًا للعادة؛ وبالتبع ليس مدهشًا للعقل.
قالت طائفة بذاك، وقالت طائفة بذا، والتمست كل ما ترى لها به متعلقًا لتأويل أو إنكار أو تقليل من شأنها.
بل عَدَّ السيد رشيد رضا -عفا الله عنه- مجرد ذكر القرآن الكريم لمعجزات الأنبياء السابقين سببًا لإعراض العلماء والعقلاء "!! " عن الدين الإسلامي والدخول فيه "!! " ولولا رواية القرآن لذلك لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأوسع؛ حيث يقول: "ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى -عليهما السلام- لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع؛ لأن أساسه قد بُنِيَ على العقل والعلم، وموافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنفس الأفراد، وترقية مصالح الاجتماع"2.
ثم وصف هذه المعجزات وغيرها بقوله: "وأما تلك العجائب الكونية، فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها، وأمثال هذه
__________
1 سورة الشعراء: 30-33.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص155، والوحي المحمدي له ص62.(2/808)
الأمور تقع من أناس كثيرين في كل زمان، والمنقول منها عن صوفية الهنود المسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد وعن مناقب القديسين، وهي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر"1.
ثم انظر حتى يتضح لك مذهبه إلى قوله: "وقد كان أكثر مَن آمن بتلك الآيات إنما خضعت أعناقهم واستخذت أنفسهم لما لا يعقلون له سببًا "!! " وقد انطوت الفطرة على أن كل ما لا يُعرف له سبب فالآتي به مظهر للخالق سبحانه، إن لم يكن هو الخالق نفسه، وكان أضعاف أضعافهم يخضع مثل هذا الخضوع نفسه للسحرة والمشعوذين والدجالين، ولا يزالون كذلك"2.
وخذ عبارة أوضح في زعمه أن العقل لا يخضع للمعجزات، قال: "وإن الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها؛ لأن البشر قد بدءوا يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع مَن تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون؛ بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعداداهم بذلك؛ بل هو من موانعه"3.
وحتى نجلو حقيقة رأيه، فهو يجيز وقوع المعجزة عقلًا، ويجب الإيمان بها على ظاهرها4؛ ولكنها خاصة بما قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما في عصره عليه الصلاة والسلام "فانتهى بذلك زمن المعجزات، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد؛ فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان، وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال، كما كان في سن الطفولية "النوعية"؛ بل أرشده الله تعالى بالوحي الأخير "القرآن" إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي"4.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص155، والوحي المحمدي له ص62.
2 المرجع السابق: ج11 ص160؛ والوحي المحمدي له ص71.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج11 ص159، والوحي المحمدي له ص69.
4 المرجع السابق: ج1 ص314، 315.(2/809)
هذا مجمل رأيه في المعجزات، وآن الأوان لذكر بعضها آحادًا وموقفه منها.
معجزات محمد صلى الله عليه وسلم:
أما معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد أجمل الأستاذ رشيد رضا رأيه فيها، وأراحنا من تتبع أقواله عند كل واحدة منها؛ وذلك حين دافع عن كتاب "حياة محمد" للأستاذ حسين هيكل، وجاء في دفاعه عنه: "أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتابي الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس، بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى "!! " وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبينت سبب هذا الافتتان، والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره"1.
إحياء الموتى:
ومع أنه يعترف بجواز وقوع المعجزة عقلًا، ويخص ذلك بما قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه مع هذا كثيرًا ما يؤول المعجزات للأنبياء السابقين بما لا تكون به معجزة، أو بما لا تكون به أمرًا خارقًا؛ ومن ذلكم قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} إلى قوله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} 2.
وخلاصة قصة هذه الآيات أنه كان في بني إسرائيل رجل غني، وليس له ولد، وكان له قريب وارث فقتله ليرثه، ثم ألقاه في الطريق، وطالب قومه بإخراج
__________
1 مجلة المنار: مجلد 34 ج10 ص793 في 3 مايو 1935م.
2 سورة البقرة: الآيات 67-73.(2/810)
قاتله، فاحتكموا إلى موسى -عليه السلام- فأمرهم أن يذبحوا بقرة -كما ورد في القرآن- ثم ذبحوها، وأمرهم موسى أن يضربوه ببعضها فضربوا فقام وأخبر بقاتله ثم مات؛ فكانت حياته آية لموسى -عليه السلام- وحجة على المعاد.
لكن الشيخ رشيد رضا حمل القصة -تبعًا لأستاذه الإمام محمد عبده- على أنها نوع من التشريع الذي كان موجودًا في زمن بني إسرائيل؛ لأجل الوصول إلى معرفة القاتل المجهول في هذه الحادثة وأمثالها، لا على أنها وردت في حادث معين فيه معجزة لموسى -عليه السلام- ودليلهم في هذا ما ورد في التوراة؛ حيث قال الأستاذ الإمام: "على أن هذا الحكم منصوص في التوراة، وهو أنه إذا قتل قتيل لم يُعرف قاتله فالواجب أن تذبح بقرة غير ذلول في واد دائم السيلان، ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم على العجلة التي كسر عنقها في الوادي، ثم يقولون: إن أيدينا لم تسفك هذا الدم، اغفر لشعبك إسرائيل، ويتمون دعوات يبرأ بها مَن يدخل في هذا العمل من دم القتيل، ومن لم يفعل يتبين أنه القاتل، ويراد بذلك حقن الدماء، فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة، أو كانت هي السبب فيه، وما هذه بالقصة الوحيدة التي صححها القرآن، ولا هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرفوه أو أضاعوه، وأظهره الله تعالى"1.
وأيده بهذا الرأي السيد محمد رشيد رضا بقوله: "وأقول: إن ما أشار إليه الأستاذ من حكم التوراة المتعلق بقتل البقرة هو في أول الفصل الحادي والعشرين من سِفْر تثنية الاشتراع"2، ثم ساق السيد رشيد نصه وقال بعده: "والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وُجد القتيل قرب بلد ولم يُعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية"3.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص347، 348.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.(2/811)
وكدت أجد تأويلًا لهذه النصوص بأنهما لا ينكران الحادثة؛ وإنما أثبتا أنه الحكم الشرعي عند بني إسرائيل، ولعله من بقايا تلك القصة أو الحادثة. كدت ألتمس لهما هذا لولا أن الأستاذ رشيد طبق الحكم المزعوم على الآية نفسها، فأخرجها من كونها السبب في الحكم إلى كونها الحكم نفسه؛ حيث قال: "ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك؛ بسبب الخلاف في قتل تلك النفس؛ أي يحييها بمثل هذه الأحكام" إلى أن قال: " {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} بما يفصل بها في الخصومات، ويزيل من أسباب الفتن والعداوات، فهو كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 1، وأكثر ما يستعمل مثل هذا التعبير في آيات الله في خَلْقه الدالة على صدق رسله"2.
ومن هذا يظهر أنهما يقولان بأن الآيات مسوقة لبيان حكم شرعي، لا لبيان حادث تاريخي؛ هو معجزة لموسى -عليه السلام- وقد رد عليهما ردًّا حميدًا في هذا المقام الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- حيث قال: "إن كلمة {اضْرِبُوه} واضحة في أن يُضرب المقتول ببعض البقرة المذبوحة، وليس في الكلام إشارة تتعلق بالقاتل الخفي، ولا إشارة إلى غسل أيدي أهل الحي من دماء البقرة، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} يدل على أن الإحياء المشبه به -وهو الإحياء في هذا المقام- إحياء حقيقي بعد موت تسلب فيه الروح، وليس إحياءً حكميًّا يحصل بمعرفة القاتل والاقتصاص منه حتى يكون بمثابة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} كما يريد الشيخان، ولو كان الأمر كما يقرران لما صح تقرير إحياء الموتى للبعث والجزاء بهذا النوع من الإحياء الحكمي المجازي، ولو أن قائلًا قال: إن الله يحيي النفوس الجاهلة بالعلم، وكذلك يحيي الموتى من قبورهم؛ لَمَا كان مثل هذا التشبه والقياس سائغًا، وإن قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِه} لواضح في الإراءة البصرية للآيات الكونية، لا في الإراءة العقلية للأحكام الشريعة؛ حتى
__________
1 سورة النساء: من الآية 105.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص351.(2/812)
يكون من قبيل {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ، وإن قوله بعد ذلك: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ليدل على أنهم رأوا حالة مادية من شأنها أن تؤثر في النفوس، ومن شأن القلوب أن ترق لها، وأن تتجرد من القسوة والعناد عندها، ومع ذلك لقد قسوا واشتدت قسوتهم، وكانت قلوبهم كالحجارة أو أشد، وكل هذا لا يتفق، وما يريده الشيخان من حمل الآية على المعنى التشريعي فهذا الحمل تأويل منهما؛ لكنه تأويل لا تساعد عليه اللغة، وما هو المعهود من كلام العرب"1.
وقد التمس الشيخ شلتوت لهما عذرًا -وما هو بعذر- حيث قال: "والذي حمل الأستاذ الإمام على هذا -فيما نظن- هو رغبته في التخلص من الاعتراض الذي ذكره بعض المستشرقين، مع وجود النص التشريعي الذي أشار إليه الشيخ بمعناه، ونقله الشيخ رشيد بنصه"2.
قلت: ولا أحسب هذا بعذر لهما -عفا الله عنهما- وليتعظ الأحياء من بعدهما.
من معجزات عيسى عليه السلام:
قال الله سبحانه وتعالى مثبتًا معجزة لعيسى -عليه السلام- أظهرها سبحانه على يديه: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} 3، وقال سبحانه مثبتًا وقوع هذه المعجزة منه -عليه السلام- بعد إمكانها: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} 4 الآية.
__________
1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص44، 45.
2 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص43، 44.
3 سورة آل عمران: الآيتين 48، 49.
4 سورة المائدة: من الآية 110.(2/813)
فثبت بنص القرآن الكريم وقوع هذه المعجزة لعيسى -عليه السلام- وحصولها منه، ويرى الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد في تفسير آية آل عمران أن هذا يدل على إمكان وقوعها لعيسى -عليه السلام- ولا يدل على وقوعها من غير رجوع إلى آية المائدة، وهما -أيضًا- لا يستندان في نفيهما الوقوع إلى نص من الكتاب أو السنة؛ وإنما إلى عدم تناقل النصارى لهذا "!! " خاصة في الأناجيل القانونية عندهم، أما الأناجيل غير القانونية التي ورد فيها الأخبار بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وكون عيسى -عليه السلام- يخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ونحو ذلك، فلا قيمة لهذه الأناجيل!! وإنما المستند إلى تلك التي لم يرد فيها شيء من ذلك.
ولندع الشيخ عبده يوضح لنا ذلك؛ حيث يقول في تفسير آية آل عمران: "وغاية ما يُفهم منها أن الله تعالى جعل فيه هذا السر؛ ولكن لم يقل: إنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئًا من ذلك وقع1.
ثم يقول: "فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك، وأمر بأن يحتج به، والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم، وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك"1.
ويوضح لنا تلميذه النقل الذي يحتج به في مثل ذلك فيقول: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام، ومن الغريب أن ابن جرير يروي عن ابن إسحاق "أن عيسى -صلوات الله عليه- جلس يومًا مع غلمان من الكتاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطير فنفخ فيه، ثم قال: كن طائرًا بإذن الله؛ فخرج يطير بين كفيه"، فكأنه اتخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان، والحاصل: أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير؛ بل ولا عند النصارى الذي يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية، إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق، وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم، ولعل آية سورة
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص211.(2/814)
المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية؛ وهي {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ.....} 1 الآية، فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلا أن يقال: إن جعل هذه الآيات مما يجري على يديه عند طلبه، والحاجة إلى تحديه به من أجل النعم وأعظمها؛ ولكن هذا خلاف الظاهر"2.
الحمل بعيسى عليه السلام:
ووردت النصوص القرآنية التي تحدثت عن الحمل بعيسى -عليه السلام- في سورتي آل عمران ومريم وغيرهما؛ ففي الأولى قال تعالى على لسان مريم- عليها السلام- حين بشرها الله بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون} 3، وقال تعالى في سورة مريم: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 4.
ولا شك أن حمل المرأة من غير أن يمسها بشر أمر خارق للعادة، آمن المسلمون به من غير تفصيل لكيفية نشوء الحمل؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا تثبت إلا بالوحي، ولم ينص الوحي على كيفيته؛ فتوقف السلف في ذلك، وأسندوا علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد حاول السيد رشيد رضا تقريب حمل مريم بعيسى -عليهما السلام- إلى الأذهان بما تكون به هذه الواقعة أمرًا عاديًّا لا إعجاز فيه، وليس فيه آية للناس، وهذا تفسير باطل نرفضه، فكيف إذا كان تأويله بما هو بعيد عن الحقائق متأثرًا بنظريات علمية ثبت بطلانها وزيفها؛ حيث يقول: "وأقول: اعلم أن الكافرين
__________
1 سورة المائدة: الآية 110.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص211، 212.
3 سورة آل عمران: الآية 47.
4 سورة مريم: الآيتين 20، 21.(2/815)
بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودًا على العادات، وذهولًا عن كيفية ابتداء خَلْق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين؛ ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شئون الكون ما لم يكن معتادًا من قبل؛ فمنه ما يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بالاكتشاف والاختراع، ومنه ما لا يعرفون له سببًا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة.
ونحن -معاشر المؤمنين- نقول: إن تلك الأشياء المعبَّر عنها بالفلتات إما أن يكون لها سبب خفي؛ وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة، فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك، وإما أن تكون قد وُجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب؛ وحينئذ يجب بأن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبًا عقليًّا مطردًا، وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئًا ما ويعده مستحيلًا؛ لأنه لا يعرف له سببًا.
ولعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير المألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس، ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي؛ أي: تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم، وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزًا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول، نعم، إنه خلاف الأصل، وإن كونه جائزًا لا يقتضي وقوعه بالفعل، ونحن نستدل بوقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه1.
إلا أن تعدي السيد رشيد رضا حدود التفسير وتجاوزه لمنهج السلف يظهر في محاولته تقريب هذه الواقعة إلى السنن المعروفة في نظام الكائنات؛ وذلك بصرفها عن أن تكون خارقة وآية للناس إلى أن تكون غير ذلك؛ حيث يقول: "ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص308، 309.(2/816)
"أحدهما": أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب، ويستحوذ على المجموع العصبي، يُحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد، فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا، وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض، فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضًا، وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدًا أنه سُم ناقع فمات مسمومًا به، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول: إن مريم لما بُشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدًا بمحض قدرته وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالًا فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ، وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متممًا لهذا التأثير.
"الوجه الثاني": وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح؛ وهي أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه فيه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون فيه من النمو أو يكون النمو منه، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح؛ ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح، وأصلها رِوح -بكسر الراء- ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه، والماء الذي منه كل شيء حي مركب من روحين لطيفين، وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطًا بين الكثيف واللطيف؛ ولكنه أقرب إلى الثاني، والكهربائية من الأرواح، وناهيك بفعلها في الأشباح.
فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحًا هي التي تحدث معظم التغيُّر الذي نشاهده في الكون؛ حتى إننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال أحد من قدماء فلاسفتنا، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أَجَلُّ وأعظم، فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم".
ثم قال: "إذا تمهد هذا فنقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات(2/817)
قد أرسل روحًا من عنده إلى مريم، فتمثل لها بشرًا ونفخ فيها؛ فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها؛ فحملت بعيسى -عليه السلام- وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله أعلم"1.
ولا شك أن التأويل الأول بأن مريم -عليها السلام- اعتقدت اعتقادًا قويًّا فَعَلَ في رحمها فِعْلَ التلقيح، وأن تأثير الاعتقاد القوي أثبتته التجارب الكثيرة تأويل باطل؛ بل هو مفتاح لطريق سهل للبغايا الفاسدات، وليزعمن إذا وقع منهن الحمل أنهن لم يرتكبن جريمة الزنا؛ وإنما وقع منهن هذا الاعتقاد! وما الذي بأيدينا حتى نثبت كذبهن إذا جعلنا هذا الاعتقاد سبيلًا للحمل؟!
بل وأي فضل اختصت به مريم وابنها -عليها السلام- بهذا الحمل؟! وأي أمر عجب جعله الله آية للناس إذا كانت التجارب في هذا كثيرة؟! ألا فليُعلم بطلان هذا التأويل وانحرافه.
نقول هذا مع أن الشيخ رشيد رضا وصف الوجه الثاني بأنه أقرب إلى الحق؛ ولكنه لم يكتفِ به؛ فكان حقًّا علينا بيانه.
رَفْعُ عيسى -عليه السلام- إلى الله سبحانه وتعالى:
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 2.
وجاء نفي قتله -عليه السلام- والإخبار برفعه إلى الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3.
لذا فإن المسلمين -خلافًا للنصارى- يعتقدون بأن عيسى -عليه السلام- لم يُقتل ولم يُصلب؛ بل رفعه الله إليه.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص309، 310.
2 سورة آل عمران: الآية 55.
3 سورة النساء: الآيتين 157، 158.(2/818)
فقد نفى الله سبحانه وتعالى في الآية الثانية قَتْلَ عيسى -عليه السلام- وأثبت في الآية الأولى وفاته.
فهل يعني هذا إثبات الوفاة بدون قتل ولا صلب، أو أن المراد بالوفاة في الآية الأولى معنى آخر؟ ثم ما المراد بالرفع في الآيتين؟ هل المراد به رفع جسمه -عليه السلام- أو رفع مكانته وتشريفه؟ وهل يُفهم هذا الأخير من الآيتين؟ وما الذي أوجب صرف الوفاة عن معناها المتبادر إلى معنى آخر؟ وما الذي أوجب صرف الرفع عند الفريق الآخر عن معناه الحسي إلى معناه المعنوي؟
كل هذا ما يرد في هاتين الآيتين من التساؤل، وكله يرجع إلى الخلاف في المراد بكلمتي الوفاة والرفع، فلنذكر المراد بهما ومعناهما عند السلف.
قال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- في تفسيره:
"ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني منيمك ورافعك في نومك".
ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إلي، قالوا: ومعنى "الوفاة" القبض، كما يقال: توقيت من فلان ما لي عليه؛ بمعنى: قبضته واستوفيته، قالوا: فمعنى قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} أي: قابضك من الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذك إليَّ ما عندي بغير موت، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك".
ثم قال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاة موت".
وقال: "وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا".
وقال: "هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم".
قال أبو جعفر1: وأَوْلَى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول مَن قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليَّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض
__________
1 يعني: الطبري نفسه.(2/819)
مدة ذكرها -اختلفت الرواية في مبلغها- ثم يموت، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه" 1.
ومعنى هذا أن الطبري يقول بأن عيسى -عليه السلام- لم يمت ولم يُقتل ولم يُصلب؛ وإنما قبضه الله إليه حيًّا، ورفعه إليه كذلك، وقد تواترت الأخبار بنزوله بعد هذا إلى الأرض ... إلخ.
فهو يستند في تفسيره -رحمه الله تعالى- لهذه الآية إلى القرآن الكريم، وإلى السنة المتواترة، وإلى دلالة اللغة العربية ومفهومها، ولا يميل في تفسيره إلى هوى في نفسه أو مداهنة لغيره، وقال بهذا التفسير علماء السلف كلهم واتفقوا عليه، واستدلوا بالأدلة والحجج القوية والبراهين الساطعة، ولم يقل أحد منهم: إن عيسى رفع ميتًا، حتى الذين فسروا الوفاة بالموت فإنهم ذكروا أنه مات ثلاث ساعات -وقيل في رواية أخرى: سبع ساعات- ثم أحياه الله، وفي مثل هذا القول ضعف2.
واستند السلف في تفسيرهم هذا إلى ما يدل عليه القرآن الكريم والسنة المتواترة.
فمن القرآن قوله تعالى عن بني إسرائيل: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3.
فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم ما قتلوه وما صلبوه، وأخبر بأنه سبحانه رَفَعَ عيسى -عليه السلام- إليه.
ومما لا شك فيه أن هدف بني إسرائيل هو "وفاة" عيسى -عليه السلام- وهذا متحقق بقتلهم وصلبهم له أو موته، ولا فائدة في نفي القتل والصلب وحصول الموت؛ فتعين انتفاء الثلاثة: القتل والصلب والموت، وإثبات رفعه عليه الصلاة والسلام إلى الله سبحانه وتعالى.
__________
1 تفسير الطبري ج6 ص455-458.
2 فتح القدير للشوكاني ج1 ص345.
3 سورة النساء: الآيتين 157، 158.(2/820)
وتأويل التوفي في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} 1 بما لا يدل على الموت؛ بل يدل على معنى آخر تبقى معه الحياة، وتدل عليه اللغة العربية؛ كالنوم الذي يسمى بالوفاة في اللغة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} 2، أو القبض، أو الاستيفاء، ونحو ذلك مما ذكرنا آنفًا.
وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر؛ لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة؛ لما صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم من نزول عيسى -عليه السلام- وقتله الدجال3.
فقد تواتر في السنة النبوية الشريفة نزول عيسى -عليه السلام- آخر الزمان، وممن حكى التواتر هذا ابن جرير الطبري4 -كما نقلنا عنه آنفًا- والشوكاني في تفسيره5، وابن كثير6، وابن حجر العسقلاني7، وابن عطية الغرناطي الأندلسي في تفسيره8.
وأبو الوليد بن رشد9، والسفاريني10، والكتاني11، والشيخ محمد شفيع12
__________
1 سورة آل عمران: الآية 55.
2 سورة الأنعام: من الآية 60.
3 فتح القدير ج1 ص344.
4 تفسير الطبري ج6 ص458.
5 فتح القدير ج1 ص353.
6 تفسير ابن كثير ج1 ص615-621، ج4 ص143.
7 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج6 ص493، 494.
8 البحر المحيط: لأبي حيان الأندلسي الغرناطي ج2 ص473.
9 إكمال إكمال المعلم "شرح صحيح مسلم" لأبي عبد الله محمد بن خليفة الوشتاني الأبي ج1 ص265.
10 لوامع الأنواع البهية: محمد بن أحمد السفاريني ج2 ص94، 95.
11 نظم المتناثر من الحديث المتواتر: لأبي عبد الله محمد الكتاني ص147.
12 مقدمة التصريح بما تواتر في نزول المسيح: كتبها الشيخ محمد شفيع ص56.(2/821)
والشيح مصطفى صبري1، وأبو حيان الأندلسي في تفسيره2، والكوثري 3، 4.
وقد مهد السيد رشيد رضا لإنكار رفع عيسى -عليه السلام- بالتشكيك في الأحاديث، ليس في صحتها؛ ولكن بأسلوب آخر هو أخطر وأكثر انحرافًا عن جادة الحق والصواب، فحينما التمس شيخنه محمد عبده مخرجًا من هذه الأحاديث بقوله: "ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.
وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس"5.
حينما قال هذا عقب عليه تلميذه السيد رشيد بقوله: "هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح؛ ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذه اتلأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نُقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث، والناقل للمعنى ينقل ما فهمه"5؟!
وإنما قلت: إن هذا التأويل من السيد رشيد رضا أخطر وأكثر انحرافًا ممن ينكر التواتر؛ لأن مَن أنكر التواتر إذا صح عنده التواتر عمل به واعتقد، أما مَن زعم أن هذه الأحاديث نُقلت بالمعنى فالتأويل الباطل هو مصيرها في كل ما خالف معتقده ورأيه، سواء كان الدليل متواترًا أو دونه، وحجته أنها رُويت بالمعنى.
وإذا ما جئنا إلى تفسير آية آل عمران السابقة وجدنا السيد رشيد رضا يقول في تفسيرها: "والتوفي في اللغة: أخذ الشيء وافيًا تامًّا، ومن ثم استتعمل بمعنى
__________
1 موقف العقل والعلم والعالم: مصطفى صبري ج4 ص247.
2 النهر الماد من البحر: لأبي حيان الأندلسي ج2 ص473، بهامش تفسير البحر المحيط.
3 نظرة عابرة في مزاعم مَن ينكر نزول عيسى عليه السلام: محمد زاهد الكوثري ص36.
4 استفدت في نقل هذه الإشارات لحكاية التواتر من تحقيق شيخنا عبد الفتاح أبو غدة لكتاب التصريح بما تواتر في نزول المسيح ص62-65.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص317.(2/822)
الإماتة، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 2، فالمتبادر3 في الآية: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان رفيع عندي، كما قال في إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 4، 5.
ثم قال: "هذا ما يفهمه القارئ الخالي الذهن من الروايات6 والأقوال؛ لأنه هو المتبادر من العبارة، وقد أيدناه بالشواهد من الآيات؛ ولكن المفسرين7 قد حوَّلوا الكلام عن ظاهره؛ لينطبق على ما أعطتهم الروايات من كون عيسى رفع إلى السماء بجسده، وهاك ما قاله الأستاذ الإمام في ذلك".
ثم نقل تأويل الشيخ عبده لهذه الآية بقوله: "يقول بعض المفسرين: {إِنِّي مُتَوَفِّيك} أي: منومك، وبعضهم: إني قابضك من الأرض بروحك وجسدك، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} بيان لهذا التوفي، وبعضهم: إني أنجيك من هؤلاء المعتدين؛ فلا يتمكنون من قتلك، وأميتك حتف أنفك، ثم أرفعك إليَّ. ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال: للعلماء ههنا طريقتان؛ أحدهما: وهي المشهورة أنه رفع حيًّا بجسمه وروحه، وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا، ثم يتوفاه الله تعالى، ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف، وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفته القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبًا، أقول: وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع؛ إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكان "قال"والطريقة الثانية: أن الآية على ظاهرها
__________
1 سورة الزمر: من الآية 42.
2 سورة السجدة: الآية 11.
3 أهمل السيد رشيد المعاني الأخرى للوفاة الواردة في القرآن؛ فقد وردت بمعناها الأصلي الذي أشار إليه وهو أخذ الشيء وافيًا تامًّا {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النحل: 111] ووردت بمعنى النوم {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] ولم يذكر السيد إلا معنى الموت، ثم قال: المتبادر ... إلخ.
4 سورة مريم: الآية 57.
5 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص316.
6 مما يشترط في مفسر القرآن ألا يكون ذهنه خاليًا من الروايات، فكيف بالمتواتر؟!
7 لم يستثنِ أحدًا منهم، وهو اعتراف منه بإحداثهم لما ذهبوا إليه، وشذوذهم فيه.(2/823)
وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح، ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة روحه؛ فإن الروح هي حقيقة الإنسان، والجسد كالثوب المستعار، فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي "قال" ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان:
أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي؛ لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يُؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.
وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شُرعت لأجله، فالمسيح -عليه السلام- لم يأتِ لليهود بشريعة جديدة؛ ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى -عليه السلام- ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته وبما يجذيهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب، ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها؛ بل وألفاظ من كتب فيها معبرًا عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقًا لروحها ذاهبًا بحكمتها كان لَا بُدَّ لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة ورُوح الدين وأدبه الحقيقي، وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق، وعدو الدين في كل زمان، فزمان عيسى -على هذا التأويل- هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر"1.
والسيد رشيد استند في صرف لفظ الرفع عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي إلى ما حسبه من النصوص مساويًا لقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 2، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 3؛ فاستدل بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 4، ونحو ذلك.
__________
1 تفسير المنار ج3 ص317.
2 سورة آل عمران: من الآية 55.
3 سورة النساء: من الآية 58.
4 سورة مريم: من الآية 57.(2/824)
وهذا خطأ ولا شك؛ ذلكم أن رَفْعَ عيسى -عليه السلام- اقترن به الجار والمجرور "إليَّ" و"إليه"، ومرجع الضمير فيهما إلى الله سبحانه وتعالى، فالآيتان صريحتان في رفع عيسى -عليه السلام- إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يرد فيما ذكروه من آيات الرفع الأخرى وما لم يذكروه اقتران الرفع بالجار والمجرور "إليه".
ونستعيد تلك الآيات للتأكد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} 1، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} 2، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 3، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} 5، {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 6، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 7، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 8، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} 9، وغير ذلك من الآيات.
ولم يقترن أي منها بـ"إلي" أو "إليه"، وحينما يقترن منها شيء بهذا فإن المعنى -ولا شك- يختلف، وإلا لكانت الزيادة عبثًا يتنزه القرآن عنه، ولم يكن اقترانها خاصًّا برفع عيسى؛ فقد وردت في آية أخرى، قال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 10، وهذا -ولا شك- يعطي الرفع قوة خاصة، ومزية خاصة؛ بأن الرفع إليه سبحانه وتعالى لا إلى سواه وهو في السماء.
فوجب حمل الرَّفْعِ لعيسى -عليه السلام- على أنه رُفِعَ إلى الله سبحانه
__________
1 سورة مريم: من الآية 57.
2 سورة الشرح: الآية 4.
3 سورة المجادلة: من الآية 11.
4 سورة النور: من الآية 36.
5 سورة الأنعام: من الآية 83، وسورة يوسف: من الآية 76.
6 سورة البقرة: الآية 253.
7 سورة الأعراف: الآية 176.
8 سورة الأنعام: الآية 165.
9 سورة الزخرف: الآية 33.
10 سورة فاطر: من الآية 10.(2/825)
وتعالى في السماء، وكيف وقد اقترن بهذا الرفع ما يؤيده مما تواتر في سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وهي المفسرة للقرآن التي لا يصح تناوله بالتفسير مجردًا منها.
ثم لو كان المراد من قوله تعالى: {مُتَوَفِّيك} مميتك، ومن قوله: {رَافِعُك} رافع روحك -كما زعموا- "كان القول الثاني مستغنى عنه؛ لأن رفع روح عيسى -عليه السلام- بعد موته إلى ربه -وهو نبي جليل من أنبياء الله- معلوم لا حاجة إلى ذكره1؛ فكان الإخبار برفع رُوحه بعد الإخبار بموته زيادة ينتزه عنها القرآن الكريم.
هذه بعض الأمثلة على موقف السيد رشيد رضا في تفسيره -تفسير المنار- من المعجزات والخوارق التي أخبر الله بها عن أنبيائه السابقين في القرآن الكريم.
وهو في موقفه هذا يشارك رجال المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة موقفهم من المعجزات، وهو أمر خطير زَلَّ فيه رجال المدرسة، نسأل الله لنا ولهم السلاة من مواقع الزلل.
مسألة الخلود في النار:
وإضافة إلى موقف السيد رشيد السابق من المعجزات، فله موقف آخر في مسألة خلود مرتكب الكبيرة.
برز ذلك عنه تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2: "وقد أَوَّلَ الخلودَ المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا تُوجب الخلود في النار، فقال أكثرهم: إن المراد: ومن عاد إلى تحليل الربا
__________
1 موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين، مصطفى صبري ج4 ص178.
2 سورة البقرة: من الآية 275.(2/826)
واستباحته اعتقادًا، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا، وما ذكر عنهم من جمعه كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم؛ فهو ليس بمعنى استباحة المحرم، فإذا كان الوعيد قاصرًا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل، والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء، يجب إرجاع كل قول في الدين إليه، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قَتْلِ العمد، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال.
ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار؛ انتصارًا لأصحابه الأشاعرة، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث، أما نحن فنقول: ما كل ما يُسمى إيمانًا يعصم صاحبه من الخلود في النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ومجاراة أهله، ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه، وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة في العقل بالبرهان، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال؛ بحيث يكون صاحبها خاضعًا لسلطانها في كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان، وليس الربا من المعاصي التي تُنسى، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه -بإذن الله- من الخلود في سخط الله؛ ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدًا إيثارًا لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح.
وأما الإيمان الأول فهو صوري فقط، فلا قيمة له عند الله تعالى؛ لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال؛ ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث، والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جدًّا، وهو مذهب السلف الصالح وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة؛ حتى جرَّءوا الناس على هدم الدين؛ بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن(2/827)
لم يعمل به؛ حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إنني لا أنكر أنني آكل الربا؛ ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد، وبأنه يرضى أن يكون محاربًا لله ولرسوله، وظالمًا لنفسه وللناس، كما سيأتي في آية أخرى، فهل يعترف بالملزوم، أم ينكر الوعيد المنصوص، فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ نعوذ بالله من الخذلان"1.
ولا شك أيضًا أنه جَانَبَ الصواب في هذا؛ لأن النصوص الكثيرة دلت على أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار؛ وإنما يخلد المشركون دونهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2، وقال سبحانه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3.
وقد وردت أحاديث كثيرة في السنة في بيان عدم خلود أصحاب الكبائر في النار ما داموا غير مشركين، وأنهم يخرجون منها؛ قال الإمام الشوكاني: "والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة"4، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه يخرج مَن النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان" "5.
ولهذا أَوَّلَ السلف الخلود في الآية السالفة بأحد تأويلين:
أولهما: أن المعنى: ومَن عاد إلى القول بأن البيع مثل الربا فقد استحل ما حرم الله فيكفر فيستحق الخلود.
وثانيهما: تأويل الخلود بطول المكث.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج3 ص98، 99.
2 سورة النساء: الآية 48، وأيضًا الآية 116.
3 سورة الزمر: الآية 53.
4 فتح القدير: الشوكاني ج1 ص296.
5 تفسير ابن كثير ج1 ص572.(2/828)
وليس هذا مقام تقرير ذلك؛ وإنما بيان مخالفته لرأي السلف وموافقته للمدرسة العقلية القديمة المعتزلة في خلود أصحاب الكبائر، والله الهادي.
أصل الإنسان:
لا شك أن أصل الإنسان من الأمور الغيبية التي لا سبيل إلى معرفتها والقطع بها إلا عن طريق الوحي.
والوحي عندنا -نحن المسلمين- لا يخرج عن آية شريفة أو سُنة صحيحة، وما سواهما فضَرْبٌ من خيال.
والآيات على خلق الإنسان من طين متعددة بأساليب شتى؛ نذكر هنا بعضها:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} 1.
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون} 2.
وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} 3.
__________
1 سورة الحجر: الآيات 26-31.
2 سورة المؤمنون: الآيات 12-16.
3 سورة السجدة: الآيتين 7-8.(2/829)
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1، وقال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2.
وهذه الآيات وغيرها تنص نصًّا على خَلْق آدم أبي البشر من تراب، ثم تناسل ذريته من بعد من ماء مهين؛ ذلكم مجمل معتقد السلف.
ثم ظهرت على مسرح النظريات العلمية نظرية اعترف أصحابها أنها نظرية وأَبَى آخرون إلا أن يعدوها حقيقة علمية؛ تلكم ما يعرف بـ"نظرية داروين"، فذهبوا للاستدلال لها كل مذهب، ووقف آخرون حائرون بين الدين الذي يعتقدون والنظرية التي يستمعون.
أحسب أنه عَزَّ عليهم أن يقع تصادم بين الدين والعلم؛ بل ما حسبوه علمًا ثابتًا؛ فأخطئوا الطريق، وظنوا أن سبيل التوفيق تأويل الآيات القرآنية تأويلًا يوافق هذه النظرية؛ فلا يكون تصادم ولا يكون تناقض.
اخطئوا الطريق مرتين، مرة حين حسبوها حقيقة علمية مع أن صاحبها "داروين" نفسه لم يجزم بها؛ حيث قال: "اسمح لي أن أضيف إلى هذا بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان أصل الأنواع"3.
ومرة حين عمدوا إلى الآيات الصريحة يؤولونها ويصرفونها عن معانيها لا لشيء إلا لأنها لم توافق تلكم النظرية.
والشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لم يرفضا هذه النظرية، والحق أيضًا أنهما لم يعلنا قبولها؛ لكنهما فسرا الآيات القرآنية بما يفتح الباب على مصراعيه لمن يريد أن يقول بها، وأنكرا مصادمة القرآن لها.
خذ مثلًا تفسير الشيخ محمد عبده لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
__________
1 سورة النساء: من الآية الأولى.
2 سور آل عمران: الآية 59.
3 على أطلال المذهب المادي: محمد فريد وجدي ج1 ص102.(2/830)
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1: "ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين مَن يقول: إن كل نداء مثل هذا يُراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان، وإذا قلنا: إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام -أي: لجميع الأمم- فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، فالذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبًا يحملون النفس على ما يعتقدون ... والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} بالتنكير، وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول: وبث منهما جميع الرجال والنساء، وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب، وهذا العهد ليس معروفًا عند جميعهم؟!
فمن الناس مَن لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما، وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلًا، وهو مأخوذ عن العبرانيين، فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخًا متصلًا بآدم وحددوا له زمنًا قريبًا، وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر، ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون، والعلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبارنيين، ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود وإن عزوه إلى موسى عليه السلام؛ فإنه لا ثقة عندنابأنه من التوراة، وأنه بقي كما جاء به موسى"2.
وبهذا أكد الشيخ أن آدم ليس أبًا البشر كلهم؛ وإنما قلت: "أكد"؛ لأنه:
1- استدل بأن الآية لا تدل "بالنص ولا بالظاهر" على ذلك.
2- وأنه لو كان آدم أبًا البشر كلهم لما قال: {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} ؛ بل قال: جميع الرجال والنساء.
__________
1 سورة النساء: من الآية الأولى.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص323، 324.(2/831)
3- وأن مِن الناس مَن لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما.
4- أن العلم والبحث في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين باعتقادهم أن آدم أبو البشر.
وبهذا أضاء الشيخ عبده النور الأخضر لمن يريد أن يقول بنظرية داروين بأن يجعل تطبيقها على آباء البشر الآخرين عدا آدم عليه السلام.
فإن ذهبت تعترض على هذا القول وتقول: ورد في القرآن الكريم الخطاب: {يَا بَنِي آدَمَ} 1، وورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب" 2، وما رواه أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى" 3.
إذا ما قلت هذا أجابك الشيخ محمد عبده: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} لا ينافي هذا، ولا يعد نصًّا قاطعًا في كون جميع البشر من أبنائه؛ إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم. وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس فسدوا فيها وسفكوا الدماء، وأقول زيادة في الإيضاح: إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم، فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها؛ بل من المسألة المسلمة عندهم "!! " وهي أن آدم أبو البشر"4.
وأيَّد هذا الرأي السيد رشيد رضا بروايات واهية لو لم تكن حجة له لشنع
__________
1 انظر مثلًا: الآيات 26، 27، 31، 35، 172 من سورة آل عمران، و70 من الإسراء، و60 من يس.
2 رواه البزار عن حذيفة بن اليمان.
3 رواه أحمد في مسنده ج5 ص411.
4 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص324، 325.(2/832)
على قائليها ورواتها؛ حيث قال: "وقد نُقل عن الإمامية والصوفية أنه كان قبل آدم -المشهور عند أهل الكتاب وعندنا- آدمون كثيرون. قال في روح المعاني: ذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرًا طويلًا نقل فيه: أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابًا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضًا: أنه قال: لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرًا غيركم؛ بل والله لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميين"، ثم قال: "ثم نقل عن زين العرب القول بكفر مَن يقول بتعدد آدم، وهذا من جرأته وجرأة أمثاله الذين يتهجمون على تكفير المسلمين لِأَوْهَى الشبهات"1.
وأظهر السيد رشيد رضا الدافع له لسلوك هذا التفسير بقوله: "وليت شعري ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون إن أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه ترك يقينه في المسألة: إنه لا يصح إيمانه ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن كلام الله وأنه لا نص فيه يعارض يقينه"2.
ولهذا فسر الشيخ رشيد رضا المراد بالنفس بقوله: "هذا، وإن المتبادر من لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات؛ أي: خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بُدئت بآدم -كما دل عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين- أو بدئت بغيره وانقرضوا -كما قاله بعض الشيعة والصوفية- أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف -كما عليه بعض الباحثين- ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات، أو خلق مستقلًّا على ما عليه الخلاف بين الناس في
__________
1 المرجع السابق: ج4 ص325، 326.
2 المرجع السابق: ج4 ص327.(2/833)
هذا العصر"1.
ثم قال: "على كل حال، وكل قول يصح أن جميع الناس هم من نفس واحدة هي الإنسانية التي كانوا بها ناسًا، وهي التي يتفق الذين يدعون إلى خير الناس وبرهم ودفع الأذى عنهم على كونها هي الحقيقة الجامعة لهم، فتراهم على اختلافهم في أصل الإنسان يقولون عن جميع الأجناس والأصناف: إنهم إخواننا في الإنسانية، فيعدون الإنسانية مناط الوَحْدَة وداعية الألفة والتعاطف بين البشر، سواء اعتقدوا أن أباهم آدم -عليه السلام- أو القرد أو غير ذلك"1.
وبهذا يكون الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا فَتَحَا الباب على مصراعيه لمن اراد أن يقول بنظرية داروين، ولعل هذا يفسر تلك العبارات الكثيرة للشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد التي تتحدث عن تطور الإنسان، وأنه نشأ أول ما نشأ ساذجًا سذاجة لا يبلغ بها تناول الشئون الرفيعة والمعاني العالية والمعارف السامية، وأن العناية الإلهية صارت بالإنسان كما سارت به في أفراده، فكما ينشأ الفرد قاصرًا في جميع قواه، ضعيفًا في جميع أعضائه، كذلك نشأت الجمعية البشرية على ضرب من السذاجة2 السالفة الذكر، ونحو ذلك من العبارات والتأويلات، وللقارئ أن يجعل ذلك في ذهنه حتى يجس به مسار تفسيرهم على ضوء هذه النظرية، والله الهادي.
الملائكة:
الإيمان بالملائكة من أركان الإيمان، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 3، وقال سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4، وقال
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص327.
2 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج2 ص291، 292، ورسالة التوحيد: للأستاذ محمد عبده ص166-169، وتفسير المنار أيضًا ج1 ص315.
3 سورة البقرة: من الآية 285.
4 سورة البقرة: من الآية 177.(2/834)
سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} 1.
والسلف يؤمنون بهذا، ويصفون الملائكة بما وصفهم الله به في كتابه وسنة رسوله، لا يزيدون على ذلك؛ لأنه من أمور الغيب.
فيصفونهم بأنهم عباد مكرمون2، وأنهم يسبحون بحمد ربهم3، وأنهم بأمره يعملون4، وأن لهم أجنحة مثنى وثلاث ورباع5، وأنهم قادرون على التشكُّل والظهور بمظهر البشر6، وأن منهم مَن هو موكل بالوحي7، وموكل بالصُّور8، وموكل بالموت9، وموكل بحفظ العبد10، وموكل بكتابة أعماله11، ومنهم خزنة جهنم12، ومنهم خزنة الجنة13، ومنهم المبشِّرون للمؤمنين عند موتهم14، ومنهم حملة العرش15، ذلكم مجمل اعتقاد السلف في الملائكة، لا يثبتون شيئًا إلا من طريق الوحي، ويفوضون علم ما سواه إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الشيخ محمد عبده في تفسير المنار قولين للعلماء، قال عن أولهما:
__________
1 سورة النساء: من الآية 136.
2 سورة الأنبياء: الآية 26.
3 سورة الشورى: الآية 5.
4 سورة الأنبياء: الآية 26.
5 سورة فاطر: الآية الأولى.
6 سورة الذاريات: الآية 25، ومريم: الآية 17.
7 سورة الشعراء: الآيات 193-195، والنحل: 102.
8 سورة الزمر: الآية 68.
9 سورة السجدة: الآية 11.
10 سورة الرعد: الآية 11، وسورة الأنعام: الآية 6.
11 سورة الإنفطار: الآيات 10، 11، 12.
12 سورة الزخرف: الآية 77.
13 سورة الزمر: الآية 73.
14 سورة فصلت: الآية 30، والأنبياء: الآية 103.
15 سورة غافر: الآية 7، وسورة الحاقة: الآية 17.(2/835)
"أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا نقول: إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور؛ إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالِم الجسمانية كالنبات والبحار، فإننا نستدل بذلك على أن الكون عالَمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا؛ بل يحكم بإمكانه لذاته، ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به".
أما الرأي الثاني في الملائكة فقد ذكره الأستاذ الإمام محمد عبده ناقلًا في أول الأمر وحاكيًا؛ لكنه لم يلبث أن أيده وحبذه ودافع عنه؛ بل زعم أنه لا فرق بينه وبين رأي السلف؛ حيث قال عن هذا الرأي: "وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فَهْم معنى الملائكة؛ وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال؛ من إنماء نبات، وخلقة حيوان، وحفظ إنسان، وغير ذلك وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة؛ وهي أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة؛ فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام الخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي، سمي في لسان الشرع ملَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوة الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة.
والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملَكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبعيية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات"1.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص267، 268.(2/836)
ثم انجلى موقفه ورأيه أكثر عندما لم يستبعد أن تكون الملائكة هي تلك النوازع التي نحس بها عندما نتردد بين فعل شيء أو تركه، وهذا لعمري جُرأة على علم الغيب، قال: "يشعر كل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره، عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعًا؛ كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، واحد يقول: افعل، وآخر يقول: لا تفعل؛ حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكرًا -وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كُنهه، وروح لا تكنته حقيقتها- لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملَكًا "أو يسمي أسبابه ملائكة" أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع"1.
ثم بعد أن قرر هذا التأويل المنحرف للملائكة انتقل إلى تطبيق هذا في آيات القرآن، ولم يستبعد في تفسيره لها ما ذكره آنفًا؛ حيث قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} 2، قال: "فإذا صح الجري على هذا التفسير فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصًا بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه، ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، خلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعدًا للتصرف بجميع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض، وعبر عن تسخير هذه القوى له بالسجود الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له، والتصرف الذي لم يعطَ لغيره خليفة الله في الأرض؛ لأنه أكمل الموجودات في هذه الأرض، واستثنى من هذه القوى قوة واحدة عبر عنها بإبليس، وهي القوة التي تعارض في
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص268.
2 سورة البقرة: الآية 34.(2/837)
إتباع الحق، وتصد عن عمل الخير، وتنازع الإنسان في صرف قواه إلى المنافع والمصالح التي تتم بها خلافته؛ فيصل إلى مراتب الكمال الوجودي التي خُلق مستعدًّا للوصول إليها"1.
وقد التمس السيد رشيد عذرًا لشيخه الأستاذ محمد عبده بـ"أن غرض الأستاذ من هذا التأويل -الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة- إقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم تقبله عقولهم، وقد اهتدى به كثيرون، وضل به آخرون؛ فأنكروا عليه، وزعموا أنه جعل الملائكة قوى لا تعقل"2.
والحق أن الشيخ محمد عبده قد أقنع -فعلًا- منكري الملائكة بتعبير مألوف عندهم؛ لكن ليس بوجودهم؛ وإنما بوجود قوى لم يكونوا ينكرونها من قبل، وليست هي مثار الجدل، وما زالت القضية جارية؛ فصار كمن أراد أن يقنع منكر وجود زيد في الدار فلج به في الجدل حتى أقنعه بوجود عمرو -الذي لم ينكره من قبل- وسماه زيدًا! وما هو بزيد المراد.
وكان الشيخ في غنى عن كل هذا لو فَوَّض حقيقتها إلى الله سبحانه، واكتفى بالنصوص الواردة في ذلك وقال: آمنا به كل من عند ربنا؛ لكنه لا يرتضي هذا الموقف؛ بل يعده قصورًا عند قائله؛ حيث يقول: "فإن لم تجد في نفسك استعدادًا لقبول أشعة هذه الحقائق، وكنت ممن يؤمن بالغيب، ويفوض في إدراك الحقيقة ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فلا ترمِ طلاب العرفان بالريب ما داموا يصدقون بالكتاب الذي آمنت به، ويؤمنون بالرسول الذي صدقت برسالته، وهم في إيمانهم أعلى منك كعبًا، وأرضى منك بربهم نفسًا"3.
وليس لنا أن نقول إلا أن آمنا به كل من عند ربنا، وأمرهم إلى الله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الجن:
وشأن الجن كشأن الملائكة؛ من حيث الاعتقاد بوجودهم وصفاتهم، كلاهما
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص269.
2 المرجع السابق: ج1 ص270.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص273.(2/838)
أمر غيبي، وقد دل القرآن الكريم على وجود الجن {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.
وذكر من صفاتهم أنهم خلقوا من نار2، وأن الله أرسل إليهم رسلًا3، وأن منهم مؤمن ومنهم كافر4، وأن منهم شياطين5، وأن الله يعاقب العصاة منهم بالنار6، وأن الله أعطاهم قوة لا توجد في الإنس7، وأن قدرتهم ناقصة8، وأنهم لا يعلمون الغيب9، وأنهم يتزوجون10 ويتناسلون11، وأنهم يروننا من حيث لا نراهم12.
ذلكم مجمل عقيدة السلف في أمر الجن، لا يصفونهم بأكثر مما وصفهم به القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لأنهم من أمور الغيب التي لا يصح القول فيه إلا بالوحي.
وقد أثبت الشيخ رشيد رضا وآمن بوجود الجن؛ لكنه تأول وجودهم بأمر آخر لم يقل به أحد من السلف، وليس له من دليل إلا الاحتمال، وما هو بدليل.
فقال السيد رشيد رضا: "وقد كان غير المسلمين يعدون من هذا القبيل
__________
1 سورة الذاريات: الآية 56.
2 سورة الحجر: الآية 27، والرحمن: 15.
3 سورة الأنعام: الآية 130.
4 سورة الجن: الآيتين 12، 15.
5 سورة الناس.
6 سورة هود: الآية 119.
7 سورة النمل: الآيتين 38، 39.
8 سورة الرحمن: الآية 33.
9 سورة الجن: الآية 7، 10.
10 سورة الرحمن: الآية 74.
11 سورة الكهف: الآية 50.
12 سورة الأعراف: الآية 27.(2/839)
-أي: من قبيل الخرافات- حديث أبي موسى: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة" رواه الحاكم وصححه، ثم صاروا بعد اكتشاف باشلس الطاعون يتعجبون منه بصدق كلمة "الجن" على ميكروب الطاعون كغيره، وقد ورد أن الجن أنواع؛ منها ما هو من الحشرات، وحشائش الأرض"1.
وشبه فعل جنة الشياطين في النفوس البشرية بفعل الجنة في الأجساد فقال: "وفعل جنة الشياطين في أنفس الشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في أجسادهم وفي غيرها من أجسام الأحياء، وتؤثر فيها من حيث لا ترى فتتقى"2.
وبعبارة أصرح مما ذكرنا صرح في موضع آخر: "وقد قلنا في المنار غير مرة: إنه يصح أن يقال: إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة -وتسمى بالميكروبات- يصح أن تكون نوعًا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض، قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن"3.
وكان بودنا أن يتوقف الشيخ رشيد رضا -رحمه الله تعالى- عن الخوض في أن الميكروبات نوع من الجن من غير حجة إلا حجة الاحتمال الخالي من الدليل الشرعي الذي يعتمد عليه في مثل هذا، وما نحسبه فعل هذا إلا حرصًا على تقريبها إلى الأذهان، وقد أخطأ الطريق في هذا، فعفا الله عنا وعنه.
بعض الأحكام الفقهية:
ذكرنا أن من الأسس التي يقوم عليها منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير إنكار التقليد وذمه والتحذير منه، وقد كان الأستاذ محمد رشيد رضا من المتمسكين بهذا الأساس؛ بل ومن المتعصبين له، وبادر إلى تطبيقه
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج7 ص319.
2 المرجع السابق: ج8 ص364.
3 المرجع السابق: ج3 ص96.(2/840)
بنفسه في تفسير القرآن الكريم، وقد أدى به اجتهاده هذا إلى أقوال وآراء جديدة في بابها أو آراء خاطئة، نذكر من ذلك مثالين لا نزيد عليهما خوف الإطالة:
أولًا: التيمم: قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} 1.
وبالتأمل في الآية تلحظ أنها نصت على أربع حالات وشرط واحد ثم حكم واحد أيضًا، أما الحالات الأربع فهي:
إن كنتم:
1- مرضى.
2- أو على سفر.
3- أو جاء أحد منكم من الغائط.
4 أو لامستم النساء.
والشرط: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} .
والحكم: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} .
وقد أجمع المسلمون على جواز التيمم عند فَقْدِ الماء أو الخوف من التلف ونحوه عند استعمال الماء للمريض والمقيم والسليم والمسافر؛ وإنما نص على المرض لأنه مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب2؛ ولذلك قال مالك رحمه الله تعالى: "ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارًا بالأغلب فيمن لم يجد الماء بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده؛ فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه"2.
ذلكم مجمل ما اتفقوا عليه، واستدلوا بأدلة كثيرة من السنة ليس هذا موضع إيرادها.
ولكن السيد رشيد رضا خالف جميع الفقهاء في هذا، وجاء برأي لم يسبق
__________
1 سورة النساء: الآية 43.
2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج1 ص471.(2/841)
إليه، وتعجب من غفلة جماهير الفقهاء عن تفسيره هذا، وبدأ أول ما بدأ فجعل الحالات ثلاثًا بدلًا من أربع؛ فعدها إن كنتم:
1- مرضى.
2- أو على سفر.
3- أو لم تجدوا ماء.
حيث قال: "أي: ففي هذه الحالات المرض والسفر وفقد الماء عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء والحدث الأكبر الموجب للغسل تيمموا صعيدًا طيبًا"1.
وبَنَى على هذا التقسيم أن كل حالة من هذه الحالات الثلاث -المرض والسفر وفقد الماء- هي عذر بحد ذاتها لإباحة التيمم.
وهو بهذا يقلد شيخه الأستاذ محمد عبده الذي فسر الآية بقوله: "المعنى: أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثًا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء؛ فعلى كل هؤلاء التيمم فقط، هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه"2.
ولا شك أن الذي يفهمه القارئ من الآية ليس ما ذكره الأستاذ الإمام هذا إذا لم يستند إلى بيان السنة لها؛ ذلكم أن الذي يُفهم من ظاهر الآية أن التيمم مشروع للمريض والمسافر ولمن جاء من الغائط ولمن لامس النساء بشرط فقد الماء، وهذا هو ما يدل عليه ظاهر الآية إذا لم نبينه بالسنة؛ ولذلك فلا عجب أن يطالع الشيخ محمد عبده خمسة وعشرين تفسيرًا ولا يجد فيها رأيه هذا!! حيث يقول: "وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرًا فلم أجد فيها غناء فيها ولا رأيت قولًا فيها يسلم من التكلف، ثم رجعت إلى المصحف وحده3
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.
3 لا أظنه يجهل أن الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الأخذ بـ"المصحف وحده".(2/842)
فوجدت المعنى واضحًا جليًّا، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره، وهو لا يحتاج عند مَن يعرف العربية -مفرداتها وأساليبها- إلى تكلفات فنون النحو1 وغيره من فنون اللغة عند حافظي أحكامها من الكتب مع عدم تحصيل مَلَكَةِ البلاغة"2.
وقد أراد السيد رشيد رضا أن يؤيد ما ذهب إليه شيخه محمد عبده بأسلوب جديد في التأييد؛ فجعل ما فهمه من الآية أمرًا مسلمًا واضحًا عنده وعند خصومه، وإنما منعهم من القول به مخالفة المذاهب المعروفة لا عدم اقتناعهم بما قاله هو وأستاذه، فقال: "سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم، إن الاية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم؛ ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين، ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه.
ولنا أن نقول لمثل هؤلاء -وإن كان المقلد لا يحاج؛ لأنه لا علم له-: وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلًا مشكلًا؟ وأي الأمرين أَوْلَى بالترجيح: الطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء، أم تجويز الخطأ على الفقهاء؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر في رمضان؟ فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء -وهما دون الصلاة- والصيام في نظر الدين؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيها أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها؟ هل يقول منصف: إن صلاة الظهر أو العصر أربعًا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء فيه؟ 3 السفر
__________
1 ولكنه يحتاج إلى معرفة السنة؛ فهي البيان الصحيح للقرآن الكريم.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.
3 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص119.(2/843)
مظنة المشقة، يشق فيه غالبًا كل ما يؤتى في حضر بسهولة، وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء وإن كان الماء حاضرًا مستغنى عنه.
وأضرب لهم مثلًا هذا الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإن الماء فيها كثير دائمًا، في كل باخرة منها حمامات؛ أي: بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد؛ ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون بالدرجة الأولى والثانية، وهؤلاء الأغنياء منهم مَن يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال، أو خفيف يشق معه الاغتسال ولا يتعذر، فإن كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل يشق فيه الاغتسال أو يتعذر، فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال والبغال؟ "1.
ولا شك أن هذه مغالطة من الشيخ محمد رشيد رضا؛ ذلكم أنه جعل السفر هو المبيح للتيمم لمن أصابه الدوار الشديد الذي يتعذر معه الاغتسال، ومصدر المغالطة أنه تجاهل -ولا أظنه يجهل - أن الدوار الشديد مرض أباح لصاحبه التيمم إذا كان استعمال الماء يزيده مشقة أو ضررًا، فالعذر هنا المرض وليس السفر، ومن المجمع عليه عند الفقهاء أن المرض من مبيحات التيمم ولو مع وجود الماء إذا كان يلحقه ضرر باستعماله الماء، أما المسافر الذي يجد الماء ولا يضره استعماله، فليس له أن يتيمم؛ ولهذا فلا يصح له أن يستدل بالمسافر المريض بالدوار الشديد الذي يضره استعمال الماء على إباحة التيمم لمجرد السفر.
ومن العجيب أن الشيخ محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا لم يستندا في تفسيرهما هذا إلى سُنة نبوية؛ وإنما إلى الرأي المجرد من الدليل؛ بل والأسوأ من هذا أن السيد رشيد رضا وصف سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء بأنها منقولة بالمعنى "!! " وأنها لا تنهض دليلًا، وأن مفهومها مفهوم مخالفة، وأنه غير معتبر عند الجمهور "!! " مع اعترافه أن الجمهور قالوا بخلاف رأيه.
ولذلك فلا عجب أن يغفل "جماهير الفقهاء" عن هذا المفهوم؛ ولكن السيد رشيد رضا يعجب من هذا فيقول:
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص120، 121.(2/844)
"ألا إن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأَوْلَى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} بعيد؛ بل ممنوع ألبتة -كما تقدم- على أنهم لا يقولون به في المرض؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه؛ فيكون ذكرهم لغوًا يتنزه عنه القرآن.
ونقول: إن ذكر المسافرين كذلك؛ فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب الرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة؛ ولذلك عللوه بما هو ضعيف متكلف، وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك.
رووا "أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد انقطع فيها عقد لعائشة؛ فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء؛ فنزلت الآية، فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن حضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر" رواه الستة، وفي رواية: "يرحمكِ الله تعالى يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجًا".
فهذه الرواية -وهي من واقع الأحوال- لا حكم لها في تغيير مدلول الآية، ولا تُنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببًا لها، ألا ترى أنها شملت المرض، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء على تقدير وجوده، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم فيها خاصًّا بفاقدي الماء دون غيرهم، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء، التي هي عمدة الفقهاء على أنها منقولة بالمعنى، وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلًا، ومفهومها مفهوم مخالفة، وهو غير معتبر عند الجمهور، ولا سيما في معارضة منطوق الآية"1.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج5 ص121، 122.(2/845)
إلا أنه لا يقول به في ربا الفضل؛ بل ينكر على ابن حجر قوله: "إن ما ورد من الوعيد على الربا شامل لجميع أنواعه". ويعد السيد رشيد قول ابن حجر خطأ؛ فإن منها عنده -أي: عند ابن حجر- بيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو بيع كيل من التمر الجيد بكيل وحفنة من التمر الرديء، مع تراضي المتبايعين وحاجة كل منهما إلى أخذه، ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن، ولا في وعيده، ولا يصح أن يُقاس عليه، كما لا يصح أن يقال: إن خلوة الرجل بامرأة لا يشتهيها ولا تشتهيه كالزنا في حرمته ووعيده1.
بل تجاوز هذا حين قامت البلاد المصرية وقعدت في أيامه لمسألة الربا، واقترح كثيرون إنشاء بنك الإسلامي؛ فكان العلاج الذي قدمه من وجهين:
"أما الأول: فيوجه إلى فريق المقلدين، وهم أكثر المسلمين في هذا العصر، فيقال لهم: إن في مذاهبكم التي تتقلدونها مخرجًا من هذه الضرورة التي تدعونها، وذلك بالحيلة "!! " التي أجازها الإمام الشافعي، الذي ينتمي إلى مذهبه أكثر أهل هذا الفطر، والإمام أبو حنيفة، الذي يتحاكمون على مذهبه كافة، ومثلهم في ذلك أهل المملكة العثمانية التي أنشئت فيها مصارف "بنوك" الزراعة بأمر السلطان، وهي تقرض بالربا المعتدل "!! " مع إجراء حيلة المبايعة التي يسمونها المبايعة الشرعية.
وأما الثاني: فيوجه إلى أهل البصيرة في الدين، الذين يتبعون الدليل ويتحرون مقاصد الشرع، فلا يبيحون لأنفسهم الخروج عنها بحيلة ولا تأويل، فيقال لهم: إن الإسلام كله مبني على قاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر الثابتة بنص قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2: 185] ، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5: 6] .
وإن المحرمات في الإسلام قسمان:
الأول: ما حرم لذاته لما فيه من الضرر، وهو لا يباح إلا لضرورة، ومنه
__________
1 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص126.(2/847)
ربا النسيئة المتفق على تحريمه، وهو ما لا تظهر الضرورة إلى أكله؛ أي: إلى أن يقرض الإنسان غيره فيأكل ماله أضعافًا مضاعفة، كما تظهر في أكل الميتة وشرب الخمر احيانًا.
والثاني: ما هو محرم لغيره كربا الفضل المحرم؛ لئلا يكون ذريعة وسببًا لربا النسيئة، وهو يباح للضرورة؛ بل وللحاجة"1.
والطريف أنك لا تجد فرقًا بين ما حرم لذاته وما حرم لغيره إلا الاختلاف في لفظ الحكم، فهو يقول عن الأول: "لا يباح إلا لضرورة"، وقال عن الثاني: "يباح للضرورة والحاجة"، فأي فرق صار بينهما إذًا؟ وعلى أي أساس ساق هذا التقسيم؟ لا أظنه ساقه إلى هذا المأزق إلا ضعف الحجة في مواجهة الدليل الصحيح.
وليس بوسعي أن أذكر الحجج والأدلة الصحيحة في هذا المقام؛ حتى لا يتحول حديثنا إلى بحث فقهي؛ وإنما أكتفي بهذا، ولعل فيه بيانًا أو بعضه لمنهجه، رحمه الله تعالى وتجاوز عنا وعنه في التفسير.
وبعد:
هذه أمثلة لتفسير المنار حاولت فيها التنوع والشمول، ولم أحاول التعمق والتفصيل، لعله يظهر صورة واضحة لمنهجه الذي سلكه.
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص129، 130.(2/848)
ثانيا: التفسير
ومع أنه يكتب بقلمه أن الحديث يقول: "ليسوا على ماء وليس معهم ماء" مع هذا فإنه يقول: "وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء"، ويصف هذه الرواية بأنها من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية؟!! ولا أظن الشيخ رشيد ينكر أن السنة تبين مدلول الآية، وتبقى علامة استفهام معلقة ومعها التعجب في عبارته السالفة، دَعْ عنك بعد هذا عباراته الأخرى التي لا أظنها تخفى أو يخفى جوابها.
وبهذا يظهر ما أدى به اجتهاده الذي دعا إليه، وهو بهذا التأويل ونحوه يجعلنا أكثر حرصًا على توفر شروط الاجتهاد والدعوة إلى تطبيقها، عفا الله عنا وعنه وسائر المسلمين.
حكم الربا:
وحكمه في الإسلام معلوم لا يخفى كالخمر يحرم قليله وكثيرة، وليس هذا المقام مقام بسط الأدلة والبراهين.
لكن السيد رشيد رضا يرى أن الربا المحرم هو ما كان فاحشًا؛ ففسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 بقوله: "والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهود عند المخاطبين عند نزولها لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم"2.
والربا كما هو معلوم ينقسم إلى قسمين: ربا الفضل، وربا النسيئة. ويرى الأستاذ رشيد أن ربا الفضل إنما حرم لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة المحرم لذاته، تمامًا كالنظر إلى الأجنبية بشهوة، أو لمس يديها كذلك، أو الخلوة بها ولو مع عدم الشهوة؛ لأن هذه الأشياء ليست محرمة لذاتها؛ بل لسد الذريعة؛ لئلا تكون وسيلة إلى الزنا المحرم لذاته3.
ومع أنه يعلم أن النظر إلى الأجنبية ولمسها والخلوة بها محرم، ولا ينكر هذا،
__________
1 سورة آل عمران: الآية 130.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص123.
3 انظر تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج4 ص126.(2/746)
ثانيًا: تفسير جزء تبارك
أولًا: المؤلف
هو عبد القادر بن مصطفى المغربي، وُلد في اللاذقية سنة 1284، وانتقل مع والده إلى طرابلس الشام، ولزم الشيخ حسين الجسر -علامة طرابلس- ثم اتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، وذلك عن طريق مجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها الأفغاني في باريس.
ودفعه الشوق إلى رؤية الأفغاني؛ فسافر إليه في الأستانة سنة 1310، وظل في جواره سنة واحدة؛ حيث استدعاه محمد عبده إلى مصر، فعمل في الصحافة.
وكانت أعنف فترة في حياته خلال سنتي 1906-1911م؛ حيث قام بحملة على الحجاب، ودعا إلى سفور المرأة، وقد وصف من أحوال نساء أوربا وأمريكا ومخالطتهن للرجال ما يشعر باستحسانه له، وتمنيه لنسائنا مثله؛ حتى هاج عليه الشيوخ1.
وهو يرجو من قاسم أمين أن يتحفنا بكتاب في المرأة يكون ثالث القمرين "يعني بهما: كتابي تحرير المرأة، والمراة الجديدة لقاسم أمين" وشاهدًا لصاحبه بالحسنيين2.
وأهم مؤلفاته:
1- كلمتان في السفور والحجاب، طبع سنة 1910، 1911م.
__________
1 محاضرات عن عبد القادر المغربي: محمد أسعد طلس ص52.
2 المرجع السابق: ص53.(2/849)
2- محاضرات عن محمد صلى الله عليه وسلم والمرأة، طبع سنة 1347.
3- جمال الدين الأفغاني "ذكريات وأحاديث"، نشر في سلسلة أقرأ سنة 1948م.
4- تفسير جزء تبارك، وسيأتي الحديث عنه.
5- على هامش التفسير، طبع سنة 1368.
6- النجم الآفل، وهي ترجمة لرواية "غادة الكاميليا" للإسكندر، وضع فيها الشيخ أشعارًا وأدوارًا غنائية؛ حيث عرضت على الجماهير في المسرح في 3 أكتوبر سنة 1908م، وقد رفض الشيخ طبعها ونشرها؛ لأنه كان لا يحب أن يعرف عنه أنه اهتم بالروايات والمسرحيات؛ لما في ذلك من الغض من سمعته ومكانته الدينية1.
وقد تُوفي الشيخ عبد القادر في دمشق سنة 1375 الموافق 1956م.
__________
1 محاضرات عن عبد القادر المغربي: محمد أسعد طلس ص59.(2/850)
ثانيًا: التفسير
تفسير جزء تبارك: ويقع هذا التفسير في 136 صفحة من الحجم الكبير.
ويرى المؤلف أن جزأي عم وتبارك جديران بأن يفسر كل منهما تفسيرًا حسن الوضع، صحيح الأسلوب، يقرب من أذهان العامة، ولا يجافي عقول الخاصة، ويقتصر فيه على ما يكشف الغموض عن الآيات من جهة اللغة والإعراب، ثم يشرح فيه المعنى المتبادر شرحًا وسطًا مجردًا عن التنطع بالمشاغبات وإيراد الخلافات والخرافات.
وقال: "وقد وضع مولانا الأستاذ الشيخ محمد عبده -رحمه الله- تفسيرًا لجزء عم، توخَّى فيه هذا النمط والأسلوب"2.
ثم ذكر أنه رغب في تأليف تفسير لجزء تبارك على مثال تفسير شيخه وطريقته، بيد أنه رأي أن يتوسع قليلًا في التعليق والتفسير والاستشهاد والتنظير
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص3.(2/850)
-لا سيما في المباحث اللغوية- أكثر مما فعله الأستاذ -رحمه الله- في تفسير جزء عم، وعلل ذلك بمراعاة حال قُراء جزء تبارك، ومقدرًا أنهم سيكونون أكبر سنًّا، وأتم استعدادًا، وأشد اهتمامًا بالتحصيل من قُراء جزء عم1.
وقد التزم بما قال، إلا أنه ينقل كثيرًا عن الأسفار القديمة ما يراه بيانًا للآيات، ومنها ما يخالف النص القرآني، ويتوسع في باب الآيات، والتي تعرض للأخلاق والآداب الإسلامية السامية في أدب الدعوة وغيرها، وله عناية ببيان أسرار البلاغة القرآنية، وأسلوب التعبير القرآني، وميل إلى التفسير العلمي، إضافة إلى الأسس التي بسطناها في منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة، وسنذكر هنا أمثلة على عجل لهذا التفسير، أحاول فيها الإيجاز والشمول.
تفسير القرآن بالقرآن:
ومن تفسير المؤلف القرآن بالقرآن تفسيره للمرسلات في قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} 2، فيقول: "وقلما ذكر القرآن إطلاق الرياح إلا عبر عنه بفعل أرسل؛ ففي سورة فاطر: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} ، وفي الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، وفي الأحزاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} ، وفي الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاح} ، وفي الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} ، وفي آيات أخرى غيرها، فقوله تعالى هنا: {وَالْمُرْسَلاتِ} من هذا القبيل"3.
عدم الإطناب فيما أُبهم في القرآن:
ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} 4، فقد توقف الشيخ عبد القادر عن الخوض في دقائق التفصيل فقال: "ونحن -معشر المسلمين- نعتقد بظاهر ما ورد في القرآن الكريم من أن النجوم قد ينفصل عنها رجوم تتبع الشياطين، وإذا لم يفهم العلم الطبيعي
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص3.
2 سورة المرسلات: الآية الأولى.
3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص126.
4 سورة الملك: من الآية 5.(2/851)
هذه القضية فلذلك؛ لأنه لم تتوفر له أسباب الفَهْم اليوم، ويكفينا في صحة الإيمان بها على ظاهرها أن العقل لا يجعلها من المحالات العقلية"1.
التفسير العلمي:
ويفسر أحيانًا تفسيرًا علميًّا حديثًا، ففي قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} 2 يقول: "هذا الاكتشاف -يعني: الجاذبية- يفسر لنا معنى ما قرره الكتاب الإلهي من أن الأرض كفات للأحياء مذ يكونون على ظهرها، فإنها تجذبهم إليها وتضمهم إلى صدرها، كما تفعل الأم الحنون، فلا تدعهم يتفلتون، وهم بذلك لا يشعرون"3.
وفي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} 4 يقول: "والسماوات السبع هي طرائق السيارات ومداراتها، ولا ريب أن هذه المدارات طبقات، طبقة أدنى من طبقة، وفلك فوق فلك؛ وإنما اقتصر الوحي من ذكر السماوات على سبع مع أن العلم أثبت أنها أكثر من ذلك؛ لأنه تعالى إنما يخاطب القوم وقت البعثة بما عرفوا من أمر الأفلاك وكواكبها "!! " وليس القصد من ذكرها تقرير حقائق في علم الهيئة، وسكوت الوحي عن ذكر ما زاد على سبع السماوات لا ينفي وجود الزيادة "!! " وأما فلكا "أورانوس" و"نبتون" فلم يكونا اكتشفا بعد في ذلك العهد، فلو أحال الله البشر في قرآنه على ما لم يمكنهم النظر فيه والإحاطة علمًا بأمره من النجوم الثوابت والفلكين المذكورين؛ لكانت إحالته عبثًا وتكليفه محالًا، وقد أَبَى الله سبحانه وتعالى لنا ذلك في منزل وحيه ومحكم شرعه تفضلًا منه ورحمة"5.
ولا شك أن تفسيره هذا خاطئ، ليس من ناحية زعمه أن القرآن الكريم
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص6.
2 سورة المرسلات: الآيتين 25، 26.
3 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص130.
4 سورة الملك: من الآية 3.
5 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص5.(2/852)
خاطب القوم بما عرفوا فحسب؛ وإنما لأنه جزم أن المراد بالسماوات هي تلك الكواكب السيارة؛ فذهب يلتمس تعليلًا لوصف القرآن الكريم لها بأنها سبع.
روايته للإسرائيليات:
ومع أنه يحرض في تفسيره لجزء تبارك على الإيجاز، إلا أنه يورد فيه الإسرائيليات من غير موجب.
ففي حديثه عن نوح -عليه السلام- يقول: "وجاء في كتب الأوائل أن في زمن "أنوش بن شيث بن آدم" ابتدأت عبادة الأوثان، وجعل الناس يسمون المخلوقات آلهة؛ فكان أنوش يجمع أهل بيته وذويه للصلاة والتسبيح وعبادة الله وحده. وفي زمن إدريس -عليه السلام- وهو "أخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش - كثر النفاق، وانغمس الناس في الآثام؛ فأنزل الله عليه وحيًا في سفر هو صحف إدريس المشهورة، ولم يبقَ من ذلك السفر سوى فقرة يقولون: إنها وجدت في أطواء بعض الكتب المقدسة"1.
بل ويذكر الأستاذ المغربي من الإسرائيليات ما يخالف نص القرآن، ولا ينبه إلى ذلك مجرد تنبيه؛ وذلك قوله: "وذكر في الأسفار القديمة أن نوحًا ولد لسنة 182 من عمر أبيه "لامك" ولسنة 1056 لجده الأكبر آدم -عليه السلام- ومعنى نوح: الراحة والتعزية، وكان عمر نوح 500 سنة لما أخذ يلد أولاده سامًا وحامًا ويافث، وكان عمره 600 سنة لما حصل الطوفان"2.
وهذا الذي نقله يخالف نص قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} 3.
التحذير من البدع والمنكرات:
وفي سبيل الإصلاح الاجتماعي يُحذِّر الشيخ عبد القادر المغربي من البدع والمنكرات التي تنتشر في المجتمع إذا ما جاءت مناسبة لذلك، ففي قوله تعالى:
__________
1 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص55.
2 المرجع السابق: ص56.
3 سورة العنكبوت: الآية 14.(2/853)
{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} تحدث عن نشأة الوثنية ثم قال: "ومن تأمل ما قلناه في مناشئ ظهور الوثنية في البشر فَهِمَ السر في كون الدين الإسلامي يحرم إقامة الصور، ونصب التماثيل، وتشييد القبور وتجصيصها على رمم العظماء، وفي حديث علي رضي الله عنه: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي: "لا تدع صنمًا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سويته" 1، فإن الوثنيين كانوا يتخذون من مواثل القبور والأصنام ذكرى لرجالهم الصالحين، وليست ذكراهم لهم ذكرى عظة واعتبار؛ وإنما هي ذكرى استمداد أسرار واقتباس أنوار واستغراق واستحضار واسترزاق واستمطار والتماس منافع واستكفاء أضرار، فسَدَّ دين الإسلام الذريعة بتحريم هذه المواثل؛ خشية أن تسترهب ضعفاء العقول وتستهويهم، ومن مزالق الوثنية تقربهم وتدنيهم، فلله الإسلام ما أعدله فيما شرع وحكم! وما أوضح نهجه فما خط لنا من الهداية ورسم! "2.
ولولا خشية الإطالة لسقنا أمثلة أكثر من هذا، ولعل فيما ذكرنا السداد إن شاء الله تعالى.
__________
1 رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه؛ ولكن بلفظ: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولاقبرًا مشرفًا إلا سويته".
2 تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي ص62.(2/854)
رأيي في هذا المنهج:
ليس من السهل أن أنقد هنا منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة؛ ذلكم أن مثل هذا لا يكفيه عشرات الصفحات إن أردت الوفاء.
ولئن كان لا يسعنا هذا، فإنه لا يسعنا أن نضرب عنه صفحًا ونتركه هملًا؛ فليكن السداد والمقاربة، ولن أسلك في بيان رأيي لهذا منهج النقد المستوفي، فلن أذكر رأي السلف في التفسير العقلي، ولا رأي المعاصرين لرجال المدرسة فيهم -الأنصار والخصوم- ولن أذكر أثر هذه المدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، وإذًا لو فعلت لاحتاج الأمر إلى مجلدات، ومما لا ريب فيه -عندي- أن هذه المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة قد أحدثت في العصر الحديث من الأثر ما لم تحدثه أيُّ مدرسة أخرى نعرض لها، حتى مدرسة التفسير العلمي التجريبي.
ذلكم أن المدرسة الأخيرة تناولت جانبًا واحدًا من جوانب التفسير؛ بل ومن جوانب الحياة عامة، أما المدرسة موضوع حديثنا هذا فقد توغلت أبحاثها ومازجت جسد الأمة الإسلامية؛ فلا تكاد تجد عضوًا فيه -كدت أقول: ولا خلية- إلا وقد عرضت له، وفيه منها أثر.
عرضت فيما عرضت لعقيدة الألوهية والنبوة والوحي والمعجزات والبعث وأمارات الساعة والقضاء والقدر وأصل الإنسان والملائكة والجن.
وعرضت للقرآن الكريم في تفسيره ومقاصده وشموله وترجمته وقصصه وإعجازه وجدله وناسخه ومنسوخه والتفسير العلمي والإسرائيليات والتفسير بالمأثور وبالعقل.(2/855)
وعرضت للفقه وأصوله، وحذرت من التقليد، وأنكرت على المقلدين، واجتهدت في كثير من القضايا الفقهية، وجاءت بما هو جديد.
وتناولت قضية المرأة، وهي الوتر الحساس في هذا العصر من جوانب شتى؛ في مكانتها ومنزلتها في المجتمع، وعملها، وتعدد
الزوجات، والطلاق، وتعلمها، وسائر ما يتعلق بها.
وتناولت وباشرت السياسة والحكومة الإسلامية، والعَلاقة مع الاستعمار في سائر البلاد الإسلامية، وأمورًا شتى يطول تَعْدَادها.
لا شك أن حركة هذا بعض مجالها سيكون لأثرها رُقعة واسعة في المجتمع الإسلامي، وهكذا كان الأمر؛ ذلكم أن تلاميذ وأتباع هذه المدرسة بما مكن لهم في المجتمع والدولة من مراتب عليا، وما كان لهم من نشاط كبير، والسمعة التي اكتسبوها؛ فقد تهيأت لهم الفرصة -بل الفرص- لبث ما يشاءون في المجتمع، ولا يعني هذا أن البيئة التي استقروا فيها كانت خالية من المعارضة؛ لكنها لم تكن من القدرة؛ بحيث يكون لها من أثر كبير تُجاهها.
وعلى كل حال، وكما هي سنن المجتمع ما أن تنجح أو تتجه الأنظار إلى مبدأ من المبادئ أو حركة من الحركات حتى تصبح هدفًا مستهدفًا من طواف شتى وملل ونحل بعضها صادق وبعضها محتال.
وهكذا كان الأمر في هذه المدرسة، سلكت منهجها طائفة من الناس مؤمنين مؤيدين مقتنعين، واستغلت طائفة أخرى هذا القبول؛ فبثوا باسمها -وألصقوا أنفسهم بها إلصاقًا- مبادئ منحرفة وآراء زائغة لا لشيء إلا ليكسبوا التأييد ويحظوا بالقبول.
وقامت طائفة أخرى تشيد بمبادئ المدرسة ورجالها لا لشيء إلا لمنصب أو كسب جاه أو مكانة.
ورفضت طوائف أخرى هذه المدرسة، وهم ملل شتى لا يقلون عن النور الآخر أصنافًا.
رفضتهم طائفة غيرة على الإسلام حقًّا، ورأوا أن لهم آراء خاطئة ومفاهيم(2/856)
قاصرة، فأرادوا أن يُحذِّروا المسلمين من هذه الأخطاء، وأن يعرف الناس مكانة هؤلاء وينزلونهم منزلتهم.
ورفضتهم طائفة لأنهم رأوا فيهم أعلامًا مسلمين، يسعون لنشر مبادئ الإسلام؛ فغاظهم هذا؛ فذهبوا يشككون بهم، ويذكرون مع الحقيقة ألف كذبة.
ورفضتهم طائفة عجزت عن الوصول إلى درجتهم، فرأت أن أقصر سبيل هو النيل منهم.
والحق الذي لا مراء فيه أن هذه المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة لها من المحاسن كثير، ولها من المساوئ كثير، فضلًا عن العلاقات الغامضة والحوادث المبهمة والأسرار والألغاز التي تحيط ببعض رجال هذه المدرسة، ولا زالت ولن تزال موضع أخذ وردٍّ بين الأنصار والخصوم والمعتدلين.
وعلينا إن أردنا الخير والصلاح وما فيه الفلاح أن نأخذ من حسنات هذا المنهج:
1- الأسلوب الذي سلكوه في بث أفكارهم؛ بالحديث المباشر في المساجد والمجتمعات والمنتديات والمحاضرات، وفي الصحافة، وفي المؤلفات.
2- الأسلوب الذي نهجوه في صياغة الحديث، فليس بالحديث المتكلَّف الذي يرقى عن مدارك العامة، ولا الأسلوب الذي يمجه ويأنفه الخاصة.
3- توجيه الاهتمام للقضايا التي تهم المجتمع، وتجلب انتباه سائر الفئات والأجناس وتشد انتباههم، ثم الولوج من هذا لبث مبادئ الإسلام الصحيحة.
4- الاتصال والتعرف على مختلف الطبقات من الملوك والوزراء والأمراء والعلماء والموظفين والفلاحين، والاتصال بكل الفئات، وتوجيه كل منها حسب فلكها ومدارها إلى الوجهة الإسلامية الصحيحة.
5- للمدرسة جهود لا تُنكر في الإصلاح الاجتماعي في شتى نواحيه، ولها أخطاء وانحرفات، ولنأخذ ما هو مقبول، ولنوسع الحديث فيه، ونُحذِّر من سواه ونبينه للناس.(2/857)
6- تفسير القرآن بالقرآن، والإعراض عن الخوض في المبهمات، والتحذير من الإسرائيليات، والقول بالشمول في القرآن الكريم، وأنه المصدر الأول للتشريع، كلها أسس سليمة في التفسير، فلنقوِّم هذه الأسس ولنلتزمها، ولنحذر من الوقوع في مخالفتها كما وقع بعض رجال المدرسة أنفسهم وهم يدعون إليها، ولا شك أن هذه خطوة جيدة للوصول إلى الأفضل.
7- بسط السيرة النبوية والأخلاق المحمدية بأسلوب ميسر وسيلة ناجحة لنشر المبادئ الإسلامية بين المسلمين بمختلف طبقاتهم.
ليست هذه فحسب حسنات هذا المنهج الذي سلكه رجال المدرسة العقلية الاجتماعية؛ وإنما هي مجرد الإشارة. وفي مقابلها جوانب أخرى أحسبها أخطاء يجب تفاديها، والتحذير منها، وعدم الوقوع في براثنها، فإني أعتقدها مهلكة؛ ومنها:
1- ما يحيط بعض رجال هذه المدرسة من غموض وشبهات، وقد اشترط سلفُنا الصالح فيمن يفسر القرآن الكريم بأن يكون معروفًا بالصلاح والاستقامة وحسن السيرة والسلوك، وألا يكون موضع تهمة.
2- أن بعض رجال هذه المدرسة يفتقدون شروطًا هامة في المفسِّر؛ فبعضهم يجهل السنة، ولا يعرف من الأحاديث إلا القليل؛ بل وأحيانًا يرد من الأحاديث ما هو متفق على صحته لا لشيء من أصول معرفة الحديث ودرجته؛ وإنما لمخالفته لفَهْمِه الخاطئ، وبعضهم لا يعرف من اللغة ما يمكنه من تقرير المعنى الصحيح للآية؛ بل ينكر بعضهم اشتراط معرفة اللغة على المفسِّر.
3- أن بعض رجال المدرسة لم يلتزم الأصول التي يدعو إليها في التفسير؛ فيطنب فيما أُبهم في القرآن، ويروي بل ويكثر من رواية الإسرائيليات، ويورد من التفسير العلمي ما لم تثبت حقائقه.
4- من أخطاء رجال المدرسة -أو غالبهم- عدم اعتدادهم بالتفسير بالمأثور وإنزاله منزلة بعد القرآن الكريم، وهو -ولا شك- خطأ لا يُغتفر، تولد منه انحرافات جِسَامٌ.(2/858)
5- أما التزامهم لما سموه "الحكم العقلي"، فقد أوقعهم في شراك انحرافات كثيرة في الوحي، ومعجزات الأنبياء -عليهم السلام- وغير ذلك كثير.
6- أنهم فسروا كثيرًا من الآيات تفسيرًا تقربوا به إلى رُوح العصر على حساب الفَهْم الصحيح لمدلول الآية؛ كالقول بأصل الإنسان والملائكة والجن، والولادة من غير أب، والحجاة السجيل.
7- أوَّلوا القصص في القرآن -أو بعضهم- تأويلات باطلة، تشبث بها بعضهم، وصارت سلمًا سهلًا له لإنكار الصدق في قصص القرآن الكريم، وقالوا في المرأة أقوالًا كانت مرقاة لدعاة تحريرها المزعوم، وقالوا في تعدد الزوجات أقوالًا كانت مستند مَن دعا إلى منعه قانونًا.
وبعد:
فلا شك -كما أسلفت- أن لهذه المدرسة -بل لهذا المنهج- مساوئه، وله حسناته، منها ما ذكرناه ومنها ما لا يخفى.
وعلينا أن نبين للناس ما لها وما عليها، فما يزال في الناس طائفة -ومنهم علماء!! - إذا ناقشته في قضية أو أمر أجابك بأن هذا قد قاله فلان من رجال المدرسة، يقول هذا بثقة وقوة وكأنه أسنده إلى نبي معصوم، وهو يحسب بهذا أنه قد أقام الحجة عليك، وإذا لم تنقطع في الجدل بعد هذا الاستدلال نظر إليك شَزْرًا، وكأنك قد أتيت بأمر تكاد الجبال أن تكون له هدًّا.
وهذا مما يزيد المصلحين عبئًا إلى عبئهم، فلينزعوا هذا المفهوم الضال أولًا، ثم ليبثوا النبت الصالح ثانيًا.
وفَّق الله العاملين المصلحين، الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
انتهى الجزء الثاني ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثالث وأوله الباب الرابع الاتجاه الأدبي في التفسير(2/859)
المجلد الثالث
الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير
تمهيد
...
الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير
تمهيد:
لا أخفي أبدًا أني قد كنت ممن التبست عليهم معالم هذا الاتجاه في التفسير واختلطت عندهم خطوطه وحدوده.
وحتى بعد أن قرأت فيه كثيرا من الكتب، بل زادته بعض هذه المؤلفات لبسا إلى لبسه وغموضًا إلى غموضه. وليس أدل على ذلك من أن بعض المؤلفين ينكرون كل تأليف قديم فيه ويزعمون اتجاهًا جديدًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؟! وزعم آخرون أنه قديم قدم التفسير، زد على هذا اختلافهم في مدلوله وتعريفه و ... و ...
وما زالت أقرأ وأتأمل حتى ظهر لي ما أحسبه الحقيقة وقد ظهرت لغيري من قبل. وحين تظهر الحقيقة فإنها توجب على صاحبها إظهارها وإلا كانت حقيقة مكتومة يبوء صاحبها بإثم كتمانها.
كنت أعتقد أن الاتجاه الأدبي في التفسير يشمل مناهج ثلاثة:
أولا: النهج البياني.
ثانيهما: المنهج الموضوعي.
ثالثها: منهج التذوق الأدبي.
كنت أحسبه كذلك فإذا به غير ما ظننت، وقع الخلط بين أولها وثانيها ما حدود المنهج البياني وما حدود المنهج الموضوعي وهل بينهما من صلة أو هما اسمان لمسمى واحد؟!(3/861)
وإذا بالحقيقة غير ذلك كله، فليست الموضوعية في التفسير منهجا؟! حتى وإن وصفها كثيرون بذلك؛ إذ هي ليست إلا أسلوبا من أساليب التفسير ووسيلة من وسائله ومركبا من مراكبه.
وأساليبه محدودة ومعلومة قسمها العلماء إلى:
1- التفسير التحليلي.
2- التفسير الإجمالي.
3- التفسير المقارن.
4- التفسير الموضوعي.
أما التفسير التحليلي فهو أن يلتزم المفسر تسلسل النظم القرآني والسير معه سورةً سورةً وآيةً آيةً. وهو النمط الذي سلكه سائر المفسرين القدامى إلا القليل النادر.
وأما التفسير الإجمالي فهو أن يلتزم المفسر تسلسل النظم القرآني أيضا سورةً سورةً، إلا أنه يقسم السورة إلى مجموعات من الآيات يتناول كل مجموعة بتفسير معانيها إجمالا، مبرزا مقاصدها موضحا معانيا مظهرا مراميها، ويجعل بعض "ألفاظ" الآيات رابطا بين النص وبين تفسيره، فيورد بين الفينة والأخرى لفظا من ألفاظ النص القرآني لإشعار القارئ أو السامع بأنه لم يبعد في تفسيره عن سياق النص القرآني ولم يجانب ألفاظه وعباراته ومشعرًا بما انتهى إليه في تفسيره من النص.
وأما التفسير المقارن فهو أن يعمد المفسر إلى جملة من الآيات في موضع واحد في سورة واحدة يورد أقوال المفسرين السابقين لا ويوازن بينهما ويقارن، وينقد الضعيف ويؤيد الصحيح.
وأما التفسير الموضوعي فهو أن يلتزم المفسر موضوعا قرآنيا واحدا يجمع الآيات الواردة فيه؛ ليتناولها بالتفسير مجتمعة ليصل بعد ذلك -حسب جهده- إلى حكم القرآن النهائي في موضوعه الذي يتناوله.(3/862)
وإذا كانت هذه هي أساليب التفسير في القرآن الكريم وليست مناهجه، بدليل أنه يصح أن يتناول بكل أسلوب منها كل مناهج التفسير فليس الأسلوب إلا مطية، وليس المنهج إلا طريقا للهدف.
فيصح أن يسلك بالتفسير التحليلي منهج أهل السنة والجماعة ويصح أن يسلك به منهج الشيعة، بل يصح أن يسلك به الاتجاه العلمي بمناهجه والعقلي وحتى الإلحادي. وكل هذه الاتجاهات موجودة في تفاسير العلماء السابقين، هي من هذا الأسلوب في التفسير وكذا التفسير الإجمالي والمقارن.
ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه العقدي فيكتب عن "آيات الإيمان بالله" وعن "آيات الإيمان بالآخرة"، وعن "آيات الحجة على المشركين بالله"1، وعن "قضايا العقيدة في ضوء سورة ق"2، وعن "سورة الواقعة ومنهجها في العقائد"3، وعن "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام"4، وعن "صراع المذهب والعقيدة في القرآن"5، وعن "المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله، الرب، العبادة، الدين"6، وعن "مع الإيمان في رحاب القرآن"7، وعن "الأنبياء في القرآن"8، وعن "النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم"9، وعن "رسول الله في القرآن الكريم"10، وعن "نبوة محمد
__________
1 وكلها مؤلفات للأساذ عبد المنعم أحمد تعيلب.
2 للأستاذ كمال محمد عيسى.
3 للأستاذ محمود محمد غريب.
4 للأستاذ إبراهيم الكيلاني.
5 للأستاذ عبد الكريم غلاب.
6 للأستاذ أبي الأعلى المودودي.
7 للأساذ محمد محمد خليفة.
8 للاستاذ سعد صادق محمد.
9 للأستاذ أبي الحسن الندوي.
10 للأستاذ حسن الملطاوي.(3/863)
صلى الله عليه وسلم في القرآن"1، وعن "اليهود في القرآن الكريم"2، وعن "المسيح في القرآن"3، وعن "بنو إسرائيل في القرآن"4، وعن "رحلة الآخرة في القرآن الكريم"5، وعن "القرآن والشيطان"6، وعن "أفعال العباد في القرآن الكريم"7.
وكل هذا تفسير موضوعي، وكله من المنهج العقدي في التفسير.
ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه العلمي بمنهجه الفقهي،
والعلمي التجريبي، أما الفقهي فكله لا أستثني منه شيئا من التفسير الموضوعي، ذلكم أن صاحبه يتجه إلى آيات الأحكام في القرآن الكريم، فيفردها بالحديث ويقتصر عليها بالتفسير والبيان وهذا أُسُّ التفسير الموضوعي. وقد يقتصر على موضوع واحد فقهي.
فيفسر الآيات التي تناولته فيكتب مثلا عن "آيات الجهاد في القرآن الكريم"8، وعن "المال في القرآن"9، وعن "أحكام الحجاب في القرآن"10، وعن "تفسير آيات الربا"11 وكلها تفسير موضوعي من المنهج الفقهي.
ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه العلمي بمنهجه العلمي التجريبي فيتناول بالتفسير الآيات العلمية عامة أو طائفة معينة ذات موضوع واحد منها فيكتب في علم الفلك مثلا: "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة
__________
1 للأستاذ حسن ضياء الدين عتر.
2 للأستاذ محمد حزة دروزة.
3 للأستاذ عبد الكريم الخطيب.
4 للأستاذ السيد رزق الطويل.
5 للأستاذ عبد العزيز خطاب.
6 للأستاذ فارس محمد ثابت.
7 للأستاذ محمد المجذوب.
8 للأستاذ كامل سلامة الدقس.
9 للأستاذ محمود غريب.
10 للأستاذ أمين أحسن الإصلاحي.
11 للأستاذ سيد قطب.(3/864)
الجديدة"1، أو "التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن"2، أو "تفسير الآيات الكونية"3. وفي علم الطب مثلا: "القرآن والطب"4، أو "مع الطب في القرآن الكريم"5، وغير ذلك من العلوم التجريبية، وكل هذا تفسير موضوعي من المنهج العلمي التجريبي.
ويصح أن يسلك بالتفسير الموضوعي الاتجاه الاجتماعي فيكتب عن "دستور الأخلاق في القرآن"6، وعن "المجتمع الإسلامي كما تنظمه سورة النساء"7، وعن "الفلسفة التربوية في القرآن"8، وعن "التربية في كتاب الله"9، وعن "الأمة الإسلامية كما يريدها القرآن"10، وعن "القرآن والمبادئ الإنسانية"11، وعن "وصايا لقمان في القرآن الكريم"12، وعن "فقه الكلمة ومسئوليتها في القرآن والسنة"13، وعن "منزلة الأم في القرآن الكريم14، وعن "الأم في القرآن الكريم"15، وعن "المرأة من خلال الآيات القرآنية"16، وعن
__________
1 للأستاذ محمود شكري الألوسي.
2 للأستاذ حنفي أحمد.
3 للأستاذ عبد الله شحاتة.
4 للأستاذ محمد وصفي.
5 للأستاذين عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز.
6 للأستاذ محمد عبد الله دراز.
7 للأستاذ محمد محمد المدني.
8 للأستاذ محمد فاضل الجمالي.
9 للأستاذ محمود عبد الوهاب.
10 للأستاذ محمد الصادق عرجون.
11 للأستاذ محمد عبد الله السمان.
12 للأستاذ محمد محمود مصطفى عمير.
13 للأستاذ محمد عبد الرحمن عوض.
14 للأستاذ عبد المعز خطاب.
15 للأستاذ أحمد عبد الهادي.
16 للأستاذ عصمة الدين كركر.(3/865)
"القرآن والمرأة"1، وعن "القرآن والمجتمع"2، وعن "منهج القرآن في تطوير المجتمع"2، وكل هذا تفسير موضوعي من منهج الإصلاح الاجتماعي.
فهل يصح أن تسلك هذه المؤلفات كلها على مختلف مواضيعها واتجاهاتها في منهج واحد من مناهج التفسير؟! لا أحسب هذا يقبله ذو علم.
فلا شك إذًا أن التفسير الموضوعي ليس منهجا مستقلا عما سواه من المناهج، بل لا يصح أن يوصف بالمنهجية وشأنه كذلك. فهو ليس إلا وسيلة من وسائل التفسير يتناول بواسطته كل المناهج التفسيرية.
ولذا فلا يصح أن يعد منهجا وإنما هو أسلوب من أساليب التفسير، وحين ينحصر هذا الجزء من المناهج الثلاثة التي حسبتها تكون الاتجاه الأدبي في التفسير ويبقى المنهجان:
1- المنهج البياني.
2- منهج التذوق الأدبي.
يزول اللبس وتظهر المعالم وتنجلي الحقيقة. ولست أزعم لنفسي كشفها، ولست ممن يضع في إحدى أذنيه قطنا وفي الأخرى عجينا -كما يقولون- فلا يسمع رأيا ولا يقبل قولا وقد يكشف له حقائق كانت عن بصره مستورة أو يجلو غشاوة في بصره كانت تعميه، وما زلت أطلب الحقيقة فهي ضالتي وأحسبني والحمد لله قد وصلت إليها.
وعلى هذا فسأقتصر في حديثي عن هذا الاتجاه على المنهجين السابقين:
1- المنهج البياني.
2- منهج التذوق الأدبي.
__________
1 للأستاذ محمود شلتوت.
2 للأستاذ محمد البهي.(3/866)
الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير
مدخل
...
الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير
في أمة كانت تقيم للشعر أسواقا وللخطابة ندوات وتعد الشعر ديوانا وسجلًّا للمفاخر نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين.
كانت أمة تمسك بزمام البلاغة والفصاحة لا تجاري عرفت بحسن الأداء وجمال المنطق وسلاسة التعبير وما يزال الناس بعد أربعة عشر قرنا من الزمان يرددون قصائدهم ويحفظون خطبهم وهم يعدونها مثالا للبلاغة والفصاحة، فقد نزل عليهم القرآن الكريم وهم في ذروة من البلاغة وقمة من الفصاحة فكانوا ملوكها وأساطينها.
وأشد ما تكون المعجزة إعجازا إذا نزلت في قوم برعوا في موضوعها وقد كانت معجزة القرآن الكريم كذلك.
وعلى قدر قوة هذه المعجزة كانت الصدمة للقوم بعد عجزهم قوية، فمنهم من بادر من فوره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعنا مسلما، ومنهم من عاند واستكبر ولم يعِ ما يقول، قال وقالوا شعرا، وقال وقالوا سحرا، وقال وقالوا كهانة وهو وهم يعرفون أنه ليس بهذا ولا بذاك ولا بذلك.
وكما طوعت لهم أنفسهم أن يقولون بهذا يخدعون أنفسهم طوعت لهم أن يقولوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} 1 ولم يكونوا صادقين وإنما كانوا يلتمسون
__________
1 سورة النحل: الآية 103.(3/867)
لأنفسهم عذرا بعجزهم عن مجاراته ويدرؤون عن أنفسهم معرة الإفحام فأخطأوا السبيل وهم لا يعُونَ لهول الصدمة لم يجعلوا هذا البشر المزعوم منهم فهم يعرفون قصورهم عن درك هذا القول، فنسبوه إلى رجل هل تدرون من هو؟! إذًا ستسخرون!! لرجل كان حدادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من قومه. ولكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب "الأستاذية" الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين!
هكذا ضاقت بهم دائرة الجدر فما وسعهم إلا فضاء الهزل وهكذا مضوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقي من الجهل وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1، 2.
ومع هذا فإنا نسمع حينا في دياجير الظلام أصواتا لم تستطع أن تخرق طبقات الحق إلى ظلمة الباطل فلا تجد إلا الاعتراف والإذعان فتقول: "والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر" لكنها لا تلبث وقد طغى عليها العناد إلا أن تعود إلا ضلالها، فتزعم الباطل كره أخرى.
والاعترافات عديدة والعناد كثير لذا فلم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "يهدي من أحب" ومن لم يحب أيضا إلى الإيمان، وإنما كلف بأن يسمع المشركين كلام الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} 3 لم يكلف بما بعد الإسماع؛ لأن المانع بعده ليس "الإقناع"، فقد حملته الآيات وإنما هو العناد، والعناد لا تنفع معه الحجة والبرهان، وإذا لم يكن ثم عناد فقد حدثنا القرآن عن قوم:
__________
1 سورة النحل: الآية 103.
2 النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز ص64.
3 سورة التوبة: الآية 6.(3/868)
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا} 1.
وهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو يقع في أسر البيان القرآني في وقت كان الشرر يتطاير من عينيه حين علم بإسلام أخته فذهب ليفتك بها، فإذا به يقع في أسر بيان آيات من سورة طه لا يملك معها إلا الإذعان والإيمان، حيث لا عناد.
وهذا جبير بن مطعم رضي الله عنه يقع في أسر البيان القرآني حين سمع من في الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 2 حتى اعترف "كاد قلبي أن يطير" وآمن: "وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي"3؛ لأنه لم يكن ثم عناد.
ومما يؤكد تأصل العناد في قلوب المشركين ضربهم الحصار حول القرآن الكريم حتى لا يسمعه سماعًا القادمون في موسم الحج ومع هذا فقد فتح مصعب بن عمير رضي الله عنه يثرب بآيات من القرآن مكث فيها يقرأ القرآن على أهلها، فآمنوا ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إليهم حتى قيل: "فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة بالقرآن"4، وهل هناك من سلاح أقوى من سلاح البيان القرآن؟!.
ليس الجديد في القرآن لغته لكن من الجديد فيه أنه أمة وحده في البلاغة العربية: "وأنه في كل شأن يتناوله يختار له أشرف المواد وأمسَّها رحمًا بالمعنى المراد وأجمعها للشوارد وأقبلها للامتزاج ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به بحيث لا يجد المعنى في لفظة إلا مرآته الناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين. لا يوما أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور فلا المكان يريد بساكنه
__________
1 سورة مريم: الآية 58.
2 سورة الطور: الآية 35.
3 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص123.
4 بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان الخطابي ص65.(3/869)
بدلا. ولا الساكن يبغي عن منزله حولا وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان"1.
خلاصة الأمر أن هذا البيان القرآني يجمع أمورا جملتها النظم الفريد العجيب الحسن المخالف لأساليب العرب، والصور البيانية التي تؤلف أبدع تأليف بين أفصح الألفاظ الجزلة وأصح المعاني الحسنة"2.
هذه الأمور هي التي اتجهت إليها همة طائفة من المفسرين وأولوها اهتماما واتسعت الدراسات حولها وكثرت، ولئن كان للعصر الحديث منها نصيب كبير فإن جذورها تمتد إلى عصر نزول القرآن الكريم.
وقد حسب بعض المؤرخين للمنهج البياني في التفسير خلو صدر الإسلام منه وتجاوزه إلى ما بعده حين ظهرت المصطلحات البلاغية في صدر العصر العباسي هم يحسبون أن معرفة البيان القرآني فرع عن معرفة "المصطلحات البلاغية" وفاتهم أن قوم الفطرة قد درسوا القرآن دراسة من يعرف مناحي البيان وإن فاتهم معرفة مصطلحاته التي ظهرت من بعدهم فهم يعرفون مناحي الإيجاز والإطناب ومواضع الحقيقة والمجاز وقد كفانا الجاحظ مؤنة الرد على من أنكر ذلك فقال: "فإذا زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل ولا بينهم في ذلك تفاوت فلم ذكروا العي والبكئ والحصر والمفحم، والخطل، المسهب والمتشدق والمتفقه والهماز والثرثار والمكثار والمهماز؟ ولم ذكروا الهجر والهذر والهذيان والتخليط؟ وقالوا: رجل تلفاعة وتلهاعة وفلان يتلهيع في خطبته. وقالوا: فلان يخطئ في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء"3.
ولا شك أن هذه الأوصاف والمسميات التي ذكرها الجاحظ ترسم الجو
__________
1 النبأ العظيم: الدكتور محمد عبد الله دراز ص92.
2 بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان الخطابي ص65.
3 البيان والتبيين: الجاحظ ج1 ص90-91.(3/870)
البلاغي الذي تنفست فيه المعاني البيانية قبل أن ترسمها المصطلحات البلاغية المحدثة وفي ذلك ما يدفعنا إلى تلمس الأصول الأولى للتفسير البياني للقرآن الكريم لدى الأوائل من سامعيه1.
وإذا ما فعلنا ذلك فإنا سنجد في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم جملة من ذلك نذكر لها مثالا: بيانه عليه الصلاة والسلام للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، ببياض النهار وسواد الليل2 منتقلا بالمعنى من الحقيقة إلى المجاز.
وفي تفسير الصحابة رضوان الله عليهم نجد جذور وبذور التفسير البياني للقرآن الكريم وأشهر من عرف عنه هذا اللون من التفسير حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما. ولذا فقد جرى بعض المؤرخين للتفسير على اعتبار ابن عباس رضي الله عنهما صاحب الرأي الخاص بتفسير القرآن تفسيرًا لغويا يرجع فيه إلى شعر العرب لمعرفة ما قد يغمض من الألفاظ والتراكيب3.
وتاريخ التفسير يحدثنا مرارا عن لقاء نافع بن الأزرق بابن عباس -رضي الله عنهما- فيقول: "بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما"4، فسأله نافع عن أكثر من مئة وثمانٍ وثمانين مسألة أوردها السيوطي
__________
1 انظر خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ محمد رجب البيومي ص12.
2 صحيح البخاري: كتاب التفسير ج5 ص156.
3 خطوات التفسير البياني: محمد رجب البيومي ص14.
4 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج1 ص120.(3/871)
رحمه الله تعالى في الإتقان"1.
وليس ابن عباس رضي الله عنه بالوحيد2 بينهم رضي الله عنهم، فقد شاركه في هذا جملة من الصحابة رضي الله عنهم لكنه من أولهم وأشهرهم فذكرناه واقتصرنا عليه.
وقد ورث عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيره طائفة من تلاميذه بما فيه من جذور التفسير البياني، فجاء تفسير مجاهد متأثِّرًا بهذا اللون من التفسير وقد ذكر الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله تعالى جملة من هذا وذاك في كتابه "معجم غريب القرآن".
كل هذا كان قبل عصر التدوين. ولعل هذه الخاصة فيه هي التي جعلت كثيرا من المؤرخين يتجاوزون هذه المرحلة ويعرضون عنها مبتدئين تاريخهم للتفسير البياني ببداية عصر التدوين.
__________
1 انظر الإتقان: ص120 إلى 133 ج1.
2 هذا لا يعني صحة نسبة هذه الأسئلة من نافع لابن عباس رضي الله عنهم كلها؛ فلا شك أنه يصعب الاقتناع بأن مثل نافع يسأل مثل هذه الأسئلة فلو جاز له أن يسأل مثلاً عن "رئيا" "تتبيب" "حميم آن" وغيرها؛ فإنه لا يصح أن يسأل وهو من هو في معرفة اللغة عن "عذاب أليم" "أطعموا البائس" "اضربوا كل بنان" وغيرها، فإن هذا ونحوه لا يعوص فهمه على مثل نافع، زد على هذا أن الرواية تحكي استشهاد ابن عباس بشعر ابن أبي ربيعة، والحارث والمخزومي وغيرهما ممن جاء بعد انتشار ألفاظ القرآن فلا يعقل أن يقتنع نافع بشعرهم ونحو هذا استدلاله بشعر حسان رضي الله عنه، وأمية بن أبي الصلت، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وهم لا شك درسوا القرآن وتأثروا بأسلوبه وعباراته فاقتبسوا منه في أشعارهم فلا يستدل بنحو ذلك، وإنما الحجة في نحو هذا لشعراء العربية قبل انتشار آيات القرآن وتداولها بين الناس لكن هذا كله احتياط لا يمنعنا من التسليم بجوهر المسألة أعني رجوع ابن عباس إلى الشعر العربي في التفسير ولا يمنع أن يكون نافع سأل عن بعض هذه الأسئلة وزاد عليها من بعده الرواة ما زادوا ويبقى ما بقي وهو كثير حجة على ما أردنا إثباته من ثبوت جذور التفسير البياني لدى ابن عباس رضي الله عنهما، وقد اقتبست هذا الاحتياط العلمي من الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه خطوات التفسير البياني، ص18-19.(3/872)
وأول ما يصادفنا في هذا العصر -عصر التدوين- كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثنى رحمه الله تعالى المتوفى سنة 210، وينبغي أن أذكر هنا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى عن المراد بالمجاز هنا حيث قال: "أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه ولكن لم يُعنَ بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية"1، وذلك أنه حين يتعرض للنصوص القرآنية يشير إلى ما تدل عليه من حقيقة أو مثل أو تشبيه أو كناية وما يتضمن من ذكر أو حذف أو تقديم أو تأخير فوضع بذلك اللبنة الأولى في صرح الدراسات البلاغية للقرآن الكريم، وقد يكون في ذلك بعض التجوز في التحديد ولكنه منهج مبدئي وله بذلك موضعه من التقدير2.
وجاء من بعده سيل من المؤلفين في هذا المضمار فألف الفراء كتابه "معاني القرآن" ومع أن الفراء هذا يقول: "لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في كتاب المجاز"3 فإن كتابه المعاني جاء على نفس طريقة أبي عبيدة وإن غلب النحو على نهجه ودراسة الكتابين توحي باتحاد المنحى لدى الرجلين في البدء بتفسير الآيات حسب ترتيبها في المصحف واتَّبعه في إيراد المسائل البيانية من كناية وتشبيه ومثل واستعارة ومجاز4، واتبعه كظله في تذييل تفسيره بذكر الحديث والأمثلة الشعرية والنثرية لبيان المعنى وتوضيحه ولا يفوته أحيانا أن يورد بعض المأثور عن الصحابة والتابعين5.
وجاء من بعدهم الجاحظ "ت225" فألف كتابه "نظم القرآن" وهو كتاب مفقود لكن كتب الجاحظ نفسه والدارسين من بعده لا تخلو من الإشارة إليه وبيان غرضه.
__________
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم ج7 ص88؛ وانظر ج12 ص277.
2 خطوات النهج البياني: د/ محمد رجب البيومي، ص46.
3 معجم الأدباء: ياقوت الحموي ج19 ص159.
4 خطوات التفسير البياني: د/ محمد رجب البيومي، ص59.
5 إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق: د. حفني شرف، ص20.(3/873)
وابن قتيبة "276" ألف كتابه تأويل مشكل القرآن رد فيه على الطاعنين في بلاغته، والجاحظ خطيب المعتزلة وابن قتيبة خطيب أهل السنة كما يقولون1.
ودخل القرن الرابع الهجري الذي اختار أصحابه لهذا اللون من التفسير عنوان "إعجاز القرآن"
2 فألف فيه من أهله أبو الحسن علي بن عيسى الرماني "ت386" كتابه "النكت في إعجاز القرآن" وألف أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي "ت388": "بيان إعجاز القرآن".
وفي هذا القرن أيضا ألف قاضي المعتزلة أبو الحسن عبد الجبار الهمداني "ت315" كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل" خص إعجاز القرآن بجزء منه مستقل.
ومن أهل هذا القرن أيضا أبو بكر الباقلاني "403" وقد ألف كتاب "إعجاز القرآن".
وجاء القرن الخامس وأظهر ما فيه وأشهر كتاب عبد القاهر الجرجاني "ت471": "دلائل الإعجاز" ورسالته التي سماها "الرسالة الشافية في إعجاز القرآن الكريم".
وجاء القرن السادس وما أدراك ما القرن السادس؛ ألف فيه أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري "ت538" كتابه "تفسير الكشاف" وحسبك به في هذا اللون من التفسير.
وفي أواخر هذا القرن ألف فخر الدين الرازي "ت606" رسالته "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز".
وفي القرن السابع وضع أبو الأصبع المصري "ت654" كتابه "بديع القرآن" وكتابه "الخواطر السوانح في أسرار الفواتح".
__________
1 خطوات التفسير البياني: د/ محمد رجب البيومي، ص92.
2 الإعجاز البياني للقرآن: د/ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"، ص18.(3/874)
وفي القرن الثامن وضع الإمام يحيى بن حمزة العلوي "ت749" كتابه "الطراز" أملاه على أصحابه بعد أن قرأوا تفسير الكشاف فطلبوا منه أن يملي عليهم في إعجاز القرآن كتابًا، فأملاه عليهم.
وفي القرن التاسع ألف برهان الدين بن عمر البقاعي "ت885" كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور".
وفي أواخر هذا القرن وأوائل القرن العاشر جاء الإمام جلال الدين السيوطي "ت911" صاحب المؤلفات والمصنفات في هذا الموضوع وغيره ومنها كتابه "تناسق الدرر في تناسب السور" وغيره كثير.
ولا أعرف كتابا أو تفسيرا من هذا اللون في القرنين الحادي عشر والثاني عشر أما القرن الثالث عشر فقد ألف فيه شهاب الدين السيد محمود الألوسي "ت1217" تفسيره "روح المعاني" حتى عده بعض المعاصرين "امتداد لتفسير الكشاف للزمخشري في الاهتمام بالمسائل البلاغية والنحوية"1.
هذه إشارة سريعة لم أقصد بها استيفاءً ولا شمولًا ولا استقصاءً وإنما قصدت الإشارة إلى وجود الدراسات البيانية للقرآن الكريم عند الأقدمين وتسلسلها عبر القرون واتصالها بعضها ببعض من عصر نزول القرآن الكريم إلى القرن الرابع عشر الهجري.
ولم أضرب الأمثلة؛ إذ أن ضرب المثال في مثل هذا المقام يوجب استيفاء جوانبه الفكرية ولو فعلت هذا وذاك لكان في كتاب ضخم وقد كفاني مؤونة ذلك أستاذان فاضلان تتبعا خطوات التفسير البياني حتى العصر الحديث هما الدكتور محمد رجب البيومي في خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم، والدكتور حفني محمد شرف في كتابه "إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق".
ولعلِّي بعد هذا أجد مبررا للولوج إلى ميدان القرن الرابع عشر الهجري حيث أسمع جلبة، لعلي آتيكم منها بخبر.
__________
1 إعجاز القرآن البياني: د/ حفني محمد شرف، ص303.(3/875)
تطور التفسير البياني:
أشرقت شمس القرن الرابع عشر الهجري وطوقت بإشعتها الذهبية منارات الأزهر الشريف وفي ظلها وتحت فيئها يجلس عالم يلبس عمامة الأزهر وجلبابه وحوله عدد من تلاميذه جثيًّا على الركب يطلبون العلم والمعرفة.
ذلكم الشيخ محمد عبده يقرر لتلاميذه في بداية درسه القرآن الكريم الأمور التي يجب أن يلتزمها المفسر، فتسارق النظر إلى أوراق تلميذه السيد رشيد رضا تستدرك ما فاتك من الدرس فتقرأ فيها:
"للتفسير مراتب: أدناها: أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير وهذه هي التي قلنا: إنها متيسرة لكل أحد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} 1.
وأما المرتبة العليا: فهي لا تتم إلا بأمور:
"أحدها": فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن -بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتفٍ بقول فلان وفهم فلان، فإن كثيرا من الألفاظ كانت تسعمل في زمن التنزيل لمعانٍ ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد إلى أن قال: يجب على من يريد الفهم الصحيح أن يتتبع الاصطلاحات التي حدثت في الملة، ليفرق بينها وبين ما ورد في الكتاب فكثيرا ما يفسر المفسرون كلمات القرآن بالاصطلاحات التي حدثت في الملة بعد القرون الثلاثة الأولى، فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه، وينظر فيه، فربما استعمل بمعانٍ مختلفة كلفظ الهداية. ويحقق كيف يتفق معناه مع جملة معنى الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه ببعض، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
__________
1 سورة القمر: الآية 17.(3/876)
ثانيها: الأساليب فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة. وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه؛ نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال والتمام، ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذا إلى الإعراب وعلم الأساليب "المعاني والبياني"، ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب.
ثالثها: علم أحوال البشر.
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن. فجيب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي: أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم؛ لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه؟
خامسها: العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشئون دنيويها وأخرويها"1.
ونجد أيضا تلميذه السيد رشيد رضا ينقل عن أستاذه في موضع آخر قوله: "لا يتَّعِظُ الإنسان بالقرآن فتطمئن نفسه بوعده وتخشع لوعيده إلا إذا عرف معانيه وذاق حلاوة أساليبه. ولا يأتي هذا إلا بمزاولة الكلام العربي البليغ مع النظر في بعض النحو، كنحو ابن هشام وبعض فنون البلاغة كبلاغة عبد القاهر وبعد ذلك يكون له ذوق في فهم اللغة يؤهله لفهم القرآن"2.
وبهذا يتضح سبب تفضيل الأستاذ الإمام محمد عبده تفسير الكشاف حين سأله تلميذه رشيد رضا: "أي التفاسير أنفع لطلبة العلم؟ قال: الكشاف. قلت:
__________
1 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص21-24 باختصار.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص182.(3/877)
تحديد المعاني ونكت البلاغة بالعبارة الدقيقة المختصرة"1.
هذه بعض النصوص الكثيرة التي جاءت في تفسير المنار أحسبها نواة التفسير البياني للقرآن الكريم والأستاذ الإمام وإن خط لنا أهم قواعد هذا النهج إلا أنه كما يقول الدكتور كامل سعفان. لم يلتزمه فقد غلبه طابع الإصلاح الاجتماعي2.
وحين ننفي الالتزام فإنا لا ننكر أنها وضعت بذور هذا الاتجاه في العصر الحديث ولكن جهودهم -كما يقول الدكتور عفت الشرقاوي لم تَعْدُ اللمحات العابرة التي تكشف عن نكتة بلاغية خفية، أو لمحة بيانية ذكية، فهي لم تكن تؤلف في جملتها منهجا أدبيا واضحا يمكن أن ينسب إليها"3.
وحتى لا أغمط الرجل حقه وحتى لا أنكر جهده أذكر أمثلة للتفسير البياني عنده تظهر جليا بذور هذ المنهج.
خذ مثلا تفسيره لقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 4 تراه يقول: "كثر خلاف المفسرين والرواة في معنى كل من الفجر وليال عشر إلى آخر ما أقسم به.
وقد يفسر الواحد منهم الفجر بمعنى، ثم يأتي في الليالي العشر بما لا يلائمه وغالب ذلك يجري على لا ما عودنا الله في نسق كتابه الكريم. وقد جرت سنة الكتاب بأنه إذا أريد تعيين يوم أو وقت ذكره بعينه. كيوم القيامة في لا اقسم بيوم القيامة وكاليوم الموعود في سورة والسماء ذات البروج. وكَلَيْلَةِ القدر في سورتها فإذا أطلق الزمن ولم يقيد كان المراد ما يعمه معنى الاسم، كما سبق في
__________
1 تاريخ الأستاذ الإمام: محمد رشيد رضا ج1 ص390.
2 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان، ص43.
3 الفكر الديني في مواجهة العصر: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص302.
4 سورة الفجر: الآيتين 1، 2.(3/878)
قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1 فالفجر على هذا هو جنس ذلك الوقت المعروف الذي يظهر فيه بياض النهار في جلد الليل الأسود.
وينبعث الضياء لمطاردة الظلام، وهو وقت تنفُّس الصبح، وهو معهود في كل يوم فصح أن يعرف بالألف واللام، والمراد والله أعلم من ليالٍ عشر يتشابه حالها مع حال الفجر، وهي ما يكون ضوء القمر فيها مطاردًا لظلام الليل إلى أن تغلبه الظلمة، فكأنه وضع التناسب على شيء من التقابل، فضوء الصبح يهزم ظلمة الليل ثم يسطع النهار ولا يزال الضوء إلى الليل وضوء الأهلة في عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام ثم لا يزال الظلام يغالبه إلى أن يغلبه فيسدل على الكون حجبه"2.
ومثلًا آخر في تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 3 يقول: "ال" في العسر للاستغراق ولكنه استغراق المعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه. فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدو وقلة الوسائل إلى المطلوب ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف، فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة ولا يفسخ عزيمتها من تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب أن النفس تخرج منها ظافره إلى أن قال: "وتنكير اليسر؛ لأن الذي يأتي بعد العسر أي نوع من أنواعه لا يختص بيسر معين، والتعبير بالمعية لتوثيق الأمل بأنه لا بد منه كأنه معه"4.
ومثلا ثالثا لكنه لتلميذه محمد رشيد رضا في تفسير كلمة {وَمَا يَشْعُرُونَ} .
__________
1 سورة التكوير: الآيتين 17، 18.
2 تفسير جزء عم: الشيخ محمد عبده، ص76-77.
3 سورة الشرح: الآيتين 5-6.
4 تفسير جزء عم: الشيخ محمد عبده، ص114-116.(3/879)
من قوله تعالى في وصف المنافقين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 1 قال: "أقول: قال الراغب بعد الذكر: الشعر "بفتح الشين وسكون العين وفتحها" من مفرداته. وشعرت أصبت الشعر، ومنه استعير: شعرت كذا أي علمت علما هو في الدقة كإصابة الشعر، ومنه يسمى الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم: ليت شعري. وصار في التعارف اسما للموزون المقفى من الكلام. ا. هـ.
أقول ويناسب هذا الشعار "بالكسر" للكساء الباطن الذي يمس شعر الإنسان، والمعروف في كتب اللغة أن شعر به -كنصر وكرم- يشعر شعرا "بالكسر والفتح" وشعورا معناه علم به وفطن له وأدركه، والفطنة تتعلق بالأمور الدقيقة وأطلق بعض المفسرين أن الشعور إدراك المشاعر أي الحواس الخمس، والتحقيق أنه إدراك ما دق من حسي وعقلي، فلا تقول: شعرت بحلاوة العسل وبصوت الصاعقة وبألم كية النار، وإنما تقول: أشعر بحرارة ما في بدني، وبملوحة أو مرارة في هذا الماء، إذا كانت قليلة وبهينمة وراء الجدار، وما ورد في القرآن من هذا الحرف يدل على هذا المعنى، أي إدراك ما فيه دقة وخفاء. فمعنى نفي الشعور عن المنافقين في مخادعتهم الله تعالى أنهم يجرون في كذبهم وتلبيسهم وريائهم على ما ألفوا وتعودوا، فلا يحاسبون أنفسهم عليه ولا يراقبون الله فيه، وما كلهم يؤمنون بوجود الله وإحاطة علمه، ومن يؤمن بوجوده لم يترب "كذا" على خشيته ومراقبته، ولا يفكر فيما يرضيه وفيما يغضبه، فهو يعمل عم ل المخادع له وما يشعر بذلك وأما مخادعتهم للمؤمنين فظاهرة؛ لأنهم اتخذوهم أعداء وهم عاجزون عن إظهار عداوتهم، فأعمالهم التي يقصدون بها إرضاء المؤمنين كلها خداع ورياء"2.
تلكم أمثلة ثلاثة قلنا إنها مع أمثالها في تفسير محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا تعد -كما أسلفت القول- لمحات عابرة تكشف عن نكتة بلاغية
__________
1 سورة البقرة: الآية 9.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص151-152.(3/880)
خفية أو لمحة بيانية ذكية ولم تكن تؤلف في جملتها منهجا أدبيا متكاملا يمكن نسبته إليها وتميزا به.
ولئن كان لا يسعنا هنا أن نذكر الفوارق بين منهج الأستاذ الإمام والمنهج الأدبي الذي استوى على سوقه من بعده حتى نستوفي عناصر هذا الأخير فإنه لا يمنعنا أن نذكر فارقا واحدا به يتضح مدى البون بين الطرفين.
ذلكم أن الإمام نص في مقدمة تفسير المنار على الهدف الذي يرمي إليه من تفسيره فقال: "والتفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا، وحياتهم الآخرة فإن هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذا من المباحث تابع له أو وسيلة لتحصيله"1.
بينا يرى الأستاذ أمين الخولي أن "المقصد الأول للتفسير اليوم أدبي محض صرف، غير متأثر بأي اعتبار وراء ذلك وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه؛ هذه هي نظرتنا إلى التفسير اليوم وهذا غرضنا منه وعلى هذا الأساس نتقدم لبيان طريقة تناوله ومنهج درسه"2.
وشتان بين منهج يتناول القرآن كقطعة أدبية كقصيدة شاعر أو خطبة خطيب أو نثر كاتب وبين منهج يتناوله طالبا الهداية والرشد أولا وما سواها ثانيا، ولست بحاجة إلى مزيد بيان للبون بينهما ولعلي بعد هذا ألقي عن كاهلي عبء دمج المنهجين في منهج واحد، وأتحدث بعد هذا عن المنهج الأدبي المحض! الصرف.
__________
1 تفسير فاتحة الكتاب: الشيخ محمد عبده، ص5؛ وتفسير المنار: محمد رشيد رضا، ص17.
2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، ص35.(3/881)
قصة تأصيل هذا المنهج:
حين أذكر وأكرر أن المنهج البياني في التفسير خاص بالقرن الرابع عشر الهجري فإني لا أعني أبدا نفي الدراسات البيانية في القرون الماضية كيف وقد(3/881)
ذكرت سلسلة منها فيما سلف من هذه الورقات؟! وإنما أعني أن الدراسات السابقة لم تصل في مقصدها إلى ما وصلت إليه في القرن الرابع عشر الهجري.
كان هدف الدراسات السابقة هو الهدف الذي ذكرته في تفسير محمد عبده آنفا وأزيد على هذا ما لاحظه الدكتور حفني محمد شرف بعد أن درس "إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق" وانتهى به المطاف إلى ملاحظة هامة دونها في خاتمة رسالته حين قال: "والذي لاحظته أثناء هذا التطواف، وتلك المقابلات أن أكثر علماء الإعجاز درسوا البلاغة العربية وأرخوا لها وطوروا دراستها؛ لأنهم كانوا مؤمنين بأن دراسة البلاغة وسيلة لغاية أسمى، وهي إعجاز القرآن البياني، ويمكن التأكد من هذا بالرجوع إلى مقدمات مؤلفاتهم في البلاغة التي كثيرا ما يصرحون فيها بهذه الملاحظة التي أشرت إليها"1.
بمعنى آخر: إن الدراسات السابقة كانت وسيلة وليست غاية أما الدراسات هذه في الفترة التي نريد جلاءها فهي غاية تدرس النص القرآني "وقصدها الأول أدبي محض صرف غير متأثر بأي اعتبار وراء ذلك، وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه"2، ولذا فلا فرق بين أن يقوم بهذه الدراسة مسلم أو غير مسلم كما يقولون هم بأنفسهم.
إذًا فالدراسات الحديثة أصل الدراسة البيانية للقرآن الكريم واستميحكم هنا عذرا بتقديم الدكتورة عائشة عبد الرحمن تلميذة المؤصل -إن صحت التسمية- لهذا المنهج الأستاذ أمين الخولي أقدمها لتوضح لنا بداية هذا التأصيل وإن شئت فسمها قصة هذا التأصيل.
تقول بنت الشاطئ: "لكل لغة روائع من آدابها، تعتبرها النماذج العالية لذوقها الأصيل، والمثل الرفيعة لفنها القولي وقد غبرت الأجيال منا تجه إلى نصوص مختارة من شعر العربية ونثرها تضعها بين أيدي القراء أو تقدمها إلى التلاميذ والطلاب وشغلنا نحن أصحاب الدرس الأدبي، أو شغلت الجمهرة
__________
1 إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق: د/ حفني محمد شرف ص375.
2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص35.(3/882)
منا بالمعلقات والنقائض والمفضليات، ومشهور الخمريات والحماسيات والمراثي والمدائح والغزليات ومأثور الرسائل والأمالي والمقامات، شغلنا بهذا ومثله عن الاتجاه إلى القرآن الكريم الذي لا جدال في أنه كتاب العربية الأكبر ومعجزتها البيانية الخالدة، ومثلها العالي الذي يجب أن يتصل به كل ذي عروبة أراد أن يكسب ذوقها ويدرك حسها ومزاجها ويستشف أسرارها في التعبير والأداء، مسلمًا كان أو غير مسلم.
ونحن في الجامعة نترك هذا الكنز الغالي لدرس التفسير، وقلَّّ فينا من حاول أن ينقله إلى مجال الدراسة الأدبية الخالصة التي قصرناها على دواوين الشعر ونثر مشهوري الكتاب، وكان المنهج المتَّبع في درس التفسير -إلى نحو ربع قرن من الزمان-1 تقليديًّا أثريًّا، لا يتجاوز فهم النص القرآني على نحو ما كان يفعل المفسرون من قديم حتى جاء شيخنا الإمام "الأستاذ أمين الخولي"، فخرج به عن ذلك النمط التقليدي وتناوله نصًّا أدبيًّا على منهج أصله، وتلقاه عنه تلامذته وأنا منهم"2.
ولئن قرأنا ما كتبته التلميذة فمن الأولى أن نقرأ ما كتبه الأستاذ بنفسه ولئن كان في نصه طول ففيه استيفاء وشمول لبيان المراد. قال مبينا المقصد الحقيقي للتفسير عند الإمام محمد عبده ومعقِّبا عليه: فالمقصد الحقيقي عنده هو: الاهتداء بالقرآن وهو مقصد جليل ولا شك يحتاج المسلمون إلى تحقيقه. لكن ليس بدعا من الرأي أن ننظر في هذا المقصد لنقول: إنه ليس الغرض الأول من التفسير وليس أول ما يعنى به ويقصد إليه. بل إن قبل ذلك كله مقصدا أسبق وغرضا أبعد. تنشعب عنه الأغراض المختلفة، وتقوم عليه المقاصد المتعددة
ولا بد من الوفاء به قبل تحقيق أي مقصد آخر، سواء أكان ذلك المقصد الآخر، علميًّا أم عمليًّا، دينيًّا أم دنيويًّا، وذلك المقصد الأسبق والغرض الأبعد هو النظر في القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر وأثرها الأدبي الأعظم، فهو الكتاب الذي أخلد العربية وحمى كيانها وخلد معها
__________
1 كتبت بنت الشاطئ هذا في شعبان سنة 1381هـ.
2 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" ص13 ج1.(3/883)
فصار فخرها، وزينة تراثها، وتلك صفة للقرآن يعرفها العربي مهما يختلف به الدين أو يفترق به الهوى ما دام شاعرا بعربيته مدركًا أن العروبة أصله في الناس وجنسه بين الأجناس، وسواء بعد ذلك أكان العربي مسيحيًّا أو وثنيًّا أم كان طبيعيًّا دهريًّا، لا دينيًّا، أم كان المسلم المتحنف، فإنه سيعرف بعروبته منزلة هذا الكتاب في العربية، ومكانته في اللغة، دون أن يقوم ذلك على شيء من الإيمان بصفة دينية للكتاب أو تصديق خاص بعقيدة فيه وليس هذا شأن العرب فحسب، بل إن الشعوب التي ليست عربية الدم أصلا، ولكن وصلها التاريخ وسير الحياة بهذه العروبة فارتضت الإسلام دينا، أو خالطت العرب فساطت دماءها بدمائهم، ثم اتخذت العربية أصلا من أصول حياتها الأدبية حتى ربطتها العربية هذه الأواصر الوثقى، إلى أن صارت العربية عنصرا أساسيًّا وجانبا جوهريًّا من شخصيتها اللغوية الفنية، قد صار لكِتاب العربية الأعظم وقرآنها الأكرم مكانة بين ما تعنى به، من دراسة أدبية وآثار فنية قولية، فألزمها كل أولئك تناول هذا الكتاب بدراسة أدبية، تتفهم بها أصول ما ورثت من تلك العروبة إن كانت عربية النجار، أو كانت قد اتصلت بتلك العروبة اتصالا حيويًّا قويًّا دفع شخصيتها وسير وجودها ووجه حياتها فالعربي القح، أو من ربطته بالعربية تلك الروابط يقرأ هذا الكتاب الجليل ويدرسه درسا أدبيًّا كما تدرس الأمم المختلفة عيون آداب اللغات المختلفة، وتلك الدراسة الأدبية لأثر عظيم كهذا القرآن هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا وفاءا بحق هذا الكتاب ولو لم يقصدوا الاهتداء به أو الانتفاع بما حوى وشمل "!! " بل هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولا، ولو لم تنطوِ صدورهم على عقيدة ما فيه، أو انطوت على نقيض ما يردده المسلمون الذين يعدونه كتابهم المقدس، فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس سواء أنظر إليه الناظر على أنه كذلك في الدين أم لا.
وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى أي اعتبار ديني هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلا والعربية اختلاطا، مقصدا أول وغرضا أبعد يجب أن يسبق كل غرض ويتقدم كل مقصد ثم(3/884)
لكل ذي غرض أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبي أن يعمد إلى ذلك الكتاب، فيأخذ منه ما يشاء ويقتبس منه ما يريد ويرجع إليه فيما أحب من تشريع أو اعتقاد أو أخلاق أو إصلاح اجتماعي أو غير ذلك. وليس شيء من هذه الأغراض الثانية يتحقق على وجهه إلا حين يعتمد على تلك الدراسة الأدبية لكِتاب العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة مفهمة له، وهذه الدراسة هي ما نسميه اليوم تفسيرا؛ لأنه لا يمكن بيان غرض القرآن ولا فهم معناه إلا بها.
فجملة القول: أن التفسير فيما أفهمه هو الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج، الكاملة المناحي، المتسقة التوزيع، والمقصد الأول للتفسير اليوم أدبي محض صرف، غير متأثر بأي اعتبار، وراء ذلك.. وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه هذه هي نظرتنا إلى التفسير اليوم وهذا غرضنا منه"1.
وإنما نقلت هذا النص بطوله لما فيه من بيان نظرة الأستاذ أمين الخولي إلى التفسير ولما فيه من بيان غرضه، وكفى بهما من مطلب بسطه لنا صاحب المنهج ومؤصله.
وسأرجئ إبداء رأيي في نظرته إلى التفسير وغرضه منه إلى آخر هذا الفصل حيث سأبين رأيي الخاص في المنهج كله أجمعه هناك حتى لا يتفرق.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص33-35(3/885)
مراحله ومعالمه:
وحين نتحدث عن مراحله ومعالمه تلك، فإنا لا نقصد بها المراحل التي مر بها التفسير البياني عبر تاريخ التفسير فهذا قد سبقت الإشارة إليه. ولكني أقصد ذكر المراحل التي يمر بها المفسر الواحد في العصر الحديث لتطبيق المنهج البياني في التفسير كما بسطها صاحبه.
ولئن كان الأستاذ أمين الخولي لم يوردها مسلسلة مرتبة فإني بعد نظر تأمل قد حصرتها بأربع أو خمس مراحل هذا بيانها:(3/885)
المرحلة الأولى: التفسير الموضوعي
وهي المرحلة التي أشار إليها أمين على أنها النظر بين يدي الخطة حيث قال: "والقرآن كما هو المعروف لم يرتب على الموضوعات والمسائل فيفرد كل شيء منها بباب أو فصل، يجمع ما ورد فيه عن هذا الموضوع أو تلك المسألة فليس على ترتيب كتب العقائد مع ما فيه من أصول العقيدة وليس على ترتيب كتب التشريع مع ما فيه من أصول التشريع. ولا هو كذلك على نسق كتب الأخلاق أو التاريخ ولا القصص ولا غير ذلك، بل ليس على ترتيب بعض كتب الدين حين أفردت أحداث الحياة بأسفار عنونت كل سفر منها بحادث، أو حين جرت على تسلسل حياة فرد خصت كل حين منها بقسم. كما لم يرتب على شيء من تاريخ ظهور آياته إنما جرى القرآن على غير هذا كله. فعرض لكثير من الموضوعات ولم يجمع منها واحدا بعينه، فيلتقي أوله بآخره ويعثر به في مكان معين وإنما نثر ذلك كله نثرا وفرقه تفريقا؛ فالحكم التشريعي في أكثر من موضع والأصل الاعتقادي قد عرض له غير مرة والقصة قد وزعت مناظرها ومشاهدها في جملة أماكن، وهكذا تقرأ في السورة الواحدة فنونا من القول وتمر بألوان من الأغراض المختلفة تعرض لها سورة أخرى فيتكامل العرضان، وتتم الفكرة بتتبعها في مواطن متعددة وذلك لحكمة ومرمى"1.
ويؤكد الأستاذ أمين أن لهذا الواقع في موضوعات القرآن الكريم أثره في طريقة تناول القرآن بالتفسير وأن طريقة السلف في تفسيره مرتَّبًا لا تمكن من الفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمعانيه وأغراضه ولا أظن الأستاذ أمين الخولي إلا مخطئا في نظته تلك إلى تفسير السلف ذلك أنهم حين يتناولون بالتفسير حكما تشريعيًّا لا ينظرون إلى آياته التي حملته نظرة منفصلة عن الآيات الأخرى بل ولا عن ما هو خارج عن الآيات أعني السنة وغيرها فلا تعد نظرتهم تلك نظرة قاصرة وخذ القصة مثلا حين يتناولها السلفي يستكمل مناظرها ومشاهدها من نصوص آيات أخرى في مواضع متفرقة وكذا آيات العقائد لا ينظر إلى آحادها
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص35-36.(3/886)
نظرة مستقلة، عن سواها كل هذا يدل على كمال النظرة السلفية في تفسير الآية القرآنية وأن لا أثر لسلوكهم التفسير المرتب على الفهم الدقيق أو الإدراك الصحيح كما فهم الأستاذ أمين.
عودة إلى الأستاذ أمين الخولي لنجمل رأيه في المرحلة الأولى في التفسير البياني أن التفسير لا يكون إلا بأسلوب التفسير الموضوعي الذي يجمع الآيات ذات الموضوع الواحد من أماكنها المتفرقة وينظر إليها نظرة واحدة وبهذا يكون الفهم الصحيح: "فالناظر في سورة البقرة مثلا يجد من الحديث عن المؤمنين وحالهم ما أحسب أنه يفهم الفهم الصحيح إذا ما قورن بما في سورة "المؤمنون" من الجزء الثامن عشر ثم هو واجد في سورة البقرة عن المنافقين وحالهم ما لا يفهم وجهه إلا مع سورة "المنافقون" في الجزء الثامن والعشرين وقصة آدم في البقرة إنما تفسر مع ما ورد عنها في سورة الأعراف والحجر والكهف وغيرها"1.
هذه هي الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها المفسر تفسيرا بيانيا كما يراها الأستاذ أمين الخولي.
المرحلة الثانية: الترتيب الزمني للآيا ذات الموضوع الواحد:
وهي ذات صلة وعلاقة قوية بالمرحلة السابقة حتى وكأنها خطوة أو مرحلة واحدة.
تلكم المرحلة هي مراعاة الترتيب الزمني للآيات ذات الموضوع الواحد ويقصد بها أن المفسر بعد أن يجمع آيات موضوع بعينه يجب أن يخطو الخطوة الثانية فيرتب هذه الآية حسب ترتيب نزولها وأكد هذا الأستاذ أمين الخولي حين قال: "وترتيب القرآن لم يرع شيئا من تقدم الزمن وتأخره فمكيه يتخلل مدنيه ويحيط به ومدنيه يتخلل مكيه ويحيط به. وهكذا ترى من النظر في ترتيب القرآن على سوره -أي ترتيب كان في المصاحف المختلفة- ما لا يساير حاجات مفسره المتفهم لهن بل يقضي ما كان من أمر الترتيب: بالنظر الجديد والترتيب الخاص لآي الموضوع بحيث يكشف هذا الترتيب لنا عن تلك النواحي التي عرفت أن
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص36(3/887)
المفسر المتفهم مضطر إلى مراعاتها وتقديرها توصلا إلى الفهم الصحيح والمعنى الدقيق"1.
إذًا فهو يرى وجوب ترتيب آي الموضوع الواحد ترتيبا خاصا بحيث يكشف هذا الترتيب عن النواحي التي يحتاجها المفسر للوصول إلى الفهم الصحيح. ثم أجمل الأستاذ أمين القول في المرحلتين السابقتين بقوله:
"فجملة القول أن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع لم يلتزمها مطلقا، وقد ترك الترتيب الزمني لظهور الآيات لم يحتفظ به أبدا، وقد فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومقامات مختلفة ظهرت في ظروف مختلفة وذلك كله يقضي في وضوح: بأن يفسر القرآن موضوعا موضوعا وأن تجمع آيه الخاصة بالموضوع الواحد جمعا إحصائيا مستقصى.
ويعرف ترتيبها الزمني ومناسباتها وملابساتها الحافة بها ثم ينظر فيها بعد ذلك لتفسر وتفهم فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى وأوثق في تحديده"2.
بقي أن أقول: إن هذه الدعوة من الأستاذ أمين إلى الترتيب التاريخي لآيات الموضوع الواحد كانت دعوة مثالية بعيدة عن التطبيق الكامل بل إن الأستاذ أمين نفسه وتلاميذه من بعده لم يضع أحد منهم خطة لهذا الترتيب ولم يحل أحد منهم إلى ترتيب بعينه يراه الأفضل بالرغم من أنهم يعتبرون هذه الخطوة لا بد منها قبل القيام بالتفسير3.
المرحلة الثالثة: الدراسة
وتعتبر المرحلتان السابقتان تمهيدا وتوطئة للمرحلة الثالثة؛ إذ إن هذه الأخيرة هي جسد التفسير البياني وإن المرحلتين السابقتين هما القاعدة لهذا الجسد.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص36-37.
2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص37.
3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: دكتور محمد إبراهيم شريف ص503.(3/888)
تقسيم الأستاذ أمين الخولي:
ويقسم الأستاذ أمين الخولي هذه الدراسة إلى صنفين هما:
1- دراسة حول القرآن.
2- دراسة في القرآن.
أولا- دراسة ما حول القرآن:
فقسمها أيضا إلى قسمين؛ دراسة خاصة ودراسة عامة قال عن أولهما:
"والدراسة الخاصة هي ما لا بد لمعرفته، مما حول كتاب جليل كهذا الكتاب:
ظهر في نحو عشرين عامًا أو كذا وعشرين عامًا، ثم ظل مفرقا سنين حتى جمع في أدوار مختلفة وأحوال مختلفة وكان جمعه وكتابته عملا ساير الزمن طويلا، وناله من ذلك ما ناله. ثم هناك قراءته ومسايرة هذه القراءة للتطور اللغوي الذي تعرضت له اللغة العربية بفعل النهضة الجادة التي أثارتها الدعوة الإسلامية والدولة الإسلامية. فقد كانت هذه القراءات عملا ذا أثر واضح في حياة الكتاب وفهمه. وتلك الأبحاث من نزول، وجمع، وقراءة، وما إليها؛ هي التي عرفت اصطلاحيا منذ حوالي القرن السادس الهجري باسم علوم القرآن1 بعد ما تناولها المفسرون المختلفون قبل ذلك بالبحث المجمل، والبيان المتفاوت في الاستيفاء حسب عناية المفسر واهتمامه، ومثل تلك الأبحاث جد لازمة في نظر دارسي الآثار الأدبية ولابد منها لفهم النصوص المدروسة والاتصال بها اتصالا مجديا"2، إلى أن قال: "وهي دراسات ضرورية لتناول التفسير. حتى ما ينبغي مطلقا أن يتقدم لدرس التفسير من لم ينل حظه من تلك الدراسة القريبة الخاصة حول القرآن؛ ليستطيع فهمه فهما أدبيًّا صحيحًا مسترشدًا بتلك الملابسات الهامة في فهم القرآن"2.
__________
1 الصحيح أن هذا الاصطلاح عرف في وقت أبكر من هذا، فقد ألف محمد بن خلف بن المرزبان "ت309" كتابه "الحاوي في علوم القرآن" وألف محمد بن القاسم الأنباري "ت328" كتاب "عجائب علوم القرآن"؛ وألف محمد بن علي الأدفوي "ت388" كتاب "الاستغناء في علوم القرآن".
2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص38-39.(3/889)
وخلاصة الأمر أن الأستاذ أمين الخولي يشترط للتفسير الأدبي دراسة خاصة حول القرآن الكريم نحو دراسة تاريخه ونزوله وجمعه وترتيبه وناسخه ومنسوخه، وبعبارة أخرى يشترط على المفسر أن يكون عالما بأصول العلوم المتصلة بالقرآن والمعروفة بعلوم القرآن، ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن المفسرين السابقين أيضا لم يهملوا هذا الأمر وأولوه عنايتهم والأستاذ أمين نفسه يعترف بهذا وينقل قول السيوطي في مقدمة كتابه "الإتقان في علوم القرآن" أنه جعل هذا الكتاب مقدمة لتفسيره وأن أكثر المفسرين يُلمُّون في مقدمة تفاسيرهم بشيء من القول في النزول والجمع والقراءات والعلم بأصول الدين بما في القرآن من الآية الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالى واشترط العلم بالناسخ والمنسوخ والعلم بأسباب
النزول والقصص، وغير ذلك1. وإذًا فالأستاذ أمين مسبوق بهذا الشرط وبهذه الدراسة الخاصة.
وأما الدراسة العامة لما حول القرآن الكريم فقال عنه الأستاذ أمين: "وأما ما حول القرآن من دراسة عامة فهو ما يتصل بالبيئة المادية والمعنوية التي ظهر فيها القرآن وعاش، وفيها جمع وكتب وقرئ وحفظ وخاطب أهلها أول من خاطب، وإليهم ألقى رسالته؛ لينهضوا بأدائها، وإبلاغها شعوب الدنيا. فروح القرآن عربية، ومزاجه عربي "!! " وأسلوبه عربي: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 2، والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثل الكامل والاستشفاف التام لهذه الروح العربية وذلك المزاج العربي، والذوق العربي، ومن هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية المادية أرضها بجبالها وحرارها وصحاريها وقيعانها وسمائها بسحبها ونجومها وأنوائها وجوها بحره وبرده وعواصفه وأنسامه وطبيعتها بجدبها وخصبها وقحولها أو نمائها ونباتها وشجرها ... إلخ، فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم هذا القرآن العربي المبين.
__________
1 انظر الاتقان في علوم القرآن: للسيوطي ج2 ص181.
2 سورة الزمر: من الآية 28.(3/890)
مع هذا ما يتصل بالبيئة المعنوية بكل ما تتسع له هذه الكلمة من ماضٍ سحيق، وتاريخ معروف ونظام أسرة أو قبيلة، وحكومة في أي درجة كانت وعقيدة بأي لون تلونت، وفنون مهما تتنوع، وأعمال مهما تختلف وتتشعب، فكل ما تقوم به الحياة الإنسانية لهذه العروبة. وسائل ضرورية كذلك لفهم هذا القرآن العربي المبين.
وإذا جهدت الدراسة الأدبية في أن تعرف عن تلك العربية والعروبة أكثر وأعمق وأدق ما يعرف تبتغي بذلك درس أدبها درسا أدبيا صادقا يفي بحاجة المتعرض لتفسيره إلا بعد أن تستكمل كل وسائط تلك المعرفة للبيئة العربية أدبية ومعنوية.
أمَّا ما دمنا نقرأ التشبيه العربي القرآني، أو التمثيل العربي القرآني فإذا مادته الأضواء العربية، والظواهر الجوية العربية والحي أو الجماد المشهود في بلاد العرب لا نعرف عنه شيئا وليس عندنا عنه صورة خاصة. فما يحق لنا -مع هذا- أن نقول: إننا نفسر هذا القرآن أو نمهد لفهمه فهما أدبيا، يهيء للانتفاع به في نواحٍ أخرى.
وما دمنا نذكر الحجر، والأحقاف، والأيكة، ومدين، ومواطن ثمود ومنازل عاد، ونحن لا نعرف عن هذه الأماكن إلا تلك الإشارات الشاردة، فما ينبغي أن نقول: إننا فهمنا وصف القرآن لها ولأهلها أو أننا أدركنا مراد القرآن من الحديث عنها وعنهم، ثم لن تكون العبرة بهذا الحديث جلية ولا الحكمة ولا الهداية المرجوة مفيدة مؤثرة"1.
خلاصة الأمر أن الأستاذ أمين يشترط أن يدرس المفسر دراسة عامة لما يتصل بالبيئة التي نزل بها القرآن سواء أكانت هذه البيئة مادية كالظواهر الجوية والأرض بجبالها وأوديتها وحرارها والسماء ونجومها وأفلاكها أو كانت البيئة معنوية كتاريخ هذه الأمة في ماضيها ونظمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي 39-41.(3/891)
وقد سبقه إلى نحو هذا الأستاذ الإمام محمد عبده حيث اشترط على المفسر علم أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم واشترط العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشئون دنيويِّها وأخرويِّها1.
وحين أقول إن الأستاذ أمين سبق إلى موضوع كذا فلست أعني بحال من الأحوال سلب المنهجية الخاصة به. وإنما أعني إبراز وجوه الشبه بين منهجه والمناهج الأخرى، وقد تتفق مناهج عدة في خطوة أو خطوات ثم تختلف ولا يعني هذا اتحادهما حين تشابها أو انفصامهما حين اختلفا بقدر ما يعني من وجوه التشابه ووجوه الاختلاف وهي صفة مشتركة بين كل المناهج بل والاتجاهات في التفسير.
وأحسب أن الدراسة لما حول القرآن الكريم بشقيها العامة والخاصة ما هما إلا تمهيد وتوطئة لدراسة النص نفسه وهما: دراسة ما حول القرآن، ودراسة النص وإن كانا يشكلان مرحلة واحدة هي المرحلة الثالثة إلا أن أولهما تمهيد اشترط الأستاذ أمين استيفاءه للتقدم إلى دراسة النص نفسه حيث قال بعد أن استعرض الدراسة لما حول القرآن بشقيها: "تلك إلمامه بما حول القرآن من دراسة وهي في جملتها ترجع إما إلى تحقيق النص وضبطه وبيان تاريخ حياته وإما إلى التعريف بالبيئة التي فيها ظهر وعنها تحدث وبين مغانيها ومعانيها تقلب.
وبعد استيفاء ذلك يكون التقدم إلى دراسة القرآن نفسه"2.
ذلكم أن الشق الثاني من المرحلة الثالثة هو روح الدراسة البيانية وأُسها، وهذا أمين نفسه يبسط لنا مرة أخرى الحديث عن هذه الخطوة الجديدة.
__________
1 تفسر المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص22-24.
2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم أمين الخولي، ص41.(3/892)
دراسة القرآن نفسه:
وحتى تظهر معالم الطريق في هذه المرحلة أحب أن أجمل الخطوات في هذه الدراسة لننطلق منها إلى التفاصيل.
فدراسة النص نفسه تنقسم كما يريد الأستاذ أمين إلى قسمين:
1- دراسة في المفردات، من ناحيتين:
أ- من ناحية معناها اللغوي.
ب- من ناحية معناها القرآني.
2- دراسة في المركبات.
قال الأستاذ أمين الخولي في بسط النظر في المفردات: "وهي تبدأ بالنظر في المفردات. والمتأدب يجب أن يقدر عند ذلك تدرج دلالة الألفاظ، وتأثرها في هذا التدرج يتفاوت ما بين الأجيال وبفعل الظواهر النفسية والاجتماعية، وعوامل حضارة الأمة وما إلى ذلك مما تعرضت له ألفاظ العربية في تلك الحركة الجياشة المتوثبة التي نمت بها الدولة الإسلامية، والنهضة الدينية والسياسية والثقافية التي خلفت هذا الميراث الكبير من الحضارة وقد تداولت هذه اللغة العربية في تلك النهضات أفواه أمم مختلفة الألوان والدماء والماضي والحاضر، فتهيأت من كل ذلك خطوات تدريجية فسيحة متباعدة في حياة ألفاظ اللغة العربية حتى أصبح من الخطأ البيِّن أن يعمد متأدب إلى فهم ألفاظ هذا النص القرآني الأدبي الجليل فهمًا لا يقوم على تقدير تام لهذا التدرج والتغيير الذي مس حياة الألفاظ ودلالتها، وعلى التنبه إلى أنه إنما يريد ليفهم هذه الألفاظ في الوقت الذي ظهرت فيه وتليت أول ما تليت على من حول تاليها الأول عليه السلام" إلى أن قال: "إذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين؟ "1.
ثم تحول الأستاذ أمين لنقد معاجم اللغة وبيان أنها لا تفي بهذا الغرض
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، ص41-42.(3/893)
الذي يدعو إليه فلسان العرب مثلا تجاورت فيه نصوص تباعدت عصور أصحابها، وتمازجت فيه اللغويات بالدينيات كما يقول. أما القاموس المحيط فهو عنده عصارات غير ممتزجةٍ لثقافات متغايرة متباينة من فلسفية عقلية إلى طبية عملية فأدبية لغوية. فدينية اعتقادية أو غيرها. ثم عقب الأستاذ أمين على هذا بقوله: "معاجمنا لا تسعف على شيء من تحقيق هذا الأصل الثابت في تدرج الألفاظ. فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغي المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم بعمل في ذلك مهما يكن مؤقتا وقاصرا فإنه هو كل ما يمكن اليوم وإلى أن نملك قاموسا اشتقاقيًّا تتدرج فيه دلالات الألفاظ وتتمايز فيه المعاني اللغوية على ترتيبها عن المعاني الاصطلاحية على ظهورها"1.
إذًا فالأستاذ الخولي يرى أن الخطوة الأولى في دراسة النص نفسه هي النظر في المفردات وذلك بوضع ترتيب زمني لتدرج دلالات الألفاظ ليعرف معنى اللفظة الواحدة وقت نزول القرآن الكريم ومعناها بعد أن تداولتها أفواه مختلفة الألوان والدماء ليتم التمييز بين المعنى اللغوي والمعنى القرآني.
وهو أيضا يرى أنه لا يوجد معجم يفي بهذا الغرض حتى الآن ورتب على هذا أن يقوم المفسر الأدبي بتحمل عبء متابعة تدرج اللفظ ومن ثم اختيار ما يراه مناسبا للفظة القرآنية وقت نزول القرآن الكريم من معانٍ أخرى.
ورتب الأستاذ الخولي على هذا أيضا أن ينظر المفسر الأدبي في الألفاظ القرآنية من ناحيتين:
1- النظر في المادة اللغوية للفظ الذي يريد تفسيره؛ لينحي فيها المعاني اللغوية عن غيرها، ثم ينظر في تدرج المعاني اللغوية للمادة نظرة ترتبها على الظن الغالب لتقدم الأسبق الأقدم منها على السبق حتى يطمئن ما استطاع إلى شيء في ذلك ينتهي منه إلى ترجيح معنى لغوي للكلمة كان هو المعروف حين سمعتها العرب في آي الكتاب. والمفسر في هذا التمييز
__________
1 المرجع السابق، ص42-43.(3/894)
والنظر ملم ما أمكن بمحدث الدراسة في أنسب اللغات وصلة ما بينها؛ ليطمئن كذلك إلى أن الكلمة عربية أصيلة، أو هي دخيلة، وإن كانت فما بيئتها؟ وما معناها الأول؟ ثم هو محاذر كذلك من اندفاع معاجمنا في رد الكلمات إلى أصل عربي يشابهها في اللفظ، مع التكلف في الاشتقاق والربط.
2- وإذا ما فرغ من البحث في معنى اللفظة اللغوي انتقل بعده إلى معناها الاستعمالي في القرآن يتتبع ورودها فيه كله؛ لينظر في ذلك فيخرج منه برأي عن استعمالها، هل كانت له وحدة أطردت في عصور القرآن المختلفة ومناسباته المتغيرة؟ وإن لم يكن الأمر كذلك فما معانيها المتعددة التي استعملها فيها القرآن؟ وبذا يهتدي بمعناها أو معانيها اللغوية إلى معناها أو معانيها الاستعمالية في القرآن، وهو بما ينتهي إليه من كل أولئك يفسرها مطمئنا في موضعها من الآية التي جاءت فيها"1.
وكما بيَّن الأستاذ الخولي خلوّ الساحة من معجم للترتيب الزمني لتداول الألفاظ العربية أكد أيضا خلوها من معجم يعنى بمفردات القرآن ويتتبع الألفاظ فيه إلا ما وصفه بمحاولة الراغب الأصفهاني منذ قرابة ألف عام أن يعطينا مفردات القرآن في قاموس خاص بها ووصفه بأنه "عانى فيها شبيها بما وصفنا أو بشيء من أصل فكرته ولكنه لم يتم التعقب اللغوي ولم يستوفِ التتبع القرآني، وفاته مع ذلك كله فرق ما بين عصره وعصرنا في دراسة اللغات وصلاتها إلا أنه في كل حال نواة تُخجِل مَن بعده وبخاصة أهل هذا العصر الطموح فيؤلمهم ألا يملكوا إلا هذا القاموس القرآني الناقص بل البدائي وبالتزام هذا المنهج الأدبي يرجى كمال هذا القاموس وقواميس أخرى تتطلبها حياة القرآن كتاب العربية الأعظم"1.
وهذا ولا شك عبء آخر على المفسير الأدبي للقرآن الكريم يتطلب منه
__________
1 المرجع السابق، ص43-44.(3/895)
جهدا إلى جهده السابق على أن من الحق الواجب قوله هنا إن الأستاذ أمين لم يكن قد أشار إلى خطة لتصنيف القرآن موضوعيًّا، وساق حديثه عن هذا مجرد نظرية وإذا كان قد سكت أيضا عن طريقة ترتيب الآيات في الموضوع الواحد ولم يرشد إلى ترتيب معين وجاء حديثه أيضا هنا مجرد نظرية فقد كان موقفه في دراسة المفردات غير ذلك حيث عالج تطبيقيًّا بعض الأحرف الهجائية على الطريقة التي أشار إليها في معجم ألفاظ القرآن الكريم وهو وإن لم يتمه إلا أنه مثل عملي لما يمكن أن يقوم به المفسر الأدبي بجهده الذاتي في غيبة المعجم المطلوب، ولا شك أيضا أنه مهد الطريق الوعر في هذا المقام لمن أراد أن يسلك سبيل المعجم التاريخي لألفاظ القرآن الكريم1.
من هاتين الناحيتين الناحية اللغوية وناحية الاستعمال القرآني أوجب الأستاذ الخولي النظر في مفردات القرآن؛ لينتقل المفسر الأدبي بعد هذه النظرة إلى النظر في المركبات.
2- دراسة في المركبات:
والخطوة التالية للنظر في المفردات هي النظر في المركبات وقد وضح الأستاذ الخولي أصول هذه النظرة وما تحتاج إليه بقوله: "ثم بعد المفردات يكون نظر المفسر الأدبي في المركبات وهو في ذلك ولا مرية مستعين بالعلوم الأدبية من نحو وبلاغة ... إلخ، ولكن لا على أن الصنعة النحوية عمل مقصود لذاته، ولا لون يلون التفسير كما كان الحال قديما بل على أنها أداة من أدوات بيان المعنى وتحديده، والنظر في اتفاق معاني القراءات المختلفة للآيات الواحدة والتقاء الاستعمالات المتماثلة في القرآن كله ثم على أن النظرة البلاغية في هذه المركبات ليست هي تلك النظرة الوصفية التي تعنى بتطبيق اصطلاح بلاغي بعينه، وترجيح أن ما في الآية منه هو كذا لا كذا،
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص506-507.(3/896)
أو إدراج الآية في قسم من الأقسام البلاغية دون قسم آخر!! كلا بل على أن النظرة البلاغية هي النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني وتستبين معارف -هذا الجمال وتستجلي قسماته في ذوق بارع قد استشف خصائص التركيب العربي منضما إلى ذلك التأملات العميقة في التراكيب والأساليب القرآنية لمعرفة مزاياها الخاصة بها بين آثار العربية، بل لمعرفة فنون القول القرآني وموضوعاته فنًّا فنًّا، وموضوعًا موضوعًا، معرفة تبين خصائص القرآن في كل فن ومزاياه التي تجلو جماله"1.
ولا شك أن هذا المنهج في التفسير بأصوله التي وضعها صاحبه منهجٌ إن كان ممكنا فبمشقة وجهد ودراية قلَّ أن توجد عند أحد بل إن الأستاذ أمين نفسه شعر بهذا العبء حين قال: ولئن كان مثل هذا مما يطلب أو يوصف في قليل من الجمل أو الأسطر فإن تحقيقه ليس بهذه السهولة والقرب، وإنما يقوم على إصلاح أدبي بلاغي أحسب أن الحياة الأدبية اليوم تحاوله وهي بالغة منه إن شاء الله مبلغا حسنا، ومستفيدة به في التفسير الأدبي للقرآن كما تستفيد هذه المحاولة الإصلاحية نفسها بمزاولتها للتفسير القرآني"2 وإذا كان الخولي يقول هذا فإنه تجب الإشارة إلى أن المنهج -كما يقول الدكتور محمد إبراهيم شريف- بهذه الصورة من القيود والمتطلبات لم ير النور في محاولة ما من محاولات أتباعه، وإنما وقعت محاولاتهم موقعًا بعيدًا عن الأمل الطموح بصورة أو بأخرى3.
زد على هذا أن الأستاذ أمين يوجب مراعاة أمر هام في التفسير الأدبي ينبغي على المفسر الاهتمام به هو:
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، ص44.
2 المرجع السابق: ص44.
3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص508.(3/897)
التفسير النفسي:
قال: "لأن ما استقر من تقدير صلة البلاغ بعلم النفس قد مهد السبيل إلى القول بالإعجاز النفسي للقرآن، كما كشف عن وجه الحاجة إلى تفسير نفساني للقرآن يقوم على الإحاطة المستطاعة بما عرف العلم من أسرار حركات النفس البشرية في الميادين التي تناولتها دعاوة القرآن الدينية، وجلده الاعتقادي، ورياضته للوجدانات والقلوب واستلالها لقديم ما اطمأنت إليه، وتوارثته عن الأسلاف والأجيال وتزيينها بما دعا إليه من إيمان، ينقض مبرم هذا القديم ويهدم أصوله وكيف تلطف القرآن لذلك كله، وماذا استخدم من حقائق نفسية في هذه المطالب الوجدانية والمرامي القلبية، وماذا أجدت رعاية ذلك كله في إنجاح الدعوة وإعلاء الكلمة. فالتفسير النفسي يقوم على أساس وطيد من صلة الفن القولي بالنفس الإنسانية، وأن الفنون على اختلافها ومن بينها الأدب ليست إلا ترجمة لما تجده النفس"1.
وأكد الأستاذ الخولي على أهمية التفسير النفسي حين قال: إن اللمحة النفسية في المعنى القرآني ربما تكون أحسم لخلاف بعيد الغور كثير الشعب بين المفسرين"1.
إلى أن قال: "فالملاحظة النفسية حين تعلل نسج الآية وصياغتها وتعرف بجو الآية وعالمها، ترفع المعنى الذي يفهم منها إلى أفق باهر السناء، وبدون هذه الملاحظة يرتدُّ المعنى ضئيلا ساذجا لا تكاد النفس تطمئن إليه، ولا هو خليق بأن يكون من مقاصد القرآن"1.
تلكم هي الخطوط الرئيسية التي رسمها الأستاذ أمين الخولي للتفسير الأدبي للقرآن الكريم وإن أردنا أن نذكرها إجمالا فهي:
أولا: جمع الآيات ذات الموضوع الواحد بعضا إلى بعض وتدبرها جميعا وتفسيرها كذلك.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم أمين الخولي، ص45.(3/898)
ثانيا: ترتيب آيات الموضوع الواحد ترتيبا زمنيا حسب تاريخ نزولها.
ثالثا: دراسة خاصة حول النص تقوم على تاريخه ونزوله وجمعه وكتابته وقراءته ونحو ذلك من علوم القرآن.
رابعا: دراسة عامة للبيئة التي نزل بها هذا النص، البيئة المادية في الأرض والسماء والجبال والسهول والأودية وبيئة معنوية في تاريخ هذه الأمة ونظمها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها.
خامسا: دراسة النص القرآني في مفرداته وذلك بدراسة: استعمالات هذه المفردة لغويا. ودراسة استعمالها في القرآن الكريم في مواضع مختلفة ومدلولها في كل موضع.
سادسا: دراسة النص القرآني في معانيه المركبة وذلك بالاستعانة بالعلوم الأدبية من نحو وبلاغة على أن النحو أداة من أدوات بيان المعنى وتحديده، وعلى أن البلاغة هي النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولي في الأسلوب القرآني، مع التأملات العميقة في التراكيب والأساليب القرآنية لمعرفة مزايا كل منها ولمعرفة فنون القول القرآني وموضوعاته.
تلكم هي أبرز الخطوط التي رسمها الأستاذ أمين الخولي لمنهجه في التفسير حرصت كل الحرص على أن أسوقها بنصوصها التي خطها صاحبها ودونها به، حتى ولو أطلت الحديث وحتى لو أكثرت النقل حتى أحاذر وأتحاشى اختصارا مخلا أو فهما خاطئا أقع فيه أو فيهما، وأعرف سلفا أن خير من يتحدث عن منهج الخولي هو الخولي نفسه وكيف أعبر عنه وأتحدث عن منهجه وقلمه لما يجف بعد؟.
فمعذرة إن كان فيما سقت من نصوصه إطالة فما اردت إلى الوفاء وما أردت إلى الإصابة.
على أنا وقد وصلنا إلى هذه المرحلة يجب أن نذكر أن الأستاذ الخولي نفسه وهو الذي وضع هذه الخطوط لم يخرج لنا دراسة تطبيقية كاملة لهذا المنهج وإن كان قد حاول ذلك مرارًا ويعلن في خاتمة بيانه لمنهجه هذا أنه لن يكون من(3/899)
العاجزين مع اعترافه سلفا بالقصور عن الكفاية الكاملة والقدرة الموفورة حيث يقول: "مهما يكن لهذه المطالب من أثر يثقل خطانا ويؤخر أثمار دراستنا ويشعرنا بالنقص ويعود علينا باللائمة فإن هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواجب، وأولى لنا أن نؤثر تقرير هذه الحقيقة على أن نكذب على أنفسنا وعلى الأجيال، فنزعم الكفاية الكاملة والقدرة الموفورة، ولئن لم يكن لنا من الكمال إلا الشعور بالنقص فذلك أجمل بنا من التزيد الزائف وليس الذي نبغيه من هذا المنهج مستحيلا ولا بعيد التحقق، فقد شعر أسلافنا بجملته، وفاموا ببعضه للقرآن، ثم قام المحدثون به كله لكتبهم الأدبية والدينية، ولن نكون نحن بين هؤلاء وأولئك الضائعين العاجزين!! "1.
ولئن كان الأستاذ الخولي قد صرح مرارا أن الدافع له لتأصيل هذا المنهج والدعوة إليه هو إشارة القدماء حين قسموا العلوم الإسلامية إلى ثلاثة أقسام عدُّوا منها علما لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير -إن كان الخولي عد هذا منطلقا لقيامه بخدمة علم البيان وعلم التفسير في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول2، فلقد انتهى به الأمر بالتفسير في نهاية نظريته إلى أن أصبح علما لم يبدأ بعد كما يقول د/ محمد شريف، ولكن من الممكن له أن يبدأ بل أن ينمو وينضج إذا ما سار على ذلك الدرب الشاق3 الذي شقه الأستاذ أمين وسار فيه خطوات.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم، ص46-47.
2 المرجع السابق، ص33.
3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص510.(3/900)
الدراسات التطبيقية
أمين الخولي
...
الدراسات التطبيقية:
كثير من الدراسات التي سعت إلى تطبيق هذا المنهج والأخذ بأصوله وقواعده، وليس بوسعنا أن نذكرها كلها ولا أن نذكر أكثرها وإنما بوسعنا أن ندرس أهمها وأشهرها.
وبهذا المقياس فليس في هذا المنهج أهم من المحاولات التطبيقية التي قدمها أستاذ هذه المدرسة ويليه فيها تلميذان من أنجب تلاميذه هما الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" والدكتور "محمد خلف الله" ولعل في تقديمي لهؤلاء الثلاثة الكفاية في ضرب المثل لهذه الدراسات في هذا المنهج، وبالأستاذ نبتدئ:
أمين الخولي:
ترجمته:
ولد سنة 1895م بشوشاي مركز أشمون بمحافظة المنوفية وتخرج في القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي سنة 1920م واختير مدرسًا بها. وترأس تحرير مجلتها في سنتيها الأولى والثانية.
وفي سنة 1923م عين إماما للمفوضية المصرية بروما ثم في برلين ولهذا ألَمَّ باللغتين الإيطالية والألمانية واطلع على بحوث المستشرقين في الإسلاميات بهاتين اللغتين. وعاد إلى مصر سنة 1927م ليدرس بقسم التخصص في مدرسة القضاء الشرعي وفي العام التالي نقل إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية "جامعة القاهرة الآن" مدرسا فأستاذا مساعدا فأستاذا فرئيسا لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية ثم أستاذا للأدب المصري ثم وكيلا لكلية الآداب وظل فيها حتى سنة 1953م حيث نقل مستشارا فنيا لدار الكتب المصرية ثم عين مديرا لإدارة الثقافة في وزارة التربية والتعليم حتى بلغ سن التقاعد سنة 1956م.
وأنشأ الأستاذ أمين هو وتلاميذه سنة 1943م مدرسةأدبية هي "الأمناء" نسبة إليه، رسالتها الفن والحياة. وهدفها تحقيق أهداف فنية نظرية وعملية.
وأصدرت في سبيل تحقيق ذلك "مجلة الآداب" سنة 1956م حيث رأس الأستاذ أمين تحريرها. وعين سنة 1961م عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
وكلف بعد تقاعده بأعمال عديدة، فانتدب مثلا لتدريس الأخلاق والفلسفة وتاريخ الملل والنحل في الأزهر في قسم التخصص شعبة الأخلاق والتاريخ. وشعبة الوعظ وكذلك في كلية أصول الدين ورأس قسم اللغة العربية(3/901)
في معهد الدراسات العليا للمدرسين، وحاضر في معهد الدراسات العربية العالية سنة 1957-1958م، وفي معهد الدراسات الإسلامية، وحضر عددا من المؤتمرات1، وتوفي سنة 1966م.
وله مقالات وبحوث في اللغة والأدب والبلاغة والنحو والتفسير نشرت في مجلات علمية وأدبية، وله تعليقات على كثير من مواد دائرة المعارف الإسلامية في الأدب والفقه، ومن أهمها ما كتبه في مواد التفسير وأصول الفقه والبلاغة، وجمع أكثرها في كتاب اسمه "مناهج تجديد في النحو والبلاغة والأدب والتفسير" وطبع تعليقه على مادة "تفسير" مستقلا مرة بعنوان "التفسير معالم حياته منهجه اليوم" طبعته جماعة الكتاب سنة 1944م ومرة بعنوان "التفسير نشأته تدرجه وتطوره" تحت سلسلة "كتب دائرة المعارف الإسلامية" وصدرت طبعته الأولى سنة 1982م في بيروت.
وله كتاب "من هدي القرآن" ويحتوي على ثلاثة من مؤلفاته "القادة والرسل" و"في رمضان" و"في أموالهم" وله أيضا كتاب عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وهو العدد "11" من سلسلة أعلام العرب.
والذي يهمنا هنا من مؤلفاته ما كتبه من الدراسات القرآنية تحت عنوان "من هدى القرآن".
تفسيره:
أسلفنا القول أنك لا تكاد تجد فيما قدمه الأستاذ أمين الخولي دراسة تطبيقية شاملة كاملة للمنهج الذي أصله بل ظل الفارق بعيدا بين الواقع الذي سلكه والمثال الذي دعا إليه.
لكن مع هذا، فإنك واجد في تفسيره تدرُّجا يكاد يظهر واضحا في تقلص وانكماش الفاصل بين الواقع والمثال.
__________
1 لخصت ما سبق من ترجمته الواردة في مقدمة كتابه "التفسير نشأته تدرجه وتطوره" بقلم إبراهيم خورشيد رئيس تحرير النسخة العربية من دائرة المعارف الإسلامية.(3/902)
يظهر هذا في دراسات أربع ندرسها هنا دراسة موجزة نبدأ بأبعدها عن المثال وننتهي بأقربها إليه وبها تظهر المراحل التي مر بها الأستاذ الخولي في دراسته التطبيقية.
وقدم الأستاذ أمين الخولي هذه الدراسات تحت عنوان "من هدي القرآن" واشتملت على مجموعات متعددة من الأبحاث ذات الموضوع الواحد كالسلام والإسلام، والطغيان في العلم والمال والحكم، وحكومة القرآن، والحكم بما أنزل الله، والفن والبيان في القرآن، والقرآن والحياة، والقسم القرآني، والجندية والسلم، والقادة الرسل، وفي أموالهم، وشخصية محمد، وفي رمضان ... وغير ذلك من الدراسات.
وإذا نظرنا إلى هذه الدراسات وغيرها مجتمعة وجدناها تحتفظ من المنهج بالخصائص التالية:
1- أنها تدرس القرآن الكريم حسب الموضوعات وليس حسب تسلسل السور في القرآن الكريم.
2- إنها تهدف إلى التدبير النفسي والاجتماعي في القرآن للحياة الإنسانية، وترى أن هذا هو المجال الخاص للقرآن وهو السبيل المفردة لتحقيق أهداف الرسالة الإسلامية.
3- إنها تعمد إلى معاني الآيات التي تؤديها ألفاظ العربية كما كان يفهمها أهل العربية في عهد نزول القرآن ولا تتجاوزه إلا لاتماس ما للفظ والنظم من إيحاءات أدبية وفنية1.
أما المراحل التي مر بها تفسيره كما أشرت إليه آنفا، فهي أربع، نقدم مثالا من هذه الدراسات لكل مرحلة.
المرحلة الأولى: الجندية والسلم.. واقع ومثال
وكان أول حديث له عن السلام في يوليه سنة 1937 ثم تتابعت
__________
1 من هدى القرآن: أمين الخولي، ص10-11.(3/903)
الأحاديث وأكتفى هنا بالصورة التي قدمها الدكتور كامل علي سعفان لهذه الأحاديث علما أن هذه الصورة ليست إلا خطوطا رئيسة لأفكارها وحسبي وحسبه أنها تشير إلى طريقة الأستاذ في التفسير أو مرحلة مر بها وهي خلاصة لهذا البحث، قال:
"إن في الإنسان غريزة فطرية إذا ما واتتها التربية الصحيحة كانت تلك الغريزة مصدر خير ونفع للإنسان، ومبعث آمال تقية الخطر وتجنبه الضرر وتحمي وجوده وحضارته، وإذا ما لاقت تربية سيئة لا تسلم معها الروح كانت مصدر شقاء وضرر، ومبعث نقائص تخزي الإنسان، وتعرض وجوده للدمار، وتكتب عليه الهزيمة والخذلان"، "تلك الغريزة فيما يقول قوم من النفسيين غريزة الخوف"، "هذا الخوف الغريزي النافع باعتداله هو ما يعنيه الناس حين يقولون: من خاف سلم، وهذا الخوف الأدبي المصلح هو ما يريده القرآن في مثل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 1.
لكن هذه الفائدة المادية والأدبية، وهذا الخير في الجسم والروح ينقلب شرا ذريعا إذا ما جاوزت الغريزة اعتدالها فآلت إلى ذعر وهرب".
ومع غريزة الخوف غريزة السيطرة التي يعليها القرآن حين "يردف القوة بالعزة في مثل قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز} 3 إلى كثير مما ورد في ذلك.
فالإله في وصف القرآن: قوي عزيز غالب، له الغلبة ولرسله وله من السماء ما يناسب ذلك فهو القهار، الجبار، والمعز، والمذل، والخافض، والرافع، وما ماثل هذا.
والعبد الرباني هو الذي يتحلى بمعاني صفات الله وأسمائه ويسعى
__________
1 سورة النازعات: الآيتان 40-41.
2 سورة المجادلة: الآية 21.
3 سورة هود: الآية 66.(3/904)
لاكتساب الممكن من ذلك" لكنه لم يترك الغريزة دون كبح قوي وتنسيق فعال.
إنه يروض هذه الغريزة، حيث يتحدث عن القوة والعزة، فيضع معها في وصف الإله معاني السمو والخير وحسن التدبير: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} 1، كذلك يضع إلى جانب العزة العلم وهو الذي على وفقه تجري الأشياء صحيحة سالمة، طبق قوانينها، ومضبوط نظمها: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} 2.
بل يضع إلى جانب العزة المغفرة، وعدم المؤاخذة على الإساءة والذنب: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور} 3.
وطالما يقرن العزة بالرحمة وفيض التلطف والترفق: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 4 كما يقرن القوة بالأمانة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 5؛ القوي بأبعد معاني القوة نفسا وعقلا وجسما، والأمين بأخطر معاني الأمانة وأكمل استعداد للمسؤولية -هو القوي الأمين الذي يشير إليه القرآن ورجل القرآن الذي يحقق القوة الجامعة، ويمثل العزة التي يجمل مثلها لله ولرسوله، هو الرجل الذي يبني منه القرآن أمة هي: خير ما أخرج للناس؛ أمة تحقق السلام القائم على العدل، السلام الذي أصبح شعار هذه الأمة، يلقى الناس به إخوانهم في الغدو والرواح، السلام الذي "يأسوا جراح الإنسانية ويسعفها في صراع الغرائز، وقتال الشهوات". السلام الذي سمى الله به نفسه وجعل الجنة "دار السلام" وأهل الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلام} 6، 7
__________
1 سورة آل عمران: الآية 62.
2 سورة الأنعام: الآية 96.
3 سورة الملك: الآية 2.
4 سورة الروم: الآية 5.
5 سورة القصص: الآية 26.
6 سورة يونس: الآية 10.
7 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان، ص164-166.(3/905)
تلكم هي الصورة التفسيرية التي قدمها في "الجندية والسلم" وهي مرحلة لا نكاد نستبين بينها وبين المنهج الذي دعا إليه من صلة.
المرحلة الثانية: القادة الرسل
وهي مجموعة أحاديث أذاعها بين عامي 1941-1942م وجاءت أحاديثه عنهم عليهم السلام في عدة حلقات تحدث عن "رسل ورسالات" وعن "القادة الرسل" وعن "عزمات القادة" وعن "شمائل القادة" وعن "تبعات القادة" وعن "قادة لا جبابرة".
نختار منها مثالا أولها: "رسل ورسالات" وقد ألقاه إذاعة في حلقتين، قال في الأولى:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 1 لقد جاءكم من هدي القرآن ما يمس مشكلات كثارا من عقد الحياة العاملة، ورأيتموه يتولى التنسيق الاجتماعي ماضيا إلى أغوار المصاعب ماسًّا أصولها البعيدة، وفي القرآن من ذلك كما سلف كثير وكثير والآن يلتمس هدى القرآن في تقدير قيم الأشخاص والأشياء والأعمال، ووزن البواعث والغايات التي ينبعث الناس بها في حياتهم ويصدرون عنها في تصرفهم، ويرمون إليها في سلوكهم ويجعلونها هدفهم في سعيهم، فقد اضطربت في ذلك الأهواء، ولاذ الناس في تقديرهم وتأثرهم بأحكام ومذاهب أبت إلا أن تقيس كل ما في الوجود بالعروض والنقود ورأت ألا تقدر كل أجر إلا بالرطل والمتر ولم يرضها وراء ذلك جزاء، ولا قبلت دونه ثمنا، واطمأن من حولنا وفيهم كثير من الخاصة إلى متع من الحياة يشركهم فيها الحيوان الأعجم وقد يغلبهم عليها الإنسان الأول2 ساكن الغابة والمجهل، فأفاضوا بذلك على دنياهم، ودنيا غيرهم، قسوة وقتاما، وزادوها برودا وظلاما؛ إذ حالوا بين أنفسهم وبين متع من الروح والنعيم، ومباهج من السنا والنور،
__________
1 سورة النساء: الآية 165.
2 وهل كان الإنسان الأول كذلك؟!(3/906)
ولذائذ من الرضا والحبور، وحينما أنكروا ذلك وحقروه لم يحرموا أنفسهم منه فحسب، بل شوشروه1 على من يبتغيه، وشوهوه على من يؤثره ففسدوا وأفسدوا، وتأذوا وآذوا، وعُذبوا وعذبوا معهم غيرهم والله المستعان" إلى أن قال: فيأتيها القلوب المؤمنة كيف تناول القرآن أصول التقدير وما هديه في بيان الغايات الكريمة، وأي اللذائذ الراقية قد تخير لكرام الناس في حياتنا المشهودة؟ التمسوا الجواب عن ذلك فيما علمه لرسله وهداهم إلى أن يقولوه لقومهم، وأن يعلنوا أنه الغاية من أدائهم لرسالاتهم مع أنهم أولئك البشر الذين قرر القرآن بشريتهم ولم يثبت لهم وراءها شيئا فستجدون في ذلك ما تريدون من هدي القرآن في هذه المشكلات الدقيقة ستجدون حقيقة ثابتة مطردة في الأديان كلها وستعرفون المطلب الذي ابتغاه الرسل جميعا من أدائهم رسالاتهم جميعا، ستستمعون نوحا صلى الله عليه وسلم منذ الدهر الأول يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} 2، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4 إلى أن قال الأستاذ أمين:
"واسمعوا كذلك في الرسالات الأولى هودا يقول لقومه: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} 5 {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين} 3 وهكذا قال صالح لقومه، تلك المقالة، وقالها لوط، كما قالها شعيب عليهم السلام جميعا، فتقرأ في سورة الشعراء من قصص هؤلاء الأنبياء تلك النغمة السماوية
__________
1 بحثت في القواميس عن "ششر" أصل هذه الكلمة فلم أجد لها ذكرا، ولعلها صوابها "شوشوه" والتشويش: التخليط، وتشوش عليه الأمر اختلط والتبس.
2 سورة هود: الآية 29.
3 سورة الشعراء: الآية: 109.
4 سورة يونس: الآية 72.
5 سورة هود: الآية 51.(3/907)
المرددة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 تردد بضع مرات في سورة واحدة1 وأن يقلها سالفوا الأنبياء مرة ومرة فقد قالها رسول القرآن صلى الله عليه وسلم مرارا في صورة متفننة متعددة فحينا ينفي ابتغاء الأجر بأن يهبهم ما يطلبه في مثل قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2، وحينا ينفي الأجر بأن يطلب منهم ما هو خير لهم هم لا له هو في مثل: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} 3، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 أي بِرَّهُمْ قرابتَهم بهن وصلتهم ما بينه وبينهم من رحم، وآنا يؤمر أن يجهر بنفي ابتغاء الأجر في مثل قوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 6، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 7 وطورا ينفي هذا الطلب في صورة الاستفهام المبعد له مثل قوله في غير موضع: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} 8 وهكذا يصف القرآن الرسل بهذا العزوف عن الأجر فيقول: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون} 9.
أيتها القلوب المؤمنة تلك الرسالة التي أداها الأنبياء طوال حياتهم، ولقوا فيها من العنت والإيذاء ما لقوا، واحتملوا بسببها ما احتملوا، وهي بعد
__________
1 سورة الشعراء: الآيات 109، 127، 145، 164، 180.
2 سورة سبأ: الآية 47.
3 سورة الفرقان: الآية57، وأولها: {قل} .
4 سورة الشورى: الآية 23.
5 سورة يوسف: 104.
6 سورة الأنعام: الآية 90.
7 سورة ص: الآيات 86-88.
8 سورة الطور: الآية 40.
9 سورة يس: الآية 21.(3/908)
ذلك عمل لا مال فيه ولا أجر من حطام الدنيا عليه، ثم هم آخر الأمر كما قال خاتمهم عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة"1 وكذلك ترقى النفس البشرية، فترقى لذتها ويهون عندها ما حببت إلى النفس من زينة الدنيا، وهكذا بسط القرآن هديه".
إلى أن قال: "وإن ما أحدث عنه من اللذات الراقية والتي اكتفى بها رسل الله الكرام فيما أدوا من رسالات تلك اللذات الراقية ليست من بعيد الفلسفة ولا عسير الآمال وممنع المطالب بل هي منزلة قد ارتقى إليها الكرام جميعا وبلغها في الأمم السعيدة، رجال العلم ورواد الكشف وأهل الجهاد، ولولاها ما أقدم رجل العلم على تجاريب يجربها حتى في نفسه، ولما جازف رجل الكشف يقتحم المجاهيل والمخاطر ولما حمل المجاهد يجالد المنايا ويعانق الفواتك المدمرة وما خطت الإنسانية خطوة واحدة في سبيل رقيها إلا على يد أولئك الذين استهوتهم اللذائذ الراقية فنسوا أنفسهم، وسعدوا بخير من حولهم، أولئك رسل الحضارة وتلك رسالاتهم"2.
وواصل الأستاذ أمين حديثه هذا في الحلقة الثانية حيث قال: "وإذا ما عرفنا كيف نختار غايتنا الكريمة في هذه الحياة فقد بقي أن نعرف هدي القرآن في السير إلى تحقيق تلك الغاية المرجوة والوصول إلى المقصد الجليل كيف يخوض الناس الصعاب إلى أهدافهم؟ كيف يواجهون ما يعترضهم من عقبات، ماذا يعدون لتذليلها والتغلب عليها؟ تجد هدي القرآن عن هذا في حديث الرسل الكرام وما لقوا في سبيل تحقيق رسالاتهم وكيف واجهوا ذلك واحتملوه وماذا علمهم الله أن يفعلوا في هذا السبيل فتقرأ في غير موضع أخبار تكذيبهم وسبهم في إقذاع جريء من مثل قول قومهم لواحد منهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ
__________
1 رواه البخاري ومسلم بلفظ: "لا نورث ما تركناه صدقة" انظر ما نقلنا عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في الباب الثاني، الفصل الأول، عن دراستنا لفقه أهل السنة والجماعة.
2 من هدي القرآن: القادة الرسل، أمين الخولي، ص14-19 باختصار.(3/909)
فِي ضَلالٍ مُبِين} 1، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة} 2، {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين} 3، {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 4 إلخ.
بل نراهم يكيدون لهم بالقوة الباطشة الطائشة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 5، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك} أي يعجزوك عن الحركة {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 6، كان ذلك وما يشبهه من عنف أهوج نصيب الرسل ممن يدعون، فإذا القرآن يعالجه بتهوين وقعه على الرسل وإصلاح نفسيتهم وإرشادهم إلى ما يحفظ طمأنينتهم من مثل قوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 7، {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} 8 واسمعه إذ يأمر الرسول بالصبر على ما يقال فيعينه على الصبر بأن يكره بالقدوة الصالحة من أسلافه الأقوياء فيقول: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 9 والأيد القوة والاضطلاع بالأعباء والمشاق، ويقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 10، واستمع إذ يغريه بتسبيح الله؛ ليعتز بعزته ويستمد القوة من قوته ويحتفظ بالمقاومة والاحتمال في قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
__________
1 سورة الأعراف: الآية 60.
2 سورة الأعراف: الآية 66.
3 سورة الذاريات: الآية 52.
4 سورة إبراهيم: الآية 13.
5 سورة الأنفال: الآية 30.
6 سورة هود: الآية 36.
7 سورة آل عمران: الآية 176.
8 سورة ص: الآية 17.
9 سورة الأحقاف: الآية 35.
10 سورة ق: الآيتان 39-40.(3/910)
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} 1. والشعر بقسمات الحسن الفني في نظم القرآن والمدرك لإشارته النفسية يقف عند خاتمة الآية الخيرة يترجى الرضا، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك} .... {لَعَلَّكَ تَرْضَى} يقف وقفة يتمثل فيها ذلك المعنى النفسي الذي أدرنا عليه هذا الحديث من تقبل الألم والشعور في ذلك باللذة؛ إذ لا يكون هذا إلا حين يكون الرضا النفسي ويظهر به الإنسان فتكون العظمة الروحية والمقاومة النبيلة وجلال الترفع ولأصحاب هذه النفوس يكون الأمر بالصبر"2.
وهذه الخلاصة لحديث الأستاذ الخولي عن "رسل ورسالات" من سلسلة أحاديثه عن "القادة الرسل" تلمح فيها أنها أقرب من سابقتها "المرحلة الأولى" إلى تمثل منهجه والتزامه، فنرى فيها هنا شيئا من الموضوعية في التفسير التي يدعو إليها هذ المنهج ونرى فيها أيضا إبراز الجانب النفسي في التفسير، وإن كان هذا وذاك لم ينالا حظا كبيرا كما يتطلب المنهج، لكنهما وردا على كل حال.
وما زالت هذه المرحلة بعيدة عن التزام خط المنهج.
المرحلة الثالثة: في رمضان
وهي مجموعة أحاديث أذاعها في شهر رمضان خلال ثمانية عشر عاما امتدت من سنة 1360 إلى سنة 1378هـ، وسأختار من هذه الأحاديث موضوعين أما أولهما فعنونه صاحبه بـ "في رمضان" وثانيهما في حلقتين عنوانهما "عن فلسفة الجوع" ولعل فيما اخترت دلالة على ما أردت.
تحدث الخولي في الأولى عن "معنى حي -كما وصفه- لنزول القرآن في رمضان"، بين فيه المراد بإنزال القرآن في شهر رمضان الوارد في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 3، وذكر أن المفسرين منذ أولهم إلى اليوم يدورون حول أقوال بعينها
__________
1 سورة طه: الآية 130.
2 من هدى القرآن: القادة الرسل، أمين الخولي، ص22-24 باختصار.
3 سورة البقرة: الآية 185.(3/911)
التماسا لبيان كيف أن القرآن أنزل في شهر رمضان مع أنه إنما نزل مفرقا في عشرين سنة أو أكثر عند المناسبات وليس في شهر رمضان فقط، وذكر أن هؤلاء المفسرين تارة يقولون: إن القرآن نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة وكان ذلك في رمضان، ورد الأستاذ الخولي هذا القول بأنه: "ما كان القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"، بنزوله من سماء إلى سماء حتى يفسر بذلك نزوله في رمضان"1، وذكر أنهم تارة أخرى يقولون أن القرآن نزل في سائر الشهور لكن جبريل كان يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان ويقابله معه فيه، ورد هذا القول أيضا بقوله: "لكن هل المقابلة هي النزول أو هي بعد النزول؟ وهل يسهل تفسير النزول بالمقابلة أو المعارضة أو المدارسة؟ ما أظن"1 وقال: أنهم حينا يرون أن المراد أنزل بشأن رمضان قرآن أي جاءت عنه في القرآن آية الصيام، ورد على هذا الرأي بأن هذا ليس مما يمتاز به رمضان، كما أن آية الصيام لا يظهر وصفها خاصة بما ورد بعد من هدى وبينات من الهدى والفرقان بل هو وصف للقرآن كله وذكر أنه يفسرون المراد بالإنزال بابتداء النزول، ورد هذا القول أيضا بما فيه ضعف حيث شكك في معرفة البدء بالنزول حيث قال: "وهل هذا البدء معين محدد فيشبه بمبادئ الدول والملل في انضباطها؟ وأين كان هذا التاريخ بذلك البدء"1، وفات على الأستاذ الخولي أن الذي حدد البدء ليس بشرا وإنما هو الله الذي أنزل القرآن فهو أعلم ببدء نزوله وبتاريخ نزوله. وزاد الأستاذ الخولي ردًّا آخر حيث قال: "ثم قبل هذا وذاك لم عبر بالنزول عن بدء النزول وبأي شيء صرفوه إلى ذلك؟ وهم يرون أن فائدة وصف الشهر "بإنزال القرآن فيه" هي التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه"1.
وبعد هذا العرض للأقوال في المراد بالنزول والردود عليها قال: "وهكذا لا تجد من هذه الأقوال التي دار حولها المفسرون جميعا في فهم آية رمضان هذه رأيا ترتاح إليه"، ثم ساق رايه في المراد بالنزول:
__________
1 من هدي القرآن في رمضان: أمين الخولي ص126-127.(3/912)
"أيها الشاعرون بروعة القرآن: لقد قصروا النزول على المعنى المادي في الانتقال، والهبوط، والانحدار، ونحوه، وليس هذا كل معنى الكلمة، وليس هذا كل ما استعمل فيه القرآن هذه الكلمة لقد استعملها القرآن في حسيات ليس فيها انتقال، ولا هبوط. فهو يقول: {أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد} 1.
وليس هابطا من السماء، وهو يقول: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} 2، وليس يعني انحدار هذا من الأعلى إلى الأرض.
بل يلاحظ أنه حين يقصد هذا الانتقال المادي يذكر مبداه ويصرح به فيقول:
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاء} 3، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} 4، {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} 5، ولم يذكر هذا المبدأ في آية رمضان ونزول القرآن فيه!!
ومن المفروغ منه أن الألفاظ لا تقتصر على معناها الحسي أبدا، بل تنتقل عنه انتقالات كثيرة إلى إطلاقات معنوية وهم أنفسهم قالوا: الإنزال تقريب الشيء والهداية إليه، وإنزال الله نعمه، ونعمه على الخلق إعطاؤهم إياها ففيم إذنْ هذا الوقوف عند معنى النزول المادي من سماء إلى سماء أو الوصول إلى الأرض والإبلاغ إلى شخص".
وكأن الأستاذ أحس بأن هناك اعتراضا يقول: إذا كان المراد بالنزول: التقريب والهداية فلم خصه الله بشهر رمضان مع أن هداية القرآن غير مخصوصة به؟! فذهب الأستاذ الخولي يلتمس ما حسبه مستمسكا وما هو بمستمسك قال: "القرآن نعمة وهداية، تعطى للناس، وتقرب إليهم، وتيسر لهم ظروف ومناسبات مع رياضة خاصة، أو عبادة خاصة فإنزال القرآن في رمضان يمكن أن
__________
1 سورة الحديد: الآية 25.
2 سورة الأعراف: الآية 26.
3 سورة الحج: الآية 63.
4 سورة النبأ: الآية 14.
5 سورة المائدة: الآية 114.(3/913)
يكون بتقريبه إلى الناس، وأنسهم به في شهر رمضان عندما يرتاضون بالصوم ويدركون من الصوم ما رأينا من غاية تتسق مع الفكرة الجامعة في فهم الدين وفهم الحياة، ففي كل رمضان إذ الناس يشعرون من الصوم بما يشعرون به، يقرب القرآن إلى نفوسهم، ويستبينون منه الهدى والبينات من الهدى في تفسير الحياة وتدبير الحياة والقرآن في ذلك فرقان واضح، يتميز به تاريخ الإنسانية عصر عن أعصر قبله، وهذا معنى الفرق والتميز في كلمة الفرقان الذي فيه منه بينات.
على هذا الوجه يفهم أن نزول القرآن في رمضان هو تقريبه والإيناس به فيزيد الاستشفاف لهداه، وبيناته"1.
ولا أحسب أن هذا التعليل الذي جاء به الأستاذ الخولي مقنعا؛ إذ إن الهداية بالقرآن الكريم وتقريبه إلى الناس وأنسهم به ليس خاصا بشهر رمضان حتى يقصر عليه. زد على هذا أن النصوص كثية من الكتاب والسنة في نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، ولا يلزم اقتران النزول المادي بذكر المبدأ خذ مثلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} 2، {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} 3، {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} 4، {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} 5، {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 6، {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 7، والآيات الدالة على هذا كثير.
وفي حديثين آخرين تناول الأستاذ الخولي معنى الجوع وصلته بالصيام
__________
1 من هدي القرآن: في رمضان: أمين الخولي ص127-128.
2 سورة المؤمنون: الآية 24.
3 سورة فصلت: الآية 14.
4 سورة الأنعام: الآية 8.
5 سورة الأعراف: الآية 57.
6 سورة الحج: الآية 5.
7 سورة فصلت: الآية 39.(3/914)
وذلك تحت عنوان "عن فلسفة الجوع" ذكر فيه أن الجوع ليس طابع الصوم، وقال في الحلقة الثانية: "حدثتكم قبل عن الفقهاء وتعريفهم الصوم بالجوع وترك الأكل والشرب ... إلخ، وإدارتهم الشاهد العقلي لفرضية الصوم على فعل الجوع بالنفس وردهم حكمة الصوم إلى أثر الجوع أيضا، كما رأينا الصوفية يفلسفون هذا الجوع، فيسببون به كل خير كما ينسبون إلى شهوة الطعام كل شر، ويروون في فضل الجوع ما يرووون مما يعدونه حديثًا، ويذكرون مآثر العابدين في الصوم ومدته ونريد هنا أن نعرض هذه الآراء على هدي القرآن لنرى إلى أي مدى يؤيدها أو يرفضها فاستمع إليه حين يقول لقريش: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 1، فيعد نعمتي الإطعام والإيمان اللتين خلص بهما قريشا من نقمتي الجوع والخوف. وهو بمثل هذا يعد نعم الجنة. دارالنعيم المقيم والسعادة الكبرى فيقول لآدم: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 2، فالجوع والعري والظمأ والضحو -بالتعرض للشمس وحرها- كلها آلام يأمن منها من يكون في الجنة وإذا نعم أهل الجنة بألا يجوعوا فقد شقى أهل الجحيم في وصف القرآن بألا يجدوا إلا ما لا يشبع فقال عنهم: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} 3.
وعلى هذا ندرك أن الجوع والحرمان من الطعام لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي، وحسه الفني، الذي نفرغ إليه كما اتفقنا لمعرفة نظرة القرآن إلى الجوع.
ولعلنا نستطيع أن نقول؛ بعد الذي أنسنا إليه من هدي القرآن: إن ما اتجه إليه القوم من تلمس الآثار في فضل الجوع وفلسفتهم لذلك الجوع على ما سمعناها منهم ليس مما يرحب به هدي القرآن كثيرا وليس بكثير أن
__________
1 سورة قريش: الآية 3-4.
2 سورة طه: الآية 118-119.
3 سورة الغاشية: الآية 6-7.(3/915)
نقول: إن نظرية القوم في الجوع ليس ذات أساس سليم وهي غريبة عن الروح الإسلامية؛ بل إنها ليست في شيء من روح القرآن في مثل قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 1، أيها المهتدون بهدي القرآن: أحسبكم تقدرون ما قصد إليه هذان الحديثان عن فلسفة الجوع في عمل الفقهاء ورياضة الصوفية، وأن هذا الجوع ليس أفضل العبادة ولا مخ الطاعة بل نقول في طمأنينة: إن هذا الجوع ليس مخ الصوم نفسه، وليس من الصواب أن يكون الجوع طابع الصوم الظاهر عند المتكلمين في الحكمة وفضل الصوم وحبذا الصوم إمساكا عن جميع الأهواء والأخطاء والعوائد الواهمة والفاسدة؛ ليكون الصوم رياضة مُصلِحة للنفوس، مجدية على الفرد والجماعة مروضة على ما لا يسهل الارتياض عليه في سائر الأوقات؛ لضعف أو إهمال أو عدم رقابة، فيكون رمضان وسيلة إلى التقوى التي رجاها القرآن وختم بها آية هذا الفرض: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَْ} 2، 3.
وها أنت ترى الأستاذ يقترب أكثر من قبل إلى أسس منهجه، وإن كان الفاصل لا يزال بعيدا.
تراه في هذه المرحلة الثالثة يولي المفردات عناية خاصة، فينظر لكلمة النزول ويقارن بين ورودها في الآية التي يتناولها وبين ورودها في آيات أخرى ثم يستنبط المعنى الذي هداه إليه عمله ويظهره وإن خالف فيه كل من سبقه.
وفي الجوع نظر نظرة موضوعية وصل بها إلى أن الجوع ليس طابعا وليس هدفا بل هو لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي وحسه الفني، ويصل من هذا إلى أن الصوم إمساك عن جميع الأهواء والأخطاء والعوائد الواهمة والفاسدة؛ ليكون الصوم رياضة مُصلِحة للنفوس مجدية على الفرد والجماعة ... إلخ.
__________
1 سورة هود: الآية 52.
2 سورة البقرة: الآية 18.
3 من هدي القرآن في رمضان: أمين الخولي ص136-142 باختصار.(3/916)
المرحلة الرابعة: في أموالهم.. مثالية لا مذهبية
وهي أحاديث إذاعية تباعدت سنوها -كما يقول الخولي- من سنة 1944م، إلى سنة 1952م.
ولا يسعني بحال من الأحوال أن أستوفي عناصر المنهج من دراسة جاءت في حوالي 130 صفحة في عرض سريع كهذا؛ أقول هذا؛ عذرا لقصور مؤكد فإن قبل هذا مني عذرا فإني أقول:
إن الأستاذ الخولي قدم لأحاديثه هذه التي وصفها بأن في ثناياها إشارات متعددة للمعالم الكبرى لهذا المنهج الأدبي في تفسير القرآن -قدم لها بذكر طائفة من الآيات في موضوع المال من نحو قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1، و {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} 2، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4، وغير ذلك من الآيات، لكنه لم يرتبها حسب نزولها كما هو الأصل في المنهج الذي يدعو إليه.
ثم- وبعد ذلك نظر نظرة عامة عنوانها: "لمحات عامة" وهي التزام منه للأساس الذي دعا إليه وهو الدراسة العامة لكن هذه اللمحات العامة لم تأتِ من الزوايا التي دعا إلى النظر منها تمامًا بين ما يريده في هذه اللمحات فقال: "نريد لنتذكر ما يشف به الحس القرآني الكريم في ذكر القرض الحسنن إذ يسمى هذا الإعطاء والنضال في سبيل الخير العام قرضًا حسنًا وقرضا لله تعالى فلا يسميه منحا ولا تفضلا أو ما يشبه هذا"5.
__________
1 سورة النور: الآية 33.
2 سورة الحديد: الآية 7.
3 سورة آل عمران: 92.
4 سورة البقرة: الآية 254.
5 من هدي القرآن، في أموالهم: ص205.(3/917)
ثم عرض لبيان نظرة القرآن إلى هذا المال في أيدي الواجدين وصفته التي يعطونها به للفاقدين وأنهم إنما يعطونه حين يقرضونه إعطاء التارك المتجاوز غير المحدد لأجل للرد ولا الدائن بما يقرض.
ثم عرض الأستاذ الخولي لبيان غريزة حب التملك في الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة وآثارها الحسنة وآثارها السيئة، ثم بين هدي القرآن في حل تلك المشكلة الكبرى؟ وبين كيف عالجها القرآن وأن علاجه لم يكن دخولا في مشكلاته الاقتصادية أو مذهبيات اجتماعية يزيد بها الآراء رأيا والمذاهب مذهبا ويدعنا في حيرة لا نعرف الأصوب والأصلح؟ ووصف العلاج القرآني لهذه الفطرة نفساني دقيق يمسها مساسًا خبيرًا رشيدًا، فيجعل التدين والتأليه والمسئولية الآخرة عوامل فعالة في إحياء المضير وتقوية الإحساس بالكرامة وبالخير وتأسيس الشعور بالمسئولية على المراقبة الداخلية والرضا النفسي.
تلكم هي أبرز ملامح اللمحات العامة التي قدمها الأستاذ الخولي أمام دراسته تلك.
لكنه عاد في الحلقة التالية إلى "حب المال" وتحدث فيها عن نظرة القرآن إليه، وأن القرآن لم يعمد من ذلك إلى تجاهل أو كبت يصادم الواقع من قوة هذه الرغبة في البشر فهو يقول: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 1.
ثم بيَّن أن أصحاب القرآن يدركون أن هذا الهدى الخالد قد عرف للبشرية حبها للتملك، فأرضها لونا من الإرضاء يوفر ثقتها بما يوجهها إليه في تعلية هذه الغريزة ولا تحس معه بشك فيما يلقى إليها؛ لأنها قد عرفته مقدرا للواقع خبيرا به لطيفا في تناوله، فلتصغ إلى ما سيلقي إليها من حديث عن هذه الرغبة2 ... إلخ.
__________
1 سورة الفجر: الآيتين 19-20.
2 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص214.(3/918)
وتحت عنوان "بين القصد والجور"
أورد المؤلف قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر} 1.
تحدث فيه أيضا عن هذه الفطرة "حب التملك" وعما تحتاجه من مراقبة وملاحظة؛ لأنها حين تجنح إلى ما لا خير فيه تكون وبالًا على الفرد والأمة ومضيعة لما هي وسيلة إليه وسبب من العزة والغلبة والكرة والدولة فهي إذن بحاجة ماسة إلى التوجيه السديد وهذه المراقبة ليست يسيرة المؤونة ولا سهلة الممارسة.
وقد التفت القرآن التفاتا قويًّا لهذه الغريزة وهو يحد من شرها عند هذا الجموح في مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2، كما يسوق للعبرة حال من أفسد أمره ماله وولده في قوله عن نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} 3، وفي مثل قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} 4، بمثل هذه الحالة من فساد الحال بجموح نزعة التملك والتمول ينفي القرآن أن يكون المال والولد وسيلة إلى القربى والزلفى عند الله، فيقول: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} 5.
وبهذا القصد والاعتدال ينهى القرآن عن الإعجاب والاغترار بالأموال والأولاد: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 6,
__________
1 سورة الرعد: الآية 26.
2 سورة المنافقون: الآية 9.
3 سورة نوح: الآية 21.
4 سورة القلم: الآيتين 10-13.
5 سورة سبأ: الآية 37.
6 سورة التوبة: الآية 55.(3/919)
ففي هذه الآيات وما إليها لفت واضح إلى حال هذه النزعة البشرية للتملك والاقتناء إذا جنحت إلى الشر، ثم جعل الأستاذ أمين هذا الأساس ميزانا يزن به أقوال المفسرين.
ثم بين أن القرآن لفت إلى الرشاد والصواب في السلوك الذي يريده من أصحاب الأموال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 الآية، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2، ولن يكون الإنفاق بالليل والنهار، وفي السر وفي العلن إلا من مال كثير يجدُّ في سبيل جمعه أولئك المنفقون.
بهذه الآيات وأمثالها لفت القرآن أقوى لفت إلى خيرية غريزة التملك المهذبة الموفقة، فالقرآن بعد مسلكه النفسي في تقرير هذه الحقيقة عن الفطرة يشير إلى أنها في حاجة إلى رقابة مرشدة وتوجيه سديد.
ووضَّح في "تحويل نفسي" أن القرآن حين يقصد إلى تعلية غريزة التملك وتوجيهها لم يعمد قط إلى هذا القمع الكابت فلم يجعل المال لعنة، ولا الغنى خطيئة ولا طد الغني من ملكوت الله ولا وجه إلى الزهد المنقطع عن الحياة"؛ بل "فتح مسالك ومنافذ للتحويل النفسي ببعض ما سمعنا من توجبه لا يضمن ويبخل ولا يبدد ويسرف ولا يغتر ويستكبر ولا ينكر القيم ويجحد اليقين ولا يحسب المال هو الدنيا والآخرة جميعا ولا ينسى ما هو خير ثوابا وخير أملا3.
ثم تكلم الخولي عن "تعديل البيئة" فإذا كان أصحاب النفسيات يقدرون في تهذيب الغريزة تأثير التحويل النفسي، والتبديل النفسي، والاستعانة بغريزة على غريزة فإنهم يقدرون كذلك فعل المؤثرات الخارجية في هذا التهذيب،
__________
1 سورة التوبة: الآية 88.
2 سورة البقرة: الآية 274.
3 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص224، 226.(3/920)
ويقررون أن الإنسان يتأثر بما حوله من نُظُم وأوضاع يخضع لها، وفي الحق أن القرآن قد قدر الأثر النفسي للبيئة حينما قدر الوحدة الاجتماعية والصلة الوثيقة بين الفرد والجماعة، وفي الحق أيضا أن القول عن عمل القرآن في "تعديل البيئة" التعديل الخاص بتهذيب غريزة التملك قول تتسع آفاقه وينبسط مداه حتى ليقضينا النظر في أصول النظام المالي.
والقرآن حين يهذب غريزة التملك في أصحاب القرآن يجمع بين الواقعية والمثالية.
فهو حين يحمي الملكية الفردية واقعي لا يفجأ الناس بتجريدهم من أموالهم تجريدًا يفتر همتهم وينثي عزائمهم، ويقعدهم فلا يبتكرون، ولا يجدون ولا يذودون عن حماهم.
ثم هو حين يهز أسس هذه الملكية الخاصة يكون مثاليا يكف من غلواء الأغنياء، ويزلزل صلتهم بأموالهم ويجعلها للناس جميعا هم عليها أمناء مستخلفون وهي مال الله لا مالُهم.
بهذا التعديل الدينيّ الأساس، السماويّ الصبغة، الإلهيّ الروح يوقِّيهم أخطار الجموح في التملك والوصول إليه بأي وسيلة وإهدار الخلق والفضيلة"1.
و"استمع إليه حين يحدث كثيرا عن أداء هؤلاء الواجدين لما عليهم من واجبات الزكاة فيستعمل في ذلك كله كلمة من "الإيتاء" لا يغيرها في بضع وعشرين مرة استعمل فيها مادة واحدة هي: {آتَى} لم يغيرها على كثرة ما قال عن الزكاة فتراها في صورة متعددة: {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاة} 2، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} 4، {وَالْمُقِيمِينَ
__________
1 المرجع السابق، ص227-231 باختصار.
2 سورة الحج: الآية 41.
3 سورة البقرة: الآية 43.
4 سورة الأنبياء: الآية 73.(3/921)
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 1. وتقرأ هذا، فتسأل هل للكلمة حس فني خاص يجعل استعمالها موحيا بشعور نفسي يجده من ينصت لهذا القرآن المعجز؟
وإذا الجواب عن هذا السؤال: نعم إن المادة ترجع في أصل معناها جملة إلى الاستقامة في السير والسرعة في العطاء كما أن منها المجيء بسهولة ومن هنا تحس إيحاء التعبير القرآني حينما يخصها بالتعبير عن أداء الواجدين لزكاة أموالهم حين يؤدونها لأصحاب الحق فيها. ويؤدونها من مال الله الذي آتاهم وينفقون مما جعلهم مستخلفين فيه فما أقوى أن يشعر التالي المتأمل من قريب وفي قوة أن الحرص على استعمال هذه المادة في أداء الزكاة إنما هو التعبير عن إعطاء في سرعة واتجاه إلى الإعطاء يتم في سهولة"2.
وفي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 3. قال الخولي: "نشعر في مادة الأخذ بأنها التناول الجاد الحازم القوي تحسه واضحا في مثل قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} 4 {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} 4 {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} 5، فنستشف هذا الجد المتناول6 وبهذا يخرج الصدقة عن مفهوم الامتنان والتفضل، بل إن الإحسان في عامة استعماله هو ضد الإساءة: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 7، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 8، وبذلك ينفر الحس القرآني الدقيق دائما من أن يستعمل في ذكر المال المصلح لحياة الجماعة هذا الإحسان بمعنى الإعطاء المتفضل، والبذل المنعم والأداء المترفع
__________
1 سورة النساء: الآية 162.
2 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي، ص240-241.
3 سورة التوبة: الآية 103.
4 سورة النساء: الآية 102.
5 سورة الرحمن: الآية 41.
6 من هدى القرآن: في أموالهم، أمين الخولي، ص247,
7 سورة الإسراء: الآية 7.
8 سورة البقرة: الآية 83.(3/922)
المستعلي الذي يحز في القلوب ويهيج النفوس ويفسد ما بين المؤمنين وإنما المؤمنون إخوة"1.
وبين الخولي عناية القرآن بـ "الوسط" أي "الاتزان" في المال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} 2، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 3. وهذا الاتزان هو الأساس الأول والفكرة العامة في حل مشكلة المال حلًّا يوقِّي الحياة وَيْلَاتِ الآراء الخاطئة4.
ذلكم عرض سريع وسريع لما جاء به الأستاذ أمين الخولي مما سماه التفسير الأدبي للقرآن الكريم وجعل موضوعه "في أموالهم" وعددناه المرحلة الرابعة من خطوات التفسير التي خطاها الأستاذ الخولي في سبيل تطبيق المنهج الذي دعا إليه.
وسبق القول مني أن الأستاذ الخولي قدم لموضوعه هذا بآيات في موضوع المال، وأنه لم يرتبها حسب النزول وهذه مخالفة للمنهج الذي يدعو إليه.
ثم قدم دراسة عامة لهذه الآيات لكنها كما قلنا دراسة غير شاملة وغير وافية بما أوجبه الأستاذ للدراسة الأدبية.
ثم نظر في هذه الآيات وغيرها نظرة شاملة. وقلَّ نظره في مفرداتها -وهو تجاوز آخر لعناصر منهجه ثم نظر في معانيها المركبة لا ينظر إليها آية آية بل نظر إليها جميعا مفردا كل نظرة بحديث.
ولست أوافق الدكتور كامل علي سعفان في التماسه العذر للأستاذ أمين الخولي في مخالفاته هذه وقصوره عن تطبيق منهجه في أحاديثه تلك بأنها طبيعة أحاديث الإذاعة5 باعتبار أن الأستاذ الخولي كان يبثها عبر الإذاعة عند كتابتها.
__________
1 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص252.
2 سورة الفرقان: الآية 67.
3 سورة الإسراء: الآية 29.
4 من هدى القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص257-259 باختصار.
5 المنهج البياني في تفسير القرآني الكريم: كامل سعفان، ص176.(3/923)
لا أوافقه لأني أرى أن عناصر المنهج كلها ملائمة للإذاعة لا تنبو عنها ولا تثقل بها؛ خاصة أنه أحيانا يتحدث عن المفردات -مثلا- في موضع لكنه في مواضع أخرى يهملها. ولا أعرف سببا لذلك. والله أعلم.. ومن الأستاذ إلى تلميذته.(3/924)
عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ":
تلقت علوم الإسلام والعربية على مناهج الأزهر الشريف على والدها وزملائه الشيوخ بالمعهد الديني الأزهري بدمياط وتقدمت من المنزل لامتحان كفاءة المعلمات سنة 1929م ثم الشهادة العامة الابتدائية سنة 1931م والكفاءة والثانوية سنة 1932م والبكالوريا أدبي سنة 1934م دون أن تلتحق بأية مدرسة لهذه المراحل.
ثم تابعت الدراسة الجامعية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة حتى نالت:
الليسانس الممتازة في اللغة العربية سنة 1939م.
الماجستير في الآداب سنة 1941م.
الدكتوراه في الآداب، تخصص نصوص سنة 1950م.
وتدرجت في المناصب الجامعية من معيدة بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة سنة 1939م ومدرس مساعد بالقسم سنة 1942-1944م إلى مدرس أ. بجامعة عين شمس سنة 1952م وأستاذ مساعد سنة 1957م ثم أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها سنة 1962م حتى استقرت أستاذا للتفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة القرويين سنة 1970 إلى اليوم.
مؤلفاتها:
قدمت المؤلفة إلى المكتبة العربية نحو أربعين كتابا؛ منها: في الدراسات القرآنية والإسلامية:
1- التفسير البياني للقرآني الكريم: في جزءين "طبع خمس طبعات".(3/924)
2- الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق "طبعتان".
3- مقال في الإنسان "دراسة قرآنية".
4- القرآن والتفسير العصري، سلسلة اقرأ "335".
5- القرآن وقضايا الإنسان: "ست طبعات".
6- الشخصية الإسلامية "دراسة قرآنية" "خمس طبعات".
7- مع المصطفى عليه الصلاة والسلام "أربع طبعات".
8- تراجم سيدات بيت النبوة في "خمسة أجزاء" "خمس عشرة طبعة".
9- الإسرائيليات في الغزو الفكري.
10- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث "نص محقق".
11- محاسن الإصطلاح للسراج البلقيني "نص محقق".
في الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية لها عدد من المؤلفات أذكر منها:
1- لغتنا والحياة.
2- تراثنا بين ماضٍ وحاضر.
3- الخنساء.
4- أبو العلاء المعري.
5- الحياة الإنسانية عند أبي العلاء.
6- مع أبي العلاء في رحلة حياته.
7- قراءة جديدة في رسالة الغفران.
8- الغفران دراسة نقدية.
9- رسالة الغفران لأبي العلاء "تحقيق".
10- أرض المعجزات.
ولها غير ذلك من المؤلفات والبحوث وأشرفت على عدد كبير من الرسائل العلمية في مختلف البلدان العربية وشاركت في عدد من المؤتمرات1.
__________
1 أخذت هذه الترجمة من "بيان وتقرير عن الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن المرشحة من جامعة عين شمس لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1403" ولم تظفر بها.(3/925)
تفسيرها:
تصف بنت الشاطئ الأصل في المنهج الذي تلقته عن أستاذها بقولها: "والأصل في منهج التفسير الأدبي كما تلقيته عن أستاذي هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن عنه ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة، في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعا من سياقه العام في القرآن كله مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه أو استجلاء ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية"1.
وإذا ما أردنا أن نستقرئ تفسير الدكتورة عائشة منهجًا فيه فإنا سنجد له معالم واضحة، أهمها أن الأستاذ الخولي جعل "المقصد الأول للتفسير أدبيا محضا صرفا" كما نقلناه عنه وجاءت تلميذته لتؤكد هذا بقولها: "إن الذين يعنون بدراسة نواحٍ أخرى فيه -أي في القرآن- والتماس مقاصد بعينها منه لا يستطيعون أن يبلغوا من تلك المقاصد شيئا دون أن يفقهوا أسلوبه الفذ ويهتدوا إلى أسراره البيانية كي لا يغيب عنه شيء من دلالاته فسواء أكان الدارس يريد أن يستخرج من القرآن أحكامه الفقهية أو يستبين موقفه من القضايا الاجتماعية أو اللغوية أو البلاغية أم كان يريد أن يفسر آيات الذكر الحكيم تفسيرا عاما على النحو الذي ألفناه في كتب التفسير فهو مطالب بأن يتهيأ أولا لما يريد ويعد لمقصده عدته من فهم مفردات القرآن وأساليبه فَهْمًا يقوم على الدرس المنهجي الاستقرائي ولمح أسراره في التعبير"2.
وتأتي بعد ذلك قواعد منهجها في التفسير، وأهمها3:
__________
1 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن، ج1 ص18.
2 المرجع السابق، ج1 ص15.
3 استفدنا جمع هذه القواعد مما كتبه الدكتور كامل سعفان في كتابه "المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم"، ص115-119.(3/926)
أولا- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
وقررت هذا في مقدمة تفسيرها ورتبت عليه نظرتها إلى أسباب النزول حيث قالت: "إن المرويات في أسباب النزول موضع اعتبار في فهم الظروف التي لابست نزول الآية مع تقدير أن الصحابة الذين عاصروا نزولها ورويت عنهم أقوال فيها ربطها كل منهم بما وهم أو فهم أنه السبب في نزولها وهذا هو معنى قول علماء القرآن: إن المرويات في أسباب النزول يكثر فيها الوهم، ونقدر معه أن السببية فيها ليست بمعنى العلية التي لولاها لما نزلت الآية وأن العبرة في كل حال بعموم اللفظ المفهوم من صريح نصها لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه"1.
أما المرحلة التطبيقية عندها فهي تورد سبب النزول ثم تعقب عليه بقاعدة الأصوليين هذه وتعلق عليه، وخذ مثلا لذلك ما قالته في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، قالت: "وللمفسرين في الإنسان قولان: أنه لعموم الجنس أو أن "أل" للعهد مرادا بالإنسان جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ولا نقف عند ما اختلفوا فيه فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية، والسياق ظاهره لا يخص الإنسان بفلان أو بآخر والتعميم فيه مستفاد صراحة من الإطلاق ثم استثناء {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 3.
فهي كما ترى لا تكتفي بإيراد القاعدة الأصولية بل تحرر سبب رفضها، ولكنها أحيانا تكتفي بإيراد القاعدة خذ مثلا لذلك ما قالته في ما ورد من سبب نزول قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين} 4، قالت: "وقالوا في أسباب
__________
1 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2، ص9.
2 سورة العصر: الآية 2.
3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص81.
4 سورة الماعون: الآية الأولى.(3/927)
النزول أنها نزلت في: أبي سفيان أو العاص بن وائل السهمي أو الوليد بن المغيرة، أو أبي جهل وقال ابن عباس: "نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة" والعبرة على كل حال بعموم اللفظ"1.
وهذا الأخير هو أكثر عملها في أسباب النزول تكتفي بإيراد القاعدة.
ثانيًا- استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وُرُودِه:
وقد بسطت هذا الأصل في مقدمة تفسيرها حيث قالت عنه: "والمنهج المتبع هنا هو الذي خضعت له فيما قدمت من قبل، بضوابطه الصارمة التي تأخذنا باستقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته، وإذ نضع معاجم العربية وكتب التفسير في خدمة هذا المنهج، فإننا نحاول أن ندرك حس العربية للألفاظ التي نتدربها من النص القرآني عن طريق لمح الدلالة المشتركة في شتى وجوه استعمالها لكل لفظ وواضح أنه لا سبيل إلى دراسة أي نص في لغة ما دون فقه لألفاظه في لغته، ثم يكون للنص بعد ذلك أن يحدد لكل لفظ دلالته الخاصة من شتى الدلالات المعجمية أو يضيف إليها ملحظا ينفرد به"2.
ثم توضح بعد ذلك أن القول بدلالة خاصة للكلمة القرآنية لا يعني تخطئة سائر الدلالات المعجمية وإنما يعني أن لهذا القرآن معجمه الخاص وبيانه المعجز فلا يعترض معترض بأن العربية تعرف صيغا ودلالات أخرى للكلمة.
وقد اعتنت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بهذا الأصل عناية كبيرة فجاء تفسيرها محتويا على معجم لألفاظ السور التي تناولتها بالتفسير، بل إن عنايتها تلك جاءت فيما أعتقد على حساب فكرة الموضوع التي طال ما دعت إليها كما سيأتي بيانه. إن شاء الله.
وهي حين تدرس كلمة قرآنية تبذل وسعها في استقراء معانيها في القرآن ومدلولاتها حتى تصل حسب فهمها إلى ما ترى أنه الصواب ولا شك أنها قد تصيب وقد تخطئ.
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص185.
2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص7-8.(3/928)
تقول الدكتور عائشة في معنى الساعة من قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} 1: "ولفظ ساعة في العربية يعني الجزء من الوقت، وأضيف إليه حديثا استعمالها في جزء محدد منه بستين دقيقة.
ويستعمل معرفا بـ "أل" للعهد في الوقت الحاضر فيقال: أزورك الساعة أي الآن، ثم غلب على الساعة استعمالها في الآلة الضابطة للوقت، بعد اختراعها.
لكن للقرآن استعماله الخاص للساعة، فهو لا يستعملها نكرة إلا في برهة من الوقت قصيرة دون تحديد لها بالدقائق والثواني:
{يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} . [الروم: 55] .
{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] ، و [الأعراف: 34] ، و [سبأ: 30] ، و [يونس: 49] .
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس: 45] .
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] .
أما حين يستعمل القرآن الساعة معرفة بـ "أل" فتلك دائما هي ساعة الآخرة، ولم يتخلف هذا في أي موضع من المواضع الأربعين التي: جاءت الساعة فيها في القرآن الكريم.
والملحظ البياني في هذا الاستعمال المطرد أن هذه الساعة تنفرد دون ساعات الزمان كله بأنها الحاسمة الفاصلة التي يتغير فيها نظام الزمن وسير الكون، لما يحدث فيها من حدث هائل خطير وهو معنى يقوى ويتضح بإسناد القيام والإتيان والمجيء إلى هذه الساعة المتميزة الحاسمة دلالة على بروزها وشخوصها وفاعليتها.
{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31] .
{أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَة} [الأنعام: 40] .
__________
1 سورة النازعات: الآية 42.(3/929)
{أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [يوسف: 107] ، ومعها: [الحج: 55] ، و [الزخرف: 66] ، و [محمد: 18] .
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة} [الروم: 12، 14، 55] ، ومعها [المؤمنون: 46] ، و [الجاثية: 27] .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] .
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] .
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36] .
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} 1 [فصلت: 50] .
وبمثل استقرائها للفظ "ساعة" و"الساعة" في القرآن الكريم كان استقراؤها لألفاظ أخرى كثيرة، منها "يتيما" في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} 2 لكنها هنا زادت عن ذاك بإيراد أقوال المفسرين في المراد باليتيم قالت: "ففي اليتم والإيواء قال "الرازي": إنه من قولهم درة يتيمة، والمعنى: ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير، فآواك أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب، وقرئ: "فَأَوَى" بالتخفيف؛ أي رحم.
ويقول الزمخشري، محقًّا: "إن تفسير يتيم هنا بالدرة اليتيمة من بدع التفاسير" وإنما اليتم عنده فقدان الأب، ومثله أبو حيان في البحر، والشيخ محمد عبده.
وقال "الراغب" في المفردات: اليتم في آية الضحى انقطاع الصبي من أبيه قبل بلوغه.
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج1 ص144-145.
2 سورة الضحى: الآية 6.(3/930)
وهذا هو الأصل في اليتم لغة، ثم قيل لكل منفرد: "يتيم ومنه الدرة اليتيمة أي المنفردة".
ثم بعد أن ساقت الدكتورة هذه الأقوال للمفسرين قالت: "ونحتكم إلى القرآن، فنراه استعمل اليتيم، مفردًا ومثنى وجمعًا ثلاثا وعشرين مرة كلها بمعنى اليتم الذي هو فقدان الأب ويلحظ فيه اقتران اليتم بالمسكنة في عشرة مواضع:
البقرة: 93، 176، 215، والنساء: 7، 35، والأنفال: 41، والحشر: 7، والدهر: 8، والفجر: 17، والبلد: 15.
كما ذكر فيه من آثار اليتم: الجور، وأكل المال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، ومعها الأنعام: 152، والإسراء: 34، والنساء: 2، 6. وعدم الإكرام: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17، 18] .
والدع: الذي هو الدفع العنيف مع جفوة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1-3] . والقهر، في آية الضحى: 9.
ثم قالت الدكتورة عائشة بعد هذا: "وأمام هذا التتبع لا نملك إلا أن نستبعد تفسير اليتم بغير ذاك الذي في القرآن وقد ولد محمد يتيما، ثم تضاعف يتمه بموت أمه وجده، لكنه تعالى نجاه من آثار اليتم التي هي: بشواهد من آيات الكتاب الكريم: الدع، والقهر، والانكسار، والجور، مما كان مظنة أن يكسر نفسه، فلا يتطلع إلى بعيد الآفاق، فذلك هو قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ، ترشيحا بهذا الإيواء الإلهي -غير المقيد بمتعلق- إلى ما بعده من نعمة الهداية بعد حيرة، وتهيئة لحمل الرسالة الكبرى"1.
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص43-44.(3/931)
وبهذا ترفض الدكتورة عائشة ما أوردته من تفسير الرازي لليتم، وتقصره على فقدان الأب.
ومثلا ثالثا نظهر به مدى عناية الدكتورة باستقراء ألفاظ القرآن ومدى انتشاره في تفسيرها فهي تفعل ذلك حتى ولو لم يرد اللفظ في القرآن إلا مرة واحدة كيف؟! خذ مثلا كلمة "المقابر" من قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 1 قالت: "وفي المقابر سر بياني آخر لفتني إليه أن المقابر لم يأتِ قط في غير آية التكاثر، على حين جاءت "القبور" خمس مرات، كما جاء "القبر" مفردا في المخلفين الذين قعدوا عن الخروج للجهاد مع الرسول: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] .
وقد تجد الصنعة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملاءمة صوتية للتكاثر، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحس معهم فيها نسق الإيقاع وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في الاستعمال القرآني للفظ المقابر في آية التكاثر؟
الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي، ملحظا بيانيا يتصل بالمعنى: فالمقابر جمع مقبرة وهي مجتمع القبور واستعمالها هنا ملائم معنوي لهذا التكاثر، دالٌّ على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فان ... هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمنتهم. وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم بها لفظ "القبور" بما هي جمع لقبر. فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني "المقابر" على "القبور" حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون وحين يلفت إلى مصير هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين.
__________
1 التكاثر: 1-2.(3/932)
فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولًا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني، معزولا عن الاستعمال القرآني الذي لم يجئ بالمقابر هنا لمجرد المشاكلة اللفظية والرنين الصوتي، وإنما هي الملاءمة المعنوية أيضا بين التكاثر والمقابر بما فيهما من سعة وشمول وعموم وهو هو الإعجاز البياني لا يقوم فيه لفظ القبور مقام المقابر بما تلفت إليه من مصير للحشد والتكاثر، وبما تضع أمام المتكاثرين من عبرة رادعة زاجرة حين تصدمهم بذكر المقابر إثر {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} 1.
وكون الدكتورة عائشة تستنبط هذا مع أن اللفظة هذه لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة يدل على مدى حرصها على جلاء معاني المفردات جلاءا لا ينظر صاحبه إلى اللفظة المفردة مجردة من مثيلاتها أو حتى من جملتها.
ومثلا أخيرا من عنايتها بالمفردات نذكره لتأكيد اهتمامها في ذلك، ذلكم تفسيرها لـ "السعي" في قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 2، أوردت المعنى اللغوي أولًا: "والسعي في اللغة المشي، لحظ فيه أن الساعي يبتغي عملا أو يتجه إلى مقصد يدأب له، فكان السعي بمعنى العمل مع القصد والدأب".
ثم أوردت الاستعمال القرآني فقالت: "وفي الاستعمال القرآني للمادة نجد الدلالة الأولى للسعي بمعنى: المشي والحركة على الحقيقة أو التخييل والمجاز، في آيتي "طه" عن عصا موسى ألقاها: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} 3، وحبال السحرة وعصيهم ألقوها: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 4، وفي آيتي التحريم والحديد، في نور المؤمنين: {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِم} يوم القيامة، كما نجد دلالة السعي على العمل مع الدأب في آيات: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] ،
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص207-208.
2 سورة الليل: 4.
3 سورة طه: 20.
4 سورة طه: 66.(3/933)
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] ، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] .
ودلالة القصد أوضح في آيات:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] .
{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33، 64] . وواضح أن السعي في آية الليل هو من العمل الكسبي مع القصد والدأب ومثله السعي في آيات "الإنسان: 22، النجم: 40، الغاشية: 9"1.
ولا أظن الدكتورة عائشة مصيبة في تصنيفها آية البقرة السالفة "114"، وآيتي المائدة "33، 64" على أن السعي فيهما بمعنى القصد، ذلكم أن الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعوا في خرابها، لم يقفوا عند درجة القصد وإنما جاوزوها إلى العمل وزادوا عليه الدأب. وقل مثل ذلك في الذين يسعون في الأرض فسادا؛ فإنهم جاوزوا القصد إلى العمل والدأب عليه فلا يصح أن يجعل هذا معنى للسعي هنا.
ولعل حماسها الشديد لتقرير هذا الأساس في التفسير أوقعها من حيث لا تدري في أنواع ثلاثة من الأخطاء:
أولها- القصور في الاستقراء:
وذلك بأن تنظر في بعض الآيات المشتركة في لفظ واحد وتقرر المعنى على ضوئها ويفوتها أن تنظر في آيات أخرى مشتملة على اللفظ ذاته، ولو أدركت ذلك ونظرت فيه لاختلف الحكم الذي وصلت إليه أولا.
ومن الأمثلة على ذلك أنها في تفسيرها لقوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج2 ص104.(3/934)
سَجَى} 1: "ترددت في تأويله بـ "أقسم بالضحى وأقسم بالليل إذا سجى"، قالت: "لأن القرآن الكريم لا يستعمل القسم مسندًا إلى الله سبحانه إلا مع لا النافية، باستقراء كل آيات القسم في القرآن، فكان لي من هذا الاستقراء ما يؤذن بأنه سبحانه في غير حاجة إلى القسم"2.
وإذا نظرنا في آيات القسم هذه التي تقول الدكتورة عائشة أنها لم تجد القسم فيها مسندا إلى الله إلا مع لا النافية وجدنا الأمر غير ذلك فهناك مواضع أقسم الله بها بنفسه من غير أن ينفيها بـ "لا"، فمن ذلك قوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} 3، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4، وقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 5. فهذه كلها أقسام مسندة إلى الرب وهو الله سبحانه وتعالى وغير منفية بـ "لا"، وعلى هذا يظهر قصورها في الاستقراء.
ونذكر مثلا آخر على ذلك عندها أنها ممن يرفض القول بالترادف اللغوي وترفض تفسير القسم بالحلف وتقول: "وفي القاموس: حلف: أي أقسم
لكن التتبع للاستعمال القرآني يمنع هذا الترادف: فلقد جاءت مادة "حلف" في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعا كلها بغير استثناء في مقام الحنث باليمين وأكثرها مسند إلى المنافقين"6، ثم ساقت المؤلفة الآيات تلك وقالت: "أما القسم فيغلب مجيئه في الأيمان الصادقة"6.
__________
1 سورة الضحى: 1، 2.
2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص25.
3 سورة مريم: 68.
4 سورة الحجر: 92.
5 سورة الذاريات: 23.
6 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن: 1 ص173-174.(3/935)
ولنا معها وقفة عند آيات من القرآن الكريم جاء فيها القسم في مقام الحنث باليمين وهو خلاف ما توصلت إليه، نذكر من هذه الآيات:
قوله تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} 1.
وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوت} 2.
وقال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} 3.
وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} 4.
وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} 5.
وقال سبحانه: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 6.
وقال سبحانه: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} 7.
هذه بعض الآيات في القسم التي جاءت في مقام الحنث، صحيح أن الدكتورة عائشة عدت هذا النوع وقالت: "وحين يسند القسم في القرآن إلى المجرمين فإنهم في ظنهم غير حانثين"8.
__________
1 سورة المائدة: 53.
2 سورة النحل: 38.
3 سورة الروم: 55.
5 سورة الأنعام: 109.
6 سورة الأعراف: 49.
7 سورة إبراهيم: 44.
8 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص174.(3/936)
لكن هل يصح القول أنهم يظنون أنهم كذلك في آية المائدة السالفة:
{أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} ، لا شك أنهم وهم يقسمون يعلمون أنهم حانثون؛ لأن ما أقسموا عليه ليس في درجة الظن، بل حقيقته بينة في قلوبهم.
وهل يصح ذلك أيضا في آية سورة إبراهيم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} ، فهل كانوا يعتقدون حقيقة الخلود؟! أم أنهم كانوا يقسمون وهم يعلمون كذبهم وحنثهم، عنادا واستكبارا.
وبهذا الذي قلناه وغيره يظهر لنا أن الحلف والقسم على معنى سواء من ناحية الحنث وعدمه، ولا تصح هذه التفرقة التي توصلت إليها الدكتورة عائشة.
وتخطئ الدكتورة عائشة -وكلنا يخطئ ويصيب- أحيانا بعد أن تستقرئ آيات القرآن في لفظة واحدة لكنها والحماس يدفعها لا تصيب البيان الصحيح لبعض الآيات وذلك كالمثال السابق مباشرة، حيث ظنت أن المجرمين في ظنهم غير حانثين بالقسم، فبنت على ذلك ما بنت.
ومنه المثال الذي ذكرته قبل صفحات في استقرائها لدلالة "السعي" في القرآن الكريم.
ومنه أيضا ما قالته في معنى "مثقال" في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 1، فقد ذكرت أن "مثقال" وردت في القرآن الكريم ثماني مرات في اثنتين منها أضيف مثقال إلى حبة من خردل. ثم رجحت أن المقصود بمثقال حبة من خردل هنا ليس خفة الوزن وإنما ضآلة الحجم. وفي المرات الست الباقية أضيف "مثقال" إلى ذرة رجحت في اثنتين منها "ضآلة الحجم"، ثم قالت: "على حين تتعين دلالة "مثقال ذرة" على خفة الوزن في الآيات الأربع2 الباقية.
__________
1 سورة الزلزلة: 7.
2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص100-101.(3/937)
وحين ننظر في استقرائها هذا فإنا نجدها جعلت المراد بـ "مثقال" في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 1، ضآلة الحجم وليس خفة الوزن، ولا أدري ما الذي جعلها تحمله على ذلك مع أن الآية تتحدث عن وضع الموازين لوزن الأعمال، فكان هذا قرينة على أن المراد بالحبة من خردل الوزن، وليس الحجم.
وفي مقابل هذا جزمت الدكتورة عائشة بأن المراد بـ "مثقال" في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 2، جزمت بغير قرينة بأن المراد خفة الوزن مع أنه قابل لضآلة الحجم أيضا.
والأمثلة على أخطائها في الاستقراء كثيرة نكتفي بما ذكرنا منها.
ثانيها- تحديد المعنى قبل الاستقراء اللغوي:
وقد سبقني بإدراك هذا الدكتور كامل سعفان، حيث قال: "إن الدكتورة عائشة تمضي في الاستقراء اللغوي بعد تحديد المعنى فيبدو عملا لا مبرر له"3.
والأمثلة أيضا على هذا كثيرة.
في تفسير قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 4، حددت معنى الطغيان أوَّلًا، ثم اتجهت إلى الاستقراء ثانيا، فقالت: "والطغيان تجاوز الحد، ويستعمل لغة في الماء يتجاوز الحد إلى الخطر، ومنه في القرآن: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 5، وفسروا الطاغية كذلك بالطوفان في قوله تعالى:
__________
1 سورة الأنبياء: 47.
2 سورة سبأ: 22.
3 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان ص121.
4 سورة النازعات: 17.
5 سورة الحاقة: 11.(3/938)
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَة} 1.
على أن أكثر استعماله القرآني: في تجاوز الحد في العصيان والكفر وهو المعنى القريب في آيات ذكرت المؤلفة عددًا منها، ثم قالت: كما جاء بمعنى تجاوز الحد في التجبر والعتو والظلم في آيات"2.
وهي كما ترى حددت المعنى أولًا، ثم استقرأت الآيات ثانيا ووصلت بها إلى أن أكثر استعماله القرآني في تجاوز الحد وهو ما ذكرته أولًا فبدا عملها لا مبرر له.
ومثلا آخر تفسير الشَّدّ حيث قالت في: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد} 3:
"الأصل في الشد قوة العقد والوثاق والإحكام ماديا كما في آية محمد: 4، ومعنويا في مثل آيات: يونس: 88، الدهر: 28، طه: 31، القصص: 35، ص: 20 كما يعبر القرآن عن بلوغ الرشد والقوة بصيغة بلغ، أو يبلغ أشده في مثل آيات: الأنعام: 152، الإسراء: 34، يوسف: 22، القصص: 14، غافر: 67، الأحقاف: 15، الكهف: 82، الحج: 5.
أما صيغة شديد فجاءت في القرآن في نحو أربعين موضعا4.
وهي هنا أيضا -كما ترى- قدمت تحديد المعنى على الاستقراء وهو خلاف الأصل في هذا المنهج، لكنها والحق يقال كثيرا ما تلتزم الأصل في ذلك.
ثالثها- اعتدادها الشديد باستقرائها:
وظهر هذا بصور متعددة وأنماط مختلفة منها:
1- أنها تتيه بما توصلت إليه من معنى لكلمة قرآنية على المفسرين وأنها لم تقرأ لأحد منهم مثل هذا، وكثيرا ما تفعل هي ذلك.
__________
1 سورة الحاقة: 5.
2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص128.
3 سورة العاديات: 8.
4 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص162-163.(3/939)
2- تقلل وتستصغر بصيغ متعددة متنوعة من شأن المفسرين السابقين وما توصلوا إليه من آراء.
3- جزمها بصحة ما وصلت إليه وأنه هو المتعين وتخطئتها كل قول سواه.
4- أنها تضع نفسها في مقابل المفسرين، فتذكر إجماعهم على معنى أو تسوق القول منسوبا إليهم بصيغة الجمع. ثم تذكر مقابل ذلك رأيها المخالف لما جاءوا به.
هذه أهم صور اعتدادها برأيها أذكرها هنا إجمالا وللتفصيل موضعه عند بيان رأيي في تفسيرها إجمالا وإنما ذكرته هنا؛ لأن جهودها في استقراء ألفاظ القرآن هي مبعث ذلك وسببه، بل إنا نجده في هذه المواضع التي تستقرئ بها كلمة أو كلمات قرآنية.
هذه -فيما أرى- أهم الأمور التي أوقعها فيها حماسها الشديد لتقرير أساس "الاستقراء لألفاظ القرآن الكريم عند التفسير".
ولئن أطلت الحديث عن هذا الأساس فلأنه جوهر منهجها وأصله؛ بل عموده الذي يقوم عليه. ولعلي بعد هذا أذكر الأساس الثالث الذي يقوم عليه تفسيرها.
ثالثا- الاهتمام بدلالة السياق:
وهي سمة قصرتها المؤلفة على منهجها الموضوعي وقطعت السبيل على المناهج الأخرى للاهتداء إلى تفسير القرآن إن لم تسلك منهجها وأنهم لم يبلغوا مبلغا لذلك.
قالت: "والأصل في منهج التفسير الأدبي كما تلقيته عن أستاذي هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن عنه ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعًا من سياقه العام في القرآن كله مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه، أو استجلاء(3/940)
ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية ويلتزم في دقة بالغة قولة السلف الصالح: "القرآن يفسر بعضه بعضا" -وقد قالها المفسرون ثم لم يبلغوا منها مبلغا- ويحرر مفهومه من كل العناصر الدخيلة والشوائب المقحمة على أصالته البيانية"1.
وإذا نظرنا إلى الجانب التطبيقي عندها وجدنا مجموعة من الأمثلة منها:
"العقبة" في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة} 2 قالت: "لكن ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ أتعب المفسرون أنفسهم في تأويلها: ففي الطبري عن الحسن: عقبة والله شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان، وقريب منه ما قاله الزمخشري ونقله الشيخ محمد عبده، وقيل: العقبة جهنم أو جبل فيها إلى أن قالت الدكتورة: والواقع أننا في غير حاجة إلى شيء من هذا ومثله، فالقرآن نفسه قد تولى بيان "العقبة" حين أتبعها بالسؤال اللافت: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فهذا بيان مفصل للعقبة التي يجب أن يقتحمها الإنسان بما تهيأ له من وسائل المكابدة والنضال والإدراك والتمييز وهو كذلك بيان لأوضاع ظالمة نشأت عن غرور القادرين وطغيان أصحاب المال في "هذا البلد" فليس ما كان المجتمع المكي يعانيه من مآسي الرق ومن التصدع الطبقي ومن البغي والاستبداد إلى حد انتهاك حرمة الرسول في البلد الحرام وليس هذا كله إلا أثرا لطغيان هذا الإنسان الذي غرته قوته فاستعبد مخلوقين مثله وملك رقابهم بأغلال الاسترقاق المهين، كما زين له جاه الثراء أن يباهي بأنه أهلك مالا لبدا، وعلى مقربة منه يتيم محتاج أو مسكين لاصق بالتراب؛ أوضاع مريضة استقرت على مر الأجيال وتوارثها "هذا البلد" ولدًا عن والد وطبقة في إثر طبقة، وكان الإنسان جديرا بأن يقاوم طغيان المال وغرور القوة، وأن يحتمل أعباء البذل والإيثار من أجل خير
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص18.
2 سورة البلد: الآية 11.(3/941)
الجماعة على ما في ذلك من مشقة وعناء"1.
ومثلا آخر "الكبد" في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد} 2 فهي تذكر أن المفسرين لم يختلفوا في أن معناها في آية البلد هو: الشدة لكن أقوالهم شتى في تحديد هذه الشدة، ثم ساقت المؤلفة عددا من الأقوال وعقبت عليها بقولها: "ما نظن المكابدة هنا تنصرف إلى ما ذكروه من مشاق الحمل والنمو والعيش والموت والحساب كما نأبى أن يكون "الكبد" في الآية هو مرض القلب وفساد الباطن كما قال الزمخشري".
ثم أبدت الدكتورة رأيها: "وإنما الكبد فيما نرجح هو ما هُيِءَ له الإنسان بفطرته من احتمال المسئولية ومشقة الاختيار بين الخير والشر".
وعللت ذلك بـ "ووجه ارتباطه بالقسم قبله، بحال أهل مكة وما اختاروا لأنفسهم من استحلال أذى الرسول وهو مقيم بالبلد الحرام واضح ظاهر
وهو أوضح ارتباطا بالآيات بعده من ضلال الغرور بهذا الإنسان الذي وهبه الله وسائل الإدراك والتمييز وبيَّن له معالم الطريقين: الخير والشر"3.
وفي تفسير النازعات لم تطمئن الدكتورة إلى ما اطمأن إليه أكثر المفسرين كما تقول من أنها الملائكة تنزع الأرواح واختارت أنها الخيل وما نطمئن إليه من تفسير النازعات بالخيل يوجه الآيات بعدها في يسر وبلا تكلف فهي تنزع في عدوها وتغرق فيه وهو الملحظ نفسه في السبح الذي يجمع له السابح قوته وبهذا النزع السابح تسبق إلى الغاية فتدبر من الأمر ما أجمعت له في معاناة"4.
رابعًا- القرآن هو القاعدة:
ففي التفسير تقول: "نحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص192-193.
2 سورة البلد: الآية 4.
3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص185.
4 المرجع السابق: ج1 ص109.(3/942)
ما يحتمله نصا وروحا ونعرض عليه أقوال المفسرين فنقبل منها ما يقبله النص، ونتحاشى ما أقحم على كتب التفسير من مدسوس الإسرائيليات والتأويلات المذهبية"1.
وليس الأمر كذلك في التفسير بل في كل قاعدة لغوية أو بلاغية حيث تقول: "يكفي أن يأتي التعبير في القرآن معجزة البيان؛ ليكون هو الشاهد والحجة والأصل الذي تعرض عليه كل قاعدة لغوية أو بلاغية لا أن نحكم فيه قواعد من صنع النحاة والبلاغيين وأكثرهم طارئون على العربية لم يكسبوها ذوقا وسليقة وإن أجادوها علما وصنعة"2.
ولهذا فهي ترفض كثيرا من تأويلات المفسرين؛ لتوافق قواعد النحو ولا يسعنا إلا أن نأتي ولو بمثال واحد لهذا.
ففي تفسير قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 3 قالت: "وفي الصنعة الإعرابية: أثار بعض المفسرين هنا مشكلات ما أغنى البيان القرآني عنها: القاعدة النحوية عندهم أن اللام في "سوف" إن كانت للقسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، وإن كانت اللام للابتداء فإنها لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر".
لا بد إذن من تكلف واحتيال؛ لتسوية الصنعة!
وقد رأى الزمخشري أنه: "لا بد من تقدير مبتدأ محذوف وأن يكون أصل العبارة: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى وكذلك قال أبو حيان: "إن اللام هنا لام ابتداء أكدت مضمون الجملة على إضمار مبتدأ؛ أي: ولأنت سوف يعطيك.
وندرك جور الصنعة الإعرابية على هذا البيان العالي إذا احتكمنا إلى حس
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص10.
2 المرجع السابق: ج1 ص42، وانظر ج1 ص10-11.
3 سورة الضحى: الآية 5.(3/943)
العربية، ووازنَّا بين وقع التعبير القرآني: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، ووقع ذلك التعبير الآخر المقدر: ولأنت سوف يعطيك الذي قال عنه "الزمخشري" إنه الأصل!!
وأنَّى لبشر يعجزه أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن أن يقول في آية منه ما يقول "الزمخشري" في آية الضحى لا بد من تقدير كذا؛ لأن أصل التعبير كذا!! 1.
وكما قلت: الأمثلة على هذا كثيرة والغرض البيان لا الاستقصاء ولعله فيما ذكرنا إن شاء الله.
خامسا- ترك الإطناب عما أُبهم في القرآن الكريم:
وكثيرا ما تَذُمُّ أولئك الذين يطنبون في بيان أمر أغفله النص القرآني، إذ لو كان في ذكره فائدة أو ترتب عليه معنى لذكره القرآن.
ففي النعيم في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم} 2 تقول: "وقد اختلف المفسرون في هذا السؤال عن النعيم، ممن يكون؟ ولمن يكون؟ وأين يكون؟ فمنهم من قال: إن السؤال يكون من الملائكة ومنهم من قال أن السؤال من الله.
واعجبا! آثر القرآن أن يسكت عن ذكر السائل، تركيزا للاهتمام في السؤال نفسه، ويأبى المفسرون إلا أن يختلفوا فيمن يكون السائل، مع أن صنيع القرآن صريح في الصرف عمدا عن مثل هذا"3.
وفي قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} 4، قالت: "ونؤثر ألا نحدد الآية هنا ما دام القرآن نفسه لم ير تعيينها في هذا الموضع، مكتفيًا بوصفها بالكبرى
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص41-42.
2 سورة التكاثر: الآية8.
3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص218.
4 سورة النازعات: الآية 20.(3/944)
وهي صيغة تشهد بمبلغ دلالة الآية على صدق موسى وعلى قدرة ربه، رب فرعون والناس جميعا"1.
وفي قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 2 قالت: "ولا نرى أن نقف هنا عند ما ورد في بعض كتب التفسير من تحديد سبب الإبطاء في الوحي بتأويلات دخيلة وما نراها وأشباهها مما يتعلق به النظم القرآني، وإلا لما سكت عنها كذلك لا نرى وجهًا للوقوف عندما ذكر مفسرون في تحديد مدة الإبطاء؛ إذ يغنينا عن مثل هذا سكوت القرآن نفسه عن تحديد فترة الوحي باليوم أو بالشهر، ولو كان البيان القرآني يرى حاجة إلى هذا التحديد؛ ليزيد في اليقين النفسي أو يبلغ غايته من البيان لما أمسك عن ذلك؛ لأن مقتضى البيان أن يستوفي كل ما يدعو إليه المقام مما يتصل بغايته، فإذا أمسك هنا عن ذكر سبب الإبطاء وتحديد مدته فلأن الذي يعنيه من الموقف هو جوهر الموقف لا تفصيلاته الجزئية فالمهم هنا هو جوهر الموقف ولا شيء من جزئياته بذي جدوى على المعنى وإلا لكان إهماله والسكوت عنه قصورا في حساب البلاغة باعتراف أصحابها أنفسهم ومعاذ البيان المعجز أن يظن به أي وجه من القصور"3.
لكن ما نأخذه عليها في هذا أنها وهي تعيب على هؤلاء المفسرين خوضهم فيما أبهمه القرآن نراها أحيانا تورد أقوالهم وتوازن بينها وتنقل نصوص أصحابها من مصادرها الأصلية ثم بعد هذا كله تقول: "والأليق بجلال الموقف أن يكتفى فيه بالرضى على ما أراد له البيان القرآني فوق كل تحديد ووراء كل وصف"، وتدعو إلى عدم الخوض في مثل هذا وكان الأولى أن لا تورد هذه القوال التي عابتها عليهم وتكتفي بالإشارة إليها وانظر مثلا لذلك ما أوردته لهم في بيان ما أعطاه الله لنبيه في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 4، 5.
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص130.
2 سورة الضحى: الآية 3.
3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص36-37.
4 سورة الضحى: الآية 5.
5 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص39-41.(3/945)
سادسا- رفض التفسير العلمي التجريبي:
لا أعرف أحدًا في العصر الحديث فيما قرأت رفض التفسير العلمي بقدر رفض الدكتورة عائشة له فهي تبدي حماسا شديدا للرفض، فلها في ذلك كتاب مستقل وفصول في كتاب ومقالات في مجلات.
ويبدو أن موقفها هذا متأثر بموقف أستاذها أمين الخولي الذي علمها هذا المنهج في التفسير في ضميرها وقلبها وعقلها كما تقول في إهداء غالب مؤلفاتها.
ولا يخفى أن رفض التفسير العلمي من أول ما يرد بناءا على أصول منهجهم وهم يرفضونه لثلاثة أسباب:
الأول: الناحية اللغوية في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها لو ملكنا منها -ما لا بد أن نملكه- في تحديد هذا التدرج وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن وجعلها تدل على معانٍ وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها.
الثاني: الناحية الأدبية أو البلاغية، والبلاغة فيما يقال مطابقة الكلام لمقتضى الحال فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع في التفسير العلمي كلاما يوجه إلى من خوطب به من الناس في ذلك العهد مرادا به تلك المعاني المذكورة مع أنها معانٍ من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعد ما جازت آمادا فسيحة.
الثالث: الناحية الدينية أو الاعتقادية: وهي التي تبين مهمة كتاب الدين وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون وحقائق الوجود العلمية؟ والحق البين أن كتاب الدين لا يعني بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان ولا يكفيهم مؤنته حتى يلتسموه عنده ويعدوه مصدرا فيه"1.
ولئن كان هذا قول الأستاذ فلقد وصفت التلميذة التفسير العلمي بأنه
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، 25-26.(3/946)
"خطر على عقلية الجماهير أن نخايلها بهذه الألفاظ المضخمة من بدع التأويلات العصرية العلمية، تمسخ عقليتهم ويختل بها منطقهم وتخدر وعيهم بغرور السبق إلى علوم العصر"1.
وانظر ما قالته الدكتورة في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 2 فقد أوردت تفسير الزمخشري: "إن في الآية تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته" قالت: "وقد نقله الرازي ثم أضاف إليه في تأويل {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} كون الإنسان من علقة وهي أخس الأشياء ثم صيرورته عالما والعلم أشرف المراتب ثم أوردت الدكتورة عائشة قول أبي حيان وعقبت على هذه الأقوال بقوله: "وكل هذا مما يمكن أن يقال، وليس هو على أي حال بأبعد مما ابتدعه محدثون اتجهوا بهذه الآية إلى مجال البحث في علم الأجنة والتمسوا المراجع الأجنبية لعلماء الفسيولوجيا والبيولوجيا لفهم آية نزلت على النبي الأمي في قوم أميين لم يسمعوا قط ولا سمع عصرهم بعلم الأجنة، وغير متصور أن يكون القرآن الكريم قدم لهم من آيات ربوبية الخالق وقدرته ما لا سبيل لأحد منهم إلى تصوره فضلا عن فهمه وإدراكه.
وإنما فهموا من العلق ما تعرفه لغتهم وبيئتهم وعصرهم، والعربية قد استعملت العلق ماديًّا في كل ما يعلق وينشب: كالدم، والمحور الذي تعلق عليه البكرة، وعلقت المرأة: حملت، ومعنويا في العلاقة تنشب بين إثنين حبًّا أو بغضًا وفي الصلة تربط بينهما.
ولم يكونوا في حاجة إلى درس في علم الأجنة أو مراجعة كتاب في المكتبة الأميركية التي ظهرت بعدهم بقرون؛ ليفهموا آية خلق هذا الإنسان من علق في أرحام الأمهات وهم الذين ألفوا استعمال: علقت المرأة، بمعنى حملت.
واستعمال العلق هنا، جمع علقة، إيذان بما ذهبنا إليه من إطلاق في عموم لفظ الإنسان.
__________
1 القرآن وقضايا الإنسان: د/ عائشة عبد الرحمن، ص428.
2 سورة العلق: الآية 2.(3/947)
ولا يشير السياق إلى أن القصد من: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} توجيه المصطفى ومن يؤمنون برسالته إلى النظر في علم الأجنة، وإنما هي آية الله في هذا الإنسان؛ خلقه من علق وخصه بالعلم، واحتمل أمانة التكليف، فازدهاه الغرور وأطغاه الشعور بوهم الاستغناء عن خالقه، فنسي أن إليه سبحانه الرجعى والمصير"1.
وتصف الدكتورة عائشة التفسير العلمي بأنه "بدعة" عند تناولها بالتفسير لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 2 حيث تقول: "وجاء محدثون ببدعة التفسير العلمي فذهبوا إلى أنها الذرة التي اكتشف العلم سرها في القرن العشرين!!
ثم علقت على هذا قائلة: "والواقع أن مثل هذا التحديد ليس مراد، القرآن ولا هو من مألوف بيانه. والعربية قد عرفت الذر في كل ما يمثل الضآلة والصغر وخفة الوزن؛ تقول: ذررت الملح والدقيق والفتات: نثرته بأطراف الأصابع والذر الهباء يُرى في شعاع الشمس وبولغ في وصف تناثر النمل الصغير المنبث فقيل: ذر، وفي لسان العرب نص صريح على أن "الذرة ليس لها وزن"؛ لفرط صغرها وخفتها.
ونؤثر أن نفهمها في ضوء هذا الحس اللغوي وعلى هدى البيان القرآني دون تكلف لتقدير الأوزان والأحجام والألوان وما فهم العرب الذين بعث فيهم رسول منهم من قوله تعالى: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} إلا أنه التناهي في الضآلة والخفة والصغر، حتى ليكون من الهباء الذي لا وزن له.
وهو ما يتلاءم ماديًّا وفنيًّا مع جو الموقف ونسق السياق من الزلزلة والانفجار والتفتيت والتشتيت فهم يخرجون أثقالا ويصدرون أشتاتا ويرون أعمالهم مثقال ذرة من خير أو شر"3.
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج2 ص18-19.
2 سورة الزلزلة: الآية 7.
3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص102.(3/948)
ولعل فيما ذكرناه ما يظهر حقيقة موقفها من التفسير العلمي ترفضه كل الرفض وتذمه كل الذم؛ لأنه يخالف قواعد وأصول منهجها الأدبي ولا شك أنها وفَّقَها الله قد تطرفت في الرفض دفعها إلى ذلك فيما أحسب تطرف خصومها في التفسير العلمي والحق وسط بينها وبينهم، وقد أفردناه بدراسة خاصة في حديثنا عن المنهج العلمي التجريبي ولا نرى موجبا لإعادته هنا، فلينظر هناك.
سابعًا- التفسير الموضوعي:
لا شك أن الأسس -أي أسس- ليست على درجة واحدة دائما فقد يكون بينها تباين في القيمة، وإن استوت في النوع، وإذا نظرنا إلى أسس منهج التفسير البياني فإنا ولا شك نرى أن أهم هذه الأسس اثنان:
1- الاستقراء للمفردات.
2- التفسير الموضوعي.
وللتناول الموضوعي عند الدكتورة عائشة منزلته أيضا بل عدته في مقدمة تفسيرها الأصل الذي يقوم عليه المنهج في التفسير قالت: "والأصل في منهج التفسر الأدبي -كما تلقيته عن أستاذي- هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه فيجمع كل ما في القرآن عنه، ويهتدي بمألوف استعماله لألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك واتجه بمحاولتي اليوم إلى تطبيق المنهج في تفسير بعض سور قصار ملحوظ فيها وحدة الموضوع فضلا عن كونها من السور المكية حيث العناية بالأصول الكبرى للدعوة الإسلامية"1.
لكن هل التزمت الدكتورة عائشة هذا الأصل الذي دعت إليه؟ سجل مخالفتها لهذا الدكتور عفت الشرقاوي ومن بعده الدكتور محمد إبراهيم شريف فقال الأول ونقل عنه الثاني: "ولقد نلاحظ أن المؤلفة قد خالفت أستاذها
__________
1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص18.(3/949)
فلم ترتبط بفكرة الموضوع التي طال دعوته إليها، ولو فعلت لكان أمامها فسحة من الدراسات المنتجة الخصبة ذلك أن التحديد الموضوعي يسعف على تنبُّه دقيق إلى الدلالات المستخدمة في الموضوع، وعلى كل حال فإن المؤلفة فسرت هذه السور القصار، فلم تبعد كثيرا عن التفسير الموضوعي؛ لأن الوحدة الموضوعية ملحوظة في كل سورة على حدة إلى حد ما، وفوق ذلك فإن تفسير السور يفتح مجالات أخرى أمام المفسر، قد تختلف عن الدراسة الموضوعية، ومن ذلك مثلا مسألة المناسبة بين الآيات وملاحظة السياق في السورة الواحدة"1.
وكان من ذلك ما قدمته الدكتورة عائشة في تفسير سورة العاديات حيث قالت: وتبدأ بعرض صورة مثيرة لغارة عنيفة مفاجئة، تباغت القوم صبحا فلا ينتبهون إليها إلا وقد توسطت جمعهم فبعثرتهم وسط عاصفة من النقع المثار.
وتقع هذه الصورة العنيفة بعد واو القسم لافتة إلى ما عهد القوم من مثل تلك الغارات المفاجئة المصبحة، وما تحدث من بعثرة وحيرة
وارتباك ثم تأتي بعدها صورة أخرى لغيب غير مشهود، ولكنه واقع حتما ذلك هو البعث يفجأ على غير موعد فإذا هم في حيرة وبعثرة وارتباك، وقد لفظتهم القبور لليوم الآخر كالفراش المبثوث، وإذا كل ما في صدورهم قد حصل لم تفلت منه خافية مضمرة، مطوية في أعماق الصدور ومستكن الضمير.
وفي كل لفظ من الصورة2 بل في كل حرف منها سره البياني الرائع فيما قصد إليه القرآن من إحضار مشهد ليوم البعث شاخصا مجسما، وتأكيد وقوعه، والإنذار بما ينتظر الإنسان فيه من حساب دقيق عسير"3.
هذا مثل من الأمثلة القليلة لتطبيق التناول الموضوعي في التفسير عند الدكتورة عائشة.
__________
1 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص317 "واتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر": د/ محمد إبراهيم شريف، ص597.
2 كذا وردت، ولعلها تريد: "السورة".
3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص151.(3/950)
رأيي في تفسيرها:
ذكرت أثناء عرض أسس منهجها بعض المخالفات للمنهج أو الأخطاء التي أحسب أن الدكتورة عائشة قد وقعت فيها، ولعلي أذكر هنا الملاحظات العامة.
فمنها ما سبق أيضا أن أشرت إليه وإلى صوره إجمالا ووعدت بضرب الأمثلة فيما بعد وهذا أوان إنفاذ الوعد.
قلت هناك إن من عيوبها -وجلَّ من لا عيب فيه- اعتدادها الشديد بآرائها وذكرت له أربع صور:
أولها: إنها تتيه بما وصلت إليه من معنى لكلمة قرآنية على المفسرين.
والأمثلة على هذا كثيرة منها قولها: "هذا ما نطمئن إليه في التفسير البياني للقسم بالضحى والليل إذا سجى، ولا أعرف -فيما قرأت- أحدا من المفسرين التفت إلى هذا الملحظ التفاتا واضحا متميزا، وإن يكن بعضهم قد استشرف له من بعيد، لكن وسط حشد من تأويلات شتى، لا تخلو من تكلف وإغراب"1.
وفي موضع آخر تقول: "ولا أعرف أحدا من المفسرين أو البلاغيين التفت إلى إطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في القرآن مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار"2 قالت هذا في طبعة تفسيرها الأولى ولما أعادت طبعه عدلت العبارة إلى: "وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعل عن الالتفات إلى اطِّراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار، وسرها البياني دقيق جليل"3.
وثانيها: أنها تقلل بصيغ شتى من شأن المفسرين السابقين وتفسيرهم
__________
1 التفسر الباني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص26-27.
2 المرجع السابق الطبعة الأولى ج1 ص70 والطبعة الثالثة ج1 ص85.
3 المرجع السابق الطبعة الأولى ج1 ص70 والطبعة الثالثة ج1 ص85.(3/951)
وتسوق عباراتها عنهم أحيانا بما يشبه السخرية؛ بل لم أجد كلمة "المفسرين" في كتابها إلا وسياقها كذلك وهو أمر خطير خطير.
ولست بالأول ولا بالوحيد الذي أدرك ذلك منها، فهذا الدكتور محمد إبراهيم شريف يقول: "ما كان هناك من مبرر لحملتها السافرة على قدامى المفسرين واعتدادها الشديد بما تحقق من نتائج، ووصفها المفسرين بالدأب على إفساد البيان القرآني"1 ومن قبله الدكتور عفت الشرقاوي قال: "ولكن ما يلفت النظر في منهج المؤلفة حملتها السافرة على قدامى المفسرين واعتدادها الشديد بما تحقق من نتائج"2.
وتصف كثيرا نتاج المفسرين بصيغة الجمع بصفات تستغرب من ذلك قولها: "وأكثر المفسرين على أن "يصدر الناس" هنا بمعنى يخرجون من القبور.
وتفسير يصدر بـ "يخرج أو ينصرف بعيد عن حس العربية ... "3 وقالت: "ولكن كثيرا من المفسرين ذكروا في "أشتات" أقوالا بعيدة لا يعين عليها الحس اللغوي للمادة"4 وتقول: "ولشد ما تكلف المفسرون في تأويل الساهرة"5 وقالت: "وأيان: للبعد ولا أدري لم فات جمهرة المفسرين أن يلحظوا موقعها هنا على كثرة تعلقهم بما له اتصال بالصنعة النحوية"6 وقالت: "وتدبر هذه الآيات يرينا ما في قول المفسرين من جور على المعنى القوي المثير"7 وقالت: "لكن ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ أتعب المفسرون أنفسهم في تأويلها. والواقع أننا في غير حاجة إلى شيء من هذا ومثله"8، وقالت: "وليس بعجيب أن يفوت هذا السر البياني جمهرة المفسرين الذين كان جهدهم أن يجمعوا كل
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص607.
2 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص317.
3 إلى "6" انظر التفسير البياني: عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص97، 99، 125، 145.
7 إلى 8 انظر التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص165، 192.(3/952)
ما يمكن أن يحتمله المدلول المعجمي للفظة، وكل ما قيل في تأويله دون أن يلتفتوا إلى الإيحاء الباهر للفظ "زرتم"1 وقالت: "فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني معزولا عن الاستعمال القرآني"2، وقالت: وليس النص القرآني في وضوح بيانه بمسئول عن هذا الخلاف؛ وإنما يسأل عنه منهجهم في التفسير وهو منهج لا يرى بأسا في تفسير الآية الواحدة بالنقيضين؛ كيلا تفوته الإحاطة بما قيل في الآية"3، وتقول بلهجة ساخرة: "ثم يجيء المفسرون غفر الله لهم؛ فيقولون ... وفاتهم النذير العالي الصادع ... واعجبا؛ آثر القرآن أن يسكت عن ذكر السائل ويأبى المفسرون إلا أن يختلفوا فيمن يكون السائل لكن كيف يمكن إدخال المؤمنين مع الكفار في سؤال واحد؟ الجواب عند المفسرين حاضر"4.
معذرة إن أطلت فما ذكرت إلا القليل من عباراتها بل لم أجدها في أي موضع -فيما قرأت- تذكر المفسرين أو قولا لهم موضع الثناء والقبول اللهم إلا مرة واحدة قالتها في المقدمة؛ قالت هناك: "وما يجرؤ منصف على أن يجحد فضل أحد من هؤلاء جميعا، وهم الذين بذلوا في خدمة القرآن جهودا جليلة وتركوا آثارهم من بعدهم شاهدة بمقدار ما عانوا"5.
ولكن هل تشفع لها هذه الكلمة في المقدمة أن تقف هذه الوقفات الكثيرة في تفسيرها منهم وهل يشفع لها هذا أن تذكر أقوالهم دائما بصيغة الرفض والإنكار و ... و ... على كل حال -غفر الله لنا ولها- ولعلها تعيد النظر فيما قالت ما دام في العمر بقية وفي الأجل فسحة.
ثالثها: جزمها بصحة ما توصلت إليه وتعين القول به ورفض ما سواه.
حتى وإن كان لم يورده أحد من المفسرين من قبل وعلى هذا فكل من سبقها
__________
1، 2، 3 انظر التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص206، 208، 209.
4 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص218-219.
5 المرجع السابق: ج1 ص17.(3/953)
وسبق عصرها لم يصل إلى الحق حتى قالته واقرأ معي قولها: "ولكن هذا المعنى المتعين، هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون -فيما قرأت- وهم يعدون كل ما يمكن أن يقال في تفسير "النعيم" ويذكرون فيه ذلك الحشد المختلط إلا نعيم الآخرة الذي يصر القرآن على تخصيص لفظ النعيم به، والذي يجب أن يحتكم وحده في توجيه آية التكاثر"1.
والحق أن المفسر القديم كان أكثر حيطة منها حين وضع في اعتباره أن التفسير قول على الله وخشي دائما القطع بقول لا يعلم أنه مراد الله من قوله، فلم يكن يجرؤ على الجزم بتأويل واحد -يكون ما عداه خطأ- ما لم يرد في ذلك نص صريح وإنما فهم أن النص الذي يقبل التأويل هو طائفة من الإمكانات وقد يرجح بعضها مستعينا في ذلك بالسياق العام للنص، ولكنه لم يجزم بمعنى واحد يخطئ ما سواه كما فعلت الباحثة"2، ولا يمكن -كما يقول الدكتور عفت الشرقاوي- أن يبلغ اعتزاز المفسر المنصف برأيه حدًّا يجعله يخطِّئ بصرامة وَحِدَّةٍ آراءَ الآخرين أمام هذا النص، إلا إذا كان صاحب نحلة أو هوى خاص"3.
رابعها: اعتدادها بنفسها إلى درجة أنها تذكر أقوالهم مقابل قولها فتقول مثلا: لا نستطيع أن نطمئن إلى تفسير "النازعات" بما اطمأن إليه أكثر المفسرين ... "4 وكان الأولى أن تذكر رأيها بغير هذه الصيغة، وتقول في موضع آخر: "ونتفق مع المفسرين في ... "5 وقالت: "ولا حاجة بنا بعد هذا إلى الوقوف عندما قاله بعض المفسرين في ... "6.
وقالت: "لكن المفسرين أجمعوا على ... إلى أن تقول: وعندي ...
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص223.
2 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص607.
3 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت الشرقاوي، ص318.
4، 5، 6 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن وهي حسب الترتيب ج1 ص108، 113، 147.(3/954)
وتقول: وحين نلوذ بكتاب العربية الأكبر ومعجزاته البيانية الخالدة نهتدي إلى هذا الملحظ الذي غاب عمن قيدهم جمود المصطلح النحوي، فطبقوه صنعة شكلية بعيدا عن ذوق العربية"1 وتقول أخيرا: "واختلفوا كذلك في ... وأمام هذا الاختلاف نلوذ بالقرآن الكريم هذا المعنى المتعين هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون"2.
هذه صور أربع لاعتدادها بتفسيرها وما توصلت إليه من آراء حبذا لو تخلصت منها الدكتورة عائشة حتى تظهر صورة تفسيرها أكثر جلاء وأكثر قبولًا وما أجملها من صورة.
وإذا ما أردنا أن نقوم هذا التفسير في هذا المنهج فإن هذا يذكرنا بملاحظة سبق ذكرها إلا وهي تخلف النتائج عن المقدمات أعني قصور المحاولات التطبيقية عن الأسس الموضوعة والقواعد المرسومة لهذا المنهج؛ ذلكم أن هذا المنهج حتى ساعتنا هذه -فيما قرأت- لم يشهد تطبيقًا كاملًا في إحدى محاولات التفسير ذلكم أن بعضها يأخذ بشق ويأخذ بعضها بالآخر.
"فعلى حين يركز بعضها على الموضوع ويختار كثيرا من آياتها نجده يتعثر في المعجم والاستعمال وتفتر جهوده في هذه المجالات، وعلى حين تنجح بعض المحاولات في الدراسة المعجمية والاستعمال القرآني والسياق تتعثر في الموضوع فلا تلتفت إليه أو تستغني عنه أصلا وهذا ما وقع فعلا من بنت الشاطئ، فلم ترتبط بفكرة الموضوع الذي طالت دعوة أستاذها إليها وتحمست هي كثيرا في الترويج لها"3.
لكنها والحق يقال جاءت بمنحىً آخر في هذا، فعندما لم تلتزم موضوعا بعينه اختارت سورا قصارا لاحظت فيها وحدة الموضوع إلى حد ما.
__________
1، 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن وهي حسب الترتيب ج1 ص214، 216، 220-223.
3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد ابراهيم شريف، ص597-598.(3/955)
فهي بذلك لم تخرج عن التفسير التقليدي بالتزامها للسورة إطارا لتفسيرها، وهي أيضا لم تبعد كثيرا عن التفسير الموضوعي؛ لمراعاتها وحدة الموضوع في كل سورة تناولتها بالتفسير.
وبهذا يمكن أن نقول: إنها قد جمعت في محاولتها بين "التحديد" الموضوعي1 وبين التناول الأدبي التقليدي للسور التي فسرتها2.
ولا يفوتني في ختام حديثي عن هذا التفسير أن أبدي إعجابي بما بذلته الدكتورة عائشة، وبكثير مما توصلت إليه من آراء قيلت من قبل، فجاءت بما يدعمها أو كشفت وجها آخر في التفسير له أصالته وذلك عن طريق تتبع الأسلوب القرآني ومفردات القرآن حيث يجد القارئ حقا أن للقرآن الكريم قواعده، وأن له استعمالات ينبغي أن لا تغيب عن ذهن مفسر القرآن الكريم.
وكم أتمنى أن تعاود الدكتورة عائشة النظر فيما قيل في تفسيرها من مآخذ وسقطات وتواصل من بعد هذا التفسير، سدد الله الخطى وعفا عنا الزلل. إنه سميع مجيب.
وقد كنت وعدت أن أتبع هذه الدراسة بدراسة أخرى لكتاب آخر في هذا المنهج ذا لون آخر وهذا أوان الوفاء.
__________
1 نعني به الموضوعية الجزئية؛ ذلكم أن المواضيع في السور التي تناولتها الدكتورة لها ما يماثلها ويكملها في سور أخرى لكن الدكتورة اكتفت بما في سورة عما في السور الأخرى وليس هذا بالموضوعية الشاملة.
2 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص597-598.(3/956)
الدكتور محمد أحمد خلف الله
الكتاب: الفن القصصي في القرآن
أولا- المؤلف:
هو الدكتور محمد أحمد خلف الله، أما حياته الشخصية فلا أعرف عنها شيئا ولم أجد لها ذكرا، أما فكره ونتاج قلمه فله عدد من المؤلفات والمقالات.
وهو من الذين أرادوا الشهرة في فترة كان الإلحاد أقصر طريق إليها، فأصدر عددا من المؤلفات حشاها به حشوا.
كان أولها -كما سيأتي- كتاب الفن القصصي في القرآن الكريم؛ زعم فيه أن قصص القرآن أساطير، وأنها لا تلتزم الحقائق وغير واقعة وغير ذلك.
ومنها القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة، وكتاب القرآن والدولة، وكتاب هكذا يبنى الإسلام وشارك في كتاب "محمد والقوى المضادة" وغير ذلك من كتب الدراسات الأدبية واللغوية والتراجم.
ولا أريد أن أسترسل في الحديث عن الرجل فليس هذا مقام محاكمته أو كشف زيف فكره وإنما هو مقام التعريف الموجز والإشارة السريعة.
وكم وقفت مبتسما -ابتسامة أسى وأسف- وأنا أقرأ مقالة سطرها دكتور فاضل نقد فيها الكتاب الأخير للدكتور محمد أحمد خلف الله: "الأسس القرآنية للتقدم" ويبدو أن الدكتور الفاضل لا يعرف كثيرا الدكتور محمد أو أنه يحسن الظن أكثر من حد القبول؛ ذلكم أنه يقف أمام عبارة من عبارات الدكتور خلف الله المألوفة منه ويعتقد أنها من أخطاء المطبعة!! العبارة تلك تقول: "وهنا سؤال يطرح نفسه: ألا يزال العقل البشري مقيدا بسلطان الله الواحد الأحد(3/957)
الذي يدعو الإسلام إلى عبادته واتقاء غضبه"؟ وينقل القارئ إلى إجابة من تفسر المنار ولكنه قبل أن ينقله إلى هذه الإجابة يقول: "وأنا حين أنقل عن هذا الكتاب إنما أرجو أن يطمئن القارئ إلى الأساس الذي بني عليه التوحيد، وكيف كان تحريرا للعقل البشري من سلطة الآلهة بما فيهم الله"1؟!!.
أرأيتم إلحاد كهذا؟! لو نسب هذه الفكرة لنفسه لعد هذا إلحادا وأي إلحاد فكيف وهو يزعم أن هذا هو الأساس الذي يبنى عليه التوحيد في الدين الإسلامي؟!!
قلت أني ابتسمت أسىً وأسفًا عند وصف الدكتور الفاضل كاتب النقد لهذا بأن المطبعة وحدها قد تكون مسئولة عن هذا الارتباك الفكري والأسلوبي الذي يجسد اتجاها غير إسلامي بالتأكيد1، ولو قرأ بقية مؤلفاته لوجد فيها نحو هذا وأشد منه.
قصدت من هذا الذي أوردته أن المؤلف لا يزال حتى آخر ما صدر من مؤلفاته يبث الإلحاد، وما زال بعض المخدوعين يعده مفكرًا إسلاميًّا؟!
نسأل الله له الهداية وأن يفتح قلبه للحق وأن يجعله سيفًا على الباطل
فيما بقي من عمره.
ثانيا- الكتاب:
عانت مصر وعانى علماؤها في القرن الرابع عشر الهجري معاناة شديدة من فئة جعلت سبيل الإلحاد وسيلة لاشتهارها وباعت دينها بدنياها.
عانت دعوة قاسم أمين حين أصدر كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" وكانت ضجة ثم سكون كسكون المقابر!!
__________
1 مجلة الأمة القطرية العدد الخمسون صفر 1405 ص15 مقال، "الأسس القرآنية للتقدم وحوار حول بعض مقولاته" للدكتور محمد أحمد العزب والنص المنقول عن كتاب "الأسس القرآنية للتقدم"، ص36.(3/958)
وكانت دعوى طه حسين "في الشعر الجاهلي" مزمارًا من مزامير المستشرقين وجاء من بعده علي عبد الرازق وأظهر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" ثم المدعو محمود أبو رية وأضواءه بل ظلماته على السنة المحمدية وفي عام 1947 كتب محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم" وبعده بسنتين اثنتين أصدر محمد أبو زيد تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". بتنظيم عجيب وترتيب دقيق كأنه مرسوم توالت هذه المؤلفات وتتابعت ما إن يسترد العلماء الصالحون أنفاسهم في الرد على ملحد حتى يكون الآخر قد نشر ونثر ما في جعبته، فيبدأ أولئك المعركة من جديد وهكذا دواليك.
وبين ملحد وآخر يخرج من لا يقل عنهم خبثا بما يشغل المجاهدين ويفت من عضدهم وهم كثير وكثير منهم المسلم نسبا ومنهم النصراني عقيدة، ومنهم من تاب من بعد ومنهم من ينتظر.
وهذا الكتاب إذًا له قصة نحكيها قبل أن ندرسه.
قصة الكتاب:
في سنة 1947م قدم محمد أحمد خلف الله، الطالب في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول رسالة للحصول على الدكتوراه عنوانها: "الفن القصصي في القرآن الكريم".
قرر فيها أن القرآن أساطير وأن ورود الخبر في القرآن الكريم لا يقتضي وقوعه، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ ويقول: إن التاريخ ليس من مقاصد القرآن، إن التمسك به خطر أي خطر على النبي -عليه السلام- وعلى القرآن. بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة، وإن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع وليست من مقاصد القرآن في شيء ومن هنا أهمل القرآن مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث1، ويقول: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن
__________
1 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله، ص42، 44.(3/959)
أساطير؛ لأنا في ذلك لا نقول قولا يعارض نصا من نصوص القرآن1، وقال ... وقال ...
وقامت الاحتجاجات وكتبت الردود ورفعت البرقيات للمسئولين ورفضت الرسالة وطالب أولئك بتطبيق أحكام الردة على خلف الله ولكن ...
وكان ما كان؛ يقوم الفينة بعد الفينة من سولت له نفسه بالخروج على الإسلام في ناحية من نواحيه الاعتقادية، فيثور احتجاجا عليه فئة من الغيورين على دينهم ويحميه منهم رجال من الوزراء، وفي مستقبل قريب ينال الرجل مكافأة خروجه أضعاف ما كان له من المراكز والمناصب، ويكون هذا المصير غبطة لآخرين، فتتكرر المهزلة في أيام أخرى على مسائل أخرى مماثلة2.
أما مصير الكتاب فقد طبع طبعته الأولى سنة 1953 ثم توالت طبعاته بعد ذلك سنة 1957، سنة 1972. وإنا لله وإنا إلي راجعون.
منهجه:
نحمد الله أن المؤلف بيَّن بنفسه سبب سلوكه الدراسة الأدبية ومنهجه فيها.
أما الأول فقال عنه: "أما الأسباب التي جعلتني أعنى بالدراسة الأدبية، وأجعل من القرآن ميدان ابحاثي، فترجع قبل كل شيء إلى نوع من الاستهواء عمل على إذاعته في نفسي درس أستاذنا الخولي عن المنهج الأدبي في فهم القرآن وتفسيره، فقد كانت تلك اللفتات تستقر في نفسي استقرارا يجعلني أتخيل تمثل هذا المنهج والسير عليه في تفسير كتاب الله"3.
أما صلة أمين الخولي بالرسالة بعد ذلك وحين قامت الاعتراضات عليها
__________
1 المرجع السابق: ص179-180.
2 موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص318.
3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله، ص1.(3/960)
فقد أعلنها بنفسه حين قال: "فلو لم يبقَ في مصر والشرق أحد يقول إنه حق لقلت وحدي وأنا أقذف في النار: إنه حق حق"1.
أما صلته بالرسالة وصاحبها قبل ذلك، فقد بينها الأستاذ محمد سيد كيلاني حين تحدث عن الأستاذ أمين الخولي وقال: "بأنه كان يدرس مادتي التفسير والبلاغة وظل أمره مستورا إلى سنة 1947، لا يدري أحد في خارج الكلية ما يلقنه أمين لتلاميذه من أنواع الكفر والضلال"2.
وأما الثاني -أعني منهجه في التفسير- فقد عدد خطواته حيث قال:
أولا- جمع النصوص:
إذا كانت معرفة نص ما تستلزم حتما وجوده كانت3 أولى الخطوات، من غير شك، هي الوقوف على النصوص وجمعها، وإني لأعترف بأني لم أجد موضوعي4 هذا من حيث هذه الناحية عناء يذكر ذلك؛ لأن القصص القرآني موجود في القرآن، ومن هنا لم يكن عملي في هذه المرحلة إلا الرجوع إلى المصحف.
ثانيا- الترتيب التاريخي للنصوص:
وهذا الترتيب يدل الباحثين على التطور في الفنون والآداب، ويستوي في ذلك عندهم التطور الداخلي، والتطور الخارجي. ونقصد بالأول أن يدلنا هذا الترتيب على تطور ذوق الكاتب وأفكاره أو ميادينه الفنية ونشاطه النفسي.
ونقصد بالثاني: دلالة النص على التطور العام لتاريخ الآداب والفنون من حيث صلته بالسابق واللاحق والدور الذي لعبه النص في الحياة الأدبية ومجراها العام.
وإني لأعترف هنا أيضا بأن هذه الخطوة -وإن تكن أشق من الأولى
__________
1 المرجع السابق: ص: ح.
2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص86-87.
3 لعل العبارة: "فقد كانت" أو: "فإن أولى".
4 لعل العبارة في "موضوعي".(3/961)
وأعسر- إلا أني لم أبذل فيها جهدا يذكر؛ ذلك لأني اعتمدت في هذا الترتيب التاريخي للقصص القرآني على المصحف الملكي1، وإن كنت أعلم أنه ليس بالترتيب التاريخي الدقيق. لكن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وعلى كل، فقد أفادني هذا الترتيب التاريخي فيما يخص القصص القرآني بدراسة التطور الداخلي لهذا القصص2.
أما التطور الخارجي فقد حالت بيني وبينه عقبات منها أن الوقوف على النصوص السابقة للقصص القرآني من أقاصيص الجاهليين لا سبيل إليها ومنها أن صلة القصص القرآني باللاحق يتوقف أولا على صلته بالمعاصر من أحاديث "الرسول صلى الله عليه وسلم"، وهذه من الأمور التي سأفرغ لها بعد بحثي هذا إن شاء الله.
وقفت من هذه الخطوة إذًا عند الفائدة التي نجنيها من التطور الداخل، وحسبي هذا في هذا الموضع.
ثالثًا- فهم النصوص:
وهنا لا بد من التفرقة بين نوعين من الفهم:
الأول- الحرفي:
وهو الذي يقوم على دراسة معنى الألفاظ والتراكيب والجمل، كما يقوم على توضيح العلاقات الغامضة والإشارات التاريخية وكل تلك أمور تتوقف إلى حد كبير على ثقافة الدارس، تلك الثقافة التي شرطها بالنسبة لموضوعنا هذا المفسرون في المفسر والتي حدد ميادينها الأصوليون في مقدمات كتبهم.
وإني لأعترف هنا بأني قد وقفت على الكثير من هذه الأمور من كتب التفسير المختلفة، وكان الجهد الذي أبذله يقوم على المقارنة والترجيح والوقوف عند بعض اللمسات التي تفتح آفاقا واسعة أو تصحيح أخطاء بعض الأقدمين.
__________
1 هو مصحف طبع في عهد الملك فاروق وأطلقت عليه هذه النسبة.
2 سبق أن ذكر المؤلف أنه يعني بالتطور الداخلي: تطور ذوق الكاتب وأفكاره أو ميادينه الفنية ونشاطه الحسي النفسي"، فهل يطلب هذا في كلام الله عز شأنه؟!(3/962)
الثاني- الفهم الأدبي:
وهو ذلك الفهم الذي يقوم على تحديد ما في النص من قيم عقلية وعاطفية وفنية، فنقف على ما في النص من صور وآراء ونبحث عما خلف هذه الصور وهذه الآراء من أخرى لم يشعر صاحب النص بالحاجة إلى التعبير عنها. إما لأنه كان يفهمها في نفسه، وإما لأن المعاصرين له كانوا يفهمونها عنه، وأعتقد أن هذا الصنيع في الفهم الأدبي كان جديدا بالنسبة لموضوعي هذان اللهم إلا في القليل النادر.
رابعا- التقسيم والتبويب:
ثم قال المؤلف: "عندما يصل الباحث إلى هذا الحد من الفهم الأدبي يكون قد أقام من العلاقات ما تسمح له بأن يقسم بحثه أبوابا وفصولا يقيم كل واحد منها على نوع من العلاقات التي يرجى بها المنهج أو القصد من الدراسة.
فقد تجمع النصوص لما بينها من علاقات في الموضوع، وقد تجمع لما بينها من علاقات في الصياغة، وقد تجمع لما يتسلط عليها من مقاصد وأغراض.
خامسا- الأصالة والتقليد:
وهذه مسألة من أهم المسائل عند الدراسين لحياة العلوم والفنون وعند من يريدون الفهم الدقيق العميق للمسائل العلمية والأدبية؛ ذلك لأنها هي التي ستدلنا على المواد التي تكون منها النص وعلى كيفية تكوينه وعلى أي منها من عند الأديب وأيها سبق إليه.. لقد درست هذه المسائل وكانت لها نتائج قيمة.
بعضها يخص إثبات التجديد في الحياة المكية الأدبية -وذلك كمسألة القصة الأسطورية ووجودها في القرآن الكريم، وبعضها الآخر يخص القوة القادرة على تحويل المواد من تاريخية إلى أدبية أو إلى قصصية حتى لتصبح سحرًا من السحر أو أشد تلك هي الخطوات المنهجية التي سرت عليها والتي انتهت بي إلى البحث"1.
ولا شك أن هذه الخطوات التي قدمها المؤلف بنفسه هي قواعد التفسير
__________
1 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص13-17 باختصار.(3/963)
البياني في القرآن الكريم كما وضعها أستاذه أمين الخولي. إذًا؛ فلم يأتِ الدكتور خلف الله بما هو جديد في التأصيل وإن جاء بما هو جديد في الإنتاج.
وما دام الأمر كذلك فلا أظن الأمر يحتاج إلى أن أضرب أمثلة من تفسيره أستخرج لها منهجه، بل يحتاج إلى التمثيل فحسب.
أمثلة من تفسيره:
ليس من السهل على باحث مثلي أن يتجه إلى دراسة موضوعية "ذات موضوع واحد"، ثم يقتطف منها أمثلة "وافية" في سطور قليلة كيف يفعل هذا وصاحب الدراسة لا يقرر الفكرة الواحدة إلا في فصل كامل، لا ريب علي بعد هذا إذا ما جاء ضرب الأمثلة هنا مختصرا "كما وكيفما"، فلم أوجه العناية لهذا الكتاب استيفاء دراسة ولا استيفاء نقد، وإن كنت أبذل وسعي في أن آتي بشيء من هذا وذاك.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أرى لزاما علي أن أبين مدلول كلمتين قبل أن ألج في ظلمات هذا الكتاب وصاحبه؛ أما أولاهما فهي "الحرية"، وأما الثانية فكلمة حملها زورا عنوان الكتاب "الفن".
أذكر بيانهما هنا، وإن كان مكان ذلك آخر الدراسة كما جرت عادتي بذلك؛ لأن الأمر هنا يختلف؛ هنا ظلمة بل ظلمات، وهنا عدو متربص يتحين غفلة، فكان حمل السلاح واجبا وتأخيره تقصيرًا.
أما الحرية -كما أرى- فكلمة ذات جانبين؛ جانب أصيل وجانب زائف، ونحن في عصرنا هذا نعاني من جانبها الزائف.
لا أريد بالجانب الزائف جانب استعمالها المشلول فحسب، فحين تمسّ بعض المجلات والجرائد الذات الإلهية يقال: حرية، وحين تمس من بعيد بعض الذوات تقوم الدنيا ولا تقعد. لا أريد هذا الجانب فحسب، بل أريد جانبا زائفا آخر هو الأصل فيها ذلك الفهم السيء لمدلول الحرية، فكم من جريمة ارتكبت باسم الحرية وكم من ظلم ارتكب باسم الحرية وكم من رق ارتكب باسم الحرية؛ يا لها من حرية؟!(3/964)
مدلول الحرية الصحيح لا يعني شيوعية امتلاكها وحوزها إلا لمن أقام شروطها وإلا فلا حرية.
الحرية الأصيلة تحمل معها مبرراتها وحججها القوية التي تخوض بها في عباب البحار لا تخاف دركا ولا تخشى غرقا. أما الحرية الزائفة فهي التي لا تقوم على سند ولا على برهان إلا سند الهوى وانحراف الفكر عن جادة الصواب.
وعلى درجات هذه الحرية يتربع هذا الكتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم"؛ لأنه لا يحمل من الأدلة الصحيحة والبراهين القوية ما يؤهله للتحدث باسم الحرية الأصيلة.
لست -والحمد لله- ممن يلقي التهمة جزافا ولكني رأيت شخصا ينظر في كتاب الله القرآن الكريم، ثم بغير حجة ولا برهان يجعله متهما ويحاكمه بغير حجة ولا برهان إلى كتب محرفة وتاريخ محرف ثم يحكم بغير حجة ولا برهان للثاني على الأول.
دعوا -جدلا- ثبوت سلامة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل، وسلموا كذلك أنها على درجة واحدة -وحاشا- فكيف تأتَّى له أن يحكم لهذا على ذاك أو لذاك على هذا إن لم يكن صاحب هوى أو انحراف فكر؟!
كان عليه قبل أن يحاكم بينها أن يأتي بالدلالة على صحة وثبوت أحدهما وتحريف الآخر، ثم بعد ذلك يجعل من الصحيح
حكما ومن المحرف متهما. أما إذا ارتد إليه طرفه وهو حسير ولم يستطع إثبات هذا ولا ذاك، فليحذر استعمال الحرية، فإنها ستكون حينئذ حدًّا في ظهره.
أما الكلمة الثانية والتي استعملها بغير حق فكلمة "الفن" في عنوان كتابه. وقد بين هذا من قبلي من نرجو له الشهادة سيد قطب رحمه الله تعالى، حيث قال: "ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها يقصد به إلى مجرد الفن، بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع"، ثم جلا رحمه الله تعالى الصواب، فقال: "والقرآن كتاب دعوة، ودستور نظام، ومنهج حياة، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ، وفي سياق الدعوة يجيء القصص(3/965)
المختار بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق، وتحقق الجمال الفني الصادق الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق، ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق، وجمال الأداء"1.
إذًا؛ فالفن عند سيد رحمه الله تعالى هو إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء ومعناه عند ذاك التزويق الذي لا يتقيد بواقع.
وفي الحقيقة إنا لا نجد في قواميس اللغة إلا أن "الفن: واحد الفنون وهي الأنواع، والأفانين: الأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه"2. ولا نجزم أن اللغة مع هذا أو مع ذاك لكنا نجزم أن قدسية القرآن الكريم تشكل أقوى سياج عند المؤمنين يمنع وصف الفن فيه بالتزويق الذي لا يتقيد بالواقع.
لكن هذا المفهوم للفن هو الذي قصده الدكتور محمد أحمد خلف الله، بل ولم يجد كلمة تماثل الكذب والاختلاق والأسطورة ومخالفة الواقع إلخ، إلا كلمة الفن فاختارها؛ ليزيف بها كتابه ويدلس بها.
أقول هذا أولا حتى يدرك القارئ مدى شرعية "الحرية" العلمية التي يزعم امتلاكها خلف الله وأمثاله، ويدرك أيضا مفهوم الفن عنده، وليس عليه بعد هذا أن يخوض وإياي في لغو هذا الكتاب وباطله، فإلى ذاك.
الحرية الفنية:
ويقصد بها مسألة الخلق الفني أي أن للقاص أن يختار بعض الأحداث التاريخية دون بعض وأن يهمل مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث والقرب أو البعد من الواقع التاريخي وبعبارة أخرى تحري الصدق والصحة أو المجاوزة عن هذا التحري3، يعني اختراع أو اختلاق الأحداث!!
__________
1 في ظلال القرآن: سيد قطب ج1 ص55.
2 الصحاح: الجوهري ج6 ص2177.
3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص47.(3/966)
وزعم أنه قام -حسب المنهج الأدبي في التفسير- باستقراء قصص القرآن لمعرفة وجود هذه الظاهرة "الحرية الفنية" فيه أم لا، وتوصل إلى أنها موجودة قال: "يدلنا الاستقراء على أن ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرية الفنية توجد في القرآن الكريم"1.
ويعدد الدكتور خلف الله ما يحسبه أدلة لذلك ومنها: "إهمال القرآن حين يقص لمقومات التاريخ من زمان ومكان1.
ونحن لا ننكر أن القرآن كثيرا ما يهمل في قصصه الزمان والمكان لكنا نرفض كل الرفض أن يكون إهمال ذلك؛ لاختلاق القصة، فليس بين هذا وذاك هذا التلازم إلا عند من عدم الحجة.
وقل مثل ذلك فيما زعمه من أدلة أخرى عد منها: "اختيار القرآن لبعض الأحداث دون بعض، فلم يعنَ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرا تاما كاملا"2.
والغريب في هذا أن الدكتور خلف الله نفسه يعترف بأن القرآن كان يكتفي باختيار ما يساعده على الوصول إلى أغراضه، أي ما يلفت الذهن إلى مكان العظة وموطن الهداية"2. وما دام المؤلف يعرف أن هذا غرض القرآن من القصة، فكيف يرتب على إهمال القرآن لا حاجة إلى الغرض به. إن هذا من الحرية الفنية التي تدل على اختراع القصة أو الحدث؟!
ومما عده كذلك إهمال القرآن الترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها"2، وما قلنا هناك نقوله هنا.
وعد منها إسناد القرآن بعض الأحداث لأناس بأعينهم في موطن، ثم إسناده نفس الأحداث لغير الأشخاص في موطن آخر.
وضرب مثلا: "ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ مِن
__________
1 المرجع السابق: ص51.
2 المرجع السابق: ص51.(3/967)
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيم} 1، إذ نراه في سورة الشعراء مقولا على لسان فرعون نفسه: {قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} 2، وكذلك نجد في قصة إبراهيم من سورة هود أن البشرى بالغلام كانت لامرأته بينما نجد البشرى لإبراهيم في سورة الحجر وفي سورة الذاريات"3.
وما رأيت من يجادل في عقيم مثله!! فما المانع في القصة أن يكون فرعون وقومه قد تبادلوا هذا القول في مجلسهم وقالوا به جميعا وهم في هرجهم ومرجهم. وما المانع في أن يكون فرعون قال ذلك وردده ملؤه من بعده وهل نسبة قول إلى شخص أو طائفة تدل على اختصاصهم به دون سواهم. خذ مثلا أوسع: حدثنا القرآن عن مواقف الأمم من أنبيائها: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 4، فإذا كانت الأمم تتفق على قول واحد ألا يتفق ملأ وملكهم على قول واحد يردده كل واحد منهم، أي اختلاف أو أي اختلاف في هذا. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
ولا مانع أيضا أن تكون الملائكة قد بشرت إبراهيم وامرأته معا بإسحاق، أو أن تكون بشرت أحدهم أولا، ثم الآخر ثانيا، ثم جاء القرآن يخبر ببشراهم لإبراهيم في سورة ولامرأته في سورة أخرى، وهل يعد هذا دليلا على الاختلاق؟!
واستدل أيضا لدعواه الزائفة بإنطاق القرآن في قصصه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرر القصة تصويره للموقف الواحد بعبارات مختلفة. وضرب مثلا للأول تصوير القرآن لموقف الإله من موسى حين رؤيته النار، فقد نودي في سورة النمل: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 5،
__________
1 سورة الأعراف: 109.
2 سورة الشعراء: 43 "والمؤسف أن المؤلف أخطأ في الآيتين فكتب "لساحر عظيم"!!.
3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص52.
4 سورة الذاريات: 52-53.
5 سورة النمل: 8.(3/968)
وفي سورة القصص: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1، وفي سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 2، 3.
يقول هذا وهو الذي لم يجف مداد قلمه، حيث قال قبل سطور: "إن القرآن لم يعن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرا كاملا"4. إذا كان قال هذا قبل أسطر فكيف يستغرب أن يذكر في سورة النمل بعض نداء الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى عليه السلام. وفي طه بعضه الآخر، وفي القصص بعضه الآخر أيضا لم لا يكون هذا وأكثر منه هو حديث الله سبحانه لموسى عليه السلام في ذلك الموقف ذكر في كل سورة بعضه!!
وضرب مثلا للثاني بقول الله تعالى لموسى، عليه السلام: {خُذْهَا وَلا تَخَف} 5، ومرة أخرى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} 6. ولا شك أن القول في هذا كالقول فيما سبقه، لو كان يفقه؟! وضرب مثلا آخر بتعبير القرآن بالرجفة مرة وبالصيحة أخرى، وبالطاغية في غيرهما وتعبيره في انشقاق الحجر عن الماء في قصة موسى فانفجرت مرة وانبجست أخرى7.
والغريب أن هذا الذي يعده هذا الدكتور تناقضا واختلافا؟! يعده العلماء حقًّا وجهًا من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم هو التكرار في القصص القرآني، حيث تتكرر القصة الواحدة بألفاظ وأساليب متعددة تحقق في كل مقام أسلوبا يتسق مع أسلوب القصة ونظمها من غير تنافٍ ولا تجافٍ، بل إن بينها من
__________
1 سورة القصص: 30.
2 سورة طه: 12.
3 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص52-53.
4 المرجع السابق: ص51.
5 سورة طه: 21.
6 سورة النمل: 10.
7 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص53.(3/969)
التناسق والترابط ما دعا علماء البلاغة إلى التحلق جثوا على الركب للتزود من هذه الأساليب الباهرة والتسلح بها في ميادينهم.
والحديث عن هذه الشبهات والترهات التي قذفها الدكتور خلف الله طويل لا تخرج كلها عن دائرة قصور الفهم إن أحسنَّا به الظن.
كل هذه الشبهات التي جاء بها أراد بها تقرير الحرية الفنية في القرآن الكريم وفهم أن وجود الحرية الفنية يعني الاختلاق للأحداث والوقائع.
والذي يدعوه -في رأيي- لكل هذا الحرص على إثبات الحرية الفنية في القرآن بهذا المفهوم الخاص عنده أن كل ما ألصقه بالقرآن من شبهات واتهامات باطلة لا يثبت إلا بهذا وإلا لما أصبح له من مستمسك.
حيث رتب على الحرية الفنية في القرآن أمورا عديدة لا يسعنا أن نذكرها مفصلة وهي إجمالا:
1- أن القرآن أساطير.
تماما كما قال المشركون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1.
2- أن القرآن يجاري عقائد أهل الكتاب؟!
فمن ذلك التردد في بيان عدد أهل الكهف؛ لأن القرآن لم يرد ذكر الحقيقة وإنما أراد مجاراة اليهود؛ لأن اليهود اختلفوا في أمر العدد، فنزل القرآن بهذه الأقوال حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبي، ومثله عدد السنين التي لبثوها في الكهف، وغير ذلك من الأحداث3.
__________
1 سورة الفرقان: 5.
2 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص57.
3 المرجع السابق: ص54-55.(3/970)
4- أن أخبار القرآن قابلة للنسخ1.
5- أن في القرآن أخطاء تاريخية2.
6- إنكار الوحدة القصصية في القرآن الكريم.
ولأن القصص عنده متضاربة مختلفة، فإنه لا ينظر للقصة المتكررة في القرآن على أنها قصة واحدة، بل: "على أنها أقاصيص مستقلة وليست من قبيل الأجزاء فهي عرض أدبي للحادث تختلف ألوانه باختلاف أغراضه3.
خلاصة الأمر أن المؤلف أراد أن يرد على شبهات المستشرقين والملاحدة، فسلم لهم كل ما قالوا وزاد عليه وزعم أن هذا كله لا يمس من قيمة القرآن ولا من مكانته؛ لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد لا كتاب تاريخ، وعلى هذا فله أن يسلك الحرية الفنية، فيخترع من الأحداث ما يخترع وكأن القرآن كلام بشر عجز عن الإقناع والحجة بالواقع، فجنح إلى الخيال وعجزت مداركه عن الحق فمالت إلى الاختلاق. سبحانك هذا بهتان عظيم.
ولا شك أن هذا أمر خطير يكشف ضعف عقيدة صاحبها وأنه أراد أن يعرف، فجاء بما لا يعرف وباع دينه بدنياه، أدعو الله سبحانه أن يهديه ويمن عليه بالتوبة والعودة إلى الإسلام.
وكما قلت، فلست أقصد من هذا الحديث عن هذا الكتاب الدراسة المستوعبة له، ولكني قصدت بيان نوع من التفاسير الأدبية التي سلك صاحبها الاستقراء لنوع من آيات القرآن الكريم هي آيات القصص، فأخطأ الطريق وضل السبيل.
__________
1 المرجع السابق: ص60.
2 المرجع السابق: ص61.
3 المرجع السابق: ص201.(3/971)
رأيي في هذا المنهج:
كأي منهج في التفسير لا شك أن لهذا اللون من التفسير محاسنه وله عيوبه. ولئن ذكرنا في بعض أسسه وقواعده ما قد نحسبه خللا، فإنه بحسابنا يغني عن إعادته كرة أخرى في هذا الموضع.
ومع هذا فإني مورد هنا ما لم أورده هناك وسأرتبها هنا حسب ترتيبها المنهجي فمن ذلك مثلا:
أولا- التفسير الموضوعي:
ولنا في دعوة الأستاذ أمين إلى التفسير الموضوعي أكثر من وقفة؛ أولها: أن التفسير الأدبي وهو يدعو إلى سلوك سبيل التفسير الموضوعي لا يقدم خطة مثالية لسلوكه وإنما يكتفي بإبراز محاسن التفسير الموضوعي دون أن يخطو إلى رسم خطوات السير فيه.
وإذا نظرنا إلى الدراسات الأدبية التطبيقية لهذا المنهج وجدناها تسلك التفسير الموضوعي حقيقة أو اعتقادا، ووجدناها أيضا لا تلتزم موضوعا واحدا بعينه، فيكتب أحدهم مثلا عن قصص القرآن وآخر عن جدله وآخر عن أمثاله أو اقسامه وآخر عن الأموال وعن القادة الرسل أو عن السلام في الإسلام أو عن الدولة ونظام الحكم في الإسلام وغير ذلك من الموضوعات.
ولا شك أن هذا التفاوت والتباين والتعدد في الموضوعات يخدم المفسر الفرد في اختيار ما يلائم رغبته، فيختار من هذا البحر من الموضوعات ما يناسب رغبته، لكن وهنا المحك؛ كيف ستختار أو تكتب هيئة أو منظمة أو لجنة تسعى لتفسير القرآن الكريم كله -أكرر كله- تفسيرا موضوعيا. الملاءمة الشخصية والمناسبة للرغبة الفردية مفقودة فيها وهي مجموعة أفرادا؟! ولا يبقى من سبيل(3/972)
إلا سبيل واحد هو حصر الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم وجاء بالحلول الصحيحة لها هنا يتسع الباب ولا أظن أن في درة إنسان أو لجنة أو هيئة أن تحصر كل هذه الموضوعات والقضايا التي عالجها القرآن الكريم لأن من الآيات وهي محدودة معدودة ما يعالج قضايا وموضعات شتى فتبقى كالدواء الواحد الذي يعالج به ألف مرض ومرض أو تبقى كالميزان الذي يوزن به ألف موزون وموزون فهل يستطيع هؤلاء أن يحصروا تلك الموضوعات التي عالجتها تلك الآيات المحدودة وإذا ما تجاوزوا هل سيفعلون في آيات أخرى ثم أخرى ثم أخرى.
لست أقول هذا؛ تعجيزا ولا تثبيطا عن سلوك التفسير الموضوعي، لكني أردت أن أبين أن لا ننتظر تفسيرًا موضوعيًّا كاملا للقرآن الكريم؛ لأنه -في اعتقادي- ليس في قدرة أحد حصر كل الموضوعات التي عالجها القرآن في هذه الحياة.
وأردت أيضا أن أبين أن دعاة المنهج الأدبي في التفسير لم يرسموا خطوطا عريضة ولا دقيقة لحصر هذه الموضوعات ولو من ناحية أبوابها العامة الواسعة الشاملة وهذا ولا شك يعد قصورا في تأسيس المنهج أحببت الإشارة إليه؛ لتلافيه ما أمكن.
هذا من ناحية المنهجية في التفسير الموضوعي وموقف دعاة التفسير الأدبي منها وإذا ما نظرنا نظرة أخرى هي أعمق من الأولى، وتساءلنا عن الدافع لدعاة التفسير الأدبي إلى التزام التفسير الموضوعي وجدنا أنهم يفعلون ذلك لأمور عددت منها ثلاثة:
أولها: اعتقادهم أن طريقة السلف في تفسيره مرتبا لا تمكن من الفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمعانيه وأغراضه. وسبق لي إيراد هذا الاعتقاد عندهم ورددت عليه هناك بإيجاز.
ثانيها: أن دعاة التفسير الأدبي أرادوا أن يتلافوا بالتفسير الموضوعي التلون المذهبي في التفسير أو الانجراف به من تفسير إلى مباحث في الفقه أو الإسرائيليات أو النحو أو العلوم التجريبية أو غير ذلك مما انتشر في التفاسير القديمة.(3/973)
وثالثها: أراد دعاة المنهج الأدبي من الدعوة إلى التفسير الموضوعي والتحذير من التناول المتفرق للموضوع الواحد مما يشتت الذهن فيه ولا يؤدي إلى الفهم الكامل لعلاج القرآن الكريم واستحضاره كاملا.
هذه في اعتقادي أهم ثلاثة أمور أرادوا بدعوتهم للتفسير الموضوعي أن لا يقع فيها المفسر فهل أصابوا الحق في ذلك؟!
أما أولها: فسبق بيان الرد عليهم فيما وصفوا فيه تفاسير السلف فقد بينت هناك أن السلف وإن لم يتناولوا التفسير الموضوعي تطبيقا فإنهم قد استفادوا منه نظريا، فلا يفسر أحدهم آية إلا ويستحضر إنْ في ذهنه أو في مقاله الآيات الأخرى المشابهة ويزيدون أيضا أنهم يستحضرون معها ما هو خارج عن كلماتها؛ أعني بذلك السنة النبوية وهذا هو مضمون التفسير الموضوعي.
أما ثانيها: فإني أعتقد أن التفسير الموضوعي والالتزام به ليس هو الذي يمنع من التلون المذهبي والانحراف في التفسير عن الحق إلى الضلال والذي يمنع من ذلك إنما هو شيء بعيد عن القواعد المنهجية والأطر المحبوكة وإنما يكمن في سويداء القلب.
والواقع كما يقول الدكتور الفاضل محمد إبراهيم شريف أن التفسير القرآني حديثا لم يشهد ما خرج به عن حده وطبيعته إلا من أشهر محاولات الاتجاه الأدبي؛ تمسكًا والتزامًا وعصمة بالموضوعية ولم يشهد تاريخ التفسير على طوله ما يزلزل يقين الاطمئنان إلى معطيات النص القرآني التاريخية مثلما شهد من هذه المحاولة"1.
ونحمد الله أن هذه المحاولة لم يجفَّ مداد قلمي بعد من الحديث عنها تلكم هي "الفن القصصي في القرآن الكريم" للدكتور محمد أحمد خلف الله.
أما ثالثها: فلقد وقع دعاة التفسير الأدبي فيما فروا منه ووقعوا في نفس الحفرة التي حذروا منها.
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص517.(3/974)
فإذا كان دعاة المنهج الأدبي قد حذروا من التفسير المرتب؛ لأنه يؤدي إلى التناول المفرق للموضوع الواحد حسب وروده في السور مما يشتت الذهن، فإنهم قد تناولوا بالتفسير موضوعات ذات شعب شتَّتَ تناولهم لتلك الشعب الذهن أكثر مما شتته أولئك.
وتفصيل ذلك وبيانه يطول ولعل في ضرب المثال ما يغني عن كثير من المقال، وإذا كان الأمر كذلك فإنا نضرب المثل بالدراسة الموضوعية لـ "الظلم في القرآن الكريم"، قد يبدو ظاهرا أنه موضوع منفصل بذاته لكنه كغيره من الموضوعات بينه وبينها تداخل وترابط لا تصل إلى الحق فيه إلا عبر مسالك وممرات الموضوعات الأخرى.
فدراسة الظلم توجب بيان الشرك وهو في أبواب العقائد؛ لأن الشرك ظلم عظيم ولنفسك عليك حق ولجسدك عليك حق وإرهاقهما بالتكاليف ظلم فدخلت من هنا العبادات ولزوجك ولولدك ولجارك عليك حق والتقصير فيها ظلم فدخلت من ذلك المعاملات كما لا تنفصل عنها معانٍ أخرى؛ كعمل السوء، والافتراء، وتعدي حدود الله، والانحراف عن الصراط المستقيم.
ومنع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، وكتم الشهادة، والكذب على الله، والتكذيب بآياته، والإعراض عنها، واتباع الهوى، وأكل الربا، وأخذ مال الآخرين بغير حق، وأكل أموال اليتامى، وترك الحكم بما أنزل الله، وتولى الكفار، وخيانة الأمانة، واتهام البريء و ... و ... وغير ذلك كثير.
كل هذه معانٍ تدخل تحت الظلم ولا تتم دراسته إلا ببيانها وبهذا يظهر جليًّا أن موضوع الظلم ليس مستقلا بذاته وليس منفصلا عن الموضوعات الأخرى وإنما هو موضوع متصل مترابط معها تحدث في داخله كل هذه الموضوعات وإن كانت صبغته الخارجية ذات موضوع واحد.
ومن هنا فإن المفسر الموضوعي يخطئ حين يتصور أنه بدراسة الظلم في القرآن الكريم إنما يتناول موضوعا واحدا حقيقة بل الحق أنه يتناول موضوعات عدة ومن هنا أيضا يخطئ صاحب المنهج الأدبي إن اعتقد أنه بالدعوة إلى(3/975)
التفسير الموضوعي قد تحاشى تشتيت الذهن المزعوم هناك بل وقع فيما حذر منه.
وبهذا نعتقد بأن الدعوة إلى هذا اللون من التفسير لهذا الهدف قد أصبحت غير ذات جدوى.
ثانيا- الترتيب الزمني:
يرى دعاة المنهج الأدبي في التفسير أن ترتيب آيات القرآن الكريم حسب تاريخ نزولها أمر ضروري للتفسير وخطوة لا بد منها قبل الإقدام عليه. ولي في هذا ملاحظتان أذكرهما هنا:
الأولى: أن لا أحد ينكر ما لمعرفة ترتيب النزول من منزلة كبيرة ودرجة عالية في التفسير؛ إذ يترتب على ذلك أمور قد تقلب الحكم رأسا على عقب كيف لا والناسخ والمنسوخ إنما يعرف بهذا وسواه كذلك. لكن وما أصعب لكن هذه هل اتفق السلف أو الخلف على ترتيب معين لنزول آيات القرآن الكريم؟ قد نعرف تقدم آيات وتأخر أخرى لكنا لا نعرف يقينا ترتيبا كاملا لها.
وإذا كنا نجزم بذلك جزما، فإن بناء المنهج الأدبي على أساس عُلِمَ يقينا فَقْدُه أمر يحتاج إلى إعادة نظر.
الثانية: أن أحدًا من دعاة المنهج البياني أو الأدبي في التفسير لم يحل إلى ترتيب معين لا في القديم ولا في الحديث، ولم أر أحدا منهم قدم محاولة لهذا الترتيب، ولئن كان إهمالهم للخطة في التفسير الموضوعي قد يلتمس له عذر بأن النص موجود لكنه يحتاج إلى جهود وجهود، فإن الأمر هنا يختلف؛ إذ إن الجهود فيه مهما توافرت فإنها تفتقد السند والأدلة التي تأخذ بيدها إلى الصواب وإلا كانت كجهود من ينفخ في رماد.
ثالثا- النظر في المفردات وتدرج دلالة الألفاظ:
يَعتبر دعاة المنهج البياني في التفسير تتبع تدرج دلالة الألفاظ الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن وهم يقصدون من هذا الوصول إلى معناها في الوقت الذي تليت فيه أول ما تليت وتفسيرها به، ولنا في هذا وقفات:(3/976)
الأولى: أن العربي لا يفهم بعربيته كل ألفاظ القرآن الكريم؛ ذلكم أن القرآن الكريم خالق لمعناه في كثير من الأحايين وليس انعكاسا للعقل العربي أو الظروف التاريخية المحدودة1، فمن الألفاظ القرآنية ما يطابق كل المطابقة مدلولها في وقت نزولها، ومنها ما لا يطابقه كذلك فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف -وهو العربي القح- حائرا في مدلول كلمة "أَبَّا" وهذا رجل عربي آخر يفهم الخيط الأبيض والخيط الأسود أنهما خيطان يلمسهما بيده ويضعهما تحت وسادته وعلى مستوى الجماعة أولئك الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا مدلول الظلم في إحدى الآيات حتى بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون" 2، ومن هذا وأمثلة أخرى كثيرة ندرك أن القرآن وإن كان نزل بلسان عربي مبين وإن كان العرب الخلص يفهمون ويدركون مراميه بمقتضى سليقتهم العربية إلا أن ألفاظه الكريمة ليست صماء خالصة؛ بل إن فيها من المعاني الجديدة ما يضفي على اللغة إشراقة أخرى من المدلول الصحيح بحيث لا تنكرها اللغة ولا يعافها الذوق، وهذه قد يقصر عنها أحيانا معناها وقت نزولها فلا يكفي وحده لجلاء معناها الصحيح، فيحتاج مع ذلك إلى النظر في المركبات واستِكْنَاه معنى هذه المفردة على ضوئها.
خلاصة الأمر أن الاستعمال القرآني للمفردة قد يحمل معه معاني متجددة ليست مطابقة كل المطابقة لمدلولها الوضعي في وقت نزول القرآن الكريم.
الثانية: إن تتابع العلماء في تفسير القرآن الكريم يشهد أنهم لم يقفوا في ألفاظ اللغة على معنى واحد لا يتجدد، ولو فعلوا لانقطع مسار التفسير ولما تسلسل إلى عصرنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولما أوردوا في الكلمة الواحدة معانٍ متعددة، ولما حرص كل واحد منهم أن يسوق مع رأيه آراء العلماء الآخرين.
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د. محمد إبراهيم شريف ص528.
2 رواه الإمام أحمد في مسنده رقم 3589 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح؛ مسند الإمام أحمد ج5 ص207، وبمعناه رواه البخاري وغيره.(3/977)
وهذا اعتراف منطوق حينا ومفهوم أن معاني الكلمات القرآنية غنية ومتجددة يضفي كل مفسر منهم ما يراه مناسبا ويروض ثقافته وتصوره للمعنى في حرية حتى يستخرج ما قد يستنبطه من معانٍ جديدة وإلا فلا فائدة فيما جاء به إلا التكرار والترديد.
وإذا كان الأمر كذلك فإن التزام المنهج البياني لمدلول الكلمة ومعناها وقت نزول القرآن الكريم تعطيل لها عن معانٍ أخرى لم تظهر بعد تحمل معها مطابقة القرآن الكريم لمقتضى حال كل عصر من العصور معلنة إعجازا مستمرا متجددا لا ينقطع وداعية إلى زيادة التأمل والتدبر في آيات الله.
وليس هناك ما يمنع أن تحتمل ألفاظ القرآن الكريم وهي كلام الله سبحانه وتعالى الذي لا يشابهه كلام بشر معاني لم تظهر بعد ادخرها الله سبحانه وتعالى لأهل العصور التالية؛ ليكون ما فيها من مفاهيم وحقائق إعجازا لهم وأي إعجاز"1.
الثالثة: إن الدعوة إلى معرفة مدلول الألفاظ وقت نزول القرآن لا شك تعين على معرفة رأي صائب لكن هل الوصول إلى هذا من السهولة بمكان؟
لست أنكر أن تفسير الصحابة رضي الله عنهم، والشعر الجاهلي مما يساعد على الوصول إلى شيء من هذا، لكنه حتما لن يفسر الكثير منها.
لست أقول هذا تعجيزا ولا تثبيطا للهمم فالأستاذ أمين الخولي يعترف بهذا حين يقول: "وإذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة الفاظ القرآن فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين.. فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغي المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم بعمل في ذلك مهما يكن مؤقتا وقاصرا فإنه هو كل ما يمكن اليوم"2.
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص536.
2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص42-43.(3/978)
لكن الحق الذي أراه في هذا أن لا يجعل الوصول إلى هذا المعنى هو الأصل الأول في فهم الألفاظ القرآنية وإنما يعتبر معنيا للوصول إلى رأي صائب لا يمنع من معانٍ أخرى صائبة يحملها كلام حكيم خبير أنزل كتابه للأمة في عصر الرسول ولها في سائر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولئن كانت مطابقة النص القرآني لمقتضى الحال وقت نزول القرآن أمرا مطلوبا فإن مطابقتها لمقتضى أحوال الأمم والعصور التالية وهي مخاطبة به على حد سواء مع العصر الأول أمر أيضا مطلوب ومن الخير أن نسعى لبيان الأخير سعينا لبيان الأول.
رابعا- قبول التفسير النفسي ورفض العلمي التجريبي:
والحديث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال حديث عن البلاغة في القرآن الكريم، ومن هنا انطلق الأستاذ الخولي؛ ليقرر أمرا آخر على هذا سقنا نصه في حديثنا عن أسس المنهج ومنه قوله: "إن ما استقر من تقدير صلة البلاغة بعلم النفس قد مهد السبيل إلى القول بإعجاز القرآن النفسي للقرآن.. إلخ"1.
ولأن أرباب المنهج البياني ينظرون إلى مفردات القرآن من زاوية معانيها وقت نزوله فإنهم يرفضون كل ما تفسر به من نظريات أو حقائق علمية حديثة؛ لأنها لم تكن من مدلول المفردة حينذاك.
ومن هنا نرى ثغرة في منهجهم أو سمها إن شئت اضطرابا في المنهج كان الموقف الحق أن يرفضوا النظريات الحديثة لعلم النفس والنظريات العلمية الحديثة جميعا أو أن يقبلوها جميعا.
إذ كيف يسوغون تفسير النص القرآني الكريم بنظريات علم النفس الحديثة التي لم تكن من مدلول المفردة وقت نزول القرآن الكريم في نفس الوقت الذي يرفضون تفسيرها تفسيرا علميًّا كذلك.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص45.(3/979)
خامسًا- بين النظرية والتطبيق:
أبرز أسس المنهج البياني في التفسير هي النظر في المفردات ثم الدراسة الموضوعية.
وإذا نظرنا إلى نتائج اتباع هذا المنهج وأصحابه وجدا بعضها يهتم بالموضوع وقد يجيد التطبيق لكنه يتعثر في أول درجات النظر في المفردات فلا يكاد يخطو فيها خطوة.
وفي الجانب الآخر نجد دراسات نجحت في النظر في المفردات لكنها إذا حاولت -إن حاولت- التفسير الموضوعي تعثرت فيه ولم تكد تخطو خطوة واحدة!!.
وبهذا يكون المنهج البياني في التفسير حتى ساعتنا هذه مجرد نظرية لم تطبق بعد تطبيقا كاملا وآتي على هذا بشاهدين:
الأول الدكتور عفت محمد الشرقاوي حيث قال: "لكن الذي لا نفهمه أن آثار الشيخ أمين الخولي نفسه في التفسير لا تحتكم إلى هذا المنهج طويلا في استخراج الدلالة وهكذا ظل الفارق بعيدا بين الواقع والمثال في آثارهم جميعا"1.
الثاني الدكتور محمد إبراهيم شريف الذي قال: "تجدر الإشارة إلى أن المنهج بهذه الصورة من القيود والمتطلبات لم يرَ النور في محاولة ما من محاولات أتباعه وإنما وقعت محاولاتهم موقعا بعيدا عن الأمل الطموح بصورة أو بأخرى"2.
وقال أيضا بـ "تخلف النتائج عن المقدمات العريضة في دعوة المنهج الأدبي الموضوعي وقصور محاولاته ووقوعها في منزلة أدنى بكثير من طموح أصحابها، فلم تشهد الدعوة تطبيقا كاملا في إحدى محاولات التفسير"3.
__________
1 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث د/ عفت محمد الشرقاوي ص310.
2، 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف الصفحات على التوالي 508، 597.(3/980)
بل قال ما هو أشد: "وفي تصورنا الآن أن أمين الخولي إذا كان قد بدأ نظريته التفسيرية ليجدد منهج التفسير القرآني فلقد انتهى الأمر بالتفسير في نهاية نظريته إلى أن أصبح علما لم يبدأ بعد ولكن من الممكن له أن يبدأ بل أن ينمو وينضج إذا ما سار على ذلك الدرب الشاق بكل صعوباته ومسئولياته"1.
بقي أمر ينبغي أن لا أغفله وإن كان حقه أن أذكره في أول حديثي عن المنهج.. كان حقه كذلك لو أن الأستاذ أمين الخولي صرح به، لكنه؛ لأمر لا أدريه كَتَمَه وأحسب هذا يخولني ذكره في الملاحظات على المنهج.
ذلكم الأمر هو جانب التأثر ومصدره عند أمين الخولي في تقرير هذا المنهج
حقيقة أن الأستاذ أمين الخولي تأثر -فيما أرى- بثلاثة أشخاص؛ الأول والثاني منهما كان جانب التأثر بهما غير كبير جدًّا، ولعله لهذا أشار أو لمح إليهما وهما:
1- الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات القرآن".
2- الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير "المنار".
لكنه لم يذكر الثالث ولم يشر إليه من قريب ولا من بعيد مع أنَّا كما يقول الدكتور السيد أحمد خليل -لا نكاد نظفر بجديد عنده يختلف عما دعا إليه "شلاير ماشر"2.
ويقول الدكتور في موضع آخر عن القواعد التي أصلها شلاير ماشر الألماني لتفسير أي نص: "وقد كان لهذه القواعد والأصول مكانها البارز في حركة مجددة
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص510.
2 دراسات في القرآن: الدكتور السيد أحمد خليل ص145-146.(3/981)
قام بها الأستاذ أمين الخولي في الجامعة دون أن يشير رحمه الله تعالى إلى تأثره بهذه القواعد واستفادته منها"1.
ومن المعلوم كما أشرنا في ترجمته أن الأستاذ أمين الخولي عمل في المفوضية المصرية في برلين وأنه ألمَّ باللغة الألمانية.
ويبقى السؤال حائرا يبحث عن إجابة: لِمَ لَمْ يذكر الأستاذ أمين الخولي تأثره بقواعد التفسير عند شلاير ماشر الألماني الجنسية؟.
ومع هذه الملاحظات على هذا المنهج فإنه يبقى له وجه آخر مشرق حيث خط سبيلا بينا إلى الحقيقة القرآنية وأرشد إلى أسلوب أدبي صحيح في تذوق أساليب القرآن.
وأهم من هذا كله أنه كشف عن آفاق جديدة للإعجاز في القرآن الكريم وجدد في الأدباء المعارضين الحس الفني حيث الإبداع في العرض وقوة الحق وجمال الأداء وهو حس كادت أن تنطفئ ناره في مجتمع ألهته تيارات المادة في العصر الحديث.
وفوق هذا كله قدم بعض أرباب المنهج البياني نماذج أصيلة لتفسير المفردات حيث التتبع للفظة في القرآن الكريم واستخراج معناها من وحي السياق.
وإذا ما ابتعد أصحاب هذا اللون في التفسير عن تلك المزالق والمتاهات التي أشرنا إلى بعضها فإنه يؤمل لهذا المنهج أن يحتل في العصر الحديث مكانة سامية. سدد الله الخطى وأصلح النوايا. إنه سميع مجيب.
__________
1 المرجع السابق: ص13.(3/982)
الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير
المراد به:
لا أقصد بالتذوق الأدبي إطلاق العنان لكل قارئ لإعمال ذهنه الذاتي لاستخراج معاني النص؛ لأن هذا سيؤدي بنا حتما وعلى أحسن الأحوال إلى أن نجد في تفسير الآية الواحدة ما يساوي عدد القراء بل أكثر منهم.
ولكن أقصد به الموازنة بين الذات والموضوع، فللذات حقها في جانب الاستغراق في النص والشعور به بحيث لا يصل إلى الاستغراق الصوفي التام الذي يطغى على النص وعلى جانب الجمال الاجتماعي فيه.
وللموضوع حقه في التزام مدلوله اللغوي وحدوده الشرعية والتنبيه الدقيق إلى المعنى الصحيح السليم والتزام أبعاد معانيه ومدلولاته بحيث لا يتجاوزها فيشطح.
إن الموازنة بين الذات والموضوع -في رأيي- هي التي تستقر بصاحبها في ميدان التذوق الأدبي وبقدر الموازنة يكون الاستقرار فيه، فإن طغت الذات على الموضوع خرج عن نطاقه إلى نطاق التفسير الصوفي الذي يعتمد على الأوهام أكثر مما يعتمد على الحقائق، وجنح بصاحبه إلى الخيال الجارف الذي لا يعتمد على قواعد ثابتة ولا أصول راسخة بل يموج ويضطرب كما تضطرب الريشة في الهواء، ومن هنا نفذ الباطنيون إلى الإلحاد في تفسير القرآن الكريم حيث لا ارتباط بالنص ولا بمدلوله بل انسلاخ منه!!.(3/983)
وإن طغى الموضوع على الذات خرج عن نطاق التفسير العلمي البحت وضاقت جوانب جذبات النفس وارتباطها بالنص وأصبح المفسر والنص كتلتين منفصلتين لا تمازج بينهما ولا تجاذب، وحينئذ يكاد المفسر أن يكون مجرد آلة لا تفاعل بينها وبين معمولها.
إذًا فالتذوق الأدبي -عندي- يقوم على الموازنة بين الذات والموضوع.. هو وسط بينهما.
والتذوق للقرآن الكريم حركة نفسية وانطباع ذاتي لا يملك الإنسان له ردا ولا يستطيع له منعا، بل لا بد أن يظهر أثره في خلجات سامعه وسكناته شاء ذلك أم أبى وقد أدرك المشركون ذلك ولذلك سعوا إلى حسم سماعه أوَّلًا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1؛ وإنما فعلوا ذلك لإدراكهم أنهم لا يملكون دفعا للتأثر بل قد يأخذ منهم بالألباب ويؤدي بهم إلى ما لا يريدون وكل ما يملكونه أن يتداعوا إلى عدم سماعه واللغو فيه عند تلاوته حتى لا يصل إلى شغاف قلوبهم، فإن وصل فإنهم لا يملكون إلا أن يقولوا -حقيقة- إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ... إلخ، وقد يكابرون ويعاندون ويزعمون أنه سحر.
حتى الجن كانت النزعة الانطباعية عندهم عند سماعهم له أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 2.
والنصارى عند سماعهم له تفيض أعينهم من الدمع: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 3.
والذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم عند سماعه ثم تلين وتلين قلوبهم
__________
1 سورة فصلت: الآية 26.
2 سورة الجن: الآية الأولى.
3 سورة المائدة: الآية 83.(3/984)
معها: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 1.
هذه وتلك بعض مظاهر التأثر بالقرآن الكريم وتذوق نصوصه، ظهرت بين الناس على اختلاف أنواعهم بل والجن أيضا، واختلفت بين فيض الدمع وقشعريرة الجلد ولين القلوب وإظهار علامات الدهش والعجب.
ولكن هذه المظاهر لم تتجاوز التأثر الذاتي فلم يترجمها أحد أحرفًا على الورق يفيض بها ذوقه السامي، ويسطرها قلمه الطاهر معالم يهتدي بها من قصر باعه وقلت بضاعته فلم يتذوق النص أو لم يستطع التعبير عنه.
وحين تظهر عبارة صادقة معبرة عن مظاهر تذوقه، فإن الألسن حينئذ تتداولها وإن الرواة يتناقلونها كما يتناقل الصاغة الجوهرة الثمينة، حتى وإن كانت العبارة قصيرة حتى وإن كانت مجملة.
وخذ مثلا عبارة قالها الوليد بن المغيرة حين استمع إلى آيات من القرآن وهو الكافر ما ملك من أمره إلا أن قال: "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته"2.
تداول الرواة هذه العبارة لما فيها من تعبير صادق عن التذوق للنص القرآني وقدرة التعبير عنه، هذا والعبارة موجزة ومعناها مجمل.
كيف الأمر إذا وفق الله عز شأنه رجلا يخرج تفسيرا شاملا للقرآن الكريم يحمل مثل هذه المعاني السامية ويترجم دقائق جذور التأثر من أصولها أحرفا نيرة على الورق تحكى قمة من قمم التذوق الأدبي للنص القرآني الكريم.
لا أنكر بادئ ذي بدء أني وقففت طويلا وقفة شحيح ضاع في الترب
__________
1 سورة الزمر: الآية 23.
2 انظر فتح القدير: الشوكاني ج5 ص329.(3/985)
خاتمه، وقفت أدقق النظر وأرجع البصر ملتمسا أثرا يبصر أو لا يكاد يبصر لمعالم هذا المنهج وآثار السائرين فيه.
لم أكد أجد في الجادة إلا أثرا لقدمين هما لرجل واحد تمشيان فيه بعزيمة وثبات وكأنهما تسيران على خط شق لهما من قبل بل كأنهما تسيران على نور البصيرة والبصر.
وعدت أسائل نفسي ايعد طريق يبس إلا من قدمين اثنتين! من مناهج التفسير؟ وكان جوابها -وأحسبه حقا- أن المناهج كلها تبدأ كذلك ثم يكثر سالكوها، وهي من أول أمرها تعد منهجا.
إذًا فلا تثريب علي إن اعتبرت تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى منهجا في تفسير القرآن الكريم وحده.
ولعل لمعترض أن يقول: كيف تقدم النتيجة على المقدمة؟ زعمك أن انفراد سيد قطب رحمه الله تعالى في المنهج لا يمنع من اعتباره منهجا، زعمك هذا نتيجة لمقدمة تثبت انفراده رحمه الله تعالى، فهل حقًّا انفرد سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا المنهج؟
وجواب هذا المعترض ليس بإيراد التفاسير كلها وعرضها حتى أثبت به ما أقول، فهذا أمر يطول ويشق ولكنه بالشهود وهم كثير.
فهذا الدكتور محمد إبراهيم شريف يصف تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى "في ظلال القرآن" بأنه "يمثل تيارا برأسه يجمع فيه بين الذاتية والذوقية، والفنية الجمالية"1.
ويصفه في موضع آخر بالندرة من اعتبارات كثيرة2.
__________
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص583.
2 المرجع السابق: ص593.(3/986)
ويصف الدكتورعدنان زرزور منحى سيد قطب رحمه الله تعالى بأنه "منحى خاص"1.
أما الدكتور محمد المبارك، فيعترف لسيد بأن له "فضل كبير في السبق إلى الكتابة والنشر في هذه الموضوعات على أسلوب حديث"2.
بل إن الدكتور عفت الشرقاوي الذي تحاشى الحديث عن سيد قطب، وهو يكتب عن "اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث" لم يجد بديلا لسيد قطب وحين اضطر لذلك وصفه بـ "أحد الدارسين"3 وكتب دراسة لكتابه "التصوير الفني في القرآن الكريم" في عشر صفحات4 ومع هذا تحاشى ذكره أيضا في المصادر والمراجع فلم يذكر اسم كتابه حتى لا يضطر لذكر اسمه.
وهو مع هذا يذكر في نهاية حديثه عنه قوله: "لا يعثر الباحث على نماذج كثيرة في جهود المفسرين المحدثين تتخذ التذوق وحده رائدا في التفسير كما رأينا في المحاولة السابقة"5، ولا نظنه وجد نماذج ولو قليلة ولو كان قد وجد لما ذكر سيد قطب مثلا وإنما وجد دراسة وصفها بأنها مماثلة إلى حد ماء"5.
ما قصدت من هذا أن أذكر موقف الدكتور عفت6 ولكني قصدت مكانة سيد -رحمه الله- حيث لم يجد من حاول أن يتحاشى ذكره بدًّا من الإشارة إليه إذ ليس في الساحة سواه.
وأصرح من هذا كله وأوضح ما كتبه الدكتور صلاح دحبور في رسالته
__________
1 علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، ص416.
2 دراسة أدبية لنصوص من القرآن: محمد المبارك ص8.
3 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت حمد الشرقاوي الطبعة الأولى سنة 1972م، ص338.
4 المرجع السابق، انظر ص338 إلى 348.
5 المرجع السابق، ص348.
6 ولعل السبب في ذلك أن الشرقاوي ألف كتابه سنة 1963، وكان سيد قطب رحمه الله وقتها في سجن عبد الناصر.(3/987)
التي قدمها لنيل درجة الدكتوراه عن "في ظلال القرآن" حيث وضع عنوانا "سيد قطب يؤسس مدرسة جديدة في التفسير" قال فيه: "يعتبر الظلال لونا جديدا خاصا فريدا من التفسير، ويعتبر نقلة جديدة بعيدة في التفسير. وإن الظلال يعتبر مدرسة خاصة في التفسير. يمكن أن نعتبر سيد قطب مفسرا موهوبا ومؤسسا لمدرسة متميزة فريدة في التفسير. لقد كان سيد قطب مجددا في الظلال حيث سار على منهج خاص"1.
ونحن نقول مثل قولهم إن سيد قطب رحمه الله تعالى صاحب مدرسة خاصة ومنهج خاص.
ولهذا فلا تثريب علي إذ لم أقدم كعادتي في كل منهج دراسة عامة للمنهج وأهم المؤلفات فيه ثم اختيار تفسير أو تفسيرين كنموذج للمنهج أقف عندهما وقفة أطول.
لا تثريب علي إذا كتبت عن "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله تعالى مباشرة؛ لأنه يقف في الساحة وحده فهو والمنهج حتى الآن وجهان لعملة واحدة.
فإذا برع من بعده أحد في المنهج شاركه فيه وتفرد سيد بالأقدمية أما الآن فلسيد الأقدمية والانفراد.
__________
1 في ظلال القرآن دراسة وتحقيق: د/ صلاح عبد الفتاح دحبور، ص212-213.(3/988)
في ظلال القرآن:
أولا- المؤلف:
ما زالت يدي تمسك بالقلم حينا وتتركه حينا ذلكم أني ترددت كثيرا ووقفت طويلا.
ووقفت حائرا بين داعٍ يدعوني لكتابة ترجمة لسيد قطب رحمه الله تعالى كما ترجمت لغيره عند تناول تفاسيرهم.
وبين داعٍ يدعوني أن لا أكتب شيئا عنه، وكيف أكتب في صفحة أو صفحتين عن رجل كتب عنه العلماء في أكثر من عشرة كتب بعضها في مجلدات ضخمة، دع عنك التراجم والدراسات التي لا يكاد يخلو منها مؤلف في العصر الحديث عن الدراسات الإسلامية والقرآنية.
هل من اللائق لمثلي أن يكتب هذه الترجمة أمام هذه المؤلفات والدراسات الأصيلة عنه. وما الجديد فيما يقول شخص لم ولن يخرج عما قيل في هذه المؤلفات عنه رحمه الله تعالى.
ما زلت بين هذا وذاك حتى قر قراري على وجوب الترجمة ولو كانت موجزة وحتى لو لم تأتِ بجديد وحتى لو كانت أقل درجة؛ لأن ما سأذكره يكاد أن يكون القاسم المشترك بين هذه المؤلفات كلها وما يضير أن أشترك معهم في مقام كهذا ولذا فقد اخترت أن أكتب هذه الترجمة الموجزة التي أحسبها سهما -مجرد سهم- يشير إلى المؤلفات الضخمة عنه وحتى هذه المؤلفات لا أحسبها إلا سهما -أيضا- لكنها سهم ضخم يرشد إلى رجل لا كالرجال.
اسمه ونشأته:
سيد بن الحاج قطب بن إبراهيم: ولد في قرية من قرى الصعيد تتبع محافظة أسيوط اسمها "موشة" التي قدم إليها جده الخامس من الهند.
وكانت ولادته سنة 1906م حيث نشأ في أسرة ليست عظيمة الثراء وإن(3/989)
كانت أقرب إليه، وكان والده مضيافا ولذا كان له مكانة مرموقة بين أهل القرية.
انتهى سيد قطب من الدراسة في مدرسة القرية عام 1918م حيث انتقل للدراسة إلى القاهرة عام 1921 وإنما تأخر إلى هذا العام بسبب ثورة 1919م ضد الاحتلال البريطاني.
فاستقر سيد قطب في بيت خاله في القاهرة وفي عام 1925م التحق بمدرسة المعلمين الأولية ثم التحق عام 1928م في "تجهيزية دار العلوم" وهي مدرسة خاصة بكلية دار العلوم وتؤهل الطالب فيها للدخول في الكلية، ثم التحق بكلية دار العلوم عام 1930م وتخرج منها عام 1933م وله من العمر 27 سنة وحصل على شهادة الليسانس في الآداب. مع دبلوم في التربية.
بعد تخرجه زاول مهنة التدريس مدة ست سنوات انتقل بعدها إلى وزارة المعارف موظفا من سنة 1940 إلى 1948م حيث أوفدته الوزارة إلى أميركا.
وكانت رحلته تلك إلى أميركا نقطة تحول لحياته الفكرية حيث لم يكن إرساله إليها للدراسة للحصول على شهادة عالية كما يحسب بعض من كتب عنه وإنما كانت رحلة عملية ميدانية يقوم فيها بزيارة الجامعات والمعاهد العلمية في أميركا ويطلع على مناهجها التعليمية؛ ليعود فيطبقها على مناهج التعليم في بلاده.
ولذا كانت رحلته تلك ذات مدة مفتوحة وكان أمر إنهائها بيده وتنتهي بانتهاء دراساته الميدانية.
والأهم من هذا كله أن رحلته تلك ليست -حقا- للاطلاع على تلك المناهج وإنما للتخلص من سيد قطب وآرائه التي كان يطالب بها ويلح عليها، ولهذا فإن سيدا لم يوفق على الرحلة إلا بعد أن منع من الكتابة في الصحف، وأغلقت مجلة "الفكر الجديد" فلم يجد بدًّا من السفر.
وعاد وقد وجد ذاته هناك ووجد الإجابة على استفساراته وعن غاية الحياة وهدفها السامي النبيل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ(3/990)
لَهَا} 1، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2.
عاد وقد خبر الحياة الأميركية بل قل الحياة المادية وسجل ملاحظاته تلك في "أميركا التي رأيت" إلا أن مسودات هذا البحث كانت من ضحايا محنة الإخوان المسلمين عام 1954م حيث أحرقت ولم ينج منها إلا حلقات ثلاث مختصرة نشرت في أعداد مجلة الرسالة "957، 959، 961".
كانت طريقته في أميركا تختلف عن طريقة الآخرين عكسها تماما
كانوا يتخذون موقف الدفاع والتبرير عن الإسلام أما هو فكان يتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية لا يدع لهم مجالا للاستعلاء ولا يترك لهم فرصة لإشغاله عن الانطلاق كان يهاجم فيشغلهم بالرد ويتفرغ للدعوة ولا ينتظر منهم شبهة تشغله بالرد عنها.
حتى هذه اللحظة لم يكن له كبير اتصال مع جماعة الإخوان المسلمين إلى أن تم اغتيال حسن البنا رحمه الله تعالى سنة 1949م، وكان سيد وقتها في إحدى مستشفيات أمريكا حيث شاهد مظاهر الفرح والابتهاج بل والشماتة في كل شيء من حوله في الصحافة وفي جميع أجهزة الإعلام وفي كافة المنتديات كلها تهلل وتهنئ بعضها بعضا بالتخلص من أخطر رجل في الشرق، ولم يبق له عذر عند الله -كما يقول- إن لم أتبعها؛ فهذه أمريكا ترقص على جمجمة حسن البنا وهذه بريطانيا أيضا تسخر أجهزة مخابراتها حتى داخل أميركا لمحاربة الإخوان، فصمم في قرارة نفسه أن ينضم إلى الإخوان المسلمين.
وعاد سيد قطب وهو يعتقد أن تاريخ ميلاده هو تاريخ انضمامه إلى الإخوان المسلمين وكان يردد دائما: "لقد ولدت عام 1951م وهو تاريخ انضمامه إليهم".
__________
1 سورة فاطر: الآية 2.
2 سورة الأنفال: الآية 30.(3/991)
عاد وهو أخطر على من أرسلوه من قبلُ، فصار يكتب المقالات التي أقضَّت مضاجعهم، وجرت عليه الكثير من المضايقات، ولم يحسب لها حسابا، فراح يعدُّ البحوث ويلقي المحاضرات ويعقد الندوات ويدير الجلسات وصار بيته موئلا للشباب ومهوى للقلوب.
وقرن القول بالعمل، فدعا إلى قيام الكتلة الإسلامية كتلة ثالثة لا شرقية ولا غربية، وكان لسيد أثر كبير في قيام ثورة 23 يوليو، وكان موضع احترام رجالها وهو المدني الوحيد الذي كان يحضر أحيانا جلسات مجلس قيادة الثورة".
وحين طلبوا منه أن يلقي محاضرة في نادي الضباط في القاهرة غص النادي بالحضور من مختلف الفئات، وحرص على حضورها رئيس مجلس الثورة اللواء محمد نجيب بنفسه إلا أن عذرا طارئا منعه من ذلك، فحضرها نيابة عنه جمال عبد الناصر ولم يكتفِ بهذا بل أرسل رسالة مع أنور السادات يعتذر فيها عن الحضور، وقد تليت هذه الرسالة على الحضور وقد وصف سيد قطب فيها بأنه رائد الثورة ومعلمها وراعيها وقائد قادتها ورئيس رؤسائها1.
وليس بغريب أن يقول هذا محمد نجيب وهو الذي يعترف في مذكراته التي أصدرها مؤخرًا بعنوان "كنت رئيسا لمصر": "إنني أعرف أن الإخوان كانوا أول من ساعدوا عبد الناصر في تنظيم الضباط الأحرار" في فترة لم أكن فيها قد عرفت عبد الناصر ولا التنظيم"2.
ولم يكن سيد رحمه الله تعالى في محاضرته تلك متملقا ولا متشدقا للثورة. ولكنه أعلنها أن الثورة قد بدأت حقا وليس لنا أن نثني عليها؛ لأنها لم تعمل بعدُ شيئا يستحق أن يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام، وأعلن أنه يخشى من الثورة أكثر من
__________
1 سيد قطب الشهيد الحي: د/ صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص141 عن مجلة "كلمة الحق" السنة الأولى، العدد الثاني 1387، ص37.
2 كنت رئيسا لمصر: محمد نجيب، ص167.(3/992)
ذي قبل: "لقد كنت في عهد الملكية مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد مهيئ نفسي للسجن ولغير السجن أكثر من ذي قبل"1!!
وكان جمال عبد الناصر -كما قلنا- حاضرا فوقف وقال بصوته الجهوري: "أخي الكبير سيد؛ والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا جثثا هامدة ونعاهدك باسم الله بل نجدد عهدنا لك أن نكون فداءك حتى الموت"، وكان من بين الحاضرين الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار الذي كتب وصفا كاملا لهذا الحفل1.
وعرضت عليه الثورة مناصب عديدة رفضها كلها إلا منصب السكرتير العام لهيئة التحرير وما رضي به إلا ليسعى للتخطيط للسياسة العليا وكان يستحثهم الإسراع بتطبيق الشريعة الإسلامية وكانوا يراوغون ويماطلون فاستقال بعد شهور وخلفه في منصبه جمال عبد الناصر نفسه1.
وعندما وقع الصدام بين الإخوان مع قادة الثورة سنة 1954م كان سيد قطب رحمه الله تعالى في مقدمة المعتقلين وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما وتفرغ سيد رحمه الله تعالى في سجنه للدعوة؛ دعا بلسانه بين السجناء والجنود فكان يخطب فيهم العيدين والجمعة رغم مخالفة ذلك للتعليمات ودعا بقلمه فسطر أروع كتبه وأفضلها وأشهرها: في ظلال القرآن.
ويشاء الله أن يكون هذا التفسير من أسباب خروجه من السجن فقد كتب له القبول بين المسلمين وحين زار الرئيس العراقي عبد السلام عارف مصر؛ وكان قد قرأ الظلال توسط عند الرئيس جمال عبد الناصر؛ لإخراجه من السجن بطلب من علماء العراق وصدر الأمر بالإفراج عنه أواخر عام 1964م، وعرض عليه عبد السلام عارف أن يسافر معه إلى العراق ووعده بمنصب كبير لكنه رحمه الله آثر البقاء في مصر.
__________
1 سيد قطب الشهيد الحي: ص42 عن مجلة كلمة الحق التي نشر فيها الأستاذ العطار هذا الوصف "السنة الأولى العدد الثاني 1387 ص37-39".(3/993)
وخرج؛ ليواصل الدعوة ولكنهم في هذه المرة لم يمهلوه، فأعلنها جمال من عاصمة من عواصم الإلحاد، ونحمد الله أنها لم تعلن من عاصمة من عواصم الإسلام؛ أعلنها من موسكو. إن الإخوان المسلمين قد دبروا مؤامرة للاستيلاء على الحكم بالقوة؟! كان ذلك عام 1965م، فنشطت أجهزته في إلقاء القبض على الإخوان المسلمين وأصدقائهم ومعارفهم وأقاربهم ونسائهم وأطفالهم.
وأقيمت المذابح ونصبت المشانق ولم يترددوا في الإعدام والحرق والتعذيب في أبشع ألوانه وأشكاله تحت آلات أعدت له دونها محاكم التفيش في أوربا.
وشرف الله آل قطب، فسجن سيد وأخوه محمد، وأخواتهما الثلاث نفيسة -ولم يمنعهم سنها من ذلك فهي الشقيقة الكبرى لسيد- وأمينة، وحميدة وسجنوا أبناء أخته نفيسة حيث لقي أحدهما حتفه تحت التعذيب وسجنوا أيضا أولاد أخواله ولاقى هؤلاء جميعا من الأهوال ما لا يوصف ولا أدري لم ترد على خاطري كلما قرأت عن هذه الأسرة كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل ياسر: "صبرا آل ياسر؛ موعدكم الجنة"1.
كان سيد رحمه الله تعالى يحس هذه المرة إحساسا آخر كان يقول: "لقد عرفت أن الحكومة تريد رأسي هذه المرة"2، وصدق رحمه الله تعالى، فقد صدر الحكم بإعدامه مع اثنين من الإخوان المسلمين هما محمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل.
وقامت الاحتجاجات والمظاهرات في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وتوسطت كثير من الشخصيات، لكن الأمر في هذه المرة لا يقبل مثل هذا؛ ولذا فلم يقبل وساطة عبد الرحمن عارف كما قبل وساطة أخيه من قبل3.
ولو لم يترك لنا التاريخ إلا تلك الكلمات التي قالها سيد باستعلاء المؤمن
__________
1 السيرة النبوية: ابن هشام ج1 ص342.
2 الشهيد سيد قطب: جماعة أصدقاء الشهيد سيد قطب عن مجلة الأخبار الإسلامية الدولية. الباكستان عدد شهر اكتوبر 1966 ص56.
3 الشهيد سيد قطب: جماعة أصداء الشهيد سيد قطب ص104.(3/994)
وعزة المؤمن لكفى بها، كلمات تخط ليس بالذ هب كما يقولون وإنما بالنور نور الإيمان الذي لا ينطفئ ولا يحجب.
قال حين طلب منه أن يقدم التماسا إلى جمال عبد الناصر بالعفو عنه ووعد بالإجابة سلفا إن فعل: "لماذا أسترحم؟ إن سجنت بحق، فأنا أرضى حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"1.
وقال: " ... إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا يقر به حكم طاغية".
وقال حين طلب منه الاعتذار، فيصدر العفو عنه: لن أعتذر عن العمل مع الله1؟!!
وحين سئل عن صراحته في الإجابة على أسئلة المحكمة قال:
"لأن التورية لا تجوز في العقيدة، وأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص"1.
وأمام هذا كله صدر الحكم بإعدامه؛ أتدرون ما قال عند سماعه للحكم قال: الحمد لله لقد عملت خمسة عشر عاما من أجل الحصول على هذه الشهادة.
أتدرون ماذا يعني بالخمسة عشر عاما؟! تلكم فترة انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين فهو منذ أن انضم إليهم وهو يجعل الشهادة نصب عينيه وأحسبه إن شاء الله قد نالها، فهنيئا له.
فقد نفذ فيه حكمهم قبل بزوغ فجر يوم الاثنين 29/ 8/ 1966م الموافق 13 جمادى الأولى 1386هـ.
__________
1 سيد قطب الشهيد الحي: صلاح الخالدي ص154. والحق أن التورية تجوز بل التصريح لمن أكره وقلبه مطئن، ولعل سيد قطب رحمه الله فسر في آخر كلمته ما أراد في أولها.(3/995)
مؤلفاته:
مؤلفاته كثيرة بارك الله فيها ونفع بها الإسلام والمسلمين وهي أيضا مشهورة ومعروفة ولا أظن ذكري لها هنا يزيد القارئ معلومة أو معرفة توازي قيمة الإطالة في الحديث، لكني مع هذا أذكر ما يتعلق منها بالقرآن الكريم، وهي ثلاثة:
1- التصوير الفني في القرآن.
2- مشاهد القيام في القرآن.
3- في ظلال القرآن.
وأخيرا:
أعتذر عن الإطالة في الترجمة، فما علمت أني قد أطلت إلا بعد أن رفعت القلم، ولو يعلم القارئ من نفسي ما أعلم لعرف أن كابدت في اختصارها إلى درجة لا تقبل بعدها اختصارًا، ولو علم أيضا تلك المؤلفات المطولة التي سطرها أصحابها عن حياة سيد قطب رحمه الله تعالى لعلم أني قد قصرت1 غفر
__________
1 صدر عن سيد قطب رحمه الله تعالى عدد من المؤلفات منها:
1- العالم الرباني الشهيد سيد قطب: للأستاذ العشماوي أحمد سليمان.
2- سيد قطب: للأستاذ محمد توفيق بركات.
3- مع سيد قطب فكره السياسي والديني: للدكتور مهدي فضل الله.
4- سيد قطب وتراثه الأدبي الفكري: للأستاذ إبراهيم بن عبد الرحمن البليهي.
5- سيد قطب أو ثورة الفكر الإسلامي: للأستاذ محمد علي قطب.
6- الشهيد سيد قطب: مجموعة مقالات نشرت في الصحف جمعها بعض أصدقاء الشهيد سيد قطب.
7- سيد قطب الشهيد الحي: للأستاذ صلاح عبد الفتاح الخالدي وعلى هذا الكتاب اعتمدت في هذه الترجمة إلا ما أشرت إلى مرجعه.
8- رائد الفكر الإسلامي المعاصر الشهيد سيد قطب: للأستاذ يوسف العظم، وهناك رسائل عليا منها ما هو للدكتوراه مثل: في ظلال القرآن دراسة وتقويم للاستاذ صلاح عبد الفتاح جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومثل: سيد قطب ناقدا للأستاذ أحمد البدوي جامعة الخرطوم، وسيد قطب والتصوير الفني في القرآن: صلاح عبد الفتاح "ماجيستير"، وسيد قطب الأديب الناقد: للأستاذ عبد الله الخباص "ماجيستير" الجامعة الأردنية.(3/996)
الله لي ولكم ولسيد قطب وآله وإخوانه المسلمين وجمعنا في مستقر رحمته. إنه سميع مجيب.
ثانيا- في ظلال القرآن:
لهذا التفسير مزايا داخلية ومزايا خارجية؟ تسألون عن الخارجية فأقول: إنها مزايا شيقة أيضا وأعني بها تلك الأطوار التي مر بها هذا التفسير منذ أن سطرته أصابع صاحبه إلى أن طبع طبعاته الشرعية الأخيرة.
وليس هذا مقام الكتابة عنه مفصلا حتى أتناول تلك المزايا، وقد كفانا مؤنة ذلك الأستاذ صلاح الخالدي في كتابه سيد قطب الشهيد الحي، ويكفي أن أقول هنا: إن هذا التفسير أول ما أشرقت شمسه وبرقت جواهره كان في كتاب آخر سماه "التصوير الفني في القرآن"، ثم بدا لصاحبه أن يعرض القرآن كله على ضوء ذلك.
ثم ترجم هذه الأمنية ليس في كتاب بل في مجلة كان يصدرها سعيد رمضان واسمها "المسلمون" فكتب مقالات شهرية تحت عنوان "في ظلال القرآن" ونشر في المجلة سبع حلقات تولدت عنده بعدها عزيمة أخرى أن يقوم بتأليف تفسير كامل على هذا النهج ويصدره في كتاب مستقل في ثلاثين جزءا يظهر كل جزء خلال شهرين، ووفى رحمه الله بوعده بل كان أحيانا يصدر الجزء في أقل من شهرين وكفى أنه صدر ما بين أكتوبر 1952م وبين يناير 1954م "أي في سنة وأربعة أشهر" ستة عشر جزءا بمعدل جزء في كل شهر واحد.
ودخل السجن وأصدر منه جزءين: السابع عشر والثامن عشر ثم خرج من السجن وعاد إليه أخرى فأصدر بقية الأجزاء ولم يكتفِ بذلك بل عاد ينقح الأجزاء الأولى ويطبعها منقحة فتضاعف حجمها إذ كان حجم الجزء منها يزيد على ضعف حجمه في الطبعة الأولى ووصل في التنقيح إلى الجزء العاشر.
وأخرج من السجن، فواصل العمل وقام بتنقيح الأجزاء 11، 12، 13، ودخل السجن ثالثة، ولكن الطغاة هذه المرة لم يمهلوه بل أعدموه رحمه الله رحمةً(3/997)
واسعة، وطبع الكتاب بعد ذلك عدة طبعات من أهمها الطبعة اللبنانية في ثمانية مجلدات ضخمة ثم تولت طباعته بعد ذلك دار الشروق في ستة مجلدات وما زال يطبع كذلك.(3/998)
منهجه في التفسير
مدخل
...
منهجه في التفسير:
لا شك أن الحديث عن سيد قطب رحمه الله تعالى حديث تنصت له القلوب قبل الآذان؛ لا لأنه سيد قطب ولكن لأنه مثال الداعية الذي أبى أن يخضع لجبروت الطاغية، فباع حياته ثمنا للدفاع عن عقيدته، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
أما الحديث عن تفسيره فلا تمله القلوب بل تميل إليه ولا تمله الأفئدة بل تهفو إليه، ليس من ناحية واحدة فيه بل من شتى نواحيه وحين تتحدث عن ناحية واحدة منها فإنك تجد من لسانك إطنابا ومن قلمك سيلا ومن تلك الناحية عطاءا ومددا لا تكلُّفَ فيه ولا زيادة.
لست أقول هذا وقد جعلت حاجز المحبة بيني وبين الواقع ولكني أقوله بلسان هذا الواقع فقد صدر عن هذا التفسير كثير من الدراسات والأبحاث وما زال نبعها فيضا وما زال عطاؤها متجددا.
وما دام الأمر كذلك فلا تطمعن مني في هذا المقام أن أصب لك البحر في كأس.
ولا أكتمك حديثا أني وقفت حائرا على شاطئ هذا التفسير؛ أيَّ جواهره التقط وأيها أدع. عن أي درره أتحدث وعن أيها لا يسعني الحديث؟ هل أتحدث عن الأهداف الأساسية أو الأغراض الرئيسة فيه أو أتحدث عن معالم الجمال فيه؟ أو أقصر حديثي عن التفسير الفكري أو أبسطه في الحديث عن التفسير الحركي العملي عنده؟ أو أتكلم عن سماته أو عن مميزاته أو عن واقعيته، أو عن عرضه البياني المشرق أو عن طريقته الخاصة في التفسير أو موضوعيته.
هذا قليل من المداخل الواسعة لدراسة تفسير "في ظلال القرآن" فهل ترون من حقي أن أكتب عن كل هذه المعالم؟ إذًا فالأمر يحتاج لا أقول لبحث(3/998)
مستقل بل لأبحاث وما دام الأمر كذلك فلا بد من قصر الحديث على الجانب الذي يواجه دراستنا هذه منها أعني الحديث عن أسس منهجه في التفسير دون سواه، وعذركم أيها الأحبة أن دخلت فيها مباشرة فقد قدمت العذر1.
__________
1 للأستاذ صلاح دحبور دراسة واسعة قيمة قدمها لنيل درجة الدكتوراة عن "في ظلال القرآن" دراسة وتقويم، وقد استفدنا منها كثيرا في رسم معالم هذه الدراسة لهذا المنهج، وقد كنت أود أن أكتفي بدراسته هذه، لولا رغبتي بوفاء هذا الكتاب باتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، كما ذكرت ذلك في منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة.(3/999)
الأساس الأول: الأسلوب الأدبي
آتى الله سبحانه وتعالى سيد قطب رحمه الله تعالى موهبة أدبية رائعة وأسلوبا أدبيًّا ساميًا. لا يشك في ذلك اثنان وفي أنه استخدم هذه الموهبة في تفسيره خير استخدام، ولعل هذا من أسباب القبول الذي لقيه الكتاب بين المسلمين في عصرنا هذا.
وقد انفرد سيد رحمه الله تعالى بهذا الأسلوب من بين كثير من المفسرين في القديم وفي الحديث، فلا تكاد مهما بلغ جهدك أن تجد أحدا يجاريه في أسلوبه الأدبي المميز، وإنك لتشعر إن كنت ممن يتذوقون الأساليب أن فيما يكتب سيد إشراقا وعذوبة وروحا، قلما تبدو فيما يكتبه الآخرون.
ونحن نظلم تفسيره ونبخسه حقه إن اخترنا مثالا لذلك موهمين أن ما اخترنا هو المثل فكل تفسيره بلغ الرتبة، وكلها كانت له تلك المنزلة وحين نختار مثلا فليس لمزيد فضل فيه وإنما للتوضيح والبيان وضرب المثل فحسب.
وإذا كان الأمر كذلك فهذا تفسيره لسورة الضحى أقتطف لك منه ما يوقفك على ما ذكرت.
قال رحمه الله تعالى: "هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها، وإيقاعها، لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائف من ود، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل، وتسكب البرد والطمأنينية واليقين.(3/999)
إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، كلها نجاء له من ربه،
وتسرية وتسلية وترويح وتطمين كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع.
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فَتَرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطا عليه جبريل عليه السلام، فقال المشركون: وَدَّعَ محمدًا ربُّهُ! فأنزل الله تعالى هذه السورة.
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله، كانت هي زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقة الطريق وسقياه في هجير الجحود. وروحه في لأواء التكذيب، وكان صلى الله عليه وسلم يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهدى من طغاة المشركين.
فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد، وانحبس عنه الينبوع، واستوحش قلبه من الحبيب. وبقي للهاجرة وحده بلا زاد وبلا ري وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود، وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه.
عندئذ نزلت هذه السورة، نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينية واليقين.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
ما تركك ربك من قبل أبدا، وما قلاك من قبل قط، وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} .
ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مس هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
لا. لا. {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وما انقطع عنك بره وما ينقطع(3/1000)
أبدا {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} وهناك ما هو أكثر وأوفى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه.. الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة:
{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} .
"لقد أطلق التعبير جوا من الحنان اللطيف، والرحمة الوديعة والرضى الشامل، والشجى الشفيف:
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} .
ذلك الحنان وتلك الرحمة وذاك الرضى وهذا الشجى: تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة، الرقيق اللفظ، ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير الموسيقي الرتيبة الحركات، الوئيدة الخطوات، الرقيقة الأصداء، الشجية الإيقاع، فلما أراد إطارًا لهذا الحنان اللطيف، ولهذه الرحمة الوديعة، ولهذا الرضى الشامل، ولهذا الشجى الشفيف، جعل الإطار من الضحى الرائق، ومن الليل الساجي. أصفى آنين من آونة الليل والنهار. وأشف آنين تسري فيهما التأملات وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه، وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء، وصورهما في اللفظ المناسب فالليل هو: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه.. الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو، وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف والتأمل الوديع. كجو اليتم والعيلة. ثم ينكشف ويجلى مع الحى الرائق الصافي فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار ويتم التناسق والاتساق".
إن هذا الإبداع في كمال الجمال ليدل على الصنعة؛ صنعة الله التي لا تماثلها صنعة، ولا يتلبس بها تقليد! 1.
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3925-3926.(3/1001)
ومثل هذا الأسلوب تراه واضحا جليا عند تفسيره رحمه الله لقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، قال: إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها، كما يعجز الإدراك عن تصويرها بكل حقيقتها؛ ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة. حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم!.
هذه الوجوه الناضرة، نضَّرَهَا أنها إلى ربها ناظرة.
إلى ربها؟! فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟
إن روح الإنسان لتستمتع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء، أو الليل الساجي أو الفجر الوليد، أو الظل المديد، أو البحر العباب، أو الصحراء المنسابة، أو الروض البهيج، أو الطلعة البهية، أو القلب النبيل، أو الإيمان الواثق، أو الصبر الجميل إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود، فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور عوالم مجنحة طليقة، وتتوارى عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء.
فكيف؟ كيف بها وهي تنظر؛ لا إلى جمال صنع الله، ولكن إلى جمال ذات الله؟
ألا إنه مقام يحتاج أولا إلى مد من الله. ويحتاج ثانيا إلى تثبيت من الله.
ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك!
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .
وما لها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟
__________
1 سورة القيامة: الآية 22-23.(3/1002)
إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض؛ من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل. فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة. فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال مطلقا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدرها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله.
فأما كيف تنظر؟ وبأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟ فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني في القلب المؤمن، والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق!
فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟!
إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط مَحَطُّ الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك. وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور -مجرد تصور- كيف يكون ذلك اللقاء1.
وإن شئت أن تحلق مع سيد قطب رحمه الله تعالى في سماء الإبداع الأدبي وفضاء الألفاظ العذبة فاستمع أو اقرأ تفسير لقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 2، حيث يقول: ومشهد النجوم في السماء جميل ما في هذا شك جميل جمالا يأخذ بالقلوب وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته، ويختلف من صباح إلى
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3770-3771.
2 سورة الملك: الآية 5.(3/1003)
مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء. ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة ومن مرصد لمرصد ومن زاوية لزاوية، وكله جمال، وكله يأخذ بالألباب.
هذه النجمة الفريدة التي توصوص هنا، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء!.
وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان!.
وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان!.
وهذا القمر الحالم الساهي ليلة والزاهي المزهو ليلة، والمنكسر الخفيض ليلة. والوليد المتفتح للحياة ليلة، والفاني الذي يدلف للفناء ليلة!.
وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده، ولا يبلغ البصر آماده.
إنه الجمال، الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات"1.
واقرأ إن شئت تفسيره لقوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2، حيث يقول: "تبصرة تكشف الحجب، وتنير البصيرة وتفتح القلوب وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب، تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب.
وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل، هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثر في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية"3 ... إلخ.
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3633-3634.
2 سورة ق: 8.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3359.(3/1004)
بهذا الأسلوب الذي يأخذ بالألباب كان سيد يعرض معاني الآيات القرآنية، وبهذه الألفاظ الأدبية والمعاني البليغة كان يفسرها حتى كان بحق التفسير الأدبي المميز.(3/1005)
الأساس الثاني: تذوق النص القرآني
ونقصد بهذا معنى دقيقا يشعر به كل من يواجه النصوص القرآنية ابتداء، وينسكب في حسه بمجرد الاستماع لهذا القرآن وقد يستطيع أن يترجمه إلى كلمات وقد لا يستطيع، فيبدو على قسمات وجهه عجبا ودهشة لروعة القرآن يسمى هذا تذوقا للنص ويسميه آخرون انطباعًا ذاتيًّا.
واسمع إلى سيد قطب رحمه الله تعالى يقول: "إن في هذا القرآن سرًّا خاصًّا يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء. قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها إنه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير. وأن هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحا ويدركه بعض الناس غامضا، ولكنه على كل حال موجود هذا العنصر الذي ينسكب في الحس يصعب تحديد مصدره: أهو العبارة ذاتها؟ أهو المعنى الكامن فيها؟ أهو الصور والظلال التي تشعها؟ أهو الإيقاع القرآني الخاص المتميز من إيقاع سائر القول المصوغ من اللغة؟ أهي هذه العناصر كلها مجتمعة؟ أم أنها هي وشيء آخر وراءها غير محدود؟!
ذلك سر مودع في كل نص قرآني يشعر به كل من يواجه نصوص هذا القرآن ابتداء، ثم تأتي وراءه الأسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله"1.
ولعلك تدرك مكانة هذا السر عند سيد إذا علمت أن الأسرار المدركة بالتدبر والنظر ... إلخ، تأتي وراءه.
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3399.(3/1005)
ولقد اعترف رحمه الله تعالى في موضع آخر أنه من المحال عليه أن يترجم إيقاع القرآن الكريم في حسه بالألفاظ والتعبيرات فيقول: "إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي ومن ثم أحس دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذه الظلال1!.
وهذا هو ما يطلق عليه الأدباء: الصلة بين القيم الشعورية والقيم التعبيرية في العمل الأدبي؛ أما كيف يعبر الأديب بالألفاظ للدلالة على تجاربه الشعورية الكامنة فيرى سيد قطب رحمه الله تعالى: "أن الانفعال بالتجربة الشعورية يسبق التعبير عنها وفي بعض الحالات يكون هذا الانفعال من التوهج والحرارة والإشراق بحيث يغمر إحساس الأديب ويجعله في شبه نشوة أو في نصف غيبوبة. وأغلب ما تصيب هذه الحالة الشعراء، وقد يُتِمُّ الشاعر عمله في هذه الحالة الفذة، ثم يراجعه فيعجب لنفسه كيف واتته القدرة على صوغ هذه العبارات. وقد يقف أمام بعضها معجبا متعجبا كما لو كان يشهدها أول مرة؛ لأنه لم يتنبه لها كل التنبه في أول مرة وقد عانيت بنفسي حالات من هذا النوع كثيرة وأنا أكتب "التصوير الفني في القرآن" وكذلك وأنا أكتب "في ظلال القرآن" في بعض الأحيان"2.
ولكنه أحيانا ينفعل مع النص ويحس به يملأ مشاعره ومع هذا لا يستطيع أن يعبر عنها تعبيرا كافيا. خذ مثلا لذلك ما قاله في تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} 3 الآيات، قال: إنهم جماعة خاصة ذات طبيعة خاصة، وإن كانوا بشرا من البشر فمن هم؟ وما الرسالة؟ ما طبيعتها؟ كيف تتم؟ لماذا كان هؤلاء وحدهم رسلا؟ وبماذا؟ أسئلة طالما أشفقت أن أبحث لها عن جواب! إن حسي ليفعم بمشاعر ومعانٍ لا أجد لها كفاء من العبارات ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني بالعبارات"4.
__________
1 في ظلال القرآن ج4 ص2038.
2 النقد الأدبي: سيد قطب ص42-43 باختصار.
3 سورة البقرة: 253.
4 في ظلال القرآن: ج1 ص278.(3/1006)
كان رحمه الله تعالى يتفاعل مع النص القرآني تفاعلا يجلو له كثيرا من المعاني ويوضح له حقيقة بعض الأحداث والوقائع. خذ مثلا لذلك ما قاله في تفسير قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} 1، فقد سأل عن سبب سجود المشركين عند سماعها وأجاب على ذلك.
"لقد بقيت فترة أبحث عن السبب الممكن لهذا السجود. ويخطر لي احتمال أنه لم يقع، وإنما هي رواية ذكرت لتعليل عودة المهاجرين من الحبشة بعد نحو شهرين أو ثلاثة وهو أمر يحتاج إلى التعليل.
وبينما أنا كذلك وقعت لي تلك التجربة الشعورية الخاصة التي أشرت إليها من قبل.
كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ للقرآن من قريب، يتلو سورة النجم. فانقطع بيننا الحديث لنستمع وننصت للقرآن الكريم وكان صوت القارئ مؤثرا وهو يرتل القرآن ترتيلا حسنا.
وشيئا فشيئا عشت معه فيما يتلوه. عشت مع قلب محمد صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الملأ الأعلى. عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها. ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله! وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة. عند سدرة المنتهى، وجنة المأوى. عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي وتحلق بي رؤاي، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي.
وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها إلى آخر هذه الأوهام الخَرِفَة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى.
ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض، وأمام الأجنة في بطون الأمهات. وعلم الله يتابعها ويحيط بها.
__________
1 سورة النجم: 62.(3/1007)
وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة:
الغيب المحجوب لا يراه إلا الله والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد والحشود الضاحكة والحشود الباكية وحشود الموتى وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذَكر أو أنثى.
والنشأة الأخرى ومصارع الغابرين والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى!
واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ، لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} .
ثم جاءت الصيحة الأخيرة واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب:
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ؟
فلما سمعت: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقا إلى أوصالي واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي.
لم أملك مقاومته فظل جسمي كله يختلج، ولا أتمالك أن أثبته، ولا أن أكفكف دموعا هاتنة، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة!
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح، وأن تعليله قريب.
إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها،
ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع، وكانت مني هذه الاستجابة وذلك سر القرآن، فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير؛ فيكون منها ما يكون!
لحظة كهذه مست قلوب الحاضرين يومها جميعا ومحمد صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة، يقرؤها بكيانه كله ويعيش في صورها التي عاشها من قبل بشخصه وتنصب كل هذه القوة الكامنة في السورة من خلال صوت(3/1008)
محمد صلى الله عليه وسلم في أعصاب السامعين فيرتجفون ويسمعون:
{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} ، ويسجد محمد والمسلمون فيسجدون1.
وقد يقرأ سيد رحمه الله تعالى النص ويكرر قراءته مرات عديدة لكنه في كل هذه المرات لا يفهم النص كما يفهمه إذا تذوقه وإذا تفاعل معه، واقرأ تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} 2. قال: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات. وفي أثناء حفظي للقرآن وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان هذا النص، حين واجهته في "الظلال" أحست أني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان"3، ثم ذهب رحمه الله تعالى يجلو هذه المفاهيم التي لم يكن ليصل إليها لو لم يتفاعل مع النص ويتذوقه التذوق الحق.
وتذوق النص والتفاعل معه لا يكون نتاجه الفهم الدقيق للمعاني، بل يظهر أثره على الجسد، فقد يبكي ويسجد كما فعل في آخر سورة النجم وقد يقشعر جسده حين يقرأ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} 4.
قال رحمه الله تعالى: "ما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} 5، ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ. ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس والكرب المزلزل الذي يرج
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3420-3421.
2 سورة التوبة: 111.
3 في ظلال القرآن: ج3 ص1716.
4 سورة يوسف: 110.
5 سورة البقرة: 214.(3/1009)
نفس الرسول هذه الرجة وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق"1.
وأخيرا اقرأ ما جاء في مقدمته لتفسير سورة الأنعام قال رحمه الله تعالى: "وهذه السورة -مع ذلك- تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة، إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف وفي كل مشهد تمثل الروعة الباهرة، الروعة التي تبده النفس، وتشده الحس، وتبهر النفس أيضا وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا! نعم هذه حقيقة! حقيقة أجدها في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها"، إلى أن قال: "والحياة في جو القرآن لا تعني مدارسة القرآن وقراءته والاطلاع على علومه. إن هذا ليس "جو القرآن" الذي نعنيه؛ إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن أن يعيش الإنسان في جو وفي ظروف وفي حركة وفي معاناة وفي صراع وفي اهتمامات كالتي كان ينزل فيها هذا القرآن، هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان فيتذوق هذا القرآن، فهو في مثل هذا الجو نزل، وفي مثل هذا الخضم عمل والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه والمحاولة التي نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن ليست بالغة شيئا إلا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة ويصلوا إلى المنطقة الأخرى، ويحاولوا أن يعيشوا في جو القرآن حقا بالعمل والحركة، وعندئذ فقط سيتذوقون هذا القرآن ويتمتعون بهذه النعمة التي ينعم الله بها على من يشاء"2.
عفوا أيها الأحبة هل ينكر أحد بعد ذلك أثر التذوق القرآني في التفسير؟ وهذا سيد قطب رحمه الله تعالى يعلن مرارا أنه قرأ كثيرا من الآيات لكنه لم يدرك في كل قراءاته السابقة ما أدركه بعد ما عاش في الجو القرآن وتذوق القرآن.
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2036.
2 في ظلال القرآن: ج ص1015-1017 باختصار.(3/1010)
كان يتضح لسيد بعد ذلك كثير من المعاني وكثير من الأحداث التي استعصى عليه فهمها من قبل، وبهذا تميز تفسيره رحمه الله تعالى عن كثير من التفاسير المعاصرة والقديمة التي كانت تعني بالنص، بالنص وحده، من غير أن تعيش في جوه، ومن غير أن تتفاعل معه فيتولد العطاء.
حقا إن هذا الأساس ميزة من مزايا تفسيره لا يعرف أثره ولا يدرك ما يفتح من المعاني إلا من قرأ في ظلال القرآن فليقرأه من لم يفعل.(3/1011)
الأساس الثالث: الحركية
...
الأساس الثالث: الواقعية الحركية
يتميز "في ظلال القرآن" أن صاحبه لم يكتبه مرة واحدة، بل كتبه مرة تحت ظلال المنبر ومرة تحت ظلال السيوف كتبه مرة بمداد قلمه وأخرى بدماء قلبه!!
قلت فيما سبق أن سيدا رحمه الله تعالى أصدر من الظلال ستة عشر جزءا ومن السجن أصدر باقية من أول أجزائه إلى الجزء السابع والعشرين منها، ثم وفقه الله إلى إدراك سمة من سمات هذا الدين وخصيصة من خصائصه واكتشف المنهج الحركي للقرآن الكريم، فالتزمه في الجزاء الأربعة الأخيرة ورأى أنه لا بد من إعادة النظر فيما كتب، وأن ينطلق في ذلك من إدراكه الجديد وقد كان له ذلك من الجزء الأول إلى نهاية الجزء الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، ثم عاجله الطغاة.
وما ظنكم أيها الأحبة في قاعدة دعته إلى أن يعيد كتابة تفسيره من أوله وأن يكتبه من جديد. إنها وربي لقاعدة هامة ولأساس متين، بل وكيف نسمح لأنفسنا باستكشاف منزلتها وسيد نفسه قد بين ذلك، حيث يقول:
"ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن سمة الواقعية الحركية؛ لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه.
إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت نزول النص القرآني.(3/1011)
لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته، ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي، ويواجه حالة واقعة، كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها، كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم، ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.
نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة، ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى صلوات الله وسلامه عليه، والعصبة المسلمة معه من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة، التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شئون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تُبتلى في سبيل الله به.
إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به مما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن، ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه على النحو الذي أسلفنا، وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة"1.
وكثيرا ما يؤكد رحمه الله تعالى على هذا المنهج في التعامل مع النص القرآني يقول: "ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا كبيرا، إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2122.(3/1012)
يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به"1.
ويؤكد رحمه الله تعالى أن القرآن كان دائما في المعركة؛ سواء أكان ميدانها القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام أو كان الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها، ويؤكد أن تلك المعركة ما تزال قائمة؛ فالنفس البشرية هي النفس البشرية وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها والقرآن حاضر وبيَّن أنه لا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة؛ ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة وأنه لا فلاح ولا نجاح ما لم يستيقن المسلمون بهذه الحقيقة2.
ويصف القرآن بأنه كائن حي متحرك يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ويواجه حالات واقعة، فيدفع هذه ويقر هذه ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها فهو في عمل دائب وفي حركة دائرة إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة وهو العنصر الدافع المحرك الموجه في الميدان3.
وكما أن تذوق النص القرآني وتعاطف القلب معه له أثره في فهمه فإن الظروف والأحداث الواقعة تطلق الطاقة المكنونة في النص وهذا سيد رحمه الله تعالى يقرر هذا بقوله: "إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة.
وكفى إنما هو رصيد من الحيوية الدافعةن وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب"4.
وما قاله رحمه الله تعالى في التذوق وأثره وأنه يقرأ النص عدة مرات
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص1894.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص180.
3 في ظلال القرآن: ج1 ص304-305.
4 في ظلال القرآن: ج5 ص2836.(3/1013)
فلا يعرف منه ما يعرف إلا إذا تفاعل مع النص وتذوقه فإنه يقول هنا أيضا: "وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه وإلى الاطمئنان العميق وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث"1.
وإذا كانت الواقعية الحركية سمة من سمات هذا القرآن لها الأثر الكبير في تفسيره وجلاء معانيه فإنها سمة من سمات الدين كله، وهذا سيد قطب -رحمه الله تعالى- يجلو لنا ذلك بقوله: "والسمة الثانية في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتا الواقعية وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.
فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدر كون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية؛ ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ويقولون -وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائع لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يُسْدون إلى هذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع
__________
1 المرجع السابق.(3/1014)
الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعنقها بكامل حريتها"1.
ويبقى سؤال أو سؤالان عن الواقعية واقعية من؟ والحركية في مواجهة من؟ ويجيب سيد رحمه الله تعالى على هذا بقوله: "وإذا كان "البيان" يواجه العقائد والتصورات، فإن "الحركة" تواجه العقبات المادية الأخرى -وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة.
وهما معا -البيان والحركة- يواجهان "الواقع البشري" بجملتهن بوسائل مكافئة لكل مكوناته وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض "الإنسان" كله في "الأرض" كلها، وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى2.
ثم وجه سيد رحمه الله تعالى دعوة أشعر من حيث لا أدري بأنه يعتصرها من سويداء قلبه دعانا فيها نحن معشر المسلمين المعاصرين إلى إزالة الفجوة العميقة بيننا وبين القرآن وإلى إزالة الحاجب السميك بيننا وبين القرآن، وسيظل هذا وذاك طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه الإنسان، والتي تواجه هذه الأمة بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيًّا حيًّا، نشأ عنه وجود ذو خصائص في حياة الإنسان، بصفة عامة وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.
ومن هنا فإن سيدا رحمه الله دعا هذه الأمة أن تتعامل مع القرآن كما تعاملت معه الأمة التي خاض بها معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية
__________
1 في ظلال القرآن: ج3 ص1432-1433.
2 في ظلال القرآن: ج3 ص1434.(3/1015)
كلها معها، وإن القرآن يملك أن يوجه الحياة الحاضرة وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهتها في شئونها الجارية وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها بنفس الحيوية ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك1.
وأنظر إلى الجباه فأكاد أقرأ في قسماتها سؤالا وأنظر إلى الشفاه، فأكاد أسمعه عن الواقعية والحركية هذه.. أقرأ هناك وأسمع هنا نقدا مختفيا في سؤال.. قرأنا ما كتبت عنهما في الصفحات السابقة لكنا نراك مرة تنقل نصًّا لسيد رحمه الله تعالى يجعل الواقعية والحركية سمة من سمات الدين ونراك أنت تجعلها سمة من سمات تفسيره فهل هذا تناقض منك؟ أو هل بينهما من صلة؟
وأقول جوابا: نعم إن بينهما صلة؛ صلة الفرع بالأصل فالواقعية والحركية في الدين ولَّدتا عند سيد قطب رحمه الله تعالى التزامهما في تفسيره، فجاء تفسيره التزاما لمنهج الدين فيهما.
وإن شئت بعد هذا أن تلمسهما في تفسيره فاعلم أنهما أكثر ما يكونان فيه بل إن الواقعية عنده قد تولد عنهما قواعد أخرى برزت وعظمت حتى انفصلت.
ومن أغراض القرآن الأساسية ومنهجه الحركي انطلق سيد قطب -رحمه الله تعالى- لبناء منهجه الحركي التربوي وصارت الحركية والعمل والتفاعل مع النص المحوَّر الذي يدور عليه تفسيره، فلا ثمرة لترديد ألفاظ القرآن أو ترتيله تراتيل مهومة ما لم يتحول ذلك إلى قوة دافعة وإلى طاقة محركة تقود الإنسان وينقاد لها.
ونظرة عجلى لتفسير سيد قطب رحمه الله تعالى تظهر بلا شك أن وقفات سيد ونظراته وأفكاره ومناقشاته وعرضه وبيانه كلها تتحقق فيها الواقعية الجدية.
__________
1 في ظلال القرآن: ج1 ص348 بتصرف.(3/1016)
وتبرز معالم هذه الحقيقة في صور شتى ومواضع عديدة فلم يتناول إلا الأمور الجادة النافعة، ورتب عليها آثارا عملية نتاجها الفوائد الجمة، أما تلك الأمور التي لا يترتب عليها حكم أو فائدة فإنه يعرض عن الخوض فيها.
ولهذه القاعدة في التفسير عند سيد رحمه الله تعالى جاء تفسيره تحسبه -وقد استمده من القرآن- علاجا مفصلا دقيقا لقضايا العصر وكأنه إنما أنزل لهذا العصر ولعلاج أمراضه المختلفة.
ولعل مصدر الواقعية الجدية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} 1 وقد اهتم سيد رحمه الله تعالى بهذه الواقعية الجدية في هذه الآية فأورد ست روايات في سبب نزولها، وأحاديث ثلاثة في النهي عن كثرة الأسئلة وأربعة أقوال عن السلف في النهي عن ذلك ومنهج السلف الواقعي الجدي في السؤال والاستفتاء والفتوى الذي لا يجيب إلا على ما وقع من الأمور وترك ما لم يقع2 ولذلك وصفه رحمه الله تعالى "بأنه منهج واقعي جادٌّ. يواجه وقائع الحياة بالأحكام المشتقة لها من أصول شريعة الله مواجهة عملية واقعية"3.
وخذ مثلا لتطبيقات سيد رحمه الله تعالى لهذا الأساس ففي تفسير قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 4 لم يتناول رحمه الله تعالى إلا الآثار الدعوية والعملية لهذا النص وإيحاءاته الاعتقادية والدلالات الحركية له، وأعرض عن الخوض في تفصيل كيفية اشتراك الملائكة في المعركة وعن حصر قتلاها من المشركين، ولا كيف قتلتهم الملائكة، وهو ما خاض به بعض المفسرين ولم يخرجوا بنتيجة واقعية جادة ويصف
__________
1 سورة المائدة: الآية 101.
2 في ظلال القرآن: ج2 ص986-988.
3 في ظلال القرآن: ج2 ص987.
4 سورة الأنفال: الآية 12.(3/1017)
سيد رحمه الله تعالى البحث في كيفية الأفعال كلها بأنه ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة، ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين، وتسلط الترف العقلي على الناس والعقول، وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة لهي أنفع وأجدى"1.
وفي تفسير قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2 بين رحمه الله تعالى المراد بالتبصرة بأنها تبصرة تكشف الحجب وتنير البصيرة وتفتح القلوب، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب" ولم يقف رحمه الله تعالى عند هذا البيان بل بين قيمة هذه التبصرة ومكانتها وكيف أهملتها مناهج البحث التي تسمى "علمية" حيث يقول: "وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثرا في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها "علمية" في هذا الزمان فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر هي معرفة ناقصة، أو علم زائف، أو بحث عقيم"3.
ولهذا المنهج أثره في ترك سيد رحمه الله تعالى تفسير بعض الأحكام التي لا وجود لها في واقع عصرنا الحاضر بغض النظر عن وجودها قبله أو حدوثها بعده فهو ينطلق من الواقع الجاد، فلم يدخل في التفصيلات الفقهية الخاصة بالغنائم والأنفال وأخذ الجزية من الذميين من أهل الكتاب.
__________
1 في ظلال القرآن: ج3 ص1486.
2 سورة ق: الآية 8.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3359-3360.(3/1018)
وانطلاقا من هذا الأساس أيضا تَرَكَ الأطناب في كثير مما لا طائل تحته وليس له ثمرة، ولم يجهد نفسه في الكشف عما أبهمه القرآن. ولم يتوسع في التفسير العلمي بحيث يتجاوز واقع النص ومدلوله، وأعرض عن الخوض في الإسرائيليات، ولم يتناول الاختلافات الفقهية الدقيقة، ولم يتعمق في المفردات واشتقاقاتها وأصولها، ولم يعتنِ بإثارة المسائل اللغوية وكان وقافا عند حدود علم الغيب فلم يسمح لنفسه أن يخوض فيه وتلقى نصوصه بالقبول دون تأويل أو تحريف، كل هذا نراه أثرا من التزامه للواقعية الجدية مما لا أثر كبير له في بناء المجتمع المسلم فكان أن أعرض عنها وتناول ما له أثر جاد في واقع المسلمين.
وقد برزت هذه الأمور التي أشرت إليها في تفسيره حتى أصبحت أسسا من أسس منهجه في التفسير وهي أثر من آثار هذا الأساس، ولذا سنعرض لكل منها إن شاء الله بحديث موجز استكمالا للإشارة إليها هنا.
أما من ناحية الحركية وتطبيقاتها في تفسيره للقرآن الكريم فكثيرة منبثة في أغلب صفحاته وسطوره لا يترك الدعوة إليها ما وجد إلى ذلك سبيلا ولذلك أصبحت هذه سمة من سمات الظلال وأساس من أسس منهجه في التفسير.
لم يكد يمر بآية إلا وجعلها منطلقا للدعوة إلى الله سبحانه وإلى التحرك بالقرآن في موجهة الأعداء وإلى بيان طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في كل زمان ومكان فهو يرسم بوحي من القرآن منهج الدعوة ومعالم الطريق وصفات القيادة يرسم الخطط ويوضح السبيل.
ويبدي اهتماما شديدا بذلك فلا يكاد يمر بآية أمرا كانت أو نهيا، خبرا أو قصة أو غير ذلك إلا وجعلها نبراسا في طريق الداعية ومَعلما من معالم الطريق.
وقف وقفاته تلك أمام قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وأول ما استوقفه فيها ورودها مفصلة أوسع تفصيل ومكررة في مواضع عديدة.
فذهب رحمه الله تعالى يستخرج بعض هذه المعالم ويرسم الخطط.(3/1019)
إن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة؛ لتعرف من هم أعداؤها؛ ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟ وما حقيقة المعركة التي تخوض معهم؟
وقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله، فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ووسائلهم كلها مكشوفة.
وأنهم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير، ووقع منهم الانحراف في العقيدة والنقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة -وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم؛ لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون.
وإن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل، فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته.
وهناك جوانب شتى لحكمة الله تعالى في تفصيل قصة بني إسرائيل لا يملك معها -كما يقول- المضي أكثر من هذه الإشارات السريعة.
ثم بين رحمه الله تعالى بعض الجوانب التي قد يلاقيها الداعية وضرب أمثلة منها مما لاقاه موسى عليه السلام مع قومه.. جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر وحررهم من الذل والهوان، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر، وأغرق لهم فرعون وجنده. فإذا هم يمرون على قوم(3/1020)
يعكفون على أصنام لهم، فيقولون: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي عجلا ذهبا له خوار، وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر -أرض الذل بالنسبة لهم- فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص والهدف الأسمى الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون! وجربهم في قصة البقرة التي أُمرو بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 2، وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده، فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم.
حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رءوسهم {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِم} 3.
واستمر سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا العرض إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 قال رحمه الله تعالى: "هنا تبرز قيمة الإيمان بالله والخوف منه، فهذا رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذا هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة، وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس، فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين مخافته جل جلاله ومخافة الناس، والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده، ولا يخاف شيئا سواه {دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب. أقدموا واقتحموا فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم،
__________
1 سورة الأعراف: 138.
2 سورة البقرة: 71.
3 سورة الأعراف: 171.
4 سورة المائدة: 23.(3/1021)
وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم ... "1.
أرأيتم كيف ينظر سيد إلى القصة، ينظر إليها من زاوية الداعية، فيبرز سمات الداعية ويضرب الأمثال لبعض العقبات التي تواجه الدعوة وأثر الإيمان والخوف من الله في النصر ويعتصر من الآيات رحيقا يحقنه في شرايين القلوب فلا يملك صاحبها إلا أن يجد في نفسه عزيمة على الحركة وإصرارا على الثبات.
ولو أردت أن أُسَوِّد الصفحات بذكر الأمثلة لخشيت أن آتي على آخرها ولم أبلغ منه مبلغا، فمن أراد ذلك فليحمل أجزاء تفسير "في ظلال القرآن" الستة بين يده وليقرأها كلها فإنه واجد في كل ورقة منها مبتغاه، وإذا كان الأمر كذلك فلا أحسبني قد أطلت ولو فعلت فهل تعذرون؟
__________
1 في ظلال القرآن: ج2 ص868-870 باختصار.(3/1022)
الأساس الرابع: التفسير الجمالي الفني
استغرقت الاهتمامات الأدبية فترة طويلة من حياة سيد قطب رحمه الله تعالى، ولم يحصرها في نطاقها الضيق بل حاول تطبيقها في رحاب نصوص القرآن الكريم، وكانت أول مؤلفاته في ذلك "التصوير الفني في القرآن" ثم "مشاهد القيامة في القرآن".
وحين شرع في تفسيره "في ظلال القرآن" بعد ذلك لم تغب عن باله تلك الصور الجمالية في القرآن الكريم، ووجد فيها وفي صحبتها المفتاح الذي أطلع به على كنوز من القرآن واهتدى به إلى قواعد وسمات وآفاق وموضوعات الجمال الفني في القرآن الكريم.
الفني؟! ما الفن؟ يرى سيد رحمه الله تعالى أن هناك إيضاحا واجبا ينبغي أن يقال بعد ما بدأت كلمة الفن يُساء استخدامها أو يساء فهمها، أو يساء تأويلها في مجال القرآن ويعترف بأنه حين اتخذها عنوانا لكتابه "التصوير الفني في القرآن" لم يكن لها في نفسه إلا مدلول واحد هو جمال العرض، وتنسيق الأداء وبراعة الإخراج، ولم يجل في خاطره قط أن "الفني"(3/1022)
بالقياس إلى القرآن معناه الملفق أو المخترع أو القائم على مجرد الخيال1.
وأكد هذا المفهوم في تفسير في ظلال القرآن حين وصف الجمال الفني الصادق بأنه "الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء"2.
وكأني بسائل يقول في شبه اعتراض: أو ليس هذا الأساس هو الأساس الأول الذي تحدثت عنه في منهج سيد قطب رحمه الله تعالى؟ وأقول لهذا السائل: كَلَّا إجمالا أما إن شئت البيان فإن المراد بالجمال الفني هو تلك الصورة الرائعة التي ترسمها نصوص القرآن الكريم حتى لتحسب كل كلمة منه خطًّا من خطوط الصورة أو ذلك المعنى السامي الذي تسوقه تلك النصوص؛ أما الأساس الأول فهو حسن البيان والوصف لهذه الصورة القرآنية وحسن التعبير والبيان عن هذه المعاني السامية؛ أما أن بينهما تداخلا فنعم، وأما أنهم معنى واحد فلا.
وقد يكتشف مفسر الصورة الجمالية الفنية في القرآن الكريم ويبرز أطرافها ويوضح خطوطها ومعالمها وظلالها وإشراقها لكنه قد يسوق ذلك كله بأسلوب أدبي يزيد الصورة جمالا إلى جمالها وقد لا يستطيع فتبقى الصورة جميلة زاهية وحدها. وقد تميز تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى بالجمع بين هذا وذاك.
وإذ وضح الأمر فإن منزلة الجمال في القرآن تالية لمنزلة الكمال "فالجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة.
فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها"3 {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
__________
1 التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، ص204-205.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص55.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3633.(3/1023)
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 1.
وقد عني سيد قطب بالعرض الجمالي الفني في القرآن الكريم فتوقف عند الجمال الفني في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 2 حيث قال رحمه الله تعالى:
"إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب. لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها. في الثمرات، وفي الجبال، وفي الناس وفي الدواب والأنعام. لفتة تجمع في كلمات قلائل بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعا، وتدع القلب مأخوذا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعا.
وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان، ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميعُ الرسَّامين في جميع الأجيال فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر. بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون!
وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها، ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية. ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها!
__________
1 سورة الملك 3-5.
2 سورة فاطر: 37-38.(3/1024)
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} .
والجدد الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة؛ فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة، شديدة السواد.
واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية، فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك يستحق النظر والالتفاف.
ثم ألوان الناس وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر. فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه. بل متميز من توأمه الذي شاركه حملًا واحدًا في بطن واحدة!
وكذلك ألوان الدواب والأنعام. والدواب أشمل والأنعام أخص فالدابة كل حيوان. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب؛ لقربها من الإنسان والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل معرض الثمار ومعرض الصخور سواء.
هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} إلى أن قال رحمه الله تعالى:
"إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها هذه الألوان(3/1025)
العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح.
ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح؛ لتنشأ الثمار. وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها! والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه؛ لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان.
وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال.
الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض"1.
وقد يكون الجمال الفني في استخدام التصوير وتشخيص المعاني كوسيلة لبيانها ولا شك أن لهذا التصوير الفني أثره البين في جلاء المعنى الكلي المجرد فـ "المعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صور محسوسة، ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صورة وأشكال وخصائص ونماذج ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود فكيف بغير المحدود؟
لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال"2.
وإن شئت مثلا لذلك فالأمثلة كثيرة أفردها رحمه الله تعالى بكتابه "التصوير الفني في القرآن" ثم سار عليها في الظلال وزادها صورا أخرى ومشاهدة أخرى نذكر منها تصويرا لمشهد من مشاهد يوم القيامة.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} 3 حيث قال رحمه الله
__________
1 في ظلال القرآن: ج5 ص2942-2943.
2 في ظلال القرآن: ج4 ص2296-2297.
3 سورة إبراهيم: 15-18.(3/1026)
تعالى: "والمشهد هنا عجيب أنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد مشهد الخيبة في الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ولا يكاد يسيغه لقزازته ومرارته والتقذر والتكره بأديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت؛ ليستكمل عذابه ومن ورائه عذاب غليظ.
إنه مشهد عجيب، يرسم الجبال الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع وتشترك كلمة "غليظ" في تقطيع المشهد، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين" إلى أن قال في الآية التالية:
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} 1.
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ولا الانتفاع به أصلا يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام.
فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في
__________
1 سورة إبراهيم: 15-18.(3/1027)
أسلوب مشوق موحٍ مؤثر"1 وقد يكون المشهد تصويرًا لمعاني عقلية مجردة كالمنِّ والأذى والرياء في الصدقات.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2؛ حيث قال: "هذا هو المشهد الأول، مشهد كامل من منظرين متقابلين وشكلا ووضعا وثمرة. وفي كل منظر جزئيات يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض، ويتسق كذلك مع ما يماثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها.
نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد:
{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء.
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله "صفوان عليه تراب" حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} .
وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته،
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2093-2094.(3/1028)
ولم ينبت زرعة، ولم يثمر ثمرة كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة! ".
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد فقلب عامر بالإيمان، نديٌّ ببشاشته. ينفق ماله {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه} وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير، وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان؛ جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك. بل أحياها وأخصبها ونماها.
{أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن، فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو.
{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} غزير فـ {طَلٌّ} من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل!
إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحى للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب.
ولما كان المشهد مجالا للبصر وللبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب:
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .
فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقا(3/1029)
في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا ولا يستطيع لذلك المحق ردًّا تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء. كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء.
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} 1.
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات.
{جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} .
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة. وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها.
كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية. كذلك هي ذات روح وظل وذات خير وبركة، وذات غذاء وري وذات زكاة ونماء!
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة -أو هذه الحسنة- ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار؟
ومتى؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها وعمائها!
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} .
"من ذا الذي يود هذا؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه؟
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة، وما فيه من نضارة وروح وجمال ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه
__________
1 سورة البقرة: الآية 266.(3/1030)
نار. يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار!
وبعد؛ فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى.
بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها إنها جميعا تعرض في محيط متجانس محيط زراعي؛ حبة أنبتت سبع سنابل، صفوان عليه تراب فأصابه وابل، جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين، جنة من نخيل وأعناب حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير.
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة الثابتة في النفس وفي التربة على السواء وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء.
إنه القرآن كلمة الحق الجميلة من لدن حكيم خبير"1.
ومنها ما هو تصوير لمشاهد كونية للمتأمل فيها آية وأي آية فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2، قال: "فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} بل هو أظهر حيوية وأشد إيحاء والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء
__________
1 في ظلال القرآن: ج1 ص308-310.
2 سورة التكوير: الآيتين 17-18.(3/1031)
هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1. ثروة شعورية وتعبيرية فوق ما يشير إليه من حقائق كونية، ثروة جميلة بديعة رشيقة، تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر"2.
ولنقف مع سيد قطب رحمه الله تعالى عند مشهد من مشاهد تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس ضربه الله مثلا للمنافقين: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.
قال، رحمه الله تعالى: "إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة مشوب بالاضطراب فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء. إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يختم الظلام، إن هذه الحركة في المشهد لترسم عن طريق التأثر الإيحائي حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثم ينكسون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعورية وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس"4.
__________
1 سورة التكوير: الآيتين 17-18.
2 في ظلال القرآن: ج6 ص3841-3842.
3 سورة البقرة: 19-20.
4 في ظلال القرآن: ج1 ص46.(3/1032)
قلت لكم: إن هذه المشاهد كثيرة، وإن عرض سيد رحمه الله تعالى كثير أيضا وما ذكرت ليس أوضحها وليس أجملها ولكنه منها على كل حال.
تلكم مشاهد مركبة من صور، وصور متعددة، وقد يكون الجمال التعبيري والجمال الفني في مفردة خذ مثلا كلمة "أفضى" من قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} 1 وقف رحمه الله تعالى وقفة عند كلمة أفضى استلهم منها كل الصور والظلال والإيحاءات التي تحتويها ولا يدركها إلا القليل قال: "ويدع الفعل "أفضى" بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتها فترة من الزمان وفي كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء، وفي كل شوق إلى خلف إفضاء، وفي كل التقاء وفي وليد إفضاء كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف"2.
أفلا يحق لنا معشر الأحبة وقد تغنى الأدباء ببلاغة بشار بن برد حين قال وهو الأعمى يصف معركة:
__________
1 سورة النساء: الآيتين 20-21.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص606-607.(3/1033)
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أن نتغنى بإدراك سيد لهذه المشاعر والصور بين الرجل وزوجته وهو الرجل الذي لم يتزوج؟! إن كثيرًا من المتزوجين لا يدركون بعضها، فكيف أدركها كلها؛ إنه توفيق الله وفضله.
ومن ذلك تفسيره لكلمة "كبكبوا" من قوله تعالى عن أصحاب الجحيم:
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} 1 قال، رحمه الله تعالى:
"كبكبوا؛ وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه"2.
ومنه تفسيره لكلمة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} من قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام مخاطبا قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} 3، قال، رحمه الله تعالى: "فتحس أن كلمة "أنلزمكموها" تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ويشدون إليه وهم نافرون! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية وأرفع من الفصاحة اللفظية"4.
والجمال الفني في القرآن ليس في تجسيم الأحداث وتشخيصها بصورة مركبة أو مفردة فحسب، ولكنه أيضا في انتقاء المشهد والتقاطه من الزاوية الجمالية فيه. خذ مثلا لذلك تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 5 وما بعدها.
__________
1 سورة الشعراء: الآية 94.
2 في ظلال القرآن: ج5 ص2605
3 سورة هود: الآية 28.
4 في ظلال القرآن: ج4 ص1873 "الهامش".
5 سورة الأنعام: الآية 95.(3/1034)
قال رحمه الله تعالى: "والجمال هو السمة البارزة هنا.. الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي، وفي دلالتها والمدلولات أيضا -على كل ما ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة- تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية، فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء! "1.
مشاهد وقوالب الجمال الفني صاغها سيد قطب رحمه الله تعالى، فجاءت شاهدة وأي شاهدة على سمو المعاني وبلاغة التعبير ومهارة التصوير ودقة الألفاظ رحمه الله رحمة واسعة ونفع بعلمه.
__________
1 في ظلال القرآن: ج2 ص1152.(3/1035)
الأساس الخامس: استيحاء النص دون مقررات سابقة
ولا يقصد -ولا نقصد- بالمقررات السابقة السنة النبوية أو علوم القرآن الكريم أو اللغة ونحو ذلك مما لا بد من توفره عند المفسر قبل مزاولته التفسير، وإنما يقصد بها رواسب الثقافات التي لا تستقي من القرآن ذاته وقد وضح رحمه الله تعالى ذلك بما لا يحتاج إلى بيان حيث قال: "ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقا. لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية ومن رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته نحاكم إليها نصوصه أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة، لقد جاء النص القرآني ابتداء؛ لينشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير وهذه الرعاية من الله ذي الجلال وهو الغني عن العالمين أن يتلقوها وقد فرغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل؛ ليقوم تصورهم الجديد نظيفا من كل رواسب الجاهليات قديمها وحديثها على السواء مستمدًّا من تعليم الله وحده لا من ظنون البشر، التي لا تغني من الحق شيئا.
ليس هناك إذن مقرات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداء. ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا(3/1035)
وهذا وحده هو المنهج الصحيح في مواجهة القرآن الكريم وفي استلهماه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"1.
ولذلك فإنه رحمه الله تعالى ينكر على أولئك الذين يحسبون أن بعض أخبار القرآن وقصصه تمثيل وتخييل؛ وعزا هذا إلى أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن، ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة والشياطين؛ تمثيلا لقوة الشر والمعصية والرجوم؛ تمثيلا للحفظ والصيانة ... إلخ. لأن في مقرراتهم السابقة قبل أن يواجهوا القرآن أن هذه المسميات: الملائكة والشياطين أو الجن لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو أن تكون لها هذه التحركات الحسية والتأثيرات الواقعية من أين جاءوا بهذا؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث؟ "2.
ثم بين رحمه الله تعالى الطريق الأمثل لفهم القرآن وتفسيره فقال: "إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره وفي التصور الإسلامي وتكوينه أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة وأن يبني مقرراته كلها حسب ما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله وما عدا المثبت والمنفي في القرآن فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته"3.
وقد اعترف رحمه الله تعالى بأنه قد وقع في هذا الذي يحذر الآن منه فيقول: "وما أبرئ نفسي أنني فيما سبق من مؤلفاتي وفي الأجزاء الأولى من هذه الظلال قد انسقت إلى شيء من هذا وأرجو أن أتداركه في الطبعة التالية إذا وفق الله وما أقرره هنا هو ما أعتقده الحق بهداية من الله"3.
__________
1 خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: سيد قطب ص14-15.
2 في ظلال القرآن: ج6 ص3730.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3731.(3/1036)
وأكد رحمه الله تعالى على هذا الأساس حين جعله قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية حيث يقول: "إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية؛ أنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة.
لا مقررات عامة ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص. بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص؛ لنتلقى منها مقرراتنا. فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ومنها نكوِّن قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا فإذا قررت لنا أمرًا فهو المقرر كما قررته! ذلك أن ما نسميه "العقل" ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبة هو إفراز واقعنا البشري المحدود وتجاربنا البشرية المحدودة"1.
وتصوروا معي أيها الأحبة رجلا كسيد قطب، قضى ردحا من حياته في طلب العلم والتحصيل حتى جمع حصيلة علمية وفكرية هائلة ممزوجة بالتجربة وحين دلف إلى النص القرآني ألقى على عتبة بابه كل هذا الخضم من العلوم والمعارف مستسلما لمقررات القرآن الكريم، وبمتدئا بمعارفه لذا فإن القرآن الكريم أعطى هذا الرجل ومن يعمل عمله أكثر مما أعطوا وأصدق مما تركوا.
ولا أريد أن أكثر من الأمثلة ولعل مثالا واحدا يغني عن كثير منها؛ لأن فيه وفاء بالمعنى والتزاما للمنهج وتشبث به بل عض عليه بالنواجذ، ولم يقف رحمه الله تعالى في هذا المثال الذي سنذكره بشيء من التفصيل عند حدود بيان مقررات القرآن بل تجاوز ذلك إلى الرد على الذين انزلقوا إلى بعض النظريات التي تصادم ما قرره القرآن.
وقد تحدث رحمه الله تعالى عن حقيقة التوحيد ورد على الذين يزعمون أن التوحيد مرحلة تالية للتعدد في العقيدة فيزعمون تطورها في تاريخ الإنسان من التعدد إلى دور التمييز ثم دور التوحيد.
تناول ذلك فيحديثه عن قصة نوح عليه السلام مع قومه والتي
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3979.(3/1037)
ساقتها سورة هود1، وبين رحمه الله تعالى أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه وأن الإسلام هو أول عقيدة عرفتها البشرية على الأرض حيث لم تكن معها عقيدة أخرى وبين أن هذه الحقيقة تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الأديان المقارنة" وغيرهم من التطور بين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة. سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة. ومن تأليه القوى الطبيعي وتأليه الأرواح وتاليه الشموس والكواكب إلى آخر ما تخبط فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة، يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر، وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان!.
وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين، فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان وفق ذلك المنهج الموجه من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام وأن نوحا عليه السلام واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه القائم على التوحيد المطلق وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام. القائم على التوحيد المطلق وإنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد إنما كن الترقي والتركيب والتوسع في الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور عفي أصل العقيدة إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال
__________
1 انظر سورة هود: الآيات 25-49.(3/1038)
التالية -حتى بعد انحراف الأجيال عنها- ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها، حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا! وقد وجدت هكذا كاملة منذا وجدت؛ لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية، إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه وتعالى فهي حق منذ اللحظة الولى، وهي كاملة منذ اللحظة الأولى.
هذا ما يقرره القرآن الكريم، ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال إذن لباحث مسلم -وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام- أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم، إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة تلك النظريات النابغة من منهج موجه كما أسلفنا1. ولأنه رحمه الله تعالى يسير على ما يقرره القرآن وما يوحي به النص إليه فإنه يجهر به ويعلنه؛ لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول إنه يرى خيرا مما يرى الله ويعلن رحمه الله تعالى منهجه إنما أن أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه2 وكفى به منهجا سليما ومعينا نقيا.
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص1882-1883.
2 علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، ص431.(3/1039)
الأساس السادس: الوحدة الموضوعية
جرى سيد قطب رحمه الله تعالى على أن يقسم السورة الواحدة إلى مجموعات من الآيات يتناول كل مجموعة منها بدرس مستقل، ولم ينقص هذا من منزلة الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم بل اهتم بها اهتماما واضحا في شتى جوانبها وأشكالها حتى عده الدكتور عدنان زرزور "أول مفسر في تاريخ القرآن الكريم أبرز الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية المفردة طالت أم قصرت! أبرزه بشكل عملي مكتوب أو طبقه أروع تطبيق وأعمقه في كتابه العظيم رحمه الله، والذين سبقوا سيدًا من المفسرين منهم من لم يلاحظها ولم يسلم بوجودها(3/1039)
ومنهم من ذهب إلى القول بها ولكنه عز عن ملاحظتها وتقديمها فيما كتبه للناس من تفسير لكتاب الله تعالى ثم جاء سيد ليؤكده على هذه الوحدة المحورية في السورة الواحدة وليضع أيدينا بعد ذلك برفق وسهولة ولين على وجه الانتقال من موضوع إلى موضوع"1.
ونستطيع أن نستخلص الأقسام التالية للوحدة الموضوعية كما عرضها سيد قطب رحمه الله تعالى2:
1- التناسب بين السورة والسورة التالية لها.
2- التناسب بين دروس السورة الواحدة حسب تقسيماته، رحمه الله تعالى.
3- التناسب بين مقاطع الدرس الواحد من السورة.
4- التناسب بين آيات المقطع الواحد.
5- التناسب بين كلمات الآية الواحدة والجمل فيها.
تلك الأقسام ما هي إلا معالم لوجود الوحدة الموضوعية في تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى.
ويظهر هذا في الطريقة التي سلكها رحمه الله تعالى في التفسير فقد قدم لكل سورة بمقدمة يدرس فيها آيات السورة كلها دراسة عامة يظهر فها المحور الموضوعي الذي تدور عليه الآيات، والهدف الذي تسعى لتقريره وملامح السورة وصورها وظلالها ومنهجها، حتى يوقفك على سورة ذات شخصية متميزة ووحدة موضوعية متناسقة فكل سورة -كما يقول- من سور القرآن ذات شخصية متفردة وذات ملامح متميزة وذات منهج خاص وذات أسلوب معين وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد. وهذه القضية الكبيرة إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع وتحقيق هذه الغاية. إن الشأن
__________
1 علوم القرآن الدكتور عدنان زرزور، ص431.
2 انظر في ظلال القرآن دراسة وتقويم صلاح عبد الفتاح، ص396.(3/1040)
في سور القرآن من هذه الوجهة كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة؛ كلهم إنسان، وكلهم له خصائص الإنسانية، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني، ولكنهم بعد ذلك نماذج متنوعة أشد التنويع.. نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة! "1.
خذ مثلا للوحدة الموضوعية في السورة القرآنية الوحدة في سورة البقرة فهذه السورة تضم عدة موضوعات، ولكن المحور الذي يجمعها كلها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نشأتها2 ثم بين رحمه الله تعالى مدى الارتباط بين محور السورة وموضوعاتها من جهة، وبين خط سير الدعوة أو العهد بالمدينة، وحياة الجماعة المسلمة وملابساتها من جهة أخرى بإلقاء الضوء على مجمل هذه الملابسات التي ظلت الدعوة الإسلامية وأصحابها يواجهونها مع اختلاف يسير على مر العصور وكر الدهور من أعدائها وأوليائها على السواء، وقال في ختام هذا البيان: ومن ثم يتناسق البدء والختام وتتجمع موضوعات السورة بين صفتين من صفات المؤمنين وخصائص الإيمان"3.
وأحيانا يوضح رحمه الله تعالى الوحدة الموضوعية في جزء كامل من القرآن، فيقول مثلا عن جزء عم: "هذا الجزء كله ذو طابع غالب؛ سوره مكية فيما عدا سورتي "البينة" و"النصر"، وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر، والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة على وجه التقريب في موضوعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها وأسلوبها العام
__________
1 في ظلال القرآن: ج3 ص1243.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص28.
3 انظر في ظلال القرآن: ج1 ص28-35.(3/1041)
إلى أن قال: "وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهدة هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح وعلى مشاهدة القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية ومشاهد الحساب والجزاء من نعم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة، مع التقريع بها والتخويف والتحذير وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين والأمثلة على هذا هي الجزء كله"1.
وأحيانا يوضح رحمه الله تعالى الوحدة الموضوعية بين دروس من السورة مرة وبينها وبين السورة كلها مرة أخرى. فقد تحدث عن ثلاثة دروس في سورة البقرة يحوي أولها الآيات من 253 إلى 257 والثاني من 258 إلى 260 والثالث من 261 إلى 274 ثم قال عن هذه الدروس الثلاثة: "كانت الدروس الثالثة الماضية في هذا الجزء تدور في جملتها حول إنشاء بعض قواعد التصور الإيماني وإيضاح هذا التصور، وتعميق جذوره في نواحٍ شتى. وكان هذا محطًّا في خط السورة الطويلة التي تعالج كما أسلفنا أعداد الجماعة المسلمة للنهوض بتكاليف دورها في قيادة البشرية.
وربط الآيات من 65 إلى 92 بسورتها آل عمران فقال: "هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة معركة العقيدة"2.
وقسم سورة الرعد إلى شطرين ينتهي الأول منهما بالآية 18 ثم ربط بين الشطرين بقوله: "بعد المشاهد الهائلة في آلاف الكون وفي أعماق الغيب وفي أغوار النفس التي استعرضها شطر السورة الأول، يأخذ الشطر الثاني في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رفيقة حول قضية الوحي والرسالة، وقضية
__________
1 في ظلال القرآن: ج6 ص3800-3801.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص304.(3/1042)
التوحيد والشركاء ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة"1.
وسيد قطب رحمه الله تعالى حريص على بيان الوحدة الموضوعية والربط بين الآيات والسور في كل موضع، ولهذا ترى هذا اللون في تفسيره كثيرا كثيرا، حتى تلك المواقف التي لا يتضح لذهنه موضع وحدتها ومصدر ربطها لا يتغافل عنه أو يدعي علما به، فينمق العبارات التي يحاول أن يستر بها عجزه بل يعترف رحمه الله تعالى بعجزه عن إدراكه ويطلب من القراء أن يرشدوه إلى ما عجز عنه وأن يعلموه ما جهل.
فقد وقف رحمه الله تعالى طويلا عند بيان مناسبة قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 2 لما قبلها من الآيات التي تحدثت عن بعض أحكام الأسرة في الإسلام كالزواج والمعاشرة والإيلاء والطلاق والخلع والعدة والنفقة والمتعة والرضاعة والحضانة لم يدرك المناسبة حين كتب التفسير لأول مرة وفي الطبعة الأولى ولما وفقه الله إلى ذلك في الطبعات التالية كان يذكر عجزه ذاك ويحمد الله أن هداه لهذا فيقول معلقا:
"كنت قد عييت فترة عن إدراك سر هذا السياق القرآني العجيب قلت في الطبعة الأولى لهذا الجزء وفي الطبعة المكملة للأولى: أشهد أنني وقفت أمام هذه النقلة طويلا لا يفتح علي في سرها ولا أريد أن أتمحل لها، ولا أقنع كل القناعة بما جاء في بعض التفاسير عنها وقلت: "ولكنني كما قلت مخلصا لا أستريح الراحة الكافية لما اهتديت إليه. فإذا هديت إلى شيء آخر فسأبينه في الطبعة التالية وإذا هدى الله أحدا من القراء فليتفضل مشكورا بما هداه الله فالآن أطمئن إلى هذا الفتح وأجد فيه الطريق والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"3.
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2056.
2 سورة البقرة: 238.
3 في ظلال القرآن: ج1 ص238.(3/1043)
إنه بهذا مثال العالم المسلم الذي لا يقول فيما لا يعلم، ويسأل إذا جهل، ويحمد الله إذا علم.
وإذا عجز عن بيان ذلك في موضع حتى ولو لم يكن في الظلال غيره فإنه يصرح بقوله: "وأنا؛ اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر" ولا ينسى وهو المؤمن الاستعانة بالله في مثل هذا الموضع فيقول: "والله المستعان"1.
نعم يصرح بـ: لم يفتح علي بشيء، وقد صرح بها من قبله مالك رحمه الله تعالى فقال: لا أدري، فما زادته إلا سُمُوًّا في القلوب وما نقصته إلا عُلُوًّا في العلم!! وذهبت تلك الكلمة مشعل نور في دياجير الزمن تحكي الورع الصادق عند علماء المسلمين.
وإذا كانت تلكم هي المرة الوحيدة التي لم يستطع فيها سيد قطب رحمه الله تعالى بيان الماسبة بينها وبين الآيات التي قبلها فإن هذا يدل على توفيق الله تعالى له ببيان المناسبة في كل المواضع الأخحرى ويدل أيضا على عنايته رحمه الله تعالى بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم.
__________
1 في ظلال القرآن: ج2 ص979.(3/1044)
الأساس السابع: ترك الأطناب عما أبهم في القرآن الكريم
وما الذي يتصوره غير ذلك من رجل يدخل التفسير دون مقررات سابقة إلا ما قرره الكتاب والسنة.
فإذا كان القرآن نفسه أوجز الحديث عن أمره فمن أين يؤتى بدقائق تفصيله من غير سنة الرسول صلى الله وسلم. لهذا فقد أعرض سيد رحمه الله تعالى عن الخوض فيما أبهمه القرآن الكريم، ولم يرد بيانه في السنة، وكان هذا من منهجه.(3/1044)
فقال في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 1: "وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرف من خبرها، وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه.. هو كافٍ بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين، وردت بعض صفاتهم في القرآن، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين في صورة شهب كما جاء في سور أخرى {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} 2، {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 3 كيف؟ من أي حجم؟ في أي صورة؟ كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه، وهذا هو المقصود ولو علم الله أن هناك خير في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفَصَّل سبحانه فما لنا نحن نحاول ما لم يعلم الله فيه خيرا؟ في مثل هذا الأمر أمر رجم الشياطين؟! "4.
وفي قوله تعالى؛ حكاية لقول الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} 5 قال: "أما أين يقف ذلك الحرس؟ ومن هو؟ وكيف يرجم الشياطين بالشهب؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا، ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل، وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث ولا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا! "6.
__________
1 سورة تبارك: 5.
2 سورة الصافات: 7.
3 سورة الصافات: 10.
4 في ظلال القرآن: ج6 ص3634.
5 سورةالجن: 8.
6 في ظلال القرآن: ج6 ص3730.(3/1045)
وليس من الخير أيضا أن نطنب في بيان موقفه هذا وقد أتينا فيه بما يوقفنا على رأيه رحمه الله تعالى.(3/1046)
الأساس الثامن: التحذير من الإسرائيليات
ومثل موقفه ذاك كان موقفه من الإسرائيليات؛ فقد كان رحمه الله تعالى يرفض إيرادها في التفسير ويحذر منها ويعدها أساطير لا سند لها صحيح.
قال رحمه الله تعالى في قوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} 1: "وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة"2.
وبيَّن رحمه الله تعالى موقفه منها في موضع آخر وهو يتحدث عن الطوفان أيضا، حيث قال: وبعدُ أكان الطوفان عاما في الأرض؟ أم أنه كان في تخوم الأرض التي بعث فيها نوح، وأين كانت هذه الأرض وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث؟ أسئلة لا جواب عليها إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، وإلا الإسرائيليات التي لا تستند إلى دليل صحيح وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق أهداف القصص القرآني في كثير ولا قليل".
إلى أن قال: "وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه "العهد القديم" تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح، ولكن هذا كله شيء لا ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني عن الطوفان ولا ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الأساطير المجهولة المصدر والأسانيد، وإن كان لوجود هذه الأخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دلالته في أن الطوفان قد كان في أرض هذه الأقوام، أو على الأقل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا في الأرض بعد ذلك وعمروا الأرض من جديد.
__________
1 سورة هود: 40.
2 في ظلال القرآن: ج4 ص1877.(3/1046)
وينبغي أن نذكر أن ما يسمى "بالكتاب المقدس" سواء في ذلك العهد القديم المحتوي على كتب اليهود أو "العهد الجديد" المحتوي على أناجيل النصارى ليس هو الذي نزل من عند الله. فالتوراة التي أنزلها الله على موسى قد حرقت نسخها الأصلية على يد البابليين عند سبي اليهود. ولم تُعَدْ كتابتها إلا بعد قرون عديدية قبيل ميلاد المسيح بنحو خمسة قرون وقد كتبها عزرا -وقد يكن هو عزير- وجمع فيها بقايا من التوراة؛ أما سائرها فهو مجرد تأليف، وكذلك الأناجيل؛ فهي جميعا لا تحوي إلا ما حظفته ذاكرة تلامذة المسيح وتلامذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح1 عليه السلام، ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير! ومن ثم لا يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من الأمور! "2.
وقال في موضع آخر: "ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث ولكن التوارة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير. وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله، فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص التاريخي، وإذن فلم يبق إلا القرآن الذي حفظ من التحريف والتبديل هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي"3.
ولهذا فإنك لا تكاد تجد في تفسيره رحمه الله تعالى رواية إسرائيلية يوليها اهتمامه أو يتلقاها بالقبول؛ بل كان يعيب على كثير من المفسرين السابقين عنايتهم بها.
__________
1 لا يقصد سيد رحمه الله تعالى بوفاة المسيح عليه السلام موته فقد توقف عن بيان كيفية وفاته وكيفية رفعه؛ لأنه من علم الغيب كما يقول، انظر ما قاله عن ذلك ج1 ص403، وج2 ص801-803.
2 في ظلال القرآن: ج4 ص1881.
3 في ظلال القرآن: ج4 ص2290.(3/1047)
الأساس التاسع: ترك الاختلافات الفقهية
فلم يقلب رحمه الله تعالى كتابه إلى كتاب في الفقه بل كان يحيل في المسائل الفرعية إلى كتب الفقه وأنه لا مجال لإيرادها في الظلال.
فقال عن آيات المواريث في سورة النساء مثلا: "هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض أي علم الميراث أما التفريعات فقد جاءت السنة ببعضها نصا، واجتهد الفقهاء في بقيتها على هذه الأصول. وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات، فمكانها كتب الفقه، فنكتفي في ظلال القرآن بتفسير هذه النصوص والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي"1.
وفي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} 2 أجمل الحديث عن أحكامها ولم يتوسع في بيانه ثم قال: "والتفصيل يطلب في كتب الفقه المختصة"3.
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام} 4 قال: "وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي؛ بسبب عدم النص هنا على تتابعها. والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال فمن أرادها، فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه"5.
ولعل في إشارته الصريحة بأن هذا ليس من منهجه في الظلال يغني عن الإطالة في البيان.
والذي ينبغي أن أذكره أن سيدا رحمه الله تعالى لم يهمل الأحكام القرآنية بيانها ولكنه لم يتوسع فيها توسع كتب الفقه أو توسع بعض المفسرين
__________
1 في ظلال القرآن: ج1 ص590.
2 سورة المائدة: 3.
3 في ظلال القرآن: ج2 ص840.
4 سورة المائدة: 89.
5 في ظلال القرآن: ج2 ص971.(3/1048)
وإنما كان يشير إلى المسائل الفقهية بعبارة موجزة، ثم يحيل على كتب الفقه لمن أراد الاستقصاء.(3/1049)
الأساس العاشر: اجتناب الإغراق في المسائل اللغوية
عندما أصدر سيد قطب رحمه الله تعالى كتابه "مشاهد القيامة في القرآن" قال في مقدمته عن القرآن الكريم: "والقرآن: هذا الكتاب المعجز الجميل هو أنفس ما تحويه المكتبة العربية على الإطلاق فلا أقل من أن يعاد عرضه، وأن ترد إليه جدته، وأن يستنقذ من ركام التفسيرات اللغوية والنحوية والفقهية والتاريخية والأسطورية أيضا"1.
وحين ألف "في ظلال القرآن" لم ينس هذا، فنص في مقدمته على محاولته لذلك فقال: "كل ما حاولته ألا أغرق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي وتحجب روحي عن القرآن، وما أستطرد إلى غير ما يوحيه النص القرآني ذاته من خاطرة روحية أو اجتماعية أو إنسانية. وما أحفل القرآن بهذه الإيحاءات"2.
ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن سيدًا أغفل الحديث عن مسائل اللغة والنحو والبلاغة فقد عرض فيه لهذا في عدة مواضع لكنه يعرض لها إن عرض؛ للاستدلال على معاني الآيات وما تحويه من إشارات ولم يعرض لها كهدف وغاية؛ بدليل أنه يورد عند وقفاته النحوية أو اللغوية أو البلاغية سر ورود الآية بهذا التركيب البلاغي أو الصيغة النحوية.
وخذ مثلا لذلك تفسيره لقوله تعالى عن ابنَيْ آدم عليه السلام:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 3 فقد وقف رحمه الله
__________
1 مشاهد القياة في القرآن: سيد قطبن ص9.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص6 الطبعة الأولى.
3 سورة المائدة: 27.(3/1049)
تعالى عند كلمة "فتقبل" فقال: "والفعل مبني للمجهول؛ ليشير بناؤه هكذا أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية وإلى كيفية غيبية، وهذه الصياغة تفيدنا أمرين: الأول ألا نبحث عن كيفية هذا التقبل ولا نخوض فيه كما خاضت كتب التفسير في روايات نرجح أنها مأخوذة عن أساطير "العهد القديم"، والثاني: الإيحاء بأن الذي قُبِلَ قربانُه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه وتبييت قتله، فالأمر لم يكن له يد فيه، وإنما تولته قوة غيبية بكيفية غيبية، تعلو على إدراك كليهما وعلى مشيئته فما كان هناك مبرر ليحنق الأخ على أخيه، وليجيش خاطر القتل في نفسه"1.
بهذا الأسلوب كان يعرض سيد رحمه الله تعالى للمسائل اللغوية يجعلها وسيلة لا غاية، ولا يقف عندها إلا بمقدار دلالتها على ما في الآية لا ما فيها مما هو خارج عن استعمال الآية.
__________
1 في ظلال القرآن: ج2 ص875.(3/1050)
الأساس الحادي عشر: رفض التفسير العلمي
وعمدا أخَّرت هذا الأساس في منهجه؛ لعل القارئ يستخرجه بنفسه من استقراء الأسس السابقة.
ما الذي تتوقعه من رجل يستوحي النص دون مقررات سابقة ويقف حيث يقف النص ويعرض عن الأطناب فيما أبهمه القرآن ويحذر من الإسرائيليات ويترك الخوض في الاختلافات الفقهية ويجتنب الإغراق في المسائل اللغوية يفعل كل هذا محافظة على الوقوف عند مدلول النص وعند ما يقرره النص.
من يستقرئ هذه الأسس عند سيد قطب رحمه الله تعالى يظهر له أن سيدا سيرفض التفسير العلمي.
ولهذا فقد اعتبرته من الرافضين للتفسير العلمي، وأوردت نصوصا مطولة من تفسيره رحمه الله تعالى في الفصل الثالث من الباب الثاني من هذه الدراسة.
وبينت هناك أيضا لم اعتبرته من الرافضين إضافة إلى هذا السبب الذي ذكرته هنا، ولا أرى ثمرة لإعادة ما قلته هناك فانظر إليه في محله.(3/1050)
هذه -فيما أرى- أهم الأسس التي يقوم عليها منهج سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره "في ظلال القرآن" ولا أنكر أن هناك من الأسس ما يعد وجهًا آخر أو مماثلا لما ذكرت من الأسس، ولكني رأيت أن أدمج ما تماثل منها وحسبت أني لو أفردت كل واحد منها مستقلا عن الآخر لعدَّ هذا علي أطنابا مملا وتفريقا مخلا رأيت أن الأفضل تحاشيه والبعد عنه.(3/1051)
ملاحظات على هذا التفسير:
جلَّ من لا عيب فيه وعلا، ما كتب أحد من البشر كتابا إلا وبدا فيه موضع نقص وموضع عيب، ولو أعاد بنفسه النظر فيما كتب لوجد من ذلك شيئا منها ما يعرف عذره فيه، ومنها ما لا يرى فيه عذرا.
كتب سيد قطب رحمه الله تعالى تفسيره وطبعه الطبعة الأولى ولما أعاد النظر فيه كادت التعديلات أن تكون تفسيرا جديدا وجاءت بأكثر من ضعف حجم الكتاب أولا.
ولا شك أنَّا لا ندعي عصمة لسيد قطب رحمه الله تعالى ولا لتفسيره ولكن هذا لا يبرر لنا أن ننفخ بأفواهنا في هفواته الصغيرة حتى تبدو كبيرة، فليست هذه من شيم المؤمنين وليست من أخلاقهم.
والله سبحانه وتعالى جعل للميزان كفتين كفة للحسنات وكفة للسيئات ويخطئ منا نحن البشر من لا يجعل للناس إلا كفة واحدة يزن بها أعمالهم؛ فإنه حينئذ لن يصل إلى الوزن الحق، ويخطئ من ينظر إلى كفة الحسنات وقد ثقلت وينظر إلى كفة السيئات وقد خفت فيذم بالثانية ولا يحمد بالأولى؛ أوَليست الحسنات يذهبن السيئات إذا فما باله كذلك.
ولقد أشرت إلى بعض محاسن تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى وأبرزت وجهها الناصع وما لم أذكر أكثر مما ذكرت.
ومن الحق أن أشير إشارة سريعة إلى بعض المآخذ التي أخذت على سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره وكان حقها أن تهمل ولا تذكر تطمسها(3/1051)
محاسن تفسيره ومزاياه الكبرى كالشمس تطلع فتخفي النجم، ولكننا ننظر بعين من يقول هذا ويقول ذاك؛ التماسا للحق.
ففي التفسير بالمأثور نرى سيد قطب رحمه الله تعالى يوليه اهتماما ويورد كثيرا من الأحاديث في تفسيره لكنه أحيانا يورد تفسيره خاليا من أحاديث صريحة صحيحة وأحيانا يورد بعض الأحاديث الضعيفة من غير بيان درجتها وينسبها أحيانا لغير كتب الرواية.
ولتعلقه رحمه الله تعالى بالأسلوب الأدبي فقد كان غفر الله لنا وله يقع أحيانا في أساليب أدبية بحتة لم تهذبها العقيدة الصحيحة، ولعل مرد ذلك أن ثقافة سيد رحمه الله تعالى كانت في أولها ثقافة أدبية تحول بعدها إلى الدراسة الشرعية وراح يستدرك بالأخيرة ما أوقعته فيه الأولى وفات عليه في استدراكه هذا عبارات ومنها قوله عن توكل المؤمن على ربه واطمئنانه إلى موقفه وطريقه "إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه. المالئ يديه من وليه وناصره"1 ومنها وصفه للبشرية بأنها: "لن تجد السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير"2 ومنها وصفه للصلة بين العبد وربه: "حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها مرتبة الصداقة.. الصداقة بين الرب والعبد"3!! ونحو ذلك من العبارات التي لا نرتضيها، ولا نظنه رحمه الله تعالى وغفر لنا وله إلا وقد كتبها أثناء تأثره بالثقافة الأدبية وقبل أن تصقل فكره الدراسة الشرعية وفات عليه استدراكها بعد ذلك.
ومن الملاحظات أيضا تحديده وقت الإمساك للصائم في قوله تعالى:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 4 بأنه قبل طلوع الشمس بقليل وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا
__________
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2091.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص15.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3875.
4 سورة البقرة: 187.(3/1052)
هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت ربما زيادة في الاحتياط1 وهذا القول لم يقل به أحد من قبله.
ومن الملاحظات أيضا أن التزامه لمنهج الواقعية في التفسير -كما أشرت إليه- قد أوقعه في موقف من الفقه غير سليم، ففي تفسيره مثلا لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 2 قال رحمه الله تعالى: "إن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا، فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها.. ليس هناك قضية غنائم؛ لأنه ليس هناك قضية جهاد.. والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل، ومن ثم لا يشتغل أصلا بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع! إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين، هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم حتى يحين وقتها عندما يشاء الله وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام"3.
وينبغي أن أبين أنه لا يريد بالفقه هنا كل الفقه بدليل أنه عرض لكثير من مسائله -وإن كان في إيجاز- وإنما يريد به المسائل الفقهية التي لا وجود لها في واقع المسلمين المعاصر.
ثم إن هذه المسائل التي عاب الخوض فيها لم يطلب إلغاءها وإنما تأجيل الحديث عنها إلى أن توجد الحاجة لها في أرض الواقع.
__________
1 في ظلال القرآن: ج1 ص175.
2 سورة الأنفال: 41.
3 في ظلال القرآن: ج3 ص1518-1519 باختصار.(3/1053)
وقد ظنه بعض الناس -لأجل هذا- ومنهم مغرض ينطوي على كيد ومكر ومنهم غيور على الحق لم يستوعب الأمر من أطرافه. ظن هؤلاء أن سيد رحمه الله تعالى يسعى للقضاء على الفقه، وإلى إهدار الجهود الكبيرة التي بذلها الفقهاء على مدار القرون.
وعلى كل حال نحن لا نبرئ سيد قطب رحمه الله تعالى، ولكنا لا نؤيد أولئك الذين نفخوا في زلته حتى بدت كالجبال.
ونلتمس له عذرا بأن كلامه هذا صدر عن انفعال وحماس وتأثر وأنه نفسه مصدور وزفرة مكلوم1 اطلع على واقع العالم الإسلامي من زاوية لم ينظر منها أولئك فقال ما قال، وكان الأولى أن لا تصدر عنه مثل هذه العبارات أما وقد صدرت فإنا ندعو لنا وله بالرحمة والمغرفة ونلتمس له عذرًا ما دام لم يقل كفرًا.
ومن ناحية منهجية فإنا نلاحظ على سيد قطب رحمه الله تعالى الاستطراد في أبحاث لا رابطة قوية لها بالآية التي يفسرها وكأنه رحمه الله تعالى يلتمس منفذا ينفذ منه إلى تشخيص داء العالم الإسلامي المعاصر وإظهار علاجه وكأنه يخشى أن يهرب منه المريض قبل أن يسمع منه علاجه، فلا يترك سانحة إلا ويشحنها بكل ما في نفسه من علاج حتى وإن كان إيرادها في غير موضعها تماما وحتى إن كان استدرادا وترتب على هذا أيضا أمر آخر هو التكرار وإعادة الحديث مرارا ونحسب سببها واحدا.
ولعل سبب هذه الأخطاء جملة من سيد قطب رحمه الله تعالى ما أشرت إليه آنفا أن الرجل كان أدبي الثقافة واتجه إلى تفسير القرآن الكريم من هذا المنطلق ومن هذا الواقع، فكان تفسيره ما كان ومر حينٌ اتجه رحمه الله تعالى إلى استدراك ما فاته، فسعى للدراسات الشرعية وانطلق من واقعها إلى تنقيح ما كتب وتقويم ما اعوج، فكان له ذلك في أكثره وبقي أقله وهو القليل لا يزال بحاجة إلى هذا التنقيح، لكنه لقلته لا يكاد يذكر بجانب محاسنه.
وغفر الله لنا وله. إنه سميع مجيب.
__________
1 في ظلال القرآن "دراسة وتقويم" صلاح عبد الفتاح دحبور ج2 ص1037.(3/1054)
الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم
تمهيد:
أعاذنا الله وإياكم منه. الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد، وألحد في الدين أي حاد عنه1. ويخطئ بعض الناس فلا يكاد يذكر عنده الإلحاد إلا ويتبادر إلى ذهنه الكفر، والحق فيما يظهر لي أن بين الكفر والإلحاد خصوص وعموم؛ فالإلحاد أعم من الكفر؛ إذ كل كفر إلحاد وليس كل إلحاد كفرًا.
فالتفسير المخطئ لآية من آيات القرآنالكريم بحيث لا يخالف معلوما من الدين بالضرورة، ولا يهدم جانبا من جوانبه ينطبق عليه وصف الميل والانحراف فيسمى لغةً إلحادا؛ لإلحاده وميله وانحرافه عن الصواب والحق في التفسير.
أما التفسير الذي يؤدي إلى إنكار أصل من أصول الدين وصرفه إلى معانٍ لا تدل عليها لغة ولا دين بل الدين ينكرها ويرفضها، فإن هذا يسمى مع الإلحاد كفرًا؛ لأنه ليس إلحادا عن الصواب فحسب بل هو انحراف عن الدين أيضا.
ومن هنا فإنه يجب التفريق بين التفسير الملحد والتفسير الكافر.
وتاريخ الإلحاد والملحدين -أعاذنا الله وإياكم منه ومنهم- تاريخ طويل
__________
1 انظر لسان العرب مادة لحد ج3 ص388-389.(3/1057)
ليس من شأني تتبعه ولا الحديث عنه إلا بقدر ما له من علاقة بموضع حديثنا هنا.
وقد اطلعت على مقال كتبه الأستاذ محمد فريد وجدي عن الإلحاد في العصر الحديث وقد جاء هذا في مقال عنونه بـ "مذهب القرآن في المتشابهات" أوجز فيه تاريخ الإلحاد المعاصر، وحديثه هذا حديث العارف المطلع. ولذا أقتصر عليه هنا، قال وهو يتحدث عن النهضة العلمية الحديثة: "في تلك الأثناء ولد العلم الحديث وما زال يجاهد القوى التي كانت تساوره حتى تغلب عليها، فدالت الدولة إليه في الأرض فنظر نظرة في الأديان وسرى عليها أسلوبه1.
فقذف بها جملة إلى عالم الميثولوجيا2 ثم أخذ يبحث في اشتقاق أصولها بعضها من بعض واتصال أساطيرها بعضها ببعض، فجعل من ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديسا، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد الإنسان لها نفسه ويقف على صيانتها جهوده غير مدخر في سبيلها روحه وماله.
وقد اتصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ويقتبس من مدينته المادية، وقف فيما وقف عليه على هذه الميثولوجيا ووجد دينه ماثلا فيها، فلم ينبس بكلمة؛ لأنه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله، ولكنه استبطن الإلحاد وتمسك به متيقنا أنه مصير إخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية.
وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية فسحرتهم، فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها دسا في مقالاتهم وقصائدهم غير مصارحين بها غير أمثالهم تفاديا من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض"3.
ذلكم ما صرح به الأستاذ محمد فريد وجدي وهو اعتراف خطير يلقي على
__________
1 أي التجربة.
2 أي علم الأساطير.
3 جريدة الأهرام المصرية 30/ 8/ 1933م، ص3 مقال "مذهب القرآن في المتشابهات" للأستاذ محمد فريد وجدي.(3/1058)
عاتق العلماء المسلمين خاصة والمثقفين عامة وجوب تمحيص مقالات وقصائد كتاب وشعراء تلك الفترة، والحذر كل الحذر من الانخداع ببريق شهرة أو انتشار صيت أو كثرة أتباع.
ولا يخفى أن كل كلمة -كدت أقول كل حرف- من كلمات الأستاذ وجدي المنقولة آنفا بحاجة إلى تعليق وتعليق واستجلاء لمدلولاتها وكشف لمعانيها ولكن هذا ليس من شأني هنا وحسبي منه أنه يعطي صورة صادقة لنشأة الإلحاد في العصر الحديث، خاصة أنه من شخص مجرب خبير.
وقد عانى العالم الإسلامي في تلك الفترة وما زال يعاني من مستبطني الإلحاد الذين ينشرون إلحادهم على الملأ باسم البحث العلمي والحرية العلمية.
وظاهرة هي التي تحز في نفس المسلم أكثر من سابقها تلكم أنه ما اعتدى أحد من المنتسبين إلى الإسلام على الإسلام إلا وتبوأ بعد فترة قصيرة منصبا كبيرا في الدولة، وكأنه مكافأة له على إلحاده مهما علت الصيحات ضده والانتقادات والاعتراضات ضد أفكاره وآرائه، لكن هذه الصيحات لا تلبث أن تهدأ وتسكن، يعقبها تولي هذا الملحد ذلكم المنصب، وكأني ألمح هناك يدًا تدفعه إلى الإلحاد ويدًا أخرى تدفع له الثمن وأيد أخرى تدافع عنه وتقاتل.
لست أزعم أني الوحيد الذي أدرك هذه الظاهرة ولكني الأخير فقد صرح بها كثير وتعدد مدركوها، فقد كتب توفيق الحكيم مرة عن حادثة لأحد هؤلاء الملحدين فقال: "وليست هذه الحركة هي الأولى من نوعها في مصر فقد سبق أن ألف الأستاذ علي عبد الرازق وزير الأوقاف الحالي كتابا عن الإسلام وأصول الحكم، فقامت قيامة الأزهر واحتجت هيئة كبار العلماء وفصلته واستقال الوزراء الأحرار الدستوريون من وزارة زيور باشا؛ احتجاجا على الفصل وأقيل وزير العدل عن منصبه وكان عبد العزيز فهمي باشا بهذا السبب.
وحدث مرة أخرى أن ألف الدكتور طه حسين كتابا عن الشعر الجاهلي شك في بعض المعتقدات فقامت قيامة البرلمان وأراد مجلس النواب إخراجه(3/1059)
من منصبه، فهدد عدلي باشا رئيس مجلس الوزراء بالاستقالة حماية للبحث العلمي"1.
وصرح الشيخ مصطفى صبري بعبارة أوضح فقال:
"يقوم الفينة بعد الفينة من سولت له نفسه بالخروج عن الإسلام في ناحية من نواحيه الاعتقادية، فيثور احتجاجا عليه فئة من الغيورين على دينهم ويحميه منهم رجال من الوزراء المستبطنين ما أظهره الخارج، وإن لم يحمه حامٍ عاجلًا ففي المستقبل القريب أو البعيد ينال الرجل مكافأة خروجه بأضعاف ما كان له من المراكز والمناصب يوم خرج وثار عليه المستنكرون.
ويكون هذا المصير غبطة لآخرين، فتتكرر المهزلة في أيام أخرى على مسائل أخرى مماثلة"2.
بل إن الأستاذ أمين الخولي يدعو أصحاب تلك الأفكار بالخروج بها ونشرها بين الناس ويعدهم ويمنيهم بأن لهم النصر المؤكد حيث يقول: "وأحسبني لا أجد في هذا المقام أصوب وأجدى من الحديث في هذه المقدمة عن ذلك الناموس الاجتماعي المطرد على الأجيال منذ قديم عهد الدنيا بالحياة ليربط صدق هذا القانون على قلوب الذين يكتب الله عليهم اليوم وفي الغد القريب، أو البعيد، والأبعد أن يكونوا حملة فكرة تطورية ودعوة تجديدية في أي ميدان من ميادين النشاط الإنساني فلا يَهِنُون حين تجتمع الدنيا بكثرتها على محاربتهم ولا يشكون لحظة في النصر مهما تتربص قوى الجهل بهم وليعلموا أن هذا النصر المؤكد لا ينال إلا بثمنه الباهظ الفادح من الصدق والصبر اللذين يلذ معهما الألم ويهون الصعب ويتراءى النور من القلوب في أشد حلكة الظلام!!
__________
1 عن موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص307-308 عن جريدة أخبار اليوم العدد 155.
2 موقف العقل والعلم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص318.(3/1060)
ويقوى الإيمان حين يستيئس الناس!! "1.
وعلى كل حال فقد كثر ولا حول ولا قوة إلا بالله الإلحاد والملحدون في جوانب عديدة بدءا من العقيدة في الله ومرورا بالعقيدة في الأنبياء واليوم الآخر والقدر وفي أخبار القرآن وقصصه وتأويل آياته وفي السنة وحجيتها وفي الأحكام الشرعية الثابتة وفي السياسة والاجتماع وشتى النواحي وإلى ما لا نهاية.
ويقف المتأمل حائرا متسائلا عن الدوافع التي جرفتهم إلى تيار الإلحاد، وتتنازعه الأسباب كلٌّ يجره إليه فيستقر قراره على أن أهمها ولا شك:
1- أولئك القوم الذين يدفعونه إلى الجهر بالفكرة وتبنيها ويَعِدُونه بالدفاع عنه ويمنونه بالمناصب الكبيرة أو غيرها ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نعدد أسماءهم في كل حركة، فإن معرفة أهم عناصرهم تحملها تلك الدراسات عن كل حركة. فمثلا عندما فصل علي عبد الرازق من وظيفته استقال الوزراء "الأحرار" من وزارة زيور باشا وأقيل وزير العدل وعين بدلا منه عبد العزيز فهمي باشا، ثم ما لبث بعد فترة من هذا إلا ويعين علي عبد الرازق هذا وزيرا للأوقاف؟!
وكذا طه حسين لما أصدر كتابه في الشعر الجاهلي وأراد مجلس النواب فصله من منصبه هدد عدلي باشا رئيس مجلس الوزراء بالاستقالة "حماية للبحث العلمي" وما لبث طه حسين إلا وقد تم تعيينه وزيرا للتعليم؟!
وغيرهما كثير مما لا يدع مجالا للشك أن الأمر لم يأتِ صدفة من غير أن يقف أحد خلفه يخطط له ويرسم الأهداف.
2- ومن هذه الأسباب أيضا حب الشهرة وضعف الإيمان الذي يجعل الأول يطغى على الثاني فيجرفه فإذا ما تحققت هذه الشهرة له عاد إلى الإيمان
__________
1 مقدمة أمين الخولي لكتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم" لمحمد أحمد خلف الله، ص "ل".(3/1061)
وأعلن توبته، فتكون عودته هذه أيضا زيادة في شهرته فيبقى مشهورا في خروجه وفي عودته.
معاذ الله أن أتَّهِم أولئك الذين عادوا إلى الإيمان بسوء فالله أعلم بالسرائر. لكني أذكر واقعا وأحكي حقيقة نراها بأم أعيننا ولله وحده ما تكن القلوب وما تخفي الصدور.
ومن هؤلاء الذين أعلنوا عودتهم محمد أبو زيد، وخالد محمد خالد، وكامل كيلاني، وإسماعيل مظهر، ومصطفى محمود، وغيرهم. لكن اللافت للنظر أن بعض هؤلاء وإن أعلن عودته بالكتابة الإسلامية المستقيمة لكنه لم يتبرأ من إلحاده السابق ولم يكتب ما ينقضه به.
3- ومن الأسباب أن يكون الكاتب نفسه غير مسلم أصلا ولكنه يكتب لتشكيك المسلمين وزعزعة عقيدتهم بوحي من عقيدته الباطلة أو اتجاهه الإلحادي الذي ينكر كل دين.
وبعض هؤلاء وهو يعيش في دولة مسلمة غالب شعبها مسلم وهو في أقلية يرى من صالحه وقد صعب عليه الدخول في الإسلام وشق، أن خير وسيلة لتحقيق مآربه أن تنقلب الدولة إلى دولة علمانية وهؤلاء ينظرون إلى دولة تركيا مثالا لدولتهم وإلى أتاتورك قدوة لهم، وهم كثير.
4- ومنهم من يكون عن اقتناع في الفكرة وضعف في البصيرة ابتلاه الله به. وقليل ما هم.
وهناك أسباب أخرى أقل من هذه شأنا. وما علينا أن نستقصي الأسباب أو أن نذكر لها عددا وشأننا معها هنا التماس حقيقة أولئك الذين يلحدون في آيات القرآن الكريم هل عرفوا التفسير الصحيح فأبوا إلا التعامي عنه وألقوه وراء ظهورهم لأمر في نفوسهم أم غاب عنهم، فقالوا ما يحسبونه حقا من غير معرفة بأصول التفسير وشروطه واستنادا إلى أدلة حسبوها مقبولة أم خبطوا خبط عشواء من غير علم شرعي ولا غيره، فكان تفسيرهم هذيان مخرف لا نستطيع(3/1062)
الحكم على أحد بأحد النوعين الأولين لكنا نستطيع أن نفرق بين هذه الأمور الثلاثة في ذاتها.
أما أصحاب المنهج الأول فهم طائفة درسوا علوم الشريعة وتخرجوا من كلياتها فهم على علم ومعرفة -ولا شك- بشروط التفسير والمفسرين وعلى معرفة بعلوم الشريعة، وحين عمدوا إلى التفسير جاءت مخالفتهم للحق مجردة من التماس العذر لهم بالجهل.
وكان منهجهم هذا المنهج الإلحادي في التفسير.
أما أصحاب المنهج الثاني فطائفة لم يطلبوا العلوم الشرعية ولم يدرسوها في مدارسها بل تقاذفتهم المدارس في نواحٍ أخرى ليس منها علوم الشريعة ولما اشتد عودهم عز عليهم أن يطلبوا علوم الشريعة وهم الأساتذة وحسبوا -جهلا- أن علومها في متناول أيديهم، وأنها لا تحتاج إلى أكثر من تقليب الفكر في نصوص الكتاب والسنة والتعبير عنها من زواياها الضيقة من غير أن يكون في محيط علمهم لزوم توسيع دائرة النظر في النص الشرعي ليشمل كافة آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وأنه لا يصح أن نأخذ ببعضه ونترك بعضه وبوحي هذا الاعتقاد الخاطئ انطلقوا يفسرون آيات القرآن الكريم، فوقعوا في الإلحاد من حيث لا يشعرون والمؤمن منهم من نبه إلى الحق فرجع إليه واستغفر من ذنبه، وأحسب أن هؤلاء لا يصح أن يقرنوا مع النوع الأول وقد رأيت أن خير وصف لمثل هؤلاء أن يسمى "منهج القاصرين"؛ لأنهم قصروا في تحصيل شروط المفسر وعجزوا عنها وتناولوا التفسير من غير بابه، فكانوا في قصورهم عن هذه الشروط كالقاصر في عدم اكتمال رشده ولست بهذا أُبرئهم من الخطأ أو ألتمس لهم عذرا أو أبرر لهم معصية. وإنما أمرهم إلى الله وهو أعلم بنا وبهم.
أما الصنف الثالث فلا منهج، وأنى يكون لهم ذلك وهم يخبطون خبط عشواء، وأنى يكون لمجنون منهج يسلكه وهو الذي يسير بوحي ساعته بل دقيقته التي يعيشها لا صلة لها بماضٍ ولا مستقبل وإن كان لها من صلة فعلى غير وجه الحق.(3/1063)
وكأني بطائفة من القراء تقرأ ما أقول أو تسمعه، فيرتسم السؤال عما أقصده بكلامي هذا وما أرمي إليه. هو لا شك أمر محير وقفت عنده حينا من الزمن أقلب النظر فيه والبصر.
طائفة من الناس ليست من علماء الشريعة وليست من المنتسبين إلى العلم كافة في شتى صنوفه، اتجهت إلى تفسير القرآن لم تسلك سبيل هؤلاء ولم تسر في درب هؤلاء ولا التزمت ما التزمه العقلاء الذين ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فزجوا بأنفسهم في تفسير القرآن الكريم، فجاءوا بتفاسير لا تقوم على أسس شرعية ولا علمية وليس لها سند لا في القديم ولا في الحديث
ولا صلة بين معاني ألفاظها ومعاني ألفاظ القرآن ولا مطابقة لغوية ولا معنوية ولا شكلية، فجاءوا بهذيان كهذيان المحموم تسأله عن حاله فيجيبك بذكر اسم صديق له أو قريب أو بكلام غير مفهوم.
ولهذا فإني لن أصف طريقة هؤلاء بالمنهجية إذ لا منهج، فأطلقت عليهم طريق اللامنهجية وقد هممت أن أسميه تفسير المجانين!!
وعلى هذا فسأتناول المنهجين الأول والثاني والصنف الثالث كُلًّا على حدة.(3/1064)
الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم
مدخل
...
الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم
ويتميز هذا اللون من التفسير -والحمد لله- بقلة بل ندرة المؤلفات الكاملة فيه إذا اقتصر أصحابه على تفسير آيات من هنا وهناك حسب الموضوع الذي يتطرقون إليه فيستشهدون بآيات من القرآن -ملحدين- بتأويلها.
ولئن كان بوسعنا الكتابة عن كل التأويلات الباطلة لآيات منفردة من آيات القرآن الكريم على هذا النحو، فإنه لا بد من ذكر أمثلة متنوعة لهذه التأويلات المنحرفة. صدرت عن طائفة من المنتسبين للعلم والعلماء.
ومن أكثر أصحاب التأويلات الباطلة والآراء الجديدة العجيبة التي يقف المسلم فيها حائرا يعض بنان الأسف والندم وهو يعلم علما يكاد يتيقنه أن صاحب هذه الآراء غير مقتنع، ولكنه لأمر في نفسه امتطى صهوة هذه التأويلات، وهي كثيرة متعددة يهمنا أن نذكر له تأويلا واحدا.
ذلكم الشيخ أحمد حسن الباقوري قد أوَّل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 بأن الآية لا تتناول إلا من أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه أن هذا الحكم حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ثم أتى بما يضاده فإنه على ذلك حاكم بما أنزل الله، وإن كان تاركا له فلا يلزمه دخوله تحت هذه الآية واعتباره كافرا، ثم وصف هذا التفسير للآية بأنه ينفي عن الأمة حرجا لا قبل لها به ولا خيرة لها فيه؛ إذ يستطيع القائلون به أن يتعلقوا بقضية العموم في الآية، فيرموا بالكفر حكام أمتنا الذين يستمدون
__________
1 سورة المائدة: من الآية 44.(3/1065)
القوانين واللوائح والاشتراعات من قوانين عالمية لا صلة لها بالإسلام1.
وقال أيضا: "إن حكام البلاد الإسلامية اليوم هم في حالة الضرورة التي تبيح بعض المحظور، على أن يرتقبوا الوقت المناسب حين تكون للأمة قوة تحمي بها تقاليدها وشرائعها ومدنيتها، والإسلام نفسه سلك هذا المسلك فعمل أولا على تكوين العقيدة في الأمة ثم على تكوين شريعتها، والقرآن مكيه ومدنيه يؤيد ذلك"2!!
وبالمناسبة فإنه قال هذا الباطل وهو يتولى منصب وزير الأوقاف ولعله أراد به أن يدق مسمارا يثبت به في منصبه. ولذلك فإن مجلة الدعوة المصرية ردت عليه حينذاك سنة 1373هـ بقولها: "كان الشيخ الباقوري في إجابته سياسيا ودبلوماسيا. أكثر منه عالما وفقيها" وقد رد عليه أيضا ردًّا مفحما الأستاذ أحمد محمد جمال في كتابه على مائدة القرآن3 فاقرأه إن شئت.
تعدد الزوجات:
وهي من أشهر القضايا والأحكام الشرعية التي كانت ولا تزال ميدان حوار طويل ونقاش وجدل لا ينتهي، ولم يزل المسلمون منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنون بتعدد الزوجات، ويجعلون من أنفسهم مثالا لتطبيقه؛
1- إعفافا للنفس.
2- زيادة في النسل.
3- عدلا بين الزوجات والأولاد.
4- إعفافا لنساء المؤمنين.
لم يزل هذا معتقد المسلمين حتى نبتت فيهم طائفة تأثرت بطريق مباشر
__________
1 مجلة العربي: العدد 169 ص92 مقال: لن يشاد الدين أحد إلا غلبه: للشيخ أحمد حسن الباقوري.
2 على مائدة القرآن: أحمد محمد جمال، ص183.
3 انظر على مائدة القرآن: أحمد محمد جمال، ص181-198.(3/1066)
أو غير مباشر بالغرب، ووجدوا من بين ما وجدوا من فروق مسألة تعدد الزوجات، فطأطأ بعضهم رأسه خجلا كأن في الأمر عيبا خارقا ثم انعطف على النصوص يلتمس فيها مخرجا، ولم تبلغ به درجة الخجل أن ينكر ما هو معلوم من دلالة النص الصريحة ولكنه ذهب يلتمس تأويلا يقيد به تعدد الزوجات فوجدوا في الآية نفسها قيد العدل في إباحة تعدد الزوجات فرأوه سلما سهل المرتقى للتشدد في تطبيقه ومن ثم الدعوة إلى تقييد تعدد الزوجات بشروط ما أنزل الله بها من سلطان.
وعلى هذا فقد شكلت في مصر سنة 1926م لجنة اقترحت تقييد تعدد الزوجات وقدمت المقترحات لمجلس النواب وبعد مناقشات أعيدت لوزارة العدل لدراستها ثم صدر القانون رقم 25 لسنة 1929م منظما لبعض شئون الأسرة خاليا من مقترحات تقييد تعدد الزوجات.
إلى أن أصدرت وزارة الشئون الاجتماعية في مصر سنة 1945م مشروعا بقانون لعرضه على البرلمان يقضي بتقييد تعدد الزوجات باشتراط إذن القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه مكان الزواج، واشتراط أن لا يأذن القاضي إلا بعد الفحص والتحقق من أن سلوكه وأحوال معيشته يؤمن معها القيام بحسن العشرة والإنفاق على أكثر من في عصمته ومن تجب نفقته عليهم من أصوله وفروعه ولم يكتب -والحمد لله- لهذا المشروع النجاح.
والذي يهمنا هنا أن مجلة "المجتمع الجديد" طرحت المشروع هذا على شيخ القضاة "عبد العزيز فهمي باشا" وسألته رأيه والذي يهمنا منه أيضا، أنه جاء بتفسير جديد فهو لم يلتمس مخرجا ينفذ منه إلى تبرير هذا المشروع ولكنه جاء بالعجب العجاب وزعم أن الآية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1 تدل على تحريم تعدد الزوجات واقرأ إن شئت قوله: "إن من يتأمل نصوص القرآن الكريم من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 1 ثم من قوله في
__________
1 سورة النساء: من الآية 3.(3/1067)
موطن آخر: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} 1. يجد أن القرآن الكريم يحرم تعدد الزوجات، وكل ما في الأمر أن صيغة هذا التحريم وردت على عادة القرآن في عبارات هي أقصى ما يمكن من الاستدراج والتلطيف. فإن الآية الأولى، واضح لكل متذوق أنها هزء وسخرية ممن يريد تعدد الزوجات وأن فيها إيكال الأمر لمن يعلم الله أنه لا يستطيع القيام بالأمر، فمخاطبة غير المستطيع بما هو من شأن المستطيع تلك كلها سخرية بالمخاطب: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} .
إلى أن زعم: "ثم في ذلك الموطن الآخر عبر هذه الفكرة تعبيرا هو من أشد ما يكون بيانا للواقع الذي يعلمه هو فقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} و"لن" كما يقرر النحاة هي أشد أدوات النفي للمستقبل إذ تنفيه نفيا باتا.
فالقرآن يسجل بصريح العبارة أن الاستطاعة مستحيلة، أي أن العلة المتوهمة للتصريح بالتعدد لن تتحقق أبدا والمقرر عند الفقهاء من عقليين وحرفيين أنه متى زالت العلة زال المعلول".
ثم صرح برأيه فقال: "إذن فرأيي الذي ألي الله عليه هو أني مأمور ديانة بأن أكون من معتنقي مذهب الاقتصار على زوجة واحدة".
وصرح بموقفه من المشروع ذاك وذهب إلى أبعد مما ذهب إليه المشروع فقال: "ومن أجل هذا لا أوافق البتة على طريقة المشروع تلك الطريقة التي يراد بها عدم تعدد الزوجات ولكن بسبل ملتوية يراد لها قطع أسباب الاعتراض ممن يظنون أن لهم على خلاف نصوص القرآن الصريحة حق الاعتراض. ومن أجل هذا أرجو ألا تسير الحكومة في مثل هذا المشروع بل تأتي للأمر فتعالجه من
__________
1 سورة النساء: من الآية 129.(3/1068)
جذوره بأن تستصدر قانونا ينص دفعة واحدة على تحريم تعدد الزوجات"1.
وإني لمتيقن أن انحراف هذا التفسير وإلحاده لا يخفى على ذي أدنى معرفة وأدنى لبٍّ، وأن صاحبه لن ينال من قراءه إلا الهزء والسخرية حتى أولئك الذين يؤيدون فكرته لا أظنهم إلا ويقطعون بفساد تأويله.
وأمر تعدد الزوجات وإباحته أمر معلوم من الشريعة كدت أقول بالضرورة فلا حاجة بنا إلى تقرير ذلك وإن كان لنا من حاجة فهي أن نكشف مغالطة الرجل في استدلاله بالآية فهو كاستدلال من يستدل بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاة} ويدع {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ولو أحسن الاستدلال وأحسن القصد وطلب الحقيقة لأكمل عبد العزيز فهمي -هذا- الآية التي استدل بها فأوردها كاملة هكذا: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2. فقوله سبحانه: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} وقوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} وقوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} كلها تبين المراد بالعدل والواجب منه بيانا لا يريده أو لا يريد أن يفهمه كذلك الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا، ولهذا بتر الآية.
أما زعمه أن النحاة قد قرروا أن النفي بلن يفيد التأبيد فهو افتراء على النحاة وليس بمستغرب ممن يفترى على القرآن أن يفتري على النحاة، فلم يقل النحاة أن النفي بـ "لن" نفيٌ باتٌّ إلا الزمخشري قال ذلك ليؤبد النفي في قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} 3 حتى يستدل بها على إنكار رؤية الله تعالى التي لا يؤمن بها المعتزلة، وأما النحاة سواه فهم على ضد ذلك فقد قال ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله أرددْ وسواه فاعضدا4
__________
1 عن: على مائدة القرآن: أحمد محمد جمال، ص208 ومجلة الكويت العدد 8 رجب 1401هـ، ص110 عن مجلة المجتمع الجديد.
2 سورة النساء: الآية 129.
3 سورة الأعراف: من الآية 143.
4 الكافية الشافية: لابن مالك ج3 ص1515.(3/1069)
هذا ما نرى لزوم ذكره ردا على التأويل الباطل للشيخ عبد العزيز فهمي باشا، وفيما ذكرته الكفاية إن شاء الله أو بعضها.
وهذا الشيخ عبد العزيز بن خلف آل خلف، فسر سورة الزلزلة بتفسير لم يقل به أحد من قبله فقال مثلا في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 1: "اتفق المفسرون على أن الأرض تتحدث بما عمل عليها يوم القيامة، فتشهد على كل أحد بعمله الذي عمله على ظهرها من خير وشر؛ أما في الدنيا فقد تحدثت أيضا بما يعمله أهلها على ظهرها من خير أو شر في كل بقعة على وجه الأرض، ونحن نسمع هذا في كل ساعة ولحظة، فهذه أخبار أمريكا، لندن، مكة، كذا كذا. فتلك حالة مصغرة من تحدثها يوم القيامة إنها لمعجزة من المعجزات الباهرة وقعت ملموسة مطابقة لمحسوس لفظا ومعنى وهو الراديو ومحطاته البرقية وما في معنى ذلك من التليفون وأمثاله كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِه} 2 فذلك يصدق على واقع ملموس من إذاعات العالم وهذه الجملة تعتبر معجزة مستقلة. فالآية الكريمة -يقصد آية الزلزلة- والخبر الكريم يصدقان على حدوث هذا في الدنيا كما يصدقان على حدوثه في الآخرة؛ لأن الآية والخبر لم يحددا بلفظ صريح أنه في الدنيا فقط ولا أنه في الآخرة فقط، والجملة الأخيرة من كلام الله يعني: {وَإِذَا جَاءَهُمْ} الآية تنص على أن ذلك في الدنيا فقط فنحن الآن قد ظهرت لنا معجزة في الدنيا لا تتنافى مع وقوع ذلك في الآخرة وحدثت لأرضنا التي لم تتبدل ليوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} 3.
فأرض الدنيا قد تحدثت فكيف بأرض الآخرة ونعلم علم اليقين بتحدثها في الآخرة ونلمس عين اليقين بتحدثها في الدنيا، فلا منافاة ولا تناقض أنطقها في الدنيا الذي أنطق كل شيء، وأذاع القوم إذاعة صحيحة صريحة مع أن الراديو
__________
1 سورة الزلزلة: الآيتين 4، 5.
2 سورة النساء: من الآية 83.
3 سورة إبراهيم: من الآية 48.(3/1070)
يدخل تحت عموم قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1؛ لأنها فتنة معنوية بلا إشكال وقد حصلت به البلوى للسواد الأعظم ولم يكن خاصا بل كان عاما ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه".
إلى أن قال في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} التي تتحدث عن عرض الأعمال يوم القيامة فقال المؤلف عنها:
"فقوله تعالى: {يَصْدُرُ النَّاسُ} يعني يذهب الناس أشتاتا إلى أعمالهم بجد واجتهاد ونشاط يطلبون فيه مقاصد ومشارب متباينة من الأعمال الدنيوية التي لا حد لها، وهذا يعتبر في أرض العرب بلا إشكال أنه من حوادث آخر الزمان حيث كانت أرض العرب مسرحا للبادية الرحل والمواشي من جميع الأصناف حياتهم بحياة البهائم غالبا وموتهم جوعا بموت البهائم وأن هذا الانقلاب الذي وعد الله به لكبير وعظيم وقعه ونتائجه، فبعد ما ذكر الله الزلزلة، وإخراج الأرض كنوزها، وتحدث الأرض من أطرافها، فإن الناس في ذلك الوقت يصدرون أشتاتا في كل صباح ومساء لأعمالهم وأرزاقهم كما تصدر المواشي لأرزاقها فيما ترون في وقت نزول القرآن، ليُرَوْا "بالضم" يريهم أهل الأعمال أعمالهم "وبالفتح" ليَرَوه بأعينهم أي ليروا عملهم ونتائجه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عن الله شر. انتهى، فهذا من التأويل الديني ولكنه أيضا هو في الدنيا ولا منافاة بين الجميع ولا مانع والحالة هذه من الاستنباط من كنوز القرآن والسنة وعدم التقيد بتفسير واحد أو تأويل واحد أو تقيده بأمور الدنيا أو أمور الآخرة ما لم يقيده نص صادق ثابت.
وهنا استنباط يمكن أن يقال له حق في ذلك وهو قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ
__________
1 سورة الأنفال: الآية 25.(3/1071)
يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} هو ما حدث من التلفزيون فإن عمل العامل فيه يرى في كل بقعة توصل إليها التلفزيون وكذلك السينما؛ فإنها تعرض على الإنسان عمله، وهذه معجزة من معجزات القرآن واستنباط واقعي ملموس؛ فإن السينما تعرض المرء بعمله على الناس وعلى نفسه بحركاته وسكناته ونطقه وغير ذلك، فأي عمل عمله الإنسان ولو مثقال ذرة من خير أو شر يراه ويراه غيره كاملا غير منقوص. والله تعالى أعلم وأحكم"1.
ويظهر لي أن الذي دفع الشيخ عبد العزيز إلى هذا التأويل حرصه على جذب الناس إلى الإيمان وتقريب الأخبار إلى الأذهان ولكن أخطأ السبيل وضل في التأويل غفر الله لنا وله.
ومن ذلك أيضا سلسلة من التفسير نشرها حسين صالح مسيبلي في جريدة المدينة المنورة بعنوان: "القرآن والعلم" حشاها حشوا بالتفاسير المنحرفة فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} 2. حيث قال: "الغاسق: إنه حبل المطاط الذي في أحشائه السلك الكهربائي الذي يحمل موجات من النار كالبحر المرتطم بالصخور نيرانا حمراء تشبه شفق الغسق المدلج الذي خلَّفته الشمس وراءها والمتستر بالليل المكسورة أسلاكه والتي هي أشعة الشمس بسواد الليل، وهذا الحبل المطاط المسمى "غاسق" في باطنه تلك القوى الكهربائية ذات التيارات النارية والنورية العظمى"3.
أما العاديات في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ش4 ففسرها مسيبلي بقوله: "قسم غيبي يدعو الناس لينظروا تلك العاديات في الطرق الشاسعة وهم على ظهورها المريحة الهادئة مطمئني النفوس رغم سرعة سيرها في طريقها النقعي
__________
1 دليل المستفيد على كل مستحدث جديد ج1 ص168-172.
2 سورة الفلق: الآية 3.
3 مقال: القرآن والعلم للأستاذ حسين صالح مسيبلي جريدة المدينة المنورة، العدد 4491 يوم الثلاثاء 18 صفر 1399هـ.
4 سورة العاديات: الآية الأولى.(3/1072)
وقد ملأت الجو ضجيجا ضابحا بأصوات محركاتها الصاخبة المصمة للآذان والمرجفة للأفئدة، فالعاديات هي السيارات المنطلقة بعامل الوقود المشتعل في أحشائها، والتي توري به قدحا مضيئا في طريقها: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} .
أما: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} 1 فزعم: "ذلك القدح المضيء إشراقا جعلن به الصبح مغيرا، فطلع كئيبًا كسيفًا؛ لأن العاديات الموريات القدح قد استغنين عنه وعن إشراقه نوره فهن مواصلات سيرهن سواء ظهر أم لم يظهر ولهذا داخلته الغيرة لوجود منافس أرضي خطير2.
وفي تفسيره كثير من نحو هذا التفسير، نسأل الله لنا وله الهداية.
ومن هذا ما كتبه رجل دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلحاد كما قال الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى3، فراح يتأول آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه، فاتجه أول ما اتجه إلى حدي السرقة والزنا معرضا بوجهه عن إجماع المسلمين عليهما فقال: "فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة وهو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا} والأمر الوارد في حد الزنا وهو قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4 فلا يكن قطع يد السارق حدا مفروضا لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبة أخرى رادعة ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان، وهكذا الأمر في حد الزنى سواء
__________
1 سورة العاديات: الآية الثالثة.
2 مقال القرآن والعلم: حسين مسيبلي جريدة المدينة المنورة، العدد 4501 يوم الجمعة 28 صفر1399هت.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص193-194.
4 سورة الأعراف: الآية 31.(3/1073)
أكان رجما أم جلدا"1، 2.
ولا أحسب أن مثل هذا الزعم بحاجة إلى الرد عند من أوتي مسحة من علم، فكيف عند أهل العلم ومع هذا فقد كفانا مؤنة الرد عليه شيخان فاضلان أولهما الشيخ محمد الخضر حسين1، وثانيهما الشيخ محمد حسين الذهبي2 فجزاهما الله خيرا، ولا نرى موجبا لنقل ردودهما الطويلة فالحق أحسبه هنا بين واضح.
ومن أصحاب هذا اللون المنحرف في التفسير المدعو الطاهر الحداد في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي نشره في تونس وأحدث ضجة كالضجة التي أحدثها كتاب قاسم أمين "المرأة الجديدة" وكتابه "تحرير المرأة" في مصر.
والكتاب مليء بالتحريفات والتأويلات الباطلة وأنكر فيه ما هو معلوم من الدين بالضرورة وكاد الكتاب هذا أن يزهق لولا أن أخرجه للناس من جديد طائفة يسعون لنشر أفكاره وسيزهق إن شاء الله ويزهقون.
ومن تأويلاته الباطلة تأويله لقوله تعالى أمرا للمؤمنات: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الآية3 فقال: "ولله هذا القرآن العظيم في إبهامه ما ظهر من الزينة دون أن يعين مواقعه من ذات المرأة اعتبارا منه لأعراف الناس في ذلك بتطور الحياة. من هذا يظهر أن الحجاب الذي نقرره على المرأة كركن من أركان الإسلام؛ سواء في مكثها بالمنزل أو وضع النقاب على وجهها ليس من المسائل التي يسهل إثباتها في الإسلام بل ظاهر الآية يرشد إلى نفيه لما في ذلك من الحرج المضني"4.
__________
1 انظر بلاغة القرآن: الإمام محمد الخضر حسين، ص106-110.
2 التفسير والمفسرون: الشيخ محمد حسين الذهبي ج3 ص193-197.
3 سورة النور: من الآية 31.
4 امرأتنا في الشريعة والمجتمع: الطاهر الحداد، ص34.(3/1074)
وتحدث عن آيات الميراث وميراث المرأة على الخصوص ثم عقب قائلا: "وقد علل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها، ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير"1 وقال: "وفيما أرى أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كامل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفرت الوسائل الموجبة"2.
أما تعدد الزوجات فقال عنه: "ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في الإسلام؛ لأنني لم أر للإسلام أثرا فيه وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى"3.
وقد كفانا مؤنة الرد على هذه التأويلات الباطلة فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى الذي رد على هذا الكتاب ردا مفحما جعل عنوانه: "كتاب يلحد في آيات الله"4.
وهناك آخرون وآخرون باعوا دينهم بدنياهم فألحدوا في آياتٍ ابتغاء عرض يصيبونه أو منصب يتولونه، فخسروا الدنيا والآخرة. ولا ننكر أن منهم من دفعه الحرص على التجديد فانجرف وانحرف وأخطأ الطريق وضل السبيل، وأمرهم لله الذي يعاملهم بنياتهم ولكل امرئ ما نوى.
ولعلي بعد هذا أذكر نموذجا موسعا لأحد التفاسير الكاملة للقرآن الكريم والتي امتلأت بالإلحاد والضلال.
__________
1 المرجع السابق، ص41.
2 المرجع السابق: ص42.
3 المرجع السابق: ص65.
4 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين ص132-141.(3/1075)
الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن:
أولا- المؤلف:
هو: محمد أبو زيد.
أحمد الله أني لم أجد له ترجمة ولا ذكرا بعد بحث وتنقيب شديدين حتى اسمه كان يقع فيه اختلاف لولا أن كتابه بين يدي وعليه اسمه.
وكل ما عرفت عنه ما ذكره الأستاذ جمال البنا عنه، حيث قال: إنه التحق مدة بالأزهر ومدة أخرى بدار الدعوة والإرشاد التي كان قد أسسها بالقاهرة الشيخ رشيد رضا وأصدر عددا من الأبحاث اتسمت بالجرأة سواء كانت هذه الجرأة طلبا للشهرة أو انعكاسا لفكره واجتهاده، فأصدر كتيبا باسم "الزواج المدني" أنكر فيه التسري وملك اليمين. وأخيرا في الفترة ما بين 1347-1349هـ "1930-1931م" أصدر كتابه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، والكتاب ليس لدينا؛ لأنه صودر وأعدم في حينه"1.
هذا ما قاله الأستاذ جمال البنا، أما اسم صاحب هذا التفسير كما جاء على كتابه فهو "محمد أبو زيد" ومع الأسف أن صاحبه يذكر أنه ألفه بعد بلوغه الأربعين من عمره!! فإذا كان قد صدر سنة 1349 تكون ولادته سنة 1309 تقريبا.
ثانيا- الكتاب:
واسمه كما جاء على غلافه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
ويقع في مجلد واحد ضمنه القرآن الكريم كاملا وجعل تفسيره
في هوامشه. وهو تفسير مختصر جدا كثيرا ما يكتفي صاحبه بالإحالة لتفسير آية على آية أو آيات أخرى يذكر أرقامها.
__________
1 الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: جمال البنا ص91.(3/1076)
وقد أحدث هذا التفسير عند صدوره ضجة كبرى وإنكارا شديدا من شيوخ الأزهر فألفت لجنة من العلماء؛ لتنظر في هذا الكتاب وتحكم عليه ورفعت اللجنة تقريرها إلى شيخ الأزهر ووصفوا المؤلف بأنه: "أفاك خراص، اشتهى أن يعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه؛ ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته"1.
وصدر الحكم بمصادرة الكتاب كما رفعت دعوى على الرجل أمام إحدى المحاكم فحكمت ابتدائيا بكفره وارتداده وتغير الحكم النهائي بعد أن أعلن توبته وإنابته2.
وقد أصدرت جمعية حياة الإسلام بدمنهور في شهر ذي الحجة سنة 1349 -أي بعد صدور الكتاب بخمسة أشهر تقريبا- كتابا بعنوان "تنوير الأذهان وتبصرة
أهل الإيمان في الرد على كتاب أبي زيد المسمى الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
والكتاب كما ذكر كل من كتب عنه مصادر والحمد لله، وغالب من كتب عنه بعد ذلك، إنما اعتمد على التقارير التي كتبت عنه مطالبة بمصادرته وقد تمكنت والحمد لله -الذي لا يحمد على مكروه سواه- من الحصول على نسخة من هذا التفسير.
منهجه في التفسير:
بدأ المؤلف تفسيره باتهام المفسرين بالدس والحشو فقال: "وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث
__________
1 انظر التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص198، وقد نشر قرار اللجنة الأزهرية التي ألفت للرد على الكتاب في العدد الثالث والرابع من المجلد الثاني من مجلة نور الإسلام "الأزهر سنة 1350".
2 الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: جمال البنا ص91.(3/1077)
لا يشعرون، وقد جعلوا الاصطلاحات والمذاهب الفقهية والكلامية أصولا حكموها في القرآن وأنزلوه عليها حتى صار ميدانا للجدل وأصبح غير صالح للحياة بما حملوه من الأثقال وبما وضعوا فيه من الجهود والعراقيل ووسائل التفريق والشقاق، فهدايته فقدت بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب، ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة والتفسيرات المتحجرة العقيمة ولم يخلُ تفسير من هذا؛ لأن المفسرين يقلد بعضهم بعضا"1.
ثم وضح طريقته في التفسير فقال: "فهذا كله دعاني إلى تفسيري وأن تكون طريقتي فيه كشف معنى الآية وألفاظها بما ورد في موضوعاتها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن، ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع.
وقد اخترت أن يكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله، وليمكن للباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها، فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات؛ ليكون على علم تام وهداية واعظة"2.
ثم زعم أن هذه الطريقة في التفسير هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، فقال: "فهذه كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي طريقته في القرآن وهي الحكمة المذكورة في قول الله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} ، راجع [البقرة: 151] .
فالكتاب هو القانون الجامع لمواد الأحكام وإن شئت فقل إن الكتاب دستور فيه كل شيء من أصول القوانين وهو المرجع لأهل التشريع في كل عصر فيما يتجدد من الحوادث"3.
__________
1 الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن: محمد أبو زيد ص "ب-ج".
2 الهداية والعرفانك محمد أبو زيد ص "ج-د".
3 المرجع السابق: ص "د".(3/1078)
وقد أدرك أن كتابه هذا سيجابه بالرفض والطعن، فقال في مقدمة تفسيره هذا: "ومن الغريب أن يكون لنا في القرآن هذه المزايا ونعرض عنه ولا نتمسك به، ثم الأغرب أننا نتفرق فيه فإذا رأى بعضنا رأيا أو فهم فهمًا انقض عليه المخالفون باللعن والطعن ولقد كان هذا التفرق من أعظم الأسباب التي خذلت المسلمين وجعلتهم مملوكين لغيرهم"1.
ثم أظهر هدفه السييء الذي يربأ المسلمون بالقرآن الكريم أن ينزلوه هذه المنزلة التي يريدها هذا الملحد الذي قال: "والواجب أن يفهم المسلمون أن القرآن شائع مشترك بين الناس وأن من آياته الدالة على أنه من عند الله اتساعه للأفهام وتحمله لاختلاف الآراء، والأنظار في كل زمن وهذا معنى أنه متشابه أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف على الناظرين"1.
ولا شك أن إباحة تناول تفسير القرآن الكريم لكل من هب ودب ممن أوتي علما وممن لم يؤت علما ومن الصالح والفاسد هوالذي أدخل في تفسير القرآن الكريم ما ليس منه وما هذا التفسير الذي ألفه هذا الدعي للعلم وأهله إلا نتيجة لتجرؤ من ليسوا أهلا لتفسير القرآن على تفسيره فهل يريد إلحادا أكثر من إلحاده.
وقد نظرت في تفسيره بل في إلحاده، فوجدت أنه يقوم على قواعد التزمها في إلحاده استطعت أن أضبط منها:
أولا: إنكار التفسير بالسنة
عنوان هذا التفسير الهداية والعرفان في تفسير القرآن يشعر إذا أضيفت إليه قرائن أخرى أن صاحبه لا يعتد بالتفسير بالسنة، بله أقوال الصحابة والتابعين.
يشعر بهذا قول المؤلف في مقدمة تفسيره -ما نقلناه آنفا- ومنه قوله:
"ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله ولا يحتاج إلى شيء من الخارج
__________
1 المرجع السابق: ص "ز".(3/1079)
غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع"1.
فإذا ما احتججت عليه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. ألحد في تأويلها وزعم أن المراد بقوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من الكتب السابقة، فالقرآن جامع لها وداعٍ إليها"3. فإن استشهدت بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4 أجابك هذا الملحد بتأويله لهذه الآية، حيث يقول: {عَنْ أَمْرِهِ} يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره. وأما التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها، بل هي من حكمة الشورى"5.
ومثل هذا لا يجهد الإنسان نفسه في جداله ما دام منطقه المغالطة واللغو الذي لا يستند إلى كتاب أو سنة.
لهذا فلا عجب أن يعرض عن تفسير القرآن بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم بيان المغضوب عليهم والضالين في سورة الفاتحة بأنهم اليهود والنصارى، لكن المؤلف هنا يقول: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} المعاندين الذين يكرهون الحق {الضَّالِينَ} التائهين عن الحق"6.
وكذا الصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 7، فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود مرفوعا: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"، لكنه يقول في تفسيرها: "الوسطى خيرها وأقومها مؤنث الأوسط"8.
__________
1 المرجع السابق: ص "ج".
2 سورة النحل: الآية 44.
3 الهداية والعرفان: محمد أبو زيد ص211.
4 سورة النور: من الآية 63.
5 الهداية والعرفان: ص281.
6 المرجع السابق: ص2.
7 سورة البقرة: من الآية 238.
8 الهداية والعرفان: ص32.(3/1080)
وكلمة التقوى في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 1. ورد تفسيرها في السنة بأنها: "لا إله إلا الله"2. وأعرض محمد أبو زيد عن هذا التفسير وقال: كلمة "التقوى"، أي الكلمة التي تقيهم الوقوع في الشر والضرر والغرض أنهم كانوا حكماء فيما عملوا في مقابلة
حرارة الخصوم حميتهم الجاهلية"3؟!.
وكثيرة الأمثلة التي تثبت إعراضه عن التفسير بالمأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، ولا شك أن القرآن نفسه -لو كان هذا يفقه- يعلن أن محمد صلى الله عليه وسلم هو المبين له: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4، وقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 5.
ثانيا: إنكار المعجزات
وهذا هو البحر المتلاطم الأمواج في هذا التفسير؛ إذ إنه يبدو للمتأمل أن صاحب هذا التفسير قد بذل جهده في إنكار المعجزات كلها وتأويلها تأويلا باطلا حتى لكأنه إنما ألفه لهذا الهدف دون سواه.
والنصوص في إنكار المعجزات في هذا التفسير كثيرة نذكر منها على سبيل المثال قوله: "وبعد هذا تعلم أن الله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته غير ما في سيرته ورسالته"6.
وقال في موضع آخر: "واعلم أن آيات الله في نصر أنبيائه لا تناقض سنته في خلقه وكونه"7.
__________
1 سورة الفتح: من الآية 26.
2 مسند الإمام أحمد ج5 ص138؛ والترمذي ج5 ص386 كتاب التفسير، سورة الفتح.
3 الهداية والعرفان: ص407.
4 سورة النحل: من الآية 64.
5 سورة النحل: من الآية 44.
6 الهداية والعرفان: ص161.
7 الهداية والعرفان: ص290.(3/1081)
وقال أيضا: "إن كل الرسل رميت آياتهم بأنها سحر وقد كانت كل آياتهم حججا وبراهين من سيرتهم ورسالتهم فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها"1.
وقال أيضا: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم وصلاح رسالتهم وإنهم لا يأتون بغير المعقول ولا بما يبدل سنة الله ونظامه في الكون"2.
هذه بعض أقواله في إنكار معجزات الأنبياء إجمالا، ثم أنكرها بعد ذلك آحادا وأولها تأويلا لا يقوم على دليل، من الكتاب أو من السنة أو من اللغة.
معجزات إبراهيم عليه السلام:
فمن ذلك مثلا أن قوم إبراهيم عليه السلام أوقدوا له نارا وألقوه فيها {وَقَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} فجاءت المعجزة الإلهية: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، ومعنى الآية ظاهر واضح لكن محمد أبو زيد هذا ألحد في تفسير الآية وباقي القصة أن الله نجاه بالهجرة وخيب تدبيرهم"4.
وعلى هذا فعنده أن ابراهيم عليه السلام لم يلق في النار ولم تكن بردا وسلاما على إبراهيم، ولا أظنه يجهل أن من أنواع الإيجاز إيجاز الحذف وهو حذف ما يستغنى عنه بذكر ما يستلزمه ولا يستقر معناه في ذهن السامع إلا بتقديره، والبلاغيون يضربون لذلك مثلا بقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 5، أي واسأل أهل القرية، المحذوف في الآية موضع البحث هنا هي كلمة "فَأَلْقَوْهُ" لأن السياق يستلزمها. قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
__________
1 المرجع السابق: ص297.
2 المرجع السابق: ص306.
3 سورة الأنبياء: من الآية 69.
4 الهداية والعرفان: ص256.
5 سورة يوسف: من الآية 82.(3/1082)
فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 1، والتقدير فألقوه، فـ: {قُلْنَا يَا نَارُ} ... الآية، ولا أظنه يجهل هذا؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستقام تفسيره في غيرها من المعجزات ولكنه ذهب يؤولها بما ينكرها به كلها.
معجزة داود عليه السلام:
وقد سخر الله لداود عليه السلام الجبال يسبحن معه والطير، فقال عز شأنه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 2، وقد أنكر محمد أبو زيد المعنى المتبادر من {يُسَبِّحْنَ} وصرفه إلى معنى آخر لغير قرينة، فقال: "يسبحن: يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داود في صناعته الحربية"3 ولا أدري لم كان هذا مزية لداود عليه السلام مع أن الناس في القديم والحديث يستخرجون المعادن من الجبال؛ فأي مزية لداود عليه السلام في هذا؟ فإن أراد أن الجبال هي التي تظهره من غير كسب ابن آدم وجهده فهي معجزة لا تقل عن الأولى لكنه لا يريد هذا ولا ذاك.
معجزات سليمان عليه السلام:
وما دام حديثنا هنا في سورة الأنبياء عليهم السلام، فلننظر إنكاره العجيب للمعجزة التي أوتيها سليمان عليه السلام، فقد جاء في هذه السورة قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} 4، قال تفسيرا عجيبا: "تجري بأمره: الآن تجري بأمر الدول الأوروبية وإشارتها في التلغرافات والتليفونات الهوائية"5، ولا تعليق على هذا التفسير؛ لأن المغايرة بين التفسير والمفسر لا تخفى، إلا التعليق بأنه أراد أن ينكر هذه المعجزة بأية وسيلة.
وكذا تعليم الله سبحانه وتعالى لسليمان عليه السلام منطق الطير
__________
1 سورة الأنبياء: الآيتين 68-69.
2 سورة الأنبياء: الآية 79.
3 الهداية والعرفان: ص257.
4 سورة الأنبياء: الآية 81.
5 الهداية والعرفان: ص257.(3/1083)
وتحدث سليمان عليه السلام بهذه النعمة وشكر الله عليها: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 1.
ولكن محمد أبو زيد ينكر أن يكون هذا فضلا لسليمان عليه السلام، فيزعم أن: "كل من يربي الطير ويؤلفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه، وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه في الرسائل وغيرها"2، وتنزلا مع منطق هذا المنكر نقول: إن من تعلم لغة طير واحد أو استعمل نوعا من الطير في الرسائل لجهات معينة محدودة لا يصح أن يوصف بأنه تعلم منطق الطير على الإطلاق، فيبقى هذا خاصا بسليمان عليه السلام، لكن محمد أبو زيد يرفض هذا ولأجله صرف كل معنى يدل عليه. فالنملة التي تحدثت مع سليمان عليه السلام مع أنها ليست طيرا، إلا أن محمد أبو زيد يقول: "نملة: قبيلة، من النمل: قبائل الوادي"3، وصرف لفظة النمل عن معناها الصحيح إلى أنها اسم قبيلة حتى لا يكون في الأمر عجبا ويكون أمرا مألوفا لا يبعد عن ذهنه القاصر، وكذا صرف حديث الهدهد مع سليمان عن حقيقته أو الهدهد نفسه عن أن يكون طائرا، فقال: "الهدهد: اسم طائر، فهل يكون من ذوي الجناحين ويكون كلامه كناية عما يحمل من الرسائل، أم من الخيالة: السواري، أو: الطيارين الآخرين"4؟! ولا ندري ماذا يقصد بالطيارين الآخرين والمهم في كل هذه التأويلات التي أوردها أنه أراد أن يصرفها عن أن تكون معجزة لسليمان عليه السلام.
ولم يترك هذا الرجل لسليمان عليه السلام أي أمر خارق للعادة حتى إحضار عرش ملكة سبأ إليه صرفه عن معناه الحقيق إلى معنى آخر، ففي قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ
__________
1 سورة النمل: الآية 16.
2، 3، 4 الهداية والعرفان: ص297.(3/1084)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 1. فقال في تفسيرها: "بعرشها: بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول في البلاد فطلب الخريطة التي فيها مملكة سبأ؛ ليهاجمها ويريها أنه جاد غير هازل، {عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} أحد القواد ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذي عنده علم، {مِنَ الْكِتَابِ} من الكتابة والرسم والخطيط، {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الغرض أنه يأتي به حالا، وقد أتى به، ويحتمل أنه رسمه في الحال أو كان عنده مرسوما. ولو كان عهد الفتوغرافيا قديما لصح أن يكون ذلك الرسم بها، وترى أن سليمان يشكر الله على ما في مملكته من العلماء العاملين في كل فن"2.
ومن هذا ترى أن المؤلف صرف لفظ العرش عن مدلوله الحقيقي إلى معنى آخر وهو خارطة مملكة سبأ، لكنه لم يشر من قريب أو من بعيد إلى معنى قول سليمان، عليه السلام: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} الآية 3 هل أراد أن ينكر الخارطة!! وما الفائدة من تنكير الخارطة الذي إن دل على شيء فإنما يدل على قصور في معرفة بلاد العدو، وذلك صفة ضعف لا صفة قوة مع أنه لا صلة بين العرش والخارطة إلا عند ذوي المآرب، ومآربه لا تخفى لكنه سلك طريقا مهلكا مكشوفا للأنظار.
معجزات موسى عليه السلام:
ومعجزات موسى عليه السلام أوَّلَها كما أول غيرها من المعجزات بما يبطلها، فقال مثلا عن قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَأَلْقَى عَصَاهُ
__________
1 سورة النمل: الآيات 38-40.
2 الهداية والعرفان: ص298-299.
3 سورة النمل: من الآية 41.(3/1085)
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين} 1 "مثال من قوة حجته وظهور برهانه"2 وهو يريد بهذا إنكار هاتين المعجزتين كما أنكر معجزاته الأخرى كضرب الحجر بعصاه وخروج عيون الماء وذلك في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} 5 حيث قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} اطرقه واذهب إليه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} هذا بيان لحالة البحر، يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة، راجع [الأعراف: 160] ثم راجع [طه: 77، 78] لتعرف كيف اهتدى إلى طريق يبس مر منه6" ولا ندري كيف يعلل مرور موسى عليه السلام ومن معه وغرق فرعون ومن معه كيف كان هذا الطريق يبسا عند مرور موسى عليه السلام ثم انقلب بحرا متلاطم الأمواج يغرق فيه فرعون ومن معه إن هذه وحدها لمعجزة إلهية في حفظ الله تعالى لنبي من أنبيائه حسبك بانفراج البحر عن طريق يبس بعد أن ضربه موسى عليه السلام امتثالا لأمر ربه.
معجزات عيسى عليه السلام:
وأول أمره عليه السلام أنه كلم الناس في المهد قال تعالى عن
__________
1 سورة الأعراف: الآيتين 107-108.
2 الهداية والعرفان: ص126.
3 سورة الأعراف: الآية 160.
4 الهداية والعرفان: ص131.
5 سورة الشعراء: الآية 63.
6 الهداية والعرفان: ص290.(3/1086)
عيسى عليه السلام: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 1 لكن محمد أبو زيد يحرف التفسير فيقول: {فِي الْمَهْدِ} : في دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا -علامة على الجرأة وقوة الاستعداد في الصغر " {وَكَهْلًا} علامة على أنه لا يقل عزمه بالشيخوخة والكبر -ويصح أن يكون المعنى: يكلم الناس الصغير منهم والكبير علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه"2.
فإذا ما قلت له -لو كان يفقه- أن قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} 3 يدل على أنه تحدث وهو صبي في المهد تحمله أمه إذا قلت هذا أجابك جهلا وسفاهة: "كان في المهد صبيا أي كان ذاك النهار ولدا صغيرا فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم، فهذا ابن حرام"4! وانحرف في تفسير حمل أمه له حتى يلائم تفسيره هذا فقال في: {تَحْمِلُهُ} على ما يحمل عليه المسافر ومنه تفهم أنها كانت في سياحة طويلة"5. فجعل حمل مريم لعيسى عليهما السلام وإتيانها به قومها كذلك حملا على ما يحمل عليه المسافر؟! وهو صرف للألفاظ عن مدلولها لا تعين عليه اللغة وسياق الكلام ولكنه الهوى.
وقد تَعْجَب إذا قلت لك أنه ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد ولد من غير أب، لكنه يفعل هذا بطريق غير مباشر وإنما بطريق التلميح الذي قد يبعد عند بعض الأذهان كما أنها إشارة ملموزة عند آخرين حيث قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية 6: أم موسى فيها ملحوظة ظريفة هي أن موسى لم يذكر له أب ولكن قومه لم ينكروا أباه، أو يقولوا فيه كما قالت النصارى في المسيح ابن الله، بناء على أن المسيح نسب إلى أمه
__________
1 سورة آل عمران: الآية 46.
2 الهداية والعرفان: ص44.
3 سورة مريم: الآية 29.
4 الهداية والعرفان: ص239.
5 الهداية والعرفان: ص239.
6 سورة القصص: الآية 7.(3/1087)
ولم يذكر له أب. راجع مريم لتفهم المناسبة بينها وبين أم موسى في أن كل واحدة منهما جاءت بمولود عظيم، وكان لها الفضل في حسن تربيته والجهاد في المحافظة عليه"1 فهذه المقارنة بين قوم موسى وقوم عيسى ترمز إلى أن عيسى كموسى عليهما السلام له أب ويتأكد هذا إذا نظرت تفسيره لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 2 قال: {فَتَمَثَّلَ} يفهمك أنها رؤيا تمثيلية وبشارة روحية"، وفي قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} 3 قال: "استنكرت لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب المعروف" وقال في قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} 4 وما بعدها "اختصار في التعبير لا يعوق دور الحمل الطبيعي والمقصود أن مريم لما أصابها ما يصيب النساء لجأت عند الوضع إلى جذع النخلة لتستند عليه وتمنت لو ماتت قبل أن تذوق آلام الولادة، فلم يكن عيسى ابن الله، ولم تخرج أمه ولا هو عن دائرة البشرية"5 إذا أضفت التفسير السابق لآية القصص مع هذا التفسير لآيات مريم تبين لك ما يرمز إليه رجل ينكر المعجزات. وعرفت أنه لا يعترف كما لا يعترف اليهود بأن عيسى عليه السلام خلق من غير أب6.
أما معجزات عيسى عليه السلام بعد ذلك التي تحدث عنها القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 7، فإن هذا الرجل قد تخبط في تفسيرها
__________
1 الهداية والعرفان: ص303.
2 سورة مريم: الآية 17.
3 سورة مريم: الآية 20.
4 سورة مريم: الآية 22.
5 الهداية والعرفان: ص239.
6 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، ص120.
7 سورة آل عمران: الآية 49.(3/1088)
فراح يضرب القول جزافا فقال: {كَهَيْئَةِ} يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلمائه إلى خفة العلم ونوره، ومعنى الأكمة من ليس عنده نظر، والأبرص: المتلون بما يشوه الفطرة فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي والفكري بالهداية الدينية. {فِي بُيُوتِكُمْ} يعلمهم التدبير المنزلي"1؟!
وأكد هذا عند تفسيره لهذا في آخر سورة المائدة عند قوله تعالى "مخاطبا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2.
فقال في تفسيرها: {الْمَوْتَى} : معناهم مشترك بين موتى الأجساد وموتى القلوب والنفوس، وموتى الجهل والاستعباد، وموتى الاتهام والحكم بالإعدام. من هذا تعرف أن عيسى نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل؛ ليشفي مرض نفوسهم ويحيي موت قلوبهم فآيته في دعوته، وسيرته وهدايته، عاش ومات كغيره من الأنبياء في بشريته فلم يكن خارقا لله في سننه، ولا ممتازا بما يدعو إلى ألوهيته وعبادته"3.
وأحسب أن أمر إلحاده في تأويل هذه المعجزات بين بحيث لا يحتاج مع بيانه إلى بيان، فحسبه الله، وكفى.
معجزات محمد صلى الله عليه وسلم:
ويكفي أن تعرف معجزة الإسراء به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى ثم عودته إلى مكة في نفس الليلة كما اتفقت النصوص الكثيرة.
__________
1 الهداية والعرفان: ص45.
2 سورة المائدة: الآية 110.
3 الهداية والعرفان: ص97.(3/1089)
على ذلك. وقد جاء محمد أبو زيد برأي جديد لم يقل به أحد قبله -فيما أعلم- فقد زعم أن "الإسراء يستعمل في هجرة الأنبياء" "المسجد الحرام الذي له حرمة يحترم بها عند جميع الناس" "المسجد الأقصى" الأبعد -مسجد المدينة- وقد بارك حوله، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة وكان بالإسراء الفتح والنصر
فكان كل ذلك من آيات الله"1.
إذًا فالمراد بالإسراء عنده الهجرة -من مكة إلى المدينة ولا أدري كيف يفسر المسجد الأقصى بالأبعد ثم يزعم أنه مسجد المدينة مع أنه لا مسجد هناك حينذاك، زد على هذا أن في القدس مسجدا هو أبعد من مسجد المدينة ومع أن هذه الآية مكية باتفاق العلماء أي قبل الهجرة لكن المؤلف لا يدرك فوائد معرفة ما نزل بمكة وما نزل بالمدينة وأثر ذلك في التفسير، وزد على هذا أيضا أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس قد ورد في السنة ورواه جمع عظيم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وجاءت هذه الروايات في الصحاح، ولكنه لا يفسر القرآن بالسنة ولو فعل لما ضل وتاه وألحد في تفسيره.
تلكم بعض الأمثلة على مواقفه الملحدة من المعجزات التي أظهرها الله على يد أنبيائه علامة على صدقهم أمام أقوامهم، فآمن بها طوائف منهم وأنزل الله العقاب الشديد على من لم يؤمن بعد نزولها دليلا على حجيتهان واحسب هذا دليلا كافيا على قوة الارتباط بين النبوة والمعجزة قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين عن منكري المعجزات "إنما ينكرها طائفة ممن أنكروا بعثة الرسل إذ قالوا إن الرسالة تتوقف على المعجزة والمعجزة خرق للعادة وخرق العادة محال"2.
ولهذا فإن شيخ الأزهر محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كثيرا ما يربط وهو يرد على محمد أبو زيد بينه وبين داعية البهائية المسمى أبا الفضل في كتابه المسمى "الدرر" فيورد إلحاد هذا ثم يورد إلحاد البهائي فلا تكاد تجد فرقا بينهما إلا في الألفاظ، ويزداد ظنك سوءا إذا علمت أن صدور الكتاب
__________
1 الهداية والعرفان: ص219.
2 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، ص114.(3/1090)
البهائي قبل صدور تفسير محمد أبو زيد بوقت قصير نسبيا، وبعد فلعل فيما ذكرنا من موقفه من المعجزات بيان لحقيقته.
ثالثا- إنكار الغيبيات:
ونكتفي من الحديث عن الغيبيات بثلاثة من معالمه التي ضل بها كثير من الناس "فنذكر تعريفه للملائكة والجن والشياطين".
الملائكة:
أما الملائكة فهم عنده رسل النظام وعالم السنن وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مسخر له1 أما حملهم للتابوت في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 فقد فسر الحمل بقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} إشارة إلى أنه يأتي إليهم بسنن الله ونظامه أي بتغلبهم على العدو بقوة الحرب ونظامه والملائكة كما قلنا في 34 رسل النظام والسنن في الكون"3.
الشياطين:
قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} 4 فقال محمد أبو زيد في تفسير الشياطين: "الشياطين تطلق على الحيات والثعابين تستهوي من يتبعها؛ ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها"5؟!.
وفي قوله تعالى عن سليمان، عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
__________
1 الهداية والعرفان: ص7.
2 سورة البقرة: الآية 248.
3 الهداية والعرفان: ص33.
4 سورة الأنعام: الآية 71.
5 الهداية والعرفان: ص105 وانظر ص37 حيث قال: الشيطان يطلق على الثعبان كالجان.(3/1091)
بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} 1. فقال هذا في تفسيرها: "الشياطين يطلقون على الصناع الماهرين والأشقياء المجرمين"2.
أما وصف الشيطان وقبيله بأنهم يروننا من حيث لا نراهم وذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} 3 فقال في تفسيرها: {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} أي من الجهة التي لا ترونهم فيها شياطين، فيخدعونكم بأنهم من الأولياء الصالحين"4 فصرف هذا الرؤية عن أن تكون إلى الأعيان والأبدان إلى أن تكون نفيا للرؤية المعنوية وهي رؤية حقيقتهم ومآربهم.
أما إبليس فعنده أنه: "اسم لكل مستكبر على الحق ويتبعه لفظ الشيطان والجان وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره"5.
الجن:
قال تعالى في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 6.
وزعم محمد أبو زيد أنه "يطلق الجِن والجِنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الأنس بسائر المقلدين والتابعين المستضعفين"7 ولا أدري ماذا يسمى الإنس المتبوعين والسادة.
لكنه جاء بتعريف آخر للجن في تفسير قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} 8 فقال: "الجن يطلق على
__________
1 سورة ص: الآية 36-37.
2 الهداية والعرفان: ج ص359.
3 سورة الأعراف: الآية 27.
4 الهداية والعرفان: ص118.
5 الهداية والعرفان: ص7.
6 سورة الجن: الآية الأولى.
7 الهداية والعرفان: ص458.
8 سورةالنمل: الآية 17.(3/1092)
العالم الخفي والظاهر القوي وجن كل شيء أوله ومقدمته وجن الجيش قواده ورؤساؤه"1.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُوم} 2، "والجان: النوع المتشرد صاحب الطبع الناري الذي إذا قاربته يؤذيك ويغويك ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله، والنوعان موجودا في كل أمة"3. وتأمل قوله والنوعان: "يقصد الإنسان والجان" موجودان في كل أمة فقد وصف الإنسان بأنه النوع الهادي، والجان بأنه النوع المتشرد، ثم وصفهما بأنهما موجودان في كل أمة. وإذا أضفت هذه النصوص إلى بعضها، وعرفت موقف صاحبها من الملائكة والشياطين أدركت أنه يجعل الجن نوعًا من أنواع البشر، ويقابله النوع الثاني من أنواع البشر وهم الإنس.
وهذان النوعان الجن والإنس موجودان في كل أمة من البشر، وهذا يعني خلاف الحق الذي اتفقت عليه الأمة من أن الجن نوع مستتر بخلاف الإنس وأن فيهم الصالح وفيهم الفاجر فيهم المؤمن وفيهم الكافر.
رابعا: إنكار بعض التشريعات المعلومة من الدين بالضرورة
وإنما وصفته بأنه ينكر ولم أصفه بالاجتهاد لأن الاجتهاد له شروطه التي لا تتوفر فيه أولا ولأن الاجتهاد ليس فيما أجمع عليه المسلمون وما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ فلا يصح أن يجتهد إنسان في حكم الصلاة المفروضة مثلا لأن أمره لا يحتاج إلى ذلك الجهد واستقصاء الذهن في معرفته؛ إذ هو معلوم من الدين بالضرورة، كذلك المر في حكم السرقة والزنا وتعدد الزوجات والربا، ونحو ذلك؛ وإنما يسمى من أنكر شيئا من ذلك منكرا لتشريعه لا مجتهدا في حكمه، وعلى هذا فقد أنكر محمد أبو زيد عددا من الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة ومنها:
__________
1 الهداية والعرفان: ص297.
2 سورة الحجر: الآية 27.
3 الهداية والعرفان: ص204.(3/1093)
حد السرقة:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية1، ولم يذكر القرآن ولا السنة، ولم يرد عن أحد من الصحابة أو من التابعين اشتراط أن تتكرر السرقة من السارق حتى يقام عليه الحد؛ لكن محمد أبو زيد يشترط هذا افتياتا على الشريعة فيقول: "واعلم أن لفظ {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} تعطي معنى التعود أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملامة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى أن من يسرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده؛ لأن قطعها فيه تعجيز له ولا يكن ذلك إلا بعد اليأس من علاجه"2.
حد الزنا:
ونحو تفسيره هذا قال في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الآية3؛ فزعم: "يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخلقهما فهما بذلك يستحقان الجلد"4.
وهذا الزعم الباطل في تأويل هذه الآية جاء من بعده في تفاسير كثير من المنهزمين الذين تأثروا بكلام أعداء الحق حين زعموا أن قطع يد السارق وجلد الزاني -فضلا عن رجمه- فيه قسوة وعنف، وفيه تعطيل للفرد وتعجيز له، وفيه تشويه لأفراد البشر وهم بها ينظرون إلى المجتمع من زاويته الضيقة زاوية الفرد، ولو علم هؤلاء أن في قطع يد سارق حفظا لأرواح بله أيدي آخرين هم أكثر عددا، وأن في قطع يد سارق حفظا لأمن أمة، وأن في تشويه يد سارق جمالا لأمة، وأن القسوة ليست في الجزاء والقصاص؛ وإنما هي في الجريمة الأولى التي استحق صاحبها العقاب عليها؛ ولكنهم لا يفقهون أو يفقهون ويمكرون.
أما إن أرادوا الفقه الحق في تفسير الآية، فقد رد الشيخ محمد الخضر
__________
1 سورة المائدة: من الآية 38.
2 الهداية والعرفان: ص88.
3 سورة النور: الآية 2.
4 الهداية والعرفان: ص274.(3/1094)
حسين على هذا وأمثاله بقوله: "وهذا الذي قاله في اسم الفاعل من أنه يدل على التكرار والتعود من بهتانه الذي لا يقف عند حد؟ فاسم الفاعل نحو السارق أو الزاني إنما يدل على ذات قامت بها السرقة أو الزنا، ولا دلالة له على تجدد قيام الوصف بالذات، ولا على تعودها عليه؛ هذا ما يقوله علماء العربية في القديم والحديث. قال ابن مالك في كتاب التسهيل معرفا اسم الفاعل: "اسم الفاعل هو الصفة الدالة على فاعل، جارية في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها لمعناه أو معنى الماضي"؛ فقوله لمعناه أو معنى الماضي تنبيه على أنه لا يدل على أزيد مما يدل عليه الفعل، وهذا وجه الفرق بينه وبين صيغ المبالغة كفعال ومفعال ومفعول؛ فإن هذه الصيغ تدل على معنى زائد على حدوث الصفة لمن قامت به، وهو قوتها فيه أو كثرة دورها منه"، إلى أن قال رحمه الله تعالى: "فعلماء العربية من كوفيين وبصريين مجمعون على أن اسم الفاعل لا يدل على أكثر مما يدل عليه الفعل، وإذا كان علماء العربية الذين قضوا أعمارهم الطويلة في تقصي اللغة والتفقه في كلام العرب قد تظاهروا على أن اسم الفاعل لا يدل على مقدار من الوصف أكثر مما يدل عليه أصل المضارع والماضي؛ أفيستطيع المؤول أن ينقض بناءهم بكلمة لا تمت إلى البحث بسبب؛ وإنما هي وليدة الهوى والانهماك في مخالفة أهل العلم"1.
وإنما رددت على هذا التأويل لهذا الرجل؛ لأن هناك من انخدع بهذا التأويل فأخذ يردده ويكرره عن جهل حينا وعن فسق أحيانا؛ وإلا فالحق فيه كما هو الحق في كثير من التأويلات الأخرى بين واضح لا يحتاج إلى شرح وبيان كما لا يحتاج إلحاده فيه إلى إبطال ونقد.
الربا:
وحكم الربا أيضا معلوم من الدين بالضرورة ولئن قامت في المسلمين طائفة تبحث عن تأويل تبرر به واقع المسلمين اليوم فتلتمس الضرورة الاقتصادية سببا لإباحة الربا أو تخص المراد بالربا المحرم بأنه الربا
__________
1 بلاغة القرآن: الشيخ محمد الخضر حسين ص126-127.(3/1095)
الفاحش، فإن هذه الترتيبات الباطلة لا تغني من الحق شيئا بعد أن اتفق المسلمون على تحريم الربا قليلة وكثيرة؛ أما محمد أبو زيد فقد زعم أن الربا المحرم هو الربا الفاحش ولم يحدد المقدار الذي يكون به الربا فاحشا؛ وإنما ترك هذا لتقدره كل أمة بعرفها؟! وبهذا يكون الربا محرما في مكان ومباحا في آخر؟!
فقال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1: "أي الربا الفاحش، وبمعنى آخر: الربح الزائد عن حده في رأس المال وتقدره كل أمة بعرفها"2.
وعلى زعمه هذا إن قدرته أمة بما زاد على 20% وقدرته أخرى بما زاد عن 15%، فإن ربا 16% إلى 20% حرام عند طائفة من المسلمين مباح عند أخرى، ثم أين موقع السنة التي حرمت الربا قليله وكثيره من هذا التفسير؟! إنك لن تجد لها أثرا كما لم تجدها في سائر تفسيره وحسبك بهذا انحرافا في التفسير.
تعدد الزوجات:
وأما تعدد الزوجات؛ فقد جاء محمد أبو زيد في شرط إباحته بما هو أعجب من كل ما سلف؛ حيث اشترط شرطا لم يقل به أحد من قبله ولا من بعده حتى ساعتنا هذه فيما أعلم؛ حيث اشترط في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 3. اشترط في "النساء" أن يكن من نساء اليتامى؛ فلا يجوز عنده التعدد من غير النساء اليتامى؟! قال: "من النساء: نساء اليتامى الذين فيهم الكلام لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهن، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التي يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضررا
__________
1 سورة آل عمران: الآية 130.
2 الهداية والعرفان: ص53.
3 سورة النساء: من الآية 3.(3/1096)
على المجتمع من تركه، ولتعلم أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق"1.
ولنا مع هذا التفسير وقفات قصيرة فلا سند له أولا في اشتراط أن تكون النساء من اليتامى يكذب هذا إطلاق العبارة في الآية، وتكذبه السنة النبوية وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه؛ فقد عدد وعددوا من غير يتامى النساء، ولم يدر بخلد أحدهم هذا الشرط ولم يقل به أحد مهم ولا من سائر علماء المسلمين من بعدهم.
ووقفة أخرى مع هذا التفسير من أين جاء بقيد: "إنه لا يجوز إلا للضرورة" وليس في الآية مثل هذا القيد.
ووقفة ثالثة ماذا يقصد بقوله أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية؟!
أليست الآية الواحدة كافية في التشريع أم لا بد من تكراره حتى يكون مشروعا؟! أم يريد التقليل من شأن التعدد؟! وحسبنا قدوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده.
التسري:
والآية السابقة تنص على أن من خاف ألا يعدل فليتزوج واحدة أو يتسرى بما ملكت يمينه. قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2.
لكن محمد أبو زيد ينكر التسري فيقول في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية3، وبدلا من أن يستدل بها على إباحة التزوج مما ملكت الأيمان عكس المعنى؛ فقال: "وفي هذه الآية رد على الذين يتخذون ملك
__________
1 الهداية والعرفان: ص61.
2 سورة النساء: الآية 3.
3 سورة النساء: من الآية 25.(3/1097)
اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات بحجة أنهن مشتراة بالمال أو أسيرات بالحرب؛ فليس في الإسلام عرض امرأة يستباح بغير الزواج مملوكة كانت او مالكة"1.
وإذا قرأت قوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 2، قال في تفسيرها: "أو ما ملكت أيمانهم من الخدم؛ فإن لهم ما ليس لغيرهم؛ فقد يكون في الإنسان فروج، أي نقائص وعيوب يسيئه أن يراها الناس فيه ولكن لا يسيئه أن يراها خدامة". ومن البلاغة في التعبير أن لفظ "أو" أفاد التنويع بين ما يباح للأزواج وما يباح لملك اليمين إذ يوجد من العيوب ما لا ينبغي كشفه على الخدم ويكفيك فاصلا: الذوق والعرف الجاري مع الفطرة"3.
وهو هنا صرف الآية عن أن تكون للحث على حفظ الفروج حقيقة من الوقوع في الحرام إلى أن يكون المراد بالفروج النقائص والعيوب وأن المراد بحفظها منع كشفها لغير الأزواج والخدم؟!
وقد ضحكت وشر البلية ما يضحك لقوله "إن"، "أو" بلاغة في التعبير وتساءلت هل يعرف هذا التعبير فضلا عن بليغه؟! ثم لا ندري كيف يستدل بأو العاطفة "ما ملكت أيمانهم" على "أزواجهم" على التنويع بين ما يباح كشفه للأزوج وما يباح كشفه لملك اليمين مع أنه لم يذكر في الآية ما يباح للصنفين فيما زعم.
وخلاصة الأمر أنه يحرم التسري، بل وملك اليمين أصلا ويفسر الفروج بالعيوب وهو أمر لا تعين عليه اللغة ولا يدل عليه الشرع.
__________
1 الهداية والعرفان: ص64.
2 المؤمنون: الآيتين 5، 6؛ والمعارج: الآيتين 29-30.
3 الهداية والعرفان: 455.(3/1098)
الطلاق:
وكما اشترط في التعدد شرطا جديدا لم يقل به أحد من قبله، فإنه جاء أيضا هنا بشرط عجيب لا أعلم أحد قال به من قبله أيضا، وهو أن الطلاق لا يقع من الزوج لزوجته إلا إذا جاءت بما يخل بنظام العشرة الزوجية. وعبارة لا يقع تدل على أنه فيما لو نطق بالطلاق من غير هذا السبب فإن زوجته لا تطلق، وهاك نص عبارته: "إن الطلاق وإن كان في يد الرجل لا يخل بنظام العشرة الزوجية"1.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2.
قال: "تسهيل على الرجل فإنه يصعب عليه أن يعاشر امرأته وهو يعتقد عدم عفتها، وتفهم من هذا أن ليس له أن يطلقها إلا بسبب يخل بالعشرة الزوجية؛ وإلا ما احتاج إلى هذا الإشهاد"3، وهو يجهل أن هذه الشهادة من الزوج ليست لإيقاع الطلاق؛ وإنما لإيقاع العقاب عليها، ولذلك قال تعالى بعد هاتين الآيتين مباشرة: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} الآية4؛ ولكنه لا يفقه هذا وألحد في تفسير الآية.
مصارف الزكاة:
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 5،
__________
1 الهداية والعرفان: ص445.
2 سورة النور: الآيتين 6-7.
3 الهداية والعرفان: ص274.
4 سورة النور: الآية 8.
5 سورة التوبة: الآية 60.(3/1099)
ومحمد أبو زيد يفسر بعض هذه المصارف -كعادته- تفسيرا جديدا فيقول:
{وَفِي الرِّقَابِ} : في خلاصها من الاستعباد، وفي هذا الزمان تجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب؛ فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم، وفي الصدقات حق لهذا التعاون والغارمين ما يصيبهم، وكل من يغرم للمصلحة العامة؛ فهو من الغارمين، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} منه نشر الدعوة باللسان والقلم لحرية العقيدة والوطن والقتال للدفاع عن الحرية والاستقلال والتربية والتعليم الباعثان على تكوين أمة معمرة في الكون، ويتبع ذلك المستشفيات والملاجئ للمرضى والمحتاجين والمعامل والمصانع للعمال والعاطلين "وابن السبيل" السائح المكتشف؟! واللقيط الذي يوجد في الطريق ولا يعرف له عائل"1.
وهو في تأويله هذا خلط حقا بباطل. وكلاهما معلوم لا يخفى أظنه لا يحتاج إلى بيان.
زكاة الزروع:
ذكرنا رأيه في الربا وأنه يقول بإباحة الربا غير الفاحش، وأن مقدار الفاحش متروك للأمة تقدره بحسب حالها، ورأيه هنا في زكاة الزروع لا يبعد عن هذا؛ حيث يقول في تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2، قال: "زمن تحصيله وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق أمر الحاكم العام بأخذه والعمل على جبابته لبيت المال، وقد ترك التقدير للأمة بحسب الحالة"3 وكل من أوتي حظا من الفقه يعلم أن السنة لم تترك هذا، بل قدر زكاتها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن محمد أبو زيد هذا لا يعترف بالتفسير بالسنة.
خامسا: إهمال المدلول اللغوي:
ولأنه يأتي بما لم يقل به أحد من قبله، فإن اللغة لا تطاوعه في كثير من أقواله فلا يبالي بذلك ولا يلقي له حسابا، بل صرح في مقدمة تفسيره بهذا،
__________
1 الهداية والعرفان: ص150.
2 سورة الأنعام: من الآية 141.
3 الهداية والعرفان: ص113.(3/1100)
حيث قال: "وقد تغيرت معاني القرآن أيضا، وتبدلت مقاصده باعتمال المفسرين على بعض كتب اللغة التي تفسر الألفاظ بلازمها، وتقصرها على بعض معانيها، وقد سرى التقليد واستعمال الاصطلاحات في قواميس اللغة كما سرى في غيرها؛ حتى أنك لتجد كثيرا من ألفاظ القرآن في تلك القواميس مفسرة بما فسرت به في كتب فقه الأحكام فتكون بذلك بعيدة عن فقه اللغة فيتغير معناها المراد في القرآن"1.
ولا عجب بعد أن يتحرر من يزعم نفسه مفسرا من السنة الصحيحة واللغة أن يفسر الآيات بما يشاء؛ فأي ضابط للتفسير بعدهما فليقل ما يشاء وليقل غيره ما يشاء فلا ميزان توزن به الأقوال ولا ملاذ تلجأ إليه الآراء وهذا ما يريده الملحدون وأعداء هذا الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
ولقد ذكرنا -فيما سلف- أمثلة يظهر فيها عدم التزامه المدلول اللغوي الصحيح للألفاظ في تفسيره المزعوم، ومن ذلك مثلا معنى كلمة الفروج في مثل: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 3.
السوءة وغلب عليها4، والسياق في الكلام يحدد المعنى المراد الأصلي أم الكناية؛ ففي الآية الأولى هنا المراد بها "العورة"، وفي الآية الثاني على المعنى الأصلي.
وإذا ما نظرت بعد هذا في تفسير محمد أبو زيد وجدته لا يفرق بين هذا وذاك فيذكر لهما معنى واحدا وزيادة على هذا؛ فالمعنى الذي يذكره ليس هو المعنى الأصلي ولا الكناية به؛ فقال في تفسير الأولى: "فروج أي نقائض
__________
1 المرجع السابق: ص "ج".
2 سورة المعارج: الآية29.
3 سورة ق: الآية6.
4 انظر المعجم الوسيط ج2 ص685.(3/1101)
وعيوب"1؟!. وقال في تفسير الآية الثانية: " {فُرُوجٍ} : عيوب ونقائص"2 وهو دليل على جهله في اللغة؛ بل وعلى عدم اعتداده بها في التفسير.
وخذ مثلا آخر اسم "الطير" لا يخفى معناه والمراد به في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3 لكنه يقول في معناه: "والطير يطلق على ذي الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيارات الهوائية"4.
سادسا: تفسير القرآن بالقرآن
وقد ألصق المؤلف نفسه بهذا النوع من التفسير إلصاقا، مكرا وخبثا فهو يعلم قيمة هذا النوع من التفسير لدى المسلمين فسمى تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
وقد جعلت الحديث عن هذا الأساس المزعوم هو الأخير لأنه آخر ما تجده في هذا التفسير، وكيف يصح أن يسمى تفسيره تفسيرا بالقرآن وهو يعصي القرآن نفسه في أمره بالأخذ بالسنة في تفسيره؟! هذا فيما لو صح ما يسميه تفسيرا للقرآن بالقرآن.
وإن شئتم أمثلة على ذلك سقت لكم منه كثيرا كثيرا؛ ولكن لا تطمعوا بفائدة منه في هذا فإشارته إلى ما يفسر به ليس لآية أو آيات إنما يشير لسورة أو سور كثيرة أي أنها إشارات مجملة وأذكر أمثلة يتضح بها المراد.
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5. قال في
__________
1 الهداية والعرفان ص455.
2 الهداية والعرفان: ص410.
3 سورة الأنبياء: الآية 79.
4 الهداية والعرفان: ص257.
5 سورة الأنفال: الآية 29.(3/1102)
تفسيره: "اقرأ الطلاق"1، أي اقرأ سورة الطلاق؟!
وفي تفسير قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} 2 الآية، يقول: "اقرأ الأحقاف ولقمان"3.
وفي تفسير قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} 4، قال: {جَاثِمِينَ} : باركين اقرأ هود والحجر والشعراء"5.
وفي تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 6، قال: "13-54 اقرأ الأعراف والحاقة والواقعة والنمل"7.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} الآيات: 8، قال: "6-10 اقرأ الصافات وتدبرها آية آية، ثم الأعراف إلى 38، 39 وما بعدها إلى آخرها، ثم سبأ وغافر وإبراهيم والأنعام ويس والشعراء، ثم الإسراء والكهف والحجر والرحمن والنمل وفصلت والذاريات وأواخر الأحزاب، ثم هود والسجدة والناس، ثم الفاتحة، ثم146، 165-167 في البقرة. بعد هذا تفهم أنه يطلق الجن والجنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين والتابعين المستضعفين"9.
وإذا عرفت أن تفسيره مكتوب على هامش القرآن وأن هوامش كثيرة من الصفحات تكاد تكون بيضاء إلا من إحالة إلى قراءة سورة أو سور لمعرفة معنى
__________
1 الهداية والعرفان ص138.
2 سورة العنكبوت: الآية 8.
3 الهداية والعرفان ص312.
4 سورة العنكبوت: الآية 37.
5 الهداية والعرفان ص314.
6 سورة فصلت: الآية 13.
7 الهداية والعرفان: ص376.
8 سورة الجن: الآية 6-10.
9 الهداية والعرفان: ص458.(3/1103)
كلمة أو آية عرفت صغر حجم هذا التفسير ومع هذا فلو مليء بهذه الانحرافات، ولهذا فإنه يخيل إلي أن صاحب هذا التفسير قد وزع أفكاره الإلحادية على آيات القرآن الكريم أولا، ثم للغش والتدليس نمق بعض الصفحات بمثل هذه الإحالات التي توهم تفسير القرآن بالقرآن؟! وماهو بتفسير ولكنه ابتلاء وامتحان للمؤمنين قيض الله له طائفة من العلماء كشفوا عواره وأظهروا إلحاده، فحكم على صاحبه بالردة، ولم يصدر الحكم النهائي من المحكمة لإعلانه رجوعه وتوبته، ويبقى الحكم دائما وأبدا لله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يعلم ظاهره وباطنة وما تخفي الصدور.
ومما يؤسف له ويحز في النفس أن كثير من آراء هذا الرجل في تفسيره قد انتشرت بين بعض من أصابهم داء ضعف الإيمان أو فقده وهم حين يقولون بها لا يشيرون إليه ولا يؤمنون، وما لنا ولإشارتهم أو عدمها وآراؤهم متماثلة ينكرون مثله المعجزات ويؤولونها بما يبطلها ويجهرون جهرا باشتراط تكرار السرقة والزنا حتى يقام على السارق والزاني الحد وإلا فلا حد؟! وينكرون الملائكة والجن والشياطين وينكرون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقولون بملء أفواههم الإسلام هو القرآن وحده، ويريدون منه بصريح عباراتهم عدم الاحتجاج بالسنة وإنكارها، وهم حين يقولون هذا وذاك يعيشون بيننا ولا يمنع ذلك كثيرا منا من أن يكون أكيله وجليسه؛ بل وصديقه الملحد وأي مؤمن يصادق ملحدا؟! ولكنها الجاهلية التي غشت على كثير من الأبصار غشاوة أعمتها عن التماس السبيل فذهبت تلتمسه يمنة ويسرة فتعثر هنا وتعثر هناك، وقد تهلك إن لم يدركها الله بنور من عنده.(3/1104)
الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم
تمهيد:
قلنا في أول هذا الباب: إنا نقصد بالقاصرين طائفة لم يطلبوا العلم الشرعي ولم يدرسوه في مدارسه بل تقاذفتهم المدارس في نواح شتى ليس منها علوم الشريعة، ثم برز هؤلاء في تخصصهم أو في كتابة المقالات الصحفية والبحاث الأدبية ونحو ذلك، وكان لهم نصيب من الشهرة في ذلك لا بأس به؛ فأرادوا أن يتجهو إلى رقعة أوسع منها فرأوا أن الأنظار من مختلف المستويات ومختلف الاتجاهات تتجه إلى رقعة الأبحاث الشرعية، والدراسات القرآنية خاصة فتسللوا إلى هذه الرقعة وبدؤوا ينشرون تفاسيرهم لآيات قرآنية وهم يحسبون أن علوم الشريعة لا تحتاج إلى أكثر من تقليب النظر في العبارات، ثم إبداء الرأي من غير أن يكون لصاحبها الدراية في شروط التفسير ومن غير أن يدركوا شروط المفسر؛ فأصبحوا ينظرون إلى آيات القرآن الكريم كما ينظرون إلى مقالة أدبية سطرها أحدهم فراح الآخر ينقدها فوقعوا في انحرافات في التفسير مصدرها جهلهم بالقرآن نفسه في آياته الأخرى التي قد تفسر ما يكتبون عنه أو تبينه، وجهلهلم بالسنة الشريفة التي قد يرد فيها تفسير لهذه الآية التي يتناولونها وجهلهم باللغة، وأنها لا تحتمل ما قالوه وجهلهم بالعقيدة وأصولها وغير ذلك من الأصول والقواعد التي لا يصح لقاصر عن تحصيلها أن يفسر القرآن الكريم، ولكنهم لم يتلزموا فانحرف تفسيرهم.
ودواعي هؤلاء لسلوك هذا المنهج في التفسير كثيرة لا تقل عما ذكرته في أول هذا الباب من أسباب منهم من تحقق له ما أراد ومنهم من فشل في ذلك فخسر الدارين.
وكما هيأ الله للملحدين في التفسير من رد عليهم في تفاسيرهم وكشف حقيقتهم للناس فإن الله عز وجل هيأ أيضا لهؤلاء من رد عليهم وكشف زيف آرائهم.(3/1105)
نماذج من هذا اللون في التفسير:
ويمتاز هذا اللون عن سابقه بكثرة الذين كتبوا فيه مقالات ودراسات ومؤلفات، وأكثر ما يدخل تحته التفسير العلمي، وقد سبق أن أفردنا هذا بمنهج خاص لكن هذا المنهج قد تطرف فيه بعض من تناولوا التفسير وخرجوا عن حدود التفسير المقبول إلى منطقة التفسير المردود؛ فأصبح تفسيرهم باللون الإلحادي ألصق وإن كانت صبغته علمية.
ثم يليه في الكثرة آيات الأحكام التي ولج إليها طائفة أرادوا أن يعدلوا في الأحكام الرعية حسب ما يرونه ملائما للعصر حتى وإن لم تطاوعهم الآية؛ فإنهم يلوونها ليلا، وكأنهم قد قرروا الحكم الذي يريدون قبل أن ينظروا في الآية، ثم أرادوا أن يطبقوا الآية بعد ذلك على الحكم الذي قرروه قبل، ولا شك أن هذا إلحاد بالآية إلى غير مدلولها.
خذ مثلا عباس محمود العقاد -عفا الله عنا وعنه- يقول في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1: "من هو السارق؟ هل هو من يسرق مرة واحدة أو من تعود السرقة؟ فإن كلمة الكاتب مثلا لا تطلق على كل من يكتب، ويقرأ وإنما تطلق على من تعود الكتابة وأكثر منها والإشارة إلى النكال وإلى عزة الله في الآية الكريمة قد تفيد معنى الاستشراء والاستفحال الذي يقضي بالنكال وأيا كان المقصود
__________
1 سورة المائدة: من الآية 38.(3/1106)
بالسارق في الآية الكريمة فالتوبة والاستصلاح تفيان من إقامة الحد، ويوكل الأمر فيهما إلى الإمام في رأي جملة الفقهاء"1.
ولئن سبق في بحثنا هذا إيراد مثل هذا التفسير والرد عليه؛ فإني أحبذ أن أقف مع العقاد هنا وقفة في ثلاثة مواضع من حديثه.
أما زعمه أن السارق تطلق على من تعود السرقة كالكاتب تطلق على من تعود الكتابة؛ فإن هذا غير مسلم وسبق بيان ذلك ويكفي هنا أن أضرب له مثلا واحدا، له من الرواج ما يفهم غير ذوي المعروفة باللغة وخصائصها لو طرق عليك الباب طارق فإنك تهتف "من الطارق"، حتى ولو لم يطرق الباب إلا مرة واحدة.
أما أن الإشارة إلى عزة الله وإلى النكال؛ فإنه لا يدل على ما زعمه بل الذي أحسبه أنه عكس ما ذكر والله أعلم.
بقي أمر توبة السارق والاستصلاح؛ فقد ذكر أنهما تعفيان من إقامة الحد ولكنه لم يفرق بين ما إذا رفع الأمر إلى الإمام أو قبل أن يرفع والذي لا يخفى أنه إذا رفع أمر السارق إلى الإمام؛ فلا يسقط الحد حتى ولو أعلن توبته؛ وإلا أصبح الأمر عبثا فأي سارق لن يعلن توبته ولو كذبا إذا كان هذا يدرؤ قطع يده، ثم يصبح الأمر عنده بردا وسلاما يسرق ثم يتوب ولا أظن ذا لب يقبل هذا؟!
وفي آية أخرى يفسرها الأستاذ العقاد تفسيرا منحرفا تلكم قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} 2 الآيات.
حيث ذهب مذهب الفلاسفة في القول بأن الجزاء الأخروي نعيما وجحيما روحاني لا جسماني.
__________
1 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، ص101.
2 سورة الواقعة: الآيات 10-19.(3/1107)
ويعلل ورود هذا النعيم في هذه الآيات وأمثالها بصيغ لا تقبل إلا أن يكون العقاب والثواب جسماني لا رواحاني بقوله: "فالحقيقة الاعتقادية لا بد أن تمتزج بتصور المؤمنين بها لأن الخطاب فيها موجه إلا ملايين من البشر منهم العارف والجاهل، ومنهم الذكي والغبي ومنهم كبير النفس وصغيرها ورفيع الحس ووضيعه ومنهم من يطلب الكمال، ومن لا يعرف كمالا يطمح إليه؛ فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال وعلى هذا ينبغي أن يروض فكره كل من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يفرض على المؤمنين عقيدة البعث والحساب ويدعوهم إلى الإيمان بالنعيم والعذاب والجنة هي مقر النعيم والنار هي مقر العذاب وفي القرآن أوصاف محسوسة للجنة كما وصفت في سورة الواقعة وفي القرآن أوصاف محسوسة للنار كما وصفت في سورة الفرقان؛ ولكن في المتفق عليه بنص القرآن ونص الحديث النبوي الشريف أن هذه الموصوفات غير ما يرى ويعهد في هذه الحياة والواقع أن المسلمين يفهمون من هذه الصفات معنى التنعيم ومعنى العذاب ولا يخل فهمهم لهذا أو لذاك بالغرض المقصود من وعد الله ووعيده بالمثوبة والعقاب"1، ثم ذهب يستدل لهذا الذي قرره بدليلين أحدهما: فلسفي والثاني صوفي، أما الأول فقال؛ فالإمام فخر الدين الرازي مثلا يقول في تفسير الاتكاء على السرر المرفوعة: "معناه أن كل أحد يقابل كل أحد في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور؛ فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية: جميع جهاتهم وجه، كالنور الذي يقابل كل شيء"، وهذا فهم فيلسوف باحث في الجواهر والأعراض، وفي مطالب الأرواح والأجسام".
وأما الثاني وهو الفهم الصوفي فقال عنه: "ويفهم المتصوفة أن نعيم الحياة الباقية كله هو الوصول إلى الله ولا يتطلعون إلى جزاء غير هذا الجزاء سمعت
__________
1 الفلسفة القرآنية: عباس العقاد ص183-184 باختصار.(3/1108)
رابعة العدوية قارئا يتلو قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 1 فقالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير"، وسمع الشبلي قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} 2؛ فصاح صيحة عظيمة، وقال: "فأين الذين يريدون الله تعالى؟ ".
إلى أن قال -العقاد- فوصف الحقائق بالمحسوسات -كما رأينا- تعبير يفهمه الخواص الذين يرتفعون بالفهم وبمطالب النفس الباقية عن مطالب الجهلاء؛ ولكن هل التعبير بالمعاني المجردة والحقائق المثالية مفهوم عند هؤلاء الجهلاء؟ "3.
ثم ذكر أن الجهلاء هم أحوج الناس إلى الإيمان بالحساب ووصفهم بأنهم لا يعتقدون إلا بما يحسون ويفقهون، وأنه لا معدي إذن من إحدى صورتين للعقائد، أما أن تساق بأسلوب يحقق الحكمة من العقيدة عند جميع الناس خاصة وعامة، ولا بد فيه من العبير عن المعاني بالمحسوسات، وأما أسلوب يترك الخاصة لأنفسهم وينفي العامة عن حظيرة الاعتقاد وهو لا يحقق الحكمة من العقيدة بحال.
ثم قال: "في ذلك الأسلوب لا خسارة على أحد من الخاصة أو العامة، وفي هذا الأسلوب لا فائدة للخاصة ولا للعامة لأن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة، ولأن العامة محجوبون عن الوحي والرسالة بكل حجاب"4.
تلكم خلاصة ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد ولنا معه أيضا وقفات:
الأولى: أنه استدل برأي الفلاسفة ومفاهيم الصوفية، ومن المعلوم أن العقائد لا تؤخذ من هؤلاء ولا من هؤلاء وإنما من الكتاب والسنة.
__________
1 سورة الواقعة: الآيتين 20-21.
2 سورة آل عمران: من الآية 152.
3 الفلسفة القرآنية: عباس العقاد ص185.
4 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، ص185-186.(3/1109)
الثانية: إن ما ذكره ونسبه للرازي إنما هو أحد قولين أوردهما الرازي إيرادا، ورجح الثاني الذي لم يذكره العقاد وهو أن التقابل يعني أنهم متساوون في المكانة والرتبة لا يرى أحدهم نفسه دون الآخر.
الثالثة: إن ما ذكره عن رابعة والشبلي -إن صح عنهما- فلا يدل على فهمه هذا؛ ذلكم أن الصوفية حين يقولون مثل هذه المواجد ويلهجون بالنعيم الروحي وهو الوصول إلى الله تعالى لا ينكرون أهناك مع هذا نعيما محسوسا وعقابا كذلك؛ وإنما يتحدثون عن أمانيهم وليس عن الواقع وحده.
والوقفة الرابعة وهي الأخطر زعمه "أن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة"، وهو كلام خطير لا أظن الأستاذ العقاد يقصد ممعناه بكل أبعاده؛ وإلا لأدى إلى إنكار الدين من أصله وترك -الخاصة- يقررون لأنفسهم من العقائد ما شاؤوا بعيدا عن الوحي والرسالة وحينذاك يكون الهلاك.
ولعل في هذه الوقفات القصيرة ما يظهر الحقيقة التي غابت عنه فيما ادعاه من النص الذي سقناه له وحرصنا على استيفاء معانيه فجاء طويلا.
وغير العقاد كثيرون أولوا الآيات على غير مدلولها الصحيح من ذلك -كما أشرنا- التفسير العلمي خاض فيه كثير من هؤلاء فجاؤوا بتفاسير منها ما هو مقبول، ومنها ما هو مردود ومنها ما هو إلحاد أو انحراف، ومنها ما هو كفر وضلال.
لن أذكر أمثلة للمقبول والمردود؛ فقد إفرداه بدراسة خاصة ومنهج خاص هو المنهج العلمي في التفسير وإنا أشير إلى ما فيه انحراف أو كفر بل أشير إلى بعضه.
فمن ذلك الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله- وغفر له وعفا عنا وعنه أكثر من التفسير العلمي أحسبه بدافع الحرص على هداية الناس وجذبهم إلى الإسلام، وما علينا ونيته فأمرها إلى الله؛ وإنما علينا أن نذكر مواضع انحرافه فمن ذلك تفسيره للنفس الواحدة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ(3/1110)
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1؛ ففسر النفس الواحدة بالبروتون وزوجها الإلكترون واقرأ تفسيره قال: وقد اعتبر اكتشاف الإلكترون أكبر نصر علمي أمكن العقل البشري أن يصل إليه حتى أنهم يطلقون على هذا العصر الذي نعيش فيه الآن العصر الإلكتروني؛ إذ يعتبر أن هذا أروع وأهم اكتشاف تميز به عصر من العصور؛ إذ أمكن الوصول إلى الجوهر الفرد وحدة الخلق التي منها خلق كل شيء في الوجود: الإنسان والحيوان والماء والهواء الحي والجماد والأرض والسماء؛ فوجد أنها وحده تناهت في الصغر إلى درجة لا يقبل الفكر أن يتمثلها، وهذه الحقيقة العلمية التي يتيه بها العصر الحديث قد جاء بالقرآن الكريم منذ 1400 سنة في صراحة ووضوح؛ إذ تقرر الآية 189 من سورة الأعراف أن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة وجعل منها زوجها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1 أليست هذه هي البروتونات والإلكترونات الكهارب الواحدة موجبة وسالبة أي النفس الواحدة.. الزوجية الجنس بين موجب وسالب"2.
فهل يقبل ذو لب أن يوصف هذا التفسير بأن الآية تدل عليه بصراحة ووضوح ومع هذا يخفى على علماء المسلمين حتى القرن الرابع عشر الهجري؟! أين الصراحة والوضوح، وكان يكفي الأستاذ نوفل -عفى الله عنه- أن يكمل الآية ليعرف مدلولها الصريح والواضح {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.
وهذا الشاب أحمد شعبان محمد شاب مغمور لعله أراد أن يصبح مشهورا فكتب ما زعمه "إعجاز علمي في سورة النور" تناول فيه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 189.
2 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل، ص156.
3 سورة الأعراف: الآيتين 189-190.(3/1111)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 زعم أن في هذه الآية بيانا لـ "نوع من أشعة "الليزر" يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم به الموتى"؟! وقد بلغت هذه الدراسة 31 صفحة قدمها صاحبها إلى إدارة البحوث والنشر في مجمع البحوث الإسلامية وأحيلت إلى فضيلة الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير فكتب تقريرا في 22 صفحة ختمه بأن هذا البحث لا يصلح للطبع والنشر.
ولا أخفي أني غبطت الشيخ مصطفى الطير على سعة صدره وطول نفسه في قراءة هذه الرسالة كلها وكتابته نقدا شاملا لها مع أن كل صفحة فيها مليئة بما يبرر منعها من الطبع والنشر، ومع هذا فإن الشيخ مصطفى قدر قرأها كاملة، وكتب نقدا شاملا وزودني جزاه الله خيرا بنسخة من الرسالة وصوره من التقرير الذي كتبه وجاء فيه قوله: "يشتمل هذا الكتاب على إحدى وثلاثين صفحة من القطع الكبير وقد حاول فيه أن يستخرج أشعة الليزر من الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور"2.
قال المؤلف عن الآية 35 المذكورة من سورة النور: "أحسست بوجود تطابق بين هذه الآية الكريمة وبين أجهزة الليزر عموما. كما لو كانت الآية تصميم "كذا" لجهاز من تلك الأجهزة"3.
أما تفسير الآية فقال ما خلاصته: {مِشْكَاةٌ} هو "كذا" الكوة التي ليست بنافذة وهي عبارة عن جسم مفرغ من الداخل وليس له إلا فتحة واحدة كشباك أي أن هذه الفتحة لها سدادة أقل سمكا من باقي الجسم ويعتمد تصميم
__________
1 سورة النور: الآية 35.
2 الصفحة الأولى من التقرير الذي أعده الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير عن هذه الرسالة.
3 دراسة حول النور من كتاب الله: أحمد شعبان محمد، ص2.(3/1112)
المشكاة على درجة الحرارة داخلها وعلى مسارات الأشعة وانكساراتها، ويجب كذلك أن تكون على درجة عالية من الصقل بالنسبة للسطح الداخلي؛ وذلك لاتخاذ الأشعة مساراتها المحددة حسب النظريات المعروفة، {فِيهَا} : بمعنى آخر هذه المشكاة، {مِصْبَاحٌ} : إشارة إلى كلمة المصباح السابقة، وعلى حسب التصورات العلمية المتاحة لنا يتحدد تصميم المصباح؛ فيكون هذا المصباح مماثلا لدائرة مصابيح الزئبق؛ بحيث ترفع طاقة الزيت من خلال تيار كهربي ويكون الزيت بمعزل عن أي مواد أخرى مثل الهواء لكي لا يحترق الزيت؛ فيكون في أنبوبة زجاجية مفرغة فعند رفع طاقة الزيت يتحول من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، ويتسبب ذلك في وجود ضغط داخل الأنبوبة، ونستمر في رفع طاقة بخار الزيت الذي يكون في هذه الحالة متأنيا "كذا" حتى نصل به إلى درجة الاشتعال؛ فيصدر ضوءا دون أن يحترق لعدم وجود أكسجين داخل الأنبوبة، {فِي زُجَاجَةٍ} : أي أن هذا المصباح بداخل الزجاجة، ويجب عمل تفريغ بين المصباح والزجاجة لتكون بمثابة عازل يمنع أجزاء المصباح وهي الدائرة الكهربة "كذا" الخارجة عن أنبوبة الزيت من التأكسد، وبالتالي التلف وكذلك لتعمل كعازل لعزل الجسيمات الموجودة في الضوء الخارج من الزيت وعدم السماح إلا بمرور الموجبات فقط من خلال الزجاجة"1، إلى أن قال: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَة} والبركة معناها الوفرة والكثرة أي الشيء المحدود يتكاثر بغير حدود، ومن الممكن أن نصل إلى أدنى هذه الحدود وذلك بالمقارنة عن طريق الآيات الآتية:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3] .
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] .
ففي الآيتين السابقتين وردت كلمة مباركة في الآية الأولى مرادفة لكلمة القدر في الآية الثانية وبتعريف قيمة القدر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2] فليلة القدر خير من ألف شهر أي أنها خير من
__________
1 المرجع السابق: ص16-20 باختصار.(3/1113)
نظيرها بـ 60.000 على اعتبار الليلة نصف يوم فنصف اليوم خير من 1000×30×2= 60.000 نظيرها، وبالمثل فإن كلمة مباركة تعني الخير لأكثر من 60.000 نظير، وهذا يعني أن الاستفادة من هذه الشجرة خير من 60.000 شجرة في مكان آخر وشعاع النور الذي يخرج من هذه الشجرة خير من 60.000 شعاع يخرج من شجرة أخرى؛ لأن هذه الأشعة مركزة في نقطة واحدة وليست مشتتة بعيدا عن بعضها".
ثم وصف هذه الأشعة المركزة في نقطة واحدة بأنها {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وعندما تسير موجات نور على نور في خطوات منتظمة؛ فإنها تستطيع أن تحقق آثارا مذهلة والسبب هو أن طاقتها لا تتشتت كما لا تنتشر الحزمة نحو الخارج وهو يدعو إلى تكثيف تركيزا لطاقة عند نقطة محددة تماما وتوسع أيضا بدرجة عظيمة مدى مصدر الضوء، ثم ذكر بعض الإنجازات المثيرة لأشعة {نُورٌ عَلَى نُورٍ} ، ومنها أنه يمكن لهذا الشعاع أن يحدث ثقوبا في لوح من الصلب سمكة 3/8 بوصة على بعد عدة أقدام وقال: "ويستخدم هذا الشعاع "نور على نور لضبط المدى حيث تستخدم في سلاح المدفعية لتوجيه المدافع، وكذلك الصواريخ وكذلك المساحون في الفضاء الخارجي وستحل الأجهزة التي تصدر هذا الشعاع محل أجهزة الرادار التقليدية واللاسلكي لملاحة سفن الفضاء والاتصالات، ويستطيع هذا الشعاع أن يقطع المعادن والمواد الأخرى ويستخدم حاليا في أحكام ميكنة المعادن والمواد الهشة مثل التي بالماس وكذلك نستطيع أن نلح المعادن ونستخدم كذلك في صناعة دوائر ميكروإلكترونية ومن ثم فإن الأجهزة الضخمة التي تخرج هذا الشعاع التي تركب فوق قمم الجبال العالية يصفها على أنها وسيلة للدفاع ضد الرؤوس النووية للقذائف الموجهة الحربية من عابرات القارات" إلخ1.
هذه خلاصة سريعة لهذا البحث عن "الليزر" الذي زعمه صاحبه تفسيرا للآية 35 من سورة النور وهل مثل هذا يحتاج إلى نقد؟! لا أحسبه كذلك فأمر بطلانه ظاهر لا يخفى.
__________
1 المرجع السابق، ص29-30 باختصار.(3/1114)
ولا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل، ومن المؤسف أن تنشر مثل هذه الخرافات جريدة "النور" المصرية في عددها 42 بعنوان: "إعجاز علمي في سورة النور نوع أشعة الليزر يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم به الموتى! وهذا المقال خلاصة لهذا البحث قدمها الكاتب نفسه".
بقي أمر طريف أحببت الإشارة إليه لطرافته وأترك بيان العلاقة بينه وبين البحث لعلماء النفس ذلكم أن عنوان الباحث كما هو أمامي شارع طنطاوي الجوهري؟! وهل لاسم الشارع أثر على اتجاه أهله أم لا.
وكما أن الإلحاد يكون في التطرف -إيجابا- في ربط الحقائق والنظريات العلمية بآيات القرآن الكريم؛ فإن الإلحاد أيضا يكون في التطرف -سلبا- في زعم مخالفة الآية لحقائق علمية؛ فهذا الأستاذ إسماعيل مظهر يكتب في العدد الأسبوعي لمجلة العصور الصادر في 24 فبراير سنة 1930م تحت عنوان "استفتاء" وجاء في مقاله: "جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيح} 1، وقد دل العلم الصحيح على أن السماء غير مزينة بمصابيح بل هي فضاء غير متناه، تناثرت فيه كرات عظيمة هائلة الأبعاد، ومها ما يستمد ضوءه من غيرهن، ومنها ما هو ملتهب كشمسنا؛ فهل الاعتقاد بأنها ليست مصابيح مخالف للدين؟ "2. وقلنا لهذا، بل هو مخالف للحواس أيضا وليس للدين فحسب، وأينا لم ينظر إلى السماء في ليلة مظلمة وقد انتثرت فيها النجوم وأطل من بينها وجه القمر فلم تأخذ بلبه، وكم تغنى في هذا المنظر الشعراء وأبدع فيه الأدباء وكم اهتدى بهذا المنظر رجل تأمل وتفكر في هذا الخلق البديع؛ فلم يجد بدا من الإذعان والاعتراف بأن هذا لا يكون إلا من الخلاق العليم.
وليعلم هذا أن القرآن وهو يصف السماء والمصابيح؛ فإنما يخاطب أناسا ينظرون إليهما من الأرض فتبدوا مطابقة كل المطابقة لهذا الوصف ولا أظنه يجهل أن اللوحات الجميلة والمناظر البديعة لا يحسن النظر إليهما إلا من بعد وإلا
__________
1 سورة الملك: الآية 5.
2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص101.(3/1115)
فلو قرب حدقة عينه حتى تكون داخل اللوحة أو قريبة منها؛ فإنه لن يرى إلا نتوءات وحفرا، بل ويرى الألوان مشوهة فهل له وهو في هذه الحالة أن يصف هذه اللوحة بما هي منه بريئة وليجرب هذا الرجل وأمثاله أن يقرب عينه من أرض حديقة جميلة أو يضع حدقة عينه في قلب وردة زاهية الألوان، وليصف ما يرى وليسمع رأي الناس في وصفه إنهم لن يصفوه بأكثر من أحد وصفين إما الجنون أوالمكابرة وحسبك بهما وصفا لما زعمه في الآية.
وإلحاد آخر في قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} 1، قال فيه: "وقد أثبت العلم أن السماء لا أبواب لها، وأن الماء إنما يتساقط على الأرض بعد أن يتكاثف سحابا وبعد أن يعلو متبخرا من مياه الأرض فهل هذا الاعتقاد تجديف؟ وهل يجب أن نعتقد أن للسماء أبوابا من فوقها بحار، إذا فتحت انهمر المطر، وإذا أقلت أمسك عن الانهمار؟ "2.
والرجل في إلحاده هذا يجهل اللغة والبلاغة. أما اللغة فاعتقاده أن المراد بالسماء السماء حقيقة؛ وإنما المراد بها العلو والارتفاع وهو الجو هنا وهو مقر السحاب. أما جهله البلاغة فإن في الآية استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء وشق لها أديم الخضراء3 ولو علم اللغة والبلاغة لما قال ما قال.
بقي أن أقول هنا أن إسماعيل مظهر هذا قد رجع إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى والحمد لله4، إذا هو قد خرج عنه في أمور كثيرة منها ما هو صريح لا يشك في أمره فيها. والحمد لله أولا وآخرا.
ولعلي أكتفي بهذا في سياق الأمثلة على التفاسير المنحرفة في منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم واذكر بعد هذا مثالا للؤلفات في هذا المنهج.
__________
1 سورة القمر: من الآية11.
2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد الكيلاني ص101.
3 انظر تفسير القاسمي: ج15 ص5598.
4 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص108.(3/1116)
القرآن محاولة لفهم عصري:
أولا: المؤلف
أما اسم الشهرة فمصطفى محمود، أما اسمه الكامل: فمصطفى كمال بن محمود حسين. ولد في 27/12/1921 في قرية شبين الكوم، بالمنوفية في مصر؛ ولكنه نشأ في طنطا، حيث انتقل إليها مع أبويه وبدأ دراسته في الكتاب فيها بضعة أشهر، ثم دخل المدرسة الابتدائية، وقد أهلته درجاته العالية في الثانوية للالتحاق بكلية الطب بالقاهرة حتى أحرز شهادة الكلية عام 1952م وواصل دراسته حتى أتم مرحلة التخصص في الأمراض الصدرية.
مرحلة الرفض:
ووجد في القاهرة الجو المساعد لتنمية هواياته التي جمعت بين الفن والعلم، وقد كان ولعه بالقراءة في سن مبكرة حين شارف على الثالثة عشر؛ حيث قرأ مؤلفات شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى الذين كونوا في ذهنه مرحلة الرفض ويحدد نطاق شكه فيقول: إنه مقصور على موضوع النبوات والرسالات فقط. أما ما يتعلق بوجود الخالق تبارك اسمه فقد ظل في قلبه وعقله فوق كل ريب.
ويعلل بواعث تلك الشكوك بأنها رد فعل لما يراه من المظاهر الشاذة عند ضريح البدوي وغيره في طنطا.
مؤلفاته:
وأول مؤلفاته هي مجموعته القصصية "أكل عيش" وصدرت سنة 1954م.
لكن لكتابه الثاني "الله والإنسان" الأثر الأكبر في التأليف، حيث قفز به من معالجة الواقع الإنساني على صعيد الأحداث القصصية إلى محاولة التشكيك في كبرى اليقنيات وحشد في هذا الكتاب كل المشكلات التي خاضها فألقت به(3/1117)
في صراع كاد يمزقه، وقد أثار عليه هذا الكتاب بعض ذوي الغيرة الإسلامية فحاربوه حتى قام الزهر بواجبه؛ فصودرت نسخ الكتاب وقدم المؤلف إلى محكمة أمن الدولة ودافع محامي المؤلف عنه؛ فأعلن أن هذا الكتاب يسجل بداية متصوف لا تهجمات ملحد - ولسبب مجهول كان أعضاء المحكمة من أهل التصوف - فحكموا بمصادرة الكتاب والكف عن ملاحقة مؤلفه.
وبعد سكون الزوبعة رجع المؤلف إلى نفسه يحاكمها ويحاكم كتابه وانتهى إلى أنه عمل متهور لا يرضى عنه قلبه ولا عقله، وكانت هذه المحاكمة بداية لمرحلة جادة في طلب الحقيقة واستحكمت صلته بالقرآن وشرع بالاتصال بأئمة المفسرين، وكان أعمقهم تأثيرا سيد قطب في ظلال القرآن وابن كثير في تفسيره.
وأعلن الدكتور رفضه لكتابين من كتبه أولهما "الله والإنسان" الذي صودر، ولن يطبع ثانية، وثانيهما "إبليس"؛ إذ أعلن أنه لا يسمح بإعادة طبعه، وكل طبعة له ظهرت بعد الأولى فمن غارات السارقين في بيروت.
وخص كتابه "لغز الموت" بالذكر واعتبره مدخله إلى الإيمان، وقد كتبه في عام 1958-1959، ثم المستحيل الذي صدر سنة 1960م1.
وله عدد من المؤلفات يذكرها عادة مع تواريخ صدورها في آخر كل كتاب له، ومن هذه المؤلفات غير ما ذكرنا:
1- لغز الحياة "دراسة كتبت سنة 1967م".
2- آينشتين والنسبية "دراسة كتبت عام 1961م".
3- رحلتي من الشك إلى الإيمان "دراسة كتبت عام 1970م".
4- الطريق إلى الكعبة "رحلة حج كتبت عام 1971".
5- الله "دراسة كتبت عام 1972م".
__________
1 لخصت هذه الترجمة من كتاب الأستاذ/ محمد المجذوب علماء ومفكرون عرفتهم ص391 إلى ص424.(3/1118)
6- التوراة: دراسة كتبت عام 1972".
7- رأيت الله: دراسة كتبت عام 1973".
8- الروح والجسد: دراسة كتبت عام 1973".
9- حوار مع صديقي الملحد: دراسة كتبت عام 1974".
10- الماركسية والإسلامية: دراسة كتبت عام 1975".
11- محمد: دراسة كتبت عام 1975".
12- السر الأعظم: دراسة كتبت عام 1975".
13- من أسرار القرآن: دراسة كتبت عام 1976".
14- الوجود والعدم: دراسة كتبت عام 1976".
15- لماذا رفضت الماركسية: دراسة كتبت عام 1976".
16- القرآن محاولة لفهم عصري: وهوموضوع بحثنا هنا".
هذه أهم مؤلفاته فيما نرى ولم نذكر منها أسماء رواياته ومسرحياته ورحلاته وقصصه التي صدرت في مجموعات أربع في بيروت سنة 1972م. يكفي أن أقول إن عدد مؤلفاته كما يذكرها في آخر كتابه من أسرار القرآن 45 مؤلفا فضلا عن المجموعات الكاملة التي أشرت إليها آنفا، وسأتحدث بعد هذا عن تفسيره.(3/1119)
ثانيا: الكتاب "القرآن محاولة لفهم عصري"
وتقع طبعة دار المعارف بمصر سنة 1976م لهذا الكتاب في حوالي 280 صفحة من الحجم المتوسط وطبع قبلها وبعدها عدة مرات.
والمهم في الأمر أن الكتاب قد لاقى لا القبول عند كثير من المثقفين وقراء مصطفى محمود كما لاقى الرفض عند كثير من المختصين بعلوم القرآن، وقد توسط بعض العلماء فقبلوا بعضه وأنكروا بعضه وردوه، وأفرده بعضهم بمؤلفات مستقلة.
ومن الذين نقدوه بدراسة مستقلة:
1- الأستاذ عبد المتعال محمد الجبري في كتابه "شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم" ويقع في حوالي 250 صفحة.(3/1119)
2- الأستاذ مصطفى إسماعيل الرج في كتابه "رد على محاولة الفهم عصري للقرآن"، ويقع في 127 صفحة.
3- "الملحد" محمود محمد طه في كتابه "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري" والعجيب أن المؤلف من أشهر الملحدين في هذا العصر ومن الذين ادعوا الرسالة، ويقع كتابه في 213 صفحة.
ومن الذين نقدوه نقدرا موسعا:
1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" في كتابيها:
"أ" القرآن والتفسير العصري.
"ب" القرآن وقضايا الإنسان.
2- الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير في كتابه "اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط".
3- الأستاذ أحمد محمد جمال في كتابه "على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب".
4- الأستاذ توفيق علي وهبه في كتابه "شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي المعاصر".
وغير هؤلاء كثير نقدوه في كتبهم أو في مقالات نشرت في الجرائد والمجلات.
والكتاب في أصله مجموعة مقالات نشرت في مجلة "صباح الخير" في ديسمبر 1969م وأوائل 1970م بعنوان تفسير عصري للقرآن؛ فلما قامت الاعتراضات على تفسيره هذا جمعها في كتاب وزاد كلمة حسبها تبرر عمله هذا وسماه محاولة لفهم عصري للقرآن.
واستنكرت طائفة كتابة هذا التفسير في مجلة صباح الخير لجلال الموضوع وهبوط المجلة فلا تناسب بينهما.(3/1120)
واستبشرت طائفة أخرى ليس لما أصاب فيه المؤلف؛ وإنما لما أخطأ فيه وانحرف فهي تصفق إعجابا لكل تأويل باطل أو شرح منحرف لقضية من القضايا الإسلامية، وكأنما أسند إليها القيام بتحريف الإسلام فهي تدافع عن كل ملحد وتشجع كل منحرف وتبرر كل خطيئة.
وطائفة رفضت هذا التفسير لعدم تخصص المؤلف وعدم توفر شروط المفسر فيه؛ فإذا قيل هم إن الإسلام ليس حكرا على أحد ألقموه حجرا، وقالوا: حقا الإسلام ليس حكرا على أحد؛ ولكن تفسير نصوصه ليس مباحا لكل أحد كالدواء تماما، العلاج به ليس حكرا على أحد كن وصفه وتركيبه ليس مباحا لكل أحد.
وسأذكر بعد هذا أمثلة من الانحرافات والشطحات التي ارتكبها الدكتور مصطفى محمود في محاولته هذه.
نماذج من تفسيره:
يحتوي كتابه هذا على أربعة عشر بحثا جعل لكل منها عنوانا وختم هذه الأبحاث بمناقشات، أما هذه البحاث إجمالا فهي:
1- المعمار القرآني.
2- مخير أم مسير.
3- قصة الخلق.
4- الجنة والجحيم.
5- الحلال والحرام.
6- العلم والعمل.
7- أسماء الله.
8- رب واحد ودين واحد.
9- الغيب.
10- الساعة.
11- البعث.
12- لا كهنوت.
13- لا إله إلا الله.
14- لماذا إعجاز القرآن؟
ولا يحتاج القول إن المؤلف لم يفسر القرآن على الطريقة المألوفة في تفسيره آية آية وسورة سورة؛ بل جاء تفسيره عصريا يختار الموضوع سلفا، ثم يضع فيه(3/1121)
من الآيات ما يختار ويتناولها فيه تفسيرا وشرحا وحتى عناوين البحاث تبدو فيها العصرية.
بقي أن أقول إن الكتاب مليء بالأمثلة على الانحراف في التفسير؛ فما الذي أذكر وما الذي أدع. أأذكرها كلها وإذا لو فعلت لجاء في كتاب كامل، وقد كفيت هذان أو أذكر بعضها ففيه مرادي هنا من ضرب المثل للتفسير المنحرف للمفسر القاصر. وعلى هذا الخير أكتب فعذرا إذا لم أستوف وأستوعب.
خلق الإنسان:
من أهم القضايا التي خاض فيا الدكتور مصطفى في كتابه مسألة خلق الإنسان؛ بل خلق آدم وحواء -عليهما السلام- وهو أمر لا شك أنه غيبي لا سبيل إلى إدراكه ومعرفته إلا عن طريق الوحي.
وقد بسط القرآن الكريم الحديث عن ذلك في آيات شتى. علينا أن نؤمن بها ولا نصرفها بما لا تحتمله ألفاظها حتى توافق نظرية علمية ما زالت تتأرجح يمنة ويسرة إن لم تكن قد سقطت.
وقد أفاض الدكتور الحديث عن هذه المسألة وأطال وأصاب فيه وأخطأ ورجع في طبعات الكتاب الأخيرة "دار المعارف" عن أقوال سجلها في طبعاته الأولى "طبعة القاهرة" وهو أمر نشكره عليه وندعو الله أن يزيده إيمانا ورجوعا إلى الحق.
وبدأ الدكتور حديثه بذكر قصة داروين وطوافه حول العالم وجمعه العينات من البر والبحر وملاحظاته وتأملاته، ثم ذكر بعضا من ملاحظات داروين أعقبها بتساؤل: "هل الحكاية أن الحيوانات أصلها واحد ثم تطور هذا الأصل وتباين واختلف إلى هذه الفصائل المتباينة بسبب تباين الظروف والبيئات والحيوانات التي دبت على الأرض طورت لنفسها أرجلا.
والتي نزلت إلى البحر تحورت فيها الأرجل إلى زعانف، والتي طارت في الجو تحورت فيها الأطراف إلى أجنحة.(3/1122)
إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا فلا بد أن يكشف لنا تشابها في بنية الجميع وهذا هو ما قاله المشرط الفعل"1.
ثم ذكر أمثلة لما كشفه المشرط عند داروين؛ ففي الثعبان يكشف عن أرجل ضامرة وفي الطيور يكشف أن أنحتها هي الوجه الثاني من الأطراف.
وفي الأسماك يكشف أن زعانفها الأربع هي أطرافها الأربع، وهكذا إلى أن قال: لم يبق إلا أن يكتب داروين نظريته في أصل الأنواع؛ بل إن النظرية لتكتب نفسها فتقول إن الأنواع انحدرت كلها في أصل واحد تباين واختلف إلى شجرة من الفصائل والأنواع نتيجة تباين الظروف والبيئات"2.
ثم نفى أن يكون داروين قال: إن الإنسان انحدر من القرد وإنما هي نكتة روجتا الصحف، ووصف هذه النظرية بأنها في أصلها المكتوب لا تقول بأن أيا من الأجناس الموجودة خرج من الآخر؛ وإنما كل جنس هو بذاته نهاية فرع مستقل من الشجرة لم يخرج فرع من فرع.
وقامت الزوبعة على داروين ومضت سنون وسنون من التمحيص وإعادة النظر. وعاش من نظرية داروين بعضها ومات بعضها.
ثم بين الدكتور مصطفى ما عاش منها وما مات فقال: "حكاية أن الأنواع انحدرت من أصل واحد، وأنها تباينت غلى شجرة من الفصائل والأنواع نتيجة تباين الظروف والبيئات كانت احتمالا مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواهد فالوشيجة العائلية تربط كل الخلائق بالفعل".
والتشريح يقول: إنها ترتبط بعضها ببعض بصلة رحم وقربي.
أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وبدون يد هادية؛ فلم تعد مقنعة، وسقطت من غربال الفكر المدقق المحقق"3.
__________
1 القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود ص49.
2 المرجع السابق: ص52.
3 المرجع السابق: ص52.(3/1123)
خلاصة الأمر أن الدكتور مصطفى يخالف هذه النظرية في جزئية شكلية -وأنا أقول شكلية ليس في ناحية العقيدة وإنما من ناحية النظرية نفسها -شكلية لأن داورين- حسب قول الدكتور مصطفى زعم أن عوامل التطور هي عوامل داخلية، وقال الدكتور أنها بيد هادية ترشدها1 وما عدا هذه الجزئية فلا اعتراض على هذه النظرية.
وبعد هذا العرض الطويل الذي أوردت خلاصته وصل الدكتور مصطفى إلى مرحلة إلصاق هذه النظرية بالقرآن الكريم، وهو يدرك أن العبارات والنصوص لا تطاوعه على ما أراد فمهد للأمر بأن قال: القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.
وهو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها أينشتين بالمعادلات ولا كما يعرضها بيولوجي برواية التفاصيل التشريحية؛ وإنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف. إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها؛ ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة ويثبتها تفصيلا"2.
ولا شك أن مثل هذا يوحي بأن الدكتور قد عجز عن أن يجد كلمة صريحة أو عبارة واضحة أو دلالة بينة على ما ذهب إليه؛ فلم يجد بدا من أن يحمل ما فهمه على الإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة وأي مانع لمن أراد أن يقول في القرآن ما يريد أن يقول أنه فهمه بهذه المصطلحات.
إن مثل هذه القضية في أهميتها لا تكفي مثل هذه الإشارات والرموز لإقامتها؛ هذا إن سلم له أن في الآيات رمزا وإشارة.
ولنر بعد هذا ما حسبه رموزا وإشارات، فقد قال في تفسير قوله تعالى:
__________
1 المرجع السابق: ص54.
2 المرجع السابق: ص55.(3/1124)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} 1 قال: "وفي هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية " {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} والزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 2؛ فإذا قال الله: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم؛ معنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق والتصوير والتسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا وأياما بزمن الله الأبدي.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 3، ومعناها أنه كانت هناك قبل آدم صور وصنوف من الخلائق جاء هو ذروه لها.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} 4 إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيا يذكر.
ويقول القرآن عن الله أنه هو: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5 أي أنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 6، وهي إشارة صريحة بأن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء؛ وإنما خلق من سلالات جاءت من الطين هناك مرحلة متوسطة بين الإنسان والطين هي سلالات عديدة متلاحقة كانت تمهيدا لظهور نوع الإنسان المتفوق، ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكى لنا أن خلق العظام سابق على خلق العضلات {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
__________
1 سورة الأعراف: الآية 11.
2 سورة الحج: الآية 47.
3 سورة نوح: الآية 14.
4 سورة الإنسان: الآية الأولى.
5 سورة طه: الآية 50.
6 سورة المؤمنون: الآية 12.(3/1125)
لَحْمًا} 1 ومعلوم في علم الأجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضلات"2.
تلكم خلاصة ما قاله الدكتور في خلق الإنسان، وظاهر أن المؤلف يخلط بين الآيات التي تتحدث عن خلق آدم -عليه السلام- وبين الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان كل إنسان فالآية التي استدل بها {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} ؛ إنما هي من قول نوح -عليه السلام- يخاطب قومه ويحدثهم عن خلقهم لا عن خلق آدم -عليه السلام- ويعجب كيف لا يرجون لله وقارا وهو الذي خلقهم أطوارا، وكان مقتضى خلقه لهم كذلك أن يوقروه عز وجل؛ فلما لم يفعلوا عاتبهم وهذا هو الذي يدل عليه السياق، ولا دلالة في الآية على أن المراد بالأطوار صنوفا وصورا من الخلائق جاء آدم ذروه لها بل لم يرد ذكر آدم -عليه السلام- في هذه الآيات فكيف يرجع الضمير إليه.
ونحو هذا تفسيره لقوله تعالى على لسان موسى، عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 3؛ حيث فسرها الدكتور مصطفى بقوله، أي أنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم وهو تفسير غريب فلا علاقة لهذه الآية بحكاية التطور في خلق آدم؛ وإنما وردت لبيان قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته خلقا وتقديرا أو خلقا وهداية، ولهذه الآية قرائن أخرى كقوله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 4 وقوله سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 5 وقوله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 6 ومع هذا فلا يصح أن يستدل بهذه الآيات على تطور خلق آدم. حتى ولا على سبيل الرمز والإشارة كما يفعل الدكتور.
__________
1 سورة المؤمنون: في الآية 14.
2 القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود، ص58-59 باختصار.
3 سورة طه: 50.
4 سورةالأعلى: الآيات 1-3.
5 سورة البلد: الآيات 8-10.
6 سورة الإنسان: الآية 3.(3/1126)
أما زعمه أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 1 إشارة صريحة بأن الإنسان لم يخل من الطين ابتداء فغير صحيح بل هو مخالف لصريح القرآن الكريم، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} 2. هذه هي الدلالة الصريحة في أن خلق الإنسان بدأ من الطين، إذًا فلا يصح للدكتور مصطفى ولا لغيره أن يزعم أن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء، ثم يخطئ مرة أخرى حين يقول: "وإنما خلق من سلالات" إلخ. والآية تنص على: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} فكيف يعدد ما أفرده القرآن.
وعلى كل حال فالدكتور مصطفى قد أخطأ مرات فيما ذكرنا وفيما لم نذكر من أقواله في خلق الإنسان ولعله يعود مرة أخرى فيستغفر الله ويتوب إليه.
هبوط آدم:
ومما يتعلق بخلق آدم -عليه السلام- ويرد عند الحديث عن خلقه وسجود الملائكة له هبوطه من السماء إلى الأرض جزاء معصيته.
وقد استدل بهذا بعض منكري نظرية التطور المزعومة حين فرقوا بين خلق آدم وسائر المخلوقات؛ فقالوا أن آدم خلق في السماء، ثم عصى فأنزل إلى الأرض وكان على من يقول بنظرية التطور أن ينكر خلق آدم في السماء وهبوطه وكان هذا هو ما فعله الدكتور مصطفى حيث أنكر الهبوط فقال:
"والذين لا يوافقونا على القول بالتطور يسألون. ماذا يكون معنى الإهباط من الجنة في النظرة التفسيرية الجديدة ومعنى مشهد إسجاد الملائكة.
بأن الإهباط ورد في القرآن بمعنى الانتقال من كان إلى مكان دون مغادرة الأرض في مخاطبة الله لقوم إسرائيل {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُم} 3
__________
1 سورة المؤمنون: الآية 12.
2 سورة السجدة: الآيتين 7-8.
3 سورة البقرة: من الآية 61.(3/1127)
وكذلك وردت الجنة بمعنى البستان والحديقة على الأرض: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} 1، {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} 2 ويكون المعنى المقصود من الإهباط إذن هو الإهباط المعنوي من مقام الرضا إلى مقام المعصية، وأنه قد تحقق بانتقال آدم عن حياة سهلة في بساتين يانعة وافرة الخصب والرزق إلى مكان جديب وهو على الأرض ما يزال ودونما إهباط من سماوات.
أما مشهد إسجاد الملائكة فقد حدث هو الآخر على الأرض من قبيل التسخير كما سخر الله الجن لسليمان على الأرض. أو من قبيل الكشف والاطلاع على الملكوت كما اطلع نبيه محمدا على الملكوت والمعراج وهي معجزات يختص بها الله أنبياءه وكلها دلالات كاشفة على مقام آدم العالي عند ربه. وقد كشف له هذه الأمور كشفا وهو على الأرض لم يزايلها إنها الأرض لم يبرحها آدم منذ اختاره الله من أزكى فرع في شجرة الحياة التي أنبتها نباتا من طين الأرض وهداها في انتقالها من سلالة إلى سلالة إلى أن بلغ الذروة المختارة.
وتؤيدنا في ذلك آيات كثيرة عن الأرض: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} 3، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} 4 {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 5.
إنها الأرض لم نبرحها والإهباط هو إهباط من الأرض إلى الأرض"6.
وهذه المزاعم الثلاث التي زعمها الدكتور مصطفى:
1- إن الجنة في الأرض.
__________
1 سورة سبأ: من الآية 15.
2 سورة الرعد: من الاية 4.
3 سورة الأعراف: الآية 25.
4 سورة نوح: الآيتين 17-18.
5 سورة طه: الآية 55.
6 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص68-69.(3/1128)
2- إن الإهباط هو الإهباط من الأرض إلى الأرض.
3- سجود الملائكة حدث على الأرض وهو من قبيل التسخير.
أمور خطيرة فيها من الجرأة على النصوص الشرعية ما يخشى على صالحه ولهذا ولعظم هذا القول وعظم الحكم عليه أسوق كلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث قال:
"والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد، ومن قال أنها جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك؛ فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتلفسفة والمعتزلة.
والكتاب والسنة يرد هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} .
وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض؛ وإنما أهبطوا إلى الأرض فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده، وكذا قال في الأعراف لما قال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} . فقوله: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم فإن الضمير في قوله: {مِنْهَا} عاد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ -هذا بخلاف قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه وقال هنا: "اهبطوا" لأن الهبوط يكون من علو إلى أسفل، وعند أرض السراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه. ومن هبط من جبل إلى واد(3/1129)
قيل له: هبط" إلى أن قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- "وقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قال: اهبطوا الآيتين فقوله هنا بعد قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} يبين أنهم هبطوا إلى الرض من غيرها وقال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} ؛ دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون؛ وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة"1.
هذا جواب ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لمنكر الهبوط ولمنكر أن تكن جنة آدم هي جنة الخلد أما جوابه لمن أول سجود الملائكة بغير معناه المتبادر فقال: "فمن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون "الملائكة" قوى النفس الصالحة"، والشياطين قوى النفس الخبيثة للعقل ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب "رسائل إخوان الصفا"، وأمثالهم من القرامطة والباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه"2.
وبعد هذاما قاله الدكتور مصطفى وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وحسبك به.
حد السارق:
وللدكتور مصطفى في حد السارق ثلاثة مواقف، أما أحدها فنشره في إحدى المجلات بعد صدور الطبعة الأخيرة من كتابه؛ وكأنها إضافة جديدة، وأما ثانيها فحذفه من الطبعة التي بين يدي وأما ثالثها فلا يزال، لم يرجع عنه.
__________
1 مجموع فاوي ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج4 ص347-349 باختصار.
2 مجموع فتاوي ابن تيمية: عبد الرحمن بن قاسم ج4 ص345-346.(3/1130)
وللبيان فإن أولها زعم اشتهر عن الدكتور مصطفى، وإن كان قاله قبله كثير من الملحدين والمنحرفين والجاهلين ذلكم هو الزعم بأن اليد لا تقطع لمن يسرق مرة واحدة فلا بد أن تتكرر منه السرقة حتى يوصف بأنه "السارق"؛ فيصح حينئذ قطع يده1 وهذا أمر سبق عرضه والرد عليه فلا داعي لإعادته.
أما ثانيها فما ذكره من أنه إذا تاب السارق، وقال صادقا تبت ولن أسرق بعد الآن يعطي لولي الأمر مجالا لرفع الحد عنه؛ لكن الدكتور مصطفى حذف هذا في الطبعة التي بين يدي لعله بعد أن قرأ ردود أهل العلم عليه.
وثالثها زعمه أن "من سرق للجوع أو للحاجة لا يصح شرعا إقامة الحد عليه حتى لو كان يسرق عن إصرار وعمد"2، وهو حين يقول هذا لا يفرق بين مجاعة تعم المسلمين ومجاعة يزعمها كل سارق فيسقط عنه الحد ويكون التشريع به باطلا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
الجنة والجحيم:
وهذا الموضوع في كتابه كغيره من المواضيع مليء بالانحرافات في التفسير والتأويلات البعيدة والمتناقضة والسطحية؛ بل عد الدكتور من أسباب انصرافه عن القرآن في شبابه ما قرأ عن أنهار العسل وأنهار الخمر في الجنة وهو لا يحب العسل ولا يحب الخمر وعد هذا سذاجة! وانسحب حكمه على القرآن، ثم على الدين كله والساذج في واقع الأمر لم يكن إلا هو، كذا قال3.
وقد ظن خاطئا أن تأويل ما في الجنة وما في النار بأنه ضرب مثل ولون من التقريب وألوان من الرمز ثم تخبط فمرة يقول أن النعيم والعذاب معنويان لا حسيان ومرة عكس هذا ومرة عنويان وحسيان ولا تدري أيها عقيدته.
__________
1 انظر مجلة صاح الخير العدد 1093 في 16 ديسمبر 1976م مقال: قطع اليد في القرآن مصطفى محمود.
2 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص212.
3 المرجع السابق: ص81.(3/1131)
قال: "فماذا يقول القرآن في الجنة؟ {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} 1.
والاية تبدأ بأنها ضرب مثل {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وليست إيرادا لأوصاف حرفية؛ فهذا أمر مستحيل لأن الجنة والجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا فكل الغاية هي تقريب تلك المعاني المستحيلة بقدر الإمكان وكل ما جاء عن الجنة والجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال وألوان من التقريب وألوان من الرمز"2.
ويقول أيضا: "الله لا يعذب للعذاب وإنما يأتي العذاب واحتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة والحسد والهوان والخسران الأبدي الذي لا مخرج منه، وسوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار وأكثر، وسوف يكون هو النكال والتنكيل ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها والتي انحدر إليها بأعماله في الدنيا"3.
وفي قوله تعالى عن المعذبين في النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} 4 قال الدكتور مصطفى: "إنه حوار ومكالمة في النار يجري بين المعذبين، وفي مثل نارنا لا يمكن أن يجري حوار بين اثنين يحترقان، والمعنى الثاني العميق في الآية و {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أن أمامنا اثنين "كذا" يتعذب الواحد منها ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه: ومعنى هذا أن العذاب يكون في الشخص وليس في المكان ذاته وهذا لا ينفي أن العذاب المذكور حسيا بل أنه من الممكن أن يكون
__________
1 سورة محمد: الآية 15.
2 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص81-82.
3 المرجع السابق: ص87-88.
4 سورة الأعراف: من الآية 38.(3/1132)
معنويا وحسيا في نفس الوقت"1.
لكنه يرجع إلى القول بأن العذاب معنوي حين يفسر قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 2 فيقول: "والحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس وتنكيل النفس بالنفس ومواجهة النفس للنفس، لقد لزم كل واحد عمله كظله ولإخلاص وحق القول ونفذ العدل الأزلي"3.
ولعل الذي حمله على العتقاد بأن العذاب معنوي اعتقاده الآخر في بعث الأجساد يوم القيامة حيث يقول: "وبالمثل ما يروي القرآن عن النار فهي نار لا كما نعرف من نار، نار تنبت فيها شجرة لها ثمر، {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} وفيها ماء حميم يشربه أهلا والمعذبون فيها يتكلمون ويتحاورون؛ فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها وإلا لتبخرت دخانا في لحظات، ولما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة".
ومعنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا؛ ولكن لا كالأجساد ربما كيانات لها ذات الهيئة والصورة؛ ولكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الآضية ولهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا ومعنويا بطريقة نجهلها كما تتضاعف درجات العذاب حسيا ومعنويا عما نعلم"4.
ويؤكد هذا رده على حجة لمن ينكر رؤية الله يوم القيامة فيقول: "وهي حجة واهية وتصور مادي دنيوي فهم يتصورون أن الروح سوف تبصر بعين مادية في الآخرة وستكون لها حدقة وأجفان وستظل ملابسة للزمان والمكان المعروف في الدنيا. وهو أمر ينكره القرآن!، فيقول عن النشأة الأخرى:
__________
1 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص88.
2 سورة الإسراء: الآية 14.
3 القرآن محاولة لفهم عصري: ص96.
4 المرجع المسابق: ص89.(3/1133)
{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} 1، أي إنه سوف ينشئنا نشأة مختلفة تماما عن كل ما نعلم ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود وأن ترى الله في الآخرة"2.
والحقيقة إنك لا تكاد تجد لهذا الرجل قاعدة ينطلق منها الحوا؛ فبينما تراه في أقصى الشرق لا تلبث أن تراه في أقصى الغرب تراه أمامك مسلما في أمر، فإذا بك ترى قفاه رافضا، ثم يلتفت إليك مترددا حائرا يستدل أحيانا بالآيات في غير مدلولها ويبتر حينا الآية بترا عن سياقها.
ودعونا نأخذ من حديثه السالف الطويل آخره. استدل بقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} على أن البعث يكون في نشأة مختلفة عن أجسادنا في الدنيا.
ولنقرأ الآية الكاملة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} 1.
فهذه الآيات رد على منكري البعث بأنه قدر عليهم الموت وأنه قادر على أن يأتي بآخرين من جنسهم بعد مهلكهم، وأن يخلقهم هم في صور أخرى غير الصور التي كذبوا بالبعث وهم عليها صورا وأشكالا أخرى. قال الأستاذ أحمد محمد جمال: "أي ينشئهم خلقا آخر قردة مثلا، أو خنازير أو أي صنف من أصناف مخلوقاته فهو -تبارك وتعالى- يهدد المنكرين للبعث بأنه قادر على تبديل خلقتهم الإنسانية وإنشائهم في خلقة أخرى ويذكرهم بالخلقة الأولى ... خلقتهم الطين أو خلقتهم من ماء مهين والذي بدأ الخلق يعيده من غير شك"3.
__________
1 سورة الواقعة: الآيات 57-62.
2 محاولة لفهم عصري للقرآن: ج/ مصطفى محمود ص137.
3 على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال ص471.(3/1134)
وقال القاسمي: "قال الشهاب: والظاهر أن قوله {وَنُنْشِئَكُمْ} المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة كما توهم وهذا كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِين} 1، 2.
تفسيره الباطني:
ومع أن الدكتور مصطفى يحذر من التفسير الباطني ويذمه ويذكر أمثلة من تفسير ميرزا حسين على الذي لقب نفسه بـ "بهاء الله"3 إلا أنه مع هذا يفسر القرآن أحيانا تفسيرا باطنيا.
فقال مثلا في تفسير قوله تعالى مخاطبا نبيه موسى، عليه السلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 4، قال الدكتور: "ويقول الله لموسى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} ، فلا يمكن الوقوف في حضرة الله إلا بخلع النفس والجسد وخلع شواغل النفس وشواغل الجسد كشرط للوصول"؟! 5.
وهو حين يقول هذا لا يجهل أنه تفسير باطني لبعض الصوفية؛ حيث كرر هذا التفسير في موضع آخر ودافع عنه فقال: "وفي هذا يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسى في القرآن: "فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى" إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد هوى النفس وملذات الجسد فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة وعن طريقهما نزلت من سماواتها إلى الأرض.
وقد يعترض معترض قائلا: وما الضرورة لصرف اللفظين عن معناهما
__________
1 سورة النساء: الآية 133.
2 محاسن التأويل: تفسير القاسمي ج16 ص5655.
3 القرآن محاولة لفهم عصري: ص154-156.
4 سورة طه: الآية 12.
5 القرآن محاولة لفهم عصري: ص108.(3/1135)
الظاهر والواقع أن هناك ضرورة؛ فالحضرة الربانية لا يكفي لدخولها خلع نعلين؛ وإنما التجرد الكامل هو شرطها دائما وهو أقل ما يليق بالحضرة الجلالية، ولا يتم التجرد إلا بخلع شواغل النفس والجسد. فالمعنى هنا وارد والتأويل له ضرورة، وهو لا يناقض المدلول الظاهر للألفاظ؛ ولهذا يبادر المتصوف بأن يخلع النعلين ليخطو أول خطوة في الوادي المقدس"1.
ونحمد الله أن الدكتور لم يستند فيما قال إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى لغة ولا إلى قول سلف وإنما إلى قول المتصوفة وفعل المتصوفة، فأراحنا من عناء الرد عليه.
ومن تفسيره الباطني أيضا تفسيره للشجرة التي أكل منها آدم -عليه السلام- في الجنة بأنها التلاقح الجنسي، وأنها رمز للجنس والموت، حيث قال: "وأنا أرى أنها رمز للجنس والموت الذين تلازما في قصة البيولوجيا حينما أخذت الكائنات الحية بطريقة التلاقح الجنسي لتتكاثر فكتبت على نفسها طارئ الموت، ولم تكن الكائنات قبل ذلك تموت، بل تتجدد وتعود إلى الشباب بالانقسام الذاتي. كان التلاقح الجنسي هو الشجرة المحرمة التي أكلت منها الحياة فهوت من الخلود إلى العدم"2.
ومعلوم أن هذا التفسير صرف للفظ عن ظاهره من غير دليل فهو تفسير باطني.
ومن تفسيره الباطني تفسيره لهبوط آدم وحواء -عليهما السلام- إلى الأرض بعد أن ذاقا الشجرة بأن: "المقصود من الإهباط أنه هو الإهباط المعنوي من مقام الرضا إلى مقام المعصية"3.
هذه أمثلة من تفسيره الباطني الذي أنكره ووقع فيه في مواطن كثيرة من كتابه هذا.
__________
1 المرجع السابق: ص135-136.
2 المرجع السابق: ص66.
3 المرجع السابق: ص68.(3/1136)
صفات الله:
والمؤلف يقع كثيرا في أسر الرغبة في التعبير المتحرر الذي لا يلتزم صاحبه العقيدة الصحيحة في جنب الله، ولم تهذب عبارته مجالي الدراسات الإسلامية، ولا يعرف الالتزام الذي يقتضيه مقام الحديث عن الله عز شأنه، فيورد عبارات وأوصافا بقدر ما تبتعد عن العقيدة معنى تلتصق بالعصرية لفظا، فقد غلب عليه الحرص على التجديد في العبارات والصفات غلبة أبعدته عن المنهج الحق.
لن أسترسل في هذا من غير أن أعلق بحديثي مثالا يجلو غامضه؛ بل أمثلة أولها قول الدكتور عن الله عز شأنه: "والله هو العقل الكلي المحيط"1، ولا يخفى على أحد أن هذا وصف لم يصف الله به نفسه ولم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن أين جاء به أيا كان مصدره من سواهما فمردود؛ لأن عقيدة السلف أن لا يصفوا الله سبحانه وتعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الغيب وهما مصدر المؤمنين في معرفة الغيب وجلائه.
ومثالا آخر يشبه إدراك النملة لسليمان -عليه السلام- بإدراك سليمان -عليه السلام- لله سبحانه وتعالى فيقول: "وإدراك نملة لسليمان أمر ممكن مثل إدراك سليمان الله"2.
ومثالا ثالثا يقول: "ومن التسابيح السنسكريتية أن يتلو اليوجي في خشوع كلمة "رهيم رهام" آلاف المرات "!! " وهي كلمات تقابل: رحيم.. رحمن، عندنا، وهي من أسماء الله بالسنسكريتية"3؟!
ومثالا رابعا وهو يرد على ميرزا حسين علي الذي ادعى النبوة من غير معجزة فيقول: "إنها اختلافات النبي الذي أراد أن يدخل منتدى الأنبياء بلا مؤهلات، ويتسلل إلى مائدة الخالدين دون أن يمتحن فأنكر المعجزة
__________
1 المرجع السابق: ص110.
2 المرجع السابق: ص166.
3 المرجع السابق: ص134.(3/1137)
والغيب حتى لا يطالبه أحد بأوراق اعتماده في السفارة الإلهية التي ادعاها"1، وهو بهذه العبارة أيا كان قصده جاء بما هو ممجوج.
وبمناسبة الحديث عن الممجوج من حديثه الذي حشا به كتابه سخريته من الذي يدعو ربه أن يرزقه مائة جنيه ويرشده إلى الطريقة التي يحل بها مشكلته فقال: "أما الذي يقول: يا رب ارزقني مائة جنيه فهو رجل يمزح مزاحا سخيفا؛ فهذه أمور يمكن أن يسعى إليها بأسبابها الدنيوية المعروفة وليس طريقها التصوف؟! وكشك سجاير على ناصية عماد الدين يحل المشكلة"2.
وملاحظة هامة أنه في تفسيره يذكر الله عز وجل ويذكر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فلا يسبح الله ولا يصلي على أنبيائه وليس هكذا أدبنا الإسلام.
تصوفه:
وقد أخذ الدكتور من خرافات الصوفية نصيبا وافرا؛ فمن اعتقادات بعض الصوفية أن التوجيه إلى الله بالدعاء هو مشاركة لله في إرادته، وأنه طلب لما لم يرد الله أن يفعله ويشيد الدكتور في كتابه هذا ويثني كثيرا على هؤلاء الصوفية؛ فيصف عملهم هذا بالتجرد وبالأدب؟! فيقول: "والمتصوف متجرد وهو قد نفي المطلب الدنيوي من باله لأنه يريد مطلبا أعظم والمتصوف متأدب وهو يمرض؛ فلا يسأل الله الشفاء حياء وأدبا ويقول: كيف أجعل لنفسي إرادة إلى جانب إرادة الله فأسأله ما لم يفعل وأنا الذي لا أعلم ما ينفعني مما يضرني كيف يعترض الذي لا يعلم على الذي يعلم ومن يدريني أن مرضي وآلامي ليست الوسيلة إلى خلاصي، وهذه مبالغة غير مطلوبة من المسلم؛ فالله يحب منا أن نسأله؛ ولكن الصوفي من باب الخوف والأدب لا يطلب من الله إلا ما يطلبه الله منه فيقول كما قال النبي إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} 3،
__________
1 المرجع السابق: ص155.
2 المرجع السابق: ص138.
3 سورة ابراهيم: من الآية 40.(3/1138)
فهو يجعل من إرادة الله إرادته ومسعاه. حبا واحتراما لخالقه والحب هدف المتصوف الأسمى.
ليس لي في الجنان والنار حظ ... أنا لا ابتغي بحبي بديلا
والتناقض ظاهر في حديث الدكتور؛ فمع أنه يصفه بأنه "مبالغه غير مطلوبة من المسلم" إلا أنه يثني على الصوفية ويمجد طريقهم هذا؛ فكيف يثني على ما هو "غير مطلوب من المسلم"؟.
وتناقض آخر، حيث يعترف أن "الله يحب منا أن نسأله"، فكيف يكون الأدب والحياء في ترك ما يحب الله أن نفعله؛ بل إذا كان الله يحب أن نسأله فهو يريد أن نسأله لأنه سبحانه لا يحب ما لا يريد فإذا كانت إرادة الله أن نسأله فكيف يكون الأدب في إرادة غير إرادة الله؟! هذا إذا أردنا الجواب حسب منطقه، أما إذا أردنا الدليل الحق فكتاب الله وسنته مليئة بالأمر بالدعاء وأنه مخ العبادة؟! فهل يتأدبون مع الله.
وكثيرا ما يشيد ويثني على الصوفية؛ فيصفهم بأنهم أهل الحضرة وأن علمهم لدني، من لدن الله وليسوا كالفقهاء علمهم علي نقلي من الكتب، وأنهم أهل السر والقرب والشهود وأنهم الأولياء الصالحون حقا وأنهم الأتقياء الأخفياء2، وأثنى عليهم في فصل "أسماء الله" ثناء كبيرا وعد الوصول إلى أرقى درجاتهم أشق من الصعود إلى القمر.
ورد عليه في هذا الأستاذ أحمد محمد جمال بقوله: "إنهم هم السخفاء حقا؛ لأنهم يزعمون لأنفسهم أنهم أنبياء يتلقون علمهم اللدني من الله مباشرة، وأنهم لا يحتاجون إلى القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم اللذين فيهما علم العقيدة وعلم الشريعة ألا إنهم هم الجهلاء والسفهاء. ولكن لا يشعرون"3.
__________
1 القرآن محاولة الفهم عصري: د/ مصطفى محمود ص138.
2 انظر مثلا الصفحات 1389-141
3 على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال ص475.(3/1139)
والذي يظهر لي أن الدكتور مصطفى وهو في طريق أوبته وتوبته لا يزال متأرجحا يمنة ويسرة يبحث عن المكان الذي يستقر فيه؛ ولذا برزت طاهرة في تفسيره أكدها كل من كتب عنه فيما قرأت ظاهرة التناقض ولو عدت لما كتبت عنه في الصفحات السابقة لوجدت بعضا منها، وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن فكره لا يزال يبحث عن الحقيقة التي فقدها فيحسبها حينا هناك فيقررها ويحسبها حينا هناك فيقررها، وقد يكون مخطئا في الحالتين؛ فعليه إن أراد كتابة جادة أن يعيد النظر فيما كتب ويستقر على رأي فيما تناقض فيه، ولا ينسى ما قرره في موضع عند خوضه غمار قضية أخرى.
وبعد:
ليس ما ذكرت هو كل مواضع انحرافه، وليس ما ذكرت هو أهمها؛ ففيما لم أذكر أكثر وأخطر مما ذكرت؛ وإنما صرفني عن بيانه أني قد كفيت ذلك، فإن كان عند الدكتور رغبة في الحق فقد بينه غيري ممن هو أرفع مني درجة وأعلى مقاما ولا أظنه إلا كذلك إن شاء الله يؤيد هذا رجوعه عن كثير من آرائه في الطبعات الأولى.
وهو في غير تخصصه رجل مثقف1 بمدلولها الحديث وهو الرجل الذي أخذ من كل علم بطرف؛ لكن هل هذا بهذه الصفة يصلح لتفسير القرآن الكريم؟! لندع أمر التفسير، رجل كمثله تخصص في الأمراض الصدرية هل يحق له أن يعالج أمراض العين والسنان والعظام و.. و.. إلخ؟ فضلا عن أن يكون مهندسا للطرق أو الإنشاءات أو خبيرا زراعيا أو عالما في طبقات الأرض أو طيارا إلخ؟ إن مثل هذا لو فعل ذلك سيجني في عمله جناية كبيرة سيفسد العين والأسنان ويتلف الزرع والثمار، وسيعتبر دخيلا في مهنته وسيلومه الناس صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم إن لم توضع في كفيه القيود ويدخل السجون.
__________
1 قال ابن منظور في لسان العرب ج9 ص19: رجل ثقف وثقف وثقف: حاذق فهم.(3/1140)
وليعلم هذا وغيره أن أمر تفسير القرآن الكريم أخطر من كل هذه الأمور على صاحبه وعلى المجتمع، أما أولئك الذين يزعمون أن تفسير القرآن الكريم والحديث عن الدين أمر مشاع للمسلمين كافة فهم مخطئون أو جاهلون.
ونحن نقول: إن الدين ليس حكرا على أحد، وإن تفسيره ليس مباحا لكل أحد، ليس الدين حكرا على أحد؛ فلا يجوز أن نمنع أحدا من الدخول فيه، بل يلزمنا الاعتراف بإسلامه متى أعلن ذلك ما لم يأت بأمر مخرج من الدين، أما الذين لهم حق تفسير القرآن فهم الذين توفرت فيهم شروط المفسر وآدابه؛ فإذا ما توفرت فيهم هذه جاز لهم تفسير القرآن الكريم. أما قبل ذلك فلا وكان حقا أن يعاملوا كأدعياء الطب. إلخ؛ بل أشد.
ونحن لا ننكر أن الدكتور مصطفى حريص على صوغ المفاهيم الإسلامية في عبارات ومعان حديثه تقرب إلى الأذهان لكن هذا الهدف لا يبرر له خوض غمار التفسير من غير سلاح، تماما كالشخص الجاهل في الطب الذي ترتعد جوانبه إشفاقا وعطفا على المريض فيصف له دواءا هو أجهل الناس به؛ فليست شفقته ونصحه بمبرر كاف لوصف الدواء والعلاج.
أما أسلوب العصر والعصرية الحديثة فقد جنت على الأمة الإسلامية جناية كبيرة؛ فقد اتخذها دثارا كل من أراد أن يغير في الدين ويخل فيه ما ليس منه!! فقطع يد السارق وتعدد الزوجات والربا ورجم الزاني المحصن وجلد شارب الخمر.. و.. و ... إلخ، كلها أمور لا تناسب العصر الحديث؛ فلتغير ولتبدل فلا تقطع يد السارق حتى تتعدد سرقاته ويقيد تعدد الزوجات بشروط ثقيلة لا يستطيعها أحد، بل ليختصر الأمر فيمنع التعدد، أما الربا فالمراد به الربا الفاحش؟! أما رجم الزاني المحصن فلم يرد في الكتاب؟! كلها أمور بزعمهم تتنافى مع العصر الحديث.
وبهذا يكون هذا الأسلوب مطية يركبها الناصح الجاهل والملحد الخبيث، وهو أمر ما زالت الأمة الإسلامية تعاني منه، وقد صرحت بهذا المستشرقة الأمريكية مريم جميلة؛ حيث قالت: "إن البلاد الإسلامية قد وقعت فريسة مصطلحات خاطئة ومنها مصطلح العصرية وقد جنى هذا المصطلح(3/1141)
على الإسلام جناية كبرى"1.
أولئك الذين يبدون تعاطفهم مع الدكتور مصطفى محمود ويمسون عباراته مسا خفيفا، وهم يعتقدون أن توبة مصطفى من الإلحاد إلى الإيمان كافية لالتماس كل عذر له في انحرافاته وتأويلاته الباطلة، وما هكذا تورد الإبل يا سعد.
أما توبته فليس تفضلا منه علينا فهي له في الدنيا والآخرة، وله علينا حق الدعوة الصالحة وحق الأخوة الإسلامية بأن يثبتنا وإياه على الصراط المستقيم حتى نلقاه.
وأما أن تكون توبته هذه مبررا للتجاوز عن انحرافاته فأمر مرفوض مرفوض؛ مرفوض لأن صاحبه ما زال لم تتروض عباراته في ميدان الفكر الإسلامي ولم تنصهر ألفاظه في بوتقة العقيدة الإسلامية ولم تنجل عقائدة في مجال الإسلام، فلا زال يستعمل عبارات وألفاظ يحسب المسلم لها ألف حساب قبل أن يتفوه بها. ولئن كنا ندعو الله أن يغفر له فإن هذا لا يعفيه من الخطأ ولا يعفينا من التنبيه.
ومرفوض لأن صاحبه لا يزال يجهل كثيرا من أحكام الإسلام وعقائده التي تدور لتقريرها آيات القرآن الكريم فيبعد فهمه حينا.
ومرفوض لأن صاحبه يجهل العلوم الواجب توفرها في المفسر فلا يعرف أسباب النزول ولا أول ما نزل وآخره ولا الناسخ والمنسوخ ولا المحكم والمتشابه ولا ما ورد تفسيره بالسنة ولا.. ولا..
ومرفوض لأن صاحبه لا يعرف قواعد اللغة العربية ولا مدلولات ألفاظها اللهم إلا ما يعرفه العامة فياللغة من المدلولات السائرة في أحاديثهم ومنتدياتهم. أما خصائص الأساليب التي يدرك بها الفرق بين عبارة وأخرى وغير ذلك من خصائص الغة فلا يعرفها.
وبالجملة مرفوض لأن صاحبه حتى الآن لا تتوفر فيه شروط المفسر
__________
1 شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم: عبد المتعال الجبري ص1.(3/1142)
ولا آدابه فإذا ما التزمها فإن الحق له كل الحق في أن يفسر القرآن ما دام تفسيره يقوم على الأسس والقواعد، أما والحالة هذه فلا وألف لا.
وإني أوجه له ولأمثاله النصح من قلب خالص صادق أن يدع تفسير القرآن الكريم لأهله، وأن يتناول إذا أراد المشاركة ما قرره أولئك الإعلام في التفسير بالشرح والبسط وبأسلوبه الخاص في مخاطبة الطبقة العامة، وأن لا يبتدئه ابتداء لا يدانيه شرف الشهرة ولا شرف المادة إن كان فيهما من شرف.
وأهمس في أذنه وأذن غيره ممن يتناولون آيات القرآن الكريم بالتفسير بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" 1، وكفى به وعيدا لمن ألقى السمع وهو شهيد والله أعلم.
هذا ما أردت قوله عن منهج القاصرين في التفسير وهم وإن كان فيهم المغرض؛ فإن فيهم ذا النية الصالحة الصادقة لكنه أخطأ الطريق، فليعد هؤلاء إلى الحق وليعلموا أن من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ ونسأل الله لنا ولهم السلامة.
__________
1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص233؛ ورواه الترمذي في سننه ج5 ص199 كتاب تفسير القرآن، وقال: "حديث حسن صحيح".(3/1143)
الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في التفسير
تمهيد:
نحمد الله بادئ ذي بدء أن أصحاب هذا اللون من التفسير أقل من القلة، وما كنت لأعرض لهؤلاء لولا أني حرصت على استقصاء اتجاهات التفسير وألوانه في العصر الحديث.
والذي لا أدريه حقا وما زال يحيرني ويلح في طلب الجواب هل هؤلاء أصحاب هذا اللون من التفسير مجانين حقا؟! أم أنهم عقلاء كتبوا كما يكتب أولئك، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا فعلوا هذا؟ وهل يعتقد أحد منهم -حقا- أن تفسيره هذا سيلاقي القبول ولو من شخص واحد وإذا كان الجواب بالنفي فلماذا كتب؟! هذه الأسئلة وغيرها تترى على ذهني من غير أن أجد لها جوابا.
أحب هنا أن أذكر مثالا واحدا لا أزيد عليه من تفاسيرهم ولا أود -أيضا- أن أذكر أكثر من مثال واحد لمؤلفاتهم.
أما المثال من التفسير فتفسير حديث لسورة الإخلاص نشر في جريدة السياسة الكويتية، رد عليه مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة، ووصف هذا التفسير بأنه لا يدل على شيء سوى الاختلاط العقلي، ويرى أنه من المختلين عقليا وأنه هذيان لا يبلغه هذيان المحمومين وأنه عبث بآيات الله في كتابه.
وما علي أن أستطرد وقرار المجمع بين يدي فيه عرض للتفسير والجواب الكافي فلأنقله بحذافيره ففيه الغناء:(3/1145)
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين 9-16/ 4/ 1403هـ الموافق 23- 30/ 1/ 1983م قد أطلع في جلسته الثانية صباح يوم الاثنين 10/ 4/ 1403 على ما نشرته جريدته السياسية الكويتية في عددها ذي الرقم "4776" الصادر يوم الخميس 17 ذي الحجة 1401 الموافق 15/ 10/ 1981م من كلام غريب مستنكر تحت عنوان بارز خداع جاء فيه "معنى التوحيد: تفسير منطوق لسورة الإخلاص وترجمته الانجليزية" موقع باسم شخص سمي: "محمد أحمد الشمالي" يجترئ فيه على التلاعب بمعاني القرآن العظيم، ويأتي فيه بلون عجيب من الخلط والأوهام والجهل والتصورات الخيالية المتفككة والملتبكة لا تدل على شيء سوى الاختلاط العقلي.
ويعلن على المسلمين أنه تفسير لسورة الإخلاص.
وقد استهل هذا المفسر الجديد تفسيره هذا لسورة الإخلاص
بقوله: "قل: خبر مقدم بمعنى فرد لا أحد له فيقال مثلا: رجل، قل: "هو ضمير مبتدأ مؤخر خبره "قل" وهو أيضا في مقام مفعول به للجملة الفعلية التي تليه، الله أحد: أي أن الله أحده بمعنى جعله واحدا أو بمعنى جعله حدا، أو بمعنى جعله حادا.
وهكذا يسير هذا الرجل المختلط في تفسير بقية آيات سورة الإخلاص إلى أن يقول: ولم يكن له كفوا أحد، "ما كان لهذا الشخص أكفاء في الماضي؛ ولكن هذا لا يمنع ظهور أكفاء له فيما بعد؛ وإلا لتعذر عليه ذاته الظهور ثانية على وجه الأرض بعد المرة الأولى، وانقطعت رسله".
هذا ويرى المجمع الفقهي أنه ليس مستغربا أن يوجد في المختلين عقليا من يتصور نفسه عالما محققا متعمقا، أو فيلسوفا مدققا؛ فهذا مرض من الأمراض، ولكن الغريب كل الغريب أن تنشر صحيفة عربية مشهورة في بلد عربي إسلامي مثل هذا الهذيان الذي لا يبلغه هذيان المحمومين تحت عنوان بارز بأن هذا هو معنى التوحيد المستفاد من سورة الإخلاص تلك السورة القصيرة العظيمة التي عبرت(3/1146)
عن حقيقة التوحيد بكلمات قليلة محكمة كانت وستبقى على مدى الحياة أعظم من الجبال الشامخات بلاغة ورسوخا وتحديا لعواطف الأفكار الزائغة والتيارات الزائفة والشرك والإلحاد اللذين هما ضلال وانحطاط في بعض العقول البشرية بعوامل مختلفة.
فإذا كان ذلك الهذيان تفسيرا منطوقا لسورة الإخلاص العظيمة فماذا ترك صاحبه للفرق الباطنية الهدامة التي تتلاعب بآيات الله في كتابه العربي المبين كما تشاء لها غاياتها الخبيثة ضلالا وتضليلا؟
فمثل هذا العمل هو إجرام وعبث بآيات الله، ورده عن الإسلام؛ فكيف يسوغ لصحيفة عربية صاحبها ينتسب للإسلام في بلد إسلامي أن تجعل من صفحاتها منبرا لأمثال ذلك؟ وكيف تنجو هي والكاتب المستهزئ بآيات القرآن العظيم من المسئولية التي تقتضيها نصوص الدساتير وقوانين العقوبات والمطبوعات في بلدها وسائر البلاد العربية؟
ولذلك ولخطورة هذه السلوك غير المسؤل في الصحافة والنشر فيما يجترأ به على العقائد والمقدسات الإسلامية.
قرر مجلس المجمع الفقهي لفت أنظار المسئولين الذين تقع على عاتق سلطاتهم حماية جميع تلك المقدسات من العبث بها وإحالة هذا القرار إلى الأمانة العامة لرابطة العالم إسلامي لتقوم بإرساله إلى المسئولين في دولة الكويت وسواها ليقوموا بواجبهم فيما يوجبه عليهم دينهم وحقوق شعوبهم عليهم نحو كتاب ربهم وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من صيانة حرماته وحمايتها من أن تكون ألعوبة في يد من يشاء تضليل الأفكار وتزييغ الناشئة بسوء استعمال حرية النشر، والله ولي التوفيق وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم"1.
أما مثال مؤلفاتهم في التفسير فنضرب له مثلا برسالة سماها صاحبها "رسالة الفتح" وهذا أوان الحديث عنها:
__________
1 جريدة المدينة المنورة العدد 6088 في 23 صفر 1404.(3/1147)
رسالة الفتح:
أولا: المؤلف
يدعى صاحب هذه الرسالة عبد الرحمن فراج. ولم أجد له والحمد لله في ذكر فيما قرأت؛ بل إن الرسالة نفسها لم يكتب عنها إلا الشيخ الفاضل مصطفى محمد الحديدي الطير في كتابه "اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط"، ولم يذكر له اسما وعرض له في بحث عنوانه "الأزهر وعنايته بقدسية القرآن وتيسير تفسيره"، ألقاه في المؤتمر التاسع لمجمع البحوث الإسلامية ونشر في مجلة الأزهر في الجزء العاشر السنة الخامسة والخمسون ولم يذكر فيه أيضا اسم المؤلف.
وقد زودني جزاه الله خيرا بصورة من تقرير أعضاء لجنة فحص الكتاب من مجمع البحوث الإسلامية ومنه أخذت اسم المؤلف.
وإنما ذكرت اسمه لأن ذكره لن يزيده شهرة، ولن يرفع من مقامه بل سيظهر للناس مكانه ومكان تفسيره.
ثانيا: الكتاب "رسالة الفتح"
وتقع هذه الرسالة في 416 صفحة وطبعت بمطبعة "سعدي وشندي" بسوق شريف عابدين وتناول المؤلف فيها تفسير نحو 300 آية من القرآن الكريم وطبعت سنة 1969 تقريبا.
والذي يلفت النظر أن صاحبها يوزعها مجانا كأن هناك من يقف خلفه ويدفعه في هذا الطريق.
ولم أستطع بعد جهد الحصول على نسخة من هذه الرسالة؛ وإنما حصلت على صورة من تقرير أعضاء لجنة فحص هذه الرسالة والتي شكلها رئيس لجنة القرآن والحديث في مجمع البحوث الإسلامية ومن أعضائها الشيخ الفاضل مصطفى محمد الحديدي الطير، الذي كتب عنها أيضا في كتابه وفي مجلة الأزهر كما أشرت آنفا.(3/1148)
وحتما سيكون اعتمادي بعد الله على هذه المصادر الثلاثة وهي في الحقيقة تكاد تكون مصدرا واحدا لوحدة كاتبها جميعا وهو الشيخ مصطفى الطير جزاه الله خيرا.
أمثلة من التفسير في هذه الرسالة:
وهي ملأى بالتفاسير الغربية والآراء العجيبة التي لم يسبق إليها ولم تخطر ببال أحد من قبله، وإنكاره لما هو معلوم بالضرورة من الدين والتاريخ واللغة.
وقد مهد لما جاء به بزعم يبطل به كل الأسس التي سلكها من قبله حتى يصبح له الجو خاليا فيقول ما يريد أن يقول زعم: "أن عصابة الماسونية التي ظهرت بعد الجيل الثالث من صدر الإسلام تعاهدوا في الخفاء على تحريف معاني القرآن التي أرادوا تحريفها، بعد فشلهم في تحريف ألفاظه، واتخذوا لها معنى يخرجها عن مواضعها، ثم فسروا القرآن بالتفسيرات التي ظهرت بعد الجيل الثالث "عصر التدوين والتأليف" أيام خلافة العباسين، كما حرفوا ألفاظ شعر الحضر، ودونوا أحاديث مكذوبة، وقاموا بخلق مصنفات ملفقة في اللغة نسبت إلى أصحابها زورا، كالصحاح والقاموس واللسان واستقام لسان العرب على هذا التحريف الذي حل في الخفاء ولم يشعروا به"1.
ومعذرة إن لم أرد عليه فلست أكتب هذه الدراسة لمن يحتاج إلى معرفة الحق في هذه الأمور من فاقدي العقل والفكر، ومن عداهم ممن أوتي أدنى حظ منهما لا يغيب عنه الحق في هذا. ولذا فإني سأورد النصوص مجردة من التعليق.
تأويل رؤيا الملك سبع بقرات سمان:
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} 2.
__________
1 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى محمد الحديدي الطبر، ص122 وتقرير اللجنة، ص1 عن رسالة الفتح، ص58، 59، 105.
2 سورة يوسف: من الآية 43.(3/1149)
فقال هذا في تفسيرها: "معنى بقرة - طائر وفي موضع آخر يقول: "بقرة: واضحة" وقال: "فقد رأى العزيز في المنام سبع طيور سمان يأكلهن سبع عجاف والتي سماها المحرفون بقرة، واستقام لسان العرب على المعنى المحرف بعد الجيل الثالث الإسلامي تلك الماشية اسمها "المها" والمها لا تأكل المها أما الطير فبعضه يأكل الطير"، ثم قال: "إن لسان العرب تداول المعاني المحرفة حتى نسبت إلى لغة العرب ودونت في كتب فقه اللغة مثل كتاب الصحاح لمن سموه بالجوهري ومثل كتاب لسان العرب لمن سموه بابن منظور"1.
وفي موضع آخر فسر البقرة بالدجاجة، ولا تضحكوا مما تقرؤون فإن مجال التفسير غير مجال أحاديث السمر فشأنه إن أصاب صاحبه قبل وإلا سئل لصاحبه السلامة والهداية، قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآية2: "بقرة: أي دجاجة {لا فَارِضٌ} لم ينقطع منها البيض {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وسط بين الصغيرة والمسنة تبيض البيض "صفراء فاقع لونها تسر الناظرين" صفراء اسم الطائر المسمى بالأوز والبط ومعنى {صَفْرَاءُ} تحدث مكاء: صفيرا ذا صوت {فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} أبيض ناصع ينشغل خاطر من ينظر إليها لصفاء لونها، {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} تلك صفة الغراب؛ فالغراب {بَقَرَةٌ} ليست بذلول "مُسَلَّمَة" يحجل إذا سار"، ثم قال: "واصطاد كل إسرائيلي غرابا وقام بذبحه وقالوا لموسى عندما سمعوا أمر المولى بذبح الغراب: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ"3.
والفجر وليال عشر:
وقال في تفسير سورة الفجر "الواو في {وَالْفَجْرِ} واو العطف والمعطوف عليه قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} من سورة الحشر، والمولى لا يحلف لمخلوقاته التي خلقها، والحلف لا يصدر إلا من ضعيف لقوي ومحال
__________
1 اتجاه التفسير، ص124، وتقرير اللجنة، ص3، عن رسالة الفتح، ص10.
2 سورة البقرة: من الآية 67.
3 اتجاه التفسير، ص128-129، وتقرير اللجنة، ص5 عن رسالة الفتح، ص12.(3/1150)
أن يحلف المولى وهو القوي العزيز ولا معنى للحلف بالفجر وكان القارئ للقرآن في أجيال صدر الإسلام يقرأ قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} ، ثم يتلو الآيات التي تسبقها الواو التي بدأت بها السور القصار" ثم قال: "والفجر" فجر الدم من الشرايين، والأشعة بتفجير الذرة، {وَلَيَالٍ عَشْر} : أولى ليالي التحنيط، {وَالشَّفْعِ} : شفع اليالي العشر عشرون ليلة، {وَالْوَتْر} : مثل الليالي العشر -عشر ليال، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر} : الدنيا هي الليل بمعنى الحجاب وظلمة النفس، {إِذَا يَسْر} : إذا انقضت الدنيا وأشرق النور يوم البعث، {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} : القسم هو الحظ والنصيب والعهد، {لِذِي حِجْر} : لذي تحجر وذي صمغ"، ثم قال: "وفي كل مدة من مدد التحنيط الذي يتم عند الفراعنة في أربعين ليلة يوضع الحجر ومعناه الصمغ"1.
العجل الحنيذ:
في تفسير قوله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} الآية2 قال: "العجل الحنيذ" هو إسحاق فهو الظل الذي جاء بعد أن كبر أبواه وانقطع رجاؤهما في الذرية"3.
إنكار الإسراء:
في تفسير قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 4 قال: {أَسْرَى} : أوفى وأنهى، {الْمَسْجِدِ} : القرآن، {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} : إلى سدرة المنتهى، ومعنى {الْأَقْصَى} : المنتهى، {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} : الحول هو خاتم أرواح القدس السبعة القرآن ثامن أرواح القدس {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} آيات الله التي رآها هم
__________
1 اتجاه التفسير، ص130-131، وتقرير اللجنة، ص5-6 عن رسالة الفتح، ص23-24.
2 سورة هود: من الآية69.
3 اتجاه التفسيرن ص135، وتقرير اللجنة، ص8 عن رسالة الفتح، ص37.
4 سورة الإسراء: من الآية الأولى.(3/1151)
أرواح القدس السبعة وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ومناة واللات والعزة رآهم في سدرة المنتهى ليلة أن أسري به"، وقال: "أذن المولى فوجد الرسول نفسه في سدرة المنتهى مع أرواح القدس السبعة، وقضى ليلة معهم، ثم عاد إلى مكة ولم يقابله ملائكة ولا مخلوق من مخلوقات الله التي تلي روح القدس".
ولم ينطق بكلمة واحدة عن الإسراء. ولم يذهب الرسول إلى فلسطين ليلة الإسراء ولم يقابل الأنبياء؛ فلا خيال ولا خرافة في الإسلام وهذا الجامع الذي أقيم في فلسطين كان قلعة للجنود الرومان ليلة أن أسري بالرسول. ولما تم الفتح اتخذها المسلمون جامعه وصلى فيها عمر الذي تم الفتح في عهده والمضلون بعد الجيل الثالث الإسلامي سخروا من المسلمين فجعلوهم يذكرون أورشليم بالقدس، ذو الجامع الذي أقيم فيها ببيت المقدس وسموه المسجد الأقصى ليعظموا شعائرهم وليسخروا من المؤمنين الذين لم يكشفوا سوء مكرهم"1.
وأورد هنا تعليقا على هذه الترهات والأباطيل ليس كشفا لبطلانها؛ فهو أمر ظاهر كما أشرنا أولا؛ وإنما كشف لحقيقة صاحبها ألمح إليه الشيخ مصطفى الطير حيث قال: "فهل لنا أن نعتقد أنه مأجور من اليهود ليصرف المسلمين عن حقوقهم في بيت المقدس وفلسطين"2.
إنكار الرق:
وفي تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3 قال: "ما كان لشخص نبأ أي ارتفع وعلا بدرجة مال أو جاه أو قوة أن يملك نفوس البشر فرق ابن آدم فاحشة كبرى قصاصها القتل"4.
__________
1 اتجاه التفسير، ص137-138، وتقرير اللجنة، ص8-9 عن رسالة الفتح، ص41-43.
2 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى الطير، ص141.
3 سورة الأنفال: من الآية 67.
4 اتجاه التفسير، ص142، وتقرير اللجنة، ص10 عن رسالة الفتح، ص65.(3/1152)
إنكار حادثة الإفك:
وقال عن حادثة الإفك التي جاءت في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآية1 فقال:
{الْأِفْكِ} البهتان بتفسير القرآن بقول لغو {عُصْبَةٌ} عدة فرقة الذين جاؤوا بالإفك عصبة من أهل الكتاب وهم اليهود و {الْأِفْكِ} مصنفات الإفك {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، الشهداء الأربعة هم أجيال صدر الإسلام الثلاثة الأجيال الأولى وجيل الشهر الحرام هذا الجيل الذي تسيرون في فلكه" وقال: "الإفك هو تحريف اليهود وتفسيرهم القرآن بقول لغو، فتفاسير القرآن الموجودة هي مصنفات الإفك؛ هلا جاؤوا بشهداء أربعة من الأجيال الثلاثة الأولى تشهد بصحتها"2.
بعض ما أنكره المؤلف:
وما أنكره المؤلف من الأمور المعلومة الثابتة كثير وكثير نذكره إجمالا حتى لا نثقل بطوله فمنها:
أولا: أنكر وقوع غزوة فتح مكة وحرف معاني الآيات الواردة في سورة الفتح ص356.
ثانيا: أنكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عم اسمه أبو لهب ص"123-216".
ثالثا: أنكر أن إدريس -عليه السلام- كان نبيا "ص235".
رابعا: أنكر تشريع تعدد الزوجات، وقال أن دين الإسلام لا يحل الزواج إلا بواحدة "ص265".
خامسا: أنكر زواج النبي صلى الله عليه وسلم بغير عائشة -رضي الله عنها- فقال "وظلت عائشة زوجة له دون شريكة حتى الختام"، وقال عن زينب
__________
1 سورة النور: في الآية 11.
2 تقرير اللجنة، ص14 عن رسالة الفتح، ص145.(3/1153)
بنت جحش، رضي الله عنها: "زينب بنت جحش هي رسالة روح القدس للقرآن"، وقال عن زيد رضي الله عنه: "والذي سموه زيدا هو المنافق والمشرك من بني إسرائيل" "ص274".
سادسا: أنكر حق تطليق الرجل زوجته بلسانه، وجعل ذلك محرما في الإسلام؛ فقال: "وما أحل الله لمؤمن برسالة محمد أن يطلق زوجته بلسانه" "ص312".
سابعا: أنكر حروب الردة وأن أحدا ادعى النبوة.
ثامنا: أنكر وجود أبي هريرة وأبي ذر الغفاري -رضي الله عنهما- "ص97"1.
هذه مع ما سبق بعض ما أنكره المؤلف مما هو معلوم بالضرورة وثابت يقينا، والذي لا ريب فيه أن أمر هذا التفسير واضح لا يصنف في غير اللون اللامنهجي؛ وإن شئت فسمه منهج المجانين.
ولا يعترف صاحبه بأصول التفسير فلا يفسر القرآن بالقرآن ولا بالسنة ولا بأقوال الصحابة.
ولا يعترف صاحبه بالتاريخ فينكر ما تواتر وروده واشتهر ثبوته، وأصبح جزءا من التاريخ.
ورجل مثل هذا في آرائه، ومثله في تفسيره لا يشك أحد أدنى شك في أن يكون أحد رجلين.
أما رجل خبيث ذو هدف باطني يريد إيقاع البلبلة والاضطراب والتشكيك والدس وتعويد الأذهان على الاضطراب في التفكير حتى يقبل بعد هذا تشكيك من له شبهة أو شبه دليل.
__________
1 تقرير لجنة الرسالة: ص15-16.(3/1154)
وأما رجل مجنون حقا مخرف حقا وليس بشرط أن يكون الجنون بالعته والخفة والطيش أو البلاهة والبلادة؛ بل منه ما يسمى بجنون العظمة أو الغرور فيصل بنفسه درجة يجعلها معيارا للعلوم؛ فالحق ما توصل إليه وكل الناس عالة على علمه، وأحسب هذا شر أنواع الجنون.
ولست أزعم لنفسي معرفة علم النفس وخصائصه؛ ولكن والحالة هذه التي أمامنا لا أرى أن يقدم مجنون -بمعناه عندنا المشاهد في المستشفيات النفسية- على مثل هذا العمل لا زهدا فيه؛ ولكن عجزا عن التفكير فيه أو إدراكه فضلا عن دافع الإيمان حتى وهم في هذه الحالة.
وعلى كل حال فقد كان ما كان وخرج هذا التفسير ولا يقبل ذو لب أن يقول مثل قوله ولا يقبله ذو دين؛ فكان حقا اللنون اللامنهجي وإن شئت فسمه منهج المجانين، حفظ الله عقولنا وعقولكم وثبتها على المنهج القويم.
ونحمد الله سبحانه على ندرة هذا اللون من التفسير ومعذر إن أخذت وقتا وجهدا في هذا اللون؛ فلا يصح لي عذر أن اتركه وهدفي في حصر اتجاهات التفسير.
وبعد:
هذه أهم الاتجاهات الإلحادية في التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
وما كان لهذه التفاسير وما كان لأصحابها جرأة على نشرها أو التلفظ بها لو كان الإسلام هو الحاكم في بلاد المسلمين.
وإذًا لحسب العلماء ألف حساب وحساب قبل أن يبيعوا دينهم بدنياهم فيقولوا في القرآن الكريم ما لا يصح قوله.
وإذا لحسب المثقفون ألف حساب وحساب وكذلك قبل أن يجترئ أحد منهم على تناول آيات القرآن بالتفسير من غير أن يكون من أهل التفسير.
وإذا -مرة ثالثة- لحسبت المطابع ألف ألف حساب قبل أن تطب كتابا مليئا بالإلحاد.(3/1155)
ولو كان الإيمان قد ملأ الصدور ما جرأ العالم ولا المثقف ولا الطابع على مثل هذه الأمور؛ بل أصبح قوة رادعة لهذا التهور.
نشكو إلى الله أمر حال المسلمين وندعوه -عز شأنه- أن يحفظ كتابه بعودة المسلمين إلى إسلامهم وتثبيت القلوب بالإيمان وإقامة راية الإسلام في كل مكان.(3/1156)
الخاتمة:
وبعد:
هذه أهم الاتجاهات لفسير القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، وتلكم هي أسسها التي قامت عليها. لها ما لها وعليها ما عليها.
ولا أجد حاجة لتكرار ممل -حتى ولو كان مختصرا- للأبحاث التي تناولتها فدون من أراد ذلك المقدمة فقد أجملت فيها ما تناولته من أبحاث ودونه الكتاب كله ففيه التفصيل ودونه الفهارس ففيها الدلالة؛ وإنما يهمني ويهم غيري فيما أرى أن أخص الخاتمة بالحديث عن النتائج التي توصلت إليها بعد هذه الدراسة وفيها أمور ما كنت أتصور حدوثها ووقوفي عليها. وعلى كل حال فسأقدم النتائج بقدر من الاختصار الذي يعطي الثمرة ولا يؤدي إلى الملل.
فمن النتائج:
أولا: في العصر الإسلامي ألول لم يكن ثم إلا فرقة إسلامية واحدة؛ وإلا أمة إسلامية واحدة هي خير القرون وهي قدوة المسلمين ولم يكن بينهم شقاق في العقيدة أو خلاف، وكلما ظهرت شرارة من هنا أو هناك هيأ الله لها من أمة المسلمين من يطفئها أو من يضرب صاحبها بدرته ضربة يعيد بها صاحبها إلى رشده، ولم يكن لهذه الحالات الشاذة أثر يذكر في التفسير سلبا أو إيجابا؛ فلم يحوج الأمر المفسرين إلى الرد عليهم أو على شبهاتهم إلا النادر الذي لا يشكل منهجا.(3/1157)
ومضى حين من الدهر نشأت فيه مذاهب وفرق أخرى هيأ الله -سبحانه وتعالى- لهم من يرد عليهم في مؤلفات مستقلة أو عند تفسير القرآن الكريم.
ونظرة سريعة إلى التفاسير في تلك الفترة يظهر فيها حجم المعركة.
فرق تؤلف تفاسيرها على قواعد أصولها التي أنشأتها من قبل، وتبث شكوكها وشبهها.
وفرقة أخرى تكابد بين أمرين أمر تقرير عقيدتها واستخراجها من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وأمر الرد على شبهات الخصوم وأوهامهم.
قامت فرق المعتزلة والشيعة الإثني عشرية والباطنية والزيدية والخوارج والأباضية والصوفية والفلاسفة وأمثالهم يفسرون القرآن الكريم وفق أصولهم.
وقام أهل السنة والجماعة يقررون عقائدهم ويردون على خصومهم؛ فلم يهملوا آية فيها تقرير لعقيدتهم إلا وبينوه ولا آية فيها رد على خصومهم إلا وأظهروه.
فعلوا ذلك إظهارا للحق، وتبرئة لذممهم، وذودًا عن عقيدتهم، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر؛ فما زالوا ظاهرين.
وقد كان الاتجاه العقائدي في التفسير في القرن الرابع عشر أول أبحاث هذه الدراسة -وإن أنس لا أنس- صدمة تلقيتها وأنا أكتب عن تفاسير أهل السنة والجماعة.
فقد عانيت كثيرا في الحصول على نصوص تقرر عقيدة أهل السنة والجماعة بكل تصريح وضوح بل تسوقها بإشارة عاجلة؛ وكأنها مقررة عند قارئ التفسير ومعلومة.
وليتهم حين يفعلون هذا يتجاوزونه إلى الرد على شبهات الأعداء وكيدا لخصومهم والتأويلات الباطلة، ليتهم يبرزون الرد على الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية أو القومية الترابية أو اللسانية ليتهم يردون على البابية أو البهائية.(3/1158)
أو القاديانية أو يردون على عصابات الانحلال الفكري أو شبهات المستشرقين أو انحرافات المنحرفين، أو حتى ليتهم يردون على الفرق المعاصرة كالشيعة التي جعلت همها -كل همها- في العصر الحديث مواجهة أهل السنة والجماعة ومصادمتهم ليس في داخل بلاد المسلمين فحسب؛ بل حتى في الدولة الأوروبية والأمريكية وكم سمعت من الدعاة إلى الإسلام في تلك الأنحاء من نشاط أولئك ضدهم، وكأن هؤلاء يدعون إلى الشيوعية والإلحاد لا إلى الدين الإسلامي.
ليت أصحابنا ردوا على الشيعة هؤلاء أو ردوا على الإباضية وبينوا لهم الحق، أو ردوا على الصوفية التي عششت على أنحاء كثيرة في العالم الإسلامي وقاد العوام فيها والجهال بعض العلماء كما تقاد الشياة يذودون عن أفكارهم ويدافعون عن أفعالهم ويبررون منكراتهم وهم يعلمون أنهم يقولون غير الحق؟
ليت أصحابنا ردوا على النصرانية وما تقوم به من نشاط كبير لتنصير المسلمين في أرجاء العالم مستغلة أوضاع العالم الإسلامي الاقتصادية والسياسية.
ليتهم ردوا على اليهودية ومنظماتها الصهيونية والماسونية وأندية الروتاري وغيرها من وسائلهم الماكرة للاستيلاء على قيادة العالم كله وتوجيهه أو جعله تحت سيطرتهم إن استطاعوا ولن يستطيعوا بإذن الله.
بحثت عن هذا كله أو عن بعضه في تفاسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث؛ فلم أجد فيها بغيتي ولا بعضها.
وكل ما وجدته نصوصا من هنا أو هناك الصريح الواضح منها قليل وما سواه التمس منه ما أردت التماسا.
يمرون -غفر الله لهم ولمن سبقنا بالإيمان- على الآية، وقد زعمها طائفة قديمة أو حديثة دليلا على مذهب ضال أو فكرة خبيثة فلا يعرض أولئك للرد عليها.(3/1159)
يمرون -غفر الله لهم- على الآية تستدل بها فرقة على ما يزعمونه حكما شرعيا خالفوا فيه الفهم الصحيح للنص وما يؤيده من السنة والإجماع؛ فلا يكلف أحدهم نفسه بيان ذلك وكأنه يكتب لمن لا يخفى عليه الحق في ذلك.
ولعلي ألتمس لهم عذرا أنهم يقررون التفسير الحق ويقدمونه ميزانا أصيلا يوزن به كل قول سواه وكل شبهة وكل بدعة.
لكني مع هذا لا أرى الحق في هذا؛ فالقضية أكبر من أن نجمل الحديث عنها أو نوجزه، والقضية أكبر من أن نجعل الحق في أيدي الناس ويزنون به.
فما زال في الناس كثير من لا يحسن استعمال الميزان، وما زال في الناس من يعجز
عن استعماله، وما زال في الناس من يطلب الطعام، وأن يوضع له على المائدة، وإن لم نفعل نحن -أهل السنة والجماعة- فسيجد من يقدم له هذا الطعام بكل سرور ولعلي قد بلغت.
ثانيا: وحين اتسعت العلوم الإسلامية عامة، واتسعت العلوم القرآنية خاصة وأفرد من العلماء السابقين آيات الأحكام بتفاسير مستقلة لم يكن أحدهم يكتب التفسير لهذه الآيات بمعزل عن مجتمعه وقضاياه؛ بل كان يعطي صورة كادت أن تكون كاملة عن بيئته حتى المذهب الفقهي الذي ينتحله كان له أثره في تفسيره.
ففسر كثير منهم آيات القرآن حسب مذاهبهم الفقهية؛ فكان تفسيرًا للمذهب الحنفي وتفسير للمذهب المالكي وهكذا.
وإذا عطفنا النظر إلى القرن الرابع عشر الهجري وجدنا الأمر جد مختلف؛ فقد تخلى عن كثير من صفات التفاسير القديمة بحسناتها وعيوبها.
كان على من أراد أن ينهج منهج تفسير آيات الأحكام أن ينظر إلى ناحيتين: ناحية عطاء النص، وناحية حاجة المجتمع وواقعه، ويوازن بينهما.
لا لست أريد أن يهمل نصا لأنه غير واقع في المجتمع ولا أريد أن(3/1160)
يؤجل البحث فيه إلى أن يقع لا أريده أن يفعل ذلك ما دام النص القرآني عليه صريح؛ لكني أيضا لا أريد منه أن يسترسل في بحث قد أشبعه العلماء من قبله، ولم يتركوا له فيه من عراش لا أريد منه أن يترك لهذا مباحث جدت من بعد في عصرنا هذا من غير أن يعطيها حقها من البحث.
يخطئ أولئك الذين ينظرون إلى آيات في القرآن الكريم وهم يحسبون أن الفقه ليس إلا معرفة أحكام الطهارة والإرث والوقف والهبة، وينسون أنه هو نتاج دين شامل كامل أيضا.
إن الفقه يشمل ما أسلفت ويشمل غيرها، ويشمل أيضا كل المناهج والأنظمة في مجالات الحياة وما يجد فيها.
يشمل النظام الاقتصادي الإسلامي بأوسع معانيه وإيجاد الحلول لمشاكل العالم المعاصر الاقتصادية ويشمل النظام الاجتماعي والنظام الجنائي والنظام الدولي والنظام المدني والنظام العسكري في أوسع مجالاته نظام العلاقات الدولية والسفارات وأخلاقيات الدولة الإسلامية يشمل كل أشكال المعاملات المالية في نظام البنوك المعاصر يبين حلالها وحرامها وحقها من باطلها. وحين يقصر مفسر أو فقيه في جانب منها؛ فإن القصور من جهده وليس من النصوص؛ فليعتبر أولئك الذين يصرفون جهودهم إلى ما نضج واحترق من المسائل الفقهية ويتركون عجزا أو تهاونا أو كسلا عن الأبحاث الأخرى التي ما تزال بحاجة إلى أن يخرجها العلماء للناس، ويقولون لهم بأعلى صوت هذا نظام دينكم فخذوا به.
نظرت في كتب تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث، وهالني ما رأيت؛ رأيتها تكرر ما قاله الجصاص وابن العربي والشافعي والقرطبي، وأنعم بهم من رجال، وأنعم بها من كتب؛ لكنهم كتبوا لأبناء عصرهم وعالجوا قضايا قضاياه، وأشبعوا الموضوع درسا وبحثا حتى كادت كتب بعضهم أن تكون كتب فقه لا تفسير.
ومع هذا كله فإن كتبهم موجودة لم تفقد حتى أصولها، ومنتشرة في(3/1161)
الأسواق أكثر من كتب من نقل عنها فأي فائدة نرجوها من جديد لم يأت بجديد؟!
وليت أصحابنا -غفر الله لنا ولهم- وهم يكتبون في التفسير الفقهي ولا يعالجون قضايا مجتمعهم المعاصر؛ ليتهم عالجوا بعض الاختلافات الفقهية بين أهل السنة والجماعة وبين الفرق الأخرى، ليتهم نقضوا ما يستدل به الشيعة في تفسيرهم لإباحة نكاح المتعة ليتهم أظهروا مواطن الخطأ في الاستدلال عند هؤلا؛ ليتهم ردوا على الذين يزعمون إباحة الربا غير المضاعف ويبثون الرجلين في الوضوء المسح، أو ردوا على تفسيرهم للخمس وتوزيعه، أو ردوا على الذين يعطلون الجمعة أو الجماعة بمزاعم باطلة؛ ليتهم وليتهم. هل ألتمس لهم في هذا ما التمسته آنفا لمفسري أهل السنة والجماعة في العقيدة من عذر، وهل ينفع العذر إذا رأيت فيه ما رأيته في ذاك.
ونظرت أخرى في كتب التفسير الفقهي؛ فوجدت أصحابها -أو هكذا خيل إلي- يكتبون لتلاميذهم ولا يكتبون لزملائهم وإخوانهم العلماء وظهر أثر ذلك فيما يكتبون.
أما أنهم يكتبون لتلاميذهم فكل ما اطلعت عليه من كتب التفسير الفقهي إلا القليل منها ألفه أصحابه لتلاميذهم في المعاهد والجامعات؛ فكانوا لذلك يسيرون وفق منهج خاص لا يتجاوزونه يسيرون معه، وليس مع النصوص ومدى دلالتها يسيرون مع النص وينظرون إلى الخلف إلى المنهج المقرر؛ خشية أن يكونوا قد ابتعدوا عن حدوده ومنطقته فيعودون يعودون فجأة، وتكاد تحس بأن الموضوع مبتور، وتكاد تحس بقوة النقلة تهزك، وكانوا لذلك يقتصرون على سور معينة هي تلك السور التي حددها المنهج وعلى آيات معينة من السورة هي كذلك.
لا شك أن مثل هذا الالتزام سيؤثر على عطاء المؤلف وعلى نتاجه؛ ولذلك نرى صغر حجم المؤلفات في التفسير الفقهي في العصر الحديث عنها في القديم.(3/1162)
ليس لأنهم اكتفوا بما قاله السابقون وليس لأنهم اقتصروا على ما جد في الحديث ولكن لهذا الالتزام فحسب.
كلامي هذا -أيها الأحبة- يشير بأصابعه العشرة إلى بعض المؤلفات في العصر الحديث، وببعض أصابعه إلى بعضها لكني لا أجد تفسيرا فقهيا معاصرا إلا ويشير إليه أصبع منها.
نحن أيها الأحبة بحاجة إلى تفسير فقهي معاصر يعنى بالشمولية والاستيعاب، فيجمع آيات الأحكام الفقهية كلها لا يتقيد بمنهج دراسي، ثم يتناول هذه الآيات كلها بالتوضيح والبيان، لا يقتصر في بيانها على الوجه الذي أشبع بحثا ولكنه مع هذا يلتمس من مدلولاتها علاج المجتمعات الإسلامية المعاصرة بشتى أشكالها وألوانها ويظهر فيما يظهر العلاج الإسلامي لكثير من قضايا العصر الشائكة، لا يلتزم مذهبا بعينه يلوي النصوص لتوافقه، ولا يدخل النص بذهن مشبع بالقواعد يلتمس لها أدنى مبرر في النصوص؟!
ينظر في النص فيستخرج منه دلالته الصريحة الواضحة مستندا إلى الكتاب والسنة ثم ينظر بعد ذلك في الأفكار والمذاهب الأخرى يرد عليها ويبطلها.
منطلقا من النص القرآني الكريم -ما أحوج الأمة في عصرنا هذا إلى هذا الدستور القرآني ... ولعلي بلغت.
ثالثا: ولا شك أن أفضل طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن فإن لم تجد فعليك بالسنة فإنها شارحة له مفسرة، وهذا ما اصطلح عليه بالتفسير بالمأثور.
وهذا النوع من التفسير كان هو السائد في صدر الإسلام؛ لأنه أصح أنواعه.
ثم نشأ التفسير بالرأي المحمود وانبثق التفسير بالرأي المذموم ودخل في التفسير علوم شتى فتعددت مذاهبه وتعددت طرقه ومناهجه، فقلَّت العناية والاهتمام بالتفسير بالمأثور وكاد أن يندرس في كثير من التفاسير القديمة والحديثة.(3/1163)
وعجبت ثالثة وأنا أنظر في كتب التفسير في العصر الحديث أبحث فيها عن تفسير أولي بالمأثور اهتماما كبيرا أو اختص به فما وجدت ووجدت فيما وجدت تفاسير تتعامل مع التفسير المأثور كما تتعامل مع علوم أخرى حينا تورده وحينا تهمله أو تنساه أو تجهله وهل يجهل المفسر السنة؟!! هذا ما حدث!!.
ووجدت فيما وجدت تفاسير تأتي بما يخالفه ووجدت فيما وجدت تفاسير تفسر بمعناه من غير أن ترويه ووجدت ووجدت أشكالا وألوانا من التعامل مع التفسير بالمأثور؛ لكن لم أجد من يوليه حقه من الاهتمام ويلتزمه في كل موضع من مواضعه التي ورد فيها.
حتى تلك التفاسير التي تحمل عناوين التفسير بالمأثور لا نراها تلتزمه حتى وإن سميت بـ "التفسير القرآني" للقرآن بل جاوز هذا أحدهم فبث إلحاده في تفسير سماه -كيدا ومكرا- "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" وتعلق بهذه التسمية بعض أرباب المذاهب والفرق الضالة ليموهوا على الناس الحق فسموا تفسيرهم "الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة" وما حشاه صاحبه إلا بالآراء المبتدعة والروايات الموضوعة!!.
وأكثر من رأيته يهتم بهذا المنهج في التفسير الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" فقد أولاه عناية واهتماما كبيرين وفاق بهما أقرانه ويليه بفارق كبير الأستاذ محمد رشدي حمادي في تفسيره "الموجز في تفسير القرآن الكريم المصفى: الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول" كما وصفه صاحبه في عنوانه.
والأمة الإسلامية في العصر الحديث بحاجة إلى تفسير يعنى بالتفسير بالمأثور بالقرآن وبالسنة يورد الآية القرآنية ويورد بعدها ما يفسرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وينطلق بعدهما لبسط ما تدل عليه من معانٍ وما ترسمه من حقائق.
الأمة الإسلامية بحاجة إلى هذا النوع من التفسير يورد فيه ما صح من(3/1164)
الأحاديث ويبين درجته، ويرد ما ضعف منها، أو ما هو موضوع ويحذر من القول به، فقد انتشرت في كتب التفسير أحاديث يرددها الناس ويحسبونها صحيحة ويقفون عندها لا يتجاوزونها وإذا جئت بتفسير آخر أصح منه نظر إليك من طرف أو صوب عليك بصره وكأنك أتيت بالجرم الكبير الذي لا يغتفر.
نحن -أمة الإسلام- بحاجة إلى تفسير ينشر التفسير الحق ويظهره.
ويورد التفسير الضعيف أو الموضوع ويرده ويبطله حتى لا تقوم قائمة غلا لحق وحتى ينمحي الباطل. اللهم هل بلغت.
رابعا: قلت -فيما قلت- في النتيجة السابقة أن التفسير قد اتسع بعد صدر الإسلام، فدخلت فيه علوم شتى.
وأقول: إن من بين هذه العلوم، العلوم التجريبية كالطب والفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات و ... و ... إلخ من تلك العلوم، فاهتم بعض العلماء آنذاك بهذه العلوم فأدخلها بعضهم في التفسير وأكثر منها فيه حتى قيل عنه: فيه كل شيء إلا التفسير.
كان هذا في وقت لم تكن فيه تلك العلوم إلا وليدة تحبو على يديها وقدميها ومرت قرون وترعرعت فيه وشبت فقامت تثب على قدميها وتعدو حتى حسبها بعضهم قد نضجت واكتملت وانتهت إلى أوج نشاطها وعز قوتها فأرادوا التقرب إليها والتزلف إلى بلاطها بتفسير نصوص القرآن حسب مدلولاتها وما عرفوا أنها ما زالت تنمو وأنها ما زالت تتغير وتتبدل.
وبلغ من عناية أبناء القرن الرابع عشر الهجري بهذه العلوم واهتمامهم به أن كان أول تفسير كامل للقرآن الكريم يتم في هذا القرن هو ذلكم التفسير الذي حشاه صاحبه بكل النظريات والحقائق العلمية صغيرها وكبيرها فلا يكاد يمر بكلمة فيها ذكر لآلة أو نبات أو حيوان أو خلق إنسان أو ريح أو مطر أو سحاب أو سماء أو أرض ونحو ذلك إلا وأحال تفسيره إلى بحث علمي بحت أو سحاب أو سماء أو أرض ونحو ذلك إلا وأحال تفسيره إلى بحث علمي بحت خاص بما عرضت الإشارة إليه في الآية وملأه بالصور الموضحة والتجارب.(3/1165)
العلمية والشواهد من كلام أهله وخبرائه وعلمائه الجديد منها والقديم حتى تشك وأنت تقرأ فيه فيما بين يديك فتطويه وتنظر إلى غلافه فإذا هو فعلا كتاب الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ويأخذك العجب والدهش بين مسماه وما تقرأ فيه، فتسأل أهل الذكر فيشيرون بالصمت؛ بالصمت لتسمع كلمة جاءت من عمق القرون السالفة تجلجل: فيه كل شيء إلا التفسير، فما زالت تلك الكلمة منذ قيلت تشق مسارها في التاريخ راسمة أحرفا على كل من سلك هذا المسلك المتطرف في التفسير حتى وإن كان فيه تفسير؛ لأن هذا طغى عليه فأفسده فلم يعد تفسيرا.
وكم أشفق على تلك الكلمة: "فيه كل شيء إلا التفسير"، فقد مكثت سنوات منذ قيلت معطلة لم تجد لها عملا لكن العمل المرهق جاءها جملة في هذا القرن، حيث نشأت تفاسير كثيرة فيها كل شيء إلا التفسير، فذهبت ترسم نفسها على الأغلفة لا يراها إلا أصحاب البصيرة وأهل العلم والذكر.
لست من أعداء التفسير العلمي كما تحسبون ولست من أنصاره ومؤيديه كما تظنون. أنا -أيها الأحبة- إن سألتم عن موقفي وسط بينهما لست من أولئك الذين يرفضون التفسير العلمي حتى حقائقه ولست من الذين يتحمسون له حتى نظرياته وتصوراته.
كما شكوت من أولئك الذين يقحمون التفسير العلمي التجريبي، فإني أتضايق من أولئك الذين يرفضونه كل الرفض.
ليته ينفر منا طائفة من شتى أصحاب العلوم والمعارف يستفيد من خبراتهم نفر من أهل العلم الشرعي يسألونهم عن حقائقه فيستشهد بها هؤلاء في التفسير ولا يفسرون بها النص.
ويسألونهم عن نظرياته فلا يوردونها لا تفسيرا ولا استشهادا؛ لأنها ما زالت متأرجحة لا تستقر ومن يستمسك بمتأرجح فإنه لا بد متأرجح معه وإن سقط سقط معه.(3/1166)
أعرف أن هناك من سيرفض قولي وأعرف أن هناك من سيعد له ويقوِّم ما يراه معوجا، ولعل فيهم من يقبله ويراه حقا وهذا رأيي والله أعلم.
خامسا: أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن الكريم لحكم عظيمة غايتها تصحيح العقائد وتقويم السلوك.
وعلى المفسر أن يجعل هذا الأمر في ذهنه عند تفسيره ثم عليه وهو طبيب عقول أن يكون كطبيب الأجساد
ينظر في مريضه ويشخص داءه ثم يصف له الدواء، وعلى المفسر أن ينظر إلى مجتمعه فيحدد أمراضه ويظهر مواطن ضعفه وتفككه وانحلاله ثم يصف له الدواء القرآني سواء كانت علله في العقيدة أو في السلوك.
كم يسرني ذلكم المفسر الذي أراه يفسر الآية القرآنية ثم أراه يضرب الأمثلة من مجتمعه -في غير تشهير- ويلتمس لها العلاج القرآني وكم يسرني ذلكم المفسر الذي يرى عادة ذميمة في مجتمعه أو تحللا أو إهمالا لواجب أو انتشارا لبدعة فلا يمر بآية هي علاج لهذا أو ذاك إلا ويربط بينهما ويشير إلا علاجها ويأمر به.
يهمل كثير من العلماء مسألة الربط أو التشخيص الدقيق وهم يحسبون أن لدى مستمعيهم -كلهم- القدرة على الاستنتاج والتطبيق.
تجد المفسر مثلا يتحدث عن الربا وتحريمه ويشرح آياته مفردة مفردة ومواطن البلاغة ومحاسن التعبير ويبيلغ في ذلك شأوا، ثم ينتقل إلى آية أخرى بعدها وهو يحسب أنه قد أشبع الموضوع حقه، وما درى ذلك الرجل أنه أخذ جانبا وترك الآخر كان عليه -مثلا- أن يضرب أمثلة للربا من مجتمعه فيشير نصا إلى البنوك الربوية ومعاملاتها ومواطن الخطأ فيها ومواضع الربا وآثار ذلك في الاقتصاد.. كان عليه أن يعطي المثال المستقيم فيذكر البنوك الإسلامية وما يجب أن تتعامل به ولا ضير أن يذكر أسماءها وأنواع معاملاتها.
ستقولون -أيها الصحاب- أنه خرج عن التفسير، فأقول على فرض أنه(3/1167)
خرج أليس خروجه هذا أفضل من خروجه عنه إلى الأساليب البلاغية والمسائل اللغوية والتغني بحسن التعبير والوقوف عند معالم الجمال إن صح تسمية كل ذلك خروجا!!
ثم إني لا أعتبر هذا ولا ذاك خروجا عن التفسير إذا ناسب المقام، فإذا ان المقام مقام حديث مع العلماء والأدباء فليكن كذلك، وإذا كان حديثا موجها للعامة أو للإصلاح الاجتماعي فليكن بأسلوب آخر وبأهداف وطرق أخرى، ليوجه همه إلى تلكم القضايا الاجتماعية ويبسطها للناس فلا يجعل التفسير بمعزل عمق أنزل القرآن لإصلاحهم وإصلاح عقائدهم.
حين نزل القرآن الكريم أصلح كثيرا من البدع والمنكرات التي تحدث في مجتمع الجاهلية وخصها بالذكر فحرم وأد البنات والربا وشرب الخمر وعبادة الأوثان وما زال القرآن يقوِّم الأخلاق حتى النداء من وراء الحجرات.
فما بال أقوام منا يهملون جانب الإصلاح الاجتماعي في تفسير القرآن الكريم ويظنونه -مخطئين- خروجا بالتفسير عن حده.
إن الأمر هناك يختلف عن المناهج الأخرى، الأمر هنايتطلب تفاسير عدة لا تفسيرا واحدا، حيث يقوم من كل بلد من بلاد العالم الإسلامي عالم عارف بأمراض مجتمعة يفسر القرآن فيعرض لها ويحذر من خبيثها ويحمد حسنها.
أقول هذا؛ لأن العالم الإسلامي مترامي الأطراف مختلف العادات، وقد ينتشر في مجتمع من المنكرات ما لا وجود له في مجتمع آخر فقد يوجد الربا في بيئة ويستفحل ولا يكاد يوجد في أخرى، وقد تنتشر حانات الخمور ودور الرذيلة والملاهي وأندية القمار في بيئة ولا يعرفها آخرون، وقد ينتشر الاختلاط والتبرج والتعري والفسق والفجور في مجتمع ولا يعرفه آخر، وقد تنتشر بدعة التصوف وطقوسها في بيئة دون بيئات، وقد تشتهر بعض المحرمات وتصبح عادة مألوفة في مجتمع تحتاج إلى أن ينص العلماء عليها ويحذرون منها كالشغار والنجش وبعض أنواع الربا والإسراف والتبذير و ... و ... إلخ.(3/1168)
وهذا يوجب أن يقوم من كل مجتمع عالم يكتب علاجًا قرآنيا لأمراض مجتمعة فما زالت المنكرات منتشرة وما زالت البدع سائدة، نسأل الله سبحانه الإصلاح والتوفيق.
سادسا: قام في القرن الرابع عشر الهجري رجال علماء بذلوا وسعهم حسب مفهومهم وحسب قدراتهم للإصلاح سياسيا واجتماعيا وكان لهؤلاء جوانب مشرقة وكان لهم أخرى ونال هؤلاء الرجال منزلة كبيرة في مجتمعاتهم بين العلماء والعامة. ونفذ بعض المغرضين وذوي النحل الباطلة من هذه "الأخرى" فأمسوا يبثون شكوكهم وأوهامهم وبدعهم ومنكراتهم فإذا قام معترض عليهم قال لهم: إنكم تردون اليوم ما كان يقرره فلان منذ 42 عاما1؟. فيطرق القوم وكأنه قال لهم قول معصوم.
تقولون وما دخل هذا في التفسير؟! فأقول: إن بعض هؤلاء كان لهم نشاط في التفسير منه ما أبدعوا فيه ومنه ما جانب الصواب وأخشى -وقد حدث فعلا- أن يستدل رجل بالجانب الذي وقع فيه الخطأ فيحسبه آخرون قد أتى بالحجة القاطعة.
علينا إذًا أن نقيم رجال التفسير فنظهر ما لهم ونظهر ما عليهم.. أين كتب الرجال في القرن الرابع عشر؟ أين كتب طبقات المفسرين في القرن الرابع عشر؟
حقًّا إن كثيرا منهم ما زال حيا يرزق وحقا إن بعضهم قد انتشر صيته؟
ولكن أقولها عن تجربة إذا ما أردت ترجمة قصيرة عن حياة أحدهم فضلا عن الجرح والتعديل فإني لا أجد له رائحة.
حبذا لو قام أحدنا بالكتابة عن مفسري القرن الرابع عشر وليس عن اتجاهات التفسير فحسب.
يكتب تراجم لحياتهم العلمية ومؤهلاتهم للتفسير ومن تتوفر فيه شروط
__________
1 قال هذا أمين الخولي دفاعا عن رسالة ملحدة.(3/1169)
المفسر منهم ومن لا تتوفر فيه، ثم يكتب ما له في التفسير وما عليه، ويرد أو يناقش بعض أخطائه الظاهرة في التفسير.
وبذلك ننقي ساحة التفسير وساحة المفسرين من زغلها وزيغها ونكشف للناس حقيقتها فلا يجرؤ مجترئ بعد ذلك أن يستدل بهفوة، ولا يطأطئ أحدنا رأسه مسلما باحتجاج زائف.
علما أن الأمر لا يقتصر على ذوي الهفوات من المفسرين، بل سلك بعضهم طريقا خاصا ونهجا إلحاديا علانية يسعى لأن يرد عليه فيشتهر ويرى -لضعف إيمانه أو عدمه- إن الإلحاد هو أقصر طريق إلى الشهرة.
فعلينا أن نقف لتلك الزمرة بالمرصاد دفاعا عن كتاب الله عز شأنه، نقف لهم فلا نحقق مأربهم ولا ننشر كتبهم بشتى الوسائل ونسعى أن يكون موقفنا منهم درسا رادعا لمن يقف خلفهم أو ينتظر فرصة ليفعل فعلهم. اللهم هل بلغت.
سابعا: اختلاف أساليب التعبير عبر القرون ظاهرة واضحة لا شك فيها وكم من قصيدة سمعناها فأدركنا من مفرداتها ونغمها وجرسها أنها شعر جاهلي أو شعر إسلامي أو شعر حديث أو حتى شعر أندلسي ونحو ذلك؛ وقع هذا لأن لكل مجتمع ما يناسبه من الألفاظ والعبارات.
وهذا يوجب على المفسر أن يتحدث بأسلوب عصره فلا يأتي -وهو يفسر- بغريب الألفاظ ولا يتكلف الحديث ولا يمعن في عويص المعاني ولا يتشدق في التعبير.
لا يعلو حديثه عن درك العامة ولا يهبط إلى وضيع القول عند العلماء فليحاول جهده في التعبير بحيث إذا سمعه غير المتخصص أدرك أبعاده وشده أسلوبه وإذا سمعه العالم شدهه حسن التعبير وطلاوة الأسلوب والموازنة هذه يهبها الله لمن يشاء من عباده.
أما التبسيط العميق للتفسير، فإنه يحيل التفسير إلى كتاب مدرسي يوضع(3/1170)
للناشئة إن لم يكن وضع لهم أصلا، مثل هذا يبعد كل البعد عن الإتيان بجديد في الفكر أو في التدبر أو في التأمل.
ولهذا لم يكن لهذه المؤلفات أثر في دراستنا هذه عن مناهج التفسير الجادة.
والإغراق في العبارات أيضا يقصر الفائدة منه على المختصين والعلماء ويحرم سواهم من الانتفاع به، والقرآن الكريم لم ينزل لهؤلاء وحدهم ولا لهؤلاء دون سواهم، بل نزل للجميع فليكن التفسير للجميع أيضا.
لا أريد من هذا أن أمنع التفاسير الموسعة العميقة الأبحاث لكني أريد تبسيط أسلوبها حتى إذا ما أراد أن يسلكها غير العلماء سلكها وكانت له كالمعلم يخاطبه ويوجهه ويساله ويجيبه بأسلوب لا يهبط إلى ذلك ولا يعلو عن مداركهم. اللهم هل بلغت.
وبعد:
ليست هذه خلاصة البحث وليست كل ما أريد قوله، فقد بثثت فيه وبين مناهجه ملاحظاتي في مواضعها ولكني أشرت إلى ما اشرت إليه للتأكيد ليس إلا.
أما الأساس السليم والمنهج القويم في التفسير الذي يجب أن نسلكه فيه فقد بينت أسسه وقواعده في حديثي عن منهج أهل السنة والجماعة ولا أظن أني في حاجة إلى تكرار القول أني قد وضعت منهجهم أول المناهج؛ ليكون ميزانا بيد القارئ يزن به كل ما يصادفه في طريقه فبه يأخذ وبه يرد.
ولهذا فلا أرى موجبا لإعادة هذه الأسس مرة أخرى فهي أيضا الأسس الفضلى وهو أيضا المنهج الحق.
لكن هذا لا يمنع من التجديد؛
التجديد في الأسلوب الملائم لأبناء العصر والذي أشرت إليه آنفا والتجديد في التحذير من العقائد الضالة والفرق المنحرفة المعاصرة والقديمة وبيان مواضع ضلالهم وانحرافهم.(3/1171)
والتجديد في تفسير آيات الأحكام ببيان ما جد من الأحكام الشرعية والمعاملات المالية والاقتصادية والعسكرية ... إلخ.
والتجديد في علاج القضايا الاجتماعية، فقد جد في هذا العصر من المشكلات الاجتماعية ما يحتاج إلا علاج وبيان.
والتجديد في التحذير من التفاسير المنحرفة والضالة ومجاهدة أصحابها وبيان ضلالهم وكشف زيفهم للناس.
كل هذا وسواه أكثر من معالم التجديد في التفسير الذي يطلبها أبناء القرن الجديد في التفسير، وهذا يحمِّل علماءه أمانة القيام به؛ فهم يوم القيامة مسئولون، وعلى أعمالهم محاسبون ومجزيون.
وأوصي أخيرا أولي الأمر وذوي العلم والجامعات الإسلامية وفيهم نفر من العلماء الصالحين أن يسعوا للقيام بتفسير يشترك فيه نخبة مختارة من العلماء البارزين في مختلف التخصصات الشرعية في العقيدة والفقه والتفسير.
والأدب والإصلاح الاجتماعي والعلوم التجريبية ... إلخ.
يجتمع هؤلاء يتلون آيات الله فيما بينهم ويتناولونها بالتفسير والبيان، ثم تصاغ كلها بأسلوب ملائم يجمع فيه كل ما يحتاجه عصرنا من إصلاح عقائدي وفقهي واجتماعي وعلمي وأدبي يعنى فيه بما أسلفنا الإشارة إليه تفصيلا.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1.
__________
1 سورة البقرة: 285-286.(3/1172)
الفهارس
دليل الآيات القرآنية
...
دليل الآيات القرآنية "*":
1- سورة الفاتحة:
1/ 527، 4/ 527، 536، 541، 7/ 221، 312، 313، 319، 331، 529، 536، 753، 771.
2- سورة البقرة:
2/ 212، 3/ 212، 223، 335، 340، 351، 526، 8/ 771، 9/ 880، 18/ 321، 916، 19/ 1032، 20/ 310، 321، 324، 1032، 21/ 320، 24/ 325، 25/ 310، 324، 339، 352، 26/ 322، 29/ 327، 331، 664، 667، 30/ 136، 154، 313، 31-34/ 154، 837، 36/ 314، 316، 352، 37/ 309، 312، 325، 525، 43/ 921، 44/ 105، 729، 48/ 144، 179، 301، 343، 55/ 168، 216، 230، 334، 335، 58/ 751، 755، 60/ 317، 61/ 325، 1128، 65/ 31، 736، 66/ 653، 67/ 136، 318، 653، 728، 760، 810، 1150، 68-72/ 653، 728، 760، 810، 74/ 528، 635، 75/ 708، 81/ 155، 177، 342، 343، 83/ 922، 90، 536، 98/ 507، 106/ 92، 144، 335، 720، 123/ 344، 124، 124/ 171، 202، 240، 292، 390، 140/ 129، 320، 143، 314، 145/ 784، 149/ 397، 150/ 117، 152/ 398، 154/ 404، 155/ 400، 401، 156/ 401، 159-160/ 712، 164/ 248، 318، 641، 166/ 740، 167/ 243، 169/ 89، 170، 348، 712/ 171، 707، 173/ 328، 177/ 405، 834، 178/ 60، 80، 338
__________
* ما قبل الشرطة المائلة هو رقم الآية، وما بعدها هو رقم الصفحة.(3/1175)
179/ 710، 183/ 746، 184/ 328، 185/ 328، 345، 747، 911، 186/ 404، 187/ 329، 402، 406، 517، 1052، 189/ 402، 593، 692، 192/ 403، 193/ 780، 195/ 57، 196/ 135، 327، 397، 203/ 403، 213/ 536، 214/ 1009، 215/ 442، 219/ 398، 526، 790، 221/ 443، 467، 505، 506، 515، 222/ 399، 532، 617، 223/ 532، 224/ 540، 225/ 541، 228/ 529، 541، 229/ 434، 233/ 409، 238/ 313، 397، 748، 887/، 1043، 1080، 242/ 728، 245/ 400، 246/ 789، 248، 763، 253، 825، 1006، 254/ 917، 256/ 780، 260/ 643، 264/ 618، 1028، 265/ 1028، 266/ 542، 1030، 267/ 542، 274/ 920، 275/ 155، 178، 343، 540، 826، 284/ 63، 341، 285/ 834، 1173، 286/ 1173.
3- سورة آل عمران:
7/ 92، 135، 249، 722، 10/ 722، 12/ 722، 18/
712، 26/ 732، 27/ 832، 28/ 83، 116، 218، 242، 31/ 832، 35/ 832، 36/ 540، 699، 37/ 726، 46/ 1078، 47/ 815، 48/ 813، 49/ 813، 1088، 55/ 57، 538، 818، 821، 824، 59/ 830، 61/ 795، 62/ 905، 64/ 739، 65/ 728، 73/ 110، 83/ 213، 85/ 258، 92/ 917، 96-97/ 479، 101/ 746، 104/ 711، 105/ 347، 112/ 312، 118/ 728، 130/ 742، 846، 1096، 132/ 774، 152/ 1109، 159/ 781، 172/ 832، 175/ 117، 176/ 577، 910، 179/ 538، 191/ 556، 195/ 796.
4- سورة النساء:
1- 267، 830، 831، 2/ 391، 3/ 198، 532، 1086، 1096، 1097، 4/ 433، 5-6/ 479، 12/ 533، 20/ 1033، 21/ 434، 1033، 24/ 234، 246، 433، 442، 453، 466، 498، 25/ 434، 797، 1097، 36/ 219، 787، 38/ 538، 43/ 741، 841، 48/ 828، 58/ 824، 59/ 299، 69/ 145، 75/ 391، 393، 78/ 407، 87/ 67، 88/ 230، 92/ 479، 93/ 57، 155، 480، 101/ 480، 102/ 922، 103/ 265، 105/ 86، 812، 116/ 828، 127/ 533، 129/ 1068، 1069، 133/ 1135، 135/ 658، 136/ 835، 138-139/ 156، 141/ 533(3/1176)
147/ 270، 157-158، 818، 820، 162/ 922، 164/ 58، 154، 170، 165، 906، 174/ 776.
5- سورة المائدة:
1/ 57، 539، 3/ 258، 408، 1048، 5/ 434، 444، 468، 504، 506، 507، 515، 6/ 244، 421، 439، 464، 487، 515، 13/ 528، 23/ 1021، 27/ 1049، 38/ 131، 444، 458، 468، 511، 44/ 258، 1065، 51/ 109، 139، 53/ 936، 54/ 139، 225، 55/ 109، 157، 56/ 157، 60/ 312، 64/ 69، 102، 67/ 134، 77/ 312، 536، 78-79/ 711، 80-81/ 140، 83/ 984، 88/ 384، 89/ 1048، 90/ 712، 93/ 270، 386، 101/ 1017، 110/ 813/ 815، 1089، 112-115، 807، 116/ 249، 117/ 763.
6- سورة الأنعام:
3- 733، 6/ 711، 835، 8/ 914، 11/ 710، 19/ 91، 27/ 105، 172، 173، 28/ 64، 105، 32/ 728، 38/ 558، 561، 568، 578، 587، 674، 680، 59/ 63، 95، 96، 60/ 821، 71/ 1091، 72/ 74/ 249، 82/ 271، 338، 541، 748، 83/ 825، 90/ 146، 908، 95/ 1034، 96/ 905، 102/ 102، 103/ 97، 334، 105/ 539، 107/ 334، 109/ 936، 123/ 228، 125/ 229، 627، 130/ 839، 141/ 1100، 143/ 98، 148-149/ 119، 141، 142، 158، 174، 155/ 58، 158/ 752، 159/ 344، 165، 825.
7- سورة الأعراف:
3/ 299، 8/ 106، 138، 172، 288، 9/ 138، 11/ 1125، 19/ 938، 20-21/ 268، 23/ 309، 312، 525، 25/ 1129، 26/ 913، 27/ 839، 1092، 31/ 1073، 33/ 243، 38/ 740، 1132، 39/ 740، 49، 936، 53/ 137، 54/ 68، 101، 153، 332، 556، 752، 57/ 723، 914، 60/ 910، 66/ 910، 58/ 790، 107-108، 1086، 129/ 152، 168، 1069، 158/ 90، 769، 160/ 1086، 162/ 751، 169/ 433(3/1177)
171/ 1021، 175/ 289، 176/ 825، 178/ 229، 189/ 632، 1111، 190/ 1111.
8- سورة الأنفال:
9/ 735، 12/ 1017، 23/ 64، 25/ 711، 1071، 27/ 772، 29/ 1103، 30/، 273، 910، 991، 39-40/ 472، 41/ 427، 440، 465، 474، 483، 494، /، 1053، 60/ 747، 67/ 1152.
9- سورة التوبة:
6/ 868، 9/ 785، 11/ 110، 23/ 110، 156، 30/ 444، 31/ 516، 33/ 647، 40/ 57، 46/ 57، 55/ 919، 60/ 1099، 73/ 139، 88/ 920، 96/ 137، 100/ 140، 103، 922، 111/ 1009، 123/ 139.
10- سورة يونس:
3/ 68، 5/ 554، 10/ 905، 25/ 220، 26/ 65، 66، 130، 152، 168، 72/ 907.
11- سورة هود:
13/ 710، 21/ 212، 28/ 1034، 29/ 907، 36، 910، 40/ 1046، 44/ 131، 47/ 699، 51/ 907، 52/ 916، 66/ 904، 69/ 1151، 80/ 212، 88/ 105، 101/ 786، 112/ 348، 116/ 783، 119/ 839.
12- سورة يوسف:
35/ 63، 43/ 1150، 76/ 825، 82/ 1082، 104/ 90، 769، 908، 110/ 1009.
13- سورة الرعد:
2/ 643، 4/ 1128، 8-9/ 95، 11/ 835، 13/ 682، 26/ 919، 39/ 205.
14- سورة إبراهيم:
1/ 776، 13/ 910، 15-18/ 1026، 1027، 40/ 1139، 44/ 138، 936، 48/ 1070.(3/1178)
15- سورة الحجر:
9/ 70، 103، 134، 153، 171، 198، 22/ 723، 27/ 839، 1093، 26-28/ 829، 29/ 555، 829، 30-31/ 829، 44/ 215، 92/ 935؟
16- سورة النحل:
8/ 438، 12/ 828، 35/ 142، 158، 38/ 936، 43/ 587، 44/ 26، 87، 89، 250، 1080، 52/ 529، 64/ 87، 250، 1081، 72/ 633، 74/ 128، 79/ 761، 89/ 558، 101/ 143، 720، 102/ 835، 103/ 767، 868، 106/ 84، 116، 118، 338، 112/ 531، 125، 228.
17- سورة الإسراء:
1/ 1151، 7/ 922، 9/ 776، 14/ 1312، 29/ 923، 36/ 89، 712، 38/ 92، 44/ 667، 70/ 832، 78/ 696، 85/ 92، 713.
18- سورة الكهف:
39/ 57، 45/ 711، 50/ 839، 101، 224.
19- سورة مريم:
4-5/ 246، 5-6/ 431، 510، 17/ 835، 1088، 18/ 699، 20/ 815، 1088، 21/ 815، 22/ 1088، 29/ 1087، 58/ 869، 68/ 935، 71-72/ 107.
20- سورة طه:
5/ 57، 68، 100، 6/ 668، 12/ 969، 1135، 20/ 933، 21/ 969، 39/ 283، 46/ 57، 50/ 1125، 1126، 55/ 1128، 66/ 933، 94، 146، 111/ 271، 118-119/ 915، 121-122/ 104، 130/ 911.
21- سورة الأنبياء:
2/ 285، 26/ 835، 28/ 137، 144، 30/ 598، 662 47/ 78، 106، 138/ 938، 67/ 728، 68-69/ 1082، 1083، 73/ 921، 78/ 475، 79/ 1083، 1102، 81/ 1083، 90/ 105، 103/ 835، 104/ 261.(3/1179)
22- سورة الحج:
1-2/ 754، 5/ 914، 29/ 524، 30/ 219، 41-44/ 727، 921، 46/ 709، 47/ 692، 1125، 49-51/ 727، 52/ 722، 727، 61/ 554، 63/ 913، 65/ 635، 70/ 85.
23- سورة المؤمنون:
5/ 443، 1098، 6/ 435، 443، 454، 467، 1098، 12/ 597، 829، 1125، 1127، 13-16/ 829، 14/ 1126، 17/ 667، 24/ 914، 28/ 131، 86/ 668، 99-100/ 78، 154.
24- سورة المؤمنون:
2/ 1094، 6-7/ 1099، 8/ 1099، 11/ 1153، 30/ 455، 530، 31/ 455، 474، 508، 509، 530، 1074، 33/ 917، 35/ 1112، 36/ 825، 55/ 345، 63/ 1080.
25- سورة الفرقان:
2/ 285، 597، 5/ 970، 25/ 528، 53/ 629، 57/ 908، 61/ 392، 67/ 923.
26- سورة الشعراء:
23-24/ 527، 30-33، 808، 43/ 968، 59/ 89، 526، 63/ 1086، 80/ 454، 94/ 1034، 100/ 137، 179، 101/ 179، 109/ 907، 127/ 907، 145/ 907، 164/ 907، 180/ 907، 193-195/ 835، 214/ 82.
27- سورة النمل:
8/ 968، 10/ 969، 12/ 468، 16/ 245، 431، 1084، 17/ 1092، 25/ 570، 30/ 57، 38-39/ 839، 1085، 40/ 1085، 41/ 1085، 65/ 95.
28- سورة القصص:
5/ 525، 6/ 213، 525، 7/ 1087، 26/ 905، 30/ 969.(3/1180)
29- سورة العنكبوت:
8/ 1103، 14/ 762، 853، 37/ 1103، 41/ 631، 46/ 780.
30- سورة الروم:
5/ 905، 8/ 710، 21/ 516، 46/ 723.
31- سورة لقمان:
13/ 541، 748.
32- سورة السجدة:
5/ 92، 7-8/ 829، 1127، 11/ 823، 835، 12/ 78، 137، 13/ 137، 525.
33- سورة الأحزاب:
9/ 723، 33/ 112، 113، 141، 44/ 65، 48/ 618، 59/ 508.
34- سورة سبأ:
14/ 681، 15/ 1128، 22/ 938، 28/ 90/ 37/ 919، 47/ 908.
35- سورة فاطر:
1/ 835، 2/ 919، 9/ 723، 10/ 825/ 32/ 80، 433، 33/ 80، 37/ 137، 42/ 936.
36- سورة يس:
21/ 908، 23/ 220، 38/ 554، 598، 60/ 832، 71/ 69.
37- سورة الصافات:
7/ 1045، 10/ 1045، 83/ 183، 113/ 172.
38- سورة ص:
17/ 910، 29/ 710، 36-37، 1092، 75، 69، 102، 132، 86-88/ 908.(3/1181)
39- سورة الزمر:
3/ 365، 7/ 137، 142، 144، 23/ 985، 28/ 890، 42/ 823، 47/ 63، 53/ 341، 828، 62/ 345، 67/ 101، 68/ 774، 835، 71/ 525، 73/ 835.
40- سورة غافر:
7/ 835، 11/ 138، 57/ 556، 60/ 336.
41- سورة فصلت:
12/ 668، 13/ 1103، 14/ 914، 26/ 984، 30/ 835، 39/ 915، 40/ 226، 41-42/ 70، 103، 134، 153، 171، 53/ 596.
42- سورة الشورى:
5/ 835، 11/ 56، 128، 131، 167، 284، 14/ 433، 21/ 783، 23/ 111، 141، 178، 908، 44/ 155، 45/ 138.
43- سورة الزخرف:
13/ 131، 20/ 141، 33/ 825، 77، 835، 84/ 264.
44- سورة الجاثية:
5/ 33/ 63.
45- سورة الأحقاف:
35/ 910.
46- سورة محمد:
15/ 1132، 24/ 134، 407، 38/ 272.
47- سورة الفتح:
26/ 749، 1081، 29/ 139.
48- سورة الحجرات:
4/ 728، 9/ 80، 338، 10/ 80، 14، 259، 287، 338.(3/1182)
49- سورة ق:
6/ 556، 560، 1101، 7/ 688، 8/ 1004، 1018، 35/ 65، 130، 39-40/ 910.
50- سورة الذاريات:
23/ 935، 25/ 835/ 52، 910، 967، 53/ 968، 56/ 839، 58/ 56.
51- سورة الطور:
34/ 710، 35/ 869، 40/ 908، 48/ 57.
52- سورة النجم:
1/ 244، 3-4/ 129، 45-46/ 694، 62/ 1007.
53- سورة القمر:
11/ 1116، 17/ 877.
54- سورة الرحمن:
5/ 554، 15/ 839، 19-20، 222، 628، 629، 21-22، 629، 27/ 57، 222، 33/ 839، 37/ 528، 41/ 922، 74/ 839.
55- سورة الواقعة:
10-19/ 1107، 20-21، 1109/ 57-62، 1134.
56- سورة الحديد:
3/ 56، 4/ 100، 7/ 917، 16/ 528، 22/ 63، 85، 25/ 136، 693، 913.
57- سورة المجادلة:
11/ 825، 21/ 904، 22/ 139، 178، 516.
58- سورة الحشر:
6-7، 427، 499، 8/ 111، 157، 9-10/ 61، 82، 110، 111، 157، 14/ 728.(3/1183)
59- سورة الممتحنة:
4/ 139، 9/ 516، 10/ 505، 507، 13/ 140.
60- سورة الصف:
8/ 460، 9/ 214.
61- سورة الجمعة:
9/ 425، 490.
62- سورة المنافقون:
9/ 919.
63- سورة التغابن:
8/ 226.
64- سورة الطلاق:
1/ 529، 12/ 668.
65- سورة التحريم:
3/ 56، 57.
66- سورة الملك:
2/ 905، 3/ 668، 710، 852، 1024، 4/ 710، 1024، 5/ 851، 1003، 1024، 1045، 1115، 7/ 774، 10/ 729، 13/ 771، 16/ 733.
67- سورة القلم:
10-13/ 919، 48/ 733.
68- سورة الحاقة:
5/ 938، 11/ 939، 16/ 528، 17/ 835.(3/1184)
69- سورة المعارج:
4/ 92، 29/ 1098، 1101، 30/ 435، 454، 1098.
70- سورة نوح:
1/ 761، 14/ 1125، 15/ 668، 17-18، 1128، 21/ 919، 23/ 785.
71- سورة الجن:
1/ 984، 1092، 6/ 1103، 7/ 839، 1045، 1103، 9-10/ 839، 1103، 12-15/ 839.
72- سورة المدثر:
25-26/ 70، 31/ 763، 48/ 137، 179.
73- سورة القيامة:
1/ 721، 3/ 626، 4/ 584، 626، 8-9/ 554، 16-19/ 134، 22-23/ 58، 64، 65، 96، 99، 152، 167، 230، 232، 243، 1002، 24-25/ 232.
74- سورة الإنسان:
1/ 1125، 3/ 1126، 30/ 119، 142.
75- سورة المرسلات:
1/ 851، 25-26/ 851، 48/ 749.
76- سورة النبأ:
12/ 668، 14/ 913.
77- سورة النازعات:
17/ 938، 20/ 944، 40-41/ 904، 42/ 929.
78- سورة عبس:
24/ 645، 27/ 713، 28، 695، 713، 29-30/ 713، 31/ 29، 92، 713، 773.(3/1185)
79- سورة التكوير:
15/ 212، 17-18/ 722، 879، 1031، 1032، 28-29/ 60، 86، 159.
80- سورة الانفطار:
6-8/ 554، 10-11/ 773، 835، 12/ 835، 17-19/ 527.
81- سورة المطففين:
15/ 65، 97، 99، 130، 22-23، 99.
82- سورة الانشقاق:
1/ 528، 7-8/ 748.
83- سورة البروج:
14/ 57.
84- سورة الطارق:
15-16/ 57.
85- سورة الأعلى:
1-3/ 1126، 4-5/ 635، 6-7/ 144.
86- سورة الغاشية:
6-7/ 915.
87- سورة الفجر:
1-2/ 214، 721، 878، 3/ 225، 10/ 734، 19-20/ 918، 21-22/ 57.
88- سورة البلد:
4/ 942، 8-10/ 1126، 11/ 781، 941، 12-13/ 781.(3/1186)
89- سورة الليل:
4/ 933، 14-17/ 771.
90- سورة الضحى: 1-2/ 935، 3/ 945، 5/ 943، 945، 6/ 930.
91- سورة الانشراح:
4/ 825، 5-6، 879.
92- سورة العلق:
2/ 947.
93- سورة البينة:
1/ 516، 8/ 57.
94- سورة الزلزلة:
4-5/ 1070، 7/ 106، 948، 8/ 106.
95- سورة العاديات:
6-7/ 527، 8/ 527، 939.
96- سورة القارعة:
6/ 775، 7/ 775.
97- سورة التكاثر:
1-2/ 932، 3-4/ 217، 5-6/ 623، 8/ 944.
98- سورة العصر:
2/ 927، 3/ 789.
99- سورة قريش:
3-4/ 398، 915.(3/1187)
100- سورة الماعون:
1/ 927.
101- سورة الكوثر:
1/ 753.
102- سورة النصر:
1/ 28.
103- سورة المسد:
4/ 409.
104- سورة الإخلاص:
4/ 128.
105- سورة الفلق:
3/ 1072.
106- سورة الناس:
6/ 839.(3/1188)
دليل الأحاديث النبوية:
أتدرون أي يوم ذلك؟ 754
إذا حلفت على يمين فرأيت 540
إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيء بالموت 286
إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ 66-168-169
أذكركم الله في أهل بيتي 61-82-112
ارجع فأحسن وضوءك 440
أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار 423
استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 498-499
اسكن أحد 347
أفتان أنت يا معاذ 747
اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه 307
أكرمهم عند الله أتقاهم 747
إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة 179
ألا إن القوة الرمي 747
ألا إني أوتيت القرآن ومثله مع 87
ألا تعجبون من دقة ساقيه 106
اللهم اشدد وطأتك على مضر 531
اللهم حاسبني حسابا يسيرا 748
اللهم لا مانع لما أعطيت 530
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله 472
أنزل القرآن على سبعة أحرف 73، 74(3/1189)
إن الله افترض عليكم الجمعة 492
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل 313
إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد 452
أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى 313
أن المقسطين عند الله على منابر من نور الحديث 333
إن منكم منفرين 747
أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس 457، 476
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها 233
أن النبي لا يورث 432
إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر 59، 97، 315
إنكم سترون ربكم عيانا 66
إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا 130
أن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا 551
إنه ليس الذي تعنون 271، 748، 977
أول ما خلق الله القلم 85
إياكم والجلوس بالطرقات 530
أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليالٍ 498
أين الله 58-59
تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما 746
الحج عرفة 747
حجي واشترطي 328-329
الحدود والجمعات والفيء والصدقات إلى الأئمة 292
خبيثة من الخبائث 768
خذوا من الأعمال ما تطيقون 747
خلق الله عز وجل التربة يوم السبت 752
الدين هو العقل ولا دين لمن لا عقل له 732
الذهب بالذهب والفضة بالفضة 540
رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع 783
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة 457، 458
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم 313(3/1190)
ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها 558
سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة 625
شغلونا عن الصلاة الوسطى 314، 748، 1080
صبرا آل ياسر موعدكم الجنة 994
الطاعون وخز أعدائكم من الجن 840
عجبا لأمر المؤمن 401
العلماء ورثة الأنبياء 433
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي 54
عليكم بلباس الصوف 315
فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا 529
قد أذن الله لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا 498
قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض 63
قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا 751، 757
كانت اليهود تقول: إذا جامعها من 532
كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 476
كلا يديه يمين 102
كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب 832
الكوثر نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة 751
لا تدع صنما إلا طمسته ولا 785، 854
لا تزال جهنم يلقى فيها 58
لا تسبوا أصحابي 432
لا تقتسم ورثتي دينارا 432
لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها 752
لا خير في دين ليس فيه ركوع 749
لا نورث؛ ما تركنا صدقة 431، 432، 909
لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى 747
لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال 713
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن 287، 341
لقد أنزلت علي الليلة آية 641
لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد 369، 407(3/1191)
للقرآن باطن وللباطن باطن 73
لله أشد فرحا بتوبة عبده 58
لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء 749
لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله فكيف بأصحابنا 270
ليس هو كما تظنون 541
ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة 324
ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات 384، 401
ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة 625
ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم 346
ما من مسلم يشاك شوكة 324
ما من مولود يولد إلا 540
ملعون من أتى امرأة في دبرها 619
ملعون من أتى امرأة وهي حائض 619
ملعون من عمل عمل قوم لوط 619
من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله 747
من أصبح جنبا أصبح مفطرا 274
من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ 90
من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده في النار 90، 1143
من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر 783
من يحفر بئر رومة فله الجنة 346
نهى عن كل ذي ناب من السباع وكل 768
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر 768
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة 442
وأسألك لذة النظر إلى وجهك 97
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء 530
وألزمهم كلمة التقوى قال: لا إله إلا الله 749
والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها 777
وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج 755
وفي بضع أحدكم صدقة 401(3/1192)
ويل للأعقاب من النار 422، 440
ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار 424
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به 424، 440
هل تضارون في رؤية القمر 66
هل نرى ربنا يوم القيامة 108
يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض 456
يا أيها الناس اعقلوا من ربكم وتواصوا بالعقل 732
يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم 832
يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء وإن الله قد حرم ذلك 435، 443،467
يا علي لا تتبع النظرة النظرة 457
يا معشر قريش اشتروا أنفسكم 82-83
يجيء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الرجل والنبي معه الرجلان 314
يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن 347، 350، 351
يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير 107، 108
يخرج منه -وأهوى بيده إلى العراق- قوم يقرؤون القرآن 351
يضحك الله إلى رجلين 58
يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه 101
يقول الله تعالى: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك 58
ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة 58
ينزل عيسى بن مريم فيقتل الدجال ثم 819
يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة 106(3/1193)
دليل الأعلام:
"حرف الألف":
آدم: 267، 268، 268، 269، 308، 309، 310، 316-317، 318، 336، 381، 382، 383، 632، 633، 726، 754، 761، 632، 633، 726، 754، 761، 830، إلى 833، 834، 1038، 1039، 1122، 1125، 1126، إلى 1130، 1136.
آصف بن أصغر علي فيضي: 14، 255
إبراهيم عليه السلام: 94، 113، 190، 202، 203، 240، 241، 289، 292، 320، 390، 398، 554، 643، 653، 654، 656، 719، 968، 1082، 1139
إبراهيم أطفيش: 40، 41
إبراهيم بن عبد الرحمن البليهي: 996
إبراهيم بن محمد بن هلال: 38
إبراهيم الهجري: 73
أبي بن كعب: 30، 32، 168، 247، 434، 442، 748، 749
أحمد بن إبراهيم بن الزبير القمي: 562
أحمد أمين: 715
أحمد البدوي: 996، 1118
أحمد البيلي: 272
أحمد حسن الباقوري: 18، 19، 1065، 1066
أحمد الحلواني: 161
أحمد بن حنبل: 29، 31، 36، 54، 55، 63، 66، 80، 87، 106، 165، 166، 168، 169، 271، 296، 307، 313، 314، 328، 333، 424، 428، 432، 433، 434، 455، 457، 474، 476، 499، 530، 541، 619، 747، 748، 749، 750، 752، 754، 768، 783، 786، 832، 854، 977، 1080، 1081، 1143
السيد أحمد خليل: 407، 408، 410، 981
أحمد سعد العقاد: 376، 395، 397، 399، إلى 402، 404، إلى 407(3/1195)
أحمد شاكر: 977
أحمد شعبان: 1112، 1113
أحمد عبد السلام الكرداني: 606، 611
أحمد عبد الغفور عطار: 993
أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي: 229
أحمد قرقوز: 605، 694، إلى 696
أحمد الكومي: 95، 96، 97، 98
أحمد محمد جمال: 590، 1066، 1069، 1120، 1134، 1139
أحمد محمد شاكر: 42، 73، 74، 87، 271
أحمد محمود سليمان: 614، 615، 617، 618، 619
أحمد محمود صبحي: 186
أحمد مصطفى المراغي: 495، 746، 748، 749، 753، 754، 759، 761، 763، 768، 771، 772، 784، 790، 796، 799، 802
أحمد بن المنير: 120.
أبو الأحوص: 73
الأخفش: 422
إدريس عليه السلام: 761، 823، 853، 1153
أربد بن ربيعة: 682
إسحاق عليه السلام: 113، 968، 115
إسحاق بن راهويه: 36
أبو إسحاق السبيعي: 184
أسماء بنت أبي بكر الصديق: 456
إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام: 190
أبو إسماعيل الأنصاري: 169
إسماعيل بن جعفر: 187، 253، 254
إسماعيل بن عبد الرحمن السدي: 32، 247، 313، 434، 627
إسماعيل مظهر: 1062، 1115، 1116، 1117
الأسود بن عبد المطلب: 927
الأسود بن يزيد: 30
أسيد بن حضير: 845
الأسيوطي الفلكي: 611، 636، 637
الأشعث بن قيس: 296
أبو الإصبع المصري: 874
الأصفهاني "أبو مسلم محمد بن بحر": 36
أبو الأعلى المودودي: 112، 113، 114
الأعمش: 439
ابن الأقضم: 39
إلكيا الهراس: 42، 417
أبو أمامة الباهلي: 315، 424
امرؤ القيس: 423
أمين الخولي: 17، 547، 548، 550، 552، 553، 580، 582، 583، 584، 587، 881، 883، 885، إلى 903، 907، 909، 911، إلى 914، 916، إلى 918، 920، 922، إلى 923، 926، 945، 946، 960، 961،، 972، 978، 979، 980، 981، 982، 1060، 1061، 1170
الأمين داود محمد: 274
أمينة قطب: 994
أمية بن خلف: 770
أمية بن أبي الصلت: 872(3/1196)
أنس بن مالك: 107، 222، 489، 714، 750
أنطون سعادة: 204
أنور الجندي: 730
أنور السادات: 992
الأوزاعي: 166، 417، 444، 506
أوس بن الصامت: 91
إياس بن سلمة: 233
إياس بن معاوية: 634
"حرف الباء":
ابن بابويه القمي: 197، 210، 211، 223، 224، 833
باقر شريف القرشي: 222
الباقلاني: 874
البخاري: 28، 31، 58، 59، 61، 66، 82، 83، 101، 106، 107، 108، 118، 169، 179، 185، 287، 300، 313، 346، 347، 351، 369، 370، 401، 422، 423، 432، 433، 434، 443، 452، 457، 498، 499، 501، 529، إلى 533، 540، 625، 747، 748، 749، 751، 752، 755، 757، 759، 767، 768، 871، 909، 977
أبو بردة رضي الله عنه: 307
برهان الدين البقاعي: 165، 410، 875
البستي: 39
بشار بن برد: 1033
البغوي: 102
أبو بكر الصديق: 28، 61، 75، 76، 90، 136، 145، 184، 185، 186، 215، 257، 275، 276، 294، 345، 431، 432، 498، 500، 534، 748، 770، 845
ابو بكر بن العربي: 42، 417، 439، 440، 478، 485، 535، 718، 1161
بكري العطار: 161
بلال بن رباح رضي الله عنه: 384، 386
البلخي "أبو القاسم عبد الله بن أحمد": 36
البيضاوي: 182، 305، 341، 350، 568
البيهقي: 63، 89، 90، 120، 166، 233، 315، 417، 423، 454، 558
"حرف التاء":
الترمذي: 54، 63، 66، 90، 271، 313، 432، 433، 454، 457، 530، 532، 533، 558، 747، 748، 749، 754، 759، 1081، 1143
التفتازاني "سعد الدين": 370، 371، 373، 410
توفيق الحكيم: 1059
توفيق علي وهبة: 1120
ابن تيمية: 29، 30، 35، 36، 54، 55، 56، 62، 63، 67، 68، 69، 73، 74، 75، 77، 79،(3/1197)
80، 81، 82، 84، 86، 88، 90، 91، 94، 114، 124، 136، 165، 166، 169، 170، 174، 175، 179، 185، 186، 235، 275، 474، 552، 558، 600، 709، 713، 755، 873، 1130
"حرف الثاء":
أبو ثعلبة الخشني: 768
الثعلبي: 34، 501
الثلاثي "يوسف بن أحمد": 39
أبو ثور: 428
"حرف الجيم"
جابر بن زيد: 282
جابر بن عبد الله: 424، 498، 499، 532، 714
جابر بن يزيد: 194، 227،
الجاحظ: 870، 873، 874
"الجبائي" أبو علي: 36
جبير بن مطعم: 869
جرير بن مطعم: 869
جرير بن عبد الله البجلي: 66، 457
الجصاص: 34، 42، 417، 478، 1161
جعفر الخلدي: 360
أبو جعفر الدوانيقي: 215
جعفر بن محمد الصادق: 75، 189، 191، 194، 207، 209، 210، 213، 214، 218، 221، 223، 224، 225، 234، 251، 253، 254، 307، 454، 494، 505، 508، 833
أبو جعفر المدني: 127، 523
جمال البنا: 1076، 1077
جمال الدين الأفغاني: 717، 803، 849، 850
جمال الدين الأفغاني: 122، 161، 163، 165، 166، 169، 175، 179، 226، 409، 426، 427، 429، 430، 568، 708، 1135
جمال عبد الناصر: 987، 992، 993، 994، 995
الجنيد: 360
ابن الجوزي: 53، 165، 315، 418، 759
جون لوك: 231
الجوهري: 322، 966، 1150
الجويني: 311، 332
أبو جهل: 928
"حرف الحاء"
ابن أبي حاتم: 168، 369، 753
الحازمي: 454
حافظ رمضان: 290
الحافظ القندوزي: 213
الحاكم: 106، 120، 271، 423، 619، 746، 754، 783، 840
ابن حبان: 313، 759
ابن حجر العسقلاني: 53، 714، 758، 759، 722، 847
الحجلي: 196(3/1198)
حذيفة بن اليمان: 468، 748، 832
الحر العاملي: 227، 234
ابن حزم: 71، 78، 165، 184، 185
حسان بن ثابت: 872
أبو الحسن الأشعري: 65، 169، 275، 277، 278
الحسن البصري: 30، 31، 32، 73، 117، 118، 233، 247، 313، 328، 422، 439، 442، 552، 634
حسن البنا: 204، 576، 592، 991
الحسن بن صالح بن حي: 275
الحسن العسكري: 38، 189، 195، 209، 215
الحسن بن علي: 77، 115، 187، 188، 207، 209، 214، 222، 225، 233، 234، 276، 312
الحسن بن محمد بو جمعة البعقيلي: 376
الحسن النحوي: 39
حسنين مخلوف: 98، 99، 100، 104، 107، 116، 117
حسين بن أحمد النجري: 39، 43
حسين الجسر: 803، 849
الحسين بن روح النوبختي: 210
حسين زكي: 269، 270، 272، 274
حسين صالح مسيبلي: 1072، 1073
الحسين بن علي: 77، 115، 186، 187، 189، 191، 207، 209، 222، 225، 234، 251، 276، 506
الحسين بن منصور الحلاج: 38
حسين النوري الطبرسي: 197، 198، 201
حسين هيكل: 810
حفص: 421
حفني شرف: 873، 875، 882
حمزة الزيات: 422، 438
حمزة سالم الصيرفي: 613
حميدة قطب: 994
حنفي أحمد: 571، 610
أبو حنيفة: 55، 165، 278، 327، 328، 329، 337، 335، 428، 441، 442، 452، 455، 474، 484، 515، 847
حواء: 267، 268، 269، 309، 316، 317، 381، 633، 831، 1122، 1136
الحويزي "عبده علي بن جمعة": 39
أبو حيان: 34، 320، 344، 495، 561، 562، 821، 822، 930، 947
"حرف الخاء":
الخازن: 7018، 1071
خالد محمد خالد: 1062
الخرقي: 43
الخطابي: 454، 869، 870، 874
الخطيب البغدادي: 29
الخلال: 166
خلف بن هشام: 127، 523
ابن خلكان: 32
خليفة عبد السميع خليفة: 612(3/1199)
ابن خليفة عليوي: 603
الخميني: 192، 211، 212، 213، 218، 219، 492، 493
"حرف الدال":
الدارقطني: 233
الدارمي: 54، 307، 457، 476
داروين: 830، 832، 834، 1122، 1123
داود عليه السلام: 475، 1083
أبو داود: 54، 85، 433، 542، 619، 748، 749، 752، 759، 768، 785، 854، 1080
أبو داود الظاهري: 417، 439
شمس الدين محمد "الداودي": 36، 37، 38، 440
الدجال: 77
أبو الدرداء: 369، 433، 552
"حرف الذال":
أبو ذر: 313، 1154
ذو الرمة: 423
"حرف الراء":
رابعة العدوية: 1109، 1110
الراغب الأصبهاني: 165، 707، 880، 895، 930، 981
الربيع بن حبيب: 299، 300
الربيع بن سبرة الجهني: 467
ربيعة بن عبد الرحمن: 68
ابن رجب: 53
رشاد خليفة: 613
ابن رشد: 499، 500، 502، 560، 821
"حرف الزاي":
الزبير بن العوام رضي الله عنه: 297، 355، 431
الزجاج: 112، 422، 442
الزركشي: 89، 370، 557، 558، 718
الزركلي: 40، 163، 304، 305، 608، 609، 639
زكريا عليه السلام: 431، 510
الزمخشري "أبو القاسم محمود بن عمر":
37، 165، 174، 305، 729، 874، 875، 930، 941، 942، 943، 944، 947، 1070
زهير بن أبي سلمة: 423
زياد بن أبي زياد: 276
زيان بن العلاء "أبو عمرو": 422، 439
زيد بن أسلم: 30، 32
زيد بن ثابت: 1154
زيد بن علي بن الحسين: 39، 220، 275، 276
زينب بنت جحش: 1154، 115
زين الدين العراقي: 552، 732
زيور باشا: 1059، 1061
"حرف السين":
سالم بن حمود بن شامس: 282، 289، 291، 293، 295، 296(3/1200)
الشافعي عبد الرحمن السيد: 436، 478، 479
الشبلي: 1109، 1110
شبلي شميل: 1117
الشحات السيد زغلول: 21
الشريف المرتضى: 37، 195، 197
شريك بن عبد الله: 185
الشعراني: 349
الشعبي: 489
شعيب عليه السلام: 105، 224
شلاير ماشر: 981، 982
شمس الدين الذهبي: 32، 169، 184، 185، 271، 759
شوقي ضيف: 588، 589
شهر آشوب: 220، 223
الشهرساني: 275، 277، 278
ابن أبي شيبة: 467، 768
شير محمد: 654
"حرف الصاد":
صادق الحسيني الشيرازي: 212، 224، 225
صالح باجية: 282، 283، 290
صبحي الصالح: 589، 603
صبيغ بن عسل: 714
صدقي البيك: 613، 699
صفوان بن المعطل: 476
ابن الصلاح: 370، 373، 736، 925
صلاح عبد الفتاح دحبور: 987، 988، 992، 996، 997، 999، 1040، 1054
صهيب: 66، 168
"حرف الضاد":
الضحاك: 345، 370، 455
"حرف الطاء":
أبو طالب: 145
طالوت: 654
طاوس بن كيسان: 29
الطاهر الحداد: 1074، 1075
الطبراني: 73، 619
الطبرسي "الفضل بن الحسن الطبرسي":
39، 174، 195، 197، 237
الطبري "ابن جرير": 31، 32، 36، 42، 73، 74، 87، 102، 165، 168، 333، 408، 409، 417، 439، 495، 500، 539، 618، 621، 627، 744، 749، 760، 783، 814، 820، 821
الطحاوي: 56، 70، 81
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: 297، 355، 468
طنطاوي جوهري: 564، 565، 566، 589، 605، 607، 638، 642، 643، 648، 652، 653، 657، 658، 659، 661، 664، 667، 670، 672، 673، 675، 676، 698، 1115
الطوسي: 39، 197، 210
طه حسين: 959، 1060، 1061(3/1202)
"حرف العين":
عائشة: 71، 215، 297، 323، 423، 432، 456، 476، 515، 532، 533، 748، 845، 1153
عائشة عبد الرحمن: 586، 587، 874، 882، 883، 901، 824، 926، 928، 930، 939، 941، 956، 1120
عاصم بن عدي: 91
عاصم بن أبي النجود: 421، 928
العاص بن وائل: 927، 928
أبو العالية الرياحي: 30، 32، 71، 441، 474، 484
عامر الشعبي: 30
عامر بن الطفيل: 682
عباس بن عبد المطلب: 83، 431
عباس محمود العقاد: 584، 585، 1106، 1110
عبد بن حميد: 36، 754
ابن عبد البر: 54، 169، 355، 440
عبد الجبار بن أحمد الهمداني: 36، 37، 874
عبد الحسين شرف الدين الموسوي: 221
عبد الحليم محمود: 358، 359، 361، 362، 363، 365، 396، 397
عبد الحميد بن باديس: 569، 570، 799، 802
عبد الحميد دياب: 605، 694، 696
عبد الرحمن تاج: 463
عبد الرحمن الدوسري: 94، 95
عبد الرحمن بن رستم: 40
عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: 708
عبد الرحمن السعدي: 122، 148، 151، 152، 153، 155، 156، 157، 158، 160، 206، 424، 425، 429، 431
أبو عبد الرحمن السلمي: 41، 75، 370، 375
عبد الرحمن عارف: 994
عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: 125، 150
عبد الرحمن بن عوف: 431
عبد الرحمن فراج: 1148
عبد الرحمن بن قاسم: 29، 77، 235، 755، 873، 1130
عبد الرحمن الكواكبي: 566
عبد الرحمن بن كيسان الأصم: 36
عبد الرحمن بنمجاهد:" 40
عبد الرحمن بن ملجم: 297
عبد الرحمن بن المهدي: 71
عبد الرزاق الصنعاني: 36، 233
عبد الرزاق البيطار: 162
عبد الرازق عفيفي: 470
عبد الرزاق نوفل: 572، 605، 612، 633، 634، 697، 701، 1110، 1111
عبد السلام عارف: 993
عبد السلام بن محمد القزويني: 37
عبد العزيز آل سعود: 124، 673
عبد العزيز إسماعيل باشا: 566، 567، 571، 572، 609، 620، 622(3/1203)
عبد العزيز جاويش: 725، 731، 740، 756
عبد العزيز بن خلف آل خلف: 574، 575، 1070، 1072
عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 149
عبد العزيز فهمي باشا: 1061، 1067، 1069، 1070
عبد العظيم الزرقاني: 372، 373، 374، 386، 546، 602، 604
عبد الفتاح إسماعيل: 994
عبد الفتاح أبوغدة: 822
عبد القادر بن أحمد الدومي "ابن بدران": 714
عبد القادر الجيلاني: 169
عبد القادر عطا: 106
عبد القادر المغربي: 723، 733، 734، 749، 753، 761، 762، 771، 773، 775، 786، 802، 849، 854
عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني: 100، 104، 105، 108
عبد القاهر البغدادي: 71، 76، 276، 277، 784
عبد القاهر الجرجاني: 874، 877
عبد الكريم الخطيب: 13، 521
عبد الكريم عثمان: 612
عبد الله بن اباض: 282، 284، 294
عبد الله بن أبي أوفى: 714
عبد الله الأهدل: 549، 550
عبد الله بن حارث بن جزء: 423
عبد الله بن حميد بن سلوم الأباضي: 283، 284، 286، 288، 299، 300
عبد الله الخباص: 996
عبد الله بن رواحة: 872
عبد الله بن الزبير: 504
عبد الله بن زيد بن عاصم: 424
عبد الله بن سبأ: 258
عبد الله بن سلام: 330
عبد الله شحاتة: 614
عبد الله بن عباس: 28، 29، 88، 90، 92، 93، 112، 113، 117، 118، 120، 179، 220، 222، 226، 247، 270، 309، 312، 313، 327، 332، 369، 407، 408، 424، 434، 439، 442، 443، 444، 454، 457، 466، 500، 504، 506، 416، 533، 539، 541، 542، 619، 627، 634، 714، 735، 736، 748، 757، 758، 759، 761، 871، 872، 928
عبد الله بن عمر: 111، 424، 504، 506، 529، 714، 768، 769
عبد الله بن عمر بن العاص: 29، 423
عبد الله بن فياض: 186
عبد الله كنون: 99، 100
عبد الله بن المبارك: 627
عبد الله بن محمد رضا العلوي: 39
عبد الله بن مسعود: 30، 71، 73، 88، 106، 247، 313، 327، 369، 458، 504، 531، 532، 541، 552، 558، 748، 783، 977(3/1204)
عبد الله بن مسكان: 206
عبد الله مصطفى المراغي: 741
عبد الله بن منيع: 362
عبد الله بن ميمون: 254
عبد الله بن وهب الراسبي: 291، 296
عبد اللطيف الكازراني: 38
عبد المتعال الجبري: 1119، 1142
عبد المتعال سيف النصر: 470
عبد المتعال الصعيدي: 741
عبد المجيد الزنراني: 629، 631
عبد المجيد عبد السلام المحتسب: 13، 550، 590، 591، 592
عبد الملك بن مروان: 215، 282، 294
عبد الملك بن جريج: 428، 627، 752، 758
عبد الواحد يحيى: 358
ابن أبي عبلة: 321، 324
عبيد بن عمير: 324
عبيد الله المهدي: 254
أبو عبيدة بن الجراح: 473
أبو عبيدة معمر بن المثنى: 873
أبو عبيدة معمر بن المثنى: 873
أبو عثمان الحداد: 71
عثمان بن عفان: 61، 75، 76، 184، 186، 215، 275، 276، 292، 294، 296، 297، 306، 345، 346، 347، 355، 424، 432، 452
عثمان بن عمر العمري الأسدي: 210
عثمان بن مظعون: 384، 386
عثمان بن محمد شطا البكري: 376
أبو عثمان النهدي: 714
عدلي باشا: 1060، 1061
عدنان زرزور: 987، 1039، 1040
عدي بن حاتم: 313، 529
ابن عرفة: 169
عروة بن الزبير: 113
العز بن عبد السلام: 165، 409، 725
ابن عساكر الدمشقي: 714
عسكر بن هوسر: 215
العشماوي أحمد سليمان: 996
ابن عطاء الله السكندري: 373
عطاء الخراساني: 627
عطاء بن أبي رباح: 29، 455، 515
عطية صقر: 802
عطية الغرناطي: 822
عطية محمد سالم: 123، 124، 125، 126، 234، 426
عطية النجراني: 39
عفت محمد الشرقاوي: 12، 563، 603، 878، 949، 950، 950، 952، 954، 981، 987، 988
عقبة بن عامر الجهني: 714، 747
عكرمة مولى ابن عباس: 29، 112، 113، 312، 627
علاء الدولة السمناني: 41
أبو العلاء المعري: 925
علقمة بن قيس: 30
علي بن إبراهيم القمي: 38، 206، 496
علي بن جعفر: 509
علي بن الحسين "زين العابدين": 189، 191، 208، 209، 223، 251،(3/1205)
428، 441، 495
علي رفاعي محمد: 96، 97، 100، 111
علي بن زيد: 120
علي السيد صبح المدني: 426
علي شلبي: 470
علي بن أبي طالب: 61، 75، 76، 77، 82، 106، 109، 113، 115، 183، 184، 185، 187، 188، 191، 194، 198، 207، 208، 209، 214، 216، 218، 220، 222، 224، 225، 230، 233، 251، 275، 276، 277، 281، 291، 292، 295، 296، 297، 337، 345، 347، 350، 352، 355، 378، 379، 384، 385، 394، 424، 431، 442، 454، 457، 459، 467، 469، 495، 499، 500، 502، 504، 533، 551، 552، 561، 706، 748، 785، 854
علي عبد الرازق: 959، 1059، 1061
علي بن عبد الله بن عباس: 220
علي بن أبي العز: 56، 64، 79، 81، 715
علي بن عيسى "الرماني": 36، 874
علي فكري: 560، 607، 609
علي محمد حسب الله: 802
علي بن محمد السمري: 210
علي بن محمد "الهادي": 189، 209
علي بن موسى "الرضا": 189، 209، 224، 244
عمار بن ياسر: 242
عمران بن حصين: 754
عمران بن حطان: 191، 251
عمر بن الخطاب: 28، 61، 75، 76، 92، 136، 184، 185، 186، 215، 233، 247، 275، 276، 291، 292، 294، 345، 369، 407، 408، 431، 459، 467، 468، 469، 499، 500، 501، 502، 503، 504، 713، 714، 748، 773، 781، 869، 977، 1152
عمر الدسوقي: 254
عمر بن أبي ربيعة: 872
عمر بن عبد العزيز: 31، 356
عمر كحالة: 40، 163، 305
عمرو بن شعيب: 424
عمرو بن العاص: 191، 251، 290، 714
عمرو بن عبيد: 32
العياشي: 38، 194، 196، 215، 224، 227، 243
عياض: 70، 71، 440
عيسى بن مريم عليه السلام: 77، 261، 262، 264، 719، 807، 808، 814، 826، 1047، 1087، 1089(3/1206)
"حرف الغين":
الغزالي: 165، 166، 226، 227، 371، 372، 373، 374، 410، 411، 456، 550، 553، 555، 557، 558، 647، 664، 732، 803
الغزالي خليل عيد: 115، 116، 430، 431
غيلان الدمشقي: 714
"حرف الفاء":
الملك فاروق: 463، 799، 800، 801
فاطمة بنت محمد: 83، 113، 115، 214، 222، 225، 432، 777
أبو الفتوح الرازي الحسين: 38
الفخر الرازي: 34، 43، 104، 109، 165، 171، 229، 230، 485، 495، 501، 508، 555، 557، 560، 561، 623، 827، 874، 930، 932، 947، 1108، 1110
الفراء: 170، 873
فرعون: 113، 212، 213، 372، 734، 808، 968
الفريابي: 368، 407
الفضل بن العباس: 457، 476
أبو الفضل المرسي: 558
فؤاد سزكين: 40
فهد بن عبد الله بن محمد: 24
الفيروز بن عبد العزيز: 148
فيصل بن عبد العزيز المبارك: 101، 102، 103
"حرف القاف"
ابن القاسم: 71
قاسم أمين: 849، 958، 1066
القاسم بن محمد: 443
أبو القاسم الموسوي الخوئي: 190، 196، 199، 200، 201، 206، 208، 209، 237، 504، 505، 506
قتادة بن دعامة السدوسي: 30، 32، 88، 233، 247، 427، 428، 634، 758
ابن قتيبة: 36، 874
ابن قدامة: 71، 355، 356، 425، 712، 738
القرطبي: 34، 42، 84، 165، 417، 425، 440، 441، 449، 478، 485، 536، 1161
القشيري: 357
ابن القيم: 124، 155، 165، 166، 175
ابن قيم الجوزية: 77، 588
"حرف الكاف"
كامل علي سعفان: 878، 904، 905، 923، 926، 938
كامل كيلاني: 1062
الكتاني: 360، 821
ابن كثير "إسماعيل بن عمر": 36، 42، 93، 101، 103، 107، 109، 120، 139، 165، 172، 179، 182، 316، 425، 615، 627، 628، 631، 632، 634، 635(3/1207)
708، 744، 821، 1118
ابن كثير البصري: 325، 422، 439
كثير النوي: 275
ابن كرامة: 39
الكسائي: 422، 635
كعب الأحبا: 736، 744، 751، 752، 753، 755، 757، 758، 759، 760، 761، 762
كعب بن زهير: 525
كعب بن عجرة: 168
الكلبي: 36
كمال جودة أبو المعاطي: 436، 482، 483، 485
الكتاني أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكتاني: 169، 315
ابن كيسان: 332
"حرف اللام":
لبيد بن ربيعة: 682
لوط عليه السلام 212
الليث: 417
لينين: 204
"حرف الميم":
ابن ماجه: 54، 66، 287، 424، 425، 434، 467، 493، 517، 747، 752، 783
ماركس: 204
المازري: 440
مالك: 55، 68، 71، 80، 89، 100، 101، 133، 165، 327، 328، 329، 355، 441، 442، 444، 455، 467، 474، 484، 746، 841، 902، 1044
ابن مالك: 123، 423، 424، 1069
المأمون: 254
ماوتسي تونغ: 204، 205
المتنبي: 525
مجاهد بن جبر: 29، 31، 84، 88، 89، 112، 117، 247، 312، 313، 428، 442، 634، 872
المجلسي: 209، 215
محجوب بن ميلاد: 829
محسن الأمين: 200
المحسن الكاشي: 196
محمد إبراهيم شريف: 12، 675، 888، 896، 897، 900، 949، 950، 952، 954، 955، 975، 977، 978، 980، 981، 986
محمد بن إبراهيم الشيرازي: 231
محمد بن إبراهيم الوزير اليماني: 277
محمد بن أحمد الإسكندراني: 566، 605، 679، 681، 685، 688، 690
محمد أحمد خلف الله: 901، 956، 959، 960، 963، 966، 970، 974
محمد بن أحمد السفاريني: 821
محمد أحمد الشمالي: 1146
محمد أحمد العزب: 958
محمد أحمد الغمراوي: 570، 571،(3/1208)
605، 611
محمد أحمد أبو فراخ: 698
محمد أسعد طلس: 849
محمد بن إسماعيل: 187
محمد إسماعيل إبراهيم: 547، 612، 626، 627
محمد أمان بن علي الجامي: 274
محمد الأمين الشنقيطي: 21، 122، 123، 127، 128، 129، 130، 131، 132، 134، 135، 136، 138، 139، 140، 146، 246، 421، 422، 424، 425، 428، 429، 431، 433، 434، 436، 490، 511، 512، 413، 520، 535، 543، 909، 1164
محمد جواد البلاغي: 238
محمد بهجت البيطار: 807
محمد البهي: 470
محمد توفيق بركات: 996
محد جواد مغنيه: 201، 203، 204، 209، 210، 218، 228، 229، 230، 231، 235، 236، 489، 490، 491، 494، 495، 511
محمد بن حسن الصيادي "أبو الهدى": 376
محمد بن الحسن العسكري "المهدي":
76، 189، 190، 191، 209، 210، 212، 213، 214، 215، 217، 223، 225، 791
محمد حسين الذهبي: 11، 32، 37، 38، 39، 40، 41، 78، 195، 227، 228، 235، 238، 265، 278، 279، 373، 463، 548، 549، 550، 552، 554، 582، 583، 602، 767، 1073، 1074، 1077
محمد بن الحسين السحري: 77
محمد حسين الطباطبائي: 193، 194، 195، 202، 203، 204، 206، 216، 218، 219، 220، 222، 223، 224، 226، 227، 236، 247، 250، 487، 489، 490، 495، 496، 497، 504، 506، 508، 509، 510، 511، 512
محمد بن الحسين ابن الغراء: 78
محمد بن الحسين بن القاسم: 40، 43
محمد الحسين آل كاشف الغطاء: 186، 188، 189، 191، 193، 200، 222، 234، 251
محمد حمد الحارثي: 281، 282
محمد حمزة: 95
محمد الخضر حسين: 1074، 1075، 1088، 1090، 1095
محمد الخضري: 296
محمد بن الخطيب: 376، 411، 412
محمد بن خلف بن المرزبان: 889
أبو عبد الله "محمد بن خليفة الوشتاني الأبي": 821
محمد دراز: 463، 575، 576، 868، 870
محمد رجب البيومي: 871، 872،(3/1209)
873، 874، 875
محمد بن رسول الحسيني: 77
محمد رشاد سالم: 185
محمد رشدي حمادي: 102، 103، 110، 117، 120، 521، 535، 536، 537، 538، 542، 544، 1164
محمد رشيد رضا: 384، 567، 568، 717، 718، 720، 721، 723، 724، 727، 734، 735، 736، 737، 738، 745، 747، 748، 750، 751، 752، 753، 756، 757، 758، 760، 762، 766، 768، 769، 770، 771، 780، 781، 782، 883، 784، 786، 787، 888، 789، 790، 792، 796، 799، 800، 803، 806، 807، 808، 810، 811، 812، 813، 816، 818، 822، 824، 826، 828، 830، 834، 836، 837، 848، 876، 878، 879، 981، 892، 1076
محمد رضا المظفر: 188، 190، 191، 199، 204، 207، 208، 216، 218
محمد رضا النجفي: 227
محمد زاهد الكوثري: 759، 822
محمد أبو زهرة: 186، 277، 463
محمد أبو زيد: 521، 959، 1062، 1076، 1078، 1080، 1081، 1082، 1084، 1087، 1090، 1091، 1094، 1096، 1097، 1100، 1101
محمد زيدان: 470
محمد بن سحنون: 71
محمد بن سعد الدبل: 574
محمد سعدي المقدم: 611
محمد سيد كيلاني: 961، 1115، 1117
محمد بن سيرين: 55، 328
محمد شفيع: 821
محمد بن شهاب الدين الفتوحي: 707
أبو محمد الشيرازي: 41
محمد الصادقي: 214، 215، 217، 218، 222، 225، 232، 237، 492، 493، 521
محمد الصباغ: 548، 550
محمد صديق حسن القنوجي: 436، 437، 438، 440، 442، 444
محمد طنطاوي: 95، 96، 97، 98، 109، 110، 425
محمد عاشور: 106
محمد عبد الجواد: 639
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: 469
محمد بن عبد العزيز السديس: 446، 470
محمد عبد الغني البيطار: 376
محمد عبد الله الجزار: 97، 118، 119
محمد عبد المنعم خفاجى: 98، 116، 117(3/1210)
محمد بن عبد الوهاب: 124، 361، 610، 806
محمد عبده: 17، 375، 383، 588، 718، 720، 721، 723، 725، 728، 730، 731، 734، 738، 739، 741، 742، 744، 746، 748، 750، 751، 755، 764، 765، 767، 769، 770، 773، 774، 775، 780، 781، 784، 787، 788، 789، 793، 799، 800، 803، 804، 805، 806، 811، 813، 814، 822، 823، 830، 832، 836، 838، 842، 843، 844، 849، 850، 876، 878، 883، 892، 930، 941، 981
محمد بن عثمان بن عمر العمري الأسدي: 210
محمد العثمان القاضي: 96، 101، 103، 104، 106، 107، 108، 110، 111، 112
محمد عزة دروزة: 584
محمد بن علي الإدفوي: 889
محمد بن علي "الباقر" "أبو جعفر": 188، 191، 194، 196، 208، 209، 211، 224، 227، 235، 251، 275
محمد بن علي "الجواد": 189، 209
محمد علي السايس: 436، 462، 465، 469
محمد بن علي الشوكاني: 39، 278، 425، 443، 615، 618، 621، 622، 623، 626، 632، 635، 708، 748، 820، 821، 828، 841، 985
محمد علي الصابوني: 105، 106، 107، 436، 446، 448، 449، 453، 454، 457، 458، 461، 510
محمد علي قطب: 996
محمد عفيفي الشيخ: 613، 628
محمد بن عمر الواقدي: 38
محمد فريد وجدي: 567، 568، 732، 733، 781، 796، 799، 802، 830، 1058، 1059
محمد فؤاد عبد الباقي: 164، 872
محمد فهر شقفه: 360
محمد بن القاسم الأنباري: 889
محمد قطب: 994
محمد كامل حسين: 254، 564، 588
محمد بن كعب القرظي: 30، 309، 1071
محمد ماضي أبو العزائم: 376، 395
محمد المبارك عبد الله: 802
محمد متولي الشعراوي: 572، 603
محمد مجتهد اللكنوي: 198
محمد المجذوب: 125، 470، 1119
محمد محمد حسين: 658
محمد محمود حجازي: 725
محمد مرتضى الحسيني: 38
محمد مرتضى الزبيدي: 83، 183
محمد مصطفى المراغي: 566، 567،(3/1211)
610، 717، 741، 745، 747، 772، 774، 799، 800، 801
محمد المكتوم: 253، 254
محمد نجيب: 922
محمد نووي الجاوي: 376
محمد المبارك: 987
محمد ناصر الدين الألباني: 63، 163، 732
الحاج محمد وصفي: 614، 620، 621
محمد بن يعقوب الكليني: 84، 208، 210
محمد بن يوسف أطفيش: 291، 293، 302، 303، 305، 306، 308، 335، 340، 341، 343، 344، 345، 347، 348، 350، 351، 352، 354، 514، 517
محمد يوسف موسى: 470
محمد يوسف هواش: 994
محمود أحمد مهدي: 574، 612، 635
محمود أبو رية: 959
محمود الرفاعي: 376
محمود شكري الألوسي: 169، 569، 610، 735، 754، 875، 1135
محمود شلتوت: 92، 463، 578، 580، 590، 720، 746، 756، 766، 773، 774، 796، 797، 799، 802، 812، 813
محمود أبو الفيض المنوفي: 573، 609
محمود القاسم: 624، 625
محمود محمد شاكر: 42، 88، 495
محمود محمد طه: 257، 262، 263، 266، 267، 269، 274، 1120
محمود مهدي الإستانبولي: 612
محيي الدين بن عربي: 41، 366، 367، 373، 375
المختار بن عوف "أبو حمزة": 297
المرادي: 39
ابن المرتضى اليماني: 166
ابن مردويه: 111، 222، 313
مروان بن الحكم: 191، 251
مريم عليها السلام: 815، 817، 818، 1087، 1088
مريم جميلة: 1411
مسروق: 30
مسلم: 55، 58، 59، 63، 66، 82، 106، 169، 184، 185، 233، 287، 300، 307، 313، 314، 323، 333، 351، 401، 422، 423، 431، 432، 435، 440، 443، 457، 476، 498، 499، 500، 529، 530، 532، 540، 625، 713، 748، 750، 751، 752، 755، 759، 768، 785، 854، 1080
مسلم بن خالد: 428
مسيلمة بن خالد: 118
مصطفى إسماعيل الرج: 1120
مصطفى زيد: 114، 115
مصطفى صادق الرافعي: 563، 569
مصطفى صبري: 822، 826، 961، 1060(3/1212)
مصطفى غالب: 187
مصطفى محمد الحديدي الطير: 12، 657، 658، 1112، 1120، 1148، 1149، 1152
مصطفى محمود: 585، 1062، 1117، 1121، 1124، 1126، 1129، 1130، 1137، 1139، 1140، 1142
مصطفى مسلم محمد: 5، 23، 604
مصعب بن عمير: 869
مطعم بن جبير: 452
ابن المطهر الحلي: 114، 211
معاذ بن جبل: 84، 116، 117، 747، 766
معاوية بن أبي سفيان: 186، 215، 281، 290، 295، 296، 297، 424
معاوية بن قرة: 106
معبد بن خالد الجهني: 714
المعتمد: 209
معيقيب: 424
المغيرة بن شعبة: 295
المفيد: 183، 184، 276
مقاتل بن بكير: 36
مقاتل بن سليمان: 39، 43
المقداد بن معد يكرب: 424الملا فتح الله كاشاني: 234
ملا محسن الكاشي: 38
مناع القطان: 5، 436، 470، 472، 477
ابن المنذر: 355، 425، 440
منصور حسب النبي: 605، 691، 693
ابن منظور: 1140، 1150
منيع عبد الحليم محمود: 396
موسى عليه السلام: 65، 94، 113، 146، 168، 170، 317، 318، 333، 334، 335، 336، 386، 468، 656، 719، 734، 757، 763، 764، 807، 808، 811، 812، 824، 831، 969، 1019، 1020، 1021، 1047، 1085، 1086، 1087، 1088، 1126، 1135
أبو موسى الأشعري: 168، 290، 714، 840
موسى بن جعفر "الكاظم": 187، 189، 209، 253، 509
موسى شاهين لاشين: 548
المهدي: 77، 78
مهدي فضل الله: 996
ميرزا حسن علي: 1135، 1138
ميرزا سلطان أحمد الدهلوي: 198
ميمون القداح: 254
"حرف النون":
النابغة: 423
ناصر القفاري: 185
نافع بن عبد الرحمن "أبو رويم": 421، 439
نافع بن الأزرق: 871، 872، 925(3/1213)
نجدة بن عويمر: 871
نجم داية: 41
ابن النديم: 37، 38، 40
النسائي: 90، 333، 428، 476، 540، 542، 732، 752، 754، 759
النسفي: 182، 370
نصر بن إبراهيم المقدسي: 502، 504
النعمان بن حيون: 255
نعمان خير الدين الألوسي: 610
نعمة الله الجزائري: 197، 200
نعمت صدقي: 612
نفيسة قطب: 994
النوبختي: 208
نوح عليه السلام: 761، 762، 763، 853، 907، 919، 1034، 1038، 1046، 1126
النيسابوري: 375
"حرف الواو":
الواحدي: 34، 370
واصل بن عطاء: 276
وكيع: 36
الوليد بن المغيرة: 927، 928، 985
ولي الدين الملوي: 718، 724
ولي الله الدهلوي: 169
وهب بن منبه: 751، 757، 758، 760
"حرف الهاء":
هارون عليه السلام: 146، 386
هاشم البحراني: 38، 196
هامان: 312، 313
أبو هريرة: 31، 65، 82، 101، 108، 191، 251، 423، 432، 468، 540، 552، 625، 732، 751، 752، 757، 758، 759، 768، 1154
ابن هشام: 304، 319، 877، 994
هلال بن أمية: 91
همام بن منبه: 31، 851
هود بن محكم الهواري: 40، 301
الهيثمي: 106
"حرف الياء":
ياقوت الحموي: 873
يحيى بن حمزة العلوي: 875
ابن يزيد: 39
يعقوب البصري: 127، 421، 523
يعقوب يوسف: 613، 628، 631
أبو يعلى الطبراني: 106
يوسف بن إبراهيم الورجلاني: 40
يوسف بن أحمد الزيدي: 278
يوسف العش: 29
يوسف العظم: 996
يوسف القرضاوي: 463
يوسف مروة: 611، 631، 632
يوسف النبهاني: 376، 610
يونس عليه السلام: 733(3/1214)
دليل المصادر والمراجع 1:
1- الأباضية بالجريد: صالح باجية، الطبعة الولى 1396، دار بوسلامة تونس.
2- الإبانة عن أصول الديانة: أبي الحسن الأشعري، تحقيق د/ فوقية حسين محمود، دار الأنصار، الطبعة الأولى 1397هـ، القاهرة.
3- أبو الهول قال لي: حافظ رمضان.
4- اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: دكتور محمد إبراهيم الشريف، الطبعة الأولى 1402، دار التراث، القاهرة.
5- اتجاهات التفسير في العصر الراهن: دكتور/ عبد المجيد المحتسب، الطبعة الثانية 1400، مكتبة النهضة الإسلامية عمان، الأردن.
6- اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: دكتور عفت الشرقاوي: جامعة عين شمس 1972م.
7- الاتجاهات الفكرية في التفسير: د/ الشحات زغلول، الطبعة الثانية 1397، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
8- اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط: مصطفى محمد الحديدي الطير، العدد 80، سلسلة البحوث الإسلامية 1395، مجمع البحوث الإسلامية.
9- الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين السيوطي، الطبعة الثالثة 1370، مصطفى الحلبي بمصر.
10- إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء: محمد الخضري بك، الطبعة التاسعة 1383، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
11- إحياء علوم الدين: أبي حامد محمد بن محمد الغزالي: مصطفى الحلبي بمصر 1358.
__________
1 لم أذكر منها إلا ما نقلت منه نصا.(3/1215)
12- إخوان الصفاء: عمر الدسوقي: دار نهضة مصر، القاهرة الطبعة الثالثة.
13- الأدب العربي المعاصر في سوريا: سامي الكيالي، 15 سلسلة، مكتبة الدراسات الأدبية، دار المعارف بمصر 1968.
14- الإسلام دين الفطرة والحرية: عبد العزيز جاويش، دار المعارف بمصر 1968م.
15- الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي، مكتبة الكليات الأزهرية 1389هـ.
16- الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان: إعداد وزارة الشئون الدينية والأوقاف في السودان 1398.
17- الإسلام عقيدة وشريعة: محمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة، بيروت.
18- الإسلام في عصر العلم: محمد أحمد الغمراوي، دار الكتب الحديثة 1978م.
19- الإسلام والطب الحديث: عبد العزيز إسماعيل، الطبعة الثانية 1959م، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة.
20- الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية: الشيخ محمد عبده، الطبعة السابعة، دار المنار 1367.
21- الأصلان العظيمان؛ الكتاب والسنة: جمال البنا، 1982م، مطبعة حسان القاهرة.
22- أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء، مؤسسة الأعلمي بيروت، الطبعة الثالثة 1397.
23- الأصول من الكافي: محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران 1388.
24- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي 1378، دار الأصفهاني، جدة.
25- أطواق الذهب في المواعظ والخطب: جار الله الزمخشري، مطبعة جمعية الفنون، بيروت 1293.
26- الإعجاز البياني للقرآن: الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف بمصر، 1971.
27- الإعجاز الطبي في القرآن: الدكتور السيد الجميلي، دار التراث العربي 1400، القاهرة.
28- الإعجاز العددي للقرآن الكريم: عبد الرزاق نوفل، الطبعة الثالثة 1975، مطبوعات الشعب.
29- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي، الطبعة الثامنة 1389، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.(3/1216)
30- إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق: الدكتور حفني محمد شرف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر 1390، الكتاب الرابع.
31- الأعلام: خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الرابعة 1979م.
32- الإكليل في استنباط التنزيل: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي دهلي المطبع الفاروقي 1296 على هامش تفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" للأيجي الصفوي.
33- إكمال الدين وإتمام النعمة في إثبات الرجعة: محمد بن علي بن بابويه القمي، المطبعة الجلدية، النجف 1389.
34- إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: أبي عبد الله محمد بن خلفة الوشتاني الأبي، الطبعة الأولى 1327، مطبعة السعادة بمصر.
35- الإمام زيد: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، بيروت.
36- الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء: أبو عمر يوسف بن عبد البر، دار الكتب العلمية بيروت.
37- الأنوار النعمانية: نعمة الله الموسوي الجزائري، طبعة إيران.
38- أوائل المقالات في المذاهب المختارات: أبي عبد الله محمد بن النعمان العكبري الملقب بـ "المفيد" الطبعة الثالثة 1393، المطبعة الحيدرية، النجف.
39- بحار الأنوار: محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران 1387.
40- البحر المحيط: أبي حيان الأندلسي، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية 1398.
41- براهين: محمود القاسم، دار الهجرة بيروت، دمشق، الطبعة الأولى 1397.
42- البرهان في تفسير القرآن: هاشم سليمان البحراني، طهران 1375
43- البرهان في علوم القرآن: الإمام بدر الدين محمد بنعبد الله الزركشي، الطبعة الثالثة 1400، دار الفكر بيروت.
44- البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي، منشورات حمد، بيروت.
45- بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده.
46- بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، 1391 الناشر علي الرضا التونسي دمشق.
47- بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان الخطابي، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، دار المعارف بمصر.
48- بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد الجنابذي الخراساني، 1314 طهران.
49- البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي، دار الزهراء، بيروت الطبعة الرابعة 1395.(3/1217)
50- بيان المعاني: السيد عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني، 1382، مطبعة الترقي.
51- البيان والتبيين: الجاحظ، تحقيق فوزي عطوي، مكتبة الطلاب شركة الكتاب اللبناني، بيروت 1968م.
52- بين الدين والعلم: عبد الرزاق نوفل، القاهرة، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى.
53- تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى مطبعة المنار بمصر 1350.
54- تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة: عبد الله فياض، مؤسسة الأعلمي، بيروت الطبعة الثانية 1395.
55- تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، ترجمة محمود فهمي حجازي، جامعة الإمام محمد بنسعود الإسلامية 1403
56- تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.
57- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر الدمشقي.
58- تحرير الوسيلة: الخميني.
59- تذكرة الحفاظ: أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، مجلس إدارة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند 1375، الطبعة الثالثة.
60- التصوف بين الحق والخلق: محمد فهر شقفة، 1965م مكتبة دار الدعوة حمادة - سوريا.
62- التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، دار الشروق، بيروت القاهرة.
63- تطوير شريعة الأحوال اللشخصية: محمود محمد طه، الطبعة الثاثلة 1399.
64- تفسير آيات الأحكام: طبعة بدون ذكر اسم المؤلف، في مطبعة حجازي بالقاهرة، سنة 1356 وطبعة محمد علي صبيح وأولاده، بمصر سنة 1373، أشرف على تنقيحها وتصحيها الشيخ محمد علي السايس.
65- تفسير آيات الأحكام: الشيخ مناع القطان، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1384، دمشق، بيروت.
66- تفسير أسرار القرآن: عبد العزيز جاويش، مطبعة الهداية بالأستانة سنة 1331.
67- تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: عبد الحميد بن باديس، دار الفكر، الطبعة الثانية.(3/1218)
68- التفسير البياني للقرآن الكريم: الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، بمصر، الطبعة الثالثة 1968 والجزء الثاني الطبعة الثانية 1973.
69- تفسير جزء تبارك: عبد القادر المغربي، دار ومطابع الشعب مصورة من طبعة المطبعة الأميرية سنة 1366.
70- تفسير جزء عم: الشيخ محمد عبده، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح 1387.
71- التفسير الحديث: محمد عزة دروزة، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1381.
72- تفسير الخازن "لباب التأويل في معاني التنزيل": علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن، دار الفكر، بيروت.
73- تفسير أبي السعود "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم": أبي السعود محمد بن محمد العمادي، دار المصحف، القاهرة.
74- تفسير سورة الأحزاب: أبو الأعلى المودودي تعريب أحمد إدريس المختار الإسلامي، القاهرة الطبعة الأولى 1400.
75- تفسر سورة الأحزاب: الغزالي خليل عيد، مؤسسة المد الله للطباعة، والنشر والتوزيع. الرياض 1402.
76- تفسير سورة الأنعام: الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي 1396، مطبعة السعادة.
78- تفسير سورة الأنفال: الغزالي خليل عيد، مكتبة المعارف، الرياض سنة 1401.
79- تفسير سورة التوبة: الدكتور محمد طنطاوي 1399، مطبعة السعادة.
80- تفسير سورة العصر: محمد عبده، مطبعة المنار بمصر سنة 1345.
81- تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد طنطاوي، 1399، مطبعة السعادة بمصر.
82- تفسير سور المفصل من القرآن الكريم: عبد الله كنون، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1401.
83- التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: تأليف حنفي أحمد، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة 1980.
84- التفسير العلمي للقرآن الكريم: دراسة وتقويم بحث لنيل درجة الماجستير أعده الشيخ عبد الله بن عبد الله الأهدل، إشراف الدكتور محمد أحمد أبو فراخ، 1402.
85- تفسير العياشي: محمد بن مسعود العياشي، تحقيق هاشم المحلاتي، المطبعة العلمية، قم، إيران.(3/1219)
86- تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن: رشيد رضا، الطبعة الثانية، دار المنار بمصر 1367.
87- تفسير القرآن الحكيم: محمد عبد المنعم خفاجى، الطبعة الأولى 1959م، القاهرة.
88- التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الثانية 1978م.
89- التفسير الكبير: الفخر الرازي، الطبعة الأولى، الناشر عبد الرحمن محمد. القاهرة.
90- تفسير ابن كثير: مكتبة النهضة الحديثة بمصر، الطبعة الأولى 1384.
91- التفسير المبين: محمد جواد مغنية، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1398.
92- تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي، الطبعة الثالثة 1394، مكتبة مصطفى الحلبي بمصر.
93- التفسير معالم حياته -منهجه اليوم: أمين الخولي. جماعة الكتاب 1944م، وطبعة دار الكتاب اللبناني الأولى 1982م.
94- تفسير المنار: محمد رشيد رضا، الطبعة الرابعة، دار المنار مصر سنة 1373.
95- تفسير منهج صادقين "فارسي": الملا فتح الله الكاشاني، إيران.
96- التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة الطبعة الأولى 1381.
97- تقويم دار العلوم، "العدد الماسي": محمد عبد الجواد، دار المعارف بمصر.
98- تقييد العلم: الخطيب البغدادي، الطبعة الثانية، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت 1395.
99- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: أبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1399.
100- توفيق الرحمن في دروس القرآن: الشيخ فيصل بن عبد العزيز المبارك، الطبعة الأولى، المكتبة الأهلية، الرياض.
101- تهذيب تاريخ ابن عساكر: عبد القادر بن أحمد الدومي المعروف بـ "ابن بدران"، المكتبة العربية بدمشق، الطبعة الأولى.
102- تهذيب التهذيب: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: دار الفكر، بيروت مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند 1325.
103- تيسير التفسير للقرآن الكريم: محمد بن يوسف أطفيش، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان.(3/1220)
104- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المؤسسة السعيدية، الرياض.
105- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق وتخريج محمود وأحمد شاكر، دار المعارف بمصر.
106- الجامع الصحيح: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
107- الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة.
108- الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري، انتشارات آفتاب تهران.
109- جواهر القرآن: أبي حامد الغزالي، مكتب الجندي، مصر.
110- جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي، طبع في مصر الطبعة الثانية 1971م.
111- الحب: لابن الخطيب، المطبعة المصرية ومكتبتها.
112- الحركات الباطنية في الإسلام: مصطفى غالب "إسماعيلي معاصر" دار الكاتب العربي.
113- الحقيقة والمجاز في تاريخ الأباضية باليمن والحجاز: سالم بن حمود بن شامس السيابي. وزارة التراث القومي والثقافة. سلطنة عمان 1400.
114- الحكومة الإسلامية: تأليف من سمى نفسه السيد روح الله الخميني، الطبعة الرابعة.
115- حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالاته: عبد الله بن منيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1403.
116- حياة الإمام الحسن بن علي: باقر شريف القرشي، مطبعة الآداب، النجف. الطبعة الثانية 1390.
117- خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: سيد قطب، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الثانية 1965.
118- خطوات التفسير البياني للقرآن الكريم: الدكتور محمد رجب البيومي، مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب الثاني والأربعون، شوال 1391.
119- دراسات الأحكام والنسخ في القرآن الكريم: محمد حمزة، دار قتيبة، الطبعة الأولى.
120- دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: كمال جودة أبو المعاطي، جامعة الأزهر، كلية الشريعة والقانون 1400.(3/1221)
121- دراسات في القرآن: السيد أحمد خليل، دار المعارف بمصر 1972، وطبعة دار النهضة العربية بمصر 1969.
122- الدراسات القرآنية المعاصرة، بحث قدم لنيل الشهادة العالية من كلية الشريعة بالرياض إعداد الطالب: محمد بن عبد العزيز السديس إشراف الشيخ مناع القطان.
123- دراسة أدبية النصوص من القرآن: محمد المبارك، دار الفكر، الطبعة الرابعة 1392 بيروت.
124- دراسة حول النور من كتاب الله: أحمد شعبان محمد ومعه التقرير الذي كتبه الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير؛ ردًّا على هذه الدراسة وبناء عليه منع من النشر، والدراسة مسحوبة بالاستنسل.
125- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت مؤسسة الرسالة.
126- الدروس الدينية عام 1356: محمد مصطفى المراغي مطبعة الأزهر.
127- الدروس الدينية لسنة 1357: محمد مصطفى المراغي، مطبعة الأزهر 1939م.
128- دعائم الإسلام: النعمان بن حيون التميمي المغربي، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، الطبعة الثالثة. دار المعارف بمصر 1389.
129- دليل المستفيد على كل مستحدث جديد: الشيخ عبد العزيز بن خلف بن عبد الله الخلف. المطبعة العصرية. دمشق 1383.
130- الدين والتنمية الاجتماعية: محمود محمد طه، دار الطابع العربي الخرطوم، الطبعة الأولى 1394.
131- الذخيرة في تفسير أجزاء قرآنية: الشيخ محمد عبد الله الجزار، مطبعة أحمد مخيمر، القاهرة.
132- الذكر الحكيم: محمد كامل حسين، النهضة المصرية، القاهرة 1971م.
133- ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ضمن كتاب الملل والنحل، للشهرستاني، الناشر مصطفى الحلبي، بمصر 1387.
134- رسالة تحريم نكاح المتعة: لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي، دار طيبة للنشر والتوزيع. الرياض.
135- رسالة التوحيد: الشيخ محمد عبده، تصحيح محمد رشيد رضا، الطبعة الحادية عشرة 1365 دار المنار بمصر، وأيضا الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية 1315.
136- رسالة الصلاة: محمود طه، الطبعة السابعة 1399.(3/1222)
137- رسالة في العقل والروح: ضمن مجموعة الرسائل المنيرية الناشر، محمد أمين دمج، بيروت سنة 1970م.
138- الرسالة القشيرية: لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، تحقيق د/ عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف دار الكتب الحديثة، القاهرة.
139- روائع البيان تفسير آيات الأحكام: محمد علي الصابوني، مكتبة الغزالي دمشق، الطبعة الثانية 1397.
140- روح المعاني في تفسر القرآن العظيم والسبع المثاني: لأبي الفضل شهاب الدين محمود الألوسي، دار الفكر بيروت 1398، وطبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت عن طبعة إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة.
141- الروحية الحديثة دعوة هدامة: الدكتور محمد محمد حسين، دار الإرشاد بيروت الطبعة الثانية 1388.
142- الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم: محمد بن الوزير اليماني إدارة الطباعة المنيرية.
143- روضة الناظر وجنة المناظر: ابن قدامة المقدسي 1389، مطابع الجزيرة، الرياض.
144- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: تخريج محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي بيروت دمشق الطبعة الرابعة 1398.
145- سنن الدارمي: دار الفكر، القاهرة 1398.
146- سنن أبي داود: تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
147- السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند، الطبعة الأولى 1344.
148- سنن ابن ماجه: الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت.
149- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الإمام السندي: دار الفكر، بيروت 1398.
150- سورة الأحزاب: عرض وتفسير الدكتور مصطفى زيد، الطبعة الأولى 1389، دار الفكر العربي، القاهرة.
151- سورة الرحمن وسور قصار: الدكتور شوقي ضيف، دار المعارف بمصر 1971م.
152- سيد قطب الشهيد الحي: صلاح الخالدي، مكتبة القصى، عمان الأردن الطبعة الأولى 1401.
153- السيرة النبوية: ابن هشام تحقيق السقا، الأبياري، شلبي مطبعة مصطفى الحلبي بمصر 1355.
154- شرح العقائد النسفية: سعد الدين التفتازاني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة 1321.(3/1223)
155- شرح العقيدة الطحاوية: صدر الدين علي بن علي بن محمد بن أبي العز، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض وطبعة المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الرابعة 1391 بتحقيق جماعة من العلماء.
156- شرح الكافية الشافية: جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك، تحقيق الدكتور عبد المنعم هريدي، الناشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1402.
157- شرح الكوكب المنير: أبي البقاء محمد شهاب الدين الفتوحي، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع لأول مرة 1372، مطبعة السنة المحمدية القاهرة.
158- شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية: عبد المتعال الجبري، دار الاعتصام 1976م.
159- الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم: القاضي عياض بن موسى اليحصبي. الطبعة الأخيرة 1369، مصطفى البابي الحلبي بمصر.
160- الشهيد سيد قطب: جماعة أصداق الشهيد سيد قطب.
161- الشيعة بين الحقائق والأوهام: السيد محسن الأمين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت الطبعة الثالثة 1397.
162- الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية. دار الشروق، بيروت القاهرة.
163- الشيعة والرجعة: محمد رضا النجفي، مطبعة الآداب، النجف 1385.
164- الصافي في تفسير القرآن: الفيض الكاشاني، منشورات المكتبة الإسلامية طهران 1393، تصحيح أبو الحسن الشعراني.
165- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية 1402.
166- صحيح البخاري: المكتبة الإسلامية. استانبول، تركيا 1979م.
167- صحيح مسلم: تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي راسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض 1400.
168- صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم: الشيخ عبد الرحمن الدوسري، الطبعة الأولى 1401، مكتبة دار الأرقم، الكويت.
169- صفوة البيان لمعاني القرآن: الشيخ حسنين محمد مخلوف، دار الفكر.
170- صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت الطبعة الأولى 1400.
171- الصلة بين التصوف والتشيع: مصطفى كامل الشيبي، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية 1969م.(3/1224)
172- ضحى الإسلام: أحمد أمين، الطبعة العاشرة، دار الكتاب العربي، بيروت.
173- ضياء الأكوان في تفسير القرآن: أحمد سعد العقاد، الطبعة الأولى 1391.
174- طائفة الإسماعيلية: محمد كامل حسين. مطبعة لجنة التأليف، القاهرة الطبعة الأولى 1959م.
175- طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: عبد الرحمن الكواكبي، المطبعة العصرية، حلب.
176- الطبقات الكبرى: أبو عبد الله محمد بن سعد. مطبعة بريل 1332 ليدن، وطبعة دار صادر بيروت 1388.
177- طبقات المفسرين: شمس الدين محمد بن علي الداودي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة الطبعة الأولى.
178- طبقات المفسرين: جلال الدين السيوطي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة، القاهرة الطبعة الأولى 1396.
179- طريق الدعوة إلى الإسلام: محمد أمان بن علي الجامي المكتب الإسلامي، بيروت دمشق الطبعة الثانية 1399.
180- طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس السيابي، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان 1400.
181- عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر، دار الغدير، بيروت 1393.
182- العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام: رسالة لنيل درجة الماجستير أعدها الشيخ عبد الرحمن بن زيد الزنيدي إشراف الدكتور محمد السيد الوكيل 1403 كلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مسحوبة بالاستنسل.
183- علماء ومفكرون عرفْتُهم: محمد المجذوب، دار النفائس، بيروت الطبعة الأولى 1397، الجزء الأول.
184- علوم الحديث: لابن الصلاح، تحقيق نور الدين عتر، المكتبة العلمية المدينة المنورة 1386.
185- العلوم الطبيعية في القرآن: يوسف مروة، ومكتبة الهلال بيروت، الطبعة الأولى 1387.
186- علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، المكتب الإسلامي بيروت، دمشق الطبعة الأولى 1401.
187- على أطلال المذهب المادي: محمد فريد وجدي، الطبعة الثانية مطبعة دائرة معارف القرن العشرين بمصر 1931م.
188- على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال، الطبعة الثانية 1394، دار الفكر بيروت.(3/1225)
189- الغيبة: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي مطبعة النعمان، النجف، الطبعة الثانية 1385.
190- فاتحة الكتاب: الشيخ محمد عبده، الطبعة الثانية، القاهرة 1382، "1" كتاب التحرير.
191- فتاوي ابن الصلاح.
192- فتح الباري بشرح صحيح البخاري: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تصحيح عبد العزيز بن باز ترقيم محمد عبد الباقي، دار الفكر، تصوير عن الطبعة السلفية.
193- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمد بن علي الشوكاني، مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثانية 1383.
194- الفتح المبين في طبقات الأصوليين: عبد الله مصطفى المراغي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت الطبعة الثانية 1394.
195- الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة: الدكتور محمد الصادقي، دار التراث الإسلامي بيروت 1395.
196- الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي، دار الآفاق الجديدة، بيروت الطبعة الثانية 1977م.
197- فرق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختي تصحيح هـ. ريتر، مطبعة الدولة، استانبول 1931م.
198- فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، مخطوطة المجمع العراقي.
199- الفصل في الملل والأهواء والنحل: أبي محمد علي بن أحمد بن حزم، الطبعة الثانية 1395، دار المعرفة بيروت.
200- الفصول المهمة في أحوال الأئمة: محمد بن الحسن الحر العاملي، ط. إيران 1304.
201- الفكر الإسلامي بين الأمس واليوم: محجوب بن ميلاد، الشركة القومية للنشر والتوزيع، تونس.
202- فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة: رسالة قدمت لنيل درجة الماجستير من كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أعدها: الشيخ ناصر بن عبد الله القفاري، إشراف فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان 1401.
203- الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي، مكتبة الشباب بمصر.
204- الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثانية 1969م.
205- الفن القصصي في القرآن الكريم: الدكتور محمد أحمد خلف الله، الطبعة الرابعة 1972م، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة.(3/1226)
206- الفهرست: ابن النديم دار الباز، مكة المكرمة.
207- في ظلال القرآن: سيد قطب، الطبعة العاشرة 1402 دار الشروق بيروت القاهرة.
208- في ظلال القرآن دراسة وتحقيق: رسالة لنيل درجة الدكتوراه، "بالاستنسل": أعدها: صلاح عبد الفتاح دحبور، إشراف د/ أحمد فرحات 1404.
209- القاموس المحيط: مجد الدين محمد الفيروز آبادي، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.
210- قبس من التفسير الفقهي: د/ الشافعي عبد الرحمن السيد، الطبعة الأولى 1401، دار الطباعة المحمدية.
211- القرآن في الإسلام: السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة أحمد الحسيني، دار الزهراء، بيروت الطبعة الأولى 1393.
212- القرآن الكريم وعلوم الغلاف الجوي: محمد عفيفي الشيخ، مجلة الدعوة، المركز الإسلامي للدراسات والبحوث 1981م.
213- القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود، دار المعارف بمصر 1976م.
214- القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم، دار الفكر العربي القاهرة 1977.
215- القرآن والطب: أحمد محمود سليمان، دار العودة بيروت، دار الكتاب العربي، طرابلس.
216- القرآن والطب: الدكتور الحاج محمد وصفي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ومكتبة المثنى ببغداد الطبعة الأولى 1380.
217- القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل، دار الكتاب العربي، بيروت 1393.
218- القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المنوفي، الناشر عيسى الحلبي وشركاه 1971م.
219- القرآن وقضايا الإنسان: الدكتورة عائشة عبد الرحمن، دار العلم للملايين، بيروت الطبعة الثانية 1975م.
220- القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود محمد طه، السودان 1390.
221- القرآن ونهاية العالم: الأسيوطي الفلكي، دار الكتب الشرقية، القاهرة.
222- القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري، الطبعة الأولى، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1365.
223- قضية التصوف: الدكتور عبد الحليم محمود، دار المعارف بمصر 1981.
224- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: محمد جمال الدين القاسمي، تحقيق: محمد بهجة البيطار، الطبعة الثانية 1380، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.(3/1227)
225- القول الفصل في الرد على محمود محمد طه: حسين محمد زكي.
226- كشف الأسرار النورانية: أحمد الإسكندراني، الطبعة الأولى 1297، المطبعة الوهبية.
227- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة، دار العلوم الحديثة، بيروت.
228- كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة: عبد الرحمن بن رجب، المطبعة المحمودية بمصر.
229- كنت رئيسًا لمصر: مذكرات محمد نجيب، المكتب المصري الحديث، القاهرة الطبعة الرابعة 1984م.
230- الكون والإعجاز العلمي للقرآن: منصور حسب النبي شركة مكتبات عكاظ، السعودية الطبعة الأولى 1402.
231- اللآلئ الحسان في علوم القرآن: الدكتور موسى لاشين، مطبعة الفجر الجديد، القاهرة.
232- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
233- لسان العرب: ابن منظور، دار صادر بيروت.
234- لفتات علمية من القرآن: يعقوب يوسف، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة الطبعة الثانية 1390.
235- لمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ، المكتب الإسلامي بيروت 1394.
236- لمعة الاعتقاد: عبد الله بن أحمد بن قدامة، المطبعة السلفية القاهرة 1370.
237- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: محمد بن أحمد السفاريني، طبع على نفقة علي آل ثاني حاكم قطر.
238- ما دل عليه القرآن: محمود شكري الآلوسي، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة الثانية 1391.
239- المجددون في الإسلام: عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الآداب، ومطبعتها بالجماميز الطبعة الثانية 1382.
240- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطابع الرياض، الطبعة الأولى 1381.
241- محاسن التأويل "تفسير القاسمي": محمد جمال الدين القاسمي، صححه ورقمه وخرجه محمود فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة الطبعة الأولى 1376.(3/1228)
242- محاضرات عن عبد القادر المغربي: محمد أسعد طلس، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية 1958م.
242- مختصر تاريخ الأباضية: أبي الربيع الباروني، مكتبة الاستقامة، تونس الطبعة الثانية.
244- مدخل إلى القرآن الكريم: الدكتور محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت ترجمة محمد عبد العظيم علي، الطبعة الثانية 1399.
245- المدنية والإسلام: محمد فريد وجدي المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1353.
246- المراجعات: عبد الحسين شرف الدين الموسوي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت.
247- المستدرك على الصحيحين: محمد بن عبد الله الحاكم، مكتبة النصر الرياض.
248- مسند الإمام أحمد: المكتب الإسلامي، دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة المطبعة الميمنية 1313، وطبعة دار المعارف بمصر سنة 1370 تحقيق أحمد شاكر وطبعة الاعتصام، تحقيق عبد القادر عطا والدكتور محمد أحمد عاشور.
249- مشاهير علماء نجد وغيرهم: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، الطبعة الأولى 1392.
250- المصحف المفسر: محمد فريد وجدي، كتاب الشعب.
251- مصرع التصوف: برهان الدين البقاعي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل 1372.
252- المصنف: أبو بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي، تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور جاد الله أحمد، وزارة التراث القومي والثقافة سلطنة عمان 1979م.
253- المصنف: عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: الأعظمي حبيب الرحمن، المجلس العلمي كراتشي، دار القلم بيروت 1392.
254- مصنف ابن أبي شيبة: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تحقيق وتصحيح عامر العمري الأعظمي، الدار السلفية، الهند، الطبعة الأولى 1400.
255- معالم الشريعة الإسلامية: الدكتور/ صبحي الصالح، دارالعلم للملايين، بيروت الطبعة الأولى 1975م.
256- معالم في الطريق: سيد قطب، الطبعة الثالثة 1386.
257- معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي المختار الإسلامي، القاهرة الطبعة الأولى 1398.
258- معجزة القرآن العددية: صدقي البيك، مؤسسة علوم القرآن دمشق، بيروت الطبعة الأولى 1401.
259- معجم الأدباء: ياقوت الحموي دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الأخيرة.(3/1229)
260- معجم المفسرين: عادل نويهض، الطبعة الأولى 1403 مؤسسة نويهض الثقافية.
261- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة، مكتبة المثنى، بيروت دار إحياء التراث العربي بيروت.
262- معجم المؤلفين العراقيين: كوركيس عواد، مطبعة الإرشاد، بغداد 1969م.
263- مع الطب في القرآن الكريم: عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن دمشق الطبعة الأولى 1400.
264- المغني: أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة تصحيح محمد سالم محيسن والشيخ شعبان إسماعيل، مكتبة الجمهورية مصر ومكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
265- المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من الخبار: زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي ضمن إحياء علوم الدين للغزالي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1358.
266- مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى الشهير بطاش كبرى زادة، مراجعة وتحقيق كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور دار الكتب الحديثة، القاهرة.
267- المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، المطبعة الميمنية بمصر سنة 1324.
268- مقالات الإسلاميين: أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية 1389.
269- مقالات الكوثري: محمد زاهد الكوثري، مطبعة الأنوار، القاهرة.
270- المقالات والفرق: سعد بن عبد الله القمي، تحقيق وتعليق د/ محمد جواد مشكور، مطبعة حيدري طهران 1341.
271- مقدمة في التفسير: حسن البنا دار الشهاب 1978.
272- الملل والنحل: محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، تحقيق محمد سيد كيلاني مكتبة مصطفى الحلبي وأولاده بمصر 1378.
273- منار السبيل في الأضواء على التنزيل: الشيخ محمد العثمان القاضي، الطبعة الأولى 1393.
274- مناهج المفسرين: الدكتور منيع عبد الحليم محمود، دار الكتاب المصر، القاهرة، دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الأولى 1978.
275- مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية القاهرة.
276- المنتقى من منهاج الاعتدال: أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي تحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية.
277- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية: أبي العباس تقي الدين(3/1230)
أحمد بن تيمية، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، مصورة عن طبعة المطبعة الأميرية 1322، وطبعة مطبعة المدني بتحقيق محمد رشاد سالم القاهرة 1382.
278- منهاج الكرامة: الحسن بن المطهر الحلي المطبوع مع منهاج السنة النبوية لابن تيمية، بتحقيق محمد رشاد سالم.
279- المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: دكتور كامل علي سعفان، الطبعة الأولى 1981، مكتبة الأنجلو المصرية.
280- منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
281- من هدي القرآن: أمين الخولي، "1" الأعمال الكاملة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978م.
282- الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي، دار إحياء الكتب العربية القاهرة 1973.
283- موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ 1369.
284- المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي، دار الصادق بيروت، الطبعة الأولى 1389.
285- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1382.
286- الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت الطبعة الثانية 1394.
287- النبأ العظيم: الدكتور محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت الطبعة الرابعة 1397.
288- نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام: محمد زاهد الكوثري سنة 1362.
289- نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: أحمد محمود صبحي، دار المعارف بمصر 1969م.
290- النظم القرآني في سورة الرعد: محمد بن سعد الدبل، عالم الكتب 1981م.
291- نظم المتناثر من الحديث المتواتر: أبي عبد الله محمد الكتاني، المطبعة المولوية بفاس العليا سنة 1328.
292- نقد العلم والعلماء أو تلبيس إبليس: للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي خرجه، محمود مهدي الاستانبولي 1396.(3/1231)
292- نكاح المتعة عبر التاريخ: عطية محمد سالم، المؤسسة السعودية، القاهرة 1396.
293- النهر الماد من البحر: أبي حيان الأندلسي على هامش البحر المحيط، دار الفكر بيروت، الطبعة الثانية 1398.
294- نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن، تحقيق علي السيد صبح المدني، مكتبة المدني، جدة 1399.
295- الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم: الدكتور محمد محمود حجازي، دار الكتب الحديثة القاهرة سنة 1390.
296- الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا، الطبعة الثالثة 1354، مطبعة المنار بمصر.
297- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: محمد بن الحسن الحر العاملي، دار إحياء التراث العربي بيروت، تحقيق عبد الرحيم الشيرازي الطبعة الرابعة 1391.
298- الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن: محمد أبو زيد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1349.
300- هميان الزاد إلى دار المعاد: محمد بن يوسف أطفيش الطبعة الأولى بالمطبعة السلطانية في زنجبار 1314، وطبعة وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان 1401.
301- اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار: أنور الجندي الطبعة الأولى دار الاعتصام القاهرة 1398.
الصحف والمجلات:
1- جريدة الأهرام المصرية.
2- جريدة الأيام السودانية.
3- جريد الرأي العام الكويتية.
4- جريدة الرياض السعودية.
5- جريدة الصحافة السودانية.
6- جريدة المدينة المنورة السعودية.
7- مجلة الأمة القطرية.
8- مجلة صباح الخير المصرية.
9- مجلة العربي الكويتية.
10- مجلة كلية أصول الدين -جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
11- مجلة الكويت الكويتية.
12- مجلة المنار المصرية.(3/1232)
دليل المحتويات:
الموضوع الصفحة
المقدمة 7
التمهيد 25
الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير 49
تمهيد 51
الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة 53
التعريف بهم 53
نشأتهم 54
مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة 56
بيان بعض عقائهم 62
أسس تفسير أهل السنة والجماعة 86
نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث 94
نماذج من المؤلفات فيه 122
1- تفسير أضواء البيان 123
2- تيسير الكريم الرحمن 148
3- محاسن التأويل 161
رأيي في هذا المنهج 181
الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم 183
التعريف بهم 183
بداية ظهور التشيع 185(3/1233)
الموضوع الصفحة
فرق الشيعة 187
الإمامية الاثني عشرية 189
أصولهم 189
منهجهم في التفسير 192
نماذج من تفسيرهم 202
أهم كتب التفسير المعاصرة عندهم 236
الميزان في تفسير القرآن 239
رأيي في هذا التفسير 249
رايي في هذا المنهج 250
الإسماعيلية 253
الجمهوريون 257
نماذج من تفسيرهم 262
الزيدية 275
منهجهم في التفسير 278
الفصل الثالث: منهج الأباضية في التفسير 281
التعريف بهم 281
عقائدهم 283
التفسير الأباضي 301
هميان الزاد إلى دار المعاد وتيسير التفسير 303
منهجه في التفسير 306
رأيي في هذا التفسير 353
الفصل الرابع: منهج الصوفية في التفسير 357
التعريف بهم 375
المراد بالتصوف 358
نشأة التصوف وتطوره 360
عقائد التصوف 362
من شروط التصوف 364
طبيعة التصوف 365(3/1234)
الموضوع الصفحة
أقسام التصوف 366
التفسير الصوفي النظري 366
التفسير الفيضي الإشاري 367
موقف العلماء من هذا اللون في التفسير 368
شروط قبول التفسير الإشاري 374
أهم المؤلفات في التفسير الإشاري 375
أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة 377
ثانيا: ضياء الكوان في تفسير القرآن 395
رأيي في التفسير الصوفي الحديث 407
فهارس الجزء الثاني:
الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير 413
الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير 415
أولا: فقه أهل السنة والجماعة 421
ثانيا: روائع البيان 446
ثالثا: تفسير آيات الأحكام 462
رابعا: تفسير آيات الأحكام 470
خامسا: قبس من التفسير الفقهي 478
سادسا: دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام 482
ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثني عشرية" 487
ثالثا: فقه الأباضية 514
الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير 519
المراد به 519
المؤلفات فيه 520
تفسير: أضواء البيان 522
تفسير: الموجز في تفسير القرآن الكريم 535(3/1235)
الموضوع الصفحة
الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير 545
المراد به 545
تعريفه 547
موقف العلماء السابقين منه 550
رأي المؤيدين 551
رأي المعارضين 559
موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي 563
أقوال المؤيدين 564
أقوال المعارضين 578
الرأي المختار 600
أهم المؤلفات فيه 604
نماذج للتفسير العلمي التجريبي في القرن الرابع عشر 615
أمثلة من المؤلفات في التفسي العلمي التجريبي في القرن الرابع عشر 638
أولا: الجواهر في تفسير القرآن الكريم 638
رأيي في هذا التفسير 677
ثانيا: كشف الأسرار النورانية 679
رأيي في هذا التفسير 688
ثالثا: الكون والإعجاز العلمي 691
رابعا: مع الطب في القرآن الكريم 694
خامسا: الإعجاز العددي في القرآن الكريم 697
رأيي في هذه المؤلفات 702
الباب الثالث: منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير: 703
تمهيد 705
المراد به 706
العقل في القرآن 707
مكانة العقل في الإسلام 709
نشأة المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة 715
منهج المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير 718
أهم مؤلفات المدرسة العقلية الاجتماعية الحديثة في التفسير 798(3/1236)
الموضوع الصفحة
أولا: تفسير القرآن الحكيم 803
ثانيا: تفسير جزء تبارك 849
رأيي ف يهذا المنهج 855
فهارس الجزء الثالث:
الباب الرابع: الاتجاه الأدبي في التفسير:
تمهيد 861
الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير 876
تطور التفسير البياني 876
قصة تأصيل هذا المنهج 881
مراحله ومعالمه 885
الدراسات التطبيقية 900
أمين الخولي 901
عائشة عبد الرحمن 924
محمد أحمد خلف الله 957
رأيي في هذا المنهج 972
الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير 983
المراد به 983
في ظلال القرآن سيد قطب 989
المؤلف 989
منهجه في التفسير 998
ملاحظات على هذا التفسير 1051
الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم 1055
تمهيد 1057
الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم 1065
الهداية والعرفان في تفسير القرآن 1076
الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم 1105
تمهيد 1105
نماذج من هذا اللون في التفسير 1106(3/1237)
الموضوع الصفحة
القرآن محاولة لفهم عصري 1117
الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في تفسير القرآن الكريم 1145
تمهيد 1145
رسالة الفتح 1148
الخاتمة 1157
الفهارس:
دليل الآيات القرآنية 1157
دليل الأحاديث النبوية 1189
دليل الأعلام 1195
المراجع والمصادر 1215
دليل المحتويات 1233(3/1238)