المجلد الأول
مقدمة
...
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله جعل القرآن ربيع قلوبنا وبهجة نفوسنا ونور عقولنا وهادي علومنا ومدبر أمورنا ومرجع خلافنا وموئل شقاقنا وحكم ما بيننا ونظام دولتنا ومنهج أمتنا ومحار1 فكرنا وملجأ تائهنا وهادي ضالنا وشفاء لما في صدورنا.
الحمد لله أنزل الفرقان وخلق الإنسان علمه البيان ومنحه عقلا يميز به بين الحق والضلال على هدي القرآن.
الحمد لله أرسل إلينا أفضل رسله من صفوة خلقه ليبين لنا خير كتبه فأخرجنا من أحلك ظلمة إلى أوضح سبيل, ووضح لنا معالم دينه وبسط لنا شرعه فهدى إلى صراط مستقيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده فكان خير قدوة ومنار الهدى.
ورضي الله عن صحبه الكرام وأرضاهم, ذادوا عن حياض الإسلام وباعوا المهج والأرواح في سبيله, كانوا جنود الإسلام حقا وجذوره الأولى فكانوا خير القرون.
وكيف لا يكونون خير القرون وفيهم رسوله وبينهم كتابه ... وهم هم ... ؟! إذا أشكل عليهم معنى أو غمض عليهم مرمى جاءوا إليه عليه الصلاة
__________
1 المحار: المرجع "المعجم الوسيط ج1 ص205".(1/7)
والسلام فوضحه لهم وبينه وجلا غموضه فحيوا بالقرآن حياة طيبة وتحركوا، وأبصروا به السبيل وأدركوا, وتهذبوا به وتخلقوا وعملوا به وتأدبوا، وصلوا به وأخبتوا وبه حاربوا وسالموا وبه قاموا ونهضوا وإن شئت فقل: ترقوا وتمدنوا وبلغوا ما بلغوا, فكانوا بحق جيلا قرآنيا فريدا.
وكيف لا يكونون كذلك وهم يستقون من نبع القرآن الصافي ومن معينه العذب ... وكيف لا يكونون كذلك وهم إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل إدراكا منهم أنهم إنما يتلقون أوامر الله سبحانه وتعالى لهم بالعمل فور سماعه ومن ثم لم يكن أحدهم ليستكثر منه في الجلسة الواحدة؛ لأنه كان يحس أنه إنما يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه1.
ذلكم الإحساس كان يفتح لهم آفاق القرآن ويفتح لهم أبواب العلم والمعرفة ومع هذا فقد كانوا، رضي الله عنهم، لا يجدون في بسيط الأرض على سعتها ومديد السماء على عرضها ملجأ إن هم قالوا في القرآن بغير علم, أو بما لا يعلمون.
على هذا المنهج الصافي والمورد العذب والنبع النقي كانت سيرة خير القرون ... وقدوة المسلمين وعلى قدر صفائه ونقائه كان صفاء ونقاء قلوبهم وعلى قدر مضائه كان مضاء سيوفهم فحملوا الكلمة والسيف يحميها ووصلوا في سنوات معدودة ما حسبوه أقصى الأرض, ولو علموا أحدا خلف ما وصلوا لخاضوا البحر إليه أداء للأمانة, وعرفانا للحق.
سار هذا المنهج يشق له طريقا في مسار التاريخ محافظا على صفائه ونقائه تماما كما يجري النهر العذب على سطح الأرض يسقيها, فينبت الزرع ويروي العطش ومتعة للناظرين.
هذا المنهج كهذا النهر, شق له طريقا في أرض التاريخ ينبوعه القرآن
__________
1 معالم في الطريق: سيد قطب ص20.(1/8)
الكريم ومصبه رضوان رب العالمين, من سلكه نجا وفاز فوزا عظيما, ومن حاد عنه هلك وخسر خسرانا مبينا.
وككل سبيل وكل طريق تحف به الدروب والطرق متقاطعة متخالفة كان هذا المنهج, فنشأت بجانبه مناهج أخرى وطرق شتى واتجاهات عدة, منها ما سلك هذا النهر، ومنها ما حاد عنه زاغ، ومنها ما وقف على شاطئه يلقي فيه بالأذى والحجارة يحسب نفسه تستطيع له سدا أو منعا. وما درى ذلك المسكين أنه يجني على نفسه، وأنه لن يبلغ شأوا ولن يقوم له أثر.
وما زالت هذه المناهج تزداد وتتنوع وتتسع وتضيق وتتجدد وتدرس, منها ما هو في دائرة المقبول, ومنها ما هو في دائرة المرفوض, ومنها ما يتردد بين الدائرتين يضرب هنا وهناك.
ولعل بزوغ شمس القرن الرابع عشر الهجري نفث في روح هذه المناهج الحياة من جديد -بعد أن فترت حينا من الدهر- بما جاء به من وسائل وأدوات حديثة تعين على الاطلاع, وتساعد على الانتشار.
فأشرقت بشروقها شمس المناهج التفسيرية للقرآن الكريم بما فيها من حق, وبما فيها من باطل.
وغربت شمسه منذ بضع سنين وغلقت أبوابه بما فيها من مناهج قديمة وجديدة, لكن المؤلفات فيه نفذت منه إلى القرن الجديد وما زالت بين أيدينا نتلوها ونقرؤها ونطبعها وننشرها.
فكان حقا واجبا أن تقدم دراسة وافية للمناهج في هذا القرن يبين فيها الأصيل والدخيل والصحيح والسقيم والمقبول والمردود علَّنا نتدارك في قرننا الجديد مساوئ سابقة ونأخذ منه محاسنه فنكون بذلك قد خطونا خطوات جادة ونكون بذلك قد استفدنا ممن قبلنا ونفيد من بعدنا في تنقية التفسير ومناهجه مما أصابه من الشوائب عبر القرون الماضية منذ أن كان صافيا نقيا إلى يومنا هذا فنعود به كما كان, ويصلح آخر هذه الأمة بما صلح به أولها.
وإذا كان الأمر كذلك فقد اخترت لنفسي أن أكتب هذه الدراسة(1/9)
لاتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري وإن كنت أدرك من نفسي قصورها ومن الموضوع سعته, لكني أعلم أن كل نفس مكلفة بما تستطيع فما وجدت لي عذرا أن أتركه ولم أجد أحدا قد سده.
فاخترت "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري" عنوانا لموضوع رسالتي لنيل درجة الدكتوراه؛ لأسباب عديدة سبقت الإشارة إليها ومجملها خمسة أمور:
أولها: أنا نعيش بعد القرن الرابع عشر الهجري مباشرة وما زالت الكتابة فيه بكرا, وما تزال الاتجاهات فيه واضحة المعالم بينة السبل, المستقيم منها والمنحرف.
ثانيها: أن في الإمكان توجيه الأذهان إلى الحق منها لسلوكه والتحذير من المنحرف وتقويم المعوج وتعديله, فما تزال الجادة فيه رطبة وما زالت الأغصان منه لينة.
ثالثها: ما اختص به هذا القرن من بين القرون السالفة كلها, من سهولة نشر المؤلفات وعرضها على الناس في وقت قصير مما كان له الأثر في كثرة المؤلفات وسرعة انتشارها بين الناس, فكانت دراسة هذه المناهج وعرضها أولى من غيرها نظرا للحاجة إلى ذلك.
رابعها: ما جد في هذا القرن من مناهج في التفسير, بعضها له جذور في القرون الماضية وبعضها جديد كل الجدة مما يوجب درسه ونقده وبيان ما له وما عليه.
خامسها: أن وسائل التفسير لم تكن فيه كما كانت من قبل بالكتابة والتدوين, بل جد فيها وسائل الإعلام الحديثة كالإذاعة والصحافة والرائي والندوات والمؤتمرات وغير ذلك, فكانت الحاجة ماسة لوضع المقاييس الصحيحة في أيدي الناس يزنون بها ما يسمعون, وينقدون بها ما يقرءون.
والأسباب غير ذلك كثيرة لا أظن أحدا يجهلها، ولعل فيما ذكرت منها الكفاية.(1/10)
ويلمس الحاجة الماسة إلى ذلك كل من جلس مجلسا ضم أشخاصا اختلفت درجات علمهم وتنوعت وطرح فيه للحديث موضوع التفسير وحدوده, سيدرك لأول وهلة أن منهم من تلتبس عليه السبل وتختلط عليه المناهج فلا يدرك إدراكا صحيحا أبعاد التفسير المقبول وحدوده, ولا معالم التفسير المردود, فقد يرد الصحيح ويقبل الخاطئ لا لشيء إلا لقصور في مقاييسه أو لأنه سمعه من فلان أو علان.
وقد تلمس الحاجة الماسة عند من هم أعلى درجة من أولئك حين ترى كثيرا من طلبة العلم وأهله يسألون بين حين وآخر عن ذلك التفسير أو ذلكم المفسر: ما منهجه, وما طريقته؟ ويسألون عن الحق في تفسيره وسواه. وقد تجد هذا واضحا في رجوعهم الكثير للكتب التي تختص بدراسة التفسير والمفسرين. ذلكم -مثلا- كتاب "التفسير والمفسرون" للشيخ محمد حسين الذهبي، رحمه الله تعالى، درس فيه اتجاهات التفسير من العهد النبوي إلى العصر الحديث, ودراسته هذه وإن كانت دراسة سريعة عجلى إلا أنها قد سدت فراغا كبيرا في الدراسات القرآنية يظهر هذا في أنه قل أن تجد باحثا في هذا المجال إلا ويرجع إلى هذا الكتاب ويستفيد منه.
وقد تلمس الحاجة لمسا سريعا حين يوجه إليك أحدهم -وكثيرا ما يحدث هذا- سؤالا يطلب منك فيه أن تدله على كتاب في التفسير يقرؤه, يسأل هذا ليس لعدم معرفته لتفسير للقرآن, ولكن لأنه يعرف كثيرا منها فاختلط عليه الحابل بالنابل وأصبح لا يفرق بين غثها وسمينها, فهو هنا بحاجة إلى من يميز له بين هذا وذاك فوجه إليك سؤاله.
لست أريد هنا أن أقرر الحاجة إلى مثل هذا البحث, لكني أردت أن أبسط الواقع الذي يعيشه الناس في عصرنا هذا مع هذا الفيض من المؤلفات في التفسير(1/11)
الدراسات السابقة:
وقد عثرت على بعض المؤلفات التي لها صلة في موضوعي هذا, وإن كان بينها وبينه فارق إلا أني أحب أن أشير إليها سريعا, فمنها:
1- اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث, للدكتور عفت محمد الشرقاوي، ومن عنوانه يظهر اقتصاره على بلد واحد من بلدان العالم الإسلامي وإن كانت هذه البلاد من أوفى البلاد الإسلامية وأكثرها علما إلا أن هناك اتجاهات ظهرت في مناطق أخرى ولا وجود لها في مصر, زد على هذا أنه بحث فيه ثلاثة اتجاهات هي:
أ- الاتجاه الاجتماعي في التفسير الحديث.
ب- الاتجاه الأدبي في التفسير الحديث.
جـ- الاتجاه العلمي في التفسير الحديث.
وليست هذه -كما سيظهر إن شاء الله في هذه الدراسة- هي كل اتجاهات التفسير في العصر الحديث. ولعل لهذا أثره في تغيير اسم الكتاب لما طبعه صاحبه مرة أخرى فسماه: "الفكر الديني في مواجهة العصر".
2- اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر, للدكتور محمد إبراهيم شريف، ومع أن هذه الدراسة قيمة وجادة إلا أن تقييدها بكلمتي "التجديد" و"في مصر" قصر الدراسة عن الهدف الذي أريده, زد على هذا اختلاف منهج الدراسة وطريقتها اختلافا كليا. ولا يقلل هذا من شأن هذا الكتاب فله عندي مكانة رفيعة في موضوعه, ولكني أردت بيان الفاصل بين موضوع بحثه وموضوع بحثي.
3- اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط للشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير.
وهو بحث ألقاه المؤلف في المؤتمر السادس لمجمع البحوث الإسلامية, والغرض الذي كتب له هذا البحث لا يوجب الاستيفاء والشمول فكان فيه إجمال لمناهج كثيرة أو عدم تعرض لها على الإطلاق.(1/12)
4- اتجاهات التفسير في العصر الراهن, للدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب. وقد صدر هذا الكتاب بعد تسجيلي لرسالة الدكتوراه بفترة قصيرة وقد بادرت للحصول على نسخة منه وكنت أظنه كمسماه ولكنه لم يكن كذلك. فقد صدر الجزء الأول منه, وفيه اتجاهات ثلاثة:
أ- اتجاه سلفي.
ب- اتجاه عقلي.
جـ- اتجاه علمي.
ووعد بصدور الجزء الثاني وفيه مناهج أخرى ولم يصدر هذا الجزء حتى ساعتنا هذه -فيما أعلم- زد على هذا أن دراسته لهذه الاتجاهات الثلاثة بحاجة إلى إعادة النظر:
فقد انخدع بعناوين بعض التفاسير, فهو يصنف مثلا تفسير "التفسير القرآني للقرآن" للأستاذ عبد الكريم الخطيب تحت الاتجاه السلفي لا لشيء إلا لعنوان التفسير ولست بهذا أغمط تفسير الخطيب, ولكني أراه ذا اتجاه آخر. أضف إلى هذا أنه يعنى بكتاب التفسير أكثر من عنايته بالمنهج الذي ينتمي إليه هذا التفسير, فهو أشبه ما يكون في جزئه الأول بدراسة لكتب في التفسير أكثر منه دراسة لاتجاهات التفسير, وبينهما فرق لا يخفى.
أما ما عدا ذلك من الدراسات التي اطلعت عليها فهي دراسات غير منهجية أو دراسات خاصة بمنهج واحد من مناهج عديدة.
لهذا, فقد عزمت بتوفيق الله سبحانه على الكتابة في موضوعي هذا "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري".
مخطط البحث:
وبعد دراسة لهذا القرن الرابع عشر والمؤلفات التفسيرية فيه وبعد سؤال أهل الذكر ومشورتهم, قرَّ قراري على أن تكون خطة البحث في مقدمة وتمهيد وخمسة أبواب وخاتمة كالآتي:(1/13)
- المقدمة.
- التمهيد: تحدثت فيه عن نشأة التفسير في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم المراحل التي مر بها عبر العصور الإسلامية, ثم تحدثت عن مناهج المفسرين السابقين وأهم المؤلفات في كل منهج, قصدت بهذا أن أضع قاعدة ترتكز عليها مناهج واتجاهات المفسرين في العصر الحديث؛ لنعرف من الجديد ما كانت جذوره ضاربة في القديم وراسخة وما كان منها جديدا يزيدها جمالا وبهاء وما كان نشازا منحرفا, ثم تحدثت عن فترة الركود في العالم الإسلامي, حتى عصر النهضة الإسلامية الحديثة ونهضة المؤلفات التفسيرية خاصة والمناهج التي قامت مع قيامها إجمالا.
- الباب الأول: تحدثت فيه عن الاتجاه العقدي في التفسير, وعنيت فيه بالتفاسير الحديثة التي تعنى بإبراز جوانب العقيدة وبيان دقائقها والرد على الخصوم بحيث يظهر فيها طابع الاهتمام ببسط العقيدة التي يعتقدها صاحب التفسير وإن كان لا يهمل إهمالا تاما الجوانب الأخرى.
وتطلب هذا مني أن أنظر في الفرق الإسلامية المعاصرة, الحق منها والباطل, وأن أنظر في النتاج العلمي لهذه الفرق عامة, وفي التفسير خاصة.
أما الفرق فكثيرة وعديدة منها ما هو إسلامي حقا, ومنها ما شطح وانحرف, ومنها ما خرج عنه وابتعد، ولو كانت دراستي هنا دراسة ملل ونحل للزمني الحديث عن كل واحدة منها, وما دام الأمر غير ذلك فإني تحدثت عن الفرق التي لها نتاج في التفسير منشور, ومن هنا فإني تحدثت عن أربع فرق:
أولاها أهل السنة والجماعة, وثانيتها الشيعة, وثالثتها الأباضية, ورابعتها الصوفية, وما عدا هذه الفرق فلم أتحدث عنه؛ إما لأنه اندثر وباد أو لأنه لا نتاج لهم في التفسير أو لأنهم خارجون عن الإسلام بالإجماع كالبهائية والقاديانية وغيرهم.
وعلى هذا فقد جاء الباب الأول في أربعة فصول:
الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في التفسير.(1/14)
الفصل الثاني: منهج الشيعة في التفسير.
الفصل الثالث: منهج الأباضية في التفسير.
الفصل الرابع: منهج الصوفية في التفسير.
ولا أكتمكم حديثا أني عانيت في هذا الباب والباب الأخير -كما سيأتي بيانه إن شاء الله- كثيرا في جمع المادة العلمية أولا ثم قراءتها ثانيا واستخراج مناهجها ثالثا ولا تخفى صعوبة العثور على مؤلفات أرباب الفرق المعاصرة خاصة إذا علمنا أن بعض هؤلاء لا يحرصون على نشر كتبهم ولا على اطلاع غيرهم عليها، بل ولا يسمحون أحيانا لأصحابهم بالاطلاع وقد حدثنا أصغر فيضي مثلا في مقدمته لتحقيق كتاب "دعائم الإسلام" وهو من كتب الإسماعيلية ما لاقاه من صعوبة في جمع المخطوطات حتى إن صاحب إحدى النسخ لم يسمح له بالاطلاع على نسخته إلا لمدة ساعة واحدة ولم يتركه ينفرد بها، بل أقام ابنه على رأسه حتى انتهت الساعة فأخذها منه هذا مع أصحاب مذهبهم, فكيف بالآخرين.
وأضرب مثلا لمعاناتي ما حدث لي في الحصول على تفسير لأحد المذاهب المعاصرة مع أن أتباعه ينكرون التقية ويرفضونها ومع هذا فقد التقيت بأحد علمائهم وشرحت له مهمتي فرفض أن يعيرني أو يقدم لي شيئا من كتبهم واتصلت بالمكتب الثقافي الذي يقوم بطبع مؤلفاتهم ولم أجد أية مساعدة, واتصلت بسفارتهم هناك وكان الصدود المقصود.
وعدت إلى الرياض هنا وكتبت إلى سفارة بلادهم وإلى وزارة التراث القومي عندهم وإلى مفتي بلادهم وفي كل حالة لا أجد إلا الصمت المطبق ثم ومن حيث لا أحتسب, هيأ الله لي الحصول على ما أردت.
ولم ينته الأمر إلى هنا أو لم أشأ أن ينتهي إليه فأردت أن أصل معهم إلى أقصى خطوة فكتبت إلى أحد علمائهم البارزين والمختصين بنشر تراثهم أعرض عليه أن أرسل إليه صورة لما كتبته عن مذهبهم ليبدي رأيه فيما كتبت أو إن كنت(1/15)
قد قلت عنهم حرفا ليس من بطون مؤلفاتهم أو إن كنت نسبت إليهم عقيدة أو قولا ليس في عقائدهم. ومع هذا فقد كان الجواب الصمت.
كنت أظن الأمر غير مقصود أول مرة وثانيها وثالثها, أما بعد ذلك فقد حسبته غير ذلك, لا تسألونني عن السبب فما زلت أبحث عنه.
عذرا لحكاية حادثة ما دعاني لذكرها هنا إلا أنها ليست حادثة شخصية بل هي حادثة علمية من حق أهل العلم علي أن أنشرها وأن يعلموا بها.
أولئك نفر وذلك موضع واحد من المواضع التي جهدت في الحصول على بعض مؤلفاتهم حتى حصلت عليها, والحمد لله.
أما من لم أحصل على كتبهم, فيرجع سبب ذلك إلى أحد أربعة أسباب:
أولها: أن كتبهم سرية لا يطلع عليها أحد سواهم, كالفرق الباطنية.
ثانيها: أن كتبهم مصادرة أو لم يؤذن لها بالنشر.
ثالثها: أنهم لم يؤلفوا في التفسير أو لم يطبعوا ما تم تأليفه لأسباب خاصة كالزيدية مثلا.
رابعها: قصوري الشخصي الذي لا يمكنني من الاطلاع على كل المؤلفات في التفسير.
هذا ما أردت بيانه في المقدمة فيما يتعلق بالباب الأول ومعذرة إن كان فيه إطالة, فما قصدت إلا البيان.
- الباب الثاني: وتحدثت فيه عن الاتجاهات العلمية في التفسير, وقسمته إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تحدثت فيه عن المنهج الفقهي في التفسير, وتناولت كتب تفسير آيات الأحكام.
وفي الفصل الثاني: تحدثت عن المنهج الأثري في التفسير, ونعني به كتب التفسير بالمأثور.(1/16)
وإن كانت كتب التفسير عامة تكاد لا تخلو من تفسير آيات الأحكام كما أن بعضها يوجد فيه تفسير بالمأثور, لكني عنيت المؤلفات التي اقتصرت على تفسير آيات الأحكام ولم تتناول غيرها في الفصل الأول أو المؤلفات التي أبرزت التفسير بالمأثور وأولته مزيد اهتمام وتتبعته حتى أصبح طابعها العام في الفصل الثاني.
أما الفصل الثالث: فتحدثت فيه عن المنهج العلمي التجريبي في التفسير وهو منهج وإن ضربت جذوره في عصور مبكرة في تاريخ الإسلام إلا أنه اتسع في العصر الحديث اتساعا كبيرا حتى كاد أن يصبح من سمات التفسير في هذا العصر أو كأنه ولد في هذا العصر وقد بينت أصوله التي يضرب بها في العصور السابقة ثم نهضته في العصر الحديث والحدود التي وصل إليها وما لهذا المنهج وما عليه, أو المقبول منه والمردود.
- الباب الثالث: وتحدثت فيه عن الاتجاه العقلي الاجتماعي في التفسير، وإنما مزجت فيه بين صفتين "العقلية والاجتماعية" لأنه قد اشتهرت بهما في العصر الحديث مدرسة واحدة في التفسير هي مدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده ولا يعني هذا أن لا يكون قد شاركها أحد في التفسير الاجتماعي الذي يعنى بإصلاح المجتمع وتشخيص عيوبه ثم علاجها على ضوء القرآن وإنما يعني أن هذه المدرسة قد أولت هذا الجانب من التفسير اهتماما خاصا وأنزلته منزلة كبيرة حتى اشتهرت به وعرفت، بل ولقبت به فصار بعضهم يسميها المدرسة العقلية وآخرون يسمونها المدرسة الاجتماعية؛ ولذا رأيت أن أمزج بين الصفتين في اتجاه واحد.
- الباب الرابع: وتحدثت فيه عن الاتجاه الأدبي في التفسير, وفيه فصلان
الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير، وتحدثت فيه عن مدرسة أمين الخولي التي اهتمت بهذا اللون من التفسير حتى أصبح سمة لتفاسيرهم, وقام به من بعده تلاميذه حتى كان له أسسه وقواعده.(1/17)
وفي الفصل الثاني: تحدثت عن منهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم ومع ندرة المؤلفات في هذا المنهج, فإن ما أحدثه تفسير سيد قطب، رحمه الله تعالى، من أثر في العصر الحديث ومن تلقي الأمة له بالقبول والرضا يرسم خطوطا واضحة لمنهج في التفسير جديد حتى وإن لم يسلكه حتى الآن إلا مفسر واحد؛ لأن السالك هنا هو سيد قطب, وحسبك به.
- الباب الخامس: "الاتجاه المنحرف في التفسير"
وهذا المنهج وإن كانت ولادته بدأت منذ العصور الأولى في صدر الإسلام إلا أنه في العصر الحديث اتخذ أشكالا وألوانا أخرى؛ ولهذا فقد قسمت الحديث فيه إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المنهج الإلحادي في التفسير
وقصرت الحديث فيه على التفاسير المنحرفة لعلماء متخصصين توافرت فيهم أكثر شروط المفسر, ومع هذا جاء تفسيرهم منحرفا ملحدا وينبغي أن أنبه هنا إلى أمرين هامين جدا في هذا المنهج بالذات:
أولهما: أنه يجب التفريق بين التفسير الملحد والمفسر الملحد, فقد يكون أحدهم ملحدا وتفسيره مقبولا؛ لأن الإلحاد جاء في غير هذا الموضع وقد يكون الأمر عكس هذا, فنعرض تفسيرا ملحدا وصاحبه غير ذلك؛ لأنه قال بهذا التفسير من غير أن يعلم ما يوقعه فيه أو ما يلزمه وحين نبه إلى خطئه وضلال تفسيره تاب وأناب, وبقي تفسيره ملحدا.
قصدت من هذا أن أبين أن من الأعلام الذين ذكرتهم من استقام وقد يكون فيهم من رجع عن تفسيره وقد يكون منهم غير ذلك.
ثانيهما: أني تحدثت أولا عن المنهج بعامة, فأجمع فيه الشوارد من هنا وهناك, وقد لا يكون لصاحب التفسير الذي أتيت به غير هذا التفسير, وبهذا فلا يكون من أصحاب المنهج ولا من ملتزميه.
وأضرب لذلك مثلا حين أورد تفسيرا ملحدا لآية قرآنية أو لآيتين لأحمد(1/18)
حسن الباقوري, فإن هذا لا يعني أن الباقوري صاحب منهج, ولا يعني أنه من ملتزميه بقدر ما يعني أن هذا التفسير لهذه الآية أو لهما تفسير ملحد يدخل في هذا المنهج من غير أن يدخل صاحبه معه في المنهجية والالتزام.
ثم إني تحدثت ثانيا عن أمثلة خاصة للمنهج فذكرت تفاسير التزمت المنهج الإلحادي في التفسير التزاما حقيقيا ليس في آية أو آيات, بل في قدر من الآيات تظهر فيه أسس متكاملة للمنهج الإلحادي, حتى صار طابعها فأصبحت جزءا منه.
هذان أمران أحببت التنبيه إليهما حتى لا يقول قائل: وضعت فلانا مع الملحدين وهو ليس كذلك أو يقول آخر: جعلت لفلان منهجا في التفسير وهو الذي لم يفسر من القرآن إلا آية أو آيتين, ولعل ما أردت بيانه قد بان.
وفي الفصل الثاني: تحدثت عن منهج المقصرين في التفسير وأعني بهم طائفة لم يدركوا شروط المفسر ولم يمنعهم هذا من أن يقولوا في القرآن بغير علم، وإنما سميته بهذا الاسم؛ لأن أصحابه قصروا عن استيفاء شروط المفسر, فكانوا كالقاصر في التصرفات.
وفي الفصل الثالث: تحدثت عن اللون اللامنهجي في التفسير وهم قوم ليسوا من هؤلاء ولا من أولئك حيث جاءوا بتفاسير لا تقوم على سند شرعي ولا على سند علمي آخر, بل جاءوا بها خبط عشواء فلا تناسق ولا تناسب فيما بينها, فهم لا يسيرون على منهج ولا يسلكون دربا واحدا، بل يذهبون يمنة ويعودون من حيث لا يشعرون يسرة, عافانا الله وإياكم من الزيغ والضلال.
- الخاتمة: وفي الخاتمة تحدثت عما توصلت إليه من نتائج وبينت المنهج السليم في تفسير القرآن الكريم، وعن أسس المنهج الذي يطلبه أبناء العصر الحديث والذي يجب -فيما أرى- أن يوليه أصحاب العلم والمعرفة من ذوي الاختصاص عنايتهم, وأن يوجهوا إليه همتهم.
وينبغي أن أشير إلى أمور أرى ضرورة التنبيه إليها هنا في المقدمة, منها: أني(1/19)
جانبت -ما استطعت- الاستطراد في الأبحاث وكان بإمكاني ما دامت أرض البحث مترامية الأطراف أن أستطرد في أبحاثه وأتوسع إلا أني خشيت أن يكون الاستطراد على حساب المادة العلمية الأصيلة, ولذا فإني اقتصرت في أكثر الأبحاث والمناهج على تقديم موجز لتاريخها والدراسات السابقة لها إن كان لها سابق, ثم ذكر أصولها وقواعدها وذكر أهم المؤلفات فحسب ثم إثبات ذلك بذكر نصوص متفرقة من هذه المؤلفات جميعا حسب أسس المنهج ثم دراسة لتفسير واحد أو لتفسيرين أظهر بها توافر هذه الأسس مجتمعة في كل واحد منهما وبهذا أثبت أسس المنهج أولا ثم التزام بعض المؤلفات به ثانيا وأرى ما نقص عن هذا قصورا حاولت تجنبه وما زاد عليه إطنابا حاولت تلافيه, ولعلي وفقت في ذلك إن شاء الله.
ومما يلزم التنبيه إليه أيضا أني قدمت الاتجاه العقائدي في التفسير وقدمت فيه منهج أهل السنة والجماعة فيه ليكون في أول الدراسة ميزانا يزن به القارئ ما يراه بعد من آراء, ونورا يتبين به معالم الطريق, ومعولا يهدم به صوامع الضلال والانحراف. ولهذا فإني لم أقف كثيرا عند الرد على بعض التفاسير الضالة إذ لو فعلت لجاء البحث بأضعاف حجمه, ولكان فيه من التكرار ما يبعث الملل ويفقد المنهجية فاكتفيت بتقديم بيان المنهج الحق في التفسير وحاولت جهدي أن أبين فيه الحكم الصحيح والتفسير الحق للمواضع التي تعد أصولا لمنهج آخر ليكون ردا متقدما على تفسير أو تفاسير خاطئة متأخرة.
فأذكر مثلا موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وبه يرد على ما يتلوه من مناهج يقلل أصحابها مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم- أو من مكانة بعضهم.
وأذكر مثلا موقف أهل السنة من عقيدة البداء والتقية والعصمة ونكاح المتعة وإن كانت هذه الأبحاث لا تعد من أصول عقائد أهل السنة أو من أسس منهجهم, كرد على من صرفوا آيات القرآن لتوافق ما جاءوا به. وأظن الأمر بعد هذا قد أصبح واضحا.(1/20)
ومن الملاحظات التي أنبه إليها أني لا أنقل عقائد مذهب وأصوله إلا من مؤلفات أتباعه فلم أنقل عقائد الشيعة مثلا إلا من مؤلفاتهم ولا الأباضية إلا من كتبهم, وهذا أمر واجب في مثل هذه الأبحاث فألزمت به نفسي فالتزمته والحمد لله.
ومنها أني قد أذكر تفسيرا في منهج وأذكره في منهج آخر لا يكون متعارضا مع المنهج الأول. فقد يكون مثلا تفسير "أضواء البيان" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- مثالا لمنهج أهل السنة والجماعة في التفسير ولا يمنع هذا أن يكون مثالا للتفسير بالمأثور؛ لاشتماله على المنهجين وعدم التعارض بينهما. وحين أفعل ذلك فقد يكون الباعث له أحد أمرين: إما قلة التفاسير في منهج فأضطر إلى ذكر تفسير سبق التمثيل به لمنهج آخر، وإما لكون هذا التفسير التزم المنهجين التزاما بينا حتى ظهرا فيه ظهورا أوضح من غيره, فأذكره هنا وأذكره هناك.
ومن ذلك أيضا أنه لم يكن من شأني بطبيعة الحال أن أتحدث عن المفسرين جميعا أو التفاسير كلها, فهذا عمل تقصر عنه طاقتي ويعجز عنه جهدي ويضيق عنه مجال البحث؛ لذلك ذكرت في كل منهج ما يثبت وجوده في فترة البحث ومجاله، ودرست أبرز التفاسير في ذلك وعنيت بالجانب التطبيقي لإثبات ما أقول, حتى لا يكون فيما أسوقه مظنة وقد سُبِقْتُ إلى هذه الطريقة1.
ولذلك قد لا أذكر في كتابي هذا تفسيرا بعينه وإن كان كبيرا ما دمت أشرت إلى غيره مثالا لمنهجه.
ولقد أثار التزام هذه الطريقة كما أثار على غيري ممن نهجوا هذا النهج صعوبات كثيرة, لعل أولها أني لا أكاد آنس إلى طريقة مفسر وأسلوبه حتى تنقلني طبيعة البحث إلى مفسر آخر له أسلوبه الخاص وطريقته الخاصة بل ومذهبه الخاص وعقائده الخاصة, وتلك صعوبة قد لا يعانيها إلا من يكابدها.
__________
1 انظر مثلا: الاتجاهات الفكرية في التفسير: د/ الشحات السيد زغلول ص2. وقد تناول في دراسته التفاسير حتى نهاية القرن الخامس الهجري.(1/21)
وألفت الانتباه أيضا إلى أني أذكر التاريخ حينا ولا أضع حرف الهاء علامة للهجري لأنه الأصل، وإذا ما ذكرت التاريخ الآخر فإني أذكر حرف الميم.
وأخيرا أحب أن أوضح أمرا هاما كان حقه التقديم إلا أن المسائل زاحمته فزحمته مع أنه قد يثور مع أول كلمة يواجهها قارئ هذا البحث حين يقرأ عنوانه "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري" ما المراد بالاتجاه؟ وما المراد بالمنهج؟ وما المراد بالطريقة؟
والحقيقة أن تلكم الكلمات الثلاث اصطلاحات حديثة لم أجد لها -فيما قرأت- ذكرا عند أصحاب الدراسات القرآنية الأوائل، وحتى أصحابها في العصر الحديث لا تكاد تجد اتفاقا على معنى واحد لكل منها؛ ولهذا ترى كثيرا منهم يعبر بهذه الكلمة مرة وبالأخرى مرة عن مدلول واحد وترى آخرين منهم يذكرون تعريفا لكل مصطلح منها ويذكر غيرهم غيره.
وعلى كل حال ما دامت هذه المصطلحات لم يقر قرارها, فإن من حقي أن أذكر هنا ما أردت بكل واحد منها.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الاتجاه -عندي- هو الهدف الذي يتجه إليه المفسرون في تفاسيرهم ويجعلونه نصب أعينهم وهم يكتبون ما يكتبون, أما المنهج فهو السبيل التي تؤدي إلى هذا الهدف المرسوم، وأما الطريقة فهي الأسلوب الذي يطرقه المفسر عند سلوكه للمنهج المؤدي إلى الهدف أو الاتجاه.
أضرب لذلك مثلا: جماعة يريدون السفر إلى مدينة واحدة، فانطلقوا واتجاههم تلكم المدينة لكنهم سلكوا مناهج مختلفة, منهم من سلك المنهج البري الأول ومنهم من سلك المنهج الثاني ومنهم من سافر جوا ومنهم من سافر بحرا وغير ذلك, وهذه كلها مناهج لاتجاه واحد. أما الطريقة فتظهر حيث إن أحد هؤلاء اتجه اتجاها مباشرا إلى الهدف وجعل آخرون سفرهم سياحة فلا يمرون في استراحة إلا واستراحوا فيها ولا يمرون بمدينة أو بقرية إلا ويتجولون فيها ولا يمرون بروضة أو حديقة إلا ويقضون سحابة يومهم فيها ولا يمرون بوادٍ(1/22)
أو بجبل إلا ويملئون النظر من تأمله, يفعلون هذا وهم سائرون على المنهج لا يخرجون عنه بعيدا ولا يسلكون منهجا آخر بعيدا عن الهدف.
ذلكم في رأيي هو مثل الطرق الخاصة للمفسرين وإن شئت تطبيقه على اتجاهات ومناهج وطرق المفسرين فإليك البيان:
قد يكون الهدف "الاتجاه" هو مسائل العقيدة وتقريرها وبسط معالمها والذود عنها وما يتعلق بهذا, ويظهر هذا الهدف على مجموعة من التفاسير فيكون الاتجاه لهذه التفاسير "الاتجاه العقدي".
ويسلك كل واحد من هؤلاء المفسرين سبيلا خاصا لتقرير العقيدة, فيسلك أحدهم أصول عقيدة أهل السنة والجماعة فيكون منهجه "منهج أهل السنة والجماعة" ويسلك آخر أصول عقيدة الشيعة فيكون منهجه "منهج الشيعة" ويسلك ثالث أصول عقيدة الأباضية فيكون منهجه "منهج الأباضية" وهكذا.
وقد تختلف طرق هؤلاء في التفسير، بل قد تختلف طرق أصحاب المنهج الواحد, فيبدأ أحدهم بالنص أولا ثم بيان المفردات ثم المعنى الإجمالي للآيات ثم يستخرج أحكامها, ويختلف آخر فيذكر النص أولا ويمزج بين المفردات والمعنى الإجمالي ويتوسع في هذا المقام فيبسط الحديث عند كل قضية ويرد على الشبه أثناء ذلك, ويختلف ثالث فيذكر بعد النص بيان المفردات ويخلطها بشيء من المعنى الإجمالي ثم يعقد الأبحاث المطولة بعد ذلك للقضايا التي تناولتها الآيات, وقد يفسر الآيات مرتبة كما هي في المصحف وقد يختار سورا محددة وقد يختار موضوعا خاصا يجمع أطرافه من مختلف السور, وهذا كله هو ما نقصده بطريقة المفسر.
ولعلي بهذا قد وضحت ما أردت من الاتجاه والمنهج والطريقة, وإن كنت قد خالفت فيه غيري فلا مشاحة في الاصطلاحات.
وقد كتبت ما كتبت, فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمني وغفر الله لي.
وجزى الله عني خير الجزاء أستاذي الدكتور مصطفى مسلم محمد المشرف(1/23)
على هذه الرسالة, الذي وجدت فيه خير معين بعد الله, فقد كان -وفقه الله- دقيق الملاحظة حسن التوجيه ولا نزكي على الله أحدا، فجزاه الله عني خير الجزاء وأجزل له المثوبة.
وجزى الله عني خير الجزاء كل من ساعد على إظهار هذه الدراسة بمساعدتي عند سفرهم لبعض البلدان بالبحث عن كتب معينة وإحضارها لي أو إعارتي إياها وإرشادي إليها وأخص بالشكر سمو الأمير فهد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الذي كان له فضل لا ينكر في ظهور هذه الدراسة, وفقه الله وسدد خطاه.
كما لا يفوتني أن أدعو لوالديّ أن يجزيهما الله عني من الخير أجزله ومن الثواب أعظمه جزاء ما أولياني إياه من حسن رعاية من غير سابق فضل مني ومن غير كلل ولا ملل, فلهما مني الدعاء أن يحفظهما ويمتع بحياتهما ويجعل الجنة ثوابهما وسائر المسلمين.
وختام شكري وخالصه من قبل ومن بعد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وصحبه إلى يوم الدين.
فهد بن عبد الرحمن الرومي
الرياض
يوم السبت 12/ 5/ 1405هـ(1/24)
التمهيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
نشأة التفسير:
قد أتى حين من الدهر على البشرية وهي تائهة ضالة على بسيط الأرض تعيش في بحار من الظلام وتسير في غمرة من الأوهام، ثم شاء الله أن يبعث فيهم رسولا منهم, يخرجهم من الظلمات إلى النور.
فدبّ فيها دبيب الصحة والعافية في جسد أنهكه المرض، وإن شئت فقل: أشرق فيهم نوره كما تشرق الشمس بعد ليل بهيم، فإذا بالنور يضيء أرجاء الأرض لا يستطيع له عدو منعا ولا يستطيع له دفعا، وإذا به يغشى أبصار الذين كفروا وإذا به يحرق أبصار الذين ألفوا الظلمة واعتادوا الضلال حتى صار جزءا من حياتهم فكانوا له محاربين وكانوا له معاندين ومكذبين، ولم يكن هؤلاء ولا أمثالهم بالذي يزعزع من كيان هذا النور أو يؤثر في سيره في الكون.
لم يكن ذلكم النور إلا دين الإسلام, وعماده وأساسه القرآن الكريم الذي تداعى المسلمون لقراءته وحفظه والعمل به فلم يكونوا ليتجاوزوا العشر الآيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل.
والعمل لا يكون إلا بعد علم وبعد فهم وتدبر لمعاني القرآن الكريم, وهكذا كان القوم -رضي الله عنهم- والفهم والتدبر لا يكون إلا بعد الكشف عن مرامي القرآن الكريم وبيان معانيه وحل ألفاظه وجلاء دلالاته, وهذه المعاني هي ما يجمعها مصطلح التفسير.(1/25)
والقوم كانوا خالصي العروبة والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين, فلا عجب أن يدركوا جل ذلك بهذه الخاصة إدراكا لا تعكره عجمة ولا يشوهه قبح ابتداع ولا يكدر صفوه عقيدة زائفة.
وكان عليه الصلاة والسلام يشرح لهم ما صعب عليهم فهمه بعد ذلك مما لا يعود فهمه إلى اللغة, ويجلي لهم ما عجزوا عن إدراكه امتثالا لأمر ربه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1.
وكان هذا الفهم المرتكز أساسا على مدلول اللغة وبيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو النواة الأولى للتفسير، وبهذا المنهج الصافي النقي كانت طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في فهم القرآن, وإن شئت أن ترى أثره فيهم فانظر إلى أثرهم في مجتمعهم بل وخارج مجتمعهم.
كانوا في مجتمعهم مثالا شامخا للمجتمع الإسلامي الذي بعث من أجله محمد -صلى الله عليه وسلم- حين جعلهم خير القرون, وجعلهم القدوة لمن سيأتي بعدهم من المسلمين.
وكانوا خارج مجتمعهم جنودا للدعوة إلى الإسلام بالكلمة الصالحة وبالنفس والنفيس حتى ارتفعت راية الإسلام في شرق الأرض وغربها في بضع سنين, وحتى دانت لهم أرجاء المعمورة.
كيف لا والقرآن الكريم احتوى جميع ما تحتاج إليه البشرية في أمور دينها ودنياها, ماضيها وحاضرها ومستقبلها, في عقائدها وفي أخلاقها, في عباداتها وفي معاملاتها, في اقتصادها وفي سياستها الداخلية والخارجية, في سلمها وفي حربها.
كيف لا وتفسير القرآن الكريم هو الجسر الموصل لهذه المبادئ والمفتاح لهذه الكنوز.
لذلك فلا عجب أن يحرص المسلمون في ذلك الوقت على تلقي علوم
__________
1 سورة النحل: من الآية 44.(1/26)
التفسير وأن يحضروا ذلك في مجالس الصحابة -رضوان الله عليهم- للتلقي عنهم مباشرة, أو عن تلاميذهم من بعدهم.
واتسعت رقعة البلاد الإسلامية أرضا فدخلت فيه بلدان أخرى, واتسعت رقعته لسانا فدخلت فيه أمم أعجمية شتى بمختلف الألسنة ومختلف المذاهب والعقائد, دخل فيه بعد المشركين الذين يعبدون الأوثان أمم مجوسية وأهل كتاب وملل ونحل أخرى, وكان لهذا أثره في مسار التفسير.
فكدرته من بعد العجمة وخالطه قبح الابتداع وتحكمت فيه عقائد فاسدة زائفة جعلها بعض ذوي الملل والنحل أصلا يصرفون إليها التفسير, ويلوونه إليها ليا.
فتعددت من ثم مشارب التفسير وتنوعت من بعد مناهجه وطرقة فجد فيه مصادر محدثة وطرق مبتدعة وأهواء منكرة، وبقيت طائفة على المنهج الصافي الذي لا تكدره الأهواء ولا تبلبل أفكاره زائف العقائد, تحكي مثال التزام المنهج الحق في تفسير القرآن.
ولم يكن الفاصل بين تينكم المرحلتين وجيزا أو قصيرا, بل كان بينهما مراحل أخرى نحسبها مجتمعة هي مراحل التفسير التي مر بها من عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا الحاضر.
مراحل التفسير:
المرحلة الأولى: عصر الصحابة، رضي الله عنهم:
وهو الذي سبقت الإشارة إليه، وقد كانوا أن غمض عليهم معنى أو دق عليهم مرمى رجعوا إليه -عليه الصلاة والسلام- فجلاه لهم وبينه أحسن وأصدق بيان.
وقد كان التفاوت بينهم بينا فيما يحتاج إلى اجتهاد شأن التفاوت في عقول سائر البشر فكان بعضهم يرجع إلى من قد يكون أكثر منه فهما لمعنى أو إدراكا لرمز، وقد يكون أعلم فيما أحاط بالآية عند نزولها من أحداث لها التأثير في فهم مدلولها.(1/27)
ونضرب لذلك مثلا ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال عمر: إنه من حيث علمتم, فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره, إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذاك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أعلمه له قال: " {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ". فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول1.
هذا مثل واحد من أمثلة كثيرة على تفاوتهم -رضي الله عنهم أجمعين- في إدراك معاني القرآن الكريم وإشاراته.
ومع هذا فقد كان كثير منهم -رضي الله عنهم- يمتنع -متحرجا- عن تفسير القرآن الكريم خشية من أن لا يوافق الحق قوله, فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- وهو مثال الورع والإيمان يقول: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم" وروي عن كثير من الصحابة نحو ذلك في التحرج من القول في التفسير من غير علم ولم يكن هذا التخوف ليمنعهم عن القول فيما لهم به علم.
ولم يكن ذلك الجيل الفريد من المسلمين يتناول الإسرائيليات في تفسيره, فقد كان -عليه الصلاة والسلام- حريصا على أن لا يستقوا من غير نبع الإسلام الصافي؛ ولذا فقد غضب -عليه الصلاة والسلام- حين رأى في يد عمر -رضي الله عنه- قطعة من التوراة.
وبطبيعة حالهم الذي أوتوه من المعرفة بدقائق اللغة, فقد كانوا لا يحتاجون
__________
1 رواه البخاري باب التفسير ج6 ص221.(1/28)
إلى الوقوف عند كل آية يتناولونها بالتفسير حيث يعرفون معناها بالسليقة التي طبعوا عليها؛ ولذا لم يكن تفسيرهم شاملا للقرآن كله كما هو حال من جاء من بعدهم.
ومن خصائص هذه المرحلة أيضا أنهم لا يتكلفون في التفسير ولا يتعمقون ذلك التعمق المذموم فاكتفوا من الآيات بمعناها العام ولم يلتزموا تفصيل ما لا فائدة كبيرة في تفصيله، فيكتفون مثلا بمعرفة أن المراد بقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 1, أنه تعداد لنعم الله تعالى على عباده2.
ومن خصائصه قلة التدوين, فقد كانوا في غالبهم أميين ولم تتوافر لهم وسائل وأدوات الكتابة ثم بعد هذا كله فقد نهاهم -عليه الصلاة والسلام- أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن خشية أن يلتبس عليهم كلامه بالآيات, ثم أذن لهم بالكتابة بعد أن أمن عليهم من اللبس.
فكتب عبد الله بن عمرو بن العاص "الصحيفة الصادقة" كما سماها صاحبها حيث قال: "هذه الصادقة فيها ما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه فيها أحد"3.
المرحلة الثانية: عهد التابعين:
انتشر عدد من الصحابة في أرجاء العالم الإسلامي يحملون على كاهلهم عبء الأمانة ويؤدون الرسالة, فكانت لهم مدارس للتفسير في أنحاء البلاد.
فأقامها عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- في مكة المكرمة وكان من تلاميذه أئمة في التفسير منهم: سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة مولى ابن عباس وطاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح.
__________
1 سورة عبس: الآية 31.
2 مجموع الفتاوى لابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص372.
3 الطبقات الكبرى، ابن سعد ص189 قسم2 ج7؛ وتقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العش ص84، وهي موجودة في مسند الإمام أحمد من ص235 ج9 والجزأين العاشر والحادي عشر بكاملهما وج12 إلى ص51.(1/29)
وأقامها أبي بن كعب -رضي الله عنه- في المدينة وكان من تلاميذه زيد بن أسلم وأبو العالية ومحمد بن كعب القرظي.
وأقامها عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في العراق وكان من تلاميذه علقمة بن قيس ومسروق والأسود بن يزيد وعامر الشعبي والحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي.
ولم يكن هناك من فارق كبير يذكر بين منهج الصحابة ومنهج التابعين لكونهم إنما تلقوا التفسير عن الصحابة, وورثوا عنهم أيضا الورع عن القول في القرآن الكريم بغير علم, فهذا سعيد بن المسيب كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأنه لم يسمع, وهذا الشعبي يقول: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله، وهذا -كما قلنا عن الصحابة رضي الله عنهم- محمول على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به, فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه1.
وثمة فروق بين المنهجين هي ثمرة اتساع انتشار العلم ودخول أمم شتى ذات أفكار ومنازع متعددة كان لها أثر في التفسير.
فاتسعت رواية الإسرائيليات لدخول كثير من أهل الكتاب في الإسلام وكان عندهم علم من الكتاب لاقى نفوسا متفتحة لسماع تفاصيل أخبار القرآن وقصصه فزجت طائفة منهم في التفسير بكثير من تلك الأخبار دون تحرٍّ لصحة أو تحقق لخبر.
وكثرت الاختلافات والأقوال في تفسيرهم للآية الواحدة، بل للكلمة الواحدة، ومن جهة أخرى اتسع نطاق التفسير فشمل آيات لم يشملها في الفترة السابقة؛ وذلك لدخول أمم أعجمية وأشخاص لم يعارضوا نزول الآيات وأسبابها, فكانت حاجة هؤلاء وأولئك ماسة لأن يبين لهم ما لم يبين من قبل فاتسع بهذا مجال التفسير عمقا ومساحة.
__________
1 مجموع الفتاوي: ابن تيمية ج13 ص373 -374.(1/30)
وازداد التدوين للتفسير في هذه الفترة فقد كثر عدد الكتَّاب وتوفرت وسائل الكتابة, لكنه لم يكن مبوبا فكانت الأحاديث فيه غير مرتبة فحديث عن الزكاة يتلوه تفسير آية عن الخمر مثلا ثم يتلوه حديث عن البيع ونحو ذلك، ومما تم تدوينه في هذه المرحلة الصحيفة الصحيحة وهي التي أملاها أبو هريرة -رضي الله عنه- على همام بن منبه, وهي موجودة في مسند الإمام أحمد بكاملها ونقل الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- منها عددا كثيرا.
هذه بعض الفوارق بين منهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومنهج التابعين.
المرحلة الثالثة: عصر التدوين:
ونقصد بهذه المرحلة تدوين الحديث النبوي مبوبا، وكون التفسير بابا من أبوابه حيث نشط في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى.
وكان لهم عناية خاصة بالإسناد, ولم تكن التفسيرات كلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل ضم إليها تفاسير الصحابة -رضي الله عنهم- وتفاسير التابعين، رحمهم الله تعالى.
ودخل في التفسير في تلك المرحلة الكثير من الإسرائيليات وزادت كثيرا عن المرحلة السابقة.
واتسع التفسير بالرأي, فهذا مجاهد بن جبر يفسر قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} 1، بقوله: "مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة, وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا". وقد رد عليه تفسيره هذا ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- وعقب عليه بما أبطله2, وهذا الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يفسر القرآن على
__________
1 سورة البقرة: الآية 65.
2 جامع البيان عن تأويل آي القرآن: تفسير الطبري ت. محمود وأحمد شاكر ج2 ص173.(1/31)
إثبات القدر ردا على من ينكره، وهذا قتادة بن دعامة السدوسي كان يقول بشيء من القدر1.
وهذا ولا شك كان نواة لظهور المذاهب الفكرية ونشأة التفسير بالرأي بعد ذلك.
المرحلة الرابعة: مرحلة "التصنيف":
ونعني بها كتابة التفسير بالمأثور مستقلا عن الحديث, شاملا لآيات القرآن, مرتبا حسب ترتيب المصحف, ومن المؤلفات في تلك المرحلة نسخة كبيرة جمعها أبو العالية, في التفسير عن أبي بن كعب2 -رضي الله عنه- وكتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري3 -رحمه الله تعالى- وكان عند زيد بن أسلم كتاب في التفسير4. وألف إسماعيل بن عبد الرحمن السدي تفسيرا للقرآن5, بل ومن أشهرها تفسير الطبري، رحمه الله تعالى.
ومن خصائص تلك المرحلة:
1- أن ما دون فيها كان التفسير بالمأثور عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه وتابعيهم, وكان مشوبا بالرأي وتأييد بعض المذاهب.
2- أنهم اعتنوا بالإسناد المتصل إلى صاحب التفسير المروي.
3- لم تكن لهم عناية بالنقد وتحري الصحة في رواية الأحاديث في التفسير اكتفاء منهم بذكر السند، بل كان بعضهم يذكر كل ما روي في الآية من صحيح وسقيم ولم يتحر الصحة, بل لم يقصدها كابن جريج مثلا6.
__________
1 الطبقات الكبرى: ابن سعد ج7 ص229.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج1 ص115.
3 وفيات الأعيان: ابن خلكان ج3 ص132.
4 تذكرة الحفاظ: شمس الدين الذهبي ج1 ص133.
5 الإتقان: السيوطي ج2 ص188, تفسير الطبري ج1 ص156-160.
6 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج1 ص155.(1/32)
4- اتسعت الرواية بالإسرائيليات في تلك الفترة، اتساعا كبيرا ودون كثير منها في التفسير.
المرحلة الخامسة:
وهي من أهم مراحل التفسير وأخطرها, وكأنما كان كل ما شاب التفسير في المراحل السابقة من كدر إنما هو تمهيد وتوطئة لتلك المرحلة.
حيث وجدت فيها طائفة من أعداء الإسلام فرصة لبث أفكارهم وشبهاتهم ودس أكاذيبهم عبرها.
وكان من خصائص تلك المرحلة أنهم اختصروا فيها الأسانيد ونقلوا الآثار المروية عن السلف دون أن ينسبوها لقائليها1؛ مما سهل لأعداء هذا الدين وممن يريد الكيد له أن يبث سمومه بهذه الطريقة فتلتبس على كثير من المسلمين.
ومن خصائصها أن ازداد القول في التفسير بالرأي واتسع مجاله المذموم منه والمحمود، وتجرءوا على القول في القرآن من غير علم وحرص بعضهم على الإكثار من إيراد الأقوال في تفسير الآية الواحدة، فصار كل من يسنح له قول يورده ومن يخطر بباله شيء يعتمده, فيأتي من بعده فيظنه صحيحا أو أن له أصلا.
أما عن الإسرائيليات وغزوها للتفسير في هذه المرحلة فحدث ولا حرج, فهو عصرها الذهبي واشتغلوا بها عن البحث الجاد الأسمى في أمور الدين.
المرحلة السادسة:
وهي نتيجة حتمية للمرحلة السابقة, حيث انفتح الباب على مصراعيه فدخل منه الغث والسمين, الصحيح والعليل, ولم يزل الباب مفتوحا إلى عصرنا هذا.
فدخل في التفسير من هو ليس من أهله وتحول مسار التفسير إلى أن يعتني أرباب العلوم بما يوافق مذاهبهم وعلومهم, فكان كل من برع في علم من العلوم
__________
1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190.(1/33)
غلب ذلك على تفسيره. فالفقيه يكاد يسرد فيه الفقه ولا شيء سواه وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع والرد على المخالفين, كالقرطبي والجصاص والإخباري ليس له هم إلا سرد القصص واستيفاءها كالثعلبي والنحوي ليس له هم إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه, كالزجاج والواحدي وأبي حيان وصاحب العلوم العقلية ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها كالفخر الرازي حتى قال فيه بعضهم: "فيه كل شيء إلا التفسير"1.
ونشأ كثير من الفرق والمذاهب المنحرفة, وكلها يستدل بآيات من القرآن يدعم بها أصول مذهبه وإن لم توافقها انحرف بمعانيها انحرافا يلحد بها إليها.
وظهر التعصب المذهبي بأسوأ أحواله فتشعبت الآراء والمذاهب الفلسفية وتعددت مسائل الكلام.
ذلكم موجز المراحل التي مر بها التفسير في العصور السالفة مراحل بعضها لا يحتوي إلا على منهج واحد في التفسير وتعددت المناهج بتقدم المراحل فجاءت المرحلة الأخيرة شاملة لمناهج في التفسير عديدة.
مناهج التفسير عند السابقين:
يحدثنا التاريخ الإسلامي عن نكبات كبرى مر بها العالم الإسلامي من أعدائه المتربصين به, الذين أفرغوا جام غضبهم على تراث المسلمين كيف لا وهو نتاج فكرهم فأحرقوا ما أحرقوا وسرقوا ما سرقوا وألقوا في النهر ما ألقوا؛ ولذا فإنه ليس من السهل أن نجزم جزما بحصر اتجاهات التفسير عند السابقين, وإنما هو التحري المستطاع أو بعضه.
وقد تعددت مناهج التفسير وتنوعت, فإن أردنا أن نعرض لذكرها هنا فإنما هو ذكر الإشارة وإلا تداخلت الأبحاث وتشعبت, والحق أن كل عصر من
__________
1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190.(1/34)
العصور السالفة بحاجة لدراسة اتجاهات التفسير فيه, حتى تظهر لنا جلية سلسلة التفسير بمناهجه واتجاهاته وحتى يكتمل العقد.
وبهذا الطريق -طريق الإشارة- نعرض سريعا لتعداد مناهج واتجاهات التفسير عند السابقين, وأمثلة للمؤلفات في كل منهج.
الاتجاهات العقائدية:
وهو من الاتجاهات التي تأثرت بمرور السنين, حيث اندثرت بعض المذاهب التي كان لها صولة وكان لها جولة فلم نعد نجد لها في العصر الحديث من أثر يذكر.
وضعفت مذاهب أخرى واندثرت أكثر فرقها كفرقة الخوارج مثلا حتى لم يبق إلا فرقة واحدة هي فرقة الأباضية, وهي في صراع مع خصومها الذين يلصقونها بالخوارج, وهي تنكرهم وترفضهم.
ولم يعد للفرق الباطنية من نشاط في التفسير كسابق عهدهم، بل اكتفى أتباعهم وغيرهم بنشر كتبهم القديمة.
ولم تعد فرقة الزيدية ولا الصوفية تولي التفسير عناية كتلك العناية لسلفهم فلم يؤلفوا تلك المؤلفات العديدة والتفاسير المطولة.
وفي جانب آخر نشأت المدرسة العقلية الحديثة متأثرة بعض التأثر بمدرسة الاعتزال، والمدرسة العقلية القديمة. وجدَّ في هذا الاتجاه مناهج إلحادية ليست هي بالباطنية الذين يقولون بتفسير القرآن بالباطن أو الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، وليست بالتي تسلك التفسير الصحيح، بل تعلن التفسير الملحد وتعلن اعتقادها له, وتعلن أنه التفسير الصحيح للقرآن.
المؤلفات في منهج أهل السنة:
ونحمد الله أن تفاسير أهل السنة في الفترة السابقة كثيرة تحفظ للمسلمين النبع الصافي للعقيدة الإسلامية الصحيحة, وقد أجمل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- الحديث عن تفاسير أهل السنة بقوله: "وأما "التفاسير" التي في أيدي(1/35)
الناس فأصحها "تفسير محمد بن جرير الطبري" فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير، والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد, ووكيع, وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه"1.
قلت: ومنها تفسيره هو -رحمه الله تعالى- الذي طبع عدة مرات مستقلا مرة وضمن مجموع التفاوى مرات أخرى.
ومنها تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- الذي طبع أيضا عدة طبعات واختصره بعض العلماء.
هذه بعض التفاسير لأهل السنة والجماعة.
المؤلفات في منهج المعتزلة:
وقد ألف كثير من مفسريهم تفاسير للقرآن الكريم على أصول مذهبهم يعلنونها صريحة مرة ويخفونها حينا حتى لا تكاد تستخرج إلا بالمناقيش.
ومن أشهر مؤلفاتهم تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم2، المتوفى سنة 240، وتفسير أبي علي الجبائي3 "ت 303"، ومنها التفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني4، وتفسير علي بن عيسى الرماني5, ولأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي المعروف بالكعبي المعتزلي تفسير في اثني عشر مجلدا6، ولأبي مسلم محمد بن بحر الأصفهاني "ت 322" تفسير "جامع التأويل لمحكم
__________
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص385.
2 المرجع السابق ج13 ص357, وطبقات المفسرين: شمس الدين محمد الداودي ج1 ص269.
3 المرجع السابق من الفتاوى, وطبقات المفسرين ج2 ص189.
4 المرجع السابق من الفتاوى, وطبقات المفسرين ج1 ص257.
5 المرجع السابق من الفتاوى, وطبقات المفسرين ج1 ص420.
6 كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ج1 ص234, وطبقات المفسرين ج1 ص223.(1/36)
التنزيل"، ويقع في أربعة عشر مجلدا1, وعبد السلام بن محمد القزويني له تفسير في ثلاثمائة مجلد منها سبعة مجلدات في الفاتحة, كذا قال السيوطي2.
ومن أهم مؤلفاتهم المطبوعة والموجودة في العصر الحاضر تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار, وهو في مجلد واحد فسر فيه الآيات المتشابهة.
ومنها وهو أهمها: تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل, تأليف محمود بن عمر الزمخشري, ويقع تفسيره في أربعة مجلدات كبار وقد نال هذا التفسير اهتمام كثير من العلماء, فكتبوا التعليقات والحواشي وأخرجوا اعتزالياته وخرجوا أحاديثه.
ومنها غرر الفوائد ودرر القلائد المعروف بـ "أمالي المرتضى" ومؤلفه علي بن الطاهر الملقب بـ "الشريف المرتضى" وهو كتفسير القاضي عبد الجبار لا يشمل تفسير القرآن كله، بل آيات تدور حول العقائد.
المؤلفات في منهج الشيعة:
وهم كما هو معلوم فرق شتى غالى بعضهم حتى خرج عن ربقة الإسلام كالإسماعيلية وغيرها من الباطنية واعتدل بعضهم حتى كاد أن يكون من أهل السنة والجماعة كالزيدية. وعلى ضوء هذا الميزان فإنا نشير لأهم مؤلفاتهم في هذه المواقع الثلاثة الباطنية، والزيدية, والمتوسطين بين هؤلاء وهؤلاء أعني الإمامية الاثني عشرية.
مؤلفات الباطنية:
نحمد الله أن هذه الطائفة لم تجمع تفسيرا كاملا للقرآن الكريم.
وقد علل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- ذلك بقوله:
__________
1 الفهرست: ابن النديم ص51، وطبقات المفسرين: الداودي ج2 ص106, والتفسير والمفسرون: الذهبي ج 3 ص388.
2 طبقات المفسرين: السيوطي ص67.(1/37)
"إنهم لم يستطيعوا أن يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية, ولو أنهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها ولا يقدرون على التخلص منها"1.
وقد بحثت كثيرا فلم أجد تفسيرا مستقلا كما ذكر الذهبي -رحمه الله- ووجدت ابن النديم في كتابه الفهرست يعد من الإسماعيلية الحسين بن منصور الحلاج، الزنديق المتصوف والذي يتبرأ بعض الصوفية من نسبته إليهم2, وقد عد ابن النديم والداودي في طبقات المفسرين من كتبه كتاب "تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ} "3.
أما ما عدا ذلك, فمدسوس في ثنايا كتبهم.
مؤلفات الإمامية الاثني عشرية:
وهذه الطائفة تعد أكثر فرق الشيعة تأليفا في التفسير, ويشهد لذلك تلك المؤلفات الكثيرة عددا وحجما على أصول مذهبهم الشيعي, ومن هذه المؤلفات:
تفسير الحسن العسكري "ت 254" طبع في مجلد واحد وتفسير العياشي من علماء القرن الثالث الهجري وتفسير إبراهيم بن محمد بن هلال "ت 383"، وتفسير علي بن إبراهيم القمي من القرن الثالث وأوائل الرابع وطبع في مجلد واحد كبير وتفسير أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي المسمى: الرغيب في علوم القرآن وتفسير أبي الفتوح الرازي الحسين توفي في القرن السادس وتفسير الصافي لمحمد بن مرتضى الشهير بملا محسن الكاشي وتفسير الأصفى للمؤلف السابق اختصره من الصافي وطبع في مجلد واحد والبرهان لهاشم البحراني "ت 1107" وطبع في مجلدين كبيرين ومرآة الأنوار ومشكاة الأسرار للمولى عبد اللطيف الكازراني وتفسير "المؤلف" لمحمد مرتضى الحسيني من علماء القرن الثاني عشر
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص229.
2 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص159.
3 المرجع السابق ج1 ص160, والفهرست لابن النديم ص272.(1/38)
وهو مخطوط في مجلد واحد صغير بدار الكتب المصرية. وتفسير المولى السيد عبد الله بن محمد رضا العلوي "ت 1242" ويقع في مجلد كبير وتفسير التبيان لأبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي "ت 460"، وتفسير مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء القرن السادس, وهو تفسير كبير يقع في عدة مجلدات وتفسير نور الثقلين لمؤلفه عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر, ويقع في خمسة مجلدات كبار1.
هذه أهم مؤلفات الاثني عشرية في التفسير.
مؤلفات الزيدية:
وهم أيضا من المقلين في التأليف في التفسير, وأشهر مؤلفاتهم فيه التفسير المشهور فتح القدير للعلامة محمد بن علي الشوكاني وهو في خمسة مجلدات كبار وجمع فيه -رحمه الله تعالى- بين الرواية والدراية, وهناك تفسير آخر هو شرح لآيات الأحكام واسمه: "الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة" لمؤلفه شمس الدين يوسف بن أحمد بن محمد الثلاثي, في ثلاثة أجزاء كبار.
وقد نقب الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- عن مؤلفاتهم فلم يعثر على غير ما ذكرنا, لكنه وجد ذكرا لمؤلفات أخرى لهم في التفسير لكنها غير موجودة الآن, وذكر منها:
كتاب التفسير الكبير، وكتاب نوادر التفسير وكلاهما لمقاتل بن سليمان, والتفسير الكبير والتفسير الصغير وهما للمرادي, وتفسير غريب القرآن للإمام زيد بن علي جمعة بن يزيد وتفسير البستي وتفسير التهذيب لابن كرامة المعتزلي ثم الزيدي وتفسير عطية النجراني "ت 665" والتيسير في التفسير للحسن النحوي "ت 791" وتفسير ابن الأقضم وشرح الخمسمائة آية "تفسير آيات الأحكام" لحسين بن أحمد النجري من علماء القرن الثامن ومنتهى المرام شرح
__________
1 انظر: التفسير والمفسرون, الذهبي ج2 ص42-43.(1/39)
آيات الأحكام لمحمد بن الحسين بن القاسم من القرن الحادي عشر وتفسير القاضي عبد الرحمن بن مجاهد من علماء القرن الثالث عشر1.
المؤلفات على منهج الخوارج:
والخوارج -أيضا- من المقلين في التفسير في القديم والحديث, ولعل ما ذكره ابن النديم في الفهرست عن كتبهم بأنها "مستورة محفوظة"2 يكشف قلة مؤلفاتهم وقلة انتشارها ولا أدري إن كان من أثره ما عانيته في الحصول على بعض مؤلفاتهم ومطبوعاتهم في العصر الحديث.
وقد سأل الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- أحد علمائهم المعاصرين وهو الشيخ إبراهيم أطفيش عن أهم مؤلفاتهم في التفسير فذكر له ستة مؤلفات, ثلاثة منها قديمة وهي:
1- تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسي من أهل القرن الثالث الهجري.
2- تفسير هود بن محكم الهواري من أهل القرن الثالث الهجري, مخطوط في أربعة مجلدات.
3- تفسير أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الورجلاني, من أهل القرن السادس الهجري3.
وقد بحثت كثيرا عن ذكر لهذه المؤلفات في كتب التفسير وطبقات المفسرين فلم أعثر لها على أثر إلا أني وجدت الزركلي ذكر أن لعبد الرحمن بن رستم تفسيرا ولم يذكر ليوسف بن إبراهيم الورجلاني شيئا في التفسير وكذا عمر كحالة في معجمه للمؤلفين، أما هود بن محكم فلم يترجما له إلا أن الأستاذ فؤاد سزكين ذكر له ترجمة وأشار إلى أن له تفسيرا للقرآن ووصل إلينا وتوجد منه نسخة مخطوطة في الجزائر4.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281-284.
2 الفهرست: ابن النديم ص258.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص315.
4 تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين، المجلد الأول ج1 ص96.(1/40)
وعلى هذا فلا يوجد شيء من مؤلفات الخوارج في التفسير إلا تفسير هود بن محكم الذي يقع في أربعة مجلدات وهو متداول بين الأباضية في بلاد المغرب, ويوجد عند الأستاذ إبراهيم أطفيش المذكور آنفا جزآن مخطوطان, هما الأول والرابع منه1.
المؤلفات على منهج الصوفية:
ومن المؤلفات الصوفية في التفسير, تفسير بشير لنجم داية2 ومنها تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله التستري وهو مطبوع في مجلد صغير ومنها "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي وهو في مجلد واحد كبير مخطوط، ومنها عرائس البيان في حقائق القرآن لأبي محمد الشيرازي وهو مطبوع في جزأين, ومنها التأويلات النجمية لنجم الدين داية وأتمه علاء الدولة السمناني وهو مخطوط في خمسة مجلدات كبار. وأهم هذه المؤلفات وأخطرها التفسير المسمى "تفسير القرآن الكريم" والمنسوب لأبي بكر محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن عربي وإنما قلت: المنسوب؛ لأن هناك من يشكك في نسبته لابن عربي, وليس المقام هنا مقام تحقيق ذلك.
هذه أهم المؤلفات في التفسير لأهم الفرق والمذاهب قديما, وكلها تحت الاتجاه العقدي في التفسير.
الاتجاه العلمي في التفسير:
وهو اتجاه يتسع فيشمل -فيما نرى- مناهج ثلاثة:
1- منهج التفسير بالمأثور.
2- منهج التفسير الفقهي.
3- منهج التفسير العلمي التجريبي.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص316.
2 مفتاح السعادة ومصباح السيادة: طاش كبرى زاده ج2 ص123.(1/41)
وسنذكر هنا بعض المؤلفات لكل من:
منهج التفسير بالمأثور:
ولا شك أن أهم المؤلفات في هذا اللون في التفسير هو جامع البيان عن تأويل آي القرآن والمعروف بتفسير الطبري وقد طبع عدة مرات آخرها بتحقيق وتعليق الشيخ محمود محمد شاكر وخرَّج أحاديثه الشيخ أحمد محمد شاكر -رحمه الله تعالى- وصدر منه ستة عشر مجلدا حتى الآن وتوقف عند الآية 28 من سورة إبراهيم, أما الطبعة التي لم تحقق فكاملة.
ومن المؤلفات في ذلك: الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي, وهو مطبوع في ستة مجلدات كبيرة.
ومنها تفسير القرآن العظيم لابن كثير الدمشقي في أربعة مجلدات, وطبع عدة مرات وحظي هذا التفسير باهتمام العلماء به فخرجوا أحاديثه وعلقوا عليه، واختصروه.
منهج التفسير الفقهي:
وهي مؤلفات كثيرة جدا.
ففي الفقه الحنفي ألف أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص تفسيره: أحكام القرآن, وطبع عدة مرات في ثلاثة مجلدات.
وفي الفقه المالكي ألف أبو بكر بن العربي كتابه: أحكام القرآن, المطبوع في أربعة مجلدات، وألف أبو عبد الله القرطبي تفسيره: الجامع لأحكام القرآن المطبوع في عشرة مجلدات كبار.
وفي الفقه الشافعي ألف أبو الحسن الطبري المعروف بـ "إلكيا الهراسي" كتابه: أحكام القرآن, وألف السيوطي كتابه: الإكليل في استنباط التنزيل, وطبع في مجلد كبير.
وفي الفقه الحنبلي تفسير الخرقي لأبي القاسم عمر بن أبي على الحسين(1/42)
الخرقي1, وأحكام القرآن لأبي يعلى محمد بن الحسين بن الفراء2.
وفي الفقه الزيدي ألف مقاتل بن سليمان كتاب "تفسير الخمسمائة آية"3 وكذا ألف حسين بن أحمد النجري "شرح الخمسمائة آية" وألف محمد بن الحسين بن القاسم من علماء القرن الحادي عشر كتاب "منتهى المرام شرح آيات الأحكام"4.
وفي الفقه الجعفري ألف مقدار السيوري "كنز العرفان في فقه القرآن"4.
منهج التفسير العلمي التجريبي:
وأشهر المؤلفات فيه التي أصبحت عَلَما في هذا تفسير "مفاتيح الغيب في تفسير القرآن" أو التفسير الكبير لأبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بالفخر الرازي وقد أطنب فيه مؤلفه في أبحاث عديدة واستطرد إلى العلوم الرياضية والطبيعية والعلوم الفلكية وغير ذلك, حتى قيل عنه في كل شيء إلا التفسير.
وبعد, فتلكم هي أبرز الاتجاهات والمناهج في تفسير القرآن الكريم عند العلماء السابقين لم نقصد استيفاء لها ولا استقصاء وإنما رسم هيكل عام من زواياه ننظر إلى اتجاهات التفسير في العصر الحديث ومناهجه, فنعرف ما جد منها وما اندثر وما بقي على المناهج السابقة.
وقد جدت في العالم الإسلامي بعد ذلك أحداث, ووقعت الوقائع فأصبح المسلمون بعد أن كانوا يجوبون الآفاق بجيوشهم لنشر الإسلام يغزون في عقر دارهم, وبعد أن كانت الأرض الإسلامية في حالة تمدد أضحت في حالة تقلص وانكماش.
__________
1 مفتاح السعادة: طاش كبرى زاده ج2 ص106.
2 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص520-521.
3 الفهرست: ابن النديم ص254.
4 التفسير والمفسرون: محمد الذهبي ج3 ص103.(1/43)
بدأت الحروب الصليبية الواحدة بعد الأخرى وكان العالم الإسلامي في حالة ضعف وتفكك, فكان لهذه الحروب أثرها حيث نقلت الحضارة الإسلامية إلى بلاد الإفرنج متمثلة بالكتب والمؤلفات في شتى العلوم والمعارف, وحتى تدرك أبعاد هذا الأثر يكفي أن تعلم أن نقل هذه العلوم بث الحياة العلمية وأوقد نارها, فكثر طلابها وكثرت النظريات والاكتشافات العلمية ووقع الصدام بين العلم والكنيسة, ولم يزل إلى أن قامت الثورة على الكنيسة بعد ذلك.
أما أثر هذه الحروب داخل العالم الإسلامي, فقد أشغلته عن العلم وطلبه؛ لأن الحرب في أرضه وفي دياره خلاف الإفرنج الذين كانت ديارهم بعيدة عن أتون الحرب وسعارها.
أضف إلى ذلك إن شئت الحروب التي عاناها العالم الإسلامي بعد ذلك من هجمات المغول وسقوط الدولة العباسية والمذابح التي ارتكبت والمجازر التي انتشرت, زد على هذا القضاء على الفكر بإحراق الكتب وإغراقها في نهر دجلة, حتى صارت جسرا يعبر عليه المعتدون.
هذه ولا شك أمور لها أثرها في إنهاك الشعوب الإسلامية والشعوب كالأفراد يصيبها ما يصيبهم, والفرد إذا أنهكت قواه ركن إلى الاستسلام وطلب الراحة, وقد يستغرق في نوم عميق. وقد كانت هذه حال العالم الإسلامي.
وكما يدخل اللصوص الدار إذا نام صاحبها, دخل المستعمرون العالم الإسلامي وهو يغط في نومته هذه، فسلبوا خيرات البلاد الإسلامية وسخروا أهلها وهم نيام لتحقيق مآربهم وأهدافهم, وبثوا أفكارهم وسمومهم حتى ألفت طائفة النوم وأزعجها الضجيج فوضعت في آذانها العجين وباتت في نوم كالموت، بل هو أشد.
وأبت طائفة النوم ولم يقر لها قرار ولم يطب لها مضجع ولم يغمض النوم لها جفنا, فأخذت على عاتقها عبء هذه الرسالة والقيام بهذه الأمانة, فلم يزالوا في كفاح وجهاد, ولم يزالوا يصرخون في النائمين حتى استيقظ الجميع أو أكثرهم.
وكانت النهضة الإسلامية الحديثة متمثلة في مظاهر شتى في مختلف أرجاء(1/44)
بلاد المسلمين فبدأت شعائر الإسلام -والحمد لله- ترفع وانتشر الدعاة في أرجاء الأرض وفتحت المدارس والجامعات وانتشر التعليم وعدلت المناهج والمقررات المدرسية, وانجلى الحق وسيزهق الباطل بإذن الله عما قريب.
وصاحب هذا كله عودة إلى مصادر الإسلام, يدرسونها ويتذاكرونها فصدرت المؤلفات العديدة الكثيرة في مختلف جوانب الثقافة الإسلامية, وكان نصيب الدراسات القرآنية منها عامة والتفسير خاصة كبيرا.
وكغيره من العلوم لم يكن التفسير صورة مطابقة كل التطابق لسابق عهده في مناهجه وطرقه في مؤلفيه واتجاهاتهم, وإنما كان هناك وجوه تشابه ووجوه اختلاف.
وليس من المناسب أن أعرض لهذين النوعين قبل أن نعرف مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر, وهما ولا شك صلب الدراسة وأسّها, فلنرجئ هذا الحديث إلى الخاتمة إن شاء الله.
وإنما المناسب أن نجمل إجمالا مناهج التفسير واتجاهاته في القرن الرابع عشر:
وهي متعددة, منها الجديد ومنها القديم كما أشرت آنفا, وقد جمعت منها حسب قدرتي المحدودة.
1- الاتجاه العقدي في التفسير:
وتحته مناهج:
1- منهج أهل السنة والجماعة.
2- منهج الشيعة, ويشمل:
أ- المذهب الإمامي الاثنا عشري.
ب- المذهب الزيدي.
ج- مذهب الإمامية السبعية أو "الإسماعيلية".
3- منهج الأباضية.
4-منهج الصوفية.(1/45)
2- الاتجاه العلمي في التفسير:
وتحته أيضا مناهج:
1- منهج التفسير بالمأثور.
2- منهج التفسير الفقهي "تفسير آيات الأحكام".
3- منهج التفسير العلمي التجريبي.
ولعلي ألمح سؤالا يوحي باعتراض على هذا التقسيم أحب أن أجيب عليه ما دام رطبا، يقول السؤال فيما أحسبه: لم فصلت الاتجاه العقدي عن الاتجاه العلمي ولم تجعل الأول منهجا من مناهج الاتجاه الثاني؟
أقول لهذا المعترض: لقد رأيت في الاتجاه الأول "العقدي" ما يوجب فصله عن الاتجاه الثاني واستقلاله باتجاه خاص, ذلكم أن العقيدة أصل تنبثق منها العلوم الأخرى وليست فرعا صغيرا منه.
وبعبارة أوضح: إن التفسير السني وهو منهج من مناهج الاتجاه العقدي قد تكون وسيلته التفسير بالمأثور وقد يصطبغ بالمنهج العلمي التجريبي وقد يكون فقهيا وهو باقٍ متربع في منهج أهل السنة والجماعة, لكنه لا يكون بحال من الأحوال متأثرا بالمذهب الشيعي أو الأباضي, فبينهما فاصل كبير.
وكذا المذهب الشيعي وهو فرع من فروع الاتجاه الأول "العقدي" قد يكون بالمأثور عن أئمتهم, وقد يكون فقهيا وقد يكون مصطبغا بالصبغة العلمية التجريبية, لكنه لا يكون سنيا ولهذا فإني رأيت فصل الاتجاه العقدي بمناهجه عن الاتجاه العلمي بمناهجه.
3- الاتجاه العقلي الاجتماعي:
وإنما أفردته كذلك؛ لأن أصحابه لم يتأثروا كل التأثر بالمدرسة العقلية القديمة "المعتزلة" وإلا لاعتبرتها امتدادا لمدرسة الاعتزال وأدخلتها ضمن الاتجاه الأول "العقدي" لكن الفاصل بينهم يبدو كبيراحيث لم يلتزموا أصولهم الخمسة التي لا يصح الاعتزال بدونها كما يعترف بذلك أئمة المعتزلة، وإنما كان نصيبهم التأثر بتحكيم العقل تأثرا بينا، بقي أن أقول: إني لم أدخلهم أيضا في الاتجاه(1/46)
الأول "العقدي" كفرقة مستقلة؛ لأنهم لم يأتوا بما يجعلهم ذوي عقيدة مستقلة تنفصل انفصالا كاملا عن أهل السنة والجماعة, وإن أتوا بما يميز فكرهم بعض التمييز ويجعل لهم اتجاها خاصا في سبيل الوصول إلى المعرفة.
أضف إلى هذا تلك الصبغة الاجتماعية التي يحلون بها تفسيرهم من العناية بالقضايا الاجتماعية وتطبيق الآيات القرآنية مباشرة على تلك القضايا والمجتمع الذي يعيشون فيه, مما كان له الأثر في إحداث الوعي بين مختلف الطبقات, فكان حقا أن يستقلوا باتجاه خاص من سماته العقلانية والاجتماعية، بغض النظر عن إصابة الحق أو الحيدة عنه.
4- الاتجاه الأدبي:
وتحته:
1- المنهج البياني.
2- منهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم.
وهذا الاتجاه كالاتجاه الذي قبله جديد, من سمات هذا القرن الرابع عشر, وسنعرض إن شاء الله لبيان ذلك في موضعه.
5- الاتجاه المنحرف:
وتحته مناهج:
1- المنهج الإلحادي.
2- منهج المقصرين.
3- اللون اللامنهجي.
وهذا الاتجاه فيه أوجه اتفاق وأوجه تجديد -وإن كان تجديدا إلى الأسوأ- مع المناهج القديمة. ذلكم أن الإلحاد موجود في القديم من التفاسير, لكنه كان يسير على مبادئ واحدة تجمعها عقيدة واحدة وإن كانت ضالة، أما الإلحاد في العصر الحديث فهو أضل؛ ذلكم أنه لا يلتزم أصلا حتى وإن كان باطلا يقوم عليه وإنما نزعات نفسية متأثرة بمطالب أو أهواء ورغبات خاصة تعرض لبعض المفسرين, فتظهر آثارها جلية في تفاسيرهم.(1/47)
وإنما قسمت الإلحاد إلى هذه الأقسام أو المناهج الثلاثة لأمور سيأتي الحديث عنها في موضعها, إن شاء الله.
وعلى هذا, فالمنهج الأول الإلحادي موجود في القديم والحديث مع الاختلاف في القاعدة التي يقوم عليها.
أما المنهج الثاني واللون الثالث فأحسبها مناهج جديدة من السمات السيئة لهذا العصر.
تلكم -فيما أرى- اتجاهات التفسير ومناهجه في القرن الرابع عشر, وهذا أوان الحديث عنها مفصلة، والله المستعان.(1/48)
الباب الأول: الاتجاه العقائدي في التفسير
تمهيد:
نشأة الفرق الإسلامية:
جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- والناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء, فنشر عليه الصلاة والسلام العقيدة الصحيحة ونفى زغل الجاهلية, وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والعقيدة السليمة الطاهرة النقية هي السائدة بين المسلمين.
إلى أن دخل في الإسلام من ليس الحق هدفهم ولا الوصول إليه مرادهم, فعملوا على تزييف الحقائق ونشر العقائد الضالة والمنحرفة, ونشأت المذاهب الإسلامية المتعددة, وافترقت أمة محمد إلى فرق عديدة كلها في النار إلا من هم على ما عليه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- ودافع علماء كل فرقة عن مذهبهم وعقائدهم بكل وسيلة.
وحمل التعصب المذهبي بعض أرباب هذه المذاهب والفرق إلى تأييدها بتفسير الآيات القرآنية الكريمة بما يتناسب مع أصول مذاهبهم وقواعدهم ولو بطريق إخضاع النصوص القرآنية لذلك, وصرفها عن معارضته وإنكار جميع التفاسير الأخرى إذا لم توافق آراءهم.
وتعددت مذاهب التفسير بتعدد المذاهب في العقيدة وكان لها صولة وكان لها جولة ثم خبا سعيرها وأصبح لا يرى في رمادها إلا وميض نار ونام العالم الإسلامي نومته.(1/51)
إلى أن جاء بعض المجددين ونبهوا المسلمين إلى دينهم وأيقظوهم من نومهم, وأفاق المسلمون وعاد الكثير منهم إلى الإسلام عودا حميدا, واشتعل وميض النار من خلال الرماد؛ فنشطت أيضا بعض الفرق الإسلامية وأصبح كل منهم يدعو إلى مذهبه وإلى فرقته.
وإذا ما نظرنا إلى الفرق القائمة الآن وأردنا أن ندرس تفاسير المعاصرين منهم في القرن الرابع عشر, فإنا نجد أن الفرق القائمة الآن هي:
1- أهل السنة والجماعة.
2- الشيعة.
3- الأباضية.
4- الصوفية.
ولو كان بحثنا هذا بحث عقيدة, لكان لزاما علينا أن ندرس بتفصيل نشأة هذه الفرق، أما وقد كان مرادنا عرض مناهج هذه الفرق في التفسير فقد اكتفينا بالإشارة السريعة لنشأة كل فرقة, والاتجاه بعد ذلك لبيان منهجهم في التفسير.
وإنما قدمنا منهج أهل السنة والجماعة على المناهج الأخرى؛ ليكون ميزانا بيد القارئ يزن به ما يرد من عقائد للفرق الأخرى، وليكون أيضا مرجعا يرجع إليه إذا ما التبس عليه رأي أو أراد الحقيقة في حكم أو قضية.
ومن ثم فلا تثريب علي إذا ما أوجزت في شرح مذهب أهل السنة في أمر متفق عليه، أو إذا ما أطنبت في أمر خالفتهم فيه فرقة من الفرق.
ولا تثريب علي أيضا إذا لم أرد على كثير من الآراء لبعض الفرق خشية تكرار ما سبق.
ولنبدأ بعد هذا بمرادنا.(1/52)
وإنما سموا بأهل السنة لالتزامهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"1، الحديث ونحوه.
ويسمون أيضا بأهل الكتاب والسنة؛ لأنهم "يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس, ويقدمون هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- على هدي كل أحد, وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة"2.
ويسمون أيضا بالجماعة, فيقال: أهل السنة والجماعة, وعلل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- هذه التسمية بقوله: "وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين و"الإجماع" هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين"3. وزاد هذا الأمر توضيحا في مكان آخر فقال: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"4.
__________
1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج4 ص126-127؛ والترمذي ج5 ص44؛ وسنن أبي داود ج4 ص201؛ وابن ماجه ج1 ص19-20؛ والدارمي ج1 ص44-45.
2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج3 ص157.
3 المرجع السابق ج3 ص157.
4 المرجع السابق ج3 ص346.(1/54)
الفصل الأول: منهج أهل السنة والجماعة في تفسير القرآن الكريم:
التعريف بهم:
أما السنة فهي الطريقة, وتطلق شرعا على عدة معانٍ؛ فعند المحدثين هي ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله1, وأما في عرف أهل الفقه والأصول فإنهم يطلقونها على المندوب, وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
وليس هذا ولا ذاك هو المقصود في مباحث العقائد؛ إذ هي عندهم عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات, خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكذلك
مسائل القدر وفضائل الصحابة وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة, وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة؛ لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة2.
ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثار أصحابه هم أهل السنة -كما يقول ابن الجوزي وغيره- لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث, وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه3.
__________
1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج13 ص245.
2 كشف الكربة: ابن رجب ص11-12.
3 نقد العلم والعلماء, أو تلبيس إبليس: لابن الجوزي ص16.(1/35)
نشأتهم:
لم يكن في عهده -عليه الصلاة والسلام- فرقة بين المسلمين أي فرقة, وإنما ظهر الافتراق بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فكلما افترقت فرقة ظهر لها اسم خاص بها وبقي السالمون من الافتراق والخروج هم أهل السنة والجماعة؛ لأنهم الأصل فبقوا على أصلهم هذا, ولذا لما سئل مالك -رحمه الله تعالى- عن أهل السنة قال: أهل السنة: الذين ليس لهم لقب يعرفون به, لا جهمي ولا قدري ولا رافضي1, ولذا -أيضا- قال ابن تيمية, رحمه الله تعالى:
__________
1 الانتقاء: ابن عبد البر ص35.(1/54)
"ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد, فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم"1.
إذن: فالسؤال عن نشأتهم إنما هو سؤال عن نشأة الإسلام, فإن قلت: إنما أسأل عن نشأة تسميتهم بأهل السنة والجماعة وانفرادهم بهذا اللقب دون غيرهم وهو لقب شرفهم الله بحمله, وهو عنوان عقيدتهم ويتضمن الشهادة بسلامتها, أعمى الله أرباب الفرق الأخرى فسلموا لهم بهذا اللقب واعترفوا لأنفسهم بألقاب لا تحمل من الإسلام ما يربطها به أو يدل من قريب أو بعيد على انتمائهم إليه. فهي عقيدة ترفع ويرفع معها خصومها حجتها فوق رأسها, وهل هناك أسمى من اعتراف الخصم بأن عقيدتك هي السنة, وهي عقيدة الجماعة جماعة المسلمين؟!
عودة إلى التساؤل عن تاريخ إطلاق هذه التسمية وهو تساؤل أحسب أنه ليس بذي كبير فائدة خاصة أن أصول التاريخ الإسلامي لم تبين بالتحديد تاريخ هذه التسمية, إذ لا يوجد يوم أو شهر أو سنة بارزة ظهرت فيها هذه التسمية وإنما كانت تبرز هذه التسمية في مقابلة أهل البدع فيقول مثلا ابن سيرين -رحمه الله تعالى- وهو من أهل القرن الأول الهجري: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"2.
الخلاصة: إن نشأة أهل السنة مع نشأة الإسلام, وإن إطلاق هذا الوصف عليهم كان معروفا في القرن الأول الهجري.
__________
1 منهاج السنة: ابن تيمية ج2 ص482.
2 رواه مسلم ج1 ص84.(1/55)
عقيدة أهل السنة والجماعة:
مرادي في هذا البحث أن أذكر من عقائد أهل السنة الأصول التي خالفهم فيها أهل الفرق والمذاهب التي سأعرضها في مناهج التفسير العقدي. أما ما وافقت هذه الفرق فيه أهل السنة فلا أرى موجبا لذكره اللهم إلا ضمن(1/55)
مجمل عقائد أهل السنة.
ولذا سيكون تناولي لعقيدة أهل السنة والجماعة على سبيل الإجمال, ثم على سبيل التفصيل لبعض الأصول.
مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة:
أفرد هذه العقيدة عدد من العلماء -رحمهم الله تعالى- منهم ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في العقيدة الواسطية, ومنهم أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله تعالى- بشرح ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله تعالى- وغيرهما كثير.
ونذكر هنا مجمل عقيدة أهل السنة ملخصا من أولها, أعني العقيدة الواسطية، حيث بدأه -رحمه الله تعالى- بقوله: أما بعد، فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة -أهل السنة والجماعة- وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه, ورسله، والبعث بعد الموت, والإيمان بالقدر خيره وشره.
الإيمان بالله:
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه, وبما وصفه به رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل, ومن غير تكييف ولا تمثيل، يل يؤمنون بأن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
فمن الكتاب:
ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص، وآية الكرسي، وقوله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2، وقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 3, وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 4، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5، وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
__________
1 سورة الشورى: الآية 11.
2 سورة الحديد: الآية 3.
3 سورة التحريم: الآية 3.
4 سورة الذاريات: الآية 58.
5 سورة الشورى: الآية 11.(1/56)
قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} 1، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} 2، وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 3، وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} 4, وقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 5، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 6، وقوله: {مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} 7، وقوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} 8، وقوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} 9، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} 10، وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 11، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 12، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} 13، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 14، وقوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 15، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 16، وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} 17، وقوله:
__________
1 سورة الكهف: الآية 39.
2 سورة المائدة: الآية 1.
3 سورة البقرة: الآية 195.
4 سورة البروج: الآية 14.
5 سورة النمل: الآية 30.
6 سورة البينة: الآية 8.
7 سورة النساء: الآية 93.
8 سورة التوبة: الآية 46.
9 سورة الفجر: الآيتان 21-22.
10 سورة الرحمن: الآية 27.
11 سورة الطور: الآية 48.
12 سورة طه: الآية 46.
13 سورة الطارق: الآيتان 15-16.
14 سورة طه: الآية 5.
15 سورة آل عمران: الآية 55.
16 سورة التوبة: الآية 40.
17 سورة النساء: الآية 87.(1/57)
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1, وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 2، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3. وهذا الباب في كتاب الله تعالى كثير, من تدبر القرآن طالبا للهدي منه, تبين له طريق الحق.
ومن السنة:
وأهل السنة يؤمنون بما وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- به ربه -عز وجل- في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول.
مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر"، الحديث متفق عليه4، وقوله: "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته" الحديث5 متفق عليه، وقوله: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر, كلاهما يدخل الجنة" متفق عليه6، وقوله: "لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية: عليها قدمه- فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط" متفق عليه7. وقوله: "يقول الله تعالى: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك, فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار" رواه البخاري 8، وقوله للجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله. قال:
__________
1 سورة النساء: الآية 164.
2 سورة الأنعام: الآية 155.
3 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
4 صحيح البخاري ج2 ص47 باب التهجد؛ مسلم, صلاة المسافرين ج1 ص521-522.
5 صحيح البخاري ج7 ص146, كتاب الدعوات؛ مسلم, كتاب التوبة ج4 ص2104.
6 صحيح البخاري ج3 ص210, كتاب الجهاد؛ مسلم, كتاب الإمارة ج3 ص1504-1505.
7 صحيح البخاري ج7 ص225, كتاب الإيمان؛ مسلم, كتاب الجنة ج4 ص2187.
8 صحيح البخاري, كتاب التفسير ج5 ص241.(1/58)
"أعتقها؛ فإنها مؤمنة" رواه مسلم1، وقوله: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا"، متفق عليه2.
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه بما يخبر به.
فإن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل, ومن غير تكييف ولا تمثيل.
الإيمان بكتبه:
ومن الإيمان بالله وبكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تعالى تكلم به حقيقة, وأن هذا القرآن الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره.
الإيمان باليوم الآخر:
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت, فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر وبنعيمه وبالبعث والموازين والدواوين -وهي صحائف الأعمال- فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله, وبالحساب وبالعرض والحوض والصراط وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس عليه على قدر أعمالهم, فمنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم، ويؤمنون بالشفاعة، ويؤمنون بأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار, وتفاصيل ذلك مذكورة في
__________
1 صحيح البخاري, كتاب المساجد ج1 ص382.
2 صحيح البخاري, كتاب المواقيت ج1 ص139؛ صحيح مسلم, كتاب المساجد ج1 ص439.(1/59)
الكتب المنزلة من السماء, والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء, وفي العلم الموروث عن محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما يشفي ويكفي.
الإيمان بالقدر:
وتؤمن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- بالقدر خيره وشره, والإيمان بالقدر على درجتين:
الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا, وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال.
الثانية: مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة, وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر, والبر والفاجر, والمصلي والصائم, وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة, والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم, كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.
ومن أصول أهل السنة أن الإيمان قول وعمل, قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح, وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
ولا يكفرون أحدا من أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 2، ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار, ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه, فاسق بكبيرته.
ومن أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى
__________
1 سورة التكوير: الآيتان 28-29.
2 سورة البقرة: الآية 178.(1/60)
الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1، وطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا, ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 2. ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم, ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي -رضي الله عنهم- كما دلت عليه الآثار واختلف بعض أهل السنة في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- وإن كانت مسألتهما ليست في الأصول التي يضلل فيها المخالف عند جمهور أهل السنة والجماعة لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة, وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي, ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة, فهو أضل من حمار أهله.
ومن عقائد أهل السنة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي" 3.
ويتولون أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- ويمسكون عما شجر بين الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم, وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنهم خير القرون, وأن المد من أحدهم إذا تصدق به أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم.
__________
1 سورة الحشر: الآية 10.
2 صحيح البخاري, كتاب الفضائل ج4 ص195؛ ومسلم, الفضائل ج4 ص1967.
3 مسند الإمام أحمد: ج4 ص367, وسنن الدارمي, كتاب فضائل القرآن ج2 ص432، ورواه مسلم في فضائل على -رضي الله عنه- ج4 ص1873.(1/61)
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر في جنب فضائل القوم ومحاسنهم, من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح.
ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها, وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين, وسائر قرون الأمة إلى يوم القيامة.
ومن أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة, ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء، ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك, ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك, وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق, ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها, وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم متبعون للكتاب والسنة, وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم1.
ذلكم مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة, أما تفصيل ما وعدت بتفصيله مما كان موضع خلاف بين أهل السنة والجماعة وما عداهم من الفرق, فإني مورده هنا بتفصيل مناسب لأبحاث في التفسير لا لأبحاث في العقيدة.
__________
1 هذا مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة, لخصته من العقيدة الواسطية لابن تيمية، رحمة الله تعالى. انظر مجموع الفتاوى ج3 من ص129 إلى ص159.(1/62)
بيان بعض عقائدهم:
تنزيه الله عن البداء:
البداء في لغة العرب على معنيين:
أولهما: الظهور بعد الخفاء, وورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة
مواضع, منها قوله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} 1، وقوله سبحانه: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} 2، وقوله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 3.
ثانيهما: نشأة الرأي الجديد, ومنه في القرآن الكريم قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 4.
والبداء بهذين المعنيين لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه وتعالى؛ لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم بعده وكلاهما تنزه الله عنه؛ لأنهما صفتا نقص والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5، وقوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 6، وغير ذلك من الآيات, وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء" 7.
وكما أن أهل السنة والجماعة وسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم8, فإنهم هنا أيضا في هذا المعتقد يتربعون على عرش الوسطية مرتفعين
__________
1 سورة الزمر: الآية 47.
2 سورة الجاثية: الآية 33.
3 سورة البقرة: الآية 284.
4 سورة يوسف: الآية 35.
5 سورة الحديد: الآية 22.
6 سورة الانعام: الآية 59.
7 قال الألباني في هذا الحديث: "صحيح وأخرجه أيضا أحمد 2/ 169؛ والترمذي وصححه دون قوله: "وكان عرشه" وهو رواية لمسلم, ورواه البيهقي في الأسماء 269, شرح الطحاوية ص140.
8 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص141.(1/63)
عن اليهود والرافضة, حيث أنكر اليهود النسخ؛ لأنه يستلزم البداء على الله بزعمهم, وقالت الرافضة بالنسخ وأثبتوا لازمه بزعمهم وهو البداء، وتوسط أهل السنة والجماعة فأخذوا بأدلة الكتاب والسنة وقالوا بالنسخ, وأنكروا البداء وقالوا: إنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 1 وإن كان يعلم أنهم لا يردون ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا كما قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 2، 3، وقالوا: على العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه, فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سمواته وأرضه4, وسيأتي تفسير الآيات المتعلقة بهذا البحث في موضعه عن شاء الله.
إثبات الرؤية:
ويعتقد أهل السنة أن أهل الجنة يرون ربهم يوم القيامة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, ِإلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 5, وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن سول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو كما قال, ومعناه على ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله -عز وجل- ولرسوله صلى الله عليه وسلم, ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه -وهي عندهم أعني الرؤية- من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها, وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون6.
واستدلوا لإثبات الرؤية بعدة أدلة من الكتاب والسنة, فمن الكتاب قوله
__________
1 الأنعام: الآية 28.
2 الأنفال: الآية 23.
3 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز الحنفي ص152 "الشرح".
4 شرح الطحاوية: على بن أبي العز الحنفي ص302 "المتن".
5 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
6 شرح الطحاوية: ص203-204.(1/64)
تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، ِإلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وقوله سبحانه على لسان موسى، عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2 ولا يجوز أن يسأل موسى -عليه السلام- ربه ما يستحيل عليه, فإذا لم يجز ذلك على موسى -عليه السلام- علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى3, واستدلوا بقوله سبحانه جوابا لموسى، عليه السلام: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 2, قالوا: لما كان الله تعالى قادرا على أن يجعل الجبل مستقرا, كان قادرا على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى -عليه السلام- فدل ذلك على أن الله تعالى قادر أن يري عباده نفسه, وأنه جائز رؤيته4.
واستدلوا بقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5 ققالوا: إن الزيادة هي النظر إلى الله -عز وجل- ولم ينعم الله تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له, وقال تعالى: {ولدينا مَزِيدٌ} 6، قيل: النظر إلى الله -عز وجل- وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 7, وإذا لقيه المؤمنون رأوه, وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 8، فحجبهم عن رؤيته, ولا يحجب عنها المؤمنين9.
ومن السنة:
وقد تواترت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الدالة على الرؤية, رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن10، ومنها حديث أبي هريرة، رضي
__________
1 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
2 سورة الأعراف: من الآية 143.
3 انظر الإبانة عن أصول الديانة, لأبي الحسن الأشعري ص41.
4 المرجع السابق ص43.
5 سورة يونس: من الآية 26.
6 سورة ق: من الآية 35.
7 سورة الأحزاب: من الآية 44.
8 سورة المطففين: الآية 15.
9 الإبانة عن أصول الديانة, لأبي الحسن الأشعري ص45-46.
10 شرح الطحاوية ص209.(1/65)
الله عنه: أن ناسا قالوا: يا رسول الله, هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: "هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك" الحديث1.
وحديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا, لا تضامون في رؤيته"2.
وما رواه صهيب -رضي الله عنه- قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه, وهي الزيادة" 4.
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا5.
الأسماء والصفات:
أما على سبيل الإجمال فقد سلف بيان عقيدة أهل السنة في ذلك, وأما على التفصيل فسأعرض لبعضها بشيء من ذلك وهو ما كان موضع خلاف بين أهل السنة والفرق التالية, في هذه الدراسة.
__________
1 البخاري: ك الأذان ج1 ص195؛ ومسلم: ك الإيمان ج1 ص163؛ ومسند الإمام أحمد ج3 ص16 وغيرهم.
2 صحيح البخاري: المواقيت ج1 ص139؛ صحيح مسلم: المساجد ج1 ص439.
3 سورة يونس: الآية 26.
4 صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص163؛ مسند أحمد ج4 ص333؛ وسنن الترمذي: كتاب التفسير ج5 ص286؛ وسنن ابن ماجه, المقدمة ج1 ص81.
5 شرح الطحاوية ص210.(1/66)
الجهة:
قلنا: إن أهل السنة يصفون الله سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل, ومن غير تكييف ولا تمثيل، ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه1.
وأحسن من اطلعت على قوله في هذا ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث وضح ذلك توضيحا شافيا في مثل هذا اللفظ ونحوه من الألفاظ حيث قال، رحمه الله تعالى:
وبالجملة, فمعلوم أن الألفاظ "نوعان":
لفظ ورد في الكتاب والسنة أو الإجماع، فهذا اللفظ يجب القول بموجبه, سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا حقا, والأمة لا تجتمع على ضلالة.
"والثاني": لفظ لم يرد به دليل شرعي كهذه الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام والفلسفة, هذا يقول: هو متحيز وهذا يقول: ليس بمتحيز، وهذا يقول: هو في جهة، وهذا يقول: ليس هو في جهة، وهذا يقول: هو جسم أو جوهر وهذا يقول: ليس بجسم ولا جوهر, فهذه الألفاظ ليس على أحد أن يقول فيها بنفي ولا إثبات حتى يستفسر المتكلم بذلك, فإن بين أنه أثبت حقا أثبته وإن أثبت باطلا رده وإن نفى باطلا نفاه وإن نفي حقا لم ينفه, وكثير من هؤلاء يجمعون من هذه الأسماء بين الحق والباطل في النفي والإثبات2.
ثم طبق -رحمه الله تعالى- هذا القول على من قال بالجهة, فقال عنه: "فمن قال: إنه في جهة وأراد بذلك أنه داخل محصور في شيء من المخلوقات -كائنا من كان- لم يسلم إليه هذا الإثبات, وهذا قول الحلولية, وإن قال: إنه مباين للمخلوقات فوقها لم يمانع في هذا الإثبات، بل هذا ضد قول الحلولية،
__________
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص41.
2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج5 ص298-299.(1/67)
ومن قال: ليس في جهة, فإن أراد أنه ليس مباينا للعالم ولا فوقه, لم يسلم له هذا النفي"1.
وبهذا يتضح مذهب أهل السنة في نحو هذه الألفاظ, أعني: الجهة والجسم والجوهر والحيز ونحوها.
الاستواء:
ورد لفظ الاستواء في القرآن الكريم سبع مرات, منها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 2، ومنها قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون باستواء الله على عرشه بالكيفية التي يعلمها سبحانه, ويقولون كما قال ربيعة بن عبد الرحمن: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول, ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق، وكما قال تلميذه مالك بن أنس, حين جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء4! ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا, ثم أمر به أن يخرج.
قال ابن تيمية: "فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين, أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية, ولم ينفوا حقيقة الصفة"5.
__________
1 مجموع الفتاوى ج5 ص299.
2 سورة الأعراف: من الآية 54؛ وسورة يونس: من الآية 3.
3 سورة طه: الآية 5.
4 قال في القاموس: الرحضاء: عرق يغسل الجلد, كثره ج2 ص331.
5 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج5 ص40-41.(1/68)
يمين الرحمن:
والحديث عن يمين الرحمن حديث عن يدي الله سبحانه وتعالى, وعقيدة أهل السنة في ذلك أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله, وأنه سبحانه خلق آدم بيده وأنه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى وأن يديه مبسوطتان, ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة العطاء1، وقد أثبت أهل السنة اليدين لله تعالى؛ لنصوص القرآن الكريم الكثيرة, ومنها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 2، وقال سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3، وقال عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 4، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} 5.
وقد تواتر في السنة مجيء اليد في حديث النبي, صلى الله عليه وسلم1.
هذه بعض الأبحاث الداخلة تحت عقيدة الإيمان بالله عند أهل السنة, وإنما خصصناها بالذكر لورود بعض التفاسير المخالفة لها عند بعض أرباب الفرق فيما سيأتي من أبحاث. أما العقيدة في القرآن الكريم فهي:
القرآن كلام الله منزل غير مخلوق:
يعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله, منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدَّقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية, فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد
__________
1 مجموع الفتاوى, لابن تيمية ج6 ص363.
2 سورة المائدة: من الآية 64.
3 سورة ص: من الآية 75.
4 سورة الزمر: من الآية 67.
5 سورة يس: من الآية 71.(1/69)
كفر, وقد ذمه الله وأوعده بسقر حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 1, فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 1 علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر, ولا يشبه قول البشر2.
تلكم عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم, قال عنها شارح الطحاوية: "هذه قاعدة شريفة وأصل كبير من أصول الدين ضل فيه طوائف كثيرة من الناس, وهذا الذي حكاه الطحاوي -رحمه الله- هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما, وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة"2.
سلامة القرآن من التحريف:
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ, لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 4.
لذا ولغيره من النصوص أجمع أهل السنة على سلامة القرآن من التحريف أو التغيير أو التبديل أو الزيادة أو النقص, ومن اعتقد أن القرآن الكريم غير محفوظ فقد خرج عن ربقة الإسلام.
ونصوص علماء أهل السنة في ذلك كثيرة, ومنها قول القاضي عياض رحمه الله تعالى: قد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض, المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان من أول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} , أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن جميع ما فيه حق, وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك
__________
1 سورة المدثر: الآيتان 25-26.
2 شرح الطحاوية ص179.
3 سورة الحجر: الآية 9.
4 سورة فصلت: من الآيتين 41-42.(1/70)
أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا لكل هذا, أنه كافر؛ ولهذا رأى مالك قتل من سب عائشة -رضي الله عنها- بالفرية لأنه خالف القرآن, ومن خالف القرآن قتل أي: لأنه كذب بما فيه, وقال ابن القاسم: من قال: إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما يقتل, وقاله عبد الرحمن بن المهدي، وقال محمد بن سحنون فيمن قال: المعوذتان ليستا من كتاب الله, يضرب عنقه إلا أن يتوب, وكذلك كل من كذب بحرف منه. وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له: ليس كما قرأت ويقول: أما أنا فأقرأ كذا فبلغ ذلك إبراهيم فقال: أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله، وقال عبد الله بن مسعود: من كفر بآية من القرآن, فقد كفر به كله ... 1.
وقال ابن قدامة: "ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفا متفقا عليه, أنه كافر"2.
وكذا قال البغدادي: "وأكفروا -أي: أهل السنة- من زعم من الرافضة أن لا حجة اليوم في القرآن والسنة لدعواه أن الصحابة غيروا بعض القرآن وحرفوا بعضه"3.
وقال ابن حزم: "القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صريح, وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
وها أنت ترى حكم علماء أهل السنة والجماعة فيمن أنكر حرفا واحدا من القرآن الكريم, فكيف بمن ادعى أكثر من ذلك, والعياذ بالله.
وما كنت لأزيد عن الإشارة لعقيدة أهل السنة في مثل هذا لولا أن نابتة
__________
1 الشفا: القاضي عياض ج2 ص264-265.
2 لمعة الاعتقاد: موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ص16-17.
3 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص315.
4 الفصل في الملل والنحل: ابن حزم ج4 ص182.(1/71)
من علماء الشيعة في العصر الحديث كادت ومكرت في سبيل تقرير هذه العقيدة إذ لم يثبتوها بطريق مألوف مباشر، بل أنكروا قولهم بالتحريف وزعموا أنها عقيدة أهل السنة وذهبوا يستدلون لافترائهم هذا بأدلة لا أشك في اعتقادهم وهنها وضعفها دلالة وثبوتا وإنما أوردوها خداعا وتمويها وما عدا ذلك فاستدلوا بقول أهل السنة بالناسخ والمنسوخ وباختلاف القراءات وشبه لهم أن قول أهل السنة بهذا قول بالتحريف قلبوا الحقيقة فقول أهل السنة بهذا دليل على الحفظ لا على ضده إذ إنهم لم يفتهم من القرآن حتى ما نسخ وحتى القراءات المتعددة للكلمة, فإذا كان لم يفتهم شيء من هذا ولا ذاك، بل دونوه وميزوا بين الناسخ والمنسوخ وبين ما يقرأ به وما لا يقرأ به, وهذا لعمري من أقوى الأدلة على حفظ هذا القرآن الكريم إلا عند صاحب هوى وبدعة.
وإن المسلم ليعجب لحماس الشيعة في إيراد الأدلة عند أهل السنة والتكلف لإثباتها وتقرير دلالتها وهم يزعمون إنكار التحريف, ويعجب لهذا الحرص على تصحيحهم لهذه الأدلة ولا يدري سببا لم ينكرون -بزعمهم- القول بالتحريف إذا كانوا يعتقدون صحة هذه الأقوال.
ويبطل عجب المسلم اللبيب إذا عرف أنهم ينكرون القول بالتحريف تقية وكيدا ومكرا, ويعوضون هذا الإنكار بإيراد الأدلة والشبه وحشو ذهن القارئ بها ونسبة ذلك إلى عقيدة أهل السنة حتى إذا ما قبل القارئ دلالة هذه الأدلة وصدقها قال بتحريف القرآن, فوافق معتقدهم حقيقة وإن رفضها وأنكرها فإنما أنكر أدلة أهل السنة ورفض رأي أهل السنة وخرجوا منه أبرياء.. وهذا لعمري كيد أي كيد, ومكر أي مكر.
وأمر آخر, ذلكم أن كل من خالف من أهل الفرق فإنه أوّل آيات القرآن وحرف معانيها وحرف مدلولاتها عن حقيقتها إلى ما يؤيد مذهبه ولم يجرؤ أحد من أصحاب المذاهب والفرق إلى القول بالزيادة أو النقصان في القرآن إلا فرقة واحدة فرقة الشيعة, إذ لم يجدوا من النصوص القرآنية ما يؤيد عقيدتهم ولم يستطيعوا تأويلها وصرف معانيها عن حقيقتها صرفا يوازي انحراف عقيدتهم(1/72)
فلم يجدوا موازيا لهذا الانحراف إلا القول بتحريف القرآن وبغيره لا يستطيعون إثبات عقائدهم.
وما كان نهجي أن أعرض للرأي المخالف وأنا أسوق عقائد أهل السنة لولا أن المخالف هنا متعين أولا، والحاجة ماسة إلى بيان أسلوبه ومكره في هذا ثانيا.
ظاهر القرآن وباطنه:
وجل ما يعتمد عليه أصحاب القول بأن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا, ما روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف, لكل حرف منها ظهر وبطن, ولكل حرف حد, ولكل حد مطلع" والحديث الذي سئل عنه ابن تيمية: "للقرآن باطن, وللباطن باطن إلى سبعة أبطن" فكان جوابه، رحمه الله تعالى: "أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم ولا يوجد في شيء من كتب الحديث, ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفا أو مرسلا: "إن لكل آية ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا"1.
وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فقد أورده الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- بسندين قال عنهما الشيخ أحمد شاكر: "هو حديث واحد بإسنادين ضعيفين, أما أحدهما فلانقطاعه بجهالة راويه عمن ذكره عن أبي الأحوص، وأما الآخر فمن أجل إبراهيم الهجري راويه عن أبي الأحوص"، ثم قال: "والحديث بهذا اللفظ الذي هنا ذكره السيوطي في الجامع الصغير رقم 2727 ونسبه للطبراني في المعجم الكبير, ورمز له بعلامة الحسن ولا ندري إسناده عند الطبراني"2.
ومع وصف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لنحو هذه الأحاديث بالاختلاق وتضعيف أحمد شاكر لهما, فإن أهل السنة بينوا المراد بالظاهر والباطن فيهما.
__________
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص231-232.
2 تفسير الطبري: تخريج أحمد محمد شاكر ج1 ص22-23.(1/73)
بين ذلك الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- فقال: "وقوله صلى الله عليه وسلم: " وإن لكل حرف منها ظهرا وبطنا" فظهره الظاهر في التلاوة, وبطنه ما بطن من تأويله"1، وعلق على هذا الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- بقوله: "الظاهر: ما تعرفه العرب من كلامها وما لا يعذر أحد بجهالته من حلال وحرام, والباطن: هو التفسير الذي يعلمه العلماء بالاستنباط والفقه ولم يرد الطبري ما تفعله طائفة الصوفية وأشباههم في التلعب بكتاب الله وسنة رسوله والعبث بدلالات ألفاظ القرآن وادعائهم أن لألفاظه "ظاهرا" هو الذي يعلمه علماء المسلمين و"باطنا" يعلمه أهل الحقيقة، فيما يزعمون"1.
وبين ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث قسم الباطن إلى قسمين "أحدهما: باطن يخالف العلم الظاهر و"الثاني" لا يخالفه, فأما الأول فباطل: فمن ادعى علما باطنا أو علما بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئا إما ملحدا زنديقا وإما جاهلا ضالا، وأما الثاني فهو بمنزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقا وقد يكون باطلا ... فإن علم أنه حق قبل وإن علم أنه باطل رد وإلا أمسك عنه، وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فبمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم, ممن وافقتهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين"2. ووضح هذا في موضع آخر فقال: "وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان:
"أحدهما": أن يكون المعنى المذكور باطلا؛ لكونه مخالفا لما علم, فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق.
و"الثاني": ما كان في نفسه حقا, لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك, فهذا الذي يسمونه "إشارات" و"حقائق التفسير"
__________
1 المرجع السابق ج1 ص72.
2 مجموع الفتاوى ج13 ص235-236.(1/74)
لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير, وأما النوع الأول فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم.
وأما "النوع الثاني": فهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس, فإن المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه, وهذان قسمان:
"أحدهما": أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ, فهذا افتراء على الله, فمن قال: المراد بقوله: {تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هي النفس وبقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} هو القلب {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي، فقد كذب على الله, إما متعمدا وإما مخطئا.
"القسم الثاني" أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس لا من باب دلالة اللفظ, فهذا من نوع القياس فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة, وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك"1.
ثم قال: "وقد تبين من ذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين, فهو مفترٍ على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه, وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام، وأما ما يروى عن بعضهم من الكلام المجمل مثل قول بعضهم: لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب ... إلخ2 فهذا إذا صح عمن نقل عنه كعلي وغيره لم يكن فيه دلالة على الباطن المخالف للظاهر، بل يكون هذا من الباطن الصحيح الموافق للظاهر الصحيح.
وقد تقدم أن الباطن إذا أريد به ما لا يخالف الظاهر المعلوم, فقد يكون حقا وقد يكون باطلا, ولكن ينبغي أن يعرف أنه قد كذب على علي وأهل بيته, لا سيما على جعفر الصادق ما لم يكذب على غيره من الصحابة"3.
__________
1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص240-242.
2 بقية الأثر كما ورد في السؤال الموجه إلى ابن تيمية "كذا وكذا حمل جمل".
3 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص243-244.(1/75)
وعذرا إذا ما استطردت بعض الاستطراد في بيان هذا, إذ إن كثيرا من الفرق يقوم انحرافها على التأويلات الباطنية, فلزم أن أفصل مذهب أهل السنة في ذلك.
الإمامة:
إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء ويضبط ثغورهم ويغزي جيوشهم ويقسم الفيء بينهم وينتصف لمظلومهم من ظالمهم, وبالجملة1 يقيم شأن الدولة بجميع مرافقها.
ويرون أن طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد. وقالوا: ليس من النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على إمامة واحد بعينه2 نصا صريحا ويثبتون الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة, ثم لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم لعثمان -رضي الله عنه- ثم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون3.
وقالوا: لا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا, ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية, وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة, لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما4، والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا!! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري5.
هذا مجمل عقيدتهم في الإمامة.
__________
1 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص340.
2 المرجع السابق ص340.
3 العقيدة الطحاوية ص57.
4 العقيدة الطحاوية ص47-48.
5 شرح الطحاوية: ت جماعة من العلماء ص437.(1/76)
العصمة:
ويعتقدون أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وتعالى وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله1.
وقد سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عمن ادعى العصمة لغير نبي فقال: "فإن الرافضة ادعت ذلك فيمن لا شك في إيمانه وتقواه، بل فيمن لا يشك أنه من أهل الجنة, كعلي والحسن والحسين -رضي الله عنهم- ومع هذا فقد اتفق أهل العلم والإيمان على أن هذا القول من أفسد الأقوال وأنه من أقوال أهل الإفك والبهتان, فإن العصمة في ذلك ليست لغير الأنبياء -عليهم السلام-" ثم قال: "والمقصود أن من ادعى عصمة هؤلاء السادة المشهود لهم بالإيمان والتقوى والجنة هو في غاية الضلال والجهالة, ولم يقل هذا القول من له في الأمة لسان صدق، بل ولا من له عقل محمود"2.
المهدي:
والمهدي حق, قال السيوطي, رحمه الله تعالى: "قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم السحري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمجيء المهدي وأنه من أهل بيته وأنه سيملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلا وأنه يخرج مع عيسى -عليه السلام- فيساعده على قتل الدجال بباب لدّ بأرض فلسطين وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه3, وحكى التواتر أيضا محمد بن رسول الحسيني في كتابه: الإشاعة لأشراط الساعة4، وحكاه ابن قيم الجوزية في: المنار المنيف في الصحيح والضعيف5.
__________
1 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج10 ص289-290.
2 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج35 ص120 و126.
3 الحاوي للفتاوي: الإمام السيوطي ج2 ص165-166.
4 الإشاعة لأشراط الساعة: محمد بن رسول الحسيني ص112.
5 المنار المنيف في الصحيح والضعيف: ابن قيم الجوزية ص142.(1/77)
قال الشيخ الذهبي, رحمه الله تعالى: "لم نر من المسلمين من ذهب مذهب الإمامية من تعيين المهدي ودعواهم أنه الإمام الثاني عشر الذي اختفى حيا وسيعود في آخر الزمان"1.
إنكار الرجعة:
ومن عقائد أهل السنة إنكار رجعة أحد من الأموات قبل قيام الساعة, فلا يرجع محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه إلا يوم القيامة إذا رجع الله المؤمنين والكافرين للحساب والجزاء, هذا إجماع أهل الإسلام قبل حدوث الروافض2.
وقد نص القرآن الكريم نصا صريحا على أن لا رجعة, قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3، وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} 4.
الميزان والصراط حسيان:
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما جاء في الكتاب, وبكل ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت.
فيؤمنون بنصب الموازين لوزن أعمال العباد, قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 5، والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص8.
2 المحلى: ابن حزم ص28 ج1؛ والمعتمد في أصول الدين: محمد بن الحسين بن الغراء ص255.
3 سورة المؤمنون: الآيتان 99-100.
4 سورة السجدة: الآية 12.
5 سورة الأنبياء: الآية 47.(1/78)
حسيتان مشاهدتان1. قال شارح الطحاوية: "فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن, وإنما يقبل الوزن الأجسام!! فإن الله يقلب الأعراض أجساما"1، وقال: فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا به الصادق -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نقصان2.
ونؤمن بالصراط وهو جسر على جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم, فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم, فمن مر على الصراط دخل الجنة3.
أهل الكبائر يوم القيامة:
ثار جدل طويل بين الفرق والمذاهب الإسلامية: هل يسمى مرتكب الكبيرة مؤمنا أو غير مؤمن؟ وهل يخلد في النار أو يخرج منها؟ وهل يشفع له أو لا يشفع له؟
وأصل النزاع بين هذه الفرق يتعلق بأصل الإيمان: هل يكون شيئا واحدا إذا زال زال جميعه, وإذا ثبت ثبت كله أم لا؟
أما المرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة, فجماع شبهتهم أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها. وانقسم هؤلاء إلى قسمين:
المرجئة قالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان, وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل, والتفاضل في غير الإيمان من الأعمال, والأعمال ليست من الإيمان.
وقالت الجهمية والخوارج والمعتزلة: لا يكون مع الفاسق إيمان, ثم انقسموا إلى قسمين: الخوارج قالت: هو كافر، والمعتزلة قالت: هو في منزلة بين المنزلتين، ثم اتفقوا في الحكم فقالوا: هو خالد في النار لا يخرج منها بشفاعة, ولا غيرها.
__________
1 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز ص472، 474.
2 شرح الطحاوية: علي بن أبي العز ص475.
3 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج3 ص146-147.(1/79)
وكما أن الإسلام وسط بين الأديان, فإن أهل السنة استقروا في وسط الوسط بين الفرق والمذاهب وتوسطهم في هذه المسألة أنهم قالوا: إن الإيمان يتبعض فيذهب بعضه ويبقى بعضه كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان". ولهذا مذهبهم أن الإيمان يتفاضل ويتبعض, وهذا -كما قال ابن تيمية- مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم1.
ولهذا, فإنهم لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} 2، وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3.
ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته, فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم4.
وقالوا: إن أهل الكبائر لا يخلدون في النار كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية5. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد, وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تواترت بخروجهم من النار6.
__________
1 مجموع الفتاوى ج18 ص270.
2 سورة البقرة: من الآية 178.
3 سورة الحجرات: من الآيتين 9، 10.
4 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص151-152.
5 سورة فاطر: من الآيتين 32، 33.
6 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج11 ص184.(1/80)
وما داموا لا يخلدون في النار فإنهم يخرجون منها, فالصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة الأربعة وغيرهم يقرون بما تواترت به الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله يخرج من النار قوما بعد أن يعذبهم الله ما شاء أن يعذبهم, يخرجهم بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويخرج آخرين بشفاعة غيره, ويخرج قوما بلا شفاعة1.
ذلكم رأي أهل السنة في إيمان أهل الكبائر, وعدم خلودهم في النار والشفاعة لهم.
الولاء والبراء:
ومذهب أهل السنة محبة أهل العدل والأمانة وبغض أهل الجور والخيانة, وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره فغير الله يحب في الله لا مع الله, فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغضه ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه, فهو موافق لمحبوبه في كل حال، وقد يجتمع في العبد سبب الولاية وسبب العداوة والحب والبغض, فيكون محبوبا من وجه ومبغوضا من وجه والحكم للغالب2.
محبة الصحابة:
وخلاصة عقيدة أهل السنة في محبة الصحابة -رضوان الله عليهم- ما عبر عنه الطحاوي -رحمه الله - بقوله: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم, ولا نذكرهم إلا بخير, وحبهم دين وإيمان وإحسان, وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"3.
__________
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج1 ص149.
2 انظر شرح الطحاوية: ابن أبي العز ص432-433.
3 شرح الطحاوية ص528.(1/81)
وما قاله ابن تيمية، رحمه الله تعالى: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1, وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي, فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 2، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم3.
محبة أهل البيت:
وأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي" 4.
ويتولون أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين, ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة5.
وهم مع هذا لا يشهدون لهم بعصمة ولا يغالون في أوصافهم ولا يعتقدون سقوط التكاليف عنهم, روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم, حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 6 قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم
__________
1 سورة الحشر: الآية 10.
2 صحيح البخاري: فضائل الصحابة ج4 ص195؛ صحيح مسلم: فضائل الصحابة ج4 ص1967.
3 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص152.
4 رواه مسلم في فضائل علي -رضي الله عنه- ج4 ص1873, والإمام أحمد في مسنده, ج4 ص367, والدارمي في سننه، ج2 ص154.
5 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص154.
6 سورة الشعراء: الآية 214.(1/82)
لا أغني عنكم من الله شيئا, يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا, يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا, ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا, ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم, سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" 1.
التقية:
التبس الأمر على طائفة من الناس جلاء هذا اللبس, ونبراس هذه القضية يكمن في التفريق بين كلمتي الإكراه والخوف، وبالتفريق بينهما تتضح جوانب القضية وتضيء زواياها.
فالخوف هو توقع حلول مكروه أو فوت محبوب2, أما الإكراه فهو من الكره وهو فعل المضطر3 ولا يكون الاضطرار إلا بعد خوف، إذن فالإكراه خوف وزيادة.
والخوف ليس عذرا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذن لو كان عذرا لما نهض أحد بتكاليف الإسلام، بل لما بلغ الأنبياء رسالاتهم التي أرسلوا بها إلا إذا ارتقى الخوف من درجة "التوقع" إلى درجة "اليقين" فحينئذ يكون بمنزلة الإكراه.
وهل للمكره أن يقول أو يفعل ما يخالف عقيدته الإسلامية تقية ممن ألزمه بذلك؟
نصوص القرآن صريحة في جواز لا وجوب, قول ما يخلص المؤمن من إكراه الكفار له, قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 4، وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
__________
1 رواه البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء ج6 ص17.
2 المعجم الوسيط ج1 ص261.
3 تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي ج9 ص408.
4 سورة آل عمران: الآية 28.(1/83)
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1. قال القرطبي، رحمه الله تعالى: "والقضية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم ومن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر، بل يجوز له ذلك"2. بل حكى الإجماع فقال: "أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم عند الله ممن اختار الرخصة, واختلفوا فيمن أكره على غير القتل من فعل ما لا يحل له"3.
بل روي عن معاذ بن جبل ومجاهد، رضي الله عنهما: "وكانت التقية في جدة الإسلام قبل قوة المسلمين, فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم"4.
هذا إذا كانت التقية مع الكفار والإكراه بالقتل، فإنها تكون رخصة وأجمعوا على أن تركها أفضل فكيف بمن اتخذها مطية للكذب المطلق بالقول والفعل بلا حدود ولا قيود مع المسلمين, وزعم أنها من أصول الدين، بل إنها تسعة أعشار الدين وإن لا دين لمن لا تقية له5، {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6.
الإيمان بالقدر خيره وشره:
قال ابن تيمية, رحمه الله تعالى: "وتؤمن الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة- بالقدر خيره وشره, والإيمان بالقدر على درجتين, كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه
__________
1 سورة النحل: الآية 106.
2 تفسير القرطبي ج4 ص57.
3 تفسير القرطبي ج10 ص188.
4 تفسير القرطبي ج4 ص57.
5 الكافي: الكليني ج2 ص217.
6 سورة الأعراف: الآية 139.(1/84)
القديم الذي هو موصوف به أزلا, وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال.
ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق, فأول ما خلق الله القلم قال له: "اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"1. فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 2، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 ... فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما, ومنكره اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة, وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه, لا يكون في ملكه إلا ما يريد, وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه.
ومع ذلك, فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم, والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم
__________
1 رواه أبو داود: كتاب السنة ج4 ص225-226.
2 سورة الحج: الآية 70.
3 سورة الحديد: الآية 22.(1/85)
وخالق قدرتهم وإرادتهم, كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1.
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوس هذه الأمة, ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها2.
ذلكم تفصيل ما أردت تفصيله من عقيدة أهل السنة والجماعة وإنما خصصت بعضها به؛ لأنه موضع خلاف بين أهل السنة ومن عداهم من المذاهب فيما يلي من أبحاث, فكان لزاما أن أذكره تفصيلا هنا حتى إذا ما تناولته في مواضع تالية لعقائد منحرفة أكون قد قدمت الرأي الحق لمن أراده وتبرأ ذمتي من عرض آراء ضالة, من غير تبيان الصراط السوي.
__________
1 سورة التكوير: الآيتان 28، 29.
2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج3 ص148-150 باختصار.(1/86)
أسس تفسير أهل السنة:
يقوم منهج أهل السنة والجماعة في التفسير على أسس واضحة بينة, أهمها:
أولا: تفسير القرآن بالقرآن:
وهو أصح طرق التفسير, فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر, وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.
ثانيا: تفسير القرآن بالسنة:
فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من القرآن, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} 1، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
__________
1 سورة النساء: من الآية 105.(1/86)
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" 3 يعني السنة4.
وقال -أيضا- الإمام الشافعي رحمه الله: "وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان: أحدهما نص كتاب فاتبعه رسول الله كما أنزل الله والآخر جملة بين رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا, وكيف أراد أن يأتي به العباد, وكلاهما اتبع فيه كتاب الله"5.
وقال الطبري, رحمه الله تعالى: "إن مما أنزل الله من القرآن على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره: واجبه وندبه، وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده ومبالغ فرائضه ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض وما أشبه ذلك من أحكام آيه التي لم يدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته, وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأويله بنص منه عليه, أو بدلالة قد نصبها دالة أمته على تأويله"6.
وقال الإمام الشاطبي, رحمه الله تعالى: "إن السنة توضح المجمل وتقيد المطلق وتخصص العموم, فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة, وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ, فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره
__________
1 سورة النحل: من الآية 44.
2 سورة النحل: من الآية 64.
3 رواه أحمد ج4 ص131؛ وأبو داود في السنة وسنده صحيح ج4 ص200.
4 مجموع الفتاوى ج13 ص363- 364.
5 الرسالة, للإمام الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر ص91.
6 تفسير الطبري، تحقيق محمود شاكر ج1 ص74.(1/87)
جاهلا بالكتاب خابطا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها، إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل"1.
هذا بعض ما قاله علماء السنة في تفسير القرآن بالسنة, ومنه يعرف منزلة هذا النوع من التفسير، بل إنهم لا يقبلون سواه إذا صح عندهم. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومما ينبغي أن يعلم أن القرآن والحديث إذا عرف تفسيره من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى أقوال أهل اللغة, فإنه قد عرف تفسيره"2، وقال أيضا: "ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها أو تنسخها أو بسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- تفسرها, فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين القرآن وتدل عليه وتعبر عنه"2.
ثالثا: تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها كمعرفة أوضاع اللغة وأسرارها، ومعرفة عادات العرب وقت نزول القرآن, ومعرفة عادات اليهود والنصارى حينذاك, وقوة الفهم وسعة الإدراك ومعرفة أسباب النزول وما أحاط بآيات القرآن من أحداث وقت نزولها؛ لذا ولغيره تبوأ تفسيرهم هذه المنزلة من القبول عند علماء أهل السنة والجماعة لا سيما علماء الصحابة وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كابن مسعود وابن عباس.
رابعا: اعتبار أقوال التابعين:
لأنهم تلقفوا علم الصحابة ووعوه ودارسوهم القرآن الكريم وسألوهم عنه كما قال مجاهد بن جبر رحمه الله تعالى: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته, أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها, وقال قتادة: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا.
__________
1 الموافقات: الشاطبي ج4 ص21.
2 مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج13 ص27-29.(1/88)
وإنما قلت: اعتبار أقوال التابعين؛ لأن بعض علماء أهل السنة والجماعة اعتبر أقوالهم حجة ملزمة وبعضهم لم يعتبرها كذلك إلا أنه يأخذ بها ويميزها عن أقوال من جاء بعدهم.
خامسا: تفسير القرآن بعموم لغة العرب:
لأن القرآن الكريم نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، والمعاني تختلف باختلاف إعرابها، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو والتصريف الذي تعرف به الأبنية والكلمة المبهمة يتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها2 ونقل عن بعض علماء السلف تأكيد مثل هذا فقال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب"3، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال: "لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا"4، بل قال الشاطبي: "كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء, لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به, ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل"5.
سادسا: التحذير من التفسير بالرأي المجرد:
وأهل السنة حين جعلوا هذه الدرجات الخمس السابقة للتفسير حسب ترتيبها السالف, حذروا بعد هذا من التفسير بمجرد الرأي لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 6، وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 7، وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 8. فأضاف البيان
__________
1 سورة الشعراء: من الآية 59.
2 مباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص331.
3 الإتقان: السيوطي ج2 ص180.
4 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج2 ص160.
5 الموافقات: الشاطبي ج3 ص391.
6 سورة الإسراء: من الآية 36.
7 سورة البقرة: من الآية 169.
8 سورة النحل: من الآية 44.(1/89)
إليه وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب, فقد أخطأ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال: غريب من حديث ابن جندب, وقال البيهقي في "شعب الإيمان": هذا إن صح, فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه, فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل, وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به1.
ولهذا تحرج بعض الصحابة -رضي الله عنهم- من نحو هذا, فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي سماء تظلني, وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم! وغير ذلك كثير, حكى ابن تيمية -رحمه الله تعالى- طائفة منها ثم قال: "فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به, فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه, وسكتوا عما جهلوه, وهذا هو الواجب على كل أحد"2.
سابعا: العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب:
والشمول متفرع من الشمول في الرسالة الإسلامية, فهي عامة لكل الناس, قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 3، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 4. وما دامت الشريعة الإسلامية ليست لطائفة دون أخرى، بل هي للناس كافة في كل زمان ومكان, فلا عجب أن يكون كتابها القرآن الكريم شاملا وعاما: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا
__________
1 البرهان: بدر الدين الزركشي ج2 ص161-162.
2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص374.
3 سورة الأعراف: من الآية 158.
4 سورة سبأ: من الآية 28.
5 سورة يوسف: الآية 104.(1/90)
الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1.
لهذا بنى أهل السنة قاعدة ساروا عليها في تناول آيات القرآن بشمول آيات القرآن الكريم ومنع اختصاصها بسبب نزولها.
قال ابن تيمية, رحمه الله تعالى: "قولهم: إن هذه الآية نزلت في فلان وفلان, لا يريدون به أنها آية مختصة به كآية اللعان وآية القذف وآية المحاربة ونحو ذلك لا يقول مسلم: إنها مختصة بمن كان نزولها بسببه ... " ثم قال: "فلا يقول مسلم: إن آية الظهار لم يدخل فيها إلا أوس بن الصامت, وآية اللعان لم يدخل فيها إلا عاصم بن عدي أو هلال بن أمية وإن ذم الكفار لم يدخل فيه إلا كفار قريش, ونحو ذلك مما لا يقوله مسلم ولا عاقل.
فإن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد عرف بالاضطرار من دينه, أنه مبعوث إلى جميع الإنس والجن والله تعالى خاطب بالقرآن جميع الثقلين"2.
حتى ما خوطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنهم شملوا به أمته ما لم يقم دليل على التخصيص, وجعلوا هذا هو الأصل في الخطاب فقال ابن تيمية: "إن الأصل فيما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سارٍ في حق أمته كمشاركة أمته له في الأحكام وغيرها حتى يقوم دليل التخصيص فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق الأمة إذا لم يخصص, هذا مذهب السلف والفقهاء"3.
وقال أيضا: "إن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل"4، وهذا ما عبر عنه علماء السلف بالقاعدة الشرعية: "العبرة بعموم اللفظ, لا بخصوص السبب".
__________
1 سورة الأنعام: الآية 19.
2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج16 ص148.
3 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج15 ص82.
4 المرجع السابق ج15 ص364.(1/91)
ثامنا: ترك الإطناب فيما أبهم من القرآن:
قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1، وفي قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 2. لمحة ترشدنا إلى أن في خلق الله أسرارا لا تدرك للعباد, فإن في الصلاة من جهة أعداد ركعاتها وأوقاتها, وفي أنصبة الزكاة ومقادير الكفارات لمحات أخرى واضحة جلية في أن لله سبحانه في تكاليفه ما يعجز البشر عن إدراك أسراره وما عليهم إلا أن يؤمنوا ويمتثلوا, فتصدق فيهم العبودية ويخلص منهم الإيمان3.
والقرآن الكريم فيه مما نعجز نحن البشر عن إدراك حقائقه وأمرنا أن نقول عنه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 4.
وهذا لا يطرد فيما وضحت دلالته العربية وثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيانه، بل الواجب أن نفهم منه ما بين فيه في موضع آخر أو بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أحد أصحابه أو وضحت دلالته العربية.
وما سوى ذلك نكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى, فلو كان في ذكره فائدة لنا دنيا أو أخرى لذكره سبحانه وهو أعلم بصلاح أمورنا وما يستقيم عليه ديننا؛ ولهذا لما صعد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المنبر وقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} 5، فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف, فما عليك أن لا تدريه, وسأل رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- عن: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 6 فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} 7؟ فقال
__________
1 سورة الإسراء: الآية 38.
2 سورة الإسراء: من الآية 85.
3 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص57.
4 سورة آل عمران: من الآية 7.
5 سورة عبس: الآية 31.
6 سورة السجدة: من الآية 5.
7 سورة المعارج: من الآية 4.(1/92)
الرجل: إنما سألتك لتحدثني! فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه, الله أعلم بهما1.
والفرق بين هذا الأساس في التفسير والأساس السادس الخاص بالتحذير من التفسير بالرأي المجرد, أن الأساس السابق خاص في الآيات التي للرأي مجال فيها إذا لم يكن مجردا, أما هذا النوع -أعني المبهمات- مرجعه النقل المحض ولا مجال للرأي فيه, كما قال السيوطي2، والله أعلم.
تاسعا: التقليل من شأن الإسرائيليات:
وخلاصة موقف أهل السنة والجماعة من الإسرائيليات, أنهم يقسمونها إلى أقسام ثلاثة:
أولها: ما وافق شريعتنا, فتجوز روايته للاستشهاد لا للاعتقاد.
ثانيها: أن ما خالف شريعتنا, لا تصح روايته.
ثالثها: أن ما ليس في شريعتنا ما يوافقه ولا ما يخالفه, فلا بأس بحكايته من غير تصديق ولا تكذيب.
قال ابن كثير رحمه الله: فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا، وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال3.
أما النوع الثالث فقال عنه: "وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه، بل نجعله وقفا، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته, وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين, ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة"4.
__________
1 مجموع الفتاوى, ج13 ص372-373.
2 الإتقان: السيوطي ج2 ص145.
3 البداية والنهاية: ابن كثير ج1 ص6-7.
4 تفسير ابن كثير ج3 ص192.(1/93)
وقال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن هذا النوع: "وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني"، وضرب لذلك مثالا بما ذكر عن أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة1، وغير ذلك.
__________
1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص367.(1/94)
نماذج من تفسير أهل السنة والجماعة في العصر الحديث:
تزخر المكتبة الإسلامية بعدد كبير من تفاسير أهل السنة والجماعة والحمد لله، وحين نتناول هذه التفاسير بالدراسة هنا فإن هذا لا يعني سلامتها كلها من أي شائبة أو خطأ, لكنه يعني أنها في الجملة على هذا المنهج وإن كان في بعضها ما يؤخذ منها وما يرد.
تنزيه الله عن البداء:
قال الشيخ عبد الرحمن الدوسري1 في تفسيره لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 2: "لقد أقام اليهود -عليهم لعائن الله- حملات عنيفة مركزة ضد الإسلام والمسلمين متخذين من نسخ بعض
__________
1 هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن خلف الدوسري, ولد في البحرين عام 1332 ونشأ في الكويت وتعلم في المدرسة المباركية واشتغل بالأعمال الحرة، وكان له نشاط كبير في الدعوة وفي الصحافة ومنابر المساجد في الداخل والخارج, وأنفق من ماله بسخاء في سبيل ذلك، وله عدد من المؤلفات منها تفسير "صفوة الآثار والمفاهيم في تفسير القرآن العظيم" وأذيع أكثره على شكل حلقات من إذاعة المملكة العربية السعودية, ثم بدأت مؤخرا طباعته فصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات وله غيره كثير من المؤلفات، رحمه الله تعالى. وكتب الشيخ سليمان بن ناصر الطيار عنه رسالة نال بها درجة الماجستير بعنوان: "حياة الداعية الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري" من كلية الدعوة والإعلام, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
2 سورة البقرة: الآية 106.(1/94)
الآيات والأحكام ذريعة للطعن في ذات الله, زاعمين أن النسخ منافٍ لعلم الله مستلزم للبداء"1 ثم رد -رحمه الله- على هذا الزعم وأبطله.
ورفض الأستاذ محمد حمزة2 الزعم بأن القول بالنسخ يلزم منه وصف الله بالبداء, رفض هذا وأنكره ورد عليه بأدلة العقل والنقل, قال: "وأما النقل, فإن الآيات التي تدل على إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بجميع المعلومات أكثر من أن تذكر؛ قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3، وقال سبحانه: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 4, وقال جل شأنه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 5، نعلم من هذا أن البداء لا يجوز أن يتصف به الرب سبحانه وقد خسئ الروافض والمختارية إذ أجازوا على الله سبحانه أن يتصف بالبداء, فهذا ميزان العقل والشرع بين أيدينا ولكن شتان ما بين البداء والنسخ, فالبداء تجدد وحدوث في العلم، والنسخ تجدد في المعلوم لا في العلم, فالعلم واحد.
فإنه لم ينكشف لله تعالى ما كان جاهلا به حتى أمر بنقيض ما كان آمرا، بل علم الله سبحانه أنه يأمر عباده بأمر مطلق معلوم النهاية لديه مستور على خلقه لحكمة يعلمها ثم يقطع ذلك التكليف في الوقت المعلوم عنده للحكمة التي أرادها، فلا جهل ولا بداء ولكن حكمة واختبار6.
أما الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي, فأكدا في تفسيرهما لقوله
__________
1 صفوة الآثار والمفاهيم: عبد الرحمن بن محمد الدوسري ج2 ص291.
2 لم أجد له ترجمة.
3 سورة الأنعام: الآية 59.
4 سورة الرعد: الآية 8, 9.
5 سورة النمل: الآية 65.
6 دراسات الأحكام والنسخ في القرآن الكريم: محمد حمزة ص60-61.(1/95)
تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1 أكدا إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكل شيء وأنه يعلم الكليات والجزئيات فقالا: "إن علم الله تعالى محيط بالكليات والجزئيات وبكل شيء في هذا الكون, وبذلك يتبين بطلان رأي بعض الفلاسفة الذين قالوا بأن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات"2 وما دام علمه سبحانه في الكليات والجزئيات, فإنه منزه عن البداء.
إثبات الرؤية:
وقد أثبت مفسرو أهل السنة والجماعة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة, مستدلين بآيات من القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية.
ففي تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 قال الشيخ محمد العثمان القاضي4: "أي: وجوه يومئذ حسنة مشرقة, تعرف فيها نضرة النعيم، تنظر إلى وجه ربها عيانا بلا حجاب, وقد تواترت بها أحاديث سنة رسول الله وهي من المتواتر"5.
وقال الأستاذ علي رفاعي محمد6 في تفسيرها بعد أن أورد بعض أحاديث
__________
1 سورة الانعام: الآية 59.
2 تفسير سورة الأنعام: د. أحمد السيد الكومي، د. محمد سيد طنطاوي ص163.
3 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
4 هو الشيخ محمد بن عثمان بن صالح بن عثمان القاضي من قبيلة آل تميم من الوهبة، قرأ على والده وعلى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ثم على الشيخ محمد الصالح العثيمين وعلى غيرهم من العلماء. وله عدد من المؤلفات منها: مقتطفات العلوم الفائقة، والحديقة اليانعة، وهذا الكتاب في التفسير: "منار السبيل في الأضواء على التنزيل" يقع في أربعة أجزاء في مجلدين.
5 منار السبيل في الأضواء على التنزيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص286.
6 علي رفاعي محمد, من علماء الأزهر الشريف ومدرس الدعوة إلى الله بالدراسات العليا بجامعة الأزهر.(1/96)
الرؤية: "هذه الأحاديث وغيرها كثير تدل دلالة قاطعة على أن المؤمنين يوم القيامة ينظرون إلى ربهم في عرصات القيامة وفي الجنات, ومن تأول {نَاظِرَةٌ} بأنها تنتظر الثواب فقد بعد عن الحق والصواب ولم يفهم قوله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، فقد قال الإمام الشافعي: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه -عز وجل- وقد تواترت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما دلت عليه الآية الكريمة"2.
وقال به الشيخ محمد عبد الله الجزار3, فقال في تفسيرها: "في هذا اليوم نرى وجوه أهل الإيمان الخالص مشرقة مبتهجة ممتعة بالنظر إلى ربها الكريم, فتراه سبحانه بلا كيف ولا إحاطة فيكون ذلك كمال لذتها وتمام سرورها, وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وأسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك" وفي معنى الحديث الآخر: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر"، ولما كانت رؤية المؤمنين لربهم سبحانه في الآخرة تكميلا لسرورهم فإن الله تعالى حرم الكفار من ذلك: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 4، ومن عقائد أهل السنة أن المؤمنين يرون الله تعالى في الآخرة ونعوذ بالله من طريقة من يلحد في آيات الله كالمعتزلة الذين يقولون تحريفا لمعنى الآية: منتظرة نعم ربها, فنحن نقول حقيقة: وجوه المؤمنين ناظرة إلى ربها ورائية له وهم يقولون: منتظرة ... إلخ، ونعوذ بالله من اتباع غير سبيل المؤمنين"5.
وقد رجح الدكتوران أحمد السيد الكومي، ومحمد سيد طنطاوي في تفسيرهما لسورتي الأنعام والأعراف مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك, فقالا في تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 6: "والذي نراه أن
__________
1 سورة المطففين: آية 15.
2 بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد ج29 ص132.
3 لم أجد له ترجمة.
4 سورة المطففين: الآية 15.
5 الذخيرة في تفسير أجزاء قرآنية: محمد عبد الله الجزار ص516-517.
6 سورة الأنعام: الآية 103.(1/97)
رأي أهل السنة أقوى؛ لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام"1، وقالا في تفسير قوله تعالى حكاية لقول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 2: والذي نراه أن رؤية الله في الآخرة ممكنة كما قال أهل السنة لورود الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تشهد بذلك"3.
وقال الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي4 في تفسيرها: "وفي هذا دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة؛ لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال" قال له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} هذا كلام على سبيل الاستدراك, يريد أن يبين به أنه لا يطيق الرؤية، وفي تعليق الرؤية على الاستقرار دليل على جوازها لأن استقرار الجبل عند التجلي ممكن بأن يجعل الله تعالى له قوة على ذلك"5.
وقال الشيخ حسنين مخلوف6 في تفسير الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} : هي النظر إلى وجه الله الكريم, وهي المغفرة والرضوان7.
وقال في تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} : "وأما في النشأة
__________
1 تفسير سورة الأنعام: الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي ص201.
2 سورة الأعراف: من الآية 143.
3 تفسير سورة الأعراف: الدكتور أحمد الكومي والدكتور محمد طنطاوي ص181.
4 لم أجد له ترجمة.
5 تفسير القرآن الحكيم: محمد عبد المنعم خفاجي ج9 ص72.
6 حسنين محمد مخلوف, ولد سنة 1890م في القاهرة ولما أكمل الدراسة في الأزهر التحق بالقسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي ونال شهادتها في سنة 1914، عضو في هيئة كبار العلماء وتولى رئاسة محكمة طنطا ومنصب مفتي مصر, وعضو لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ونال سنة 1403هـ جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، ومن مؤلفاته: صفوة البيان لمعاني القرآن في مجلدين, وكلمات القرآن "تفسير وبيان".
6 صفوة البيان: حسنين مخلوف ج1 ص345.(1/98)
الأخرى فقد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة وفي روضات الجنات, ويدل عليه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، وفي الآية دلالة على إمكان الرؤية في ذاتها؛ لأنه تعالى علقها على استقرار الجبل وهو ممكن, وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه, وإليه ذهب أهل السنة"2.
وفسر الأستاذ عبد الله كنّون3 النظر في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} 4 بقوله: "ينظرون ما أعطاهم الله من عظيم الكرامة وجليل النعمة, وأفضلها النظر إلى وجهه الكريم فهذا في مقابل ما عومل به الفجار من حجبهم عن الله عز وجل"5.
وفسر قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 6 بقوله: "فلا يرونه كما يراه المؤمنون, قال الشافعي: لما حجب الله قوما بالسخط, دل على أن قوما يرونه بالرضى"7.
الاستواء:
وقد قال مفسرو أهل السنة والجماعة في القرن الرابع عشر الهجري في آيات الصفات, كما قال سلفهم.
__________
1 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
2 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين مخلوف ج1 ص 278.
3 عبد الله عبد الصمد كنّون, من مواليد فاس بالمغرب سنة 1326, نال شهادة العالمية من جامعة القرويين سنة 1349، ونال بعض المناصب منها: الأمين العام لرابطة علماء المغرب، عضو مجمع اللغة العربية بمصر وعضو بمجمع البحوث الإسلامية بمصر وعضو المجمع العلمي بدمشق. ومن مؤلفاته: مفاهيم إسلامية، إسلام رائد، على درب الإسلام، تحركات إسلامية، وغيرها.
4 سورة المطففين: الآيتان 22-23.
5 تفسير سور المفصل من القرآن الكريم: عبد الله كنّون ص 338.
6 سورة المطففين: الآية 15.
7 تفسير سور المفصل: عبد الله كنّون ص337.(1/99)
ففسر الأستاذ عبد الله كنون الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1 بقوله: "استواء يليق به كما هو مذهب السلف, وقد سئل عنه مالك -رحمه الله- فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة"2.
وفسره بهذا الأستاذ علي رفاعي محمد فقال: "استوى على العرش استواء يليق بجلاله, والله وحده هو الذي يعلم حقيقة معنى استوائه على العرش"3.
وفسره بهذا الأستاذ حسنين محمد مخلوف فال: "أي: استواء يليق بكماله تعالى, بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل"4.
أما السيد عبد القادر ملا حويش آل غازي العاني, فرفض تفسير الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 بالاستيلاء؛ لأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وهو محال في حقه تعالى ولأنه لا يقال: استولى على كذا إلا إذا كان له منازع فيه، وهذا في حقه تعالى محال أيضا, وإنما يقال: استولى إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه له وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى إلى تخصيص العرش بالذكر فائدة لذلك, فالأولى أن يفسر بما فسرناه هنا من أنه استواء يليق بذاته كما هو الحال في آيات الصفات من المجيء واليد والقبضة وغيرها؛ لأن القانون الصحيح وجوب حمل كل لفظ ورد في القرآن العظيم على ظاهره إلا إذا قامت الأدلة القطعية على وجوب الانصراف عن الظاهر ولا داعي للتأويل بما قد يوجب الوقوع في الخطأ وزلة القدم وانظر ما قاله السلف الصالح في هذا الباب6، ثم أورد عددا من أقوال علماء السلف -رحمهم الله تعالى- في الاستواء.
__________
1 سورة الحديد: من الآية 4.
2 تفسير سور المفصل من القرآن الكريم: عبد الله كنون ص110.
3 بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد ج27 ص108.
4 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين محمد مخلوف ج2 ص14.
5 سورة طه: الآية 5.
6 بيان المعاني: عبد القادر العاني ج2 ص184.(1/100)
أما الشيخ محمد العثمان القاضي فاكتفى في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1 بالاستشهاد بتفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- لذلك، ثم أورد قول مالك -رحمه الله تعالى- ورد بعد هذا تفسير المعتزلة للاستواء بالاستيلاء قائلا: "ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى: استولى وإنما يقال: استولى فلان على كذا, إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها, فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات"2.
يمين الرحمن:
قال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 3، قال: "كثير من المفسرين فسرها بالقدرة, وهذا صرف للفظ عن ظاهره, وقد روى البخاري في4 صحيحه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يقبض الله الارض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك, أين ملوك الأرض؟ " والسلف الصالح يثبتون الصفات ولا يتعرضون للكيفية، قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه, فتفسيره تلاوته والسكوت عن كيفيته"5.
وقال الشيخ فيصل بن عبد العزيز المبارك6 في تفسير قوله تعالى:
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 54.
2 منار السبيل في الأضواء على التنزيل: محمد العثمان القاضي ج1 ص141.
3 سورة الزمر: من الآية 67.
4 صحيح البخاري: كتاب الرقاق ج7 ص194.
5 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص40.
6 ولد في حريملاء سنة 1313 وأخذ العلم عن علماء الرياض وقطر, وتولى القضاء بالجوف وله عدد من المؤلفات منها: توفيق الرحمن في دروس القرآن في أربعة أجزاء، وخلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام في مجلد واحد، وبستان الأحبار مختصر نيل الأوطار في جزأين كبيرين، ولذة القارئ مختصر فتح الباري في ثمانية أجزاء وغير ذلك في الفقه والفرائض والنحو.(1/101)
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 1، قال ابن جرير: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فقال بعضهم: عنى بذلك: نعمتاه وقال آخرون منهم: عنى بذلك: القوة، وقال آخرون منهم: بل يد الله صفة من صفاته هي يد غير أنها ليست بجارحة كجوارح آدم وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال به العلماء وأهل التاويل. انتهى ملخصا. قال البغوي: ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته, فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم، وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف3.
القرآن كلام الله منزل, غير مخلوق:
قال الأستاذ محمد رشدي حمادي4 في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوه} الآية5: احتج كثير من المعتزلة به6 على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم وأما الأول فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى للزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه، وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن ونظرا لأن كثيرا من آراء المعتزلة تطل برءوسها عند كل آية من القرآن الكريم يشتمّون من لفظها الظاهري أنها يصح أن تكون دليلا على خلق القرآن, فسدا لهذه الذرائع وردا عليهم فيما يختص بقضية خلق القرآن
__________
1 سورة المائدة: من الآية 64.
2 سورة ص: من الآية رقم 75.
3 توفيق الرحمن في دروس القرآن: فيصل المبارك ج2 ص44.
4 لم أجد له ترجمة.
5 سورة الأنعام: من الآية 102.
6 أي: عموم الآية.(1/102)
فإني أحيلهم إلى كتاب "لكي تكون ... من قادة الفكر" تأليف صاحب هذا التفسير1.
ثم نقل في تفسيره بعض الأقوال لعلماء السلف وجاء فيها: والقول المحفوظ عن جمهور السلف هو ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق2.
سلامة القرآن من التحريف:
وقد نص على حفظ القرآن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3، قال الشيخ فيصل المبارك في تفسيرها: "وقال في آية أخرى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} 4 فأنزله الله ثم حفظه فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولا ينقص منه حقا حفظه الله من ذلك, وقال ابن كثير: ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل قلت: والحكمة في حفظ الله تعالى للقرآن دون سائر كتبه أنه آخرها وأن الذي جاء به خاتم الأنبياء فأبقاه الله محفوظا حجة على خلقه"5.
وقال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسيرها: "الضمير في قوله: {لَهُ} راجع إلى الذكر يعني: وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني: من الزيادة فيه والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف, فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها، لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة, وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل في بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.
__________
1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص493.
2 المرجع السابق ج2 ص495.
3 سورة الحجر: الآية 9.
4 سورة فصلت: من الآية 42.
5 توفيق الرحمن في دروس القرآن: فيصل المبارك ج2 ص320.(1/103)
ولما تولى الله عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا على الأبد, محروسا من الزيادة والنقصان"1.
وكذا الشيخ حسنين مخلوف في تفسيرها قال: " {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: من كل ما يقدح فيه كالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان"2.
العصمة:
وعند تفسير قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 3 عقد السيد عبد القادر ملا العاني مطلبا في عصمة الأنبياء جاء فيه: "واعلم أن خبط القول فيها على ما قاله الإمام فخر الدين الرازي يرجع إلى أربعة أقسام: الأول: ما يقع في باب الاعتقاد وهو اعتقاد الكفر والضلال، فإن ذلك غير جائز في حقهم البتة، الثاني: ما يقع بالتبليغ فكذلك ممتنع في حقهم حتى الخطأ والنسيان فضلا عن التعمد على الصحيح؛ لأن الأمة4 أجمعت على عصمتهم من الكذب ومواظبتهم على التبليغ والتحريض وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا ولا سهوا ولا خطأ ولا نسيانا ومن الناس من جوز سهوا؛ لأن الاحتراز منه غير ممكن وليس بشيء، ولا عبرة ولا قيمة له، الثالث: ما يقع بالفتيا, فقد أجمعوا أيضا على أنه لا يجوز قطعا خطؤهم فيها ونسيانهم وسهوهم سواء، فعدم جواز العمد من باب أولى. وما أجازه بعضهم على طريق السهو لا صحة له؛ لأن الفتيا من قسم التبليغ بالنسبة إليهم إذ لا فرق في وجوب اتباعهم في أفعالهم وأقوالهم. الرابع: ما يقع من أفعالهم, قال الإمام الفخر: والمختار عندنا أهل السنة والجماعة أنه لم يصدر
__________
1 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج2 ص96.
2 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين محمد مخلوف ج1 ص418.
3 سورة طه: من الآيتين 121-122.
4 الذي ورد في النص هو: "لأن الآية"، وكذلك وردت في الأصل الذي نقل منه هذا النص، وقد تتبعت النص فلم أجد فيه ذكرا لآية وظهر لي أنه تصحيف لـ "لأن الأمة" وبه تستقيم العبارة فأثبته.(1/104)
منهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين تنبئهم؛ لأن الذنب لو صدر عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة.
ولأن معنى النبوة والرسالة أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم مثلا وهو يوم القيامة شاهد على الكل, راجع الآية 40 من سورة النساء, والآية 89 من سورة النحل ... وهذا ما عليه إجماع أهل السنة والجماعة.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه هم لدخلوا تحت قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} 1، وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} 2، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 3، 4.
لا رجعة لأحد قبل يوم القيامة:
وقال بهذا أهل السنة والجماعة مستدلين بالكتاب والسنة، وقد سلف إيراد الأدلة.
وفسر الشيخ محمد علي الصابوني5 قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 6. قال:
__________
1 سورة البقرة: من الآية 44.
2 سورة هود: من الآية 88.
3 سورة الأنبياء: من الآية 90.
4 بيان المعاني: عبد القادر ملا حويش العاني ج2 ص225-227 ملخصا.
5 هو الشيخ محمد علي بن جميل الصابوني, ولد في حلب سنة 1928م, أتم دراسته الثانوية في سوريا ثم التحق بالأزهر فنال العالمية 1952م والماجستير, تخصص في القضاء الشرعي 1954م ثم عاد إلى سوريا فدرس ثماني سنوات, ثم انتدب للتدريس بكلية الشريعة بمكة المكرمة ولا يزال بها, وله عدد من المؤلفات منها: النبوة والأنبياء؛ وروائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن؛ وصفوة التفاسير؛ ومختصر تفسير ابن كثير؛ وغير ذلك.
6 سورة الأنعام: الآيتان 27-28.(1/105)
"أي: لو ردوا على سبيل الفرض؛ لأنه لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت لعادوا إلى الكفر والإضلال, وإنهم لكاذبون في وعدهم بالإيمان"1.
الميزان:
قال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} 2: أي وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ... واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان تنظر إليه الخلائق تأكيدا للحجة وإظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة ... وقيل: توزن الأعمال قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 3، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ... الآية4.
وقيل: يوزن الأشخاص دليله حديث: "يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة" 5, وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: "ألا تعجبون من دقة ساقيه! لهما عند الله أعظم من جبل أحد " 6، 7.
__________
1 صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني ج1 ص385.
2 سورة الأعراف: من الآية 8.
3 سورة الزلزلة: الآيتان 7، 8.
4 سورة الأنبياء: في الآية 47.
5 صحيح البخاري: كتاب التفسير ج5 ص236؛ صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين ج4 ص2147.
6 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص114 بلفظ عن أم موسى قالت: سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فصعد على شجرة أمره أن يأتيه منها بشيء, فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة فضحكوا من حموشة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تضحكون لرجل؟ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد" ج1 ص114. قال الأستاذ عبد القادر عطا والدكتور محمد عاشور: أخرجه الهيثمي 9/ 288، وعزاه إلى أبي يعلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة، ورواه الحاكم عن معاوية بن قرة عن أبيه، بمعناه: 3/ 317 والحموشة: الدقة. ا. هـ. المسند للإمام أحمد ت. عبد القادر عطا ومحمد عاشور ج1 ص395.
7 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج1 ص137-138.(1/106)
وقال الشيخ حسنين مخلوف في تفسيرها: "أي: والوزن الحق -أي العدل الذي لا ظلم فيه لصحائف الأعمال- كائن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم، وإنما توزن الصحائف يومئذ بميزان لإظهار العدل الإلهي على رءوس الأشهاد"1.
أما الشيخ محمد علي الصابوني, فأورد في تفسيرها رأي ابن كثير -رحمه الله تعالى- ثم قال: "أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد واتجاه الرياح والأمطار أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر"2.
أهل الكبائر:
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا, ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 3. قال الشيخ محمد العثمان القاضي في تفسيرها: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك وهم المؤمنون {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} جاثين على الركب. قالت المعتزلة: في هذه الآية حجة على مذهبنا وهو تخليد أهل الكبائر والفساق في النار، بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو منها وهم المتقون, والفاسق لا يكون متقيا، فيبقى مخلدا في النار، وهذا احتجاج باطل. فالمتقي هنا هو الذي يتقي الشرك بقوله: "لا إله إلا الله" فصاحب الكبير متق للشرك؛ لأنه مؤمن بالله ورسوله, ومن آمن بذلك صح أن يقال: إنه متق للشرك, فصارت الآية التي توهموها حجة لهم هي عليهم لا سيما والنص شاهد بذلك، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير, ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه
__________
1 صفوة البيان: حسنين مخلوف ج1 ص252.
2 صفوة التفاسير: محمد علي الصابوني ج1 ص437.
3 سورة مريم: الآيتان 71-72.(1/107)
وزن ذرة من خير, وفي لفظ: من إيمان". وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة الطويل: أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر الحديث إلى قوله: "ويحك يابن آدم ما أغدرك" الحديث بألفاظه. فصاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو, والنصوص الصحيحة تؤيد هذا قطعا1.
أما السيد عبد القادر ملا حويش فقال في تفسير هاتين الآيتين: "ولا دليل في هذه الآية لمن يقول: إن الفاسق وصاحب الكبيرة يخلد في النار؛ لأن المراد بالتقي المستثنى من الورود: من اتقى الشرك؛ لأن من آمن بالله ورسوله يصح أن يقال له: متقٍ الشرك, ولو كان مقترفا الكبائر من غير استحلال لأن المستحل لها كافر، ومن صدق عليه أنه متقٍ الشرك صح عنه أنه متقٍ؛ لأن التقى جزء من التقي من الشرك2. ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة والفاسق متق، وإذا ثبت لك هذا وجب أن لا يخلد في النار وأنه يخرج منها لعموم هذه الآية، وعليه إجماع الأمة من علماء التوحيد"3، ثم استدل بالحديث السالف الذي رواه البخاري ثم قال: "فدلت الآية الأولى على أن الكل دخلوا النار، ودلت الثانية والأحاديث على أن الله أخرج منها المتقين والموحدين وترك فيها الظالمين المشركين فقط"3، وقال: "هذا, وإن مذهب أهل السنة والجماعة هو أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محالة، ويجوز أن يعفو الله عنه، وهذه الطريقة يجب التمسك بها والجنوح إليها فكل قول يخالف هذا باطل لا قيمة له, إذ لا مستند له على الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة, أما أقوال المخالفين فهي كيفية لا عبرة بها"3. ثم ذكر أقوال المخالفين وأبطلها.
__________
1 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج3 ص25.
2 الصحيح أن التقى من الشرك جزء من التقي، وليس العكس ولعله سبق قلم من المؤلف.
3 بيان المعاني: عبد القادر ملا حويش ج2 ص170- 173 بتلخيص.(1/108)
الولاء والبراء:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. فسرها الأستاذ محمد سيد طنطاوي وقال: "والخطاب في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} للمؤمنين جميعا في كل زمان ومكان, إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, والأولياء جمع ولي, ويطلق بمعنى النصير والصديق والحبيب. والمراد بالولاية هنا: مصافاة أعداء الإسلام والاستنصار بهم والتحالف معهم دون المسلمين, أي: يا أيها الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... لا يتخذ أحد منكم أحدا من اليهود والنصارى وليا ولا نصيرا أي: لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروا بهم, فإنهم جميعا يد واحدة عليكم، يبغونكم الغوائل ويتربصون بكم الدوائر. فكيف يتوهم بينكم وبينهم موالاة؟ "2.
وأما المراد بالذين آمنوا من قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 3, فقال في بيانه: "وما ورد من آثار تفيد أن المراد بالذين آمنوا شخص معين وهو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لا يعتمد عليها؛ لأنها كما يقول ابن كثير: "لم يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها"، وقد توسع الإمام الرازي في الرد على الشيعة الذين وضعوا هذه الآثار, فارجع إليه إن شئت"4.
وأكد الدكتور طنطاوي هذه المعاني عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ
__________
1 سورة المائدة: الآية 51.
2 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي ص249.
3 سورة المائدة: الآية 55.
4 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي ص265.(1/109)
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1, بتحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم, واعتبار هذه الموالاة من الكبائر؛ لوصف فاعلها بالظلم2.
أما الأستاذ محمد رشدي حمادي فبين المراد بالولاية، في آية سورة المائدة السابقة فقال: "المراد بالولاية التناصر والمحالفة, وقيده بعضهم بكونها على المؤمنين، وليس المقصود استعمالهم في الوظائف غير القيادية والشئون العامة التي لا تمس عزة المؤمنين"3. ثم قال: "وهذا الحكم" في قطع الموالاة "باقٍ إلى يوم القيامة"3.
أما الشيخ محمد العثمان القاضي فبين معنى الولاية في الآية المشار إليها بقوله: "والمراد من النهي عدم معاملتهم ومعاشرتهم ومناصرتهم, فلا يجوز وصفهم بالإخوة كما نسمع في بعض الإذاعات, والله يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 4، والمفهوم نفي الأخوة عنهم إذا لم يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ويقول: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} 5، وليت المسلمين طبقوا أحكام شريعتهم وسلكوا ما كان عليه سلفهم الصالح"6، لكنه قال: "وأما مبايعتهم فلا بأس بها, فقد قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهون عند يهودي"6.
محبة الصحابة وسائر المؤمنين:
وقد ورد الأمر بذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 7، قال الشيخ محمد العثمان القاضي وفي قوله سبحانه:
__________
1 سورة التوبة: الآية 23.
2 تفسير سورة التوبة: الدكتور محمد سيد طنطاوي ص86.
3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص324-325.
4 سورة التوبة: آية 11.
5 سورة آل عمران: آية 73.
6 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج1 ص99-100.
7 سورة الحشر: الآية 10.(1/110)
{سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} ، دليل على المشاركة فيه، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها, واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن إخوانهم المؤمنين, وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن يكونوا كالعضو الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, ثم قال: وفي ذلك حثّ على وجوب محبة من تقدم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم علينا في السبق، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم، عن ابن عمر أنه سمع رجلا يتناول بعض المهاجرين بالسب، فقرأ عليه: " {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} 1الآية. ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 1 الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 1 الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم. قال: ليس من هؤلاء, واللهِ, من سبهم"2.
وقال الأستاذ علي رفاعي محمد في الآية السابقة: "وترشد الآية إلى الترغيب في الدعاء للصحابة ولكل مؤمن، وثمرة ذلك تصفية القلوب وتطهيرها من الحقد والعداوة، وفي الآية تحذير من بغض أحد من الصحابة, أخرج ابن مردويه عن ابن عمر -رضي الله عنهما-3، ثم ساق الحديث السابق".
محبة أهل البيت:
قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4. قال الشيخ محمد القاضي في تفسيرها: "أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة جعلا "إلا المودة في القربى".
__________
1 سورة الحشر: الآية 8-10.
2 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص200-201.
3 بشائر الرضوان في تفسير القرآن: علي رفاعي محمد ج28 ص40.
4 سورة الشورى: من الآية 23.(1/111)
قال الزجاج: استثناء ليس من الأول أي: إلا أن تؤدوا قرابتي فتحفظوها, والخطاب لقريش خاصة. قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد. والمعنى: إلا أن تودوني في قرابتي منكم، أي: تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني. فالقربى ههنا قرابة الرحم, كأنه قال: اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة. وقيل: القربى: قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم أي: لا أسألكم أجرا إلا أن تؤدوا لقرابتي حقهم وهم أهل البيت، للحديث الصحيح: "أذكركم الله في أهل بيتي".
وقد وردت أحاديث صحيحة فيها الأمر بإكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته ... فواجب على الإنسان مودتهم، وحب قرابته وآله من حبه1.
ووضح الأستاذ أبو الأعلى المودودي2 المراد بأهل البيت في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 3، فقال: "يظهر من السياق الذي وردت فيه هذه الآية أن المراد بأهل البيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات؛ لأن الخطاب بدأ بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ، وهن بعينهن المخاطبات فيما قبل الآية التي بين يدينا وما بعدها. كما أن لفظ "أهل البيت" -علاوة على هذا- يستخدم في اللغة العربية في نفس المعنى الذي نستخدم نحن4 فيه لفظ أصحاب البيت ويدخل بالطبع في هذا المعنى زوجة الرجل وأولاده ولا يستطيع أحد أن يطلق لفظ "أهل البيت" مستثنيا منه
__________
1 منار السبيل: محمد العثمان القاضي ج4 ص66.
2 ولد سنة 1903م في حيدرآباد، وبدأ نشاطه في الصحافة، وأسس الجماعة الإسلامية بلاهور 1941م وانتخب رئيسا لها. سجن عدة مرات وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف إلى التأبيد وأطلق سراحه 1955م، واستمر في الدعوة إلى أن نال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1399هـ وتوفي -رحمه الله- سنة 1979م, وله عدد من المؤلفات منها: تفهيم القرآن، تفسير سورة النور، تفسير سورة الأحزاب، ما هي القاديانية؟، الحجاب، الجهاد, وغير ذلك.
3 سورة الأحزاب: من الآية 33.
4 التفسير في أصله مؤلف بالأوردية, ثم ترجم إلى العربية.(1/112)
الزوجة، بل إن هذا اللفظ جاء في موضعين آخرين من القرآن الكريم نفسه بمعنى يشمل "الزوجة" في داخله إن لم تكن مقدمة فيه على غيرها، فقد جاء في سورة هود حين بشرت الملائكة إبراهيم -عليه السلام- بولده إسحاق وتعجبت زوجته حين سمعت ذلك وقالت: {يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} فردت عليها الملائكة: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [آيات 72 و73] ، وجاء في سورة القصص حين وصل موسى -عليه السلام- إلى بيت فرعون وهو رضيع وكانت امرأة فرعون تبحث عن مرضعة لترضع موسى فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} [آية: 12] فاستخدام أهل اللغة إذن واستخدام القرآن نفسه لهذا اللفظ وسياق الآية ذاتها, كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن زوجات النبي المطهرات يدخلن كذلك في أهل بيته صلى الله عليه وسلم, كما يدخل أولاده. بل الأصح أن الخطاب في الآية إليهن أصلا أما أولاده فيدخلون فيه ضمنا وعلى هذا الأساس قال ابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة: إن المراد بأهل البيت في هذه الآية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم1.
ثم قال: "وهناك فرقة لم تكتف في تفسير هذه الآية بارتكاب ظلم إخراج نساء النبي من زمرة أهل البيت وقصر اللفظ على سيدنا علي وفاطمة وأولادهما، بل بلغت في الظلم والعسف قدرا أكبر وأعظم, إذ استنتجت من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 2، أن عليا وفاطمة وأولادهما -رضي الله عنهم- معصومون كعصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام, فهم يقولون: إن المراد بالرجس الخطأ والذنب وقد طهر أهل البيت منه بنص هذه الآية غير أن لفظ الآية لا يقول: إن الله قد أذهب عنكم الرجس وطهركم تماما، بل إن الله يريد إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وسياق الآية وما يتصل بها من قبل ومن بعد لا يفصح عن أن المقصود هنا ذكر
__________
1 تفسير سورة الأحزاب: أبو الأعلى المودودي, ترجمة أحمد إدريس ص66-67.
2 سورة الأحزاب: الآية 33.(1/113)
مناقب أهل البيت إنما الموضوع هنا هو نصح أهل البيت أن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا؛ لأن الله يريد أن يطهركم. وبألفاظ أخر يعني أنكم إذا اخترتم كذا وكذا من السلوك فسوف تنالكم نعمة الطهر والنظافة وإلا فلا. ذلكم أننا لو فهمنا من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} أنه قد عصمهم فليس هناك ما يمنعنا من التسليم بأن كل المسلمين المتوضئين والمغتسلين والمتيممين معصومون كذلك؛ لأن الله تعالى قال فيهم: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] "1.
وقد بين المراد بأهل البيت وبالتطهير في الآية السابقة -آية الأحزاب- الدكتور مصطفى زيد فقال في المراد بأهل البيت: "إن نساء النبي هن سبب نزول هذه الآيات، فدخولهن في أهل البيت موضع اتفاق بين جميع المفسرين إما وحدهن على قول، وإما مع غيرهن على قول آخر هو الصحيح"2، ثم ذهب يستدل لما رجحه من القولين وأورد بعد هذا ما زعمه ابن المطهر الحلي من الشيعة بقوله: "وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ "إنما" وإدخال اللام في الخبر والاختصاص في الخطاب بقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، وغيرهم ليس بمعصوم ... إلخ"، وعلق الدكتور مصطفى زيد على هذا الزعم بأنه لا اعتبار له وساق بعد هذا نصا لابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه: منهاج السنة في الرد على ما زعمه ابن المطهر وهو طويل, لكن فيه البيان كل البيان فليرجع إليه من شاء، وقد عقب الدكتور مصطفى عليه بقوله: "وقد آثرنا أن ننقل عن ابن تيمية هذا النص كاملا بالرغم من طوله؛ لأن مسألة الاستدلال بالآية على الإمامة والعصمة مسألة بالغة الخطر، فإن فيها تحميلا للآية ما لا تحتمله بحال ولا تدل عليه من قريب ولا بعيد, وفيها فوق هذا خروج على مبدأ مقرر ينبغي ألا يكون موضع رأي، وألا يكون محلا لاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب, وهذا المبدأ هو الوقوف بالآيات عند ما تدل عليه، دون تكلف ولا انحراف بها عما أنزلت لتقرره, وأنه إذا كان فريق من المفسرين يقصر ما تدل عليه الآية على سبب
__________
1 تفسير سورة الأحزاب: أبو الأعلى المودودي ص68-69.
2 سورة الأحزاب: عرض وتفسير الدكتور مصطفى زيد ص104.(1/114)
نزولها، فلا أقل من أن يعتبر سبب النزول داخلا دخولا أوليا فيما تدل الآية عليه وهو ما يقرره ويؤكده جمهور المفسرين الذين يرون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أما أن يهمل سبب النزول ولا تعتبر الآية دالة عليه مما يوحي بأن له حكما آخر غير الحكم الذي تقرره الآية, فهذا مما يستنكره المفسرون بجملتهم ولا يفترقون في الحكم عليه.
لا تدل الآية إذن على حصر أهل البيت في علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين, فإن سياقها صريح في النص على دخول نساء النبي فيهم. ومن ثم تقرر بحق أن الآية لم تتعرض للإمامة من قريب أو بعيد.
كذلك لا تدل الآية على عصمة أهل بيت الرسول من الخطأ، وإلا ففيم كان دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بعد نزول الآية؟ وفيم كانت الأوامر والنواهي التي وجهت في الآيات إلى نساء النبي وهن من أهل البيت؟ وفيم كان الوعيد لهن بمضاعفة العذاب ثم الوعد بالأجر المضاعف، حين يأتين بفاحشة وحين يقنتن؟ وأخيرا، فيم كان تذكيرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة؟ وما السر في أن هذا التذكير لم يجئ في الآيات إلا بعد تقرير أن الله يريد لهن أن يذهب الرجس عنهن، وأن يطهرهن تطهيرا؟ "1.
أما الشيخ الغزالي خليل عيد2 -رحمه الله تعالى- فقد بين المراد بأهل البيت عند تفسير الآية بقوله: "وقد اختلف في أهل البيت فقيل: هم زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وقيل, وهو الأولى: هم كل من يكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من
__________
1 سورة الأحزاب: عرض وتفسير الدكتور مصطفى زيد ص114-115.
2 ولد شيخنا الغزالي خليل عيد سنة 1911م وتخرج في كلية أصول الدين بالأزهر سنة 1939م ودرس في المعاهد الدينية, ثم صار شيخا لمعهد بني سويف سنة 1969م، ثم عمل مدرسا في كلية الشريعة بالرياض ثم في كلية أصول الدين بها إلى أن توفي -رحمه الله تعالى- أواخر سنة 1402، ومن مؤلفاته: تفسير لأربع عشرة سورة من المفصل، الضياء في أحكام الضعفاء الثلاثة من سورة النساء، تفسير سورة الأحزاب، تفسير سورة الأنفال.(1/115)
الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب, وكلما كان الواحد منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم ألزم وأخص كان أجدر وأحق بالدخول تحت هذا اللقب فيكون أحرى بإرادة الله أن يذهب عنه الرجس"1.
أما الشيخ حسنين مخلوف فقد اكتفى بتفسير المراد بأهل البيت بقوله: "هم نساؤه صلى الله عليه وسلم بقرينة لاسياق"2.
وإنما أطلت -بعض الإطالة- في بيان هذا؛ لأنه أصل ضلت فيه طائفة الشيعة وتطرفوا في تقريره حتى كان هو أصل ضلالهم ومبدأ انحرافهم, نسأل الله لنا ولهم الهداية.
التقية والإكراه:
قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} 3, وقال سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} 4.
قال الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي في تفسير الآية الأولى: "إلا أن تتقوا منهم تقاة أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. وهذا قبل عزة الإسلام ويجري في بلد ليس قويا فيها، قال معاذ بن جبل: كان التقية في بدء الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، وأما اليوم فقد أعز الله الإسلام فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم"5، وقال: "هذا, وتدل هذه الآية على أن للمسلم أن يتقي ما يتقي من مضرة الكافرين، وقصارى
__________
1 تفسير سورة الأحزاب: الغزالي خليل عيد ص68.
2 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين مخلوف ج2 ص183.
3 سورة آل عمران: الآية 28.
4 سورة النحل: الآية 106.
5 تفسير القرآن الحكيم: محمد عبد المنعم خفاجي ج3 ص186.(1/116)
ما تدل عليه آية سورة النحل أن ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصل الدين, المتبعة دائما1؛ ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن علامة المؤمن الكامل أن لا يخاف في الله لومة لائم، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} 2، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3، وكان النبي وأصحابه يتحملون الأذى في ذات الله ويصبرون، وأما المداراة فيما لا يهدم حقا ولا يبني باطلا فهي كياسة مستحبة يقتضيها أدب المجالسة ما لم تنته إلى حد النفاق والدهان والاختلاق، وتكون مؤكدة في خطاب السفهاء تصونا من سفههم واتقاء لفحشهم"4.
وقد فسرها بنحو هذا الشيخ حسنين مخلوف فقال: "إلا أن تتقوا منهم تقاة أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة أو تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض, وذلك إذا كان الكفار غالبين ظاهرين أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان على أن لا تنطوي قلوبكم على شيء في مودتهم، بل تدارونهم وأنتم لهم كارهون وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخبر، واطلاعهم على عورات المسلمين والانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين فلا رخصة إلا في المداراة باللسان, وعن معاذ ومجاهد أن هذا الحكم قد نسخ بعد قوة الإسلام, وعن الحسن جواز التقية في كل وقت؛ لدفع الضرر بقدر الإمكان"5.
أما الأستاذ محمد رشدي حمادي فقال في تفسيرها: "إلا أن تتقوا منهم تقاة" أي: من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته. قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل, إنما التقية باللسان. ويؤيد
__________
1 كما تزعم الشيعة.
2 سورة البقرة: من الآية 150.
3 سورة آل عمران: الآية 175.
4 تفسير القرآن الحكيم: محمد خفاجي ج3 ص188-189.
5 صفوة البيان لمعاني القرآن: حسنين محمد مخلوف ج1 ص103-104.(1/117)
ما قال ابن عباس, قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} الآية. وقال البخاري: قال الحسن: التقية إلى يوم القيامة. وللتقية أحكام منها: إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويُعرِّض في كل ما يقول ما أمكن, فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب, ومنها: أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما روى الحسن: "أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر, وقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فقال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصم ثلاثا, فقدمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه"، ونظير هذه الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 1.
ومنها: إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة. وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين, فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنى وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين, فذلك غير جائز البتة"2.
وهأنت ترى أن التقية عند مفسري أهل السنة والجماعة لا تكون إلا عند تحقق الخوف من الكفار, وأنها مع هذا رخصة تركها أفضل، وبشرط أن لا يرجع ضررها إلى غير صاحبها وأنها باللسان لا بالعمل ولا بالقلب.
القضاء والقدر:
وقد وضح الأستاذ محمد عبد الله الجزار عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالقضاء والقدر عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
__________
1 سورة النحل: من الآية 106.
2 موجز تفسير القرآن: محمد رشدي حمادي ج1 ص362-363.(1/118)
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1، فقال: "إن عقيدة القضاء والقدر من الدين وإنها لا تنافي اختيار الإنسان وتمكنه من سلوك سبيل السعادة, ففي قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} إثبات أن للعبد مشيئة واختيارا وذلك يقتضي الاجتهاد والسعي وإثبات الأسباب والمسببات وذلك شرع الله. وفي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إثبات قدر الله وعموم مشيئته وأنه لا يقع في ملكه شيء قهرا عنه، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وذلك يقتضي الالتجاء إلى الله مع العمل والاستعانة به والتوكل عليه وعدم غرور النفس بقوتها ولا بعلمها, فإن ذلك من ظلمها وجهلها, جعلنا الله وإياكم ممن يتخذ إلى ربه سبيلا وممن يدخلهم سبحانه في رحمته آمين"2.
أما الأستاذ محمد رشدي حمادي فقال في تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 3، قال: " ... ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْوا} [6: 106] ، وقوله منها أيضا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [36] ، وأيضا: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39] ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [5: 51] , وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [11: 118] , وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [10: 99] ، فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان، وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما. وقد تبارى المعتزلة والأشعرية في تطبيق هذه الآيات على مذاهبهما"، ثم قال: " ... وقد احتج السلف بالآية على منكري القدر قبل
__________
1 سورة الإنسان: الآية 30.
2 الذخيرة الدينية في تفسير أجزاء قرآنية: محمد عبد الله الجزار ص539.
3 سورة الأنعام: الآيتان 148-149.(1/119)
حدوث مذهبي المعتزلة والأشعرية، فقد روى أكثر مدوني التفسير المأثور وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قيل له: إن أناسا يقولون: إن الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} إلى قوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، وأخرج أبو الشيخ عن علي بن زيد قال: انقطعت حجة القدرية عن هذه الآية. وقال الحافظ ابن كثير في قوله تعالى في رد الآية على شبهتهم أي بهذه الشبهة: ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم الرسل الكرام وأذاق المشركين من أليم الانتقام. ا. هـ. وقد جارى أحمد بن المنير صاحب الكشاف على جعل شبهة المشركين عين شبهة المجبرة، ثم جعل الآيتين مبطلتين لمذهبي المعتزلة والمجبرة جميعا"، ثم نقل نص أحمد بن المنير وجاء فيه: " ... وجماع الرد على المجبرة ... في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} ، وتتمة الآية رد صراح على طائفة الاعتزال القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين فلم تقع من أكثرهم ووجه الرد أن "لو" إذا دخلت على فعل مثبت نفته, فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال: {فَلَوْ شَاءَ} لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم ولو شاءها لوقعت فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم, فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها, فإن أولها كما بينا يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان, وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية خير أو غيره وذلك عين عقيدتهم فإنهم كما يثبتون للعبد مشيئة وقدره, يسلبون تأثيرهما ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ملزم له بالطاعة على وفق اختياره ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده, فهم كما رأيت تبع للكتاب العزيز يثبتون ما أثبت وينفون ما نفى, مؤيدون بالعقل والنقل, والله الموفق". ا. هـ1.
__________
1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص547-550 باختصار(1/120)
هذه:
أمثلة تطبيقية لتفسير أهل السنة والجماعة حسب أصول عقائدهم, ليس قصدنا من إيرادها إثبات مذهب كل مفسر استشهدنا له بتفسير أو إنكار سلامة سواه، بل قصدنا إثبات القول بأصول أهل السنة وتفسيرهم في العصر الحديث.
أما القصد الآخر فيثبته إيراد نماذج من مفسري أهل السنة والجماعة وتحقيق ذلك في تفاسيرهم وتطبيقه.
ولقد اخترت من تفاسيرهم تفاسير ثلاثة، راعيت فيها أن يكون كل منها شاملا لآيات القرآن الكريم كلها، وأن يكون صاحبها ممن اشتهر بغزير عمله، وسعة اطلاعه، واستقامة أمره، وصلاح سيرته، وصحة مذهبه.
ومع هذا, فإني وقد اخترت هذه التفاسير لا أنكر فضل سواها ولا أغمط حق غيرها, وما لنا عذر إلا أن المقام مقام تمثيل وليس مقام استيفاء وشمول, والله الموفق.(1/121)
نماذج من مفسرى أهل السنة
مدخل
...
نماذج من مفسري أهل السنة:
وهؤلاء الذين وقع عليهم الاختيار:
1- محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي؛
وتفسيره: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن".
2- عبد الرحمن السعدي؛
وتفسيره: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان".
3- محمد جمال الدين القاسمي؛
وتفسيره: "محاسن التأويل".
وسنبدأ بترجمة موجزة لكل منهم, يعقبها تطبيق لتفسيره على أصول وعقيدة أهل السنة والجماعة.(1/122)
أولا: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:
صاحب التفسير:
هو: محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي.
مولده: ولد -رحمه الله- سنة 1325 في "تنبة" من أعمال مديرية "كيفا" في شنقيط, وهي دولة موريتانيا الإسلامية الآن.
نشأته:
توفي والده وهو صغير يقرأ في جزء عم وترك له ثروة من الحيوان والمال, فسكن مع أمه عند أخواله وحفظ القرآن على خاله وعمره عشر سنوات, وتعلم رسم المصحف العثماني على ابن خاله، ودرس الأدب دراسة واسعة على زوجة خاله قال: أخذت عنها مبادئ النحو كالأجرومية وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية ونظم الغزوات وشروحه1. فكان بيت أخواله المدرسة الأولى له.
ثم درس الفقه المالكي وألفية ابن مالك, ثم أخذ بقية الفنون على مشايخ متعددة في فنون مختلفة وكلهم من الجكنيين إلى أن برع فيها.
رحلة الحج:
أزمع -رحمه الله تعالى- على الحج عن طريق البر وعلى نية العودة بعد الحج, وكان كغيره في نفسه شيء غير قليل من رواسب الشبهات الملصقة بدعوة الشيخ
__________
1 ترجمة للشيخ، رحمه الله: محاضرة ألقاها تلميذه عطية محمد سالم ملحقة في آخر الجزء التاسع من التفسير ص23 منها.(1/123)
محمد بن عبد الوهاب، وما أن وصل إلى البلاد حتى اتصل ببعض علمائها وقرأ بعض كتب الدعوة من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وبعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- جميعا، وكان هذا كافيا لتنقية عقله وفكره مما شابه من تدنيس الخصوم وجلاء الحقيقة أمام ناظريه، وانقلب ثم عزمه على العودة إلى رغبة في البقاء.
تدريسه في المسجد النبوي:
كان -رحمه الله- يقول: "ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتم له ذلك بأمر من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله1، وبعد أن كان مقتصرا على المذهب المالكي ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ومن يناقش فيها, وقد ظهر ذلك في منهجه في تفسيره: أضواء البيان حينما يعرض لآيات الأحكام فيستوفي أقوال العلماء, ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل.
تدريسه في الرياض:
سنة 1371 افتتح في الرياض معهد علمي أعقبه افتتاح كليتي الشريعة واللغة العربية, وقد اختير -رحمه الله- لتدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381 حين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
عودته إلى المدينة المنورة:
عاد -رحمه الله تعالى- إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية, وفي سنة 1386هـ افتتح في الرياض المعهد العالي للقضاء, فكان -رحمه الله- أستاذا زائرا للتفسير والأصول.
__________
1 ترجمة الشيخ ملحقة بالجزء التاسع من التفسير, كتبها تلميذه عطية محمد سالم ص37.(1/124)
وفي سنة 1391 صدر تشكيل لهيئة كبار العلماء, وكان رحمه الله أحد أعضائها1.
وفي رابطة العالم الإسلامي كان عضو المجلس التأسيسي فيه، وكان له فيه خدمات جليلة.
وفاته:
توفي -رحمه الله تعالى- ضحى يوم الخميس 17/ 12/ 1393هـ بمكة المكرمة مرجعه من الحج, ودفن بمقبرة المعلاة وصلي على جثمانه في الحرم المكي، وفي ليلة الأحد أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي.
مؤلفاته:
من أهم مؤلفاته، رحمه الله تعالى:
1- منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز: وغرضه فيه، نفي ادعاء المجاز في أسماء الله تعالى وصفاته، وإجراؤها على طريقة السلف بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، وزاد هذا المعنى إيضاحا في كتابه آداب البحث والمناظرة.
2- دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب: أبان فيه مواضع قد يبدو تعارضها عند بعض الناس، وأزال هذه الشبهة بما يجلو هذا العارض.
3- مذكرة الأصول على روضة الناظر: جمع فيها بين أصول الحنابلة والمالكية والشافعية, وألفه لطلبة كليتي الشريعة والدعوة بالجامعة الإسلامية.
4- آداب البحث والمناظرة: بين فيه آداب البحث من إيراد المسائل وبيان الدليل ونحو ذلك, ويقع في جزأين, وهو أيضا مقرر في الجامعة.
5- "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن": ونفرده بالدراسة هنا2.
__________
1 مشاهير علماء نجد وغيرهم: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص146.
2 اقتبسنا هذه الترجمة من:
أ- الترجمة التي ألحقها تلميذه عطية محمد سالم بالجزء التاسع من التفسير.
ب- علماء ومفكرون عرفتهم: الأستاذ محمد المجذوب.(1/125)
التفسير:
"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن":
تعريف عام:
وصل المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره هذا إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آخر سورة المجادلة، واستغرق هذا سبعة مجلدات.
- صدر المجلد الأول في غرة ذي القعدة سنة 1386 في حياة المؤلف.
- صدر المجلد الثاني في غرة ذي الحجة سنة 1386 في حياة المؤلف.
- صدر المجلد الثالث في ربيع الأول سنة 1383 في حياة المؤلف.
- صدر المجلد الرابع في غرة ذي القعدة سنة 1384 في حياة المؤلف.
- صدر المجلد الخامس في غرة ربيع الأول سنة 1390 في حياة المؤلف.
- صدر المجلد السادس في غرة محرم سنة 1392 في حياة المؤلف.
- صدر المجلد السابع في شهر شوال سنة 1396 بعد وفاة المؤلف -رحمه الله- ثم أكمل التفسير من بعده تلميذه عطية محمد سالم في مجلدين كبيرين.
- صدر المجلد الثامن وهو الأول من التتمة في شهر رمضان سنة 1397هـ.
- صدر المجلد التاسع وهو الثاني بدون تاريخ وفيه تفسير جزء عم، وضم معه بعض مؤلفات الشيخ -رحمه الله- وهي رسالة في الناسخ والمنسوخ ثم رسالة منع جواز المجاز عن المنزل للتعبد والإعجاز، ثم دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب ثم محاضرة لتلميذه الشيخ عطية محمد سالم وهي ترجمة لحياة الشيخ، رحمه الله تعالى.
منهجه:
بين المؤلف -رحمه الله تعالى- غرضه من تأليف هذا التفسير بقوله: "واعلم أن من أهم المقصود بتأليفه أمرين:(1/126)
"أحدهما: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله. إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها. ولا نعتمد على البيان بالقراءات الشاذة وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا للبيان بقراءة سبعية، وقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف ليست من الشاذ عندنا ولا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات.
والثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبينة -بالفتح- في هذا الكتاب، فإننا نبين ما فيها من الأحكام وأدلتها من السنة وأقوال العلماء في ذلك, ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين ولا لقول قائل معين؛ لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله لأن كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلامه -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيرا.
وقد تضمن هذا الكتاب أمورا زائدة على ذلك, كتحقيق بعض المسائل اللغوية وما يحتاج إليه من صرف وإعراب والاستشهاد بشعر العرب وتحقيق ما يحتاج إليه فيه من المسائل الأصولية والكلام على أسانيد الأحاديث كما ستراه إن شاء الله تعالى"1.
وقال أيضا في بيان منهجه، رحمه الله تعالى: "واعلم أن مما التزمنا في هذا الكتاب المبارك أنه إن كان للآية الكريمة مبين من القرآن غير واف بالمقصود من تمام البيان, فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل"2.
وقال أيضا: "وربما كان في الآية الكريمة أقوال كلها حق وكل واحد منها يشهد له قرآن, فإنا نذكرها ونذكر القرآن الدال عليها, من غير تعرض لتجريح بعضها؛ لأن كل واحد منها صحيح"3.
__________
1 أضواء البيان في إيضاح القرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3-4.
2 المرجع السابق: ج1 ص24.
3 المرجع السابق: ج1 ص20.(1/127)
وقد التزم -رحمه الله تعالى- بهذا, فالتزم تفسير القرآن بالقرآن معتمدا على القراءات السبع مبتعدا عن القراءات الشاذة, ومستندا إلى السنة النبوية الطاهرة, معتبرا لأقوال العلماء الثقات، لا يتعصب لرأي، ولا يحقر قولا, بل ينظر إلى ذات القول لا إلى قائله، يستوفي الأقوال ويرجح بالدليل والبرهان, إن كنت أصوليا وجدت في تفسيره دقائقه، وإن كنت من علماء الحديث وجدت فيه بدائعه، وإن كنت فقيها وجدت فيه وفاءه، وإن كنت من علماء العقيدة وجدت فيه صفاءها ونقاءها، بل عقيدة أهل السنة والجماعة التي لا تشوبها شائبة، وإن كنت من علماء كل هذا وجدت فيه رواءك وشفاءك.
نماذج من تفسيره:
الأسماء والصفات:
أفرد المؤلف -رحمه الله تعالى- آيات الأسماء والصفات برسالة خاصة بيّن فيها أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع, من البدع التي يكرهها السلف1.
ثم أجمل الحديث عن آيات الصفات فقال عنها: دل القرآن العظيم أنه -أي مبحث آيات الصفات- يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والسلف الصالح, ومن أخلّ بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل, وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها قرآن عظيم.
أحد هذه الأسس الثلاثة هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئا من صفات المخلوقين, وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 3، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} 4.
__________
1 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: ص5, تأليف محمد الأمين الشنقيطي.
2 سورة الشورى: من الآية 11.
3 سورة الإخلاص: الآية 4.
4 سورة النحل: من الآية 74.(1/128)
الثاني من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 1، والإيمان بما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2، 3.
ولم يذكر -رحمه الله تعالى- الأساس الثالث هنا, لكنه في آخر بحثه قال: "هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهي:
1- تنزيه الله عن مشابهة الخلق.
2- الإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة, وعدم التعرض لنفيها.
3- قطع الطمع عن إدراك الكيفية"4.
ذلكم مجمل موقفه -رحمه الله تعالى- من آيات الصفات.
إثبات الرؤية:
أبطل -رحمه الله تعالى- مذهب المعتزلة في إنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة واستدلالهم بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 5, فقال: "استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكورة، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم كما صرح الكفار"6،
__________
1 سورة البقرة: من الآية 140.
2 سورة النجم: الآيتان 3 و4.
3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات: محمد الأمين الشنقيطي ص5.
4 المرجع السابق: ص27-28, وانظر تفسيره أضواء البيان ج2 ص272-288 ففيه البيان الوافي.
5 سورة الأعراف: من الآية 143.
6 هكذا وردت, ولعل العبارة: "كما صرح بحجب الكفار".(1/129)
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.
وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2: "الحسنى: الجنة, والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم"، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 3, وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم" , وتحقيق المقام في المسألة: أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا، قول موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى, وأما شرعا فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح, وأما في الدنيا فممنوعة شرعا كما تدل عليه آية الأعراف هذه، وحديث: "إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"4.
الاستواء:
قدم -رحمه الله تعالى- لحديثه عن الاستواء بمقدمة وافية كافية عن صفات الله تعالى عموما, ثم قال: وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثير في القرآن. ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله، وأن ما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث ولا إشكال في شيء من ذلك. إلى أن قال: فإذا حققت كل ذلك علمت أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات
__________
1 سورة المطففين: الآية 15.
2 سورة يونس: من الآية 26.
3 سورة ق: من الآية 35.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص297-298.(1/130)
فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله -جل وعلا- وأنه الرب وحده المستحق لأن يعبد وحده ... ثم ذكر -رحمه الله تعالى- الآيات السبع عن الاستواء في الأعراف وفي سورة يونس وفي سورة الرعد وفي سورة طه وفي سورة الفرقان وفي سورة السجدة وفي سورة الحديد، ثم قال: وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} 1، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2 الآية، {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 3 الآية, ونحو ذلك من الآيات, وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك وأن للخالق جل وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله, وللمخلوق أيضا استواء مناسبا لحاله، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق, على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4 كما تقدم إيضاحه5.
يد الله تعالى:
قال رحمه الله تعالى: كل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات الخلق، وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق، فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق هو كونها جارحة وهي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 6، والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
__________
1 سورة الزخرف: من الآية 13.
2 سورة المؤمنون: من الآية 28.
3 سورة هود: من الآية 44.
4 سورة الشورى: من الآية 11.
5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص282-285 بتلخيص.
6 سورة المائدة: من الآية 38.(1/131)
بِيَدَيَّ} 1 أنها صفة كمال وجلال، لائقة بالله جل وعلا ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله ... ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السموات والأرض, فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله؛ لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف. وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن2 أحد, حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟ فاخشَ الله يا إنسان واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه, واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك وآتيك بدله بالوصف اللائق بك. فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود!! سبحانك هذا بهتان عظيم3.
__________
1 سورة ص: من الآية 75.
2 هكذا وردت ولعلها: "عند أحد".
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص444-446 بتلخيص.(1/132)
وقال أيضا: "فإن قيل: إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا إلا كيفية المعاني المعروفة عندها, كالجارحة وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة, فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم, فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها؛ لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق، والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق, فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين، أما سمع لا يقوم بأذن، وبصر لا يقوم بحدقة، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة، فلا فرق بين السمع والبصر، وبين اليد والاستواء، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات. وأما الذي اتصف الله به من ذلك فلا تعرف له العرب كيفية، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى، كما قال الإمام مالك، رحمه الله: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق والرزق والمرزوق والمحيي والمحيا، والمميت والممات فوارق عظيمة لا حد لها، تستلزم المخالفة التامة بين صفات الخالق والمخلوق.
الوجه الثاني: أن نقول لمن قال: بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم من كونها صفة كمال وجلال منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق: هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد، فلا بد أن يقول: لا, فإن قال ذلك قلنا: معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات, فالذات والصفات من باب واحد، فكما أن ذاته جل وعلا تخالف جميع الذوات, فإن صفاته تخالف جميع الصفات، ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها، ألا ترى مثلا أن لفظ رأس كلمة واحدة؟ إن أضفتها إلى الإنسان فقلت: رأس الإنسان، وإلى الوادي فقلت: رأس الوادي، وإلى المال فقلت: رأس المال، وإلى الجبل فقلت: رأس الجبل، فإن كلمة رأس اختلفت معانيها وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها مع أنها في مخلوقات حقيرة. فما بالك بما أضيف من الصفات(1/133)
إلى الله وما أضيف منها إلى خلقه, فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق، كما لا يخفى"1.
سلامة القرآن من التحريف:
قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2:
"بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم, وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ, لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3، وقول: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ, إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 4, وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن, وقيل: الضمير راجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 5 والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق"6.
ظاهر القرآن:
عند قول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 7، رد رحمه الله تعالى على الذين يصرفون آيات القرآن الكريم عن ظاهرها حتى زعم أحدهم أن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، رد رحمه الله تعالى على هذا الزعم ونحوه فقال: "من هم العلماء الذين قالوا: إن
__________
1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص449-451.
2 سورة الحجر: الآية 9.
3 سورة فصلت: الآية 42.
4 سورة القيامة: الآية 16-19.
5 سورة المائدة: من الآية 67.
6 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج3 ص107.
7 سورة محمد: الآية 24.(1/134)
الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟ سموهم لنا، وبينوا لنا: من هم؟ والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ولا متعلم؛ لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه، والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 1. والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر، وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول. فتنفير الناس وإبعادهم عن كتاب الله وسنة رسوله بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى, وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب, فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} 3, قال: "وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح:
الأولى: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح والتأويل القريب ... ثم ضرب له مثالا.
الحالة الثانية: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا وليس بدليل في نفس الأمر, وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد والتأويل البعيد ... ثم ضرب لها مثالا.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 196.
2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص442-443.
3 سورة آل عمران: من الآية 7.(1/135)
الحالة الثالثة: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا دليل له أصلا، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا, كقول بعض الشيعة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 يعني عائشة, رضي الله عنها"2.
الإمامة:
في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 3, قال "قال مقيده, عفا الله عنه": من الواضح المعلوم من ضرورة الدين أن المسلمين يجب عليهم نصب إمام تجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الله في أرضه, ولم يخالف في هذا إلا من لا يعتد به ... وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها وإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- ولأن الله قد يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن وكما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 4؛ لأن قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ، فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة ... واعلم أن ما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهما من الصحابة، وما تتقوله في الاثني عشر إماما، وفي الإمام المنتظر المعصوم ونحو ذلك من خرافاتهم وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له، وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك فعليك بكتاب: "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية" للعلامة الوحيد الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية -تغمده الله برحمته- فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلفة"5.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 67.
2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص234-235.
3 سورة البقرة: من الآية 30.
4 سورة الحديد: من الآية 25.
5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص50-51.(1/136)
لا رجعة قبل يوم القيامة:
قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} 1: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق ويتمنون أحد امرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل ويعملوا بما يرضي الله, ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذ يفعلون لو ردوا؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر؛ فبين أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} 2.. الآية، وقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 4، مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 5، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 6. وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 7، فقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} الآية, دليل على أن النار وجبت لهم فلا يردون ولا يعذرون، وقوله: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} 8، فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدة يتذكرون فيها
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 53.
2 سورة الشعراء: من الآية 100.
3 سورة المدثر: الآية 48.
4 سورة الأنبياء: من الآية 28.
5 سورة الزمر: من الآية 7.
6 سورة التوبة: من الآية 96.
7 سورة السجدة: الآيتان 12-13.
8 سورة فاطر: من الآية 37.(1/137)
وإنذار الرسل، وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى, وأشار إلى ذلك بقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} 1 جوابا لقولهم: {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} ، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} 2، بعد قوله تعالى عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} 3، وقوله: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} 4 ... الآية, بعد قوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} ، وقوله هنا: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ... الآية, بعد قوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ} ... الآية, فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه5.
الميزان:
قرر رحمه الله تعالى أن ظاهر القرآن الكريم يدل على تعدد الموازين لكل شخص فقال: "وقوله في هذه الآية الكريمة": {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} 6, جمع ميزان وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص لقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} 7، وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 7، فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله, كما قال الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لعدله ... فلكل حادثة لها ميزان
والقاعدة المقررة في الأصول أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا
__________
1 سورة إبراهيم: من الآية 44.
2 سورة غافر: من الآية 12.
3 سورة غافر: من الآية 11.
4 سورة الشورى: من الآية 45.
5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص270-271.
6 سورة الأنبياء: من الآية 47.
7 سورة الأعراف: من الآيتين 8 و9.(1/138)
بدليل يجب الرجوع إليه, وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: "الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد, وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه"1.
الموالاة والمعاداة:
قال رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} 2, وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحا في آيات أخر, كقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 3، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4، وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} 5، وقوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 6 ... الآية، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 7، إلى غير ذلك من الآيات8.
وقال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 9: ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى من المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم, وبين في موضع آخر أن توليهم موجب لسخط الله
__________
1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص584-585.
2 سورة المجادلة: من الآية 22.
3 الممتحنة: من الآية 4.
4 سورة الفتح: من الآية 29.
5 سورة المائدة: من الآية 54.
6 سورة التوبة: من الآية 123.
7 سورة التوبة: من الآية 73.
8 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص824-825.
9 سورة المائدة: من الآية 51.(1/139)
والخلود في عذابه وأن متوليهم لو كان مؤمنا ما تولاهم، وهو قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1. ونهى في موضع آخر عن توليهم مبينا سبب التنفير منه وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} 2.
إلى أن قال رحمه الله تعالى: "ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمدا اختيارا رغبة فيهم, أنه كافر مثلهم"3.
محبة الصحابة:
قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ... الآية4: ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم أنه ضال مخالف لله جل وعلا، حيث أبغض من رضي الله عنه، ولا شك أن من أبغض من رضي الله عنه مضاد له جل وعلا، وتمرد وطغيان5.
أهل البيت:
رد رحمه الله تعالى على بعض العلماء الذين قالوا: إن أزواجه -صلى الله عليه وسلم- لا يدخلن في أهل بيته في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
__________
1 سورة المائدة: من الآية 80-81.
2 سورة الممتحنة: من الآية 13.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص98-99.
4 سورة التوبة: من الآية 100.
5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص424.(1/140)
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1 بأن قرينة السياق صريحة في دخولهن؛ لأن الله تعالى قال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ} ، ثم قال في نفس خطابه لهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، ثم قال بعده: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} ... الآية. وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول, فلا يصح إخراجها بمخصص.
والتحقيق إن شاء الله أنهن داخلات في الآية وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت2.
وبين المراد بإذهاب الرجس عنهم فقال: "يعني أنه يذهب الرجس عنهم ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله وينهى عنه من معصيته؛ لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس وطهره من الذنوب تطهيرا"3.
أما المراد بالمودة في القربى من قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4، فقال: "والتحقيق إن شاء الله, أن معنى الآية هو القول الأول {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي: إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها, فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذي الناس كما هو شأن أهل القرابات"5.
القضاء والقدر:
قال رحمه الله تعالى: إن في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 6، وفي قوله سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 7، وفي قوله سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ
__________
1 سورة الأحزاب: من الآية 33.
2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص577.
3 المرجع السابق ج7 ص579.
4 سورة الشورى: من الآية 23.
5 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص192.
6 سورة الزخرف: الآية 20.
7 سورة الأنعام: من الآية 148.(1/141)
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} 1 إشكالا، ووجه الإشكال أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق. وأجاب عن هذا بأن مراد الكفار بقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} ، وقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} , مرادهم به: أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك وهدايتهم إلى الإيمان ولم يمنعهم من الشرك دل ذلك على أنه راضٍ منهم بالشرك في زعمهم, قالوا: لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه, فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به والله جل وعلا يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة, وفي قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 2.فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى وهو زعم باطل وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة3.
إلى أن قال رحمه الله تعالى: وحاصل هذا أن الله تبارك وتعالى قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة، فريقا في الجنة وفريقا في السعير.
وأقام الحجة على الجميع، ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا, فقامت عليهم حجة الله في أرضه لذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي4، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر وصرف قدرهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا، طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 5، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 6.
__________
1 سورة النحل: من الآية 35.
2 سورة الزمر: من الآية 7.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص221، 222 باختصار.
4 كذا, ولعلها: "في علمه الأزلي" الشقاء.
5 سورة الإنسان: الآية 30.
6 سورة الأنعام: من الآية 149.(1/142)
وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية كحركة المرتعش فرقا ضروريا لا ينكره عاقل, إنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون، وفقأت عينه مثلا، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه؛ فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا: إن هذا بإرادتك ومشيئتك.
ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه, والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى، وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنى في محل كذا في وقت كذا, وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنى الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك وتصير علم الله جهلا, بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟ والجواب بلا شك هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1.
إنكار البداء على الله جل وعلا:
وفي قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. قال رحمه الله تعالى: "وما زعمه المشركون واليهود من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء وهو الرأي المتجدد, ظاهر السقوط واضح البطلان لكل عاقل؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت
__________
1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج7 ص223-225.
2 سورة النحل: الآية 101.(1/143)
المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة, فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له, على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح.
وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ وتمحضها في الناسخ بقوله هنا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّل} , وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} 2، فقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} بعد قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ، يدل على أنه أعلم بما ينزل، فهو عالم بمصلحة الإنسان ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي3.
الشفاعة:
في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 4. قال رحمه الله تعالى: "ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقا يوم القيامة, ولكنه بين في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السموات والأرض، أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإجماع فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 5، وقد قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 6 ... " إلى أن قال: "هذا
__________
1 سورة البقرة: الآية 106.
2 سورة الأعلى: الآية 6 و7.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج3 ص328.
4 سورة البقرة: الآية 48.
5 سورة الأنبياء: من الآية 28.
6 سورة الزمر: من الآية 7.(1/144)
الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعا مطلقا, يستثنى منه شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها, كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح, فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة"1.
دقته في استخراج الأحكام:
إلى جانب التزامه -رحمه الله تعالى- منهج أهل السنة والجماعة في التفسير, فإن الله قد آتاه قسطا وافرا من فهم عميق وعميق الفهم يدرك به مدلول الإشارة, ويغوص به في دقائق الأمور فيجلوها ويوضح ما لا يفطن إليه إلا مثله، ولهذا نضرب مثالا:
أينا يفهم من قوله تعالى: " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة: آية 7] ؟ أينا يفهم دلالتها على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ ولنقرأ له -رحمه الله تعالى- تقرير ذلك حيث قال: "يؤخذ من هذه الآية صحة إمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم -أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم. فدل ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين2. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر -رضي الله عنه- من الصديقين, فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم, الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- على الصراط المستقيم وأن إمامته حق"3.
__________
1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص64-65.
2 وذلك في قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص36.(1/145)
وهناك مثال آخر في استنباطه الفقهي, فمن قول هارون لأخيه موسى -عليهما السلام: {يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} 1, استنبط رحمه الله تعالى لزوم إعفاء اللحية وإليك البيان: "هذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية, فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها, وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} ... الآية. ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 2, فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم، وأمره -صلى الله عليه وسلم- بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة المائدة ...
فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بهم في سورة الأنعام وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيه الأسوة الحسنة وعلمت أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم, وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم"3. ومثل هذا عنده كثير.
هذان مثالان فيهما بيان دقته في الاستنباط وهو قصدنا، ولمن أراد مزيد علم فليرجع إلى تفسيره -رحمه الله تعالى- ففيه بغيته.
وبعد:
ذلكم تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن, ما رأيت تفسيرا قديما أو حديثا فسر القرآن بالقرآن مثله, لا يكاد يتناول آية قرآنية إلا وبين ما تدل عليه
__________
1 سورة طه: من الآية 94.
2 سورة الأنعام: من الآية 90.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج4 ص506-507.(1/146)
وما لا تدل عليه ثم أورد الآيات التي تكشف ما لم تدل عليه الآية الأولى, فأصبحت الآيات مجتمعة كالسبيكة الواحدة تجلو كل إبهام وتوضح كل غامض.
ولا يعدل عن ظاهر القرآن الكريم إلا بدليل وقد رد ردودا طويلة على أولئك الذين يصرفون آيات القرآن عن ظاهرها لا لشيء إلا لشيء توهموه في صدورهم كبعض الصفات مثلا، أو لدليل حسبوه يعارض الظاهر فإذا به يجلو هذا الاشتباه فإذا بالتعارض قد زال، بل ذاب كما يذوب الملح في الماء.
وفصل -رحمه الله تعالى- آيات الأحكام تفصيلا موسعا كدت أقول: لا مزيد عليه فيه, بغية كل باحث ومراد كل فقيه.
أما أصول الفقه فهو الخبير فيه، لا تكاد تمر آية قرآنية فيها لأهل الأصول معترك إلا ودخل فيها وخرج والأنظار ترمقه, هممت أن أذكر مثالا فإذا بالأمثلة تصطرع ولم أستطع الحكم لأحدها فلينزل من أراد وردة إلى الحديقة وليقتطف منها ما شاء.
أما مباحث اللغة والبلاغة والبيان ففيه منها ما يوقفك متربعا على عرش الاقتناع.
ليس ما قلته وما لم أقله أيضا مصدره عين الرضا التي تكل عن كل عيب ولكنه عين ما رأيته حقا فوجب قوله ورأيت في ذكر المحاسن الأخرى إطالة فسكت عنها, ولو كان لي من الأمر شيء لقررته في كلياتنا الشرعية منها ليدرك به طلبة العلم الشرعي رائحة علماء السلف في استقامتهم وفي سعة أفقهم وأنها لا تزال قريبة منهم, فيشمروا عن سواعد الجد والطلب, وما ذلك على الله بعزيز.
رحم الله الشيخ ووفق الله طلبة العلم لخدمة هذا التفسير الجليل, إذ لا يزال بحاجة ماسة إلى الترقيم والفهرسة ونحوهما والله الموفق.(1/147)
ثانيا: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان:
صاحب التفسير:
هو الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي الناصري التميمي الحنبلي. ولد في مدينة عنيزة بالقصيم سنة 1307, توفيت والدته وهو في الرابعة، ثم والده وهو في الثانية عشرة فكفلته زوجة والده وعطفت عليه أكثر من عطفها على أولادها وأدخلته مدرسة تحفيظ القرآن, فحفظه في الرابعة عشرة من عمره.
ثم اشتغل بطلب علم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصوله والنحو, فقرأ الكتب وحفظ المتون، إلى أن بلغ الثالثة والعشرين من عمره فجلس للتدريس, فكان يعلم ويتعلم واشتهر بعلمه وارتفع قدره, فأقبل طلبة العلم عليه وتلقي العلوم والمعارف عنه واشتهر عدد من تلاميذه.
وفاته:
توفي -رحمه الله تعالى- قبل فجر الخميس 22 جمادى الآخرة سنة 1376 بسبب نزيف في المخ أصابه يوم الأربعاء, وقد أرسل الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- طائرة تحمل الأطباء لعلاجه ولسوء الأحوال الجوية ذلك اليوم لم تستطع الطائرة الهبوط على أرض المطار.
مؤلفاته:
ترك -رحمه الله تعالى- عددا كبيرا من المؤلفات العلمية طبع أكثرها على نفقته ووزعها مجانا, وما زال بعضها مخطوطا لم يطبع، ومن أهم مؤلفاته:(1/148)
1- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: وهو موضوع بحثنا هنا, وسنفرده بالدراسة.
2- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن: وهو خلاصة التفسير المطول السابق.
3- فوائد قرآنية: لخصها بعض الباحثين من خلاصة التفسير السابق.
4- القواعد الحسان لتفسير القرآن: ذكر فيه سبعين قاعدة تعين على فهم كلام الله والاهتداء به، وتفتح له من طرق التفسير ومنهاج الفهم عن الله ما يغني عن كثير من التفاسير الخالية من هذه البحوث النافعة، طبع الكتاب بمطبعة أنصار السنة المحمدية، بتصحيح محمد حامد الفقي سنة 1366هـ.
5- المواهب الربانية من الآيات القرآنية: وهي فوائد فتح الله عليه بها في شهر رمضان سنة 1347هـ فقيدها، طبع طبعة جديدة سنة 1402.
6- فوائد مستنبطة من قصة يوسف: وافق الفراغ من تأليفها شهر صفر سنة 1375, وطبعت في نفس السنة.
7- الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي: وهي رسالة صغيرة في حجمها تقع في خمسين صفحة من القطع الصغير, كتبها في محرم سنة 1375 وطبعت بمطابع الرياض سنة 1376.
8- التنبيهات اللطيفة: فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة وعليها منتخبات من تقارير الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، تم الفراغ منها في جمادى الأولى سنة 1369، طبعت بدون تاريخ.
9- الفواكه الشهية في الخطب المنبرية: طبعت سنة 1372هـ.
10- إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب بطريق مرتب على السؤال والجواب: طبع الطبعة الأولى سنة 1365, والطبعة الثانية سنة 1400هـ.(1/149)
11- الفتاوى السعدية: وهي مجموعة فتاوى وكتابات وأسئلة وأجوبة كتبها -رحمه الله تعالى- بيده، جمعها بعض محبيه وطبعت الطبعة الأولى سنة 1388هـ والثانية سنة 1402هـ.
هذه بعض مؤلفاته -رحمه الله تعالى- التي تجاوزت الثلاثين مؤلفا، نفع الله بها وغفر له, إنه سميع مجيب1.
التفسير:
يقع تفسيره: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" في سبعة مجلدات، وقد فرغ -رحمه الله تعالى- من تأليفه سنة 1344, وصدرت طبعته الأولى سنة 1365 بمطبعة الترقي بدمشق ووزع مجانا على نفقة المؤلف.
ثم صدرت طبعته الثانية بالمطبعة السلفية بالقاهرة.
وصدرت طبعته الثالثة بالرياض بدون تاريخ, ولكن فيها ما يستدل به على أن طبعها كان سنة 1976م وسنة 1977م.
وهذا التفسير وهو وإن كان شاملا لآيات القرآن الكريم كلها, إلا أنه ليس من التفاسير المطولة وتحدث -رحمه الله تعالى- عن ذلك فقال: "كثرت تفاسير الأئمة -رحمهم الله- لكتاب الله, فمن مطول خارج في أكثر بحوثه عن المقصود، ومن مقتصر يقتصر على حل بعض الألفاظ اللغوية بقطع النظر عن المراد، وكان الذي ينبغي في ذلك أن يجعل المعنى هو المقصود, واللفظ وسيلة إليه فينظر في سياق الكلام وما سيق لأجله ويقابل بينه وبين نظيره في موضوع آخر، ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم، عالمهم وجاهلهم, حضريهم وبدويهم، فالنظر لسياق الآيات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته مع أصحابه
__________
1 لخصنا هذه الترجمة من كتاب: مشاهير علماء نجد وغيرهم, تأليف عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ومن قراءاتي الخاصة لمؤلفاته. وانظر ترجمته في الأعلام للزركلي, ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة.(1/150)
وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه, خصوصا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلاف أنواعها.
فمن وفق لذلك لم يبق عليه إلا الإقبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر في ألفاظه ومعانيه ولوازمها وما تتضمنه وما تدل عليه منطوقا ومفهوما، فإذا بذل وسعه في ذلك فالرب أكرم من عبده، فلا بد أن يفتح عليه من علومه أمورا لا تدخل تحت كسبه.
ولما منَّ البارئ عليَّ وعلى إخواني بالاشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال اللائقة بنا، أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر، وما منَّ به الله علينا ليكون تذكرة للمحصلين وآلة للمستبصرين، ومعونة للسالكين، ولأقيده خوف الضياع، ولمن يكن قصدي في ذلك إلا أن يكون المعنى هو المقصود، ولم أشتغل في حل الألفاظ والعقود، للمعنى الذي ذكرت, ولأن المفسرين قد كفوا من بعدهم, فجزاهم الله عن المسلمين خيرا"1.
قلت: وجزاه الله أيضا خيرا, ومع التزامه بما قال من الاكتفاء بأقوال المفسرين السابقين عن الإطناب في حل ألفاظ القرآن الكريم وتفسيره, فإن تفسيره يقع في سبعة مجلدات وذلك بسبب طريقة أحسبها خاصة به نبه بنفسه عليها في مقدمته فقال: اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها، ولا أكتفي بذكر ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللاحقة؛ لأن الله وصف هذا الكتاب أنه "مثاني" تثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة، وأمر بتدبره جميعه لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف وصلاح الظاهر والباطن وإصلاح الأمور كلها2.
وقد التزم -رحمه الله تعالى- بما رسم لنفسه من منهج, فجاء تفسيره وسطا بين طويل التفاسير ومختصره.
__________
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن بن ناصر السعدي ج1 ص12-14.
2 المرجع السابق ج1 ص2.(1/151)
نماذج من تفسيره:
رؤية الله:
قال -رحمه الله تعالى- مثبتا لرؤية الله يوم القيامة عند تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} 1 الآية، قال: "أي: لن تقدر الآن على رؤيتي, فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه ينشئهم نشأة كاملة يقدرون معها على رؤية الله تعالى"2.
وبين في موضع آخر أنهم ينظرون إلى ربهم حسب مراتبهم, فقال في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3، أي: "ينظرون إلى ربهم على حسب مراتبهم, ومنهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة"4.
وفسر الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5 بالنظر إلى وجهه الكريم, فقال: "وهي النظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه والفوز برضاه والبهجة بقربه, فبهذا حصل أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون"6.
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 143.
2 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج3 ص87.
3 سورة القيامة: الآيتان 22 و23.
4 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص526.
5 سورة يونس: من الآية 26.
6 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن ج3 ص345.(1/152)
الاستواء:
في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 1، قال: "استوى استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه"2، وقال في موضع آخر: "استواء يليق بجلاله, فوق جميع خلقه"3.
العرش:
قال عنه -رحمه الله تعالى: "العرش الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها"4، وقال في موضع آخر: "العرش العظيم الذي يسع السموات والأرض, وما فيهما وما بينهما"5.
سلامة القرآن الكريم من التحريف:
في تفسير قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 6، قال: أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن لا بسرقة ولا بإدخال ما ليس منه به ولا بزيادة ولا نقص, فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 7 8، وقال في تفسير هذه الآية الأخيرة: " {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كل شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله واستودعه في قلوب أمته وحفظ الله ألفاظه من التغيير فيها والزيادة والنقص ومعانيه من
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 54.
2 المرجع السابق ج3 ص38.
3 المرجع السابق ج7 ص283.
4 المرجع السابق ج5 ص489.
5 المرجع السابق ج3 ص38.
6 سورة فصلت: الآية 42.
7 سورة الحجر: الآية 9.
8 المرجع السابق ج6 ص582.(1/153)
التبديل، فلا يحرف محرف معنى من معانيه إلا وقيض الله له من يبين الحق المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين، ومن حفظه أن الله يحفظ أهله من أعدائهم ولا يسلط عدوا يجتاحهم"1.
كلام الله غير مخلوق:
في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآيات2، قال رحمه الله تعالى: "وفي هذه الآيات من العبر والآيات إثبات الكلام لله تعالى وأنه لم يزل متكلما, يقول ما شاء ويتكلم بما شاء, وأنه عليم حكيم"3. وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4 قال: أي مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال: موسى كليم الرحمن5، وقال في موضع آخر: "وأما كلام الله فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى"6.
لا رجعة لأحد قبل يوم القيامة:
قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} 7، يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين أنه يندم في تلك الحال إذا رأى مآله وشاهد قبح أعماله فيطلب الرجعة إلى الدنيا لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها وإنما ذلك ليقول: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} من العمل وفرطت في جنب الله: {كَلَّا} أي: لا رجعة له ولا إمهال قد قضى الله أنهم إليها لا يرجعون8.
__________
1 المرجع السابق ج4 ص158.
2 سورة البقرة: الآيات 30-34.
3 المرجع السابق ج1 ص73.
4 سورة النساء: من الآية 164.
5 المرجع السابق ج2 ص218.
6 المرجع السابق ج5 ص86.
7 سورة المؤمنون: الآيتان 99-100.
8 المرجع السابق ج5 ص379.(1/154)
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} 1 أي:: "هل لنا طريق أو حيلة إلى رجوعنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل؟ وهذا طلب للأمر المحال الذي لا يمكن"2.
أصحاب الكبائر:
في الوعيد لمن قتل مؤمنا متعمدا المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 3، قال رحمه الله تعالى: "وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار أو حرمان الجنة، وقد اختلف الأئمة -رحمهم الله- في تأويلها، مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار، ولو كانوا موحدين"4, ثم نقل قولا لابن القيم -رحمه الله تعالى- بين فيه موقف أهل السنة والجماعة المعروف من أصحاب الكبائر.
أما في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5، فقال -رحمه الله تعالى- فيها: "وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية وهي حجة عليهم كما ترى فإنها ظاهرة في الشرك, وهكذا كل مبطل يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه"6.
أما الوعيد لمن عاد إلى أكل الربا في قوله تعالى: {مَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 7، فقال عنه: "في هذا أن الربا موجب
__________
1 سورة الشورى: من الآية 44.
2 المرجع السابق ج6 ص626.
3 سورة النساء: من الآية 93.
4 المرجع السابق ج2 ص129.
5 سورة البقرة: من الآية 81.
6 المرجع السابق، ج1 ص103.
7 سورة البقرة: من الآية 275.(1/155)
لدخول النار والخلود فيها؛ وذلك لشناعته ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان, وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها، وانتفاء موانعها وليس فيها حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد، فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص من خروج من في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من الإيمان, من النار ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار إن لم يتب منها"1.
الموالاة والمعاداة:
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} 2 الآية، بين -رحمه الله تعالى- أصل الولاية فقال: "وأصل الولاية: المحبة والنصرة وذلك أن اتخاذهم أولياء موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله ومحبتهم على محبة الله ورسوله؛ ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك وهو أن محبة الله ورسوله يتعين تقديمها على محبة كل شيء, وجعل جميع الأشياء تابعة لهما"3.
وفي قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 الآية، قال: "وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين وترك موالاة المؤمنين, وأن ذلك من صفات المنافقين وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم"5.
وفي موضع آخر بين -رحمه الله تعالى- الولاية الواجبة على المؤمنين وما تدرك به وفائدتها وما يوجبها على المؤمنين؛ فقال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
__________
1 المرجع السابق ج1 ص338 -339.
2 سورة التوبة: من الآية 23.
3 المرجع السابق ج3 ص212-213.
4 سورة النساء: من الآيتين 138-139.
5 المرجع السابق: ج2 ص197.(1/156)
الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ, وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 1, فقال: "لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين, أخبر تعالى من يجب ويتعين توليه. وذكر فائدة ذلك ومصلحته فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ومن كان لله وليا فهو ولي لرسوله، ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا وأخلصوا للمعبود بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها وأحسنوا للخلق وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم، وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، أي: خاضعون لله ذليلون, فأداة الحصر في قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين والتبري من ولاية غيرهم. ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية وحزبه الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، وهذه إشارة عظيمة لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده, أن له الغلبة وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى, فآخر أمره الغلبة والانتصار {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} "2.
محبة الصحابة:
وفي تفسير قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} الآيات3، تحدث -رحمه الله تعالى- عن المهاجرين ثم عن الأنصار ثم قال: "فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم،
__________
1 سورة المائدة: الآيتان 55 و56.
2 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج2 ص310-311.
3 سورة الحشر: الآيات 8، و9، و10.(1/157)
وأدركوا به من قبلهم فصاروا أعيان المؤمنين وسادات المسلمين وقادات المتقين, وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ويأتمّ بهداهم"1.
القضاء والقدر:
فصل -رحمه الله تعالى- الحديث عن القضاء والقدر عند تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2، فقال رحمه الله تعالى: "هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما أحل الله بالقضاء والقدر، ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم، وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولون كما قال في الآية الأخرى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 3 الآية، فأخبر تعالى أن هذه الحجة لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة الرسل ويحتجون بها فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم حتى أهلكهم الله وأذاقهم بأسه, فلو كانت حجة صحيحة لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب؛ لأنه لا يحل بأسه إلا بمن استحقه فعلم أنها حجة فاسدة وشبهة كاسدة من عدة أوجه:
منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة لم تحل بهم العقوبة.
ومنها: أن الحجة لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان, فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص الذي لا يغني من الحق شيئا فإنها باطلة؛ ولهذا قال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} ، فلو كان لهم علم وهم خصوم ألداء لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا
__________
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص336.
2 سورة الأنعام: الآيتان 148 و149.
3 سورة النحل: من الآية 35.(1/158)
الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} ، ومن بنى حجة على الخرص والظن فهو مبطل خاسر, فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟
ومنها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة وإرادة يتمكن بها من فعل ما كلف به, فما أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج -بعد هذا- بالقضاء والقدر ظلم محض وعناد صرف.
ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم بل جعل أفعالهم تبعا لاختيارهم, فإن شاءوا فعلوا وإن شاءوا كفوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر, وأنكر المحسوسات فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلا في مشيئة الله ومندرجا تحت إرادته.
ومنها: أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك, فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء اليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج ولغضبوا من ذلك أشد الغضب، فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابله مساخطهم؟!!.
ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أن الحق بمنزلة الصائل منهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام المصيب عندهم والمخطئ1.
وقال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2: "وفي هذه الآية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة والقدرية المجبرة"3.
__________
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج2 ص495-497.
2 سورة التكوير: الآية 29.
3 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي ج7 ص581.(1/159)
هذه أمثلة من تفسير ابن سعدي -رحمه الله تعالى- سلك فيها منهج أهل السنة والجماعة, اكتفى في بيانه بوجيز العبارة من غير إطناب ممل ولا إيجاز مخل, وهو وإن لم يعرض الكثير من آراء أهل السنة والجماعة بالشرح والبيان لاعتقاده -كما قرر في مقدمته- أن المفسرين قد كفوا من بعدهم، ومع هذا فإن تفسيره -رحمه الله تعالى- قد جاء وسطا بين حاجة العلماء وحاجة من دونهم, ليس بالصعب الذي لا ترتقي إليه أفهام هؤلاء ولا بالسهل الذي لا يجد فيه أولئك بغيتهم، بل جمع هذا وذاك وأحسبه لم يفصل الحديث في العقائد؛ لأنه إنما كان يخاطب طائفة من أهل السنة والجماعة لم يكن بينهم من منازع أو خصم فكان يكتفي بوجيز العبارة ودقيق الإشارة. نفع الله به وبعلومه, إنه سميع مجيب.(1/160)
ثالثا: محاسن التأويل
صاحب التفسير:
اسمه: محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد سعيد بن قاسم، وقاسم هذا فقيه الشام في عصره الشيخ قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالحلاق, وإلى هذا الفقيه ينسب حفيده فيسمى جمال الدين القاسمي.
ولادته:
ولقد ولد -رحمه الله تعالى- يوم الاثنين 8/ 5/ 1283 الموافق 17 أيلول 1866 من الميلاد، في دمشق.
نشأته:
تعلم -رحمه الله تعالى- القرآن أولا ثم تعلم الكتابة, ثم انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية فأخذ مبادئ التوحيد والصرف والنحو والمنطق والبيان والعروض وغيرها, ثم جود القرآن على شيخ القراء الشيخ أحمد الحلواني وقرأ على الشيخ سليم العطار والشيخ بكري العطار, وأجازه كثير من علماء عصره.
تدريسه:
بدأ في التعليم بسن مبكرة، وانتدبته الحكومة أربع سنوات من سنة 1308 إلى سنة 1312 لإلقاء دروس عامة خلال شهر رمضان في وادي العجم والنبك وبعلبك, وقام مقام أبيه في الدرس العام وإمامة الجامع وإلقاء الدروس فيه بعد وفاة والده سنة 1317, واستمر فيه إلى وفاته, رحمه الله تعالى.(1/161)
نشاطه:
اتهم بعد عودته من الانتداب سنة 1313 وزيارته لمصر وللمدينة بتأسيس مذهب فقهي خامس هو "المذهب الجمالي" فقبضت عليه الحكومة ليلة واحدة ثم أخلي سبيله في الصباح, واعتذر له والي دمشق.
وانقطع بعدها للتأليف وإلقاء الدروس الخاصة والعامة، وفي سنة 1326 حدثت له حادثة أخرى, حيث فُتشت كتبه وصُودر بعضها وأُعيدت له بعد شهرين.
وحادثة ثالثة، حيث استُدعي أمام قاضي التحقيق بدمشق حيث اتهم بأن جمعية النهصة السورية لم تنشأ إلا بتشويقه هو والشيخ عبد الرزاق البيطار, وأنهما من أركانها, وأنها فرع لجمعيات في البلاد كاليمن ونجد.
وأن لهم مكاتبات مع أمراء نجد ومواصلات ... وما مذهب الوهابية وكم عدة الوهابيين في الشام ... إلى نحو ذلك.
أسلوبه في الدعوة:
عرف عنه -رحمه الله تعالى- أنه كان عف اللسان والقلم لم يتعرض بالأذى لأحد من خصومه, سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة في مجالسه أو ندواته، وإنما كان يناقش بالبرهان والدليل من الكتاب والسنة.
ولم تتضمن كتبه على كثرتها مع أن بعضها إنما وضع للرد على المخالفين, لم تتضمن لفظا نابيا أو كلمة جارحة وإنما اعتصم بالنقاش العلمي الأدبي ولم يكن -رحمه الله تعالى- يريد من الرد على مخالفيه إفحامهم أو تصغير أقدارهم أو الحط من شأنهم، وإنما كان هدفه الهدى والرشاد إلى صراط مستقيم.
وفاته:
توفي -رحمه الله تعالى- في دمشق مساء السبت 23/ 5/ 1332 ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق، وله من العمر 49 عاما.(1/162)
مؤلفاته:
ترك -رحمه الله تعالى- عددا كبيرا من المؤلفات تقارب المائة عددا, وقد اطلع الزركلي على اثنين وسبعين مصنفا له ... وأهم مؤلفاته:
1- محاسن التأويل: وهو التفسير الذي سنفرده بالحديث, إن شاء الله.
2- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: في مجلد، بين يدي طبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الثانية سنة 1380 بتحقيق وتعليق محمد بهجت البيطار. أما الطبعة الأولى ففي شهر شوال سنة 1353.
3- إصلاح المساجد من البدع والعوائد: في مجلد واحد, تبلغ صفحاته قرابة 280 صفحة، صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1341، وبين يدي الطبعة الرابعة سنة 1399 في بيروت, خرج أحاديثها وعلق على بعض مواطن الإشكال فيها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
4- تاريخ الجهمية والمعتزلة: صدرت آخر طبعاته من مؤسسة الرسالة ببيروت سنة 1399.
5- تعطير المشام في مآثر دمشق الشام: مخطوط في أربعة مجلدات, ذكره الزركلي في أعلامه.
6- موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين: وغير ذلك من المؤلفات, رحمه الله رحمة واسعة ونفع بعلمه, إنه سميع مجيب1.
التفسير:
"محاسن التأويل":
ويعرف هذا التفسير بـ"تفسير القاسمي" طبع في سبعة عشر مجلدا ويقع في 6316 صفحة بدون المجلد الأول الذي جعله مقدمة لتفسيره وصدرت
__________
1 اعتمدت في ترجمته -رحمه الله تعالى- على ما ورد في ترجمته في كتابه: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث"، وعلى ما ورد في الأعلام للزركلي؛ ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة؛ وفي كتاب الأدب العربي المعاصر في سورية للأستاذ سامي الكيالي.(1/163)
الطبعة الأولى بين عامي 1376-1377 من دار إحياء الكتب العربية، ووقف على طبعه وتصحيحه, ورقمه وخرج آياته وأحاديثه وعلق عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي, وأصدرت دار الفكر ببيروت الطبعة الثانية سنة 1398 مصورة عن الطبعة الأولى.
طريقته في التفسير:
بين -رحمه الله تعالى- في مقدمة تفسيره أنه اطلع على ما قدر له من تفاسير السابقين وتعرف ما تخللها من الغث والسمين, ثم بعد أن صرف في الكشف عن حقائق التفسير شطرا من عمره ووقف على فحص دقائقه قدرا من دهره قال: "أردت أن أنخرط في سلك مفسريه الأكابر قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر وأكون بخدمته موسوما وفي حملته منظوما, فشحذت كليل العزم وأيقظت نائم الهم واستخرت الله تعالى في تقرير قواعده وتفسير مقاصده في كتاب اسمه بعون الله الجليل: "محاسن التأويل" أودعه ما صفا من التحقيقات وأوشحه بمباحث هي المهمات وأوضح فيه خزائن الأسرار وأنقد فيه نتائج الأفكار وأسوق إليه فوائد التقطتها من تفاسير السلف وفرائد عثرت عليها في غضون الدفاتر وزوائد استنبطتها بفكري القاصر مما قادني الدليل إليه، وقوى اعتمادي عليه وسيحمد السابح في لججه والسانح في حججه ما أودعته من نفائسه الغريبة البرهان وأوردته من أحاديثه الصحاح والحسان وبدائعه الباهرة للأذهان, فإنها لباب اللباب ومهتدى أولي الألباب ولم أطل ذيول الأبحاث بغرائب التدقيقات، بل اخترت حسن الإيجاز في حل المشكلات اللهم إلا إذا قابلت فرسان مضمار الحق جولة الباطلات، فهنالك تصوب أسنة البراهين نحو نحور الشبهات"1.
وقد جعل -رحمه الله تعالى- الجزء الأول مقدمة لتفسيره, قال عنها: "وهي قواعد فائقة وفوائد شائقة جعلتها مفتاحا لمغلق بابه, ومسلكا لتسهيل خوض عبابه, تعين المفسر على حقائقه وتطلعه على بعض أسراره ودقائقه"1.
__________
1 محاسن التأويل ج1 ص5 و6.(1/164)
ومفسرنا -رحمه الله تعالى- كثيرا ما ينقل نقولا طويلة عن علماء السلف, فينقل عن أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن جرير الطبري والشاطبي والعز بن عبد السلام وابن حزم والرازي والزمخشري والراغب والقرطبي والبقاعي وغيرهم, رحمهم الله أجمعين.
وكثيرا ما يستشهد -رحمه الله، وهو من علماء الحديث- بالأحاديث النبوية من الصحاح والسنن والمسانيد.
وفي اللغة يرجع إلى كتب اللغة, كالقاموس والصحاح وغيرهما. وقد عاب بعض النقاد عليه -رحمه الله تعالى- كثرة نقله من الكتب وزعموا أن الرجل لم يكن له رأي شخصي وأنه إنما كان يعتمد في تأليفه على نقل آراء غيره, فرد عليهم الأستاذ سامي الكيالي فقال عنهم: "أخطئوا من ناحيتين:
1- لأن النقل بحد ذاته رأي, وقديما قيل: "اختيار المرء قطعة من عقله" فما كانت الآثار والآراء والأقوال التي ينقلها إلا آراء، ولو ارتأى أن يكتبها بنفسه، لكتب مثلها أو خيرا منها، ولكنه آثر أن يكتبها بقلم غيره للسبب الذي أشرت إليه.
2- لأن بعض تآليفه التي وضعها في أخريات أيامه لم يكن فيها النقل إلا عرضا ولتأييد فكرته بقول غيره, وقد كان ذلك في الوقت الذي لم يعد فيه يبالي بالخصوم وأصبح اسمه علما ضخما في العالم الإسلامي"1.
أما السبب الذي أشار إليه الأستاذ سامي الكيالي فهو حسب اعتقاده أن الشيخ القاسمي لما رأى البدع قد تفشت وأن الخرافات قد استولت على الأذهان, أدرك أن أقواله سوف لا يكون لها من القيمة ما لأقوال الأئمة السابقين فكان يرتب الأفكار التي تجب معالجتها وينقل عن الغزالي وابن تيمية وابن حزم وابن الجوزي وابن القيم والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ومالك وأمثالهم الأقوال الصحيحة التي تؤيد فكرته؛ ولهذا ظهر قسم من مؤلفاته وليس فيه إلا المقدمة
__________
1 الأدب العربي المعاصر في سورية: سامي الكيالي ص155-156.(1/165)
وبعض الأقوال القليلة النادرة ولم يكن ذلك عن عجز عن الكتابة، وإنما كان مقصودا لنشر الفكرة الإصلاحية التي يسعى إليها وليحمل الخصوم على قبولها والقناعة بها من أقوال أئمة لا يستطيعون أن يردوا عليها1.
والحق أن الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- كثيرا ما يعتمد على النقل, نضرب لذلك مثلا في بيان المحكم والمتشابه في الآية السابعة من آل عمران, اكتفى -رحمه الله تعالى- بنقل نص لابن تيمية -رحمه الله تعالى- في 32 صفحة ثم بنص لابن المرتضى اليماني صاحب كتاب: "إيثار الحق على الخلق" في 12 صفحة ولم يكن له إلا الربط بين النصين, ولا يعد هذا عيبا إذ لم يكن هدفه -رحمه الله تعالى- التأليف، بل كان هدفه الإصلاح ونشر الحق بين الناس وإزالة البدع والمنكرات, وتحت ظلال هذه الأهداف فإن الأمر سيان بين أن يأتي بكلام من عنده، أو بكلام غيره ما دام يعتقده حقا ويعتقده صوابا، بل الثاني أولى لما ذكره الأستاذ سامي.
نماذج من تفسيره:
الأسماء والصفات:
أفرد القاسمي -رحمه الله تعالى- في المجلد الأول بيانا في أن الصواب في آيات الصفات هو مذهب السلف أورد فيه نقولا لبعض العلماء في إثبات ذلك, فنقل الباب الثاني في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف من كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام" للإمام الغزالي ثم نقل ما وصفه بالقول الشامل في هذا الباب ما قاله الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ثم نقل عن الأوزاعي من كتابي الأسماء والصفات للبيهقي والسنة لأبي بكر الخلال, ثم نقل شرح ابن القيم لحديث: "فرح الله بتوبة عبده" من كتابه: طريق الهجرتين.
ولئن كان -رحمه الله تعالى- ينقل هذه النصوص نقل المستشهد المؤيد, فإني لم أعتبرها رأيا له مع أن من يفعل فعله فينقل نقل المستشهد المؤيد إنما عبر
__________
1 الأدب العربي المعاصر في سورية: سامي الكيالي ص155-156.(1/166)
عن رأيه بلفظ غيره فهي إن لم تكن رأيا له, فهي حتما دليل عليه. وإنما لم أعتبرها رأيا له دفعا للحجة وقطعا للمنازع، وسأعتمد في هذا وفي سواه على ألفاظه, رحمه الله تعالى.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1, قال: "كما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة فكذا تتمتها وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد على المعطلة؛ ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف, فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فجمعوا بين التمثيل والتعطيل فمثلوا أولا وعطلوا آخرا, فهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة, فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تشبيه قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فرد على المشبهة بنفي المثلية, ورد على المعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
إثبات الرؤية:
قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3: "أي مشاهدة إياه, ترى جمال ذاته العلية ونور وجهه الكريم كما وردت بذلك الأخبار والآثار عن رسول الله صلوات الله عليه وسلامه"4.
وكذا في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ ْأَرِنِي
__________
1 سورة الشورى: من الآية 11.
2 محاسن التأويل ج14 ص5227.
3 سورة القيامة: الآيتان 22-23.
4 محاسن التأويل ج17 ص5996.(1/167)
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} الآية1, قال رحمه الله تعالى: "نبه تعالى على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى بأن المانع من الانكشاف الإشفاق عليه, وأما أن المانع محالية الرؤية فليس في القرآن إشارة إليه"2.
ثم رد على المعتزلة فقال: "وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري فمعنى قوله: {أَرِنِي} ، أي: اجعلني عالما بك علما ضروريا, خلاف الظاهر فإن النظر الموصول بـ "إلى" نص في الرؤية البصرية فلا يترك بالاحتمال مع أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول, وكذا زعمهم أن موسى -عليه السلام- كان سألها لقومه حين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 3, فسأل ليعلموا امتناعها, فإنه خلاف الظاهر وتكلف يذهب رونق النظم فترده ألفاظ الآية، وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة بالكتاب والسنة؛ أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ, إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وأما السنة فلا تحصى أحاديثها ولكن إذا أصيب أحد بداء المكابرة في الحق الصراح, عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة"4.
وأكد هذه العقيدة عند تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 5, فسر الزيادة بالتفضل كما قال تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجهه تعالى الكريم؛ ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين ورفعها ابن جرير إلى النبي -صلوات الله عليه- عن أبي موسى وكعب بن عجرة وأبي, وكذا ابن أبي حاتم وروى الإمام أحمد عن صهيب -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ... } إلخ. وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 143.
2 محاسن التأويل ج7 ص2851.
3 سورة البقرة: من الآية 55.
4 محاسن التأويل ج7 ص2852.
5 سورة يونس: من الآية 26.(1/168)
نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ " قال: "فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه, فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم". وهكذا رواه مسلم1.
الاستواء:
ما رأيت الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- أفاض الحديث عن صفة من صفات الله تعالى كما أفاضه في صفة الاستواء, فقد كتب عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "من ص2702 إلى ص2750" وليس له -رحمه الله تعالى- فيما كتب إلا الربط بين نصوص علماء السلف, فقد نقل عن البخاري والذهبي من كتابه "العلو" وعن الإمام أحمد بن حنبل من كتابه "الرد على الجهمية" وعبد القادر الجيلاني من كتابيه "تحفة المتقين" و"الغنية" وعن أبي إسماعيل الأنصاري من كتابه ذم الكلام وأهله وعن الكناني من كتابه "الرد على الجهمية" وابن عرفة من كتابه "الرد على الجهمية" وعن أبي الحسن الأشعري من كتابه "الإبانة" وعن ابن عبد البر من كتابه "التمهيد" وعن ابن تيمية من "الرسالة المدنية" ومن ولي الله الدهلوي من كتابه "حجة الله البالغة"، وعن الألوسي من محاكمة الأحمدين، وأكثر نقله عن ابن تيمية, رحمه الله تعالى.
ثم عقب -رحمه الله تعالى- بعد هذه النقول بقوله: "وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام؛ لأنه من أصول العقائد الدينية ومهمات المسائل التوحيدية وقد كثر فيه تعارك الآراء وتصادم الأهواء ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء, فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين مائلة إلى مذهب السلف الصالحين فإن الأئمة منهم كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين"2.
__________
1 محاسن التأويل: ج9 ص3341.
2 محاسن التأويل: ج7 ص2750.(1/169)
كلام الله:
وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 1 قال رحمه الله تعالى: "يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد {كَلَّمَ} بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى -عليه السلام- سمع كلام الله بلا شك؛ لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال: أراد الحائط يسقط إرادة، وهذا رد على من يقول: إن الله خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام. قال الفراء: "العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل, لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام فدل قوله تعالى: {تَكْلِيمًا} ، على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة, قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى -عليه السلام- بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحا في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحا في نبوة من أنزل عليه كتابه منجما من الأنبياء, كذا في اللباب"2. ثم قال رحمه الله تعالى: "تنبيه: يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام, فإنها من أعظم مسائل الدين، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين، واضطربت فيها الأقوال وكثرت بسببها الأهوال وأثارت فتنا وجلبت محنا وكم سجنت إماما وبكت أقواما وتشعبت فيها المذاهب واختلف فيها المشارب ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة المقتفين لأثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضي الله عنهم- فنقول"3.
ثم نقل -رحمه الله تعالى- نصوص السلف في كلام الله وإثباته على الوجه اللائق به جل وعلا وأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق, فنقل نصوصا مطولة لابن تيمية تقع في "23 صفحة" ونقل بعد ذلك نصوصا لعلماء آخرين على مذهب أهل السنة والجماعة.
__________
1 سورة النساء: من الآية 164.
2 محاسن التأويل: ج5 ص1723.
3 محاسن التأويل: ج5 ص1723-1724.(1/170)
سلامة القرآن من التحريف:
قال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1، أي: من كل من بغى له كيدا, فلا يزال نور ذكره يسري وبحر هداه يجري وظلال حقيته في علومه تمتد على الآفاق ودعائم أصوله الثابتة تطاول السبع الطباق رغما عن كيد الكائدين, وإفساد المفسدين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . وفي إيراد الجملة الثانية اسمية دلالة على دوام الحفظ2. وقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} 3، قال: "أي: منيع محمي عن التغيير والتبديل, وعن محاكاته بنظير"4.
الإمامة والعصمة:
رد -رحمه الله تعالى- ما يستدل به المعتزلة والشيعة في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 5, فقال: "وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة والكشاف أوسع المقال في ذلك هنا، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم في وجوب العصمة في الأئمة ظاهرا وباطنا على ما نقله الرازي عنهم وحاورهم, أقول: إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك. المراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها، وهل كانت إلا الإمامة في الدين وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته؟ كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
__________
1 سورة الحجر: الآية 9.
2 محاسن التأويل: ج10 ص3748-3749.
3 سورة فصلت: من الآية 41.
4 محاسن التأويل: ج14 ص5211.
5 سورة البقرة: الآية 124.(1/171)
مُبِينٌ} 1 ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع.. فقد نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين, فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلا, ومعلوم أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل، والعمل بالشرع كما ورد, ومتى زاغ عن ذلك كان ظالما"2.
لا رجعة:
في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3. قال رحمه الله تعالى: "تمنوا الرجوع إلى الدنيا حين لا رجوع, واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم وأن يكونوا من المؤمنين"4.
الميزان:
في تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5، قال: "قال السيوطي في الإكليل في هذه الآية: ذكر الميزان ويجب الإيمان به, انتهى"، ثم قال: "الذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما ... ثم ذكر أدلة هذا القول ... وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن ... ثم استدل له ... وقيل: يوزن صاحب العمل ... ثم استدل له، وقال بعد هذا: قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا فتارة توزن الأعمال
__________
1 سورة الصافات: من الآية 113.
2 محاسن التأويل: ج2 ص246.
3 سورة الأنعام: الآية 27.
4 محاسن التأويل: ج6 ص2279.
5 سورة الأعراف: الآية 8.(1/172)
وتارة يوزن محلها وتارة يوزن فاعلها, والله أعلم ... ثم ذكر الحكمة في وزن الأعمال فقال: إن قلت: أليس الله -عز وجل- يعلم مقادير أعمال العباد, فما الحكمة في وزنها؟ قلت: فيه حِكَم.
منها: إظهار العدل وأن الله -عز وجل- لا يظلم عباده.
ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا, وإقامة الحجة عليهم في العقبى.
ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر, وحسنة وسيئة.
ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة.
ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى, كذا في اللباب"1.
الصراط:
وفي قوله تعالى عن الكافرين: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} 2 الآية، قال: "على إما على حقيقتها, أي: أُقيموا واقفين فوق النار على الصراط وهو جسر فوق جهنم, أو هي بمعنى في أي أُقيموا في جوف النار وغاصوا فيها وهي محيطة بهم, وصحح معنى الاستعلاء حينئذ كون النار دركات وطبقات بعضها فوق بعض"3.
القضاء والقدر:
فصَّل -رحمه الله تعالى- القول في القضاء والقدر وبين عقيدة الفرقة الناجية فقال في تفسيره لقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ
__________
1 محاسن التأويل: ج7 ص2613 إلى ص2618 باختصار.
2 سورة الأنعام: من الآية 27.
3 محاسن التأويل: ج6 ص2278.(1/173)
مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 1 الآيتين, قال رحمه الله تعالى: "هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في تفسيره وقال: إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه، وكذا الزمخشري في تفسيره.
ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد.
وقد خالف في ذلك عامة القدرية -الذين سماهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مجوس هذه الأمة- فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى.
ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال ابن تيمية- كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه, وسنبين تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندفعها -بعون الله تعالى- بعدة وجوه فنقول:
"قالوا": إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ولما صدر عنا تحريم المحللات، فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا, فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك, على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعدهم!
__________
1 سورة الأنعام: من الآيتين 148 و149.(1/174)
"قلنا": إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه, ثم ذكر الشيخ القاسمي -رحمه الله تعالى- سبعة وجوه في الرد على شبهتهم نكتفي بإيراد واحد من هذه الوجوه عن الباقي, قال رحمه الله: "إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك, أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فرد تعالى عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ".
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- بقية الوجوه في الرد على شبهتهم, ونقل بعد هذا نصا لابن القيم الدمشقي من كتابه: طريق الهجرتين, ثم بحثا ضافيا لابن تيمية وأعقب هذا كله بقوله: إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت:
"إحداهما": كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف، وهي بديهية.
و"الثانية": هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية, ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان:
الأولى: ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته, وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه.
... ثم ذكر -رحمه الله تعالى- ثلاثة وجوه أجملها في آخرها فقال: وبالجملة: إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس, كما زعم بعضهم فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته, يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى, {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
المسألة الثانية: وهي عضلة العقد ومحك المنتقد, أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل, ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية، فإذا كان قد سبق القضاء المبرم بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا, فما معنى مطالبته(1/175)
بالإيمان وهو ليس في طاقته, ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختارة له؟ كما قال بعضهم.
والجواب عن هذا:
إن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا لا ينافي أن يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا، ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية, أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم, وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا.
وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على أفعاله كلها؛ لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه.
فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار واشتبهت عليهم الأنظار فكابروا الحس والوجدان ودابروا الدليل والبرهان وعطلوا الشرائع والأديان وتوهموا أنهم بعظمون الله, ولكنهم ما قدروا الله حق قدره ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرءوا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان، فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء, أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه ومؤدب لعقله وحسه اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن ويظهر ويبطن, وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك, وأما الذين ضلوا السبيل واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} الآية، فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم بالقدر من(1/176)
أسباب وقوع البأس والبلاء بهم. وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه, والله عليم حكيم1.
أهل الكبائر:
في تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 2، قال رحمه الله تعالى: "ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين؛ لما ثبت في السنة تواترا من خروج عصاة الموحدين من النار, فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك, ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود"3.
وبهذا النحو فسر قوله تعالى عن آكلي الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، قال: "ومن عاد أي: إلى تحليل الربا بعد النص, فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"؛ لكفرهم بالنص وردهم إياه بقياسهم الفاسد بعد ظهور فساده, ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود, وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به. فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع، ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابرا في تحريمها مسندا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات, بما يتوهمه من الخيالات, فقد كفر ثم ازداد كفرا وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال: إنه كافر مكذب غير مؤمن, وهذا لا خلاف فيه فلا دليل إذًا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية والله الموفق, أشار لذلك في الانتصاف. قال في فتح البيان:
__________
1 محاسن التأويل: ج6 من ص2542 إلى ص2563 باختصار.
2 سورة البقرة: الآية 81.
3 محاسن التأويل: ج2 ص177.
4 سورة البقرة: من الآية 275.(1/177)
والمصير إلى هذا التأويل واجب؛ للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار1.
الولاء والبراء:
فسر -رحمه الله تعالى- قوله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2 الآية، بقوله: "أي: لا تجد قوما جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين موادة أعداء الله ورسوله. والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا يبنغي أن يتحقق ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم, وزاد ذلك تأكيدا وتشديدا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} أي: آباء الموادين, والضمير في: {كَانُوا} لمن حاد الله ورسوله والجمع باعتبار معنى {مَنْ} كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها"3.
أهل البيت:
في قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4، قال رحمه الله تعالى: "أي أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم، وتصلوا الرحم التي بيننا ولا يكن غيركم يا معشر قريش أولى بحفظي ونصرتي ومودتي منكم ... والاستثناء منقطع ومعناه نفي الأجر أصلا؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم فلا تصلح أن تكون أجرا له. وقيل: المعنى أن تودوا قرابتي والذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم وقيل: {الْقُرْبَى} التقرب إلى الله تعالى أي: إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه، والمعنى الأول هو الذي عوّل عليه الأئمة
__________
1 محاسن التأويل: ج3 ص709.
2 سورة المجادلة: من الآية 22.
3 محاسن التأويل: ج16 ص5729.
4 سورة الشورى: من الآية 23.(1/178)
ولم يرتض ابن عباس -رضي الله عنه- غيره, ففي البخاري عنه -رضي الله عنه- أنه سئل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال سعيد بن جبير: {الْقُرْبَى} آل محمد فقال ابن عباس: عجلت, إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: "إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة" 1، ثم لخص -رحمه الله تعالى- ما ورد في تفسير ابن كثير، وأورد كلام ابن تيمية في ذلك من كتابه: منهاج السنة, وفيه رد على تأويلات الشيعة في هذه الآية بما يبطلها، ولولا أني التزمت أن لا أنقل إلا نصوص المؤلف وأقواله لنقلتها لإبطال مزاعم الشيعة في ذلك فليرجع إليها في موضعها من يطلب الحق.
الشفاعة:
رد -رحمه الله تعالى- على من ينكر الشفاعة, فقال في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 2، قال: "تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة؛ لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع فعلم أنها لا تقبل للعصاة. والجواب: أنها خاصة بالكفار, ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال: {مَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} 4، فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد"5.
تلكم أمثلة من تفسير محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي -رحمه الله
__________
1 محاسن التأويل: ج14 ص5237-5238؛ وانظر صحيح البخاري, كتاب التفسير ج6 ص37.
2 سورة البقرة: من الآية 48.
3 سورة المدثر: من الآية 48.
4 سورة الشعراء: الآيتان 100-101.
5 محاسن التأويل: ج2 ص121.(1/179)
تعالى- نهج فيها نهج أهل السنة والجماعة, لا يعطل صفة ولا يشبه ولا يمثل، ولا يرد حديثا صحيحا ولا يطنب في بيان مبهم ولا يعنى بإيراد الإسرائيليات, وهو في كل هذا لا يكاد يخطو خطوة في تفسيره إلا في طريق اتضحت جادته ورأى فيها آثار علماء السلف الصالح, فبهم يقتدي ولأقوالهم يستدل.
ولا يكاد القارئ يدلج في تفسيره حتى يتضح له أن المؤلف -رحمه الله تعالى- يكتفي بالنقل عن علماء السلف، ويورد حججهم وأدلتهم، وردودهم على شبه الخصوم بما يؤكد أن المؤلف -رحمه الله تعالى- كان يجعل همه -كل همه- الإصلاح ليس إلا وإنما يورد هذه النصوص -كما أسلفنا- ليلجم بها الخصوم فإنهم إن استطاعوا جدلا رد أقواله، صعب عليهم إبطال أقوال علماء بهم يقتدون ولعلمهم يعترفون, فكانت حجته لهم غالبة.
ولالتزامي بأن لا أنقل إلا عبارته وأن لا أستدل إلا بنصوصه فإني لم أكد أجد في بعض القضايا له من لفظ إلا الربط بين نصوص علماء السلف؛ ولذا كانت بعض العقائد هنا غفلا من إيراد تفسيره لها, رحمه الله تعالى, ونفع بتفسيره وبسائر مؤلفاته.(1/180)
رأيي في هذا المنهج:
لا شك أن منهج أهل السنة والجماعة في التفسير هو أسلم المناهج كسلامة منهجهم في العقيدة, وهل العقيدة الصحيحة إلا الفهم الصحيح للقرآن الكريم, وللسنة النبوية.
وإن كانت من فروق بين مفسري أهل السنة والجماعة في القديم وفي العصر الحديث, فثم فروق بعضها يحسب حسنة للسابقين وبعضها فضيلة للمتأخرين.
أول هذه الفروق حسب ملاحظتي القاصرة أن المفسرين السابقين أو أكثرهم يعتني بتفصيل عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يمر في تفسيره من آيات قرآنية ويرد على شبه الخصوم وعلى الملل والنحل الباطلة والتفسيرات المنحرفة حتى إذا قضى عليها وطمس باطلها صب في أذنيك القول الصحيح والتفسير السليم, فلا يبقى في ذهنك إلا مذهب السلف الحق ولم تقم لغيره قائمة ولا تعكر صفوه شبهة.
أما المفسرون في العصر الحديث, فإن أكثرهم وفي أكثر المسائل الخلافية لا يكاد يعرض لبيان تفسير باطل يرد عليه، أو نحلة منحرفة يبطلها ويكشف زيفها، بل يتجه اتجاها مباشرا إلى ألفاظ الآية وما تدل عليه من غير تعرض للشبهات والتفسيرات الزائفة ومن غير تعرض أحيانا إلى جلاء الحقيقة في معركة احتدمت في هذه الآية أو تلك, فكأنه وقر في ذهنه أنه إنما يؤلف لطائفة لا تجادل في معنى ولا تطلب دليلا لمنحى. وهذا أمر أحسب أن تلافيه واجب وأن الحاجة ماسة إلى تفسير يعنى فيه صاحبه إلى بيان عقائد أهل السنة وشرحها وبيان ما يتعلق بها وما يثار حولها من شبهات وما يستدل به منها بعض النحل وبيان الحق الواضح والدواء الشافي بما يجلو كل شبهة, ويثبت كل حقيقة.(1/181)
وإن كان هذا الفارق يحسب لصالح المفسرين السابقين, فإن الفارق الثاني يعد من حسنات المعاصرين من أهل السنة والجماعة, ألا وهو نبذ الإسرائيليات, فلا تكاد تجد بينهم -والحمد لله- من يعتني بها أو يوردها إلا ما ندر.
وفي مقابل ذلك نجد بعض تفاسير علماء السلف السابقين لم يطهروا تفاسيرهم منها, فأوردها بعضهم -رحمهم الله تعالى- وأطال فيما أورد إطالة خرجت عن حد المقبول إلى حد المذموم.
وثمة فارق ثالث وهو عناية كثير من المفسرين في العصر الحديث بتطبيق التفسير على المجتمع وتوجيه الأمة إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه حسب توجيهات القرآن الكريم، والعبور من خلال آيات القرآن الكريم إلى علاج مشاكل المجتمع الإسلامي السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وهو أمر لا نظلم السابقين فننكر وجوده عندهم, ولكنه لم يكن كمنزلته عند المعاصرين ولم يعتنوا به عنايتهم.
وفارق رابع برز في تفاسير المعاصرين وهو الاهتمام بالتفسير العلمي التجريبي وهو وإن كنا سنفرده -إن شاء الله- بحديث إلا أن وروده هنا كفارق بين القديم والحديث فقد اعتنى به المعاصرون أو أكثرهم لا أريد به ما يقع من المتطرفين ولكن تلك الإشارات واللمحات الخاطفة بين ثنايا التفسير التي تشير في غالبها إشارة تدبر وتفكر لا إشارة تفسير وربط بين النص والنظرية, هذه الإشارات تجدها في تفاسير المعاصرين أكثر منها عند من سبقهم.
وفارق خامس وهو الميل إلى اختصار العبارة أدى إلى اختصار الأبحاث ثم تولد عندهم ميل إلى المختصرات فاختصروا تفاسير السابقين كابن كثير والنسفي والبيضاوى وغيرهم, بل مالوا إلى جمع الصفوة من التفاسير وإلى المختارات منها ولا أدري سبب ذلك: أهو ضعف في عطاء المفسر أو ضعف في همة المتلقي. وقد اكتفى بعض المفسرين من التفسير بتفسير سورة منه أو سور معدودة، لا أغمط بهذا حق بعضهم ممن أجاد وأفاد, ولكني قصدت بعضهم وبعضهم قليل, والله المستعان.(1/182)
الفصل الثاني: منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم
تعريف الشيعة:
شيعة الرجل بالكسر: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والمثنى والجمع, والمذكر والمؤنث1, ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} 2. وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ... وكل من عاون إنسانا وتحزب له فهو له شيعة3.
قال في القاموس: "وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته, حتى صار اسما لهم خاصا"1، والحق أن هذا غير صحيح؛ لأن أهل السنة والجماعة يتولون عليا -رضي الله عنه- وأهل بيته، ولا يطلق عليهم شيعة, إذن فلا بد من إطلاق آخر.
وإذا ما طلبنا تعريفا لهم من كتبهم وجدنا شيخهم "المفيد" يقرر أن لفظ الشيعة يطلق على "أتباع أمير المؤمنين علي, على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول -صلوات الله عليه وآله- بلا فصل ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة وجعله في الاعتقاد متبوعا لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء"4.
__________
1 القاموس المحيط: الفيروزآبادي مادة شاع ج3 ص47.
2 سورة الصافات: الآية 83.
3 تاج العروس: محمد مرتضى الزبيدي ج5 ص405.
4 أوائل المقالات: أبو عبد الله العكبري, الملقب بالمفيد ص3.(1/183)
وهو نفسه يعترف بأن هذا التعريف "لا يشمل إلا الإمامية والجارودية من فرقة الزيدية, أما باقي فرقة الزيدية فلا يشملهم التشيع، وكذا لم يعتبر في التعريف الاعتقاد بإمامة أئمتهم المعروفين بعد علي -رضي الله عنه- مع أنه هو ومشايخهم ينكرون سمة التشيع لمن لم يؤمن بالأئمة, وزد على هذا العقائد الأخرى كالتقية والرجعة وغيرهما, فقد ربط علماؤهم وصف التشيع بالإيمان بها وكل هذا غير داخل في تعريف المفيد.
وهناك تعاريف أخرى كثيرة وكلها تدور حول وصف الإيمان بإمامة علي -رضي الله عنه- ولا يذكر الخصائص الأخرى التي لا يشاركهم فيها أحد غيرهم؛ ولهذا فإن بعض علمائهم يتمسك بتعريف ابن حزم للشيعة حيث قال: "ومن وافق الشيعة في أن عليا -رضي الله عنه- أفضل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي, وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون, فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيا"1.
ومن هذا نرى أن ابن حزم جعل من خصائصهم الإيمان بإمامة علي -رضي الله عنه- وولده من بعده، فهو أدق من تعريف المفيد, وبين أيضا أن هذا هو الأصل في التشيع ولا أثر بعد ذلك فيما عداه من العقائد الأخرى, ويقصد بها التقية والعصمة والرجعة وغيرها.
ومع أن هذا التعريف فيما نرى هو الأقرب وهو الذي اختاره بعض كتاب الشيعة المعاصرين, فإنه ينبغي أن نفرق بين الشيعة في أطوارهم الأولى والشيعة المتأخرين, فالشيعي في الطور الأول يطلق على كل من فضّل عليا وقدمه على عثمان -رضي الله عنهما- ولهذا قال ليث بن أبي سليم, الذي أخرج له مسلم: "أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا"2، وقال أبو إسحاق السبيعي: "خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر
__________
1 الفصل في الملل والأهواء والنحل: ابن حزم، ج2 ص107.
2 المنتقى من منهاج الاعتدال: أبو عبد الله الذهبي ت360-361.(1/184)
وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدري ما يقولون"1. ولما سأل سائل شريك بن عبد الله -الذي أخرج له البخاري ومسلم وغيرهما- فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم ومن لم يقل هذا فليس شيعيا والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر فكيف نرد قوله وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابا2.
ولهذا لا يستغرب وجود طائفة من أعلام المحدثين وغيرهم يطلق عليهم وصف التشيع وهم من أعلام السنة, ذلكم أن للتشيع في زمن السلف مفهوما آخر غير مفهومه لدى المتأخرين3؛ ولهذا فرق الذهبي في ميزانه بين التشيع في عهد السلف والتشيع عند المتأخرين فعد الأول بدعة صغرى لا يرد معها الحديث ولو رد لذهبت جملة من الآثار النبوية، وعد الثاني بدعة كبرى كالرفض والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة4.
وكما مر بنا, فإن تعريف ابن حزم الذي نقلناه آنفا لا يدخل فيه الشيعة في عصر السلف فهو مختص بمن بعدهم؛ ولذا فإنا نراه هو الأقرب للصواب, والله أعلم.
__________
1 المرجع السابق ص360.
2 منهاج السنة: ابن تيمية ت محمد رشاد سالم ج1 ص7 و8.
3 فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة: رسالة ماجستير مسحوبة على الإستنسل للشيخ ناصر القفاري ج1 ص115.
4 ميزان الاعتدال لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي ج1 ص5 و6.(1/185)
بداية ظهور التشيع:
اختلف المؤرخون في بداية ظهور التشيع:
القول الأول:
وهو رأي الشيعة أنفسهم, أن بداية ظهور التشيع كان في عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- نفسه، فقال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: "إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية, يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبا إلى جنب وسواء بسواء, ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته ثم أثمرت بعد وفاته"1، ثم استدل لذلك بأدلة واهية ليس هذا مجال نقدها وإبطالها.
القول الثاني:
إن التشيع ظهر يوم السقيفة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث دعا بعض الصحابة في هذا اليوم إلى استخلاف علي، رضي الله عنه. والحق أنه لا دلالة في هذه الحادثة على بداية ظهور التشيع.
القول الثالث:
أن التشيع حدث يوم مقتل عثمان، رضي الله عنه2. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد. فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى أولياء عثمان, ومال قوم إلى علي, وقيل حينئذ: شيعة علي وشيعة عثمان"3.
القول الرابع:
أن موقعة صفين, والتحكيم بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- هو بداية ظهور التشيع, وظهور الخوارج أيضا4.
القول الخامس:
أن مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- يعتبر بداية لظهور التشيع5.
هذه مجمل الأقوال في بداية ظهور التشيع, أقربها فيما نرى القول الثالث وليس هذا موضع تحقيق ذلك.
__________
1 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء ص43.
2 انظر المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة ص51-54.
3 منهاج السنة: ابن تيمية ج2 ص64.
4 نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: أحمد محمود صبحي ص40؛ وتاريخ الإمامية: عبد الله فياض ص37.
5 نظرية الإمامة: أحمد صبحي ص47.(1/186)
فرق الشيعة
مدخل
...
فرق الشيعة:
ولم تتفق الشيعة في المذهب والعقيدة، بل افترقوا إلى فرق شتى. غالى بعضهم وتطرف في مذهبه حتى خرج عن ربقة الإسلام, وتوسط بعضهم حتى كاد أن يكون من أهل السنة والجماعة.
وليس من شأني هنا أن أتناول جميع فرقهم ومذاهبهم, ولكني أقتصر على بيان, بل بعض بيان للفرق المعاصرة في المذهب الشيعي حيث اندثرت أكثر الفرق.
وقد ذكر مصطفى غالب1: "أنه لم يبق من جميع فرق الشيعة حتى الآن إلا الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية، والزيدية، والإسماعيلية -الآغاخانية والبهرة- والنصيرية والدرزية المتفرعة عن الإسماعيلية"2.
وحدد مصطفى غالب مرتكز الخلاف بين فرق الشيعة بأنه: "في سوق الإمامة، وفي أشخاص الأئمة. فالكيسانية منهم أخرجوها عن ولد فاطمة بعد الاعتراف بإمامة علي والحسن والحسين "ع" وكذلك صنع الزيدية, فإنهم لم يعترفوا بإمامة الأئمة من بعد الإمام "الرضا" لعدم تحقق شرائط الإمامة فيهم على مذهبهم، وأما الإسماعيلية فقد وافقوا الإمامية في إمامة خمسة منهم وافترقوا عنهم في إمامة السادس وهو عند الإمامية السابع موسى بن جعفر الصادق إلى تمام اثني عشر إماما وعند الإسماعيلية إسماعيل بن جعفر "ع" وولده مبتدئة بمحمد بن إسماعيل وبعقبه إلى يوم الناس هذا"3.
وعلى هذا يكون التقسيم التقريبي لهذه الفرق على الشكل التالي:
__________
1 أحد دعاة الإسماعيلية في العصر الحديث والمروجين لأفكارهم.
2 الحركات الباطنية في الإسلام: مصطفى غالب ص56.
3 المرجع السابق: ص57.(1/187)
2- الدرزية.
3- النصيرية.
4- الزيدية.
وندرسها على هذا الترتيب.
الإمامية:
نسبة إلى الإمامة. وهم يعتقدون "أن هذا هو الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين وهو فرق جوهري أصلي"1.
ويعتقدون أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده2.
ويعتقدون: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على خليفته والإمام في البرية من بعده. فعين ابن عمه علي بن أبي طالب أميرا للمؤمنين وأمينا للوحي وإماما للخلق"1.
ويعتقدون أن الإمامة لعلي -رضي الله عنه- جاءت بطريق التلويح والتصريح والإشارة والنص3، وليس كما يعتقد الزيدية أنها بطريق التعريض بالوصف.
ويعتقدون أن الإمامة انتقلت من بعد علي بن أبي طالب إلى الحسن بن علي ثم إلى أخيه الحسين بن علي ثم إلى ابنه علي بن الحسين "زين العابدين"، ثم إلى ابنه محمد بن علي "الباقر" ثم إلى ابنه جعفر بن محمد "الصادق".
ثم افترقوا بعد ذلك إلى فرقتين:
1- الإمامية "الاثني عشرية".
2- الإمامية "السبعية" أو الإسماعيلية.
__________
1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص65.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص103.
3 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص66.(1/188)
الإمامية الإثنى عشرية
...
الإمامية الاثنا عشرية:
ويرون أن الإمامة انتقلت بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى "الكاظم" ثم إلى ابنه علي الرضا ثم إلى ابنه محمد "الجواد"، ثم إلى ابنه علي "الهادي" ثم إلى ابنه "الحسن العسكري", ثم إلى ابنه محمد "المهدي" المنتظر في عقيدتهم, وبهذا يكون الأئمة عندهم اثني عشر فنُسبوا إلى هذا1.
وأصول العقيدة عندهم خمسة2:
الأول: التوحيد.
الثاني: النبوة.
الثالث: الإمامة.
الرابع: العدل.
الخامس: المعاد.
وهذه الأصول الخمسة تتضمن عقائد أخرى انفردت بها الإمامية الاثنا عشرية ومنها:
1- البداء:
حيث يقسمون القضاء الإلهي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحد من خلقه, والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه. "قالوا": ولا ريب في أن البداء لا يقع في هذا القسم.
__________
1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص59.
2 المرجع السابق. انظر الصفحات 61-75.(1/189)
الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما. "قالوا": ولا ريب في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء.
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج, إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه. "قالوا": وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء1.
ومعنى ذلك عندهم أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا مع سبق علمه تعالى بذلك كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه2 ... قالوا: وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم. بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم2.
2- الإمامة والعصمة:
فقالوا: "ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن, من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان"3.
3- المهدية:
ويعتقدون أن المهدي: "هو شخص معين معروف, ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حيا, هو ابن الحسن العسكري واسمه "محمد""4.
4- الرجعة:
وهي مرتبطة بالعقيدة السابقة في المهدي, ذلك أنهم يعتقدون: "أن الله
__________
1 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الموسوي الخوثي ص387 و388.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص70.
3 المرجع السابق: ص45.
4 المرجع السابق: ص108.(1/190)
تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها, فيعز فريقا ويذل فريقا آخر, ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين, وذلك عند قيام مهدي آل محمد، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام"1.
وقالوا: "ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان, أو من بلغ الغاية من الفساد"1.
5- التقية:
ويعرفونها بأنها: "كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه ومكالمة المخالفين وترك مخالفتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا"2.
وما زالت التقية سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم3.
6- أنهم لا يقبلون من السنة إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم, يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان وعمرو بن العاص ونظائرهم, فليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة4.
7- أنهم لا يعملون بالقياس وينسبون إلى أئمتهم القول: "إن الشريعة إذا قيست محق الدين"4.
8- وفي الصلاة تعطل الإمامية الاثنا عشرية صلاة الجمعة؛ لأنها لا تجوز
__________
1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109.
2 الصلة بين التصوف والتشيع: كامل مصطفى الشيبي ص403.
3 عقائد الإمامية: محمد المظفر ص114.
4 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79.(1/191)
ما دام الإمام غائبا, ولا تقام حتى يظهر الإمام المستتر, وقد أمر الخميني في شعبان سنة 1400 بأداء صلاة الجمعة.
9- الخمس:
ويجب عندهم في سبعة أشياء:
1- غنائم دار الحرب.
2- الغوص.
3- الكنز.
4- المعدن.
5- أرباح المكاسب.
6- الحلال المختلط بالحرام.
7- الأرض المنتقلة من المسلم إلى الذمي.
ويدفع الخمس إلى الإمام إن كان ظاهرا وإلى نائبه وهو "المجتهد العادل" إن كان غائبا. وهو عندهم حق فرضه الله لآل محمد -صلى الله عليه وسلم- عوض الصدقة التي حرمها عليهم من زكاة الأموال والأبدان.
10- نكاح المتعة:
أو عقد الانقطاع, والمراد به عقد الزواج إلى أجل مسمى, وتجب العدة على الزوجة بعده: "وهي على الأقل خمسة وأربعون يوما"1.
هذه:
هي أهم سمات مذهب الإمامية الاثني عشرية وما تتميز به عن سائر المذاهب الأخرى, اكتفينا منها بأهمها ومن عرضها بالإشارة حتى لا يطغى على مسار البحث وهدفه.
__________
1 المرجع السابق: ص 112.(1/192)
منهجهم في تفسير القرآن الكريم:
ولهم منهج مستقل في التفسير ساروا عليه لا يشاركهم أحد في جميع جوانبه. وتتعدد نواحي الخلاف بين منهجهم ومنهج أهل السنة والجماعة.
طرق التفسير:
فأصح طرق التفسير عند أهل السنة والجماعة -كما مر- والشيعة أيضا تفسير القرآن بالقرآن ثم بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم اختلفوا بعد ذلك فأهل السنة يأخذون بعد هذا بأقوال الصحابة أما الإمامية الاثنا عشرية فهي: "ترى أن الصحابة والتابعين كبقية المسلمين لا حجية في أقوالهم إلا ما ثبت أنه حديث نبوي"1.
أما الطريق عندهم بعد أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهي أقوال أئمتهم, قالوا: "وقد ثبت بطرق متواترة في حديث الثقلين أن أقوال العترة الطاهرة من أهل بيته -عليهم السلام- هي تالية لأقوال الرسول, فهي حجة أيضا"2.
بل وتجاوزوا هذا, فرفضوا ما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وردوا رواياتهم كلها إلا ما صح من طرق أهل البيت, حيث يقول محمد الحسين آل كاشف الغطاء عن فرقته الإمامية ومذهبهم في قبول الروايات: "إنهم لا يقبلون من السنة "أعني: الأحاديث النبوية" إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت"3.
أما القياس فقد سبق ذكر قولهم: "إن الإمامية لا تعمل بالقياس, وقد تواتر عن أئمتهم أن الشريعة إذا قيست محق الدين"3.
أما الإجماع, فليس حجة بنفسه إلا إذا كان الإمام المعصوم من المجمعين، أو كان الإجماع يعتمد على دليل معتبر، أو كاشفا عن رأيه في المسألة4.
أما العقل ودليله, فلا يدخل فيه عندهم القياس ولا المصالح ولا الاستحسان4.
__________
1 القرآن في الإسلام: محمد حسين الطباطبائي ص59 و60.
2 المرجع السابق: ص60.
3 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79.
4 أعيان الشيعة، ج1 ص477 عن "التفسير والمفسرون" 2/ 26.(1/193)
إذن فطرق التفسير التي سلكوها هي تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة "ويعنون بها ما ورد عن طرق أهل البيت" وبالإجماع بشرطه السابق، وبدليل العقل بخصوصه السابق.
لذلك كان لهم آراء فقهية انفردوا بها بناء على هذه الأصول وجاء تفسيرهم لكثير من آيات الأحكام في القرآن الكريم متأثرا بهذه النظرة, كإباحة نكاح المتعة ومنع المسح على الخفين، وأن الواجب مسح الرجلين في الوضوء دون غسلهما ونحو ذلك ... وسيأتي إن شاء الله بيان بذلك.
للقرآن ظاهر وباطن:
وللقرآن عندهم ظهر وبطن ويقصدون بهذا: "أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم وأن الظهر والبطن أمران نسبيان فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس"1، ويستدل الطباطبائي لهذا بما ورد في "تفسير العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر -عليه السلام- عن شيء من تفسير القرآن فأجابني, ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك, كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر, إن للقرآن بطنا, وللبطن بطن وظهرا وللظهر ظهر, يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن, إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء, وهو كلام متصل ينصرف على وجوه"2.
وقال: "وقد روي عن علي، عليه السلام: أن القرآن حَمَّال ذو وجوه"3، أما الراسخون الذين يعلمون تأويله فالمراد بهم عندهم آل محمد4, ويروون عن الصادق: نحن الراسخون في العلم, ونحن نعلم تأويله5.
__________
1 أعيان الشيعة ج1 ص477 عن "التفسير والمفسرون" 2/ 26.
2 الميزان ج3 ص73.
3 تفسير الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج3 ص87.
4 المرجع السابق ج3 ص67.
5 المرجع السابق ج3 ص69.(1/194)
أسلوب الجري في القرآن عندهم:
وهو أن تطبق الآيات القرآنية على أئمتهم أو على أعدائهم, قال الطباطبائي في تفسيره: "واعلم أن الجري -وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب- اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام"1.
وقال أيضا: "الروايات في تطبيق الآية القرآنية عليهم "عليهم السلام" أو على أعدائهم أعني: روايات الجري, كثيرة في الأبواب المختلفة, وربما تبلغ المئين"2.
وسنعرض لهذا فيما بعد.
التفسير العقلي:
ذكرنا آنفا أن من طرق تفسير القرآن عندهم التفسير بالعقل وتفاسيرهم لمسائل علم الكلام متأثرة تأثرا بينا بنظرة المعتزلة, ويرجع هذا التأثر إلى أن عددا كبيرا من سلف الشيعة تتلمذ لبعض مشايخ المعتزلة, وهذا واضح بين في تفاسير الحسن العسكري، والشريف المرتضى, وأبي علي الطبرسي3 وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في تفاسير المحدثين.
تحريف القرآن:
لا يكاد يذكر القول بتحريف القرآن إلا ويذكر مذهب الشيعة, ولا تكاد تقلب كتابا عن عقائد الشيعة إلا وتجده قد أفرد القول بتحريف القرآن بمقال, وهم فيما يكتبون سلكوا أحد طريقين:
1- إما أن يثبتوا بأدلتهم تحريف القرآن الكريم.
2- وإما أن ينكروا القول بالتحريف, وينكروا نسبته إلى الشيعة.
ولنتحدث عمن سلك الطريق الأول.
__________
1 المرجع السابق ج1 ص41.
2 المرجع السابق ج1 ص42.
3 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص25 و26.(1/195)
القول بتحريف القرآن:
ذكر إمامهم الخوئي في البيان في تفسير القرآن أن التحريف يراد منه عدة معانٍ:
الأول: نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره, ومنه قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عن مَوَاضِعِهِ} [4: 46] ثم ذكر أن كل من فسر القرآن بغير حقيقته وحمله على غير معناه فقد حرفه.
الثاني: النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات مع حفظ القرآن وعدم ضياعه, وإن لم يكن متميزا في الخارج عن غيره.
الثالث: النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين مع التحفظ على نفس القرآن المنزل.
الرابع: التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن المنزل, والتسالم على قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- إياها.
ثم زعم أن هذه الأنواع الأربعة من التحريف واقعة في القرآن قطعا1.
النوع الخامس: التحريف بالزيادة بمعنى أن بعض المصاحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل "والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو مما علم بطلانه بالضرورة"2، والحق أن كل من قرأت له ممن تعرض لهذا النوع ذكر الإجماع على عدم القول بتحريف القرآن بالزيادة فيه, إلا أني اطلعت على نص عند الشيعة يقول بهذا النوع, وهو ما رواه ميسرة عن أبي جعفر -عليه السلام- قال: "لولا أن زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي حجى"3.
__________
1 البيان في تفسير القرآن: الخوئي ص197-199.
2 المرجع السابق ص200.
3 انظر تفسير العياشي 1/ 13؛ والصافي للمحسن الكاشي المقدمة السادسة ص10؛ والبرهان لهاشم البحراني 1/ 22؛ والبحار للحجلي 19/ 30.(1/196)
النوع السادس: التحريف بالنقيصة, بمعنى أن المصحف الذي بأيدينا، لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء, فقد ضاع بعضه من الناس.
ثم قال: "والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف, فأثبته قوم ونفاه آخرون"1.
والقول بتحريف القرآن الكريم عند الشيعة مما اتفقوا عليه من القرن الرابع إلى القرن السادس ولم ينكر أحد منهم القول بتحريف القرآن إلا أربعة: ابن بابوية القمي الملقب عندهم بالصدوق "ت 381" والمرتضى "ت 436" والطوسي "ت 450" والطبرسي "ت 548".
واعترف بهذا الاستثناء شيخ الشيعة النوري الطبرسي حيث قال: "إنه لم يعرف الخلاف صريحا إلا من هؤلاء الأربعة"2.
واعترف به أيضا نعمة الله الجزائري بقوله: "إن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن"3، ثم قال: "نعم قد خالف فيه المرتضى والصدوق والشيخ الطبرسي, وحكموا بأن ما بين دفتي هذا المصحف هو القرآن المنزل لا غير, ولم يقع فيه تحريف ولا تبديل"3.
وما لنا ولعلمائهم السابقين والقول بتحريف القرآن يتشدق به طائفة من علمائهم المعاصرين, فهذا شيخهم محمد بن حيدر الخراساني يعقد فصلا في مقدمة تفسيره قال فيه: "الفصل الثالث عشر في وقوع الزيادة والنقيصة والتقديم والتأخير والتحريف والتغيير في القرآن الذي بين أظهرنا"، ثم قال: "اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار "ع" بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد لا يقع شك في صدور بعضها منهم وتأويل الجميع
__________
1 المرجع السابق ص200.
2 فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: حسين الطبرسي ص15.
3 الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري ج2 ص357.(1/197)
بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن, لا في لفظ القرآن كلفة"1.
وقال في موضع آخر عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2: ولا ينافي حفظه تعالى للذكر بحسب حقيقته التحريف في صورة تدوينه, فإن التحريف إن وقع, وقع في الصورة المماثلة له كما قال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وما هو من عند الله3.
ولا يكتفي شيخهم هذا بالادعاء بتحريف القرآن, فيعمد إلى ذكر المواضع التي زعم وقوع التحريف فيها, فقد أورد في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 4 الآية, قال: "وعن أمير المؤمنين "ع" في جواب مسائل الزنديق الذي سأل عن أشياء أنه أسقط بين طرفي تلك الآية أكثر من ثلث القرآن"5.
هذا شيخ من شيوخهم المعاصرين قال بتحريف القرآن الكريم، بل إن بعض علمائهم أفردوه بمؤلفات مستقلة, فقد ألف شيخهم حسين بن محمد تقي الدين الطبرسي المتوفى سنة 1320 كتابه: "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب" وصفه صاحبه بأنه "كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان, وسميته: "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب""6.
وفي الهند ألف ميرزا سلطان أحمد الدهلوي كتابا سماه: "تصحيف كاتبين ونقص آيات كتاب مبين" وألف محمد مجتهد اللكنوي كتابه: "ضربة حيدرية".
__________
1 بيان السعادة في مقامات العبادة ج1 ص12.
2 سورة الحجر: الآية 9.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص402, وقد وقع المؤلف في خلط بين الآيتين 79 من البقرة و78 من آل عمران.
4 سورة النساء من الآية 3.
5 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص190.
6 فصل الخطاب: حسين الطبرسي الورقة أ.(1/198)
ولست هنا بصدد جمع أقوال أصحاب هذا الرأي وأدلتهم, فهذا شأن آخر وإنما أردت إثبات أن هذا القول هو مذهب راسخ عند الشيعة, حتى أفردوه في مؤلفات خاصة.
ولنذكر بعد هذا من سلك الطريق الثاني منهم, فأنكر القول بتحريف القرآن ونسبته إلى الشيعة.
القول بسلامة القرآن من التحريف:
وقد ذهب بعض الشيعة خاصة في العصر الحديث إلى إنكار القول بتحريف القرآن الكريم وأنكروا نسبة ذلك إلى الشيعة، بل زعموا نسبة ذلك إلى بعض علماء أهل السنة وعدوا القول بنسخ التلاوة قولا بالتحريف, متجاهلين -ولا أقول جاهلين؛ لأن مثل هذا لا يخفى- أن النسخ أمر إلهي والتحريف من شأن البشر فلا يعد ذلك تحريفا ولا يعد ذا نسخا.
ثم ذهب كثير منهم في عصرنا هذا يعددون الأدلة على عدم تحريف القرآن فيقول الخوئي: "والحق بعد هذا كله أن التحريف بالمعنى الذي وقع النزاع فيه غير واقع في القرآن أصلا بالأدلة التالية: الدليل الأول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [15: 9] ، الدليل الثاني قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [41: 42] "1.
وقال شيخهم محمد رضا المظفر: "نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف, وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه, وكلهم على غير هدى؛ فإن كلام الله الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه} "2.
__________
1 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ص207-210.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص85.(1/199)
وقال الخوئي: إن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم1.
وقال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: "يعتقد الشيعة الإمامية ... أن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة, وعلى هذا إجماعهم ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نص الكتاب العظيم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة وأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا, فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار"2.
وقال السيد محسن الأمين: "إن كتب المحققين ومن يعتنى بقولهم من علماء الشيعة مجمعة على عدم وقوع التحريف في القرآن, لا بزيادة ولا نقصان"3.
ولسنا بحاجة هنا إلى أن نسوق النصوص الكثيرة في إنكارهم تحريف القرآن أو نسبة ذلك إلى الشيعة, وإن القارئ لتصيبه الحيرة مما تقول هذه الطائفة منهم وإذا ما علم أن من عقائدهم التقية لم يجد بدا من حمل إنكارهم هذا على تلك العقيدة, ذلك أن تواتر الروايات عندهم في تحريف القرآن مما لا يمكن إنكاره.
ولنعد هنا قولين من أقوال علمائهم لا نزيد عليهما, قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "إن القول بصيانة القرآن وحفظه يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن ... مع أن أصحابنا -رضوان الله عليهم- قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها"4.
__________
1 البيان: ص206.
2 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين آل كاشف الغطاء ص63 و64.
3 الشيعة بين الحقائق والأوهام: السيد محسن الأمين ص160.
4 الأنوار النعمانية: نعمة الله الجزائري 2/ 357 و358.(1/200)
وقال الطبرسي: "إن ملاحظة السند في تلك الأخبار الكثيرة توجب سد باب التواتر المعنوي فيها, بل هو أشبه بالوسواس الذي ينبغي الاستعاذة منه"1.
فإذا كانت هذه الروايات وصلت عندهم إلى تلك الدرجة, فكيف يجرؤ أولئك على إنكار القول بتحريف القرآن وإنكار نسبة ذلك إلى عقيدة الشيعة.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن أولئك الذين أنكروا نسبة هذا إلى الشيعة وأنكروا تواتره فضلا عن صحته أنهم أقروا بأنفسهم في مواضع أخرى وهم يتخبطون بين الإنكار تقية والاعتراف عقيدة, أقروا بالقطع بصحة بعض الروايات في تحريف القرآن, فقال الخوئي مثلا عن تلك الروايات: "إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين -عليهم السلام- ولا أقل من الاطمئنان بذلك وفيها ما روي بطرق معتبر, فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها"2.
ولا ندري لِمَ يزعم محمد جواد مغنية3 أن القول بسلامة القرآن من الزيادة والنقصان "اليوم أصبح هذا القول ضرورة من ضرورات الدين وعقيدة لجميع المسلمين, إذ لا قائل بالنقيصة لا من السنة ولا من الشيعة, فإثارة هذا الموضوع والتعرض له في هذا العصر لغو وعبث أو دس وطعن على الإسلام والمسلمين"؟ 4.
ولا ندري لم يزعم هذا وهو ممن لا يخفى عليه الحق في تلك القضية, لا تخفى عليه أبدا تلك المؤلفات لعلماء الشيعة في عصرنا هذا التي أفردوها لهذه الفرية وهذا الزعم؟
__________
1 فصل الخطاب: ورقة 124.
2 البيان في تفسير القرآن: الحوئي ص226.
3 هو: محمد جواد مغنية العاملي: من علماء الشيعة الإمامية, ولد سنة 1322/ 1904م في طيردبا "قضاء صور" بلبنان, وتعلم بالنجف وعاد فسكن بيروت ومات فيها, ودفن بالنجف 1400/ 1979م. وله عدد كبير من المؤلفات منها: التفسير الكاشف في سبعة مجلدات, والتفسير المبين في مجلد كبير على هامش القرآن الكريم.
4 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص58.(1/201)
وليس لنا إلا أن نسأل أولئك الذين أنكروا القول بتحريف القرآن ونسبوا القول بذلك -بهتانا- إلى جماعة من علماء السنة والشيعة وأنكروا -زورا- وجود أحد في هذا العصر يقول بهذا القول. ليس لنا إلا أن نسألهم: ما تقولون فيمن يعتقد هذا الاعتقاد؟ فيمن يعتقد تحريف القرآن الكريم, أمؤمن هو أم كافر؟ إن قلتم: مؤمن قلنا: إنه إيمان فريد من نوعه لكنه حتما ليس بالإيمان الذي جاء به الأنبياء والمرسلون وإن قلتم: هو كافر قلنا: لقد حكمتم على كثير من علمائكم, وبقى تخبطكم هذا من أي الصنفين هو الإيمان أو الكفر أو هو من قبيل التقية التي هي دينكم ودين آبائكم كما تقولون؟!
نماذج من تفسيرهم:
ذكرت فيما سبق موقف الشيعة من القرآن الكريم وتفسيره. وإذا أردنا أن نذكر شيئا من تفاسير الإمامية الاثني عشرية للقرآن الكريم فإنا نرى وجوب الاقتصار على تفسير الآيات التي يدعمون بها ما انفردوا به من آراء، ويستندون إليها في إثباتها، ونضيف إلى هذا ما اشتهر عنهم في قضايا أخرى.
أولا: الإمامة
للإمامة عند الإمامية مكانة كبيرة؛ إذ هي المحور الذي تدور حوله عقائدهم وترتكز عليه مبادئهم, حتى نسبوا إليها وسموا بالإمامية.
ففي قوله تعالى خطابا لإبراهيم -عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1 يفسر السيد محمد الطباطبائي2 ذلك بقوله: " {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} أي: مقتدًى يقتدي بك الناس ويتبعونك في أقوالك وأفعالك3, ويرفض القول بأن المراد بالإمامة النبوة ويصفه بأنه في غاية السقوط"3.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 124.
2 سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.
3 المرجع السابق: ج1 ص270.(1/202)
ثم يزيد تفسيره للإمامة إيضاحا فيقول: "والذي نجده في كلامه تعالى أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير, قال تعالى في قصص إبراهيم -عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ثم قيدها بالأمر فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمرالله"1.
وهذا هو الفارق بين الإمامة والنبوة, فالنبوة والرسالة ليستا إلا مجرد إراءة الطريق, إذ يقول: "وبالجملة فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول, وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة"2.
ومن صفات الإمام عند الإمامية أنه "يجب أن يكون إنسان ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت, متحققا بكلمات من الله سبحانه"3، وهو أيضا أي الإمام "يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد خيرها وشرها, وهو المهيمن على السبيلين جميعا سبيل السعادة وسبيل الشفاوة"3.
أما أفعال الإمام فهي: "خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره, بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي وتسديد رباني"4.
أما أقواله كما يقول محمد جواد مغنية في تفسيره "فإن قول الإمام نبيا كان أو وصيا هو قول الله, وهداه هدى الله, وحكمه حكم الله الذي لا يحتمل العكس"5.
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي: ج1 ص272.
2 المرجع السابق: ج1 ص272.
3 المرجع السابق: ج1 ص273.
4 الميزان: الطباطبائي ج1 ص274.
5 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج1 ص197.(1/203)
وبديهي بعد هذا أن يكون الإمام عندهم معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن, من سن الطفولة إلى الموت عمدا وسهوا, كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان1. أما مستندهم في هذا, فيقول عنه محمد جواد مغنية في تفسيره: "واستدل الشيعة الإمامية بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} على وجوب العصمة للنبي والوصي, ووجه الدلالة أن الله قد بين صراحة أنه لا يعهد بالإمامة إلى ظالم، والظالم من ارتكب معصية في حياته مهما كان نوعها حتى ولو تاب بعدها حيث يصدق عليه هذا الاسم ولو آنا ما، ومن صدق عليه كذلك فلن يكون إماما"2، وقال: "ويكفي دليلا على عصمة أهل البيت "ع" شهادة الله لهم بالعصمة في الآية 33 من الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} "3.
وهو أيضا ما فسره به الطباطبائي في الميزان, حيث قال في تفسير الآية السابقة: "فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة"4.
وقد حاول محمد جواد مغنية في تفسيره أن يعمم القول بالعصمة وأنكر اختصاص الشيعة بالقول بها فقال: "وفكرة العصمة لا تختص بالشيعة وحدهم, فإن السنة قالوا بها ولكنهم جعلوها للأمة مستندين إلى حديث لم يثبت عند الشيعة وهو: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"".
والمسيحيون قالوا بعصمة الباب, والشيوعيون بعصمة ماركس ولينين, وقال القوميون السوريون بعصمة أنطون سعادة, والإخوان المسلمون بعصمة حسن البنا5, وكل من استدل بقول إنسان واتخذ منه حجة ودليلا فقد قال بعصمته من حيث يريد أو لا يريد, وفي الصين مئات الملايين اليوم تؤمن بعصمة ماوتسي
__________
1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص95.
2 الكاشف ج1 ص198؛ والتفسير المبين: محمد جواد مغنية ص25.
3 الكاشف ج1 ص198.
4 الميزان ج16 ص312.
5 هذا محض افتراء وبهتان على الإخوان المسلمين.(1/204)
تونغ -نحن الآن في سنة 1967- ويشيدون بتعاليمه وإذا اختلف الشيوعيون فيما بينهم وكذلك غيرهم ممن ذكرنا, فإنهم يختلفون في تفسير أقوال الرؤساء والمراد منها لا في وجوب العمل بها، والولاء لها، تماما كما يختلف المسلمون في تفسير نصوص القرآن والمسيحيون في تفسير الإنجيل ... ومن خص العصمة بالشيعة فهو واحد من اثنين: إما جاهل مغفل، وإما مفترٍ متآمر1.
وهذا كلام لا يخلو من مغالطة, ذلكم أن الشيعة لا تنفرد بالقول بالعصمة على إطلاقها, فأهل السنة أيضا قالوا بالعصمة للأنبياء لكن لم يقل أحد منهم بالعصمة للأئمة من بعدهم وهو ما اختص به الشيعة، أما قول المسيحيين والشيوعيين والقوميين فمما لا يحتج به ولا ينظر إليه عند مناقشة آراء الفرق الإسلامية.
ثانيا: البداء
مذهب أهل السنة في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 2 أنه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} من الأقدار {وَيُثْبِتُ} ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه, فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير؛ لأن ذلك محال على الله، أن يقع في علمه نقص أو خلل؛ ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ، الذي ترجع إليه سائر الأشياء فهو أصلها وهي فروع وشعب.
فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة ويجعل الله لثبوتها أسبابا، ولمحوها أسبابا, لا تتعدى تلك الأسباب، ما رسم في اللوح المحفوظ.
كما جعل الله البر، والصلة، والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق, وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر, وكما جعل أسباب التجارة من
__________
1 الكاشف ج1 ص198 و199.
2 سورة الرعد: 39.(1/205)
المهالك والمعاطب سببا للسلامة وجعل التعرض لذلك سببا للعطب, فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ1.
هذا ما ذهب إليه أهل السنة في ذلك ولم يقل أحد منهم بالبداء, أما الإمامية الاثنا عشرية فلهم رأي آخر في هذه الآية ونحوها, ففي تفسيرها يقول محمد حسين الطباطبائي: "أقول: والروايات في البداء عنهم عليهم السلام متكاثرة مستفيضة, فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه واحد"2.
ثم يوضح ما تدل عليه الآية بزعمه فيقول: "والرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا، بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا، تعالى عن ذلك، وإنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعدما كان الظاهر منه خلافه أولا، فهو محو الأول وإثبات الثاني والله سبحانه عالم بها جميعا"2.
ويستدل الخوئي بهذه الآية أيضا, على إثبات النوع الثالث من أنواع البداء وعلى وقوعه فيقول: "الثالث: قضاء الله الذي أخبر به نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه, وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [13: 39] , {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [29: 4] "3، وقد دلت على ذلك روايات كثيرة منها هذه:
1- ما في تفسير على بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: "إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة, فإذا أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثم أثبت الذي أراده، قلت: وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟ قال: نعم، قلت: فأي
__________
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن السعدي ج4 ص116 و117.
2 الميزان ج1 ص381.
3 البيان: للخوئي ج1 ص388.(1/206)
شيء يكون بعده؟ قال: سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى"1.
واستدل أيضا بما في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين -عليه السلام- أنه قال: "لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة, وهي هذه الآية: {يَمْحُوا اللَّهُ ... } "1.
وقال أيضا: "إن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا"2.
أما محمد رضا المظفر فعرف البداء في الإنسان بـ"أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقا بأن يتبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه إذ يحدث عنده ما يغير رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله وذلك عن جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه.
والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى؛ لأنه من الجهل والنقص وذلك محال عليه تعالى, ولا تقول به الإمامية"3.
ثم اعترف بعد ذلك قائلا: "غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار -عليهم السلام- روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم، كما ورد عن الصادق -عليه السلام: "ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل ابني" ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية إلى الطائفة الإمامية القول بالبداء طعنا في المذهب وطريق آل البيت, وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة"3.
وليس لنا إلا أن نقول: إذا كان الأمر كما تزعم فلماذا هذا التطرف والتشدد في الأخذ بهذا المبدأ من جانب الشيعة؟ ولماذا جعلوه أصلا من أصول مذهبهم
__________
1 المرجع السابق ج1 ص 388 و389.
2 المرجع السابق ج1 ص392 و393.
3 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص69.(1/207)
حتى قالوا: "ما عبد الله بشيء مثل البداء"1، وقالوا: "ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء"2، وقالوا: "ما عظم الله عز وجل بمثل البداء"3، وقالوا: "لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه"3؟
ما المقصود من إنزال هذا المعتقد هذه المنزلة؟ لو كان الأمر فيه اعتقاد كاعتقاد أهل السنة ما احتاج ذلك إلى كل هذا التوثيق والتأكيد, وما احتاج إلى أن يجعل أصلا من أصول العقيدة, وما احتاج إلى أن يكون أكبر ما عبد أو عظم الله به، ولكن الأمر أكبر من ذلك.
قال سليمان بن جرير: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبدا وهما: القول بالبداء وإجازة التقية إلى أن قال: "فأما البداء فإن أئمتهم أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم ... فيما كان ويكون والإخبار بما يكون في غد وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غد كذا كذا فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمه الأنبياء وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا: إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك بكونه"4.
ويؤكد هذا ما نسبوه إلى أبي عبد الله وأبي جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي والحسن بن علي وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ ... } "5.
بل إن صاحب الكافي عقد بابا في أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون, وأنهم لا يخفى عليهم الشيء6، وعقد المجلسي بابا في "أنهم أعلم من الأنبياء, عليهم السلام"7.
إذن فلا بد من اللجوء إلى عقيدة البداء بمعناها الباطل, إذ هو المخرج إذا وقع خلاف ما نسب إلى أئمتهم، وإذا ما أنكر "بعضهم" أن الإمامية يقولون بهذا فإنكارهم تقية إذ كتبهم على ما ينكرون شاهدة.
__________
1 الكافي, كتاب التوحيد, باب البداء: محمد بن يعقوب الكليني ج1 ص146.
2 المصدر السابق 1/ 148.
3 البيان: الخوئي ج1 ص392.
4 المقالات والفرق: سعد القمي ص78؛ وفرق الشيعة: النوبختي ص55 و56.
5 البيان في تفسير القرآن: الخوئي ص390.
6 الكافي: الكليني ج1 ص260-263.
7 البحار: المجلسي ج26 ص194-200.(1/208)
ثالثا: المهدية
مر عند ذكر أئمة الشيعة الاثني عشر أنهم على الترتيب: علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين "زين العابدين" ثم أبو جعفر محمد بن علي "الباقر" ثم أبو عبد الله جعفر بن محمد "الصادق" ثم موسى بن جعفر "الكاظم" ثم علي بن موسى "الرضا" ثم محمد بن علي "الجواد" ثم علي بن محمد "الهادي" ثم الحسن بن علي "العسكري".
أما الإمام الثاني عشر فهو محمد بن الحسن "المهدي" وتعتقد الإمامية أنه ولد للنصف من شعبان سنة 255 في سامراء أيام الخليفة المعتمد, وتوفي والده وله من العمر خمس سنين1, ثم اختفى المهدي بعد ذلك واختفاؤه عندهم مر بمرحلتين: الأولى: الغيبة الصغرى، والثانية: الغيبة الكبرى.
الغيبة الصغرى: يقول محمد جواد مغنية: "ومعنى الصغرى أن الإمام كان يحتجب عن الناس إلا عن الخاصة وأن اتصاله بشيعته كان عن طريق السفراء, فكان الشيعة يعطون الأسئلة إلى السفير وهو بدوره يوصلها إلى الإمام وبعد الجواب عنها والتوقيع عليها يرجعها إلى السائلين على يد سفيره ومن هنا سميت الغيبة الصغرى، أي: إنها ليست بغيبة كاملة بحيث انقطع فيها عن
__________
3 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص252.(1/209)
جميع الناس وكانت مدتها 74 سنة"1.
وهم يعتقدون أن السفراء بين المهدي والناس في غيبته الصغرى أربعة "وكان السفير الأول بين الإمام الغائب وشيعته رجل يدعى عثمان بن عمر العمري الأسدي ... ولما توفي عثمان تولى السفارة بعده ولده محمد بأمر المهدي ثم تولاها بعده الحسين بن روح النوبختي ثم علي بن محمد السمري وبعد هؤلاء السفراء الأربعة انتهت الغيبة الصغرى"2.
الغيبة الكبرى: "وتبتدئ بمنتصف شعبان "328هـ" وفيها انقطعت الاتصالات والسفارة بين الإمام وشيعته"3.
وإذا ما سألت عن سبب اختفائه أجابك الطوسي: "لا علة تمنع من ظهور المهدي إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار"4.
وهم يروون أن أبا عبد الله جعفر الصادق قال: "للغلام غيبة قبل قيامة قيل ولم قال يخاف على نفسه الذبح"5.
ولا شك أن هذا تعليل واهٍ, فقد مر التشيع بفترات كان له الدولة وكانت له القوة ولا تزال إلى أيامنا هذه له دولة, وكلهم ينتظر خروجه فلم لم يظهر حتى الآن إن كان ما زعموه سببا.
ورتبت الإمامية الاثنا عشرية على غيبة الإمام المهدي أحكاما منها تكفير من أنكر مهديهم, وزعموا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن منتظرهم: "من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني"6، وقال ابن بابوية القمي: "من أنكر
__________
1 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ج252.
2 المرجع السابق ص253.
3 المرجع السابق ص253.
4 الغيبة: الطوسي ص199.
5 الكافي للكليني ج1 ص340.
6 إكمال الدين: ابن بابوية القمي ص390.(1/210)
القائم -عليه السلام- في غيبته مثل إبليس في امتناعه من السجود لآدم"1.
ومن ذلك أنهم جعلوا انتظاره أصلا من أصول الدين, رووا عن أبي جعفر: "والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي تدين الله به: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ... وانتظار قائمنا"2.
ورتبوا على هذا عدم وجوب صلاة الجمعة؛ لأنها لا تجب إلا مع الإمام ويقولون: "الجمعة والحكومة لإمام المسلمين"3، ويقول الخميني: "تجب صلاة الجمعة في هذه الأعصار مخيرا بينها وبين صلاة الظهر والجمعة أفضل والظهر أحوط وأحوط من ذلك الجمع بينهما"4. وما رأيت تخبطا مثل هذا التخبط كيف تجب الجمعة ثم يخير بينها وبين الظهر؟! ثم كيف تكون الجمعة أفضل والظهر أحوط؟! وهل الاحتياط في ترك الأفضل؟! ثم كيف يجمع بينها وبين الظهر؟! فهي إما صحيحة فلا يصلي معها ظهرا أو باطلة فلا يصليها أصلا, ولكنه أراد أن يقول بإسقاطها بدليل إباحته البيع بعد الأذان مخالفا نص القرآن الكريم فيقول: "لا يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان في أعصارنا مما لا تجب الجمعة فيه تعيينا"5.
أما تعسفهم في تأويل آيات القرآن الكريم لتوافق رأيهم في مهديهم المنتظر فكثير ذلك، بل إن أحدهم وهو صادق الحسيني الشيرازي ألف كتابا في ذلك أسماه: "المهدي في القرآن" ذكر فيه الآيات الكثيرة زعم أنها في المهدي. قال في مقدمته: "وبعد: فهذه عشرات من الآيات القرآنية البينات التي نزلت تفسيرا أو تأويلا أو تنزيلا أو تطبيقا أو تشبيها في ثاني عشر أئمة أهل البيت ولي أمر الله الإمام المهدي المنتظر عليه السلام ... وعجل الله فرجه الشريف"6. ولقوة
__________
1 المرجع السابق: ص13.
2 الكافي "عن منتخب الأثر: لطف الله الصافي ص499".
3 منهاج الكرامة: ابن المطهر الحلي ج2 ص69.
4 تحرير الوسيلة: الخميني 1/ 231.
5 تحرير الوسيلة: الخميني 1/ 240.
6 المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي ص5.(1/211)
هذا المعتقد في نفسه قال: وكان شروعي لجمع هذه الآيات في ليلة ميلاد الإمام المهدي المنتظر سلام الله عليه من عام 1396هـ، حيث يمضي على ولادة الإمام "1141هـ" ولنذكر هنا أمثلة مما ذهب يتعسف في تأويلها.
في تفسير قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ, الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 1.
قال: "أقول: يعني أن المتقين هم المؤمنون بالإمام المهدي -عليه السلام- ويعني الغيب هو نفس الإمام المهدي"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} 3، يقول: "هم الشاكون في الإمام المهدي, عجل الله فرجه الشريف"4.
وإن شئت شيئا من المضحكات المبكيات فاستمع إلى تفسيره لقوله تعالى حكاية لقول الوط -عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 5 قال في ذلك: "أقول إذن: "القوة" و"الركن الشديد" في هذه الآية الكريمة تأويلها الإمام المهدي, عليه السلام وأصحابه6.
حتى قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} 7، لم يسلم من تعسف هذا في التفسير, فقال في ذلك: "أقول: الخنس بمعنى الاختفاء وتفسير الآية وارد في النجوم التي يختفي بعضها في وقت اختفائها, وتأويلها وارد في الإمام المهدي -عليه السلام- لأنه يختفي حيث يأمره الله بالاختفاء, ويظهر -كالشهاب الثاقب- حيث يأمره الله بالظهور"8.
أما في قوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا
__________
1 سورة البقرة: من الآيتين 2 و3.
2 المهدي في القرآن: ص10.
3 سورة هود: من الآية 21.
4 المهدي في القرآن: ص73.
5 سورة هود: من الآية 80.
6 المهدي في القرآن: ص75.
7 سورة التكوير: الآية 15.
8 المهدي في القرآن: ص253.(1/212)
يَحْذَرُونَ} 1. فقد أورد رواية تقول: "إن فرعون وهامان هنا شخصان من جبابرة قريش, يحييهما الله تعالى عند قيام القائم من آل محمد في آخر الزمان, فينتقم منهما بما أسلفا". وقد علق على هذا قائلا: "أقول إذن: تكون هذه الآية الكريمة محققة في عصر الإمام المهدي -عليه السلام- ومن علامات ذلك العصر وسمات ذاك الزمان"2.
وزعم -ولبئس ما زعم- أن المهدي سيتحقق على يديه ما لم يتحقق على أيدي الأنبياء من قبله، بل عجزوا عنه حيث قال في تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 3. قال المؤلف: "روى الحافظ القندوزي "الحنفي" ... عن جعفر الصادق -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يقول: إذا أقام "القائم المهدي" لا يبقى أرض إلا نودي فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "أقول" يعني أن هذه الآية الكريمة إشارة إلى عهد "المهدي" المنتظر -عليه السلام- إذ في زمانه الكلمة كلها لله على وجه الأرض كلها؛ لأن كل من في الأرض يسلم ويخضع لله تعالى ولم يتم هذا حتى اليوم لا في عهد الأنبياء السابقين -عليهم السلام- ولا في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهود بعده أن يكون كل من على وجه الأرض مسلما لله خاضعا لدين الله {طَوْعًا وَكَرْهًا} 4.
ولم ينفرد بهذا الزعم الباطل, فقد ذهب إليه الخميني في كلمة وجهها في 15 شعبان "1400هـ" من إذاعته في طهران5, وقد استنكرت بعض الصحف الإسلامية ذلك وأصدرت رابطة العالم الإسلامي بيانا بهذا الصدد6.
__________
1 سورة القصص: من الآية 6.
2 المهدي في القرآن: ص 144.
3 سورة آل عمران: الآية 83.
4 المهدي في القرآن: ص21.
5 جريدة الرأي العام الكويتية 17 شعبان 1400هـ.
6 جريدة المدينة المنورة 4 رمضان 1400هـ.(1/213)
وذهب إلى هذا الباطل أيضا محمد الصادقي في تفسيره حيث قال في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1 قال: "فلا يبقى دين إلا دين الإسلام، وكما وعدناه في دولة القائم المهدي محمد بن الحسن العسكري -عليه السلام- الذي به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا".
إن جذور ومؤهلات هذه الغاية متواجدة في شريعة الإسلام مهما لم تتحقق زمن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وخلفائه حتى الآن ظهورا على الأديان, ولكنها سوف تتحقق في الدولة المحمدية الأخيرة التي يبتدئ بها مؤسسا لها حفيده المهدي المنتظر, عليه السلام2، ويقول: "إن الديانات الأخرى، من حق وباطل ليست لها مؤهلات الغلبة الشاملة وتأسيس دولة موحدة عالية لا في ذواتها، ولا في زعاماتها، ولكنما الإسلام يملك هذه الأهلية فيها معا فدستوره العالمي هو قرآنه الكامل، الحافل لكافة متطلبات الحياة وقيادته العالمية هي الظاهرة في رسوله وأوصيائه والباهرة أخيرا "!! " في القائم المهدي, عليه السلام"3.
ومن عجائب تفسيرهم, تفسير محمد الصادقي لقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} 4، حيث يقول: فما هو الفجر هنا؟ إنه هو كل فجر من كل ليلة، وفجر شمس الرسالة المحمدية وفجر قيام المهدي -عليه السلام- من ولده، وفجر العقول عن ظلمات الأهواء, وفجر العيون والأنهار5. ثم نقل رواية عن الصادق "ع" قال: {وَالْفَجْرِ} هو القائم, والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن {وَالشَّفْعِ} أمير المؤمنين وفاطمة، {وَالْوَتْرِ} هو الله وحده لا شريك له
__________
1 سورة الصف: الآية 9.
2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص316.
3 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص316.
4 سورة الفجر: الآيتان 1 و2.
5 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص305 و306.(1/214)
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} هي دولة حبتر1, فهي تسري إلى دولة القائم2.
ويعلق الصادقي على هذا التفسير قائلا: "أقول: وهذا تأويل لطيف "!! " لا ينافي تفسيره بغيره, فالليالي العشر هم الأئمة العشرة اعتبارا بما ظلموا وأظلمت عليهم حياتهم ولكن عليا "ع" مهما ظلم, فقد حكم ردحا من الزمن ثم القائم المهدي هو فجر الإسلام حيث يحيا ويتسع في زمنه"3.
رابعا: الرجعة
وترتبط بالعقيدة السابقة.
ويريدون بالرجعة "أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها, فيعز فريقا ويذل فريقا آخر, ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين"4.
أما زمن ذلك فقالوا: "وذلك عند قيام مهدي آل محمد, عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام"4.
__________
1 قال في القاموس ج1 ص3: الحبتر كجعفر: الثعلب، والقصير. ويريد به الشيعة أبا بكر أو عمر -رضي الله عنهما- على خلاف بينهم. وفي تفسير العياشي أحد أئمتهم لقوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44] قال: "عن أبي بصير بن جعفر بن محمد -عليه السلام- قال: تؤتى بجهنم لها سبعة أبواب بابها الأول للظالم وهو زريق "يريد أبا بكر, رضي الله عنه" وبابها الثاني لحبتر "يريد عمر رضي الله عنه" والباب الثالث للثالث "يريد عثمان, رضي الله عنه" والرابع لمعاوية "رضي الله عنه" والباب الخامس لعبد الملك والباب السادس لعسكر بن هوسر "كناية عن بعض خلفاء بني أمية أو بني العباس, كذا قال المجلسي" والباب السابق لأبي سلامة "كناية عن أبي جعفر الدوانيقي" فهم أبواب لمن اتبعهم" تفسير العياشي ج2 ص243. قال المجلسي في بحار الأنوار ج4 ص378: "يحتمل أن يكون عسكر كناية عن عائشة وسائر أهل الجمل إذ كان اسم جمل عائشة عسكرا, وروي أنه كان شيطانا" بقي أن أقول: إن المجلسي والعياشي من أئمة الشيعة!!.
2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص305 و306.
3 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص306.
4 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109 و110.(1/215)
أما من يرجع فقالوا: "ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت, ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب"1.
أما موقفهم من تلك العقيدة فقالوا: "والإمامية بأجمعها عليه, إلا قليلين"1, ونذكر من تأويلهم للآيات في ذلك.
تفسير سلطان بن حيدر لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2, قال: "وهذه الآية تدل على جواز الرجعة كما وردت الأخبار بها وصارت كالضروري في هذه الأمة, وقد احتج أمير المؤمنين -عليه السلام- بها على ابن الكوافي إنكاره الرجعة"3.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} قال محمد حسين الطباطبائي: وظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة؛ لأنه حشر للبعض من كل أمة لا لجميعهم، وقد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] 4، ثم قال: "فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة وإن لم تكن نصا لا يقبل التأويل4, ثم ذكر رواية عن حماد عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: ما يقول الناس في هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} ؟ قلت: يقولون: إنه في القيامة قال ليس كما يقولون، إنها في الرجعة أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين؟ إنما آية القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 5. ثم علق قائلا: "أقول: وأخبار الرجعة من فرق الشيعة كثيرة جدا"5.
__________
1 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص109 و110.
2 سورة البقرة: الآية 55.
3 بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد بن حيدر الجنابذي ج1 ص54.
4 الميزان في تفسير القرآن: ج15 ص397 و398.
5 المرجع السابق ج15 ص406.(1/216)
وفي تفسير قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 1 قال محمد الصادقي في تفسيره: "علمان متتابعان يفوق بعضهما البعض بعد الجهل المتمادي -العامد- يوم الدنيا: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} : عند سكرات الموت وهو بداية العلم، وفي الكرة2: يوم قيامة القائم "ع" بعد "الموت" {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} في المحشر"3، وقال أيضا: "أقول: الكرة هنا هي الرجعة في دولة الإمام المهدي "ع" وليست للكل وقد يقال بما أن المخاطبين هنا هم الكفرة الذين محضوا الكفر محضا, فهم كلهم حسب الروايات يرجعون ثم أقول: لا مانع من كون المرة الأولى للعلم شاملة للكرة ولسكرات الموت وما بعد الموت، وبذلك يجمع بين الروايات. إلا أن العلم بعد الكرة -إذن- تحصيل للحاصل قبل الكرة بعد الموت, إذن فما العلم هنا إلا عند الموت وبعده"4.
خامسا: التقية
ويريدون بها كما يقول أحد علمائهم المعاصرين: "أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك"5. وأدلتهم كما يقول: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [الآية 28 من سورة آل عمران] فالآية صريحة في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلا في حال الخوف واتقاء الضرر والأذى, واستدلوا بالآية "106" من سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، واستدلوا أيضا بالآية "28" من سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فكتم الإيمان وإظهار خلافه ليس نفاقا ورياء كما زعم من نعت التقية بالنفاق والرياء
__________
1 سورة التكاثر: الآيتان 3 و4.
2 الكرة والرجعة بمعنى واحد.
3 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص434.
4 الفرقان: محمد الصادقي ج30 ص434.
5 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص48.(1/217)
وبالآية "195" من سورة البقرة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} 1.
أما منزلة التقية عندهم فبينها أحد معاصريهم فقال: "روي عن صادق آل البيت -عليه السلام- في الأثر الصحيح: "التقية ديني ودين آبائي" و"من لا تقية له لا دين له"، وكذلك هي لقد كانت شعارا لآل البيت -عليهم السلام- دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم, وحقنا لدمائهم واستصلاحا لحال المسلمين وجمعا لكلمتهم، ولمًّا لشعثهم"2.
وفي التفسير لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، قال الطباطبائي: "وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ... وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده"4, يقول: "أقول: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا, ربما بلغت حد التواتر"5.
ونقل في تفسيره ما ورد في الصافي عن كتاب "الاحتجاج عن أمير المؤمنين -عليه السلام- في حديث: "وآمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن الله يقول "!! " وإياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك وأن تترك التقية التي أمرتك بها, فإنك شائط بدمك ودماء إخوانك ... ""6.
وللتقية عندهم حدود يبين بعضها الخميني فيقول في رواية سابقة عن الإمام الصادق "ع": ترون أن الإمام بالرغم من ظروف التقية المحطية به وفقدانه للسلطة يبين للمسلمين أو يعين لهم الحاكم والقاضي ويأمرهم بالرجوع والتحاكم إليه"7.
__________
1 الشيعة في الميزان: محمد جواد مغنية ص50.
2 عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر ص114.
3 آل عمران: من الآية 28.
4 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج3 ص153.
5 المرجع السابق: ج3 ص163.
6 المرجع السابق: ج3 ص162 و163.
7 الحكومة الإسلامية: الخميني ص129.(1/218)
ويقول: "فرض الأئمة -عليهم السلام- على الفقهاء فرائض مهمة جدا وألزموهم أداء الأمانة وحفظها, فلا ينبغي التمسك بالتقية في كل صغيرة وكبيرة, فقد شرعت التقية للحفاظ على النفس أو الغير من الضرر في مجال فروع الأحكام, أما إذا كان الإسلام كله في خطر فليس في ذلك متسع للتقية والسكوت"1.
وللتقية فيهم آثار خطيرة على الإسلام والمسلمين, ولولا أن المقام هنا مقام عرض للتفسير وإثبات لعقائدهم فيه مجرد إثبات, لولا ذلك لذكرنا من آثار تلك العقيدة الكثير الكثير مما يحز في نفس المسلم ولا يخطر له ببال أن يصدر هذا عن فرقة أي فرقة, تعلن انتماءها للإسلام.
سادسا: في القرآن الكريم
أ- للقرآن ظهر وبطن:
ويريدون بذلك كما اسلفنا "أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم, وأن الظهر والبطن أمران نسبيان, فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره وبالعكس"1.
ويوضح الطباطبائي هذا فيقول: "يقول الله تعالى في كلامه المجيد: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 2 ظاهر هذه الآية الكريمة أنها تنهى عن عبادة الأصنام كما جاء في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} 3، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر أن العلة في المنع من عبادة الأصنام أنها خضوع لغير الله تعالى وهذا لا يختص بعبادة الأصنام، بل عبر عز شأنه عن إطاعة الشيطان أيضا بالعبادة، حيث قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا
__________
1 المرجع السابق: ص142.
2 تفسير الميزان: ج3 ص73.
3 سورة النساء: 36.
4 سورة الحج: 30.(1/219)
الشَّيْطَانَ} 1 إلى أن قال الطباطبائي: "نرى بالنظرة البدائية في قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} أنه تعالى ينهى عن عبادة الأصنام وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله من دون إذنه, ولو توسعنا أكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها. أما لو ذهبنا إلى توسع أكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه إلى غيره.
إن هذا التدرج -ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى أوسع وهكذا- جارٍ في كل من الآيات الكريمة بلا استثناء"2.
"هذا الذي ذكره الطباطبائي هنا مثالا للتفسير الباطن تجده يستند إلى آيات أخرى في بيان الآية الأولى, إضافة إلى هذا فإن هذا التفسير تربطه بالآية روابط قوية من حيث المعنى في الآيات جميعا ومن حيث العموم والخصوص.
ولكن: هل قول الشيعة بأن للقرآن ظهرا وبطنا على هذا النحو؟ الحق أن الكثير والكثير من تفسير الشيعة من التفسير الباطني، وأن أغلبه من النوع الذي لا تربطه بالآية رابطة وكأن القرآن طلسم من الطلاسم أو ضرب من المعميات والألغاز.
ويكفي أن نذكر هنا مثالا أو مثالين لولا خشيتنا أن يقال: هذان قولان شاذان لا عبرة بهما؛ لذا فسأستطرد بعض الاستطراد في الأمثلة حتى يزيد المؤمن إيمانا, ويزول شك من في قلبه كبير شك قبل هذا.
في تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3، يورد الطباطبائي في ميزانه عن ابن شهر آشوب عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن علي بن الحسين، عليه السلام: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، يعني: ولاية علي بن أبي طالب،
__________
1 سورة يس: 23.
2 القرآن في الإسلام: محمد حسين الطباطبائي، ص27 و28.
3 سورة يونس: الآية 25.(1/220)
ويعلق على هذا قائلا: "أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهي من الجري أو من الباطن من معنى القرآن، وفي معناها روايات أخر"1.
وفي قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2، يقول في الفقيه وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: "الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام"3.
وهذا عبد الحسين شرف الدين الموسوي يقول في مراجعاته عن أئمتهم: "أليسوا حبل الله الذي قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} الصادقين الذين قال: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وصراط الله الذي قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} وسبيله الذي قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ... إلى أن قال: "وأشار في السبع المثاني والقرآن العظيم إليهم، فقال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ألم يجعل المغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا مشروطة بالاهتداء إلى ولايتهم، إذ يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، ألم تكن ولايتهم من الأمانة التي قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ، ألم تكن من السلم الذي أمر الله بالدخول فيه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، أليست هي النعيم الذي قال تعالى: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ؟ 4.
بقي أن أقول: إن هذه السفسطة لم ترد في مؤلف مستور، بل في أحد مؤلفاتهم الحديثة المنشورة والموجهة لأهل السنة لإقناعهم بمذهب الشيعة؟!!
فعلى أي أساس ذهب إلى هذه الأقوال؟ وأية رابطة بين الآية وما فسرها به؟
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: ج10 ص41.
2 الفاتحة: الآية السابعة.
3 الميزان: ج1 ص41.
4 المراجعات: عبد الحسين شرف الدين الموسوي، ص54-57.(1/221)
وهذا الدكتور محمد الصادقي يفسر قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 1، بقوله: "أقول: فقد اتصل بحر النبوة بفاطمة الصديقة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ببحر الإمامة علي "ع", بحران ملتئمان متلاقيان، بينهما برزخ الرسالة القدسية المحمدية، إذ اتصل بحر الإمامة والنبوة روحانيا مسبقا، أن تربى علي في حجر النبي وفي جو الوحي والتنزيل، ثم اكتمل الاتصال الروحاني بوصلة جسمانية في زواج علي بفاطمة والنبي هو البرزخ بين البحرين إذ جمع الولاية والنبوة، وعلي له الولاية دون النبوة والوحي، وفاطمة هي بضع النبوة، دون الرسالة والإمامة والخارج منهما اللؤلؤ والمرجان: الحسنان هما مجمع الولاية روحانيا والنبوة نسبيا"2.
وقال الطباطبائي: "وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال: علي وفاطمة, {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، قال: الحسن والحسين". "أقول" ورواه أيضا عن ابن مردويه عن أنس بن مالك مثله، ورواه في مجمع البيان عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري. وهو من البطن"3.
وقال بهذا أيضا من المعاصرين محمد حسين الكاشف الغطاء حيث قال في تفسيرها: "علي بحر نور الإمامة, وفاطمة بحر نور النبوة والكرامة"4.
وقال محمد الصادقي في تفسير قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 5: "ما يتوجه به إلى الله: ذوات قدسية ربانية، منهم باقون؛ لأنهم منه "!! " وهم عند الله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} 6، فهو هنا انصرف عن المعنى المتبادر الظاهر
__________
1 سورة الرحمن: الآيتان 19 و20.
2 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج27 ص32.
3 الميزان ج10 ص103.
4 حياة الإمام الحسن بن على: باقر شريف القرشي، تقديم محمد حسين آل كاشف الغطاء.
5 الرحمن: 27.
6 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادق ج27 ص35 و36.(1/222)
"لوجه" إلى معنى التوجه, ويستدل لذلك بما ورد في تفسير القمي عن علي بن الحسين "ع": نحن الوجه الذي يؤتى الله منه"1.
ويزيد الطباطبائي فيقول في تفسيره: "وفي مناقب ابن شهر آشوب"، قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} قال الصادق عليه السلام: نحن وجه الله2.
ب- أسلوب الجري في القرآن:
وهو نوع من أنواع التفسير الباطني للقرآن إلا أنه مخصوص بتطبيق الآيات القرآنية على أئمتهم أو على أعدائهم كما قال الطباطبائي في تفسيره: "واعلم أن الجري -وكثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب- اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليهم السلام"، وقال: "والروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم -عليهم السلام- وعلى أعدائهم، أعني روايات الجري كثيرة في الأبواب المختلفة"3.
وهو كما قال في كثير من تفاسيرهم وما ورد من رواياتهم, ومن العجيب أنهم يحرصون على إيراده والقول به في تفسير الآية ولكنهم لا يعدونه تفسيرا، بل ينصون على أنه من الجري وسنذكر هنا أمثله لذلك.
في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 4، يقول محمد حسين الطباطبائي: "وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، قال: من آمن بقيام القائم عليه السلام أنه حق أقول وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية, وهو من الجري"5.
وفي موضع آخر يضرب مثالا للأخبار الواردة في جري القرآن وانطباقه فيقول: "كما ورد في قوله: "وسيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم"، وما ورد من
__________
1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادق ج27 ص35 و36.
2 الميزان ج19 ص103.
3 المرجع السابق ج1 ص41 و42.
4 سورة البقرة: من الآية 3.
5 الميزان ج1 ص46.(1/223)
قوله: "ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي والأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما"، وهي كثيرة جدا"1.
ويعلق على ما ورد في تفسير العياشي عن المفضل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: {أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} ، قال: التقية.. إلخ، فيقول: "أقول: الروايتان من الجري وليستا بتفسير"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} 3، يقول: "أقول: وفي العيون عن الرضا عليه السلام, تطبيق الآية على منكري الولاية وهو من الجري"2.
وعلى ما في تفسير القمي في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} ، قال: "الحسنة والله ولاية أمير المؤمنين عليه السلام, والسيئة والله عداوته". علق الطباطبائي على هذا بقوله: "أقول: وهو من الجري وليس بتفسير"4.
أما المدعو صادق الحسيني الشيرازي فيقول في تفسير قوله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86] : أخرج العالم "الشافعي" السيد المؤمن الشبلنجي في "نور الأبصار" قال عن أبي جعفر، رضي الله عنه, قال في حديث طويل ذكره وفيه: "فإذا خرج "يعني المهدي" أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه 313 رجلا من أتباعه, فأول ما ينطق به هذه الآية: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، ثم يقول: أنا بقية الله وخليفته وحجته عليكم". "أقول": ولا ينافي هذا التأويل نزول الآية فعلا عن النبي شعيب عليه السلام؛ لأن التنزيل والتأويل شيئان والقرآن له ظاهر وله باطن فلا ينافي قصد أحدهما كون المراد في الآية الآخر أيضا"5.
__________
1 الميزان: 12 ص113.
2 الميزان ج13 ص337.
3 سورة الكهف: الآية 101.
4 الميزان ج15 ص406.
5 المهدي في القرآن: صادق الحسيني الشيرازي ص76.(1/224)
وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ ... } الآية1، قال الشيرازي: "لا منافاة بين ورود تأويل هذه الآية تارة من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليهما "كذا" السلام" وتارة في أصحاب الإمام المهدي المنتظر "عليه السلام" وذلك لأن عليا القائم مع أصحابه, كلاهما مصدقان لهذه الآية.. وكم لمثل ذلك من نظائر في القرآن, فالقرآن ظاهر وباطن وتنزيل وتأويل وتفسير ومعنى"2.
وهذا الدكتور محمد الصادقي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} 3: "والوتر بين الأوصياء الأوفياء هو علي عليه السلام والشفع الحسنان عليهما السلام"، ويقول: "أقول: وقد وردت روايات أخرى في تأويل الشفع والوتر كلها من باب التطبيق، تشملها الآية الكريمة"4.
أما الليالي العشر عنده, فيورد ما جاء في البرهان عن الصادق "ع" قال: والفجر هو القائم والليالي العشر الأئمة من الحسن إلى الحسن والشفع أمير المؤمنين وفاطمة والوتر هو الله وحده لا شريك له، والليل إذا يسر هي دولة حبتر فهي تسري إلى دولة القائم، ثم يقول: "أقول: وهذا تأويل لطيف لا ينافي تفسيره بغيره, فالليالي العشر هم الأئمة العشرة اعتبارا بما ظلموا وأظلمت عليهم حياتهم"5.
وفي قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} ، وقوله سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يقول: "ومن باب الجري والتأويل قد يشمل البحران واللؤلؤ والمرجان بحري النبوة والإمامة, بحري عذب فرات لا ملح ولا أجاج"6.
__________
1 سورة المائدة: من الآية 54.
2 المهدي في القرآن: صادق الشيرازي ص39 و40.
3 سورة الفجر: الآية 3.
4 الفرقان: ج30 ص308.
5 تفسير الفرقان: ج30 ص306.
6 الفرقان ج27 ص32.(1/225)
وأخيرا ففي تفسير قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1، يقول: "قد وردت أحاديث أن الأئمة من آل محمد هم النور, وهذا من التأويل والجري ... "2.
والأمثلة هنا كثيرة جدا وربما تبلغ المئين, كما قال محمد حسين الطباطبائي في تفسيره3.
ولا شك أن هذا من الإلحاد في آيات الله سبحانه ولا يخفى حكم الله على الملحدين في آياته: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4.
قال القاسمي: شملت الآية من يضع الكلام في الآيات على غير مواضعه كما فسرها ابن عباس، قال في الإكليل: ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة وغلاة المتصوفة5.
ولأن القرآن الكريم إنما أنزل لهداية الناس وفيما سلكوه إلغاء لهذه الهداية وإبطال لها، ولكن والحمد لله لن تبلغه أنفاسهم. أما الغزالي -رحمه الله- فقد عد هذا من الطامات، حيث قال: "وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح, وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الإفهام فائدة, كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم, فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع, ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل, اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى كلام رسوله صلى
__________
1 سورة التغابن: الآية 8.
2 الفرقان ج28 ص378.
3 الميزان ج1 ص42.
4 سورة فصلت: الآية 40.
5 تفسير القاسمي ج14 ص5211, وانظر الإكليل للسيوطي ص354.(1/226)
الله عليه وسلم, فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له, بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى, وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر"1.
ومن العجيب أنهم لما شعروا أن باب التأويل الباطني باب واسع يستطيع كل من دخل منه أن يصل إلى كل ما يدور بخلده ويجيش بخاطره2، وأن يدخل على القرآن ما ليس منه وخشية من أن ينافسهم في هذا الباب منافس, قصروا هذا الحق على أنفسهم، بل على أئمتهم فبوبوا الأبواب على: "أنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة"3, وقالوا: "إن جميع التفاسير الواردة عن غير أهل البيت لا قيمة لها, ولا يعتد بها"4.
وقد أدى بهم هذا إلى التخبط حتى فيما نسب من التفسير إلي إمام واحد!! أورد الطباطبائي في تفسيره كما رواه العياشي في تفسيره عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: يا جابر إن للقرآن بطنا وللبطن بطن، وظهرا وللظهر ظهر، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن, إن الآية تكون أولها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء, وهو كلام متصل ينصرف على وجوه"5.
أليس هذا تخبطا وأليس من الطامات كما قال الغزالي، رحمه الله؟!
ج- التفسير العقلي:
قلنا: إن الشيعة تأثروا تأثرا بينا بالمعتزلة في هذا المنحى ويرجع هذا التأثر
__________
1 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص43.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص32.
3 الفصول المهمة: الحر العاملي ص57.
4 الشيعة والرجعة: محمد رضا النجفي ص19.
5 الميزان: ج3 ص73.(1/227)
إلى أن عددا كبيرا من سلف الشيعة تتلمذ لبعض شيوخ المعتزلة, كما يظهر لنا جليا أن هذا الارتباط في التفكير شيء قديم غير جديد1.
يقول محمد جواد مغنية في تفسير قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 2 الآية: "والمراد بالحكمة والموعظة الحسنة الاعتماد على العقل فيما يستقل بإدراكه كالألوهية التي يتوصل الإنسان إلى معرفتها بالإمعان والتأمل في خلقه وفي خلق السموات والأرض، وكنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي يعرفها الباحثون من سيرته وطبيعة رسالته. أما منهج الإسلام في معرفة ما لا يستقل العقل بإدراكه من أصول العقيدة كبعض المغيبات فهو الاعتماد على وحي من الله إلى نبيه الذي ثبت بدليل العقل نبوته وصدقه فيما أخبر به عن الله جل وعز، أما المنهج لإثبات الشريعة فهو الكتاب والسنة والعقل ... "3.
ومن المعلوم أن الشيعة لا توافق المعتزلة في كل ما ذهبت إليه من آراء وإلا لاتحدت الفرقتان وشق التمييز بينهما, ولكن الوشائج -لما ذكرنا- قوية ووجوه الشبه بارزة في الآراء الكلامية.
فذلكم محمد جواد مغنية يقول في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} 4، وتسأل: ظاهر الآية يدل على أن الله سبحانه هو الذي جعل أكابر المجرمين يجرمون ويمكرون بأهل الحق مع العلم بأنه تعالى ينهى عن المكر والإجرام، ويعاقب عليهما، فما هو التأويل؟ الجواب أن القصد من هذه النسبة إليه -جل ثناؤه- هو الإشارة إلى أن مشيئة الله قضت بأن تقوم السنن الاجتماعية على أساس التناقض بين المحقين والمبطلين، بين أرباب السلطان المعتدين وبين الناس المعتدى عليهم، ولا مفر من هذا التناقض
__________
1 التفسير والمفسرون: الذهبي ج2 ص25.
2 سورة النحل: من الآية 125.
3 تفسير الكاشف: ج1 ص51.
4 سورة الأنعام: من الآية 123.(1/228)
والصراع إلا بالقضاء على المجرمين ولا بد أن يتم ذلك وتعلو كلمة الحق على أيدي دعاة العدل والصلاح, مهما تضخم الباطل واستطال1.
ويظهر رأيه أكثر وضوحا عند تفسيره لقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية2، حيث يقول: "قال الرازي: تمسك أصحابنا -يريد السنة الأشاعرة- بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى"، أما أصحابنا فيقولون: لو كان الضلال والهداية من الله لسقط التكليف وبطل الحساب والجزاء؛ لأنه تعالى أعدل من أن يفعل الشيء ويحاسب غيره عليه, كيف وهو القائل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؟ أما الآية التي نحن في صدد تفسيرها فلا تدل على دعوى الرازي وأصحابه؛ لأنها لم ترد لبيان مصدر الضلالة والهداية وأنه من الله أو من غيره, وإنما وردت لبيان أن الناس فريقان:
الفريق الأول: تتسع صدورهم للحق ويتفاعلون معه ويطمئنون إليه.
الفريق الثاني: لا تتسع صدورهم للحق لجهلهم وضيق أفقهم ... 3.
ولنسلم جدلا بما يقول في دلالة الآية ولننتقل معه إلى تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَالْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 4، ولنقرأ تفسيره حيث يقول: "ليس المراد أن من يخلق الله فيه الهداية فهو المهتدي ومن يخلق فيه الضلال فهو الضال. كلا، إن هذا تأباه الفطرة والبديهة ... لأن الله ليس بظلام للعبيد.."، إلى أن قال: "والذي نراه أن المعنى المقصود من الآية أن المهتدي حقا هو من كان عند الله مهتديا "!! " ولو كان عند الناس ضالا, وليس من شك أن الإنسان لا يكون من المهتدين في الميزان الإلهي إلا إذا آمن وعمل صالحا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
__________
1 تفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج3 ص259.
2 سورة الأنعام: من الآية 125.
3 تفسير الكاشف ج3 ص261 و262.
4 سورة الأعراف: الآية 178.(1/229)
الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] . وكذلك الضال فإنه من كان ضالا في حساب الله لا في حساب الناس, وبكلمة إن الآية تحدد معنى كل من المهتدي والضال بأنه من كان كذلك عند الله تماما كما قال الإمام علي "ع": "الغنى والفقر بعد العرض على الله"1.
وكذا في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} 2, يقول: "ليس المراد بمن أضل الله ويضلل الله خلق الإضلال فيهم, كلا، وإنما المراد أن من حاد عن طريق الحق والهداية بإرادته، وسلك طريق الباطل والضلال باختياره, فإن الله يعرض عنه ويدعه وشأنه"!! ""3.
د- رؤية الله:
وكذا في الرؤية نجد مفسري الشيعة ينكرون جوازها ووقوعها, ونورد هنا آراء ثلاثة من مفسريهم في القرن الرابع عشر.
فهذا محمد بن حيدر يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4: "وجوه يومئذ ناضرة جواب سؤال مقدر عن حال الآخرة, إلى ربها ناظرة، أي: إلى ربها المضاف لظهور الولاية وصاحبها في ذلك اليوم أو إلى ربها المطلق لظهور آثاره، أي: إلى آثاره ناظرة أو منتظرة إلى ثواب"5.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 6, يقول مغنية: "وحيث جاء في الآية الكريمة: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} نشير إلى النزاع القائم بين أهل المذاهب الإسلامية وفرقها من أن العقل: هل يجيز رؤية الله بالبصر أو يمنعها؟ قال الأشاعرة السنة: إن رؤية الله بالبصر
__________
1 تفسير الكاشف ج3 ص424.
2 سورة النساء: من الآية 88.
3 تفسير الكاشف: ج2 ص400.
4 سورة القيامة: الآيتان 22 و23.
5 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد بن حيدر الجنابذي ج2 ص294.
6 سورة البقرة: من الآية 55.(1/230)
جائزة عقلا؛ لأنه موجود وكل موجود يمكن رؤيته، وقال الإمامية والمعتزلة: لا تجوز الرؤية البصرية على الله بحال، لا دينا ولا دنيا؛ لأنه ليس بجسم، ولا حالا في جسم ولا في جهة. وبعد أن منعوا الرؤية عقلا حملوا الآيات الدالة بظاهرها على جواز الرؤية، حملوها على الرؤية بالعقل والبصيرة لا بالعين والبصر، وبحقائق الإيمان، لا بجوارح الأبدان على حد تعبير الفيلسوف الشهير الكبير محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا، وبصدر المتألهين. ومما استدل به الملا صدرا على امتناع الرؤية قوله: "إن الإحساس بالشيء حالة وضعية للجوهر الحاس، بالقياس إلى المحسوس الوضعي، ففرض ما لا وضع له أنه محسوس, كفرض ما لا جهة له أنه في جهة".
ثم يستدل بقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فيقول: "وانتقل ذهني وأنا أقرأ عبارة هذا العظيم -يعني الملا صدرا- إلى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك القائل بالواقعية النقدية، وملخصها أن للشيء صفات أولية ثابتة له واقعا، ولا تنفصل عنه إطلاقا، سواء أوجد من يدركها أم لم يوجد، كالعناصر المقومة المكونة للشيء ... وأيضا له صفات ثانوية نسبية لا توجد مستقلة عن ذات تحسها وتدركها كاللون والصوت والطعم, فاللون ليس صفة للشيء، كما يتراءى وإنما هو موجات ضوئية خاصة بين الشيء والعين عند العلماء، وأيضا الصوت موجات هوائية، والطعم لا وجود له لولا الفم، ومن هنا يختلف باختلاف الذائق صحة ومرضا ... واختصارا أنه لا لون بلا عين, ولا صوت بلا أذن, ولا طعم بلا فم، وليس من شك أن نور الله سبحانه يطغى على الموجات الضوئية وغيرها، وإذا انتفت هذه الموجات انتفت الرؤية"1؟!
ولا شك أن مثل هذا الزعم يخالف الشرع والعقل, أما مخالفته الشرع فإن الأدلة الكثيرة جاءت بإثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وهو نفسه يعترف بهذا, لكنه صرفها إلى الرؤية بالعقل والبصيرة مع أن ألفاظها لا تقبل أن تنصرف إلى الرؤية بالعقل والبصيرة.
__________
1 تفسير الكاشف: محمد جواد مغنية ج1 ص107 و 108.(1/231)
أما مخالفته العقل, فإن ذات الله تعالى لا تشبه الذوات فلا يصح أن تقاس على مخلوقاته عز شأنه، فكيف نقيس رؤية الخالق على رؤية المخلوق, وذات الخالق على ذات المخلوق: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وهذا ينطبق أيضا على تفسير محمد الصادقي لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} 1، حيث قال: "نسبة الظن إلى الوجوه الباسرة والنظر إلى الرب للوجوه الناضرة هذه النسبة وتلك تصرفها عن وجوه الأبصار إلى وجوه البصائر, فالوجه الظاهر لا يظن وإنما يبصر، والبصر الظاهر لا ينظر إلى الرب ذاته إذ: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [6: 103] ، وإنما البصيرة الباطنة هي التي تراه رؤية المعرفة دون كيفية ولا إحاطة, إضافة إلى أن النظر لا يستلزم الأبصار: {تَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [7: 198] ، وأحرى بعدم الأبصار إذا كان المنظور إليه غير مبصر! ثم النص بعد ذلك كله: {إِلَى رَبِّهَا} ، لا إلى الله والربوبية هي الرحمة والثواب والنعمة, وأهمها المعرفة الناتجة عن غاية الربوبية" إلى أن قال: "فرؤيته تعالى بالبصر وحتى إدراكه والحيطة به بالبصيرة أنها مستحيلة في كافة العوالم لكافة العالمين ... فلا يمكن رؤيته بالبصر إلا إذا صار مبصرا كخلقه "!! " ولا إدراكه بالبصيرة إلا إذا صار خلقه مثله في الألوهية "!! " استحالة مزدوجة في خرافة الرؤية والإدراك والإحاطة, إذن فالمعنى من نظر الوجوه هو نظر المعرفة "!! " وانتظار الثواب والرحمة ... "2.
ولا نستطرد بعد هذا في بيان تأثرهم بالمعتزلة في بعض الآراء الكلامية، وقد سبق الإشارة إلى سببه.
__________
1 سورة القيامة: الآيات 22-25.
2 الفرقان: محمد الصادقي ج29 ص285-287.(1/232)
سابعا: في آيات الأحكام
كثيرة هي مواضع الخلاف في الفقه بين أهل السنة والشيعة, وليس في الإمكان في مثل هذا الموضع الإشارة إليها فضلا عن دراسة كل موضع وقد
سبقت الإشارة إلى رأيهم في إقامة صلاة الجمعة ما دام الإمام غائبا، وكذا الخمس، وغير ذلك.
ومما لا شك فيه أن نكاح المتعة وشذوذ الشيعة في القول به من بين سائر المذاهب, حتى أصبح سمة من أهم سمات المذهب الشيعي, لا شك أن مثل هذا يوجب علينا هنا الإشارة إليه كمثال لمنهج الشيعة في تفسير آيات الأحكام وصرفها؛ لتأييد آرائهم الفقهية كما صرفوا آيات العقائد لتأييد آرائهم العقائدية, ونحو ذلك.
ونظرة في تاريخ نكاح المتعة في الإسلام تكشف لنا أنه كان قد أبيح في فترة من الفترات في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد اختلف في مدة الإباحة وزمانها حتى قالوا: إنها أبيحت ثلاثة أيام1.
عن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام, ثم نهى عنها2.
عن قتادة عن الحسن أنه قال: والله ما كانت متعة النساء إلا ثلاثة أيام ما كانت قبلها ولا بعدها، زمن اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في زمانها, فمن قائل: عام خيبر أو عام الفتح أو في حجة الوداع أو عام أوطاس، ولم يزل الناس حينذاك بين القول بالإباحة والقول بالتحريم.
حتى حسم ذلكم النزاع الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقوله على المنبر: "لا أوتى برجل تزوج بنكاح المتعة إلا غيبته تحت الحجارة".
ثم توفي عمر -رضي الله عنه- وظهرت بعد ذلك فرق, كالشيعة والخوارج ونحوهم, فأخذت المتعة كغيرها شائبة الطائفية حيث نهى عنها عمر واختلفت الرواية فيها عن علي -رضي الله عنهما- فتعصب لها الشيعة وأخذوا
__________
1 أخرجه مسلم ج4 ص131؛ والبيهقي ج7 ص204؛ والدارقطني ج3 ص258.
2 أخرجه عبد الرزاق ج7 ص505 في مصنفه، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه ج2 ص208 من مرسل الحسن البصري.(1/233)
يدافعون عنها حتى أصبحت شعارا لهم1, وكثرت الروايات الموضوعة في ذلك حتى رووا فيما رووا: "أن من خرج من الدنيا ولم يتمتع, جاء يوم القيامة وهو أجدع"2، ورووا: "ليس منا من لم يؤمن بكرتنا "يعني الرجعة" ويستحل متعتنا"3 وزعموا فيما زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين -عليه السلام- ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن, ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي, ومن تمتع أربع مرات كانت درجته كدرجتي"4.
وبلغت درجة تمسكهم بالقول بنكاح المتعة أنهم لا يقبلون فيه التقية, فقال محمد حسين آل كاشف الغطاء: "ومن طرقنا الوثيقة عن جعفر الصادق -عليه السلام- أنه كان يقول: ثلاث لا أتقي فيهن أحدا: متعة الحج, ومتعة النساء، والمسح على الخفين"5.
ولا عجب بعد هذا وقد بلغوا في التمسك بهذا القول هذا الحد, أن يبحثوا له عن سند في القرآن الكريم.
ففي تفسير قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 6 يقول محمد بن حيدر الجنابذي من علماء القرن الرابع عشر: "وفي لفظ الاستمتاع وذكر الأجور وذكر الأجل على قراءة إلى أجل, دلالة واضحة على تحليل المتعة فريضة فرضت, أو حالكونها7 مفروضة عليكم بالعقد، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} من إعطاء الزيادة على الفريضة
__________
1 نكاح المتعة عبر التاريخ: عطية محمد سالم ص16.
2 تفسير منهج صادقين: الملا فتح الله كاشاني ص356.
3 تفسير الصافي 1/ 347؛ والوسائل للحر العاملي ج7 ص438.
4 تفسير منهج صادقين: الملا فتح الله كاشاني ص356.
5 أصل الشيعة وأصولها: محمد حسين كاشف الغطاء ص100.
6 سورة النساء: من الآية 24.
7 هكذا وردت, ولعلها: أو حال كونها.(1/234)
أو إسقاطهن شيئا من الفريضة: {مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} ، وفيه إشعار بكون الأجر من أركان عقد التمتع كما عليه من قال به, وروي عن الباقر "ع": لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما تقول: استحللتك بأجل1 آخر برضى منهما ولا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها وعدتها حيضتان: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فحلل المتعة عن علم, ولغايات منوطة بالمصالح والحكم2.
وقال محمد جواد مغنية في تفسير الآية نفسها: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} : "إذا تم الزواج المؤقت بين الرجل والمرأة وانقضى الوقت أو أوشك ثم بدا لهما أن يزيدا في الوقت والأجرة, فلا بأس في ذلك"3.
وبعد:
فتلكم نماذج لمنهج الشيعة في القرن الرابع عشر في تفسير القرآن الكريم ومحاولتهم تطبيق آياته على أصولهم وينطبق عليهم قول ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "إن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه, وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان, ولا من أئمة المفسرين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم"4.
وما أصدق الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- حين قال: "فغالب ما في كتب الإمامية الاثني عشرية في تأويل الآيات وتنزيلها وفي ظهر القرآن وبطنه, استخفاف بالقرآن الكريم ولعب بآيات الذكر الحكيم ... وإذا كان لهم في تأويل الآيات وتنزيلاتها أغلاط كثيرة فليس من المعقول أن تكون كلها صادرة عن جهل منهم، بل المعقول أن بعضها قد صدر عن جهل, والكثير منها صدر عمدا عن هوى ملتزم وللشيعة -كما بينا- أهواء التزمتها"5.
__________
1 كذا وردت ولعلها: بأجر آخر.
2 بيان السعادة في مقامات العبادة: سلطان محمد حيدر ج1 ص195.
3 التفسير المبين: محمد جواد مغنية ص89.
4 مجموع فتاوى ابن تيمية: عبد الرحمن بن القاسم ج13 ص358.
5 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص41.(1/235)
أهم كتب التفسير عند الإمامية الاثني عشرية في القرن الرابع عشر:
للإمامية الاثني عشرية في القرن الرابع عشر الهجري عدد كبير من المؤلفات في التفسير, منها ما كان شاملا للقرآن الكريم كله, ومنها ما اقتصر على تفسير سورة واحدة أو سور محدودة, ومنها ما لم يكمل بعد فصدرت بعض أجزائه دون الباقي.
وليس من السهل أن أذكر كل هذا وكل ما ألف فيه، ولعلي أكتفي هنا بذكر بعضها باختصار ثم أقدم دراسة مختصرة عن أهمها.
فمن المؤلفات:
1- تفسير الميزان في تفسير القرآن , في عشرين مجلدا: تأليف علامتهم السيد محمد حسين الطباطبائي, وسنفرده بحديث.
2- التفسير الكاشف, في سبعة مجلدات: تأليف محمد جواد مغنية, صدرت طبعته الأولى في بيروت سنة 1968 وبين يدي الطبعة الثانية الصادرة في 1978م, الناشر دار العلم للملايين.
3- التفسير المبين: تأليف محمد جواد مغنية.
قال عنه صاحبه: "إن هذا الكتاب تفسير وجيز لا نقاش فيه ولا مقارنة بين أقوال المفسرين ولا إسرائيليات ومطولات؛ لأن الهدف منه أن يتصور قارئ القرآن الكريم موضوع الآية ويتمثله, ولو من بعض جوانبه"1.
__________
1 التفسير المبين: محمد جواد مغنية ص3.(1/236)
وكان في أول أمره يريد أن يختصر تفسير: جوامع الجامع لشيخهم الفضل بن الحسن الطبرسي، ثم عدل عن الاختصار وألفه تأليفا.
الكتاب نشرته دار التعارف للمطبوعات، بيروت سنة 1398هـ في مجلد, عدد صفحاته 730 من القطع الكبير.
4- البيان في تفسير القرآن، لإمامهم الأكبر زعيم الحوزة العلمية السيد أبي القاسم الخوئي, صدر منه المجلد الأول في "ص557" ويحتوي على مدخل، وتفسير فاتحة الكتاب.
صدرت طبعته الأولى سنة 1957م, وبين يدي الطبعة الرابعة وقد صدرت سنة 1395هـ 1975م, والناشر دار الزهراء، بيروت.
5- الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة: تأليف محمد الصادقي.
وصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات هي الأجزاء 30، 29، 27، 28 وهما في مجلد واحد، 26.
وعلل المؤلف بدايته بالجزء الثلاثين من القرآن بقوله: "لأن السور التي يضمها هي بداية الوحي الشامل لما يحتاجه البدائيون في معرفة الإسلام فلنبدأ بها كلنا، علنا ندخل المدينة من بابها"1.
أما هذا التفسير فهو "دراسات ... ألقيناها على طلاب علوم الدين في الحوزتين المباركتين "قم والنجف الأشرف"!! على زيادات وتنقيحات لفظية ومعنوية تفسيرا للقرآن بالقرآن متنا، وبالحديث هامشا"1.
وقد صدرت طبعات الكتاب ما بين عامي 1395-1397.
6- بيان السعادة في مقامات العبادة, في مجلدين كبيرين: تأليف سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد، الجنابذي الخراساني.
__________
1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج30 ص7.(1/237)
انتهى مؤلفه من كتابته في 14/ 2/ 1311هـ وصدرت طبعته الأولى والأخيرة إذ لم يطبع بعدها, في 4/ 9/ 1314هـ.
وقد كنت أنوي الحديث عنه بتفصيل, لولا أن الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله- قد تناوله بتفصيل لا يحتاج إلى مزيد.
7- آلاء الرحمن في تفسير القرآن، في 3 أجزاء: محمد جواد البلاغي, توفي سنة 1352هـ، طبع في صيدا سنة 1933-1934م.
هذا بعض ما اطلعت عليه وقرأت فيه من تفاسيرهم ولم أشأ أن أذكر غير هذا, إما لأني لم أطلع عليه أو لأنه غير مستوفٍ للقرآن كله، بل هو في سور أو آيات أو موضوعات دون غيرها.
وأحسب أني لست بحاجة أيضا إلى الكتابة عن كل مؤلف منها, بل سأكتفي بذكر تفسير واحد كبيان لمنهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم في العصر الحديث, فأكتفي بتفسير الميزان في تفسير القرآن.(1/238)
"الميزان في تفسير القرآن":
المؤلف:
هو محمد حسين الطباطبائي. ولد سنة 1321-1903م في تبريز وبها أكمل تعليمه الابتدائي, ثم انتقل إلى النجف في العراق حيث واصل دراسته وغادرها بعد أن نال درجة الاجتهاد إلى إيران, وتصدر للتدريس في مدينة "قم".
من آثاره تفسير "الميزان في تفسير القرآن" قيل: إنه استغرق منه عشرين سنة متتابعة, توفي سنة "1404"1. أما التفسير فالنسخة التي بين يدي هي الطبعة الثانية وجاء فيها أنها تمتاز عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف. وقد صدرت هذه الطبعة بين عامي 1391-1394هـ وهي من منشورات الأعلمي للمطبوعات ببيروت, وتقع في عشرين مجلدا.
وفرغ المؤلف من تأليفه كما يقول: "في ليلة القدر المباركة, الثالثة والعشرين من ليالي شهر رمضان من شهور سنة 1392هـ".
طريقة المؤلف:
لا شك أن هذا الكتاب يعتبر من أهم مؤلفات الإمامية الاثني عشرية في التفسير في القرن الرابع عشر، بل أهمها على الإطلاق نظرا للشمولية التي سلكها مؤلفه فيه, فلم يقتصر فيه على لون من ألوان التفسير للقرآن فحسب، بل هو كما وصفه مؤلفه على غلاف كل جزء: "كتاب علمي، فني، فلسفي, أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن" وقد حدد المؤلف في مقدمته خطته فقال: "وقد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية، أو إلى
__________
1 معجم المفسرين: عادل نويهض ج2 ص777.(1/239)
فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية، واحترزنا فيها عن أن نضع إلا نكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو علمية لا يختلف "كذا" فيها الإفهام"1.
ثم قال: "وأما آيات الأحكام فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه ... ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد فيها ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأئمة أهل البيت -سلام الله عليهم أجمعين- من طرق العامة والخاصة، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين، فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم2, وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم -عليهم السلام- أن هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه, سلام الله عليهم.
ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، فلسفية وعلمية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية، حسب ما تيسر لنا"3.
وقد جرى المؤلف على هذا النحو, وهذه أمثلة من تفسيره:
الإمامة:
في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 4. ربط
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص12 و13.
2 كذا زعم المؤلف, والحق أن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين- هم أعلم الناس بالتفسير بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما الاختلاف الواقع في بعض أقوالهم فهو من باب اختلاف قوى الفهم والإدراك والتدبر والتأمل في آياته سبحانه, ثم إن علماء المسلمين جعلوا مقاييس يعرف بها الصحيح من الضعيف والسمين من الهزيل, وبها أدركنا ضعف وهزال -بل وضع- ما لجأ إليه المؤلف.
3 تفسير الميزان: ج1 ص13 و14.
4 سورة البقرة: الآية 124.(1/240)
المؤلف بين هذه وما بعدها فقال عنها: "إنها شروع بجمل من قصص إبراهيم -عليه السلام- وهي كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي"1، ثم بين المراد بهذه الآية فقال: فقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} .. إلخ إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة وحبائه بها1. ثم بين المراد بالإمامة في الآية فقال: قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، أي: مقتدى يقتدي بك الناس ويتبعونك في أقوالك وأفعالك, فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس؛ ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 63] , لكنه في غاية السقوط2.
وهو يرى أن الإمامة أعلى درجة من النبوة, فيقول: "وبالجملة فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه, فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية الناس للناس في أعمالهم وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائه الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة, قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] ، وقال تعالى في مؤمن آل فرعون: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [مؤمن: 38] ، وقال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] 3.
ولا يخفى ضعف الاستدلال بالآيات المذكورة، بل عدمه فيما ذهب إليه من التفريق بين الإمامة والنبوة وإن كان مراده الاستدلال على الجملة الأخيرة: كل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة, فليس هذا محل النزاع، بل هو محل تسليم, وإنما محله ما زعمه من فرق بين الإمامة والنبوة.
__________
1 الميزان: ج1 ص261.
2 الميزان: ج1 ص270.
3 الميزان: ج1 ص272.(1/241)
التقية:
وفي تفسير قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 1, قال: الاتقاء في الأصل: أخذ الوقاية للخوف ثم ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا لمسبب في مورد السبب, ولعل التقية في المورد من هذا القبيل.
والاستثناء منقطع, فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير عقد القلب على الحب والولاية, ليس من التولي في شيء؛ لأن الخوف والحب أمران قلبيان متباينان ومتنافيان أثرا في القلب, فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء الاتقاء استثناء منقطع.
وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار وأبويه ياسر وسمية وهي قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] .
وبالجملة, الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده, إذ لا بغية للدين ولا هم لشارعه إلا ظهور الحق وحياته وربما يترتب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين وحياة الحق, ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف2.
وقال أيضا: "أقول: والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا, ربما بلغت حد التواتر, وقد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع"3.
__________
1 آل عمران: من الآية 28.
2 الميزان في تفسير القرآن: ج3 ص153.
3 المرجع السابق ص163, ولمعرفة الحق في هذا وغيره من العقائد انظر ما كتبناه في منهج أهل السنة.(1/242)
رؤية الله:
وفي تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1، يقول: "والمراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى، بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان, ويدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام"2.
الخلود في النار:
في تفسير قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3، قال: "ومسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي, ومن جهة الظواهر اللفظية.
والذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر فالكتاب نص في الخلود قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية، والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه, وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفي الخلود وهي مطروحة بمخالفة الكتاب"4، ثم ذهب يعدد بعض الإشكالات ويرد عليها.
التفسير الباطني:
وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 5 الآية، يقول: "وفي تفسير العياشي عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا عليه السلام عن قول الله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا, فأما ما حرم به في الكتاب
__________
1 سورة القيامة: الآيتان 22 و23.
2 الميزان ج20 ص112.
3 سورة البقرة: من الآية 167.
4 تفسير الميزان ج1 ص412.
5 سورة الأعراف: من الآية 33.(1/243)
هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق.
أقول: ورواه في الكافي عن محمد بن منصور مسندا, وفيه: فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق. أقول: انطباق المعاصي والمحرمات على أولئك والمحللات على هؤلاء؛ لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما يناسبه من الأعمال.
ومن هذا الباب ما في التهذيب بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله -عليه السلام- في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: الغسل عند لقاء كل إمام1.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} 2، قال: "أقول: وروى تسميته صلى الله عليه وآله وسلم بالنجم بإسناده عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا -عليه السلام- وهو من البطن"3.
فرض الرجلين في الوضوء:
وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 4، قال: "وأما قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} فقد قرئ بالجر وهو لا محالة بالعطف على رءوسكم ... وقرئ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب وأنت إذا تلقيت الكلام مخلي الذهن5
__________
1 تفسير الميزان: ج8 ص94 و95.
2 سورة النجم, الآية الأولى.
3 تفسير الميزان: ج19 ص33.
4 سورة المائدة: من الآية 6.
5 القرآن الكريم لا يتلقاه المؤمنون بخلو ذهن, بل لا بد أن يضموا إليه بيان من أرسله الله ليبين لهم ما نزل إليهم ولا يعد هذا شائبة!!(1/244)
غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن {وَأَرْجُلَكُمْ} معطوف على موضع رءوسكم وهو النصب, وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ولم يخطر ببالك أن ترد {وَأَرْجُلَكُمْ} إلى {وُجُوهَكُمْ} في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} ، بحكم آخر وهو قوله: "وامسحوا بوجوهكم"1، فإن الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك "إلى أن قال": وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية وإنما تحكي عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفتوى بعض الصحابة, لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين ومنها ما يوجب غسلهما.
وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح ولا كلام لنا معهم في هذا المقام؛ لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه, خارج عن صناعة التفسير"2؟!
وهكذا لما أعيته الحيلة وعجز عن رد أدلة الجمهور المستندة إلى فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- زعم أنها خارجة عن صناعة التفسير, وما درى أن فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقوله ما هو إلا التفسير الصحيح للقرآن الكريم.
إرث الأنبياء:
وقال في ميراث الأنبياء ما قال به المذهب الشيعي, ففسر قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3، بقوله: "أي: ورثه ماله وملكه وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري
__________
1 كذا وردت وهو لا شك يقصد: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} .
2 تفسير الميزان ج5 ص222.
3 سورة النمل, من الآية 16.(1/245)
الاكتسابي. والعلم الذي يختص به الأنبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر, فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر, ولا من غير نبي"1.
وكذا في تفسير قوله تعالى حكاية لقول عبده زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 2 نحا المؤلف في تفسيرها هذا النحو3.
نكاح المتعة:
والطباطبائي يجزم وبلا شك في جواز نكاح المتعة بناء على مذهبه, وها هو يفسر قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 4.
فيقول: "والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك, فإن الآية مدنية نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها, وهذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك -وقد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك- سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن, فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شك فيه، وكان اسمه هذا الاسم ولا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ.
فلا مناص من كون قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} محمولا عليه مفهوما
__________
1 تفسير الميزان ج15 ص349.
2 سورة مريم: الآيتان 4 و5.
3 لمعرفة الحق في هذا, انظر تفسير الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- لهذه المسألة في الفصل الأول: الاتجاه الفقهي في التفسير, من الباب الثاني ص431, فإنه أجاد وأفاد رحمه الله تعالى.
4 سورة النساء: من الآية 24.(1/246)
منه هذا المعنى كما أن سائر السنن والعادات والرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء, بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية ... فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية, سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة, أو لم نقل, فإنما هو أمر آخر.
وجملة القول أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة, وهو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة والتابعين, كابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة ومجاهد والسدي وابن جبير والحسن وغيرهم, وهو مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام"1.
ثم أنكر أن تكون هذه الآية منسوخة وتتبع الأقوال في نسخها وناسخها ورد عليها بمزاعم يطول ذكرها وتفنيدها، وقال بعد أن أورد التفسير الروائي للآية: "وأما حديث النسخ بالكتاب أو بالسنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى محصل, على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها, المجري للمنع المقرر حرمة العمل وحد الرجم لمن فعل"2.
وإن شئت الحق في هذه المسألة وغيرها من المسائل التي شذ بها الإمامية أو غيرهم من الفرق الضالة, فعليك بما ذكرته في تفسير أهل السنة والجماعة وفي منهج التفسير الفقهي, فقد جعلتهما ميزانا تزن به الأقوال الشاذة, وترجع إليهما عند التباس السبيل, والله الهادي.
__________
1 تفسير الميزان: محمد الحسين الطباطبائي ج4 ص271 و272.
2 المرجع السابق: ج4 ص299.(1/247)
التفسير العلمي:
نص المؤلف في مقدمة تفسيره على أنه سيجتنب في بياناته عن أن: "نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية أو إلى مكاشفة عرفانية"1.
والحق أنه التزم الابتعاد عن النظريات العلمية فندر أن أجد فيما اطلعت إليه من تفسيره حديثا عن هذه النظريات لا بالنفي ولا بالإثبات ومن النادر هذا ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2 فقال فيها:
"ثم إن هذه الأجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر والبعد والقرب "وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغه الفحص العلمي ما يعادل: 33 0.000000000000000000000000 من سنتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملايين من حجم الأرض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميل تقريبا, واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، والسنة النورية من المسافة تعدل: 365×24×60×60× 300000 كيلومتر تقريبا".
فانظر إلى هذه الأرقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر, واقض ما أنت قاض في غرابة الأمر وبداعته"3.
أقول: وإن هذه المعلومة العلمية التي قالها لم يذكرها من باب التفسير القائم على ألفاظ الآية, وإنما من باب الاستشهاد وقد أحسن -والحق يقال- بهذا الصنيع.
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص12.
2 سورة البقرة: الآية 164.
3 تفسير الميزان: ج1 ص396.(1/248)
رأيي في هذا التفسير:
قراءة قصيرة في هذا التفسير تدرك منها أول ما تدرك, أن هذا الكتاب لم يؤلف للعامة وإنما للعلماء نظرا لما فيه من أبحاث دقيقة عميقة, ويقال فيه ما قيل في تفسير الكشاف, أنه من أحسن التفاسير لولا ما فيه من الاعتزال, أما هذا التفسير فهو من أحسن التفاسير في العصر الحديث ولولا ما فيه من التشيع المتطرف.
ومن مزاياه هذه الأبحاث الواسعة الشاملة التي يوردها في تفسير بعض الآيات مستقصيا مستوفيا لأطراف القضية التي يبحثها, فمن ذلك مثلا تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآيات، فقد جاء تفسيره لها في 137 صفحة, وجاء تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2 الآيات في حوالي 70 صفحة وتفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} 3 الآيات في حوالي 86 صفحة, وغير هذا كثير.
وإني لأعجب حقا من هذه العقلية التي تغوص بك في عويص المعاني وتجلو لك غامض الحقائق أعجب منها إذا ما طفت إلى السطح كيف يلتبس عليها الأمر؟ وكيف تختلط عليها الحقائق وتلتبس السبل؟ وكيف تقبل هذه الخرافات والمهازل؟!
صحيح أن المؤلف أورد غالب هذه الأمور تحت عنوان بحث روائي, وصحيح أن المؤلف يجعل بعضها من أسلوب الجري الذي قال عنه:
"روايات الجري كثيرة في الأبواب المختلفة وربما تبلغ المائتين. ونحن بعد
__________
1 سورة المائدة: الآية 116.
2 سورة آل عمران: الآية 7.
3 سورة الأنعام: الآية 74.(1/249)
هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية؛ لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث, فليتذكر"1.
إن هذا التنبيه لا يعفيه من مسئولية إيرادها, ولا يبرئه من انحراف اعتقادها.
وليست هذه الروايات هي المأخذ عليه فحسب, بل يؤخذ عليه كل ما يؤخذ على العقيدة الإمامية, فما تفسيره إلا على مذهبها, وما منهجه إلا منهجها, ولعل في هذا غنى عن استعراضها.
رأيي في هذا المنهج:
وما مثلي وأنا أريد الحديث عن منهجهم في التفسير إلا كمثل رجل وقف أمام قصر منيف انهدَّ عموده فتساقطت أركانه, وانطمرت معالمه فلم يظهر إلا العيوب والفجوات.
لست أقول هذا تعصبا, ولست أقوله حقدا, ولكني أرى منهجا أسقط من حسابه العمود الذي تقوم عليه أصول التفسير وأركانه وهم يعترفون بهذا.
فقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- مبينا للقرآن الكريم, فقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2، وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
ولا يشك عاقل أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورضي الله عنهم, هم الذين تلقوا هذا البيان منه, وهم الذين نشروه بعد ذلك بين المسلمين كافة, فالطريق إليه لا يكون إلا عن طريقهم.
فإذا ما قامت فرقة وأعلنت أنها لا تثق بهذا المروي عن طريق الصحابة -رضي الله عنهم- فإنما تعلن جهلها وتعلن انحرافها وقد نقلنا نص أحد
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج1 ص42.
2 سورة النحل: من الآية 44.
3 سورة النحل: من الآية 64.(1/250)
علمائهم المعاصرين الذي صرح فيه بقوله: "إنهم لا يعتبرون من السنة "أعني الأحاديث النبوية" إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم, يعني ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين عن السبط عن أبيه أمير المؤمنين عن رسول الله, سلام الله عليهم جميعا. أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان الخارجي وعمرو بن العاصي ونظائرهم, فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة, وأمرهم أشهر من أن يذكر"1.
ولا أدري لِمَ خص هؤلاء بالذكر مع أنه في أول حديثه لم يعترف إلا بطرق أهل البيت، وما عداهم فلا يصح عندهم؟!
ولا شك أن طرق أهل البيت لو سلمنا جدلا صحتها كلها, فإنه لم ترد بها كل أحكام الإسلام؛ ولهذا النقص الكبير قامت طائفة، بل طوائف بسد هذا النقص بالروايات الموضوعة والافتراءات ونسبتها زورا وبهتانا إلى أهل البيت, إذ كيف يقصرون الناس على طرق غير وافية!
وأحسب أن هذا الانحراف في مصادر التشريع هو سبب كل انحراف في منهجهم هذا, إذا نظرنا إلى هذا المنهج نظرة من بُعد تظهره بصورة كاملة. وإذا ما قربنا الصورة إلى أعيننا ظهر لنا عدد من رجال الباطنية الذين أدخلوا في هذه العقيدة ما زادها شطنا عن الحق وأهله, وقد كنت أظنهم اندثروا وهلكوا فإذا بهم ما يزالون بين أظهر المسلمين, يتزيون بزيهم ويأكلون معهم.
وقد كنت إلى عهد قريب من أولئك المخدوعين بهم الذين يؤرق مضاجعهم ويقلق راحتهم أن يقوم على منبر أو يكتب في كتاب رجل فيذمهم ويكشف سترهم وكنت أقول: يكفي ما أصاب المسلمين من سهام الأعداء فلنتجه إليهم ولنترك خصوماتنا فيما بيننا, فإذا بي والأيام تكشف لي كيدهم ومكرهم وقرأت في كتبهم الحديثة قبل القديمة مما جعلني أوقن بأنه يجب أن نعلن الدعوة إلى الإسلام بين صفوفهم, في نفس الوقت الذي نعلنه عند غير المنتسبين إلى
__________
1 أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء ص79 و80.(1/251)
الإسلام إن لم يكن قبل ذلك, وأنه من الواجب أن نكشف خطرهم قبل أن نكشف خطر أولئك؛ إذ هم أشد وأنكى.
وليس المقام هنا مقام كشف لهذه الحقائق, ولكنه ومضة قصدت فيها لفت انتباه من لم ينتبه, فسيرى بعد ذلك الحقيقة.
عودة إلى منهجهم في التفسير:
قلت: إن عدم اعتبارهم لما رواه الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو مصدر انحراف منهجهم وسقوطه؛ ولذلك لجئوا إلى أمور عدة يسدون بها ما انثلم:
1- فرووا الروايات الموضوعة, ونسبوها إلى أئمتهم.
2- اعتبروا كل رواية لأحد أئمتهم تشريعا؛ لأنهم بزعمهم معصومون.
3- لم يساعدهم ظاهر القرآن الكريم على ما انتحلوه من آراء وانحرافات, فقالوا بالباطن وقالوا بالجري.
4- ولم تكف هذه الأمور كلها, فقالوا بتحريف القرآن الكريم وهم وإن أنكره بعضهم فإنما ينكره تقية؛ فكتبهم التي بها يؤمنون وبأقوالها يعتقدون, مليئة بروايات التحريف.
5- وقالوا بالتقية والرجعة والبداء والإمامة والعصمة ... إلخ، مما لا يقوم على الأصل ولا يستند إلى كتاب ولا إلى سنة صحيحة, هذا كله بل بعضه يكشف زيف منهجهم وضلاله وحين يعودون إلى القرآن الكريم ويعترفون -حقا- بسلامته من الزيادة أو النقصان وحين يعترفون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها أصحابه العدول الثقات حينئذ يكون الاتجاه السليم، بل بدايته وحينئذ يؤخذ من تفسيرهم ويرد, أما والحالة هذه فلا ولا كرامة.
وغني عن القول بعد هذا أن أصولهم في التفسير، بل في العقيدة كلها لا يقوم لها أصل ولا تقوم لها قائمة, ما دام عمودها منهدّا وركنها الأساس ساقطا, والله المستعان.(1/252)
الإسماعيلة
...
الإسماعيلية:
افترقت هذه الفرقة عن الإمامية الاثني عشرية بعد وفاة جعفر بن محمد الصادق, فقالت الاثنا عشرية بإمامة ابنه موسى الكاظم إلى اثني عشر إماما, فسموا بالإمامية الاثني عشرية، وقالت الإسماعيلية بإمامة ابنه إسماعيل فنسبوا إليه، وانتهى بوفاته دور الظهور وبدأ دور الستر فكانت الأئمة عندهم سبعة فلقبوا بالسبعية، وكان ابنه محمد المكتوم أول الأئمة المستورين عندهم. وهذا جدول لتوضيح تسلسل الإمامة عند فرق الشيعة الثلاث الاثني عشرية, والإسماعيلية، والزيدية:(1/253)
وإنما قال الإسماعيلية بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر؛ لأنهم يعتقدون أن جعفرا قد أوصى بالإمامة لابنه إسماعيل, وعندما توفي إسماعيل في حياة والده جعفر علموا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد.
وقويت شوكة هذه الطائفة في عهد المأمون وكان على رأسهم ميمون القداح مولى "جعفر الصادق"، حيث تظاهر وصحبه بحب آل البيت وادعوا الولاء التام والموالاة لهم وأعلنوا الإمامة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر الذي "اضطر إلى ترك مسقط رأسه المدينة المنورة, وهاجر إلى خوزستان "جنب غرب إيران"، ثم تركها إلى بلاد الديلم "جنوب بحر قزوين" ولم يسمع عنه شيء بعد ذلك1.
ولا نستبعد أن يكون ميمون القداح هذا هو الذي دبَّر هذه الخطة ليتولى أمور الدعوة من بعده، فقد زعم أنه ابن لمحمد بن إسماعيل بن جعفر هذا، ثم انتقلت أمور الدعوة من بعده إلى ولده عبد الله بن ميمون الذي كان يدعي علم الغيب والأسرار الروحانية والعلوم الخفية, ويزعم أنها انتهت إليه من جده محمد بن إسماعيل بن جعفر2.
واتخذ من بلدة "ساباط" مركزا لدعوته ثم انتقل إلى الشام ولم تلعب الإسماعيلية دورا سياسيا إلا بعد الانتقال من "دور الستر" إلى دور "الظهور".
وقد بدأ دور الستر بتولي محمد بن إسماعيل بن جعفر للإمامة, وقد اختلف في عدد الأئمة وترتيبهم في هذا الدور، واستمر دور الستر هذا إلى ظهور عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية في أواخر القرن الثالث الهجري وبه يبدأ دور الظهور.
وانبثق عن هذه الفرقة فرق باطنية أخرى كالقرامطة والنصيرية والدروز، بل ينسب إليها فرق باطنية أخرى حدثت, وما تزال تحدث في العصور المتأخرة
__________
1 طائفة الإسماعيلية: محمد كامل حسين ص14.
2 إخوان الصفاء: عمر الدسوقي ص20.(1/254)
كالبابية والبهائية والقاديانية وما يسمى بالرسالة الثانية التي عانى وما زال يعاني منها المسلمون الأذى الشديد.
وأصبحت هذه الفرق كلها تعرف باسم الحركات الباطنية, وهم جميعا كما وصفهم العلماء: "ظاهر مذهبهم الرفض, وباطنه الكفر المحض".
وأمر مؤلفاتهم اشتهر حتى لا يكاد يخفى على ذي معرفة ذلكم التستر الشديد والتكتم الذي يسدلونه على مؤلفاتهم وكتبهم, وأشار إلى ذلك كل من كتب عنهم شيئا, لا فرق بين من يؤيدهم ومن يخالفهم, فكلاهما يلاقي العناء الشديد في ذلك.
وقد اعترف أحد الدارسين عنهم وهو منهم بقوله: "وأعترف أني أثناء دراساتي الطويلة عن الإسماعيلية لم أقابل شيخا غيره عنده رغبة صادقة في إعارة كتبه أو تقديم يد المعونة لمن يدرس عقائد الفاطميين وتاريخهم وفقههم"، إلى أن قال: "ونرجو مخلصين أن تزول التقية والستر؛ فقد أصبحا لا قيمة لهما الآن"1.
وتحدث في موضع آخر عن إحدى النسخ المخطوطة لكتاب يحققه, فقد مكث ثماني سنوات ونصف في البلد الذي توجد به النسخة عند أحد أصدقائه الإسماعيليين, ولم يسمح له برؤيتها إلا ساعة من الزمان برقابة ابنه في مقره الرسمي2.
ولست بهذا أريد دفاعا عن نفسي وتبريرا لعجزي, ولكني أحكي واقعا عاناه كبار الباحثين المتخصصين مع صلتهم وصداقتهم بأصحاب المخطوطات, وإقامتهم معهم.
وقد بحثت ونقبت كثيرا عن كتب الإسماعيلية بل الباطنية عامة قديما وحديثا, وقد حصلت على مجموعة من مؤلفاتهم, والعجيب أني لم أجد لهم كتابا في
__________
1 من مقدمة آصف بن علي أصغر فيضي, لتحقيقه كتاب دعائم الإسلام: النعمان بن حيّون ج1 ص15.
2 المرجع السابق ج1 ص21.(1/255)
التفسير لا في القديم ولا في الحديث، بل إن بعض مؤلفاتهم خاصة الحديثة منها, تقرؤها من أولها إلى آخرها فلا تجد فيها آية, ولا حديثا, والحمد لله على ذلك.
وكل من كتب عن التفسير لدى الأقدمين منهم فإنما التمس نصوصا بين ثنايا مؤلفاتهم لم يفردوها بحديث ولم يقصدوا ذلك, بل عرضت لهم عرضا فقالوا بتفسيرها حسب ما يلائم عقائدهم.
وفي البابية والقاديانية مثل هذه النصوص, لكن أصحابها ليسوا من أهل القرن الرابع عشر. وقد وعد الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- تفسير البابية مثالا للتفسير الباطني, فأورد1 منه جملة مبثوثة في بعض كتبهم.
ولئن أخذنا مفهوم الباطنية هذا وجعلناه يشمل كل فرقة انحرفت عن الإسلام وظهر إلحادها وتأويلاتها الضالة مع زعمها الانتماء إليه والالتزام به, خاصة إذا رأينا كثيرا من العلماء والمؤرخين مجمعين على أن فرق النصيرية والدروز والإسماعيلية كلها يجمعها "الفرقة الباطنية" مع أن فيما بينها اختلافا كبيرا في اعتقادها وتباينا ظاهرا في معبوداتها ويضمون إليها البابية والبهائية والقاديانية وهي كذلك أيضا, فإنا نعتقد بوجوب ضم طائفة جدّت في القرن الرابع عشر ولها أتباع ومؤلفات وكادت أن تكون لها دولة, لولا أن قيض الله للإسلام والمسلمين من أنقذهم من ذلك, أعني أتباع ما يسمى بـ"الرسالة الثانية" وداعيتها المتنبي المزعوم محمود طه. فإن كان الأمر كذلك فإني سأشير سريعا إليه كمثال للتفسير الباطني في العصر الحديث, وحسبك به من باطني.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص264-279.(1/256)
الجمهوريون:
وهذا الاسم مما يطلقه أتباع محمود محمد طه على أنفسهم ويطلقون على أنفسهم اسم: "المسلمون" وعلى دعوتهم: "الرسالة الثانية" ودجالهم محمود طه من متطرفي الباطنية والمتصوفة الذين ينكر أفعالهم وأقوالهم كل أحد حتى الصوفيون المعتدلون، أظهر أفكاره ودعوته في السودان.
وتقوم دعواه على الزعم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين بعث في مكة جاء بالإسلام، ولما تبين له أن الناس في هذا الوقت لا يطيقون تلقي الإسلام1 انتقل إلى المدينة ودعا إلى الإيمان فأجابوه, فالرسول صلى الله عليه وسلم -بزعمهم- إنما جاء بالإيمان وفصله للناس. أما الإسلام فلم يقع في حقه التفصيل بل جاء به مجملا, وزعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو طليعة المسلمين المقبلين فكأنما جاء لأمته "المؤمنين" من المستقبل, فهو المسلم الوحيد بينهم كما أن أبا بكر طليعة المؤمنين وكان بينه وبين النبي أمد بعيد.
وسمى دعوته هذه بـ"الرسالة الثانية" لزعمه أن الرسالة الأولى المحمدية كانت للإيمان، والرسالة الثانية للإسلام. ووصف الأولى كما جاء في عنوان أحد كتبه "الرسالة الأولى لا تصلح للقرن العشرين"، فالرسالة الثانية بزعمه ناسخة للرسالة الأولى.
وقال عن الرسالة الثانية: "الرسالة الثانية هي الإسلام وقد أجملها المعصوم إجمالا, ولم يقع في حقها التفصيل إلا في التشاريع -كذا- المتداخلة بين الرسالة الأولى وبينها, كتشاريع العبادات وتشاريع الحدود"2.
__________
1 رسالة الصلاة: محمود محمد طه 68؛ والرسالة الثانية من الإسلام: محمود طه ص121.
2 الرسالة الثانية: محمود محمد طه ص142.(1/257)
وينكر أن الدين قد كمل, وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين القرآن.
ويزعم أن الأمة الإسلامية لم تظهر بعد وهي مرجوة -كذا- الظهور في مقبل أيام البشرية وسيكون يوم ظهورها يوم الحج الأكبر, وهو اليوم الذي يتم فيه الخطاب الرحماني بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 1، 2، وأن دخول الإسلام مرتبة لم تتحقق في المجتمعات الماضيات إلا للأنبياء حتى هؤلاء قصر عنهم بعضهم "!!! " كما يحدثنا القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} 3، 4 الآية، فهذا الدجال قد فهم من قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أن هناك أنبياء لم يسلموا وهذا سوء فهم وسوء معتقد؛ لأن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} وصف للنبيين يبين ما كانوا عليه، وليس للاحتراز من أنبياء غير مسلمين, فالوصف هنا للبيان لا للاحتراز؛ وذلك لأن الدين عند الله الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 5، فكيف يبتغي هؤلاء الأنبياء غير الإسلام دينا ومن ابتغى سواه فهو من الخاسرين؟!
ذلكم إجمال نظرته إلى الإيمان وإلى الإسلام, ونظرته إلى موقع دعوته المزعومة من الإسلام.
وبعد أن ألزمت نفسي بقراءة كثير من كتبه والردود عليه, ظهر لي رأي فيه وفي دعوته لم أجد من أظهره وأبرزه عند الحديث عنه, ولعل ما توصلت إليه يكشف جانبا من أهداف دعوته الباطنية, فلئن كان يقف خلف الباطنية الأولى اليهودي عبد الله بن سبأ فلعل ابن سبأ نصراني يقف خلف دعوة الباطنية في
__________
1 سورة المائدة: آية 3.
2 الرسالة الثانية: محمود محمد طه ص147 و148.
3 سورة المائدة: آية 44.
4 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص69.
5 سورة آل عمران: الآية 85.(1/258)
العصر الحديث وما أكثر السبئيين, خاصة إذا علمنا أن الإفساد1 البريطاني كان وراء الدعوات الباطنية في العالم الإسلامي كالقاديانية والبابية والبهائية وكل ما من شأنه نشر الإلحاد والفساد في العالم الإسلامي, بل وزرع اليهود في أرض المسلمين.
أعود فأقول: إذا علم هذا, فليس بمستغرب أن يقف هؤلاء أو غيرهم من "سبئية" النصارى خلف دعوة محمود طه. ذلكم أن الدعوة الإسلامية تقوم على الوحدانية لله سبحانه وتعالى وتختلف عنها عقيدة النصارى فتقوم على عقيدة "التثليث", وإذا نظرنا بتأمل إلى عقيدة محمود طه هذا وجدناها تقوم على "الثنائية" في كل شيء, وكأنها تريد أن تشكك في الوحدانية فتستعد للتثليث وجاءت الثنائية هذه في كثير من عقائد الجمهوريين هؤلاء.
فجاءت الثنائية بزعم وجود إلهين, واحد في السماء وآخر في الأرض وإله الخير وإله الشر, وأن الله والرحمن إلهان متحدان في واحد, وقال بوجود ذاتين ذات قديمة وذات حادثة, وإرادتين واحدة للخير وأخرى للشر, وأن الله واحد وله شركاء في نفس الوقت2.
وجاءت بزعم أن ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- هو "الرسالة الأولى" وما سيأتي بأنه "الرسالة الثانية" وهو يكتب ويشرح عقائد الرسالة الثانية, وكأنه النبي الذي جاء بها؟!
وجاءت بزعم أن الإسلام إسلامان: إسلام أولي هو إسلام الأعراب الذين قالوا: {آمَنَّا} ورد عليهم القرآن: {قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 3، ثم الإيمان الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- يليه الإسلام الثاني، وهو الذي حان وقته في هذا العصر, فالإسلام إسلامان4.
__________
1 ويسميه بعض الناس "الاستعمار" وما هو بذاك.
2 جريدة المدينة, العدد 5634، مقال "دجال السودان" بقلم: سعد حسن لطفي ص8، الجمعة 8/ 11/ 1402هـ.
3 سورة الحجرات: من الآية 14.
4 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص68 و69.(1/259)
وجاءت الثنائية بزعم أن للقرآن الكريم معنيين: معنى ظاهرا ومعنى باطنا.
وجاءت الثنائية في مفهوم الصلاة, فالصلاة بالمعنى القريب هي الصلاة الشرعية ذات الحركات المعروفة1, وهي للذي يمر بمرحلة الإيمان الذي هو مرتبة الأمة الأولى, فالصلاة الشرعية في حقه فرض له أوقات يؤدى فيها، وحين يرتفع السالك إلى مرتبة الأصالة ويخاطب بالاستقلال عن التقليد ويتهيأ ليأخذ صلاته الفردية من ربه بلا واسطة تأسيا بالمعصوم ... فهو حينئذ لا تسقط عنه الصلاة وإنما يسقط عنه التقليد ويرفع من بينه وبين ربه بفضل الله، ثم بفضل كمال التبليغ المحمدي الحجاب الأعظم ... الحجاب النبوي2.
ولتوضيح هذه العبارات أقول: إن عقيدته تقوم على أن أمة المؤمنين هم أمة التقليد, فهم يتلقون الأوامر الإلهية بواسطة النبي. أما أمة المسلمين فهم كالأنبياء يتلقون من الله مباشرة فهم أمة التلقي, فإذا انتقل الإنسان من التقليد وسقط عنه ما سماه "الحجاب الأعظم" حجاب النبوة, أصبح يتلقى الأوامر من ربه مباشرة وأصبح في حدود الشريعة الفردية وخرج من الشريعة الجماعية: "وتكون شريعته الفردية من الله بلا واسطة, فتكون له شهادته وتكون له صلاته وصيامه وزكاته وحجه, ويكون في كل أولئك أصيلا"3، وله بعد ذلك أن لا يفعل شيئا من هذه العبادات؛ لأنه بزعمهم يتلقى الأوامر من الله مباشرة, ومن الذي يستطيع أن يحتج عليه بتشريعات أمة التقليد؟! ولهذا عرف عن محمود طه هذا أنه لا يصلي, وليس هذا بمستغرب منه.
وجاءت الثنائية بمفهوم العقل, فالعقل عنده عقلان: العقل الواعي والعقل الباطن4، والعلم عنده علمان: علم الظاهر وهو علم آيات الآفاق وعلم يقين وهو علم آيات النفوس وهو لابد آتٍ, ولكن الوقت بطبيعة الحال طرف فيه
__________
1 المرجع السابق: ص74.
2 المرجع السابق: ص84 و85.
3 المرجع السابق: ص78.
4 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص32.(1/260)
وهو لم يجئ بعد ذلك بأن "حكم الوقت" فيما مضى من تاريخ البشرية لم ينضح ليقضي بمثل هذا اليقين وإنه لآتٍ لا رب فيه, وبمثل هذا اليقين يجيء العلم الذي هو سبب الرزق1.
وجاءت الثنائية بمفهوم الساعة. قال محمود طه: "والساعة ساعتان: ساعة التعمير وساعة التخريب ... فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء إلى ربها حسا ومعنى, وليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ... يومئذ يظهر الإسلام على جميع الأديان ...
وأما ساعة التخريب فهي لحظة مجيء المسيح للمرة الثانية ليرد الأشياء إلى الله حسا وقد أبطأ المعنى وذلك: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 2، والساعتان منضويتان في بعضهما في سياق القرآن فهو عندما يقول: "الساعة" إنما يعني المعنى القريب للساعة وهي ساعة التعمير والمعنى البعيد للساعة وهي ساعة التخريب, وإنما يقع التمييز بينهما عند القادرين عليه بفضل الله, ثم بفضل التفريد في التوحيد"3.
وجاءت الثنائية أيضا في الزواج, وهما عنده: الزواج في الحقيقة والزواج في الشريعة، وقال: عامله الله بعدله عن الزواج في الحقيقة أنه زواج الإنسان الكامل بالله، وقال: "وتكون ثمرة العلاقة بين الذات القديمة وزوجها -الإنسان الكامل- المعارف اللدنية"4، أما الزواج في الشريعة فهو الزواج المعروف بين الرجل والمرأة.
وإذا ضممنا إلى هذه المبادئ تقسيمه الإسلام إلى قسمين: "مرحلة الإيمان" الرسالة الأولى، و"مرحلة الإسلام" الرسالة الثانية, وقوله: "فأما مرحلة
__________
1 الدين والتنمية الاجتماعية: محمود طه ص14 و15.
2 سورة الأنبياء: الآية رقم 104.
3 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود محمد طه ص180.
4 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود محمد طه ص59 و60.(1/261)
الإيمان -ويقصد بها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم- فهي مرحلة أقرب إلى بدائية اليهود، ومرحلة الإسلام -ويقصد بها دعوته- فهي أقرب إلى روحانية النصرانية1.
فإذا قارنا بين عقيدة النصارى في أن الله هو المسيح عيسى ابن مريم واعتقاد هذا الدجال أن الله هو الحقيقة المحمدية أي: الإنسان الكامل واعتقاد النصارى أن الله هو زوج مريم، واعتقاد الدجال أن الله زوج نساء البشر، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإذا ضممنا هذا إلى ذلك, فإن العلاقة تبدو لي واضحة أن هناك قوى نصرانية ذات نفوذ تقف خلف هذا الدخال, خاصة إذا علمنا أن أحد العلماء صرح بأن موظفي الإذاعة والتليفزيون قالوا له: إنهم يؤيدونه ضد الدجال وإنهم يكرهونه ولكنهم موظفون ويخافون على وظائفهم، وقال له بصراحة: إن الحكومة السودانية أعطت الدجال حصانة وجعلته فوق القانون, فلا يحاكم ولا ينشر أو يذاع نقد لدعوته2.
قال هذا في فترة من الفترات, لكنه حُوكم قبلها عدة مرات وحكم عليه بالردة ومع هذا فلم ينفذ شيء من هذه الأحكام. وهو الآن بحمد الله في سجون السودان بعد إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية وما زلنا ننتظر تطبيقها عليه وعلى أتباعه.
__________
1 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود طه ص168.
2 جريدة المدينة, العدد 5634، مقال "دجال السودان" بقلم: سعد حسن لطفي ص8، الجمعة 8/ 11/ 1402هـ.(1/262)
يفسروا القرآن الكريم وفق نظرياتهم مهما أوتوا من الجرأة على التحريف والتبديل في معانيه, وقد يجدون أنفسهم بعد هذا بحاجة إلى الزعم بتحريف القرآن فيلجئون إليه, أو يعرضون عن تفسيره كاملا فيريحون ويستريحون.
وليس من السهل وقد يكون ليس في الإمكان استخراج منهج كامل لمسالك هذه الطريقة في تفسير القرآن الكريم, وإنما يمكن فيما أرى رسم خطوط عريضة لطريقته في التفسير.
فإن كان الأمر كذلك, فإني أحسب الخطوط العريضة لطريقة محمود طه هذا في تفسير القرآن الكريم لا تختلف اختلافا كبيرا عن سلفه الباطنيين.
فهو مثلا لا يلتزم تفسير القرآن الكريم بالمأثور في شتى أنواعه من تفسير القرآن بالقرآن أو بأقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أقوال أصحابه -رضي الله عنهم- أو أقوال التابعين, رحمهم الله تعالى.
ويفسر القرآن الكريم بما يخالف قواعد اللغة العربية, وأحيانا بما يتعارض معها.
ويقول بالتفسير الباطني للقرآن الكريم, ويأتي من المعاني لآيات القرآن الكريم على ضوء هذا المعنى عنده بما لا يستند إلى كتاب, ولا إلى سنة, ولا إلى لغة.
ويستشهد بأقوال غلاة الصوفية ويورد أقوالهم ويعتقد بوحدة الوجود.
هذا كله مع الآراء والاعتقادات الجديدة التي جاء بها والتي أراد أن يفسد بها شريعة الإسلام بما زعمه تطوير الشريعة وما أدخله من عقائد زعمها عقائد الإسلام, وما هي إلا عقائد الكفر والضلال ولعلي أذكر بعد هذا أمثلة من هذه التفاسير الضالة.
ثنائية الإله:
قلنا آنفا: إنه يعتقد بالثنائية حتى في الإله الذي اتفق المسلمون على وحدانيته, فهو يعتقد أن الرحمن هو إله الأرض, وأن الله هو إله السماء وهما إله(1/263)
واحد فقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} 1: "فإله الأرض إله الإرادة ... وإله السماء إله الرضا ... وإله الأرض الرحمن ... وإله السماء الله ... وإنما هو إله واحد"2.
وقال: "اسم الله يطلق على معنيين أيضا: معنى بعيد وهو ذات الله الصرفة وهي فوق الأسماء والصفات, ومعنى قريب وهو مرتبة البشر الكامل الذي أقامه الله خليفة عنه في جميع العوالم وأسبغ عليه صفاته وأسماءه حتى اسم الجلالة "!! " فكلمة الله حيث قيلت تشير إلى هذين المعنيين"3، وأكد هذا القول في موضع آخر حيث قال: "الله هو الإنسان الكامل "!! " الذي ليس بينه وبين ذات الله المطلقة أحد وهو بين الذات وبين سائر الخلق, وهو الذي يتولى حسابهم نيابة عن الله, وهذا الإنسان الكامل المسمى الله هو المعني في المكان الأول بقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} 4.
وقد فسر هذه الآية في مواضع عديدة من كتبه ومؤلفاته, فقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ} الإشارة هنا إلى الكافرين والمنافقين, والمعنى: ما ينتظرون, قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} يعني "الإنسان الكامل" يعني "الحقيقة المحمدية" قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} يعني يأتيهم مجسدا في الدم واللحم, وتلك إشارة لمجيء المسيح, قوله: {وَالْمَلائِكَةُ} إشارة إلى أعوان المسيح ... وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} إشارة لساعة مجيئه, قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} إشارة إلى الكمالات التي تظهر بمجيء المسيح وأعوانه, وهي الكمالات التي بها تملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا"5.
وإذا تأملت بعد ذلك في أقوال رأيت ما هو أعجب وأعجب, فهو يقرر في
__________
1 سورة الزخرف: الآية 84.
2 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود طه ص21.
3 جريدة المدينة, الرسالة الثانية مستمدة من الفكر الكنسي المحرف بقلم: سعد حسن لطفي, العدد 5768 في الجمعة 23/ 3/ 1403هـ عن كتاب رسائل ومقالات: محمود طه ص26.
4 المقال السابق: عن كتاب رسائل ومقالات: محمود طه ص29.
5 القرآن ومصطفى محمود: محمود طه ص45.(1/264)
أحد كتبه: "كما كانت عقيدة التعدد عقيدة إسلامية, وكلاهما قد كان مرادا ومرضيا من الله"1, ويقول: "قد مر وقت كانت فيه عبادة الصنم مرضية عند الله, وذلك بحكم الوقت"2!!
وقال أيضا عن الطاقة المتولدة عن انفلاق الذرة: "هذه القوة الهائلة هذه الطاقة إرادة الله ... هي الله"3، وله نصوص أخرى كثيرة من هذا النوع, مما يدل على انحراف عقيدته وتخبطه وضلاله.
ومن تخبطه أيضا قوله: "إنك إن أشركت بالله غيره فأنت ضال, وإن نزهته عن الشريك فأنت ضال"4 ويقول: "إن الله تبارك وتعالى قد خلقنا على صورته"5، وقال عن الله عز وجل: "فهو لا يسمى ولا يوصف ومن ثم لا يعرف ... ولولا أنه تقيد في منزلة الاسم "الله" لما كان إليه من سبيل"6، وقال: "إنه من الكفر أن ننفي النقص عن الله؛ لأن تصورك للنقص ذنب في حد ذاته"7، وقال: "إن أسماء الله هي قيد والله لا قيد له؛ ولذلك فإن ذكر الأسماء لله كفر صريح"7.
الصلاة:
وله فهم جديد لكلمة {مَوْقُوتًا} من قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} 8، فهو يعقد بحثا عنوانه: "الصلاة بين المؤمن والمسلم"،
__________
1 الدين والتنمية الاجتماعية: محمود طه ص4.
2 القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري: محمود طه ص168.
3 الدين والتنمية الاجتماعية: محمود طه ص7.
4 القرآن ومصطفى محمود: محمود طه ص38.
5 المرجع السابق: ص42.
6 المرجع السابق: ص44.
7 جريدة المدينة, العدد 5768 الجمعة 23/ 3/ 1403, مقال الرسالة الثانية: سعد لطفي ص10.
8 سورة النساء: من الآية 103.(1/265)
ويعني بالمؤمن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبالمسلم أتباعه, ويقول: "ماذا يكون من أمر آية: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ؟ فاسمع إذن: المقصود هنا الصلاة الشرعية و {كِتَابًا مَوْقُوتًا} يعني فرضا له أوقات يؤدى فيها و {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} مرحلة أمة البعث الأول وهي الأمة التي تعيش في أخريات "كذا" أيامها, وقد ندبت لتواصل سير ترقيها وتطورها إلى "أمة المسلمين".
إلى أن قال: "ويصبح شأن الآية: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} مع المسلم الذي يمر بمرحلة الإيمان الذي هو مرتبة الأمة الأولى أن الصلاة الشرعية في حقه فرض له أوقات يؤدى فيها, فإذا ارتقى بحسن أدائها بتجويده تقليد المعصوم حتى ارتقى في مراقي الإيقان ... حتى بلغ حق اليقين وسكن قلبه واطمأنت نفسه فأسلمت, طالعه المعنى البعيد لكلمة {مَوْقُوتًا} في الآية: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وذلك المعنى في حقه هو أن الصلاة الشرعية فرض له وقت ينتهي فيه وذلك حين يرتفع السالك إلى مرتبة الأصالة ويخاطب بالاستقلال عن التقليد ويتهيأ ليأخذ صلاته الفردية من ربه بلا واسطة "!! " تأسيا بالمعصوم ... فهو حينئذ لا تسقط عنه الصلاة وإنما يسقط عنه التقليد ويرفع من بينه وبين ربه بفضل الله ثم بفضل كمال التبليغ المحمدي الحجاب الأعظم, الحجاب النبوي"1.
ولا تفهمن من قوله: "فهو حينئذ لا تسقط عنه الصلاة" أنه لا يسقطها، بل هو يسقط الصلاة المعروفة ذات الحركات والقيام والركوع والسجود عمن ارتقى من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام وإلا فما معنى قوله: إن الصلاة الشرعية فرض له وقت ينتهي فيه, وذلك حين يرتفع السالك إلى مرتبة الأصالة"؟
فالصلاة الشرعية صلاة المقلدين, أما صلاته هو فصلاة الأصالة ولكل فرد صلاته الخاصة التي يتلقاها عن ربه مباشرة كما يزعمون, وهذا ولا شك منتهى الكيد للإسلام والمسلمين, كيف لا وهم يريدون هدم عموده؟
__________
1 رسالة الصلاة: محمود محمد طه ص84 و85.(1/266)
الزواج:
وقد احترت في اختيار عنوان لهذا البحث, ذلكم أنه تحدث فيه عن الذات الإلهية، وأنها هي النفس الواحدة "!! " وتحدث عن الزواج في الحقيقة والشريعة, وزعم زواج الله بالإنسان والعياذ بالله وعن خطيئة آدم وأنها الزنى بحواء قبل أن تباح له في الشريعة؟! كل هذه وغيرها مما ألحد فيه في هذا المبحث واخترت له العنوان الذي اختاره له صاحبه لا لشيء إلا لتنظر تشتّت الأفكار في مؤلفاته.
ففي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} الآية1، قال: "وهذه النفس الواحدة هي في أول الأمر وفي بدء التنزل نفس الله تبارك وتعالى, هي الذات القديمة التي منها تنزلت الذات الحادثة وتلك هي الإنسان الكامل "الحقيقة المحمدية" والإنسان الكامل هو أول قابل لتجليات أنوار الذات القديمة -الذات الإلهية- وهو من ثم زوجها ... وإنما كان الإنسان الكامل زوج الله؛ لأنه إنما هو في مقام العبودية ... ومقام العبودية مقام انفعال في حين أن مقام الربوبية مقال فعل ... فالرب فاعل والعبد منفعل ثم تنزلت من الإنسان الكامل زوجته فكان مقامها منه مقامه هو من الذات, فهي منفعلة وهو فاعل ... وهذا هو في الحقيقة مستوى العلاقة "الجنسية" بين الرجل والمرأة ... وحين يكون إنجاب الذرية هو نتيجة العلاقة "الجنسية بيننا وبين نسائنا {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} تكون ثمرة العلاقة بين الذات القديمة وزوجها -الإنسان الكامل- المعارف اللدنية"2.
ثم تحدث عن الزواج في الشريعة بعد أن أفاض الحديث عن الزواج في الحقيقة فقال: "أسلفنا القول عن الزواج في الحقيقة, وندخل الآن على الزواج في "الشريعة" ونبدأ بأن حواء قد كانت زوج آدم في الحقيقة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، ففي هذا المقام فإن
__________
1 سورة النساء: من الآية الأولى.
2 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود محمد طه ص59 و60 باختصار.(1/267)
النفس الواحدة هي نفس آدم الإنسان الكامل الذي أقيم مقام الخلافة, وإنما كانت حواء زوج آدم في هذا المقام؛ لأنها تنزل عنه {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فهي انبثاق نفسه عنه خارجه ... ثم إنه لما كان آدم أول رسول شريعة من رسل التوحيد, فقد أراد الله له ولزوجه أن يكونا زوجين في الشريعة ... ومن أجل ذلك فقد نهاه أن يتصل بها قبل أن تحلل له بالشريعة. وإلى ذلك الإشارة بقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ... وقد جاءت هذه الإشارة في سياق هو في غاية الإمتاع والروعة يقول تعالى فيه: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 1 الآيات ... قوله: {وَيَا آدَمُ} يعني الخليفة يعني الإنسان الكامل {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} يعني زوجك في الحقيقة "الباطنة" والتي سيتم اقترانك بها في شريعتك "الظاهرة" فتنطبق بذلك الصنيع شريعتك وحقيقتك وظاهرك وباطنك ... ولكن قبل أن يتم هذا الاقتران الشرعي يجب أن لا تقربها وقد وردت الإشارة اللطيفة إلى ذلك بقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فإنكما إن تفعلا تكونا من {الظَّالِمِينَ} المعتدين على حد الشرع. وهذه إشارة إلى أول الشرائع التي بدأ الإنسان يرتفع بها في مراقي النفوس وجاءت منظمة للغريزة الجنسية ... و {الشَّجَرَةَ} هنا لها درجات من المظاهر: أولها وأدناها لآدم نفسه التي بين جنبيه.. ثم هي في تنزلها عنه شهوة نفسه هذه إلى الجنس ... ثم هي حواء ... ثم هي شجرة التين فإن شجرة التين إنما هي رمز النفس الأمارة.. وإنما نهي عنها لئلا تقوى بأكلها نفسه الحيوانية فتتكثف وتغلظ فلا تطيعه على التصعد باتباع الأمر الشرعي واجتناب النهي الشرعي ... فشجرة التين هي الشجرة المعنية في الظاهر فلما وقع الخلاف بأكلها تلاحقت حلقات السلسلة حتى وقع الخلاف بالمماسة, فتغشى زوجه بغير شريعة "!! " وحلقات هذه السلسلة المتلاحقة طويت في عبارة: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} والإشارة بقوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}
__________
1 سورة الأعراف: من الآيتين 20 و21.(1/268)
إنما هي للأعضاء التناسلية فقد كانت محجوبة عنهما بنور البراءة والتقى, فظهرت بظلام الإثم والمخالفة قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} إشارة إلى الحجاب الذي أملاه الخزي الذي صاحب الخطيئة"1.
ويظهر في تفسيره هذا تخبطه في عقيدة الإيمان بالله وتفسيره الباطني الذي يصله بأصول فرق الباطنية وأحسب أن أمر بطلان هذا التفسير واضح بين لا يحتاج القارئ لمثل هذا البحث إلى إيراده؛ لأن إبطاله وهدمه معلوم من الشريعة بالضرورة, وتنكره الأصول قبل الفروع.
الحجاب:
وهو يزعم أن الأصل في الإسلام السفور وليس الحجاب, ويقول: "الحجاب ليس أصلا في الإسلام والأصل في الإسلام السفور؛ لأن مراد الإسلام العفة وهو يريدها عفة تقوم في صدور النساء والرجال لا عفة مضروبة بالباب المقفول, والثوب المسدول"2.
ويفسر قوله تعالى عن آدم وحواء -عليهما السلام- لما أكلا من الشجرة وبدت لهما سوآتهما: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} بقوله الذي نقلناه آنفا: "إشارة إلى الحجاب الذي أملاه الخزي الذي صاحب الخطيئة, وقد تحدثنا عن ذلك في موضعه من كتابنا "الرسالة الثانية من الإسلام" تحت عنوان "الحجاب ليس أصلا في الإسلام"3.
وإذا رجعنا إلى الموضع الذي أشار إليه وجدناه يقول هناك: "فأخذا يستران عوراتهما بورق التين يومئذ بدأ الحجاب, فهو نتيجة الخطيئة وسيلازمها حتى يزول بزوالها إن شاء الله -هكذا يقول ويتمنى- ومن ذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} ، وهو يعني قد خلقناكم
__________
1 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود طه ص64-66 باختصار.
2 القول الفصل في الرد على محمود طه: حسين زكي ص116؛ عن الرسالة الثانية: محمود طه ص129.
3 تطوير شريعة الأحوال الشخصية: محمود طه ص66.(1/269)
وفرضنا عليكم لبس ثياب القطن والصوف وغيرهما مما يواري عوراتكم ... وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} يعني التوحيد والعفة والعصمة المودوعة في قلوبكم قوله: {ذَلِكَ} يعني إلباس العفة {خَيْرٌ} من إلباس القطن"1.
الإباحية المطلقة:
ويستدل بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية2, على الإباحية المطلقة فيقول: وكلما استقامت السيرة ضاقت لذلك دائرة المحرمات وانداحت دائرة المباحات على قاعدة الآية الكريمة: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} 3 فإذا استمر السير بالسائر إلى نهايته المرجوة وهي تمام نقاء السريرة وكمال استقامته بالسيرة عادت جميع الأعيان المحسوسة إلى أصلها من الحل, وانطبقت الآية الكريمة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 4.
واستدلاله هذا ينبئ عن جهل تام بأسباب النزول وتحريف لآيات الله, ذلكم أن هذه الآية نزلت فيمن شرب الخمر من المؤمنين ومات قبل تحريمها، فقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما: "لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله, فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية"5.
__________
1 القول الفصل في الرد على محمود طه: حسين زكي ص116.
2 سورة المائدة: من الآية 93.
3 سورة النساء: من الآية 147.
4 سورة المائدة: الآية 93.
5 قال الأستاذ أحمد شاكر، رحمه الله تعالى: "إسناده صحيح, رواه أحمد في مسنده: 2088، 2452، 2691 مطولا، 2775، ورواه الترمذي في السنن "كتاب التفسير" وقال: هذا حديث حسن صحيح", ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 143 وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي وقال: "صحيح" "تفسير الطبري ج10 ص577".(1/270)
وما كنت لأرد عليه لولا أن هذه الشبهة قد تلتبس على بعض الأبصار فأردت بيان حقيقتها، وإلا فقد جاء بما هو أعظم فرية وأكثر انحرافا وإلحادا, ولم أعمد إلى الرد عليه؛ لأن الحق فيه واضح معلوم بالضرورة من الشريعة التي يزعم الانتساب إليها.
الظلم:
وقد ورد عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تفسير الظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 بأنه الشرك. ولم يرتض محمود طه هذا التفسير مع علمه بوروده عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحته, وجاء بتفسير جديد قال: "ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، شق على الناس فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ فقال: "إنه ليس الذي تعنون ... ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بنيّ لا تشرك بالله, إن الشرك لظلم عظيم""2، فسري عنهم لأنهم علموا أنهم لم يشركوا مذ آمنوا ... والحق أن المعصوم فسر لهم الآية في مستوى المؤمن"!! " وهو يعلم أن تفسيرها في مستوى المسلم فوق طاقتهم, ذلك بأن الظلم في الآية يعني الشرك الخفي, على نحو ما ورد في آية سر السر: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} 3، 4.
ولا يخفى ما في هذا التفسير من مخالفة لبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الزعم بأنه فسر لهم الظلم على مستوى المؤمنين ولم يفسره لهم على مستوى المسلم فأمر باطل منكر؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- جاء بدين واحد
__________
1 سورة الأنعام: الآية 82.
2 صحيح البخاري: كتاب التفسير ج6 ص20؛ صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص114 و115.
3 سورة طه: الآية 111.
4 القول الفصل: حسين محمد زكي ص65 و66 عن الرسالة الثانية: محمود طه ص122.(1/271)
كامل, الخطاب فيه لأول الأمة خطاب لآخرها، بل جعل أصحابه هم القدوة التي يقتدى بهم، وما عدا ذلك فمحض افتراء.
المؤمن والمسلم:
ويقول في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1: فيه إشارة لطيفة جدا إلى أن المسلمين الذين يجيئون بعد المؤمنين ثم يكونون خيرا منهم2.
وبعد:
هذه إلمامة سريعة لأفكار محمود طه وتفسيراته الزائغة، ولست بأول من صنفه مع الباطنية، بل سبقني إلى ذلك علماء أعلام ممن رد عليه، فقد قال الأستاذ سعد حسن لطفي مثلا عن محمود طه و"الدجال" محمود: "من متطرفي الباطنية والمتصوفة"3.
وقال الأستاذ أحمد البيلي: "لقد تبين لي من مجموعة الكتب والرسائل التي وضعها لشرح آرائه, فوجدته يذهب مذهب الباطنيين في تفسير الآيات على النحو الذي ادعاه من قبل البهائية والقاديانية, وهما فرقتان خرجتا عن دائرة الإسلام وصارتا مستقلتين, وإن تمسح أتباعهما بالإسلام"4.
وفي موضع آخر قارن الأستاذ أحمد البيلي بين دعوة محمود طه وبين البابية والبهائية والقاديانية، ثم قال: "مما سبق نرى أن الجمهوريين أخذوا من كل فرقة من هذه الفرق شيئا, وأطلقوا على هذا الخليط "الدعوة الإسلامية الجديدة""5.
وغيرهما كثير ممن نسبه إلى الباطنية, أضف إلى ذلك عقائده الباطلة
__________
1 سورة محمد: الآية 38.
2 الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان: إعداد وزارة الشئون الدينية والأوقاف في السودان, عن الرسالة الثانية: محمود طه ص126.
3 جريدة المدينة, العدد 5634؛ مقال دجال السودان: سعد حسن لطفي ص8.
4 الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان: ص65.
5 المرجع السابق: ص55.(1/272)
وتفسيراته الإلحادية وإنكاره لأصول الدين وتشكيكه في كثير مما هو معلوم من الدين بالضرورة, كل هذا وغيره يدل على نهجه الذي سلكه, وأمر الباطنية معلوم لا يخفي, يلبسون لكل عصر لباسه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 1.
وأختتم حديثي عنه بخبر نشرته جريدة المدينة المنورة عنوانه: "استجابة لضغوط دينية حظر الأنشطة العامة لدجال السودان" ونصه كما يلي: "علمت المدينة أن السلطات الأمنية والدينية في السودان قد منعت الأنشطة والتجمعات العامة لجماعات -دجال السودان- محمود محمد طه الذي يسمي جماعته بـ"الجمهوريين" وكانت أنشطة هذا الدجال قد تواصلت بصورة مكثفة طيلة السنوات العشر الأخيرة في العاصمة السودانية المثلثة وبقية المدن السودانية الكبرى وخاصة عاصمة الإقليم الأوسط "مدني" وهي مسقط رأس الدجال الذي بدأ حياته كمهندس ري بمشروع الجزيرة، ثم تحول إلى الدجل والتحريف تحت زعم "الرسالة الثانية للإسلام" والتي قال: إنه هو داعيتها الوحيد، وكانت جهات سودانية دينية عديدة قد اشتكت من أنشطة هذا الدجال والذي استغل حظر السلطات السودانية بالأنشطة الحزبية والطائفية العامة وأخذ يجند "الشباب والشابات والصبايا والأحداث لخدمة دعوته بعد أن يقوم بتهيئتهم وشحنهم بأفكاره التخريبية ويدفع بهم إلى الشوارع والطرقات والمقاهي والحدائق العامة ليلا ونهارا؛ لتوزيع مطبوعاته الدجلية المنافية للإسلام.
والمعروف أن القضاء الشرعي السوداني كان قد أصدر في الستينات فتوى شرعية أعلن فيها ردة الدجال محمود محمد طه عن الإسلام.
هذا, وقد قوبل القرار السوداني الأخير بترحيب كبير من جماهير المسلمين السودانيين, كما أشاد كبار العلماء ورجالات الدين بدور وجهد "جريدة المدينة" في فضح أفكار الدجال المشبوه"2.
__________
1 سورة الأنفال: من الآية 30.
2 جريدة المدينة المنورة, العدد 5750 يوم الاثنين 5/ 3/ 1403هـ.(1/273)
بقي أن أقول: إن نشاطه في السودان قديم, فقد حدثنا الأستاذ محمد أمان بن علي الجامي في كتابه: أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام, أنه زار السودان في العطلة الصيفية من عام 1383 والتقى في عطبرة في "دار النشاط الإسلامي" بمحمود طه هذا وكان يبث أفكاره وإلحاده1.
أما الحكم عليه, فقد حكم عليه بالردة من محكمة الخرطوم العليا الشرعية, وذلك يوم الاثنين 27 شعبان 1388 الموافق 18/ 11/ 1968 لكن المحكمة صرفت النظر عن البنود من نمرة 2 إلى نمرة 6 من الدعوى التي أقامها ضده حسبة الأستاذ الأمين داؤد محمد والأستاذ حسين محمد زكي, وهي من الأمور التي تتعلق وتترتب على الحكم بالردة2.
ولهذا فلم يكن لهذا الحكم الأثر الذي ينتظره المسلمون, ولعله ينفذ بعد أن أعلنت السودان تطبيق الشريعة الإسلامية3، وفق الله العاملين المخلصين وحفظ الله الإسلام والمسلمين من كيد الأعداء, ورد كيدهم في نحورهم, إنه سميع مجيب.
__________
1 طريق الدعوة إلى الإسلام: محمد أمان الجامي ص82.
2 انظر نص الحكم وما يتعلق به في ملحق "الإسلام رسالة خاتمة لا رسالتان" نشر وزارة الشئون الدينية والأوقاف, جمهورية السودان الديمقراطية ص83.
3 حمدا لله كثيرا, فقد تم بعد طباعة هذا البحث تنفيذ حكم الإعدام في محمود محمد طه في يوم الجمعة 26/ 4/ 1405 الموافق 19/ 1/ 1985م, وقد تصدر بيان رئاسة السجون عن تنفيذ حكم الإعدام فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه ".
انظر جريدة الأيام السودانية الصادرة يوم السبت 27/ 4/ 1405، العدد 460/ 11, السنة 32.
وانظر جريدة الصحافة السودانية الصادرة يوم السبت 27/ 4/ 1405، العدد 7946.(1/274)
الزيدية:
وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين الملقب بـ"زين العابدين" وهو أخ لـ"محمد الباقر" الإمام الخامس من الأئمة الاثني عشر عند الشيعة.
وحين سئل زيد هذا عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ترضى عنهما, فانقسم الشيعة في زيد إلى قسمين: قسم رفضه فقال لهم: رفضتموني؟ فسموا رافضة، وقسم وافقه فسموا زيدية؛ نسبة إليه1.
ثم إن الزيدية انقسموا إلى فرق ثلاث:
1- البترية أو الصالحية.
2- الجريرية أو السليمانية.
3- الجارودية.
فالبترية:
نسبة إلى كثير النوى، ويلقب بالأبتر، ويسمون أيضا بالصالحية نسبة إلى الحسن بن صالح بن حي، واعتبرهما الشهرستاني فرقة واحدة لاتفاق مقالتهما2.
وهم يعتقدون أن عليا -رضي الله عنه- كان أفضل الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولاهم بالإمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ؛ لأن عليا ترك ذلك لهما، ويقفون في عثمان وفي قتلته ولا يقدمون عليه بإكفار، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا ولا يرون لعلي -كرم الله وجهه- إمامة إلا حين بويع3.
__________
1 منهاج السنة: ابن تيمية ج1 ص9 و10.
2 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص161.
3 مقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري ج1 ص144.(1/275)
أما الجريرية أو السليمانية:
فنسبة إلى سليمان بن جرير الزيدي، الذي أثبت إمامة أبي بكر وعمر, وزعم أن الأمة تركت الأصلح في البيعة لهما؛ لأن عليا كان أولى بالإمامة منهما، إلا أن الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفرا ولا فسقا ... وأهل السنة يكفرون سليمان بن جرير من أجل أنه كفر عثمان رضي الله عنه1.
أما الجارودية:
فنسبة إلى أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وزعموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نص على إمامة علي بالوصف دون الاسم, وزعموا أيضا أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي، وقالوا أيضا: إن الحسن بن علي كان هو الإمام بعد علي, ثم أخيه الحسين كان إماما بعد الحسن ...
ثم صارت الإمامة بعد الحسن والحسين شورى في ولدي الحسن والحسين, فمن خرج منهم شاهرا سيفه داعيا إلى دينه وكان عالما ورعا فهو الإمام. قال عبد القاهر البغدادي: هذا قول الجارودية، وتكفيرهم واجب لتكفيرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
والبترية أو الصالحية أقرب الفرق الزيدية إلى مذهب أهل السنة، وأبعدهم عنه الفرقة الجارودية، حتى إن بعض علماء الشيعة يخرجون ما عدا الجارودية من فرق الزيدية عن اسم التشيع3.
وها أنت ترى أن الخلاف في مجمله بين فرق الزيدية الثلاث إنما هو في الإمامة, وما يتعلق بها من أحكام، أما ما عدا ذلك فهم يوافقون المعتزلة في الأصول؛ لأن زيد بن علي تلقى العلم على يد واصل بن عطاء فاقتبس منه الاعتزال وصار أصحابه كلهم معتزلة, كما يقول الشهرستاني4 وإن كان قوله هذا
__________
1 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص23 و24.
2 المرجع السابق: ص22 و23.
3 أوائل المقالات: محمد بن النعمان المفيد "من شيوخ الشيعة، ص40".
4 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص155.(1/276)
-فيما أرى- تغليبا، وإلا فالحق أنهم لا يوافقونهم تمام الموافقة، فمذهبهم مزيج من آراء أهل السنة والمعتزلة والخوارج والاثني عشرية، ويخالفون الشيعة الاثني عشرية في كثير من الآراء فهم لا يتبرءون من الشيخين ولا يكفرونهما ويجوزون إمامتهما1 وينكرون التقية2 والعصمة للأئمة والنص على الأئمة3 ويترضون عن الصحابة -رضي الله عنهم-4 والذين يقولون خلاف ذلك يخالفون إمامهم زيد بن علي, وهذا هو رأي الزيدية الحقة. أما المتطرفة منهم والغالية فهم الجارودية كما ذكرنا؛ ولذا فإن البترية والسليمانية يكفرون الجارودية، وكذا الجارودية تكفر السليمانية والبترية5.
ومما أجمعت عليه الزيدية من آراء:
1- قال عبد القاهر: أجمعت الفرق الثلاث الذين ذكرناهم من الزيدية على القول بأن أصحاب الكبائر من الأمة يكونون مخلدين في النار, فهم من هذا الوجه كالخوارج6.
2- وأجمعوا على تصويب علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حربه، وعلى تخطئة من خالفه7.
3- وأجمعت الزيدية على أن عليا -رضي الله عنه- كان مصيبا في تحكيمه الحكمين ... وهما اللذان أخطآ وأصاب هو8.
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص155.
2 الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم: محمد بن إبراهيم الوزير اليماني ص49 و50.
3 الإمام زيد: محمد أبو زهرة ص188.
4 الروض الباسم: محمد الوزير ص49 و50.
5 الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ص24.
6 المرجع السابق ص25؛ ومقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري ج1 ص149.
7 المرجع السابق: ج1 ص149.
8 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص150.(1/277)
4- والزيدية بأجمعها ترى السيف والعرض على أئمة الجور وإزالة الظلم وإقامة الحق1.
5- وهي بأجمعها لا ترى الصلاة خلف الفاجر, ولا تراها إلا خلف من ليس بفاسق2.
6- وأجمعت على تفضيل علي على سائر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أنه ليس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل منه3.
أما في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، إلا في مسائل قليلة وافقوا فيها الشافعي -رحمه الله تعالى- والشيعة4.
منهج الزيدية في تفسير القرآن الكريم:
ليس هناك من كبير فارق بين منهج الزيدية ومنهج أهل السنة والجماعة إلا الجارودية منهم, فإنهم أقرب إلى الاثني عشرية منهم إلى أهل السنة.
ولهذا فإنا, كما قال الشيخ محمد حسين الذهبي، رحمه الله تعالى: لا نطمع بعد ذلك أن نرى للزيدية أثرا مميزا وطابعا خاصا في التفسير كما رأينا للإمامية؛ لأن التفسير إنما يتأثر بعقيدة مفسرة ويتخذ له طابعا خاصا واتجاها معينا, حينما يكون لصاحبه طابع خاص واتجاه معين, وليست الزيدية -بصرف النظر عن ميولهم الاعتزالية- بمنأى بعيد عن تعاليم أهل السنة وعقائدهم, حتى يكون لهم في التفسير خلاف كبير5.
وإذا كان الذهبي -رحمه الله تعالى- لم يكد يظفر بشيء من تفاسيرهم إلا تفسير الشوكاني -رحمه الله تعالى- المسمى: "فتح القدير" وتفسير آخر لآيات الأحكام اسمه: "الثمرات اليانعة" لشمس الدين يوسف بن أحمد، وقال، رحمه
__________
1، 2، 3 مقالات الإسلاميين: أبو الحسن الأشعري ص150.
4 الملل والنحل: الشهرستاني ج1 ص162.
5 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281.(1/278)
الله: "هذا هو كل ما عثرنا عليه للزيدية من كتب في التفسير"1، إذا كان الذهبي -رحمه الله تعالى- قال هذا ومجاله أوسع زمنا وذهنه أوسع علما، فإني بحثت عن شيء من تفاسيرهم في القرن الرابع عشر مجال بحثي, ونقبت في بطون الكتب والأبحاث وسألت أهل الذكر وأهل العلم من أهل السنة والزيدية وغيرهم, فلم يرشدني أحد منهم إلى كتاب في التفسير للزيدية ألف في القرن الرابع عشر الهجري.
وأرفع القلم هنا لانتظار تفسير جديد أو للاستمرار في البحث والتنقيب علي أجد ما لم أعثر عليه فيما مضى. وحينئذ أمسك القلم كرة أخرى, وبالله التوفيق.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص281.(1/279)
الفصل الثالث: منهج الأباضية في تفسير القرآن الكريم
التعريف بالأباضية:
لا أريد أن أتحدث عن نشأة فرقة الخوارج هنا؛ لأن انقداح شرارتهم الأولى بعد التحكيم بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- أمر مشهور. هذا أولا, ولأنه لم يبق منهم في وقتنا هذا أحد, وهذا ثانيا. أما ثالثا فلأن الأباضية يرفضون كل الرفض وينفون كل النفي نسبتهم إلى الخوارج ويصفون "إطلاق لفظ الخوارج على الأباضية أهل الحق والاستقامة من الدعايات المغرضة التي نشأت عن التعصب السياسي أولا, ثم المذهبي ثانيا لما ظهر غلاة المذاهب, وقد خلطوا بين الأباضية والأزارقة والصفرية والنجدية, فالأباضية أهل الحق لم يجمعهم جامع بالصفرية والأزارقة ومن نحا نحوهم إلا إنكار التحكيم بين علي ومعاوية وهو رأي علي قبل الضغط عليه بقبول التحكيم, ولما كان مخالفونا لا يتورعون ولا يكلفون أنفسهم مئونة البحث عن الحق ليقفوا عنده, خلطوا بين الأباضية أهل الحق الذين لا يستبيحون مالا ولا قطرة من دم موحد وبين من استحلوا الدماء بالمعصية الكبيرة حتى قتلوا الأطفال تبعا لآبائهم, مع أن الفرق كبير جدا كالفرق بين المستحل والمحرم, فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! "1.
لهذه الأمور نقتصر في هذا الموضع على فرقة الأباضية وحدها, وقد آثرنا ألا ننقل إلا من كتبهم أو ما طبع تحت إشرافهم أو ما لا ينكرون نسبته إليهم.
__________
1 الأباضية بالجريد, تأليف صالح باجية من مقدمة محمد حمد الحارثي "أباضي" ص2.(1/281)
أما نسبتهم فإلى عبد الله بن أباض بن تيم اللات بن ثعلبة, من بني مرة بن عبيد رهط الأحنف بن قيس آل مقاعس التميمي، كان من أهل العراق, جاء إلى الإمام جابر بن زيد لأخذ العلم عنه وكان يناظره في أموره وفي مهماته الدينية, وفيما يأتي منها وما يذر1.
وأما مركز المذهب الأباضي فقد كان في البصرة حيث نشأ فيها, ثم اتصل بعمان وقامت له بالمغرب دولة، وامتد المذهب إلى اليمن وإلى خراسان وإلى مصر وإلى الجزيرة العربية2.
أما في وقتنا هذا فذكر السفير العماني في تونس أن مذهبهم الأباضي منتشر في "المغرب والمشرق: فهم في مكة والمدينة والبصرة وخراسان واليمن وحضرموت وعمان وأفريقية الشرقية"3.
ولا أعتقد صحة انتشارهم في المناطق الست الأولى المذكورة, أما انتشارهم في أفريقية الشرقية فلعل الصحيح أنهم في زنجبار وليس في كل هذه المنطقة، كما أنه لم يذكر لهم وجودا في تونس والجزائر وليبيا مع وجودهم في جبل نفوسة وزوارة من طرابلس وجزيرة جربة من تونس ووادي ميزاب بالجزائر4.
هذا بالنسبة لنسبته ومركزه, أما تاريخ ظهوره ففي القرن الأول من الهجرة إذ إن عبد الله بن أباض كان معاصرا لعبد الملك بن مروان "26-86هـ" وكان بينهما مراسلات ولا يعرف لولادة أو وفاة عبد الله بن أباض تاريخ5.
__________
1 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي، سالم بن حمود بن شامس السيابي ص77.
2 المرجع السابق ص79 و80.
3 الأباضية بالجريد, صالح باجية, مقدمة محمد حمد الحارثي "أباضي".
4 مختصر تاريخ الأباضية, تأليف أبي ربيع سليمان الباروني ص27 "أباضي".
5 المرجع السابق ص20.(1/282)
عقائدهم:
في معرفة الله:
قالوا: "إن معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالعقل قبل ورود الشرع, فلما ورد الشرع زادها إيضاحا وأعلن إيجابها"1. وقال أحد أئمتهم نظما:
معرفة الباري من العقول ... فكيف بالسماع والنقول
ولا يجوز جهلها لجاهل ... طرفة عين عند ذي الدلائل2
أما في الصفات فقالوا: "لا يخفى على أهل العلم أن الله عز وجل خاطبهم بلسانهم وحاورهم بما يجري بمعقولهم، فهم يفهمون الخطاب من نفس القرائن قبل التحقق لفحوى الخطاب، ولما تقرر في الشريعة أن الله عز وعلا مباين لمخلوقاته في الذات والصفات والأفعال لم يعد لهم وهم أو جهل في شيء من وحي الله عز شأنه, فإن صفات المخلوق تخالف صفات الخالق تبارك وتعالى فلا يرتبك الفهم العربي مهما كان في معرفة اللسان. فلذا لما كان الأخذ في اللغة باليد ومراقبة الأشياء المبصرة بالعين, وهكذا عبر الله تبارك وتعالى عن معانيها بمثل ما عبر به عن نفس ما في الإنسان فقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 3, فالعين في حق الله عز وعلا معروفة بأنها حفظه واليد مفهومة في حقه قدرته لما قدمنا من استقرار الفهم باستحالة صفة الإنسان أن تكون صفة الرحمن, وهكذا بقية الصفات كالقبضة والاستواء والمجيء والجد والمكر والجنب, فإن هذه عبارات يتخاطب بها البشر فيما بينهم فخاطبهم الله عز وجل فيما بينهم وإياه لاستقرار معانيها عندهم في حق الله, فلا يذهبون بها إلى غيرها, وقد علموا أن الله جلت قدرته مباين لهم في الأحوال كلها, كما وضع لهم ذلك في قوله:
__________
1 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس السيابي ص91.
2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام ج1 ص6 و7؛ عبد الله بن حميد بن سلوم السالمي.
3 سورة طه: من الآية 39.(1/283)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، 2.
ثم قالوا: "فمن حاد عن نهجهم فقد رمى نفسه في لجة لا يرى خلاصه منها أبدا، ومعنى جد الله عظمته وجنبه أمره كما صرح به العلماء, والمكر عقوبتة واستوى على العرش معناه القهر والغلبة ... ووجهه تعالى ذاته"3.
وقالوا: "إنه موجود بغير مشاهدة، قديم بلا بداية أوجد منها نفسه, دائم بلا نهاية، حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، عالم بما كان وما يكون، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يخفى عليه شيء في الظلمات, قادر بلا تكلف متكلم بلا لسان، سميع بلا آذان بصير بلا حدقة ولا أجفان, إله كل شيء وخالقه وإليه منتهاه، اخترع الخلق من غير مثال, سبحانه من قادر حكيم بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد"4.
إنكار الرؤية:
مذهبهم في الرؤية الإنكار بشدة حيث قالوا: "لا يخفى أن القول بالرؤية يهدم التوحيد من أساسه، ويقضي عليه من أصله فإن الرؤية توجب الحلول والله منزه عنه وتثبت التحيز، وتقرر الظرفية وتحقق التلون، وتقضي بالجهة ونحو ذلك، فهذه كلها قوادح في صحة الألوهية يتعالى الله عز وجل عنها، ولم تبق صفة من الصفات الإلهية ثابتة على أساسها ولا قائمة على قواعدها، فالذي يرى لا يصلح أن يكون ربا "!! " فإن الرؤية للمخلوقات، ورب الأرض والسموات منزه عنها، والتكييف لا يليق بجلال الله وعظمته وهو من لوازمها والتمييز للذات العلية غير ممكن، والقائل بالرؤية مخطئ خطأ لا يغتفر أو يتوب إلى الله ويستغفره، وما ورد مثبتا لها فقد أنكره المسلمون "!! " وحكموا بوضعه،
__________
1 سورة الشورى: من الآية 11.
2 طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الأباضي: سالم بن حمود بن شامس ص99 و100.
3 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص100.
4 المرجع السابق: ص101.(1/284)
فإن أصله في دسائس اليهود لفهم الله" "!! "1.
القرآن الكريم:
ترى الأباضية أن القرآن مخلوق, فقال أحد علمائهم المعاصرين: "الأباضية يقولون: إن الله خالق كل شيء والقرآن شيء من الأشياء, وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 2. والقرآن كما قلنا شيء من الأشياء، وهو كلام الله خلقه الله وقدره بحسب الحوادث التي ستكون من العباد كما اقتضاها قضاؤه وقدره, فإن دلائل الحدوث في نفسه ظاهرة وهي شاهدة بخلقه ولو كان غير مخلوقلكان قديما، ولو كان قديما لكان مشاركا لله في صفة القدم، ولو شاركه في صفة القدم لتعددت القدماء ولو تعددت القدماء انتفى قدمه الخاص به الذي اتصف به, فإنه صار له فيه شركاء وهذا ظاهر الفساد ساقط الاعتبار، ولو كان متكلما كخلقه للزم له ما يلزم لخلقه من اللسان الذي هو آلة الكلام ولزم له أشداق وفم يخرج منه الكلام، وهذا باطل عقلا، ثم وصفه الله بأنه حادث في قوله عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} 3 ووصفه بأنه منزل من اللوح وكان حالا فيه والتنزيل صفة الحدوث، وكونه حالا في اللوح، فاللوح حادث ولا يحل في الحادث إلا حادث عقلا وبديهة, وهذه الصفات كلها تعطي معنى الحدوث، ووصفه بأنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وصدورهم حادثة والحال في الحادث حادث قطعا؛ لأن القديم منزه عن الحوادث فالله عز وجل لا يطرقه معنى الحدوث ولا يليق به تعالى وإلا لم تصح الصفات الكمالية له تعالى، وكلام الله ليس على وتيرة كلام الخلق وإن كان الكلام المعروف هو ما على المنهج المألوف تتألف كلماته من الحروف، فإن الله جل جلاله خالق الحروف والأصوات والآلات التي بها يتكون، والله منزّه عن هذا كله قطعا"4.
__________
1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس العماني ص107.
2 سورة الفرقان: من الآية 2.
3 سورة الأنبياء: الآية 2.
4 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس "أباضي" ص27.(1/285)
مسألة الخلود:
يعتقد الأباضية أن "داخل النار من عصاة الموحدين مخلد فيها لا يخرج منها أبدا, فهو في الخلود مثل داخل الجنة, إلا أن الموحد أخف عذابا من غيره"1 وقال ناظمهم:
ومن يمت على الكبير عُذِّبا ... وذاك في القرآن حكما وجبا
........................ ... ........................
لكنه في النار قطعا يخلد ... فهو بها معذب مؤبد
خروجهم في الذكر قد نفاه ... ربي, فيا ويل لمن يلقاه2
وقال أحد علمائهم المعاصرين: "إن ثواب الله لعباده المؤمنين الجنة وإن عقاب الله لأعدائه النار، وإن الجنة والنار لا تفنيان، ومن اعتقد فناءهما كفر شركا؛ لأن الله قال في الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، وكذلك قال في النار والعياذ بالله منها, في مئات من الآيات وصرح جل وعز بذلك فالثواب والعقاب أبديان، وكذلك ثبت في السنة النبوية, إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, جيء بالموت فيذبح بين الجنة والنار وينادي منادٍ: يا أهل الجنة خلود ولا موت, ويا أهل النار خلود" 3. وعلى هذا عقيدة الأباضية متابعة القرآن وسنة المصطفى من آل عدنان صلى الله عليه وسلم، ومن خالف هذه العقيدة متأولا فهو فاسق ضال منافق كافر نعمة، ومن خالفها بغير تأويل فهو كافر شركا"4.
__________
1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "أباضي" ص65.
2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص12.
3 صحيح البخاري, كتاب التفسير ج5 ص236؛ وصحيح مسلم, كتاب الجنة ج4 ص2189.
4 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس السيابي "أباضي معاصر" ص29 و30.(1/286)
مسألة الشفاعة:
ويرون أن الشفاعة لا تنال أصحاب الكبائر من الأمة المحمدية, ولا ينالها إلا من مات منهم على الوفاء والتوبة النصوح1.
قال أحد علمائهم نظما2:
ومن يمت على الكبير عذبا ... وذاك في القرآن حكما وجبا
ليس له شفاعة من أحد ... من الورى حتى النبي أحمد
ارتكاب الكبيرة:
يطلق الأباضية على الموحد العاصي كلمة كافر, ويعنون بها كافر النعمة ويجرون عليه أحكام الموحدين. فالكفر عندهم كفر نعمة ونفاق وهو هذا, وكفر شرك وجحود وهو الذي يخرج الإنسان من الملة الإسلامية3.
فالعصاة من الموحدين عندهم "قد خرجوا من الشرك بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وخرجوا عن المؤمنين بفعل المعاصي, فإن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 4 ... الحديث، وذلك فرع على قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ} لهم يا محمد {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 5. ومعنى قولوا: إنا مسلمون بقولكم: لا إله إلا الله محمد رسول الله, أما الإيمان فلا لأنكم تفعلون ما لا يرضاه, فأنتم باعترافكم بوحدانية الله حين قلتم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبهذا أسلمتم فحرمت دماؤكم وأموالكم إلا بحقها وحسابكم على الله، إما عفو, وإما عقاب"6.
__________
1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "أباضي معاصر" ص66.
2 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص12.
3 مختصر تاريخ الأباضية: للباروني "أباضي" ص66.
4 رواه ابن ماجه في سننه, أبواب الفتن ج2 ص461.
5 سورة الحجرات: الآية 14.
6 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد بن سلوم "أباضي" ج1 ص14.(1/287)
وهم ينكرون ما قال به المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة قد خرج من الإيمان بكبيرته ولم يدخل الكفر لإقراره بشهادة: أن لا إله إلا الله, وإنما هو في منزلة بين المنزلتين, ينكر الأباضية هذه المنزلة حيث يقول ناظمهم في "باب في الكفر":
من لم يكن متقيا لله ... فهو أخو كفر بلا اشتباه
لأنه ما بينهن منزله ... كذاك في القرآن ربي أنزله
وكشفه بأن تقسمنه ... للشرك والنعمة فأفهمنه1
والخلاصة عندهم: أن الدرجات عندهم إيمان, كفر نعمة كفر شرك.
الميزان والصراط:
ويرى جمهور الأباضية أن الميزان ليس بحسي والله غني عن الافتقار إليه, وإنما هو تمييز معنويللأعمال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} 2 كيف والأعمال ليست بأمور محسوسة حتى توزن بميزان من نوعها والصراط أيضا ليس بحسي, وإنما هو دين الله الحق وطريقه القويم, فمن اتبعه فاز ونجا ومن حاد عنه خسر وهوى، ومن الأباضية من يجيز أن يكون الميزان والصراط حسيين3.
الولاية والبراءة:
تعتقد الأباضية أن كلا من الولاية والبراءة تنقسم إلى قسمين: ولاية أشخاص وولاية جملة, وكذا البراءة براءة الأشخاص وبراءة الجملة قالوا: "ولا يخفى أن الولاية والبراءة تجبان للأفراد كما تجبان للجماعة, ومن خصهما بالجماعة دون الأفراد وقع في قصور وتقصير"4.
ومن ولاية الأشخاص ولاية أم موسى وامرأة فرعون وكذلك مؤمن آل فرعون والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.
__________
1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس "أباضي" ص86.
2 سورة الأعراف: من الآية 8.
3 مختصر تاريخ الأباضية ص66 و67.
4 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص117.(1/288)
وفي البراءة ما يقابل هؤلاء كالذي حاج إبراهيم في ربه، وكالذي جاء في قوله تعالى: {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1, فهذه أدلة واضحة كالشمس ولا توجد هذه الأحوال إلا مع الأباضية2.
هذا شأن الولاية والبراءة للأشخاص عندهم, أما الولاية أو البراءة للجملة، فقالوا: "لا يخفى أن وجوب الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات موجب لولايتهم, إذ لا معنى للأمر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات في مثل هذا المقام إلا الوجوب ولا يصح الاستغفار لغير الولي"2، ولا يخفى أن البراءة تجب من أهل المعاصي مطلقا سواء كانت كبائر كفر نعمة، أو كبائر شرك كما نص على ذلك القرآن وإجماع المسلمين مطلق على ذلك، والبراءة الشرعية توجب البغض، أي: إن البغض ثمرة البراءة من أهل المعاصي مطلقا وكذلك الشتم أي: شتم العاصي لعصيانه ولعن الكافر لكفره3.
أما صورة الولاية فهي: "أن يتولى المكلفون من تثبت ولايته وهو الطائع الوفي بما أمره الله فيحبونه لذلك ويستغفرون له ويساعدونه في شئونه الدنيوية من بيع وشراء وسائر المعاملات، وأما البراءة فصورتها أن يتبرءوا من العاصي ويقطعون معاملته ويهجرونه بحيث يصير كأنه بمعزل عن العالم إلى أن يتوب إلى الله, فإذا تاب وأقلع عن معصيته أعيدت إليه هذه الحقوق وعُومل بما يعامل به سائر إخوانه"4.
ولذلك وجد عندهم اصطلاحات الخطة والهجران والإبعاد والطرد وهي "ألفاظ تترادف على معنى واحد وذلك متى أجرم واحد من أهل الطريق أو ظهرت عليه خزية أو أتى بنقيصة في قول أو عمل فإنه يهجره أهل الصلاح, فلا يكلم ولا يحضر جماعة ولا يؤم ولا يؤاكل ولا يجالس, وكانت خطة حالت
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 175.
2 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص118.
3 المرجع السابق ص119.
4 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص65.(1/289)
بينه وبين أهل الخير, فإن تاب واستغفر قبل منه ورجع إلى الجماعة وزال عنه شين ذلك الوسم, ويكون بقاؤه في وحشة الهجران بقدر عظم الذنب وصغره وتوبة المجرم وإصراره"1.
ولا يزال هذا الأمر يطبق في بعض جهاتهم, قال الأستاذ حافظ رمضان عن هؤلاء: "لا تزال بقية هؤلاء في بلاد الجزائر وهم يعيشون على وتيرة منظمة وتقاليد عريقة ولا تحكم بينهم محاكم الدولة, وإذا ماطل مدين دائنه دخل المسجد وأعلن ذلك, وحينئذ يقاطع الناس المدين فلا يسلمون عليه ولا يعاملونه حتى يوفي ما عليه"2.
وهو أيضا حال الميزابيين اليوم بالجزائر "فإنهم ما زالوا في تطبيق أحكام الولاية والبراءة"3.
الإمامة:
قلت: إن الأباضية ترفض كل الرفض انتماءها أو نسبتها إلى فرقة الخوارج، مع أنهم يوافقون فرقة الخوارج في كل مواقفهم مما جرى بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- ومع أن الخوارج لم يطلق عليهم هذا الوصف إلا لمواقفهم تلك.
وعلى كل حال, فالأباضية ترى أن عليا -رضي الله عنه- حين قبل بالتحكيم بينه وبين معاوية -رضي الله عنه- فإنه بهذا قد خلع نفسه عن الإمامة وولاها الحكمين على عهد الله وميثاقه، ولهما أن يوليا من شاءا ويعزلا من شاءا, وقد اتفق الحكمان على خلع علي واختلفا في تولية معاوية فولاه إياها عمرو بن العاص ولم يولها إياه أبو موسى الأشعري. وهم لا يرضون معاوية إماما في الدنيا فضلا عن أن يكون إماما للدين؛ لذلك تسرعوا إلى بيعة عبد الله بن
__________
1 الأباضية بالجريد: صالح باجية ص186.
2 أبو الهول قال لي: حافظ رمضان ص150.
3 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص66.(1/290)
وهب الراسبي المعروف بذي الثفنات، ولما وقعت البيعة منهم له لزمت وحرم تركها بغير موجب، فإذا فعل الإمام موجب فسخها لزم خلعه منها، وإن أصر عليها وجب على المسلمين قتاله، وذلك كما إذا فسخ إمامته أو جار أو ظلم أو ترك واجبا دينيا, وذلك بعد تتويبه فإذا تاب قبل منه1.
وبهذا يتبين أن خروجهم على علي -رضي الله عنه- إنما هو لقبوله التحكيم وهم يعتبرون هذا القبول فسخا لإمامته, وفسخه لإمامته يوجب عندهم خلعه وإن أصر على الإمامة وجب قتاله بعد استتابته.
ولا ريب بعد هذا أن تكون الإمامة عند هؤلاء في منزلة كبرى وأصلا من أصولهم, يضعون له ويبنون عليه الأحكام.
ولذلك قالوا: "وعندنا أن الإمامة من الأصول لما صح عن عمر وغيره من الأمر بقتل من تعين نصبه إماما, فأبى من قبولها "!! " إلا أنها ليست مما يقدح تخلفه في صفة الله. فمعنى كونها من الأصول أنه لا يجوز الخلاف فيها"2.
والإمامة عندهم واجبة "ووجوب نصب الإمام في الأمة معروف من الكتاب والسنة وإجماع الأمة, ألا ترى أن الصحابة اشتغلوا بعلاج قضية الإمامة عندما تحققوا موت النبي -صلى الله عليه وسلم- لما يرون من لزوم أمرها, فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفن بعد وهم في أمر الإمامة ... وفي القرآن الأمر بالحدود في الزنى والخمر3 والقذف والسرقة وقتل القاتل وقطاع الطرق وغير ذلك والمخاطب بذلك الإمام ومن في معناه من سلطان وأمير وإمام, فإذن هذه ألقاب لا معول عليها بل المعول على العدل ولا يخفى أن الإنسان لا يحكم على نفسه، وليس له أن ينفذ حدا على غيره فضلا عن نفسه ما لم يكن إماما أو سلطانا عادلا. فإن السلطان العادل ظل الله في أرضه, سواء كان إماما
__________
1 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص16 بتصرف.
2 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني "ص68" نقلا من شرح محمد بن يوسف أطفيش للعقيدة.
3 ليس في القرآن حدّ للخمر, فلعله سهو.(1/291)
أو أميرا أو خليفة أو سلطانا بحسب الاصطلاح, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحدود والجمعات والفيء والصدقات إلى الأئمة"، والمراد من هؤلاء كلهم العادل, قال الله عز وجل لنبيه إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1. وكذلك الأمر في تعجيل إمامة عمر -رضي الله عنه- لولا وجوبها لكان لقائل أن يقول: ما حاجة على الإمامة "كذا" وليترك الناس على ما هم عليه ولكنهم لم يتركوهم بل بايعوا بعد عمر عثمان بن عفان, ثم بايعوا بعد عثمان علي بن أبي طالب ... وهكذا ... وبذلك أجمعت الأمة على وجوب الإمامة"2.
ولهم شروط في وجوب الإمامة إذا توفرت الشروط وجبت الإمامة, ولهم شروط أيضا في الإمام الذي تصح له البيعة.
أما شروط وجوب الإمامة: "فأن يكون أهل الحق3 نصف عدوهم المتخوف منه أو أكثر، ولهم ما يكفيهم من علم ومال وسلاح وكراع، وإذا عقدت الإمامة لمن هو لها أهل لم يجز له تركها"4، ولم أجد بيان الحكم إذا كانوا أقل من نصف عدوهم.
أما شروط الإمام فـ"أن يكون ذكرا بالغا عاقلا عالما بالأصول والفروع متمكنا من إقامة الحجج وإزالة الشبه ذا رأي وخبرة في الحروب شجاعا ولو كان لا يباشرها بنفسه لا يلين ولا يفشل من أهوالها ولا يهاب إقامة الحدود وضرب الرقاب في سبيل الله ونصرة الحق, وإذا توفرت هذه الشروط في القرشي فهو أولى وإلا فغيره ممن رضيه أهل الحل والعقد من المسلمين، ولا يفهم من هذه الشروط أن نصب الإمام غير واجب إذا فقد شرط منها, لا بل يتعين عليهم نصبه ولو كان
__________
1 سورة البقرة: الآية 124.
2 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص23-25 باختصار.
3 المراد بهم هنا الأباضية.
4 مختصر تاريخ الأباضية ص66 عن الشرح الكبير على العقيدة, للشيخ محمد بن يوسف أطفيش.(1/292)
دون هذه المنزلة, إذ العبرة بالشروط الأساسية التي لا يشاد صرح الإمامة بدونها"1.
قالوا: "والقوة والعلم من ضروريات صفات الإمام الذي يصلح أن يكون قائد أمة أو زعيم عامة فإنه إذا كان ضعيفا فإن ضعفه يؤخره عن القيام بالواجبات التي تناط به ... والعلم هو الأساس الذي يجب على المسلم أن يمشي عليه ما عاش. وبالأخص أهل المناصب إذ تتوجه إلى الإمام حدود وولاية وبراءة وما إليها من جباية الزكاة وبيوت الأموال والقيام بمصالح الأمة إلى أشياء عديدة, فينظر بالعلم من يقدم على العمل ومن يؤخر, فإن بالعلم يقوم الدين؛ ولهذا أوجب الأباضية العلم في الإمامة"2.
أما شرط القرشية فلا يقولون به, بل قالوا: "إن وجد المستقيم في قريش حسنت بيعته, وإذا بويع وجبت طاعته لا من حيث إنه قرشي بل من حيث إنه صالح, فإن المطلوب في الأمة الصلاح وهل لقريش مزيد فضل بدون الصلاح؟ فإن الله عز وجل أمر بالصلاح ودعا ... والواقع أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يول قريشا فقط وإنما ولى من عدة قبائل في العرب، وصحة الإمامة أصل لصحة الولاية فإنها فرع عليها، وما جاز في الأصل جاز في الفرع ولم يجعل الله عز وعلا الأمر في أمة خاصة أو في قبيلة خاصة أو في بلد خاص"3.
بل يكفي أن يكون الخليفة متصفا بالفضيلة, سائرا بموجب الكتاب والسنة لتصح خلافته, فإن انحرف عنهما أي: الكتاب والسنة, فقد تهور في أعماله ورجع القهقرى، ولا بد أن يكون تعلق بالهوى وخلع ربقة التقوى فلا يصح أن يبقى على هذا الحال إماما ... وليس من الحق أن نترك المنحرف عن واجب الكتاب والسنة لا عقلا ولا نقلا فيما علمنا4، وتجب طاعته ما دام على الحق والعدل شعاره, فإن جار في الحكم وخالف الحق ولم يتب جاز, بل وجب الخروج عنه5.
__________
1 المرجع السابق.
2 الحقيقة والمجاز ص22 و23.
3 المرجع السابق ص25 و26.
4 المرجع السابق: ص26 و27.
5 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص68.(1/293)
موقفهم من الصحابة، رضوان الله عليهم:
إن الأباضية يوالون أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- أما الأول فقد كان: "عاملا بما جاءت به النبوة, تابعا لأوامرها, قائما بما قامت به الأمة, محافظا لسيرتها، وبذلك لم يفقد من النبي عليه الصلاة والسلام إلا شخصه الكريم ونزول الوحي بعده1. ومات والأمة الإسلامية كلمة واحدة راضية عنه عند موته"2.
أما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقد: "سار مسيرة صاحبه وأعطى القوس باريها وأجرى الأمور مجاريها"1 حتى مات شهيدا مبكيا عليه مأسوفا على مآثره وعلى سيرته المرضية وأيامه الزاهية البهية3.
أما عثمان -رضي الله عنه- فليس له عندهم مثل منزلة صاحبيه -رضي الله عنهما- ونذكر هنا ما يتعلق به -رضي الله عنه- من رسالة بعث بها إمامهم عبد الله بن أباض إلى عبد الملك بن مروان قال فيها: "فولوا عثمان فعمل ما شاء الله بما يعرف أهل الإسلام, حتى بسطت له الدنيا وفتح له من خزائن الأرض ما شاء الله, ثم أحدث أمورا لم يعمل بها صاحباه قبله وعهد الناس بنبيهم حديث, فلما رأى المؤمنون ما أحدث أتوه فكلموه وذكروه بكتاب الله وسنة من كان قبله من المؤمنين, فشق عليه أن ذكروه بآيات الله "!! " وأخذهم بالجبروت وضرب منهم من شاء وسجن ونفى"4، وقال أحد معاصريهم: "فإن كان عثمان على حق فالخارجون عليه المحاربون له ضالون بذلك تجب منهم البراءة، فما لكم تقولون: رضي الله عنهم, وهم خارجون على إمام الحق وإن كان عثمان ظالما وخرجوا عليه لظلمه, فمن الواجب القيام على الظالم حتى يرجع عن ظلمه" إلى أن قال: "أما كون عثمان أمير المؤمنين وكل ما يفعله أمير المؤمنين من الحق والباطل
__________
1 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص73.
2 مختصر تاريخ الأباضية ص15.
3 مختصر تاريخ الأباضية ص16.
4 المرجع السابق ص21.(1/294)
مقبول عند الله وهو لذلك يجب أن يحترم. وإذا كان كذلك فما بال مائة ألف سيف في المدينة بأيدي المهاجرين والأنصار الذين وصفهم الله عز وجل بالاستقامة في الدين, لا تدافع عن الإمام المحق, فما لهؤلاء الناس لا يأتون بالحق1 الذي يجب على كل مسلم أن يكون عليه؟! "2.
أما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فهم يعتقدون أنه إمام بالإجماع, بايعه المسلمون عن رضى به واختيار له من بين أقرانه؛ لما يرون فيه المناسبة لمنصب الإمامة ... وزاد على أقرانه الستة بكونه من بيت النبوة, فهو العالم العابد الزاهد الأمين الثقة التقي الذي سلم من الأهواء والتحيزات العنصرية, متجردا لله, قائما بحقوق الله، ثابتا على سلطان الله، يتساوى معه البعيد والقريب في الحق, لا تأخذه في الله لومة لائم. وهذه هي صفة علي بن أبي طالب وهو لم يزل كذلك حتى دخل عليه داخل3 في سياسته ليضله عن طريقه, وهو يعتقد فيه أنه يريد الحق ويدعو إليه, وهو بطانة سوء لعلي بن أبي طالب فلذلك أثر عليه ...
__________
1 أما وقد دعا إلى الإتيان بالحق, فإنا نقول: إن المائة ألف سيف التي بأيدي المهاجرين والأنصار لم تغمد عبثا ولا تخليا عن عقيدة ولكنها بعثت واحدا منها هو المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- إلى عثمان وهو محاصر تخيره بثلاثة أمور: إما أن تخرج فتقاتلهم فإن معك عددا وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق لك بابا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على راحلتك فتلحق بمكة فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان رضي الله عنه: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم" فلن أكون أنا إياه، وأما أن ألحق بالشام فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم "رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص67 من مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه". بل إن عثمان -رضي الله عنه- كان ينهى أهل بيته عن تجريد السلاح. إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء, محمد الخضري ص198.
2 الحقيقة والمجاز: سالم بن حمود بن شامس ص21.
3 يقصد: الأشعث بن قيس رضي الله عنه.(1/295)
ولا نعتقد في علي ما تعتقده فيه الشيعة، بل هو عبد من عباد الله وهو هكذا يقول, وبسبب بطانته السيئة وقع ما وقع1.
أما خلاصة رأيهم فيه -رضي الله عنه- بعد ذلك, فإنهم يرون أنه بقبوله التحكيم قد خلع نفسه عن الإمامة وولاها الحكمين على عهد الله وميثاقه أن يوليا من شاءا ويعزلا من شاءا, فقد اتفقا على خلعه واختلفا في التولية له, فولى أحدهما معاوية واحرنجم الثاني فلم يفعل شيئا وافترقا على ذلك، ولما رأى أولئك المؤمنون نهاية الواقع وما كانوا يرضون معاوية إماما في الدنيا, فضلا عن أن يكون إماما للدين فلذلك تسرعوا إلى البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي المعروف بذي الثفنات، فلما وقعت البيعة لزمت, وحرم تركها بغير موجب"2.
ولذا فهم يعتقدون أن البيعة انتقلت بعد علي -رضي الله عنه- إلى عبد الله بن وهب الراسبي, الذي بايعوه بعد التحكيم.
"ولما بايعوه بعثوا إلى أصحابهم مسرورين ببيعتهم مبتهجين برضاه وقبوله على يقين واطمئنان أن علي بن أبي طالب لا يعود يطالبهم بإمامة أو يدعيها"3.
ولكن عليا -رضي الله عنه- توجه إلى عبد الله الراسبي وأباد جيشه في النهروان, وكان عبد الله من بين القتلى، قال أحد مؤرخيهم: "ولا أظنه أمر بقتلهم ولا أشار إليهم ورأى السكوت يسعه حيث قال له القائمون بأمره عن القوم ما قالوا, ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم حيث نسبوا إلى أهل الحق ما نسبوا؛ ليتوصلوا إلى الباطل بما حصلوا, ولا أرى عليا إلا خليا من دماء القوم ولا ألومه, وهو قاصدهم ليتفاهم معهم ويتفاوض هو وإياهم"4.
لكنهم مع هذا لا يتبرءون من عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه.
__________
1 الحقيقة والمجاز ص21 و22.
2 المرجع السابق ص15.
3 طلقات المعهد الرياضي: سالم بن حمود بن شامس ص21.
4 الحقيقة والمجاز ص17.(1/296)
أما معاوية -رضي الله عنه- فإنهم يعتقدون أن أولئك القائمين بالنهروان, كل واحد منهم أفضل من معاوية بمسافات1، "كذا" وهم يعتقدون أنه "خرج على الإمام محاربا له, شاقا عصا المسلمين يريد أن يفرق جمعهم ويهدم بناءهم ويقلب أمورهم ظهرا لبطن؛ ليسيطر عليهم فيكون ملكا فيهم وزعيما عليهم"2، وقالوا: "فخرج معاوية على علي وعلى المسلمين، بل خرج على الدين لما كان علي بن أبي طالب إمام عامة, ثبتت إمامته بإجماع خرج عليه يشق عصا المسلمين ولا يبالي بما يكون من خصام وما يكون من دماء تسفك على غير حق، بل خرج على الإمام يشق طريق الخصام ولا يبالي بسفك دماء المسلمين"2، هكذا زعموا في معاوية -رضي الله عنه- أما طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة -رضي الله عنهم أجمعين- فقالوا عنهم بعد بيعتهم لعثمان، رضي الله عنه: "وبايعه فيمن بايع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ثم نكثا ما بعنقهما من البيعة, واستنفرا معهما أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر, فحاربهم علي وقهرهم ... أما السيدة عائشة فقد تابت من عملها بعد ذلك, وندمت أشد الندم"3.
موقفهم من مخالفيهم:
سأكتفي هنا بإيراد جزء من خطبة أبي حمزة المختار بن عوف أحد كبار أئمتهم، التي وجهها إلى أهل المدينة المنورة بعد استيلائه عليها فقال: "أيها الناس, نحن من الناس والناس منا إلا عابد وثن وملكا جبارا، وصاحب بدعة يدعو الناس إليها، وإن امتنعوا من ذلك دعوناهم إلى أن نجري عليهم حكم الله تعالى من دفع الحقوق والخضوع لواجب الأحكام, فإن أذعنوا لذلك تركناهم على ما هم عليه ووجب لهم من الحقوق والأحكام ما يجب لنا وعلينا إلا ما كان من الاستغفار, فلا حق لهم فيه ما داموا متمادين على ما هم عليه ووسعنا وإياهم
__________
1 الحقيقة والمجاز ص14.
2 المرجع السابق ص11 و12.
3 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص16 و17.(1/297)
العدل ولهم حقوقهم من الفيء والغنائم والصدقات على وجوهها, ولهم علينا دفع الظلم عنهم كما يجب لسائر المسلمين، والعدل في الأحكام والدفاع عنهم وإن غزوا معنا فلهم سهامهم كما لنا، ومن امتنع منهم مما وجب عليه من الحقوق أدبناه بما يقمعه ونرده إلى سواء السبيل, وإن جاوزوا ذلك سفكنا دماءهم واستحللنا قتالهم وإن اعترفوا بطاعتنا وانفردوا ببلادهم وأجروا فيها أحكامهم تركناهم وذلك ما لم يكن رد على آية محكمة أو سنة قائمة ونستقضي عليهم منهم من يقوم بواجب الحقوق عليهم ولهم ونقبل قوله في ذلك على أسلوب القضاة كلهم, ولا يمنعنا من ولايتهم إلا ما هم عليه ونأخذ منهم كل ما يجب من الحقوق ونردها في فقرائهم وذوي الحاجة منهم وإن اتهمناهم في شيء أعذرنا إليهم, ولا نتركهم يظهرون منكرا بين أيدينا إذا كان عندهم منكرا ديانة ونمنعهم أن يحدثوا في أيامنا ما لم يكن إلا أن يكون أمرا لا مكروه تحته, وإن خرجوا علينا وهزمناهم, فإنا لا نتبع مدبرا ولا نجهز على جريح وأموالهم مردودة عليهم إلا ما كان عائدا لبيت المال, فإنا نأخذه ونصرفه في وجوهه ... وإن قدرنا عليهم قتلنا منهم كل من قتل أحدا منا بعينه قصاصا ونسرح سبيل الأسارى ولا نتبع المنهزمين ولا نعترض أحدا منهم إلا من طعن في الدين أو قتل من المسلمين أو دل عليهم, فهؤلاء يقتلون إذا قدرنا عليهم إلا من تاب قبل ذلك, ونصلي على قتلاهم وندفنهم ونجري المواريث بيننا وبينهم على وجوهها, والأموال والحرمات على وجوهها"1.
مصادر التشريع:
مصادر التشريع عند الأباضية هي مصادره عند أهل السنة, أعني: الكتاب والسنة والإجماع والقياس, لا ينكرون شيئا منها ولا يجحدونه كما وصفهم بعض من كتب عنهم، قال أحد علماء الأباضية: "وأحكام الشريعة كلها مأخوذة من طريق واحد وأصل واحد, وهو كتاب رب العالمين, وهو قوله تبارك وتعالى:
__________
1 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص72 و73.(1/298)
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم.....} 1 الآية، والسنة مأخوذة من الكتاب, قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 2.
والسنة علم بكتاب الله عز وجل وبه أوجب اتباعها والإجماع أيضا علم بكتاب الله عز وجل وبالسنة التي هي من كتاب الله؛ لأن الإجماع توقيف, والتوقيف لا يكون إلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم3.
وعندهم أن ما ذكر في الكتاب أو السنة أو الإجماع, فهو نص والنص أصل يقاس عليه قالوا: "فما وجد في هذه الثلاثة الأصول فهو أصل, وما لم يوجد فهو فرع ويقاس عليهن ما لم يذكر في إحداهن4 وقالوا: لا تقاس الأصول بعضها ببعض, والأصول ما جاء من الكتاب والسنة والإجماع, ويقاس ما لم يأت في الأصول على الأصول، والأصول مسلمة على ما جاءت"5.
وقال ناظمهم:
يستخرج الحكم من الكتاب ... وهكذا من سنة الأواب
كذلك الإجماع فيما اجتمعوا ... كذلك القياس فيما فرعوا6
والمراد بالكتاب القرآن الكريم لا يقولون بتحريفه لا بزيادة ولا نقصان، أما عمادهم في السنة فهو ما جمعه أحد علمائهم وهو: "الجامع الصحيح"، مسند الإمام الربيع بن حبيب, قال عنه أحد علمائهم المعاصرين: "اعلم أن هذا المسند الشريف أصح كتب الحديث رواية, وأعلاها سندا"7، وقال: "فجميع ما تضمنه الكتاب صحيح باتفاق أهل الدعوة "يقصد الأباضية" وهو أصح كتاب بعد
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 3.
2 سورة النساء: من الآية 59.
3 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى الكندي السمدي النزوي "أباضي" ج1 ص50 و51.
4 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى "أباضي" ج1 ص50.
5 المصنف لأبي بكر أحمد بن عبد الله بن موسى "أباضي" ج1 ص50 و51.
6 جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام: عبد الله بن حميد السالمي ج1 ص21.
7 الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب, ومن مقدمة عبد الله بن حميد السالمي ص2.(1/299)
القرآن العزيز, ويليه في الرتبة الصحاح من كتب الحديث"1.
ويقصد بكتب الحديث كتب أهل السنة, فهم يقدمون مسند الربيع بن حبيب أولا ثم صحيح البخاري ومسلم وغيرهما ثانيا. فهم يقبلون ما جاء في كتب الحديث عند أهل السنة ولكن ليس بنفس درجتها عندهم، بل هي تالية لمسند الربيع, وعلى هذا فإن وقع خلاف بين مسند الربيع مثلا وصحيح البخاري أخذوا بما في مسند الربيع.
الآراء الفقهية:
ولا تكاد تجد كبير فارق بين أهل السنة والأباضية إلا كما تجد الفارق بين المذاهب الأربعة، ويرجع ذلك للاتفاق على أصول التشريع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، زد على هذا اعترافهم بالكتب الصحاح عند أهل السنة, ولا تكاد تجد لموقفهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- من أثر على اتجاههم الفقهي؛ لأنهم لا يردون رواياتهم, وإن ردوا فقليلا لا يكاد يبين له أثر بخلاف الشيعة الذين لا يقبلون إلا ما يرد عن أئمة أهل البيت؛ فكان الاختلاف بينهم وبين أهل السنة في الأصول والفروع.
ولا أرى من داعٍ لذكر أمثلة على ذلك, فالفروع كثيرة. أما في الأركان فقال أحد علمائهم: "ولا أعلم بين الفريقين -يعني الأباضية وأهل السنة- خلافا في الصلاة ووجوبها وأدائها في الأوقات الخمسة وعدد الركعات, ولا في الحج وأركانه ومناسكه, ولا في الزكاة ونصابها ومواضع صرفها, ولا في الصوم ووجوبه وأغلب مصححاته ومفسداته"2.
قلت: وإذا كان الاتفاق في الأصول, فإن الاختلاف في الفروع أمر مقبول إن شاء الله, ما دام الاجتهاد فيها مستندا إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس, وما داموا يرجعون إلى كتب أهل السنة والجماعة.
__________
1 الجامع الصحيح: مسند الربيع بن حبيب, من مقدمة عبد الله بن حميد السالمي ص2.
2 مختصر تاريخ الأباضية: أبو الربيع سليمان الباروني ص71.(1/300)
التصوف:
أما الفرق الصوفية كالقادرية والعروسية والرفاعية والعيساوية والساعدية والتيجانية والسنوسية والبكطاشية وغيرها كثير, فليس لها وجود في المذهب الأباضي, وهي في نظره من البدع المحرمة شرعا ولا يتوقف الوعظ والإرشاد وتهذيب النفوس على إحداث مثل هذه الطرق والانتساب إلى رجالها على النمط المعهود عندهم, ومع هذا فلا ينكر الأباضيون كرامة الأولياء ووجود الصالحين من عباد الله المخلصين ولزوم احترامهم, لكن لا على هذا الوجه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} 1، 2.
فهم كأهل السنة يؤمنون بالكرامات ووجود الصالحين من عباد الله, لكن ليس على الوجه الذي يقوم به الصوفية من التبرك بهم والطواف حول قبورهم وتقديسهم؛ ولذا لا تجد في بلاد الأباضية المزارات والقبور ونحو ذلك.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 48.
2 مختصر تاريخ الأباضية: ص70 و71.(1/301)
التفسير الأباضي:
ظاهرة بارزة في تاريخ الأباضية العلمي هي قلة المؤلفات ليس في العصر الحديث فحسب، بل في القديم أيضا، وتبرز هذه الظاهرة أكثر ما تبرز في إنتاجهم في تفسير القرآن الكريم, إذ لا يكاد يذكر لهم من تفسير سوى تفاسير ثلاثة في القديم, وثلاثة في العصر الحديث.
ومن الثلاثة القديمة لا يوجد إلا تفسير واحد في أربعة مجلدات, ومؤلفه هود بن محكم وتداوله بين الأباضية في المغرب، أما الباقي فمفقود وهما تفسير عبد الرحمن بن رستم الفارسي من القرن الثالث، وتفسير يوسف بن إبراهيم الورجلاني من أهل القرن السادس الهجري1.
وفي العصر الحديث لا تجد إلا ثلاثة تفاسير, وتعجب إذا عرفت أنها كلها
__________
1 انظر "التفسير والمفسرون": محمد حسين الذهبي ج2 ص315.(1/301)
لمؤلف واحد, وأن المطبوع من هذه الثلاثة اثنان, أما الثالث فلم يتمه مؤلفه ولم يطبع.
وظاهرة أخرى متعلقة بالظاهرة الأولى, تلكم هي قلة ما يطبع من هذه المؤلفات القليلة, ثم قلة انتشار المطبوع وتوزيعه. وقد عانيت كثيرا في الحصول على بعض هذه المطبوعات وكنت أظن الأمر خاصا بي, فإذا به أعم وكنت أظنه غير مقصود, فإذ بي أحسبه مقصودا، واطلعت على ما حصلت عليه من مطبوعاتهم, علَّ فيها تعليلات فلم أجد ما يوجب هذا العمل.
وعلى كل حال, فقد حصلت والحمد لله على بغيتي وفوق هذا حصلت على الموجود من مؤلفاتهم التفسيرية في العصر الحديث, وهي كما قلت آنفا ثلاثة الموجود منها اثنان, وكلها للشيخ محمد بن يوسف أطفيش:
1- تفسير داعي العمل ليوم الأمل: وهو التفسير الذي لم يكمله مؤلفه, وقد اطلع الشيخ محمد حسين الذهبي على نسخته المخطوطة لدى ابن أخي المؤلف في القاهرة, ورآها تحتوي على تفسير الأجزاء الأربعة الأخيرة من القرآن وتقع في مجلدين1.
2- هميان الزاد إلى دار المعاد: وهو تفسير يقع في 13 مجلدا.
3- تيسير التفسير: ويقع في مجلدات سبعة. وهذان التفسيران هما المطبوع من تفاسير الأباضية في العصر الحديث، بل لم أجد ذكرا لغيرهما ولم يؤلف سواهما في التفسير.
وقد وقفت عندهما حائرا: هل قراءة هذين التفسيرين وهما لمؤلف واحد تعطي صورة حقيقية عن منهج الأباضية في التفسير, أو أنهما يعطيان صورة عن منهج مؤلفهما في التفسير لا منهج الأباضية؟
وقد انقدح في ذهني أن هذا يرجع إلى مدى التزام المؤلف بمذهبه, فإن كان ملتزما بعقيدته الأباضية التزاما كاملا فهو إن لم يعط صورة كاملة بدقائق تفصيلها
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص316.(1/302)
عن المنهج الأباضي, فإنه حتما سيعطي الخطوط العريضة لمنهج الأباضية في التفسير باعتباره ملتزما به.
ثم نظرت إلى مؤلفهما فوجدته إماما من أئمتهم المعتبرين الذين لهم مكانتهم عند الأباضية علما والتزاما, ولو لم يكن متصفا بهاتين الصفتين لما حل عندهم بهذه المنزلة.
فتوكلت على الله وعزمت على اعتبار هذين التفسيرين مصدرا لمنهج الأباضية في التفسير في العصر الحديث, وكان لا بد أن أكتب ترجمة موجزة عن مؤلفهما، ثم تعريفا بالتفسيرين.(1/303)
تفسيري: هميان الزاد إلى دار المعاد, وتيسير التفسير
التعريف بالمؤلف:
اسمه ونسبه:
أما اسمه فهو: محمد بن يوسف بن عيسى بن صالح أطفيّش1، أو أطّفيّش2. وأما ألقابه فكثيرة, منها ما هو نسبته إلى بلده ومنها ما هو نسبته إلى مذهبه. فمن الأول: "الميزابي المصعبي اليسجني"3، ومن الثاني: "الوهبي الأباضي"3، ومنها: "الحفصي العدوي الجزائري"4.
مولده ونشأته:
ولد سنة 1236 في بلدة يسجن في وادي ميزاب بالجزائر, ونشأ بين قومه وعرف عندهم بالزهد والورع واشتغل بالتدريس والتأليف وهو شاب لم يتجاوز
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص319 عن ابن أخي المؤلف.
2 الأعلام: خير الدين الزركلي ج7 ص156، وقال: إنه لفظ بربري مركب من ثلاث كلمات: أطّف بمعنى أمسك وأيّا بمعنى أقبل, تعال, وأش ومعناها: كل, قال: يقال: إن أحد أسلافه لقب به لمناداته صديقا له يدعوه إلى الطعام.
3 مقدمة تيسير التفسير، لصاحب الترجمة ج1 ص5.
4 الأعلام: خير الدين الزركلي ج7 ص156، وقال: الحفصي نسبة إلى أبي حفص عمر بن الخطاب, والعدوي نسبة إلى عدي بن كعب القرشي جد عمر.(1/303)
السادسة عشرة وانكب على القراءة والتأليف, وله من المؤلفات في شتى العلوم ما يربو على الثلاثمائة مؤلف1.
لذا، فهو علّامة في التفسير والفقه والأدب, أباضي المذهب, كان له أثر بارز في قضية بلاده السياسية2.
مؤلفاته:
له "داعي العمل ليوم الأمل" في مجلدين، و"تفسير هميان الزاد" في 13 مجلدا, و"تيسير التفسير" في سبعة مجلدات, و"شرح النيل" في 10 أجزاء كبيرة في الفقه, و"حي على الفلاح" 6 أجزاء فقه و"شامل الأصل والفرع" في علوم الشريعة في جزأين, و"وفاء الضمانة بأداء الأمانة" حديث 3 أجزاء, ونظم المغني لابن هشام في خمسة آلاف بيت، وله مؤلفات عديدة في النحو والصرف والبلاغة والفلك والعروض والوضع والفرائض وغيرها3.
وفاته:
توفي في 23 ربيع الثاني4 سنة 1332هـ وله من العمر ست وتسعون سنة.
التعريف بالتفسيرين:
أول هذين التفسيرين هو "هميان الزاد إلى دار المعاد"5، وهو التفسير
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد الذهبي عن ابن أخي المؤلف ج2 ص319؛ والأعلام للزركلي ج7 ص157.
2 الأعلام: الزركلي ج7 ص157.
3 انظر "التفسير والمفسرون": الذهبي ج2 ص319؛ والأعلام للزركلي ج7 ص157؛ ومعجم المؤلفين: عمر رضا كحالة ج12 ص133.
4 معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة ج12 ص133.
5 ورد هيميان بياءين قبل الميم وبعدها, إلا أنه في مقدمة كتابه: تيسير التفسير أشار إليه باسم "هميان" بياء واحدة بعد الميم، وأرى أن الصحيح هو بياء واحدة؛ لأني لم أجد له معنى بياءين، قال في القاموس: الهميان بالكسر: شداد السراويل، ووعاء للدراهم".(1/304)
الذي ألفه صاحبه في صغره1. طبع في زنجبار بالمطبعة السلطانية سنة 1314هـ، وأصدرت الطبعة الثانية وزارة التراث القومي والثقافة، في سلطنة عمان سنة 1401هـ وبين يدي الجزء الأول من هذه الطبعة ما اطلعت عليه منها حتى الآن2.
وسأرجع في دراستي هذه إلى الطبعة الثانية في الجزء الأول فقط, أما بقية الأجزاء فسأرجع إلى الطبعة الأولى.
أجزاء الكتاب:
ذكر في "التفسير والمفسرون" أن تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد يقع في 13 مجلدا كبيرا3، وذكر الزركلي أنه يقع في 14 جزءا4، أما في مقدمة الطبعة الثانية فذكر وزير التراث العماني أنهم عثروا على نسخة وحيدة منه في 15 جزءا. وقد حاولت التأكد من العدد الصحيح لمجلدات الكتاب فطلبت المجلد الأخير منه في دار الكتب المصرية, فناولوني المجلد الثاني عشر وآخره تفسير سورة الحجرات, واعتذروا بعدم وجود ما بعد هذا المجلد.
وقد لخص المؤلف منهجه في هذا التفسير بقوله: "وبعد, فهذا تفسير رجل يسجني أباضي وهبي, ويعتمد فيه على الله سبحانه وتعالى ثم على ما يظهر لفكره بعد إفراغ وسعه ولا يقلد فيه أحدا إلا إذا حكى قولا أو قراءة أو حديثا أو قصة أو أثرا لسلف، وأما نفس تفاسير الآي والرد على بعض المفسرين والجواب فمنه، إلا ما تراه منسوبا، وكان ينظر بفكره في الآية أولا ثم تارة يوافق نظر جار الله والقاضي5 وهو الغالب والحمد لله وتارة يخالفهما، ويوافق وجها أحسن مما أثبتاه أو مثله ... ويتضمن -إن شاء الله- الكفاية, في الرد على المخالفين فيما
__________
1 تيسير التفسير: محمد بن يوسف أطفيش ج1 ص7 ط2.
2 حصلت بعد صف أحرف كتابي هذا على الأجزاء التالية: الثاني 1401هـ والثالث 1402هـ والرابع 1403هـ ونهايته الآية 51 من سورة النساء.
3 التفسير والمفسرون ج2 ص316.
4 الأعلام للزركلي ج7 ص157.
5 يعني: الزمخشري والبيضاوي.(1/305)
زاغوا فيه وإيضاح مذهب الأباضية الوهبية واعتقادهم, وذلك بحجج عقلية ونقلية"1.
وثاني هذين التفسيرين: "تيسير التفسير للقرآن الكريم" وهو اختصار للتفسير السابق, صدرت الطبعة الأولى منه في سبعة مجلدات طبع بلاد المغرب، وبالحروف المغربية وصدرت أجزاؤه بين سنتي 1325-1327هـ، وقد أعادت وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان طبعه, فصدر الجزء الأول منه بمناسبة مطلع القرن الخامس عشر الهجري, وبين يدي من هذه الطبعة الجزء الأول وهو ما صدر منها حتى الآن2. وكالتفسير السابق سأرجع إلى الجزء الأول من الطبعة الثانية، وبقية الأجزاء إلى الطبعة الأولى.
وذكر المؤلف في مقدمة هذا التفسير سبب تأليفه له فقال: "أما بعد, فإنه لما تقاصرت الهمم عن أن تهيم بهميان الزاد إلى دار المعاد الذي ألفته في صغر السن، وتكاسلوا عن تفسيري: داعي العمل ليوم الأمل, أنشطت همتي إلى تفسير يغتبط ولا يمل, فإن شاء الله قبله بفضله وأتمه قبل الأجل، وأنا مقتصر على حرف نافع ولمصحف عثمان تابع، وأسأل ذا الجلال أن ينعم علي بالقبول والإكمال"3.
__________
1 هميان الزاد إلى دار المعاد ج1 ص5.
2 حصلت بعد صف أحرف هذا الكتاب على الجزء الثاني "بدون تاريخ" والجزء الثالث, وصدر سنة 1405هـ ونهايته آخر سورة الأنعام.
3 تيسير التفسير: محمد بن يوسف أطفيش ج1 ص7.(1/306)
منهجه في التفسير:
درج المؤلف خاصة في تفسيره: هميان الزاد على أن يقدم لكل سورة بمقدمة يذكر فيها أسماء هذه السورة والمدني والمكي منها وعدد آياتها وكلماتها وحروفها, ثم ما ورد من الأحاديث في فضلها, ويختم ذلك ببيان فوائدها.
ذكر المؤلف في أسماء سورة البقرة أن "خالد بن معدان كان يسميها: فسطاط القرآن"1. وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس، وذلك لعظمها
__________
1 هميان الزاد ج1 ص 163 وانظر سنن الدارمي ج2 ص 446- 447.(1/306)
ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تجمع في غيرها وفي حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن1 وسنام كل شيء أعلاه, وفي صحيح مسلم تسميتها وآل عمران الزهراوين1.
وفي المكي والمدني منها قال: "وهي مدنية واستثنى بعضهم منها آيتين: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} ، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} 1 ... إلخ.
وفي عدد آياتها وكلماتها وحروفها قال: "آيها مائتان وخمس وثمانون، وقيل: مائتان وست وثمانون، وقيل: مائتان وسبع وثمانون, وكلمها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون, وحروفها خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف"1.
ثم تحدث عن فضلها فقال: "قال أبو بردة: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه, اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما, اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" 2. وأورد غير ذلك من الأحاديث3.
ثم يختم كل مقدمة بذكر فوائد للسورة أو التداوي بها بما يشبه الأوهام والخرافات, حاشا أن أنكر أن القرآن شفاء ولكن تخصيص بعض الآيات أو بعض السور ببعض الأمراض والآفات مما لا أعرف له دليلا.
قال عن سورة البقرة: "قال جعفر الصادق: من كتب سورة البقرة وأمسكها عليه زالت عنه الأوجاع كلها، وإن علقها أيضا على صغير زالت عنه أوجاعه وهان عليه الفطام ولم يخف عليه -بحول الله تعالى- وإن علقت على المصروع زال عنه الصرع"4.
__________
1 هميان الزاد ج1 ص163، وانظر سنن الدارمي ج2 ص446 و447.
2 رواه الإمام أحمد في مسنده ج5 ص249؛ ومسلم في صحيحه ج6 ص90 باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
3 هميان الزاد ج1 ص163.
4 المرجع السابق ج1 ص164.(1/307)
وأذكر تأكيدا ما أورده أيضا في سورة الفاتحة حيث قال عنها: "وقالوا: وإذا كتبت في إناء طاهر وغسلت ومسح بها المريض وجهه عوفي -بإذن الله تعالى- وإذا شرب من هذا الماء من يجد خفقانا سكن -بإذن الله تعالى- وإذا كتبت بمسك وزعفران في إناء من زجاج طاهر ثم محيت بماء ورد وشرب منها البليد الذي لا يحفظ شيئا حفظ كل ما سمع وزالت بلادته, وإذا كتبت يوم الجمعة في الساعة الأولى في إناء ذهب1 بمسك وكافور ومحيت بماء ورد وجعل ذلك في قارورة ومسح بها وجهه من يدخل على السلطان أو يخاف من عدو نال القبول والهيبة والمحبة من عدوه، وإذا كتبت بماء ورد ومسك في جام زجاج ومحيت بماء كانون وسحق به كحل أصفهاني جلا البصر وصححه وحفظ صحة العين وأزال أمراضها, وإن أضيف إلى الإثمد مرارة ديك أفرق ومرارة دجاجة سوداء واكتحل بها, نظر إلى الأشخاص الروحانية وخاطبهم وخاطبوه بما يريد"2"!! " ثم يستمر في ذكر هذه الخرافات ولا ينسى أن يقول: "إنه إنما يذكر فضائل السور في أوائلها ليرغب الطالب القارئ في تفسيرنا هذا في درسها وحفظها وتكرار قراءتها رجاء لنيل ثوابها"3.
هذا بيان للمقدمة التي التزمها الشيخ أطفيش قبل تفسيره للسورة. ونأتي هنا إلى ذكر أهم القضايا والأسس التي يقوم عليها منهجه في التفسير.
الإطناب:
وإنما بادرت إلى ذكر هذا الأساس وتقديمه على ما سواه؛ لأنه سمة بارزة في هذين التفسيرين. ومما لا شك فيه أن للإطناب محاسن وعيوبا, ولكنه هنا أدى بالمؤلف إلى اقتراف ما لا ينبغي وقوعه من مفسر في تفسيره, نذكر من ذلك أمثلة ثلاثة وقصدي الاختصار.
أولها: عدم الاكتفاء بالتفسير الصحيح الثابت في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ
__________
1 لا يجوز اتخاذ الإناء من ذهب.
2 هميان الزاد ج1 ص16 و17.
3 هميان الزاد ج1 ص17.(1/308)
مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1. ورد بيان الكلمات في آية أخرى بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.
وهو نفسه يورد هذا التفسير الصحيح3, لكنه يضيف إلى هذا -إطنابا- أقوالا لا تصح أو على الأقل لا يصح ذكرها بجانب التفسير القرآني. فذكر أقوالا عديدة نذكر منها قوله: "وعن ابن عباس في رواية: هن ما روي أن آدم -عليه السلام- قال: "يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى قال: ألم تكن أسكنتني الجنة؟ قال: بلى قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بخطيئتك قال: يا رب أأنا أتيت شيئا ابتدعته من تلقاء نفسي، أو شيئا قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: بل قدرته عليك قبل أن أخلقك قال: يا رب كما قدرته علي فاغفر لي". وقال محمد بن كعب القرظي: هي قوله: سبحانك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا, وظلمت نفسي فارحمني, إنك أنت أرحم الراحمين، وقيل: لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, رب عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنك أنت الغفور الرحيم, لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك, ربي عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين. وقالت طائفة: إن آدم رأى مكتوبا على ساق العرش: محمد رسول الله فتشفع به فهي الكلمات ... وقيل: إن الله تعالى أنزل ياقوتة من ياقوت الجنة ووضعها على موضع البيت على قدر الكعبة, لها بابان باب شرقي وباب غربي, وفيها قناديل من نور, ثم أوحى الله تعالى إليه أن لي حرما بحيال عرشي فأته, فطف به كما طاف حول عرشي وصلِّ عنده كما يصلى عند عرشي, فهناك أستجيب دعاك, فانطلق آدم من أرض الهند إلى أرض مكة لزيارة بيت الله وقيض الله تعالى له ملكا يرشده فكان كلما نزل موضعا وضع عليه قدمه صار عمرانا, وما تعداه صار مفاوز وقفارا. فلما وقف بعرفة وكانت حواء تطلبه وقصدته من جدة فالتقيا بعرفة يوم عرفات فعرف كل منهما الآخر فسمي عرفات، فلما
__________
1 سورة البقرة: الآية 37.
2 سورة الأعراف: الآية 23.
3 هميان الزاد ج1 ص485؛ تيسير التفسير ج1 ص59.(1/309)
انصرف إلى منى قال لآدم: "تمن" قال: أتمنى المغفرة والرحمة, فسمي ذلك الموضع منى وغفر ذنبهما"1.
هذه بعض الأقوال لا كلها التي أوردها في بيان الكلمات, ولا شك أن الإطناب أدى به إلى إيراد ما لا يصح.
ثانيها: أدى به الإطناب إلى إيراد الكثير مما ليس مجاله التفسير، بل هو إلى شعوذة الدجالين أقرب, ففي تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2 ... الآية. قال: "ومن كانت أشجاره قليلة الأثمار فليصم الخميس ويفطر في المغرب على هندبا ويصلي المغرب, ثم يكتب هذه الآيات: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى: {خَالِدُونَ} في قرطاس ولا يتكلم ويمضي إلى شجرة تكون في وسط البستان ويعلقها عليها, فإن كان فيها ثمر فليأكل منها واحدة وإن لم يكن لها ثمر فليأكل ورقة من ورقها وإن لم يكن لها ورق فليأكل من ثمر مثلها، ويشرب عليها ثلاث جرعات من ماء وينصرف؛ فإنه يرى ما يسره من حسن الثمرة والبركة إن شاء الله"3.
وقال أيضا: "ومن أراد أن يحبه أحد محبة عظيمة فليأخذ مرآة من فضة جديدة أو عاج ويكتب في كاغد: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} إلى قوله: {قدير} 4، إلى قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} 4 في يوم الجمعة في زيادة الهلال ويأخذ نملتين من شجرة تكون الواحدة طالعة والأخرى هابطة، وما فيها5 ثم تجتمعان ويقفان قليلا وجه الواحدة إلى وجه الأخرى"6 قلت: ونقف بالقلم هنا فلا نهبط معه بنقل هذه الشعوذة والدجل بل السحر.
وأقف أيضا هنا عن نقل أمثلة كثيرة متوفرة, وقد سبقت الإشارة إلى أنواع
__________
1 هميان الزاد إلى دار المعاد ج1 ص485 و486, وانظر تيسير التفسير ج1 ص59.
2 سورة البقرة: الآية 25.
3 هميان الزاد ج1 ص379 و380.
4 سورة البقرة: الآية 20.
5 هكذا وردت.
6 هميان الزاد ج1 ص325.(1/310)
منها عند حديثنا عما يقدمه عند تفسيره لكل سورة من بيان فوائد السورة وما يستطيب بها لأجله.
ثالثها: أدى به ذلك إلى الإطناب فيما أبهم في القرآن الكريم كالحروف المقطعة في أوائل السور, فإنه يورد في تفسير ذلك أقوالا عديدة استغرقتها الصفحات "من 165 إلى ص183" ولا أرى كبير فائدة في إيراد هذه الأقوال أو بعضها ما دامت لا تقوم على دليل صحيح, ومع هذا فإني سأورد الرأي الذي مال إليه وأكتفي بإيراده عن إيراد ما عداه قال: "وكنت أشبه المقام بمقام من أراد أن يتكلم لمن استغرق قلبه في شيء فيقدم إليه ما يصغي به إلى الكلام كأن يجيده أو يغمز بدنه أو يقرعه بالحصى، ومن ذلك الوادي أن تشير إلى من كان في كلام دنيوي بالبسملة تنبيها على أن يقر، ثم رأيت عن الجويني ما يناسبه إذ قال: القول بأنها تنبيهه1 جيد؛ لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي -صلى الله عليه وسلم- في عالم البشر مشغولا, فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: {الم} {الم} {حم} ليسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوت جبريل فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما؛ لأنها من الألفاظ التي تعارفها الناس في كلامهم والقرآن كلام لا يشبه الكلام, فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد؛ لتكون أبلغ في قرع سمعه. انتهى"2.
لكني أذكر, فأشكر للمؤلف أنه ذكر تفسير السلف لهذه الأحرف في تفسيره الآخر: تيسير التفسير حيث قال: " {الم} الله هو العالم بمعناه وبمعنى {المص} ، و {المر} ، {الر} .. وأذكر ما قيل"3 ثم ذكر قولا واحدا.
ومن أسس منهجه: تفسير القرآن بالقرآن:
وهذا ولا شك أصح طرق التفسير وأولاها, والمؤلف كثيرا ما يذكر تفسير
__________
1 كذا وردت, ولعلها: "تنبيهية".
2 هميان الزاد ج1 ص171 و172.
3 تيسير التفسير ج1 ص13.(1/311)
القرآن بالقرآن أو ما يكون شاهدا للآية المفسرة, لكنه كما سبقت الإشارة في الأساس الأول كثيرا ما يورد مع هذا التفسير تفاسير أخرى لا تصح, وكان الأولى الاكتفاء بالتفسير القرآني وبيان معناه. ونذكر من تفسيره القرآن بالقرآن ما أورده عند تفسير الكلمات في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 1، حيث قال: "قال ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن بن علي ومجاهد وعكرمة: تلك الكلمات هي ما حكى الله سبحانه وتعالى عنه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} "2، 3، وفي تيسير التفسير ذكر أن هذا التفسير هو الأصح4.
وفي تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 5، يذكر ما ورد من حديث مرفوع عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تفسيرها باليهود والنصارى ثم يعقب: وذلك واضح من كتاب الله؛ لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر في كتاب الله, كقوله عز وعلا: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} 6، وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ... الآية7. وأما النصارى فمذكورون في الضلال كقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 8، 9.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 37.
2 سورة الأعراف: الآية 23.
3 هميان الزاد ج1 ص485.
4 تيسير التفسير ج1 ص59.
5 سورة الفاتحة: الآية 7.
6 سورة آل عمران: من الآية 112.
7 سورة المائدة: من الآية 60.
8 سورة المائدة: من الآية 77.
9 هميان الزاد ج1 ص155 و156.(1/312)
تفسير القرآن بالسنة:
أصح طرق التفسير بعد تفسير القرآن بالقرآن هو تفسيره بالسنة, والمؤلف هنا يأخذ بهذا النوع من التفسير ويورده كثيرا في تفسيره, يورد منه ما هو تفسير للآية وما هو شاهد, أو له وجه علاقة بها، وهو هنا وهناك لا يلتزم الأخذ بالصحيح فيورد فيه الصحيح والضعيف، بل الموضوع وكل منها كثير وكثير في تفسيره.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1, قال: "أخرج أحمد والترمذي وحسنه2 وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم عنه -صلى الله عليه وسلم- أن " {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} هم اليهود وأن {الضَّالِّينَ} هم النصارى"، وأخرج ابن مردويه عن أبي ذر، سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: "اليهود"، وعن {الضَّالِّينَ} قال: "النصارى"، وكذلك فسر ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد والحسن"3.
وفي تفسير قوله تعالى حكاية لقول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 4, قال المؤلف: "وروى البخاري ومسلم عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل: أي الكلام أفضل؟ فقال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده " 5.
وفي تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 6
__________
1 سورة الفاتحة: الآية 7.
2 قال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب ج5 ص204.
3 هميان الزاد ج1 ص155.
4 سورة البقرة: من الآية 30.
5 هميان الزاد ج1 ص423 و424 ولم أجده في البخاري، ورواه مسلم, كتاب الذكر ج4 ص2093.
6 سورة البقرة: الآية 238.(1/313)
روى: "قال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى -صلاة العصر- ملأ الله بيوتهم نارا" 1.
وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2, قال: "وعن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل أو النبي ومعه الرجلان وأكثر فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما أعلمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الآية " 3، 4.
وكما أشرت آنفا, فإن المؤلف لا يلتزم بالصحيح من الحديث, بل يستدل بالموضوع منها من غير بيان لوضعه أو درجته, ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} 5 أورد من الموضوعات الكثيرة ومنها قوله: "وروى سفيان بإسناده من حديث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما هبط آدم من الجنة إلى الأرض بأرض الهند وعليه ذلك الورق الذي كان لباسه من الجنة إلى أرض الهنديبس وتطاير فعبق منه شجر الهند ففاح العود والصندل والمسك والعنبر والكافور" قالوا: يا رسول الله, المسك هو من الدواب؟ قال: "إنما هي دابة شبه الغزال رعت من ذلك الشجر, فصير الله تعالى المسك من عرقها إذا رعت الربيع جعله مسكا وتساقط فينتفع به الآدميون". قالوا: يا رسول الله, العنبر من دابة في البحر؟ قال:
__________
1 تيسير التفسير ج1 ص380؛ والحديث رواه مسلم ج5 ص128, كتاب المساجد.
2 سورة البقرة: من الآية 143.
3 تيسير التفسير ج1 ص196 و197.
4 رواه الإمام أحمد ج3 ص58.
5 سورة البقرة: من الآية 36.(1/314)
"أجل كانت في البر ترعى, فبعث الله تعالى إليها جبريل فساقها وما معها, حتى قذفها في البحر"1، 2.
وذكر أيضا عند تفسيره للآية السابقة حديثا: "عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بلباس الصوف تجدون به قلة الأكل، وعليكم بلباس الصوف تعرفون به الآخرة، إن النظر في الصوف ليورث في القلب التفكر, والتفكر يورث الحكمة, والحكمة تجري في الجوف مجرى الدم, فمن كثر تفكره قل طعامه وكلّ لسانه, ومن قل تفكره كثر طعامه وقسا قلبه, والقلب القاسي بعيد من الله -عز وجل- بعيد من الجنة, قريب من النار" 3، 4.
وقد يذكر المؤلف الحديث الصحيح الذي لا يوافق مذهبه بصيغة التشكيك في صحته, فمن ذلك مثلا قوله عن حديث الرؤية الثابت "إنكم سترون ربكم ... " الحديث: "وحديث الرؤية إن صح فمعناه ... "5.
الأخذ بالإسرائيليات:
ولا شك أن الموقف الصحيح من الإسرائيليات معروف بين، فما وافق شريعتنا تجوز روايته للاستشهاد لا للاعتقاد, وما خالفها لا تصح روايته, وما ليس من هذا ولا من ذاك فلا بأس بحكايته من غير تصديق ولا تكذيب، بل قال
__________
1 هميان الزاد ج1 ص476.
2 الحديث موضوع. انظر تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة, لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني ج1 ص246.
3 هميان الزاد ج1 ص477.
4 قلت: ما أورده المؤلف من الحديث إنما هو الزيادة, وأصل الحديث: "عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان في قلوبكم". قال البيهقي عن هذه الزيادة: "وهذه زيادة منكرة"، وقال ابن الجوزي في الموضوعات: "لا يصح, الكديمي يضع، وشيخه لا يحتج به"، وقال بهذا أيضا السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج2 ص264.
5 هميان الزاد ج5 ص173.(1/315)
ابن كثير-رحمه الله- عن هذا النوع: "وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين, ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة"1.
والاستشهاد بالإسرائيليات على كل حال مذموم في التفسير للقرآن الكريم, خاصة إذا كثر إيراده والاستطراد فيه إلى حد رواية الغرائب والعجائب التي تصرف عن التدبر في آيات القرآن الكريم.
والمؤلف أكثر من الأخذ بالإسرائيليات وأورد منها في القصص والأخبار ما يصرف القارئ عن تدبر الآيات ومعانيها, واستطرد فيها استطرادا يجعل القارئ ينسى لطول الحديث الآيات المتناولة بالتفسير.
وقد أورد في تفسير قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 2 أقوالا في كيفية إزلال الشيطان -لعنه الله- لآدم وحواء -عليهما السلام- ومن ذلك: " ... وقيل: قام عند الباب فناداهما وروى أنه أراد الدخول, فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية, فدخلت به وهم لا يشعرون "!! "، وقيل: تمثل في صورة دابة فدخل ولم يشعروا "!! " وقيل: كانت الجن تدخل الجنة وإنما منع منها إبليس وحده فأرسل بعض أتباعه منهم فأزلهما فنسب الإزلال إليه لأنه آمر به ومحب له, وذكر بعضهم أن الحية كانت صديقة لإبليس, فلما منعته الخزنة من الدخول أتاها فسألها أن تدخله الجنة في فيها فأدخلته وهم لا يعلمون به "!! " مع أنها مرت عليهم وكان لها أربع قوائم كقوائم البعير من أحسن الدواب, وكانت من خزان الجنة قيل: وسم أنيابها من مكث إبليس في فيها ومسخها الله -عز وجل- لذلك ورد قوائمها في بطنها وقيل: كانا على باب الجنة وكانا يخرجان منها وكان إبليس عدو الله قريبا من الباب, فوسوس لهما وقد دخل مع آدم الجنة لما دخل ورأى ما فيها من النعيم والكرامة ... وقيل: إن إبليس -عدو الله- لما سمع بدخول آدم الجنة حسده, وقال: يا ويلاه أأنا أعبد الله منذ كذا وكذا ألف
__________
1 تفسير ابن كثير ج3 ص192.
2 سورة البقرة: من الآية 36.(1/316)
سنة ولم يدخلني الله الجنة, وهذا خلق خلقه الله الآن فأدخله الله الجنة؟ فاحتال في إخراج آدم -عليه السلام- فوقف على باب الجنة ثلاثمائة سنة حتى اشتهر بالعبادة وعرفوه بها, وهو في كل ذلك ينتظر خروج خارج من الجنة, فبينما هو كذلك إذ خرج الطاووس، وكان من سادات الطيور, فلما رآه إبليس قال: أيها الخلق الكريم على الله, من أنت وما اسمك, فما رأيت من خلق الله تعالى أحسن منك؟ قال: أنا طائر من طيور الجنة اسمي طاووس، فقال له إبليس: أنا من الملائكة الكروبيين, وجعل يبكي"1.
وخلاصة بقية القصة التي أوردها المؤلف كاملة أن إبليس حاول إقناع الطاووس بإدخاله الجنة فأرشده الطاووس إلى من يستطيع إدخاله الجنة وهي الحية, وبعد حوار معها اقتنعت وأدخلت إبليس الجنة، ثم اتصل إبليس بآدم وحواء فأرشدهما إلى شجرة الخلد حيث أكلا منها.
حتى في تفسيره المختصر "تيسير التفسير" أشار إلى هذه الأقوال ثم ذكر المواضع التي أهبطوا إليها، فقال: "فنزل آدم بسرنديب من الهند على جبل يسمى "نود"، وحواء بجدة -بضم الجيم- في مدة أربعين عاما فيما قيل, والله قادر على أقل كما ينزل جبريل وغيره في لحظة وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة، وزوجه بأصبهان أو سجستان أو نصيبين والحية بأصبهان والطاووس بالشام"2. ثم يذكر ترتيب الهبوط: "أهبط إبليس ثم الحية فالطاووس, ثم آدم وحواء"2.
وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} 3 الذي فر بثوبك لتتبعه من مغسلك عاريا ليرى بنو إسرائيل أنه ما بك أدرة، كانوا يغتسلون عراة وموسى في خلوة فاتهموه بانتفاخ بيضته وهو4 ذراع له أربعة أوجه، وقيل: كرأس الرجل من رخام وقيل: خفيف وقيل: حجر كان عند آدم
__________
1 هميان الزاد ج1 ص463-465.
2 تيسير التفسير ج1 ص58.
3 سورة البقرة: من الآية 60.
4 أي: الحجر.(1/317)
وصل مع العصا إلى شعيب فأعطاهما موسى.. ويقال: حجر مربع يخرج من كل وجه ثلاث أعين, لكل سبط عين وكانت من أس الجنة, طولها عشرة أذرع على طول موسى, لها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا حيثما كان, وأمامهم في التيه فلهم عمود من نور ليلا حملها معه آدم من الجنة وتوارثها الأنبياء إلى شعيب فأعطاها موسى1.
وذكر في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 2 الآية، قصة قتيل بني إسرائيل، فقال: "وقد قتل لهم قتيل لا يدرى قاتله اسمه عاميل, وسألوا موسى أن يدعو الله أن يبينه لهم والقتيل ذو مال قتله بنو عمه وقيل: ابنا عمه اثنان، وقيل: أخوه وقيل: ابن أخيه، وهم فقراء ليرثوه، وحملوه إلى باب قرية وألقوه فيه فطلبوا آثاره, وادعوا القتل على رجال جاءوا بهم إلى موسى -عليه السلام- وروى أنه قتله قريب له ليتزوج زوجه، وقيل: ليتزوج بنته وقد أبى"3.
واستمر في سرد هذه القصة, وإنما أوردت أولها لبيان شدة اهتمامه بكل تفاصيل هذه الإسرائيليات واستقصائه للأقوال فيها.
وفي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 4 الآية, ذهب يذكر أنواع السموات فقال: "فالأولى من زبد الماء متجمدا, والثانية من رخام أبيض, والثالثة من حديد, والرابعة من نحاس, والخامسة من فضة, والسادسة من ذهب, والسابعة من ياقوت أحمر، وقيل: الأولى زبد جامد, والثانية من نحاس, والثالثة من فضة, والرابعة من ذهب, والخامسة من ياقوت, والسادسة من زمرد, والسابعة من نور العرش"5.
__________
1 تيسير التفسير ج1 ص86 و87.
2 سورة البقرة: من الآية 67.
3 تيسير التفسير ج1 ص98 و99.
4 سورة البقرة: من الآية 164.
5 تيسير التفسير ج1 ص226.(1/318)
ويلاحظ أني أوردت أكثر ما أوردت من الأمثلة من تفسيره: تيسير التفسير وفيه الكثير, وقصدي من هذا أنه إذا كان هذا ما أورده في المختصر ففي المطول أكثر منه وأطول, وهذا هو الواقع، فللإسرائيليات في التفسيرين مجال رحب.
اهتمامه بالمسائل النحوية واللغوية والبلاغية:
ومن السمات البارزة أيضا في هذا التفسير إسهاب صاحبه في المسائل النحوية خاصة وفي اللغوية والبلاغية لكنهما أقل من الأولى. ومن أمثلة ذلك ما ذكره في إعراب {غَيْرِ} من قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1، فقال: " {غَيْرِ} هو بدل من {الَّذِينَ} بدل مطابق نظرا إلى معنى أن {الْمَغْضُوبِ 2 عَلَيْهِمْ} هم الذين سلموا من الغضب والضلال، وذكر ابن هشام أن البدل بالمشتق ضعيف، لكن لفظه {غَيْرِ} ليست مشتقة وتأويلها بالمشتق مثل المخالف والمغاير لا يمنع إبدالها ولا يضعفه, فإن الاسمية غالبة عليه وتأويلها فرع, ويجوز أن تكون نعتا للذين مبينا إن أريد بـ {الَّذِينَ} المؤمنون فقط، ومقيدا إن أريد به كل من أنعم الله عليه بنعمته دنيوية أو أخروية أو بمطلق الإيمان, وعلى كل من الإبدال والنعت بوجهيه يكون المعنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال، وإن قلت: {الَّذِينَ} معرفة و {غَيْرِ} لا يتعرف بإضافة, فكيف تنعت المعرفة بالنكرة؟ قلت: التحقيق أنها تتعرف بالإضافة إذا وقعت بين المتضادين كما هنا, وذلك إن كان الضد له ضد واحد كما هنا، فإنه ليس في المكلفين إلا المغضوب عليهم والمنعم عليهم, وكما في قولك: الحركة غير السكون. وأما الضدان اللذان لهما أجزاء وأكثر فلا تتعرف بالوقوع بينهما نحو البياض غير السواد, فإن هناك صفرة وحمرة وغير ذلك، والتعريف في ذلك والتعريف في الآية للجنس, فإن المنعم عليه ليس شخصا واحدا وكذا المغضوب عليه كما نصت عليه الآية بصيغة الجمع, وأيضا إذا
__________
1 سورة الفاتحة: الآية 7.
2 هكذا وردت, ولعل الصواب: أن {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} ليستقيم الكلام بعدُ.(1/319)
تقرر أن المراد بـ {الَّذِينَ} الجنس جاز نعته بغير ولو قلنا: إن غير هو نكرة لجواز نعت المعرفة بأل الجنسية والموصول الجنسي بالنكرة نحو قوله:
في أنيابها السم ناقع
فنعت السم بناقع, ومقتضى الظاهر أن يقول: سم ناقع أو السم الناقع وبسطت الكلام على هذه في النحو وقد أجازوا في الجملة بعد ذلك أن يكون نعتا حالا"1.
وفي إعراب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 2، قال: "لم يقع النداء في القرآن بغير يا، وهي الأصل، فما حذف منه حرف النداء مثل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} وآية المؤمنون3 قدر فيه يا لذكرها في غيره ولأصالتها"4.
ويناقش أحيانا المفسرين في إعراب الآيات وما يراه فيها, فمن ذلك إعرابه لقوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} 5، فقال: "و {أَمْ} متصلة متعلقة بقوله: {أَتُحَاجُّونَنَا} , أو منقطعة للانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء ووجه الاتصال ذمهم بجمعهم بين المحاجة في الله والقول بأن إبراهيم ومن معه كانوا هودا أو نصارى، مع كون واحد منهما كافيا في القبح، وأبو حيان لما رأى أن الغالب في المتصلة استدعاء وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن أحدهما وما هنا ليس كذلك، اقتصر على المنقطعة وهكذا عادته، يرى غير الغالب كأنه غير موجود فيقتصر على الغالب6.
وأحيانا يستشهد لصحة الإعراب ببعض القراءات, فمن ذلك إعراب قوله
__________
1 هميان الزاد 1 ص156 و157.
2 سورة البقرة: من الآية 21.
3 كذا وردت, ولعلها خطأ من الناسخ أو مطبعي, وصحتها كما أرى: وآية {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} ا. هـ وهي إشارة إلى قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] والله أعلم.
4 تيسير التفسير ص31.
5 سورة البقرة: من الآية 140.
6 تيسير التفسير ج1 ص191.(1/320)
تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} 1, فقال: " ... ومفعول {أَضَاءَ} محذوف أي: كلما أضاء لهم مومضا أو شيا شجرة "كذا" أي: نوره مشوا في مطرح نوره, فالهاء عائدة إلى البرق ويجوز عودها إلى الوضع الذي أضاء لهم المحذوف, ويجوز كونه لازما أي: كلما ظهر لهم البرق ولمع مشوا فيه، ويدل له قراءة ابن أبي عبلة: "كلما أضاء2 لهم" بترك الهمزة الأولى والهاء للبرق"3.
ويعتني في تفسيره بالمسائل اللغوية والبلاغية ويوليها اهتماما بالغا وبيانا واضحا، فقال مثلا في تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 4: "والعمى عدم البصر مما في شأنه أن يبصر فلا يقال لغير الحيوانات: أعمى ولا لما لا عين له منها فمن خلق بلا عينين لا يقال له أعمى؛ لأنه ليس من شأنه أن ينظر بلا عين وكذا من خلق بعين واحدة لا يقال لموضع عينه الأخرى أعمى، ويطلق العمى أيضا على عدم نور القلب فمن لا نور في قلبه يميز به الحق فلا فائدة في نظر عينيه لما لم يستعملوا آذانهم وألسنتهم وعيونهم فيما خلقت له من الهدى سموا بأسماء من لا سمع ولا نطق ولا بصر لهم إذ لم ينتفعوا بها، فكانت كالعدم فهم كمن إيفت حاسته -بكسر الهمزة وإسكان الياء كبيعت- أي: أصيبت بآفة، قال الشاعر:
ما بال قوم صديق ثم ليس لهم ... عهد وليس لهم دين إذا أتمنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أي: إذا سمعوا خيرا ذكرت به صاروا كمن لا يسمع فلا ينطقون به ولا ينشرونه, وإن ذكرت بسوء كانت لهم آذان السمع فيعونه وينشرونه أو من أذنت للشيء إذا أصغيت إليه. وقال آخر:
أصم عما ساءه سميع
__________
1 سورة البقرة: من الآية 20.
2 كذا كتبت, ولعله أراد "ضاء" بحذف الهمزة الأولى.
3 هميان الزاد ج1 ص316.
4 سورة البقرة: الآية 18.(1/321)
وقال آخر:
أصم عن الشيء الذي لا أريده ... وأسمع خلق الله حين أريد
وعدي أصم بعن لتضمين معنى التغافل, وقال آخر:
وأصممت عمرا وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار
وكل من لفظ أصم وأبكم وأعمى صفة مشبهة لا اسم تفضيل، والآية من باب الاستعارة التصريحية باعتبار كل واحد من لفظ صم ولفظ بكم ولفظ عمي فتلك ثلاث استعارات، أو ذلك كله استعارة تمثيلية، وإنما قلت بأن ذلك من الاستعارة مع كون المشبه والمشبه به كليهما مجتمعين في الكلام من حيث إن المشبه به خبر للمشبه المحذوف المقدر المجعول من أجزاء الكلام فكأنه مذكور، أي: هم صم بكم عمي، أو هؤلاء صم بكم عمي؛ لأنه لا فرق عندي في الاستعارة بين عدم كون المشبه من أجزاء الكلام وكونه من أجزائه مذكورا أو مقدرا، إذا لم يقصد المتكلم التشبيه بل قصد أن المشبه هو نفس المشبه به مبالغة"1، ثم ذهب يوجه هذا القول في شيء من الاستطراد لا حاجة لنقله هنا.
وهو لا يسلم دائما بما يقوله علماء اللغة، بل يناقشهم ويرد عليهم فمن ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} 2، فقال: "والبعوضة واحد البعوض وهو البق الصغار فيما ذكره الجوهري, وليس كذلك بل هو الحيوان الذي يطير وينتشر في الأجنة صيفا, سمي من البعض بمعنى القطع، يقال: بعضة وبضعة وعضبة أي: قطعة. قال الشاعر:
لنعم البيت بيت بني دثار ... إذا ما خاف بعض القوم بعضا
أي: قطعا"3.
__________
1 هميان الزاد ج1 ص297 و298.
2 سورة البقرة: من الآية 26.
3 المرجع السابق ج1 ص384 و385.(1/322)
وأحيانا يستشهد من اللغة لأسلوب القرآن, ففي الآية السابقة مثلا يقول: "ومما قيل في الاستخفاف بالبعوض قوله:
إذا كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من كنت عبده
وأشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده
يعني الدنيا، وقوله:
لا تستخفن الفتى بعداوة ... أبدا وإن كان العدو ضئيلا
إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولربما جرح البعوض الفيلا
وقوله:
لا تحقرن صغيرا في عداوته ... إن البعوضة تدمي مقلة الأسد"
وهو لا يتعصب لرأيه في اللغة فيستدل للرأي الآخر كما يستدل لرأيه، ففي تفسير الفوقية في قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} من الآية السابقة، يرى أن المراد بها: "ما زاد على بعوضة في صغر الجثة كجناحها كما ضرب به المثل في الحديث, وهكذا كنت أفسر الفوقية بالغلبة في الصغر والزيادة فيه ورأيت بعد ذلك زكريا قال: إنه مذهب المحققين لمطابقته البلاغة، ولما سيق له الكلام" إلى أن قال: "وقيل: معنى ما فوقها وما زاد عليها في الكبر كالذباب والعنكبوت أي: لا يستحي أن يضرب مثلا بالبعوضة فضلا عما فوقها ويحتمل الوجهين ما روى مسلم عن إبراهيم عن الأسود أنه دخل شباب من قريش على عائشة وهي بمنى وهم يضحكون فقالت: ما يضحككم؟ فقالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه تذهب، فقالت:
لا تضحكوا إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها, إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" 1.
__________
1 رواه مسلم، كتاب البر والصلة ج4 ص1991.(1/323)
فإنه يحتمل أن يكون المراد ما جاوز الشوكة في القلة كنخبة النمل أي: عضتها في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة"، ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع كالخرور على طنب الفسطاط"1.
وقارئ هذا التفسير يعجب لسعة معارف المؤلف اللغوية, خاصة إذا عرف أن لغته الأصلية هي البربرية، فقد قال في أحد المواضع: "وذلك متبين في لغتنا البربرية"2، وقال في موضع آخر: إنا نقول: في لغتنا البربرية ... "3.
اهتمامه بالقراءات وتوجيه بعضها:
اعتنى المفسر في تفسيريه ببيان أوجه القراءات فيما يتناوله من الآي, مما يدل على سعة اطلاعه في هذا المجال وهو حينما يتناول هذا لا يقف موقفا سلبيا، بل تراه يوجه بعض القراءات ويستدل لها ويبين معنى الآية على تلك القراءة، قال في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} 4: "وقرأ ابن أبي عبلة: "لأذهب بأسماعهم وأبصارهم" فالباء فيها صلة للتأكيد ومدخولها مفعول به والتعدية بالهمزة لا بها بخلافها في قراءة الجمهور، فإنها للتعدية لعدم الهمزة فيها وإنما جعلت حرف التعدية في قراءة ابن أبي عبلة هو الهمزة والصلة هي الباء؛ لأن الأصل في التعدية الهمزة لا الباء, ولأنها الكثير في التعدية والباء فيها قليلة بالشبه"5.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 6: "وقرأ عبيد بن عمير: "مطّهّرة" بتشديد الطاء وكسر الهاء مشددة, والأصل: متطهرة أبدلت التاء طاء
__________
1 هميان الزاد ج1 ص386.
2 المرجع السابق ج1 ص454.
3 المرجع السابق ج1 ص436.
4 سورة البقرة: من الآية 20.
5 هميان الزاد ج1 ص322 و323.
6 سورة البقرة: من الآية 25.(1/324)
فأدغمت في الطاء بعدها, قال بعض العرب: ما أحوجني إلى بيت الله فأطهر به تطهرة، وفي هذا الكلام دليل على جواز لحوق التاء للمصدر الذي على وزن التفعل ولو كان صحيح اللام إذا أريدت الوحدة مثل: تعلم تعلمة، وإن قلت: لم لم يقل: طاهرة أو متطهرة؟ قلت: لأن مطهرة أبلغ لأن معناه أن غيرهن قد طهرهن، وما هو إلا الله عز وجل. وأما طاهرة ومتطهرة فمعناهما طاهرات لا أن مطهرا طهرهن، ومتطهرة أبلغ من طاهرة؛ لأن التفعل للكسب والعلاج, فكأنهن قصدن الطهارة وبالغن فيها، وكذا قرأ به عبيد لكن أدغم1.
ويستدل أحيانا لبعض الأقوال في التفسير ببعض القراءات, فمن ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} 2.
"والمراد: مصرا من الأمصار، أو القاهرة أو أعمالها، وعلى الأخيرين نون مع أنه علم القاهرة أو أعمالها؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط كهند، أو بتأويل البلد أو المحل، ويدل لهما قراءة عدم التنوين"3.
وقال عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 4: "وقرأ ابن كثير بنصب {آدَمُ} ، ورفع {كَلِمَاتٍ} ؛ لأن المتلاقيين, كل منهما لقي الآخر, فالكلمات جئن إلى آدم واستقبلنه حتى وصلنه, تقول: تلقيت المسافر وتلقاني. والتلقي استقبال من جاء من بعد واستعماله في آدم على قراءة الجمهور وفي الكلمات على قراءة ابن كثير مجاز، وما ذكرته أولى من حمل قراءة ابن كثير على القلب"5.
وفي قوله تعالى: {الَّتِي وَقُودُهَا} 6 قال: "أي: ما توقد به, وأما الوقود
__________
1 هميان الزاد ج1 ص377 و378.
2 سورة البقرة: من الآية 61.
3 تيسير التفسير ج1 ص89 و90.
4 سورة البقرة: من الآية 37.
5 هميان الزاد ج1 ص485.
6 سورة البقرة: من الآية 24.(1/325)
-بضم الواو- فمصدر بمعنى اشتعال النار، وقرأ به عيسى بن عمر الهمداني. أما على المصدرية مبالغة بحيث نزل قوة الاشتعال منزلة الناس والحجارة، كأن نفس الناس والحجارة هي الاشتعال، كقولك: زيد صوم إذا أكثر الصوم وقولهم: حياة السراج الزيت أي: ما يحيا إلا به، فكأنه نفس الزيت، وما تتقد النار إلا بالناس والحجارة, فكأن الاتقاد نفس الناس والحجارة. وأما على المصدرية وتقدير مضاف أي: متعلق {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} , أو محل {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} , أو وقودها احتراق الناس والحجارة, أو اشتعال الناس والحجارة بها, أما على التسمية بالمصدر بدون أن تعتبر المبالغة ولا تقدير مضاف كقولك: زيد فخر قومه وزين بلده أي: والذي يفتخر قومه به ويتزين بلده به وقيل: كل من الوقود بالفتح، والوقود بالضم يكون اسما لما تتقد به, ومصدرا بمعنى الاتقاد, قال سيبويه: سمعنا من يقول: وقدت النار وقودا عاليا، والاسم بالضم"1.
ولا أدل من اهتمام المؤلف بالقراءات وتوجيهها من أنه يعقد أحيانا فصولا استطرادية, فمن ذلك مثلا الفصول التي عقدها في أحكام الياء عند القراء، فصل كل ياء بعدها همزة مفتوحة، فصل كل ياء بعدها همزة مكسورة، فصل كل ياء بعدها همزة مضمومة، فصل كل ياء بعدها ألف ولام، فصل كل ياء بعدها ألف مفردة، فصل أحكام الياء عند باقي حروف المعجم2.
عنايته بالأحكام الفقهية:
قلت في الحديث عن آراء الأباضية الفقهية: إنه ليس بينهم وبين أهل السنة فارق يذكر, فهم يوافقونهم في الأصول, أما في الفروع فخلافهم كالخلاف بين المذاهب الأربعة وقد يتجاوزونه فينفردون برأي دون المذاهب الأربعة.
وصاحب التفسيرين سار في تفسيره لآيات الأحكام وفق مذهبه الأباضي, ولا يمنعه هذا من أن يورد آراء المذاهب الفقهية الأخرى.
__________
1 هميان الزاد ج1 ص356 و357.
2 انظر الصفحات من 501 إلى 505؛ هميان الزاد ج1.(1/326)
قال في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1:
"استدل المعتزلة والفخر بالآية على أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحل إن كانت نافعة، وعليه كثير من الشافعية والحنفية ولا تحتمل الآية أن اللام للضرر، مثل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ولا دليل على أن المراد بالآية الإباحة على شرط نزول الوحي بها، وقيل: إنها قبل الشرع على الحظر، وقيل بالوقف، والأول أولى"2.
وأفاض في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} 3 الآية، فمما قال: "وائتوا بهما تامين بشروطهما وأركانهما ولا تكدروهما بشيء، والأمر فيهما واجبان ذاتا وتماما"4.
ثم رد على من قال: إن العمرة ليست واجبة، أما الإحصار في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فقال: "أي: منعتم عن الإتمام بعدو أو مرض أو غيرهما كضياع نفقة"، ثم قال: "هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة, ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم: "لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس" وهو عموم. قال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار, وروي عن بعض الصحابة: من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه, فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، وأهل عمر بن سعيد بعمرة فلسع فقال ابن مسعود: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة, فإذا كان ذلك فليحل, وخص مالك والشافعي الحكم بحصر العدو لقوله: {فَإِن أَمِنْتُمْ} وقول ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو ويعترض بالحديث المرفوع قبل هذا، وليس ضعيفا, قيل: لأنه روي من طرق مختلفة، وأن شرط الحاج محلي حيث حبست فلا هدي عليه أن حبس بعدو أو غيره لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب: "حجي
__________
1 سورة البقرة: من الآية 29.
2 تيسير التفسير ج1 ص46.
3 سورة البقرة: من الآية 196.
4 تيسير التفسير ج1 ص287.(1/327)
واشترطي وقولي: محلي حيث حبستني يا الله"1 والأصل أنه لا يختص هذا بها بل هو لها ولغيرها عند أحمد وأحد قولي الشافعي, والحديث حجة لنا ولأبي حنيفة أن غير العدو كالعدو في الآية, والعمرة كالحج2.
ويرى أن المرض الذي يبيح الفطر في رمضان لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} 3 الآية: "مرضا يشق معه الصوم بعض مشقة أو يضره أو يتأخر معه برؤه أو يزيد به المرض, وذلك بالتجربة أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 فإذا كان الصوم يعسر مع مرض حل الإفطار، لا كما قيل عن ابن سيرين أنه أفطر لوجع أصبعه ولا كما قال الشافعي: لا يفطر حتى يجهده الجهد الذي لا يحتمل, وروي عن مالك أنه يفطر صاحب الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه إن شاء، واحتج من أباح الإفطار بالمرض ولو لم يعسر ولم تكن فيه مشقة بإطلاق الآية وهو رواية عن الشافعي وهو قول ابن سيرين والحسن البصري، وبأن السفر قد يخلو من مشقة وحل الإفطار فيه ولو بلا مشقة لأنه سبب لهما، ويجاب بأن الرخصة لم تتعلق بنفس المرض لتنوعه إلى ما يزاد بالصوم، وإلى ما يخفف به، ولا يكون مرخصا البتة، فجعل ما يزاد به مرخصا بخلاف السفر؛ لأنه لا يعرى عن المشقة فجعل نفسه عذرا"5.
أما القدر المباح عند الضرورة من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به في قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} 6 "في الأكل من ذلك بقدر ما يوصله أو يحيا به ولا يأخذ معه من ذلك، والمذهب تحريم
__________
1 البخاري: النكاح ج6 ص123؛ مسلم: الحج ج2 ص868, وكلاهما بلفظ: "اللهم محلي حيث حبستني".
2 تيسير التفسير ج1 ص289 و290.
3 سورة البقرة: من الآية 184.
4 سورة البقرة: من الآية 185.
5 تيسير التفسير ج1 ص262.
6 سورة البقرة: من الآية 173.(1/328)
الزيادة على ما يمسك الرمق وكذا روي عن أبي حنيفة والشافعي, وقال عبد الله بن الحسن البصري: يأكل قدر ما يدفع الجوع, وقال مالك: يأكل حتى يشبع ويتزود, فإذا وجد الحلال طرحه"1.
وغالب آراء المؤلف الفقهية بل المذهب الأباضي موافق لمذهب أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- لذا كثيرا ما نرى المؤلف يقول: ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة بل قال في أحد المواضع عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى: "وهو كثير الوفاق بينه وبيننا, معاشر الأباضية الوهبية في المسائل"2.
وقد يختلفون برأي عن الحنفية بل عن المذاهب الأربعة كلها, فشذوا مثلا بالقول بفطر من أصبح جنبا, حيث قال المؤلف في تفسير قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 3: "حتى غاية للأكل والشرب لا لهما وللجماع لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبا أصبح مفطرا" 4، فيجب الكف عنه إذا لم يبق ما يتطهر فيه"5, فهو إذًا يرى أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إنما هو غاية للأكل والشرب
__________
1 تيسير التفسير ج1 ص243.
2 المرجع السابق ج1 ص357.
3 سورة البقرة: من الآية 187.
4 ورد بعدة روايات عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وقد روى البخاري في صحيحه ج2 ص132 عن عائشة وأم سلمة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. وقال ابن حجر بعد أن ساق عدة روايات عن أبي هريرة: "فاتفقت هذه الروايات على أنه كان يفتي بذلك" وقال: "وروى ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبا فلا صوم له" وأورد ابن حجر رواية ابن جريج: "فقال أبو هريرة: هما قالتاه؟ قال: نعم قال: هما أعلم" ورواية النسائي "هي -أي عائشة- أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا" وقول بعضهم: "إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك ورواية اثنين تقدم على رواية واحد ولا سيما وهما زوجتاه, وهما أعلم بذلك من الرجال ... إلخ".
فتح الباري ج4 ص143-148.
5 تيسير التفسير: ج1 ص273.(1/329)
فقط. أما الجماع فغايته قبل هذا التبين بوقت كافٍ للغسل, وهو خلاف مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا1.
والمؤلف لا يلتزم كثيرا المذهب الأباضي في الفقه بل يخالف أحيانا بعض أصحابه, فهو يرى فيمن أفطر شهر رمضان كله لعذر أن يقضي عدد أيام شهر رمضان الذي أفطره "إن كان تسعة وعشرين قضى تسعة وعشرين فقط. ولو بدأ القضاء من أول شهر وكان فيه ثلاثون, فلا تهم فإنما عليه قضاء شهر رمضان الذي خوطب به, فإذا كان من تسعة وعشرين لم يزدد, والآية حجة لي وذكر بعض أصحابنا وشهروه وبعض قومنا أنه إن بدأ من أول الشهر أتمه زاد على رمضان أو نقص, وبعض إن نقص أتمه"2.
وكذا في إفطار المريض أيلزمه تبييت النية للإفطار أم لا؟ فقال: "أما المريض فيبيت الإفطار من الليل وإن أفطر بلا تبييت وخاف على نفسه أو عضوه أفطر بقدر ما يصل به الليل، وقيل: أو بما يشاء فيبيت نية الإفطار في الليل المستقبل، وزعم بعض قومنا أن يفطر المريض بلا تبييت إفطار بخلاف المسافر لقوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وليس بشيء لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فليتم المريض يومه إن قدر على إتمامه كالمسافر"3.
وأحيانا يصرح بخلافه للمذهب, فمن ذلك قوله: "والمذهب أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا, والذي عندي أنه شرع لنا وأنه يقدم على الاجتهاد ما لم ينافه القرآن أو الحديث أو الإجماع بدليل راجح, ولا خلاف في أنه ليس شرعا لنا إذا صرح في ذلك بخلافه ولا يصح أن شيئا شرع لمن قبلنا إلا إن ذكر عنهم في القرآن أو الحديث أو الإجماع أو رواه ثقة أسلم منهم كعبد الله بن سلام"4.
__________
1 انظر تفسير ابن كثير ج1 ص230.
2 تيسير التفسير ج1 ص263.
3 تيسير التفسير ج1 ص263.
4 المرجع السابق ج1 ص327.(1/330)
التزام المذهب الأباضي في العقيدة:
التزم المفسر في تفسيريه المذهب الأباضي في العقيدة وهو كغيره من المفسرين أصحاب المذاهب الأخرى لا يكاد يجد آية يوافق ظاهرها مذهبه إلا جعلها دليلا عليه ولا آية تخالف مذهبه إلا أولها بما لا يكون بينها وبين مذهبه خلاف أو معارضة، ونحن حين نسوق تأويله لبعض الآيات من هذا وذاك نعني بالعرض أكثر من سواه -كما هو مسلكنا في غيره من المذاهب- فنقول:
الأسماء والصفات:
يرى المؤلف "أن أسماء الله توقيفية، وقيل: تقاس فيما ورد فيه لفظ الفعل أو غيره مسندا فنقول: الله تائب على عباده؛ لورود تاب عليه وتاب عليهم، وباني السماء وداحي الأرض"1.
وينكر الجهة لله تعالى فيقول: "والله ينزه عن الجهات والأمكنة والتنقل"2.
أما الغضب في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} 3 فقال عنه: "والغضب هيجان النفس إرادة الانتقام، وعبارة بعضهم: تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام, وقيل: هيجان دم القلب لإرادة الانتقام وذلك كله في حق المخلوق، وإذا كان مسندا إلى الله تعالى كما هو المراد في الآية فالمقصود لازم ذلك ومسببه, وهما الانتقام وإن شئت فقل: العقاب"4.
أما الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} 5 فقال: "ومعنى استوئه تعالى إلى السماء: قصده إليها وتوجيه الإرادة إليها بأن يخلقها, يقال: استوى زيد إلى كذا كالسهم المرسل إذا قصده من غير أن يميل إلى غيره فكذا
__________
1 تيسير التفسير ج1 ص60.
2 المرجع السابق ص60.
3 سورة الفاتحة: من الآية 7.
4 هميان الزاد ج1 ص158.
5 سورة البقرة: من الآية 29.(1/331)
خلق ما في الأرض وخلق بعده السموات بلا خلق شيء بين خلقهن وخلق ما في الأرض ووزن استوى: افتعل بمعنى تكلف السواء وهو أصل معناه وأطلق في اللغة على الاعتدال: تسوية وضع الأجزاء، تقول: استوى زيد على الأرض أي: جلس عليها جلوسا مستوية إليه أعضاؤه التي جلس بها معتدلا, ولا يصح حمل الآية على ذلك؛ لأنه من خواص الجسم والله -جل وعلا- ليس جسما ولا عرضا, لو كانت الآية على هذا المعنى لقال: ثم استوى في السماء أو على السماء لا {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} لكن الله -جل وعلا- لا يوصف بهذا المعنى ولو قال: في السماء أو على السماء لكان ماولا1 بالقهر والغلبة, ويجوز تأويل الآية بهما، لكن تأويلها بالقصد والإرادة أولى لأنه أقرب إلى أصل الاستواء وهو تكلف السواء ولتعديته بإلى وللتسوية المرتبة عليه بالفاء، وعن ابن عباس: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ارتفع إليها, وفي رواية صعد والمراد: ارتفاع أمره أو صعد أمره أو ارتفع إليها وصعد بقصد وإرادة, قال الطبري: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كيسان: قصد إلى السماء أي: بخلقه واختراعه؛ وذلك لأنه تعالى منزه عن الانتقال والحلول, والمراد بالسماء الجهة العليا التي فيها السموات؛ لأنه ليس فيها حين الاستواء إليها سماء ولا سموات"2.
وفي تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 قال: "و {اسْتَوَى} بمعنى استولى بالملك والغلبة والقوة والتصرف فيه كيف شاء, و {الْعَرْشِ} جسم عظيم, وذلك مذهبنا ومذهب المعتزلة وأبي المعالي وغيره من حذاق المتكلمين وخص العرش بذكر الاستيلاء لعظمه, ويصح أن يكون المعنى استوى أمره ولم يكن فيه عوج, فكنى عن ذلك باستوى على العرش"4.
أما يمين الرحمن فأولها بقوله: "ويمين الرحمن عبارة عن المنزلة الرفيعة
__________
1 كذا وردت, ولعلها: مؤولا.
2 هميان الزاد ج1 ص406.
3 سورة الأعراف: من الآية 54.
4 هميان الزاد ج6 ص361.(1/332)
والعرب تذكر "يمين" في الأمر الحسن, ودل لذلك قوله: "كلتا يديه يمين"1, التأويل في مثل ذلك هو الحق وأما قول سلف الأشعرية في مثل ذلك: إنا نؤمن به وننزهه عن صفة الخلق ونكل معناه إلى الله نقول: هو على معنى يليق وكذا طوائف من المتكلمين فجمود وتعامٍ عن الحق"2.
إنكار الرؤية:
وهو ينكر إمكان رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل يكفر من قال بها أو أجازها. فعد طلب قوم موسى -عليه السلام- لرؤية الله "ارتدادا منهم"3. وقد ذكر في هذا الموضع عددا من الروايات عن طلب قوم موسى رؤية الله ثم ذكر رواية أن موسى -عليه السلام- سأل ربه أن ينظر إليه بالمجاهرة ثم عقب على هذه الرواية بقوله: "وهذه الرواية تقتضي أن موسى يجيز الرؤية حتى سألها ومُنعها وليست كذلك بل إن صح سياق هذه الرواية فقد سألوه الرؤية قبل ذلك, فنهاهم عن ذلك وحرمه أو سكت انتظارا للوحي في ذلك, فلما فرغ وخرج عاودوه ذكر ذلك فقال لهم: قد سألته على لسانكم كما تحبون, لأخبركم بالجواب الذي يقمعكم لا لجواز الرؤية فتجلى للجبل بعض آياته فصار دكا فكفروا بطلب الرؤية لاستلزامها اللون والتركيب والتحيز والحدود والحلول والعجز عن الاستقلال وعما بعد عن المحل كل العجز أو بعضه والجهل به كل الجهل أو بعضه, وذلك كله يستلزم الحدوث وذلك كله محال عن الله وإذا كان ذلك مستلزما عقلا لم يختلف دنيا وأخرى فالرؤية محال دنيا وأخرى، ولا بالإيمان والكفر والنبوة وعدمها"4.
والمؤلف ينكر على من علل أخذ الصاعقة لهم بسبب اشتراطهم الرؤية
__________
1 من حديث: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل, وكلتا يديه يمين, الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" رواه مسلم: الإمارة ج3 ص 1458؛ وأحمد ج2 ص160؛ والنسائي: آداب القضاة ج8 ص221.
2 هميان الزاد ج5 ص339.
3 تيسير التفسير ج1 ص79.
4 هميان الزاد ج2 ص42 و43.(1/333)
للإيمان: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 1 وليست الصاعقة لمجرد طلبهم الرؤية، ينكر المؤلف هذا القول، حيث يقول: "فأخذتهم الصاعقة بظلمهم, إذ سألوا رؤية الله جل وعلا الموجبة لتشبيهه بالخلق, والصاعقة نار لطيفة من السماء, وقالت الأشعرية: الصاعقة إنما هي من أجل امتناعهم من الإيمان بما وجب إيمانه2 إلا بشرط الرؤية لا من أجل طلب الرؤية وهو خلاف ظاهر الآية مع أن الرؤية توجب التحيز والجهات والتركيب والحلول واللون وغير ذلك من صفات الخلق, ويدل لما قلته قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} 3 والأشعرية لما أفحموا قالوا: بلا كيف, وحديث الرؤية إن صح فمعناه: يزدادون يقينا بحضور ما وعد الله في الآخرة, فلا تشكون في وجود الله وكمال صدقه وقدرته كما لا تشكون في البدر"4.
وقال في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 5 الآية: "والآية دليل على كفر مجيز الرؤية دنيا أو أخرى؛ وذلك لأن إجازتها ولو في القلب إجازة لتكييفه، وتكييفه ممتنع لأن فيه تشبيها، وإدراكه بالقلب تكييف لا يتصور بدونه فلا يصح قولهم: بلا كيف وتكييفه في القلب بلا تقدير أن يكيفه لغيره هو من نفس المحذور، فبطل قول طوائف من المبتدعة أن الصاعقة ليست لمجرد الطلب بل لعنادهم واشتراطهم, وإذا كان المنع للتشبيه لم يضرنا أنها نزلت لطالبها في الدنيا"6.
القول بخلق القرآن:
جرى المؤلف في تفسيريه على مذهبه المذهب الأباضي في القول بأن كلام الله مخلوق, فقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
__________
1 سورة البقرة: من الآية 55.
2 صحة العبارة: بما وجب الإيمان به.
3 سورة الأنعام: من الآية 103.
4 هميان الزاد: ج5 ص172 و173.
5 سورة البقرة: من الآية 55.
6 تيسير التفسير ج1 ص81.(1/334)
نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 1 الآية: "والقائلون هم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه الذين لم يعبدوا العجل لميقات وقت لهم من خيارهم, أمره الله أن يأتي بهم إلى طور سيناء ليعتذروا ويطلبوا العفو عن عبادة العجل فأتى بهم وأمرهم أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ويصوموا وقالوا له: ادع الله أن يسمعنا كلامه فأسمعهم" إلى أن قال: "سمعوا كلام الله بأن خلق صوتا في أبدانهم أو في الهواء أو حيث شاء وفي أبدانهم وأسماعهم"2.
بل قال ما هو أصرح من هذا في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3، حيث قال: "النسخ دليل على أن القرآن حادث مخلوق، ولا نثبت الكلام النفسي فضلا عن أن يقال: التعبير من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي، وهي الأفعال، في الأمر والنهي، والنسب الخبرية في الخبر، وفي إثبات الكلام النفسي إثبات كون الله ظرفا ومتحيزا, وإن رجع ذلك إلى العلم لزم أن كل ما علمه قديم، والقرآن هو هذه الألفاظ لا غيرها"4.
حقيقة الإيمان:
أفاض الشيخ أطفيش الحديث في تفسير قوله تعالى في وصف المتقين بـ {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 5، أفاض في الحديث عن الإيمان فكتب فيه من ص193 إلى ص210 أي: ما يقرب من ثماني عشرة صفحة ليس بوسعنا هنا نقلها بل أذكر ما يعطي صورة واضحة عن عقيدة المؤلف عن المذهب الأباضي.
بعد أن عرف الإيمان لغة قال: "والإيمان في الشرع يطلق تارة على التصديق بما علم بالضرورة أنه من دين سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-
__________
1 سورة البقرة: من الآية 55.
2 تيسير التفسير ج1 ص80.
3 سورة البقرة: من الآية 106.
4 تيسير التفسير ج1 ص151.
5 سورة البقرة: من الآية 3.(1/335)
كنفي الشركة عن الله سبحانه وتعالى وإثبات النبوة والرسالة والبعث والجزاء، ومعنى كون ذلك معلوما بالضرورة أنه مشهور، حتى كأنه أمر ضروري لا يحتاج إلى كسب، ثم ما لوحظ إجمالا كالملائكة والكتب والرسل، كنفي1 الإيمان به إجمالا وما لوحظ تفصيلا كجبريل وموسى والإنجيل اشترط الإيمان به تفصيلا حتي إن من لم يصدق بمعين من ذلك فهو مشرك، كذا ذكر بعض الشافعية وهو حق كما نقول معشر الأباضية الوهبية، إلا أن جمهورنا يوجب معرفة جبريل وآدم، ولا يمهل المكلف إلى ورود معرفتهما عليه، كما لا نمهله نحن ولا قومنا في معرفة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والقرآن، ولا يشرك الإنسان بإنكار نبي لم يتواتر".
وتارة يطلق على مجموع الاعتقاد والإقرار أو العمل2 بمقتضى ذلك، فمن أخل بالاعتقاد وحده أو به وبالعمل فهو مشرك من حيث الإنكار, منافق أيضا من حيث إنه أظهر ما ليس في قلبه, ومن أخذ3 بالإقرار وحده أو بالإقرار والعمل فهو مشرك عند جمهورنا وجمهور قومنا, وقال القليل: إنه إذا أخل بالإقرار وحده فمسلم عند الله من أهل الجنة, وإن أخل به وبالعمل ففاسق كافر كفر نعمة، ونريد باسم آخر له وهو لفظ منافق وإن أخل بالعمل فقط فمنافق عندنا فاسق ضال كافر كفرا دون شرك، غير مؤمن الإيمان التام، وقالت المعتزلة: خارج عن الإيمان غير داخل في اسم الكفر, سواء كفر الشرك وما دونه، وروى الإيمان: إقرار باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، وقيل: هو من كلام بعض السلف واختلفوا -الخوارج- وهم الذين خرجوا عن ضلالة علي4، فقالت الأباضية الوهبية وسائر الأباضية فيمن أخلَّ بواحد من الثلاثة ما تقدم: من إشراكه بترك
__________
1 هكذا وردت, وصحة العبارة: "اشترط الإيمان به إجمالا" وبه يستقيم المعنى.
2 هكذا وجدتها بالطبعتين, وصحة العبارة لها: "والإقرار والعمل" بدون أو، كما يدل سياق الكلام.
3 هكذا وجدتها بالطبعتين أيضا, وصحتها: "ومن أخل" باللام لا بالذال، كما يدل سياق الكلام.
4 يقصد علي بن أبي طالب, كرم الله وجهه ورضي الله عنه.(1/336)
الاعتقاد أو بترك الإقرار، وينافق بترك العمل، ويثبتون الصغيرة, وقال الباقون كذلك وأنه لا صغيرة، ومذهب المحدثين أن انضمام العمل والإقرار إلى الاعتقاد على التكميل لا على أنه ركن, ونحن نقول: انضمامها إليه ركن وهما جزء ماهيته، وقيل: شرط خارج عن الماهية لا ينتفع به بدونهما، وإن ماهيته هي التصديق بالقلب فقط وأما الإقرار فلإشهار دين الله -تبارك وتعالى- وتعظيمه والدعاء إليه، ونفي أحكام المشركين عن نفسه، وأما العمل فلوجوب الصدق، فمن لم يعمل فقد كذب اعتقاد وإقراره إن أقر وخرج عن عبادته من أقر له واعترف واعتقد أنه عبده، وعلى كلا القولين من أن الإقرار والعمل شرطان، أو شطران لماهية الإيمان يكفي إقراره وعمله في خلوة عن حضور أحد، وزعمت الكرامية الإيمان هو التلفظ بالشهادتين سواء طابقه الاعتقاد أم لا، فإن طابقه نجا ولو لم يعمل, وإلا فهو مخلد في النار من غير أن يسموه مشركا، فعندهم التلفظ ينفي اسم الشرك باطنا كما ينفيه ظاهرا، ولا ينفي حكمه وهو الجزاء بالنار إن لم يطابقه الاعتقاد، ويبطل قولهم ما وردت به لغة العرب والقرآن والسنة أن الإيمان تصديق بالقلب وإذعانه، وقال أبو حنيفة وبعض الأشاعرة: الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان؛ لأن التصديق لما اعتبر بكل من اللسان والجنان كان كل منهما جزءا من ماهية الإيمان، ولكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرس أو إكراه وهو موافق لما نقوله معشر الأباضية الوهبية غير أنا نقول:
"إن العمل جزء من ماهية الإيمان, لكن لا يخفى أنه جزء من ماهية الإيمان التام لا من مطلق الإيمان، بدليل أنه لا نحكم بالشرك على من ترك العمل، قال1: الإيمان باقٍ فيمن ترك العمل، ولكنه لا ينفيه فمطلق الإيمان تركت ماهيته عندنا بالاعتقاد والإقرار فقط, ورجح بأن الله جل وعلا ذم المعاند أكثر من الجاهل المقصر, ويجاب بأن الذم للإنكار والعناد لا لمجرد عدم الإقرار"2.
__________
1 صحة العبارة: فإن الإيمان.
2 هميان الزاد؛ ج1 ص194-196.(1/337)
ثم بعد هذا كله ذكر الشيخ محمد أطفيش الرأي الذي يميل إليه بين هذه الآراء فقال: "وقيل, أي الإيمان: الاعتقاد فقط، وأما الإقرار فلما مر من إشهار الدين والدعاء إليه ونفي أحكام الشرك ونحو ذلك، وللعبادة والثواب والتوكيد ويدل له إضافة الإيمان إلى القلب مثل: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} 1، ولم يؤمن قلبه: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 2، وعطف العمل الصالح عليه في مواضع لا تحصى، ونطق اللسان من العمل الصالح، وقرنه بالمعاصي كالاقتتال والقتل والظلم في نحو: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 3، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} 4، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 5، مع ما في ذلك من قلة التغير عن معناه اللغوي، ومن قربه إليه ويدل لذلك تعديه بالباء يتبادر منه التصديق, ويدل له أنا إذا رأينا من أحد إمارة المؤمنين حكمنا بإيمانه وأزلنا عنه حكم الشرك, وكذا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلم أن الإيمان في القلب، وأنه بأية علامة كشف عنه حكمنا به، سواء كشف عنه اللسان أو غير اللسان، ولست في ذلك قاصدا لمخالفة أصحابنا -رحمهم الله- ولكن ذكرت ما أدى إليه اجتهادي"6.
وهو بما أدى به إليه اجتهاده من القول بأن الإيمان هو الاعتقاد, قد خالف جمهور الأباضية حيث يقول: "غير أن جمهورنا كما علمت إلا قليلا جدا وجمهور قومنا أيضا يقولون: لا إيمان بلا إقرار"6.
وقد وهم الشيخ محمد حسين الذهبي -رحمه الله تعالى- فقد اعتقد أن المؤلف سار على رأي الأباضية في هذا, فقال في وصفه: "إنه يحاول محاولة جدية
__________
1 سورة النحل: من الآية 106.
2 سورة الحجرات: من الآية 14.
3 سورة الحجرات: من الآية 9.
4 سورة البقرة: من الآية 178.
5 سورة الأنعام: من الآية 82.
6 هميان الزاد: ج1 ص196 و197.(1/338)
في تحقيق أن العمل جزء من الإيمان، ولا يتحقق الإيمان بدونه"1 مع أن الذهبي نفسه نقل نصا للمؤلف خلاف هذا.
ففي تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2 أكد المؤلف على قيمة العمل مع الإيمان, لكنه لم يجعله جزءا منه أو لا يتحقق الإيمان بدونه، بل صرح بأن عطف العمل الصالح على الإيمان يدل على المغايرة بين المتعاطفين ولنسق كلام المؤلف بنصه: " {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} ترى الإنسان يقيد كلامه مرة واحدة بقيد, فيحمل سائر كلامه المطلق على هذا القيد، فكيف يسوغ لقومنا أن يلغوا تقييد الله عز وجل الإيمان بالعمل الصالح مع أنه لا يكاد يذكر الفعل من الإيمان إلا مقرونا بالعمل الصالح, بل الإيمان نفسه مفروض لعبادة من يجب الإيمان به وهو الله تعالى، إذ لا يخدم الإنسان مثلا سلطانا لا يعتقد بوجوده وبثبوت سلطنته, فالعمل الصالح كالبناء النافع المظلل المانع للحر والبرد والمضرات, والإيمان أس فلا ينفع الأس بلا بناء عليه ولو بنى الإنسان ألوفا من الأسوس ولم يبن عليها؛ لهلك باللصوص والحر والبرد وغير ذلك, فإذا ذكر الإيمان مفردا قيد بالعمل الصالح وإذا ذكر العمل الصالح فما هو إلا فرع الإيمان، إذ لا تعمل لمن لا تقر بوجوده, وفي عطف الأعمال الصالحات على الإيمان دليل على أن كلا منهما غير الآخر؛ لأن الأصل في العطف المغايرة بين المتعاطفين, ففي عطف الأعمال الصالحات على الإيمان إيذان بأن البشارة بالجنات إنما يستحقها من جمع بين الأعمال الصالحات والإيمان، لكن الأعمال الصالحات تشمل الفرض والنفل والمشروط الفرض وأما النفل فزيادة خير"3.
وبهذا يتبين أن الإيمان عند المؤلف هو الاعتقاد فقط, أما الأعمال الصالحات والإيمان فكل منهما غير الآخر ولكن الجمع بينهما شرط لاستحقاق البشارة بالجنات.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص322.
2 سورة البقرة: من الآية 25.
3 هميان الزاد: ج1 ص361 و362.(1/339)
حكم مرتكب الكبيرة:
سار الشيخ أطفيش في هذا على مذهبه مذهب الأباضية الوهبية, وهم كما سبق القول يطلقون على الموحد العاصي كلمة كافر, ويعنون بها كافر النعمة ويجرون عليه أحكام الموحدين، ويقسمون الكفر إلى قسمين: كفر نعمة ونفاق وهو هذا الذي نتحدث عنه، وكفر شرك وجحود وهو المخرج من الملة الإسلامية.
وقد قارن الشيخ أطفيش في تفسير قوله تعالى: {وَيُؤْمِنُونَ بالغيب} 1، بين آراء المذاهب فقال: "ثم إنه لا يخفى أن الحق معنا في قولنا: إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نفاق وهو كفر نعمة, موحد, إيمانه ناقص، لا كما زعمت المرجئة أنه مؤمن كامل الإيمان ولا كما زعمت المعتزلة أنه لا كافر ولا مؤمن, فإن أرادوا: لا مؤمن إيمانا كاملا ولا كافر كفر شرك فقد صدقوا, وإن أرادوا نفي اسم الكفر عنه مطلقا كذبتهم آثار وأحاديث جمعتها في بعض ما منَّ الله به عليَّ من التأليف ... ولا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية: إنه لا يسمى باسم كافر أصلا، ووافقنا محققوهم على أنه يسمى به على معنى كفر النعمة، ولا كما زعمت الصفرية من أنه مشرك، ولا كما زعم بعض الصفرية أنه مشرك بالمعصية مطلقا ولو لم تكن كبيرة"2.
ويظهر لي والله أعلم أن الخلاف في هذه الجزئية لفظي؛ ذلكم أن أهل السنة يصفون مرتكب الكبيرة بأنه مؤمن ناقص الإيمان, أما الأباضية -والشيخ أطفيش من أئمتهم- فيعتقد أنه يجوز نفي الإيمان عن ناقص الإيمان باعتبار الكمال, فهؤلاء سموه ناقص الإيمان ووقفوا وهؤلاء قالوا: إنه غير مؤمن بل كافر كفر نعمة لا كفر شرك, لا يخرج من الملة ولا يحكم عليه بأحكام المرتدين ويعامل معاملة الموحدين، وهذا كلام الشيخ أطفيش في تفسير إحدى الآيات حيث يقول: "إنه يجوز نفي الإيمان عن ناقص الإيمان باعتبار الكمال كما في قوله صلى
__________
1 سورة البقرة: من الآية 3.
2 هميان الزاد: ج1 ص204.(1/340)
تائب يرجى له أنه إن شاء الله عذبه بقدر ذنبه وأدخله النار, وإن شاء غفر له، ومذهبنا أن من مات على كبيرة غير تائب لا يرجى له"1.
أما إذا صدمته بالآية التي تنص على مغفرة الله لمن يشاء وتعذيبه لمن يشاء في قوله سبحانه: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} قال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} الغفران له: أن يوفقه للتوبة {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} تعذيبه بأن لا يوفقه. وليس من الحكمة أن يعذب المطيع الموفي وليس منها أن يرحم العاصي المصر وقد انتفى الله من أن يكون ظالما وعد من الظلم النقص من حسنات المحسن والزيادة في سيئات المسيء وليس من الجائز عليه ذلك خلافا للأشعرية في قوله2: يجوز أن يدخل الجنة جميع المشركين والنار جميع الأبرار, وقد أخطئوا في ذلك لا يجوز ذلك ولو شخص واحد"3.
هذا هو الخلاف الأول نحو مرتكب الكبيرة, فأهل السنة كما ذكرنا قالوا: إنه تحت المشيئة والأباضية قالوا: لا يغفر له إلا بالتوبة، أما الخلاف الثاني ففي خلوده في النار بعد دخوله.
خلود مرتكب الكبيرة في النار:
أما أهل السنة فيعتقدون أن أصحاب الكبائر في النار لا يخلدون, هذا إن أدخلهم الله إياها ولم يغفر لهم قبل الدخول، أما الأباضية فيعتقدون خلود أصحاب الكبائر في النار لا يفنون ولا تفنى، ففي تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4، قال: "لا يخرجون منها: المشركون والفاسقون والأصل في الخلود الدوام، وحمله على المكث الطويل إنما يصح لدليل ولا خلاف في دوام المشرك في النار, ومعنى إحاطة الخطيئة به أنها أهلكته إذ لم يتخلص منها بالتوبة, وليس المراد أنها به بمعنى
__________
1 هميان الزاد: ج12 ص73.
2 كذا بالإفراد, والضمير يرجع للأشعرية.
3 هميان الزاد: ج4 ص240 و241.
4 سورة البقرة: الآية 81.(1/342)
أنها في قلبه وجوارحه, فلا دليل في الآية على أن الخلود إنما هو لمن عمَّت1 قلبه بالشرك؛ لأنه إذا صرنا إلى معنى تعميم البدن بالمعصية, ورد علينا أن من جسد الكافر ما لم تصدر منه معصية مثل عنقه وأعلى صدره إذا لم تصدر منهما"2.
وفسر الخلود بالدوام في قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3، حيث قال: "دائمون, وخلود أهل النار فيها وأهل الجنة فيها دوام"4.
وقال في تفسير قوله تعالى عن آكلي الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5: وأصحاب الكبائر من أهل التوحيد مخلدون.
أما الخلاف الثالث في حق مرتكب الكبيرة بين أهل السنة والأباضية, ففي الشفاعة لأصحاب الكبائر إذ ينكرها الأباضية إلا للموحدين, لا لأصحاب الكبائر ولا للمشركين.
الشفاعة:
أما أهل السنة, فيعتقدون شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر من أمته ويشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا6، أما الأباضية فقال الشيخ أطفيش في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} 7: والآية دليل لنا وللمعتزلة على أن لا شفاعة لأهل الكبائر؛ لأن الآية ولو كانت في المشركين لكنها في صفة يوم من شأنه أنه لا شفاعة فيه بدفع العذاب عن مستحقه, ولا مقام أو زمان من مقامات الموقف وأزمنته نص
__________
1 أي: الخطيئة.
2 تيسير التفسير: ج1 ص113 و114.
3 سورة البقرة: من الآية 81.
4 تيسير التفسير: ج1 ص114.
5 سورة البقرة: من الآية 275.
6 انظر شرح الطحاوية ص258.
7 سورة البقرة: من الآية 48.(1/343)
فيهما على ثبوتها للفساق1, ولا الشخص المصر2.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَة} 3، قال: "وذلك مخصوص بالمشرك, فإنه لا شفاعة له هنالك إلا شفاعة القيام لدخول النار, ولا نفع له في دخول النار وإنما الشفاعة للموحد التائب"4.
وفي تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 5، قال: "فالآية نص أو كالنص في أن لا شفاعة لأهل الكبائر, أي: أنت بريء منهم على كل وجه"6.
إذن: فخلاصة رأي الشيخ أطفيش في تفسيريه بل مذهبه الأباضي أن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة، لا يغفر الله له إن لم يتب، خالد في النار لا تفنى ولا يفنى، ولا يشفع له فيخرج منها أو يخفف عنه، والله أرحم مما قالوا.
خلق أفعال العباد:
يعتقد المؤلف أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد, وأن وقوع المعاصي بإرادته ومشيئته مع اختيار العاصي جاء ذلك في تفسيره لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} 7، حيث قال: "ولو شاء الله عدم إشراكهم بالله تعالى ما أشركوا به تعالى شيئا, فالآية دليل على أن إشراكهم بإرادة الله ومشيئته، وفيه رد على المعتزلة في قولهم: لم يرد معصية العاصي ... وزعموا أن المعنى لو شاء الله لأكرههم على عدم الإشراك، ولزم
__________
1 بل ثبت بالتواتر عند أهل السنة ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر. انظر شرح الطحاوية ص258.
2 تيسير التفسير: ج1 ص71.
3 سورة البقرة: من الآية 123.
4 هميان الزاد: ج2 ص299.
5 سورة الأنعام: من الآية 159.
6 هميان الزاد: ج6 ص274.
7 سورة الأنعام: من الآية 107.(1/344)
عليهم أن يكون مغلوبا على أمره إذا عصى ولم يرد المعصية، بل أراد الإيمان منهم ولم يقع -تعالى الله عن ذلك- والحق أن المعصية بإرادته ومشيئته مع اختيار العاصي، لا جبر، للذم عليها والعقاب والنهي عنها"1.
وكذا عند تفسيره لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، قال: "من إيمان وكفر وخير وشر, مما هو كائن دنيا وأخرى"3.
أما الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} 4، فقال: " {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} في دينه أي: بشرعه، وهو مراد أبي حيان إذ فسر الإرادة بالطلب, قال ذلك خروجا عن تبديل الإرادة فإن إرادة الله لا تتبدل وذلك منه خروج عن مذهب الاعتزال, إذ زعمت المعتزلة أن إرادته تعالى قد يخالفها العبد وتبطل"5.
موقفه من الصحابة، رضوان الله عليهم:
هم يوالون أبا بكر الصديق وعمر الفاروق -رضي الله عنهما- ويذمون عثمان وعليا -رضي الله عنهما- وهذا أطفيش يقول في تفسير قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} 6، فقال: "قال المخالفون عن الضحاك: إن {الَّذِينَ آمَنُوا} هم عمر وأبو بكر وعثمان وعلي, وإن استخلافهم إمامتهم العظمى وسيأتي -وقد مر أيضا- ما يدل على بطلان دخول عثمان وعلي في ذلك"7.
وقال أيضا: "وفي أيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بعدهم كانت الفتوح العظيمة, وتمكن الدين لأهله, لكن لا دليل في ذلك على إصابة عثمان وعلي فإنهما
__________
1 هميان الزاد: ج6 ص68.
2 سورة الزمر: من الآية 62.
3 هميان الزاد: ج12 ص77.
4 سورة البقرة: من الآية 185.
5 تيسير التفسير: ج1 ص267.
6 سورة النور: من الآية 55.
7 هميان الزاد: ج10 ص280.(1/345)
-ولو كانت خلافتهما حقا برضى الصحابة- لكن ما ماتا إلا وقد بدلا وغيرا فسحقا"1 "!! ".
أما ما قاله في عثمان -رضي الله عنه- وحده, فمنه ما قاله في تفسير قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} ، من الآية السابقة حيث قال: "وأقول والله أعلم بغيبه: إن أول من كفر تلك النعمة وجحد حقها عثمان بن عفان"2، ثم ذهب يذكر من مثالبه ما هو منه بريء أو لا يصل به -رضي الله عنه- إلى حد الجرأة على ذمه وقدحه.
وكعادته في تأويل ما يخالف مذهبه من الآي أو الحديث, ذهب يؤول تأويلا باطلا ما ورد من الحديث في فضل عثمان -رضي الله عنه- من مثل ما قاله فيه صلى الله عليه وسلم بعد أن جهز عثمان جيش العسرة, فقال عليه الصلاة والسلام: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" فقال في تأويل ذلك مشككا في صحة الحديث: "فإن صح هذا, فذلك أيضا دعاء"3.
وقال في الحديث الآخر في ذلك أيضا: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها", قال: "فإن صح ذلك فمعنى ذلك الدعاء له بالخير, لا القطع بأنه من أهل الجنة"3.
ولن نذهب نذكر درجة هذين الحديثين ومدى دلالتهما في البشارة لعثمان -رضي الله عنه- بالجنة ولكن نذكر حديثا رواه البخاري في صحيحه, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يحفر بئر رومة فله الجنة" فحفرها عثمان، وقال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزه عثمان4.
ولا ننسى الحديث الآخر الذي رواه البخاري أيضا في صحيحه عن
__________
1 المرجع السابق ج10 ص281.
2 هميان الزاد: ج10 ص282.
3 المرجع السابق ج7 ص313.
4 رواه البخاري, كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, باب مناقب عثمان رضي الله عنه ج4 ص202.(1/346)
النبي -صلى الله عليه وسلم- حين صعد أحدا فرجف, فقال عليه الصلاة والسلام: "اسكن أحد, فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان" 1.
هذا من ناحية عثمان -رضي الله عنه- أما ما قال في علي -رضي الله عنه- فمنه ما قد مر بنا من وصفه للخوارج بأنهم: "الذين خرجوا عن ضلالة علي"2، وقال في موضع آخر معرضا بعلي, رضي الله عنه: "وأيضا الباغي من يرى التحكيم فيما كان لله فيه حكم، والسافك دماء من لم يتبعه على هذه الزلة"3.
وعند استدلال علي -رضي الله عنه- بحديث سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم, ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ... " إلخ الحديث. علق الشيخ أطفيش على هذا الاستدلال قائلا: "فترى علي بن أبي طالب وهو خصم يتأول الحديث فيمن خاصموه, أعني غلبوه في الخصومة فخصموه, والحمد لله رب العالمين وهو مدع ويأتيك ما يبطل هذه الدعوى, ولا يخفي بطلانها"4.
وقال في بعض الأحاديث في فضل آل محمد: "وذلك كله صحيح الرواية, لكن المراد بآله: آله الذين لم يبدلوا, فخرج علي ونحوه ممن بدل فإنه قتل من قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل قاتله الجنة" 5.
وهكذا بعد عثمان وعلي -رضي الله عنهما- سلك الأباضية في بقية الصحابة, فجعلوا القياس من بعدهما التحكيم, فمن رضي بالتحكيم فهو مبطل وذموه، وصرح بهذا الشيخ أطفيش في تأويله لقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 6.
__________
1 المرجع السابق: ج4 ص204.
2 هميان الزاد: ج1 ص195.
3 المرجع السابق: ج9 ص183 و184.
4 المرجع السابق: ج4 ص185.
5 هميان الزاد: ج12 ص227.
6 سورة آل عمران: من الآية 105.(1/347)
فقال: "إن الراضين بالتحكيم هم المبطلون"1.
إشادته بمذهبه:
كثيرا ما يشيد الشيخ أطفيش بمذهبه الأباضي الوهبي ويحسنه ويرجح أدلته ويصفه بالحق وأهله أهل الحق, وها هو في تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت َ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} 2 يقول: "واعلم يا أخي -رحمك الله- أني استقريت المذاهب المعتبرة كمذهبنا معشر الأباضية ومذهب المالكية ومذهب الشافعية ومذهب الحنفية ومذهب الحنبلية بالمنقول والمفعول3, ولم أر مستقيما منها في علم التوحيد والصفات سوى مذهبنا؛ فإنه مستقيم خالٍ عن التشبيه والتعطيل, حججه لا تقاومها حجة ولا تثبت لها, والحمد لله وحده"4.
ومن قام بالقرآن والسنة فهو الجماعة والسواد الأعظم وأهل السنة ولو كان واحدا ومن خالفهما فهو مبتدع ضال. ولذا فهو يرى أن الأباضية هم الجماعة والسواد الأعظم وهم أهل السنة أيضا، وها هو يقول في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... } الآية5, فقال: والآية مانعة لمن قدر على الاجتهاد من التقليد ومانعة لمن قدر على النظر والترجيح أن يقلد قولا من الأقوال ويترك نظره وترجيح ما يظهر ترجيحه له واتباع القرآن والسنة ليس تقليدا, واعلم أن الحق هو القرآن والسنة وما لم يخالفها من الآثار, فمن قام بذلك فهو الجماعة والسواد الأعظم ولو كان واحدا؛ لأنه نائب النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين الذين اهتدوا وكل مهتد، ومن خالف ذلك فهو مبتدع ضال ولو كان جمهورا, هذا ما يظهر لي بالاجتهاد وكنت أقرره للتلاميذ عام تسعة وسبعين ومائتين وألف, فأصحابنا الأباضية الوهبية هم
__________
1 هميان الزاد: ج4 ص186.
2 سورة هود: من الآية 112.
3 هكذا وردت, وصحة العبارة: والمعقول.
4 هميان الزاد: ج8 ص212 و213.
5 سورة البقرة: من الآية 170.(1/348)
الجماعة والسواد الأعظم وهم أهل السنة, ولو كانوا أقل الناس؛ لأنهم المصيبون في أمر التوحيد وعلم الكلام والولاية والبراءة والأصول دون غيرهم, وأما الفروع فقولهم فيها أصح لأدلته, لكن قد يشاركهم غيرهم في الصحة فيما خالفهم, ثم اطلعت بعد ذلك بنحو عامين على ما ذكرته ووجدته نصا للثوري, قال الشعراني: كان سفيان الثوري يقول: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو كان واحدا, والحمد لله والشاهد في قوله: ولو كان واحدا مع حقيقة قوله: أهل السنة والجماعة الصادقة على أصحابنا ولو أراد هو أهل المذاهب الأربعة وهم أهل أهواء"1!!
موقفه من المذاهب الأخرى:
جرى المؤلف على إطلاق لقب "أصحابنا" ويريد به أتباع المذهب الأباضي. أما أهل السنة والجماعة فيسميهم"القوم" أو "قومنا" ويطلق عليهم غالبا التقسيم الفقهي: "الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية" فيقول مثلا وهو يبحث في العقيدة لا الفقه: "لا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية"2. يقول هذا تهربا من إطلاق وصف أهل السنة، أما إذا أراد أن يذكر هذا اللقب فإنه يقول: "ووافقنا على ذلك محققو المتسمين بأهل السنة"3؛ لأن أهل السنة عنده -كما مر آنفا- هم الأباضية.
وهو مع هذا يخصهم بمزية من بين المذاهب الأخرى, فهو يقدم أقوال أهل السنة بقوله: "قالوا" أو "وقال" أما بقية المذاهب الأخرى فيقدم أقوالهم بالزعم فيقول: وزعمت المرجئة، وزعمت المعتزلة وزعمت الشيعة وزعمت الصفرية ونحو ذلك4, وهو أحيانا يتجاوز هذا كله ويتعصب ضدهم بشدة ويصف أهل المذاهب الأربعة بأنهم أهل أهواء5 ولكن هذا في تفسيريه قليل.
__________
1 هميان الزاد: ج2 ص445 و456.
2 هميان الزاد: ج1 ص204.
3 المرجع السابق: ج1 ص202.
4 انظر مثلا هميان الزاد: ج1 ص204؛ وج5 ص376.
5 هميان الزاد: ج2 ص456.(1/349)
المعتزلة:
وتأثر الشيخ أطفيش, بل المذهب الأباضي بالمعتزلة واضح بين في بعض العقائد، بل حرص المؤلف على النص في مقدمته القصيرة لتفسيره: "هميان الزاد" حرص على أن ينص على أنه "يوافق نظر جار الله والقاضي وهو الغالب والحمد لله, وتارة يخالفهما ويوافق وجها أحسن مما أثبتاه أو مثله"1.
لذا فقد وافق المعتزلة مثلا في أنه "لو لم يبعث الله رسلا ولا كتبا لوجب الإيمان من العقل كما قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} لما نصب من الأدلة في أنفسهم وفي غيرهم وإنما الرسل والكتب لتفصيل الأحكام والشريعة, هذا تحقيق المقام ولو اشتهر في المذهب أن حجة الله الكتب والرسل"2.
ووافقهم أيضا في صفات الله تعالى وفي إنكار الرؤية وفي القول بخلق القرآن وفي خلود أهل الكبائر في النار وإنكار الشفاعة لأهل الكبائر وفي التهجم على بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وفي غير ذلك.
وهو مع هذا يخالفهم في بعض الأمور مثل أن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة لا كما قالت المعتزلة لا كافر ولا مؤمن، بل منزلة بين المنزلتين, ويخالفهم أيضا في نحو أن العبد يخلق فعله فهو يرى -كما مر- أن الله هو خالق الأفعال من غير إنكار اختيار العبد, وغير ذلك.
الصفرية:
وهي إحدى فرق الخوارج, فإن المؤلف كثيرا ما يرد أقوال هذه الفرقة ويصفها بالزعم ويخصها بالأحاديث الواردة عن الخوارج, ومن ذلك أنه أورد الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس
__________
1 هميان الزاد: ج1 ص5.
2 هميان الزاد: ج1 ص490.(1/350)
قراءتكم إلى قراءتهم, ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء" 1. فيعلق أطفيش على هذا الحديث بقوله: "فلعل الحديث فيمن رضي بالتحكيم بعد زمان علي من المخالفين الفائقين في العبادة المصوبين للتحكيم الذي أخذوا به وفي الصفرية ونحوهم"2. ثم أضاف حديثا آخر خصهم به فقال: "ومن ذلك ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وأهوى بيده إلى العراق: "يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم, يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية" 3 هذا نفس الحديث فأخطأ سهل بن حنيف في تأويله هذا الحديث بمن لم يرض الحكومة وإنما هو في الصفرية4, وهو كثيرا ما يرد أقوالهم وينكر عليهم ويذمهم5.
الصوفية:
أما التصوف والصوفية وتفسيرها, فقد أنحى عليهم باللائمة وذمهم ولم يعذرهم, وأعلن أنه لا يقبل شهادتهم ويتقرب إلى الله ببغضهم والبراءة منهم, وأن تفاسيرهم لم يأذن الشرع بها، بل يضعف الأقوال بمقدار قربها من تفسير الصوفية, ولعلي أكتفي بعد هذه المقدمة بسوق النصوص.
قال في تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} 6: "وقيل: المعنى: ومما خصصناهم به من أنوار معرفة الله جل وعلا يفيضون, وهذا القول الذي قبله7 أظنهما للصوفية أو لمن يتصوف وليس تفسير الصوفية عندي مقبولا إذا خالف الظاهر وكان تكلفا أو خالف أسلوب العربية, ولا أعذر من يفسر به ولا أقبل شهادته وأتقرب إلى الله تعالى ببغضه والبراءة منه، فإنه لو كان في نفسه
__________
1 رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب 48 ج2 ص748.
2 هميان الزاد: ج4 ص185.
3 صحيح البخاري, كتاب الاستتابة ج8 ص53.
4 هميان الزاد: ج4 ص185.
5 انظر مثلا: هميان الزاد ج1 ص204؛ وتيسير التفسير ج1 ص253.
6 سورة البقرة: من الآية 3.
7 هكذا وردت في الطبعتين, ولعله بالعطف أي: والذي قبله.(1/351)
حقا, لكن جعله معنى للآية أو للحديث خطأ؛ لأنه خروج عن الظاهر وأساليب العرب الذين يتخاطبون بها, وتكلف من التكلف الذي يبغضه الله"1.
وفي تفسير قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} 2، أنكر تفسيرها بـ"أن هذا3 رزقناه في الجنة هو الذي يرزقنا الله في الدنيا من المعارف والطاعات أي: جزاؤها, فهو يتفاوت بتفاوتها في اللذة ووجه الشبه والشرف والمزية وعلو الطبقة" أنكر هذا التفسير وقال: "وتفسيرها بهذا قريب من تفاسير الصوفية وبمقدار قربها منها يضعف؛ لأن تفاسيرهم لم يأذن الشرع بها, وبها خرجوا عنه إذا اعتقدوا أنها معانٍ نزل القرآن على إرادتها, أعاذنا الله -جل وعلا- والله أعلم"4.
وفي تفسير قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} 5 قال: "وقيل: المعنى أخرجهما من رفعة المنزل إلى سفالة الذنب, وهذا ضعيف قريب من تفسير الصوفية لا يتبادر من اللغة العربية ولا يرد فيها"6.
حكم اتباع هذه المذاهب:
رد الشيخ أطفيش حديث علي -رضي الله عنه- السابق عن الخوارج أنهم "يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء" رد تأويله بأنهم الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- لأن عباد أهل السنة وقراءهم أكثر عبادة وقراءة فقال: "فإن عباد قومنا -يعني أهل السنة- فيما نرى من اجتهادهم في كتب القوم أكثر عبادة وقراءة وهم المعروفون بذلك أكثر وليس نافع لهم مع بغضهم المسلمين واعتقادهم
__________
1 هميان الزاد: ج1 ص216.
2 سورة البقرة: من الآية 25.
3 هكذا وردت ولعلها: أن هذا الذي ...
4 هميان الزاد: ج1 ص372.
5 سورة البقرة: من الآية 36.
6 هميان الزاد: ج1 ص472.(1/352)
الرؤية وغيرها مما يقدح في توحيدهم وإسلامهم"1.
هذا رأيه في أهل السنة الذين يصفهم بقومنا، ويعد مذهبهم من المذاهب المعتبرة2، ورأيه في غيرهم من المذاهب الأخرى أشد، وهؤلاء وأولئك أصحاب كبائر لأنهم اقترفوا ما يقدح في توحيدهم وإسلامهم مع بغضهم للمسلمين واعتقادهم بالرؤية, فما موقفه من أصحاب هذه المذاهب أو أصحاب الكبائر؟
خلاصة رأيه أن حكمهم "حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالمشرك في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وألا تقبل له شهادة"3.
__________
1 المرجع السابق: ج4 ص185.
2 هميان الزاد: ج8 ص313.
3 المرجع السابق: ج1 ص394.(1/353)
منهجه في التفسير:
الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، أي: لا يزني وهو مؤمن إيمانا كاملا بل ناقصا، فحينئذ يقال له: آمن ولا يقال: مؤمن كما نفى عنه في الحديث اسم مؤمن؛ لأنه يوهم كمال إيمانه إلا بقيد، فيجوز: مؤمن ناقص الإيمان"1.
إذن: فالخلاف بين الفريقين لفظي, هؤلاء سموه ناقص الإيمان وهؤلاء قالوا: إن ناقص الإيمان لا يسمى مؤمنا لتوهم كمال الإيمان, فيجوز: ناقص الإيمان، وسموه هم كافر نعمة لا كافر شرك.
لكن الخلاف الشديد بين الفريقين في عقاب مرتكب الكبيرة, وهو حتما ليس خلافا لفظيا.
لا يغفر لصاحب الكبيرة ما لم يتب:
هذا أول خلاف بين الفريقين, ذلكم أن الأباضية يرفضون قول أهل السنة بأن صاحب الكبيرة تحت المشيئة, إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
فالشيخ أطفيش مثلا في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 يقول: "ولا دليل في الآية على جواز المغفرة لصاحب الكبيرة الميت بلا توبة منها, كما زعم غيرنا لحديث: "هلك المصرون""3، وكذا قال في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4: "والمراد بالآية التنبيه على أنه لا يجوز لمن عصى الله -أي عصيان كان- أن يظن أنه لا يغفر له ولا تقبل توبته، وذلك مذهبنا معشر الأباضية, وزعم القاضي -يقصد البيضاوي- وغيره أن غير الشرك يغفر بلا توبة، ومشهور مذهب القوم -يريد أهل السنة- أن الموحد إذا مات غير
__________
1 هميان الزاد ج1 ص202.
2 سورة البقرة: من الآية 284.
3 هميان الزاد: ج3 ص443.
4 سورة الزمر: من الآية 53.(1/241)
رأيي في هذا التفسير:
وإلى هنا يقف القلم في دراسة هذين التفسيرين وهما ما أعرف من تفاسير الأباضية في العصر الحديث؛ لذا اعتمدتهما كمثال لمنهج الأباضية في تفسير القرآن وإن كان اعتبار مفسر واحد لا يدل دلالة قاطعة على منهج مذهبه إلا أنه, ولا شك في ذلك يعطي الخطوط العريضة التي تقوم عليها أسس مذهبه لن نزعم أن:
1- الإكثار من إيراد الإسرائيليات.
2- الاهتمام بالمسائل النحوية والبلاغية واللغوية.
3- الإطناب في المبهمات.
4- العناية بتوجيه القراءات.
لن نزعم أن هذه الأسس هي أسس المنهج الأباضي في التفسير, ولكنا نجزم بأن من أسسهم:(1/353)
1- تأويل ما يخالف عقيدتهم من آيات القرآن.
2- تأويل ما يخالف عقيدتهم من السنة وتقديم ما رواه علماؤهم على ما سواه, وينبني عليه موقفهم من تفسير الآية وكذا رأيهم الفقهي.
3- تأثرهم بالمعتزلة وهو وإن لم يكن تأثرا فهو موافقة لهم في كثير من الآراء في العقيدة, كالقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية وتقديم العقل, ونحو ذلك.
4- الولاية والبراءة وأثرهما في عقيدتهم, وتفسيرهم بين واضح.
5- موقفهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- وذم بعضهم والتهجم عليهم.
6- إشادتهم بمذهبهم وذم ما سواه من المذاهب الأخرى، واعتقادهم أنهم هم أهل الحق وما سواهم كافر كفر نعمة.
نجزم أن هذه الأسس في منهجه هي من أسس المنهج الأباضي, ذلكم أن هذه الأسس متفرعة عن العقيدة وعقيدة الرجل التي يصرح بها هي الأباضية.
أما مناقشة آرائهم والرد على ما يخالف عقيدة أهل السنة منها, فإني أحيل القارئ إلى قراءة رأي أهل السنة في كل ما يعرض له من تفاسير ضالة, سواء كان في المنهج الأباضي أو في غيره, إذ جعلت منهج أهل السنة في أول المناهج؛ ليكون ميزانا حقا يوزن به ما يرد من أقوال وآراء لمذاهب أخرى تالية.
وإن كان لي من وقفة فإني أقف متسائلا: لِمَ يرفض الأباضية كل هذا الرفض تسميتهم بالخوارج ما داموا يدافعون عن الخوارج ويبررون أفعالهم ويتأولون ما ورد في حقهم من أحاديث، بل إن الشيخ أطفيش نفسه يعد أحيانا الفرقة الأباضية من الخوارج فيقول مثلا: "واختلف الخوارج وهم الذين خرجوا عن ضلالة علي, فقالت الأباضية الوهبية وسائر الأباضية ... "1؟!
__________
1 هميان الزاد: ج1 ص195.(1/354)
لا أدري لم يرفض بعضهم هذا الوصف بشدة, ويقرره آخرون في مواضع أخرى؟!
ووقفة أخرى مع الأباضية ومنهجهم في التفسير فأقول: إذا كان الأباضية يعدون من الكبائر الإصرار على ترك السنة كإحفاء الشارب وجعل طرف العمامة تحت الحلق "!! " بلا استخفاف بهذه السنة يعدون هذا كفر نفاق1, ثم يحكمون على من كفر كفر نفاق، أن الله لا يغفر له وأنه خالد في النار ولا يشفع له أبدا, فإن هذا وحده كافٍ على بطلان مذهبهم وانحراف عقيدتهم؛ لأن الله سبحانه أرحم مما يزعمون, وهو الرحمن الرحيم.
الحكم عليهم:
وأختم حديثي عنهم ببيان أقوال أهل السنة فيهم, وقد أوجزه ابن قدامة فقال: "والخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة" ثم قال: "الثالث الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم, فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم, وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث.
ومالك يرى استتابتهم, فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم, وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم, فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا, وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون.
ثم قال: "وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم، قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين ... وذكر ابن عبد البر عن علي -رضي الله عنه- أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال: من
__________
1 هميان الزاد: ج1 ص201.(1/355)
الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم. وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء1. ومع هذا فقد رجح ابن قدامة جواز قتلهم ابتداء, والإجازة على جريحهم.
والذي أراه أنهم لا يكفرون إلا إذا استحلوا محرما كبدء قتال المسلمين أو تكفير مسلم أو استحلال ماله أو دمه من غير حله، والله الهادي.
__________
1 المغني: ابن قدامة ج8 ص104-107 باختصار.(1/356)
الفصل الرابع: منهج الصوفية في تفسير القرآن الكريم
التعريف بالصوفية:
أول ما يواجه الباحث عن الصوفية الاختلاف في أصل وسبب هذه التسمية, والأقوال في ذلك كثيرة.
أورد عبد الحليم محمود طائفة منها نقلا عن القشيري في رسالته مع مناقشة لكل رأي بإيجاز, فقال: إن الآراء أصبحت معروفة, بل لقد كانت معروفة من قديم الزمان وصاحب الرسالة القشيرية يستعرضها رأيا رأيا, وينقضها جميعا.
1- فأما قول من قال: إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال: تقمص إذا لبس القميص فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
2- ومن قال: إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي.
3- ومن قال: إنه من الصفاء, فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة.
4- وقول من قال: إنه مشتق من الصف, فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى: المعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.(1/357)
وإذا كان صاحب الرسالة القشيرية ينتقد كل هذه الآراء, فإنه إذًا لا يرى الاشتقاق ويقول: هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال: رجل صوفي وللجماعة: صوفية ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف وللجماعة: المتصوفة.
وليس يشهد للاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق, وإلا ظهر فيه أنه كاللقب1.
وحقيقة, إنني لا أرى من ثمرة لإعمال الذهن وتضييع الوقت في الربط بين الاسم والمسمى فليس من المحتم دائما -كما يقول عبد الحليم- أن يكون المعنى الأصلي للاسم هو المراد مما وضع الاسم له؛ إذ المعنى الأصلي قد يتطور ويتغير ويختلف وقد يقصد عكسه ... حقيقة, إن الباحثين كثيرا ما يجدون صلة وثيقة بين المعنى الأصلي للاسم وما وضع الاسم له أو بين الاسم والمسمى, ولكن ذلك ليس مطردا2.
ومما يزيد الانفصام بين الاسم والمسمى خاصة في عصرنا هذا, ما اعترف به عبد الحليم هذا حيث قال: "على أني أرى -كما يرى كثير غيري وكما يثبت التاريخ- أن هذه الكلمة "تصوف" لم توضع في الأصل للتصوف بمعناه العادي الذي نفهمه الآن، وإنما وضعت في المبدأ لتدل على نمط من العزوف عن الدنيا، إنها كانت علامة الزاهدين والمتنسكين فسمي بها هؤلاء الذين انصرفوا عن الدنيا3.
__________
1 قضية التصوف: عبد الحليم محمود ص30 و31.
2 المرجع السابق ص34.
3 المرجع السابق ص35.(1/358)
المراد بالتصوف:
وأكثر من اختلافهم ذاك اختلفوا في معنى التصوف ولا أعد مبالغا إذا ما قلت: إنهم ذكروا مئات المعاني للتصوف, ونحن نحرص هنا على أن نذكر أقوال المعاصرين أو ما يصرح المعاصرون بترجيحه, فمن الأول ما ذكره الشيخ عبد الواحد يحيى حيث قال: "أما أصل هذه الكلمة "صوفي" فقد اختلف فيه(1/358)
اختلافا كبيرا ووضعت فروض متعددة وليس بعضها أولى من بعض وكلها غير مقبولة أنها في الحقيقة تسمية رمزية, وإذا أردنا تفسيرها ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية لحروفها وأنه لمن الرائع أن نلاحظ أن القيمة العددية لحروف "صوفي" تماثل القيمة العددية لحروف "الحكيم الإلهي" فيكون الصوفي الحقيقي إذًا هو الرجل الذي وصل إلى الحكمة الإلهية, إنه "العارف بالله" إذ إن الله لا يعرف إلا به"1.
وإني لأعجب لهذه العقليات التي تقيم عقائدها على أوهام ومتى كانت الأوهام أساسا تقام عليه العقائد؟! ولسنا نوافق الدكتور عبد الحليم محمود على وصفه للقول السابق بأنه رأي لا يمكن أن ينقض بالأدلة المنطقية وأنه ينفر منه آخرون من غير ما حجة وإن كنا نوافقه على أنه "ولكنه لا يمكن أيضا أن يؤيد بالأدلة المنطقية ويستسيغه قوم دون برهان"1 لا نوافقه في النصف الأول من عبارته ونحمد الله أنه لم يطلب الرد عليه بالأدلة الشرعية, إذ ننزه هذه الأدلة عن الخوض بها في مثل هذه الأوهام, أما الرد على الرجل بمثال منطقه فنقول قياسا على قوله: إن القيمة العددية لحروف "صوفي" تماثل القيمة العددية لحروف "مزل الحكيم"2 فيكون الصوفي الحقيقي إذًا هو الرجل الذي أوصل نفسه إلى منطقه إن كان حكيما زل بها, وإن كان دون كان أزل.
هذا هو الرد حسب منطقه وحسب مفهومه, وما كنا لنستدل بمثل هذه الأدلة لولا أنه جرنا إليها جرا.
ولندع هذا التعريف ونورد هنا بعض التعاريف التي رأى الدكتور عبد الحليم أنها تتجه الوجهة الصحيحة فيما يتعلق بالمعنى الحقيقي لهذا الموضوع, فأورد من هذه الأقوال:
1- أبو سعيد الخراز, المتوفى سنة 268هـ.
__________
1 قضية التصوف: ص32.
2 كلمة "صوفي" "الحكيم الإلهي" "مزل الحكيم" مجموع القيمة العددية لكل منها 186.(1/359)
سئل عن الصوفي فقال: "من صفّى ربه قلبه, فامتلأ قلبه نورا, ومن دخل في عين اللذة بذكر الله".
2- "الجنيد البغدادي" المتوفى سنة 297هـ.
التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به "!! ".
3- أبو بكر الكتاني, المتوفى سنة 322هـ.
التصوف صفاء ومشاهدة.
4- جعفر الخلدي, المتوفى سنة 348هـ.
التصوف: طرح النفس في العبودية, والخروج من البشرية "!! " والنظر إلى الحق بالكلية.
ونقد هذه الأقوال ونقاشها يخرج بنا عن الحدود التي رسمناها في منهج البحث, وأشرنا إليها كثيرا.(1/360)
نشأة التصوف وتطوره:
يقسم بعض الباحثين الأدوار التي مر بها التصوف من نشأته إلى عصرنا هذا إلى أربعة أدوار:
الدور الأول, الدور التمهيدي: ويبدأ بوفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينتهي بنهاية القرن الثاني الهجري, وهو دور الزهد.
الدور الثاني, الدور الفلسفي: ويبدأ من أوائل القرن الثالث الهجري وينتهي في منتصف القرن السابع, وهو دور البلوغ والكمال.
الدور الثالث, دور الانحطاط: ويبدأ من منتصف القرن السابع وينتهي في منتصف القرن الثالث عشر.
الدور الرابع, وهو دور التجديد: ويبدأ من منتصف القرن الثالث عشر حتى وقتنا الحاضر, وهو دور النهضة والانطلاق1.
__________
1 التصوف بين الحق والخلق: محمد فهر شقفة ص40.(1/360)
وهذا التقسيم وإن كان ليس دقيقا كل الدقة إلا أنه يرسم الخطوط العريضة التي أحاطت بالتصوف يمنة ويسرة حتى يومنا هذا, وإن كان مدلول التصوف في كل دور يختلف عن مفهومه في الدور الآخر, وقد نقلنا آنفا عبارة الدكتور عبد الحليم محمود أن إطلاق كلمة تصوف في الأصل غير إطلاقها الذي نفهمه الآن. ذلكم أن المراد به في الدور الأول نمط من العزوف عن الدنيا وأنه كان علامة الزاهدين والمتنسكين إلى أن انتقل إلى الدور الثاني حيث دخلت الفلسفة التصوف فتحول إلى التصوف الفلسفي, فأصبح بعض الصوفية يدين بمسائل "فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة بما أثار عليهم جمهور أهل السنة وجعلهم يحاربون التصوف الفلسفي, ويؤيدون التصوف الذي يدور حول الزهد والتقشف وتربية النفس وإصلاحها، حتى كادوا يقضون عليه في نهاية القرن السابع الهجري"1. وبهذا دخل التصوف الدور الثالث وهو دور الانحطاط حيث تحولت الصوفية شيئا فشيئا عن الفلسفة والبحث فيما وراء الطبيعة إلى جلسات الذكر والمجاهدة مع الغناء والرقص وتأسست التكايا ونشأت الطرق وكثر المرتزقة والدجالون والمحتالون والمشعوذون وكثر التكلم بالكرامات وخوارق العادات واشتد الإيمان بالأولياء, فنصبت فوق قبورهم القباب وأقيمت لهم الموالد والأعياد ونسبت إليهم شتى المعجزات, وكانت قبورهم تزار لجلب الأولاد أو الشفاء من الأمراض والعاهات أو جلب الحظ والإكثار من الرزق2.
أما الدور الرابع الذي ذكره بعض الدارسين وهو دور النهضة والتجديد فلا أعتقد صحته؛ ذلكم أن الصوفية قد لاقت في العصور المتأخرة صحوة إسلامية كانت حربا عليها؛ فنهضت في الجزيرة العربية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهدمت القباب, وأبطلت النذور لها وإقامة الموالد ونحوها حتى كاد التصوف أن يزول لولا طائفة لا تزال تبث سمومها المخدرة في المجتمع.
وقامت ضد الصوفية دعوات أخرى ورجال آخرون في مناطق شتى في
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص5.
2 التصوف بين الحق والخلق ص50 و51.(1/361)
العالم الإسلامي في مصر والشام والهند وغير ذلك, لكن لم يكن لهذه الدعوات ما للدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية.
ولذا فلا تزال الصوفية في تلك المناطق على تفاوت بينها, تزاول شعائرها وتبث خرافاتها وأوهامها ولا أدري لم يسمي بعض الباحثين هذه الفترة بالدور الرابع عصر النهضة والتجديد, إلا إن كانوا يقصدون به تجديد الخرافات والبدع والمنكرات؟!
وإلا فكيف يزعم زاعم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوتي علم كل شيء"!! " حتى الروح والخمس التي في آية: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "!! " وكيف يزعم أن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع أرض الجنة "!! " وكيف يصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يقع ظله على الأرض ولا رئي له ظل في شمس ولا قمر لأنه كان نورا1!!.
إذا كان قائل هذا القول من المنتسبين إلى العلماء فلا عجب أن تنتشر بين عامتهم هذه المجالس والتكايا والغناء والرقص فيما يسمونه مجالس الذكر وأن يكثر بينهم المرتزقة والمشعوذون والدجالون.
ولا شك أن واجبا كبيرا يلقى اليوم على عاتق العلماء المسلمين لتحرير هؤلاء العامة من أولئك الأدعياء.
__________
1 حوار مع المالكي: عبد الله بن منيع ص21 و22.(1/362)
عقائد التصوف:
لن نذهب بعيدا في إيراد النصوص وبسطها لبيان ذلك, ونقصر الحديث على بيان جوهر التصوف وهل هناك أكثر بيانا للشيء من بيان جوهره؟ كيف وصاحب البيان من الصوفية؟ يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "وجوهر الطريق الصوفي هو ما سماه الصوفية المقامات والأحوال"1.
فما هي المقامات؟ وما هي الأحوال؟
__________
1 قضية التصوف: عبد الحليم محمود ص48.(1/362)
قال: "والمقامات هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فيها فترة من الزمن مجاهدا في إطارها حتى يهيئ الله سبحانه وتعالى له سلوك الطريق إلى المنزل الثاني لكي يتدرج في السمو الروحي من شريف إلى أشرف, ومن سامٍ إلى أسمى, وذلك مثلا كمنزل "التوبة" الذي يهيئ إلى منزل "الورع" ومنزل "الورع" يهيئ إلى منزل "الزهد" وهكذا حتى يصل الإنسان إلى منزل المحبة, وإلى منزل الرضى"1.
"أما الأحوال, فإنها النسمات الروحية التي تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة، ثم تمر تاركة عطرا تتشوق الروح للعودة إلى تنسم أريجه, وذلك مثل الأنس بالله"1.
وقد اختلف الصوفية في المقامات والأحوال بين مجمل لها ومفصل, ولكن الملاحظ -كما يقول عبد الحليم- أنه ليس اختلاف تناقض وتعارض, وإنما هو اختلاف بسط وإيجاز2.
وللتفريق بين الأحوال والمقامات, قال أحد أئمتهم:
"فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب والأحوال تأتي من عين الجواد, والمقامات تحصل ببذل المجهود, وصاحب المقام ممكن في مقامه, وصاحب الحال مترق عن حاله"3.
منازل المقامات: للصوفي عند الصوفي منازل للسالكين, ومقامات للطالبين يرتقي فيها منزلة منزلة ومقاما مقاما, هذه المنازل والمقامات هي:
التوبة: فالتوبة أول منزل من منازل السالكين, وأول مقام من مقام الطالبين4.
__________
1 قضية التصوف: عبد الحليم محمود ص48 و49.
2 المرجع السابق: ص49.
3 الرسالة القشيرية ج1 ص206.
4 المرجع السابق: ج1 ص276.(1/363)
الورع: قالوا: وإذا صدقت التوبة استلزمت لا محالة الورع, والورع هو أن يترك الإنسان كل ما فيه شبهة1.
الزهد: قال أحد أئمتهم: "والورع يقتضي الزهد"1.
التوكل: وللتوكل درجات هي: التوكل, التسليم، التفويض، ومع ذلك فإن كلمة التوكل تطلق على كل درجاته وتستعمل في كل أنواعه2.
المحبة: ولن يتأتى حب الله سبحانه دون أداء الفرائض, والحب دون أداء الفرائض زيف وكذب3.
الرضا: قالوا: وإذا كانت المحبة تبعها الرضا, وذلك أن المحب راضٍ دائما عن أعمال محبوبه4.
وقالوا: "والرضا آخر المقامات, ثم يقتضي من بعد ذلك أحوال أرباب القلوب ومطالعة الغيوب وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار, وحقائق الأحوال"5!!.
__________
1 حقيقة التصوف: ص62.
2 حقيقة التصوف: عبد الحليم محمود ص76.
3 المرجع السابق: ص 86.
4 المرجع السابق: ص89.
5 المرجع السابق: ص93 عن اللمع ص80 و81.(1/364)
من شروط التصوف:
ويكفي هنا ذكر شرط جوهري للتصوف ذكره أحد علمائهم, ننقله هنا بنصه: "ولا بد في التصوف من شرط جوهري هو التأثير الروحي أو بتعبير أدق "البركة" وهي لا تتأتى إلا بواسطة "شيخ" ومن هنا كانت السلسلة، وهل السلسلة إلا بركات تنتقل من شيخ إلى مريد يوشك أن يصبح شيخا فيؤثر بدوره في مريد أو مريدين؟ "1.
__________
1 حقيقة التصوف: عبد الحليم محمود ص116.(1/364)
طبيعة التصوف:
وقد أشار إليها الدكتور عبد الحليم محمود فقال عن طبيعة التصوف: "إن التصوف ليس عملا علميا ولا بحثا نظريا, إنه لا يتعلم بواسطة الكتب على الطريقة المدرسية بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحافز مقوٍّ للتأمل والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوفا, على أن ما كتبه كبار الصوفية لا يفهمه إلا من كان أهلا لفهمه, ولأجل أن يسير الإنسان في طريق التصوف لا بد له من:
1- استعداد فطري خاص لا يغني عنه اجتهاد أو كسب.
2- الانتساب إلى "سلسلة" صحيحة, إذ إن "البركة" التي تحصل من الانتساب إلى السلسلة الصحيحة هي الشرط الأساسي الذي لا يصل الإنسان بدونه إلى أية درجة من درجات التصوف حتى البدائية منها.
3- ثم يأخذ المتصوف, الطيب الفطرة، الذي باركه شيخه في الجهاد الأكبر: التأمل الروحي، وفي الذكر, أي: استحضار الله في كل ما يأتي وما يدع وفي تركيز الذهن في الملأ الأعلى؛ فيصل موفقا من درجة إلى درجة حتى يصل إلى أعلى الدرجات, وهي حالة تسمو على حدود الوجود المؤقت فيصبح ربانيا, ذلك هو الصوفي الحقيقي1.
هذا ما قاله أحد علمائهم المعاصرين الذين حرصت كثيرا على أن أعتمد على ما كتبه في بيان عقائد الصوفية لمعاصرته لفترة البحث أولا, ولكونه من الصوفية ثانيا, ولكونه من كبار علمائهم بل شيخ الأزهر ثالثا.
ولا أدري من أين جاء أو جاءوا باشتراط هذه السلسلة في العبادة؟! ومتى كان التعبد في الإسلام بواسطة وقد جاء بالقضاء على الواسطة بين العبد وربه؟! وما الفرق بينهم وبين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ؟! 2.
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} 3, فألغى كل واسطة بين العبد وربه، إلا أنها عودة إلى الجاهلية وشر منها, نسأل الله لنا ولهم الهداية.
__________
1 حقيقة التصوف: عبد الحليم محمود ص118.
2 سورة الزمر: من الآية 3.
3 سورة غافر: من الآية 60.(1/365)
أقسام التصوف:
مما سبق في بيان أدوار الصوفية يتبين أن التصوف ينقسم إلى قسمين:
الأول: تصوف نظري فلسفي وهو التصوف الذي يقوم على دراسات وأبحاث فلسفية، وقد تطور هذا النوع وأدى بأكثر أصحابه إلى الإلحاد, والخروج عن الإسلام بما أوردوه من اصطلاحات وعبارات تخالف الإسلام من أصوله, وهو إلحاد فكري.
الثاني: تصوف عملي وهو القائم على التقشف والزهد والتفاني في الطاعة، وقد أدى هذا القسم بطائفة كبيرة من المنتسبين إليه إلى أمور شركية من اتخاذ الأولياء وعبادة القبور واتخاذ التكايا وما يسمى مجالس الذكر, فكثر فيهم المشعوذون والدجالون, واتخذوا بعض الاصطلاحات والعبارات وضمنوها أسرارا ومكنونات لا يكشفها ولا يدريها إلا أصحاب المقامات, وفسروا على ضوئها آيات القرآن الكريم.
وعلى ضوء هذين القسمين, انقسم التفسير عند الصوفية إلى اتجاهين:
1- تفسير صوفي نظري.
2- تفسير صوفي فيضي أو إشاري.
التفسير الصوفي النظري:
وقد سلك هذا الاتجاه في التفسير فلاسفة الصوفية, ويعد ابن عربي شيخ هذه الطريقة1, وهي طريقة قصدها الشيخ محمد حسين الذهبي حين قال: "يأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده إلى ما يقصده هو, ويرمي
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص6.(1/366)
إليه, وغرضه بهذا كله أن يروج لتصوفه على حساب القرآن, وأن يقيم نظرياته وأبحاثه على أساس من كتاب الله, وبهذا الصنيع يكون الصوفي قد خدم فلسفته التصوفية ولم يعمل للقرآن شيئا, اللهم إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين, وإلحاد في آيات الله"!!! 1.
وإذا كان الذهبي -رحمه الله تعالى- يصرح بـ:"هذا, ولم نسمع بأن أحدا ألف في التفسير الصوفي النظري كتابا خاصا يتبع القرآن آية آية, كما ألف مثل ذلك بالنسبة للتفسير الإشاري, وكل ما وجدناه من ذلك هو نصوص متفرقة اشتمل عليها التفسير المنسوب إلى ابن عربي, وكتاب الفتوحات المكية له, وكتاب الفصوص له أيضا, كما يوجد بعض من ذلك في كثير من كتب التفسير المختلفة المشارب"2.
إذا كان الذهبي يصرح بهذا والفترة التي يدرسها فترة طويلة من نشأة التصوف إلى عصرنا هذا, وضمنها فترة انتشر فيها التصوف وكثر فيها أربابه، فإني أقول أيضا: إني لم أجد في هذا العصر أيضا أحدا كتب في هذا الاتجاه من التفسير الصوفي, وإن كان هناك من يقول به إلا أنه لم يتعرض في دراسته له إلى القرآن الكريم والحمد لله، فلنعرض عن هذا اللون من التفسير الصوفي.
التفسير الفيضي "الإشاري":
تعريفه: هو تأويل آيات القرآن الكريم بغير ظاهرها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك, ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا.
وقد ذكر الشيخ محمد حسين الذهبي وجهين للتفريق بين التفسير الصوفي الإشاري, والتفسير الصوفي النظري هما:
أولا: أن التفسير الصوفي النظري ينبني على مقدمات علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولا, ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص12.
2 المرجع السابق ج3 ص17.(1/367)
وأما التفسير الإشاري فلا يرتكز على مقدمات علمية, بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل إلى درجة تنكشف لها فيها من سجف العبارات هذه الإشارات القدسية, وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية.
ثانيا: أن التفسير الصوفي النظري يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه, هذا بحسب طاقته طبعا. أما التفسير الإشاري فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية, بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء: ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره1.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص18.(1/368)
موقف العلماء من هذا اللون في التفسير:
اختلف العلماء في قبول التفسير الإشاري أو رده, فمنهم من قبله, ومنهم من اعتبره من صفات الكمال والعرفان, ومنهم من رده, ومنهم من اعتبره إلحادا في آيات الله وخروجا به عن الحق.
وليس لنا أن نطلب من الرافضين لهذا التفسير دليلا؛ ذلكم أن الأصل عدم قبول هذا النوع من التفسير لأن تفسير القرآن لا يكون إلا بالقرآن أو بالسنة أو بالمتبادر من عموم لغة العرب؛ لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين, فلا يصح تفسيره بخلاف ظاهر اللفظ إلا بدليل يصرف المعنى المراد من ظاهر اللفظ إلى معنى آخر.
أما من قال بهذا اللون من التفسير, ومال إليه فهو المطالب بالدليل.
أدلة المؤيدين:
ومن الأدلة التي استدلوا بها:
1- ما رواه الفريابي بسنده عن الحسن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه(1/368)
قال: "لكل آية ظهر وبطن, ولكل حرف حد, ولكل حد مطلع" وسبق ذكر القول الصحيح في هذا الحديث ونحوه.
2- ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم, فدعاه ذات يوم فأدخله معهم فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا, وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره, إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول"1.
3- ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: "إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته, فمن أوغل فيه برفق نجا, ومن أخبر فيه بعنف هوى, أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن, فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء.
وما روي عن أبي الدرداء أنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها".
وما روي عن ابن مسعود أنه قال: "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن".
قالوا: وهذا الذي قاله هؤلاء الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر2.
__________
1 رواه البخاري، باب التفسير ج6 ص221.
2 انظر التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص20.(1/369)
ونختم حديثنا عن التفسير الإشاري بإيراد أقوال بعض العلماء في ذلك, فمنهم:
الزركشي في برهانه:
قال الزركشي في البرهان: "كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل: إنه ليس بتفسير, وإنما هو معانٍ ومواجيد يجدونها عند التلاوة"1.
ابن الصلاح في فتاويه:
وقال ابن الصلاح في فتاويه, وقد سئل عن كلام الصوفية في القرآن: "وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير, فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. قال ابن الصلاح وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا, ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم, فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن, فإن النظير يذكر بالنظير". ثم قال: "ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك؛ لما فيه من الإبهام والإلباس"2.
النسفي والتفتازاني:
قال النسفي في العقائد: "النصوص على ظواهرها والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطل: إلحاد", وعلق التفتازاني في شرحه للعقائد على هذا بقوله:
"سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها, بل لها معانٍ لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية". قال: "وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها, ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة, فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان"3.
__________
1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص170.
2 فتاوي ابن الصلاح ص29.
3 العقائد النسفية وشرحها: سعد الدين التفتازاني ص143.(1/370)
الغزالي في الإحياء:
وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: "وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية:
"أحدهما" الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون: قيل لنا: كذا وقلنا: كذا ... وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم, وأظهروا مثل هذه الدعاوى, فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال.
فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم, ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة, ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل والعلم حجاب والجدل عمل النفس, وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق. فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره, حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة.
الصنف الثاني من الشطح: كلمات غير مفهومة, لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل, وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته, بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة, ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان, أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه".
إلى أن قال: "وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح, وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى(1/371)
الإفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات, فهذا أيضا حرام وضرره عظيم, فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع من غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل, اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له, بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى, وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب؛ لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة لها, وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم ... ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} : إنه إشارة إلى قلبه وقال: هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان. وفي قوله تعالى: {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، أي: كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه ... " إلى أن قال: "ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ, ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به الشرع ... بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم؛ لأنها مبطلة للثقة بالألفاظ, وقاطعة طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية"1.
هذا ما قاله الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- وإنما أطلت في نقل نصوصه لما فيها من الدقة والشمول, بحيث لم يبق لأحد منهم حجة فيما ادعاه.
ولا أحب في ختام حديثي هذا عن موقف العلماء من التفسير الإشاري إلا أن أجعل في ختامه رأي عالم أو عالمين من العلماء المعاصرين في التفسير الإشاري, فأكتفي بنقل رأي الذهبي والزرقاني؛ ففيهما الكفاية والسداد.
__________
1 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص42-44 باختصار.(1/372)
رأي الذهبي:
بعد أن نقل الذهبي رأي ابن الصلاح والتفتازاني وابن عطاء الله السكندري قال: "فهؤلاء العلماء حسنوا ظنهم بالقوم فحملوا أقوالهم الغريبة التي قالوها في القرآن على أنها ذكر لنظير ما ورد به القرآن أو على أنها إشارات خفيفة ومعانٍ إلهامية تنهل على قلوب العارفين وتزهوهم عن إرادة التفسير الحقيقي لكتاب الله بمثل هذه الشروح الغريبة التي نقلت عنهم, وهذا عمل حسن وصنيع جميل من هؤلاء العلماء, وقد تابعناهم عليه حملا لحال المؤمن على الصلاح ... ولكن لم يلبث أن تبدد حسن ظننا بالقوم على أثر تلك المقالة التي قرأناها لابن عربي في فتوحاته, وفيها يصرح بأن مقالات الصوفية في كتاب الله ليست إلا تفسيرا حقيقيا لمعاني القرآن وشرحا لمراد الله من ألفاظه وآياته, ويذكر لنا أن تسميتها إشارة ليس إلا من قبيل التقية والمداراة لعلماء الرسوم أهل الظاهر, وفي هذه المقالة يحمل حملة شعواء على أهل الرسوم -على حد تعبيره- الذين ينكرون عليه وعلى غيره من الصوفية"1.
رأي الزرقاني:
أما الشيخ عبد العظيم الزرقاني فيقول عن التفسير الإشاري: "ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات, وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات, وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح, فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم.. فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية, ولا يعولوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية؛ لأنها كلها أذواق ومواجيد خارجة
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص35 و36.(1/373)
عن حدود الضبط والتقييد, وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل, وإذا تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل, وإذا ظهر فقد يكون من الكفريات الفاحشة التي نستبعد صدورها من العلماء والمتصوفة، بل من صادقي عامة المسلمين ... فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات, وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} "1.
__________
1 مناهل العرفان: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص557 و558 باختصار.(1/374)
شروط قبول التفسير الإشاري:
ثم إن العلماء الذين قبلوا هذا النوع من التفسير وضعوا له شروطا أربعة هي:
1- ألا يتنافى وظاهر النظم القرآني الكريم.
2- أن يكون له شاهد شرعي يؤيده.
3- ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي.
4- أن لا يدعي أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر, بل لا بد من الاعتراف والتسليم بالمعنى الظاهر أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر, ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب"1.
ثم إن المراد بالقبول هنا عدم رفضه لا وجوب اتباعه والأخذ به. أما عدم رفضه فلعدم منافاته لظاهر القرآن ولوجود الشاهد الذي يعضده من الشرع وكل ما كان كذلك لا يرفض. أما عدم وجوب الأخذ به فلأن النص القرآني لم يوضع للدلالة عليه، بل هو من قبيل الوجدانيات التي لا تقوم على دليل ولا تستند إلى برهان, والتي لا تنضبط بلغة ولا تتقيد بقانون.
__________
1 الإحياء: الغزالي، ج1 ص298؛ الإتقان: السيوطي، ج2 ص185.(1/374)
أهم المؤلفات في التفسير الإشاري
مدخل
...
أهم المؤلفات في التفسير الإشاري:
انقسم المفسرون السابقون في تفاسيرهم من ناحية التفسير الإشاري إلى أقسام خمسة:
الأول: من أعرض كل الإعراض عن هذا اللون من التفسير ولا تجد له فيه ذكرا, وأمثلة هذا النوع كثيرة.
الثاني: من التزم في أكثر تفسيره التفسير بالظاهر مع إشارات قليلة إلى التفسير الإشاري, ومثاله تفسير النيسابوري.
الثالث: من جعل غالب همه في التفسير الإشاري, لكن يضيف إليه بقلة التفسير الظاهر, كتفسير سهل التستري.
الرابع: من جعل همه كله في التفسير الإشاري ولا يشير مطلقا إلى التفسير الظاهر, كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي.
الخامس: من جمع بين التفسير الإشاري والتفسير الصوفي النظري مع الإعراض كل الإعراض عن التفسير بالظاهر, وذلك كتفسير ابن عربي.
هذه أقسام خمسة كان المفسرون عليها قديما, وإذا عدت إلى الحاضر لم تكد تجد أحدا من الأنواع الثلاثة الأخيرة، على حد علمي. أما اللون الأول فهو الموجود وبكثرة, وأما اللون الثاني فموجود ولكن أقل كثرة من سابقه.
ومما زاد القلة قلة أن بعض أقطاب التصوف في العصر الحديث ألفوا في التفسير، ولا يكاد القارئ يجد أية دلالة لا من قريب ولا من بعيد على انتمائهم الصوفي في التفسير, بينما تنضح بل تفيض كتبهم الأخرى برموزهم واصطلاحاتهم.
وفي مقابل هؤلاء وجد في تفاسير بعض غير الصوفيين، بل ومن المعروفين بمحاربة بدع الصوفية، وجد في تفاسيرهم هذا اللون من التفسير وهو وإن كان بقلة إلا أنهم عرفوا به وذلك كبعض تفاسير محمد عبده في تفسير المنار. وهم وإن كانوا لا يشيرون لا من قريب ولا من بعيد إلى انتماء هذا النوع من التفسير لديهم إلى اللون الصوفي إلا أن العلاقة بينهما واضحة, فكلاهما يصرف ظاهر الآية عن معناه الحقيقي إلى معنى باطني لا صلة له لفظية أو معنوية بها فهو صرف(1/375)
للفظ عن ظاهره من غير سبب, سواء سمي تفسيرا رمزيا أو إشاريا أو تمثيليا.
ولعلي بعد هذا أذكر بعض المؤلفات الصوفية التي تضمنت تفسيرا إشاريا, فمن ذلك:
1- بيان السعادة في مقامات العبادة، "في مجلدين كبيرين": تأليف سلطان محمد بن حيدر الجنابذي.
2- أسرار القرآن: السيد محمد ماضي أبو العزائم.
3- ضياء الأكوان في تفسير القرآن: صدر منه جزآن، تأليف أحمد سعاد العقاد.
كما أن هناك تفاسير أخرى هي لعلماء الصوفية, وسأذكر بعضها علما بأن بعضها خالٍ من أية دلالة على صوفية صاحبه حسب قراءتي، وبعضها لم أطلع عليه, فمن الأول:
1- "مراح لبيد لكشف معاني القرآن المجيد" والمشهور بـ"التفسير المنير لمعالم التنزيل": وهو في مجلدين, صدرت طبعته الثالثة سنة 1374, والمؤلف محمد نووي الجاوي ت 1316.
2- أوضح التفاسير: محمد عبد اللطيف "ابن الخطيب", لا يزال حيا.
3- قرة العين من البيضاوي والجلالين: يوسف بن إسماعيل النبهاني ت 1350.
ومن الثاني:
1- تفسير القرآن: الحسن بن محمد بوجمعة البعقيلي ت 1368.
2- تفسير القرآن العظيم: عثمان بن محمد شطا البكري ت 1310 إلى سورة "المؤمنون".
3- الواردات الإلهية: محمد بن عبد الغني البيطار ت 1328.
4- نفحة الرحمن في تفسير القرآن: محمد بن حسن الصيادي "أبو الهدى" ت 1328.
5- تفسير سورة البقرة: محمود الرفاعي ت 1350.
وغير ذلك.
وسنتناول اثنين من هذه التفاسير بشيء من التفصيل, إن شاء الله.(1/376)
أولا: بيان السعادة في مقامات العبادة
المؤلف:
أما اسم مؤلفه كما جاء في تفسيره, فهو سلطان محمد بن حيدر محمد بن سلطان محمد بن دوست محمد بن نور محمد بن الحاج محمد بن الحاج قاسم علي البيرختي الجنابذي الخراساني، من علماء الشيعة الإمامية، نسبته إلى جنابذ "كونابذ" قرية في نواحي نيسابور, توفي سنة 1311/ 1894م.
التفسير:
وهو تفسير "بيان السعادة في مقامات العبادة".
ويقع في مجلدين كبيرين، فرغ منه مؤلفه في الرابع عشر من شهر صفر المظفر من شهور السنة الحادية عشرة بعد الثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية، وتم طبعه في الرابع عشر من شهر رمضان المبارك "سنة 1314"1 في طهران.
منهجه في التفسير:
لا أريد هنا أن أدرس منهج هذا التفسير دراسة مستوفية إلا من الجانب الصوفي ليس غير، ولكن هذا لا يعني أن نغفل الإشارة إلى ذكر أهم سمات هذا التفسير واتجاهاته.
__________
1 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد حيدر ج2, الصفحة الأخيرة.(1/377)
فأقول: إن صاحب التفسير مع أنه صوفي فهو شيعي متطرف من الشيعة الإمامية الاثني عشرية نضرب مثلا من آرائه الشيعية المتطرفة:
الأئمة هم ورثة علم محمد صلى الله عليه وسلم:
قال المؤلف في مقدمة تفسيره: "إن عليا أول العشرة ووارث علم محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعده الأحد عشر من ولده, وإن الحادي عشر منهم غائب قائم منتظر لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج, ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا, وإن هؤلاء الاثني عشر أئمته وشفعاؤه يوم القيامة"1.
وقال عن العترة: "إن العترة مبينون2 القرآن, فالقرآن إمام صامت والعترة قرآن ناطق, وكما أن محبة العالم من العترة وتعظيمه والنظر إليه والجلوس عنده واستماع قوله والتدبر في أفعاله وأحواله وأخلاقه والتفكر في شئونه والتسليم له ولمتشابهات ما مسه2 وتخلية بيت القلب لنزوله بملكوته فيه بملاحظة أنه حبل الله الممدود إلى الناس ومن غير عناد معه من أعظم العبادات"3.
وعقد الفصل العاشر في مقدمته لتأكيد هذه الأمور السابقة, وجاء في هذا الفصل: "الفصل العاشر في أن علم القرآن بتمام مراتبه منحصر في محمد -صلى الله عليه وسلم- وأوصيائه الاثني عشر وليس لغيرهم إلا بقدر مقامه. قد مضى أن بطون القرآن وحقائقه كثيرة متعددة وأن بطنه الأعلى وحقيقته العليا هو محمدية محمد وعلوية علي وهو مقام المشيّة التي هي فوق الإمكان وكل نبي ووصي كان لا يتجاوز مقامه إلا مكان سوى محمد وأوصيائه ومن لم يبلغ إلى مقام المشية لا يعلم ما فيه ولا يبين من ذلك المقام شيئا إلى أن قال: "ولما كان مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلي -عليه السلام- وأولاده المعصومين مقام المشية
__________
1 بيان السعادة في مقامات العبادة: محمد حيدر ج1 ص2.
2 كذا وردت.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص2.(1/378)
كان علم القرآن كله عندهم وكان علي هو من عنده علم الكتاب, كما في الآية بإضافة العلم إلى الكتاب المفيد للاستغراق"1.
تحريف القرآن:
ذكرنا في المنهج الشيعي لتفسير القرآن استفاضة الأخبار عن أئمتهم بوقوع التحريف في القرآن وهو ما يؤكده صاحب هذا التفسير محمد حيدر الخراساني, إذ جاء في مقدمة تفسيره وفي الفصل الحادي عشر منها قوله: "الفصل الثالث عشر في وقوع الزيادة والنقيصة والتقديم والتأخير والتحريف والتغيير في القرآن الذي بين أظهرنا2 الذي أمرنا بتلاوته وامتثال أوامره ونواهيه ... إلخ". اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأطهار "ع" بوقوع الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير فيه بحيث لا يكاد لا يقع3 شك في صدور بعضها منهم, وتأويل الجميع بأن الزيادة والنقيصة والتغيير إنما هي في مدركاتهم من القرآن لا في لفظ القرآن كلفة، ولا يليق بالكاملين في مخاطباتهم العامة؛ لأن الكامل يخاطب بما فيه حظ العوام والخواص وصرف4 للفظ من ظاهره من غير صارف وما توهموه صارفا من كونه مجموعا عندهم في زمن النبي وكانوا يحفظونه ويدرسونه وكان الأصحاب مهتمين بحفظه عن التغيير والتبديل, حتى إنهم ضبطوا قراءات القراء وكيفيات قراءاتهم, فالجواب عنه: أن كونه مجموعا غير مسلم, فإن القرآن نزل في مدة رسالته إلى آخر عمره نجوما. وقد استفاضت الأخبار بنزول بعض السور وبعض الآيات في العام الآخر, وما ورد من أنهم جمعوه بعد رحلته وأن عليا جلس في بيته مشتغلا بجمع القرآن أكثر من أن يمكن إنكاره, وكونهم يحفظونه ويدرسونه مسلم, لكن كان الحفظ والدرس فيما كان بأيديهم واهتمام الأصحاب بحفظه وحفظ قراءات القراء وكيفيات قراءاتهم كان
__________
1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص10.
2 لا أدري لِمَ عدل المؤلف عن وصفه بين أيدينا إلى بين أظهرنا, وقد ذم الله في كتابه الذين نبذوه وراء ظهورهم؟!
3 هكذا بالنفي, وصحة سياق العبارة: لا يكاد يقع.
4 علق المؤلف على هذا بأنه عطف على كلفة.(1/379)
بعد جمعه وترتيبه وكما كان الدواعي متوفرة في حفظه كذلك كانت متوفرة من المنافقين في تغييره, وما قيل: إنه لم يبق لنا حينئذ اعتماد عليه والحال أنا مأمورون بالاعتماد عليه واتباع أحكامه والتدبر في آياته وامتثال أوامره ونواهيه وإقامة حدوده وعرض الأخبار عليه لا يعتمد عليه في صرف مثل هذه الأخبار الكثيرة الدالة على التغيير والتحريف عن ظواهرها؛ لأن الاعتماد على هذا المكتوب ووجوب اتباعه وامتثال أوامره ونواهيه وإقامة حدوده وأحكامه إنما هي للأخبار الكثيرة الدالة على ما ذكر, لا للقطع بأن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير نقيصة, وزيادة, وتحريف فيه"1.
نزول القرآن بتمامه في الأئمة, وفي أعدائهم:
وعقد المؤلف الفصل الرابع عشر في أن القرآن نزل بتمامه في الأئمة الاثني عشر بوجه, ونزل فيهم وفي أعدائهم بوجه, ونزل أثلاثا: ثلث فيهم وفي أعدائهم، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام بوجه"2.
هذه أمور ثلاثة حرصت على سياقها مستطردا؛ لأنها ما اجتمعت إلا في متطرفي الشيعة الاثني عشرية وهو ما أردت إثباته بادئ ذي بدء لهذا التفسير، ومن ثَمَّ ننطلق إلى مرادنا من هذا التفسير وهو التفسير الصوفي فيه.
المنهج الصوفي في تفسيره:
وأول ما يواجهنا في تفسيره من انتمائه إلى التفسير الإشاري قوله في مقدمة تفسيره: "وقد كان يظهر لي بعض الأحيان من إشارات الكتاب وتلويحات الأخبار لطائف ما كنت أجدها في كتاب ولا أسمعها من خطاب, فأردت أن أثبتها في وريقات, وأجعلها نحو تفسير للكتاب"3.
وقد أغرق المؤلف تفسيره بكثرة التأويلات الصوفية والشطحات والمواجيد
__________
1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص12.
2 المصدر السابق: ج1 ص12.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص3.(1/380)
والإشارات والاصطلاحات التي لا يكاد يعرف لها معنى, بل هي أشبه ما تكون بالطلاسم.
قصة خلق آدم:
ونبدأ ذكر الأمثلة على إشاراته ورموزه وتفسيره الصوفي بما فسر به الآيات القرآنية في خلق آدم وحواء -عليهما السلام- حيث قال: "اعلم أن قصة خلق آدم "على" وحواء "على" من الطين ومن ضلعه الأيسر ومن أمر الملائكة بسجود آدم1 "على" وإباء إبليس عن السجدة وإسكان آدم "على" وحواء "على" الجنة, ونهيهما عن أكل شجرة من أشجارها ووسوسة إبليس لهما وأكلهما من الشجرة المنهية وهبوطهما من المرموزات المذكورة في كتب الأمم السالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقا, فالمراد بآدم في العالم الصغير اللطيفة العاقلة الآدمية الخليفة على الملائكة الأرضيين وعلى الجنة والشياطين المطرودين عن وجه أرض النفس والطبع المسجودة للملائكة المخلوقة من الطين الساكنة في جنة النفس الإنسانية, وهي أعلم عن مقام النفس الحيوانية من المخلوق من ضلع جنبها الأيسر الذي يلي النفس الحيوانية زوجتها المسماة بحواء؛ لكدرة لونها بقربها في النفس الحيوانية، والمراد بالشجرة المنهية مرتبة النفس الإنسانية التي هي جامعة لمقام الحيوانية، والمرتبة الآدمية والمراد بالحية واختفاء إبليس بين لحييها القوة الواهمة, فإنها لكونها مظهرا لإبليس تسمى بإبليس في العالم الصغير ووسوسته تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الأيسر من آدم المعبر عنه بحواء وهبوط آدم "على" وحواء "على" عبارة عن تنزلهما إلى مقام الحيوانية وهبوط إبليس والحية وذريتهما عبارة عن تنزلها عن مقام التبعية لآدم, فإن إبليس لما كان الواهمة أحد مظاهره كان رفعتها رفعته وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته، وهبوط الواهمة كان هبوطا له، وإذا أريد بالشجرة النفس الإنسانية ارتفع الاختلاف من الأخبار, فإن النفس الإنسانية شجرة لها أنواع الثمار والحبوب وأصناف الأوصاف والخصال؛ لأن الحبوب والثمار وإن لم تكن بوجوداتها العينية الدانية الموجودة فيها لكن الكل بحقائقها
__________
1 كذا, ولعل الصحيح: بالسجود لآدم. والمراد بـ"على" عليه السلام.(1/381)
موجودة فيها، فتعيين تلك الشجرة بشيء من الحبوب والثمار أو العلوم والأوصاف بيان لبعض شئونها. روى في تفسير الإمام "على" أنها شجرة علم محمد "صلى" وآل محمد "صلى" الذين آثرهم الله تعالى به دون سائر خلقه فقال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} ، شجرة العلم فإنها لمحمد "صلى" وآله "صلى" دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، ومنها ما كان يتناوله النبي "صلى" وعلي "على" وفاطمة "على" والحسن "على" والحسين "على" بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعا من الثمار, وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة؛ فلذلك اختلف الحاكون فقال بعضهم: برة وقال آخرون: هي عنابة وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم, ومن تناول بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربه "أقول: آخر الحديث يدل على ما قالته الصوفية من أن السالك ما لم يتم سلوكه ولم ينته إلى مقام الفناء ولم يرجع إلى الصحو بعد المحو بإذن الله, لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النفس زائدا على قدر الضرورة وشجرة علم محمد "صلى" وآل محمد "صلى" إشارة إلى مقام النفس الجامع لكمالات الكثرة والوحدة"1.
وهذا النوع من التفسير عنده وعند الصوفية لا يدرك بالقوة البشرية ولا بالمدارك الشيطانية, فلم يبق إلا الإلهام الإلهي حيث يقول: "ولما كان قصة آدم وخلقته وأمر الملائكة بسجدته وإباء إبليس عن السجود وهبوطه عن الجنة وبكاؤه في فراق الجنة ... إلخ, من مرموزات الأوائل وقد كثر ذكره في كتب السلف خصوصا كتب اليهود وتواريخهم ورد أخبارنا2 مختلفة في هذا الباب اختلافا كثيرا مرموزا بها إلى ما رمزوه ومن أراد أن يحملها على ظاهرها تحير فيها, ومن رام أن يدرك المقصود بقوته البشرية والمدارك الشيطانية منها طرد عنها ولم يدرك منها
__________
1 بيان السعادة: ج1 ص45 و46.
2 كذا وردت.(1/382)
إلا خلاف مدلولها"1.
وهذا النوع من التفسير هو الذي سلكه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره, فقال في تفسير الآيات السابقة في قصة آدم عليه السلام: "وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها, فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض, وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض؛ لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما فيه استعداد الإنسان لذلك, وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض, وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها, وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب، تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته, وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك, وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم والتعدي والإفساد في الأرض, ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم, أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري"2.
وهو أيضا نفس التأويل الذي أوّل به محمد عبده المراد بالملائكة بقوله: "يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر بأن في نفسه تنازعا كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى, فهذا يورد وذاك يدفع, وأحد يقول: افعل وآخر يقول: لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين ويترجح أحد الخاطرين فهذا الشيء
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص42.
2 تفسير المنار: ج1 ص281 و282.(1/383)
الذي أودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكرا, وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه وروح لا تكتنه حقيقتها, لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا أو يسمي أسبابه ملائكة أو ما شاء من الأسماء فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع"، ثم قال: "ولو أن نفسا مالت إلى قبول هذا التأويل لم تجد في الدين ما يمنعها من ذلك والعمدة على اطمئنان القلب وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق"، وقد علق تلميذه السيد رشيد رضا على هذا بقوله: "إن غرض الأستاذ من هذا التأويل الذي عبر عنه بالإيماء وبالإشارة إقناع منكري الملائكة بوجودهم بتعبير مألوف عندهم, تقبله عقولهم"1.
ولا أشك في ضلال هذا النوع من التفسير الذي يصرف أخبار القرآن عن ظاهرها وحقائقها إلى أوهام يتخيلها إيماءات أو إشارات, مهما كان هدف قائلها, ومهما كان مراده ما دامت المعاني التي ساقها لا تمت إلى النص بصلة أصيلة, أو أدلة قوية صريحة.
الإنسان بين نشأتي الجذب والسلوك:
وظهر تفسيره الصوفي المليء باصطلاحات ورموز وإشارات الصوفية في تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 2. وقد ذكر في سبب نزولها ما خلاصته أن عليا -رضي الله عنه- حلف أن لا ينام بالليل، وأن بلالا -رضي الله عنه- حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا, وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. فلما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك "صعد المنبر, فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات، إني أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار, فمن رغب عن سنتي فليس مني" فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك, فأنزل الله آيات الحلف الآتية"3.
__________
1 تفسير المنار: ج1 ص268-270.
2 سورة المائدة: الآية 88.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص250.(1/384)
وبما أن المؤلف إمامي يعتقد بعصمة علي -رضي الله عنه- فإن في هذا الأمر إشكالين وضحهما ورد عليهما بقوله: "أولا بأن أمثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الإيمان غير مناسبة لمقام علي -عليه السلام- وثانيا بأنه -عليه السلام- ما كان عالما بأن تحريم الحلال إن كان بالاستبداد والرأي كان من البدع والضلال, وإن كان بالنذر وشبهه كما دل عليه الخبر كان مرجوحا غير مرضي لله تعالى, ومع ذلك حرمه على نفسه أو كان جاهلا بذلك, وكلا الوجهين غير لائق بمقامه, عليه السلام.
والجواب الجلي لطالبي الآخرة والسالكين إلى الله الذين بايعوه بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشموا نفحات نشأته حال سلوكه أن يقال: إن السالك إلى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتي الجذب والسلوك, بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف وإفراط الجذب الصرف, فإنه إن كان في نشأة السلوك فقد جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير، وإن كان من نشأة الجذب فقط فني بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر, وهو وإن كان في روح وراحة لكنه ناقص كمال النقص من حيث إن المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربه مع جنوده وخدمه وأتباعه وحشمه, وهو طرح الكل وتسارع بوحدته, فالسالك إلى الله تكميله مربوط بأن يكون في الجذب والسلوك منكسرا برودة سلوكه بحرارة جذبه, فالجذب والسلوك كالليل والنهار أو كالصيف والشتاء من حيث إنهما يربيان المواليد بتضادهما, فهما مع كونهما متنازعين متآلفان متوافقان.
إذا علمت ذلك, فاعلم أن السالك إذا وقع في نشأة الجذب وشرب من شراب الشوق الزنجبيلي, سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى في نظره سوى الخدمة للمحبوب, وكلما رآه منافيا للخدمة رآه ثقلا ووبالا على نفسه ومكروها لمولاه فيصمم في طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به, وهو من كمال الطاعة لا أنه ترك الطاعة كما يظن, فلا ضير أن يكون أمير المؤمنين على حال سلوكه وقع في تلك النشأة وحرم على نفسه كل ما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطاعة, ولما لم يمكن تحصيل الكمال التام إلا بالجمع بين النشأتين أسقاه محمد -صلى الله عليه وسلم- من شراب السلوك؛ لأنه كان مكملا مربيا له ولغيره؛ ولذا قالوا: لا بد(1/385)
أن يكون للسالك شيخ وإلا فيوشك أن يقع في الورطات المهلكة ولا منقصة في أمثال هذه المعاتبات على الأحباب, بل فيها من اللطف والترغيب في الخدمة ما لا يخفى وعلي كان عالما بأن الكمال لا يحصل إلا بالنشأتين, لكنه يرى حين الجذب أن كل ما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح، أو يقال: إن عليا لما كان شريكا للرسول -صلى الله عليه وسلم- في تكميل السلاك لقوله: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" وكان له شأن الدلالة ولمحمد صلى الله عليه وسلم شأن الإرشاد والمرشد بنشأته النبوية شأنه تكميل السالك بحسب نشأة السلوك وإن كان بنشأته الولوية, وشأن الإرشاد شأنه التكميل بحسب الجذب والدليل بنشأته الولوية شأنه التكميل بحسب نشأة الجذب وإن كان بنشأته النبوية وشأن الدلالة شأنه التكميل بحسب السلوك, فالدليل بولايته يقرب السالك إلى الحضور ويعلمه آداب الحضور وطريق العبودية من عدم الالتفات إلى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه والمرشد بنبوته يبعده عن الحضور ويقربه إلى السلوك ويرغبه فيه, فهما في فعلهما كالنشأتين متضادان متوافقان, فأمير المؤمنين علي لما رأى بلالا وعثمان مستعدين لنشأة الجذب رغبهما إلى تلك النشأة بطرح المستلذات وترك المألوفات, وشاركهما في ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتم جنبهما, ولما مضى مدة ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن عودهما إلى السلوك أوفق وأنفع لهما, ردهما إلى نشأة السلوك وعاتبهما بألطف عبارة ولا يرد نقص على أمير المؤمنين علي"1.
مراتب السالك:
وضح المؤلف في تفسيره المراتب التي يمر بها السالك, وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2، فقال: "اعلم أن للإنسان من أول تخيره إلى آخر مراتبه تطورات
__________
1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص250 و251.
2 سورة المائدة: الآية 93.(1/386)
ونشآت, وبحسب كل نشأة له أعمال وإرادات وشرور وخيرات وللسالك إلى الله من بدو سلوكه إلى آخر مراتبه غير المتناهية مقامات ومراحل وأسفار ومنازل، والتقوى تارة تطلق على التحفظ عن كل ما يضر الإنسان في الحال أو في المآل, وهو معناها اللغوي وبهذا المعنى تكون قبل الإسلام وقبل الإيمان ومعهما وبعدهما، وتارة تطلق على التحفظ عما يصرفه عن توجهه إلى الإيمان, وبهذا المعنى تكون مع الإسلام وقبل الإيمان ومع الإيمان, لكن في مرتبة الإسلام فإنه ما لم يسلم لم يتصور له توجه واهتداء إلى الإيمان حتى يتصور صارف له عن الإيمان وحفظ عن ذلك الصارف، والتقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفظ النفس عن جملة المخالفات الشرعية, وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطريق الموصل له إلى غايته ويدخله في الطريق الموصلة إلى الجحيم, وبهذا المعنى لا تكون قبل الإيمان؛ لأنه لم يكن ح1 في الطريق بل تكون مع الإيمان الخاص الذي به يكون الوصول إلى الطريق, والإيمان قد يطلق على الإذعان وهو معناه اللغوي, وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامة وهو الإيمان العام المسمى بالإسلام, وقد يطلق على ما قد يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وهو الإيمان الحقيقي, وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الإيمان الشهودي" إلى أن قال: "والإنسان من أول تميزه نشأته نشأة الحيوان لا يدري خيرا إلا ما اقتضته القوى الحيوانية، ولا شرا إلا ما استكرهته، ولا يتصور له التقوى سوى التقوى اللغوية, فإذا بلغ مقام المراهقة حصل له في الجملة تميز الخير والشر الإنسانيين وتعلق به زاجر إلهي باطني بحيث يستعد لقبول الأمر والنهي من زاجر بشري, لكن لا يكلف لضعفه ويمرن لوجود الاستعداد والزاجر الباطني ويتصور له التقوى بالمعنى الأول والثاني في هذا المقام بمقدار تميز الخير والشر الإنسانيين, فإذا بلغ أوان التكليف وقوى التميز والاستعداد والزاجر الإلهي تعلق به التكليف من الله بواسطة النذر، وبقبوله التكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الإسلام ويتصور له التقوى أيضا بالمعنى الأول والثاني, ولا يتصور له التقوى بالمعنى الثالث لعدم وصوله إلى الطريق بعد، وفي هذا المقام يكلفه المكلف الإلهي بالتكاليف الغالبية, وينبهه على أن للإنسان طريقا
__________
1 كذا في الكتاب.(1/387)
إلى الغيب وله بحسب هذا الطريق تكاليف أخر ويدله على من يريه الطريق ويكلفه التكليفات الأخر إشارة أو تصريحا أو يريه بنفسه الطريق, فإذا ساعده التوفيق وتمسك بصاحب الطريق حتى قبله وكلفه بالبيعة والميثاق التكليفات القلبية صار مؤمنا بالإيمان الخاص, ومتمسكا بالطريق متقيا بالمعنى الثالث وسالكا إلى الله وله في سلوكه مراحل ومقامات وزكاة وصوم وصلاة وترؤات وفناءات ففي المرتبة الأولى يرى من نفسه الفعل والترك وجملة صفاته, فإذا ترقى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله -ولا حول ولا قوة إلا بالله- صار فانيا من فعله باقيا بفعل الحق, فإذا ترقى وطرح بعضا آخر بحيث لا يرى من نفسه صفة صار فانيا من صفته باقيا بصفة الله, فإذا ترقى وطرح الكل بحيث لا يرى نفسه في البين صار فانيا من ذاته, وفي هذا المقام -إن أبقاه الله- صار باقيا بعد الفناء ببقاء الله وتم له السلوك وصار جامعا بين الفرد والجمع والوحدة والكثرة, وجعل العرفاء الشامخون بحسب الأمهات أسفار السالك وسيره أربعة وسموها أسفارا أربعة: السفر الأول السير من النفس إلى حدود القلب وهو سيره في الإسلام وعلى غير الطريق ويسمونه السفر من الخلق إلى الحق, والثاني سيره من حدود القلب إلى الله وهو سيره في الإيمان وعلى الطريق وبدلالة الشيخ المرشد وفي هذا السير يحصل الفناءات الثلاثة ويسمونه السفر من الحق في الحق إلى الحق, والثالث سيره بعد الفناء في المراتب الإلهية من غير ذات وشعور بذات, ويسمونه السفر بالحق في الحق, والرابع سيره بالحق في الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمونه السفر بالحق في الخلق إذا علمت ذلك فنقول: معنى الآية أنه ليس على الذين بايعوا بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة, وأسلموا بقبول الأحكام القالبية وتوجهوا من ديار الإسلام التي هي صدورهم إلى ديار الإيمان التي هي قلوبهم وعملوا الأعمال التي أخذوها من صاحب إسلامهم جناح فيما فعلوا وحصلوا من الأفعال والعلوم, ولما كان المراد بالتقوى في لسان الشارع هو المعنى الثاني والثالث دون الأول لم يقل تعالى شأنه: ليس على الذين اتقوا وآمنوا في تلك المرتبة واقتصر على الإيمان والعمل الصالح, لكن نفى الجناح بشرط أن اتقوا صوارفهم عن التوجه إلى الإيمان والترحل إلى السفر الثاني والوصول إلى(1/388)
الطريق وجملة المخالفات الشرعية صوارف عن هذا التوجه وآمنوا بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة وعملوا الصالحات التي أخذوها من صاحب الطريق, ثم اتقوا نسبة الأفعال والصفات إلى أنفسهم وآمنوا شهودا بما آمنوا به غيابا, وفي هذا المقام يقع السالك في ورطات الحلول والاتحاد والإلحاد وسائر أنواع الزندقة من الثنوية وعبادة الشيطان والرياضة بخلاف الشرائع الإلهية ومغلطة الأرواح الخبيثة بالأرواح الطيبة, فإنه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة وأكثر ما فشا في القلندرية من العقائد والأعمال نشأ من هذا المقام والسالك في هذه المرتبة لا يرى صفة لنفسه ولا فعلا من نفسه؛ ولذلك أسقط العمل الصالح ولم يذكره ثم اتقوا من رؤية ذواتهم, وهذا هو الفناء التام والفناء الذاتي, وفي هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التقوى حتى يتصور لهم إيمان أو عمل والسالك في هذا السفر لا نهاية لسيره ولا تعين لوجوده ولا نفسية له ويظهر منه الشطحيات التي لا تصح من غيره كما تظهر منه في المقام السابق أيضا, وكما لا يرى السالك في هذا المقام لنفسه عينا ولا أثرا لا يرى لغيره أيضا عينا ولا أثرا, ومن هذا المقام نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتب عليها من العقائد الباطلة والأعمال الكاسدة, فإن أدركته العناية وأفاق من فنائه وصار باقيا ببقاء الله صار محسنا بحسب الذات والصفات والأفعال؛ ولذلك قال تعالى بعد ذكر التقوى {وَأَحْسَنُوا} وأسقط الإيمان والعمل جميعا؛ لأنه بعد فنائه الذاتي وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسنا وإحسانا حقيقيا, وأما قبل ذلك فإنه لا يخلو من شوب سوئه وإساءته بقدر بقاء نسبة الوجود إلى نفسه قبل فنائه, وأيضا قبل الفناء بقدر نسبة الوجود إلى نفسه يكون مبغوضا لا محبوبا على الإطلاق وبعد الفناء وقبل الفناء بالله لا موضوع له حتى يحكم عليه بالمحبوبية والمبغوضية وبعد البقاء بالله يصير محبوبا على الإطلاق؛ ولذلك قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} في آخر الآية"1.
__________
1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص251 و252.(1/389)
مراتب الكمال:
وتحدث في تفسيره عن مراتب كمال الإنسان عند تفسيره لقوله تعالى مخاطبا إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} 1 فقال: "فالإمامة آخر جميع مراتب كمالات الإنسان, فإن أول كمالاته العبودية من أولى درجاتها, وهي أولى درجات السلوك إلى الطريق متدرجا فيه إلى الوصول إلى الطريق متدرجا في السلوك على الطريق إلى الله, إلى أن خرج من أنانيته ورقيَّة نفسه ودخل في زمرة عباده واستكمل العبودية, وصار عبدا خالصا, فإن أدركته العناية وأبقاه الله بعد فنائه وأحياه بحياته لتكميل خلقه, فإما أن يوكله بإصلاح قلبه الذي هو بيت الله حقيقة وبإصلاح أهل مملكة نفسه من غير إذن له في الرجوع إلى خارج مملكته, وهو مقام النبوة المفردة عن الرسالة أو يأذن له مع ذلك بإصلاح المملكة الخارجة وهو الرسالة المفردة عن الخلة أو يختاره مع ذلك لنفسه ممتازا به عن سائر رسله معيدا له كرة أخرى غير العود الأول, فإن العود الأول كان بطرح كل ما أخذ وبهذا العود يعود معه جميع ما أعطاه الله وهو جميع ما سواه وهو الخلة, فإن استكمل مقام الخلة بأن كان مقامه مع الحق هو مقامه مع الخلق مع التمكن في ذلك اختاره للإمامة وتفويض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه, وليس وراء هذه مقام ومرتبة, وقد علم من هذا أن كل إمام خليل وكل خليل رسول وكل رسول نبي وكل نبي عبد وليس بالعكس, وأن الإمامة بهذا المعنى هو الجمع بين المقام في الخلق والمقام عند الحق من غير قصور في شىء منهما, مع التمكن في ذلك"2.
هذا ما قاله ذلكم المفسر عن مقام الإمامة, ولئن كان وقوفي عند كثير من كلماته كثيرا وكثيرا, فإن أشده دهشة وأعظمه استغرابا عند قوله المنقول آنفا " ... اختاره للإمامة وتفويض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه" لا يدهشني قوله: "وليس وراء هذه مقام ورتبة" لأني
__________
1 سورة البقرة: من الآية 124.
2 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص79.(1/390)
أعتقد أنه ليس بعد مقام الألوهية مقام والرجل خص مقام الإمامة بأدق خصائص الألوهية والعياذ بالله, فهل يعتقد أن المرء يترقى في مقامات الكمال حتى يصل إلى مقام الإمامة بخصائص الألوهية, أو يعتقد أن مقام الإمامة ومقام الألوهية سيان ورمزان لمعنى واحد, أو يعتقد غير هذا وذاك؟ وكلها اعتقادات لا تخرج بحال من الأحوال عن الانحراف, والإلحاد في آيات الله.
اصطلاحات ورموز:
وتفسيره مليء باصطلاحات الصوفية ورموزها, ولو ذهبنا نذكر أمثلة لخرجنا عن حد الاعتدال في عرض المقصود إلى الإطناب ونسلم من الخروج عنه بذكر بعضها, فمن ذلك:
القرية:
للقرية في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 1.
فسرها بقوله: "إن كان النزول في ضعفاء مكة فلا اختصاص لها بهم كما في الخبر فالقرية مكة, وكل قرية لا يجد الشيعة فيها وليا من الإمام ومشايخهم، وكل قرية وقع بها الأئمة بين منافقي الأمة وقرية النفس الحيوانية التي لا يجد الجنود الإنسانية فيها وليا, ويطلبون الخروج منها إلى قرية الصدور ومدينة القلب ويسألون الحضور عند إمامهم أو مشايخهم في بيت القلب خاليا عن مزاحمة الأغيار بقولهم: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} "2.
اليتيم:
في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم} 3, قال في تفسيره: "اعلم أن
__________
1 من سورة النساء: من الآية 75.
2 بيان السعادة: ج1 ص211.
3 سورة النساء: من الآية 2.(1/391)
اليتيم كالرحم روحاني وجسماني, فالجسماني من انقطع من صغره عن أبيه الجسماني، والروحاني من انقطع عن إمامه الذي هو أبوه الروحاني كما ورد تصريحا وإشارة. واليتيم عن الإمام إما بغيبته عن شهود حسه بموت وغيره أو بغيبته عن شهود بصيرته بعدم استعداد الحضور وعدم حصول الفكر الذي هو مصطلح الصوفية, فإن من لم يتمثل مثال الشيخ في صدره ولم يشاهد صورته المثالية بعين بصيرته كان منقطعا عن إمامة وحقه الخدمة والمواساة والمحبة والنصيحة التي يعطون الميثاق عليها, هذا هو اليتيم الروحاني في العالم الكبير. وأما في العالم الصغير فالقوى الحيوانية والبشرية ما لم تبلغ في التبعية للنفس إلى مقام التمتع والالتذاذ بشهود النفس لشيخها تكون يتامى ومالها وحقها التلذذ بمشتهياتها ومقتضياتها في الحلال, فإن التلذذ في الحلال جعل قسيما لتزود المعاد في الأخبار"1.
البروج والسراج والقمر:
وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} 2.
فسر البروج بقوله: "يجوز أن يراد بالبروج الكواكب السيارة ... أو أن يراد اللطائف النبوية والولوية المحصورة كلياتها في اثنتي عشرة غير المنتهي جزئياتها إلى حد المحدودة بحسب الأمهات إلى مائة وأربعة وعشرين ألفا أو مائة وعشرين ألفا أو مائة ألف، وأن يراد الأنبياء "على" والأولياء "على" فإنهم بتعلقهم بأبدانهم الأرضية أركان الأرض، وبتجردهم الذاتي عن أرض الطبع أركان السماء, وأن يراد الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والمفيضة للأرزاق أو المفيضة للعلوم والمعبر عنها بإسرافيل وعزرائيل وميكائيل وجبرائيل"3.
وفسر {سِرَاجًا وَقَمَرًا} بقوله: "والمراد بحسب التأويل من السراج لطيفة
__________
1 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص190.
2 سورة الفرقان: من الآية 61.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص87.(1/392)
الولاية, فإنها المضيئة بذاتها ومن القمر لطيفة النبوة والرسالة, فإنها كاسبة للنور من الولاية"1.
التعليم والتلقين:
وقد بين كيفية التعليم والتلقين عند الصوفية عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 2, فقال: "وقد بقي بين الصوفية أن يكون التعليم والتلقين بتعاضد نفسين متوافقتين, يسمى أحد الشخصين هاديا والآخر دليلا والشيخ الهادي له الهداية وتولي أمور السالك فيما ينفعه ويجذبه والشيخ الدليل ينصره لمدافعته الأعداء ويخرجه عن الجهل والردى بدلالته طريق التوسل إلى شيخ الهدى, وفي الآية إشارة إلى أن السالك ينبغي له أن يطلب دائما حضوره عند شيخه بحسب مقام نورانيته ومقام صدره, وهو معنى انتظار ظهور الشيخ في عالم الصغير, وأما ظهور الشيخ بحسب بشريته على بشرية السالك فلا يصدق عليه أنه من لدن الله, وإذا ظهر الشيخ بحسب النورانية كان وليا من لدن الله ونصيرا من لدنه"3.
وبعد:
هذه أمثلة من تفسيره الصوفي رأينا فيها كيف جنح بصوفيته في تفسير القرآن الكريم من معانيها الظاهرة إلى رموز واصطلاحات وإشارات, فجعل مثلا القرية قرية النفس واليتيم من لا إمام له والبروج الأنبياء والأولياء أو الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والسراج الولاية والقمر النبوة والولي والنصير الشيخ الهادي والشيخ الدليل، وغير ذلك من الأوهام التي جرفه إليها تصوفه والمعاني التي لا يدل عليها لفظ ظاهر, ولا دليل صحيح.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أني إنما ذكرت من تفسيره الجانب الصوفي, إذ إني أكتب عن المنهج الصوفي عامة وليس عن تفسيره خاصة فإن طلبت أبرز عقائده
__________
1 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص87.
2 سورة النساء: من الآية 75.
3 بيان السعادة: محمد حيدر ج2 ص211.(1/393)
أجملتها بأنه شيعي إمامي متطرف يعتقد أن عليا وارث علم محمد -صلى الله عليه وسلم- وبعده الأئمة الأحد عشر من ولده، وأن العترة هم المبينون للقرآن الكريم, وأن علم القرآن عندهم وما عداهم فعلمه قاصر ويعتقد بتحريف القرآن وتبديله, ويقول بالرجعة وجواز نكاح المتعة وبمسح الرجلين في الوضوء، وأن الأنبياء يورثون وينكر رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وغير ذلك من عقائد الشيعة.
والتفسير يحتوي على خرافات وأوهام في العقائد وفي القصص وفي الأخبار لا يجمعها سليم العقيدة ولا يدونها سليم الرأي، لا أريد أن أعدد بعضها من غير إثبات لنصوصها, ولو فعلت هذا وذاك لطال بنا الحديث ودلفنا عن المراد, ولعل فيما ذكرنا من تفسيره الصوفي وفاء ولو بعض وفاء بالموضوع.(1/394)
ثانيا: ضياء الأكوان في تفسير القرآن
المؤلف:
قالوا في تعريفه: إنه العارف بالله تعالى أحمد سعد عثمان علي العقاد.
ولد بمدينة الفيوم سنة 1307, وإنه من سلالة الأولياء والصالحين فقد كان أجداده من السادة الصوفية, ولهم مؤلفات عديدة ومخطوطات كثيرة في كافة علوم التصوف والفقه والتفسير.
وقالوا: إن العناية الإلهية أرادت به أن يلتقي بالعارف بالله السيد محمد ماضي أبي العزائم فوجهه نحو الاستقامة.
والتحق بالأزهر سنة 1324 ولما انتهت دراسته فيه عينته وزارة الأوقاف إماما وخطيبا في أحد المساجد, فاشتغل فيه بالتدريس للعامة.
وله عدد من المؤلفات منها ما طبع, ومنها ما لم يزل مخطوطا.
ومن الأول:
1- الدين النصيحة.
2- كنوز العارفين في ميراث الأنبياء والصالحين.
3- كتاب الهجرة النبوية.
4- كتاب مواهب الإنسان.
5- الأنوار القدسية في شرح أسماء الله الحسنى.
6- السعادة في الدخول من باب التوبة.
ومن الثاني:
1- ريحانة العارفين في حكمة أحكام الدين.(1/395)
2- الشرف الأعلى في إسراء من "دنا فتدلى".
3- الإنسان الكامل.
4- مقامات أهل اليقين.
5- الفقه على المذاهب الأربعة.
وفاته: توفي في 16 صفر سنة 1373 1.
تفسيره:
وأما تفسيره "ضياء الأكوان في تفسير القرآن" فقد صدر منه تفسير الجزء الأول والجزء الثاني من القرآن الكريم، وصدرت الطبعة الأولى سنة 1391 ولم أحصل إلا على الجزء الثاني من التفسير, ويحتوي على تفسير الجزء الثاني من القرآن الكريم.
وقد حدَّد المؤلف في مقدمة الجزء الأول منهجه بقوله: "فقد عزمت -بحول الله تعالى وقوته- على كتابة تفسير للقرآن الكريم يكون سهل العبارة ريّق الإشارة يجمع بين جمال تفسيره وأسرار تأويله متحريا في ذلك الصحيح من الأقوال مجتنبا الحشو، والتطويل"2.
وكتب الدكتور عبد الحليم محمود مقدمة للجزء الثاني جاء فيها: "ولصاحب الفضيلة الشيخ أحمد في تفسيره أنفاس مباركة ولمحات روحية طيبة نابعة من ممارسته للتصوف علما وعملا. وقد شاعت هذه الأنفاس واللمحات في تفسيره؛ فزادته بهجة إلى بهجة ونورا على نور"3.
وقد انتشرت هذه الأنفاس التي أشار إليها عبد الحليم في هذا التفسير وتباعدت, وتتبعت عددا منها وجعلت لها عناوين هي من عبارات الصوفية أولا,
__________
1 انظر ترجمته في آخر الجزء الثاني من تفسيره, ومناهج المفسرين: منيع عبد الحليم محمود ص361 و362.
2 عن كتاب مناهج المفسرين: منيع عبد الحليم محمود ص362.
3 ضياء الأكوان في تفسير القرآن: أحمد سعد العقاد, من مقدمة عبد الحليم محمود ص4.(1/396)
ويدور عليها الحديث ثانيا, ووردت بحروفها ثالثا, قصدت من إيرادها إثبات نهجه النهج الصوفي في التفسير وهذه بعضها:
التجلي:
في تفسير قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} 1 قال: "ويعني: التوجه للكعبة حق وكأن الله تعالى يقول: أنا الحق وتجليت بنور الحق على الكعبة المكرمة. فالمعظم لها إنما يعظم الحق والزائر لها إنما يزور الحق فبنور الروح ترى الحق متجليا في رسول الله وفي كتاب الله وفي الكعبة المكرمة تجليا خاصا لأهل المعرفة, جعلنا الله ممن خضعوا للحق وعرفوا الحق"2.
الصلاة:
وفي تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 3, قال: "وللعارفين مشاهد, فصلاة الجسم بالحركات الظاهرة, وصلاة القلب بالحضور والخشية, وصلاة النفس بالخوف والأدب, وصلاة الروح بشهود الحق متجليا مشهودا بأنواره, حيث أشار لذلك رسول الله بقوله: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" فالمؤمن لا تقر عينه ويشرح صدره إلا بشهود مولاه قريبا حاضرا جميلا جليلا"4.
الحج:
وفي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} 5 تحدث عن الحج المعروف عند المسلمين ثم ذكر نوعا آخر من الحج هو الحج عند من سماهم العارفين
__________
1 سورة البقرة: من الآية 149.
2 ضياء الأكوان: ج2 ص14 و15.
3 سورة البقرة: الآية 238.
4 ضياء الأكوان: ج2 ص149.
5 سورة البقرة: من الآية 196.(1/397)
فقال: "ولكن للعارفين حج آخر يحجونه متى اشتاقوا لحبيبهم وهو حج الروح لا يتكلفون سفرا ولا انتقالا؛ لأن مطلوبهم في أنفسهم وهو القلب الذي هو بيت الله العامر بأسرار الله وأنواره, وقد قال بعض العارفين: عجبت لمن يحن ويرحل لبيت الخليل1 وهو الكعبة, كيف لا يحن ويشاهد العجائب في بيت بناه الرب الجليل وهو القلب والغرض من القلب هو العامر بالإيمان والحب والتقوى والرحمة, فهو كنز السعادة فكعبة الأشباح بمكة المكرمة وكعبة الأرواح معك وهو قلبك, فاحرص على الطواف حول المعاني التي فيك يتجل لك خالقك وبارئك متعنا الله بتلك المعاني"2.
أما نحن المسلمون فنحمد الله أن حمانا من هذه المعاني الضالة التي تمس حرمة بيت الله, وتقلل من شأن ركن من أركان الإسلام لمصلحة شبهة من شبهات الشيطان.
شراب المعاني:
وأشار إلى هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 3, فقال: "فحرمها الله تحريما كليا؛ لأنه علم من قلوبهم الاستعداد لقبول الأمر وذوقهم لحلاوة المعاني الروحية التي هي ألذ عند النفوس من كل شراب, وهي الراح الطهور التي من شرب منها كأسا هام في الحبيب واطلع على السر العجيب"4.
الذكر:
قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} 5 فسر المؤلف الذكر هنا بقوله: "والذكر له ثلاث حقائق: ذاكر ومذكور وذكر. فالذاكر هو
__________
1 تقليل من شأن الكعبة المشرفة التي وصفها الله بالبيت الحرام, وبقوله سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} ، فهل البيت بعد هذا بيت الخليل أو بيت الله؟
2 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص84.
3 سورة البقرة: الآية 219.
4 ضياء الأكوان: ج2 ص106.
5 سورة البقرة: من الآية 152.(1/398)
العبد الطائع، والمذكور هو الرب النافع, والذكر صفة تسكن في قلب العبد فتوقظه وتنوره وتشرح صدره وتصله بربه" ثم ذكر صفة الذكر فقال: "والذكر إما باللسان ليذكر غيره, أو بالقلب ليتذكر ما فيه من أسرار ربه وذكر القلب أنفع للذاكر, والكمال أن يجمع العبد بين ذكر القلب واللسان فينفع نفسه وينفع إخوانه، أما ذكر اللسان فهو أن تقول: الله الله بأدب وخشوع حتى يشرق عليك نور الاسم أو تذكر إخوانك بنعم الله وتشوقهم إلى جماله حتى يصطلحوا عليه, أما ذكر القلب فهو أن تفكر وتتذكر ما فيك من روح وعقل وحواس وإيمان وجمال"1.
حقيقة الإنسان:
تحدث بذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} 2 فقال: "ولما كان الإنسان مكونا من حقيقتين: الأولى روحية والثانية بشرية, فالروحية تتنجس بالمعاصي والبشرية تتنجس بالجنابة والحيض والنفاس وجميع النجاسات والعبد لا يؤذن له بالدخول في الحضرة الإلهية إلا إذا تطهر من النجاستين، وتجمل بالطهارتين" ثم قال: "فيعلم من ذلك أن سالك الطريق إلى الله يجب عليه أن يعتني بالظاهر والباطن حتى يتجمل بجمال أسمائه تعالى الظاهر والباطن؛ ولهذا السر قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} يعني: يا أيها المؤمن لست معصوما من الوقوع في النقائص, فبادر بالتوبة وهي انغماسك في بحر اسمه التواب فتخرج وعليك حلل الجمال والكمال ويمنحك الله الحب بسبب اعترافك بالنقص, وذلك يكون بكثرة تكرار التوبة والتواب هو الذي يشعر بالنقص في نفسه فيجعله يتوب في كل نفس, فينال مقام المحبة فالنقص عند العارفين معراج إلى الكمال" ثم قال: "فاعرف سبيل الوصول إلى مقام المحبة وحافظ على طهارة الضمير وطهارة الجسم فتتمكن من مقام المحبوبين"3.
__________
1 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص18.
2 سورة البقرة: من الآية 222.
3 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص118 و119.(1/399)
جنة الشهود:
وإن شئت أن تعرف بعد هذا رأيه في ثواب التائبين قبل ثواب الآخرة, فقد أورده عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 1 فقال: "وقد ذاق العارفون حلاوة هذا السر, فرجعوا من الأكوان إلى المكون ورجعوا من أنفسهم إلى بارئها, ومن رجع إلى الله بالتوبة فقد وصل إلى الله وقامت قيامته ونصب له الميزان ودخل جنة الشهود وسيدخل جنة النعيم, إن شاء الله بغير حساب"2.
إيلام الحواس:
ذلكم أن المؤلف جرى على نهج الصوفية في اعتقادهم أن إيلام الحواس يوصل العبد للصفات الملكية, وهذا ما زعمه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} 3.
فقال: "والمراد بالجوع الصيام, فإنه يؤلم البشرية ويوصل العبد للصفات الملكية, بل يرفعه إلى الحظائر القدسية" إلى أن قال: "ومن هذه الآية عرف أهل الطريق أن الحس لا يأخذ العبد بشهادته وحكمه فهو كثير الخطأ يرى: اللذة في الأموال والأنفس والثمرات والحق تعالى يراها في المؤلم للحس والمخوف للنفس, فالحس قاطع لطريق الآخرة محجوب بمناظره وظواهره. فكل مؤلم فيه خير كما قال الحكماء: كل مر دواء ومتى انكشفت تلك الحقائق يسجد العبد شكرا لله على عنايته به في البلاء وترتفع ستائر عن النتائج؛ فتزول المرارة وتحل محلها اللذة والبهجة والسرور"4.
ومما لا شك فيه أن هذا ليس هو منهج الإسلام الذي أطلق ميزانه بقوله:
__________
1 سورة البقرة: من الآية 245.
2 ضياء الأكوان: ج2 ص153.
3 سورة البقرة: الآية 155.
4 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص22 و23.(1/400)
"عجبا لأمر المؤمن, إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" 1 وأطلقه بقوله: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر, فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" 2 وأطلقه بقوة لأولئك النفر الذين قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر, وقال ثالثهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا, فأعلنها رسول الحق: "أما والله, إني لأخشاكم لله وأتقاكم له, لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني" 3.
هذا هو منهج الإسلام في إيلام الحواس وما أخال هؤلاء الذين اعتقدوا أن إيلام الحواس يوصل العبد للصفات الملكية, ما أخالهم إلا رغبوا عن سنته -عليه الصلاة والسلام- ولذلك فهم يفرحون ويستبشرون بالابتلاء, ويسألون الله الحفظ إذا وقعت عليهم النعمة, وهذا ما قالوه في الابتلاء.
الابتلاء:
وذلك عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 4.
فقال: "ولا بد أن يكون الاسترجاع بالقلب والروح لا باللسان فقط, فالمؤمن إن أتته النعمة تنبه وخاف أن تكون بلية وسأل الله الحفظ, وإن أتته البلية فرح واستبشر؛ لأن في طيها عطية, جعلنا الله من أهل اليقظة5 والحضور"6.
__________
1 رواه مسلم, كتاب الزهد ج18 ص125.
2 رواه مسلم, كتاب الزكاة ج7 ص92.
3 رواه البخاري, كتاب النكاح ج6 ص116؛ ومسلم, كتاب النكاح ج9 ص176.
4 سورة البقرة: من الآية 155 و156.
5 أهل اليقظة هم الذين يلتزمون حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن المؤمن, أنه إذا أصابته سراء شكر, وإذا أصابته ضراء صبر، ولم يقل: فرح, ويستبشر كما يزعم هؤلاء.
6 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص25.(1/401)
الصيام:
والصيام الحقيقي كما يقول في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} 1: "والصيام الحقيقي يكون بسبع جوارح: صوم البطن عن الأكل والشراب, وصوم الفرج عن النكاح, وصوم اللسان عن كل ما لا يرضي الله تعالى, وصوم العين عن النظر إلى المحرمات, والأذن عن التجسس على العورات, واليد عن إيذاء الخلق أو كتابة ما يسيء لأحد, والرجل عن السعي إلى ما يغضب الله, وهذا هو الصيام الكامل الذي يجعل صاحبه تتفتح له أبواب الجنان, وتغلق له أبواب النيران"2.
حدود الله:
أما المراد بقربها المنهي عنه في قوله تعالى من الآية السابقة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} فخصه بأهل اليقين فقال: "يعني: يا أهل اليقين, لا تقربوا الحدود واجعلوا بينكم وبينها سدا من الحلال حتى لا تقربوا منها, ولقد كان بعض الصحابة يقول: كنا نترك سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام, والعارفون بالله يرون أن الدنو من المنكر أشد من الدنو من النار الملتهبة أو الوحوش المغتالة أو الحشرات السامة"3.
إتيان البيوت:
المبين في قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} 4.
فسره بقوله: "وفي الآية إشارة لأهل الذوق والفهم, وهي أن العلوم التي يجب أن يطلبها العبد أولا ويحرص عليها ويجتهد في البحث عنها هي العلوم
__________
1 سورة البقرة: من الآية 187.
2 ضياء الأكوان: ج2 ص64.
3 المرجع السابق: ج2 ص67.
4 سورة البقرة: من الآية 189.(1/402)
الدينية كعلم التوحيد وعلم الفقه وعلم التصوف, أما بحث الإنسان عن علم الفلك وعلوم الحساب والرياضة والجغرافيا قبل أن يتمكن من العلوم الدينية فهو خطأ, ومثاله كمن يأتي البيوت من ظهورها فكأن الحق يقول: ادخلوا إلى حضرات القرب من باب السعادة والعناية, وهو فهم العلوم الشرعية, ولا تعكسوا الأمر فتطلبوا علوم الدنيا فقط"1.
جهاد النفس:
وتحدث عن جهاد النفس في تفسيره لقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 قال: "ومن أراد أن يذوق حلاوة الجهاد في نفسه فعليه أن يسل عليها سيوف العزم والمحاسبة, ويقهرها في قيود الشريعة حتى لا تلتفت إلى منكر أو محرم وتحيا فيها المعاني اللطيفة فيكون صاحبها فتح الله له باب الملكوت, ونصره على أعدى الأعداء وهي النفس, فإذا حارب الكفار تمت له السعادتان: سعادة النفس والآفاق, فيتجلى له الحق ويأنس بالحق ويزول الباطل, جعلنا الله من المجاهدين في سبيله"3.
منى:
ومنى من المشاعر المقدسة في الحج, لكن المؤلف يفهم منه معنى آخر عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} 4 فقال: "لما أكرم الله الحجاج بالوقوف بعرفة ثم الذهاب إلى منى, وفيه الإشارة بأن الله تعالى أعطاهم المنى أو تجلى لهم بسر كرمه وحبه ونوره وظهوره؛ لهذا قال لهم: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} "5.
__________
1 ضياء الأكوان: ج2 ص70.
2 سورة البقرة: من الآية 192.
3 ضياء الأكوان: ج2 ص72 و73.
4 سورة البقرة: من الآية 203.
5 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص83.(1/403)
أدب الدعاء:
وهي آداب خص بها العقل والقلب والروح, بينها عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1.
فقال في بيانها: "ونحن نؤمن أن هذا القرب كما يليق بنزاهة جنابه فالعقل نقول له: تأدب واعتقد أن قرب الله هو إحاطة بك وقهر لك تحت سلطانه, فلا تخرج عن الحدود والقلب نقول له: شاهد أنوار الله في آياته الدالة على أنه أقرب إلينا من كل قريب, فالأشياء قامت به وهو قيومها وهي عدم والوجود منه, فإن جاءتك نعمة فهو الموصل لها إليك بالوسائل والأسباب, ونقول للروح: شاهدي أنوار تجليه وظهور معانيه فظهور المعاني يستر المباني ويجعلها أقرب للقلب من كل روحاني وجسماني, وقد وصل العارفون إلى الله على معراج اسمه القريب, فإنهم خشعوا وتأدبوا وشاهدوه قريبا مجيبا"2
الأولياء:
وقد خص المؤلف في تفسيره الأولياء بخصائص وأولاهم عناية كبيرة, وهذه بعض تلك المواضع:
شهادة الأولياء:
يختلف الأولياء بالشهادة عن غيرهم, فغيرهم يستشهد بالقتل في ميدان الجهاد, أما الأولياء فاستشهادهم بالقتل بسيف المحبة وسهام مخالفة النفس وسيف طلب العلم, نص على هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} 3 حيث قال: "والأولياء لهم قدم صدق في هذه الحياة, فإن منهم من قتل بسيف المحبة, ومنهم من قتل بسهام مخالفة النفس, ومنهم من قتل بسيف طلب العلم والسهر في تحصيله والتلذذ به ونسيان
__________
1 سورة البقرة: من الآية 186.
2 ضياء الأكوان: أحمد سعد العقاد ج2 ص61.
3 سورة البقرة: الآية 154.(1/404)
البشرية فيحييهم الله في برازخهم, ويكتبهم عنده شهداء, جعلنا ممن استنارت بصائرهم فشاهدوا تلك الحقائق"1.
زيارة الأولياء:
وهو لا يحث على زيارة الأولياء فحسب, بل يوجب إعانة زوار الأولياء وتقديم المال والطعام اللازمين لهم, وعد زوار الأولياء من أبناء السبيل الذين تدفع إليهم الزكاة المستحبة والواجبة "وساوى" بين المسافر الذي يطلب العلم والمسافر الذي يزور الأولياء, قال بهذا عند تفسيره لقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ..} 2 الآية, ففسر ابن السبيل بقوله: "وابن السبيل هو المسافر الذي يطلب العلم أو يزور الأولياء أو ينظر في آيات الله أو يتعرف بإخوان المؤمنين, فله حق على من نزل بهم أن يكرموه ويدخلوا عليه السرور ويعطوه مما أعطاهم الله" ثم قال: "وإذا دعا ابن السبيل لمن أكرمه استجاب الله دعاءه, فهو من رتبة المهاجرين الذين تركوا الأوطان والخلان"3.
رياض الأولياء:
ولم يكتف بوجوب إعانة زوار الأولياء, بل جعل رياض الأولياء من الأماكن الطاهرة التي تستجاب فيها الدعوات, فقال: "والأفضل أن يتحرى العبد أوقات الإجابة كوقت السحر والأماكن الطاهرة كالمساجد ورياض الأولياء, ويقدم التوبة والاستغفار ويتوسل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرفع شكواه إلى الله معتقدا في نفسه أنه كالغريق, ولا يأخذ بيده إلا مولاه القادر"4 ومن المعلوم أن التوسل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أيضا.
__________
1 ضياء الأكوان: ج2 ص21.
2 سورة البقرة: من الآية 177.
3 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص49.
4 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص61.(1/405)
ذنوب الأولياء:
ولكن والحق يقال لم يعتقد العصمة للأولياء, ونص على هذا عند تفسيره لقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُم} 1 فقال: "فإذا وقع من الولي ذنب فلا تعرض عنه؛ فإنه يذنب ويتوب, ومن اعتقد العصمة في الأولياء فقد أخطأ, فاقتدِ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو الإمام المعصوم"2.
وإلى هنا نكتفي بما ذكرنا من تفسيره الصوفي, ولعل فيه إن شاء الله كفاية لمرادنا.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 187.
2 ضياء الأكوان: أحمد العقاد ج2 ص64.(1/406)
رأيي في التفسير الصوفي الحديث:
استدل المتصوفة على صحة تفسيرهم بقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1, وقوله سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2, وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل آية ظهر وبطن, ولكل حرف حد, ولكل حد مطلع" 3 واستدلوا بحادثة استدعاء عمر لابن عباس في مجلسه مع أشياخ بدر -رضي الله عنهم أجمعين- وقد سبق بيان الحادثة.
هذا هو أهم ما استدلوا به لصحة تفسيرهم, وأن هذا دليل على سلامة تفاسيرهم وأن لها أصلا شرعيا.
ونحن لا ننكر وجوب التدبر في القرآن الكريم, ولا ننكر أيضا أن يكون لمعاني القرآن معانٍ ظاهرة متبادرة للذهن ومعانٍ أخرى حق تحتاج إلى تدبر وتمعن, يؤتيه الله من يشاء من عباده وتتفاوت فيه الدرجات, لكنا نرفض كل الرفض أن يكون هذا النوع هو الذي يزعمه الصوفية من إشارات ورموز وطلاسم قوامها الوجد والذوق، تذهب صفاء القرآن الكريم ونقاءه.
ولا بد أن نبين هنا رأيا لم نكد نجد أحدا قال به إلا الدكتور السيد أحمد خليل, الذي أجمل الإشارة إليه وليته زادها تفصيلا4.
__________
1 سورة محمد: الآية 24.
2 سورة النساء: من الآية 78.
3 أخرجه الفريابي من رواية الحسن مرسلا, عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سبق تخريج هذا الحديث عند بيان منهج أهل السنة في التفسير.
4 دراسات في القرآن: الدكتور السيد أحمد خليل ص127 و128.(1/407)
إنه يجب أن نفرق بين نوعين من التفسير, هما:
1- التفسير الإشاري.
2- التفسير الرمزي.
أما الأول فحق, وهو ينقسم إلى قسمين:
تفسير إشاري معنوي.
وتفسير إشاري لفظي.
ونريد بالتفسير الإشاري المعنوي: التفسير المرتبط بإشارة المعنى العام للآية أو السورة, وهي الدلالة على معنى آخر يستبطن المعنى الإجمالي فهما يؤتيه الله من يشاء من عباده لا يخالف نصا, ولا يجافي لفظا, ولا يجاوز معنى حقا. ومن هذا النوع ما سبق ذكره من استدعاء عمر لابن عباس -رضي الله عنهم- في مجلسه مع شيوخ بدر -رضي الله عنه- وسؤال عمر لهم: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا, وسكت بعضهم فلم يقل شيئا, فقال لي: أكذلك تقول يابن عباس؟ فقلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم, أعلمه له قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك, {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول, رواه البخاري.
ومن هذا النوع أيضا ما رواه ابن جرير الطبري لما نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 وذلك يوم الحج الأكبر, بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟ " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: "صدقت" 2.
كل هذا المعاني معانٍ باطنة لا تخالف المعنى الظاهر للآية, ولا تنتهك نطاق لفظه ولا حدود معانيه, فكان القبول لها حليفا.
ونريد بالتفسير الإشاري اللفظي: التفسير المرتبط بإشارة لفظه خاصة
__________
1 سورة المائدة: من الآية 3.
2 تفسير الطبري: ج9 ص519.(1/408)
يستدل بها على معنى آخر يستبطن معناها في سياقها العام, ومن هذا النوع من التفسير ما استدل به العز بن عبد السلام على صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 1 ومنه أيضا ما استدل به المفسرون من قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} 2 بأنه "عبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه؛ لأن الوالدات إنما ولدن للآباء ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم"3.
هذا هو التفسير الإشاري السليم بقسميه, فهم لا يعكر معنى ولا يخالف نصا ولا يجافي لفظا بل يستمد مقوماته من النص الماثل أمامه من غير تحريف ولا تأويل خارج عن حدود الدين واللغة, وهو الذي تدل عليه النصوص والأدلة التي استدلوا بها لصحة التفسير الإشارى إذ هذا هو ما تدل عليه.
أما النوع الذي يجب أن نفرق بينه وبين التفسير الإشاري فهو التفسير الرمزي, وهو التفسير الذي سلكه الصوفيون وهم يحسبون أنهم يسلكون الأول وما هم بسالكيه.
ذلكم أن التفسير الرمزي تفسير صوفي يعتمد في سبيل الوصول إلى المعرفة على منهج قوامه الوجد والذوق والترقي في مقاماتهم, حتى يصل المتصوف مقام العرفان فتفيض عليه -بزعمهم- مكنونات العلم وأسرار المعرفة, بل يصل إلى أبعد من هذا فتفوض جملة الأمور إليه بحيث لا يسقط ورق من شجر إلا بإذن وكتاب وأجل منه, وليس وراء هذه مقام ومرتبة4.
ولأن تفاسيرهم لا تخضع لقاعدة ولا لأصل, بل تختلف باختلاف مقام الصوفي ومواجده وذوقه؛ لذا "تختلف تفسيراتهم اختلافا شديدا لا يمكن حده أو النظر في أبعاده"5.
__________
1 سورة المسد: الآية 4.
2 سورة البقرة: من الآية 233.
3 تفسير القاسمي: ج3 ص610.
4 بيان السعادة: محمد حيدر ج1 ص79.
5 دراسات في القرآن: د. السيد أحمد خليل ص127.(1/409)
ولهذا جعل الصوفية معجما خاصا باصطلاحات حتى هم أنفسهم لا يعرفون بعضها ويحذرون المريد من الشك فيما لا يفهمه من طلاسمهم, وهذا النوع هو الذي أراده الإمام الغزالي في الصنف الثاني من الشطح عند الصوفية, حيث قال عنه: "كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائعة وفيها عبارات هائلة, وليس وراءها طائل, وتلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه, وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة, ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معانٍ ما أريدت, ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه"1.
هذه ناحية من ناحيتين يؤدي إليهما التفسير الذي يقوم على الوجد, والذوق.
أما الناحية الثانية فهو ما زعموه من الحب لله وتفريغ القلب من سواه والعشق والهيام, وقسموا أنفسهم حسب تفاوتهم في هذا إلى مراتب, وأعلاها مرتبة الفناء, وهي أن ينتهي سلوكه إلى الله تعالى في الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته وصفاته في صفاته, ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله, وهو الذي يسمونه: الفناء في التوحيد"2.
وقد مر بنا أن الغزالي عدّ هذا النوع من شطح الصوفية وأنها "الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة, حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب, فيقولون: قيل لنا: كذا وقلنا: كذا"3.
__________
1 إحياء علوم الدين ج1 ص42 و43.
2 مصرع التصوف: برهان الدين البقاعي ص81 عن التفتازاني في شرح المقاصد.
3 إحياء علوم الدين: الغزالي ج1 ص43.(1/410)
وقد حرصت في التفسيرين اللذين درسناهما في التصوف وهما: بيان السعادة في مقامات العبادة، وضياء الأكوان في تفسير القرآن: أن يكون أولهما من النوع الأول في التفسير الرمزي وهو التفسير الذي يكثر فيه الألفاظ الغامضة والطلاسم والاصطلاحات، وأن يكون ثانيهما من النوع الثاني فيه وهو ما تكثر فيه عبارات العشق والشوق، حيث جعل الحج عند العارفين حج الروح إلى القلب الذي هو بيت الله العامر وليس إلى بيت الخليل؟! وزعم حلاوة المعاني راحا طهورا من شربها هام في الحبيب, وجعل الذكر ترديد: الله الله حتى يشرق عليك نور الاسم, وجعل شهادة الأولياء بقتلهم بسيوف المحبة وسهام مخالفة النفس ونحو ذلك.
وقد حان وقت صلاة الظهر وأنا في مكتبة أحدهم في بلد إسلامي وعدت بعد أدائها والرجل لا يزال في مكانه, وحين سألته: لِمَ لم يصلِّ؟ اكتفى بضحكة أحسبها ساخرة وكأنه يقول كما وصفهم الغزالي في النص السابق: "إنه قام بالوصال المغني عن الأعمال الظاهرة" أما وصاله فقد امتلأت كتبه بشنيع الأقوال, فهو يزعم حب الإله فينادي إلهه بقوله: "أحببتك حبا لا يعدله حب مخلوق لك, اللهم سوى مصطفاك وحده الذي خلقته بالحب ومن الحب وفي الحب" ثم ندم على هذا الاستثناء فأعاده بدونه: "لقد أحببتك يا مولاي حبا لا يساويه حب أحد قبلي, ولن يدانيه حب أحد بعدي"1.
وهو يزعم أنه رأى الله لا في صنعه, بل في الحقيقة وعلى الحقيقة فقال: إلهي لم أرد أني رأيتك في صنعك وفي إبداعك وفيما أنشأته في ملكك وتنشئه في ملكوتك فحسب, فهذا ما تراه البهم والعجماوات بل رأيتك في الحقيقة: على الحقيقة"2.
ذكرني هذا بقول الغزالي عنهم: وصال مغن عن الأعمال الظاهرة وادعاء المشاهدة بالرؤية.
__________
1 الحب: ابن الخطيب ص82 و83.
2 الحب: ابن الخطيب ص90.(1/411)
خلاصة الرأي: أن المقبول هو التفسير الإشاري على المعنى الذي ذكرته, والمرفوض هو التفسير الرمزي الصوفي الذي لا يقوم على قواعد صحيحة ولا أسس سليمة, وإنما قوامه الوجد والذوق الذي ما أنزل الله به من سلطان.
انتهى الجزء الأول, ويليه -إن شاء الله- الجزء الثاني, وأوله الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير(1/412)
المجلد الثاني
الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير
الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير
مدخل
...
الباب الثاني: الاتجاهات العلمية في التفسير
الفصل الأول: المنهج الفقهي في التفسير
أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن العظيم لحِكَم عظيمة، غايتها ونهايتها:
1- تصحيح العقيدة.
2- تقويم السلوك.
أما أولها: فقامت به آيات العقائد، وبنته على قواعد سليمة قوامها أركان الإيمان.
أما الثاني؛ فتفلت به آيات الأحكام على وجه اختاره الله لعباده، ضلوا إن عملوا بسواه، وكفروا إن حكموا بغيره.
وقد استحوذ هذان الركنان على جُلِّ -أو إن شئت فقل: كل- آيات القرآن الكريم، وما عداهما من آيات القصص والأمثال والوعد والوعيد لا يخرج كله عن تقرير عقيدة أو تقويم سلوك، فهو داخل في دائرة هذين الركنين، لا يخرج عنهما بحال من الأحوال.
ولكونه -عليه الصلاة والسلام- هو المبيِّن لما نزل؛ فقد أَوْلَى هذين الركنين جُلَّ اهتمامه وكبير عنايته، فلا تكاد تمر مناسبة أو يقع انحراف في العقيدة عن خطأ أو جهل أو عن عمد من المشركين إلا وبيَّن -عليه الصلاة والسلام- العقيدة الصحيحة ونقاها، من الشوائب كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس فتعود بيضاء نقية؛ بل هي المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا تكاد تقع حادثة أو قضية من القضايا إلا وبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم حِكَمَ الله فيها(2/415)
بما يزول به الباطل، ويظهر به الحق، ويُذعن له المؤمنون، ويحكِّمونه فيما بينهم، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا.
بل لم يكن صلى الله عليه وسلم في كل هذا أو ذاك ينتظر وقوع حادثة أو سؤال سائل؛ بل كان يشرح لهم جوانب العقيدة، ويبسط لهم أحكام الشريعة على كل حال وفي كل آنٍ، قد يبين هذا من نفسه، وقد تنزل به آيات القرآن؛ فصار هذان منهلَيْنِ ينهل منهما العلماء الأحكام الشرعية.
إذًا فلم تكن السنة وحدها مختصة ببيان الأحكام، ولم يكن القرآن الكريم كذلك؛ بل هما معًا المصدر الحق لاستمداد كل هذا.
ولا شك أن دلالة النصوص القرآنية لا تظهر بصورة شاملة للحُكْم في كثير من الأحوال، كما أنها لا تدل بصورة قطعية على الأحكام في بعض الأحوال.
كما أن السُّنة النبوية ليست على درجة واحدة في الثبوت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هي تتفاوت بين الصحة والضعف؛ فكان لزامًا لمن أراد استنباط الأحكام الشرعية أن يأخذ بالكتاب والسُّنة معًا، فكلاهما مبيِّن للآخر بالخصوص والعموم أو الإطلاق والتقييد وغير ذلك، ولا يُنكر هذا إلا مكابر معاند.
ولهذه الاختلافات في دلالة النصوص القرآنية، وتفاوت ثبوت بعض الأحاديث، وللعَلاقة الثابتة بين الكتاب والسنة، لهذا كله أصبح المجال في غالبه مجال اجتهاد وإعمال ذهن واستنباط؛ بل سَمِّه فقهًا.
وبهذا نكون نشأة الفقه مبكرة في صدر الإسلام؛ لكن تطور الاختلاف في الفروع إلى أن يكون لكل طريقة في الاستنباط مذهب فقهي، له قواعده وأصوله ومنهجه في استخراج الأحكام؛ إنما حدث في القرن الثاني الهجري؛ حيث نشأت المذاهب الفقهية المعروفة، والمعترَف بسلامة أصولها وصحة قواعدها، وهي:
1- المذهب الحنفي.
2- المذهب المالكي.
3- المذهب الشافعي.
4- المذهب الحنبلي.(2/416)
وقد ظهرت مذاهب أخرى؛ لكنها اندثرت أو لم تكن كالمذاهب الأربعة؛ من حيث: سلامتها، وكثرة أتباعها، وصحة قواعدها، وأمثلة هذا مدرسة الليث وابن أبي ليلى والأوزاعي والطبري، وأبي داود الظاهري والجعفري والزيدي والإباضي، وغير ذلك.
وقد سعى أتباع كل مذهب فقهي إلى آيات الأحكام في القرآن الكريم؛ يفردونها بالتأليف، يفسرونها حسب قواعد مذهبهم في استنباط الأحكام؛ فخرجت تفاسير لآيات الأحكام لا تكاد تجد بينها وبين كتب الفقه كبير فارق؛ ذلكم أن أصول الاستنباط وقواعده واحدة، وخالط بعضها تعصب للمذهب مذموم، وجاء بعضهاالآخر محمودًا.
فمن المؤلفات في ذلك:
- من المذهب الحنفي: تفسير أحكام القرآن لأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص، ويقع في ثلاثة مجلدات.
- ومن المذهب المالكي: تفسير أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، ويقع في أربعة مجلدات، ومنه أيضًا تفسير الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، ويقع في عشرة مجلدات كبار.
- ومن المذهب الشافعي: كتاب أحكام القرآن، جمعه أبو بكر البيهقي من نصوص الإمام الشافعي، ويقع في مجلد واحد، وأحكام القرآن للكيا الهراسي، ويقع في مجلدين، وكتاب الإكليل في استنباط التنزيل لجلال الدين السيوطي في مجلد.
- أما المذهب الحنبلي: فلم أجد تفسيرًا -مطبوعًا- لآيات الأحكام على أصول هذا المذهب، ولعل تفسير زاد المسير لابن الجوزي وإن لم يكن خاصًّا بآيات الأحكام إلا أنه حنبلي المذهب، وهناك من المخطوطات تفسير أحكام القرآن لأبي يعلى، وتفسير الخرقي، وقد سبقت الإشارة إليهما في التمهيد1.
__________
1 انظر ص42-43.(2/417)
وهناك مؤلفات في تفسير آيات الأحكام لغير هذه المذاهب، لا أرى موجبًا لذِكْرِها. وما ذكرتُه من أمثلة للمؤلفات ليس كل ما كتب فيها؛ فقد اعتنى العلماء في القديم بهذا اللون من التفسير، وإذا ما حوَّلنا النظر إلى العصر الحديث فلا نكاد نجد منها ما يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وقد تبين لي من مُطالعتي لهذه التفاسير أن هناك فروقًا بين المؤلفات الحديثة والمؤلفات القديمة؛ أذكر منها:
أولًا: أن غالب المؤلفات الحديثة غير شاملة لآيات الأحكام كلها؛ بل تقتصر على بعض الآيات من بعض السور، ولعل سبب ذلك أن هذه المؤلفات إنما وضعت لطلبة الدراسات في الكليات؛ فكان ما يُكتب فيها حسب مناهج الدراسة في هذه الكليات، بخلاف المؤلفات في القديم؛ فهي شاملة لآيات الأحكام الصريحة وغير الصريحة؛ لأنه لا يلتزم منهجًا وضعه له غيره لا يحيد عنه.
ثانيًا: أن التفاسير في العصر الحديث لا تلتزم مذهبًا بعينه، فهي تفسر آيات القرآن الكريم حسب المتبادر منها من غير توجيه لها أو صرف إلى مذهب معين؛ ولهذا فلا تجد فيها التعصب للمذهب الذي سرى في بعض المؤلفات القديمة؛ بل إن مؤلفي العصر الحديث يُصرحون في مقدِّمة تفاسيرهم بأنهم لا يلتزمون مذهبًا بعينه؛ وإنما يتبعون ما يرون أنه الحق.
ثالثًا: أن التفاسير في العصر الحديث لا تستطرد في الحديث عن فروع الفروع؛ بل تكتفي ببيان مهمات الآيات المدروسة ودلالتها من غير توسع يحوِّل التفسير إلى كتاب فقهي موسَّع بكل أبعاده وجوانبه.
وهذا خلاف بعض التفاسير القديمة التي تذكر في تفسير الآية ما لا يمت لها بصلة، ولا مكان له إلا كتب الفقه المطولة.
رابعًا: وهذا الفارق متولِّد عن الفارق الذي قبله؛ وهو أن اقتصار المؤلفات الحديثة -على ما ذكرنا- وكونها تؤلف للدارسين جعلها أقل حجمًا من المؤلفات القديمة؛ إذ لا يتجاوز حجم أكبرها مجلدين، بخلاف المؤلفات القديمة التي وصل بعضها إلى عشرة مجلدات كبار.(2/418)
خامسًا: اختلاف الأسلوب بين العصرين؛ ذلكم أن المؤلِّفين في القديم يكتبون بأسلوب علمي مركز، تحتاج بعض العبارات فيه إلى شرح وبيان، خلاف الأسلوب الحديث الذي يكتب به المتأخرون؛ حيث يُوفِّي العبارة حقها؛ بل قد يزيد التوضيح إلى درجة الإطناب.
سادسًا: اعتنى بعض المؤلفين في العصر الحديث بالرد على ما يُثار حول بعض القضايا الفقهية من شبهات؛ كحد قطع يد السارق، ورجم الزاني، وتحريم الربا، وتعدد الزوجات، ونحو ذلك، ولم يكن هذا موجودًا بهذا الاهتمام عند الأولين.
وبعد:
فإن هذه المزاينا وإن كان ظاهرها أنها لصالح المؤلفين في العصر الحديث؛ فإنها لا تعني أن مؤلفاتهم هي الأفضل؛ بل الأفضل لو كتب أحد المعاصرين تفسيرًا شاملًا لآيات الأحكام -كفعل السابقين- غير ملتزم بمنهج دراسي، وبأسلوب حديث، ويعتني فيه بالرد الواضح على ما يُثار من شبهات، أقول: لو وُجد هذا لكان عندي هو الأفضل، أما والأمر على غير ذلك فلكل من هؤلاء وأولئك فضل لا يُنكر.
وإذا ما أردنا أن ندرس تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث بشيء من التفصيل؛ فإني أؤثر تقسيمها تقسيمًا عقائديًّا؛ ذلكم أن أتباع المذاهب الأربعة في الفقه كلهم ينص على أنه لا يتعصب لمذهب بعينه من المذاهب الأربعة، فآراؤهم في مجملها لا تخرج عن هذه المذاهب، ورابطتها مذهب أهل السنة.
أما الفقه الجعفري؛ فهو وإن كان مذهبًا غير معترَف به عند العلماء المعتبرين، إلا أنا رأينا عدم إغفاله ونحن نكتب عن تفسير آيات الأحكام؛ لتناول مفسري الشيعة لها، وتأويلهم لها حسب مذهبهم الشيعي، وكذا الإباضية تناول بعض مفسريهم آيات الأحكام بما يخالف المذهب الصحيح، فرغبت الإشارة إليه؛ وعلى هذا فسيكون تناولي للفقه على هذا الترتيب.
أولًا: فقه أهل السُّنة والجماعة(2/419)
ثانيًا: فقه الشيعة "الإمامية الاثنا عشرية".
ثالثًا: فقه الإباضية.
علمًا أن تناولي لفقه أهل السُّنة سيكون على الإجمال ثم على التفصيل: أما الإجمال، فأعرض فيه لتفسير آيات الأحكام عند مَن فسَّر القرآن الكريم كاملًا، أما التفصيل، فدراسة لتفاسير أَفردتْ آيات الأحكام ولم تتناول سواها.
وهذا في فقه أهل السُّنة، أما فيمن سواهم فعلى الإجمال دون التفصيل؛ وذلك إما لعدم حصولي على تفسير خاص بآيات الأحكام عندهم، أو لعدم وجود هذا النوع من التفاسير لديهم.(2/420)
أولا: فقه أهل السنة والجماعة
مدخل
...
أولًا: فقه أهل السُّنة والجماعة
من المسائل الفقهية ما وافقت فيه الشيعة والإباضية أهل السنة والجماعة تمام الموافقة، أو خالفتهم فيه مخالفة لا تُذكر. ومن المسائل -وهو محصور ومعدود- ما كان الاختلاف فيه كبيرًا، وقد يصل إلى درجة التضاد، هذا النوع الأخير من المسائل هو ما أتوسع في الحديث فيه هنا، أما غيره فنذكره -إن ذكرناه- لبيان طريقة تناول هؤلاء وأولئك لآيات الأحكام ليس إلا.
ونحن نذكر رأي كل فرقة في مكانه؛ ولذا تتكرر الأبحاث حسب تكرر المذاهب؛ فتتناول مثلًا بحث نكاح المتعة
عند أهل السنة عامة، ثم عند مفسري آيات الأحكام آحادًا، ثم نتناوله بإيراد آراء الشيعة عند دراسة فقههم وهكذا.
أولًا: غسل الرِّجْلين في الوُضوء
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1 الآية. اتفق أصحاب المذاهب الأربعة أن فرض الرجلين الغسل وليس المسح، وبسطوا في ذلك حججهم ومنهم؛ الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- حيث قال في تفسيرها: "في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} ثلاث قراءات: واحدة شاذة، واثنتان متواترتان؛ أما الشاذة: فقراءة الرفع، وهي قراءة الحسن، وأما المتواترتان: فقراءة النصب وقراءة الخفض؛ أما النصب فهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية حفص من السبعة، ويعقوب من الثلاثة.
__________
1 المائدة: آية 6.(2/421)
وأما الجر، فهو قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. أما قراءة النصب فلا إشكال فيها؛ لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه، وتقرير المعنى عليها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم؛ وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب؛ لأن الرأس يمسح بين المغسولات؛ ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة.
وأما على قراءة الجر، ففي الآية الكريمة إجمال؛ وهو أنها يُفهم منها الاكتفاء بمسح الرِّجْلين في الوضوء عن الغسل كالرأس، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، والتوعد بالنار لمن ترك ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم. "ويل للأعقاب من النار" 1.
اعلم أولًا أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لها حُكْم الآيتين كما هو معروف عند العلماء، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض مع أن إعرابها النصب أو الرفع.
وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود في اللحن الذي يتحمل لضرورة الشعر خاصة، وأنه غير مسموع في العطف، وأنه لم يجز إلا عند أَمْنِ اللبس؛ فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه؛ وممن صرح به الأخفش وأبو البقاء وغير واحد، ولم ينكره إلا الزجاج، وإنكاره له مع ثبوته في كلام العرب وفي القرآن العظيم يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعًا كافيًا.
والتحقيق أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين ... ".
ثم ذكر الشيخ الشنقيطي -رحمه الله
__________
1 صحيح البخاري: كتاب الوضوء ج1 ص49، ومسلم: كتاب الطهارة ج 1 ص213.(2/422)
تعالى- عددًا من الأمثلة من الشعر العربي، فذكر بيتًا لامرئ القيس ثم لذي الرمة ثم للنابغة ثم لامرئ القيس ثانية ثم لزهير ثم لشاعر لم يسمِّه، وأورد بعد ذلك أمثلة لورود الخفض بالمجاورة في القرآن الكريم، وقال بعد هذا كله:
"وبهذا تعلم أن دعوى -كون الخفض بالمجاورة لحنًا لا يحتمل إلا لضرورة الشعر- باطلة، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين؛ إذ لم يرد تحديد الممسوح وتزيله قراءة النصب كما ذكرنا، فإن قيل: قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبيِّنة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفًا على المحل؛ لأن الرءوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
وجر ما يتبع ما جر ومن ... راعى في الاتباع المحل فحسن
وابن مالك وإن كان أورد هذا في "إعمال المصدر" فحكمه عام؛ أي: وكذلك الفعل والوصف، كما أشار له في الوصف بقوله:
واجرر أو انصب تابع الذي انخفض ... كمبتغي جاه ومالًا من نهض
"فالجواب" أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر -كما ذكر- تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار، بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب، فهو موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه قولًا وفعلًا.
فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: تخلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا، وقد أرهقتنا الصلاة -صلاة العصر- ونحن نتوضأ؛ فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار". وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار". وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء أنه سمع رسول الله صلى(2/423)
الله عليه وسلم يقول: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار". وروى الإمام أحمد عن معيقيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويل للأعقاب من النار". وروى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار"، قال: فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما.
وثبت من أحاديث الوُضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرِّجْلين في وضوئه إما مرة أو مرتين أو ثلاثًا، على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه، ثم قال: "وهذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" 1.
والأحاديث في الباب كثيرة جدًّا، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وعدم الاتجزاء بمسحهما2.
ذلكم تفسير الشيخ الشنقيطي لهذه الآية، وقد قال بهذا أيضًا الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- ولكن باختصار فقال معددًا الأحكام التي تُؤخذ من الآية المذكورة: "الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين. الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة، على قراءة الجمهور بالنصب، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين. الخامس عشر: في الإشارة إلى مسح الخفين، على قراءة "وأَرْجُلِكم" وتكون كل من القراءتين
__________
1 رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما. كتاب الطهارة، ج1 ص162.
2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص7-13 باختصار.(2/424)
محمولة على معنى؛ فعلى قراءة النصب فيها غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف"1.
وكذا الدكتور محمد سيد طنطاوي، فإنه أورد ملخصًا لتفسير القرطبي -رحمه الله تعالى- للآية، ثم أشار إلى أن ابن كثير عقد فصلًا أورد فيه كثيرًا من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين وجعل عنوانه: "ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لَا بُدَّ منه". وأورد بعض الأحاديث التي ساقها ابن كثير، ثم استدل ببعض الأقوال الأخرى، وختم نُقولَه هذه بقوله: "هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء، سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر، وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطًا موسعًا، فليرجع إليها مَن شاء"2.
وبهذا ترى أنه اكتفى بعرض آراء العلماء السابقين المعتبرين في تفسير الآية، واكتفى بتأييد هذه الآراء.
ثانيًا: صلاة الجمعة
وقد أفاض الشيخ عطية محمد سالم -تلميذ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- في تتمته لتفسير شيخه، أفاض الحديث في أحكام صلاة الجمعة والأذان من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 3 الآية، حتى فاق في فصوله التي عقدها كثيرًا من كتب الفقه المتخصصة، ومن بين هذه الفصول فصل تحت عنوان: "حُكْم صلاة الجمعة عند الفقهاء"، قال فيه بعد إيراد الآية السابقة: "وفيه الأمر بالسعي إذا نُودي إليها، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف، ولا صارف له هنا؛ فكان يكفي حكاية الإجماع على وجوبها، كما حكاه ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، ونقله الشوكاني، وهو قول الأئمة الأربعة -رحمهم الله- ولكن وُجد مَن يقول: إن
__________
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي، ج2 ص252.
2 تفسير سورة المائدة: الدكتور محمد سيد طنطاوي، ص82.
3 سورة الجمعة: من الآية 9.(2/425)
الجمعة ليست بواجبة، ولعله ظن أن في الآية صارفًا للأمر عن الوجوب، وهو ما جاء في آخر السياق في قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ، فقالوا: "إن ألأمر لتحصيل الخير المذكور، وقد نُقل عن بعض أتباع بعض الأئمة -رحمهم الله- ما يُوهم أنها ليست بفرض، وهو مسطر في كتبهم، مما قد يغتبر به بعض البسطاء، ولا سيما مع ضعف الوازع وكثرة الشاغل في هذه الآونة، مما يستوجب إيراده وبيان ردِّه من أقوال أصحابهم وأئمتهم، رحمهم الله جميعًا"1.
ثم أورد أقوال أصحاب المذاهب الأربعة وأئمتهم بما يثبت به قولهم جميعًا بوجوبها، ثم قال بعدما أورده كله: "فهذه نصوص المذاهب الأربعة في وجوب الجمعة وفَرْضِها على الأعيان؛ فلم يبقَ لأحد بعد ذلك أدنى شبهة يلتمسها من أيِّ مذهب ولا تتبع شواذه للتهاون بفرض الجمعة لنيابة الظهر عنها.
ثم اعلم أن في الآية قرينة على هذا الوجوب، وأنه لا صارف للأمر عن وجوب السعي إليها؛ وذلك أن مع الأمر بالسعي إليها الأمر بترك البيع والنهي عنه، وإذا كان ترك البيع واجبًا من أجلها فما وجب هو من أجله كان وجوبه هو أَوْلَى، قال في المغني: فأمر بالسعي، ويقتضي الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى الواجب، ونهى عن البيع لئلا يشغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها، وهو واضح كما ترى، والأحاديث في الوعيد لتاركها بدون عذر مشهورة تؤكد الوجوب"2، ثم ذكر بعض الأحاديث في ذلك.
أما الشيخ جمال الدين القاسمي، فقد أوجز العبارة في أحكام صلاة الجمعة، ورَدَّ على مَن زعم فرضية الظهر بعدها، فقال رحمه الله تعالى: "وظاهره أنه لا يشرع بعدها صلاة ما، غير أنه كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين -وفي رواية: أربعًا- وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت؛ فتعصب مذهبي لا برهان له"3.
__________
1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: تتمة الشيخ عطية محمد سالم، ج8 ص287.
2 المرجع السابق، ج8 ص292.
3 تفسير القاسمي: ج16 ص5804.(2/426)
ثالثًا: الخمس في الغنائم:
يرى فقهاء المذاهب الأربعة أن المراد بالغنيمة ما حواه المسلمون من أموال الكفار، وذلك في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1.
فقال الشيخ الشنقيطي في تفسيره لها: "ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار، فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أو لا؛ ولكنه تعالى بيَّن في سورة الحشر أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب أنه لا يخمس، ومصارفه التي بيَّن أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا؛ وذلك في قوله تعالى في فيء بني النضير: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} 2 الآية، ثم بيَّن شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} 3 الآية.
اعلم أولًا أن أكثر العلماء فرَّقوا بين الغنيمة والفيء؛ فقالوا: الفيء هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر ... وأما الغنيمة فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر ...
وقال بعض العلماء: "إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أُخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيئًا، وهذا قول قتادة -رحمه الله- وهو المعروف في اللغة"4.
هذا ما قاله -رحمه الله تعالى- في الغنيمة. أما تفسيره للخمس الذي يُؤخذ من هذه الغنيمة فقال عنه: "ظاهر الآية أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله
__________
1 سورة الأنفال: من الآية 41.
2 سورة الحشر: من الآية 6.
3 سورة الحشر: من الآية 7.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص315، 316، باختصار.(2/427)
جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل".
ثم قال: "والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، ذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم"، ثم استدل لهذا القول بعدة أدلة أعقبها بقوله: "فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة أسهم؛ لأن اسم الله ذكر للتعظيم وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه الذي هو خمس الخمس في مصالح المسلمين؛ بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا: "والخمس مردود عليكم"1، وهو الحق ... ". ثم ذكر الأقوال في نصيبه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وعقَّب عليها قائلًا: "ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته راجعة إلى شيء واحد؛ وهو صرفه في مصالح المسلمين"2.
أما نصيب ذوي القربى من الخمس، فقد ذكر فيه ثلاث مسائل: الأولى: هل يسقط بوفاته أم لا؟ وقال فيها: "وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط خلافًا لأبي حنيفة". أما الثانية فعن المراد بذي القربى، وقال عن ذلك: "أما ذوو القربى فهم بنو هاشم وبنو المطلب، على أظهر الأقوال دليلًا، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد". أما المسألة الثالثة: فهل يفضل ذكرهم على أنثاهم؟ ورجح -رحمه الله تعالى- أنه لا يفضل ذكرهم على أنثاهم3.
ثم عقب على هذه الأبحاث في الخمس بقوله: "وأما قول بعض أهل البيت كعبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كلهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى والمساكين يتاماهم ومساكينهم، وقول مَن
__________
1 الإمام أحمد: ج5 ص316، والنسائي: كتاب قسم الفيء 7، ص131.
2 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص357-360، باختصار.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص361-346، باختصار.(2/428)
زعم أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفى ضعفهما والله تعالى أعلم"1.
وخلاصة رأيه -رحمه الله تعالى- أن الخمس من الغنائم في الحروب يُقسم إلى خمسة أسهم: أما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فيصرف في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القرى فيصرف لبني هاشم والمطلب، أما أسهم اليتامى والمساكين وابن السبيل فليس المراد بهم يتامى ومساكين أهل البيت؛ بل هو عام ليتامى ومساكن المسلمين.
وهذا الذي قاله الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- هو الذي قال به أصحاب المذاهب الأربعة مع بعض الاختلافات الفرعية خلافًا للشيعة كما سيأتي بيانه إن شاء الله، وهو أيضًا ما قال به طائفة المفسرين في العصر الحديث.
ومنهم الشيخ جمال الدين القاسمي؛ فقد بين هذا إجمالًا وتفصيلًا، قال في إجماله: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: قل أو كثر من الكفار {فَأَنَّ لِلَّهِ} أي: الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة {خُمُسَهُ} شكرًا له على نصره وإعطائه الغنيمة، و {وَلِلرَّسُولِ} أي: الذي هو الأصل في أسباب النصر، و {وَلِذِي الْقُرْبَى} وهم بنو هاشم والمطلب، و {وَالْيَتَامَى} أي: مَن مات آباؤهم ولم يبلغوا؛ لأنهم ضعفاء. {وَالْمَسَاكِينِ} لأنهم أيضًا ضعفاء كاليتامى. {وَابْنِ السَّبِيلِ} وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق، ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ به"2. هذا ما ذكره -رحمه الله تعالى- إجمالًا، ولا موجب لذكر تفصيله خشية الإطالة.
ومن المفسرين أيضًا الذين ذكروا ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- فقال: " {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: أخذتم من مال الكفار قهرًا بحق، قليلًا كان أو كثيرًا". ثم قال: "وأما هذا الخمس فيقسم خمسة أسهم: سهم لله ولرسول يصرف في مصالح المسلمين العامة من غير تعيين
__________
1 أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، ج2 ص328.
2 تفسير القاسمي: ج8 ص2997.(2/429)
لمصلحة؛ لأن الله جعله له ولرسوله، والله ورسوله غنيان عنه؛ فعُلم أنه لعباد الله، فإذا لم يعين الله له مصرفًا دلَّ على أن مصرفه للمصالح العامة.
والخمس الثاني: لذي القربى؛ وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وإضافة الله إلى القرابة دليلٌ على أن العلة فيه مجرد القرابة؛ فيستوي فيه غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم.
والخمس الثالث: لليتامى؛ وهم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار، جعل الله لهم خمس الخمس رحمة بهم؛ حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم، وقد فُقد مَن يقوم بمصالحهم.
والخمس الرابع: للمساكين؛ أي: المحتاجين الفقراء من صغار وكبار وذكور وإناث.
والخمس الخامس: لابن السبيل؛ وهو الغريب المنقطع به في غير بلده.
وبعض المفسرين يقول: "إن خمس الغنيمة لا يخرج عن هذه الأصناف، ولا يلزم أن يكونوا فيه على السواء؛ بل ذلك تبع للمصلحة، وهذا هو الأَوْلَى"1.
وقد أجمل الغزالي خليل عيد -رحمه الله تعالى- المعنى العام للآية فقال: "بيَّن الله تعالى لعباده أن الأشياء التي غنموها من الكفار، وحصلوا عليها بالقوة، يجب أن تخمس؛ أي: تقسم إلى خمسة أخماس، وأن يكون خمسها لله ولرسوله، ولأقرباء الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وللأيتام الذين فقدوا آباءهم وهم صغار لم يبلغوا الحلم، وللمساكين الذين ليس عندهم ما يكفيهم، ولأبناء السبيل المسافرين الذين يحتاجون إلى ما يساعدهم في سفرهم"2.
ولن أطيل بذكر غير مَن ذكرت، والخلاصة: أن رأي فقهاء أهل السنة أن الخمس إنما هو من غنائم الحرب، وأنه للرسول، ويصرف في مصالح المسلمين، ولبني
__________
1 تيسير الكريم الرحمن: عبد الرحمن السعدي، ج3 ص169، 170.
2 تفسير سورة الأنفال: الغزالي خليل عيد، ص91.(2/430)
هاشم وبني المطلب من قرابته صلى الله عليه وسلم، واليتامى والمساكن وابن السبيل من سائر أمته عليه الصلاة والسلام.
رابعًا: إِرْث الأنبياء عليهم السلام
والأنبياء لا يورثون؛ وإنما قال بأنهم يورثون بعض الرافضة، ومما استدلوا به -كما سيأتي بسط وجهه- قوله تعالى عن زكريا عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1، زاعمين أن الإرث هنا إرث مالي، وقد بيَّن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الموروث هنا بقوله رحمه الله تعالى:
"معنى قوله: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ} أي: خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي أن يضيعوا الدِّين بعدي، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام؛ فارزقني ولدًا يقوم بعدي بالدين حق القيام، وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله: {يَرِثُنِي} أنه إِرْثُ عِلْم ونبوة ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال. ويدل لذلك أمران:
"أحدهما": قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان؛ فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدِّين.
"والأمر الثاني": ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لا يورث عنهم المال؛ وإنما يورث عنهم العلم والدين؛ فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نورَّث، ما تركنا صدقة" 2. ومن ذلك أيضًا ما رواه الشيخان أيضًا عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعيد وعلي والعباس رضي الله عنهم: أُنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 سورة مريم: الآيتين 5، 6.
2 البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص42، ومسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1380.(2/431)
قال: "لا نورث، ما تركناه صدقة"، قالوا: نعم1.
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها- أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين تُوفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تركنا صدقة" 2.
ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة" 2. وفي لفظ عند أحمد: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا".
ومن ذلك أيضًا ما رواه أحمد والترمذي وصححه3 عن أبي هريرة: أن فاطمة -رضي الله عنها- قالت لأبي بكر رضي الله عنه: مَن يرثك إذا مت؟ قال: ولدي وأهلي، قالت: فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن النبي لا يورث"؛ ولكن أعول مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأُنفق على مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورَّث عنهم المال؛ بل العلم والدين"4.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- عددًا من الأحاديث في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء، وقال بعد ذلك: "وبهذا الذي قررنا تعلم أن قوله هنا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يعني: وراثة العلم والدين لا المال. وكذلك قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 5 الآية، فتلك الوراثة أيضًا وراثة عِلْمٍ ودين، والوراثة قد
__________
1 البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص43، ومسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1377-1378.
2 صحيح البخاري: باب فرض الخمس، ج4 ص45، صحيح مسلم: كتاب الجهاد، ج3 ص1382، وأحمد ج2 ص242.
3 مسند الإمام أحمد، ج1 ص10، وسنن الترمذي: كتاب السير، ج4 ص157، وقال: حسن غريب من هذا الوجه، ولعله -رحمه الله- وَهِمَ حين قال: والترمذي وصححه.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج4 ص206، 207.
5 سورة النمل: من الآية 16.(2/432)
تُطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} 1 الآية، وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 2، وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ} 3 الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو في المسند والسنن4، 5.
هذا بعض ما ذكره -رحمه الله تعالى- في إِرْث الأنبياء، وأكتفي به كمثال لتفسير هذه الآية عند علماء السُّنة والجماعة.
خامسًا: نكاح المتعة
أجمع فقهاء أهل السُّنة والجماعة -بل سائر المذاهب- على تحريم نكاح المتعة إلا طائفة الشيعة؛ بل صار القول بها سمة من سمات التشيع العديدة.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُن} 6 الآية، وفسرها أهل السُّنة بما مثاله في تفسير الشيخ الشنقيظي -رحمه الله تعالى- حيث قال:
"يعني: كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله؛ كقوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد
__________
1 سورة فاطر: من الآية 32.
2 سورة الشورى: من الآية 14.
3 سورة الأعراف: من الآية 169.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي، ج4 ص208، 209.
5 البخاري: كتاب العلم "الترجمة" ج1 ص10، وأحمد، ج5 ص196، وأبو داود: كتاب العلم، ج3 ص317، وابن ماجه: المقدمة، ج1 ص97، 98.
6 سورة النساء: من الآية 24.(2/433)
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض} 1 الآية، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملًا هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} 2، وقوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} 3 الآية.
فالآية في عقد النكاح لا في نكاح المتعة، كما قال به مَن لا يعلم معناها، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة؛ لأن الصداق لا يُسمَّى أجرًا؛ فالجواب: أن القرآن جاء فيه تسمية الصداق أجرًا في موضع لا نزاع فيه؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَه} الآية، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسُمي أجرًا، وذلك الموضع هو قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4 أي: مهورهن بلا نزاع، ومثله قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 5 الآية؛ أي: مهورهن؛ فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة، فإن قيل: كان ابن عباس وأُبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرءون: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة؛ فالجواب من ثلاثة أوجه6:
الأول: أن قولهم: إلى أجل مسمى، لم يثبت قرآنًا لإجماع الصحابة على عدم كَتْبه في المصاحف العثمانية، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ولم يثبت كونه قرآنًا لا يستدل به على شيء؛ لأنه باطل من أصله؛ لأنه لم ينقله إلا على أنه قرآن؛ فبَطَل كونه قرآنًا ظهر بطلانه من أصله.
الثاني: أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر "لآحاد" كما قال به
__________
1 سورة النساء: من الآية 21.
2 سورة النساء: من الآية 4.
3 سورة البقرة: من الآية 229.
4 سورة النساء: من الآية 25.
5 سورة المائدة: الآية 5.
6 لكنَّه رحمه الله تعالى ذكر أربعة أوجه.(2/434)
قوم، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك فهو معارض بأقوى منه؛ لأن جمهور العلماء على خلافه، ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني -رضي الله عنه- أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "يأيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا". وفي رواية لمسلم في حجة الوداع1، ولا تعارض في ذلك لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة، وفي حجة الوداع أيضًا، والجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث.
الثالث: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة؛ فإن إباحتها منسوخة -كما صح نسخ ذلك- في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ ذلك مرتين: الأولى يوم خيبر، كما ثبت في الصحيح، والأخرى يوم فتح مكة، كما ثبت في الصحيح أيضًا.
الرابع: أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 2 في الموضعين، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِك} الآية. ومعلوم أن المستمتَع بها ليست مملوكة ولا زوجة؛ فمتبغيها إذن من العادين بنص القرآن، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها؛ كالميراث والعدة والطلاق والنفقة، ولو كانت زوجة لورثت واعتدَّت، ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة كما هو ظاهر"3.
__________
1 صحيح مسلم: كتاب النكاح ج2 ص1025.
2 سورة المؤمنون: من الآية 6، وسورة المعارج: الآية 30.
3 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص322-324.(2/435)
وخشية الإطالة في هذا البحث، ولما سيأتي من زيادة بيان -إن شاء الله- نكتفي بما أوردناه هنا في نكاح المتعة وفي غيره.
وهذا ما وعدنا بذِكْرِه مجملًا لتفاسير شاملة تناولت آيات الأحكام. أما ما وعدنا بذِكْرِه مفصلًا أو ببعض التفصيل، فهي دراسة تفاسير تناولت آيات الأحكام خاصة ولم تتناول سواها، وهنا مكان الوفاء بالوعد.(2/436)
تفاسير آيات الأحكام:
وهذا النوع من التفسير -كما أشرت سابقًا- لم يؤلَّف فيه الكثير؛ بل هي مؤلفات معدودة، حصلت منها على ما يأتي:
1- نيل المرام في تفسير آيات الأحكام، تأليف: السيد محمد صديق حسن، وبين يدي طبعة 1399هـ، في مجلد واحد صفحاته تقريبًا 570، وبتحقيق وتعليق: علي السيد صبح المدني.
2- روائع البيان تفسير آيات الأحكام، تأليف: محمد علي الصابوني.
3- تفسير آيات الأحكام، أشرف على طَبْعِه وتنقيحه: محمد علي السايس.
4- تفسير آيات الأحكام، تأليف: مناع القطان.
5- قبس من التفسير الفقهي، الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد.
6- دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، للدكتور كمال جودة أبو المعاطي.
وسنعرض لها آحادًا بشيء من التفصيل، وعلى هذا الترتيب السالف:(2/436)
أولًا: نيل المرام في تفسير آيات الأحكام
أولًا: المؤلف1
هو أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي.
ولد في "بريلي" ثم رحل صغيرًا إلى قنوج، وتعلم بـ"دلهي" في الهند، وانتهى به الترحال في "بهوبال"؛ حيث تزوج ملكتها، عُرف بكثرة الكتابة فكان يكتب في اليوم الواحد عند كراريس، ومن مؤلفاته:
الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة، والدين الخالص، والعبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة، وفتح البيان في مقاصد القرآن في عشرة مجلدات، وغير ذلك، وقد بلغت مؤلفاته نيِّفًا وستين مصنفًا بالعربية والفارسية والهندية.
ولد سنة 1248، وتُوفي سنة 1307.
ثانيًا: التفسير
تناول -رحمه الله تعالى- في تفسيره الآيات التي يَحتاج إلى معرفتها كلُّ راغب في معرفة الأحكام الشرعية القرآنية، ويرى أنها مائتا آية أو قريب من ذلك، ولم يصح عنده القول بأنها خمسمائة آية، قال: "وإن عدلنا عند وجعلنا الآية كل جملة مفيدة يصح أن تسمى كلامًا في عُرْف النحاة كانت أكثر من خمسمائة آية
__________
1 اقتبستُ الترجمة من ترجمته المنشورة في مقدمة تفسيره هذا.(2/437)
وهذا القرآن مَن شك فيه فليعد"1.
ثم بيَّن -رحمه الله تعالى- أنه لم يستقصِ في تفسيره هذا نوعين من آيات الأحكام:
أحدهما: ما مدلوله بالضرورة؛ كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} للأمان من جهله إلا أن تشتمل الآية من ذلك على ما لا يُعلم بالضرورة؛ بل بالاستدلال، فأذكرها لأجل القسم الاستدلالي منها؛ كآية الوضوء والتيمم.
وثانيهما: ما اختلف المجتهدون في صحة الاحتجاج به على أمر معين، وليس بقاطع الدلالة ولا واضحها، فإنه لا يجب على مَن لا يعتقد فيه دلالة أن يعرفه؛ إذ لا ثمرة لإيجاب معرفة الاستدلال به، وذلك كالاستدلال على تحريم لحوم الخيل بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة} 2، وهذا لا تجب معرفته إلا على مَن يحتج به مِن المجتهدين؛ إذ لا سبيل إلى حصر كل ما يظن أو يجوز فيه استنباط الأحكام من خفي معانيه، ولا طريق إلى ذلك إلا عدم الوجدان، وهي من أضعف الطرق عند علماء البرهان"3.
ثم بعد أن بيَّن ما لا يريد ذكره وضَّح ما يقصد ذكره بقوله: "وليس القصد إلا ذكر ما يدل على الأحكام دلالة واضحة؛ لتكون عناية طالب الأحكام به أكثر، وإلا فليس يحسن من طالب العلم أن يهمل النظر في جميع كتاب الله تعالى مقدمًا للعناية فيه، شاملًا للطائف معانيه، مستنبطًا للأحكام والآداب من ظواهره وخوافيه؛ فإنه الأمان من الضلال والعبود الأعظم في جميع الأحوال"4.
ثم أوجز منهجه فيما تناوله من هذه الآيات لقوله: "وهأنا أُفسر تلك الآيات المشار إليها بتفسير وجيز جامع لما له وعليه، ولم آخذ فيها من الأقوال
__________
1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13.
2 سورة النحل: من الآية 8.
3 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14.
4 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14.(2/438)
المختلفة إلا الأرجح، ومن الدلائل المتنوعة إلا الأصح الأصرح، ولعمري لا يوجد قَطُّ تفسير موجز بهذا النمط"1.
نماذج من تفسيره:
والأمثلة على التزامه المنهج الذي رسمه لنفسه آنفًا كثيرة، نقتبس منها بعض الأبحاث التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة ومَن عداهم؛ حتى يتضح منها انتماؤه، فمن ذلك:
غسل الرجلين في الوضوء:
قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 2، فجاء تفسيهر لها بقوله: قرأ نافع بنصب أرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، فقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين؛ لأنها معطوفة على الوجوه والأيدي، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
والفصل بالمسموح بين المغسولات يفيد وجوب الترتيب في تطهير هذه الأعضاء، وعليه الشافعي.
وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الأرجل؛ لأنها معطوفة على الرءوس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مروي عن ابن عباس. قال داود الظاهري: "يجب الجمع بين الأمرين على اقتضاء القراءتين".
وقال ابن العربي: "اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت مَنْ رَدَّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجر".
ثم قال رحمه الله تعالى: ولكن قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة مِن فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط.
__________
1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص13، 14.
2 سورة المائدة: من الآية 6.(2/439)
وثبت عنه أنه قال: "ويل للأعقاب من النار"، وهو في الصحيحين وغيرهما؛ فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما؛ لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ، فلو كان مجزئًا لما قال: "ويل للأعقاب من النار".
وقد ثبت أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلًا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر؛ فقال له: "ارجع فأحسن وضوءك"1 2.
الخمس من الغنائم:
وذلك من قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3. فقال -رحمه الله تعالى- في بيانها: قال القرطبي: "اتفقوا على أن المراد بالغنيمة في هذه الآية مالُ الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر"، قال: "ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص؛ ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع".
ثم قال: وقد حكى الإجماع جماعةٌ من أهل العلم عن أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن العربي.
والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة من الغانمين وكيفيتها كثيرة جدًّا، قال القرطبي: "ولم يقل أحدٌ -فيما أعلم- إن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} الآية، ناسخ لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية؛ بل قال الجمهور: إن قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله"4.
__________
1 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص314، 315.
2 صحيح مسلم: كتاب الطهارة ج1 ص215.
4 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص378، 379.(2/440)
أما بيانه لكيفية قسمة الخمس فقال فيه: قد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة:
الأول: قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة؛ فيجعل السدس للكعبة وهو الذي لله، والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوي القربى، والرابع لليتامى، والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل.
القول الثاني: قال أبو العالية والربيع: إنها تُقسَّم -أي: الغنيمة- على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله، فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ويقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول من بعده في الآية.
القول الثالث: عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا، فقيل له: إن الله يقول: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} ؟ فقال: يتامانا وماسكيننا وأبناء سبينا.
القول الرابع: قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد، يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأصناف الأربعة المذكورة في الآية.
القول الخامس: قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه، قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، ورُوي نحو هذا عن الشافعي.
القول السادس: قول مالك: إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطي منه الغزاة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، قال القرطبي: "وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا"، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يقسمه أخماسًا ولا أثلاثًا؛ وإنما ذَكَرَ ما في الآية مَنْ ذَكَرَ على وجه التنبيه عليهم؛ لأنهم مِن أهم مَن يدفع إليه.(2/441)
قال الزجاج محتجًّا لهذا القول: "قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} 1، وجائز بالإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك"2.
أما سهم "ذي القربى" فقال عنه: "اختلف أهل العلم: هل ثبت وبقي سهمهم اليوم أم سقط بوفاته صلى الله عليه وسلم، وصار الكل مصروفًا إلى الثلاثة الباقية؟ فذهب الجمهور -ومنهم مالك والشافعي- إلى الثبوت واستواء الفقراء والأغنياء للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال أبو حنيفة وأهل الرأي بسقوط ذلك، والتفصيل يُطلب من مواطنه"3.
نكاح المتعة:
والآية مثار البحث هذا هي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4، وقد بحثها -رحمه الله تعالى- بحثًا شافيًا كافيًا فقال:
وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فيما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي فآتوهن أجورهن؛ أي: مهورهن.
وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، ويؤيد ذلك قراءة أُبي بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن"، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، كما صح ذلك من حديث علي -عليه السلام- قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر"، وهو في الصحيحين5 وغيرهما.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 215.
2 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص380، 381.
3 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص382.
4 سورة النساء: من الآية 24.
5 البخاري: كتاب المغازي ج5 ص78، صحيح مسلم: كتاب النكاح ج2 ص1027.(2/442)
وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: "يأيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا".
وفي لفظ لمسلم: أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ، وقال سعيد بن جبير: نستختها آية الميراث؛ إذ المتعة لا ميراث فيها.
وقال القاسم بن محمد وعائشة: تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 1، وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا مما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المتمتع بها كذلك.
وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة، وأنها باقية لم تنسخ، ورُوي عنه أنه رجع عن ذلك عندما بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم، وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة، وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه.
وقد طول الشوكاني -رحمه الله- البحث، ودفع الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحه للمنتقى فليرجع إليه، وأشرنا إليه في مسك الختام شرح بلوغ المرام2.
نكاح المشركات والكتابيات:
وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، فقال رحمه الله تعالى: "في هذه الآية النهي عن نكاح المشركات وتزوجهن. قيل: المراد
__________
1 سورة المؤمنون: الآيتين 5، 6.
2 نيل المراد من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص198، 199.
3 سورة البقرة: من الآية 221.(2/443)
بالمشركات الوثنيات، وقيل: إنها تعم الكتابيات؛ لأن أهل الكتاب مشركون، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 1، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية؛ فقالت طائفة: إن الله حرَّم نكاح المشركات فيها، والكتابيات من الجملة ثم جاءت آية المائدة2 فخصت الكتابيات من هذا العموم، وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي، وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات -وهذا أحد قولي الشافعي- وبه قال جماعة من أهل العلم، ويجاب عن قولهم: إن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أول ما نزل، وسورة المائدة من آخر ما نزل، والقول الأول هو الراجح"3.
قطع يد السارق:
وذلك في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 4، قال -رحمه الله- في تحديد موضع القطع:
"والقطع معناه الإبانة والإزالة وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين اثنتين، وقد بينت السُّنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ، وقال قوم: يقطع من المرفق، وقال الخوارج: من المنكب"5.
وبعد:
هذه أمثلة من تفسيره -رحمه الله تعالى- لآيات الأحكام، ومنها يتضح عدم تأويله لأيٍّ منها بما تقول به بعض الفرق؛ كالشيعة والخوارج ونحوهم؛ بل
__________
1 سورة التوبة: من الآية 30.
2 وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [الآية: 5] .
3 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص82، 83.
4 سورة المائدة: من الآية 38.
5 نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: محمد صديق حسن ص427.(2/444)
التزم أقوالَ علماء أهل السنة والجماعة؛ بل لم يخرج فيها عن المذاهب الأربعة من غير تعصب لأحدها.
وسبق أن ذكرنا بيانه -رحمه الله تعالى- أنه لم يتناول في تفسيره إلا الآيات الصريحة في الدلالة على الأحكام الفقهية؛ بل وترك من هذا النوع الأخير ما هو متفق عليه أو معلوم بالضرورة؛ كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
وهو بحق كتاب في آيات الأحكام، جَمَعَ فيه صاحبه نفائس الأقوال بعبارة قصيرة؛ فحق له أن يكون من أصول
المراجع في ذلك.(2/445)
ثانيًا: روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن
أولًا: المؤلف 1:
هو الأستاذ محمد علي بن جميل الصابوني، ولد في مدينة حلب عام 1928م.
تحصيله العلمي: تخرج من الثانوية الشرعية، وهي آخر مراحله الدراسية في سوريا، وأكمل دراسته في الأزهر؛ فنال الشهادة العالية "الليسانس" سنة 1952م، ونال شهادة الماجستير في تخصص القضاء الشرعي سنة 1954م، وكان موفدًا من جهة وزارة الأوقاف السورية لإتمام الدراسة العليا.
أعماله: اشتغل بالتدريس ثماني سنوات في الثانويات العامة بحلب، ثم انتدب للتدريس بمكة المكرمة في كلية الشريعة، وقد أمضى في التدريس بالكلية ما يزيد على عشرين عامًا.
مؤلفاته: له عدة مؤلفات هي:
1- من كنوز السنة "دراسات أدبية ولغوية من الحديث الشريف".
2- المواريث في الشريعة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة.
3- النبوة والأنبياء.
__________
1 هذه الترجمة أرسلها المؤلف إلى الأستاذ محمد بن عبد العزيز السديس، ونشرها في كتابه الدراسات القرآنية المعاصرة: ص269، 270، وقد أضفت إليها ما جَدَّ من مؤلفات ونحوها.(2/446)
4- روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن.
5- شبهات وأباطيل حول تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
6- مختصر تفسير ابن كثير في ثلاثة مجلدات.
7- صفوة التفاسير في ثلاثة مجلدات.
8- التبيان في علوم القرآن.
ثانيًا: الكتاب:
هو: روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن، جاء وصفه على الغلاف بأنه: "تفسير خاص لآيات الأحكام، مستمد من أوثق مصادر التفسير القديمة والحديثة بأسلوب مبتكر وطريقة جديدة، مع عرض شامل لأدلة الفقهاء، وبيان الحكمة التشريعية".
ويقع هذا التفسير في مجلدين متوسطي الحجم، تبلغ صفحات المجلد الأول 631 صفحة "بدون فهارسه"، والمجلد الثاني كذلك يقع في 619 صفحة، وانتهى المؤلف منه في غرة رجب سنة 1391هـ.
وصدرت طبعته الأولى في نفس العام، والطبعة الثانية سنة 1397هـ.
طريقته في التفسير:
وقد وضح الشيخ طريقته في التفسير بقوله: "جمعت فيه الآيات الكريمة -آيات الأحكام خاصة- على شكل محاضرات علمية جامعة تجمع بين القديم في رصانته، والحديث في سهولته، وسلكتُ في هذه المحاضرات طريقة ربما تكون جديدة ميسرة؛ وهي أنني عمدت إلى التنظيم الدقيق مع التحري العميق؛ فتناولت الآيات التي كتبت عنها من عشرة وجوه، على الشكل الآتي:
أولًا: التحليل اللفظي مع الاستشهاد بأقوال المفسرين وعلماء اللغة.
ثانيًا: المعنى الإجمالي للآيات الكريمة بشكل مقتضب.
ثالثًا: سبب النزول إن كان للآيات الكريمة سبب.(2/447)
رابعًا: وجه الارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة.
خامسًا: البحث عن وجوه القرآءات المتواترة.
سادسًا: البحث عن وجوه الإعراب بإيجاز.
سابعًا: لطائف التفسير، وتشمل: "الأسرار والنكات البلاغية والدقائق العلمية".
ثامنًا: الأحكام الشرعية وأدلة الفقهاء، مع الترجيح بين الأدلة.
تاسعًا: ما ترشد إليه الآيات الكريمة بالاختصار.
عاشرًا: خاتمة البحث، وتشمل: "حكمة التشريع" لآيات الأحكام المذكورة"1.
ثم وبتواضع العلماء أنكر أن يكون ما جاء في هذا الكتاب بجُهْده فحسب؛ بل هو خلاصة نتاج أدمغة فطاحل العلماء، ثم شبه نفسه بقوله: "وما مثلي إلا كمثل إنسان رأى جواهر ولآلئ ودررًا ثمينة مبعثرة هنا وهناك؛ فجمعها ونظمها في عقد واحد، أو كمثل شخص دخل حديقة غنَّاء، فيها أحاسن الأثمار والورود والأزهار ما يدهش الأبصار، فامتدت يده برفق إليها؛ فجعلها في باقة واحدة، ووضعها في كأس؛ فكانت بهجة للقلب وفتنة للعين"1.
وقال: "وما كنت أسطر شيئًا حتى أقرأ ما يزيد على خمسة عشر مرجعًا من أمهات المراجع في التفسير عدا عن مراجع اللغة والحديث، ثم أكتب هذه المحاضرات مع التنبيه إلى المصادر التي نقلت عنها بكل دقة وأمانة"1.
وسنذكر أمثلة من تفسيره لأحكام خاصة، ثم نذكر بعدها ما رأينا من ملاحظات.
__________
1 روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن: محمد علي الصابوني ج1 ص11، 12.(2/448)
نماذج من تفسيره:
خمس الغنائم:
قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وقد بسط العلماء أحكام الغنائم، وكيفية تقسيم الخمس منها، مستندين إلى هذه الآية. وقد وضح الشيخ الصابوني هذه الأحكام بالوجوه التي أشار إليها آنفًا، فقال تحت عنوان: "التحليل اللفظي":
"غنمتم: الغنيمة ما أُخذ من الكفار قهرًا بطريقة القتال والغلبة، أما ما أُخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو "فيء" -كما مر سابقًا1- قال الشاعر:
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
خمسه: بضم الميم وإسكانها لغتان، وقد قُرئ بهما، والخمس أن يقسم الشيء إلى خمسة أجزاء، ثم يؤخذ جزء واحد منه، والواجب الشرعي أن تخمس الغنائم فيصرف الخمس فيما ذكره الله، ويوزع الباقي -وهو أربعة أخماس- بين الغانمين، قال القرطبي: لما بيَّن الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دلَّ ذلك على أنه ملك للغانمين.
لذي القربى: هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم "بنو هاشم، وبنو المطلب" على الصحيح من الأقوال، كما سيأتي إن شاء الله.
اليتامى: هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ؛ لأنه لا يتم بعد البلوغ.
المساكين: هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
ابن السبيل: هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته؛ وإنما قيل: "ابن السبيل" لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أب له"1 ... إلخ.
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص600، 601.(2/449)
وقال تحت عنوان: "المعنى الإجمالي":
"يقول الله جل ثناؤه ما معناه: اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين -أيًّا كان قليلًا أو كثيرًا- حق ثابت لكم. وحكمه: أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ فاقسموه خمسة أقسام، واجعلوا خمسه لله يُنفق في مصالح الدين وإقامة الشعائر وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم منه كفايته لنفسه ولنسائه، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته، ثم المحتاجين من سائر المسلمين؛ وهم اليتامى والمساكن وابن السبيل، ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن هذا هو مقضتى الإيمان، وهو الإذعان والخضوع لأوامره وأحكامه، وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي قسم فأعطى كل ذي حق حقه، كما راعى مصالح العباد جميعًا، فما على المؤمنين إلا الرضا والتسليم لحكم الله العلي الكبير"1.
ومن بيانه في المعنى الإجمالي هذا يظهر أنه يرجح القول: إن الغنائم توزع إلى خمسة أقسام، وأن الخمس يوزع إلى ستة أسهم: لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكن وابن السبيل، خلافًا لمن قال: إن سهم الله سبحانه وتعالى وسهم رسوله واحد، ثم ذكر -وفقه الله تعالى- لطائف تحت عنوان: "لطائف التفسير".
نذكر منها قوله: "اللطيفة الأولى: التنكير في قوله تعالى: {مِنْ شَيْءٍ} يفيد التقليل؛ أي: أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء قليلًا أو كثيرًا، عظيمًا أو حقيرًا، حتى الخيط والمخيط "الإبرة".
اللطيفة الثانية: ذكر الله تعالى في القسمة في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم، واستفتاح الأمور باسمه تعالى، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة؛ منها: "الله" فإن الله الدنيا والآخرة، والله هو الغني الحميد، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله؛ فيكون الكلام على حذف مضاف"1.
ومما ذكرنا في المعنى الإجمالي علمنا أن المؤلف قسَّم الخمس إلى ستة أسهم،
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص601، 602.(2/450)
عَدَّ منها سهم الله سبحانه وتعالى، وذكر أنه يُنفق في مصالح الدين وإقامة الشعائر وعمارة الكعبة وكسوتها، فهو إذًا يؤيد أن الكلام على حذف مضاف، وليس ذكر اسمه تعالى لمجرد التبرك.
ثم ذكر -وفقه الله تعالى- عددًا من الأحكام المستفادة من الآية تحت عنوان: "الأحكام الشرعية".
نذكر منها: الحكم الثاني: كيف يوزع الخمس بين الغانمين؟ وجاء فيه قوله: "ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يُوزع لمن سماهم الله عز وجل في كتابه العزيز، وهم ستة: "الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل"، وسكتت عن الباقي؛ فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين.
سهم الله:
أما سهم الله عز وجل، فقد اختلف المفسرون فيه على قولين:
أ- أنه يصرف على الكعبة؛ لأن قوله: "الله" أي: لبيت الله، فهو على حذف مضاف.
ب- وقال الجمهور: إن قوله "الله" استفتاح كلام يقصد به التبرك، فلله الدنيا والآخرة، وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض.
وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة: "الرسول، ذي القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل".
سهم الرسول:
أما سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حق له صلى الله عليه وسلم، يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم".
وقال آخرون: إن لفظ "الرسول" في الآية استفتاح كلام، كما قالوا في قوله: "لله"، وإن الخمس يقسم على أربعة أسهم: "ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل".(2/451)
سهم ذي القربى:
والمراد قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلف في "ذي القربى" على ثلاثة أقوال:
1- قيل: إنهم قريش جميعًا.
2- وقيل: إنهم بنو هاشم فقط.
3- وقيل: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب، هذا هو الرأي الصحيح والراجح، ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن "مطعم بن جبير" من -بني نوفل- قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان -من بني عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام"، فدل الحديث على أن المراد بذي القربى "بنو المطلب وبنو هاشم".
ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء، وهذا الحكم ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي قرباه في حياته، وأما بعد وفاته فإنه يرجع إلى بيت مال المسلمين.
قال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة: "اليتامى، والمساكين، وابن السبيل"؛ لأنه قد ارتفع سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع سهم أقربائه بموته، وهذا منقول عن الشافعي أيضًا، قالوا: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند، ويُصرف في مصالح المسلمين.
سهم اليتامى:
وهذا السهم يُصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر، وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتيم.
سهم المساكين:
وهم أهل الفاقة والحاجة من ضعفاء المسلمين، الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، ويحتاجون إلى مواساة ومساعدة.(2/452)
سهم ابن السبيل:
وهو الغريب الذي انقطع في سفره، فإنه يُعطَى من الخمس حتى ولو كان غنيًّا في بلده؛ ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن.
مذهب المالكية:
وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعًا، ورأوا أن الخمس -خمس الغنيمة- يُجعل في بيت المال يُنفق منه على ما ذُكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة، وقالوا: إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك، وهو من باب إطلاق "الخاص وأريد به العام"1، ثم ساق أدلة هذا القول وعقَّب عليه بقوله: "وهذا الرأي للمالكية سديد ووجيه"1.
هذا غالب ما قاله في الغنائم والخمس؛ وإنما أطلت فيما نقلت حتى أعطي صورة لطريقته في تناول الآية من جوانب عدة، ثم لما في تفسيره من بيان واضح، وسأختصر -إن شاء الله- ما سأذكره من أمثلة لتفسيره بعد.
نكاح المتعة:
وشبهة مَن أباحه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2، وتحت عنوان: "الأحكام الشرعية" رد الشيخ الصابوني على مَن أباح نكاح المتعة، ووضح الحكم الصحيح، وذلك في الحكم الخامس منها، فقال:
"الحكم الخامس: حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها
وقد أجمع العلماء وفقهاء الأمصار قاطبة على حرمة "نكاح المتعة"، لم يخالف فيه إلا الروافض والشيعة، وقولهم مردود؛ لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين.
__________
1 المرجع السابق: ج1 ص604-607.
2 سورة النساء: من الآية 24.(2/453)
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة، ثم نُسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم، وما رُوي عن ابن عباس من القول بحلها؛ فقد ثبت رجوعه عنه، كما أخرج الترمذي عنه -رضي الله عنه- أنه قال: "إنما كانت المتعة في أول الإسلام؛ كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم؛ فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه، حتى نزلت الآية الكريمة: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 1، فكل فرج سواهما فهو حرام"2.
فقد ثبت رجوعه عن قوله، وهو الصحيح، وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار؛ فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء، قال: "وما قالوا؟ " قلت: قالوا:
قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هو لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس
فقال: "سبحان الله ما بهذا أفتيت؟! وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر".
ومن هنا قال الحازمي: "إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم؛ وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حمى حرَّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد".
ثم ذكر الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة؛ ذكر منها خمسة أدلة ثم ختمها بقول الخطابي: "تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى "علي" -رضي الله عنه- فقد صح عنه أنها نُسخت، ونقل البيهقي عن "جعفر بن محمد" أنه سُئل عن المتعة فقال: هي الزنا بعينه، فبَطَلَ بذلك كل مزاعم الشيعة"3.
__________
1 سورةالمؤمنون: من الآية 6، والمعارج: من الآية 30.
2 رواه الترمذي: كتاب النكاح ج3 ص430.
3 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج1 ص457-459.(2/454)
الحجاب:
وقد أفاض في الحديث -جزاء الله خيرًا - عن حجاب المرأة المسلمة وأجاد، ولئن كان لا يتسنى لنا أن نشم كل الورود التي قطفها كما قال في مقدمة تفسيره، فإنه أيضًا لا يسعنا إلا أن نقف عند بعضها وقفة تُبهج النفس وتمتع النظر وتشنف الأسماع بسامي المعاني وقويم العبارات.
وكان مما قال في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 1 الآية.
قال تحت عنوان: "الأحكام الشرعية"، وتحت الحكم الثاني:
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل: فجميع بدنها عورة على الصحيح، وهو مذهب "الشافعية والحنابلة"، وقد نص
الإمام أحمد -رحمه الله- على ذلك فقال: وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر، وذهب "مالك وأبو حنيفة" إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا "الوجه والكفين"، ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى.
أدلة المالكية والأحناف:
استدل المالكية والأحناف على أن "الوجه والكفين" ليسا بعورة بما يلي:
أولًا: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد استثنت الآية ما ظهر منها؛ أي: ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان. وقد نُقِلَ هذا عن بعض الصحابة والتابعين؛ فقد قال "سعيد بن جبير" في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكف. وقال "عطاء": الكفان والوجه، وروي مثله عن الضحاك.
__________
1 سورة النور: الآيتين 30، 31.(2/455)
ثانيًا: واستدلوا بحديث عائشة ونصه: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق؛ فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لها: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه.
ثالثًا: وقالوا: مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضًا في الإحرام، فلو كانا من العورة لما أُبيح لها كشفها؛ لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة.
أدلة الشافعية والحنابلة:
1- استدل الشافعية والحنابلة على أن الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول:
أولًا: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة، والزينة على قسمين: خِلْقِية ومكتسبة، والوجه من الزينة الخِلْقِية؛ بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء، وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خِلْقَتِها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب. والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقًا، وحرمت عليها أن تكشف شيئًا من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم، وتأولوا قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد؛ مثل: أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أو شيء من جسدها، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل: ولا يبدين زينتهن أبدًا، وهن مؤاخذات على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه، وانكشف بغير قصد ولا عمد، فلسن مؤاخذات عليه؛ فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبداؤها.
ثانيًا: وأما السنة، فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر؛ منها:(2/456)
أ- حديث جرير بن عبد الله: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: "اصرف نظرك" 1.
ب- حديث علي: "يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأُولَى وليست لك الآخرة" 2.
ج- حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه؛ فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ... "3، الحديث في حجة الوداع.
فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه؛ فهو إذًا عورة4.
قلت: هذا ما رأيت ذكره من الأدلة التي أوردها، ثم رجح رأي الشافعية والحنابلة، وردَّ على ما ذكر من أدلة المالكية والحنفية، ثم قال بعد ذلك:
"أقول: الأئمة الذين قالوا بأن "الوجه والكفين" ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة، وألا يكون هناك فتنة، أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل، ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات؛ فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة، فإن ذلك ما لا يقول به مسلم؛ وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند
__________
1 مسلم: الآداب ج3 ص1699، أحمد ج4 ص358، سنن أبي داود: كتاب النكاح ج2 ص246، وسنن الترمذي: كتاب الأدب ج 5 ص101.
2 مسند أحمد ج5 ص351، وسنن أبي داود: كتاب النكاح ج2 ص246، والترمذي: الأدب ج5 ص101، والدارمي: الرقاق ج2 ص298.
3 صحيح البخاري: كتاب الحج ج2 ص140، مسلم: كتاب الحج ج2 ص973.
4 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج2 ص154-156.(2/457)
الضرورة، وبشرط أمن الفتنة. أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء ولا من العقلاء؛ إذ مَن يرى هذا الداء والوباء الذي فشا في الأمة -وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب- فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه؛ لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق، ودعاة السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة، ويستمع لمثل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصرف بصرك"، فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم"1.
هذا ما قاله -وفقه الله- هنا، وقال مثله أو أحسن منه تحت عنوان: بدعة كشف الوجه، وجعله خاتمة لهذا البحث، وقال مثل هذا في سورة الأحزاب، وكله حري به أن يقرأ ويدرك، كيف لا وهي فتنة ترقب الشباب، وكيف لا وهم عماد الأمة ومستقبلها.
قطع يد السارق:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} 1، قال في بيان موضع قطع اليد:
"دل قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} على وجوب قطع اليد في السرقة، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تُقطع هي "اليمنى"؛ لقراءة بن مسعود: "فاقطعوا أيمانهما".
ثم اختلفوا: من أين تقطع اليد؟ فقال فقهاء الأمصار: تقطع من المفصل -مفصل الكف- لا من المرفق ولا من المنكب، وقال الخوارج: تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تُقطع الأصابع فقط.
__________
1 المرجع السابق ج2 ص157، 158.
2 سورة المائدة: الآية 38.(2/458)
حجة الجمهور ما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ، وكذلك ثبت عن "علي" و"عمر بن الخطاب" أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ؛ فكان هو المعول عليه"1.
وقال في حكمة هذا التشريع: "وأعداء الإنسانية يستعظمون قتل القاتل وقطع يد السارق، ويزعمون أن هؤلاء المجرمين ينبغي أن يحظوا بعطف المجتمع؛ لأنهم مرضى بمرض نفساني، وأن هذه العقوبات الصارمة لا تليق بمجتمع متحضر يسعى لحياة سعيدة كريمة، إنهم يرحمون المجرم من المجتمع ولا يرحمون المجتمع من المجرم الأثيم الذي سلب الناس أمنهم واستقرارهم وأقلق مضاجعهم، وجعلهم مهددين بين كل لحظة ولحظة في الأنفس والأموال والأرواح.
وقد كان من أثر هذه النظريات التي لا تستند إلى عقل ولا إلى منطق سليم أن أصبح في كثير من البلاد "عصابات" للقتل وسفك الدماء وسلب الأموال، وزادت الجرائم واختل الأمن وفسد المجتمع، وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرومين وقطاع الطريق.
والعجيب أن هؤلاء الغربيين الذين يرون في الحدود الإسلامية شدة وقسوة لا تليق بعصرنا المتحضر، والذين يدعون إلى إلغاء عقوبة "القتل والزنا وقطع يد السارق" ... إلخ، هم أنفسهم يفعلون ما تشيب له الرءوس، وتنخلع لهوله الأفئدة، فالحروب الهجمية التي يثيرونها، والأعمال الوحشية التي يقومون بها؛ من: قتل الأبرياء، والاعتداء على الأطفال والنساء، وتهديم المنازل على مَن فيها، لا تعتبر في نظرهم وحشية، ولقد أحسن الشاعر حين صور منطق هؤلاء الغربيين بقوله:
قتل امرئ في غابة ... جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن ... مسألة فيها نظر
__________
1 روائع البيان: محمد علي الصابوني ج1 ص555، 556.(2/459)
نعم، إن الإسلام شرع عقوبة قطع يد السارق، وهي عقوبة صارمة؛ ولكنه أمن الناس على أموالهم وأرواحهم، وهذه اليد الخائنة التي قُطعت إنما هي عضو أشل تأصل فيها الداء والمرض، وليس من المصلحة أن نتركها حتى يسري المرض إلى جميع الجسد؛ ولكن الرحمة أن نبرتها ليسلم سائر البدن، ويد واحدة تُقطع كفيلة بردع المجرمين، وكف عدوانهم، وتأمين الأمن والاستقرار للمجتمع.
فأين تشريع هؤلاء من تشريع الحكيم العليم، الذي صان به النفوس والأموال والأرواح!! "1.
هذا ما قاله -وفقه الله- في هذا الحد الشرعي، وأحب أن أهمس في أذنه -ومثله خبير بهذا- أن أولئك القوم ما نقموا هذه الحدود لبشاعتها بزعمهم، وما نقموها لوحشيتها كما يدعون؛ وإنما نقموها لأنهم ينقمون أصلها؛ أعني: الدين الإسلامي كله، وفي التاريخ المعاصر شواهد على ما أقول كثيرة، إن أردت أن أذكر منها شاهدًا واحدًا ذكرت موقف الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أم المكائد والمشاكل في العصر الحديث؛ من باكستان الإسلامية، ما أن فكرت أو اتجهت باكستان لصناعة القنبلة الذرية؛ حتى وضعت أمامها العراقيل والعقبات، وحتى صاحت في آذان جنودها: احذروا القنبلة الذرية الإسلامية، لم ترفع هذه الصيحة وهذا النداء وهذه السمة ضد القنبلة النصرانية، ولا ضد القنبلة الشيوعية ولا اليهودية، ولا حتى الهندوسية؛ ولكن قد كانت الدولة المعنية تحمل الصبغة الإسلامية، فإن لجنة الشئون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي توقف آية مساعدة عسكرية أو تكنولوجية لباكستان ما لم يلتزم الرئيس الأمريكي، بأن لا تجوز باكستان سلاحًا نوويًّا أو تسعى لحيازة مثل هذه الأسلحة2.
لا أقصد من هذا أن أقول: لا تردوا على شبهاتهم في الحدود ونحوها؛ لأن عداءهم أكبر من ذلك؛ ولكني قصدت القول: لا تطمعوا منهم باعتراف، ولا تمنوا أنفسكم به، وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 3.
__________
1 المرجع السابق ج1 ص557، 558.
2 جريدة الرياض، العدد 5764 يوم الأربعاء 2/ 7/ 1404هـ ص21.
3 سورة الصف: من الآية 8.(2/460)
وبعد:
هذه أمثلة لتفسير الشيح محمد علي الصابوني لآيات الأحكام في القرآن الكريم، التي التزم فيها منهجه الذي بيَّنه وذكرناه في مقدمة تفسيره وفي مقدمة حديثنا عنه.
وقد اتسم تفسيره لها بمزية قد لا تجدها في كثير من التفاسير مثل تفسيره؛ فقد حَرَصَ على ألا يورد الأحكام جافة من غير أن يدعو إلى تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، أو إزالة ما أصابها من دنس أصحاب الشبهات والشهوات، فقَلَّ أن يتناول حكمًا شرعيًّا إلا وبيَّن محاسنه ومزاياه، وردَّ ما يلصق به من لدن خصومه؛ كتشريع تعدد الزوجات، والحجاب الذي أوردنا بعض ما قال فيه وأبدع، وردَّ على دعاة الاختلاط وأصحاب الصور والتماثيل، وألجم الناقمين على الحدود الإسلامية وقطع كيدهم.
وإن كان لي من ملاحظات -إن صحت تسميتها بذلك- فهي أنه وفقه الله لم يتناول كثيرًا من آيات الأحكام وبعضها هام جدًّا، ولم يتناول كذلك آيات الميراث في سورة النساء، ونحو ذلك.
وأذكر منها أيضًا أنه تناول آيات القرآن على شكل محاضرات، ولو تناولها على طريقة السلف بأن يورد السورة ثم الآيات التي يريد دراستها مرتبة، ويشير إليها في الفهارس على هذا النحو لكان أفضل، لا أفضل هذه الطريقة لكونها طريقة السلف فحسب؛ ولكن لكونها أيسر على الباحث في حصوله على مراده.
وأذكر منها أيضًا ضرورة التوسع في بعض الأبحاث، والاختصار في بعضها، والأطناب المحبب في حكم التشريع، التي يذكرها لبعض الأحكام الشرعية، خاصة أنه قلَّ أن تجد تفسيرًا يعتني بها على هذا النحو.
هذا ما أردت بيانه، واللهَ أسألُ أن ينفع به وبتفسيره، إنه سميع مجيب.(2/461)
ثالثًا: تفسير آيات الأحكام
أولًا: المؤلف
العجيب أن هذا الكتاب القيِّم لا يُعرف له مؤلف، وكثير من طلبة العلم يعده للشيخ محمد علي السايس، وبين يدي طبعة صدرت سنة 1356-1937م خالية من اسم مؤلفها، وطبعة أخرى بين يدي صدرت سنة 1373 كتب على غلافها: أشرف على تنقيحها وتصحيحها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد على السايس، ولعل هذا هو ما جعل الكتاب إلى الشيخ.
بقي أن نقول: إن الصحيح أنها نسبة تنقيح وتصحيح وليست جمعًا وتأليفًا؛ ولهذه النسبة نكتب تعريفًا للشيخ محمد على السايس.
المنقح المصحح 1:
ولد في مدينة مطوبس التابعة لمحافظة كفر الشيخ إحدى محافظات الوجه البحري لمصر في يوم 16 أغسطس 1899 ميلادية "1319 هجرية"، وتُوفي عن عمر 77 عامًا في فجر يوم الأربعاء الموافق 24 نوفمبر 1976م "أول ذي الحجة 1396هـ" حفظ القرآن كله في سن التاسعة، والتحق بالأزهر، وتدرج فيه حتى حصل على عالمية الأزهر في سن 28، وعُين في مدينة أسيوط، ثم نقل إلى كلية
__________
1 زودني بهذه الترجمة ابنه الدكتور سامي محمد علي السايس، الذي يعمل أستاذًا مساعدًا في مركز العلوم والرياضيات بالرياض، وقد حَرَصْتُ على أن أنشر هذه الترجمة كاملة -رغم طولها نسبيًّا- لأني لم أجد أحدًا ترجم له من قبل.(2/462)
أصول الدين مدرِّسًا، وتدرج في الرقي حتى أصبح عميدًا لكلية أصول الدين، ثم عميدًا لكلية الشريعة سنة 1957م.
نال الشهادة العالمية "عودلت بالدكتوراه" 1927م الموافق ذي القعدة 1345هـ، ثم نال تخصص القضاء الشرعي "إبريل 1932م" الموافق ذي الحجة 1350هـ، ثم عضوية جماعة كبار العلماء "1950م"، وبعد أن أُلغيت الجماعة نال عضوية مجمع البحوث الإسلامية في 5/ 7/ 1961م، وكان عضوًا في المجلس الأعلى للأزهر من 18/ 2/ 1954 حتي تُوفي، وكانت تجدد له 8 كل ثلاثة أعوام.
وعُين عميدًا لكلية أصول الدين سنة 1954م لمدة ثلاث سنوات، فعميدًا لكلية الشريعة الإسلامية سنة 1957م لمدة سنتين؛ حيث أحيل على المعاش في 1/ 3/ 1959 قبل السن القانونية؛ وذلك لمعارضته لتغيير نظام التعليم في الأزهر.
وعُين أمينًا لمجمع البحوث الإسلامية، ثم أحيل على المعاش في السن القانونية في 16/ 8/ 1964 بعد بلوغه 65 سنة.
أهم مؤلفاته "تاريخ التشريع الإسلامي"، وبقية المؤلفات خاصة بمناهج الدراسة في كلية الشريعة، ومن بحوثه "تحديد أوائل الشهور العربية".
أشرف وناقش عددًا كبيرًا من الرسائل العلمية، ومن أصحاب تلك الرسائل الشيخ محمد حسين الذهبي، ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي.
وكانت له جلسات علمية مع بعض المشايخ بقاعة محمد عبده في الأزهر؛ مثل: الشيخ عبد الرحمن تاج، والشيخ
محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد دراز، وغيرهم.
وحصل على عدد من الأوسمة؛ منها: الوسام الملكي في عهد الملك فاروق، ووسام الشرف لجمهورية مصر في الطبقة الأولى في عهد الثورة.
وتُوفي عقب مناقشته لإحدى رسائل الدكتوراه بثلاث ساعات، رحمه الله رحمة واسعة.(2/463)
ثانيًا: تفسير آيات الأحكام:
قلت آنفًا: إن بين يدي طبعة صدرت سنة 1356، وعليها ما يدل على صدورها عن الجامع الأزهر -كلية الشريعة الإسلامية- وجاء عنوانها: "مذكرة في تفسير آيات الأحكام"، ثم صدرت طبعة أخرى بعد ذلك سنة 1373 حُذف منها كلمة "مذكرة في" وبقي الاسم "تفسير آيات الأحكام"، وأضيف إليها اسم مَن أشرف على التنقيح والتصحيح.
وأحسب أن هذه المذكرة وضعها أحد المشايخ لتلاميذه في الأزهر، ثم تناوبتها أيدي المشايخ من بعده بالحذف والإضافة والتنقيح والتغيير ونحو ذلك؛ فلم ينسبها أحد لنفسه؛ فبقيت مجهولة المؤلف.
كما أن هناك فارقًا بين الطبعتين المذكورتين: أن الأولى تزيد على الأخيرة بتفسير آيات الأحكام في سورتي العنكبوت والروم، بينما حذف من الأخيرة.
وسأعتمد في الإشارة إلى النقول هنا على الطبعة الأخيرة المنقحة المصححة، والله الهادي.
نماذج من تفسيره:
فرض الرجلين في الوضوء:
قال في ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1: "قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب معطوف على وجوهكم؛ فيجب غسل الأرجل إلى الكعبين، يؤيد ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته، فكان الحكم مجمَعًا عليه. وأما قراءة الجر، فمحمولة على الجوار، كما في قوله في سورة هود: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} بجر "أليم" لمجاورة "يوم" المجرورة، وفائدة الجر للجوار هنا في قوله: "وأرجلكم" التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة
__________
1 سورة المائدة: من الآية 6.(2/464)
الإسراف لما يعلق بها من الأدران"1.
خمس الغنائم:
والنص الوارد في ذلك -كما مر بنا- قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2 الآية.
قال المؤلف: "هذه الآية بيَّنت أن غنائم الحرب تخمس؛ فيجعل خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس الباقية بيَّنت السنة أنها تُقسم على الجيش، للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان، على اختلاف في الروايات".
وقال: "وقد ذكرت الآية أن الخمس لستة:
أولهما: الله عز وجل، وقد اختلف المفسرون فيه على قولين:
1- أن قوله: {لِلَّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام لم يقصد به أن الخمس يقسم على ستة منها الله -لله الدنيا والآخرة- بل يقسم الخمس على خمسة: للرسول ولذي القربى ... إلخ، ويكون الغرض من ذكر الله تعليمنا التبرك بذكره، وافتتاح الأمور باسمه، أو يكون معناه أن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله، ثم بيَّن تلك الوجوه فقال: للرسول ولذي القربى فأجمل أولًا ثم فصل.
2- أن المراد لبيت الله، فسهمُ الله يصرف في الكعبة، نقل عن أبي العالية، والظاهر القول الأول لإجماع الحجة عليه.
ثانيها: رسول الله، وقد ذكر بعضهم أنه افتتاح كلام كما قالوه في "الله"، والغنيمة تقسم على أربعة، وقال الأكثرون: إن الغنيمة تُقسم على خمسة؛ أولها: سهم الرسول يضعه حيث رأى.
__________
1 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج2 ص173.
2 سورة الأنفال: من الآية 41.(2/465)
ثالثها: ذو القربى، والمراد بها قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اخْتُلف في ذوي القربى؛ فقيل: هم قرابة رسول الله من بني هاشم، وقيل: هم قريش كلها، وقيل: هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهو الراجح.
رابعها: اليتامى؛ وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم.
خامسها: المساكين؛ وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
سادسها: ابن السبيل؛ وهو المجتاز سفرًا قد انقطع به.
وقد خالفت المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعها، ورأوا أن خمس الغنيمة يُجعل في بيت المال، ينفق منه على من ذُكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام، وكأنهم رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أُريد به العام، وأصحاب الأقوال المتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أُريد به الخاص"1.
نكاح المتعة:
قال في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} 2. قال إنها "أمر بإتيان الأزواج مهورهن، وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين؛ وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف.
وقيل: نزلت في المتعة؛ وهي أن يستأجر الرجلُ المرأةَ بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتًا معلومًا ليلة أو ليلتين أو أسبوعًا، بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرًا ثم يتركها.
واتفق العلماء على أنها كانت جائزة، ثم اختلفوا؛ فذهب الجمهور إلى أنها نُسخت، وذهب ابن عباس إلى أنها لم تُنسخ، وهناك رواية عنه أنها نسخت، ورُوي أنه رجع عن القول بها قبل موته.
__________
1 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج3 ص6-8.
2 سورة النساء: من الآية 24.(2/466)
والراجح أن الآية ليست في المتعة؛ لأن الله ذكر المحرمات في النكاح المتعارف، ثم ذكر أنه أحل ما رواء ذلكم؛ أي: في هذا النكاح نفسه.
والراجح أن حكم المتعة الثابت بالسنة قد نُسخ؛ لما أخرجه مالك عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم: نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.
وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام، مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: "يأيها الناس، إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيلها، لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا".
ورُوي عن عمر: لا أُوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة1، ويدل على تحريم المتعة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 2، والمستمتَع بها ليست ملك يمين بالاتفاق، وليست زوجة لانتفاء خصائص الزوجية عنها؛ لأنها لا ترثه ولا يلحق به ولدها"2.
نكاح الكتابيات:
ذكر المؤلف في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 4 الآية، أنه "قد اختلف العلماء في هذه الآية؛ فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعم كل مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم يُنسخ أو يخص منها شيء؛ فيكن جميعًا قد حرم على المسلم زواجهن.
__________
1 مصنف ابن أبي شيبة ج4 ص293، وسنن ابن ماجه: أبواب النكاح ج1 ص605.
2 سورة المؤمنون: من الآية 6.
3 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج2 ص76، 77.
4 سورة البقرة: من الآية 221.(2/467)
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات مَن لا كتاب لهن من المجوس والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عام في جميع مَن ذكرنا، إلا أنه نُسخ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1.
ثم ذكر المؤلف سبب الخلاف، وأنه فرع عن التفريق بين الكافر والمشرك، ثم علق على ما رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرَّق بين طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- وزوجته اليهودية، وبين حذيفة بن اليمان وزوجته النصرانية، فقال: "ورحم الله عمر بن الخطاب؛ فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين -نسائهم ورجالهم- ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة؛ فإن كثيرًا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن زواج المحصنات المسلمات إلى زواج الكتابيات الأجنبيات"2.
قطع يد السارق:
ونص على ذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، قال المؤلف: "واليد تُطلق على العضو المخصوص إلى المنكب؛ وعلى هذا العضو إلى مفصل الكف، كما في قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} 4، والمراد ما كان إلى مفصل الكف، ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول ولا بين فقهاء الأمصار في أن قطع يد السارق يكون إلى مفصل الكف، لا إلى المرفق، ولا إلى المنكب، وقال الخوارج: تُقطع إلى المنكب، وقال قوم: تُقطع الأصابع فقط.
حجة الجمهور ما رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من
__________
1 سورة المائدة: من الآية 5.
2 تفسير آيات الأحكام: تنقيح محمد علي السايس ج1 ص127، 128.
3 سورة المائدة: من الآية 38.
4 سورة النمل: من الآية 12.(2/468)
الرسغ، وما رُوي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ، فكان هو المعول عليه"1.
رأيي في هذا التفسير:
وإن كان لي من ملاحظات على هذا التفسير، فهي ملاحظات بعضها أشرت إليه في التفاسير التي قبله، وبعضها خاص به.
أما الأول منها، فكونه مؤلَّفًا لطلاب يلتزم فيه المؤلف بالمنهج المقرر عليهم؛ فيؤدي به هذا الالتزام إلى الاختصار،
لا أقصد الاختصار المحمود؛ بل الاختصار القاصر الذي يجعل صاحبه يعرض عن بيان بعض الأحكام جملة، وعن بيان أدلة بعض الآراء الأخرى أحيانًا، أو ترجيح رأي لم تستوفَ أدلة ترجيحه، ونحو ذلك.
أما الثاني فملاحظة خاصة، وأحسبها ترجع إلى تعاقب المؤلفين على هذا التفسير أو تعددهم؛ وهي ذلك الاضطراب في بعض العبارات والأخطاء اللغوية في بعضها. والله الموفق.
__________
1 تفسير آيات الأحكام: محمد علي السايس ج2 ص191.(2/469)
رابعًا: تفسير آيات الأحكام
أولًا: المؤلف 1
هو أبو محمد مناع خليل القطان.
مولده: وُلد في شهر أكتوبر 1925م في قرية "شنشور" مركز أشمون من محافظة المنوفية.
حياته العلمية: بدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم في كُتَّاب القرية، والتحق بمدرستها الابتدائية، ثم التحق في شبين الكوم بالمعهد الديني، ومن أبرز مشايخه في تلك الفترة: الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد المتعال سيف النصر، والشيخ علي شلبي، ثم التحق بكلية أصول الدين، وتخرج سنة 1951م مع إجازة التدريس، ومن أساتذته في هذه الفترة: محمد زيدان، والدكتور محمد البهي، والدكتور محمد يوسف موسى.
أعماله: أُعير للتدريس في المملكة العربية السعودية سنة 1953، للتدريس بالمعاهد العلمية إلى سنة 1958م، ثم انتقل للتدريس في كلية الشريعة بالرياض سنة 1378، وشارك في التدريس بالمعهد العالي للقضاء منذ افتتاحه سنة 1378، وعُين مديرًا للمعهد سنة 1392.
ثم أُسندت إليه إدارة الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1399، نال درجة الأستاذية، وأشرف على أكثر من 30 رسالة
__________
1 انظر ترجمة فضيلته في:
1- الدراسات القرآنية المعاصرة: محمد بن عبد العزيز السديس ص165، 166.
2 - علماء ومفكرون عرفتهم: محمد المجذوب ص425-437.(2/470)
دكتوراه، كما أشرف على ما يزيد على ثمانين رسالة ماجستير، وقام بفحص الإنتاج العلمي لأساتذة بعض الجامعات للترقية إلى درجة أستاذ مشارك وأستاذ داخل المملكة وخارجها، وناقش كثيرًا من الرسائل العلمية؛ ومنها هذه الرسالة التي بين يديك.
مؤلفاته: له عدد من المؤلفات؛ منها:
1- مباحث في علوم القرآن.
2- تفسير آيات الأحكام.
3- نظام الأسرة في الإسلام.
4- التشريع والفقه في الإسلام تاريخًا ومنهجًا.
5- نظرية التملك في الإسلام.
6- الثقافة الإسلامية.
7- الدعوة إلى الإسلام.
8- الحديث والثقافة الإسلامية.
ثانيًا: التفسير:
تفسير آيات الأحكام: ويقع في جزأين: الأول منهما يحوي مقرر السنة الثالثة في كلية الشريعة بالرياض، وعدد صفحاته 187، والثاني يحوي مقرر السنة الرابعة فيها، وعدد صفحاته 220 بدون الفهارس.
وصدرت الطبعة الأولى من التفسير عن المكتب الإسلامي سنة 1384.
طريقته في التفسير:
ذكر المؤلف في مقدمته الحامل له على تأليف هذا التفسير فقال: "وقد حملني على كتابته -حين عهد إليَّ بتدريس مادة التفسير بكلية الشريعة بالرياض- رغبة الطلاب في تدوين الدرس وإملائه؛ حتى يتوفر عليهم الجُهْد في البحث بأمهات الكتب، وإني إذ أتسجيب لرغبتهم أوصيهم بالاعتماد على المراجع، والتدريب على منهج المفسرين؛ فذلك سبيل العلم".(2/471)
إذًا فهو من التفاسير التي أُلفت لفئة معينة أولًا، وعلى حسب منهج مرسوم سلفًا لا يزيد عنه ولا ينقص منه ثانيًا؛ لذا فقد بدأ في التفسير من سورة الأنعام، وانتهى بسورة الأحزاب.
والمؤلف يذكر الآية التي يريد تفسيرها، ثم يذكر بعدها سبب نزولها إن كان له سبب، ثم أحيانًا يذكر صلة الآية بما قبلها تحت عنوان الربط حينًا، وتحت عنوان مكان هذه الآيات من السورة حينًا آخر، وتحت عنوان صلة الآية بما قبلها حينًا ثالثًا، ثم المفردات والإعراب، ويذكر فيه القراءات إن كان في الآية قراءات، ثم بعد ذلك إن كان بين العلماء اختلاف في تفسير الآية عقد عنوان "الأحكام"، وإن لم يكن بينهم خلاف جعل العنوان "ما يستفاد من الآيات"، ويختم بعض الآيات ببيان حكمة التشريع.
هذه هي عناصر تفسيره لآيات الأحكام، قد تجتمع في آية -وهو قليل- وقد لا تجتمع على ما أشرنا إليه.
وهو في كل هذا يلتزم عقيدة أهل السنة والجماعة في آيات العقائد إن عرضت له، ويلتزم المذاهب الصحيحة في آيات الأحكام، مُعرضًا عن المذاهب الباطلة، منتقدًا لها.
نماذج من تفسيره:
غاية الجهاد في الإسلام:
يرى الشيخ مناع أن غاية القتال في الإسلام ألا يوجد شرك يدفع المسلمين إلى البلاء والشدة، وحتى لا يفتن مسلم عن دينه بضروب الإلحاد والفساد، ودليله لهذا قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1.
فقال في حديثه عن الأحكام في الآية: "حددت الآية غاية القتال في الإسلام؛ وهي زوال الأديان الباطلة جميعًا من
__________
1 سورة الأنفال: الآيتين 39، 40.(2/472)
العالَم؛ حتى لا يبقى شرك، ويكون التوحيد خالصًا لله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} ، وفي الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل" 1، ومقتضى ذلك: قتال مَن امتنع عن الدخول في الإسلام، أما ترك قتال مَن يؤدي الجزية؛ فلتخصيص أهل الكتاب من العموم في الآية والحديث؛ حيث إن المراد التعبير عن إعلاء كلمة الله، وإذعان المخالفين، والغرض من دفع أو ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، فالمعنى المقصود: الأمر بالقتال حتى يُسلموا، أو يلتزموا ما يؤدي بهم إلى الإسلام؛ وبهذا يتبين أن القتال بأي دافع آخر -كالوطنية والقومية- ليس قتالًا في سبيل الله"2.
وأكد الشيخ مناع -وفقه الله- هذا المفهوم عند حديثه عن حكمة التشريع في هذه الآية؛ حيث رَدَّ على طائفة من المسلمين بقوله: "وهذه الآية ترد على هؤلاء الذين يتملقون خصوم الإسلام، بتحريف الكلم عن مواضعه في رد دعوى انتصار الإسلام بالسيف؛ حيث يقولون بحرية الأديان، مستدلين بما جاء في صدر الإسلام؛ مثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] وتظهر حكمة مشروعية القتال في الإسلام إذا عرفنا أنه ضرورة اجتماعية لإقامة الحق وإعلاء الدين، وإلا لتغلب أهل الشر والفساد {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] وما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفك الدماء، وما كان
__________
1 صحيح البخاري: كتاب الإيمان ج1 ص11، 12، صحيح مسلم: كتاب الإيمان ج1 ص52.
2 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص66، قلت: رَدَّ أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- الجزية على أهل بعض بلاد الروم؛ لما عجز عن الدفاع عنهم، وقوله: "ما كان لنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم" يدل على أن أخذها مقابل حمايتهم، ونشر الأمن في بلادهم، وما يلزم ذلك من مؤنة، فلا يصح القول بأن أخذها لاضطرارهم إلى الإسلام، وإلا لكان هناك ما هو أنجع من وسائل الاضطرار.(2/473)
انتشار دينه على أشلاء أعدائه؛ ولكنه رحمة الله المسداة لإنقاذ الإنسانية من أوضار الشرك والشقاء، وبلمسها الشافي لعلاج أمراضها؛ حتى يحقق لها السعادة والأمن والرخاء تحت لواء شريعة الله، فلا ضير على الإسلام أن يجبر1 الكفار على الدخول فيه؛ لأنه يقدم لهم السعادة في الدنيا، والثواب في الآخرة، كما لا ضير على طبيب أن يجبر مريضًا على تناول الدواء؛ لأنه يقدم له ما فيه علاجه وعافيته"2.
خمس الغنائم:
في الحكم الخامس من الأحكام التي ذكرها في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3 الآية، قسم الشيخ مناع أقوال العلماء في خمس الغنائم فقال: "اختُلف في كيفية تقسيم الخمس؛ فقال بعضهم:
1- يقسم الخمس على ستة لظاهر الآية؛ فالسدس الأول لله ويجعل للكعبة، وورد عن أبي العالية أثر ضعيف في ذلك.
2- وزعم بعض أهل البيت أن الخمس كله لهم دون غيرهم، وهذا زعم باطل.
3- وقال كثير من أهل العلم: يُقسم الخمس على خمسة، وسهم الله وسهم رسوله واحد، يُصرف في مصالح المسلمين، وذُكر اسم الله في الآية استفتاح كلام للتعظيم، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في سهم رسول الله وسهم ذوي القربى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشهور: أن سهم الرسول باقٍ للإمام.
__________
1 نص القرآن الكريم على أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} فلا ينبغي أن نقول: إنه لا ضير أن يجبر الكفار على الدخول فيه، وأحب أن أشير إلى وجوب التفريق بين الإجبار على الدخول في الدين، والإكراه على إقامة نظام
إسلامي يظلل البشرية كلها، فالأول محظور بنص القرآن، والثاني واجب بنصوص الجهاد.
2 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص66، 67.
3 سورة الأنفال: من الآية 41.(2/474)
4- وقال جماعة: إن خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، والمراد بذكر الله في الآية بيان أن الخمس يُصرف في وجوه القُرَب إلى الله، وتخصيص الوجوه المذكورة للتنبيه على فَضْلِها، وهو قول مالك، وأيده ابن تيمية وقال: عليه أكثر السلف، وهو أصح الأقوال"1.
الدولة دين وسياسة:
وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} 2.
أنكر الشيخ مناع -وفقه الله- على أولئك الذين فصلوا بين الدين والسياسة، فعدَّ من الأحكام لهذه الآية أن "فيها جمع سلطة النبوة والحكم وسياسة الأمور وحماية الدولة في الشريعة، فكيف يسوغ للمارقين عن شريعة الإسلام فصل الدين عن الدولة مع عموم رسالة الإسلام وكمالها؟! "3.
ثم قال في المعنى الإجمالي لهذه الآية: "وبهذا جمع الله في سلطة داود الدين والدولة، أو النبوة والحكم، وقد عرف الناس في تاريخ الحضارة الغربية ثورتها على الكنيسة ورجالها؛ لأسباب ليست في طبيعة الإسلام وحضارته، ويأبى ببغاواتنا المستغربون إلا أن ينهجوا نهج أساتذتهم؛ فيقفوا من الإسلام ورجاله موقف أولئك من الكنيسة ورجالها؛ حتى فصلوا بين الدولة والدولة، وعزلوا الإسلام عن تنظيم حياة المجتمع، وسياسة شئون الأمة؛ فأصبحت الشريعة المحمدية في معظم ديار الإسلام طقوسًا تعبدية، يؤديها مَن يشاء في المنزل أو المسجد، أفلا ينظر هؤلاء إلى داود في نبوته وحكمه، وقد كانت رسالته قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعشرات القرون؛ ليأخذوا من ذلك العظة والعبرة؟! "4.
__________
1 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج1 ص71.
2 سورة الأنبياء: الآية 87.
3 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص9.
4 تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص10.(2/475)
حجاب المرأة:
في قوله تعالى مخاطبًا نساء المؤمنين: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1، قال الشيخ مناع: "والذي يدل عليه سياق الآية النهي عن إبداء الزينة إلا ما كان ظاهرًا لا يمكن إخفاؤه، أو ظهر بدون قصد، فيما لا بد منه للمرأة من حركة أو إصلاح شأن أو هبوب ريح أو نحو ذلك، مما تدعو إليه الضرورة؛ لأن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يفيد أنه ظهر بنفسه من غير قصد، وهذا بخلاف ما يتعمد الإنسان إظهاره.
وعلى هذا، فلا يصح أن يرجع الخلاف في وجوب ستر الوجه والكفين أو عدم وجوب ذلك إلى الآية؛ وإنما يرجع غلى اختلاف الأدلة من السنة؛ فيستدل مَن يرى عدم الوجوب بحديث خطبة العيد؛ حيث يقول الراوي: فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين2، وبحديث المرأة الخثعمية في الحج التي جاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردف خلفه الفضل بن عباس، فأخذ يلتفت إليها وتنظر إليه، والرسول يحول وجهه من الشق الآخر، وبعدم وجوب ستر ذلك في الصلاة والحج.
واستدل مَن يرى وجوب ستر الوجه والكفين بقول عائشة في حديث الإفك حين استيقظت على استرجاع صفوان: فخمرت وجهي بجلبابي، وبقولها: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جازونا أسدلت إحادنا جلبابها من رأسها على وجهها، والنهي عن انتقاب المرأة المحرمة ولبس القفاز دليل على أن النقاب والقفاز كانا معروفَيْنِ في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.
وفَرْقٌ بين لباس الصلاة والحجاب، فالمرأة لا يجوز لها أن تصلي مكشوفة الرأس، ولو كانت في بيتها لا يراها أحد، وفي غير الصلاة يجوز لها ذلك؛ فالحجاب شيء آخر فوق
__________
1 سورة النور: من الآية 31.
2 صحيح مسلم: كتاب العيدين ج2 ص603، مسند الإمام أحمد ج3 ص318، سنن الدارمي: العيدين ج1 ص377، والنسائي: العيدين ج3 ص186.(2/476)
زينة الصلاة، وإن سَمَّى ذلك الفقهاء "باب ستر العورة في الصلاة".
هذا، وقد اتفق الجميع على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه عند خوف الفتنة أو كثرة الفُساق، ونحن في عصر تفنن فيه النساء في تزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة، وضَعُفَ الإيمان، وكثر الفساد، وأُهدرت الفضيلة، وعمت الفتنة؛ فلا ينبغي لمسلم أن يشك في وجوب ستر الوجه والكفين قطعًا لدابر الشر، ولو وقف الأمر عند الوجه والكفين في المجتمعات السافرة لهان الخطب؛ بل كشفت المرأة باسم المدينة ... والحرية في ديار الإسلام عن الساق والفخذ والرأس والصدر والظهر، وأظهرت تفاصيل ما سترته من جسدها بما يثير الفتنة، ويجعل العري أهون شرًّا منه"1.
وبعد:
هذه بعض الأمثلة من تفسير آيات الأحكام عند الشيخ مناع القطان؛ وإنما لم نذكر بعض الأحكام الأخرى التي وقع الخلاف فيها بين أهل السنة ومَن عداهم؛ لكون المؤلف لم يتناولها في تفسيره؛ إذ بدأ تفسيره -كما أشرنا- من سورة الأنعام وانتهى بسورة الأحزاب؛ فلم يكن شاملًا لسور القرآن، ولم يكن لأحكام السورة كلها متقصيًا، وهي -كما قلنا- فيمن سبقه ضريبة الالتزام بالمنهج الدراسي؛ إذ الكتاب مؤلَّف لطائفة من الطلاب، وليس تفسيرًا شاملًا، وفيما ذكرنا كفاية -إن شاء الله- للدلالة على اتجاه المؤلف، جزاه الله خيرًا، وأجزل له الأجر والمثوبة.
__________
1- تفسير آيات الأحكام: مناع القطان ج2 ص101، 102.(2/477)
خامسًا: قبس من التفسير الفقهي
أولًا: المؤلف
هو: الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد، ولم أعثر له على ترجمة.
ثانيًا: التفسير
هو قبس من التفسير الفقهي "بحوث في بعض آيات القرآن الكريم"، ومن عنوان الكتاب "قبس" و"بعض آيات" يتضح أن مادة الكتاب ما هي إلا بحوث فقهية في بعض آيات الأحكام في القرآن الكريم.
وإذا ما ألقينا نظرة على هذا التفسير وجدنا عدد صفحاته تبلغ 208 صفحة كَمًّا، وخمسة دروس -أو إن شئت
فقل: تفسير خمس آيات- كيفًا، والكتاب يُذَكرني بتفسير الجصاص وابن العربي والقرطبي في توسعهم في تفسير آيات الأحكام؛ حتى كادت تختلط بكتب الفقه، وأحسبه لو فسر آيات الأحكام كلها لجاء تفسيره هذا لا يقل عنها حجمًا أيضًا.
وقد وضح الدكتور الشافعي في مقدمة تفسيره هذا منهجه في التفسير بقوله: "ولما كان من الخطأ الذي يقع فيه البعض أن يقدم على بحث مسألة من المسائل، أو تقرير حكم من الأحكام، وفي ذهنه ترجيح مسبَق لبعض الآراء على بعضها الآخر، أو لديه حافز يغريه بالعمل على نصر فريق على آخر، ربما كان هذا الحافز ولاءه لمذهب من المذاهب أو حاكم من الحكام.
فإنني سوف أعمل ما وسعني من جُهْدٍ لتجنب هذا الخطأ، وسأعرض في تناولي لبعض آيات الأحكام بعض معاني مفرداتها من الناحية اللغوية والعربية(2/478)
"كذا" بقدر ما يتصح بها المعنى، ثم أُجمل المعنى العام للآية الكريمة، وأربطها بما يسبقها، مع ذكر سبب نزولها إن
وجد.
وبعد ذلك أعرض لما تشتمل عليه من أحكام في مسألة أو مسائل على حسب ما يقتضيه المقام، وسأذكر -إن شاء الله- المسألة والآراء فيها، وأدلة كل رأي، والمناقشات التي وردت عليها، ثم إن بدا لي ترجيح بعضها فعلت، وإلا فحسبي أنني ذكرت الأدلة ومناقشاتها من مصادرها المختلفة، ثم صغتها في عبارة سهلة ميسرة، وترتيب حَسَنٍ، يعطي فكرة شاملة للموضوع كله"1.
وقسم تفسيره إلى خمسة دروس، تناول في كل درس آية من آيات الأحكام، هن -حسب ورودها عنده- كما يلي:
الدرس الأول: في الحج
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} 2، وجاء في 52 صفحة.
الدرس الثاني: المحافظة على أموال السفهاء واليتامى
تفسير قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} 3، وجاء في 50 صفحة.
الدرس الثالث: القتل الخطأ وما يتعلق به من أحكام
تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} 4 الآية، وجاء تفسيرها في 53 صفحة.
الدرس الرابع: بعض أحكام القتل العمد:
__________
1 قبس من التفسير الفقهي: الدكتور الشافعي عبد الرحمن السيد ص4.
2 سورة آل عمران: الآيتين 96، 97.
3 سورة النساء: الآيتين 5، 6.
4 سورة النساء: من الآية 92.(2/479)
تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1، وجاء تفسيرها في 24 صفحة.
الدرس الخامس: قصر الصلاة في السفر:
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} 2.
هذه هي الدروس الخمسة، وهذه هي الآيات الخمس أو تزيد، وكما أنه لا يسعنا أن نورد مثالًا كاملًا لتفسير آية فإنه لا يسعنا إلا أن نورد عرضًا لتفسير درس من دروسه؛ حتى نرى عمق الأبحاث الفقهية فيه، والتي قد لا تجدها في كبير كتب الفقه، ومثال ذلك:
الدرس الثاني: المحافظة على أموال السفهاء واليتامى:
ذكر أولًا نص الآية، ثم صلتها بما قبلها، ثم معاني المفردات، ثم المعنى العام للنص الكريم، وكل هذه الأبحاث التفسيرية حقًّا لم تتجاوز تسع صفحات، أما البقية فعقد بحثًا عنوانه: "بعض المطالب التي يتضح من خلالها ما في النص الكريم من أحكام"، ومن هذه المطالب:
المطلب الأول: في الحجر على السفيه:
بيَّن فيه معنى الحجر لغةً واصطلاحًا، ومعنى السفه كذلك، ثم آراء العلماء في الحجر على السفيه، وبسط أدلة كل قول من الكتاب والسنة، ثم بحث في مَن يضرب الحجر على السفيه.
المطلب الثاني: في تصرفات السفيه:
تحدث عن تصرفاته قبل الحجر عليه، ثم بعد الحجر عليه، وقسم الأخير
__________
1 سورة النساء: الآية 93.
2 سورة النساء: من الآية 101.(2/480)
إلى تصرفات فيما ليس بمال، وتصرف بما كان ماليًّا، وتصرف بما يُفضي إلى المالية، وبحث كل نوع على حدة.
والمطلب الثالث: الإنفاق على السفهاء
وفصَّل القول فيه، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم.
المطلب الرابع: كيفية اختبار اليتامى، وشروط دفع أموالهم إليهم؛ فتحدث أولًا عن كيفية اختبارهم، ثم ثانيًا عن شروط دفع المال إلى اليتيم، فذكر أقوال العلماء في الشرط الأول "بلوغ النكاح"، وفصَّل القول فيه، ثم في الشرط الثاني "إيناس الرشد"، ثم ذكر الخلاف في شرط ثالث.
ثم تحدث عن تصرف المرأة في مالها، وذكر آراء العلماء وأدلتهم، ثم عن الإشهاد على الدفع، ثم تحذير للأولياء.
المطلب الخامس: ما يحل للأولياء من مال اليتامى
ذكر فيه أقوال العلماء في المخاطَب بهذه الآية: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} الآية، وأدلة كل قوم، ثم عقد بحثًا عنوانه: التكييف الفقهي لما يأكله الولي، والقول بأنه أجره، ثم بحث ما وُجِّهَ لهذا الرأي من نقد، ثم القول بأنه قرض، ثم القول بأنه رزق للأولياء، ثم استنتاج.
ومن هذا العرض للأبحاث التي تناولها عند تفسير الآية السالفة يتضح لنا مدى تعمقه في الأبحاث الفقهية؛ حتى يحسبه القارئ كتابًا في الفقه، قدَّم صاحبه لكل درس فيه بآية وبعض تفسير لها.
ومعذرة إذا كان عرضي لهذا التفسير من دون ذكر أمثلة، فما تركت ذلك إلا خشية الإطالة، وفيما عرضت بيان لمنهجه، وفيه الكفاية والسداد إن شاء الله.(2/481)
سادسًا: دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام
أولًا: المؤلف:
هو: الدكتور كمال جودة أبو المعاطي.
مدرس الفقه المقارن، بكلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، وهو أيضًا لم أجد له ترجمة.
ثانيًا: التفسير:
دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، صدرت الطبعة التي بين يدي سنة 1400، وعدد الصفحات 181 صفحة بدون الفهارس.
لخص المؤلف طريقته فيه بقوله: "فهذه دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام، وقد حاولت في هذه الدراسات تفسير الآيات المختارة بما قاله علماء التفسير القدامى منهم والمحدثون، مرجحًا ما رأيته جديرًا بالترجيح، ومضعفًا ما كان جديرًا بالتضعيف.
كما حاولت المحافظة على الأسلوب العلمي الرصين والممتاز لأعلام المفسرين، موضحًا ما يحتاج إلى توضيح، وقد نسقت ذلك كله في صورة ميسرة تُوفر على الدارس الكثير من العناء والجَهْد"1.
وهذا التفسير قريب من سابقه؛ فقد قسمه مؤلفه إلى أربعة أبواب، تناول في
__________
1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: الدكتور كمال جودة أبو المعاطي ص3.(2/482)
الباب الأول أربع آيات من سورة الأنفال، وفي الباب الثاني ثماني آيات من سورة التوبة، وفي الباب الثالث مثلها من سورة النحل، وفي الباب الرابع آيتين من سورة الإسراء، وآية من سورة الكهف.
ومن هذا يظهر أنه غير شامل لسور القرآن؛ بل ولا لآيات الأحكام في السور التي تناولها؛ وإنما قصد صاحبه فيه الاختصار.
والمؤلف يقدِّم أحيانًا تمهيدًا للسورة التي يتناول آيات الأحكام منها، ثم يتناول الآية الأولى تحت عنوان الفصل الأول، أما الأبحاث التي يعقدها تحت هذه الفصول عادة فهي: مبحث في توضيح بعض المفردات، ومبحث في أسباب النزول، ومبحث فيما يُستنبط من الآية، وأحيانًا يربط الآية بما قبلها، وأحيانًا يُجْمِلُ معنى الآية، وعدة أبحاث في دراسات فقهية للآية التي يتناولها.
مثال من تفسيره:
وهذه بعض الأمثلة من تفسيره:
خمس الغنائم:
وذلك في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 1 الآية.
قال: "المبحث الأول: في توضيح بعض المفرادات:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} والغنيمة في اللغة: ما ينال الرجل أو الجماعة بسعي، والمغنم والغنيمة بمعنى واحد، يقال: غنم القوم غنمًا ومغنمًا.
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: {غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيَّناه؛ ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع ... "2.
__________
1 سورة الأنفال: من الآية 41.
2 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص20.(2/483)
المبحث الثاني: في كيفية قسمة الغنائم: وقال فيه: "اعلم أن هذه الآية يقتضي أن يُؤخذ خمسها، وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان:
الأول: وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس؛ فسهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب، دون بني شمس وبني نوفل ... وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند الشافعي -رحمه الله- أنه يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله يُصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين؛ كعدة الغزاة من الكراع والسلاح، وسهم لذوي القربى -أغنيائهم وفقرائهم- يُقسَّم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفِرَق الثلاثة؛ وهم: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال أبو حنيفة: إنه بعد وفاة الرسول عليه السلام سهمه ساقط بسبب موته، وكذلك سهم ذوي القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة بسائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم، فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل، وقال مالك: الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام، إن رأى قسمته على هؤلاء فعل، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض فله ذلك.
واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي -رحمه الله- وصريح فيه، لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها، وكيف وقد قال في آخر الآية {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّه} ؟ يعني: إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة لم يحصل الإيمان بالله.
القول الثاني: وهو قول أبي العالية أن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام؛ فواحد منها لله، وواحد لرسول الله، والثالث لذوي القربى، والثلاثة الباقية لليتامى والمساكن وابن السبيل، والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله ثم للطوائف الخمسة ... "1.
__________
1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص22، 23.(2/484)
المبحث الثالث:
تناول فيه هذه الآية من حيث إنها منسوخة أو محكمة، ورجح أن الآية محكمة غير منسوخة
المبحث الرابع: في الباقي من الغنيمة بعد الخمس
قال فيه: "لما بيَّن الله عز وجل حكم الخمس، وسكت عن الأربعة الأخماس، دل ذلك على أنها ملك للغانمين ... وذلك ما لا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، على ما حكاه ابن العربي في "أحكامه" وغيره1.
المبحث الخامس:
وفيه معنى الآية الإجمالي، وذكر أيضًا ما يستفاد منها
فقال في المعنى الإجمالي: "واعلموا -أيها المسلمون- إن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه أن يقسم خمسة أخماس: خمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى؛ وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين؛ وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل؛ وهو المنقطع في سفره المباح، والمخصص من خمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته والإمام بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين، وأما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة التي سكتت عنها الآية، فهي للمقتالين، فاعلموا ذلك، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقًّا، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد، ويوم الفرقان الذي فرقنا فيه بين الكفر والإيمان، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر، والله عظيم القدرة على كل شيء، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم، وخذل الكافرين مع كثرتهم"2.
وبهذا انتهى تفسيره للآية.
والمؤلف كثير النقل عن: الرازي والقرطبي وابن العربي وأبي السعود،
__________
1 دراسات في تفسير بعض آيات الأحكام: د. كمال جودة أبو المعاطي ص25.
2 المرجع السابق ص26، 27.(2/485)
والكتاب بحاجة لتوسعة بعض الأبحاث وتنقيح بعضها، وإصلاح بعض جُمَلِه من حيث اللغة، وحبذا لو قام صاحبه بتفسير بقية آيات الأحكام، نفع الله به.
وبعد:
هذه هي المؤلفات في تفسير آيات الأحكام عند أهل السنة والجماعة، والتي اطلعت عليها.
وقد أجملت ما لاحظته عليها في أول هذا الفصل بما لا أرى موجبًا لإعادته.
بقي أن أقول هنا ما قلته عن تفسير أهل السنة والجماعة لآيات العقائد، فكما قلت هناك: إن الحاجة ماسة لتأليف تفسير يُعْنَى بآيات العقائد، ويرد فيه على شبهات الخصوم وتأويلات الباطنية الباطلة؛ فإن الحاجة هنا أيضًا لا تقل عنها درجة في كتابة تفسير لا يلتزم منهجًا مدرسيًّا يقيد صاحبه؛ بل ينظر في مجتمعه فيفسر آياته بما يبرز علاجها لأمراضه، وينظر أخرى فينفي عنها التأويلات الزائفة للفِرَق الضالة، وينظر ثالثة فينشر أريجها بين المسلمين، داعيًا إلى امتثالها، ودفع وإزالة ما يعوق تطبيقها في المجتمعات الإسلامية كافة ... وإنا لمنتظرون.(2/486)
ثانيا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنى عشرية"
فرض الرجلين في الوضوء
...
ثانيًا: فقه الشيعة الإمامية "الاثنا عشرية"
بعد بحث وتنقيب لم أعثر على تفسير لآيات الأحكام في القرآن الكريم عند الشيعة الإمامية "الاثنا عشرية"، وقد سبق القول مني أني سأعرض فقههم من كتب غير مقتصرة على آيات الأحكام؛ بل هي تفاسير شاملة لآيات القرآن الكريم.
كما أن المجال لا يتسع لعرض كل مواضع الخلاف بين فقه أهل السنة وفقههم؛ وإنما نذكر بعض مواضعه؛ وذلك لأحد أمرين:
أولهما: خشية الإطالة فيها لو أوردنا مواضع الخلاف كلها، حتى ولو كان العرض مختصرًا.
ثانيهما: أن بعض مواضع الخلاف لم يرد دليله في القرآن الكريم؛ فلم يتناوله الفريقان أو تناوله أحدهما توسعًا في أبحاث الآية لا في تفسيرها، ومثله لا يدخل ي مجالنا هنا.
أما المواضع التي رأينا تناولها، فهي المواضع التي عرضنا تفسيرها وأقوال العلماء يها عند أهل السنة والجماعة، وها نحن نعيد هذه الأبحاث لبيان الآراء الفقهية فيها عند الشيعة ليظهر رأي كل، والله الموفق.
فرض الرجلين في الوضوء:
وعرفنا -فيما سبق- أن فرض الرجلين عند أهل السنة غسلهما وأدلتهم في ذلك، أما الشيعة فيرون أن فرضهما المسح، وهذا محمد حسين الطباطبائي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1: "وأما
__________
1 سورة المائدة: من الآية 6.(2/487)
قوله: {وَأَرْجُلَكُم} فقد قرئ بالجر، وهو لا محالة بالعطف على رءوسكم، وربما قال القائل: إن الجر للإتباع كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] وهو خطأ، فإن الإتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى، وأما قوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإنما الجعل هناك بمعنى الخلق، وليس من الإتباع في شيء.
على أن الإتباع -كما قيل- إنما ثبت يما ثبت في صورة اتصال التابع والمتبوع، كما قيل في قولهم: جحر ضبٍّ خربٍ، بجر الخرب إتباعًا، لا في مثل المورد مما يفضل العاطف بين الكلمتين.
وقرئ: {وَأَرْجُلَكُم} بالنصب، وأنت إذا تلقيت الكلام مخلَّى الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث دون أن تقضي أن "أرجلكم" معطوف على موضع "رءوسكم" وهو النصب، وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر ببالك أن ترد "أرجلكم" إلى "وجوهكم" في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} بحكم آخر وهو قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ؛ فإن الطبع السليم يأبي عن حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلًا: قبلت وجه زيد ورأسه ومسحت بكتفه ويدَه، بنصب "يد" عطفًا على "وجه زيد" مع انقطاع الكلام الأول، وصلاحية قوله "يده" لأن يعطف على محل المجرور المتصل به، وهو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم.
وعلى ذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأما الروايات من طرق أهل السنة فإنها وإن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية؛ وإنما تحكي عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفتوى بعض الصحابة؛ لكنها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، ومنها ما يوجب غسلهما.
وقد رجح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، ولا كلام لنا
__________
1 ورد في الأصل: "وامسحوا بوجوهكم"، وهو سبق قلم فصححتُه.(2/488)
معهم في هذا المقام؛ لأنه بحث فقهي راجع إلى علم الفقه، خارج عن صناعة التفسير"1.
إلى أن قال: "فالأحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس والشعبي وغيرهما على ما نقل عنهم: إنه نزل جبريل بالمسح والسنة الغسل "كذا"، ومعناه نُسخ الكتاب بالسنة. وينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيرية إلى المسألة الأصولية: هل يجوز نسخ الكتاب بالسنة أو لا يجوز؟ والبحث فيه من شأن الأصولي دون المفسر، وليس قول المفسر بما هو مفسر: إن الخبر الكذائي2 مخالف للكتاب إلا للدلالة على أنه غير ما يدل عليه ظاهر الكتاب دلالة معولًا عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعي الذي هو شأن الفقيه"3.
ومن الشيعة أيضًا محمد جواد مغنية؛ حيث قال في تفسيره لهذه الآية {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} : ورد في الأرجل قراءتان؛ إحادها: النصب، والأخرى: الخفض. وقال: السنة يجب غسل الأرجل لا مسحها؛ لأنها معطوفة على الأيدي، على القراءتين. أما قراءة النصب فواضح إذ الأيدي منصوبة لفظًا ومحلًا. وأما على قراءة الجر فللجوار والإتباع؛ أي الرءوس مجرورة والأرجل مجاورة لها، فجرت الأرجل لعلاقة المجاورة، تمامًا كقول العرب: "جحر ضبٍّ خربٍ"، مع العلم بأن خرب يجب رفعه؛ لأنه صفة للجحر لا للضب؛ ولكنه خفض لمجاورته للضب.
وقال الشيعة: يجب مسح الأرجل لا غسلها؛ لأنها معطفوة على الرءوس، أما على قراءة الجر فواضح؛ إذ الرءوس مجرورة بالياء، وأما على قراءة النصب فمعطوفة على محل الرءوس؛ لأن كل مجرور لفظًا منصوب محلًا.
ثم قال الشيعة: إن العطف على الأيدي لا يجوز لأمرين:
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج5 ص222.
2 نسبة إلى "كذا"، والمعنى: الخبر الفلاني.
3 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج5 ص224.(2/489)
الأول: إنه خلاف الفصاحة لوجود الفاصل بين الأيدي والأرجل؛ وهو قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُم} ولو كان الأرجل معطوفة على الأيدي لقال: "وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ" ولم يفصل بين الأيدي والأرجل بمسح الرأس.
الثاني: إن العطف على الأيدي يستدعي أن يكون لكل قراءة معنى مغاير للآخر؛ إذ يكون المعنى على قراءة النصب الغسل، وعلى قراءة الجر المسح، وهذا بخلاف العطف على الرءوس، فإن المعنى يكون واحدًا على القراءتين، بالإضافة إلى أن الجر للجوار رديء لم يرد في كلام الله إطلاقًا1، 2.
هذا مذهب الشيعة في فرض الرجلين في الوضوء، ولا يخلو ما قاله الطباطبائي أولًا ومغنيه ثانيًا من بعض الأقوال التي يرد عليها؛ فتبطل وتهوى ولو تعقبناها لطال؛ وإنما بسطنا رأي أهل السنة قَبْلُ حتى يرجع إليه مَن لم يسعفه ذهنه بالدليل والحجة حتى يكون على المحجة، وسنفعل كذلك فيما سيأتي من أبحاث إن شاء الله تعالى.
__________
1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص23.
2 لو قال المؤلف: لم يرد في كلام العرب، أو في اللغة؛ لملكت زمام نفسي، وألزمتها القاعدة التي التزمتها؛ وهي الإحالة إلى رأي أهل السنة، أما وقد نسب عدم الورود إلى كلام الله؛ فإني أسمح لنفسي أن أورد قول الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في ذلك: "ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيط} بخفض محيط مع أنه نعت للعذاب، وقوله تعالى: {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، ومما يدل على أن النعت للعذاب، وقد خُفض للمجاورة كثرة ورود الألم في القرآن نعتًا للعذاب، وقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} على قراءة مَن قرأ بخفض "محفوظ" كما قاله" القرطبي. "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص11، 12.(2/490)
صلاة الجمعة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1 الآية.
__________
1 سورة الجمعة: من الآية 9.(2/490)
قال محمد جواد مغنيه في تفسيرها: "صلاة الجمعة فرض كتابًا وسُنَّة وإجماعًا؛ وهي ركعتان مع خطبتين قبلها، ويُكتفَى بها عن صلاة الظهر، وتختص بالرجال دون النساء، ولا خلاف في شيء من ذلك بين المسلمين؛ وإنما الخلاف بينهم: هل تجب صلاة الجمعة مطلقًا من غير شرط، أو تجب مع وجود السلطان أو مَن يستنيبه لها؟
قال الحنفية والإمامية: وجود السلطان أو نائبه شرط؛ ولكن اشترط الإمامية عدالة السلطان، وإلا كان وجوده كعدمه، واكتفى الحنفية بوجود السلطان وإن لم يكن عادلًا.
وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: تجب مطلقًا وُجِدَ السلطان أم لم يوجد، وقال كثير من فقهاء الإمامية: إذا لم يوجد السلطان العادل أو نائبه ووُجِدَ فقيه عادل يخير بينها وبين الظهر"1.
ومغنيه لم يوضح حالات وجوب الجمعة ووجود الإمام والعلاقة بينهما حتى يتسنى له أن يقرن الإمامية مع الحنفية، وهو وأتباعه حريصون كل الحرص على مثل هذا، والحالات التي لا تخرج عنها الأقوال كلها أربع:
1- وجوب صلاة الجمعة وجد السلطان أم لم يوجد، وهو رأي المالكية والشافعية والحنابلة.
2- وجوب صلاة الجمعة إذا وُجد السلطان، وهو رأي الحنفية.
3- وجوبها مع وجود الإمام العدل، وقال به طائفة من الشيعة.
4- إنها لا تجب إلا مع وجود الإمام المعصوم، وقال به طائفة من الشيعة.
ومن هذا يظهر أن الشيعة كلهم يشترطون وجود الإمام العادل، وخصته طائفة بالإمام المعصوم.
وعلى القول الأخير: لا تجب الجمعة لعدم ظهور الإمام المنتظر، وعلى القول الثالث: لا تجب لعدم وجود الإمام العادل، وإن كانت نسبة الإمام للعدل أمر يُختلف فيه: متى يكون عدلًا يُصلَّى معه ومتى يكون غير ذلك.
__________
1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج7 ص326، 327.(2/491)
وبهذا يظهر أن الشيعة -على القولين- لا توجب صلاة الجمعة في هذه العصور، أما وقد صدر أمر الخميني في السنوات الأخيرة بأدائها فلعله يرى أحد أمرين:
1- إما أنه الإمام العادل؛ فتجب لذلك عنده.
2- وإما أن أمره أمر ندب لا إيجاب، ويؤيد هذا قوله في كتابه تحرير الوسيلة: "تجب صلاة الجمعة في هذه الأعصار مخيرًا بينها وبين صلاة الظهر، والجمعة أفضل، والظهر أحوط وأحوط من ذلك الجمع بينهما"1، وقوله أيضًا: "لا يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان في أعصارنا مما لا تجب فيه تعيينًا"2، هذا ما ادعاه، ودع عنك التعارض والتضارب في عبارته على قصرها، فكيف تجب على التخيير وكيف تكون الأفضل، ويكون الظهر الأحوط؟! وعلى كل حال قصدت من هذا أن أقول ما خلاصته: إن الشيعة في العصر الحديث إما أنهم يشترطون الإمام العادل، وإما أنهم يشترطون الإمام المعصوم.
ومن الذين يشترطون الإمام العادل وينكرون شرط الإمام المعصوم محمد الصادقي؛ حيث يقول في تفسير الآية: "لا توجد أية حجة تختص فريضة الجمعة بالمؤمنين زمن حضور المعصومين، ولو كانت لضربت عرض الحائط؛ لمخالفتها الكتاب والسنة الثابتة، ومنها ما رواه الفريقان -يقصد السنة والشيعة- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب لأول جمعة أقامها في المدينة المنورة فقال: "إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافًا بها، أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجَّ له، ألا ولا صيام له، ألا ولا بر له، ألا ولا بركة له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه"3،
__________
1 تحرير الوسيلة: الخميني ج1 ص231.
2 تحرير الوسيلة: الخمينيج 1 ص240.
3 نسبه المؤلف إلى "الدر المنثور ج6 ص218، ووسائل الشيعة ج3 ص7 ح28، وابن ماجه ج1 ص334 باب فرض الجمعة". اهـ. إلا أني رأيته عند ابن ماجه وفيه: "في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها" الحديث، والمؤلف لم يذكر هذا النص لأنه حجة عليه.(2/492)
ولم يُستثنَ - فيمَن استُثنِيَ- المؤمنون زمن غيبة الإمام المعصوم، رغم استثناء المجنون والصغير اللذين لم يشملهما قلم التكليف"1.
وقال أيضًا: "إن السعي إلى ذكر الله فيها، والاجتماع فيه، ليس إلا عند اجتماع الشرائط: عددًا ومسافة، وعدالة للإمام، وقدرة على إلقاء الخطبة، ثم ما دونها هراء مختلق كاشتراط حضور المعصوم أو إذنه الخاص، فلا أثر له إسلاميًّا عندنا"2.
إذًا، فصلاة الجمعة عنده واجبة إذا وُجد الإمام العدل؛ بل تؤدَّى حتى مع عدم وجود الإمام العدل وغيره من شروطها؛ ولكن بصورة أخرى غير الصورة المعروفة لصلاة الجمعة، فقال: "وعند فقد الشرائط أو بعضها فأربع ركعات بنية الجمعة"2؛ والسبب في ذلك أنه "لا صلاة ظهرًا يوم الجمعة إلا صلاة الجمعة، هي ركعتان بعد خطبتين مع شرائطها، وهي أربع ركعات كصلاة الظهر لولا الشرائط أو إمكانيتها يجهر في الأوليين، كما في ركعتي الجمعة بنية الجمعة لا الظهر، وكما في المعتبرة المستفيضة"2.
وعلَّق على جملته الأخيرة في الهامش بقوله: "منها موثقة سماعه قال: سألت أبا عبد الله "ع" عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: أما مع الإمام فركعتان، وأما مَن يصلي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر "وسائل الشيعة ج3 ص13، 14" راجع كتابنا: على شاطئ الجمعة"3.
قلت: وكل كلامه لتقرير ما جاء في هذا الأثر عن إمامهم، وخلاصة أقواله أنه إذا وُجد الإمام العادل فصلاة الجمعة ركعتان، وإذا لم يوجد فأربع ركعات بنية الجمعة، ولا دليل عنده ولا عندهم إلا رواياتهم الباطلة عند أهل السنة والجماعة.
__________
1 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 ص340.
2 المرجع السابق: ج28 ص344، 345.
3 الفرقان في تفسير القرآن: محمد الصادقي ج28 هامش ص345.(2/493)
خمس الغنائم:
والمراد بالغنيمة وتوزيع الخمس منها موضع خلاف بين أهل السنة والجماعة وبين الاثنا عشرية، والنص الوارد في ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1 الآية.
قال مغنيه من الشيعة في تفسيرها:
"وقد اختلف السنة والشيعة في المعنى المراد من الغنيمة في الآية؛ فقال السنة: هي ما يغنمه المسلمون من الكفار بقتال؛ وعلى قولهم هذا تكون مسألة الخمس عبارة عن قضية لا واقع لها من الناحية العملية في هذه الأيام، تمامًا كمسألة العبيد والإماء؛ إذ لا دولة إسلامية تجاهد الكفار والمشركين في هذا العصر2.
وقال الشيعة: إن الغنيمة أعم مما يأخذه المسلمون من الكافرين بقتال، وإنها تشتمل المعدن كالنفط والذهب وغيرهما، وأيضًا تشمل الكنز المدفون تحت الأرض إذا لم يُعرف له صاحب، وتشمل ما يخرجه الإنسان من البحر بالغوص كاللؤلؤ، وما يفضل عن مؤنة الإنسان وعياله مما اكتسبه في سنته، وتشمل المال الذي فيه حلال وحرام، ولم يعلم شخص الحرام ولا مقداره ولا صاحبه، وتشمل الأرض التي يشتريها الذمي من المسلم، والتفصيل في كتب الشيعة، ومنها الجزء الثاني من كتابنا: فقه الإمام جعفر الصادق ... وعلى قول الشيعة تكون مسألة الخمس مسألة لها واقع من الناحية العملية "!! ".
__________
1 سورة الأنفال: من الآية 41.
2 ما رأيت مثل مكر هذا: إنه يلسع ولكن من القفى، وإلا فهل يجهل أن عدم وقوع قضية من القضايا في عصر من العصور لا يعني عدم صحة تشريعها؟! أَوْلَا يعلم أن الشريعة الإسلامية جاءت لكل عصر وليس لعصر معين؟! ثم إنه ما عطل أحد من الشريعة مثلما عطلت الشيعة بزعم غيبة الإمام، أفلا يصح أن يصرح سواهم بالحكم الشرعي مع عدم وجود دواعيه؟! ولكنه الهوَى.(2/494)
وكما اختلف الشيعة والسنة في معنى الغنيمة فقد اختلفوا في عدد أسهم الخمس وتقسيمها على مستحقيها؛ قال الشيعة: يقسم الخمس إلى قسمين؛ والأول منهما ثلاثة أسهم: سهم لله وسهم لرسوله وسهم لذوي القربى، وما كان لله فهو للرسول، وما كان للرسول فهو لقرابته، وولي القرابة بعد النبي هو الإمام المعصوم القائم مقام النبي "!! " فإن وُجد أُعطي له، وإلا وجب إنفاقه في المصالح الدينية؛ وأهمها: الدعوة إلى الإسلام، والعمل على نشره وإعزازه. أما القسم الثاني فهو ثلاثة أسهم: سهم لأيتام آل محمد صلى الله عليه وسلم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء السبيل منهم خاصة، لا يشاركهم أحد في ذلك؛ لأن الله حرَّم عليهم الصدقات فعوضهم عنها بالخمس. وقال الطبري في تفسيره وأبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: "قال علي بن أبي طالب عليه السلام: اليتامى والمساكين أيتامنا ومساكيننا". وقال الطبري في تفسيره أيضًا: "إن علي بن الحسين -رضي الله عنه- قال لرجل من أهل الشام: أما قرات في الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ، قرأ الآية. قال الشامي: نعم وإنكم لأنتم؟ قال: نعم".
أما مذهب السنة فندع الكلام عنه إلى عالِمَيْنِ كبيرين: أحدهما من القدماء وهو الرازي، والثاني من الجدد وهو المراغي"2.
ثم نقل نصًّا للرازي فيه ذكر أقوال أهل السنة، ونصًّا آخر للمراغي ذكر مغنيه منه ما يبين أن المراد بذوي القربى بنو هاشم وبنو المطلب، ولم يذكر السطر الذي قبله، ونص فيه المراغي على أن المراد باليتامى والمساكين وابن السبيل هم المحتاجون من سائر المسلمين3؛ وإنما اكتفى بما نقل لأمر في نفسه يخفيه.
ومن الشيعة أيضًا محمد حسين الطباطبائي، فقال في تفسيره للآية: "وظاهر
__________
1 علق الشيخ محمود شاكر -رحمه الله تعالى- على إسناد هذا الأثر فقال: "هذا إسناد هالك". تفسير الطبري ج13 ص554.
2 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص482، 483.
3 انظر: تفسير المراغي: أحمد مصطفى المراغي ج4 ص5.(2/495)
الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبَّد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، وأن الحكم متعلق بما يسمى غنمًا وغنيمة، سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة؛ كأرباح المكاسب، والغوص، والملاحة، والمستخرَج من الكنوز، والمعادن، وإن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص.
وكذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: {لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، وأن لكل منهم سهمًا؛ بمعنى: استقلاله في أخذ السهم، كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غير أن يكون ذكر الأصناف من قبيل التمثيل.
فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، وعليه وردت الأخبار من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- وقد اختلفت كلمات المفسرين من أهل السنة في تفسير الآية، وسنتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى"1.
وإذا ما انتقلنا إلى ما أشار إليه وجدناه يسوق هناك عددًا من رواياتهم؛ ومنها: "في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعه قال: سألت أبا الحسن -عليه السلام- عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير. وفيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم والغوص ومن الكنوز ومن المعادن والملاحة، يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، ويقسم أربعة أخماس بين مَن قاتل عليه وولي ذلك، ويقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، وسهم لذي القربى، وسهم للتيامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، فسهم الله وسهم رسوله لأُولِي الأمر من بعد رسول الله وراثة، فله
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج9 ص91.(2/496)
ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، وسهم مقسوم له من الله، فله نصف الخمس كلا، ونصف الخمس الثاني بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، يقسم بينهم على الكتاب والسنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل منهم شيء فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده ما يستغنون به؛ وإنما صار عليه أن يمونهم؛ لأن له ما فضل عنهم ...
وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذين ذكرهم الله فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وهم بنو عبد المطلب أنفسهم، الذكر منهم والأنثى، ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد، ولا فيهم ولا منهم في هذا الخمس من مواليهم، وقد تحل صدقات الناس لمواليهم، وهم والناس سواء".
وقال أيضًا: "أقول: والأخبار عن أئمة أهل البيت -عليهم السلام- متواترة في اختصاص الخمس بالله ورسوله والإمام من أهل بيته ويتامى قرابته ومساكينهم وأبناء سبيلهم، لا يتعداهم إلى غيرهم، وأنه يقسم ستة أسهم على ما مر في الروايات، وأنه لا يختص بغنائم الحرب؛ بل يعم كل ما يسمى غنيمة لغة من: أرباح المكاسب والكنوز والغوص والمعادن والملاحة، وفي رواياتهم -كما تقدم- أن ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما حرم عليهم من الزكوات والصدقات"1.
إذًا، فالخلاف بينهم وبين أهل السنة في أن الغنائم عندهم تشمل: أرباح التجارة والكنوز والغوص والمعادن والملاحة. أما عند أهل السنة والجماعة فهي غنائم الحرب مع الكفار، أما الخمس فلأهل البيت عند الشيعة، وعند أهل السنة فسهم الله ورسوله لمصالح المسلمين وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل من سائر المسلمين.
__________
1 تفسير الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج9 ص103، 104 باختصار.(2/497)
نكاح المتعة:
وهذا هو أشهر الاختلافات الفقهية بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة الاثنا عشرية؛ ذلك أن نكاح المتعة محرم عند أهل السنة إجماعًا، ومباح عند الشيعة؛ بل كاد أن يكون شعارًا لهم.
وموضع استدلالهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 1، قال مغنيه في تفسيره لها: "وقد كثر الكلام والنقاش حول هذه الآية: هل المراد بها الزواج الدائم فقط أو زواج المتعة فقط، أو هما معًا؟ وعلى فرض إرادة المتعة: فهل نُسخت هذه الآية ونُسخ معها زواج المتعة؟
وفيما يلي يتضح الجواب عن جميع ما أثير أو يثار من التساؤلات حول زواج المتعة.
جاء في كتب الحديث والفقه والتفسير للسنة والشيعة أن المسلمين اتفقوا -قولًا واحدًا- على أن الإسلام شرع متعة النساء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها أصحابه؛ من ذلك ما جاء في الجزء السابع من صحيح البخاري، كتاب الترغيب في النكاح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جيش المسلمين، فقال لهم: "قد أَذِنَ الله لكم أن تستمتعوا؛ فاستمتعوا". وفي رواية ثانية للبخاري: "أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال، فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا"2.
وفي صحيح مسلم ج2 باب "نكاح المتعة" ص623 طبعة 1348هـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر
__________
1 سورة النساء: من الآية 24.
2 ما رأيت تدليسًا مثل تدليس هذا الرجل ودسه. نص الحديث الذي بتره هنا بترًا جاء باقيه: "أو يتتاركا تتاركًا، فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة، قال أبو عبد الله وبينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ". صحيح البخاري: كتاب النكاح باب "31" نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرًا ج6 ص129.(2/498)
وعمر، وفي الصفحة نفسها حديث آخر عن جابر قال فيه: ثم نهانا عمر1، ومثله عن الجزء الثالث من مسند الإمام أحمد بن حنبل.
ثم قال: "وهذه الروايات ونظائرها موجودة في أكثر صحاح السنة وتفاسيرهم وكتبهم الفقهية؛ وعليه يكون النزاع في أنه: هل المراد بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} إلخ، الزواج الدائم فقط، أو زواج المتعة فقط، أو هما معًا؟ يكون هذا النزاع عقيمًا لا جدوى منه؛ لأن النتيجة هي هي لا تختلف في شيء، سواء أقلنا: إن آية {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ} عامة للمتعة، أو قلنا: هي مختصة بالزواج الدائم؛ إذ المفروض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بزواج المتعة باتفاق المسلمين، وأن كل ما أمر الرسول به فإن الله يأمر به أيضًا؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
أجل بعد أن اتفق السنة والشيعة على أن الإسلام شرع المتعة اختلفوا في نَسْخِها وتحريمها بعد الجواز والتحليل؟
قال السنة: حرمت بعد أن كانت حلالًا، وقال الشيعة: كانت حلالًا ولا تزال إلى آخر يوم، وبديهة أن على السنة أن يثبتوا النسخ والتحريم من الرسول صلى الله عليه وسلم".
إلى أن قال: "والسنة يعترفون بأن عليهم عبء الإثبات دون الشيعة؛ ولذلك استدلوا على ثبوت النسخ بروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الشيعة هذه الروايات وناقشوها متنًا وسندًا، وأثبتوا بالمنطق السليم أنها موضوعة على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأدلة.
منها: أن السنة يعترفون بأنها مضطربة متناقضة، قال ابن رشد في الجزء الثاني من البداية في مسألة نكاح المتعة ما نصه بالحرف: "في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم المتعة يوم خيبر، وفي بعضها يوم الفتح، وفي
__________
1 وهذا أيضًا من النصوص المبتورة، وبقية الحديث عند مسلم: ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. صحيح مسلم بشرح النووي ج9 ص184.(2/499)
بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء، وفي بعضها عام أوطاس، وهو اسم مكان في الحجاز، ومحل غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم".
ثم قال ابن رشد: "رُوي عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقي.
ومنها -أي: من ردود الشيعة على روايات النسخ- أنها ليست بحجة حتى ولو سلمت من التناقض؛ لأنها من أخبار الآحاد، والنسخ إنما يثبت بآية قرآينة أو بخبر متواتر، ولا يثبت بالخبر الواحد.
ومنها: ما جاء في صحيح مسلم من أن المسلمين تمنعوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر، وهذا ينفي نسخها في عهد الرسول، وإلا كان الخليفة الأول محللًا لما حرم الله والرسول ... وأصدق شيء في الدلالة على عدم النسخ في عهده صلى الله عليه وسلم قول عمر بالذات: "متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما"، ومهما شككت فلا أشك ولن أشك في أن عمر لو سكت عن هذا النهي لما اختلف اثنان من المسلمين في جواز المتعة وحليتها إلى يوم يبعثون.
وتسأل: بعيد جدًّا أن يقول عمر هذا؛ لأنه تحريم لما أحله الله، وردٌّ على رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى؟
الجواب: أجل هو أبعد من بعيد؛ لأنه كما قلت: رد على الله ورسوله ... ولكن المسلمين اتفقوا على أن عمر قال ذلك، وما رأيت واحدًا منهم نفى نسبته إليه؛ بل في بعض الروايات أن عمر نهى عن ثلاثة أشياء أمر بها النبي لا شيئين، قال القوشجي في شرح التجريد -وهو من علماء السنة- قال في آخر مبحث الإمامة: "إن عمر صَعِدَ المنبر وقال: أيها الناس، ثلاث كن على عهد رسول الله أنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل". وروى كل من الطبري والرازي أن عليًّا قال: لولا أن(2/500)
عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي، ومثله عن تفسير الثعلبي والسيوطي"1.
هذا ما قاله مغنيه، ولقد عانيت ما عانيت من كبح جماح القلم عن الرد على مزاعمه؛ لأني آثرت اتصال حلقات كلامه حتى يتم له إتمام أدلته الواهية، ثم أعود عليها ناقضًا لها عودًا سريعًا خشية فوات ما فيه نفع، وأنفة من الخوض في الحديث مع مثله؛ ولكن آسف أن أقول مثل هذا لولا أني وقد قرأت في تفسيره ظهر لي ظهور الشمس في رابعة النهار كيف يصوغ ألفاظه ويبتر النصوص ويدلس على قراء كتابه بما لا يستغرب من مثله.
ونأخذ بعد هذا ما زعمه من ردود الشيعة على روايات أهل السنة في نسخ نكاح المتعة، ووصفه لهذه الردود بأنها ناقشت الروايات متنًا وسندًا!! وإذا ما نظرنا للأمثلة التي ذكرنا فإنا لا نرى فيها نقدًا لا لسند ولا لمتن حديث بعينه!! دع عنك ما زعمه أنهم أثبتوا بالمنطق السليم أنها موضوعة على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
ولا أدري كيف سوغ لنفسه مثل هذا القول؟! وهو الذي لم يذكر حديثًا واحدًا أثبت وضعه لا بالمنطق السليم ولا بمنطقه هو!! لا أحجه بأنه قد رواها البخاري ومسلم، فمنزلتهما عنده لا تخفى؛ ولكن أحجه باستشهاده هو بأحاديثهما التي تنص على تشريع المتعة، وهي نفسها تنص على أنها نُسخت، فأخذ ببعضه وأعرض عن بعض.
ثم وعجب بعد عجب أو يحسب نفسه يؤلف تفسيرًا في سبعة مجلدات للعامة أم يستخف بقراء تفسيره؟! لا أشك في أن مَن يقرأ تفسيرًا بحجم تفسيره أنه قد ارتقى من درجة العامي الذي لا يعلم شيئًا من شئون العلماء إلى درجة من درجات العلم ومهما، كانت هذه الدرجة من العلم فإنه لا يخفى على صاحبها أن ورود أحاديث كثيرة تنص على أن تحريم المتعة كان يوم خيبر، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، إلى آخر هذه الأحاديث، لا يعني تناقضها؛
__________
1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج2 ص295-298، باختصار.(2/501)
وإنما يعني تكرر التنبيه على تحريم المتعة عدد هذه المرات؛ ولكن الرجل يحسب أنه وهو يسوق عبارة ابن رشد قد عثر على حجة له؛ فإذا هي عليه، ولا أظنه يخفى عليه هذا؛ ولكنه ما ذكرت؟!
أما ما ذكره من أن روايات النسخ ليست بحجة؛ لأنها من أخبار الآحاد، فإنا نقول له: أوتظن أنت إن إباحة المتعة ثبت بالتواتر حتى تطلب ناسخًا متواترًا؟! إن زعمت أن الآية تنص على ذلك فلا يسلم لك عاقل؛ إذ الخلاف في المراد بها مشهور، وأنت نفسك قلت في تفسيرك: إن النزاع في المراد بالآية عقيم لا جدوى منه، وقلت: إن المفروض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بزواج المتعة باتفاق المسلمين.
إذًا، فليست الآية دليلًا قاطعًا لكم ولا لنا؛ وإنما مرجعنا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولننظر بعد هذا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام.
قال أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي: "كل ما نقل إباحة المتعة نقل تحريمها أيضًا، وحصلت رواية التحريم عن غير من نقل الإباحة زيادة عليها، فإن كانت إباحتها بنقل من نقل من حيث الإجماع فتحريمها أيضًا من حيث الإجماع؛ لأن ما ثبت به الإباحة ثبت به التحريم"1.
ودونك أحاديثه الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم اقرأها بتمامها وسترى ما نقول، أما إن أغلقت عينًا وفتحت عينًا؛ فإنك لن ترى الحقيقة كاملة إن كانت الحقيقة ضالتك.
وسأرشدك إلى النص الذي نقلته أنت عن ابن رشد، وقرأت فيه كم مرة حرمت المتعة وجاءت النصوص لتحريمها.
أما ما ذكرت من أنه أبعد من بعيد أن يقول عمر رضي الله عنه: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما؛ لأنه رد على الله ورسوله، فقد كنت أتمنى لك الثبات على حُسْن الظن بصحابة رسول الله صلى الله عليه
__________
1 رسالة تحريم نكاح المتعة: لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي ص123.(2/502)
وسلم، وأنك لم تستثنِ بقولك: "ولكن المسلمين اتفقوا على أن عمر قال ذلك، وما رأيت أحدًا منهم نفا نسبته إليه"، كنت أتمنى أن قومت ميزان فَهْمِك، وبحثت عن الفهم الصحيح الذي يناسب حُسْنَ الظن في صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت تملكه، وأن تشك في فَهْمِك ولا تشك في عقيدة هذا الصحابي، وتسأل أهل الذكر إن كنت لا تعلم.
فإن سألت أجابوك: إن هذا غلط قبيح؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع علمه وزهده لا يجوز أن يقول ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحرمه وأعاقب عليه، وقد ثبت عنه في أخبار كثيرة أنه يقفو فيها أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلب البينة على ما يُدَّعَى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعاقب مَن خالف شيئًا من سنته، ويأمر بالمواظبة عليها والأخذ بها، والمنع من تعديها ومجاوزتها، ولو رام تحريم ما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقره الصحابة عليه ولم يقبلوه منه، ولا اعترضوا عليه فيه كما اعترضوا فيما هو أيسر من ذلك وأخف؛ فبطل الدليل؛ وإنما أراد عمر -رضي الله عنه- بذلك أنها كانت مباحة في أول الإسلام؛ فنُسخت الإباحة، وحُرمت من جهة النبي صلى الله عليه وسلم.
فمعنى قوله: "إن مَن استحلها وفعلها بعدما حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخها عاقبته على ذلك"، وهذا واضح لا لبس فيه؛ فإنه قد ثبت أن رجلًا فعل ذلك ولم يعلم بالنسخ؛ فلذلك زجر عمر عنها لما يكون له من النظر في أمور الدين1.
ولقالوا لك أيضًا: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نهى عنها على المنبر وتوعد عليها وغلظ أمرها، وذلك بحضرة المهاجرين والأنصاري، فلم يعارضه أحد منهم ولا رد عليه قوله في ذلك، ولا يجوز لمثلهم المداهنة في الدين، ولا السكوت على استماع الخطأ، لا سيما فيما هو راجع إلى الشريعة وثابت
__________
1 رسالة تحريم نكاح المتعة: أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي ص107، 108.(2/503)
في أحكامها على التأييد، فلما سكتوا على ذلك ولم ينكره منهم أحدٌ عُلِمَ أن ذلك هو الحق، وأنه ثابت في الشريعة من نسخ المتعة وتحريمها، كما ثبت عنده مضار ذلك، كأن جميعهم قرروا تحريمها وتثبتوا نسخها؛ فكانت حرامًا على التأييد، وقد رُوي ذلك عن جماعة من الصحابة سوى عمر؛ فروي تحريمها عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس؛ لأنه رجع عن إباحتها لما بان له الصواب في ذلك، ونقل إليه تحريمها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب التابعين والفقهاء والأئمة أجمعين، ولو لم يقل بتحريم المتعة إلا واحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا لم يكن له فيهم مخالف لوجب علينا الأخذ بقوله، والمصير إلى علمه؛ لأنه لم يقل ذلك إلا عن علم ثاقب ورأي صائب، وقد أجمعوا كلهم على ذلك؛ فكان مَن خالف ذلك واستحل نكاح المتعة مخالفًا للإجماع معاندًا للحق والصواب1.
وبعد، عذرًا أن أطلت في الرد بعض الإطالة، فما الرد عليه قصدت؛ ولكن شبهة أردت إزالتها حتى تنجلي الحقيقة لمن التبس عليه الأمر.
وخشية من أن أحتاج إلى اعتذار آخر مع اعتذاري هذا؛ فإني أكتفي بالإشارة إلى ذلك البحث الطويل عن نكاح المتعة الذي بسطه محمد حسين الطباطبائي في تفسيره2، وذلك البحث الآخر الذي أورده أبو القاسم الموسوي الخوئي في تفسيره3، أيضًا أترك هذين البحثين اكتفاء بما نقلته عن مغينه في تفسيره أولًا، ولطول هذين البحثين حتى ولو اختصرتهما ثانيًا، وبالله التوفيق.
__________
1 رسالة تحريم نكاح المتعة: أبو الفتح نصر المقدسي ص77، 78، باختصار.
2 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج4 ص271-310.
3 انظر: البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ج1 ص313-330.(2/504)
نكاح المشركات والكتابيات:
قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 1 الآية، جاء في تفسير محمد جواد
__________
1 سورة المائدة: آية 5.(2/504)
مغنيه لها قوله: "اتفق فقهاء المذاهب على أن المسلم لا يحل له أن يتزوج بمن لا تدين بشيء إطلاقًا، ولا بمن تعبد الأوثان والنيران وما إليها، واختلفوا في زواج الكتابية؛ أي: النصرانية واليهودية، فقال أصحاب المذاهب الأربعة السنية: يجوز، واستدلوا بهذه الآية، واختلف فقهاء الشيعة بين مجيز ومانع ومفصل بين الزواج الدائم والمقطع، فأجاز الثاني ومنع الأول.
ونحن مع القائلين بالجواز مطلقًا، ومستندنا: أولًا: الأدلة الدالة على إباحة الزواج بوجه عام. ثانيًا: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . ثالثًا: الروايات الكثيرة عن أهل البيت -رضي الله عنهم- وذكرها صاحب الوسائل والجواهر، ووصفها هذا بالمستفيضة؛ أي: بلغت حدًّا من الكثرة يقرب من التواتر، ونقلنا بعضها في الجزء الخامس من فقه الإمام جعفر الصادق.
وتسأل: وما أنت صانع بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 1، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوَافِرِ} 2؟
الجواب: المشركات غير الكتابيات؛ بدليل عطف المشركين على أهل الكتاب في الآية الأولى من سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، أما قوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوَافِرِ} فغير صريح في الزواج؛ لأن الإمساك بالمعصم كما يكنى به عن الزواج يكنى به عن غير الزواج أيضًا، قال صاحب المسالك: إن الآية ليست صريحة في إرادة النكاح ولا فيما هو أعم منه"3.
وهكذا أنهى مغنيه تفسيره لهذه الآية، وإن كان في جوابه المختصر هذا ما لا يسلم، وتثور فيه الأسئلة؛ لكنه مر عليها على عجل لا يمكنه من استقصاء الأدلة وإبطال الاعتراضات، وحسبنا أنه ذكر رأيه.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 221.
2 سورة الممتحنة: من الآية 10.
3 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص19، 20.(2/505)
أما أبو القاسم الخوئي فقد تحدث في تفسيره عن بعض الآيات التي قيل: إنها ناسخة أو منسوخة، وبيَّن أنه لا تناسخ بينها؛ ومن هذه الآيات التي تناولها قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 1، قال في تفسيره: "أدعي أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 2، ذهب إليه ابن عباس، ومالك بن أنس، وسفيان بن سعيد، وعبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي، وذهب عبد الله بن عمر إلى أن الآية الثانية منسوخة بالأُولَى فحرم نكاح الكتابية.
والحق: أنه لا نسخ في شيء من الآيتين؛ فإن المشركة -التي حرمت الآية الأولى نكاحها- إن كان المراد منها التي تعبد الأصنام والأوثان -كما هو الظاهر- فإن حرمة نكاحها لا تنافي إباحة نكاح الكتابية التي دلت عليها الآية الثانية؛ لتكون إحداهما ناسخة والثانية منسوخة، وإن كان المراد من المشركة ما هو أعم من الكتابية- كما توهمه القائلون بالنسخ- كانت الآية الثانية مخصصة للآية الأولى، ويكون حاصل معنى الآيتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة، نعم المعروف بين علماء الشيعة الإمامية أن نكاح الكتابية لا يجوز إلا بالمتعة إما لتقييد إطلاق آية الإباحة بالروايات الدالة على تحريم النكاح الدائم، وأما لدعوى ظهور الآية الكريمة في المتعة دون العقد الدائم، ونقل عن الحسين والصَدُوقَيْنِ جواز الدائم أيضًا"3.
وهذا محمد حسين الطباطبائي -أيضًا- يقول بجواز نكاح الكتابية في تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 4، بعد أن بيَّن بيانًا فيه طول أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب، قال بعد ذلك: فقد ظهر من هذا البيان على طوله أن ظاهر الآية؛ أعني: قوله تعالى:
__________
1 سورة البقرة: من الآية 221.
2 سورة المائدة: من الآية 5.
3 البيان في تفسير القرآن: أبو القاسم الخوئي ج1 ص306، 307.
4 سورة البقرة: من الآية 221.(2/506)
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} قَصْرُ التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب.
ومن هنا يظهر فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة؛ وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1 الآية.
أو أن الآية؛ أعني قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، وآية الممتحنة؛ أعني قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 2، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة.
وجه الفساد: أن هذه الآية -أعني: آية البقرة- بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب، وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية؛ فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة، وإن أخذ فيها عنوان الكوافر، وهو أعم من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإن الظاهر أن إطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية؛ بحيث يوجب صدقة عليه انتفاء صدق المؤمن عليه، كما يشهد به قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين} 3، إلا أن ظاهر الآية -كما سيأتي إن شاء الله العزيز- أن مَن آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها؛ أي: إبقاؤها على الزوجية السابقة، إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.
ولو سلم دلالة الآيتين -أعني: آية البقرة، وآية الممتحنة- على تحريم نكاح الكتابية ابتدائيًّا لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة؛ وذلك لأن آية المائدة
__________
1 سورة المائدة: من الآية 5.
2 سورة الممتحنة: من الآية 10.
3 سورة البقرة: من الآية 98.(2/507)
وارادة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخية؛ بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بُني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.
على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منسوخة، ولا معنى لنسخ السابق اللاحق1.
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج2 ص203، 204.(2/508)
الحجاب:
والحجاب -كما قلنا- متفق على وجوبه بين المسلمين؛ ولكن اختلفوا في حدوده، وهذا محمد جواد مغنيه يقول في تفسير قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1، والمراد بالزينة هنا موضعها؛ لأن الزينة بما هي لا يحرم النظر إليها، والمراد بالظاهر من موضع الزينة الوجه والكفان فقط، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على وجوب الحجاب، وأن جميع بدن المرأة عورة إلا ما استُثنِي منه؛ أي: الوجه والكفين، فقد سُئل الإمام جعفر الصادق "ع" عن الذراعين: هل هما من الزينة التي قال الله عنها: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ؟ فقال: نعم، وما دون الوجه والكف من الزينة؛ أي: المحرمة. وفي أحكام الآيات للجصاص أحد أئمة الأحناف: "والمراد بما ظهر الوجه والكفان". وفي تفسير الرازي الشافعي: "اتفقوا على أن الوجه والكفين ليسا بعورة"2.
وقال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} 3 الآية: "إن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} عام يشمل الستر والحجاب لجميع أجزاء البدن، بما فيه الرأس
__________
1 سورة النور: من الآية 31.
2 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج5 ص415.
3 سورة الأحزاب: من الآية 59.(2/508)
والوجه، ويؤيد هذا الشمول قوله سبحانه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} ، فقد كانت المسلمات في أول الإسلام يخرجن من بيوتهن سافرات متبذلات على عادة الجاهلية؛ فطلب سبحانه من نبيه الكريم في هذه الآية أن يأمرهن بالستر والحجاب، والأمر يدل على الوجوب فيكون الحجاب واجبًا.
أجل، لقد خرج من هذا العموم الوجه والكفان؛ لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} "1 2.
وأما محمد حسين الطباطبائي فقال في تفسير آية الأحزاب: "وأما قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فالإبداء الإظهار، والمراد بزينتهن مواضع الزينة؛ لأن نفس ما يتزين به كالقرط والسوار ولا يحرم إبداؤها فالمراد بإبداء الزينة إبداء مواضعها من البدن.
وقد استثنى الله سبحانه منها ما ظهر، وقد وردت الرواية أن المراد بـ {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان والقدمان كما سيجيء إن شاء الله"3.
وقد أورد الطباطبائي في البحث الروائي عددًا من رواياتهم في تحديد حجاب المرأة؛ منها قوله: "وفيه -الكافي- بإسناده عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: قلت له: ما يحل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرمًا؟ قال: الوجه والكفان والقدمان.
أقول: ورواه في الخصال عن بعض أصحابنا عنه -عليه السلام- ولفظه: الوجه والكفين والقدمين.
وفي قرب الإسناد للحميري عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر -عليه السلام- قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحل له؟ قال: الوجه والكف وموضع السوار"4.
__________
1 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج6 ص240.
2 سورة النور: 31.
3 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج15 ص111.
4 المرجع السابق: ج15 ص116.(2/509)
هذا ما قاله محمد حسين الطباطبائي، وذاك ما قاله محمد جواد مغنيه، ومن هذه النصوص عنهما يتضح أنهما يريان أن المستثنى من الزينة التي لا يصح أن ينظر إليها الرجل الأجنبي هما الوجه والكفان، وزاد الطباطبائي القدمين، وقد سبق بيان آراء أصحاب المذاهب الأربعة أهل السنة والجماعة، بما يعفيني من مناقشة أدلتهما والرد عليهما، وبما يثبت الحق -إن شاء الله- فانظره عند حديثنا عن تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني.(2/510)
إرث الأنبياء:
والشيعة خلاف أهل السنة والجماعة في أن الأنبياء -عليهم السلام- يورثون، ويستدلون بما حكاه الله سبحانه وتعالى من دعاء زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1.
وقد أفاض محمد حسين الطباطبائي في تفسير هذه الآية على مذهب الشيعة فقال: "والمراد بالوراثة وراثة ما تركه الميت من الأموال وأمتعة الحياة، وهو المتبادر إلى الذهن من الإرث بلا ريب؛ إما لكونه حقيقة في المال ونحوه مجازًا في غيره كالإرث المنسوب إلى العلم وسائر الصفات والحالات المعنوية، وإما لكونه منصرفًا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع، فاللفظ على أيِّ حال ظاهر في وراثة المال، ويتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، ويزيد في ظهروه في ذلك قوله قَبْلُ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} "2.
ثم بدأ السيد الطباطبائي يرد على بعض الأقوال التي فسرت الإرث بإرث النبوة أو إرث العلم أو إرث التقوى، رَدَّ على القول الأول منها بقوله: "يدفعه ما عرفت آنفًا أن الذي دعاه -عليه السلام- إلى هذا الدعاء والمسألة هو ما شاهده من مريم، ولا خبر في ذلك عن النبوة ولا أثر، فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة وكرامة فيعجبه ذلك وبين أن يطلب من ربه ولدًا يرثه النبوة؟
__________
1 سورة مريم: 5، 6.
2 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج14 ص11.(2/510)
على أن النبوة مما لا يورث بالنسب، وهو ظاهر، ولو أصلح ذلك بان المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازًا ظهر الإشكال من جهة أخرى؛ وهي عدم ملاءمة ذلك قوله بعد: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ؛ إذ لا معنى لقول القائل: هب لي من لدنك ولدًا نبيًّا واجعله رضيًّا، ولو حُمل على التأكيد كان من تأكيد الشيء بما هو دونه، وكذا احتمال أن يكون المراد بالرضي المرضي عند الناس؛ لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم، مع عدم مناسبته لداعيه كما مر"1.
وقد استطرد بعد ذلك في ردود أخرى على أقوال أخرى بما يطول نقله أو الإشارة إليه؛ فيكفي منها ما نقلناه.
وإن أردت الحق في هذه المسألة فانظر بيانه فيما نقلناه من تفسير الشيخ الشنقيطي في أول هذا البحث.
__________
1 المرجع السابق: ج14 ص11.(2/511)
قطع يد السارق:
وهذا أيضًا من مسائل الخلاف في الأحكام الفقهية بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة، فقد اتفقت المذاهب الأربعة الإسلامية على أن اليد تُقطع من مفصل الكف، أما الشيعة فلهم رأي آخر.
قال محمد جواد مغنيه في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 الآية: "أما كيفية القطع فقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الكف اليمنى تقطع من المفصل، وقال الإمامية: تقطع أصابعه الأربعة من الكف اليمنى وتترك الراحة والإبهام"2.
أما الطباطبائي فقد اختصر الحديث هنا على غير عادته فيما نقلناه عنه من أحكام؛ بل قد جاءت عبارته مجملة محتملة؛ حيث قال: "واليد ما دون المنكب
__________
1 سورة المائدة: من الآية 38.
2 التفسير الكاشف: محمد جواد مغنيه ج3 ص55.(2/511)
والمراد بها في الآية اليمين بتفسير السنة، ويصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة"1.
وكلامه هذا مجمل، تدخل تحته كل الأقوال التي قبلت من أن القطع من الكتف أو من المرفق أو من الكف أو أربعة أصابع؛ بل يدخل فيه ما لم يقل به أحد؛ وهو قطع بعض الأصبع.
وأعيدك مرة أخرى إلى تفسير أهل السنة والجماعة معدن الحق ومنهله؛ لتعرف هناك صحيح القول من سقيمه، أعاذنا الله وإياكم من سقمه.
تلكم أمثلة قليلة من آراء الفقه الشيعي المسمَّى بالفقه الجعفري، اقتصرت فيما أوردت من الخلاف بين فقههم وفق أهل السنة على ما ورد في القرآن الكريم -بل بعض ما ورد- أما باقي الخلاف وأكثره ففي آيات أخرى وفي مواضع لم يرد دليلها من الكتاب، وهي اختلافات كثيرة جعلت الفقه الجعفري فقهًا غير معترف به عند العلماء المعتبرَين.
وأذكر في هذه المناسبة واقعة جرت في رابطة العالم الإسلامي، حينما قدم مندوب إيران طلبًا باعتراف الرابطة بالمذهب الجعفري، ومعه وثيقة من بعض الجهات العلمية ذات الوزن الكبير "!! " تؤيده على دعواه وتجيبه إلى طلبه؛ فإن قبلوا طلبه دخلوا مأزقًا، وإن رفضوه واجهوا حرجًا؛ فاقترحوا أن يتولى الأمر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- وكان حينذاك عضوًا في المجلس التأسيسي للرابطة؛ فعقدت جلسة خاصة لذلك، فقال -رحمه الله- في هذا المجلس: لقد اجتمعنا للعمل على جمع شمل المسلمين والتأليف بينهم وترابطهم أمام خطر عدوهم، ونحن الآن مجتمعون مع الشيعة في أصول هي: الإسلام دين الجميع، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسول الجميع، والقرآن كتاب الله، والكعبة قبلة الجميع، والصلوات الخمس وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، ومجتمعون على تحريم المحرمات؛ من قتل وشرب
__________
1 الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي ج5 ص329.(2/512)
وزنا وسرقة ونحو ذلك، وهذا القدر كافٍ للاجتماع والترابط، وهناك أمور نعلم جميعًا أننا نختلف فيها، وليس هذا مثار بحثها، فإن رغب العضو الإيراني بحثها واتباع الحق فيها فليختر من علمائهم جماعة ونختار لهم جماعة ويبحثون ما اختلفنا فيه، ويعلن الحق ويلتزم به أو يسحب طلبه الآن، فأقر الجميع قوله -رحمه الله تعالى- وسحب العضو طلبه1.
وما أجمل أن نختم حديثنا عنهم وعن فقههم بهذه الحادثة!!
__________
1 انظر: ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الملحقة في آخر الجزء التاسع من تفسيره أضواء البيان، ص 50، 51.(2/513)
ثالثا: فقه الأباضي
مدخل
...
ثالثًا: الفقه الإباضي
لا يكاد الباحث يجد من فارق كبير بين الفقه الإباضي وفقه المذاهب الأربعة عند أهل السنة والجماعة إلا النادر، وإلا مثل ما يقع بين مذهب وآخر منها.
وقد ذكر الشيخ أبو الربيع سليمان الباروني -من الإباضية- بعض أوجه الخلاف بين أهل السنة والجماعة والإباضية في مسائل العقيدة، وعقب على ما ذكر قائلًا: "وما عدا ما تقدم فالخلاف فيه، سواء في العبادات والمعاملات، شأنه شأن الخلافات الواقعة بين المذاهب الأربعة، فما تجده سائغًا عند الإباضية والمالكية قد تجده ممنوعًا عند الحنفية والشافعية مثلًا والعكس، وهكذا في أغلب المسائل"1.
وقد نظرت في بعض الخلافات ولم أجد من فارق، اللهم إلا المسح على الخفين؛ إذ يرى أهل السنة والجماعة أنه متواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الإباضية لا يقولون به، وما عدا هذا فيما اطلعت لا يكاد يُذكر.
ولذا فإني أقتصر على بعض الأمثلة على تفسيرهم لبعض ما ورد من آيات الأحكام.
وكما كانت دراستي عن منهج الإباضية في التفسير معتمدة على تفسيرين للشيخ محمد بن يوسف إطفيش؛ لعدم وجود سواهما، فإن الأمر كذلك هنا.
الأمثلة:
__________
1 مختصر تاريخ الإباضية: أبوالربيع سليمان الباروني ص69.(2/514)
مسح الرجلين:
وفرضهما في الوضوء ورد في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1، قال الشيخ إطفيش في تفسيرها: " {وَأَرْجُلَكُمْ} عطف على وجوه أو ايدي، فهو مغسولة كما جاءت به السنة وعمل الصحابة، وهو قول الجمهور، وكما جاء الحد بقوله عز وجل: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ولم يجيء في المسح الحد، وساغ الفصل بين المتعاطفين بجملة غير معترضة -وهي {فَاغْسِلُوا} - للإيماء إلى تقليل صب الماء حتى كأنها تمسح كالرأس؛ لأنها مظنة الإسراف في الماء إلى الآن، وإلى الترتيب وجوبًا أو ندبًا، ولو كانت الواو لا تفيده لكن يستفاد بذكرها بعد، والترتيب يفاد بالذكر إذا لم يكن مانع كما يفاد بحرفه كالفاء، قال صلى الله عليه وسلم في السعي: "أبدأ بما بدأ الله به"، ولولا قصد الترتيب لم يفصل بالرأس، وليس واجبًا عندنا وعند أبي حنيفة ... ثم إنها كانت إن تمسح فقد نسخ مسحها بالحديث. قال عطاء: والله ما علمت أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، وعن عائشة -رضي الله عنها-: لأن تقطعا أحب إليَّ من أن تمسحا"2.
ولعل هناك صلة بين شدة إنكارهم لمسح الرجلين في الوضوء، وإنكارهم لمسح الخفين، إلا أن الشيخ إطفيش لم يتناول الأخير في تفسيره.
__________
1 سورة المائدة: من الآية 6.
2 تيسير التفسير: محمد بن يوسف إطفيش "الطبعة الأولى" ج2 ص30، 31.(2/515)
نكاح الكتابيات:
أما نكاح الكتابية، فإنهم فرقوا بين الحربية والذمية؛ فحرموا الأولى منهن. قال الشيخ في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 1: "ولو كتابيات ذميات، جروا على تحريم الكتابيات الذميات كغيرهن، ثم نسخ تحريمهن بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 2، وبقيت
__________
1 سورة البقرة: من الآية 221.
2 سورة المائدة: من الآية 5.(2/515)
الكتابيات المحربات وسائر المشركات على التحريم، ولو اقترنت الآيتان لقلت: إن ذلك تخصيص للعموم، كما اشتهر في المذهب وعند الشافعية من أن ذلك من تخصيص العام، ومن جواز تأخير دليل الخصوص في العموم، ولو كانت مقارنة بين العام والخاص، ولك أن تقول: لا نسخ ولا تخصيص؛ بل المشركات في الآية غير الكتابيات؛ لأنه كثر في القرآن مقابلة المشركات بالكتابيات؛ كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} 1، ولو كان أهل الكتاب أيضًا مشركين؛ لقوله سبحانه: {عَمَّا يُشْرِكُون} 2، وأجاز بعض قومنا نكاح الحربيات الكتابيات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وليس بشيء، ونص ابن عباس على المنع وهو الصحيح"3.
وقد أكد هذا المنع في تفسيره لآية المائدة فقال: "ولا تحل الحربية ولو حرة عندنا، وهو قول ابن عباس؛ لبعد شأنها، ولأن التزوج بر، وقد قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّه} 4 ... إلخ، وقال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا} 5 ... إلخ، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 6، وكيف يكون الود والرحمة للكافرة؟! ويستثنى من ذلك الحب الممنوع مقدار مخصوص للكتابية التي ليست محاربة، فيجوز في حقها لها على متزوجها، وذهب البعض إلى أن هذه الآيات تفيد الكراهة فقط، وعن الشافعي كراهة تزوج الحرة الكتابية المحاربة، وأباحها الشافعية"7.
__________
1 سورة البينة: من الآية الأولى.
2 سورة التوبة: من الآية 31.
3 تيسير التفسير: محمد بن يوسف إطفيش ج1 ص335.
4 سورة الممتحنة: من الآية 9.
5 سورة المجادلة: من الآية 22.
6 سورة الروم: من الآية 21.
7 تيسير التفسير: محمد يوسف إطفيش ج2 ص25.(2/516)
الإصباح على جنابة:
وعند الإباضية أنه يجب الكف عن الجماع قبل وقت الإمساك بوقت كافٍ للغسل، فإن أصبح جنبًا فقد أفطر، وقد أشار إلى ذلك إشارة سريعة الشيخ إطفيش عند تفسيره لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر} 1، فقال: "حتى" غاية للأكل والشرب لا لهما وللجماع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبًا أصبح مفطرًا" 2؛ فيجب الكف عنه إذا لم يبق ما يتطهر فيه"3.
هذه بعض الأمثلة على تفسير آيات الأحكام عند الشيخ محمد بن يوسف إطفيش، وإن كنت قد اكتفيت بالقليل فمرجع ذلك غلى ضيق مجال الخلاف بيننا وبينهم في الأحكام الفقهية؛ وإنما ينحصر الخلاف الكبير في بعض العقائد، وقد سبق تناولنا لهذا الخلاف في موضع آخر ليس هذا محله.
وبنهاية حديثي عن تفسير آيات الأحكام عند الإباضية ينتهي حديثنا عن تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث.
ولا أحسبني بحاجة إلى إبداء الرأي فيه؛ فقد ذكرت رأيي في كل منهج من هذه المناهج عند ذكره وتناوله أمثلته، وما لم أناقشه من الآراء الفقهية عند الشيعة أو الإباضية فإنما فعلت ذلك اكتفاءً بذِكْرِي تفسير أهل السنة له في موضعه؛ إذ هو المقياس الصحيح، وبالله التوفيق.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 187.
2 ابن ماجه: كتاب الصيام ج1 ص520.
3 تيسير التفسير: محمد بن يوسف إطفيش ج1 ص273.(2/517)
الفصل الثاني: المنهج الأثري في التفسير
المراد به:
نقصد بالمنهج الأثري في التفسير ما يُعرف بالتفسير بالمأثور، وقد اتفق أهل التفسير -إلا فيما ندر- على أن المراد به: ما جاء في القرآن الكريم نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن أصحابه -رضي الله عنهم- من ذلك، واختلفوا فيما نقل عن التابيعن -رحمهم الله تعالى- هل هو من التفسير بالمأثور أو من التفسير بالرأي؟
ومما لا شك فيه أن أصح طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسيره بالسنة، ثم تفسيره بأقوال الصحابة، وإلى هذه الدرجات ينقسم التفسير بالمأثور.
وقد أَوْلَى علماء التفسير من السلف التفسير بالمأثور -بأنواعه السالفة- عناية كبيرة؛ فأوردوا في تفاسيرهم الكثير والكثير منها، وزادوا عليه أحيانًا ببيان آرائهم بالترجيح فيما فيه احتمال.
وليس من الحق الاعتقاد بأن التصنيف في التفسير بالمأثور عمل آلي ليس لصاحبه من عمل فيه إلا النقل؛ بل إن هذا النوع من التفسير يحتاج إلى جُهْد من المفسر وجُهْد من القارئ للتفسير لتحري مذهب المفسِّر، جُهْد من المفسر ليجمع حول الآية "ما يرى" أنها متجهة إليه، فيقصد إلى "ما يتبادر إلى ذهنه" من معناها، وتحت هذا التأثير قد يقبل مرويًّا ويُعنَى به ولو لم يكن صحيحًا، ويرفض(2/519)
مرويًّا حين لا يرتاح إليه، وجُهْد من القارئ لاستشفاف مذهب المفسر وآرائه، وتحري الآثار التي رفضها المفسر لعدم موافقتها له؛ ومن ثم كان التفسير المأثور لصاحب الرأي من أخطر التفاسير؛ حيث إن المفسر بالرأي ينص على رأيه صريحًا؛ بينما ذو الرأي المفسر بالمأثور يلبس آراءه ثوب المأثور فيخدع به مَن لا يعرف صحيحه من ضعيفه.
ولا يقلل هذا بحال من الأحوال من قيمة التفسير بالمأثور؛ إذ المراد بثناء العلماء ما صح من التفسير بالمأثور وليس ما دونه.
وليس من شأننا هنا بحيث هذا النوع من التفسير والتوسع فيه، فذلك شأن آخر لا يعنينا هنا، ما دام الاتفاق على تقدميه قائمًا وعلى فضله دائمًا، فلننظر في تفاسير القرن الرابع عشر الهجري، ولننظر موقعها من هذا التفسير.(2/520)
التفسير بالمأثور في القرن الرابع عشر الهجري:
مما يؤسف له ويحز في النفس أني لم أكد أجد مَن يُعنَى بهذا النوع من التفسير، ويوليه جل اهتمامه من مفسير القرن الرابع عشر الهجري، وحاشا أن أسيء بهم الظن فأعتقد أنهم ينكرونه، وحاشا أن أسيء الظن بعلمهم فأظنهم لا يدركونه.
وإن التمست لهم عذرًا بعد ذلك فلا أظنه إلا أنهم اكتفوا من التفسير بالمأثور بمعانيه عن ألفاظه ونصوصه، فإن عرضت لهم آية من القرآن يفسرونها ذكروا التفسير من غير أن يذكروا الآية المفسرة، أو ذكروه من غير ذكر الحديث الصحيح فيه.
والذي يجعلني أجزم جزمًا بقيمة هذا النوع من التفسير عند مفسري القرن الرابع عشر حرص بعضهم على وصف تفاسيرهم به؛ بل اشتقاق أسمائها منه، فهذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- يسمي تفسيره: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وأحسبه اسمًا على مسمى.(2/520)
بل تعلق بهذه التسمية مَن لم يلتزمها ولا يقصد التزامها، فهذا الأستاذ عبد الكريم الخطيب يسمِّي تفسيره: "التفسير القرآني للقرآن"، وهو كما يقول في مقدمة تفسيره لم يكتب فيه إلا ما وقع في مشاعره "!! " من صور العجب والدهش والروعة عندما يرتيل آيات الله ترتيلًا.
وتعلق بهذه التسمية مَن ادعاها لدس آراء مختلفة وتلبيسها هذا اللباس المحبب إلى المؤمنين، فهذا محمد الصادقي من مفسري الشيعة يسمِّي تفسيره: "الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة".
بل وقد تعلَّق بهذه التسمية أحد الملحدين في هذا العصر، واتخذ من هذه التسمية ستارًا لإلحاده وكفره، يحسب أنه يخدع بهذا المؤمنين، فهذا محمد أبو زيد يسمِّي تفسيره -بل إلحاده- "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
قصدت من هذا بيان أن التفسير بالمأثور ليس شعارًا يُتخذ؛ بل هو مضمون يُلتزم، وقصدت أن أبيِّن منزلة هذا النوع من التفسير -أعني: التفسير بالمأثور- عند المعاصرين؛ حتى التزمه أهل الحق وادعاه أهل الضلال والإلحاد.
ثم أني نظرت فيما بين يدي من التفاسير في القرن الرابع عشر فوجدت أكثرها اهتمامًا بالتفسير بالمأثور هما:
1- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
2- الموجز في تفسير القرآن الكريم "المصفى" الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، تأليف المستشار محمد رشدي حمادي.
ولذا، فإني آثرت أن أفرد كلًّا منهما بدراسة موجزة:(2/521)
أولا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
مدخل
...
أولًا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
أما المؤلف: فهو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وقد سبقت ترجمته.
أما الكتاب: فهو هو أضربه مثلًا مرة أخرى؛ ولكن للتفسير بالمأثور هنا.
وما ذنبي إذا كان المؤلف -رحمه الله تعالى- التزم مذهب هل السنة والجماعة فضربته لهم مثلًا، وما ذنبي إذا كان -رحمه الله- قد برع في تفسير آيات الأحكام؛ فاقتبست من تفسيره لها أمثلة للتفسير الصحيح، وما ذنبي ثالثة إذا كان -رحمه الله- قد برز على أقرانه في التفسير بالمأثور؛ فكان بحق إمام المفسرين في القرن الرابع عشر.
فهل يشفع لي إن ذكرته وشكرته في جانب أن أغمطه حقه في جانب آخر؟ لا أظن هذا، ولا يخطر لي ببال، كيف وهو قد صرح في مقدمة تفسيره تصريحًا لا لبس فيه أن من أهم المقصود بتأليفه أمرين:
أحدهما: بيان القرآن بالقرآن؛ لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جلا وعلا من الله جل وعلا1.
ثم شرح الطريقة التي التزمها في هذا النوع من التفسير بقوله: "وقد التزمنا أنا لا نبيِّن القرآن إلا بقراءة سبعية، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها، ولا نعتمد على البيان بالقراءات الشاذة، وربما
__________
1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3.(2/522)
ذكرنا القراءة الشاذة استشهادًا للبيان بقراءة سبعية، وقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف ليست من الشاذ عندنا ولا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات"1.
وذكر أن الأمر الثاني من مقصوده في هذا التفسير بيان الأحكام الفقهية، فإذا كان مقصوده بيان القرآن وتفسير آيات الأحكام، فهو بلا شك مثال صحيح لهذين المنهجين في التفسير، وإذا كان قد التزم فيهما بمذهب أهل السنة والجماعة لم يحد عنه فهو مثال أيضًا يجب اعتباره.
__________
1 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص3.(2/523)
أمثلة من تفسيره:
ذكرنا آنفًا أن التفسير بالمأثور على ثلاثة طرق؛ أصحها تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة. وعلى هذه الطرق الثلاثة سيكون سيرنا بإذن الله في هذا التفسير المبارك.
أولًا: تفسير القرآن بالقرآن:
وهذا النوع من التفسير هو الذي أبرزه المؤلف في تفسيره واعتنى به عناية كبيرة؛ بل أفرده بدراسة قيِّمة في مقدمة تفسيره، لا أحسبك تجدها بهذا الجمع والتتريب عند سواه، ولولا أنه ذكر من أنواع بيان القرآن بالقرآن أكثر من عشرين نوعًا في أكثر من عشرين صفحة لسقتها لك بحذافيرها؛ فهي الكنز عليك به من معدنه، وتعجب حين تقرأ له بعد أن عدَّد هذه الأنواع قوله: "واعلم -وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه- أن هذا الكتاب المبارك -يعني: تفسيره- تضمن أنواعًا كثيرة جدًّا من بيان القرآن بالقرآن غير ما ذكرنا، وتركنا ذكر غير هذا منها خوف إطالة الترجمة، والمقصود بما ذكرنا من الأمثلة مطلق بيان كثرة الأنواع التي تضمنها واختلاف جهاتها -وفي البعض تنبيه لطيف على الكل- والغرض أن يكون الناظر في الترجمة على بصيرة مما يتضمنه الكتاب في الجملة قبل الوقوف على جميع ما فيه"1.
__________
1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص26.(2/523)
ولذا فلا تثريب عليَّ أن ذكرت بعض الأمثلة لبعض الأنواع التي جاءت في تفسيره -رحمه الله تعالى- فهي أنواع كثيرة وأمثلة أكثر، فمن ذلك:
بيان الإجمال:
وقد ذكر -رحمه الله تعالى- في مقدمة تفسيره أن الإجمال يكون بسبب الاشتراك، سواء كان الاشتراك في اسم أو فعل أو حرف.
ومن الاشتراك في اسم قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} 1، قال -رحمه الله تعالى- في ذلك: "في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به القديم؛ لأنه أقدم مواضع التعبد.
الثاني: أن الله أعتقه من الجبابرة.
الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقًا وعاتقًا، ومنه قول حسان رضي الله عنه:
كالمسك تخلطه بماء سحابة ... أو عاتق كدم الذبيح مدام
لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنًا طويلًا، وتسمي الكرم عتقًا، ومنه قول كعب بن زهير:
قنواء في حرتيها لبصير بها ... عتق مبين وفي الخدين تسهيل
فقوله عتق مبين؛ أي: كرم ظاهر، ومنه قول المتنبي:
وبين عتق الخيل في أصواتها
أي: كرمها، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق، وهو معروف.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه قد دلت آية من كتاب الله على أن العتيق في الآية بمعنى: القديم الأول، وهي قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} الآية، مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق؛ ولكن القرآن دل على
__________
1 سورة الحج: من الآية 29.(2/524)
ما ذكرنا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن"1.
وقد يكون الإجمال بسبب إبهام في اسم جنس جمعًا كان أو مفردًا أو اسم جمع أو صلة موصول أو معنى حرف.
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مجموع قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 2، قال -رحمه الله تعالى- في ذلك: "لم يبين هنا ما هذه الكلمات؛ ولكنه بيَّنها في سورة الأعراف بقوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} "3، 4.
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مفرد قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} 5 الآية، قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم؛ ولكنه بينها في القصص بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} "6، 7.
ومن أمثلة هذا النوع -أعني: أن يكون الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مفردًا- قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 8، قال -رحمه الله تعالى-: "فقد بينها بقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 9 ونحوها من الآيات"10.
__________
1 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج5 ص686، 687.
2 سورة البقرة: من الآية 37.
3 سورة الأعراف: من الآية 23.
4 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج1 ص63.
5 سورة الأعراف: من الآية 137.
6 سورة القصص: الآيتين 5، 6.
7 أضواء البيان: محمد الأمين الشنقيطي ج2 ص297.
8 سورة الزمر: من الآية 71.
9 سورة السجدة: من الآية 13.
10 أضواء البيان: للشنقيطي ج1 ص8.(2/525)
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جمع قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} 1 الآية، قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا مَن هؤلاء القوم؛ ولكنه صرح في سورة الشعراء بأن المراد بهم بنو إسرائيل؛ لقوله في القصة بعينها: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيل} 2 الآية، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 3 الآية" 4.
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في صلة موصول قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] قال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "لم يبين هنا مَن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، وبيَّن ذلك في موضع آخر بقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} "5.
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في معنى حرف قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 6، وقال -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} 7، والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور"8.
__________
1 سورة الأعراف: من الآية 137.
2 سورة الشعراء: من الآية 59.
3 سورة الأعراف: من الآية 137.
4 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج2 ص297.
5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص35، والآية من سورة النساء: 69.
6 سورة البقرة: من الآية 3.
7 سورة البقرة: من الآية 219.
8 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص38.(2/526)
ومن أنواع البيان: بيان الإجمال الواقع بسبب احتمال في مفسر الضمير، ومن أمثلته قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد} 1.
قال -رحمه الله تعالى-: "فإن الضمير يحتمل أن يكون عائدًا إلى الإنسان، وأن يكون عائدًا إلى رب الإنسان المذكور في قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} 1؛ ولكن النظم الكريم يدل على عوده إلى الإنسان، وإن كان هو الأول في اللفظ؛ بدليل قوله بعده: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} 1، فإنه للإنسان بلا نزاع وتفريق الضمائر بجعل الأول للرب والثاني للإنسان لا يليق بالنظم الكريم"2.
ومن أنواع البيان: أن يذكر شيء في موضع ثم يقع سؤاله عنه في موضع آخر؛ كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} 3، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "لم يبين هنا ما العالَمون، وبيَّن ذلك في موضع آخر بقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} 4 الآية"5.
ومن أمثلته قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 6، قال -رحمه الله تعالى-: "لم يبينه هنا وبينه في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} 7 الآية"8.
ومن أنواع البيان التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى أن يذكر أمر في موضع، ثم يذكر في موضع آخر شيء يتعلسق بذلك الأمر، كأن يذكر له سبب أو مفعول او ظرف مكان أو ظرف زمان أو متعلق.
__________
1 سورة العاديات: الآيات 6-8.
2 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص9، 10.
3 سورة الفاتحة: الآية الأولى.
4 سورة الشعراء: من الآيتين 23، 24.
5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص33.
6 سورة الفاتحة: الآية 4.
7 سورة الانفطار: الآيات 17-19.
8 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص34.(2/527)
فمثال ذكر سببه قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} 1، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "لم يبين هنا سبب قسوة قلوهم؛ ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 2، وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} 3 الآية"4.
ومن أمثلة المتعلق قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَان} 5 الآية، وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة} 6، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} 7 فقد ذكر لانشقاقها متعلقًا في الفرقان في قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} 8 الآية9.
هذه بعض الأمثلة الكثيرة جدًّا، والتي وردت في تفسيره -رحمه الله تعالى- على أصح طرق التفسير؛ ألا وهو تفسير القرآن بالقرآن، وهو النوع الأول من التفسير بالمأثور.
ثانيا: تفسير القرآن بالسنة
أما تفسير القرآن بالسنة ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أورد -رحمه الله تعالى- عددًا كثيرًا منها، وهذه بعضها:
فمن ذلك: تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
__________
1 سورة البقرة: من الآية 74.
2 سورة المائدة: من الآية 13.
3 سورة الحديد: من الآية 16.
4 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص16.
5 سورة الرحمن: من الآية 37.
6 سورة الحاقة: من الآية 16.
7 سورة الانشقاق: الآية الأولى.
8 سورة الفرقان: الآية 25.
9 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص15.(2/528)
وَلا الضَّالِّينَ} 1، قال: "قال جماهير من علماء التفسير: "المغضوب عليهم" اليهود "الضالون" النصارى، وقد جاء الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه"2.
وقال في تفسير قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3، وأما الذين قالوا الأطهار فاحتجوا بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} 4 "قالوا: عدتهن المأمور بطلاقهن لها الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية، ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمره الله"5، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، مبينًا أن ذلك هو معنى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِن} ، وهو نص من كتاب الله وسنة نبيه في محل النزاع.
قال مقيده -عفا الله عنه- الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا فصل في محل النزاع؛ لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار؟ وهذه الآية وهذا الحديث دل على أنها الأطهار.
ولا يوجد في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في النزاع؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى"6.
وفي تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 7، قال -رحمه الله تعالى-: "أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على مَن يتقي غيره؛ لأنه لا ينبغي أن يتقي إلا
__________
1 سورة الفاتحة: من الآية 7.
2 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص37.
3 سورة البقرة: من الآية 228.
4 سورة الطلاق: الآية الأولى.
5 البخاري: التفسير ج6 ص67، مسلم: الطلاق ج2 ص1093.
6 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج1 ص130.
7 سورة النحل: من الآية 52.(2/529)
من بيده النفع كله والضَّر كله؛ لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك" -إلى أن قال- وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" 1، وفي حديث ابن عباس المشهور: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" 2، 3.
وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} 4 الآيتين، قال: وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحًا في أحاديث كثيرة.
منها ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والجلوس بالطرقات"، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها، قال: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" انتهى.
هذا لفظ البخاري في صحيحه5، وذكر -رحمه الله تعالى- عددًا من الأحاديث غير هذا.
والأمثلة في تفسيره القرآن بالسنة كثيرة جدًّا؛ منها ما هو تفسير مُبهم، ومنها ما هو تخصيص للعام، ومنها ما هو مقيد لمطلق، ومنها ما هو بيان لمعنى أو متعلقه،
__________
1 البخاري: كتاب الأذان ج1 ص205، مسلم: كتاب الصلاة ج1 ص347.
2 رواه الإمام أحمد في سنده ج1 ص293، والترمذي في سننه: كتاب القيامة، باب 59 ج4 ص667.
3 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج3 ص256، 257.
4 سورة النور: الآيتين 30، 31.
5 أضواء البيان: محمد الشنقيطي ج6 ص190، وانظر البخاري: كتاب المظالم ج3 ص103.(2/530)
ومنها ما هو بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن، ومنها ما هو بيان للناسخ والمنسوخ، ومنها ما هو تأكيد لما جاء في القرآن، وغير ذلك.
ثالثا: تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
والمؤلف -رحمه الله تعالى- كثيرًا ما يستشهد بالتفسير الصحيح لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما يذكر لتفاسيرهم شواهد من آيات القرآن الكريم أو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ففي تفسير قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
قال -رحمه الله تعالى-: " {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وقع نظيره قطعًا لأهل مكة لما لجوا في الكفر والعناد، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" 2، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء حتى أكلوا الجيف والعلهز -وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه- وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن، وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته وبعوثه وسراياه، وهذا الجوع والخوف أشار لها القرآن على بعض التفسيرات؛ فقد فسر ابن مسعود آية "الدخان" بما يدل على ذلك".
ثم ذكر -رحمه الله تعالى - بعض الروايات عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وعقب عليها قائلًا: "وفي تفسير ابن مسعود -رضي الله عنه- لهذه الآية الكريمة- ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في "سورة النحل" من لباس الجوع أذيقه أهل مكة حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم
__________
1 سورة النحل: الآية 112.
2 البخاري: كتاب التفسير ج6 ص39، صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين ج4 ص2157.(2/531)
يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع، وهذا التفسير من ابن مسعود -رضي الله عنه- له حكم الرفع لما تقرر في علم الحديث من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع، كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله:
تفسير صاحب له تعلق ... بالسبب الرفع له محقق
وكما هو معروف عند أهل العلم"1.
وقال -رحمه الله تعالى- مثل هذا التوثيق لتفسير الصحابي عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 2، فساق الحديث الذي رواه الشيخان وأبو داود والترمذي3، عن جابر -رضي الله عنه- قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول؛ فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 4، ثم علق على ذلك قائلًا: "فظهر من هذا أن جابرًا -رضي الله عنه- يرى أن معنى الآية: فائتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها"5، ثم قال: "والمقرر في علوم الحديث" ... إلخ النص السابق قبل أسطر.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 6 الآية، قال -رحمه الله تعالى-: "لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء؛ وعليه ففي الآية نوع إجمال، والمعنى كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: إنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره، فإن كانت جميلة تزوجها
__________
1 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص340-342.
2 سورة البقرة: من الآية 222.
3 البخاري: كتاب التفسير ج5 ص160، مسلم: النكاح ج2 ص1058، سنن أبي داود: النكاح ج2 ص249، والترمذي: التفسير ج5 ص215.
4 سورة البقرة: من الآية 223.
5 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص124.
6 سورة النساء: من الآية 3.(2/532)
من غير أن يقسط في صداقها، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره؛ لئلا يشاركه في مالها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ... وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنه- يبينه ويشهد له قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} 1.
وقالت رضي الله عنها: إن المراد بما يُتلَى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية؛ فتبين أنها يتامى النساء؛ بدليل تصريحه بذلك في قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} الآية، فظهر من هذا أن المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن, وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه، وهذا هو أظهر الأقوال لدلالة القرآن عليه"2.
وكذا في تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 3، قال -رحمه الله تعالى-: "في معنى هذه الآية أوجه للعلماء؛ منها: أن المعنى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلًا، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس -رضي الله عنهم- ويشهد له قوله تعالى في أول الآية: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ} الآية، وهو ظاهر"4.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} 5، قال -رحمه الله تعالى-: "والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع، وهذا قول
__________
1 سورة النساء: من الآية 127.
2 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص266، 267.
3 سورة النساء: من الآية 141.
4 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص377.
5 سورة النساء: من الآية 12.(2/533)
أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأكثر الصحابة، وهو الحق إن شاء الله تعالى"1.
هذه بعض الأمثلة لتفسير الصحابة -رضي الله عنهم- التي أوردها المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره، والمطلع على تفسيره يدرك بحق اهتمامه -رحمه الله تعالى- بتحري تفسير الصحابة -الصحيح منه- والقول به، والاستشهاد لما يعضده من الآي والحديث.
ومن هذه الأمثلة التي سقناها من تفسيره القرآن بالقرآن وبالسنة وبأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- يظهر أثر التفسير بالمأثور في تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "بما يجعله في مقدمة التفاسير في العصر الحديث من غير منازع حسب ما اطعلت عليه من التفاسير".
__________
1 أضواء البيان: الشنقيطي ج1 ص275.(2/534)
ثانيا: الموجز في تفسير القرآن الكريم
منهجه في التفسير
...
ثانيًا: الموجز في تفسير القرآن الكريم
ِ"المصفى: الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول"
أما المؤلف: فهو المستشار محمد رشدي حمادي، ولم أجد له ترجمة.
أما الكتاب: فهو الموجز في تفسير القرأن الكريم "المصفى الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول".
وبين يدي الجزء الأول منه، ويقع في 551 صفحة بدون الفهارس، وفيه تفسير سور: الفاتحة والبقرة وآل عمران، والجزء الثاني ويقع في 567 صفحة كذلك، وفيه تفسير سورة النساء والمائدة والأنعام.
وهما ما حصلت عليه من هذا التفسير الذي ليس فيه ما يدل على رَقْمِ الطبعة ولا تاريخها، وطبع هذان الجزآن في دار إحياء الكتب العربية.
منهجه في التفسير:
قال المؤلف في مقدمته للتفسير معرفًا به: "هو خلاصة التفاسير المجمع عليها بين المفسرين من علماء الأمة الإسلامية، وقد خلا من تأويلات المذاهب الشاذة، والإسرائيليات، والتفسير بالرأي، التي عمرت بها كتب التفاسير دون مبرر، فضلًا عن أنه تفسير وافٍ لفهم نصوص القرآن العظيم كما بيَّنها الرسول الكريم، وكما أجمع عليها المفسرون طوال العصور من تفسيرات لا تخرج النصوص عن مبانيها، وليس لي فيه من فضل سوى الاقتباس والاختيار، ولم أضف إليه بدعًا من المذاهب أو الآراء، وعلى الله قصد السبيل"1، وسنذكر إن شاء الله -آخر- ما التزم به من هذه الأمور وما لم يلتزم به.
__________
1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص3.(2/535)
أمثلة من تفسيره:
تفسير القرآن بالقرآن:
ففي الفاتحة مثلًا فسَّر "يوم الدين: من قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 1 بقوله: "وبينه الله تعالى في سورة الانفطار بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} "2 [الانفطار: 17-19] .
وفسر قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1 بقوله: "ويعني: الأنبياء والمؤمنين، وقد بينه في سورة النساء بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} "3 [النساء: 96] .
وفسر قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 1 بقوله: "وقال السهيلي: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} 4، وفي النصارى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} 5، 6.
ومن سورة البقرة مثلًا فسر قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 7 الآية، بقوله: "ونحن ذاكرون لك -إن شاء الله- ما يجلي المعنى في الآية، مقتفين أثر ابن العدل8 والقرطبي فيما قالاه في معنى "كان"، وأنها للثبوت لا للمضي، غير أنا نقدم لك ما جاء في كتاب الله من وصف الأمة بالواحدة، والمعنى من ذلك الوصف في مواضعه المختلفة؛ ليكون في ذلك توضيح لما نقصد إليه، وسند لنا فيما إليه نعمد، والله الموفق.
__________
1 سورة الفاتحة: الآيتين 4، 7.
2 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص8.
3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص9.
4 سورة البقرة: من الآية 90.
5 سورة المائدة: من الآية 77.
6 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص9.
7 سورة البقرة: من الآية 213.
8 هكذا ولعلها "ابن العربي".(2/536)
ورد وصف الأمة بالواحدة في قوله تعالى في سورة الأنبياء {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [21: 92، 93] جاءت هذه الآية الكريمة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} إلخ بعد ذكر جمع من الأنبياء -صلوات الله عليهم- وذكر ما كان من شأنهم مع قومهم، والخطاب فيها للأنبياء كما يفسره قوله تعالى في سورة المؤمنين بعدما ذكر من أحوال الأنبياء والمرسلين وما كان من أقوامهم معهم: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [23: 51-54] .
وقد جاء لفظ "أمة" بالنصب في الآيتين على الحال، والخبر قد تم في قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: هذا الجمع من الأنبياء والمرسلين أمتكم؛ أي: جماعتكم حال أنها أمة واحدة؛ أي: ليس جمعًا تربطه الروابط البعيدة، كما يقال: أمة الهند على اختلاف مللها وتفرق كلمتها؛ بل هي أمة تربطها رابطة قريبة هي رابطة الاهتداء بنور الله، والدعوة إلى توحيده، والقيام على شرعه، وحمل الناس على اتباع أحكامه، فهي مجتمعة على أمر واحد لا تعدد فيه هو الحق والعدل، فهي جديرة بأن تكون أمة واحدة، وإن شئت قلت كما قالوا: إن الأمة بمعنى الملة -في الآيتين- يراد بذلك أن الله يخبر المرسلين بأن هذا الذي سبق في الكلام من السير في الناس بهداية الله، والمثابرة على ذلك، وعدم المبالاة بما يكون منهم من تكذيب أو تعذيب، هذه هي ملتكم ودينكم وهو أمر واحد لا تعدد فيه، يأتي به السابق، ويتبعه عليه اللاحق، لا يختلف فيه نبي عن نبي، ولا يناكر فيه مرسل مرسلًا.
هذا المعنى من الوَحْدَة هو الذي جاء في قوله تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [11: 118] ، وفي قوله في سورة الشورى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} 1 [42: 8] ".
__________
1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص187، 188.(2/537)
هذا بعض ما قاله المؤلف جزاه الله خيرًا، وقد وأطال في الحديث عن هذه الآيات ونحوها وصلة بعضها ببعض.
وفي سورة آل عمران في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 1 الآية، قال بعد بيان: "واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره، قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158] "2.
ومنه أيضًا تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} 3، قال: "وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ومدحوا عليه في مثل قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [2: 1، 2] والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو مثل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [72: 26-29] "4.
ومن سورة النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} 5، قال في تفسيرها: "في الكلام إضمار تقديره: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقرينهم الشيطان {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} والقرين:
__________
1 سورة آل عمران: من الآية 55.
2 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص388.
3 سورة آل عمران: من الآية 179.
4 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص526.
5 سورة النساء: من الآية 38.(2/538)
المقارن؛ أي: الصاحب والخليل، والمعنى: مَن قَبِلَ من الشيطان في الدنيا فقد قارنه؛ أي: أن الحامل لأولئك المتكبرين على ما ذكر هو وسوسة الشيطان التي عبر عنها في آية البقرة بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [2: 268] ، فبيَّن أن هؤلاء قرناء الشيطان"1.
ومن سورة المائدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} 2، قال: "إلا ما يُتلى عليكم مما حرم؛ أي: يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} 3 الآية، من هذه السورة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "وكل ذي ناب من السباع حرام"، وهو الذي استثناه"3.
ومن سورة الأنعام في قوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 4، قال: "أي: قرأت الكتب، وقيل: "دارست" أي: دارست أهل الكتاب وتعلمت منهم، رُوي هذا عن ابن عباس، وأولى القراءات بالصواب عند الطبري قراءة مَن قرأ: "وليقولوا درست" بتأويل قرأت وتعلمت؛ لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] فهذا خبر من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره"5.
هذه بعض الأمثلة على تفسيره القرآن بالقرآن أصح طرق التفسير بالمأثور؛ بل أصح طرق التفسير على الإطلاق.
__________
1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص58.
2 سورة المائدة: الآية الأولى.
3 المرجع السابق: ج2 ص234.
4 سورة الأنعام: الآية 105.
5 المرجع السابق: ج2 ص498.(2/539)
تفسير القرآن بالسنة:
فمن ذلك مثلًا تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} 1،: قال: "يقول: لا تجعلوا الله بالحلف به مانعًا لكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس؛ ولكن إذا حلفتم على ألا تصلوا رحمًا ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر؛ فكفروا وائتوا الذي هو خير، وفي الحديث: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فائتِ الذي هو خير وكفر عن يمينك" 2 "3.
وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا} 4 الآية، قال: "وفي الحديث: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء" 5، 6.
وفي قوله تعالى عن امرأة عمران لما وضعت ابنتها مريم: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 7، قال: "وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يُولد فيستهل صارخًا من مس الشيطانه إيَّاه إلا مريم وابنها"، ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} "8.
__________
1 سورة البقرة: الآية 224.
2 صحيح البخاري: كتاب الإيمان ج7 ص216، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان ج11 ص116، إلا أن الحديث فيهما بتقديم "فكَفِّر عن يمينك" على "وائت الذي هو خير".
3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص213.
4 سورة البقرة: من الآية 275.
5 رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري.
6 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص271.
7 سورة آل عمران: من الآية 36.
8 الموجز في تفسير القرآن: محمد رشدي حمادي ج1 ص370، صحيح البخاري: التفسير ج5 ص166، ومسلم: الفضائل ج4 ص1838.(2/540)
وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، قال: "وفي الصحيحين عن ابن مسعود لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله: "ليس هو كما تظنون؛ إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " 2، 3.
ولولا خشية الإطالة لسقنا أكثر من ذلك من تفسيره القرآن بالسنة، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله.
تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
وهي الدرجة الثالثة من التفسير بالمأثور، وقد أورد الأستاذ محمد رشدي حمادي كثيرًا من هذا النوع من التفسير في تفسيره، نذكر منه:
في تفسيره: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 4، قال: "وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: قاضي يوم الدين، وهو يوم الحساب والقضاء فيه بين الخلائق؛ أي: يوم يدان فيه الناس بأعمالهم لا قاضي غيره"5.
وفي قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 6 الآية، قال: "عن ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة، لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين"7.
وفي قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 8، قال:
__________
1 سورة الأنعام: الآية 82.
2 سورة لقمان: من الآية 13.
3 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج2 ص 464.
4 سورة الفاتحة: من الآية 4.
5 المرجع السابق: ج1 ص8.
6 سورة البقرة: من الآية 225.
7 المرجع السابق: ج1 ص214.
8 سورة البقرة: من الآية 228.(2/541)
"وفي كتاب أبي داود والنسائي عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق بها، وإن طلقها ثلاثًا فنسخ ذلك وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية" 1.
وفي تفسير قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} 2 قال: "ورُوي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه، فكَبِرَ وأصاب الجنة أعصار؛ أي: ريح عاصف فيه نار فاحترقت؛ ففقدها أحوج ما يكون إليها"3.
وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} 4، قال: "قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه -وهو خبيثه- فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا"5.
وبعد هذه بعض الأمثلة أيضًا من تفسيره للقرآن بأقوال الصحابة، وبهذا يكون هذا التفسير محتويًا على أنواع التفسير بالمأثور الثلاثة: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بالسنة، وتفسيره بأقوال الصحابة.
رأيي في هذا التفسير:
والحق أن هذا التفسير مع حرصه على إيراد التفسير بالمأثور إلا أنا نراه لم يلتزم تمامًا بما وعد به في مقدمة تفسيره.
فهو تفسير لم يخلُ من الإسرائيليات كما وعد صاحبه؛ بل إنه ينقل عن هذه
__________
1 الموجز في تفسير القرآن الكريم: محمد رشدي حمادي ج1 ص215.
2 سورة البقرة: من الآية 266.
3 المرجع السابق: ج1 ص266.
4 سورة البقرة: من الآية 267.
5 المرجع السابق: ج1 ص267.(2/542)
الكتب مباشرة؛ أعني: التوراة والإنجيل، وعن غيرها من مصادر الإسرائيليات، وأحسب أن الذي أدَّى به إلى ذلك توسعه في التاريخ القديم منه توسعًا يوقعه أحيانًا في الإسرائيليات وما لا فائدة تُرجَى من تناوله.
ومن المآخذ عليه أيضًا تلك الأبحاث العلمية والفلكية التي يتوسع فيها أحيانًا توسعًا مذمومًا في تفسيره للقرآن؛ ومن ذلك مثلًا: ذلك الحديث المسهب1 عن علم الفلك الذي تحدث فيه عن علم الفلك عند علماء المسلمين، وتسلسل هذا العلم إلى نزول رجلين على سطح القمر، ثم حديث عن المجموعة الشمسية والمسافات بينها ودرجات الحرارة فيها، ثم حديث عن المجرات، ثم حديث عن علم النجوم، وكان الأَوْلَى لمثل تفسيره ألا يعرض فيه مثل هذه الأبحاث خاصة أنه وعد في المقدمة بأن تفسيره خلا من التفسير بالرأي، فهل هذه المعلومات خارجة عن الرأي؟!
ومنها أيضًا ذلك البحث الذي ألحقه بالجزء الأول تحت عنوان "تفسير فواتح السور"2، أدرج فيه ما سماه بتفسير علمي لفواتح سور القرآن، وذلك فيه أيضًا ما ينبغي تنزيه مثل هذا التفسير عنه.
ومآخذ أخرى هي أقل شأنًا مما ذكرنا، ومع هذا فتبقى لهذا التفسير محاسنه من التفسير بالمأثور، ومن معالجته لشئون الحكومة الإسلامية، ووجوب تعديل القوانين حتى توافق التشريع الإسلامي، وتكراره لذلك عند كل مناسبة، ثم تشخيصه لداء العالم الإسلامي في العصور الحديثة، ووصفه الدواء لكثير من مشاكله.
رأيي في تفاسير هذا اللون في القرن الرابع عشر:
الحق أني لم أجد مثل هذين التفسيرين عناية بالمأثور مع الفارق الكبير بين عناية الأول منهما -أعني: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- وعناية الثاني -أعني:
__________
1 انظر تفسيره ج2 ص480.
2 انظر تفسيره أيضًا ج1 ص547.(2/543)
المستشار محمد رشدي حمادي- فقد تفوق الأول بلا نزاع في هذا اللون من التفسير تفوقًا لا يدانيه الثاني، ومع هذا يبقى للأستاذ محمد رشدي حمادي درجته المتقدمة في هذا اللون.
ومع هذا وذاك فلا يزال ميدان التفسير بالمأثور يعاني قلة خائضي عبابه، وكم كنت أتمنى أن يقوم مَن آتاه الله سَعَة في العلم بتأليف أو بجمع الآيات التي يفسر بعضها بعضًا وأن يضم إليها سعة في العلم بتأليف أو بجمع الآيات التي يفسر بعضها بعضًا، وأن يضم إليها الأحاديث الصحيحة المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مبينًا درجة كل حديث، ويرتب هذا كله حسب ترتيب المصحف، وليس له فيما جمع إلا الربط بين آية وآية أو آية وحديث، وله أيضًا مع هذا تخريج الأحاديث ليس إلا، وأحسب أن العلماء والعامة بحاجة ماسة إلى هذا التفسير، وعسى أن يكون فرجًا قريبًا.
وإن كان لي من رأي بعد هذا أقوله في الموجود من التفاسير الحديثة فهو أنها -أو غالبها- لا تهتم بالتفسير بالمأثور، حاشى أن أتهمهم بقصد هذا؛ ولكن الأمر فيما أظن اعتقاد بعضهم أن الناس قد انصرفوا عن هذا اللون من التفسير، وإيراد بعضهم الآخر التفسير بالمأثور بالمعنى من غير إيراد الآيات أو الأحاديث بنصوصها، وانشغال بعض ثالث إلى مباحث أخرى على حساب التفسير بالمأثور، وقد يكون هنا تعليلات أخرى، والله الموفق.(2/544)
الفصل الثالث: المنهج العلمي التجريبي في التفسير
المراد به:
بادئ ذي بدء ينبغي أن ننبه إلى أمرين هامين في هذه المسألة:
أولهما: جواب لشبهة أو سؤال: ماذا نعني بالعلمي من قولنا: التفسير العلمي؟ هل يعني هذا أن التفاسير الأخرى غير علمية؟ ولا شك أن مدار الخلاف ومركزه في المراد بالعلم هنا.
فالعلم كلمة شاملة تشمل شتى أنواع المعارف البشرية القديم منها والجديد، ثم تجاذبت هذه الاصطلاح أيدي العلماء، كلٌّ يطلقه على ما تدور فلك أبحاثه عليه، فقال الحكماء في تعريفه: إنه صورة الشيء الحاصلة في العقل، أو حصول الصورة في العقل، أو تعلق النفس بالشيء على جهة انكشافه.
وقال المتكلمون: إنه صفة يتجلى بها الأمر لمن قامت به، وزعم الماديون أنه ليس إلا خصوص اليقينيات التي تستند إلى الحس وحده، وقال علماء التدوين: إنه المسائل المضبوطة بجهة واحدة، والغالب أن تكون تلك المسائل نظرية كلية، وقد تكون ضرورية، وقد تكون جزئية1.
هذا ما قاله أولئك، وليس سبيلنا هنا بيان تلك الاصطلاحات ونقدها؛ وإنما سبيلنا عرضها دون ما سواه؛ لنقف منه على إطلاقات هذا اللظ "العلم".
__________
1 انظر مناهل العرفان: عبد العظيز الزرقاني ج1 ص5، 6.(2/545)
وإذا ما نظرت إلى المراد به عند علماء الشرع وجدت الغزالي يوضح ذلك بقوله: "قد كان العلم يُطلق على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه ... وقد تصرفوا فيه بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها ... ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته، وقد صار الآن مطلقًا على مَن لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية؛ فيعد بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره، وصار ذلك سببًا مهلكًا لخَلْق كثير من أهل الطلب للعلم"1.
هذه بعض الاصطلاحات في لفظة "علم"، فهل هي أو أحدها المراد في التفسير العلمي للقرأن؟ نظرة واحدة إلى كتب التفسير العلمي تفيدك أن ليست هذه الاصطلاحات أو أحدها هي المراد من "العلمي" أو "العلم"؛ فلنبحث عن اصطلاح آخر، ولنطوِ صفحات التاريخ إلى العصر الحديث.
إذ قد ظهر في هذا العصر مدلول آخر للعلم نلمس جوانبه في وصفهم لهذا القَرْن أو العصر بأنه عصر العلم "والتطور والنهضة" إلى آخره؛ وإنما يهمنا وصفه بعصر العلم وهم يقصدون بذلك أن العلم هو العلم الطبيعي القائم على دراسة ما في الكون من مواد وعناصر وكائنات، لها خصائصها الذاتية وأنظمتها التي تحكمها من كيمياء وطبيعة وميكانيكا، وغير ذلك من علوم الطب والرياضة والفلك، وما يتضمنه ذلك من حقائق كونية، وأن العمل في إطار هذا المفهوم للعلم هو تطبيق العلم عمليًّا باستعمال الأجهزة والأدوات والوسائل الأخرى الحديثة من مختبرات ومراصد وتجارب واستنباطات منطقية وغير ذلك2.
هذا ما قصدوه من وصف عصرهم بعصر العلم، وهو ما تناولوه فيما سموه بالتفسير العلمي.
__________
1 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص39.
2 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص44، بتصرف.(2/546)
ونحن وإن كنا نقول: إنه لا مشاحة في الاصطلاح؛ لكنه ينبغي أن يكون في الاصطلاح ما يميزه عن سواه؛ حتى لا تلتبس الأمور وتتداخل الأسماء؛ ولذا فإني نظرتُ -ونظر غيري- إلى هذه العلوم التي تناولها المفسرون تحت عنوان التفسير العلمي فوجدتها تجمعها التجربة والتجارب، فهي علوم ماثلة للأعيان وخاضعة في غالبها للتجربة؛ إذًا فلِمَ لا نخصها بهذه الصفة؟ فلنسمِّ هذا اللون من التفسير "التفسير العلمي التجريبي للقرآن الكريم"؛ حتى يتيمز هذا اللون من التفسير العلمي عن الألوان العلمية الأخرى من العقائد والفقه ونحوها، وكلها علم لا شك فيه.
ثانيهما: وهو متولد عن الأمر الأول؛ إذ يظهر من إطلاق التفسير العلمي على هذه العلوم في العصر الحديث ان هذه التسمية "التفسير العلمي للقرآن الكريم" تسمية حديثة؛ وإنما قلنا: التسمية، ولم نقل: التفسير العلمي نفسه؛ لأنا نجزم بوجود هذا اللون في وقت مبكر؛ لكنه لم يكن مثل العصر الحديث كثرة ولا مقاربًا له.
بل إن كتب التفسير في العصر الحديث أفردته بمؤلفات خاصة.
وظهرت تفاسير تحمل في عنوانها: "التفسير العلمي" أو "الإعجاز العلمي" ونحو ذلك؛ فكان التفسير العلمي من خصائص العصر الحديث في التفسير وإن وُجِدَ بقلة فيما قبله.(2/547)
تعريفه:
ومن الطريف أنك لا تكاد تجد في كتب التفسير العلمي وغيره مَن يذكر تعريفه وبيان المراد منه، ولعله لظهروه يغفل أولئك تعريفه؛ ولكنه على كل حال بحاجة إلى تعريف يحدد مجاله؛ فيعرف ما يدخل فيه وما لا يدخل.
ولم أجد من ذكر له تعريفًا إلا الأستاذ أمين الخولي؛ حيث قال: "هو التفسير الذي يُحَكِّمُ الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها"1.
__________
1 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص19-20.(2/547)
ونقل هذا التعريف بحروفه الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون1، وهو وإن لم يُشر إلى مصدر التعريف فإن كتاب الخولي من مصادره؛ فتبادر إلى الذهن أنه نقله عنه، والله أعلم.
واختصر هذا التعريف الدكتور موسى شاهين لاشين فقال في تعريفه: "يقصد بالتفسير العلمي التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويحاول استخراج العلوم المختلفة من آياته"2.
وهذا التعريف الذي ذكره الدكتور موسى هو نفس التعريف السابق مع بعض التغيير، ولم يُشر الدكتور أيضًا إلى مصدره.
وتأثر بهذا التعريف أيضًا الأستاذ محمد الصباغ؛ فقال في تعريفه: "إنه تحكيم مصطلحات العلوم في فَهْمِ الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية"3.
ولعلك تقول بعد هذا: تذكر هذه التعريفات ثم تقول: إنك لا تكاد تجد تعريفًا؟ ومخلصي وعذري من هذا أن التعريفات الثلاثة الأخيرة مرجعها كلها إلى التعريف الأول، فهي إما ناقلة له بحروفه، وإما ناقلة له بتقديم وتأخير، وإما متأثرة به وبألفاظه.
وتجد القاسم المشترك بين هذه التعريفات أنها تصف هذه اللون من التفسير بأنه "تحكيم"!! للمصطلحات العلمية في عبارة القرآن، ولا شك أن في هذا التعبير شيء من القسوة.
وتجد أيضًا أنها اتفقت على عبارة "المصلطحات العلمية"، ولم يذكر أحدهم الحقائق أو النظريات أو المكتشفات
أو المشاهدات العلمية، وهذا يؤيد اتحاد مصدر التعريف عندهم.
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص140.
2 اللآلئ الحِسَان في علوم القرآن: موسى شاهين لاشين ص377.
3 لمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203.(2/548)
وتجدها أيضًا تصف صاحب التفسير العلمي بأنه "يجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية"، والذي أعتقده أن التفسير العلمي بمعناه المعروف لا يشمل إيراد الآراء الفلسفية، كما لا يعم مختلف العلوم؛ بل في أنواع معينة منها كالطب والرياضيات والفلك وعلم الحيوان والنبات والكيمياء وعلم طبقات الأرض، ونحو ذلك من العلوم التجريبية، فلا يشمل مختلف العلوم على إطلاقها.
ولذا فإني أعتقد قصور هذا التعريف، وقد انتقد هذا التعريف أيضًا الشيخ عبد الله الأهدل في رسالته "التفسير العلمي للقرآن الكريم"، فقال عن تعريف الخولي والذهبي: "فقولهما: يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن غير دقيق؛ لأنه ما كل تفسير علمي، كذلك وتعبيرهما هذا "يحكم" يُوحي بأن الآية المراد تفسيرها لها معنى آخر، غير المعنى العلمي الذي يراد منها أن تدل عليه، وهذا وإن صدق على بعض التفسير المتمحل والشطحات العلمية، فإنه لا ينطبق على البعض الآخر". ثم قال: "وربما كان التعريف الصحيح للتفسير العلمي أن يقال: "هو تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث، بغض النظر عن صوابه وخطئه"؛ ليشمل التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ"1.
والذي يظهر لي -والله أعلم- أن التعريف الأقرب إلى أن يكون جامعًا مانعًا أن يقال: "المراد بالتفسير العلمي هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي، على وجه يظهر به إعجاز للقرآن، يدل على مصدره، وصلاحيته لكل زمان ومكان".
ولا شك أن وصفه بـ"اجتهاد المفسر" يدخل فيه التفسير العلمي المقبول والمرفوض؛ لأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وقولنا: "الربط" ليشمل ما هو تفسير وما هو من قبيله؛ كالاستئناس بالآية في قضية من قضاياه ونحو ذلك، وقولنا: "العلم
__________
1 التفسير العلمي للقرآن الكريم: بحث ماجستير أعدَّه الشيخ عبد الله بن عبد الله الأهدل "نسخة مسحوبة على الاستنسل ص15".(2/549)
التجريبي" يُخرج بقية العلوم الكلامية والفلسفية ونحوها، وقولنا: "على وجه" لبيان ثمرته، وقولنا: "يدل على مصدره" نقصد به أنه إذا ما ثبت هذا التوافق بين نصوص القرآن الكريم وحقائق العلوم، ولم يقع أيُّ تعارض بين نص قرآني وحقيقة علمية -مهما كانت جدتها وحداثتها- فإنه لا يمكن أن يقول مثل هذه النصوص بشر قبل اكتشافها بقرون، ولا بُدَّ من أن يكون المتكلم بها هو موجِدُ هذه الحقائق ومكونها؛ وهو الله سبحانه وتعالى، وقولنا: "وصلاحيته لكل زمان ومكان" نقصد به أنه صالح لكل عصر، لا تأتي عليه الأيام ولا الحدثان بما يبطل شيئًا منه، فهو صالح لكل عصر وأوان.
هذا ما ظهر لي الآن من المعنى المراد به، والله أعلم.(2/550)
موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي
مدخل
...
موقف العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي:
مما لا شك فيه أن مثل هذا اللون في تفسير القرآن الكريم في جدته وتجدده سيكون له خصوم، وسيكون له أنصار، يلتمس كل منهم دليلًا ينصر به رأيه ويؤيده به، ثم يكر على دليل الخصم فيبطله.
وقد كان هذا الأمر في التفسير العلمي للقرآن الكريم منذ لحظات بزوغه، ونحن وإن كنا لا نعرف هذا الحدث باليوم أو بالسنة، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام الغزالي -المتوفَّى سنة 505هـ- من أوائل المتكلمين في هذا النوع من التفسير؛ وعلى هذا فيكون ظهوره على وجه التقريب في أواخر القرن الخامس الهجري، واتفقوا أيضًا على أن الغزالي نفسه أكثر مَن استوفى بيان هذا القول إلى عهده1.
ومما لا شك فيه أن الإمام الغزالي لم يكن وحيدًا في الميدان يجول ويصول،
__________
1 انظر مثلًا: التفسير معالم حياته: أمين الخولي ص20، والتفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص140، ولمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203، والتفسير العلمي للقرآن الكريم: عبد الله الأهدل ص85، اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص247، وغيرهم.(2/550)
فقد نزل معه أنصار، ونازله خصوم، وما زالت المعركة الفكرية قائمة لم تهدأ لها ثائرة، ولم تقعد لها قائمة، ولم تطفأ لها نار.
وما دام حديثنا هنا محصورًا في العصر الحديث، فإنه لا يسعنا ونحن ندخل معركة طال عمرها، وسد الأفق غبارها، إلا وأن يكون لدينا علم ومعرفة بما قاله السابقون من الأنصار والخصوم؛ حتى نبدأ الطريق من أوله، ونأتي البيوت من أبوابها.
وبما أن الإمام الغزالي من أوائل المتكلمين في ذلك، وهو أيضًا من المؤيدين والمروجين لهذا اللون من التفسير؛ فإنا نبدأ بذكر آراء المؤيدين وبرأيه هو قبلهم.(2/551)
رأي المؤيدين:
ونذكر من هؤلاء المؤيدين لهذا التفسير العلمي عددًا من العلماء المسلمين، الذين أظهروا تأييدهم له وأعلنوه، وكانوا من أوائل مطبقيه على نصوص القرآن الكريم؛ ومن هؤلاء:
الإمام الغزالي:
وقد بسط القول في هذا في كتابيه: إحياء علوم الدين، وجواهر القرآن، فقد عقد في أولهما الباب الرابع من كتاب آداب تلاوة القرآن في: "فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل"، دلل فيه على أن القرآن يشتمل على مجامع العلوم كلها، فقال مثلًا: "اعلم أن مَن زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخَلْق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه؛ بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا للأرباب الفهم، قال علي -رضي الله عنه-: "إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن"، فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للقرآن ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا"1.
__________
1 سئل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن حديث: "للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن"، فقال: "أما الحديث المذكور فمن الأحاديث المختلقة، التي لم يروها أحدٌ من أهل العلم، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث؛ ولكن يُروَى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلًا "أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا". مجموع الفتاوى: لابن تيمية ج13 ص231، 232، وانظر ما كتبته عن الظاهر والباطن في منهج أهل السنة والجماعة.(2/551)
ويُروى أيضًا عن ابن مسعود موقوفًا عليه، وهو من علماء التفسير، فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع؟ وقال علي -كرم الله وجهه-: "لو شئت لأوقرت سبعين بعيرًا من تفسير فاتحة الكتاب"، فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار، وقال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهًا، وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع، وترديد رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم" عشرين مرة1، لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها، وإلا فترجمتها وتفسرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن"؛ وذلك لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر.
وبالجملة، فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها، والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فَهْم القرآن، ومجرد ظاهر التفسير لا يشير إلى ذلك؛ بل كل ما أشكل فيه على النظار، واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات، ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفَهْم بدركها"2.
ثم زاد ذلك بيانًا وتفصيلًا في كتابه جواهر القرآن، وقد اختصر حديثه هذا الأستاذ أمين الخولي3، واختصره أحسن منه الشيخ محمد حسين الذهبي،
__________
1 رواه أبو ذر الهروي في معجمه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف. "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" للحافظ زين الدين العراقي، ضمن إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ج1 ص289.
2 إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي ج1 ص296.
3 التفسير معالم حياته، منهجه اليوم: أمين الخولي ص20، 21.(2/552)
فقال رحمه الله تعالى: "ثم إننا نتصفح كتابه "جواهر القرآن" الذي ألفه بعد الأحياء كما يظهر لنا من مقدمته؛ فنجده يزيد هذا الذي قرره في الإحياء بيانًا وتفصيلًا؛ فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها، وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفي أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين:
أولًا: علم الصدف والقشر، وجعل من مشتملاته: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف، وعلم التفسير الظاهر.
والثاني: علم اللباب، وجعل من مشتملاته: علم قصص الأولين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك.
ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن؛ فيذكر علم الطب والنجوم وهيئة العالَم وهيئة بدن الحيوان وتشريح أعضائه وعلم السحر وعلم الطلسمات وغير ذلك.
ثم يقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها؛ بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحية التي لا يتمارى فيها أن في الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان في قوة الآدمي الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود واندرست الآن؛ فلن يوجد في هذه الأمصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أخرى ليس في قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين، فإن الإمكان في حق الآدمي محدود، والإمكان في حق الملَك محدود إلى غاية في الكمال، بالإضافة كما أنه في حق البهيمة محدود إلى غاية في النقصان1؛ وإنما الله سبحانه هو الذي لا يتناهى العلم في حقه".
ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم -ما عددناها وما لم نعدها- ليست
__________
1 فيما نقله الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- هنا سقط "سبق نظر" أصلحتُه من مرجعه.(2/553)
أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى -وهو بحر الأفعال1- مثلًا الشفاء والمرض؛ كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 2، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله؛ إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه.
ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان} 3، وقال: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} 4، وقال: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} 5، وقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} 6، وقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7.
ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا مَن عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 8 إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها، وقد أشار في القرآن في مواضع إليها، وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين.
وكذلك لا يعرف كمال
__________
1 إن كان الضمير "هو" يرجع إلى لفظ الجلالة فإن "بحر الأفعال" ليست من أسمائه، ولا من صفاته عند السلف.
2 سورة الشعراء: من الآية 80.
3 سورة الرحمن: من الآية 5.
4 سورة يونس: من الآية 5.
5 سورة القيامة: الآيتين 8، 9.
6 سورة الحج: من الآية 61.
7 سورة يس: من الآية 38.
8 سورة الانفطار: الآيات 6، 7، 8.(2/554)
معنى قوله: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 1 ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غاضمة يغفل عن طلبها أكثر الخَلْق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها، ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها ... فتفكر في القرآن، والتمس غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين وجملة أوائله"2.
هذه بعض نصوص الإمام الغزالي، وإذا ما تأمل متأمل فيها وجد في نصوصه نحو قوله: "وفي القرآن إشارة إلى مجامعها"، "ففي القرآن إليه رموز وعلامات ودلالات عليه"، "ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة من القرآن"، وأخيرًا قوله: "وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين".
وللمتأمل أن يسأل عن موقف الغزالي؛ إذ إن هذه النصوص الدالة على أن في القرآن رموز ... وعلامات ... ودلالات وأوائل ... ومجامع العلوم لا تدل دلالة كاملة على موقف صاحبها، وإن كانت صريحة في تأييد التفسير العلمي، إلا أنها تقصر عن تحديد مدى هذا التأييد، ولا يهمنا الأمر بقدر ما يهمنا أن هذه النصوص للإمام الغزالي -وهي من أقدم النصوص التي بين أيدينا من هذا النوع- تدل على أن قائلها قد وضع الأسس النظرية للتفسير العلمي، وبعبارة أخرى أصرح وأوضح: إن الغزالي روَّج للتفسير العلمي، ومهد السبيل لمن أراد سلوكه وإن كان هو لم يسكله؛ لكن جاء مِن بعده وقريب منه مَن التزم هذا النوع التزامًا بلغت درجته فيه أن قيل عن تفسيره فيه كل شيء إلا التفسير، ذلكم هو الفخر الرازي.
رأي الفخر الرازي "ت 606هـ":
والرازي نفسه يحس أنه مكثر من هذا النوع من التفسير؛ فيفترض اعتراضًا ويرد عليه؛ فيقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
__________
1 سورة الحجر: من الآية 29.
2 جواهر القرآن: لأبي حامد الغزالي ص30.(2/555)
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 1 الآية: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت في تفسير كتاب الله تعالى من علم الهيئة والنجوم وذلك ع، لى خلاف المعتاد؛ فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله عز وجل حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره من وجوه:
الأول: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزًا لما ملأ الله كتابه منها.
والثاني: أن تعالى قال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 2، فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها، ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها، وكيف خلق كل واحد منها.
والثالث: أنه تعالى قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3، فبيَّن أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السماوات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس.
الرابع: أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض، فقال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} 4، ولو كان ذلك ممنوعًا منه لما فعل.
الخامس: أن مَن صنف كتابًا شريفًا مشتملًا على دقائق العلوم العقلية والنقلية؛ بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق، فالمعتقدون في شرفه وفضيلته
__________
1 من سورة الأعراف: من الآية 54.
2 سورة ق: الآية 6.
3 سورة غافر: الآية 57.
4 سورة آل عمران: الآية 191.(2/556)
فريقان؛ منهم مَن يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين، ومنهم مَن وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين، واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال، إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى، وأيضًا فكل مَن كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل"1.
ولذلك فإن الرازي وقد أبدى رأيه في التفسير العلمي، فإنه أكثر من تطبيقه في تفسيره، وتناول شتى العلوم والمعارف مما يبوئه درجة متقدمة في صفوف مؤيدي التفسير العلمي؛ بل بين متطرفي أنصاره.
رأي الزركشي "ت 794هـ":
ومن المؤيدين أيضًا الإمام بدرالدين الزركشي، متأثرًا -فيما يبدو لي- بموقف الإمام الغزالي؛ لاتحاد الأدلة وبعض العبارات؛ فقد أورد الزركشي بعض الأقوال التي أوردها الغزالي؛ كقول بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فَهْم، وما بقي من فهمها أكثر، وقول آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم؛ إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة؛ إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع ...
ثم عقب الزركشي عن هذه الأقوال وغيرها بقوله: "وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله، فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالًا رحبًا، ومتسعًا بالغًا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل، والسماع لا بُدَّ منه في ظاهر التفسير؛ ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تُفهم إلا باستماع فنون كثيرة ... "2.
بل إن الإمام الزركشي -رحمه الله تعالى- عقد فصلًا خاصًّا عنونه بقوله: "في القرآن علم الأولين والآخرين"، وقال فيه: "وفي القرآن علم الأولين
__________
1 التفسير الكبير: الفخر الرازي ج14 ص121.
2 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص154، 155.(2/557)
والآخرين، وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى ... "1.
رأي السيوطي "ت 911هـ":
وذهب الإمام السيوطي إلى نحو ما ذهب إليه الإمامان: الغزالي والزركشي، وزاد على أدلتهما أدلة أخرى، وقد
أفرد النوع الخامس والستين من أنواع علوم القرآن في العلوم المستنبطة من القرآن، ودلل لذلك بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3، وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن"، قيل: وما المخرج منها قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال: من أراد العلم فعليه بالقرآن؛ فإن فيه خبر الأولين والآخرين، وقال البيهقي: يعني أصول العلم4.
وقال أيضًا: "وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء، أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السماوات والأرض، وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى، وبدء الخلق، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة، وعيون أخبار الأمم السالفة، إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات"5.
رأي ابن أبي الفضل المرسي:
وأورد السيوطي -رحمه الله تعالى- لتأييد مذهبه نصًّا طويلًا لابن أبي الفضل المرسي، قال فيه عن القرآن الكريم: "قد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل؛ مثل: الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك"6.
__________
1 البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي ج2 ص181.
2 سورة الأنعام: من الآية 38.
3 سورة النحل: من الآية 89.
4 الإتقان في علوم القرآن: للإمام السيوطي ج2 ص125، 126.
5 المرجع السابق: ج2 ص129.
6 الاتقان: الإمام السيوطي ج2 ص127.(2/558)
ثم ذهب يبين بعض مواضع ذلك؛ فيذكر مدار كل علم، ثم يذكر الآية التي جمعت ذلك حسب رأيه، وزاد على هذا بأن ذكر أن في القرآن أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها؛ كالخياطة والحدادة والنجارة والغزل والنسج والفلاحة والصيد والغوص والصياغة والزجاجة والفخار والملاحة ... إلخ، وهو يذكر بعد كل مهنة ما يراه شاهدًا لها من القرآن الكريم.
كان هذا عرضًا لبعض آراء مؤيدي التفسير العلمي للقرآن الكريم؛ بل اشتماله على كل العلوم وشتى المعارف، ولم يكن هذا مسلمًا لهم ولم يكن سالمًا عن المعارضة والرفض.
ولئن أبحث لنفسي بعض الإطناب في ذكر آراء المؤيدين فإني سأكبح من جماحها في ذكر آراء المعارضين، ليس لتأييد فريق على فريق؛ وإنما لأن المعارض هنا هو الإمام الشاطبي الذي أشبع الحديث حتى لم يبقِ مكانًا لمزيد.(2/559)
رأي المعارضين:
رأي الشاطبي "ت 790هـ":
بدأ الشاطبي -رحمه الله تعالى- حديثه ببيان العلوم التي كانت منتشرة بين العرب وقت نزول القرآن الكريم، ثم بيَّن موقف الشريعة من هذه العلوم بقوله: "فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه"1.
وذكر من ذلك علم النجوم وعلم الأنواء وأوقات نزول المطر وعلم التاريخ وأخبار الأمم الماضية، ثم بيَّن ما كان أكثره باطلًا أو جميعه؛ كعلم العيافة وازجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة، ومن النوع الأول الطب والتفنن في علوم البلاغة وضرب الأمثال2.
__________
1 الموافقات: للإمام الشاطبي ج2 ص71-76.
2 الموافقات: للإمام الشاطبي ج2 ص71، 72.(2/559)
ثم قرر بعد هذا: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم1 والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما ينظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه -على ما تقدم- لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن ومعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكليف وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك ولو كان لهم في ذلم خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن؛ فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا2.
وبيَّن ذلك في موضع آخر عند ذكر العلوم المضافة إلى القرآن؛ فبعد أن ذكر من العلوم ما هو كالأداة لفهمه والوسيلة لاستخراج فوائده قال: "ولكن قد يدَّعَى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها مُعِينَةٌ على فَهْم القرآن، وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضًا، ولا يكون كذلك -كما تقدم في حكاية الرازي- في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فَهْم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 3، وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.
__________
1 أي: الرياضيات من الهندية وغيرها.
2 الموافقات: الشاطبي ج2 ص79، 80.
3 سورة ق: من الآية 6.(2/560)
وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم: هل كانوا آخذين بها أم تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه؟ "1.
ثم ذكر الشاطبي -رحمه الله تعالى- الرد على أولئك بما خلاصته: "إن ما استدلوا به من الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية، وما يُنقل عن علي -رضي الله عنه- أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه"3.
ذلكم موجز رأي الشاطبي -رحمه الله تعالى- ورده على أنصار التفسير العلمي للقرآن الكريم.
رأى أبي حيان الأندلسي "ت 745هـ":
ونقتصر في بيان رأيه -رحمه الله تعالى- على ذكر مَثَل طريف ضربه مثلًا لمن فسر القرآن بالرأي، فقد انتقد في تفسيره "البحر المحيط" طريقة الرازي في تفسيره وغيره، بقوله: "ونظير ما ذكره الرازي وغيره أن النحوي مثلًا يكون قد شرع في كتاب في النحو، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة، فذكر أن الألف في الله أهي منقلبة من ياء أو واو، ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه، ثم استطرد إلى أن من مضمومنه البعث والجزاء بالثواب وبالعقاب، ثم المثابون
__________
1 الموافقات: الشاطبي ج3 ص375، 376.
2 سورة الأنعام: من الآية 38.
3 الموافقات: الشاطبي ج2 ص80، 81.(2/561)
في الجنة لا ينقطع نعيمهم، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم، فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة إذا هو يتكلم في الجنة والنار، ومَن هذا سبيله في العلم فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة.
وكان استأذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي -قدس الله تربته- يقول ما معناه: متى رأيت الرجل ينتقبل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف؛ فاعلم أن ذلك إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه؛ حيث يظن أن المتغايرات متماثلات، وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به مَن يقف عليه، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير؛ بل إنما تركنا ذلك عمدًا، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير، وأسأل الله التوفيق والصواب"1.
وذلكم رأيه لا أظنه بحاجة إلى بيان، يرفض هذا اللون ويرفض القول به، لا عجزًا عنه؛ وإنما عمدًا وقصدًا لعدم الخروج عن حدود التفسير المقبول عنده.
وحتى لا نبهت القوم حقهم، ونحن نريد هنا الحديث عن موقف العلماء المعاصرين فيعتقد معتقد أن لا فرق بين المؤيدين القدامى والمعاصرين، فعلينا أن نعلن هنا حقيقة في حق العلماء السابقين الذين أجازوا مبدأ تفسير القرآن بالعلوم؛ تلكم هي أننا لا نكاد نصادف في آثارهم العلمية محاولات تطبيقية تلح على الربط بين النظرية العلمية والحقيقة القرآنية كما نجد في آثار علمائنا المعاصرين، ذلك أن شغلهم الشاغل في ذلك الوقت كان الاقتباس مما نقل إليهم من التراث اليوناني والانتفاع بمقولاته الفلسفية والمنطقية في تأكيد الحقيقة الدينية لتستقيم لهم قضية التوفيق بين العقل والنقل2.
أما في العصر الحديث، فإن الذين يؤيدون هذا الاتجاه العلمي في التفسير يزعمون أن القرآن يشير إلى مستحدثات الاختراع، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية، ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر
__________
1 البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي ج1 ص341.
2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت محمد الشرقاوي ص422، 423.(2/562)
فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفَهْم، ولا يلتوي عليه أمر من أموره؛ لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم1، فلا يكاد يجدُّ اختراع، أو يظهر اكتشاف، أو تُنَظَّر نظرية، إلا ويعيدون النظر والبحث في آيات القرآن، وكأنهم على موعد مؤكد مع آية قرآنية يطبقونها على هذا أو ذاك، زاعمين أن القرآن نص على هذا قبل كذا وكذا من القرون.
بمعنى آخر: إن السابقين جعلوا الحقيقة القرآنية اصلًا، ذكروا ما يؤيد هذه الحقيقة من نظريات أو حقائق علممية، وإن المعاصرين جعلوا النظريات أو الحقائق العلمية أصلًا يدعمونها ويفسرونها بآيات قرآنية قد تؤيدها صراحة أو يفهم منها ذلك، وقد لا تدل على شيء من هذا؛ فيتكلفون في التوفيق بين هذا وذاك.
وحقيقة أخرى -خاصة- أني لا أقصد فيما قلت هنا بـ"السابقين" أو بـ"المعاصرين" العموم والشمول؛ وإنما أردت غالبهم، وما هم بقليل.
__________
1 إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ص142.(2/563)
موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي
مدخل
...
موقف العلماء المعاصرين من التفسير العلمي التجريبي:
ولا زالت المعركة العلمية هذه مشتعلة؛ بل زاد لهبها، واشتعل أوارها، وتنوع وتطور سلاحها، وتطرف المتطرفون، واعتدل المعتدلون.
وقال أحد المتطرفين ولم يستثنِ أحدًا: "إن دراسة القرآن في العصور الخالية كانت تكلفية، وقراءة سطحية، وعلومًا لفظية، فعكف الناس على الألفاظ، وكثر الحفاظ، وقَلَّ المفكرون؛ فجمدت القرائح، وماتت العلوم"2؛ بل دعا العلماء إلى التفطن لما ذكره وتفسير القرآن نحو تفسيره: "وإن لم يفعلوا ذلك لم تعش الأمم الإسلامية قرنًا واحدًا؛ بل تفنيها الأمم الأجنبية"1.
وقال متطرف آخر من الناحية الأخرى، وهو وإن تطرف في الرفض؛ لكنه
__________
1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج2 ص211.(2/563)
لم يتطرف في العبارة كتطرف السابق؛ فقد اكتفى بأن وصف التفسير العلمي بأنه "بدعة حمقاء"1، ووصفه بأنه "التفسير الحرباوي"2؛ لأنه يعتقد أن صاحبه يغير تفسيره حسب تغير العلوم وتجدد النظريات.
وإذا ما تأمل متأمل وتدبر في أقوال متعصبي الفريقين لرأى رأي العين أن الفريقين لا يتكلمون لغة واحدة، ويصول كل منهم ويجول في غير ميدان الآخر، ولو أزالوا على أعينهم غشاوة التعصب لرأوا فيما بينهم جزيرة خضراء، فيها الثمر الداني، والهواء العليل، والماء القراح، يمكن أن يلتقوا فيها، ففيها متسع لآرائهم، وفيها مجال لأقوالهم؛ بحيث تكون كلمتهم واحدة، وموقفهم واحدًا.
وإذا ما تأمل وتدبر مرة أخرى؛ فإنه سيجد أن العلماء وإن كانوا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
1- متطرفين في التأييد.
2- متطرفين في الرفض.
3- معتدلين.
فإنه إذا تدبر سيجد أنهم ينقسمون حقيقة إلى قسمين من حيث القبول والرد؛ فالقسم الأول والقسم الثالث كلاهما يقبل التفسير العلمي وإن اختلفت درجتهما في القبول، والقسم الثاني يرفضه، ومن هذا التقسيم الأخير سيكون منطلقنا لعرض آراء العلماء في العصر الحديث في ذلك.
__________
1 الذكر الحكيم: محمد كامل حسين ص182.
2 المرجع السابق: ص186.(2/564)
أقوال المؤيدين:
وليس من السهل ولا من المقبول أن نبسط القول لكل قائل به؛ بل نقتصر من كلامه ونعتصر ما فيه الدلالة؛ فمن هؤلاء:
الجواهري:
وإنما نبدأ به لكونه قد أصبح عَلَمًا في هذا اللون من التفسير، لا يكاد يذكر هذا إلا ويذكر ذاك، وإن كنا سنعرض له بدراسة خاصة ولتفسيره، فإنا نذكر هنا بعض عباراته لتأييد هذا اللون من التفسير، فمن ذلك قوله مثلًا: "يا أمة الإسلام، آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات، فما بالكم -أيها الناس- بسبعمائة آية، فيها عجائب الدنيا كلها، الله أكبر، جل العلم وجلت الحكمة، هذا زمان العلوم، هذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعري لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؛ ولكني أقول: والحمد لله إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية. فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قادر.
إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق، والله يهدي مَن يشاء إلى سواء الصراط"1.
ويقول أيضًا: "لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل، لا تصل مائة وخمسين آية، فلماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدًّا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ويجهلون علمًا آياته كثيرة جدًّا، إن آباءنا برعوا في الفقه؛ فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات، لنقم به لترقى الأمة"2.
__________
1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج3 ص19، 20.
2 المرجع السابق: ج25 ص55، 56.(2/565)
رأي الإسكندراني:
وهو محمد بن أحمد الإسكندراني، صاحب كتاب "كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية"، وهو تفسير لا يقل عن تفسير الجواهر السابق في توسعه العلمي، وقد ألمح في مقدمته القصيرة للتفسير عن موضع علم التفسير بقوله: "فموضوع علم التفسير كلام الله تعالى الذي يُتوصل به إلى معرفة الأجرام السماوية والأرضية، والمولدات الثلاثة والتوحيد والأحكام الشرعية، وغايته معرفة جمع الأحكام المستنبطة من الآيات الشريفة القرآنية، فمنفعته عامة لعموم الاحتياج إليه، وفائدته مطلوبة لترتب بقاء الأحكام عليه؛ فلذلك كانت معرفته من أقرب الوسائل إلى الاعتراف بالخالق ذي الصفات العلية، ولا شك أن لهذه الأجرام المشار إليها والآثار مؤثر؛ وهو الإله الموجد للعقول والنفوس والأجسام الفلكية والعنصرية"1.
رأي الكواكبي:
وعبد الرحمن الكواكبي يرى أن القرآن الكريم سبق علماء أوربا وأمريكا بثلاثة عشر قرنًا إلى كثير من الاكتشافات التي تعزى إليهم، فيقول: "إن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة، تُعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن، شاهدة بأنه كلام ربٍّ لا يعلم الغيب سواه"2.
رأي محمد مصطفى المراغي:
وأيَّد التفسير العلمي الشيخ محمد المراغي فقال في مقدمته لكتاب "الإسلام والطب الحديث": "قرأت لسعادة الطبيب النطاسي عبد العزيز إسماعيل باشا
__________
1 كشف الأسرار النورانية: محمد أحمد الإسكندراني ج1 ص3.
2 طبائع الاستبداد: عبد الرحمن الكواكبي ص44.(2/566)
نتفًا مما كان يُكتب له بمجلة الأزهر تحت عنوان "الإسلام والطب الحديث"؛ فأعجبني منه ما توخاه من التوفيق بين معاني بعض الآيات القرآنية الكريمة وبين مقررات الطب الحديث، وحمدت له هذه النزعة العلمية التي لو تحلى بها كل مبرز في فرع من فروع العلم؛ لاجتمع لدينا ذخر عظيم من هذه التطبيقات الثمينة، تستفيد منه النابتة الحديثة زيادة معرفة بإعجاز القرآن، وإيقان بأن الله ما فرط في كتابه من شيء.
لست أريد من هذا أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلًا بالأسلوب التعليمي المعروف؛ وإنما أريد أن أقول: إنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته والعمل به؛ ليبلغ درجة الكمال جسدًا ورُوحًا، وترك الباب مفتوحًا لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة؛ ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه"1.
رأي محمد رشيد رضا:
أما الشيخ محمد رشيد رضا فيعد هذا نوعًا من أنواع الإعجاز للقرآن، فيقول: "الوجه السابع: اشتمال القرآن على تحقيق كثير من المسائل العلمية والتاريخية التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، ثم عرفت بعد ذلك بما انكشف للباحثين والمحققين من طبيعة الكون وتاريخ البشر وسنن ذلك في الخَلْق"2، ثم ذكر الأمثلة لذلك.
رأي محمد فريد وجدي:
وقال الأستاذ وجدي: "من مطالب الأوساط من الدين أن يكون مرنًا يتسع لما يجد من الآراء العلمية ولا يستعصي على ما يثبت أو يرجح من المذاهب الفلسفية، ولا ما يقوم الدليل عليه من الشئون الكونية، والواقع أنه قليل على الإسلام أن يُوصف بالمرونة وسَعَة الصدر للآراء والمذاهب والكونيات؛ لأنه دين
__________
1 الإسلام والطب الحديث: عبد العزيز إسماعيل، مقدمة الشيخ محمد مصطفى المراغي ص5، 6.
2 تفسير المنار: محمد رشيد رضا ج1 ص210.(2/567)
انطلاق وتعقل وتفكير ومطالبة بالفَهْم وبالدليل، وإشعار بالتبعية الشخصية، ونهي عن التقليد"1.
وقال في موضع آخر: "وخير ينبوع يستمد منه العلم كتاب الله عز وجل، فهو الخضم الغطمطم2 الذي لا ساحل له"، ثم قال: "هنا يتغالى بعضهم فيسألون: هل للتليفون والتلغراف والراديو ... إلخ إلخ من ذكر في القرآن، مصدقًا لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 3؟ هذا التغالي ناشئ من سوء فَهْم الآية الكريمة، قال العلامة البيضاوي في تفسيرها: "المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالَم من الجليل والدقيق ... أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلًا أو مجملًا".
فأنت ترى أن المفسرين لم يفهموا من هذه الآية ما يريد أن يفهمه الناس اليوم؛ من أن القرآن يحوي كل شيء لفظًا ومعنى، وكل ما يكتشف من العلم في سائر الوجود إلى يوم القيامة إشارة وعبارة؛ لذلك يتكلف المسئولون عن ورود المكتشفات الجديدة في الكتاب أجوبة يصرفون فيها بعض الآيات عن معانيها؛ لتنطبق على ما يسألون عنه مما لا عَلاقة لها به ألبتة"4.
رأي جمال الدين القاسمي:
أما الشيخ جمال الدين القاسمي فقد عقد في مقدمته لتفسيره فصلًا بعنوان: "فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن الكريم"، جاء فيه بعد ان فسَّر بعض الآيات تفسيرًا علميًّا: "فالناس قديمًا فهموا أمثال هذه الآية
__________
1 الإسلام دين الهداية والإصلاح: محمد فريد وجدي ص51.
2 قال في لسان العرب: "الغطم: البحر العظيم الكثير الماء ... والغَطْمَطَة: التطام الأمواج".
3 سورة الأنعام: من الآية 38.
4 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري من تقريظ الأستاذ محمد فريد وجدي ص8، 9.(2/568)
بما يوافق علومهم، حتى إذا كشف العلم الصحيح عن حقائق الأشياء علمنا أنهم كانوا واهمين، وفهمنا معناها الصحيح، فكأن هذه الآيات جعلت في القرآن معجزات للمتأخرين تظهر لهم كلما تقدمت علومهم"1.
رأي مصطفى صادق الرافعي:
أما الرافعي فيقول عن إعجاز القرآن الكريم العلمي وتفسيره به: "ولعل متحققًا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر فيه وكان بحيث لا تعوزه أداة الفَهْم، ولا يلتوي عليه أمر من أمره؛ لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم، وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها بأسمائها"2.
رأي محمود شكري الألوسي:
قال في مقدمة كتابه "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان": "اعلم أن الشريعة الغراء لم ترد باستيعاب قواعد العلوم الرياضية؛ إنما وردت بما يستوجب سعادة المكلفين في العاجل والآجل، وبيان ما يتوصلون به إلى الفوز بالنعيم المقيم، وربما أشارت لهذه الأغراض إلى ما يستنبط منه بعض القواعد الرياضية.
وقد ورد القرآن الكريم -في بيان ذلك- بما خاطب به العرب مما يعلمونه من علوم تلقوها خلفًا عن سلف، فقد كانت لهم علوم ذكرناها في الكتاب الذي ألفناه في بيان أحوالهم"3.
رأي عبد الحميد بن باديس:
وقال الشيخ عبد الحميد: "من أساليب الهداية القرآنية إلى العلوم الكونية أن يعرض علينا القرآن صورًا من العالَم العلوي والسفلي في بيان بديع
__________
1 محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي ج1 ص337.
2 إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: مصطفى صادق الرافعي ص142.
3 ما دل عليه القرآن: محمود شكري الألوسي ص11.(2/569)
جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها والتعمق في أسرارها، وهنا1 يذكر لنا ما خبأه في السماوات والأرض لنشتاق إليه، وننبعث في البحث عنه، واستجلاء حقائقه ومنافعه، بدافع غريزة حب الاستطلاع، ومعرفة المجهول، وبمثل هذا انبعث أسلافنا في خدمة العلم، واستثمار ما في الكون إلى أقصى ما استطاعوا، ومهدوا بذلك السبيل لمن جاء بعدهم، ولن نعز عزهم إلا إذا فهمنا الدين فَهْمهم وخدمنا العلم خدمتهم"2.
وقال في موضع آخر: "لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية؛ ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبرهانًا لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم وتقدموا في العرفان ... "3.
رأي محمد أحمد الغمراوي:
أما الأستاذ الغمراوي فهو يرى أن الإعجاز العلمي هو الذي لا يتوقف تقديره والتسليم به على معرفة لغة لا تتيسر معرفتها لكل أحد، ويرى أيضًا أن الناحية العلمية هذه تشمل كل النواحي ما عدا الناحية البلاغية، فتشمل الناحية النفسية والتشريعية والتاريخية والكونية.
ثم قال: "هذه النواحي هي التي ينبغي أن يشمر المسلمون للكشف عنها وإظهارها للناس في هذا العصر الحديث، ولن يستطيعوا ذلك على وجهه حتى يطلبوا العلوم كلها؛ ليستعينوا بكل علم على تفهم ما اتصل به من آيات القرآن، ويستعينوا بها جميعًا على استظهارأسرار آيات القرآن التي اتصلت بالعلوم جميعًا، ولا غرابة في أن يتصل القرآن بالعلوم جميعًا؛ فما العلوم إلا نتاج تطلب الإنسانية أسرار الفطرة، والقرآن ما هو إلا كتاب الله فاطر الفطرة، فلا غرو أن يتطابق القرآن والفطرة، وتتجاوب كلماتها وكلماته، وإن كانت كلماتها
__________
1 ورد هذا النص في تفسيره لقوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] .
2 تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: عبد الحميد بن باديس ص460.
3 المرجع السابق ص60.(2/570)
وقائع وسننًا، وكلماته عبارات وإشارات تتضح وتنبههم طبق ما تقتضيه حكمة الله في مخاطبة خَلْقه؛ ليأخذ منها كل عصر على قدر ما أوتي من العلم والفَهْم، وكذلك دواليك على مر العصور ... ".
إلى أن قال: "هذا النوع من الإعجاز يعجز الإلحاد أن يجد موضعًا للتشكيك فيه، إلا أن يتبرأ من العقل؛ فإن الحقيقة العلمية -التي لم تعرفها الإنسانية إلا في القرن التاسع عشر أو العشرين مثلًا، والتي ذكرها القرآن- لا بُدَّ أن تقوم عند كل ذي عقل دليلًا محسوسًا على أن خالق هذه الحقيقة هو منزل القرآن"1.
رأي الدكتور عبد العزيز إسماعيل:
ويرى الطبيب عبد العزيز إسماعيل في كتابه "الإسلام والطب الحديث" أن من إعجاز القرآن فصاحته، وأن المتأخرين أمثالنا أكثرهم لا يقدر الفصاحة حق تقديرها لعدم تبحرهم فيها، وأنه لهذا كان من الضروري إظهار إعجاز القرآن من نواحٍ أخرى "فالقرآن ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك؛ ولكنه يشير أحيانًا إلى سنن طبيعية ترجع إلى هذه العلوم، وبما أنه صادر من واضع السنن كلها كان جميع ما جاء فيه حقًّا لا شبهة فيه، وإن لم يكن ذلك مدركًا وقت نزوله إلا على طريق الإجمال أو التأويل؛ لعدم استبحار العلوم إذ ذاك؛ ولكن مع الترقي في العلوم قلما كان يعمد إلى تأويله، وكثر ما وجب أخذه على ظاهره في ذلك العهد".
إلى أن قال منبهًا: "ويجب أن أنبه إلى نقطة هامة؛ وهي أن العلوم مهما تقدمت فهي عرضة للزلل، فينبغي ألا يطبق على الآيات الكريمة إلا ما يكون قد ثبت ثبوتًا قطعيًّا ولم يقبل الشك، فكثير من النظريات العلمية عرضة للتغيير والتبديل، وهذه لا يجوز تطبيقها على الآيات حتى ولو اتفقت مع ظاهرها؛ إنما يطبق منها ما يكون قد اجتاز دور النظريات وصار حقيقة ثابتة لا شك فيها"2.
رأي حنفي أحمد:
وفي كتابه التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن يرى الأستاذ حنفي
__________
1 الإسلام في عصر العلم: محمد أحمد الغمراوي ص257-259.
2 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص13، 14.(2/571)
أحمد أن الحديث في القرآن عن الكائنات جاء كما جاء غيره من الأحاديث مناسبًا لجميع الناس على اختلاف درجات عقولهم وأفهامهم.
ثم قال: "ولكن المتأملين في هذا الحديث من أهل العلم والخبرة بالكائنات يرون في ألفاظه وعباراته فوق معانيها الظاهرة معاني أخرى دقيقة، تنطوي على أصول وجوامع من العلم الواسع الدقيق عن الكائنات الذي لم يكن معروفًا للناس من قبل، ولم يتعرفوا عليه إلا تدريجًا بعد انتشار العلم الحديث بينهم في القرنين الأخيرين، وتنكشف هذه المعاني الدقيقة لهؤلاء المتأملين من أصحاب العقول الراجحة على ضوء علمهم الخاص، إما من صريح النص حينًا وإما من إشارات ورموز فيه حينًا آخر1.
رأي عبد الرزاق نوفل:
أما الأستاذ عبد الرزاق نوفل، فكل كتبه حديث عن الإعجاز العلمي إلا القليل منها، وجاء في أحد مؤلفاته قوله: "إن من ضمن أوجه إعجازه التي تخرص ألسنة كل مكابر الإعجاز العلمي؛ فقد أثبت التقدم الفكري في العلوم في العصر الحديث أن القرآن كتاب علم، قد جمع أصول كل العلوم والحكمة، وكل مستحدث من العلم نجد أن القرآن قد وجه إليه
النظر أو أشار إليه ... "2.
رأي محمد متولي الشعراوي:
أما الشيخ محمد متولي الشعراوي، فيرى أن القرآن الكريم مزَّق حواجز الغيب الثلاثة ... مزق حجاب الزمن الماضي، وروى لنا بالتفصيل تاريخ الرسل وحوادث مَن سبقنا مِن الأمم ... ومزق حجاب المكان، وروى لنا ما يدور داخل نفوس الكفار، والذين يحابرون الإسلام ... ومزق حجاب المستقبل القريب، وتنبأ بأحداث ستقع بعد شهور.
ثم قال: "ثم بعد ذلك مزق القرآن حجاب المستقبل البعيد؛ ليعطي الأجيال القادمة من إعجازه ما يجعلهم يصدِّقون القرآن ويسجدون لقائله وهو الله؛ ولكن القرآن نزل في زمن لو أن هذه المعجزات المستقبلة جاءت تفصيلية لكفر عدد من المؤمنين، وانصرف
__________
1 التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: حنفي أحمد ص5، 6.
2 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل ص23.(2/572)
آخرون؛ ذلك أن الكلام كان فوق طاقة العقول في ذلك الوقت؛ ومن هنا وحتى لا يخرج المؤمن عن إيمانه، ويستمر الإعجاز جاء القرآن بنهايات النظريات، بقمة نواميس الكون إذا تليت على المؤمنين في ذلك الوقت ... مرت عليهم ولم ينتبهوا إلى مدلولها الحقيقي العلمي، وإذا قيلت بعد ذلك على الأجيال القادمة عرفوا ما فيها من إعجاز، وقالوا: إن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله شخص عاش منذ آلاف السنين؛ إذًا لَا بُدَّ أن هذا القرآن حق من عند الله، وأن قائله هو الله الخالق"1.
رأي محمود أبو الفيض المنوفي:
وذلك في كتابه "القرآن والعلوم الحديثة"، قال فيه: "إن العلم في عصرنا الحاضر قد كشف عن حقائق قرآنية كثيرة وردت في آياتٍ من كتاب الله قبل أن يرتقي العلم ويشب عن الطوق"2.
وعقد في موضع آخر فصلًا بعنوان: "في أن القرآن هو الإمام الذي أحصى الله فيه كل شيء تصريحًا أو تلميحًا"، وجاء فيه قوله عن القرآن الكريم: "إنه أول كتاب ديني تصدَّى للكلام عن أصول المعارف العلمية والفلسفية أحيانًا تلميحًا وأخرى تصريحًا، ومرة إجمالًا وأخرى تفصيلًا، وكان ذلك طبعًا قبل أن يكتشف العلم أسلوبه الحديث، وقبل أن يخلق العلماء المحدثون، وقد تكلم القرآن إجمالًا عن الكائنات السماوية والأرضية في مجموعها من ألغاز إلى السدم إلى الكواكب والشموس والأفلاك والشهب والنيازك، وعن شمسنا ونظامنا وانشقاق الأرض عنها وباقي السيارات وتوابعها، وتكلم عن بقية الخليقة من جماد ونبات وحيوان، وكيفية تكوين الجنينين النباتي والحيواني وجنين الإنسان ... "3.
__________
1 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص38، 39.
2 القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المتوفي ص18.
3 القرآن والعلوم الحديثة: محمود أبو الفيض المنوفي ص49، 50.(2/573)
رأي محمود أحمد مهدي:
قال في كتابه البرهان من القرآن: "في القرآن الكريم 750 آية كونية تشرح بإيجاز خلاصة ما أكن الله سبحانه في العوالم الكونية من تراكيب مادية بدقة تدق على العقل، أوجد بها هذه المكونات من سماء وأرض ونبات وحيوان"1.
وقال في موضع آخر: "والآن ونحن في أواخر القرن العشرين، هذا القرن الذي بلغ بزعم عرفائه القمة من إدراك العلم وتحقيق غاياته، يجب أن نواتر من الآيات القرآنية ما يتوافق مع الكشوف العلمية المستحدثة، وما يرد العلم رغمًا عنه إلى الموافقة على عظمة القرآن الكريم، مقارنين كل آية بما يقابلها من التحقيق العلمي الحاضر"2.
رأي محمد بن سعيد الدبل:
وعدَّد الأستاذ محمد الدبل وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وعَدَّ منها الإعجاز العلمي، وقال عنه: "وقد سلك القرآن الكريم في هذا الوجه طريقة الاستدلال على خالق الكون ومنشئه استدلالًا فطريًّا يتناسب مع جميع العقول والأفهام؛ فتحدثت آياته عن كل ما يحيط بالإنسان من عجائب هذا الكون، تحدث عن الأرض والسماء، والليل والنهار، والشمس والقمر، وعن الجبال والبحار، والرياح والنبات والحيوان، وعن الإنسان نفسه، ذلك الآدمي الذي يسخر تلك المخلوقات فيما يزود به معاشه بقدرة الخالق الحكيم، كما أشار القرآن إلى حقائق أماط اللثام عن الحكمة من وجودها، وأشار إلى حقائق تارة بالتلميح وتارة بالتصريح ومرة بالإجمال وأخرى بالتفصيل"3.
رأي الشيخ عبد العزيز بن خلف آل خلف:
قال في كتاب له شحنه بالتفسير العلمي: "فقد أنزل الله القرآن العزيز تبيانًا؛ أي: مبين، ودليل على كل ما يمكن أن يقال له شيء من جميع ما في السماوات
__________
1 البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي ص47، 48.
2 المرجع السابق ص46.
3 النظم القرآني في سورة الرعد: محمد بن سعد الدبل ص29.(2/574)
وما في الأرض"1.
وقال: "إنه من الواجب على المسلمين -الفرد منهم والجماعة، وعلى أولي العلم أوجب- أن يفتشوا في طياته؛ حتى يظهر الدليل القطعي على كل صغير وكبير، ونطبق معانيه المباركة على صيرورة تلك المستحدثات المصنوعة التي بهرت عقول الجاهلين، كل فرد بمفرده؛ حتى تكون صيرورتها معجزات متتابعات من معجزات القرآن العزيز"2.
وقال: "إن من الحق الذي لا ريب فيه أن القرآن العزيز قد حمل في طياته للبشرية كل هدى، وكل دليل بارز على كل أمر يحدث في هذا الكون ديني أو دنيوي للنفع أو للضرر"1.
رأي الدكتور محمد عبد الله دراز:
قال الدكتور دراز في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم" تحت عنوان حقائق علمية: "ولكن القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحاديث الجارية وحدها؛ وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة، لا بغرض دراستها وفَهْمِها في ذاتها فحسب؛ وإنما لأنها تذكِّر بالخالق الحكيم القدير، ونلاحظ أن هذه الحقائق التي يقدمها تتفق تمامًا مع آخر ما توصل إليه العلم الحديث"، ثم ذكر -رحمه الله تعالى- أمثلة لذلك.
وعلق على ذلك بقوله: "ولكن الحماس دفع بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن؛ بحيث أصبحت خطرًا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تعول أكثر مما يجب على آراء العلماء، وحتى على افتراضاتهم المتناقضة، أو التي يصعب التحقيق من صحتها.
__________
1 دليل المستفيد على كل مستحدث جديد: الشيخ عبد العزيز بن خلف بن عبد الله آل خلف ج1 ص68.
2 المرجع السابق ج1 ص70.(2/575)
وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث نرى أن من مقتضيات الإيمان -التي لا غنى عنها- أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة"1.
رأي حسن البنا:
قسَّم -رحمه الله تعالى- المقررات العلمية إلى قسمين: قسم تظاهرت عليه الأدلة وتوافرت الحجج؛ حتى كاد يلحق بالبدهيات، وقسم لا زال في طور البحث العلمي، وكل الذي بين يدي العلماء الكونيين منه فروض تؤيدها بعض القرائن التي لم ترقَ إلى مرتبة الأدلة القاطعة أو الحجج المقنعة، فما كان من القسم الأول فلا شك أن ما أشار إليه القرآن الكريم منه يوافق كل الموافقة ويطابق كل المطابقة ما عرفه العلماء الكونيون؛ حتى إنه من الحق أن يقال: إن ذلك من إعجاز هذا الكتاب الذي جاء به أمي لم يتعلم في مدرسة، ولم يلتحق بجامعة من الجامعات، ومن أمثلة ذلك إشاراته إلى أطوار الجنين، وتلقيح الرياح، وتَكَوُّن السحاب وصلته بالرياح ... إلخ.
وما كان من القسم الثاني فمن التجني وظلم الحقيقة أن يوازن بينه وبين ما جاء في القرآن الكريم، فلننتظر حتى يطمئن العلم الكوني إلى ما بين يديه2.
وبعد:
هذه إشارات لآراء بعض مؤيدي التفسير العلمي، ولا شك أني أكثرت من عددهم وإن لم أكن أطلت في بسط آراء كل منهم وعمدًا أكثرت، وقصدًا أوجزت؛ وإنما فعلت ما فعلت لأمور خمسة أمست الكفاية في بعضها قائمة وحجة أحسبها لي.
أول هذه الأمور: أني قصدت بيان مدى انتشار القول بالتفسير العلمي في العصر الحديث، وأنه قد أصبح شائعًا وأضحى مطروقًا.
وثانيها: أني قصدت بيان توزعهم زمنًا؛ حتى كان فيهم مَن تُوفي أوائل
__________
1 مدخل إلى القرآن الكريم: الدكتور محمد عبد الله دراز ص176، 177.
2 مقدمة في التفسير مع تفسير الفاتحة وأوائل سورة البقرة: حسن البنا ص21.(2/576)
القرن الرابع عشر، ومنهم مَن لا يزال حيًّا يرزق، وكلهم مؤيد له، مدافع عنه، لم يرجع آخرهم عن قول أولهم.
وثالثها: أني قصدت بيان انتشارهم مكانًا؛ ففيهم المصري والشامي والجزائري والعراقي والسعودي وغيرهم.
ورابعها: أني قصدت تعدد مذاهبهم وعقائدهم؛ ففيهم السني وفيهم الشيعي وفيهم الصوفي وغيرهم.
وخامسها: أني قصدت تعدد تخصصهم العلمي؛ ففيهم القاضي وفيهم الطبيب والمهندس والصيدلي والفلكي واللغوي والمعلم الأديب وغيرهم.
وهذه مجتمعة رأيت أنها تشفع لي -بل توجب عليَّ- أن أذكر الكثير من مؤيدي التفسير العلمي؛ حتى أعطي الصورة الحقيقية للواقع، وهي مرادنا.
وأخيرًا، حقيقة يجب أن أنبه إليها أن هؤلاء المذكورين ليسوا كلهم على درجة واحدة في قبولهم للتفسير العلمي؛ فإن فيهم مَن يؤيده كل التأييد ويقبله كل القبول، لا يرد منه شيئًا، ويعتقد أن القرآن تبيان لكل شيء؛ بمعنى أنه مبين لكل شيء بخصوصه ودقائقه وتفاصيله، وفيهم مَن يعتقد أن فيه تأييد كل الحقائق العلمية، وفيهم -أخيرًا- مَن يعتقد قبول التفسير العلمي على أضيق نطاق، وعدم تطبيق الآيات العلمية، ووجد في نصوص الآيات القرآنية ما يدل دلالة صريحة عليها، بمعنى آخر: لا يجوز التفسير العلمي وعندهم إلا بالربط بين حقيقة علمية وحقيقة قرآنية، أما الحقيقة العلمية فواضحة وبينة، أما مرادهم بالحقيقة القرآنية فهي التي تكون الدلالة فيها واضحة بينة، لا تكلف فيها ولا تحريف، ولا صرف للألفاظ عن مدلولاتها، أو تحميلها من المعاني ما لا تستوعبه ألفاظها.
وإنما ساغ لي أن جمعتهم -وهم على هذا الاختلاف- أن قبوله والاعتراف به يجمعهم، وأنهم تناولوه -على تفاوت- في تفاسيرهم؛ فكان هذا رباطًا بينهم، وجامعًا لأقوالهم.
أما الطائفة الأخرى منهم الذين رفضوه، ورفضوا القول به، ورفضوا قبوله، ورفضوا تطبيقه.(2/577)
أقوال المعارضين:
وهم ولا شك وإن كانوا الأقل إلا أنهم ليسوا بقلة، وفوق هذا منهم أعلام لرأيهم قيمته ومكانته، وذِكْرُنا لذلك العدد من المؤيدين يوجب علينا ذِكْرَ مثلهم أو ما يقاربه من المعارضين؛ التماسًا للحياد في العرض، والعدالة في القسمة؛ فمن هؤلاء:
محمود شلتوت:
وهو من أبرز المعارضين للتفسير العلمي وأشهرهم؛ فقد ذكر في تفسيره ناحيتين يجب تنزيه التفسير عنهما، وجعل تفسير القرآن على مقتضى النظريات العلمية الناحية الثانية منهما، فقال:
"وأما الناحية الثانية: فإن طائفة أخرى هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وتلقنوا أو تلقفوا شيئًا من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها.
نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1؛ فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحًا جديدًا؛ ففسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.
__________
1 سورة الأنعام: من الآية 38.(2/578)
نظروا في القرآن على هذا الأساس؛ فأفسد ذلك عليهم أَمْرَ علاقتهم بالقرآن، وأفضى بهم إلى صورمن التفكير لا يريدها القرآن، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله، فإذا مرت بهم آية فيها ذِكْر للمطر، أو وصف للسحاب، أو حديث عن الرعد أو البرق؛ تهللوا واستبشروا، وقالوا: هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين، ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب، وكيف ينشأ، وكيف تسوقه الرياح".
ولم يزل الشيخ شلتوت يذكر بعض الأمثلة الخاطئة في التفسير العلمي، ثم عقب عليها ببيان جوانب الخطأ في هذا الاتجاه بقوله:
"هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك؛ لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف.
وهي خاطئة من غير شك؛ لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلًا متكلفًا، يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم.
وهي خاطئة؛ لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان، والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصح غدًا من الخرافات.
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة؛ لعرضناه للتقلب معها، وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفًا حرجًا للدفاع عنه.
فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخَلْق وظواهر الطبيعة؛ إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر؛ ليزداد الناس إيمانًا مع إيمانهم.
وحسبنا أن القرآن لم يصادم -ولن يصادم- حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول"1.
__________
1 تفسير القرآن الكريم: محمود شلتوت ص11، 13، 14.(2/579)
وهأنت ترى أن الشيخ شلتوت يرفض هذا اللون من التفسير، ويعده مما يجب أن ينزه عنه التفسير، ويذكر جوانب الخطأ فيه، ويدعو إلى أن ندع للقرآن عظمته وجلالته، مع اعترافه أن القرآن لم يصادم -ولن يصادم- حقيقة علمية.
والذي أعتقده أن الشيخ شلتوت ما اتخذ هذا الموقف إلا كردِّ فعل لما شاهده في عصره من جُرأة كثير من المفسرين ونحوهم على آيات القرآن، يفسرونها بكل ما فيه مسحة من العصر علمية، معرضين أو غافلين عن التفريق بين حقها وباطلها؛ مما أوقعهم وسيوقعهم في حرج شديد حين ظهور بطلان ما اتكئوا عليه من النظريات، وهو بُعْدُ نظر منه رحمه الله.
أمين الخولي:
ولئن كان الشيخ شلتوت من أبرز المعارضين ومن أشهرهم، فإن أمين الخولي هو أبرزهم وأشهرهم إن كان مقياس ذلك قوة الرفض وضعفه؛ فقد عقد أمين الخولي في رسالة له صغيرة عن "التفسير معالم حياته منهجه اليوم" عقد بحثًا عنوانه: "إنكار التفسير العلمي"، ذكر فيه قِدَمَ الاتجاه إلى التفسير العلمي، وقِدَمَ المخالفة في صحته، وعرض فيه أدلة الشاطبي وأقواله في إنكار هذا اللون من التفسير، ثم عقب على هذا بقوله:
"وإذا كان هذا هو الرأي القديم العهد في فهم القرآن فهمًا يجعله مصدر العلوم المختلفة، ويأخذ كَلِمَه باصطلاحات حادثة بعده بأزمنة غير قصيرة؛ فإنك لتضم إلى هذا البيان من النظرات الحديثة ما يؤيده ويعززه؛ فمنها:
1- الناحية اللغوية في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها، لو ملكنا منها ما لَا بُدَّ لنا أن نملكه في تحديد هذا التدرج، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها؛ لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فَهْم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معاني وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها، أو إن كانت تلك الألفاظ قد استعملت في شيء منها، فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال.
2- الناحية الأدبية أو البلاغية -إن شئت- والبلاغة -فيما يقال- مطابقة(2/580)
الكلام لمقتضى الحال، فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع من التفسير العلمي كلامًا يوجه إلى مَن خُوطب به من الناس في ذلك العهد، مرادًا به تلك المعاني المذكورة، مع أنها معانٍ من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعدما جازت آمادًا فسيحة، وجاهدت جهادًا طويلًا، ارتقى به عقلها وعلمها!!! وهب هذه المعاني العلمية المدعاة كانت هي المعاني المرادة بالقرآن، فهل فهمها أهل العربية منه إذا ذاك وأدركوها؟!
وإذا كانوا قد فهموها فما لنهضتهم العلمية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المفهمة لدقائقها!! وإن كانت لم تفهم منها، ولم يدركها أصحاب اللغة الخُلَّص من عبارتها كما هو الواقع فعلًا فكيف تكون معاني القرآن المرادة؟ وكيف تكون تلك الألفاظ مفهمة لها؟ وهل هذه هي المطابقة لمقتضى الحال؟!
3- وهناك الناحية الدينية أو الاعتقادية؛ وهي التي تبين مهمة كتاب الدين، وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون وحقائق الوجوه العلمية؟ وكيف يساير ذلك حياتهم ويكون أصلًا ثابتًا لها تختم به الرسالات السماوية كما هو الشأن في القرآن، مع أن هؤلاء المتدينين لا يقفون من معرفة هذه الحقائق عند غاية محدودة، ولا ينتهون منها عند مدى ما! فكيف تؤخذ جوامع الطب والفلك والهندسة والكيمياء من القرآن على نحو ما سمعت آنفًا، وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضطبه لها بعد يسير من الزمن أو كثير، وما ضبطه منها القدماء قد تغير عليهم فيما مضى، ثم تغير تغيرًا عظيمًا فيما تلا!!
والحق البيِّن أن كتاب الدين لا يُعنَى بهذا من حياة الناس، ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم مؤنته حتى يلتمسوه عنده، ويعدوه مصدرًا فيه.
وأما ما اتجهت إليه النوايا الطيبة من جعل الارتباط بين كتاب الدين والحقائق العلمية المختلفة ناحية من نواحي بيان صدقه أو
إعجازه أو صلاحيته للبقاء ... إلخ، فربما كان ضَرُّه أكثر من نفعه، على أنه إن كان لَا بُدَّ لأصحاب(2/581)
هذه النوايا ومَن لف لفهم من أن يتجهوا إليه؛ ليدفعوا مناقضة الدين للعلم، فلعله يكفي في هذا ويفي، ألا يكون في كتاب الدين نص صريح يصادم حقيقة علمية يكشف البحث أنها من نواميس الكون ونظم وجوده، وحسب كتاب الدين بهذا القدر صلاحية للحياة ومسايرة للعلم وخلاصًا من النقد"1.
هذا ما يراه أمين الخولي، وفيه ما يُقبل وفيه ما يُرد، وما توقفت عند نصوصه مثل وقوفي عند قوله: "والحق البيِّن أن كتاب الدين لا يُعنَى بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان ... إلخ"؛ إذ لا أدري على أي أساس قال هذا، وما هي المقدمات التي كانت نتائجها الفصل بين الدين والعلم، ولن أقف طويلًا في محاورته؛ إذ الحديث آتٍ بعدُ، إن شاء الله.
محمد حسين الذهبي:
أما الشيخ الذهبي -رحمه الله تعالى- فهو كالخولي يعقد فصلًا عنوانه: "إنكار التفسير العلمي"، بسط فيه رأي الشاطبي وأدلته وأطال في ذلك، ثم تحدث الذهبي عن اختياره في هذا الموضوع، قال فيه: "أما أنا فاعتقادي أن الحق مع الشاطبي -رحمه الله- لأن الأدلة التي ساقها لتصحيح مدعاه أدلة قوية، لا يعتريها ضعف، ولا يترطق إليها خلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة، لا تثبت أمامها حججهم ولا يبقى معها مدعاهم، وهناك أمور أخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق في جانب الشاطبي ومن لفَّ لفه"2.
ثم ذكر الذهبي -رحمه الله تعالى- نفس الأمور الثلاثة التي ذكرها قبله أمين الخولي في إنكار التفسير العلمي، مع بعض الاختلاف في بعض العبارات، وإن كانت المعاني في كل واحدة، والأمور الثلاثة -كما مر- هي:
1- الناحية اللغوية.
__________
1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص25، 26.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص157.(2/582)
2- الناحية البلاغية.
3- الناحية الاعتقادية.
ثم عقب على هذه الأمور الثلاثة نحو تعقيب الخولي فقال: "وإذا كان أرباب هذا المسلك في التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، ودعوة الله لهم بالنظر في كتاب الكون وآياته التي بثها في الآفاق وفي أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا في دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأولين والآخرين؛ فهم مخطئون ولا شك؛ وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وفي أنسهم، لا يراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة في النفس وجلال في القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنيٌّ عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في: إصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضًا أن من الخير لهم ولكُتَّابهم ألا ينحوا بالقرآن هذا المنحى في تفسيرهم؛ رغبة منهم في إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشي مع التطور الزمني، وحسبهم ألا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جد ويجد من نظريات وقوانين علمية تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة"1.
والذهبي كما ترى يرفض التفسير العلمي أو تطبيق آيات القرآن عليه كل
__________
1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج2 ص159، 160.(2/583)
الرفض، ويبدو لي أنه متأثر بهذا برجلين؛ أولهما: الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- فقد بسط رأيه وأدلته مؤيدًا لها. وأما ثانيهما: فأمين الخولي؛ فقد أورد نفس حججه وأدلته التي زادها على أدلة الشاطبي.
محمد عزة دروزة:
رفض الأستاذ دروزة التفسير العلمي واستخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات عند تفسيره لقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1، فقال: "ولقد قرأنا مقالًا أراد كاتبه أن يجعل صلة بين اختصاص البنان بالذكر وبين ما ظهر حديثًا من علم بصمات الأصابع، وما صار له من خطورة في إثبات شخصيات الناس، وتمشيًا مع الفكرة التي سادت بعض الناس من استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية للتدليل على صدق القرآن وإعجازه، ومعجزات الله المشار إليها فيه، وفي هذا في اعتقادنا تحميل لكلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل، وإخراج له من نطاق قدسيته وغايته، وتعريض له للجدل والنقاش.
ولقد نزل القرآن بلسان العرب على قوم يفهمونه، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشرحه وتبيانه، والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة، ولا يصح لمسلم مهما حسنت نيته أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن"2.
عباس العقاد:
أما العقاد -رحمه الله- فقد رفض التفسير العلمي، وجعل سبب رفضه تجدد العلوم الإنسانية، وأنها لا تستقر على حال، وقد تتقوض قاعدة علمية بعد أن رسخت؛ ولهذا فهو يرفض أن يربط بين النص القرآني المحكَم مع هذه النظريات.
قال رحمه الله تعالى: "تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة
__________
1 سورة القيامة: الآية 4.
2 التفسير الحديث: محمد عزة دروزة ج2 ص7.(2/584)
التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون.
فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم، كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة؛ لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته وأحوال زمانه.
قد أخطأ أناس في العصور الأخيرة؛ لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها، واعتمادًا على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات"1.
ثم ذكر أمثلة أخرى نحو هذا من الأخطاء من التفسير العلمي وعقب عليها قائلًا: "وخليق بأمثال هؤلاء المعتسفين أن يحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم وهم لا يشعرون.
كلَّا، لا حاجة بالقرآن الكريم إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حُكْمًا من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع، وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان"2.
عائشة عبد الرحمن:
حين ألف الدكتور مصطفى محمود كتابه "محاولة لفهم عصري للقرآن"
__________
1 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد ص15.
2 المرجع السابق ص16، 17.(2/585)
أصدرت بنت الشاطئ الدكتورة عائشة كتابها "القرآن والتفسير العصري" ردت فيه على الدكتور مصطفى.
ثم كتبت "مستخلصًا" لكتابها هذا، وألحقته بكتاب آخر لها هو "القرآن وقضايا الإنسان"، وزادت عليه ردودًا حتى جاء أضعاف الكتاب الأصلي.
وقد تساءلت وأجابت على تساؤلها بقولها: "فماذا عسانا أن نصنع لنرسخ الإيمان في ضمائر الشاب وعقولهم، ممن يدرسون علوم العصر، ويدخلون المشرحة والمعمل والمصنع، ويتابعون جهود علماء الفضاء ورحلات القمر!
هل نأتيهم بقرآن غير هذا الذي نزل على نبي أمي في بيئة بدوية، أو نضحك على عقولهم ببدع من التأويلات تقدم لهم من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكولوجيا؟!
أبناء الجيل ليسوا من البلاهة والغفلة والسذاجة؛ بحيث يجوز عليهم أن يقول لهم قائل: إننا عرفنا الطائرات النفاثة؛ إذ عذنا برب الفلق من {شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} واهتدنيا إلى أسرار الذرة بـ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ! 1.
إلى أن قالت: "وخطر على عقلية الجماهير أن نخايلها بهذه الألفاظ المضخمة من بدع التأويلات العصرية العلمية، تمسخ عقليتهم، ويختل بها منطقهم، وتخدر وعيهم بغرور السبق إلى علوم العصر"2.
وقالت: "الإسلام يتجه إلى العقل في ترسيخ الإيمان، وكتابه المحكم يفصل الآيات لقوم يعقلون ويعلمون ويؤمنون، ويضرب الأمثال لعلنا نتفكر ونفقه ونؤمن. وقد حرر القرآن الإنسان من الأغلال التي تعوق تحقيقه لآية إنسانيته المكرمة أو تقيد مسعاه الطامح إلى ما سخر له الله: كل ما في السموات وما في الأرض.
__________
1 القرآن وقضايا الإنسان: عائشة عبد الرحمن ص426.
2 المرجع السابق ص428.(2/586)
بغير العقل لا يتميز حق من باطل، ولا هدى من ضلال، وبغير العلم لا سبيل إلى تسخير شيء مما في الأرض أو في السماء.
ولا حرج من الدين في أن يقرأ أبناؤنا نظرية التطور وأصل الأنواع في بحوث "دارون"، والنظرية المادية في إعلان "ماركس" ومؤلفاته، وشروح تلاميذه العلماء وإضافتهم.
لكن المحظور أن يقرءوا النظرية مشوهة ممسوخة مدسوسة على القرآن باسم العلم والعصرية والإيمان.
وأبناؤنا المسلمون يدرسون علوم العصر وأسرار الرياضيات والتكنولوجيا في موسكو ولندن وباريس وأدنبرة وفيينا وبرلين وبراج، ويطلبون العلم ولو كان في الصين.
ويحظر عليهم دينهم أن يطلبوا أيَّ علم إلا ممن وضح أنه أحاط بكل شيء علمًا، ووسع علمه السماوات والأرض والدنيا والآخرة.
أذكر أن فقيهًا من علمائنا سأله سائل في آية {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1، فهل يُعلم من القرآن كم رغيفًا يخبز من إردب قمح؟ قال: نعم، واتصل تليفونيًّا بمخابز "الرمالي" فأعطاه مدبرها الجواب، قال السائل: لكن هذا ليس من القرآن؟ رد شيخنا: بلى، في القرآن: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2، وقد فعلت.
ومن أهل الذكر نلتمس العلم، ونطلب الدين؛ فنرجح فيه إلى الله وإلى الرسول في الكتاب والسنة وفقه الأئمة وبحوث العلماء"3.
وهذا الموقف الذي وقفته من التفسير العلمي يبدو لي أنه متأثر بموقف أستاذها وزوجها أمين الخولي، الذي تأثرت به بنت الشاطئ كثيرًا، فلعل هذا من ذاك.
__________
1 سورة الأنعام: من الآية 38.
2 سورة النحل: من الآية 43.
3 القرآن وقضايا الإنسان: عائشة عبد الرحمن ص428-430.(2/587)
محمد كامل حسين:
وهو من أكثر المعارضين معارضة؛ بل إنه وصف التفسير العلمي بأوصاف لم يسبق إليها، فقال عنه خاصة الآيات الكونية: "إنه دعوى لا دليل عليها، ولا حاجة للمؤمنين بها، وأن هذه الآيات يجب أن تُفهم على ما فهمه المسلمون الأولون؛ حيث قالوا: هذا شيء نؤمن به ولا نصوره تصويرًا واقعيًّا، والذين يفسرون الآيات الكونية تفسيرًا علميًّا يدلون بذلك على ضعف إيمانهم، ولو كانوا مؤمنين حقًّا ما كانت بهم حاجة إلى شيء من ذلك يقوى به إيمانهم، فليس مقصودًا بالآيات الكونية غير الوعظ، والتفسير الحق هو الذي يقربها من أذهاننا تقريبًا يؤدي إلى الموعظة والعبرة، وكل تعمق في تصويرها تصويرًا واقعيًّا هو بدعة حمقاء"1.
ولم يكتفِ بوصفه على عجل بأنه بدعة حمقاء؛ بل جعل هذا الوصف عنوان فصل هو "التفسير العلمي بدعة حمقاء" وقال: "كنت أحسب أن أمر هذه البدعة لا يُعنَى به أحد ولا يقام له وزن حتى اعتنقها طبيب كبير، وقال بها قاضٍ ممتاز، ودافع عنها كيميائي معروف، وخُيِّل إلى الناس أن مفكرين وعلماء من هذا الطراز إذا قالوا: إن العلم الحديث موجود في القرآن؛ فلا بد أن يكون قولهم حقًّا"2.
ومما لا شك فيه أن في عباراته وألفاظه ما لا يُقبل ولا يصح، لا نريد نقدها وليس هذا هدفنا، وإن كان مرادنا يتحقق بإثبات كونه من الرافضين المعارضين.
شوقي ضيف:
فقد تحدث شوقي ضيف في مقدمة كتابه "سورة الرحمن وسور قصار" عن منهج ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ثم عن منهج الشيخ الإمام محمد عبده، إلى أن قال: "وقد تلت الشيخ الإمام تفاسير كثيرة؛ منها ما اهتدى بهديه، ومنها ما خاض
__________
1 الذكر الحكيم: محمد كامل حسين ص59.
2 المرجع السابق ص182.(2/588)
في مباحث علمية كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة؛ إذ القرآن فوق كل علم، ومن الخطأ أن يُتخذ ذريعة لإثبات نظرية علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية، وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون، وما ذكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يراد به بيان حكمة الله، وأن للوجود خالقًا أعلى يدبره وينظم قوانينه، ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية؛ ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تستنبط منه النظريات العلمية شيء آخر لا يتصل برسالته ولا بدعوته، إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يُحصى من قيم رُوحية واجتماعية وإنسانية، وحسب المفسر أن يُعنَى ببيان ما فيه من هذه القيم، ومن أصول الدين الحنيف وتعالميه، التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة1.
الدكتور صبحي الصالح:
عدَّد الدكتور صبحي الصالح آفاق الدراسات القرآنية الحديثة؛ فعد الأفق الحديث الثاني التوفيق العلمي، وقال عنه: "هذا الأفق الثاني مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية التوفيق تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان ولا عداء، أو يُظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات التوفيق"2.
إلى أن قال: "وقد تولى كبر هذا التوفيق المحفوف بكثير من الزلل طنطاوي جوهري في تفسيره الجواهر الذي قيل فيه: إن فيه كل شيء ما عدا التفسير! "3.
ثم ذكر نصًّا للجوهري فيه دفاع عن منهجه، وعقَّب عليه بذكر أمور
__________
1 سورة الرحمن وسور قصار: الدكتور شوقي ضيف ص10.
2 معالم الشريعة الإسلامية: الدكتور صبحي الصالح ص291.
3 المرجع السابق ص292.(2/589)
أخذت على تفسير الجوهري، ثم قال: "لذلك انتقد شيخ الأزهر المرحوم محمود شتلوت هذه المحاولات التوفيقية الخاطئة التي تبعد الناس عن هداية القرآن"1، وساق بعد ذلك قول الشيخ محمود شلتوت.
أحمد محمد جمال:
عارض الأستاذ أحمد محمد جمال تفسير الآيات تفسيرًا علميًّا والخوض بها في ذلك، فقال في ذلك: "أجل ... القرآن الكريم هو كتاب الإسلام وحامل معجزاته الباهرة؛ من أنباء وقصص وغيوب غابرة وحاضرة وآتية، بعضها تحقق فعلًا، وبعضها يتحقق على مدار الزمن، وتعاقب الأجيال.
ولكن "القرآن" مع ذلك ليس كتابًا علميًّا؛ أي: ليس كتاب نظريات علمية، وليس من شأنه أن يكون كذلك؛ فالنظريات العلمية تتناقض وتصدق اليوم، أو هكذا يبدو أنها صادقة، ثم تكذب غدًا.
وحاشى القرآن ما تناقض قَطُّ في أنبائه، ولا في قصصه، ولا في مبادئه التشريعية والخلقية.
ويخطئ بعض المثقفين من المسلمين حتى يحاولون تطبيق بعض إشارات القرآن أو بعض لفتاته المعجزة على الاكتشافات أو النظريات الحديثة، وهم يظنون أنهم يرفعون بذلك شأن القرآن؛ بينما يعرِّضونه بادعاءاتهم للتناقض والانتقاد والتعارض، ويضعونه دون موضعه من التقديس والتصديق"2.
وقد عرض الأستاذ أحمد جمال بعض التفاسير العلمية الحديثة وناقشها بما يبطلها.
عبد المجيد المحتسب:
أما الأستاذ عبد المجيد فهو ينكر نزعة التفسير العلمي للقرآن الكريم، ولا يسوغ إخضاع الآيات القرآنية للعلوم الكونية والطبيعية ألبتة، ولا يوافق
__________
1 المرجع السابق ص293.
2 على مائدة القرآن مع المفسرين والكُتَّاب: أحمد محمد جمال ص323.(2/590)
الذين يستخرجون النظريات العلمية من الآيات القرآنية، وعلل ذلك بـ"أن القرآن الكريم ليس كتاب علم؛ مثل: الكيمياء والذرة والهندسة والفلك والفيزياء وغير ذلك؛ وإنما هو كتاب أنزله الله تعالى على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام؛ ليكون هدى ورحمة للناس1.
ثم ذكر أربعة أدلة لاتخاذه هذا الموقف من التفسير العلمي، وقد فصَّل القول في أدلته بعض التفصيل، فقال ما خلاصته:
"أولها: إن جعل الارتباط بين القرآن وبين الحقائق العلمية المختلفة ناحية من نواحي بيان صدقه أو إعجازه أو صلاحيته للبقاء هو خلط بين علم التفسير وعلم إعجاز القرآن.
وثانيها: من المعروف بداهة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفهم القرآن جملة وتفصيلًا، ومن الطبيعي كذلك أن يفهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في جملته؛ أي: بالنسبة لظاهره وأحكامه، وكل مَن يرجع إلى كتب السنة يجد أنها قد أفردت للتفسير بابًا من الأبواب التي اشتملت عليها، ذكرت فيه كثيرًا من التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أمعنا النظر في هذا التفسير المأثور فإنا لا نجد فيه أي أصل من أصول العلوم المختلفة التي يتبجح بها أنصار وأصحاب الاتجاه العلمي في تفسير القرآن.
ثالثها: أن القرآن إما أن يكون من عند الله أو من العرب أو من محمد، ولا يمكن أن يكون من العجم؛ لأن العرب عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله؛ فالأعاجم بالضرورة أعجز، فالقرآن ليس من عند العرب، أما محمد عليه السلام فلو كان القرآن من عنده لكان أسلوب الحديث هو نفس أسلوب القرآن، والمعروف أن القرآن يختلف عن أسلوب الحديث؛ إذًا فالقرآن ليس من عند محمد، وإذا لم يكن القرآن من عند محمد عليه السلام ولا من عند العرب فهو من عند الله سبحانه وتعالى.
__________
1 اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص314.(2/591)
هذه هي الطريقة الصحيحة لإثبات صدق القرآن وصلاحيته للحياة، وليست طريقة إثبات ذلك نظريات علمية في القرآن الكريم.
رابعها: أن القرآن الكريم يشير كثيرًا إلى أشياء في الكون؛ مثل: الشمس والقمر والأهلة والنجوم والرياح، وحث الإنسان على أن يتدبر خلق السماوات والأرض، كل ذلك لتهيئة الإنسان إلى الإيمان عن طريق العقل بالخالق، وليربط الإيمان بالله عن طريق الفطرة بالإيمان بالله عن طريق العقل؛ ولكن الله سبحانه وتعالى لم يطلق العِنَانَ للعقل البشري في بحث كل ما ورد في القرآن الكريم؛ لأن عقل الإنسان قاصر، وقد يضيع في متاهات إذا بحث بعض الموضوعات.
وقد يكون التقدم العلمي في أحوال كثيرة عاملًا مساعدًا على الوصول إلى الإيمان بالخالق الواجب الوجود، وقد يكون خلاف ذلك؛ ولكن هذا شيء، وإخضاع الآيات القرآنية للعلوم المختلفة شيء آخر، وبخاصة النظريات المتغيرة"1.
هذه خلاصة الأدلة التي أوردها الأستاذ عبد المجيد المحتسب في ردِّه التفسير العلمي للقرآن الكريم.
والذي يظهر لي أن في بعضها ضعفًا في الاستدلال لا يقوى على الاحتجاج به؛ وإنما ذكرتها كوجهة نظر لأحد الباحثين أولًا، ولأنها تقوى بإضافتها إلى حُجج العلماء الآخرين وتقويها، أحسبها كذلك.
سيد قطب:
وكما ختمت آراء المؤيدين برأي حسن البنا -رحمه الله تعالى- وهو مَن هو؛ فإني أختم آراء المعارضين برأي سيد قطب -رحمه الله تعالى- وهو مَن هو.
وقد أفاض -رحمه الله تعالى- الحديثَ في نقد التفسير العلمي، وعذرًا إن أكثرت من نقل جواهره، وإن كان لي من ملاحظات ليس على جواهره تلك؛ وإنما على تصنيفه مع الرافضين؛ فسأرجِئُه إلى آخر نصوصه حتى يُفهم عَنِّي ما أردت قوله.
__________
1 اتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب ص314-323، باختصار.(2/592)
قال -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1: "لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص، كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض، ذات دَوْرٍ خاص في قيادة البشرية؛ لتنشئ نموذجًا معينًا من المجتمعات غير مسبوق، ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة، ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض، وتقود إليها الناس.
والإجابة "العلمية" عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علمًا نظريًّا في الفلك إذا هم استطاعوا، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكًا فيه كل الشك؛ لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات.
من هذا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية ولا تفيدها كثيرًا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها، وليس مجالها على أية حال هو القرآن؛ إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي أو كيمياوي أو طبي، كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم!
إن كلتا المحاولتين دليل على سُوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال علمه. إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية. وإن وظيفته أن ينشئ تصورًا عامًّا للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على اساس هذا التصور نظامًا للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته، ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها
__________
1 سورة البقرة: من الآية 189.(2/593)
على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل بالبحث العلمي في الحدود المتاحة للإنسان وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.
إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعَلاقاته. أما العلوم المادية والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته؛ بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه.
والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له، ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العَلاقة القائمة بين أجزائه -وهو أي الإنسان أحد أجزائه- ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته، ولا يعطيه تفصيلات؛ لأن معرفة هذه التفصيلات جُزْءٌ من عمله الذاتي.
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها؛ لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها.
والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان، والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه، وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب، وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.(2/594)
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانًا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه "حقائق علمية" مما ينتهي إليه بطريق التجرِبة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني -أيًّا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأداواتها. فمن الخطأ المنهجي -بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري!
هذا بالقياس إلى "الحقائق العلمية"، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تُسمى "علمية"؛ ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها ... فهذه كلها ليست "حقائق علمية" حتى بالقياس الإنساني؛ وإنما هي نظريات وفروض، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق! ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب؛ بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!
وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولًا على خطأ منهنجي أساسي، كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم:
الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن(2/595)
والقرآن تابع؛ ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق؛ لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سُوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته؛ وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي؛ حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل، لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة.
والثالثة: هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن؛ كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجد فيها جديد.
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا.
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فَهْمِ القرآن ... كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1، ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.
فكيف ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:
__________
1 سورة فصلت: الآية 53.(2/596)
يقول القرآن الكريم مثلًا: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ، ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون؛ الأرض بهيئتها هذه ويبعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، ويميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا، وبآلاف من الخصائص ... هي التي تصلح للحياة وتوائمها، فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة ... هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} 1، وتعميقه في تصورنا، فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه ... وهكذا.
هذا جائز ومطلوب؛ ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميًّا هذه الأمثلة الأخرى:
يقول القرآن الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 2، ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان، فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!
لا، إن هذه النظرية أولًا ليست نهائية؛ فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيًّا، وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه، ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر ما يكاد يبطلها، وهي معرضة غدًا للنقض والبطلان؛ بينهما الحقيقة القرآنية نهائية، وليس من الضروري أن يكون هذا معناها؛ فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان، ولا نذكر تفصيلات هذه النشأة، وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها، وهي أصل النشأة الإنسانية ... وكفى ولا زيادة.
__________
1 سورة الفرقان: آية 2.
2 سورة المؤمنون: آية 12، وقد جاءت هذه الآية في الأصل "خَلْقَ الْإنْسَانِ".(2/597)
ويقول القرآن الكريم: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} 1، فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس؛ وهي أنها تجري، ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلًا في الثانية؛ ولكنها تجري في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعًا بسرعة 170 ميلًا في الثانية؛ ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية -في أن الشمس تجري- وكفى؛ فلا نعلق هذه بتلك أبدًا.
ويقول القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} 2، ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها؛ فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية، ونقول: هذا ما تعنيه الآية القرآنية!
لا، ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة، وهي تحدد فقط أن الأرض فُصِلَتْ عن السماء، كيف؟ ما هي السماء التي فُصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية؛ ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!
وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة؛ فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق، وفرق بين هذا وذاك"3.
__________
1 سورة يس: الآية 38.
2 سورة الأنبياء: من الآية 30.
3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج1 ص181-184.(2/598)
ذلكم الرأي الواضح البيِّن لسيد قطب -رحمه الله تعالى- سقناه بطوله وبحروفه لما فيه من استفياء واستقصاء وشمول، ولئن سماه -رحمه الله- "استطرادًا "فإني لا أسميه إلا وفاء وجلاء للحق، وإني أعترف أني قد حاولت أن أختصر هذا النص مع الوفاء بالمعنى فما استطعت، وما توقفت عند جملة أريد حذفها إلا ورأيت تمام المعنى لا يقوم إلا بها.
وقد وعدت قبل أن أسوق النص أن أوضح لِمَ صنفتُه -رحمه الله تعالى- مع المانعين للتفسير العلمي، ولعل معترضًا يقول: كيف تضعه هنا وهو يقول في النص المنقول نفسه مستدركًا: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق عن الكون والحياة والإنسان في فَهْم القرآن ... ".
وللإجابة على هذا أقول: إنه -رحمه الله- بيَّن أن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده ... إلخ، أما
العلوم المادية، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه ... إلخ.
وأقول: إنه -رحمه الله- يعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرى، ووصفهم بأنهم:
1- يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه.
2- وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه.
3- وأن يستخرجوا منه جزئيات في علم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، فإذا كان وَصَفَهُمْ بهذا فكيف يكون مؤيدًا أو أن يقبل قولهم!!
وأقول: إنه -رحمه الله تعالى- وصف حقائق القرآن بأنها نهائية، ووصف ما يصل إليه البحث الإنساني بأنها حقائق غير نهائية ولا قاطعة، ثم وصف تعليق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية بأنه خطأ منهجي.
هذا في "الحقائق العلمية"، أما النظريات والفروض العلمية فوصف كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بها -إضافة إلى الخطأ المنهجي- بأنها تنطوي على ثلاثة معانٍ، كلها لا تليق بجلال القرآن.(2/599)
أولها: الهزيمة الداخلية ... إلخ.
ثانيها: سوء فَهْم طبيعة القرآن ووظيفته ... إلخ.
ثالثها: التأويل المستمر مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن ... إلخ.
فإذا كان -رحمه الله- وصف تعليق الآيات القرآنية بالحقائق العلمية بأنه خطأ منهجي، ومجرد محاولة التعليق للإشارات القرآنية بالنظريات والفروض العلمية بأنه خطأ منهجي أيضًا، وذكر فيه زيادة ما ذكر ... فأين التأييد أو القبول عنده للتفسير العلمي؟
فإن قلت: إنه أيد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها.
قلت: إن هذا لا يعد قبولًا للتفسير العلمي كتفسير؛ وإنما وهذا ما فهمته أن تذكر كشواهد لتوسيع المدلول، وفرق بين هذا وذاك، ويذكرني موقفه منه بموقف ابن تيمية -رحمه الله تعالى- من الإسرائيليات؛ حيث ذكر أنها تُذكر للاستشهاد لا للاعتقاد1.
__________
1 مجموع فتاوى ابن تيمية: ج13 ص366.(2/600)
الرأي المختار:
قبل أن أذكر الرأي الذي أميل إليه يجب أن أذكر حقيقة قد كنت أظنها لا تخفى إلى أن رأيت أحد الباحثين يقع في خلافها.
تلكم هي التفريق بين "التفسير العلمي" و"الإعجاز العلمي".
أما أولهما فهو مثار البحث والمناقشة، وأما ثانيهما فأحسبه أمرًا مسلمًا لا جدال فيه ولا إشكال.
ذلكم أن كتابًا أُنزل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن، وعرض لكثير من مظاهر هذا الوجود الكونية؛ كخلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وسوق(2/600)
السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس والقمر، وتحدث عن الكواكب والنجوم والشهب وأطوار الجنين والنبات والبحار، وغير ذلك كثير، ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن.
هذه النتيجة المتولدة عن أن القرآن لم ولن يصادم حقيقة علمية، لم أرَ بين علماء المسلمين من أنكرها، لا في القديم ولا في الحديث، وكل ما يثار من ضجة وما يسطر في الصحف ما هو إلا عن التفسير العلمي لا عن الإعجاز العلمي.
فالإعجاز العلمي قاعدة صُلْبة يقف عليها المسلمون جميعًا بكل ثقة وكل أمن؛ لكن طائفة منهم قالت: ما دام الإعجاز العلمي متحققًا في القرآن وثابتًا فما علينا أن نطبقه بين آياته واحدة واحدة، وبين الحقائق العلمية واحدة واحدة.
وامتنعت طائفة أخرى عن تطبيقه لا خوفًا عليه من النقض، وليس خشية على حقائقه؛ ولكن لعدم الثقة في مداركنا نحن البشر؛ فقد نحسب نظرية علمية حقيقة علمية، فما تلبث قليلًا إلا وتتقوض بعد رسوخ وتتزعزع بعد ثبوت ولات حين مناص نقع في الحرج الشديد؛ فيكذب القرآن وهو الصادق فتكون البلية، فالعيب والنقص في مداركنا وليس في حقائق القرآن.
إذًا فالمسلمون جميعًا يقولون بالإعجاز العلمي للقرآن؛ ولكنهم يختلفون في التفسير العلمي. هذا ما أحببت الإشارة إليه وبيانه، وكنت أظن هذا من الوضوح بما لا يخفى حتى رأيت أحد الباحثين يعقد مبحثًا في رسالته، ويقسم العلماء إلى قسمين: الأول القائلين بالإعجاز العلمي للقرآن، والثاني المانعين من القول بالإعجاز العلمي، وساق نصوصًا لهؤلاء يرفضون بها التفسير العلمي، وحَسِبَهم ينكرون بها الإعجاز العلمي.
وإذا ما اتضح هذا، وحق لي أن أقول بعده الرأي الذي أميل إليه في التفسير العلمي؛ فإني أقول رأيًا ما فطرته ولا ابتدعته، وقاله قبلي كثيرون.
ذلكم أن الحق فيما أرى وسط بين مذهبين:(2/601)
فلا رفض ولا إنكار للتفسير العلمي يمنع من:
1- إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية إثبات التوافق بين حقائقه النهائية القاطعة، وبين ما يثبت من الحقائق العلمية التي لا يقبل ثبوتها أيَّ نوع من الشك.
2- دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين الدين والعلم.
3- استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق ببيان إعجازه العلمي لهم.
4- الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه.
5- امتلاء النفس إيمانًا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسبما تصورها علوم الكون1، وحينما يرى الحقائق القرآنية ثابتة وصامدة تتكسر تحت أقدامها "النظريات" العلمية، وتعانقها بسلام "الحقائق" العلمية.
لا رفض يمنع هذا، ولا تسليم مطلقًا للتفسير العلمي؛ لأن:
1- إعجاز القرآن ثابت، وهي غني عن أن يُسلك في بيانه هذا المسلك المتكلَّف الذي قد يذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم2.
2- أن الدعوة القرآنية إلى النظر في الكون والعلوم هي دعوة لعامة الناس وخاصتهم إلى موضع العبرة والعظة؛ ليهتدي الناس بها إلى خالقها وموجدها، وليس إلى بيان دقائقها وكشف علومها.
3- أنه مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية "التوفيق" تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان
__________
1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص568، 569.
2 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص159.(2/602)
ولا عداء، أو يظن أنهما متلاقيان ولا لقاء؛ أعني: أنه لا ينبغي أن يحالف النجاح بصورة حتمية كل عملية من عمليات "التوفيق"1.
4- أن تناول القرآن بهذا المنهج وبذلك المدى يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني الكريم؛ لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة، مع أن كثيرًا من حقائق العلم مؤقتة ومتغيرة، ولا تظهر كلها دَفْعَة واحدة؛ بل تنكشف يومًا بعد يوم؛ وحينئذ يكون التعجل في تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلًا غير مشروع2.
5- أن ما يكشف من العلوم إنما هو نظريات وفروض كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية، إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق؛ ومن ثم فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جيدة لمجموعة الملاحظات القديمة3؛ ومن ثم فلا يصح أن نعلق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى لا نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية.
أقول: لا رفض للتفسير العلمي مطلقًا ولا تأييد وتسليم له مطلقين؛ بل جمع بين حقيقتين: حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك، وحقيقة علمية ثابتة بالتجربة والمشاهدة القطعيين؛ ومن هنا كان المسلمون كلهم متفقين -كما أسلفنا- على أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية؛ وإنما يقع التصادم عندما ندعي حقيقة علمية في الكون وهي ليست حقيقة علمية، أو ندعي حقيقة قرآنية وهي ليست حقيقة قرآنية4.
__________
1 معالم الشريعة الإسلامية: صبحي الصالح ص290.
2 الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي ص443.
3 في ظلال القرآن: سيد قطب ج2 ص97.
4 معجزة القرآن: محمد متولي الشعراوي ص47.(2/603)
لهذا فلا بأس -فيما أرى- من إيراد حقائق علمية ثابتة لا تقبل الشك عند تناول النص القرآني، مع إدراك معنى النص وفَهْمِه فهمًا سليمًا خاليًا من الشوائب والمؤثرات الخارجية، أو الميل به والانحراف لموافقة تلك الحقيقة العلمية، وهذا أيضًا كله مشروط بـ:
1- ألا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن؛ وهو الهداية والإعجاز.
2- أن تذكر تلك العلوم لأجل تعميق الشعور الديني لدى المسلم والدفاع عن العقيدة ضد أعدائها.
3- أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة، ويلفتهم إلى جلال القرآن، ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون الذي سخره الله لنا انتفاعًا يعيد للأمة الإسلامية مجدها1.
4- ألا تذكر هذه الأبحاث على أنها هي التفسير الذي لا يدل النص القرآني على سواه؛ بل تذكر لتوسيع المدلول، وللاستشهاد بها على وجه لا يؤثر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني؛ ذلك أن تفسير النص القرآني بنظرية قابلة للتغيير والإبطال يثير الشكوك حول الحقائق القرآنية في أذهان الناس كلما تعرضت نظرية للرد أو البطلان2.
__________
1 مناهل العرفان في علوم القرآن: عبد العظيم الزرقاني ج1 ص569، 570.
2 مجلة كلية أصول الدين، العدد الثاني ص58، مقال: "نظرات في مدرسة التفسير الحديثة" للدكتور مصطفى مسلم.(2/604)
أهم المؤلفات فيه:
لا أقصد أن أذكر تحت هذا العنوان شيئًا من التفاسير التي تناولت -عَرَضًا- التفسير العلمي، كما لا أقصد أن أذكر "كل" التفاسير التي أفردته بمؤلفات خاصة.
فظهر أن مرادي هنا أن أذكر أهم المؤلفات في التفسير العلمي في العصر(2/604)
الحديث، والتي أفردتها بالدراسة دون ما سواها من ألوان التفسير، أو أن تكون الألوان الأخرى لا تكاد توجد في أبحاثها؛ وعلى هذا فإني سأقتصر على ما ذكرت مع تعريف موجز لكل منها، ثم أفرد بعضها بدراسة خاصة كنموذج للتفسير العلمي في العصر الحديث.
فمن أهم المؤلفات في ذلك:
1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم:
المؤلف: طنطاوي جوهري.
2- كشف الأسرار النورانية القرآنية:
المؤلف: محمد بن أحمد الإسكندراني.
3- الكون والإعجاز العلمي للقرآن:
المؤلف: الدكتور منصور حسب النبي.
4- الإعجاز العددي للقرآن الكريم:
المؤلف: عبد الرزاق نوفل.
5- مع الطب في القرآن الكريم:
المؤلف: عبد الحميد دياب والدكتور أحمد قرقوز.
وسنفرد هذه المؤلفات -إن شاء الله- بدراسة خاصة لكل منها؛ لأهميتها في هذا الموضوع.
أما البقية من التفاسير فهي:
6- الإسلام في عصر العلم:
المؤلف: محمد أحمد الغمراوي.
ولد بمدينة زفتا بمحافظة الغربية في مصر سنة 1893م، حفظ القرآن الكريم، وتخرج في مدرسة المعلمين العليا سنة 1914م، ثم عمل مدرسًا بالمدارس الثانوية للجمعية الخيرية الإسلامية، وابتعث بعد ذلك إلى إنجلترا للتخصص في الكيمياء والطبيعة، وبعد عودته اختير أستاذًا للكيمياء في كلية الصيدلة إلى أن أحيل للمعاش، وفي سنة 1960م دعي إلى المملكة العربية(2/605)
السعودية؛ فأسس كلية الصيدلة بجامعة الرياض، وعمل بها أستاذًا وعميدًا ثلاث سنوات، ثم عهدت إليه إدارة الأزهر بالتدريس في كلية أصول الدين، ثم درس لطلبة الدراسات العليا بنفس الكلية، وتوفي -رحمه الله تعالى- سنة 1971م.
الكتاب: حينما كان المؤلف -رحمه الله تعالى- يدرس في كلية أصول الدين طبعت لجنة التأليف بعض محاضراته فيها بعنوان: "في سنن الله الكونية"، وكان له نشاط في المجالات الإسلامية ومنها تلك السلاسل تحت عنوان: "دلالة القرآن على نفسه أنه من عند الله" و"السماء في القرآن وفي العلم" و"الجبال في القرآن"، وكان له مذكرات دوَّنها طلابه في كراستين؛ واحدة بعنوان: "إسلاميات"، والثانية بعنوان: "سنن كونية".
وقد دعا هذا أحد أصدقاء المؤلف -وهو الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني- إلى القيام بجمع هذا الكنز العلمي وتنسيقه وترتيبه وطبعه في هذا الكتاب "الإسلام في عصر العلم"، وقد كان لهذا الكتاب أثره بين علماء المسلمين في العصر الحديث1، ويقع الكتاب في 460 صفحة، وفي مجلد واحد.
وقد قسمه جامعه إلى أربعة أبواب؛ هي:
تحدث المؤلف في الباب الأول وعنوانه: "الإسلام دين الفطرة" وفيه عشرة فصول، تحدث عن الإسلام والفطرة، والإسلام دين العزة ودين الكرامة ودين الوفاء، وفي الفصل الخامس الإسلام والعلم والمدينة، وفي السادس الإسلام وسنن العلم، وفي السابع الطواف نظرة علمية، وفي الثامن الإسلام وسنن الاجتماع، ثم الإسلام والهجرة، ثم الاستعمار والإسلام.
أما الباب الثاني فهو "محمد رسول الهدى" وفيه أربعة فصول، وفي الباب الثالث القرآن المعجزة الخالدة وفيه تسعة فصول.
أما أهم الأبواب وأوسعها فهو الباب الرابع "من الإعجاز العلمي للقرآن"، وفيه ستة فصول، تحدث في
__________
1 أخذت ترجمة المؤلف وبعض المعلومات الواردة هنا من الترجمة التي كتبها الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني في مقدمة "الإسلام في عصر العلم".(2/606)
الفصل الأول عن القرآن والعلم، وفي الثاني "تفسير الآيات الكونية"، وفي الثالث "الجبال في القرآن"، وفي الرابع "السماء في القرآن"، وفي الخامس "الظواهر الجوية في القرآن" و"نظرة في النبات" و"الطاقة"، وفي السادس "مخترعات العصر والقرآن".
هذا هو الكتاب وهذه هي أبحاثه، ولولا أني أخشى المطالبة بالبراهين لسقت أهم محاسنه وأهم المآخذ عليه، ولو أوردت هذا وذاك لأخذ حيزًا في البحث طويلًا.
7- القرآن والعلوم العصرية:
المؤلف: طنطاوي جوهري.
ستأتي ترجمته -إن شاء الله- عند الحديث عن تفسيره: "الجواهر في تفسير القرآن الكريم".
الكتاب: هو رسالة صغيرة لا تتجاوز صفحاتها 85 ورقة من الحجم المتوسط، بين يدي طبعتها الثانية، وصدرت سنة 1371 من مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
اختار المؤلف فيه بعض الآيات، وفسرها تفسيرًا علميًّا؛ فيذكر "فصل في تفسير آية كذا"، ثم يذكر تحت هذا الفصل شتى العلوم والمعارف التي يحسبها تفسيرًا للآية.
8- القرآن ينبوع العلوم والعرفان:
المؤلف: على فكري.
هو علي فكري ابن الدكتور محمد عبد الله، ولد سنة 1296 في القاهرة، وتُوفي بها سنة 1372، ثم عمل مدرسًا ثم كاتبًا بوزارة المعارف، ثم نُقل إلى دار الكتب المصرية سنة 1330 تقريبًا، وله عدد من المؤلفات؛ منها:
1- الكتاب موضع الحديث "ينبوع العلوم والعرفان".
2- آداب الفتى.
3- آداب الفتاة.(2/607)
4- عظة النساء.
5- مسامرات البنات.
6- المكاتبات الفكرية.
7- دليل العملة والمعاملة.
8- سعادة الزوجين.
9- التربية الاجتماعية.
10- سبيل النجاح.
11- تربية البنين.
12- الإنسان.
13- الآداب الإسلامية.
14- تقوم الأخلاق.
15- السمير المهذب "أربعة أجزاء".
16- المعاملات المادية والأدبية، 4 أجزاء.
17- أحسن القصص، خمسة أجزاء1.
هذه هي مؤلفاته؛ وإنما سقتها ليتضح أن المؤلف غير متخصص في التفسير، وأن كتابته في التفسير ككتابة كثير من المعاصرين كتابة مثقف وليست كتابة مفسر.
الكتاب: ينبوع العلوم والعرفان
ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء متوسطة الحجم، وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب سنة 1365.
وقد وضح في مقدمته ما يحتوي عليه كتابه فقال بعد أن ذكر أن القرآن الكريم قد أشار بوضوح تام إلى العلوم الكونية التي تدارسها العالم القديم والحديث، قال: "لهذا رأيت وجوبًا عليَّ -خدمة للدين والعلم والإنسانية- أن أضع كتابًا جامعًا بقدر الإمكان لما جاء في كتاب الله العزيز من الآيات في العلوم الآتية:
الطب والصيدلة، الصحة، التاريخ الطبيعي، الحيوان، النبات، المعادن، الكيمياء، علم طبقات الأرض، الجيولجيا، الطبيعة، الهواء، الماء، النار، الحرارة، الصوت، الضوء، النور، الكهرباء، المغناطيسية، اللاسلكي "الراديو" "التليفزيون"، الفلك، الجغرافيا، تقويم البلدان، الملاحة البحرية، السياحة والأسفار، السياحة، التاريخ الأثري، والتاريخ العام، والفنون الحربية، الصناعة والتجارة، الحساب، الهندسة، العمارة والري، الكتابة وأداوتها والمكتبات.
__________
1 أخذت هذه الترجمة من الأعلام: للزركلي ج4 ص319، 320.(2/608)
هذا مع تفسير الآيات تفسيرًا مختصرًا مفيدًا يدل على معناها، وأسميته "القرآن ينبوع العلوم والعرفان"؛ ليكون في اسمه ما يدل على ما فيه، وأتبعت الآيات بنُبذة عن كل علم مع خلاصة وجيزة من تعاريفه الأولية"1.
"أما الآيات المتعلقة بالعلوم الشرعية والحكمية والفلسفية فلم أتعرض لها؛ لأن لها كتبًا خاصة بها، وفيها ما يغني عن البحث في موضوعاتها"2.
وقد قسم هذه الأبحاث المذكورة على أجزاء كتابه الثلاثة، وقد جرى المؤلف على أن يفرد كل علم بمبحث خاص يفسر في الآيات التي يعتقد صلتها به تفسيرًا علميًّا، ثم يورد نُبذة مختصرة أو كلمة عامة عن العلم الذي يتحدث عنه؛ عن أصله ونشأته وأبحاثه، الجديد منها والقديم.
مما لا يعنينا استيفاؤه هنا أو إيراد أمثلة منه.
9- القرآن والعلوم الحديثة:
المؤلف: محمود أبو الفيض المنوفي.
وهي رسالة صغيرة الحجم في 80 صفحة، الناشر عيسى البابي الحلبي.
10 - الإسلام والطب الحديث:
المؤلف: الدكتور عبد العزيز إسماعيل.
ولد سنة 1306، وتُوفي سنة 1361، تعلم الطب في القاهرة ثم في إنجلترا، وكان أستاذًا للدراسات العليا، وله من المؤلفات غير هذا الكتاب: رسالة في "الطب والقرآن"، وعددًا من المقالات في المجالات الطبية3.
الكتاب: ولقد نال الكتاب على صِغَرِ حجمه شهرة كبيرة عند مَن تناول
__________
1 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري ج1 ص15، 16.
2 القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري ج1 ص15، 16.
3 الأعلام: الزركلي ج4 ص15.(2/609)
هذا الموضوع، ولعل هذه الشهرة ترجع للمقدمة التي كتبها شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وأشاد بها في الكتاب وأثنى عليه وعلى صاحبه.
ويقع الكتاب في 132 صفحة متوسع الحجم، صدرت طبعته الثانية سنة 1959م.
11- ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان:
المؤلف: محمود شكري الألوسي.
وهو حفيد شهاب الدين محمود الألوسي صاحب التفسير المعروف "روح المعاني".
وُلد في بغداد سنة 1273، وتلقى العلم عن أبيه وعمه أبي البركات نعمان خير الدين الألوسي وغيرهما، وتُوفي في بغداد سنة 1342، وله عدد من المؤلفات؛ أهمها:
1- غاية لأماني في الرد على النبهاني في جزأين.
2- فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للإمام محمد بن عبد الوهاب.
3- الأدلة العقلية على ختم الرسالة المحمدية.
وغير ذلك من المؤلفات1.
الكتاب: ويقع في 144 صفحة تقريبًا، صدرت طبعته الأولى سنة 1380هـ والثانية سنة 1391هـ، والناشر المكتب الإسلامي.
12- التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن:
المؤلف: حنفي أحمد.
الكتاب: وهذا العنوان وضعه له مؤلفه في الطبعة الثانية، وكان قد صدر في الطبعة الأولى بعنوان "معجزة القرآن في وصف الكائنات".
__________
1 انظر ترجمته في مقدمة الكتاب نفسه، ص8، 9.(2/610)
ويقع الكتاب في طبعته الثالثة في 454 صفحة.
13- شواهد العلم في هدى القرآن "معجزات القرآن يشهد بها العلم الحديث":
المؤلف: محمد سعدى المقدم.
الكتاب: يقع في جزأين، اطلعت على الجزء الأول الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1950 في 152 صفحة.
ويحتوي الكتاب على أربعة أبواب: الأول القرآن، والثاني بداية الخلق، وهما في الجزء الأول، وباب يبحث فيما يختص بالأرض، والرابع في نهاية الدنيا أو "يوم القيامة"، وهما في الجزء الثاني. وقد شن المؤلف في مقدمته حملة على الأزهر والأزهرين الذين أهملوا الجديد وصاروا وراء القديم!! وحمل الأخطاء والشطط في كتابه على الأزهر؛ لأنهم رفضوا مراجعته قبل الطبع.
بقي أن أقول: إن تخصص المؤلف ماجستير في الاقتصاد السياسي وليس فيه تفسير للآيات؛ بل هو أقوال لفلاسفة الغرب وعلمائهم.
14- الإعجاز العلمي في القرآن:
المؤلف: أحمد عبد السلام الكرداني.
وهو نماذج مستقاة من الكتاب السابق "الإسلام في عصر العلم" للدكتور محمد أحمد الغمراوي.
15- العلوم الطبيعية في القرآن:
المؤلف: يوسف مروة.
الطبعة الأولى بيروت 1387، ويقع في 274 صفحة.
16- القرآن ونهاية العالم:
المؤلف: كتب على غلافه: الأسيوطي الفلكي يقدم: القرآن ونهاية العالم، ولا أعرف هذا المؤلف. وناشر الكتاب علي السيد سليمان صاحب دار الكتب الشرقية بالأزهر، بدون تاريخ، ويقع في ثمانين صفحة.(2/611)
17- رحلة عبر الغيب بين آيات القرآن وصفحات الأكوان:
المؤلف: عبد الكريم عثمان.
الكتاب: متوسط الحجم، يقع في 141 صفحة.
18- معجزات القرآن الكريم في العلم والسياسة والاجتماع "باللغتين العربية والإنجليزية":
المؤلف: محمود مهدي الإستانبولي.
الكتاب: كتاب موجز في موضوعه، يذكر نص الآية ثم إشارة إلى معناها ومدلولها العلمي، ثم ترجمة ذلك إلى اللغة الإنجليزية، صدر الكتاب سنة 1380، ويقع في 76 صفحة.
19- معجزة القرآن:
المؤلفة: نعمت صدقي.
صدرت الطبعة الثانية من دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1398، ويقع الكتاب في 195 صفحة.
20- القرآن وإعجازه العلمي:
المؤلف: محمد إسماعيل إبراهيم، وعدد صفحاته 174 صفحة.
21- البرهان من القرآن:
المؤلف: محمود أحمد مهدي، عدد صفحاته 361 صفحة.
22- القرآن والعلم الحديث:
المؤلف: عبد الرزاق نوفل، ستأتي ترجمته إن شاء الله.
الكتاب: طبع سنة 1393 بيروت، عدد صفحاته 225.
23- الرياضيات في القرآن الكريم:
المؤلف: خليفة عبد السميع خليفة.
الكتاب: صدرت الطبعة الأولى سنة 1403، وجاء على غلافه أنه أول كتاب يتناول الإعجاز الرياضي وعلوم الحساب والجبر والهندسة وعلمي الإحصاء والميكانيكا، وعدد صفحاته 184 صفحة.(2/612)
24- معجزة القرن العشرين في كشف سباعية وثلاثية أوامر القرآن الكريم:
المؤلف: ابن خليفة عليوي.
الكتاب: الطبعة الأولى سنة 1403، عدد صفحاته 110، الناشر دار الإيمان، دمشق.
25- الإعجاز الحسابي في القرآن الكريم:
المؤلف: رشاد خليفة.
الكتاب: رسالة صغيرة في 26 صفحة.
26- تسعة عشر، دلالات جديدة في إعجاز القرآن:
المؤلف: رشاد خليفة.
الكتاب: نص محاضرة ألقاها المؤلف في الكويت، وتقع في 30 صفحة من الحجم الصغير.
27- معجزة القرآن العددية:
المؤلف: صدقي البيك.
الكتاب: نشرته مؤسسة علوم القرآن، دمشق، بيروت، وصدرت الطبعة الأولى سنة 1401، والكتاب له صلة وثيقة بالكتابين السابقين وبمؤلفهما، ومتمم لهما.
28- لفتات علمية من القرآن:
المؤلف: يعقوب يوسف.
الكتاب: نشرته الدار السعودية للنشر والتوزيع، والطبعة الثانية صدرت سنة 1390 في 100 صفحة.
29- الإعجاز العلمي في القرآن:
المؤلف: حمزة سالم الصيرفي.
الكتاب: صدرت طبعته الأولى سنة 1399، وعدد صفحاته 48 صفحة.
30- القرآن الكريم والغلاف الجوي:
المؤلف: محمد عفيفي الشيخ.
الكتاب: صدر سنة 1400 في 131 صفحة.(2/613)
31- تفسير الآيات الكونية:
المؤلف: الدكتور عبد الله شحاتة.
الناشر: دار الاعتصام، الطبعة الأولى سنة 1400 في 316 صفحة.
32- القرآن والطب:
المؤلف: أحمد محمود سليمان، وعدد صفحاته 146 صفحة.
33- آيات الله تعالى:
المؤلف: محمد وفا الأميري.
الكتاب: في جزأين: الأول 450 صفحة، والثاني 315 صفحة، الناشر دار الرضوان، حلب.
34- القرآن والطب:
المؤلف: الدكتور الحج محمد وصفي.
الناشر: دار الكتب الحديثة بالقاهرة، صدرت الطبعة الأولى سنة 1380 في 220 صفحة.
35- الإعجاز الطبي في القرآن:
المؤلف: الدكتور السيد الجميلي.
الناشر: دار التراث العربي، القاهرة، صدرت الطبعة الثانية سنة 1400 في 194 صفحة.
هذه بعض المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث، ولئن كان المقام لا يسمح لنا بدراستها تفصيلًا؛ فإنه لا يعفينا من دراستين:
1- دراسة في التفسير ذاته مستمدة من هذه التفاسير بمجموعها.
2- دراسة تفاسير منها دراسة مستقلة.
يعبر عن أولاهما بدراسة نماذج للتفسير العلمي في العصر الحديث، ويعبر عن الثانية بدراسة نماذج من المؤلفات في التفسير العلمي الحديث، وهذه أُولَى الدراستين.(2/614)
نماذج للتفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:
وكما أنه ليس بمقدورنا أن نقدم دراسة لكل هذه المؤلفات؛ فإنه ليس بمقدورنا أن نقدم أمثلة لكل الآيات التي تناولوها بالتفسير العلمي؛ فلنذكر بعضًا منها، ولنقدم قبله تفسير السلف لكل آية حتى نعرف موقع تفسيرهم منه؛ فمن ذلك:
أولًا: قوله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
ذهب السلف في المراد بالماء في هذه الآية إلى قولين؛ أولهما: أن المراد به الماء المعروف، وثانيهما: أن المراد به النطفة؛ وعلى الأول أن الماء سبب حياة كل شيء حي، وعلى الثاني أن أصل كل شيء هو النطقة.
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: " {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء فيشمل الحيوان والنبات؛ والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء، وقيل: المراد بالماء هنا النطفة، وبه قال أكثر المفسرين"1، وقال ابن كثير: " {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: أصل كل الأحياء"2.
أما التفسير العلمي الذي يقدمه الأستاذ أحمد محمود سليمان فليس بهذا ولا بذاك؛ فهو يفسره بأن الماء هو أصل الحياة؛ بمعنى أن المخلوقات كلها نشأت أول ما نشأت في الماء، وخلقها الله أول ما خلقها في الماء، فأول ما ظهر من الحيوانات ذات الخلية الواحدة لا تراها العين المجردة، ثم تبع ذلك حيوانات ذات خلايا عدة، وهكذا تطورت الحياة في الماء خلال ملايين الأعوام، ثم بدأت بعض الحيوانات تخرج من البحر إلى البر، ثم نشأت الزواحف التي اتخذت البر لها مسكنًا، ثم الطيور ثم ذوات الأربع، وذكر أن أول مَن قال بهذه النظرية هو التوراة، أما القرآن فلم يقتصر على هذا "!! " بل أبان أن الماء هو أصل جميع الكائنات من حيوان ونبات؛ مما يدل على هيمنة القرآن العلمية على ما سبقه مِن
__________
1 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج3 ص405.
2 تفسير ابن كثير: ج3 ص187.(2/615)
الكتب المقدسة، وهذا قوله بنصه بعد أن قدم لتفسيره بأن الشمس تسطع على البحار فيتبخر ماؤها فتنشأ السحب الثقال ثم يهطل المطر وتتكون البحيرات والأنهار، قال بعد ذلك:
"تلك قصة الماء التي يراها كلُّ إنسان في كل مكان وزمان، جعل الله منه النبات، وأحيا به الإنسان والحيوان، أما في غابر الأزمان حينما كان الإنسان لا يزال في ضمير الكون سرًّا من الأسرار؛ فإنه بعد أن خلق الله الأرض، وبدأ يهيئها للعُمران أودعها الحياة أول ما أودعها ماء البحار؛ إذ خلق في جوفها أبسط الكائنات من نبات وحيوانات.
وأول الحيوانات التي ظهرت في الماء تلك التي تتكون من خلية واحدة لا تراها العين المجردة، ثم تبعت تلك الحيوانات حيوانات ذات خلايا عدة: الحيوانات اللافقرية، ثم الحيوانات الفقرية التي تنتمي إليها الأسماك.
ظلت الحيوانات حتى ذلك الحين في جوف البحار والمحيطات إلى أن ظهرت بعد ذلك الكائنات التي تجمع في معيشتها بين البر والماء؛ هي الحيوانات البرمائية التي تنتمي إليها الضفادع.
استمر هذا التطور الذي أخذ الملايين من الأعوام في مجراه؛ حتى نشأت الزواحف التي أخذت الأرض لها مسكنًا دون الماء، ثم تبعها في سلسلة التطور الطير الذي اتخذ الأرض له مسرحًا والهواء، ثم ختمت السلسلة بذوات الأربع؛ فامتلأت الأرض بالزواحف والطيور والحيوانات، وكلها قُذفت بادئ ذي بدء من بطن مياه البحار والمحيطات.
وأول مَن قال بهذه النظرية التوراة، التي تكلمت عن نشأة الحيوانات البرية في الإصحاح الأول من سِفْرِ التكوين كما ذكرت آنفًا، ومضمون ما قالت التوراة: هو أن المياه أخرجت زحافات، ثم خلق الله بعد ذلك الطير، ثم تبع ذلك ظهور الحيوانات الثديية.
أما القرآن الكريم، فلم يقتصر على هذا؛ بل أبان أن الماء هو أصل جميع(2/616)
الكائنات من حيوان ونبات، مما يدل على هيمنة القرآن العلمية على ما سبقه من الكتب المقدسة، وعلى إعجاز هذه الآية التي نزلت في وقت كان العالَم فيه غارقًا في دياجير الظلمات.
وهذه الآية الكريمة -أستغفر الله- بل هذا الجزء من الآية لا يحمل إعجازًا فقط؛ بل يحمل في ثناياه إعجازًا فوق إعجاز، فالماء هو أصل الحياة أو هو الذي نشأت في جوفه الكائنات أول ما نشأت"1.
هذا ما زعمه تفسيرًا للآية، وما هو بتفسير حق، وما هو بتفسير مقبول؛ بل أحسبه يعارض أخبار القرآن الكريم العديدة ونصوصه الكثيرة.
انظر إلى قوله مثلًا عن الزواحف والطيور والحيوانات: "وكلها قُذفت بادئ ذي بدء من بطن مياه البحار والمحيطات"، وقوله عن الماء: "هو الذي نشأت في جوفه الكائنات أول ما نشأت".
كيف نسي أن الإنسان وهو من الكئنات أنه شيء خُلق من طين في السماء، وأمر الله الملائكة بالسجود له، ثم أدخله الله الجنة، ثم أنزله إلى الأرض، فأين هذه والزعم بأن نشأت المخلوقات كلها في جوف الماء.
دَعْ عنك مناقشته في دعواه في هذا التطور للمخلوقات كلها وترتيب ظهورها ... إلخ، مما لا يقوم عليه دليل ولا يسنده برهان، إلا ما لا يعتد به، ولا يؤخذ به في تفسير كتاب الله.
وأحسب أن ما زعمه تفسيرًا للآية ما هو بتفسير؛ بل هو مردود على قائله، وليستغفر الله منه.
ثانيًا: قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 2
__________
1 القرآن والطب: أحمد محمود سليمان ص68.
2 سورة البقرة: الآية 222.(2/617)
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "وقوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} أي: قل هو شيء يتأذى به؛ أي: برائحته، والأذى كناية عن القذر، ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} 1، ومنه قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} 2" 3.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض هو أذى، والأذى هو ما يؤذى به من مكروه فيه، وهو في هذا الموضع يُسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعانٍ شتى من خلال الأذى غير واحدة"4.
أما أصحاب التفسير العلمي الحديث فبينوا أضرار الجماع وقت الحيض الطبية؛ فقال الأستاذ أحمد محمود سليمان في تفسيرها:
إنه والله لتشريع حكيم يدعو إليه الطب الحديث والذوق السليم والخُلُق القويم؛ فالمحيض الذي يشمل العادة الشهرية والأنزفة الرحمية والدم الناتج عن الولادة والإجهاض فوق أنه كريه الرائحة منفر، فإنه يحمل أذى كبيرًا وشرًّا مستطيرًا للزوجين على السواء.
إنه يعرض الرجل لالتهاب مجرى البول إذا ما تسرب بعض دم الحيض الفاسد إليه حاملًا معه جراثيم الأمراض، ولا يقتصر أذاه للرجل على ذلك، فلو فرض ووجد عند المرأة مثلًا عدوى وراثية بالزهري؛ فإنها لا تظهر في الأحوال العادية؛ لأن العدوى تكون كامنة، أما دم الحيض فربما وُجد به بعض الجراثيم مما قد يتسبب عنه عدوى الرجل.
هذا هو ضرره للرجال: التهاب في مجرى البول، وتعرض لمرض الزهري، من مرض قد يكون كامنًا.
__________
1 سورة البقرة: من الآية 264.
2 سورة الأحزاب: من الآية 48.
3 فتح القدير: الشوكاني ج1 ص225.
4 جامع البيان: الإمام الطبري ج2 ص225.(2/618)
أما ضرره للنساء فأشد وأنكى، فمقاومة المرأة للأمراض ومناعتها وقت الحيض تنقص إلى حدها الأدنى؛ فتكون أكثر تعرضًا للعدوى إذا ما دخلت جراثيم الأمراض المهبل أو عنق الرحم، وهو أمر كثير الحدوث وقت الجماع، أما في غير أوقات الحيض فإن هذه الجراثيم يتغلب عليها الجسم بشدة مقاومته، وبما أن الرحم يكون مدة الحيض محتقنًا، فإذا أضيف إليه ما تحدثه المباشرة من الاحتقان الشديد؛ فقد يحدثان نزفًا، ولا سيما إذا كان به أورام أو التهابات.
أما بعد الولادة، فإن الرحم لا يكون في حجمه الطبيعي، ويستمر كذلك ستة أسابيع تقريبًا، وهي المدة التي قد يستمر فيها النزيف من الرحم عقب الولادة، والتي تتطهر بعدها معظم النساء.
وقد تؤدي المباشرة في أثناء الحيض إلى التهاب في الرحم، يحدث عند السيدات حالات عصبية يستعصي علاجها؛ ولذلك مُنعت المباشرة حتى تطهر المرأة فيعود إليها بهاؤها وجاذبيتها، وتنتظم نفسيتها، وتزول العوامل التي تضر بصحتها؛ وحينئذ لا يوجد مانع من الجماع وإتيان الرجل للمرأة من حيث أمرهما الله إتيانًا طبيعيًّا؛ إذ إن المباشرة من غير الموضع الطبيعي فيها ضرر كبير، وهي تعبتر إثمًا يستوجب التوبة؛ إذ إن هذه المباشرة قد يتسبب منها التهاب في مجرى البول للرجل وفي البروتستاتا، غير ما يحدث عندها من جروح، فوق أنها تفقد الرجولة، وتورث التخنث، وتهد من قوى الرجل.
وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا من المباشرة في أثناء الحيض ومن غير الطريق الطبيعي بقوله: "ملعون مَن أتى امرأة وهي حائض 1، ملعون مَن أتى امرأة في دبرها 2، ملعون مَن عمل عمل قوم لوط" 3، 4.
__________
1 لم أجده بهذا اللفظ.
2 رواه أحمد في مسنده ج2 ص444، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح ج2 ص249.
3 رواه الطبراني في الأوسط، ورواه الحاكم "جامع الأصول ج3 ص550"، وأحمد في مسنده عن ابن عياش.
4 القرآن والطب: أحمد محمود سليمان ص115، 116.(2/619)
أما الدكتور عبد العزيز إسماعيل فقسم إفرازات الجسم إلى نوعين: نوع له فائدة في الجسم؛ مثل: الهضم أو التناسل أو إفرازات داخلية تنظم أجهزة الجسم وأنسجته ... إلخ، وهو ضروري للحياة وليس فيه ضرر.
ونوع ليس له فائدة؛ بل هو بالعكس يجب إفرازه من الجسم إلى الخارج، وهو مكون من مواد سامة إذا بقيت في الجسم أضرت به، وذلك مثل: البول والبراز والعرق والحيض.
وقال أيضًا: فهذه الآية الكريمة علَّمت الإنسان قبل أن يعرف شيئًا عن أنواع الإفرازات أن المحيض أذى، وأنه لا يفيد الجسم.
وأما الجزء الثاني من الآية الكريمة: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فسببه أن الأعضاء التناسية تكون في حالة احتقان، والأعصاب تكون في حالة اضطراب؛ بسبب إفرازات الغدد الداخلية، فالاختلاط الجنسي يضرها وربما منع نزول الحيض، كما يحصل كثيرًا من الاضطراب العصبي، وقد يكون سببًا في التهاب الأعضاء التناسلية.
وهذا هو السبب في أن الطبيب الأخصائي لا يكشف على مرضاه من النساء وقت المحيض1.
أما الدكتور الحاج محمد وصفي فقد أطال في بيان أضرار وطء الحائض عندما تناول الآية المذكورة؛ فتحدث أولًا عن بلاغة القرآن الكريم في اختيار التعبير بكلمة "أذى"، التي لم يجد رغم محاولته كلمة تقوم مقامها أو تحمل حملها، ثم تحدث عن حكم المحيض عنج اليهود ثم عند النصارى ثم في الإسلام، ثم عن توجيه النهي للرجال، ثم عن دورة الحيض وآلامه، ثم عن عرضة الحائض للأمراض، ثم عن الوسط المهبلي وتغيره بالحيض، ثم عن أذى وطء المرأة أثناء الحيض، وأنه سبب لالتهاب المهبل وما يشنأ عنه من مرض يكفي أنه يسبب العقم، وذكر من أضراره حمل البكتريا إلى دخل المهبل وما تسببه من أمراض،
__________
1 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص39، 40.(2/620)
وذكر من أضراره أنه من أهم الأسباب المهيئة لتعفن الرحم الذي يسبب العقم والآلام الشديدة للمرأة، وتحدث عن منابع العدوى، ثم تحدث عن الأضرار التي تصيب الرجل، ثم ذكر حِكْمَتين للمنع؛ أولهما: تقوية الإرادة، وثانيهما: أن الحيض لا إنبات فيه1.
أما الدكتور السيد الجميلي فزاد على ما ذكر من أضرار الجماع وقت الحيض أن مرض الجذام ينتقل وينجم عن المباضعة في المحيض2.
هذه إشارات لما قاله أصحاب التفسير العلمي التجريبي في تفسير هذه الآية، وإذا ما نظرنا نظرة مقارنة بينه وبين ما أوردناه أولًا من تفسير للطبري وللشوكاني، وبين نص الآية أيضًا؛ لرأينا أن الآية تنص نصًّا على أنه أذى؛ لكنها لم تذكر ما هو هذا الأذى، ونحن المسلمين يكفينا اعتقادًا أن في جماع الحائض أذى وأنه محرم، وإذا ما أردنا زيادة تعليل ليس لأجل تعليق الحكم عليها؛ وإنما للعلم والمعرفة ليس إلا، فلا بأس أن تقرأ للطبري والشوكاني أن الأذى رائحته الكريهة، ولا بأس أن يذكر الأطباء أن الأذى هو أضراره الطبية؛ وعلى هذا فلم يخترع أصحاب التفسير العلمي هنا طريقًا بدعًا؛ وإنما التقوا مع السلف في التعليل؛ وإنما لم يتفقوا على علة.
ثالثًا: قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 3
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "يقال: ثنَى صدره عن الشيء: إذا ازورَّ عنه وانحرف منه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن مَن أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه. وقيل معناه: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق؛ فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما كان دأب المنافقين، والوجه الثاني أَوْلَى"، إلى
__________
1 القرآن والطب: الدكتور الحاج محمد وصفي، انظر الصحفات 66-82.
2 الإعجاز الطبي في القرآن: الدكتور السيد الجميلي ص140.
3 سورة هود: الآية 5.(2/621)
أن قال: "وجملة "يعلم ما يسرون وما يعلنون" مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرونه في أنفسهم أو في ذات بينهم وما يظهرونه، فالظاهر والباطن عنده سواء، والسر والجهر سيان، وجملة "إنه عليم بذات الصدور" تعليل لما قبلها وتقرير له، وذات الصدور هي الضمائر التي تشتمل عليها الصدور، وقيل: هي القلوب؛ والمعنى: أنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يحفي عليه شيء من ذلك"1.
وقد فسَّر الدكتور عبد العزيز إسماعيل هذه الآية تفسيرًا علميًّا حديثًا فقال: "هذه الآية سهلة الفَهْم بعدما تقدمت علوم النفس والتنويم المغناطيسي وغيرها، وظهر جليًّا أن كل فكرة يقابلها تغيير كيماوي في الخلايا المخية، وكما أنه لا حركة في الأرجل دون أن يحصل انقباض العضلات، كذلك لا يمكن أن يفكر الإنسان دون أن تحصل تغييرات في خلايا المخ، وليس هذا هو الذي يحصل فقط؛ بل إن هذه التغييرات تبقى مسجلة في المخ الباطني، ومن الممكن أن يتذكرها الشخص بعد مدة طويلة تحت تأثيرات مخصوصة كالانفعالات العصبية أو التنويم المغناطيسي وغيرها، ولو نسيها الشخص تمام النسيان.
وقد اكتشفت أخيرًا أجهزة كهربائية يمكن بها معرفة حالة بعض الخلايا المخية إذا كانت في حالة هدوء أو حالة انشغال، وقد ترتقي العلوم أكثر من ذلك، هذا حال الإنسان مع جهله.
والله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يجول في مخ الإنسان، وكل ما جال في مخه، وهو أعلم بها من الإنسان نفسه؛ لأنه عرضة للنسيان"2.
وقد استغربت وصف الدكتور عبد العزيز لهذه الآية بأنها سهلة الفَهْم بعدما تقدمت علوم النفس والتنويم المغناطيسي! ذلكم أن الآية لم تكن صعبة الفَهْم قبل ذلك للذين يؤمنون بالغيب.
__________
1 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج2 ص481، 482.
2 الإسلام والطب الحديث: الدكتور عبد العزيز إسماعيل ص92، 93.(2/622)
ثم إني لا أقبل أن يعلل علم الله سبحانه وتعالى بما في صدر الإنسان بالتغييرات التي تحدث في خلايات المخ عند التفكير؛ فالله سبحانه وتعالى يعلم ذلك حتى ولو لم يحدث -إن كان يحدث- هذا التغيير في الخلايا؛ بل الله سبحانه يعلم ما في الصدور وما سيكون في الصدور؛ أي: قبل أن يفكر الإنسان بالتفكير بالشيء، فعلمه سبحانه علم قبل ومع وبعد التفكير الإنساني، وهو علم مستقل بذاته عن التغييرات في خلايا المخ، فلا تزيده تلك علمًا ولا ينقصه عدمها علمًا.
ولذلك فإن قول الدكتور إسماعيل آخرًا: "والله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يجول، وكل ما جال ... " إلخ بحاجة إلى أن يزاد فيه: "وكل ما سيجول"؛ لأن الأمرين السابقين مرتبطان حسب قوله بالتغييرات، وعلم الله -كما قلنا- لا تؤثر فيه هذه التغييرات فتقيده بمدلولاتها؛ فكان علمه سبحانه بكل شيء، والله أعلم.
رابعًا: قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} 1
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: " {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب قسم محذوف، وفيه زيادة وعيد وتهديد؛ أي: والله لترون الجحيم في الآخرة. قال الرازي: وليس هذا جواب لو؛ لأن جواب لو يكون منفيًّا، وهذا مثبت، ولأنه عطف عليه {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ} وهو مستقبل لا بد من وقوعه، قال: وحذف جواب لو كثير، والخطاب للكفار، وقيل: عام كقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ".
إلى أن قال: "ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} أي: ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل المعنى: لترون الجحيم بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة على القرب، وقيل: المراد بالأول رؤيتها قبل دخولها، والثاني رؤيتها حال دخولها، وقيل: هو إخبار عن دوام بقائهم في النار؛ أي: هي رؤية دائمة متصلة، وقيل: المعنى لو تعلمون اليوم علم اليقين وأنتم في الدنيا لترون الجحيم بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوروا أمر القيامة وأهوالها"2.
__________
1 سورة التكاثر: الآيتان 5، 6.
2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص489.(2/623)
قلت: وهأنت ترى من الأقوال التي ساقها الشوكاني -رحمه الله تعالى- أن أحدًا منهم لم يقل: إن الرؤية للنار في الدنيا بالأبصار، وإن قال أحدهم: إنها في الدنيا بعيون القلوب، ولم يقل بالعيون الباصرة.
أما الأستاذ محمود القاسم ففسر الرؤية هنا بتفسير عجيب، ذكر فيه أننا نعلم علم اليقين؛ إذًا فبإمكاننا رؤية الجحيم، وأن الرؤية في الدنيا رؤية بصرية، وقد رد التفاسير التي فسرت الرؤية بالآخرة.
فقسم أولًا الكتلة الكونية إلى قسمين:
1- نجوم ملتهبة لها كل صفات جهنم الواردة في القرآن والحديث.
2- وكواكب باردة يشملها قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} لأن الكواكب الباردة هي حجارة مختلفة الأنواع مثل الأرض، وقال: "إذًا فالكتلة الكونية هي جهنم".
ثم ذكر أنه يصح أن يوصف مَن رأى بعض الشيء بأنه رآه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء؛ فتقول لرفيقك: لقد رأيت البحر وأنت لم ترَ منه إلا جزءًا صغيرًا.
ثم تساءل عن الجزء الذي نراه في قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} وكان جوابه لنفسه: يكفي لتحقق الآية أن نرى واحدًا من النجوم الملتهبة، التي هي من نوع جهنم، ولها جميع صفاتها كالشمس مثلًا، مع العلم أن بالإمكان رؤية نجوم أخرى مثلها أو أكبر وأشد حرًّا.
ثم تساءل مرة أخرى: هل الشمس من نوع جهنم؟ وهل لها جميع صفاتها؟ ثم أجاب بدراسة للشمس من حيث المظهر مع صور للشمس وسطحها، ومن حيث طبيعتها، ثم قرر النتيجة.
"للشمس من حيث مظهرها وطبيعتها جمع صفات جهنم الواردة في القرآن والحديث".
ثم قال: "وبالتالي الكون "الدنيا" بكليته هو جهنم، وهي موزعة حاليًا على(2/624)
نجوم مضطربة، وكواكب خنس، وغبار وغازات، والشمس جزء منها تمثلها، وما علينا لنرى طبيعتها الجهنمية إلا أن نضع عيننا على عدسة نظارة فلكية خاصة نوجهها نحو الشمس"1.
وبعد، فلن أطيل في الرد على هذا التفسير إلا بما يستلزمه المقام؛ فأقول: إن جهنم من الأمور الغيبية التي لا يحق لنا أن نزيد في بيانها غير ما ورد به الشرع، ولم يرد في الشرع بيان لمكان جهنم الان وإمكان رؤيتها لنا في الدنيا، وقد التزم علماءالسلف -رحمهم الله تعالى- هذا الأمر؛ فلم يشر أحدهم إلى شيء من ذلك، وهم الأعلم باللغة ومدلولاتها، والأعلم بالشرع ومفاهيمه، ومع هذا فلم ينسب لأحدهم أنه أشار إلى الشمس أو غيرها زاعمًا أنها جهنم.
أما انطباق أوصاف جهنم على بعض الموجودات الكونية فلا يعني هذا أن تلك الكتلة هي جهنم، ولو صح هذا الزعم وصح هذا المقياس لجاءنا مَن يزعم أن الأرض التي نعيش عليها هي الجنة في الآخرة، ويشير إلى مناطق لا تخلو منها الأرض فيها الهواء العليل والظل الظليل والفواكه والثمار، ولن يعدم من النصوص ما يستدل بها كاستدلال ذاك فيقول مثلًا: روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" 2، وسيجد في الصحيحين: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 3.
لكن هذا وذاك لا يكفيان ولا يدلان على أن الأرض هي الجنة، مع النص المباشر على هذه الأجزاء من الأرض، بخلاف الشمس فلم يكن هناك أي نص مباشر للشمس يجعل بعض أجزائها من النار، فإذا كان الأمر كذلك في الأرض فأنَّى لرجل أن يزعم أن الشمس جزء من جهنم.
__________
1 براهين: محمود القاسم ص157، وانظر الصفحات 132-156.
2 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة ج4 ص2183.
3 رواه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل ما بين القبر والمنبر ج2 ص557، ورواه مسلم في كتاب الحج، باب 92 ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة ج2 ص1010، وزاد في إحدى رواياته: "ومنبري على حوضي".(2/625)
لا شك أن هذا التفسير لو لم يُربط بينه وبين النصوص القرآنية لكان من الحديث في الأمور الغيبية بلا برهان، فكيف والأمر تجاوز هذا إلى تفسير النصوص القرآنية به، أحسب هذا أمرًا لا ينبغي من مسلم يلتزم بأحكام دينه حتى ولو كان ذا قصد سامٍ في الدعوة إلى الله، فليس هذا بالطريق الحق والله الهادي.
خامسًا: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1.
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: " {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؛ فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أَوْلَى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر"2.
أما الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم فقال في تفسيرها: "تدل عبارة تسوية البنان على معنى لم يكشف العلم سره إلا بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة؛ حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة به، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر وبين جمع البشر، وقد استخدم الإنسان هذه الاختلافات في تحقيق الشخصية عن طريق البصمات، وقد أفادت هذه الحقيقة في التعرف على الأشخاص عن طريق بصماتهم، في حالة وقوع جرائم يترك الجناة فيها بصماتهم على أي شيء تناولوه"3.
قلت: والذي يجمع بين تفسيري السلف والعلم الحديث أن كلًّا منهما يؤكد أن تخصيص البنان بالذِّكْرِ يدل على أن مَن أعاد خلقها فهو أقدر على إعادة خلق غيرها من بقية الأعضاء، وإن اختلف التعليل عند هؤلاء وهؤلاء؛ فالشوكاني
__________
1 سورة القيامة: 3، 4.
2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص336.
3 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص111.(2/626)
حسب العلة صغرها ولطافتها ودقة عظامها، ومحمد إسماعيل عللها بأن لكل بنان بصمة خاصة به من بين جميع البشر، وفي الأمر سَعَة لتعليل الكل، والله أعلم.
سادسًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1.
قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : "وهذا مَثَلٌ من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه -أي: إلى الإسلام- مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وُسْعِه"2.
وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقًا حرجًا بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقًا حرجًا قال: لا يجد فيه مسلكًا إلا صَعِدَ، وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره، وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه"3.
ذلكم تفسير السلف، أما التفسير العلمي فيقدمه الأستاذ محمد عفيفي الشيخ فقال في ذلك: "الله سبحانه وتعالى يقرر أن الارتفاع إلى عِنَانِ السماء يصحبه ضيق الصدر والشعور بالاختناق، وقد اكتشف العلماء أخيرًا أن ذلك بسبب نقص الضغط الجوي وكميات الأكسيجين التي تستقبلها الرئتان، وهذه
__________
1 سورة الأنعام: الآية 125.
2 جامع البيان: الإمام الطبري ج12 ص109.
3 تفسير ابن كثير: ج2 ص189.(2/627)
الحقيقة لم تتوصل إليها البشرة علميًّا إلا بعد أن صَعِدَ الإنسان فعلًا غلى طبقات الجو العليا"1.
سابعًا: قوله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} 2
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "أي: وجعل بينهما برزخًا؛ وهو الحاجز من الأرض؛ لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا؛ فيُفسد كل واحد منهما الآخر، ويُزيله عن صفته التي هي مقصودة منه"3.
أما التفسير العلمي فيستدل الأستاذ يعقوب يوسف بما نشرت بعثة السيرجون أمري مع بعثة الجامعة المصرية وخفر السواحل لدرس أعماق البحر الأحمر والمحيط الهندي في جنوب عدن، بعض الملاحظات التي تستدعي النظر، ومما جاء في "مجلة الفتح 354" أن البعثة وجدت المياه في خليج العقبة تختلف في خواصها وتركيبها الطبيعية والكيميائية عن المياه في البحر الأحمر، وحققت البعثة -بواسطة قياس الأعماق- وجود حاجز مغمور عند مجمع البحرين، يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، وتبعد قيمته نحو ثلاثمائة متر عن سطح البحر.
وذكر أيضًا أن هذه النتيجة تماثل ما وصلت إليه السفينة "مباحث": أن مياه المحيط الهندي تختلف في خواصها عن مياه البحر الأحمر، ويعلل ذلك بوجود الحاجز المغمور عند ملتقى كل بحرين، ثم قال: "هذه الحقيقة الرائعة التي تثبتها الأرقام الموجودة في خزائن كلية العلوم بالجامعة المصرية وفي خزائن جامعة كمبردج التي وصلت إليها "البعثة المذكورة" بعد أن زودت بأحدث الآلات العلمية، وتدرعت بجنود من العلم، أنزلها الله في قرآنه منذ 13 قرنًا4.
والذي يظهر لي أن ما ذكره الأستاذ يعقوب -إن صح- لا يسمى حاجزًا
__________
1 القرآن الكريم وعلوم الغلاف الجوي: محمد عفيفي الشيخ ص87.
2 سورة الرحمن: الآيتين 19، 20.
3 تفسير ابن كثير: ج4 ص290.
4 لفتات علمية من القرآن: يعقوب يوسف ص57.(2/628)
ما دام اتصال خليج العقبة بالبحر الأحمر من جهة والبحر الأحمر بالمحيط الهندي من جهة أخرى ظاهرًا للعِيَانِ، وتعبره البواخر الضخمة، فالذي تلج منه تلك فالماء أكثر ولوجًا منها؛ فأين الحاجز هنا؟!
وقد استمتعت لمحاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني تناول فيها بيان هذا الحاجز، وتحدث عنه بتفسير أوضح من تفسير الأستاذ يعقوب له؛ حيث قال في محاضرته: "يقول الله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 1، هذان البحران اللذان التقيا هما بحران مالحان؛ بدليل قول الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، فالحديث في الآية إذًا عن بحر مالح ومالح، وليس عن بحر مالح وعذب بنص الآية، وما معنى هذا؟ نعم، وجدوا أن بين البحر الأحمر مثلًا والمحيط الهندي حاجزًا في باب المندب يحجز بين مياه البحر الأحمر ومياه المحيط الهندي، ولولا هذا الحاجز لطغت صفات مياه المحيط على مياه البحر؛ لأن البحر شيء يسير بجانب المحيط.
لكن هناك صفات وخصائص خاصة بمياه البحر الأحمر، وصفات وخصائص خاصة بمياه المحيط الهندي، هذا الحاجز ينهما لكي لا يطغى هذا على هذا، ثم هذا الحاجز ليس ثابتًا لكنه في حالة ذَهَاب وإياب واضطراب. ومرج في لغة العرب معناها: الذهاب والإياب والاضطراب. والحاجز هذا بين البحرين ليس ثابتًا؛ لكنه في حالة يمرج فيها فهو مارج يمرج؛ ولذلك قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان} .
وقد أمكن تصوير هذا الحاجز، وكنت إذا قرأت هذه الآية يأتي في ذهني الآية الأخرى؛ وهو قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 2.
كثير من المفسرين يقولون هذه الآية مثل هذه الآية؛ لكن استوقفتني الآية عندما أردت أن أتأمل وأتعمق، استوقفني في الآية {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
__________
1 سورة الرحمن: 19-22.
2 سورة الفرقان: 53.(2/629)
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} ، هناك لم يذكر هذا عذب وهذا ملح، قال البحرين".
ثم قال: " {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} فدل على أنهما بخصائص متقاربة وأنهما مالحان، ثم لما ذكر العذب والمالح قال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} .
قال: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} زيادة {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} على الآية التي هناك، هناك تقول: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان} لكن هنا تقول: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} ، القرآن لا يقول لغوًا، كلام الله الحكيم الحرف فيه لي معنى. فما هذا المعنى ما هو هذا الشيء؟
ذهبت أسأل أساتذة علوم البحار في كلية علوم البحار في جامعة الملك عبد العزيز: يا أخوة الله، يقول بين الأنهار والبحار برزخ وحجر؟ قالوا: أما البرزخ موجود؛ فهناك برزخ يحجز بين ماء النهر وماء البحر، هذه مسألة واضحة وصورها عندنا وسترون الصورة بأعينكم، البرزخ موجود قلنا: طيب، وحجر ما هو الحجر؟ الحجر في لغة العرب هو الشيء الذي يمنع به أشياء؛ ولذلك هذه ارض محجورة؛ أي: يسمح فيها لبعض الحيوانات أو لبعض الناس وتحجر عن غيرهم، قالوا: هو هذا الموجود بين البحر والنهر، هناك شيء اسمه المصب، مياه المصب هذه ندرسها دراسة مستقلة؛ لأن لها خصائص مستقلة؛ لأنها ليست من ماء البحر وليست من ماء النهر، لها خصائص مشتركة بين ماء البحر وبين ماء النهر لا هي عذبة ولا هي مالحة وإنما وسط.
قالوا: أبرز صفات مياه المصبات أنها أغنى المناطق في العالم بالأسماك؛ ولكن أسماك مخصوصة بالمصب، وماء المصب ومنطقة المصب أرض محجورة على نوع أسماك البحر ومجموع أسماك النهر، فممنوع الدخول من أسماك النهر ومن أسماك البحر، محجورة على بعض الأنواع فقط، لا يعيش فيها إلا أنواع مخصوصة فقط، أما باقي الكائنات الحية فهي ممنوعة محجورة؛ إذًا فهذا معنى {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} 1.
__________
1 محاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني في موسم حج 1404 بعنوان: "آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق".(2/630)
وفي نهاية المحاضرة عرض الشيخ عبد المجيد صورًا للبرزج والحجر أُخذت عن طريق سفن الفضاء وقال: "هذا الأزرق الخفيف هو الحجر هو المصب، فهذا الحاجز هو الحاجر بين النهر والبحر، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} البرزخ هذا الحاجز الذي يفصل بين الماءين والحجر هو المصب".
هذا ما قاله الشيخ عبد المجيد في هذا الحاجز "البرزخ"، ولا يرد عليه ما أوردناه على ما ذكره الأستاذ يعقوب، الذي وصف الحاجز بأنه حاجز مغمور يبلغ ارتفاعه أكثر من ألف متر، وتبعد قمته نحو ثلاثمائة متر عن سطح البحر؛ حيث وصفه الشيخ عبد المجيد بأنه ليس ثابتًا؛ بل هو مارج مضطرب يذهب ويؤب يدخل ماء المحيط في البحر من غير أن يختلط، ثم يعود إلى الوراء، وفي طريق عودته يدخل معه ماء البحر ومن غير أن يختلط أيضًا، ثم يعود إلى الوراء، وهكذا من غير أن يحدث اختلاط بين الماءين، بقي أن أقول: وفوق كل ذي علم عليم.
ثامنًا: قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} 1
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم، ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووَهْنِه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت؛ فإنه لا يجدي عنه شيئًا"2.
وأما التفسير العلمي فساقه الأستاذ يوسف مروة حيث يقول: "كشف بعض علماء الحشرات الألمان عن أن بعض العناكب تنسج خيوطًا دقيقة جدًّا؛ إذ إنها تنسج بيتها من خيوط، كل خيط منها مؤلف من أربعة خيوط أدق منه، وكل واحد من هذه الخيوط الأربعة مؤلف من ألف خيط، وكل واحد من
__________
1 سورة العنكبوت: الآية 41.
2 تفسير ابن كثير: ج3 ص431.(2/631)
الألف يخرج من قناة خاصة في جسم العنكبوت، وهذا يعني أن كل خيط ينقسم إلى 4 × 1000 = 4000 خيط، وذكر بعض العلماء الألمان الباحثين في هذا الميدان أنه إذا ضم أربعة بلايين خيط "4.000.000.000" إلى بعضها لم تكن أغلظ من شعرة واحدة من شعر لحيته، مع العلم أن متوسط قطر شعر اللحية لا يتجاوز 0.1 مليمتر؛ وبذلك فإن قطر مقطع الخيط الذي تنسجه العنكبوت يساوي 1 على 4.000.000.000 من المليمتر، وأن الكيفية التي خلق الله بها في جسم العنكبوت ألف ثقب يخرج منها ألف خيط في آنٍ واحد؛ حيث يخرج الخيط الدقيق فيتجمع كل ألف خيط في خيط أغلظ، ومن الخيوط الجديدة يتجمع كل أربعة سوية لتشكيل خيط أكبر، وهكذا تتجمع الخيوط لتنشئ مسكنًا ومصيدة للعنكبوت؛ لتدعو العاقل والعالم والمؤمن إلى التفكير في عظمة الخالق"1.
ولا شك أن ما ذكره الأستاذ يوسف من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى؛ لكن هذا يجب ألا يصرفنا عن التفكير في مدلول الآية؛ فالآية دلت على وهن بيت العنكبوت وليس على خيط العنكبوت حتى نذكر من دقته ووهنه، ووصف البيت بالوهن وهو مجموع الخيوط أبلغ من وصف الخيط الواحد بالوهن، وعلى كل فهذا ليس بتفسير للآية؛ وإنما شاهد لها، أما وهن بيت العنكبوت فظاهر بيِّن لا يحتاج إلى استدلال ولا إلى مكتشفات، والله أعلم.
تاسعًا: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 2.
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم -عليه السلام- وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما"3.
وقال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "قال جمهورالمفسرين: المراد بالنفس
__________
1 العلوم الطبيعية في القرآن: يوصف مروة ص209، 210.
2 سورة الأعراف: من الآية 189.
3 تفسير ابن كثير: ج2 ص294.(2/632)
الواحدة آدم، وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوف على {خَلَقَكُمْ} أي: هو الذي خلقكم من نفس آدم، وجعل من هذه النفس زوجها وهي حواء، خلقها من ضلع من أضلاعه، وقيل المعنى: {جَعَلَ مِنْهَا} من جنسها، كما في قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} 1، والأول أولى"2.
أما الأستاذ عبد الرزاق نوفل -رحمه الله تعالى- فقد فسر الآية هنا تفسيرًا علميًّا خاطئًا، وفي مؤلفاته كثير من ذلك؛ ففسر النفس الواحدة وزوجها بالإلكترونات والبروتونات، فقال: "أعتبر اكتشاف الإلكترون أكبر نصر علمي أمكن العقل البشري أن يصل إليه حتى إنهم يطلقون على هذا العصر الذي نعيش فيه الآن العصر الإلكتروني؛ إذا يعتبر أن هذا أروع وأهم اكتشاف تميز به عصر من العصور؛ إذ أمكن الوصول إلى الجوهر الفرد وَحْدَة الخلق التي منها خلق كل شيء في الوجود: الإنسان والحيوان والماء والهواء ... الحي والجماد، والأرض والسماء، فوجد أنها وَحْدَة تناهٍ في الصغر إلى درجة لا يقبل الفكر أن يتمثلها، فقطعة الإلكترون أقل من قطعة الذرة بمائة ألف مرة، أما كتلته في حالة السكون فإن الجرام الواحد يزن 9.000.000.000.000.000.000.000.000.000 إلكترون، وأن هذه الجسيمات التي يتكون منها الوجود هي جسيمات متشابهة؛ أي: واحدة تمامًا، وأن منها الموجب والسالب، وهذه الحقيقة العلمية التي يتيه بها العصر الحديث قد جاء بها القرآن الكريم منذ 1400 سنة في صراحة ووضوح؛ إذ تقرر الآية 189 من سورة الأعراف أن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة وجعل منها زوجها {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أليست هذه هي البروتونات والإلكترونات ... الكهارب الواحدة موجبة وسالبة؛ أي: النفس الواحدة ... الزوجية الجنس بين موجب وسالب.
وكذلك الآية الأولى من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، والآية 98 من سورة الأنعام:
__________
1 سورة النحل: من الآية 72.
2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج2 ص274.(2/633)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وغيرها من الآيات التي تشير إلى وَحْدَة الخَلْق"1.
ولا شك عندي أن هذا تفسير خاطئ، وقع فيه الأستاذ عبد الرزاق نوفل، ولو نظر إلى كلمات الآية لتبين له ذلك.
فالآية تنص على {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فهل البروتونات والإلكترونات نفس؟! والخطاب في الآية {خَلَقَكُمْ} وفي النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، وفي الأنعام {أَنْشَأَكُمْ} ، والآية تخاطب الناس -أي: البشر- وتتحدث عن خلقهم ونشأتهم فكيف يقول: كل شيء في الوجود، ويقول: إن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة، فمن أين جاء بهذا العموم؟!
وبقية الآية التي لم يوردها الأستاذ عبد الرزاق كاملة تقول: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فهل هذا ينطبق على البروتونات والإلكترونات المزعومة، سبحانك ربي!.
فلننزه القرآن الكريم عن مثل هذه التفسيرات الباطلة التي لا يحتاج بطلانها إلى ثبوت بطلان النظرية العلمية؛ بل إن الآية القرآنية نفسها تحمل في عباراتها ما لا يدل على هذه النظريات، فضلًا عن تفسيرها به.
عاشرًا: قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 2
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "رُوي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى، وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة؛ يعني: بلا عمد، وكذا رُوي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَع
__________
1 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل ص156، 157.
2 سورة الرعد: من الآية 2.(2/634)
عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، فعلى هذا يكون قوله: {تَرَوْنَهَا} تأكيدًا لنفي ذلك؛ أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة"2.
أما التفسير العلمي فقدمه الأستاذ محمود أحمد مهدي، ذكر فيه أن الأعمدة التي تمسك هذه العوالم الضخمة هي قانون الجاذبية، فقال: "وعن هذا الإمساك تحدث العلماء أخيرًا وبعد لأي وجهد من أن الذي يمسك هذه العوالم الضخمة كلها، ويتحكم فيها قبضًا وبسطًا -بإرادة الله طبعًا- هو قانون الجاذبية ... أجل، إنها الجاذبية التي اهتدى إليها العلماء والعلم؛ ولكن بعد أن أشار إليها القرآن وبرهن بجلاء {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} وما كانت تلك العمد أو الأعمدة إلا الجاذبية التي تجذب الثقيل إلى الأثقل، والكبير إلى الأكبر"3.
الحادي عشر: قال تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} 4.
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره: " {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} صفة أخرى للرب؛ أي: أنبت العشب وما ترعاه النعم من النبات الأخضر {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي: فجعله بعد أن كان أخضر غثاء؛ أي: هشيمًا جافًّا كالغثاء الذي يكون فوق السيل {أَحْوَى} أي: اسود بعد اخضراره؛ وذلك أن الكلأ إذا يبس اسود، قال قتادة: الغثاء الشيء اليابس، ويقال للبقل والحشيش إذا انحطم ويبس: غثاء وهشيم ... وقال الكسائي: هو حال من المرعى؛ أي: أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} بعد ذلك، والأحوى مأخوذ من الحوة وهي سواد يضرب إلى الخضرة، قال في الصحاح: والحوة سمرة الشفة، ومنه قول ذي الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب"5
__________
1 سورة الحج: من الآية 65.
2 تفسير ابن كثير: ج2 ص538.
3 البرهان من القرآن: محمود أحمد مهدي ص75، 76.
4 سورة الأعلى: الآيتين 4، 5.
5 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص423، 424.(2/635)
ومن هذا التفسير للإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- يظهر أن المراد بالأحوى؛ أي: الأسود بعد اخضراره؛ لأن الكلأ إذا يبس اسود؛ لكن أصحاب التفسير العلمي -أو أحدهما- قدم تفسيرًا آخر لم يسبق إليه فيما أعلم، فقال الأسيوطي الفلكي في تفسير تلك الآية: "الغثاء هو اليابس، والأحوى من الحوة؛ وهي في لسان العرب سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى السواد، وقد كثر في كلام العرب حتى سموا كل أسود أحوى ... إذًا فتفسير {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} هو جعله بعد خضرته يابسًا أسود. وهل هناك نبات إذا جف صار يابسًا أسود؟ لا توجد -فيما نعلم- نباتات هكذا؛ إذًا فكيف أخرج الله تبارك وتعالى المرعى ثم جعله يابسًا أسود؟ كيف ومتى؟
ألا ينطبق هذا كل الانطباق على الفحم الحجري الذي تكوَّن معظمه في حقب الحياة القديمة حينما ظهرت النباتات غير المزهرة والسرخسيات بكثرة عظيمة، ثم تراكمت فوقها في بعض الجهات رواسب أخرى؛ فتحولت إلى فحم حجري مع طول الزمن وارتفاع الضغط والحرارة.
نعم هذا هو الغثاء الأحوى الذي تكلم عنه القرآن الكريم وعلله فأصاب وأوجز. قال وأصاب في وقت كانت فيه مثل هذه الحقائق غريبة على عقول البشر، قال هذا فسبق العلم بقرون عدة. أفليس هذا إعجازًا؟ بلى والله إنه نعم الإعجاز"1.
قلت: والذي قال الأسيوطي الفلكي نظرية علمية لم ترتقِ إلى درجة الحقيقة العلمية الثابتة التي يجوز جوازًا أن يشار إليها إشارة في تفسيبر القرآن، فعلينا أن نجرد تفسير القرآن الكريم من هذه النظريات العلمية التي ما تزال تتأرجح يمنة ويسرة؛ خشية أن تميل معها بعض القلوب إذا مالت، فلنتقِ الله ربنا، ولنحترم كتابه وننزله منزلته.
وليست هذه النظرية بالوحيدة، وليس هذا هو التفسير العلمي الخاطئ
__________
1 القرآن ونهاية العالم: الأسيوطي الفلكي ص39.(2/636)
عند المسمى "الأسيوطي الفلكي"، ففيه كثير وكثير من التفسيرات الجريئة بنظريات لا تزال مهزوزة غير ثابتة.
وبعد:
هذه بعض الأمثلة اقتبستها من بعض التفاسير العلمية، حاولت فيما ذكرت منها أن أنواع الأمثلة العلمية من علم الطب والنفس والفلك وخلق الإنسان والبحار والحشرات، أصل المخلوقات والنباتات وغير ذلك.
وكما عددت مواضيعها فقد عددت مصادرها؛ فضربت أمثلة من عدد من التفاسير العلمية في العصر الحديث؛ حتى أُعطي صورة -قدر ما استطعت- عن التفسير العلمي في العصر الحديث أبحاثه ومصادره، وفيه المقبول وفيه المردود.
أما الدراسة فيما هو أعمق من ذلك وأوسع فهو شأن دراسة متخصصة في التفسير العلمي، لا دراسة شاملة لعرض اتجاهات التفسير في العصر الحديث.
وهذا -ولا شك- لا يعفينا من ضرب أمثلة للمؤلفات في التفسير العلمي في العصر الحديث ودراستها دراسة مستقلة لنعطي صورة عن قرب لهؤلاء المفسرين بعد أن قدمنا -فيما أظن- صورة لهم مجتمعين عن بعد، وهذا أوان ذلك.(2/637)
نماذج التفسير العلمي التجريبي في العصر الحديث:
لا شك أن هذا التفسير لو لم يُربط بينه وبين النصوص القرآنية لكان من الحديث في الأمور الغيبية بلا برهان، فكيف والأمر تجاوز هذا إلى تفسير النصوص القرآنية به، أحسب هذا أمرًا لا ينبغي من مسلم يلتزم بأحكام دينه حتى ولو كان ذا قصد سامٍ في الدعوة إلى الله، فليس هذا بالطريق الحق والله الهادي.
خامسًا: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1.
قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: " {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها، فكيف بكبار الأعضاء؛ فنبه سبحانه بالبنان وهي الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أَوْلَى في القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق، فهذا وجه تخصيصها بالذكر"2.
أما الأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم فقال في تفسيرها: "تدل عبارة تسوية البنان على معنى لم يكشف العلم سره إلا بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة؛ حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة به، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر وبين جمع البشر، وقد استخدم الإنسان هذه الاختلافات في تحقيق الشخصية عن طريق البصمات، وقد أفادت هذه الحقيقة في التعرف على الأشخاص عن طريق بصماتهم، في حالة وقوع جرائم يترك الجناة فيها بصماتهم على أي شيء تناولوه"3.
قلت: والذي يجمع بين تفسيري السلف والعلم الحديث أن كلًّا منهما يؤكد أن تخصيص البنان بالذِّكْرِ يدل على أن مَن أعاد خلقها فهو أقدر على إعادة خلق غيرها من بقية الأعضاء، وإن اختلف التعليل عند هؤلاء وهؤلاء؛ فالشوكاني
__________
1 سورة القيامة: 3، 4.
2 فتح القدير: الإمام الشوكاني ج5 ص336.
3 القرآن وإعجازه العلمي: محمد إسماعيل إبراهيم ص111.(2/526)
حسب العلة صغرها ولطافتها ودقة عظامها، ومحمد إسماعيل عللها بأن لكل بنان بصمة خاصة به من بين جميع البشر، وفي الأمر سَعَة لتعليل الكل، والله أعلم.
سادسًا: قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1.
قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} : "وهذا مَثَلٌ من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه -أي: إلى الإسلام- مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وُسْعِه"2.
وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وقال ابن المبارك عن ابن جريج: ضيقًا حرجًا بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه، وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقًا حرجًا قال: لا يجد فيه مسلكًا إلا صَعِدَ، وقال السدي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره، وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يُدخله الله في قلبه"3.
ذلكم تفسير السلف، أما التفسير العلمي فيقدمه الأستاذ محمد عفيفي الشيخ فقال في ذلك: "الله سبحانه وتعالى يقرر أن الارتفاع إلى عِنَانِ السماء يصحبه ضيق الصدر والشعور بالاختناق، وقد اكتشف العلماء أخيرًا أن ذلك بسبب نقص الضغط الجوي وكميات الأكسيجين التي تستقبلها الرئتان، وهذه
__________
1 سورة الأنعام: الآية 125.
2 جامع البيان: الإمام الطبري ج12 ص109.
3 تفسير ابن كثير: ج2 ص189.(2/527)
أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي
أولا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم
...
أمثلة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي:
وعدنا سابقًا أن نقدم دراسة موجزة لستة من المؤلفات في التفسير العلمي التجريبي، وحان موعد ذلك هنا.
أولًا: تفسير الجواهر في تفسير القرآن الكريم
أولًا: المؤلف:
هو الشيخ طنطاوي جوهري، وُلد سنة 1287 بكفر عوض الله حجازي في "الشرقية"، تلقى العلم في الأزهر ثم في المدرسة الحكومية ثم دار العلوم وتخرج فيها سنة 1310، وعُين بعد تخرجه مدرسًا في دار العلوم، وقد طُلب للقضاء فلم يقبل، وكان رئيسًا لجمعية المواساة الإسلامية بالقاهرة، وتولى رئاسة تحرير "مجلة الإخوان المسلمين" مدة، وانقطع للتأليف فصنف كتبًا كثيرة نحو 30 مؤلفًا؛ منها:
1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم، وهو موضوع بحثنا هنا.
2- الأرواح.
3- أصل العالم.
4- أين الإنسان؟
5- التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم.
6- جمال العالم "دراسات في الحيوان والطير والهوام والحشرات".
7- جواهر العلوم.
8- جواهر التقوى.
9- النظر في الكون بهجة الحكماء وعبادة الأذكياء.(2/638)
10- الزهرة في نظام العالم.
11- السر العجيب في حكمة تعدد أزواج النبي.
12- سوانح الجوهري.
13- ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر.
14- نظام العالم والأمم.
15- النظام والإسلام.
16- القرآن والعلوم العصرية.
وتُوفي -رحمه الله تعالى- في القاهرة سنة "1358"1.
وبالنظرة السريعة لهذه المؤلفات ندرك ميل طنطاوي إلى العلوم الحديثة واهتمامه بها اهتمامًا كبيرًا حتى غلب على تفسيره.
ثانيًا: الكتاب:
يقع هذا التفسير في خمسة وعشرين جزءًا، أضاف أضاف إليها مؤلفها الجزء السادس والعشرين على أنه ملحق لتفصيل ما أجمل فيه من العلوم الكونية والأحكام الشريعة واختلاف المذاهب فيها. وجاء في آخر هذا الجزء: تم طبع الجزء الأول من "ملحق الجواهر: تفسير القرآن"، مما يدل على أن المؤلف سيضيف إلى هذا الملحق جزءًا آخر، والذي يهمنا هنا أنه أتم التفسير؛ وعليه فإنا نستطيع القول: إنه أول تفسير علمي كامل للقرآن الكريم، ولا يزال حتى الآن لم يؤلف أحد مؤلفًا مثله في شموله لآيات القرآن الكريم، كما أنه من أوائل إن لم يكن أول تفسير كامل للقرآن الكريم في مصر في القرن الرابع عشر الهجري.
ولهاتين المزيتين اتجهت إليه الأنظار اتجاهًا بينًا؛ فلم أرَ فيما أعلم تفسيرًا حديثًا تناولته الأقلام بالدراسة والنقد حتى كاد ألا تخلو منه دراسة في علوم القرآن حديثة، مثل هذا التفسير إلا تفسير المنار.
__________
1 اقتبست هذه الترجمة من تقويم دار العلوم للأستاذ محمد عبد الجواد، العدد الماسي بمناسة مرور 75 عامًا على مدرسة دار العلوم 1872-1947، ومن الأعلام للزركلي ج3 ص230، 231.(2/639)
سبب تأليفه:
وقبل أن تعرف سبب تأليف هذا الكتاب ينبغي أن تنظر إلى أصل القضية، وهو سبب اتجاه مؤلفه هذا الاتجاه العلمي، وهو سبب هام جدًّا لم أرَ فيما قرأت مَن أشار إليه مِن أن المؤلف نفسه يذكره نصًّا في تفسيره لهذا، ولأنه القاعدة التي أحسب أن يقوم عليها أصحاب التفسير العلمي التجريبي المتطرفون منهم خاصة؛ فإني رأيت أن أنقل هذا النص بطوله، فلعل فيه بيانًا لسبب اتجاه صاحبه وغيره ... قال:
"كنت في أول أمري مجاورًا بالجامع الأزهر، ثم قامت الحوادث العرابية ودخل الإنجليز بلادنا؛ فانقطعت ثلاث سنين عن العلم، وكنت في أثناء ذلك أزاول الأعمال الزراعية بيدي مع مَن يزرعون، وقد اعتراني مرض طويل في المعدة لازمني، وقد كان والدي في مرض أيضًا، وفوق ذلك كله كنت أفكر في هذه الدنيا وأقوال: يا ليت شعري، ألها خالق؟ وهل الأنبياء كلموه؟ إني لا أصدق إلا إذا عرفت أنا بنفسي ولا أتكل على أحد.
إن هذه الطرق الحديدية تجري عليها القطارات وليست من صنع المسلمين، فيا ليت شعري، ماذا يقول الفرنجة الذين صنعوها؟ هل لهذا العالم إله؟ أنا لا أصدق إلا إذا عرف عقلي. إن هذا العالم ليس فيه شيء من النظام. إنه مبعثر. إنه مختل معتل. إنني أرى هذه البقرات وهؤلاء الرجال والنساء وهذه الحبات من الذرة تُوضع في الأرض، وهذا الماء الجاري فيها، وهذه المحاريث التي تشق الأرض، كل ذلك غير متناسب ولا منتظم؛ فالمرأة واقفة والرجل كذلك، والمحراث ممتد مستطيل من الأرض إلى أعلى، كأنه زاوية والثوران رءوسهما إلى أمام، والرجال والنساء رءوسهم إلى أعلى، والماء يجرى على الأرض لا يرفع رأسه مثلهما، فهذه الدنيا مضطربة مرتبكة مختلفة، لا أرى فيها نظامًا ولا أحكامًا، وإذا فقد النظام والأحكام فلا إله خالق إن هي إلا أحوال متغيرة وأمور مبعثرة، ولدها الاتفاق، وأظهرتها المصادفات.
فلما أحسست بهذه الخواطر، رجعت إلى نفسي وقلت: إن العلماء في الدين يقولون: إننا ننظر للعالم العلوي والسفلي، فهأنا ذا نظرت فلم أجد إلا خللًا، ولم أَزْدَدْ إلا شكًّا؛ فلم يبقَ عندي أمل إلا في أمر واحد؛ وهو أن أوجه قلبي إلى مَن صنعني، فإن كان موجودًا(2/640)
أجابني، وهذا هو الأمر الذي أجعله نصب عيني؛ حينئذ شمرت عن ساعدي الجِد، وأخذت أصوم بعض الأيام وأصلي بعض الليالي؛ فكنت أَجِدُ في ذلك لذة وسرورًا، وتوجهت إليه سائلًا بقلب محترق؛ ولكم قلت: يا خالق هذه الدنيا، أنا لم أخلق نفسي؛ بل وجدت أني هكذا، وأني أوجه قلبي إلى ذلك الموجود الذي خلقني، وإذا كان خالقًا لي فهو عظيم وكبير ورحيم، وإن لي جسمًا ورُوحًا؛ فلتتوجه الروح إليه ولتسأله أن أقف على الحقيقة، يا ألله، أنت خلقتني فعلمني، أوا، ومَن لي بأن أقف على هذا الوجود وسره فأكتب ما أقف عليه لمن بعدنا، حتى إذا وجد في الدنيا مَن احترق فؤاده لمعرفة هذه الدنيا رأى أمامه ما جربت من الأعمال، وما قاسيت من الأحوال؛ فيهتدي ولا يجد هذا العناء.
وصرت أطلب ذلك في الحقول وعلى شطوط الأنهار، ولكم دعوت في الخلوات، وناجيت في الصلوات في المنزل وعلى شطوط الأنهار، وتارة أحضر تفسير القرآن للجلالين، وأقرأ تفسير الألفاظ الذي كتب هناك فأقول: يا رب، هذه الظواهر لم أقف على سرها، أما اللفظ ففهمته فأين عجائب الدنيا، وبينما أنا كذلك إذ وقع في يدي كتاب جاء فيه حديث: "لقد أنزلت عليَّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ويل له، ويل له، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ... إلخ1، 2.
فقلت: هذا حسن، أمن هذا الباب كان دخول الأنبياء؛ فصرت أقف على شواطئ الأنهار وفي الحقول وأنظر إلى السحاب وأفكر فيه وهذا ابتداء العجب".
إلى أن قال: "ثم أخذتُ أطالع تفسير القرآن كل يوم ربعًا، وكان الجزء يتم في ثمانية أيام، وكنت أحفظ التفسير عن ظهر قلب حفظًا عقليًّا؛ ظنًّا مني أن فَهْمَهُ حرام كما كان يقال إلا بتوقيف من الشيخ، ثم أخذت أدرس ذلك أشهرًا قليلة وأنا أدعو الله فاستجاب الدعاء، ووصلت إلى الأزهر ثانيًا، وزال خطر الانقطاع منه، وأتممت العلوم التي كانت فيه على وجه التقريب، ثم دخلت إلى مدرسة "دار العلوم"، وكانت زاخرة بكل ما أريده، ووجدت فيها كل ما كنت أصبو إليه، وأنا في
__________
1 لم أجده.
2 سورة البقرة: الآية 164.(2/641)
الحقول، وكنت أتعجب أن يكون هذا في بلادنا وأنا عنه محجوب؛ فوجدت أن النفوس الإنسانية قد بحثت وفكرت، ولقد كنت أعتقد أن الدروس التي أقرؤها عبادات، وأنها خير العبادات حتى فن الرسم؛ فكنت أرسم في الدرس وأنا معتقد أنه عبادة؛ لأنه مشحذ للذهن، مقوٍّ للعلم، معلمٌ للنظام الذي كنت أبحث عنه في الحقل فلا أجده.
كل ذلك بعدما درست القرآن في الأزهر الشريف على جلة الشيوخ الكبار، ثم صرت مدرسًا في المدارس المصرية الابتدائية والتجهيزية والعالية، وكذا "الجامعة المصرية" أيضًا في قليل من الزمن. وفي أثناء ذلك كنت أختلس من الوقت ما أقدر عليه وأؤلف كتبًا؛ فبلغت الرسائل والكتب ما يقرب من أربعين، ونُشرت بين المسلمين؛ وذلك لأفي بعهدث الذي عاهدت الله عليه، ولم يكن في شيء من ذلك مني تكلف؛ بل كان الوجدان هو الذي يسوقني، وهناك تجلت في النفس أحوال تدعو إلى النشر بين المسلمين لا محل لذكرها الآن؛ وهأنذا أكتب في هذا التفسير ما يفتح به عليَّ.
أقول: وإني الآن أحمد الله عز وجل إذ وصلت في التفسير إلى هذه السورة، وما كان ذلك من الميسور ولا بعضه؛ ولكن الله هو الذي أعانني، وهو الذي سهل ذلك لي، وأن أقصى ما أردته في هذه الحياة أن أتم هذا التفسير وأن ينشر، وعند ذلك أعتقد أني أديت ما أعتقد أنه واجب على دينًا ووجدانًا، وهناك أشعر بإتمام المطلوب، وأن ولوعي بنشر هذه الآراء كولوعي بمعرفتها، فأنا اليوم كنفسي من قبل يوم أن كنت صغيرًا، هنالك الاهتمام بالتعلم، وهنا الاهتمام بالنشر، وهما في النفس سواء؛ بل إني أجد القلب شديد الاهتمام بثانيها أكثر منه بأولهما.
وها هو ذا أمانة في يديك أيها الذكي، وستقرأ فيما كتبه الكاتبون من الأمة الإسلامية في الشرق والغرب، فاجعل نصب عينيك هداية المسلمين {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ".
إلى أن قال: "إن الدين الإسلامي دين حكمة وشريعة، دين يأمر يجميع العلوم، وهأنذا أديت ما عليَّ من النصح، وتركت الأمر لمن بعدنا، وسنفارق الدنيا، وسيقوم بهذا رجال ذوو عقول كبيرة نفوذ وشوكة بين المسلمين، وسيقلبون نظام الدنيا ويملئونها حُكْمًا وعدلًا، ولتعلمن نبأه بعد حين"1.
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج11 ص71-74، باختصار.(2/642)
هذا ما قاله في تعليل اتجاهه، وهو اعتراف صريح منه بأن مبعثه كان الشك والتفكير في هذه الدنيا: أَلَهَا خالق؟ وهل الأنبياء كلموه؟ واعترف بأنه لا يصدق إلا إذا عرف بنفسه ولا يتكل على أحد!! وتساءل عن رأي الفرنجة: هل يقولون بأن لهذا العالم إلهًا؟ ثم اعترف أخرى بأنه لا يصدق إذا عرف عقله!! واستمر شكة هذا إلى أن دخل مدرسة دار العلوم، وكانت زاخرة بكل ما يريده، ووجد فيها كل ما يصبو إليه، ثم أبدى عجبه أن يكون هذا في بلاده وهو عنه محجوب، ووجد فن الرسم مقويًا للعلم معلمًا للنظام "نظام الكون" الذي بحث عنه في الحق فلم يجد! وقد صرح في موضع آخر بأنه أراد من تأليفه ألا يشك الناس في أمر هذا الوجود كما شك1.
إذًا فبسبب اتجاهه الاتجاه العلمي طلبه علاج الشك في قلبه، فهل هذا الشك هو الدافع له وحده ... ودَفَعَ غيره كما دفعه إلى طلب المانع لهذا الشك؟ وهل الاتجاه إلى العلوم التجريبية علاج للشك أم هو زيادة في الطمأنينة القلبية لمن لم شك؟
أحسب هذا وذاك وغيرهما أمورًا توزعت بين أصحاب التفسير العلمي التجريبي للقرآن الكريم؛ فمنهم مَن شك، ومنهم مَن يطلب الطمأنينة التي طلبها إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 2، وهؤلاء انقسموا إلى قسمين؛ أولهما: طلب الطمأنينة في التطبيق بين آيات القرآن والحقائق العلمية، ومنهم مَن آثر طلبها من غير ربط بين هذه وتلك، وفيهم المخطئ، وفيهم المصيب، والله عليم بذات الصدور.
وعودة إلى الشيخ طنطاوي جوهري لمعرفة سبب تأليفه لهذا التفسير الكبير بحجمه وبعلومه ومعارفه؛ فقد أشار إلى ذلك في مقدمة تفسيره؛ حيث قال: "أما بعد، فإني خُلقت مغرمًا بالعجائب الكونية، ومعجبًا بالبدائع الطبيعية، ومشوقًا إلى ما في السماء من جمال، وما في الأرض من بهاء وكمال، آيات بينات،
__________
1الجواهر: طنطاوي جوهري ج17 ص182.
2 سورة البقرة: من الآية 260.(2/643)
وغرائب باهرات، شمس تدور، وبدر يسير، ونجم يضيء، وسحاب يذهب ويجيء، وبرق يأتلق، وكهرباء تخترق، ومعدن بهي، ونبات سني، وطير يطير، ووحش يسير، وأنعام تسري، وحيوان يجري".
إلى أن قال: "ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية؛ ألفيت أكثر العقلاء، وبعض أجلة العلماء، عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم مَن فكر في خَلْق العوالم، وما أُودع فيها من الغرائب!
فأخذت أؤلف كتبًا لذلك شتى؛ كنظام العالم والأمم، وجواهر العلوم، والتاج المرصع، وجمال العالم، والنظام والإسلام، ونهضة الأمة وحياتها، وغير ذلك من الرسائل والكتب، ومزجتُ فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعلت آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع وحكم الخلق، وأشرقت الأرض بنور ربها، وتقبلها أجلة العلماء قبولًا حسنًا، وتُرجم منها الكثير إلى اللغة الهندية المسماة بالأوردية، وإلى لغة القازان بالبلاد الروسية، وإلى لغة جاوة في الأوقيانوسية؛ ولكن كل ذلك لم يشفِ مني الغليل، ولم يقم على غنائه من دليل؛ فتوجهت إلى ذي العزة والجلال أن يوفقني أن أفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم من خلاله، وأتفيأ في بساتين الوحي وظلاله، ولكم طلبت منه جل جلاله بالدعوات في الخلوات، وابتهلت إليه وهو المجيب؛ فاستجاب الدعاء"1.
إذًا فالدافع له توجيه أنظار الأمة الإسلامية إلى هذه العلوم، ولم يشفِ غليله أن يفرد هذه العلوم بمؤلفات خاصة؛ بل شفاه أن فسر القرآن، وجعل هذه العلوم في خلاله.
لهذا فإنه يدعو بكل ما أُوتي من قوة إلى الأخذ بهذه العلوم والمعارف، وإدخالها في تفسير القرآن الكريم، وينعى على العلماء السابقين الذين وجهوا عنايتهم إلى كتب الفقه وآيات الفقه، وهن لا يتجاوزن مائة وخمسين آية، وأعرضوا -كما يقول- عن علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية؟!
وقد جاوز في دعوته حد الاعتدال، وأفرط في تجاوزه حد المباح؛ فذم وعم
__________
1 الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري ج1 ص2.(2/644)
وقال ما لا يصح أن يقال، ونسب آراءه ومفاهيمه قولًا لله تعالى، فقال مثلًا: "سيقول بعض المسلمين: لقد نظرنا في النبات وعرفنا الله فإذا متنا وسألنا الله نقول: هكذا قد نظرنا وعرفناك، وأنا أقول: لكن الله يقول "!! ": النظر التام يكون بالعلم التام، فأين علمكم التام بهذه المخلوقات ولو بطريق فرض الكفاية؟ فيقول العالم المسلم: إني قرأت كتب قدمائنا كالمواقف وأمثالها، فيقال له: كلا، ثم كلا، هذه كتب وضعت لزمن غير زمانكم ولأمم غير أممكم، وليس لها مقصود إلا الرد على المبتدعة الذين ماتوا؛ فأنتهم تجادلون مع الأموات؛ ولكن المقصود إدراك العوالم لذاتها لا للجدال بها، وليس يمكنكم ذلك إلا بإشاعة هذه العلوم في دياركم؛ فيقرأ الصغار في المدارس فن الأشياء، ويقرأ الكبار نفس هذه العلوم، والعامة تبع الخاصة1.
وقال فيما قال من حديثه الذي لا نقبله ولا نرتضيه، وذلك في تفسيره لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} 2، وما بعدها من الآيات قال: "ألا تتعجب من هذه الآيات، كيف ذكر الله فيها ما يأكله الإنسان وما يأكله الحيوان وكأنه يشير بطرف خفي وحكمه إلى باطن الأمر فيقول: أيها المسلمون، أنا أمرتكم بالنظر في النبات لأجل معرفتي، وأنتم بذلك الأعلون، ولو أني اخترت لكم قراءة العلوم من طريق الحياة الدنيا لعشتم بها كما عاش الفرنجة وغلبوكم، ولكنكم أنتم الذين اخترتكم لحفظ أرضي، وقد ملأت الأرض بعلوم النبات وغيره من علوم الطبيعة، وأنتم خير أمة أخرجت للناس؛ فلتقوموا بعد قراءة هذا التفسير وأمثاله "!! " ولتأخذوا علوم الأمم المحيطة بكم، وأنتم تقصدون بقراءتها الرقي إليَّ، وأني أرقيكم أسرع من غيركم، ويكفي في الرقي العلمي عشرون سنة، كما يقوله علماء السياسة والاجتماع عندكم، فهأنذا أيها المسلمون ملأت أوربا وأمريكا واليابان بالعلم؛ فقوموا من رقدتكم، وخذوا هذه العلوم، هم قرءوها للدنيا فاقرءوها أنتم لحبي وللغرام بي ولأجل لقائي،
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج25 ص55.
2 سورة عبس: الآية 24.(2/645)
بل أنتم ستقرءونها وتعشقوني بها "!!! "1.
ونحن نرفض هذه الدعوة من الشيخ طنطاوي إلى العلوم بهذه الأساليب؛ فلا يصح أن ينسب إلى الله قولًا لم يقله حتى ولو كان يعده إشارة من طرف خفي، ولا تصح هذه العبارات؛ أعني: عبارات الغرام والعشق، فهي اصطلاحات ما أنزل الله بها في مقامه من سلطان.
وكثيرًا ما يقارن طنطاوي جوهري بين عناية العلماء بالفقه وآيات الفقه، وعدم اهتمامهم بالعلوم الكونية وآياته، ويتساءل: "لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه، وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه، وقل جدًّا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة؛ بل هي تبلغ 750 آية صريحة؟ وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة، فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة، ويجهلون علمًا آياته كثيرة جدًّا؟ إن آباءنا برعوا في الفقه فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات، لنقم به لترقى الأمة، فهذا الذي ينظر نظرًا سطحيًّا لآيات النظر في العالم نراه لم يكتفِ في البيع والهبة والميراث والحج والصلاة بالنظر السطحي؛ بل نراه في الوُضوء الذي هو شرط من شروط الصلاة لم يكتفِ بالنظر الظاهري؛ بل ازداد البحث فيه جدًّا في مئات المجلدات المؤلفة في المذاهب الأربعة وغيرها، أفلا ينظر المسلمون اليوم إلى علوم الدين الحقة وهي علوم الكائنات، علوم معرفة الله؟ إن علم الفقه لحفظ الأمم، وعلم الكائنات لمعرفة الله وحياة الأمم، وما به الحياة مقدَّم على ما به حفظ الحياة؛ إذ لا حفظ للحياة ولا عبادة لله إلا بعد ثبوت الحياة"2.
وتجاوز طنطاوي دعوته إلى دراسة العلوم الكونية إلى ذم قراءة كتب لأمم مضت وانقضت بعبارة أخرى: كتب السلف، يقول مثلًا:
"وكتب التوحيد كتب أكثرها جدلية، وليس ينقذ أمة الإسلام من جهالتها
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج25 ص55.
2 المرجع السابق: ج25 ص56.(2/646)
إلا تأليف رسائل قصيرة وطويلة، ونشرها بين العامة حتى يعرفوا ربهم ويخشوه، ومن جمع ما كتبناه في هذا التفسير استخرج منه رسائل تُنشر بين الناس بلا مشقة، فليعدل المسلمون عما هم فيه من قراءة كتب لأمم مضت وانقضت "!! " ونحن في زمان أراد الله أن يظهر نور جماله إلى الأمم الإسلامية؛ فيشرق نوره على ربوعها، ويكون ذلك مصداقًا لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} 1، 2.
أما علم الفرائض، فقال: إن دراستها فرض كفاية، وإن هذه العلوم فرض عين وقد أغفلها الجهلاء "!! " المغررون "!! " من صغار الفقهاء في الإسلام؛ حيث قال: "يا ليت شعري، لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله الحمد لله أنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض؛ لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله، وهي فرض عين على كل قادر، كما هو مقرر في باب الشكر للإمام الغزالي، وهي نفس علم التوحيد الحقيقي، والمعرفة والشكر يكونان على كل امرئ بقدر طاقته، إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن هي التي أغفلها الجهلاء المغررون "!! " من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب وظهور الحقائق"3.
وعباراته ونصوصه في الحث على الاتجاه بالتفسير نحو طريقته كثيرة جدًّا4، وبأساليب متعددة، وهو كثير الإشادة والثناء على تفسيره4، وكثيرًا ما يكرر أن في تفسيره خلاص الأمة وشفاءها4، وأنه ينبغي -بل يجب- أن يسلك المفسرون هذا المسلك، وينشروا هذه العلوم بين المسلمين؛ حتى يفوزوا وينتصروا إن أرادوا الفوز وأرادوا النصر، وتعجب إذا ما رأيته يقرر أن كتابته لهذا التفسير
__________
1 سورة التوبة: من الآية 33.
2 الجواهر: طنطاوي جوهري ج25 ص57.
3 المرجع السابق: ج3 ص19، 20.
4 انظر مثلًا مقدمة تفسيره ج1 ص3، ج8 ص113.(2/647)
فرض عين، ويقرر أن قراءة كتابه إما فرض كفاية لمن يقرءون العلوم للمنافع الدنيوية، وإما فرض عين على كل مَن أمكنه الازدياد من العلوم1.
ولهذا فلا عجب أن يكون بعض هذا دافعًا له إلى سلوك منهج التفسير العلمي التجريبي في القرآن الكريم، وأن يكون أحد -بل أول- مطبقيه تطبيقًا كاملًا على آيات القرآن الكريم كلها في هذا القرن الرابع عشر.
تاريخ تفسيره:
نص في مقدمة تفسيره على بداية تناوله للتفسير بقوله: "وكان ابتداء التفسير إذ كنت مدرسًا بمدرسة دار العلوم، فكنت أُلقي بعض آيات على طلبتها، وبعضها كان يكتب في مجلة الملاجئ العباسية، وهأنذا اليوم أوالي التفسير مستعينًا باللطيف الخبير"2، وهذا يدل على أنه بدأ فيه بعد سنة 1310هـ، وله من العمر 23 سنة.
طريقته في التفسير:
يبدأ المؤلف تفسير كل سورة بمقدمة يذكر فيها ما للسورة من أسماء، مكية هي أو مدنية، وعدد آياتها، وترتيبها في النزول، وأحيانا صلتها بالسورة التي قبلها، وهذا كله في أسطر قليلة جدًّا.
ثم يقسم السورة إلى أقسام؛ كل قسم يتكون من عدد من آيات السورة، وغالبًا ما يفرد البسملة في أوائل كل سورة بقسم خاص هو القسم الأول، وأحيانًا يسميه الفصل الأول، وأحيانًا مبحث في التسمية، ثم يتبعه بالقسم الثاني، وفيه التفسير اللفظي لآيات هذا القسم، وهو تفسير لفظي مختصر جدًّا أقرب ما يكون لتفسير الجلالين، ثم يتبعه بما يسميه "لطائف هذا القسم"، وأحيانًا يسميها أبحاثًا، وأحيانًا جواهر، وأحيانًا حكايات، وأحيانًا يضع عنوانًا خاصًّا بما تحته من أبحاث، ويفعل في القسم الثالث وغيره ما فعله في القسم الثاني. وفي
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج8 ص191.
2 الجواهر: طنطاوي جوهري ج1 ص3.(2/648)
نهاية السورة يكتب تذييلًا لتفسير السورة وتحته فصول، وأحيانًا يضع لطائف عامة آخر السورة لكل أقسامه، وكل هذه الأبحاث ما عدا التفسير اللفظي مليء بالأبحاث العلمية التجريبية البحتة، موضحة بالصور والتفصيل الدقيق.
وكثيرًا ما يذكر في هذه الأبحاث الأحداثَ التي تقع له في حياته اليومية1، وما يراه في منامه2، وأحيانًا خيالات يتحول بها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح؛ فيلتقي بروح البصيرة فيحدِّثها وتحدثه الأمر العجاب3، وأحيانًا كثيرة يسميها إلهامًا أو نفحة ربانية وإشارة قدسية وبشارة رمزية أُمر به بطريق الإلهام4 "!! " بل أحيانًا يختلط عليه الأمر فلا يدري عما كتبه حُلْم هو أو حديث نفس أو إلهام5.
وهو إضافة إلى كثرة توضيحه لأبحاثه العلمية يُورد صورًا كثيرة للأفلاك6 والكواكب7 والشمس8 والقمر9 والسديم10 والمياه11
__________
1 انظر مثلًا: ج18 ص4، ج20 ص103، ج6 ص109، ج17 ص181-186، ج7 ص67، ج8 ص174، ج25 ص123.
2 انظر مثلًا: ج18 ص139، ج20 ص234-237، ج12 ص215، ج20 ص18، 19، ج19 ص107، 108.
3 انظر مثلًا: ج19 ص161-200، ج20 ص29.
4 انظر مثلًا: ج1 ص3.
5 انظر: ج7 ص112، وانظر: ج8 ص117-120.
6 انظر مثلًا: ج12 ص239-242.
7 انظر مثلًا: ج4 ص74، 75.
8 انظر مثلًا: ج4 ص78.
9 انظر مثلًا: ج17 ص199-201.
10 انظر مثلًا: ج6 ص36-39، ج26 ص206-218.
11 انظر مثلًا: ج9 ص144-145، ج17 ص184، ج21 ص104-113.(2/649)
والأشجار1 والأحجار2 والحيوانات3 والحشرات4 والأسماك5 والإنسان6 والنباتات7 والجراثيم والميكروبات8 وأجزاء الإنسان؛ كالبصمات9 والعين10 والأذن11 والجهاز الهضمي12 والديدان13 والطيور 14، ويضع الجداول العلمية الرياضية 15 والكيميائية والفيزيائية16 والفلكية17 والخرائط الجغرافية18 والصناعات والمخترعات الحديثة19.
أما ما يستشهد من الآراء والأقوال، فإضافة إلى رؤاه وأحلامه في اليقظة والمنام وما يعده إلهامًا فهو يستشهد بأقوال علماء الشرق والغرب في القديم
__________
1 انظر مثلًا: ج17 ص104، 105، ج25 ص16، 17.
2 انظر مثلًا: ج19 ص122-126.
3 انظر مثلًا: ج26 ص4، 5.
4 انظر مثلًا: ج24 ص39-53، ج11 ص116، 117، ج11 ص123، ج9 ص149، 150، ج15 ص36-39، ج25 ص131-136.
5 انظر مثلًا: ج24 ص35-38، ج11 ص153، 154.
6 انظر مثلًا: ج11 ص104، 106، ج17 ص234، 235.
7 انظر مثلًا: ج15 ص207-211، ج17 ص211، ج25 ص70، 71.
8 انظر مثلًا: ج10 ص155، ج22 ص58، 59.
9 انظر مثلًا: ج19 ص154-160.
10 انظر مثلًا: ج23 ص30، ج2 ص34.
11 انظر مثلًا: ج2 ص31.
12 انظر مثلًا: ج15 ص222، 223، ج17 ص74، 75.
13 انظر مثلًا: ج11 ص118، ج10 ص115-124، ج25 ص137.
14 انظر مثلًا: ج24 ص235-240، ج15 ص41، ج13 ص173-181.
15 انظر مثلًا: ج23 ص137-142.
16 انظر مثلًا: ج19 ص235-237، ج14 ص131، ج1 ص243.
17 انظر مثلًا: ج12 ص239، ج17 ص203-205، ج18 ص195-197.
18 انظر مثلًا: ج12 ص61-68، ج10 ص251، ج16 ص181، ج17 ص173.
19 انظر مثلًا: ج15 ص168، ج17 ص53، ج17 ص169.(2/650)
والحديث، وقد برز في تفسيره بروزًا واضحًا باستشهاده بنصوص إنجيل برنابا1، وجمهورية أفلاطون2، ونصوص أخوان الصفا3، وألف ليلة وليلة4، وكليلة ودمنة5، والعديد من الجرائد والمجلات الغربية والعربية6.
ولا يخفى على ذي لب أمر الاستشهاد بمثل هذا في تفسير القرآن الكريم، وإضافة إلى هذه الشواهد فهو يذكر شواهد أخرى عجيبة من التنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح7، زد حساب الجمل8 وخوضه في فواتح السور خوضًا عجيبًا9.
خلاصة الأمر الحق في هذا التفسير من قال عنه فيه كل شيء إلا التفسير، ولئن كنا أجملنا الإشارة إلى هذه السمات في تفسيره فإنه يلزمنا لزومًا أن نذكر أمثلة -بعض أمثلة- لهذا التفسير، لا نثبت فيها كل ما قلناه؛ إذ لو فعلنا لاحتاج الأمر إلى دراسة خاصة لهذا التفسير العجيب؛ وإنما مرادنا بعض الأمثلة التي تعطي صورة عامة لطريقته في التفسير، وما عدا ذلك فقد أشرنا إلى مواضعه في الهوامش إشارة فيها الكفاية.
نماذج من تفسيره:
أمران كانا سبب توقفي فترة من الزمن عند هذا المبحث على وضوحه وظهوره:
__________
1 انظر مثلًا: ج1 ص61-63، ج2 ص122-124، ج1 ص47.
2 انظر مثلًا: ج17 ص186، 243، ج8 ص177، ج20 ص242-244.
3 انظر مثلًا: ج2 ص184، ج8 ص150، 151، ج20 ص30، ج19 ص207-210، ج2 ص8.
4 انظر مثلًا: ج20 ص233، 234.
5 انظر مثلًا: ج17 ص240.
6 انظر مثلًا: ج25 ص128، ج18 ص57، ج20 ص195، ج19 ص241.
7 انظر مثلًا: ج1 ص84، ج8 ص182، 183، ج19 ص29، ج19 ص219-221، ج9 ص10-12.
8 انظر مثلًا: ج2 ص5.
9 انظر مثلًا: ج2 ص5-14، ج23 ص20-26، ج20 ص35-38، ج10 ص61، 62، ج13 ص4، 5.(2/651)
أولهما: أن كثرة الأبحاث في هذا التفسير -التي كلها يصلح أن يكون مثالًا لطريقة صاحبه في تفسير القرآن الكريم- سبب لحيرة مَن يريد أن يختار بعضها أيها يقدم وأيها يؤخر، أيقدم هذا لقصر أبحاثه ويدع ذاك لطولها، أم يقدم هذا لما فيه من التطرف في التفسير، أم يقدمه لما فيه من الرأي الغريب الشاذ، أم يقدمه لما فيه من مخالفة الحق أو لما فيه من مخالفة النصوص الشرعية، أو يغمض عينه عن هذه الجوانب السلبية في التفسير ويقلب الصفحات تلو الصفحات ملتمسًا تفسيرًا مقبولًا عله يجد فيها شيئًا، أو يذكر شيئًا من هذا وذاك؟ فأيها يترك ويأخذ من هذا؟ وأين يجد ذاك؟ قر قراري في نهاية الأمر أن أذكر من التفسير ما له صلة في موضع البحث؛ ذلكم أني أبحث هنا في التفسير العلمي التجريبي، ولست أكتب عن منهج الجوهري في التفسير، فلأدع الجوانب العقدية والاجتماعية والأدبية، ولأحصر صلتي به في الجانب العلمي، ولأقتطف من هذا الجانب ما أراه المدى الذي وصل إليه في التزام هذا الجانب، أما الجوانب الأخرى فلها شأن آخر مع غير هذا البحث.
ومن هنا فإني أذكر من الأمثلة ما أراه متطرفًا فيها في التزامه التفسير العلمي، فهو الجانب الذي نبحثه أولًا، وهو الذي يكشف درجة المؤلف ومنزلته في هذا اللون من التفسير ثانيًا، وإني لأجزم أنه يتربع حتى الآن في المركز الأول لا يكاد ينافسه أحد.
أما ثانيهما: فلقد ترددت قليلًا في أن أذكر نصوصه بطولها أو أتصرف فيها بالاختصار والحذف، وخشيت أن يكون لتصرفي أثر في معانيها؛ فآثرت أن أذكرها بطولها؛ لتعطي الصورة الصادقة الكاملة حتى وإن كان فيها إطالة، وآثرت أيضًا أن يكون الاختصار في الأمثلة في عددها لا في ذاتها.
علم تحضير الأرواح:
والمؤلف متأثر تأثرًا بينًا بما يُسمى تحضير الأرواح، فكثيرًا ما يورد في تفسيره محاورات لأرواح يزعمها محضرة، وهو حين يورد هذه الأقوال يوردها مسلمًا مصدقًا لها. أما مَن لم تصح عنده هذه الخزعبلات فهو عند الشيخ(2/652)
طنطاوي مقلد مع أنه يقر بأن هذا العلم قد اختلط فيه الحق بالباطل والصدق بالكذب.
ومع هذا يتأسف على تأخر المسلمين في هذا المضمار، وكان الأَوْلَى بالأمة المسلمة -حسب زعمه- أن تكون السباقة في هذا المضمار، المجدة في تعلمه.
وحديثه عن الأرواح وتفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 الآيات -طويل، أنقل منه الموضع المراد على طوله حتى تكتمل الصورة، قال في تفسيره لهذه الآية:
"وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى والمسلمون يؤمنون بها حتى ظهر علم تحضير الأرواح بأمريكا أولًا، ثم بسائر أوربا ثانيًا، فلأذكر نُبذة منه لتعرف كيف كان مبدأ هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم أن مَن صحت عنده أحوال الأرواح وظهورها أيقن بالآخرة وبالحياة بعد الموت إيقانًا تامًّا، وأما مَن لم تصح عنده فإنه مقلد كسائر الناس، ولتعم أن هذا العلم متشعب، اختلط فيه الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار الناس فيه طائفتين: طائفة مكذبة، وطائفة مصدقة، ولكل حجج ليس هذا محلها؛ ولكن بالإجمال أقول: إن في العلم التباسًا كثيرًا وشكوكًا بسبب الأحوال الطارئة على المشتغلين به، وكان الأَوْلَى بأمة الإسلام أن تكون السابقة في مضماره، المجدة في تعلمه، المتقدمة على سائر الأمم في تحصيله؛ لتهدي الناس إلى سواء الصراط.
أفلا يرى المسلم ما جاء في هذه السورة في قوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وفعل إبراهيم ذلك، وقطع الطير ودعاها فأجابت فاطمأن، وهل نحن أكثر إيمانًا من إبراهيم؟ كلا، فإذا كان إبراهيم يطلب اليقين بالمعاينة فنحن أَوْلَى، والأنبياء أعلم منا، فكان يجب على المسلمين أن يكونوا هم البادئين بعلم إحضار الأرواح
__________
1 سورة البقرة: الآيات من الآية 66 إلى الآية 74.(2/653)
لا أمريكا؛ لأن الله ذكر لنا في سورة البقرة هنا أنهم ضربوا القتيل فحيي وأخبر بمن قتله، وهو الذي كان وارثًا له فحرم الميراث، وإذا صح هذا في نفس واحدة فجميع الأنفس يجب أن تكون كذلك، وأنها حية بعد الموت، وليس يمكن أن يكون هذا يقينًا إلا إذا رأينا بأنفسنا في زماننا بلا شك، وأنَّى لنا ذلك إلا بالكد والنصب والتعب والسهر ليلًا ونهارًا في العلم والعمل.
ولقد ألفت كتابًا سمتيه "كتاب الأرواح" ضمنته ما ورد إلينا من أوربا وأمريكا من كيفية إحضارها، وهكذا ما يقابل ذلك مما ورد في القرآن والحديث وكلام الصالحين، فرأيت اتفاقًا بين الأمتين، فلأنقل لك الآن ما جاء في التوراة من إحضار الأرواح مثلما في عصرنا تمامًا، ثم أتبعه بنُبذة مما في كتاب الأرواح الذي ألفته في تاريخ هذا العلم، ولست أريد بذلك أن تقلد ما أقول؛ ولكن أقول يجب أن يكون في المسلمين جماعة صادقون مخلصون قاصدون وجه الله والدار الآخرة لا عرض الدنيا، ينقطعون لهذا العلم، ويحضرون الأرواح؛ لأجل العلم والمعرفة، ولا يتكلون على أوربا وأمريكا، ويميزون الخبيث من الطيب، وطرق التحضير واضحة في كتاب الأرواح المذكور".
ثم ذكر نصًّا استدل به على ما ذكر من التوراة إلى أن قال: "أما ما جاء في العصر الحاضر الذي يناسب مسألة القتيل الذي ضربوه ببعض البقرة، ومسألة إبراهيم الخليل وقوله لله عز وجل: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، ومسألة صموئيل النبي مع طالوت المعبر عنه بلفظ شارل في التوراة الذي ذكرنا قصته الآن فهاكه، قلت في كتاب الأرواح:
قال شير محمد: هل يذكر لي الأستاذ كيف كان بدء هذه الحركة في العالم الحديث؟ قلت: إن هذه الحركة بدأت مع الإنسان على ظهر الأرض، وعاشت مع الأمم دهورًا وأحقابًا، فلما كانت هذه القرون الحاضرة، وأظلمت الدنيا، واسود وجه الحقيقة، وأخذ الناس يجهرون بالإلحاد؛ أرسل ربك لهم عجائب، وبث لهم من الأرض غرائب، وانبعث لهم من عوامل الغيب، وسطعت الحقائق، وأشرقت الأرض بنور ربها في سنة 1846م، ذلك أنه سمع في تلك السنة طرقات(2/654)
متوالية في بيت رجل يسمى "فيكمان" من قرية "هيدسفيل" من نواحي ولاية نيويورك، وتوالى ذلك ليالي ذوات عدد؛ فذعرت تلك الأسرة، وقذف في أفئدتهم الرعب، فهجروا المكان بعد أشهر، فسكنت الدار أسرة "جون فوكس" المؤلفة من الرجل وامرأته وابنتيه، فعادت الطرقات، وتوالت الضربات، وهرع الجيران؛ لينقبوا عن تلك الأصوات المزعجة، ثم اهتدوا إلى سبيل الرشاد؛ إذ علموا أن تلك أفعال ناجمة من عقل؛ فاصطلحوا مع مصدرها على لفظ نعم ولفظ لا بطرقتين وثلاث، ففهموا أنها رُوح أصابها شر قد قتلها رجل في هذا البيت.
والذي كشف ذلك "مدام فوكس" والقتيل الطارق يدعي "شارل ريان" قتل منذ أعوام عديدة في ذلك البيت، وكان في حياته دوَّارًا، قتله مَن كان يبيت عنده لسلب ماله، وكانت عمره إحدى وثلاثين سنة، ثم شاع الخبر وذاع، واستهزأ الناس بذلك وسخروا منها، وقالوا: إن هذا لكذب مبين، وانتقلت عائلة فوكس إلى قرية "روستر" من الولايات المتحدة، وشاع الخبر وذاع، وثار علماء الدين والملحدون وسائر الشعب على المرأة وابنتيها، وتعرضن للموت مرارًا.
فعين القوم لجنة من العلماء لكشف الحقيقة؛ فأعلنت أنه لا أثر للشعوذة ولا للاحتيال، فهاج الشعب وعين لجنة أخرى؛ فقررت كالأولى، وعينوا ثالثة؛ فأذعنت كسابقتيها، فهم الطغام بإهلاك الابنتين، وسبوا وشتموا علماء اللجان المذكورة؛ ولكن الابنتين لم يصبهما ضرر، وقامت الجرائد والمجالات تنشر مقالات الهزؤ والسخرية بهذا العمل، ومن العجب أنه لم يمضِ أربع سنين حتى فشا المذهب في سائر الولايات المتحدة حتى لم يكن يخلو بيت من وسيط أو وسيطة يخابر القوم على يده الأرواح، وقد يجلسون حول منضدة، ويتلون أحرف الهجاء، وعند وصولهم إلى الحرف المقصود تطرق المائدة برجلها، ولم تمضِ سنة 1854م؛ أي: بعد الحادث بثماني سنين حتى أصبح أمر هذا الحادث من أعمال دار الندوة ومجلس الأعيان الملتئم في مدينة واشنطون".
إلى أن قال: "وتعجب من القرآن كيف ذكر مسائل الحياة بعد الموت في قصة الخليل كما ذكرناه، وأنه أمر بتقطيع الطيور وخلط لحمها بعظمها وريشها، ثم يدعوها فتحيا في أواخر هذه السورة، وأنت تعلم أننا عن هذا عاجزون، وهذه معجزات لنبي، وذلك النبي أرد أن(2/655)
يطمئن قلبه بالمعاينة بعد الإيمان، ولا جرم أن إيماننا أقل من إيمان الأنبياء؛ فنحن أَوْلَى بطلب المعاينة، وطريق الخليل فيها مقفل بابها علينا. فمن فضله تعالى ذكر هنا أن القتيل قد حيي بضربه ببعض البقرة، وهذا فتح باب لإحضار الأرواح؛ فكأنه يقول في مسألة إبراهيم: اطلبوا الحقائق لتطمئنوا، وهنا يقول: اسلكوا السبل التي بها تستحرونها، ولا تنالون شيئًا من هذا إلا بجدكم وكدكم، فالعلم لا يُنال إلا بالمشقة والنَّصَب، فإذا وجدتم أن طريق موسى في إحياء الموتى يصعب عليكم فالتسموا غيره" {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} "هذا ما بدا لي في هاتين الآيتين للخليل وموسى الذي سار على قدم جده في النبوة، فحيي الميت على يديه، وفي السورة آيتان أخريان في إحياء الموتى؛ وهما: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ، والآية الأخرى نزلت في العزير؛ إذ قال في بيت المقدس: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ، ثم نظر الطعام الذي كان معه والشراب فرآهما على حالهما لم يتغيرا، وصار ينظر إلى حماره وهو يحيا وتتصل العظام ببعضها وتُكسى لحمًا؛ فعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} .
فالمسلم إذا قرأ هذه الآيات التي حكيت عن بني إسرائيل يقول في نفسه: أنا آمنت، فإن كان من العامة لم يطلب المزيد، وإن كان من الخاصة قال: أنا أطلب المعاينة والمشاهدة، والمشاهدة بإحدى طريقتين:
الطريقة الأولى: ما سلكه المجاهدون الزاهدون؛ ولكنها محفوفة بالخطر، ومَن شاهد منهم شيئًا لا يمكن لغيره التصديق به.
الطريقة الثانية: طريقة استحضار الأرواح، وهي عامة كما تقدم في هذا المقام؛ ولكن استحضار الأرواح أيضًا على ما يقولون صعب المنال، ويقولون: إن الأرواح النقية لا تخاطب إلا قلوبًا نقية خالصة؛ فرجع الأمر عند الصوفية وعند علماء العصر الحاضر من أوربا إلى أن المدار على الإخلاص والصدق، وطلب الحقيقة والتوجه لله، فهذا هو الأصل عند الجميع.
ولذلك ترى الذين يظنون أنهم استحضروا الأرواح متى غلب علهيم حب الدنيا تحضر إليهم أرواح كاذبة خاطئة على مقدار هممهم، وتكلمهم بالأكاذيب والمواعيد(2/656)
العرقوبية، كما أن المجاهد من الصوفية لا ينال الزلفى إلا باحتقار العالَم الفاني، ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة العزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الطاعون فماتوا ثم أحياهم، وعلم الله أننا نعجز عن ذلك؛ جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بني إسرائيل من إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها فلا تيئسوا من ذلك؛ فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح فاستحضروها بطرقها المعروفة و {اسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
ولكن ليكن المحضِر ذا قلب نقي خالص على قدم الأنبياء والمرسلين كالعزير وإبراهيم وموسى؛ فهؤلاء لخلوص قلوبهم وعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة ليطمئنوا، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} فاقتدوا بهم في تعلم ما تطمئنون به وتوقنون؛ ولكن قبل ذلك اقتدوا بالأنبياء في طهارة القلوب وزوال الرجس من النفوس، فإن هذه الأمور إنما تعرف بالتجرِبة والعمل، لا بالقياس ولا بالنظر والحدس الفكري1.
هذا أهم ما قاله الشيخ طنطاوي جوهري في تفسير هذه الآيات وأمثالها، صرف معانيها إلى تحضير الأرواح، وفسرها تفسيرًا لا يقبله ذو لب يعرف مرامي القرآن الكريم وأهدافه؛ حتى قال الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير عن هذا التفسير: "هو من أغرب ما يقال في تفسير القرآن الكريم، فهو أبعد ما يكون عن معناه وعن أهدافه وأغراضه، كما أن تحضير الأرواح علم كاذب؛ فلا يوافق الدين على الإيمان به، ولا يعترف بأخبار الأرواح التي تحضر عن طريقه، فهي أرواح جن، تكذب بادعاء أنها الأرواح المطلوب إحضارها ومكالمتها، وكيف يمكن أن تكون صادقة وهي تقول عن نفسها: إنها في الجنة، وقد تكون مشركة أو منكرة للدين في حياتها؟! وكيف يمكن استحضارها في حين أن السطان عليها لله الواحد القهار؟! "
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج1 ص84-89.(2/657)
وعلى الرغم من أن الشيخ -رحمه الله- كان رجلًا تقيًّا على ما عرفته فيه وجربته منه، فإنه كان ذا خيال خصيب، وكان لهذا يُخضع القرآن لما يتخيله في معانيه بأفكاره العريضة ذات الآفاق البعيدة وإن جانبها الصواب، غفر الله له ما قال عن حسن ظن مما خالف فيه ما ينبغي في تفسير كتاب الله المجيد1.
ونحن لا نريد قولًا ونقدًا على ما قال الشيخ مصطفى، إلا أن تحضير الأرواح كان دعوة هدامة ذات صلة عميقة بالماسونية والصهيونية العالمية، واقرأ إن شئت ما كتبه الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله تعالى- عن الروحية في كتابه "الروحية الحديثة دعوة هدامة"؛ فقد كشف فيه زيف هذه الدعوة، وذكر فيه أن من أهدافها القضاء على الدين الحق وإلغاء أثره "فالذين يدعون استحضار أرواح الموتى يستحضرون رُوح المسلم ورُوح النصراني ورُوح اليهودي ورُوح البوذي وغير أولئك، وهؤلاء من أهل الجاهلية على تباين نحلهم من مختلف بقاع الأرض، ويزعمون أنهم يعيشون جميعًا في سعادة وهناء ومعنى ذلك أن السعادة والهناء لا تتوقف على الدين الذي يختاره الناس لأنفسهم في حياتهم الأرضية؛ وذلك يؤدي إلى الاستخفاف بالأديان كلها، وإلى تكوين مفاهيم دينية جديدة"2.
على أن الذي يهمنا في موضع بحثنا أن الشيخ طنطاوي كان من المخدوعين بهذه الدعوة الزائفة التي راجت في عصره رواجًا كبيرًا؛ فحشدها في تفسيره، ومع هذا ومع حسن ظننا به إلا أنه تجب الإشارة والتحذير من هذا الاتجاه.
قوامين بالقسط:
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 3.
__________
1 اتجاه التفسير في العصر الحديث: مصطفى محمد الحديدي الطير ص75.
2 الروحية الحديثة: محمد محمد حسين ص6، 7.
3 سورة النساء: من الآية 135.(2/658)
أدخل الشيخ طنطاوي الاكتشافات العلمية الحديثة في وسائل الاعتراف في تفسير هذه الآية على نحو غريب لا أعلم أنه سبق إليه، فقال:
"يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ... } إلخ، يأمرنا أننا إذا قتلنا أو سرقنا أو زنينا ووقفنا تحت آلات القتل نقر، وإذا رأيت أبي واقفًا وآلة الشنق منصوبة له أقول: إن أبي قاتل، ولا أخجل ولا أخاف، كل ذلك يأمرني به الله. يأمرنا الله بما لم يشهد أحد عمله إلا نادرًا جدًّا، وليس في النوع الإنساني مَن يبادر إلى ذلك إلا في النادر؛ ولكن الله سبحانه إنما يريد أن يعيش الناس بسلام ووئام، ويكونوا إخوانًا لتحلوَ الحياة ويكون الصفاء.
فهل لك أن تسمع من العلم الحديث والكشف الغريب ما يجعل هذا الإقرار أمرًا متداولًا؟ هل لك أن تقرأ ما رسمته الدولة المعاصرة لنا وما كشفوه في هذا المقام حتى تحكم أنهم إذا ساروا على هذا المنوال سنين أصبح ما يقوله الله الآن أمرًا معتادًا، ويقر الإنسان على نفسه وعلى أمه وعلى أبيه وعلى قريبه وعلى ملكه وعلى اللص الذي سرق معه؛ بل يصبح الناس لا سرقة عندهم ولا قتل إلا نادرًا، ويزول الكذب في الشهادات وتصدق الأحكام؟ فلأذكر لك ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الإقرار بمصل الصدق
وأصل هذا المصل أن طبيبًا يُسمى الدكتور هاوس من المختصين بالتوليد، وعادة الطباء أنهم إذا رأوا امرأة تعسر وضعها حقنوها بهذا المصل المسمى "اسكوبلامين"، فلاحظ أثناء الحقن والمرأة تضع وهي لا تحس بألم أنها تُفشي أسرارًا ما كانت تنطق بها عادة؛ بل تلك الأسرار من أكبر الفضائح والعار، فتوجه إلى رجال الحكومة وأحضروا من السجون نحو خمسائة مسجون وحقنوهم بالمصل كما تحقن الوالدات واستنطقوهم؛ فكانوا يجيبون إجابات صريحة، ويخبرون بالحقائق كما هي، ولم يجدوا في جميع مَن سألوهم كلمة واحدة تخالف الصواب، ولما أفاق أولئك الرجال دُهشوا لما علموا أنهم أجابوا بالحقائق التي أنكروها قبلًا، وقد قال العلماء في ذلك: إن استعماله سيفضي إلى إخلاء السجون من الأبرياء، ولقد وضعوا الرجال المتهمين على موائد كما تُوضع المرضى(2/659)
وحقنوهم ثم سألوهم في معارض حضرها رجال القضاء والطب فأسفرت عن النتائج عينها، ويقولون: إنه في بلاد الإنجليز التي كشف فيها هذا المصل يقدم عشرة متهمين للمحاكمة فلا يحكم إلا على واحد لثبوت التهمة ويبرأ الباقي، ومتى حقنوا بهذا المصل ظهر المحق من المبطل، وأيضًا يقبض على الثلث من المقبوض عليهم خطأ ويبرءون فيما بعد؛ فهذا المصل ينفي التهمة ويخرجهم، وليس هذا نافعًا لإنجلترا وحدها؛ بل للعالم قاطبة متى انتشر في الكرة الأرضية.
المسألة الثانية:
إن الجناة يعرفون في العالم الإنساني الآن بآثار الإبهام، وذلك أن بلادنا المصرية جعلت إدارة خاصة لآثار الأصابع، وجعلتها أصنافًا وأنواعًا؛ بحيث إن الإنسان ليس يكون أثر إبهامه له مشابه آخر في الشرق أو في الغرب؛ ولذلك تراهم يأتون المذنبين ويأمرونهم بوضع أصابعهم على الورق وهي ملوثة بالحبر؛ فهذا الأثر يدل على صاحبه لا يشاركه فيه سواه. هكذا الأقدام فإن عرب البادية في بلادنا يعرفون الناس بآثارهم؛ كالقدماء من العرب الذين كانوا يقصون الأثر، فكل امرئ له قَدَمٌ بصفات خاصة لا يشاركه سواه.
المسألة الثالثة:
لقد ظهر في أمريكا وفي أوربا علم يقال له علم "السيكومتري"؛ أعني: علم قياس الأثر، وقد استعملت هذه اللفظة سنة 1842، وهي مشتقة من لفظة يونانية "سيكي" أي: النفس، و"مترون" أي: قياس، ومعناها اللفظي: قياس النفس.
وقالوا في هذا العلم: إنه لا يقع ظل على حائط من دون أن يترك أثرًا فيه يمكن إظهاره بالوسائل الصناعية، وكل غرفة تظن أنها محجوبة عن العيون فيها آثار كل ما حصل فيها ولو من مئات السنين؛ بل كل حَجَر وشجر ومدر توجد عليه رسوم ما حصل عنده من خير أو شر، فكل حركة وكل فكرة تصدر من الناس ترسم على ما حولهم؛ فكأن هناك صورًا لطيفة لا عدد لها، ثابتة على جميع الأشياء، لا تزول بمرور القرون والدهور".(2/660)
إلى أن قال: "انظر إلى هذه المسائل الثلاث بعقلك وتفكر فيها، ألست ترى أن المسألة الأولى هي التي تحقق إقرار الإنسان على نفسه وعلى أبويه، وتكون الأمم أقرب إلى السعادة منها الآن؟ وإذا كان هذا الكشف الحديث يعم العالم ويظهر صدقه، أفليس ذلك يكون مما يجب علينا الأخذ به متى تحققنا أن ما يقوله الفرنجة حتى لا خطأ فيه، فلسنا نحن نأخذ بقولهم؛ بل نجرب تجاربهم ونعمل بها بعد التحقيق.
وإذا كان النوع الإنساني ليس عنده من الصدق والأمانة ما يحمله على الإقرار على النفس والأهل، أفلا يكون أمثال هذا المصل -إذا صح ما يقال- من أوجب الواجبات على أمة الإسلام؛ بل أقول فوق ذلك: إنه يجب على أمراء الإسلام والمجالس النيابية أن يظهروا رجالًا في العلوم ويمدوهم بقوتهم حتى يكشفوا ويخترعوا وينظروا، وكفانا نَوْمًا فقد نامت عقول المسلمين آمادًا طويلة"1.
وهل هذا التفسير مقبول، لا أشك أنه كسالفه وككثير من تفاسير الشيخ مردودة مرفوضة؛ بل هو نفسه أورد اعتراضًا على هذا التفسير من قِبَلِ أحد العلماء، وذهب فيرده على هذا الاعتراض يقيسه على أمور الآخرة، وأن الله سبحانه يُشهد على الإنسان يده ورجله ولسانه على ما فعل وما قال. فإذا كان الله قبل هذه الشهادة من الجلود والجوارح، فكيف لا تُقبل ممن يحقن بالمصل ويشهد بالحق؟!
ولا شك أن هذا قياس ما الفارق، ثم لو سلمنا جدلًا فما دخل الأمر بالاعتراف والقول بالحق والقسط بوسائل استخراج اعترافه قسرًا، فرق بين الأمرين يجعل ما أورده مرفوضًا منكرًا في هذا المقام، فضلًا عن الخلاف في اعتراف المكره أو غير العاقل.
أما نقد هذا التفسير نقدًا مفصلًا، فليس في طاقة بحثنا هذا؛ فلنعطه حقه في العرض والأمثلة فحسب.
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج3 ص97، 98، 99.(2/661)
الرواسي في الأرض:
وذلك من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 1.
فقد أورد في تفسيرها أحدث النظريات العلمية في الجبال والبراكين وأسباب هيجان البراكين، وقد تحدث قبل ذلك عن الآية التي قبلها، وذكر أن فيها معجزتين: أن السماوات والأرض كانتا رتقًا، وأن الله جعل من الماء كل شيء حي. ثم تحدث عن المعجزة الثالثة في هذه الآية فقال:
"ثم أتى بمعجزة ثالثة فقال: "وجعلنا في الأرض رواسي" أي: جبالًا ثوابت كراهة "أن تميد" أي: تميل "بهم" وتضطرب، فإنك سترى أن الأرض لها ستة أدوار -تقدم ذكرها في سورة هود- وهذه الأدوار الستة مقسمة إلى 26 طبقة، والدور الأول منها كان عبارة عن الزمن الذي كون فيه على الكرة الأرضية النارية قشرة صوانية صُلْبة، قدر زمنها بنحو ثلاثمائة مليون سنة، ومعلوم أن الأرض كانت نارًا ملتهبة فبردت قشرتها وصارت صوانية؛ وهي الغلاف الحقيقي لتلك الكرة النارية، ولا تزال الأرض تُخرج لنا من أنفاسها المتضايقة ونارها المتقدة في جوفها كلَّ وقت نارًا بالبراكين التي شرحناها سابقًا في هذا التفسير في سورة "آل عمران".
فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفس بها الأرض لتخرج بعض النار من باطنها، ثم يخرب ذلك البركان وينفتح بركان آخر، وهذه البراكين تخرج نارًا وموادًّا ذائبة تدلنا على أصل أرضنا وما كانت عليه قبل الدهر.
فهذه القشرة الصُّلْبة لولاها لتفجرت ينابيع النار من سائر أطرافها، كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثوران والفوران، وهذه القشرة الصوانية البعيدة المغلفة للكرة النارية هي التي ثبتت منها هذه الجبال التي نراها فوق أرضنا، كما يقول علماء طبقات الأرض.
فمن هنا ظهر أن هذه الجبال جعلت لحفظها من أن تميل؛ لأن الطبقة الصوانية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، والكرة الصوانية هذه نبتت لها أسنان طالت وامتدت حتى ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقي
__________
1سورة الأنبياء: 31.(2/662)
ما تحتها مفتوحًا؛ وإذا ذاك تثور البراكين آلافًا مؤلفة، وتضطرب الأرض اضطرابًا عظيمًا وتزلزل زلزالًا شديدًا؛ لأن الباركين وثوراتها زلزلة، فما بالك إذا كانت الجبال كلها لم تكن وَخَلَتْ أماكنها، ثم إن هذه الجبال قطعة من نفس القشرة غاية الأمر أنها ارتفعت، فما هي إذن إلا حافظة للكرة النارية التي لو تركت وشأنها لاضطربت في أقرب من لمح البصر؛ فأهلكت الحرث والنسل.
هذه هي المعجزة الأخرى للقرآن؛ لأن السابقين ومَن عاصروهم كانوا يؤمنون به فقط، فظهور ذلك اليوم من المعجزات القرآنية. ولقد أجمع العلماء قديمًا وحديثًا أن الجبال على الأرض لا قيمة لها بالنسبة للكرة الأرضية، فلو فرضنا أن هذه الكرة الأرضية كرة قطرها ذراع لم تكن الجبال فوقها إلا كنحو نصف سبع شعيرة فوقها، ولو أن الأرض كرة قطرها متر واحد لم تزد الجبال عليها ملليمترًا واحدًا ونصفه فقط، فما هذا الجزء الحقير بالنسبة لتلك الكرة حتى أنه يمنع ميلها وسقوطها، فكأن الناس يؤمنون بهذه الآية.
وقد ظهرت هذه النبوة فعلًا في العلم الحديث، ولم تظهر إلا على يد من كفروا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون لا يعلمون إلا من الفرنجة، وأنا أكتب عنهم ومن كتبهم، فصدق الله وجاءت المعجزات تترى في هذا التفسير.
فالله هو الذي فصل الأرض من الشمس وكانتا ملتحمتين، والله هو الذي خلق الدواب في البحر، ثم ارتقت إلى أن ارتفعت في الهواء، وإن كان هذا المعنى فيه نظر إن حملنا الآية عليه، والله هو الذي جعل الجبال حافظة للكرة الأرضية أن تهتز وتضطرب؛ لأنها نار والجبال متصلة بالطبقة الصوانية المحيطة بالنار، فالله هو الحافظ لها.
كل ذلك دال على وَحْدَته؛ ولكن الأهم من ذلك أن القرآن ورد به ولم يعرفه الناس؛ بل لم يفسر به القرآن على وجه علمي برهاني إلا في هذا العصر؛ وإنما كان يفسر قديمًا بمجرد الإيمان، فهذه هي المعجزة الثالثة.
واعلم أن الكرة الأرضية بعد أن تمت أدوارها الستة المذكورة في سورة "هود " وفي سورة "الأنعام"، ومضى دور الطوفان العام، ثم الدور الحالي، ونظمت الأحوال على ما هي عليه الآن؛ ظهرت فيها "الفجاج"؛ وهي المسالك الواسعة، وكما نظمها الله وأخرج زرعها ونوع حيوانها حتى وصل النبات الآن على ما يقول "اسبنسر" 320 ألف نبات، والحيوان أيضًا مليوني نوع، وخلق(2/663)
الإنسان وأبدع كل شيء فيها، هكذا نظم السماء وجعلها سقفًا محفوظًا؛ فحفظ الشموس في مداراتها؛ بحيث لا تختلط ولا تختبط؛ بل حفظها سالمة في أماكنها الخاصة، بها قوة الجاذبية بالاصطلاح العلمي. فالقمر والشمس والكواكب الأخرى متجاذبات حافظات لمداراتها لا تخرج عنها وإلا لاختل هذا العالم"1.
السماوات السبع:
ورد لفظ السماوات السبع في القرآن الكريم عدة مرات في عدة سور؛ أما الجوهري فله فَهْمٌ آخر في تحديد السماوات السبع أورده عند تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 2، ذهب إلى أن السماوات ليست سبعًا، وهو تفسير عجيب من تفسيره لا يستغرب؛ فقد أنكر أن يكون للعدد هنا مفهوم؛ فالسماوات ليست سبعًا، وورود سبع سماوات لا يمنع أن يكون العدد أكثر من سبع، ثم أشاد بهذا التفسير قائلًا بهذا فليرتق المسلمون وليتعلموا. وهذا نص تفسيره:
"واعلم أن العدد ليس له مفهوم، وبه قال أكابر المفسرين والحكماء، فإذا قال الله: سبع سماوات، فليس ذلك بمانع أن يكون العدد أكثر، وإذا عرفت أن هذا الجرم اللطيف العجيب الممتد إلى أمد ينقطع الفكر دونه، ومجال لا يصل إليه الوهم فيه من العجائب والبدائع والكواكب والمخلوقات ما لا يُحصى، فسواء أكان سبعًا أم ألفًا؛ فذلك كله من فعل الله، دال على جماله وكماله، وهو تجلياته وأنواره المشرقة المتلألئة الفائضة من مقام القدس الأعلى متنزلة في العوالم، وكل كواكب من الكواكب الجارية له مدار خاص به، وكل شمس من الشموس -التي ذكرناها- لها مدار خاص، وسياراتها كذلك، والله هو الفاعل المختار، مفيض الخيرات والجمال والحسن والإشراق. قال الإمام الغزالي في كتاب "تهافت الفلاسفة":
"إذا ثبت حدوث العالم، فسواء أكان كرة أو مثمنًا أو مسدسًا، وسواء
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج10 ص198، 199.
2 سورة البقرة: من الآية 29.(2/664)
أكانت السماوات وما تحتها ثلاث عشرة طبقة -كما قالوا- أو أقل أو أكثر، فنسبة النظر فيه إلى البحث الإلهي كنسبة النظر إلى طبقات البصلة وعددها وعدد حب الرمان، فالمقصود كونها من فعل الله فقط كيفما كانت".
أقول: إياك أن يصدَّك -أيها الفطن- لفظ سبع عن البحث والتنقيب، فالعدد ليس بقيد، وانظر إلى هذا الجمال، ولا تكن من الخائفين الجبناء الذين يظنون أن هذا ينافي القرآن، أو تكون من المساكين الذين يلحدون ويكفرون لسماع مثل هذا اللفظ؛ وذلك لسخافة عقولهم وقلة علمهم، وهذان الفريقان من الذين قال الله فيهم: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} ، فقال صاحبي: إذًا أنت تؤيد المذهب الحديث، فقلت له: حاشى لله أن أؤيد حديثًا أو قديمًا؛ وإنما القرآن طبقناه على المذهب القديم، ثم ظهر بطلان ذلك المذهب، وجاء الحديث فوجدناه أقرب إليه، وإلا فهو أعلى منهما وأعظم، وما يدرينا أن يكون هناك مذاهب ستحدث في المستقبل، فهل القرآن كرة طرحت بصوالجة، يتلقفها رجل رجل؟ كلا؛ إنما هذا التطبيق الذي ذكرته ليطمئن قلب المسلم، وليعلم أن عمل الله وصنعه لا ينافي كلامه، فالتطبيق للاطمئنان.
فقال: وَلِمَ كان المذهب الحديث أقرب إلى القرآن؟ قلت:
أولًا: جاء في القرآن {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون} والمذهب الحديث أرانا سَعَة مخلوقاته، وأنها لا تُدرك.
ثانيًا: كان القدماء يقولون: الكواكب والأفلاك لا تفنَى، والرأي الحديث يقول: إن الكواكب تتجدد وتفنَى كالإنسان والحيوان. وقالوا: إنهم رصدوا كواكب لا تزال في طور التكون، وذكروا منها نحو ستين ألفًا، وأن كواكب قد فنيت، يقول الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ، ومنها ذلك الكوكب الذي بين المشترى والمريخ، وصار كواكب صغيرة جدًّا، فهذا أقرب إلى القرآن؛ لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} .
فقال صاحبي: ما ملخص ما مضى؟ فقلت:(2/665)
أولًا: أن السماء يراها الناس واحدة.
ثانيًا: أن الدين جعلها سبعًا، والفلاسة جعلوها تسعًا.
ثالثًا: المسلمون القدماء جعلوها سبعًا منها سماوات، والكرسي والعرش: هما الفلكان الباقيان اتباعًا للفلسفة القديمة، وإنجيل برنابا تبعها، فقال: تسع سموات، والمذهب القديم أبطل؛ فبَطَلَ تبعًا له ما جاء في إنجيل برنابا، وما جاء عن العلماء الذين صدقوه من المسلمين.
رابعًا: أن المذهب الحديث أبان أن عظمة الله فوق ما ذكره القدماء، وأصبح ما كان عند القدماء بالنسبة للعلم الحديث أشبه بذرة بالنسبة للأرض والجبال والبحار؛ بل أقل كثيرًا جدًّا.
خامسًا: العالم لا فراغ فيه، فالسماوات موجودة فعلًا ببراهين القدماء والمحدثين.
سادسًا: وهي سبع سموات وذلك حق؛ لأنها طباق بعضها فوق بعض.
سابعًا: المذهب الجديث يثبت فناء العالم، وفناء الكواكب، وهو موافق للقرآن؛ فهو معجزة له.
ثامنًا: أن ما قلناه ليس القصد منه أن يخضع القرآن للمباحث، فإنه ربما يبطل المذهب الحديث كما بَطَلَ القديم، فالقرآن فوق الجميع؛ وإنما التطبيق ليأنس المؤمنون بالعلم ولا ينفروا منه لمخالفته لألفاظ القرآن في نظرهم.
فقال صحابي: قد أفدت إفادة تامة، ولم يبقَ عندي إلا سؤال واحد؛ وهو لم عبر الله بسبع سموات، ولم يعبر بسماء واحدة مع أن الناس لم يروا غيرها؟
قلت: اعلم أن الله لو ذكر سماء واحدة لوقفت عقول المسلمين عليها، ولم يبحثوا عن غيرها؛ ولكنهم لما سمعوها أخذوا يقرءون فلسفة اليونان، ثم قرأنا الفلسفة الحديثة؛ فعرفنا نعمة الله وحكمته، والتعبير بالسبع امتحان وابتلاء من الله؛ لأنها تحير عقول الباحثين، فمن كان مريض النفس، صغير العقل،(2/666)
ضئيل الفكر؛ جبن وجزع وخاف. وقال: إني أخاف الله رب العالمين، فلا يبحث في العوالم، ويظن أن الله يغضب على مَن بحث من المؤمنين في جمال جلاله، ومَن قويت عزيمته، وعلت همته، وارتقت نفسه، فإنه يبحث ويعرف فعل الله عز وجل، ويقول في نفسه: إن هذا فعل الله، وأنا أقرأ كلامه، وكلاهما دال عليه، وقوله لا يناقض فعله إلا عند الجاهلين.
أما أنا فإني أبحث صنعته، وبعد ذلك أطبقها على كلامه بهذا؛ فليرتق المسلمون وليتعلموا، فكم من ذكي مسلم قرأ العلوم الحديثة وكفر بالدين؛ ظانًّا أنه نال من العلم ما جهله الأنبياء، وكم من غبي مسلم اطلع على هذه المباحث فنفر منها لاعتقاده أنها تنافي الدين. "والحق أقول": إن قليلًا من الأذكياء المسلمين مَن يصدقون بالدين مع العلوم، وأكثبر المصدقين بالدين من الجهلاء وعلماء الدين. أما أكثر المتعلمين العصريين، فإنهم يقولون: الدين شيء والعلوم شيء"1.
هذا ما قاله الجوهري، والذي يظهر لي أن الذي دعاه إلى إنكار مدلول العدد "سبع" أنه أخطأ في التفريق بين السماوات والأفلاك -وغريب منه هذا- وظن أن لا فرق بينهما، ووجد أن القرآن ينص على لفظ سبع عدة مرات في آيات متعددة من سور متفرقة، ورأى مرة أخرى أن علماء الهيئة الجديدة يذكرون من الأفلاك ما هو أكثر من ذلك؛ فوجد نفسه مضطرًّا لإلغاء مفهوم العدد في القرآن؟!
ولو تأمل في آيات القرآن الكريم التي بينت عدد السماوات لوجدها تذكر ذلك بأساليب مختلفة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 2، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ} 3، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} 4، {قُلْ
__________
1 الجواهر: طنطاوي الجوهري ج1 ص50، 51.
2 سورة البقرة: من الآية 29.
3 سورة الإسراء: من الآية 44.
4 سورة المؤمنون: من الآية 17.(2/667)
مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع} 1، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 2، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات} 3، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقا} 4، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} 5، {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} 6.
إن اتفاق ونص هذه الآيات القرآنية كلها على سبع لا يصح أبدًا أن يقال فيه: لا مدلول له؛ وعلى هذا فلا يصح أن يترك أو يؤول نص القرآن هذا التأويل الباطل؛ لأن العلم الحديث عجز عن إدراك هذه السماوات، فما زال علم الفلك يحبو في الدرجات الدنيا، فالحذر الحذر من صرف معاني القرآن الكريم عن معانيها لأجل نظريات ما زالت قاصرة أو من أجل فهم خاطئ لمدلول آية ومدلول نظرية.
ثم إن الحديث هنا حديث عن أمر غيبي لا ندعه لمثل هذه المفاهيم القاصرة، والنظريات البدائية.
وما تحت الثرى:
في تفسير قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} 7، ذكر طنطاوي أن قوله تعالى: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} تحريض للمسلمين على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى، وأن الأمم الأوربية اليوم تقرأ علمًا يسمى "علم الآثار المصرية"، وقال غير هذا، وإليك نصر تفسيره:
"لما ذكر العرش والاستواء عليه أخذ يشرح العوالم التي استولى عليها؛ فبدأ
__________
1 سورة المؤمنون: من الآية 86.
2 سورة فصلت: من الآية 12.
3 سورة الطلاق: من الآية 12.
4 سورة الملك: من الآية 3.
5 سورة النبأ: الآية 12.
6 سورة نوح: من الآية 15.
7 سورة طه: الآية 6.(2/668)
بأهمها؛ وهي السماوات بخلاف إنزال القرآن، فإنه من عالم أعلى إلى عالم أدنى كما تقدم، ثم ثنَّى بالأرض لأنها أدنى منزلة، فمقام تَعداد الممالك غير بيان المكان الذي أنزل القرآن لأهله.
وقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العلم المسمى "الآثار العلوية"، وهو من علوم الطبيعة قديمًا وحديثًا.
وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} يشير لعلمين لم يعرفا إلا في زماننا، وهما علم طبقات الأرض المتقدم مرارًا في هذا التفسير وعلم الآثار المتقدم بعضه في سورة يونس، والآتي بعضه في سورة سبأ، وأن قوله هناك: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} يشير إلى ما ظهر من بلاد اليمن "!! " التي تشتمل على "سبأ"؛ فقد ظهرت هناك نقوش ومدائن لم تكن معروفة من قبل، وظهر "سد العرم" وسيأتي رسمه، كل ذلك والمسلمون لا علم لهم بذلك مع أنه في بلادهم وعلى مقربة منهم.
فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ليحرض المسلمين على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى المذكورين في هذه السورة، وأن سحرتهم شهدوا بصدق النبوة الموسومة؛ لأنهم وجدوا علمًا فوق علمهم؛ وهو علم النبوة، فجدير بعلوم هؤلاء أن تدرس وتعلم؛ لهذا كله قال: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} !!
واعلم أن الأمم الأوربية اليوم يقرءون علمًا يسمى "علم الآثار المصرية" فهو فن خاص، وقد انتشرت الآثار هناك في زماننا ويسمى بعلم الاجيتلوجي1.
إن هذا التفسير مثل ما سبقه من تفاسير لا يحتاج الأمر فيه إلى تتبعه بالنقد، فكل مَن أوتي حظًّا من الفَهْم يدرك بعد هذه المعاني عن آيات القرآن الكريم كتفسير لها.
تفسير الفاتحة:
وأحيانًا كثيرة يدخل الشيخ طنطاوي الجوهري في تفسير السورة من العلوم ما لا يعقل، ويحملها ما لا تحتمل، لا أحسبه يورده كتفسير أو يقصده كذلك؛ وإنما
__________
1 الجواهر: طنطاوي جوهري ج9 ص66.(2/669)
استطرادًا في الحديث واستشهادًا، وهو ولا شك عندي أنه أمر غير محمود؛ لكنه أقل خطرًا من إيراده كتفسير للآية.
ومن السور التي أدخل فيها االشيخ طنطاوي جوهري هذه العلوم أول سور القرآن الكريم؛ أعني: سورة الفاتحة، وإليك بعض -أكرر بعض- ما أدخل فيها، قال:
"نزلت هذه السورة لتعليم العباد: كيف يتبركون باسم الله عز وجل في سائر أحوالهم، وكيف يحمدونه ويستعينون به، فيبتدئ القارئ قائلًا: أقرأ متبركًا باسم الله الرحمن المنعم بجلائل النعم؛ كالسماوات والأرض والصحة والعقل، الرحيم المنعم بدقائقها؛ كسواد العين، وتلاصق شعرات أهدابها المانعات من دخول الغبار المؤذِي لها، مع أن النور يلمع من خلالها، وينقل صور المرئيات إلى حدقتها فشبكيتها فالدماغ، فهذه الدقة في الصنع والحِكَمة في الوضع التي أباحت لضوء الشمس والكواكب مثلًا أن يلج، ومنعت الغبار أن يدخل يعبر عنها بلفظ: الرحيم؛ تتميمًا للنعمة، وتكميلًا للهناء والسعادة.
ولما كان أكثر الناس لا يلحظون العجائب الكامنة فيهم، ولا يعرف نفسه إلا قليل منهم، وهم أكابر الحكماء والأولياء؛ وجب أن أبيِّن في هذا المقام بعض رحمة الله عز وجل في العالم المشاهَد: فمنها ما أشار إليه "العلامة الأستاذ ميلن إدوارد: أن حيوانًا يسمى اكسلوكوب" يعيش منفردًا في فصل الربيع، ومتى باض مات حالًا، فمن رحمة الله، وجميل صنعه، ورأفته بالخَلْق أن ألهم هذا الحيوان أن يبني بيتًا قبل أن يبيض على منوال ما كانت تفعله عاد من اتخاذ البيوت بالحَفْر؛ ولكن هذا في خشب، وأولئك في صخر، فيعمد ذلك الحيوان إلى قطعة من الخشب، فيحفر فيها حفرة مستيطلة، ثم يجلب طلع الأزهار، وبعض الوراق السكرية، ويحشو بها ذلك السرداب، ثم يبيض على ذلك بيضة، ثم يأتي بنشارة الخشب ويجعلها عجينة، ويجعل منها سقفًا لذلك السرداب، والحكمة في ذلك: أن هذه البيضة متى فقست وخرجت الدودة كفاها ذلك الطعام سنة، وهي المدة التي لا تستطيع تلك الدودة أن تحصل فيها قوتها، ومتى(2/670)