نقل معاني القرآن الكريم إلى لغة أخرى
أ ترجمة أم تفسير ؟
أ.د/ فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقد تلقيت دعوة كريمة من الأستاذ الدكتور محمد سالم بن شديد العوفي الأمين العام لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف رئيس اللجنة التحضيرية لندوة "ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل" التي يزمع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عقدها في الفترة من 21-24/11/1422ه الموافق 4-7/2/2002 وذلك للمشاركة في الندوة ببحث في الموضوع الخامس من المحور الأول.
وقد لاقت هذه الدعوة الكريمة صدى قيماً في نفسي فقد كتبت عن موضوع الترجمة في مبحث مستقل في رسالتي للماجستير عام 1400ه وعنوانها "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" وشعرت حينها بضرورة الكتابة عن الترجمة كتابة مستقلة شاملة تقوم كما جاء في عنوان الندوة على تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل. ويسرني أن أشارك في الكتابة في جزء من هذا المشروع العظيم الذي تصدى له مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في هذه الندوة المباركة- إن شاء الله- التي ندعو الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين.
وقد كتبت هذه الوريقات ملتزماً بالحدود المرسومة للباحثين داعياً الله أن يبارك في جهود الجميع لما فيه الخير والصلاح.
أ. د/ فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي
... ... ... ... أستاذ الدراسات القرآنية
... ... كلية المعلمين بالرياض
التمهيد
نزول القرآن بلسان عربي مبين:(1/1)
جرت سنة الله تعالى أن يرسل إلى كل أمة ضلت وانحرفت عن الصراط المستقيم رسولاً منهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وتكون معجزته من جنس ما برع فيه قومه، ولذا كانت معجزة - عيسى عليه السلام - إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، وهي معجزات من جنس الطب لأن قومه برعوا في الطب، وكانت معجزة موسى - عليه السلام - أن يلقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، وكان القوم قد برعوا في السحر، وكانوا يلقون حبالهم فيخيل للناظر إليها أنها تسعى.
وحين بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة ، اقتضت سنة الله تعالى أن تكون معجزته من جنس ما برعوا فيه، وهم قوم لم يبرعوا في طب، ولا سحر ولا صناعة ولا تجارة، وإنما برعوا في الكلام وفنونه ، فجاءت المعجزة من جنس ما برعوا فيه ، معجزة كلامية بلغتهم، وبلسانهم العربي المبين.
قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف:2]، { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } [ الرعد: 37]، { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً
عَرَبِيّاً } [ طه: 113]، { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الزمر:28] ، { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [ فصلت: 3]، { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [ الشورى: 7]، { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الزخرف:3] ، { وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً } [ الأحقاف: 12]، { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [ الشعراء:
193- 195]، { وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [ النحل: 103].
وقد أقام الله الحجة على القوم ، فهم عرب والقرآن نزل بلسانهم العربي، وعجزوا عن الإتيان بمثله.(1/2)
ولحكمة عظيمة أخرى أكبر من تلك ، جعل الله المعجزة كلامية لتكون معجزة متجددة إلى يوم القيامة، معلنة أن الإعجاز لم -ولن- ينقطع، وأن التحدي لم يزل قائماً؛ لأنه الدين المصطفى المختار للعالم أجمع ،حتى تقوم الساعة.
فليس وجه الإعجاز محصوراً بلفظه، وإن كان ذلك هو الأصل، بل أيضاً بمعانيه وعلومه ومعارفه وأخباره الغيبية وتشريعاته وغير ذلك ؛ حيث ينكشف لأهل كل عصر وجه من أوجه إعجاز القرآن، معلناً أن هذا القرآن هو الحجة الظاهرة لخاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - على أهل كل عصر وفي كل مكان.
عالمية القرآن والدعوة:
وقد دلت النصوص الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة على عموم دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشمولها للناس كافة { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف: 158]، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء:107]، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ: 28].
وتبعاً لعموم الرسالة وشمولها جاء الخطاب في القرآن الكريم للناس كافة { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ } [ الأنعام: 19]، { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ يوسف: 104]، { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان:1].
فهذه الرسالة امتدت زماناً إلى يوم القيامة، وامتدت مكاناً حتى انتظمت آفاق الأمم والبلدان، وامتدت إصلاحاً حتى استوعبت شؤون الدنيا، وامتدت ثمارها حتى شملت الدنيا والآخرة.
وقد امتثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر الإلهي فبدأ الدعوة في أهل مكة وما حولها، ثم وجه كتبه – عليه الصلاة والسلام – إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، كما وجهها إلى زعماء ورؤساء القبائل في جزيرة العرب.(1/3)
وأدرك شمول هذه الدعوة صحابته رضي الله عنهم، فأرسل الخلفاء الجيوش لحماية دعاة الإسلام ممن يريد منعهم من التبليغ الواجب الذي كلفت به هذه الأمة ، فحققت تلك الجيوش أوسع الفتوحات ، في مدة لا يزال المؤرخون يقفون أمامها حائرين.
وانتشر الإسلام بين العجم في مختلف الأقطار، وفتحوا له قلوبهم وصدورهم، وصاروا من الدعاة إليه، وربَّوا أبناءهم عليه، وأقبلوا يتعلمون أحكامه ويدرسون تعاليمه.
وأدرك الجيل الأول من أولئك العجم منزلة اللغة العربية في القرآن الكريم، وأدركوا أهميتها، فقاموا بتنشئة أبنائهم عليها، وتحصيل علوم الدين الإسلامي، أما هم –وقد كاد الركب يفوتهم بعد أن تقدم بهم العمر، ورسخت العجمة في ألسنتهم- فاكتفوا بتعلم ما هو ضروري من الدين بباعث العقيدة وضرورة إقامة الفريضة، فتعلموا من القرآن ما يقيمون به الصلاة المفروضة، ويتعبدون بتلاوته (1).
وقد أدرك أبو حنيفة رحمه الله تعالى (80-150ه) طائفة منهم لم تستقم ألسنتهم بالعربية، فسوغ لهم من قبيل الرخصة الدينية فحسب ، أن يقرؤوا معاني سورة الفاتحة على أنها دعاء حتى تقوم ألسنتهم، فلما رأى الألسنة استقامت ولانت وخشي حدوث بدعة مع انقراض الجيل الأول وكون الجيل الثاني من الأجيال التي نشأت في دار الإسلام وتعلمت لغته، رجع عن رأيه رحمه الله تعالى (2).
ومن يومئذ لم يزل علماء المسلمين -رحمهم الله تعالى- يدعون إلى تعلم اللغة العربية ووجوب الصلاة وقراءة القرآن بها لا بغيرها.
ومع مرور الأيام فترت العزائم وضعف الإيمان وصارت الأمة الإسلامية –أو كادت- غثاء كغثاء السيل، وتداعت الأمم عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها وذهبوا يتقاسمونها فيما بينهم.
__________
(1) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: د/فهد الرومي، 1/413-414 (بتصرف).
(2) القرآن المعجزة الكبرى: محمد أبو زهرة، ص521.(1/4)
واستولت الدول الأوروبية (بريطانيا، وهولندا، وإيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا وغيرها) على كثير من الدول الإسلامية وتحكموا في ثرواتها وأهلها وغيروا من عاداتهم وتقاليدهم إلا شيئاً واحداً لم يستطيعوه، وهو أن يقتلعوا جذور العقيدة من قلوبهم، وأدركوا أن السر في ذلك هو ذلكم الكتاب القرآن الكريم الذي يسقيها، فخافوا إن تركوه أن يعيد إليها الحياة من جديد فتعود كما كانت ، فبذلوا كل ما يستطيعون للقضاء عليه وقد تنادى زعماؤهم بذلك: فهذا جلادستون رئيس وزراء بريطانيا حينذاك يقول : "ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبه السيطرة على الشرق"(1). ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر: "إننا لن ننتصر على
الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية"(2). ويقول وليم جيفورد -أحد المنصرين-:"متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد
وكتابه" (3).
إذاً فلا عجب أن يبذلوا كل ما في وسعهم، وأن يسلكوا كل طريق للفصل بين المسلمين والقرآن، وكانت بداية مكرهم فصل المسلمين عن لغة القرآن، فسلكوا كل سبيل إلى ذلك فزرعوا لغتهم ومنعوا الأذان بالعربية في بعض البلدان ومنعوا الكتابة بها، واستبدلوا بالأحرف العربية الأحرف اللاتينية، لكن المسلمين لا يزالون مرتبطين بالعربية يربطهم بها القرآن الكريم، فدعت طائفة منهم إلى ترجمة القرآن الكريم بلغاتهم، ووجوب الصلاة بها، وترك اللغة العربية والصلاة بها، ولكي تلقى دعوتهم القبول، ويمكَّن لها بزعمهم، وضعوا لذلك تعليلات تخدع المنهزمين فكرياً وتزيد المؤمنين إيماناً وثباتاً.
زعموا أن الصلاة بالترجمة تمد المصلي العجمي بالخشوع في الصلاة؛ لأنه يفقه المعاني التي يقرؤها في صلاته، وتكون مناجاته لربه أعمق وأصدق!!
__________
(1) قادة الغرب يقولون: جلال العالم ص31.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق: ص49.(1/5)
وقالوا: إن الدين الإسلامي دين يسر فلا يُشَق على غير العربي بتعلم العربية ، وزعموا أن هذا أسرع لانتشار الإسلام بين العجم وأكثر تحبيباً وتزييناً للدين الإسلامي في نفوسهم.
وانخدعت طائفة من المسلمين بما ذهبوا إليه، وابتهجت نفوسهم لهذا الكلام الذي ظاهره الرحمة وباطنه الضلال الشديد.
فنشأت (1) دعوة قوية لهذا الأمر في القرن الماضي في بلاد المسلمين وبخاصة في تركيا وفي مصر والشام ، وتصدى لها بعض علماء المسلمين وكانت معركة شديدة وفتنة عظيمة. ثم فترت الدعوة بعد ذلك واقتصر الأمر على مجرد الترجمة وتداولها بين المسلمين، وبطل كيد الكافرين والمشركين بل أصبحت تلك الدعوة خيراً للإسلام والمسلمين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، وانظر إلى حكمة الله كيف أصبحت تلك الدعوة التي أريد بها فصل المسلمين عن الإسلام سبيلاً من سبل نشر الإسلام ليس بين المسلمين فحسب، بل في الدول الأوربية والأمريكية نفسها.
وجوب التبليغ:
ومما هو معلوم من الدين بالضرورة أنه يجب على المسلمين أن يبلّغوا الدعوة، وأن يدعوا لهذا الدين كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله "بلّغوا عني ولو آية"(2).
والنصوص في ذلك أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وتبليغ القرآن إما أن يكون بتعليم العجم لغة العرب، وهذا يحتاج إلى أمد، ويتعذر في كثير من الأحوال وبخاصة عند غير المسلمين، وإما أن يكون بترجمة القرآن لهم وتفهيمهم معانيه.
معنى الترجمة وأقسامها
جاءت كلمة »ترجمة« في العربية لتدل على معان أربعة (3):
أولها: تبليغ الكلام لمن لم يسمعه ومنه قول الشاعر:
__________
(1) لا أقصد أن الترجمة لم تكن معروفة قبل ذلك، بل هي معلومة من وقت مبكر في الإسلام لكني أردت ما نودي به من الدعوة إلى فصل المسلمين عن القرآن واستقلالهم بالترجمة تلاوة وتعبداً.
(2) رواه البخاري، ص582، ح3461، كتاب أحاديث الأنبياء.
(3) مناهل العرفان: الزرقاني، 2/5-6 (بتصرف).(1/6)
إن الثمانينَ -وبُلِّغْتَها- ... ... قد أحوجَتْ سمعي إلى ترجمان
ثانيها: تفسير الكلام بلغته نفسها، ومنه سمي ابن عباس - رضي الله عنه - ترجمان القرآن.
ثالثها: تفسير الكلام بغير لغته. قال الجوهري "وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر" (1).
رابعها: نقل الكلام من لغة إلى أخرى قال الزبيدي في تاج العروس: "وقيل: نقله من لغة إلى أخرى" (2).
ولأن هذه المعاني الأربعة تشترك في أن معناها (البيان) أطلقت الترجمة على كل ما فيه بيان ، فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أي جعل له عنواناً، يبين ما تحته. وترجم لفلان أي بيَّن تاريخه، وترجمة هذا الباب أي بيان المقصود منه ونحو ذلك. والذي يعنينا من هذه المعاني الثالث والرابع ويكون المراد
بالترجمة هنا أمرين(3):
الأول: الترجمة الحرفية:
وهي نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى مع مراعاة الموافقة في النظم والترتيب والمحافظة على جميع معاني الأصل المترجم.
الثاني: الترجمة التفسيرية أو المعنوية:
وهي شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعاة لنظم الأصل وترتيبه وبدون المحافظة على جميع معانيه المرادة منه.
وعلى هذا فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها، ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى، مع وضعها موضعها وإحلالها محلها، وإن أدى ذلك إلى خفاء أو ركاكة المعنى واضطراب العبارة بسبب اختلاف اللغتين في موقع استعمال الكلمة أو الضمير.
أما المترجم ترجمة تفسيرية فهو يقصد إلى المعنى العام للنص المراد ترجمته فيصوغه في عبارات تؤدي معناه من اللغة الأخرى من غير مراعاة لمفردات الأصل (4).
__________
(1) تاج العروس: الزبيدي، 8/211.
(2) تاج العروس: الزبيدي، 8/211.
(3) التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، 1/23-24.
(4) مناهل العرفان: الزرقاني، 2/7-8 (بتصرف).(1/7)
ويتضح الفرق بين القسمين حينما تضرب مثالاً للترجمة بهما على فرض إمكانهما في آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسراء: 29].
ففي الترجمة الحرفية تأتي بكلام من اللغة المترجم إليها يدل على النهي عن ربط اليد في العنق، وعن مدها غاية المد مع رعاية ترتيب الأصل وتنظيمه، بأن تأتي بأداة النهي أولاً، يليها الفعل المنهي عنه متصلاً بمفعوله ومضمراً فيه فاعله… الخ وهذا النوع من الترجمة يخرج في أسلوب غير معروف ولا مألوف في تفهيم المترجم لهم ما يرمي إليه الأصل من النهي عن التقتير والتبذير، بل قد يستنكر المترجم لهم هذا المعنى الذي فهموه.
وفي الترجمة التفسيرية يعمد المفسر بعد تفهم المعنى المراد في الأصل إلى التعبير عنه باللغة الأخرى بعبارة تدل على هذا النهي المراد في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكبر الأثر في استبشاع التقتير والتبذير مع عدم التقيد بمراعاة نظم الأصل وترتيب ألفاظه (1).
ولا بد في الترجمة الحرفية من شرطين:
الأول: وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات في لغة الأصل، حتى يمكن للمترجم أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل.
الثاني: تشابه اللغتين في الضمائر المستترة والروابط التي تربط الكلمات بعضها ببعض ، وتطابُقٌ في مواقع أحوال الكلمات كالفاعل والمفعول به، والصفات ونحو ذلك(2).
وبهذين الشرطين يكون من المتعذر -بل من المستحيل- ترجمة نص ترجمة حرفية فضلاً عن ترجمة القرآن الكريم ؛ لأن معناه الإتيان بمثل هذا القرآن بلغة أخرى.
حكم الترجمة الحرفية للقرآن الكريم:
__________
(1) انظر: مناهل العرفان: الزرقاني، 2/8؛ والتفسير والمفسرون: الذهبي، 1/27.
(2) مناهل العرفان: الزرقاني، 2/9 (بتصرف).(1/8)
وإذا كانت الترجمة الحرفية غير ممكنة ومستحيلة، فإن ادعاء القيام بترجمة حرفية للقرآن تؤدي معانيه الأصلية ادعاء باطل، فتحرم، وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين الثقات.
حكم الترجمة التفسيرية:
أما الترجمة التفسيرية أو المعنوية -كما مر تعريفها- فهي التي ثار فيها الجدال والعراك، واشتد فيها النزال والطعان بين المؤيدين والمعارضين.
وسأعرض - بإيجاز شديد - أدلة كل فريق.
فمن أدلة المؤيدين للترجمة:
أن الدعوة الإسلامية دعوة عامة لا تختص بجيل دون جيل، أو أمة دون أخرى، وتحقيق ذلك يوجب بيان القرآن لتلك الأمم وتوضيح معانيه لهم بلغتهم التي يفهمونها.
أن العجمي إذا كان لا يستطيع تذوق نظم القرآن بسبب الحاجز اللغوي فإنه قادر على التفكر في معانيه، والتدبر في أحكامه ودلالاته.
أنه من المسلّم قطعاً أن العربي نفسه لا يستغني عن بيان القرآن
الكريم بل الصحابة أنفسهم -رضي الله عنهم- كانت تُشْكِل عليهم بعض معاني القرآن فيسألون عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيفسرها لهم امتثالاً لقوله تعالى: { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل:44]. فإذا كان العربي بحاجة إلى أن يُبيَّن له القرآن فإن العجمي أكثر حاجة إلى بيان القرآن له بلغته التي يفهمها.
كما استدلوا ببعض النصوص من كتب الفقه على جواز ذلك. كقول السرخسي في المبسوط : "وأصل هذه المسألة إذا قرأ في صلاته بالفارسية جاز عند أبي حنيفة رحمه الله ويكره، وعندهما(1)) لا يجوز إذا كان يحسن العربية، وإذا كان لا يحسنها يجوز" (2).
__________
(1) عندهما: يعني عند أبي يوسف ومحمد، تلميذي أبي حنيفة.
(2) المبسوط: السرخسي، 1/37.(1/9)
وقال قاضيخان: "وعلى هذا الخلاف إذا قرأ القرآن في الصلاة بالفارسية عند أبي حنيفة -رحمه الله- يجوز وإن كان يحسن العربية، وعندهما إذا كان يحسن العربية لا يجوز وتفسد صلاته. كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني"(1).
وقال الزيلعي: "وأما القراءة بالفارسية فجائزة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا تجوز إذا كان يحسن العربية" (2) .
وقالوا: "إن مما يضطرنا إلى ترجمة معاني القرآن أن الأوربيين ترجموا القرآن تراجم سقيمة لا نرى مندوحة من تقويمها، ولا يسعنا تركها على حالها" (3).
وقالوا: "مَن الذي قال: إننا نترجم القرآن ليقرأه الناس في الصلاة؟ إن كل ما قلناه: إننا نترجم معاني القرآن لتصحيح التراجم الخاطئة إذ لا يجوز شرعاً ترك المعاني القرآنية محرفة فيها، ولتفهيم الأجانب(4) سمو ديننا وأن كتابه يهدي للتي هي أقوم في جميع المجالات الإنسانية"(5).
ومن أدلة المعارضين للترجمة:
أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن، أو فهم مَنْ عساه يعتمد هو على فهمه من المفسرين، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب (6).
أنه لا يَسْلَم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآناً شيء من أصول الإسلام إذ لا تعد الترجمة قرآناً ولا سنة، ولا يمكن فيها القياس ؛ لأن القياس فرع عن النص والترجمة ليست نصاً من الشارع، ولا الإجماع لأن الإجماع لابد أن يكون له مستند والترجمة ليست مستنداً.
__________
(1) بحث في ترجمة القرآن الكريم: محمد مصطفى المراغي، ص16.
(2) بحث في ترجمة القرآن الكريم: محمد مصطفى المراغي، ص16.
(3) الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية : محمد فريد وجدي، ص12.
(4) أي: الكفار (اللجنة العلمية).
(5) المرجع السابق: ص66.
(6) تفسير المنار : محمد رشيد رضا، 9/307.(1/10)
استدلوا بما ذكره الغزالي في »إلجام العوام عن علم الكلام« أن ترجمة آيات الصفات الإلهية غير جائزة، واستدل لذلك بأن من الألفاظ العربية ما ليس لها فارسية تطابقها، ومنها ما لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت العرب باستعارتها منها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربية ولا يكون في العجمية كذلك" (1) وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر.
أن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيراً خاصاً في نفس السامع لا يمكن أن ينقل بالترجمة وإذا فات يفوت بفوته خير كثير طالما كان جاذباً للإسلام.
أن القرآن هو الآية الكبرى للرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو الآية الباقية من آيات الأنبياء، وإنما يكون ذلك بالمحافظة عليه من التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف بالنص الذي نقلناه عمن جاء به من عند الله، والترجمة ليست كذلك.
كما استدلوا بنصوص بعض الفقهاء (2).
منها ما قاله المرغيناني الحنفي في »التجنيس«: "ويمنع من كتابة القرآن بالفارسية بالإجماع لأنه يؤدي إلى الإخلال بحفظ القرآن؛ لأنا أمرنا بحفظ اللفظ والمعنى…". وقال قوام الدين الخجندي في معراج الدراية: "من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق، والمجنون يداوى والزنديق يقتل".
قالوا: ومذهب الحنابلة أن الصلاة تفسد بالقراءة بالفارسية ونحوها عند العجز وعدمه،ومذهب المالكية أنه لا تجوز قراءة القرآن وكتابته بغير العربية . وقال الإمام الزركشي وهو من الشافعية: "تحرم قراءته بغير لغة العرب".
الترجيح:
عند التأمل نجد أن في أصحاب كل قول معتدلين ومغالين، وأنه لا خلاف بين المعتدلين من الفريقين، وإنما الخلاف الشديد بين المغالين من الفريقين.
__________
(1) إلجام العوام عن علم الكلام: الغزالي، ص71.
(2) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، 9/312-316.(1/11)
فمن غلاة أنصار الترجمة من دعا إلى ترجمة القرآن الكريم بنوعيها حرفية ومعنوية، وأجاز الصلاة بالترجمة الحرفية، واستنباط الأحكام منها، وزعم أن مستنبط الأحكام لا يكون مقلداً أيضاً إذا استنبط من الترجمة الحرفية، ويكون مقلداً إذا استنبط من الترجمة المعنوية. بل زعم بعضهم "أن الترجمة وإن كانت غير قرآن باتفاق تحمل معاني كلام الله، ومعاني كلام الله ليست كلام الناس، وعجيب أن تسلب من معاني القرآن صفاتها وجمالها وتوصف بأنها من جنس كلام الناس بمجرد أن تلبس ثوباً آخر غير الثوب العربي كأن هذا الثوب هو كل شيء" (1) !!
ومثل هذا القول ظاهر البطلان لأن وصف الترجمة بأنها ليست من كلام الناس مِنْ لازِمِه أنها من كلام الله،لأنه لا يمكن ألا تكون من كلام الله ولا من كلام الناس،ولا شك أن وصفها بأنها من كلام الله أمر خطير ومغالاة شديدة فتفاسير القرآن الكريم كلها معانٍ له أو تحرٍّ لمعانيه،فهل يصح أن نطلق على هذه التفاسير أنها من كلام الله؟! وفيها ما فيها من أقوال متضادة،وأقوال يبطل بعضها بعضاً؟!حاشا لله(2).
ومن غلاة معارضي الترجمة مَنْ حرَّم أي نوع من أنواع الترجمة، وسد كلَّ باب للعجم لفهم القرآن إلا باب التعلم للغة العربية.
أما من ذهب إلى حد الاعتدال من الفريقين فليس بينهما خلاف يذكر إلا ما دار حول مسمى الترجمة فسماها أنصار الترجمة "ترجمة القرآن" أو "ترجمة معاني القرآن" وسماها الرافضون للترجمة "تفسير القرآن" أو "ترجمة تفسير القرآن" وجمع آخرون الاسمين معاً "ترجمة معاني تفسير القرآن الكريم"(3).
__________
(1) بحث في ترجمة القرآن الكريم: محمد مصطفى المراغي، ص22.
(2) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: فهد الرومي، 1/438.
(3) الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت الشرقاوي، 177.(1/12)
وصرح بعض معارضي الترجمة كالسيد رشيد رضا بذلك حيث قال : "فهذا ما أقوله الآن في ترجمة القرآن للمسلمين دون تفسيره لهم بلغتهم مع بقائه إماماً لهم ، ودون ترجمته لدعوة غيرهم به إلى الإسلام"(1) وقال أيضاً : "إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية متعذرة ويترتب عليه مفاسد كثيرة فهو محظور لا يبيحه الإسلام، وأما الترجمة المعنوية التي هي عبارة عن تفسير ما يحتاج إلى تفسيره منه بلغة أخرى فغير محرم، وإنما تتبع فيه المصلحة الشرعية بقدرها"(2).
وإذا أمعنت النظر وقلبت الأمور لم تجد تغايراً في الهدف فكلاهما يمنع الصلاة بالترجمة، ويوجب أن ينص فيها على أن هذه الترجمة ليست قرآناً ويبين فيها أن القرآن لا يمكن ترجمته وأن مزاياه الكاملة وإعجازه والتحدي به إنما هو بنصه العربي.
كلاهما يمنع هذا ويبيح أن يترجم إلى اللغات الأعجمية "تفسير القرآن الكريم" أو "معاني القرآن الكريم" أو "معاني تفسير القرآن الكريم" وأن يكون الغرض من الترجمة الاستعانة بها ليفهم الأعجمي النص المقروء بالعربية.
وهذا هو ما نراه الصواب ؛ فإن خصوص لغة القرآن لا تنافي عالميته فالقرآن ليس للعرب خاصة بل هو لإنذارهم ومن بلغ { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام: 19].
ولكن وجوب الإنذار به وتبليغه للناس لا يلزم منه بحال من الأحوال الصلاة بالترجمة، فالدعوة بالترجمة شيء والصلاة بها شيء آخر، وكل منهما له حكمه الذي ينفرد به.
فالقرآن دل على وجوب تبليغه للناس ونشره بينهم كافة عرباً وعجماً، وتبليغه للعرب لا يحتاج إلى ترجمة، وإلى العجم لابد من ترجمة معانيه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجبت ترجمة معانيه لاستحالة ترجمته حرفياً.
__________
(1) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، 9/311.
(2) تفسير المنار: محمد رشيد رضا، 9/311-312.(1/13)
ولم يدل القرآن على وجوب الصلاة -أو جوازها- بترجمته، ولم يثبت في السنة ما يبيح الصلاة بالترجمة... فبقيت الصلاة على الأصل.
إذاً فالترجمة التي نراها للقرآن لا تصح بحال من الأحوال الصلاة بها ولا نتصور ضرورة تدعو لذلك ؛ فما يقرؤه المسلم في صلاته من القرآن لا يعدو ما هو فرض أو مستحب، والمفروض لا يتجاوز الفاتحة،والفاتحة يستطيع الأعجمي مهما بلغت عجمته أن يحفظها بين وقتين من أوقات الصلاة، وجاز له فيما أرى الجمع بين الوقتين إن أدركه الوقت( (1) قبل حفظه وما عداها من سور القرآن فإنه يحفظ منه على التراخي.
وبهذا ندرك أنه لا ضرورة مبيحة للصلاة بالترجمة الأعجمية للقرآن الكريم، ونبقى بهذا محافظين على قدسية القرآن الكريم وسلامة لغته وشرفها (2).
مسمى الترجمة المعنوية:
ظهر لنا من المبحث السابق أن الخلاف بين المعتدلين في القول بترجمة معاني القرآن أو منعها خلاف لفظي أو صوري ، فمنهم من يسميها ترجمة ، ومنهم من يسميها تفسيراً.
والذين يسمونها الترجمة المعنوية لا يريدون بها ترجمة النص، إنما يريدون ترجمة المعنى، أي ترجمة التفسير.
وهناك فروق كبيرة بين الترجمة والتفسير منها (3):
__________
(1) في المغني"(1/566):"فإن لم يحسن الفاتحة وضاق الوقت عن تعلّمها قرأ قدرها في عدد الحروف، وقيل في عدد الآيات من غيرها، فإن لم يحسن شيئاً يقول: "الحمد لله" لما روى أبو داود عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أقيمت الصلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وهللّه وكبّره". ولم يأمر من ضاق الوقت عليه بتعلمها بالجمع بين الوقتين، والله عز وجلّ لا يكلّف نفساً إلا وسعها. (اللجنة العلمية).
(2) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: فهد الرومي، 1/439-440.
(3) الفروق الأربعة الأولى من مناهل العرفان : الزرقاني، 2/10-14 (بتصرف واختصار) .(1/14)
أن الترجمة صيغة مستقلة يراعى فيها الاستغناء عن الأصل وحلولها محله، والتفسير ليس كذلك فإنه قائم ومرتبط دائماً بأصله لا ينفك عنه بحيث لا يمكن تجريد التفسير وقطع وشائج اتصاله بأصله مطلقاً ولو جُرِّدَ لتفكك الكلام.
أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد بل الالتزام بمعاني النص المباشرة، أما التفسير فيجوز، بل يحسن فيه الاستطراد؛ لأن الغرض منه توضيح عبارات النص وشرحها والشرح أطول من المتن.
أن الترجمة يجب أن تتضمن جميع معاني الأصل ومقاصده وأن تكون وافية بذلك، أما التفسير فإنه قائم على الإيضاح سواء أكان
مجملاً أم مفصلاً متناولاً المعاني والمقاصد كافة أو مقتصراً على بعضها دون بعض حسب غرض المفسر وحاجة المخاطبين.
وقد وضح الزرقاني - رحمه الله تعالى- هذا بمثال رجل عثر في مخلفات أبيه على صحيفتين مخطوطتين بلغة أجنبية فدفعهما إلى مترجم فأخبره بأن الصحيفة الأولى خطاب إلى أبيه من فقير يطلب مساعدته. وأما الثانية فوثيقة بدَين كبير لأبيه على أجنبي، فمزق الرجل خطاب الاستجداء ولم يحفل به، أما الوثيقة فطلب من المترجم أن يترجمها له ليقاضي بها غريمه.
وظهر بهذا المثال أن التفسير لم يكفه لاقتصاره على مضمون الوثيقة ومعناها العام. أما الترجمة فهي المطابقة للأصل المتضمنة لجميع معانيه.
أن قارئ الترجمة يعتقد أن جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم هي مدلول كلام الأصل وأنها مرادة لصاحب الأصل، والتفسير ليس كذلك بل يشعر قارئه بأن هذا هو فهم المفسر للنص وأنه قد يكون مصيباً وقد يكون مخطئاً.
أن الناس قد تعارفوا على نسبة الكلام المترجم بعد ترجمته إلى(1/15)
صاحبه الأصلي مع أنه لم ينطق به بهذه اللغة ، وكثيراً ما قرأنا في كتبنا العربية أقوالاً باللغة العربية منسوبة لبعض الغربيين وقد ذكرت في صفحة سابقة قول جلادستون :" ما دام هذا القرآن موجوداً ... إلخ" مع أنه لم ينطق به بالعربية، وكثيراً ما نسمع في الأخبار عبر وسائل الإعلام أقوالاً منسوبة إلى بعض العجم، وهي بلغتنا العربية، وكثيراً ما ننسب كتباً بأسمائها العربية إلى مؤلفيها من العجم من غير أن نقول هنا أو هناك: قال المترجم.
وأما تفسير النص فلا يمكن أن ينسب إلى صاحب النص الأصلي بل لابد من نسبته إلى المفسر، وكم نقلنا من نص وقلنا هذا تفسير ابن كثير، وهذا تفسير الرازي وهذا تفسير النسفي.
وننتهي بهذا إلى أن الترجمة مغايرة للتفسير كما ننتهي إلى أنه لا يصح أن يسمى نقل القرآن من العربية إلى لغة أعجمية ترجمة لأن القارئ حينئذ سَيُضَمِّن النص المترجم كل المعاني السابقة التي ذكرتها فيعتقد:
استغناءه عن الأصل بهذه الترجمة.
أن الترجمة متضمنة جميع معاني القرآن.
أن جميع المعاني التي أوردها المترجم مرادة لله وهي مدلول كلام لله.
أنه يصح أن ينسب كلام المترجم إلى الله، فيقول على الله تعالى
ما لم يقل .
ولا شك أن هذه محاذير خطيرة ينبغي الاحتراز منها، والحذر من قربها أو ما يؤدي إليها.
ويدفع هذا كله أن يسمى نقل معاني القرآن إلى لغة أخرى تفسيراً له بلغة أجنبية لا ترجمة.
وخلاصة (1) ما نراه في ذلك: أنه كما يباح بإجماع المسلمين كافة تفسير القرآن الكريم وتداوله بين المسلمين، فإنه لا ضير أن يفسِّر القرآنَ عربيٌّ أو يفسره غير عربي متمكن من العربية ومن لغته، ما دام أن ما يقوله لا يتجاوز وصفه بـ"التفسير"، فكما يصح أن يقال: هذا تفسير القرآن باللغة العربية فإنه يجوز أن يقال : وهذا تفسيره بالفارسية ، وهذا تفسيره بالإنجليزية ، وهذا تفسيره بالفرنسية.
__________
(1) انظر : كتابي منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، 1/441.(1/16)
وكما يقال : هذا تفسير الطبري، وهذا تفسير الرازي، وهذا تفسير القرطبي ، فإنه يجوز أن يقال : وهذا تفسير فلان بالأردية، وهذا تفسير فلان بالفارسية، وهذا تفسير فلان باليابانية.
وحينئذ نربأ بالقرآن عن خطأ المترجمين، أو قصور فهمهم، أو قصور لغتهم عن الإحاطة بمعاني اللفظ العربي الذي نزل به القرآن وغير ذلك من الأسباب.
إذاً فمن المتعين - حسب رأيي- ألا يسمَّى نقل معاني القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى ترجمة، بل يجب أن نسمِّيه تفسيراً للقرآن، أو معاني القرآن، من غير إيراد لكلمة ترجمة، ومن غير اقتصار على اسم القرآن بدون إضافة التفسير أو المعاني من باب أولى، وهذا أمر ظاهر.
ومع ذلك فلا بد من ملاحظة أمور منها:
أن يكتب النص القرآني بالعربية برسم المصحف ومضبوطاً بالشكل في أعلى كل صفحة، ويتلوه باللغة المترجم إليها كلمة (التفسير) ثم يكتب تحتها بتلك اللغة ذلك التفسير.
ونكون بهذا أبقينا النص القرآني على لغته الأصلية، وجعلنا أمام
القارئ الأعجمي ما يشده إلى اللغة الأصلية للقرآن ويحثه على تعلمها، ليستمتع هو بنفسه بتفهم المراد منه كما تعلمها صاحب التفسير الذي بين يديه.
ولا أعتقد أن أحداً من العجم سيلتبس عليه الأمر في مثل هذه الطريقة فيعتقد أن ما يقرؤه من التفسير هو القرآن ، بل سيدرك في الحال أن القرآن الكريم هو النص العربي، وأن النص العجمي لا يعدو التفسير له.
ولا ضير أن يوضع بين النص القرآني الكريم والتفسير بالأعجمية، نص التفسير بالعربية، وحينئذ يصح أن تسمى تلك الترجمة "ترجمة تفسير القرآن" أو "ترجمة معاني القرآن الكريم"(1) أما بدون إضافة التفسير العربي فتحذف صفة الترجمة.
__________
(1) المرجع السابق: 1/ 441 .(1/17)
لابد من النص في المقدمة على أن هذا النص ليس هو نص القرآن الكريم وليست فيه خصائصه، ولا تنطبق عليه أحكامه، وترسيخ هذا المفهوم في ذهن القارئ بالإشارة إليه بين حين وآخر في أثناء التفسير بما يجعل القارئ يعتقد ذلك يقيناً.
دعوة المترجمين إلى التوثق من صحة المعاني التي يوردونها ومطابقتها لقواعد الشريعة وإجازتها من العلماء الثقات، والتوثق من سلامتها من الأخطاء العقدية أو احتمالها لذلك.
عدم كتابة كلمات القرآن بحروف غير عربية، وقد أفتى علماء المسلمين بتحريم ذلك، ومن هؤلاء لجنة الفتوى في الأزهر حيث قالت: "لاشك أن الحروف اللاتينية المعروفة خالية من عدة حروف توافق العربية فلا تؤدي جميع ما تؤديه الحروف العربية، فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النظم العربي -كما يفهم من الاستفتاء- لوقع الإخلال والتحريف في لفظه، ويتبعهما تغير المعنى وفساده، وقد قضت نصوص الشريعة بأن يصان القرآن الكريم عن كل ما يعرضه للتبديل والتحريف، وأجمع علماء الإسلام سلفاً وخلفاً على أن كل تصرف في القرآن يؤدي إلى تحريف في لفظه أو تغيير في معناه ممنوع منعاً باتاً، ومحرم تحريماً قاطعاً" (1) .
وبما أن هذا النوع من التفسير يخاطب به العامة فينبغي خلوه من المصطلحات العلمية والمباحث الفلسفية، والمسائل الدقيقة إلا ما يستدعيه فهم الآية، أو تدل عليه.
أن لا يتعرض للنظريات العلمية، وإنما يلتزم حد النص العربي ومدلوله ويوضح معاني العظة والعبرة فيه.
إذا اقتضت الحال التوسع في تحقيق مسألة علمية فلا بأس في ذكرها في الحاشية.
أن يفسر القرآن بقراءة حفص عن عاصم ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها.
تجنب التكلف في استنباط المعاني أو ربط الآيات أو السور بعضها ببعض.
أن يقتصر من الروايات في أسباب النزول وغيرها على ما صح وأعان على فهم الآية.
__________
(1) مجلة الأزهر: المجلد السابع، ص45، (عن مناهل العرفان للزرقاني، 2/30) .(1/18)
أن لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع.
يقدم لكل سورة بمقدمة موجزة تعرف بها وبموضوعها ومكية هي أو مدنية(1).
نتائج البحث:
القرآن نزل بلسان عربي مبين لا يجوز تغييره ولا تبديله ولا تحريفه ولو غير أو بدل فيه شيء أو نقل إلى لغة أخرى لا يسمى قرآناً مطلقاً.
يجب تبليغ القرآن إلى الناس كافة مسلمهم وكافرهم، عربهم وعجمهم .
الترجمة الحرفية للقرآن متعذرة ومستحيلة .
تعين تبليغ معانيه إلى غير العرب بلغاتهم.
أنه لا يجوز تسمية نقل معانيه إلى لغة أخرى بالترجمة لما في ذلك من محاذير وآثار سلبية تم بيانها.
الصواب أن يسمى نقل معاني القرآن إلى لغة أخرى تفسير القرآن، أو معاني القرآن.
ضرورة الاقتصار على مدلول النص القرآني وعدم إضافة ما لا يدل عليه النص دلالة مباشرة.
عدم إضافة تعليقات علمية، أو نظريات غير ثابتة وربطها بالنص القرآني.
لابد من التزام منهج دقيق في ذلك يصون معاني القرآن عن الزيادة أو التحريف أو الخطأ في المسائل العقدية ويحفظ للنص القرآني قدسيته ولمعانيه سلامتها وصحتها.
لابد من ترسيخ علم القارئ أن ما يقرؤه ليس هو القرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بل معانيه التي فهمها مترجمها وأنه قد يصيب وقد يخطئ في العبارة.
التوصيات:
أولاً: تأكيد عدم إضافة ترجمة للعنوان ولا ما يدل صراحة أو مضموناً على ذلك، وترسيخ مفهوم أن ما يقرؤه العجمي ليس إلا ترجمة لمعانيه التي فهمها مترجمها.
ثانياً: نقل معاني القرآن إلى جميع لغات العالم في شتى بقاع الأرض.
__________
(1) اقتبست بعض هذه الأمور مما كتبه الشيخ الزرقاني في مناهل العرفان، 2/29-33. ومما نقله عن مجلة الأزهر (المجلد السابع، ص648-649) عن القواعد التي وضعتها لجنة الأزهر لترجمة تفسير القرآن، ومما ذكرته في كتابي "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، 1/441، وما زدته على ذلك.(1/19)
ثالثاً: إنشاء جهة شرعية موحدة في العالم الإسلامي تعتمد الترجمات الصحيحة لمعاني القرآن الكريم.
رابعاً: إعداد نص موحد لمعاني القرآن الكريم يمكن ترجمته إلى جميع اللغات يراعى في ألفاظه إمكان ترجمتها ويمكن اعتماد كلمات بديلة أخرى للكلمات التي لا يمكن ترجمتها إلى لغة ما.
خامساً: حصر الترجمات المنتشرة في العالم للقرآن الكريم ودراستها وكشف ما فيها من انحرافات وتحريفات في البلدان التي صدرت فيها تلك الترجمات .
سادساً: تسجيل أشرطة صوتية بمعاني القرآن الكريم وتوزيعها على المسلمين، وعلى الإذاعات في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
المصادر والمراجع
الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية: محمد فريد وجدي، الطبعة الأولى، ربيع الأول، 1355ه.
إلجام العوام عن علم الكلام: أبو حامد الغزالي، الطبعة الثانية، 1390ه/1970م، مكتبة الجندي القاهرة ضمن كتاب »القصور العوالي من رسائل الإمام الغزالي«.
بحث في ترجمة القرآن: محمد مصطفى المراغي، مطبعة الرغائب،
ربيع الثاني 1355ه/1936م .
تاج العروس من جواهر القاموس: محمد مرتضى الزبيدي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت (بدون تاريخ وسنة النشر) .
تفسير المنار: محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية، أصدرتها دار المنار، 1367ه، القاهرة.
التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة، الطبعة الأولى، 1381ه.
صحيح البخاري: أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، الطبعة الثانية، محرم 1421ه، جهاز الإرشاد الديني بالحرس الوطني، المملكة العربية السعودية.
الفكر الديني في مواجهة العصر: عفت محمد الشرقاوي، مكتبة الشباب بمصر.
قادة الغرب يقولون: جلال العالم، الطبعة الثانية، 1395ه
المبسوط: شمس الدين السرخسي، الطبعة الثالثة، 1406ه، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.(1/20)
المعجزة الكبرى: القرآن: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.
مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد عبدالعظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: د/فهد بن عبدالرحمن الرومي، الطبعة الثالثة، 1407ه، مؤسسة الرسالة، بيروت.
فهرس الموضوعات
التمهيد ... 2
نزول القرآن بلسان عربي مبين: ... 2
عالمية القرآن والدعوة: ... 3
وجوب التبليغ: ... 7
معنى الترجمة وأقسامها ... 9
الأول: الترجمة الحرفية: ... 9
الثاني: الترجمة التفسيرية أو المعنوية: ... 10
الترجيح: ... 16
مسمى الترجمة المعنوية: ... 19
نتائج البحث: ... 26
التوصيات: ... 27
المصادر والمراجع ... 28
فهرس الموضوعات ... 30(1/21)