بسم الله الرحمن الرحيم
موقف ابن جرير و الزمخشري من القراءآت المتواترة
بقلم/د.محمد علي الحسن
أستاذ علوم القرآن في كلية الدراسات
العربية والإسلامية في دبي
المفسرون بين طاعن ومرجح ومدافع عن القراءات ، وشرعت بذكر الطاعنين لأن موقفهم من القراءات مبنيٌ عليه موقف المدافعين الذين يدفعون الهجوم بعد وقوعه ، ولأن أول طاعن في القراءات هو صاحب التفسير الكبير جامع البيان في تأويل آي القرآن الذي كان لكتابه الأولوية في التفسير زمانًا وفنًا كما قال أستاذنا الشيخ الذهبي ، فمن أجل هذا بدأت بذكر الطاعنين وأبدأ بأولهم وهو الإمام ابن جرير الطبري
أولاً : الإمام ابن جرير الطبري :
قال الإمام النووي في وصف تفسير ابن جرير : " أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثله "(معجم البلدان18/42) .
وقال الخطيب البغدادي : " هو إمام يحكم بقوله ،ويرجع إلى رأيه ؛ لمعرفته وفضله ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وكان حافظًا لكتاب الله ، عارفًا بالقراءات ، بصيرًا بالمعاني ، فقيهًا في أحكام القرآن ، عارفًا بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها ، ناسخها ومنسوخها ، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم .
هذه لمحة موجزة عنه ولا يعنينا الإسهاب في ذلك، فنتكلم عن المطلوب فنقول :(1/1)
موقفه من القراءات : كنت متريثًا في إصدار حكم طعن ابن جرير في القراءات ، بل كنت متهيبًا في ذلك ، وقلت في نفسي وهل من هو مثلي ينقد إمامًا من الأئمة ، وعَلَمًا من أعلام التفسير مثل ابن جرير الطبري الذي ذاع وشاع صيته في الآفاق في علوم التفسير وعلم القراءات بالذات ، ومما ساهم في حيرتي موقف العلماء المعاصرين ، وأخص أستاذنا المرحوم محمد حسين الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون " ، فقد ذكر عن الطبري موقفه من القراءات فقال : " كذلك نجد ابن جرير يعني بذكر القراءات وينزلها على المعاني المختلفة وكثيرًا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده وعند علماء القراءات حجة ، والتي تقوم على أصول مضطربة مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله ، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر مع توجيه رأيه بالأسباب ، فمثلاً عند قوله تعالى : ولسُليمان الريح عاصفةَ )(الأنبياء/81) يذكر أن عامة قراء الأمصار قرأوا ( الريحَ ) بالنصب على أنها مفعول لسخرنا المحذوف ، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ ( الريحُ ) بالرفع على أنها مبتدأ ثم يقول : والقراءة التي أستجيز القراءة بغيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليه .
ولقد رجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها ، إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين ، حتى أنهم ليقولون عنه إنه ألف فيها مؤلفًا خاصًا في ثمانية عشر مجلدًا ، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ وعلل ذلك وشرحه ، وإذا اختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور ، وإن كان هذا الكتاب فُقِدَ وضاع بمرور الزمن ولم يصل إلى أيدينا ، شأن الكثير من مؤلفاته ( التفسير والمفسرون ) .
فوصف الطبري لنفسه ومنهجه وارتضاء شيخنا الذهبي لموقفه دون تعليق قد ورط كثيرًا من الأوساط العلمية .
وبقيت هذه النظرية أو النظرة عن الطبري كذلك ولم يتناوله أحد بالتعليق .(1/2)
وكما ساهم أستاذي في حيرتي ساهم كذلك تلميذي الذي أشرفت عليه في رسالة الماجستير ( القراءات القرآنية ) .. وقد ذهب الطالب إلى اعتبار ابن جرير من المرجحين ، ونوقشت الرسالة من اللجنة العلمية المختصة في علم القراءات وأقرت هذه المعلومة ، بأن ابن جرير من المرجحين .
ولكن هذه الحيرة والهيبة بدأت تتبدد وبدأت غيومها تنقشع وبدأت الرؤية تتضح شيئًا فشيئًا لأمور منها :
1 - دفعني الشك في موقف الطبري إلى مواصلة البحث فأشرت إلى طلبتي باستقصاء كتاب الطبري في التفسير ، فوجدت أن الصورة الحقيقية لموقفه هي الطعن وليس الترجيح كما ذهب إليه صاحب الرسالة في القراءات .
2 - كتابه أحد الباحثين وإصداره كتابًا كاملاً بعنوان ( دفاع عن القراءات في مواجهة الطبري المفسر ) ، فازداد بذلك موقفي صلابة لوجود من يرى أن الطبري طاعن .
3 - وثالثة الأثافي كانت في العثور على مخطوطة في علم القراءات للإمام السخاوي ، والمخطوطة في طريقها للطباعة بتحقيق زميلنا في جامعة الإمارات ، وفي هذه المخطوطة تنبيه من السخاوي وتحذير من طعن ابن جرير الطبري في القراءات .
يقول السخاوي (من مخطوطته في القراءات ورقة100) : قال لي أبو القاسم الشاطبي : إياك وطعن ابن جرير على ابن عامر ، أما ابن الجزري فقال عن طعن ابن جرير : " وهو أول من نعلمه أنكر هذه القراءة المتواترة وغيرها من القراءات الصحيحة ، ثم قال : " وركب هذا المحظور ابن جرير وقد عد ذلك من سقطات ابن جرير " .
لقد كان لأقوال هؤلاء الأئمة الأعلام في علم القراءات أكبر الأثر في شد العزم في متابعة ومواصلة البحث .(1/3)
4 - وأخيرًا فقد عقد مؤتمر ـ عام 1989م ـ لمنظمة الثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية وقد تناول هذا المؤتمر " الطبري كشخصية تراثية في التفسير والتاريخ والعلوم الإسلامية " ، وقد رشحت من قبل الجامعة لذلك ، ولظروف ـ لم أتمكن من حضور المؤتمر ، ولكنني طرحت ورقة عمل ـ كما يقولون ـ تشمل موقف الطبري من القراءات ، وقد كان الكثير مؤيدًا لما ورد والأقل متريثًا وأقل القليل معارضًا ، فاستأنست للصدى العلمي الصادر عنهم .
هذا وبعد كتابة هذه المقدمة أفادني أستاذي الدكتور مازن المبارك أنه ناقش رسالة قيّمة في جامعة قطر وهي بعنوان " الطبري قارئًا " وأفاد بأنها على جانب عظيم من الأهمية ولكني لم أطلع عليها بعد ومن يدري فلعل هناك من كتب (وفوق كل ذي علم عليم )(يوسف/76) .
بعد هذه المقدمة نقول : " لقد سبق وأن تعرضنا لضوابط القراءات ورجحنا أن الضابط الوحيد هو صحة السند ورأينا أن الضابطين موافقة الرسم وموافقة اللغة ، لا يعتبران في قبول القراءة ورفضها ، فقد توافق القراءة الرسم ولا تعتبر ، وقد توافق اللغة ولا تقبل ما دامت القراءة لم يصح سندها .
فإذا تواتر السند أصبحت القراءة قرآنًا لا مجال لردها ، وفي هذه الحالة لن تخالف رسمًا ولن تخالف لغة ؛ لأن قواعد اللغة تصحح وفقًا للقرآن الكريم ، ولا تصحح هي القرآن الكريم .
إن غالب الطاعنين في القراءات يرتكزون في طعنهم على قواعد اللغة ، والطبري حين طعن في القراءات ارتكز على نفس ما ارتكزوا عليه ، فيرفض أو يرجح وفق قواعد اللغة أحيانًا كثيرة أو وفق ما يترادى له من المعنى .
أما القراءات التي تخالف الرسم فيرفضها ، وهو محق في ذلك ؛ لأنها مخالفة للرسوم كما يقول ، ويتراءى لي أن موقف الطبري من القراءات يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام :
أولها : طعنه في القراءات التي لا توافق قواعد لغوية حسب نظره :
وهو في موقفه هذا يوافق بعض النحاة في ردهم لبعض القراءات المتواترة .(1/4)
وهناك طائفة من القراءات القرآنية التي ردها ابن جرير وبرر رفضها تبريرًا لغويًا ، ونحن إذ نؤيده في رده ورفضه للقراءات الشاذة فإننا نخطئه في رده للقراءات المتواترة والتي قرأ بها القراء السبعة ـ الثابتة في مصادر ومراجع علم القراءات .
ففي قوله تعالى : ( إلاّ أن تكون تجارةً حاضرةً )(البقرة/282) قرئت تجارة حاضرة بالرفع والنصب .
يقول الطبري إنه لا يستجيز القراءة بغير الرفع في كل من الكلمتين ، ويرفض قراءة النصب وإن كانت متواترة ، وقد قرأ بها عاصم ( النشر 2/237) .
وفي قوله تعالى : ( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضة )(البقرة/283) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( فرُهُن ) بضم الراء والهاء جمع رَهْنَ كسَقْف وسُقُف ، وروي عنهما أيضًا ( فَرَهْن ) وقرأ الخمسة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ( فرهان ) بكسر الهاء وإثبات الألف (كتاب السبعة 194 ، النشر 2/237)
ومع تواتر القراءات الثلاث إلاّ أن ابن جرير يرد قراءة ( رُهُن ) ، ويعلل ردّه بما يعلله اللغويون فيقول : " لأن جمع فَعْل على فعُلُ شاذ قليل "(الطبري3/92) وليت ابن جرير طعن في القراءة وسكت ، بل اتهم من يقرأ بذلك بأنه يقرأ به من عند نفسه ، بل يصف بعض القراء والمحتج بقراءته بضعف احتياله في قراءة أخرى ، ففي قوله تعالى : ( وكفَّلها زكريا )(آل عمران/37) قرأ القراء السبعة بتشديد الفاء وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب ( وكَفَلها ) مفتوحة خفيفة ، وبعد أن يسوق الطبري كلامًا طويلاً يغلظ القول على من يقرأ بالتخفيف ويقول : إنهم اعتلّوا بحجة دالة على ضعف احتيال المحتج بها (تفسير الطبري ، تحقيق القراءة من النشر والسبع ) .
ويؤكد الطبري موقفه في موافقة بعض اللغويين في قبول القراءة واستجادتها أو رفضها وردها ، وتعبيراته المختلفة في الرفض كثيرة ، وهاك طائفة يسيرة من ذلك .(1/5)
قال تعالى : ( وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله )(التوبة/30) ، قرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة ( عزيرُ ) بضم الراء وحذف التنوين وقرأ عاصم والكسائي (عزيرٌ ) بالتنوين .
يقول الطبري : " وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ( عزيرٌ ) بالتنوين " ، وفي قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار )(التوبة/100) قال الطبري : قرئت ( الأنصار ) بالخفض والرفع ، ثم قال والقراءة التي لا أستجيز غيرها ، الخفض في الأنصار مع أن قراءة الرفع سبعية .
وفي قوله تعالى:(كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلما )(يونس/27) قرئت قِطَعًا وقِطْعًا .. أي بالنصب للطاء وإسكانها ، قال الطبري : القراءة التي لا يجوز خلافها عندي قراءة من قرأ ذلك بفتح الطاء
إنّها تعبيرات تدل دلالة قاطعة على الرفض الصريح ، أنظر إلى قوله : لا أستجيز غيرها ـ والتي لا يجوز خلافها عندي .. "
ثانيًا : طعنه في القراءات تبعًا لمعنى من المعاني :
لم يقتصر طعن ابن جرير الطبري على القراءات نظرًا لتعارضها مع قواعد اللغة حسب نظره ـ وإنما تعدى طعنه إلى القراءات التي لم توافق المعنى الجدير بالقبول ـ حسب تأويله ـ والفرق بين طعنه في الأول وطعنه في الثاني ، أنه يعلل الأول تعليلاً لغويًا ، ويعلل طعنه في الثاني تعليلاً معنويًا ويرمي القائل المؤول غير تأويله بأنه ذو غفلة ، أو ذو غباء ، أو أغفل وظن خطأ ، أو فاسد التأويل .
ويعود طعنه في مثل هذا النوع إلى اهتمامه بالمعاني واللطائف الدقيقة في القراءات ، فإذا وجد قراءة توحي بمعنى من المعاني يذكرها ويوجهها بصرف النظر عن كون تلك القراءة حجة أو لا ، بل قد يفترض القراءة افتراضًا وهو وإن لم يقل بها إلاّ أنه لولعه بإبراز المعاني يفترضها ، فلا غرو إذا وجدناه يرفض بعض القراءات ولو كانت متواترة ، لأنها لم تشبع نهمه في تتبع المعاني القوية حسب نظره .(1/6)
ففي سورة الفاتحة أورد الطبري قراءات كثيرة ، ثم ذكر الآية (ملك يوم الدين)(مالكِ يوم الدين )(الفاتحة/4 ، 5) ثم قال : وأولى التأويلين وأصح القراءتين في التلاوة عندي ، التأويل الأول وهي قراءة من قرأ ( ملك ) بمعنى الملك ، وعلل ذلك بقوله : لأن في الإقرار له بالانفراد بالملك إيجابًا لانفراده بالملك وفضيلة زيادة الملك على المالك إذ كان معلومًا أن لا ملك إلاّ وهو مالك . " وأكد اختياره بسياق الآيات " ، وإن قوله تعالى ( رب العالمين ) فيه معنى الملكية ، فلو قيل ( مالك يوم الدين ) من الملك لكان ذلك تكرارًا لمعنى واحد بألفاظ مختلفة " ، ثم أعقب ذلك بقوله : " فبين إذًا أن أولى القراءتين بالصواب وأحق التأويلين بالكتاب قراءة من قرأه ( ملك يوم الدين ) دون قراءة ( مالك يوم الدين ) " . ثم هاجم الطبري القارئين بـ ( مالك يوم الدين ) ، ورماهم بالغفلة والغباء وبأنه أغفل وظن خطأً.
لكن ظهر لغير الطبري ترجيحه لهذه القراءة بل اعتقاده بصوابها وتخطئته لمن قرأ بملك ، فإنّ من الأئمة كأبي عبيد من عكس الأمر ورجح (مالك يوم الدين ) ، فيقول " والمختار ( مالك ) ، لأن المعنى يملك يوم الدين وهو يوم الجزاء ولا يملك ذلك اليوم أن يأتي به ولا بسائر الأيام غير الله سبحانه ، وهذا ما لا يشاركه فيه مخلوق في لفظ ولا معنى " .
ونكتفي بمثال آخر من سورة البقرة في قوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون )[البقرة/9] .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : ( يخادعون ) ( وما يخادعون ) بالألف وياء مضمومة والدال المكسورة .
وقرأ عاصم وابن عامر وجمزة والكسائي ( يخادعون ) وما يخدعون ) بفتح الياء بغير ألف .(1/7)
وقد أوجب الطبري القراءة في قوله : ( يخدعون ) دون ( يخادعون ) مع أنهما قراءتان متواترتان يقول في ذلك : " فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة ( وما يخدعون ) دون ( وما يخادعون ) ثم أخذ يوجه ما ذهب إليه مستدلاً على ذلك بأوجه من التأويل والتفسير المقبول عنده بما يفيده السياق من معانٍ جديرة بالاعتبار " .
يقول : " لأن لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة ، ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة الله لنفسه بما ركب من خداعة ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه ، فلذلك وجب الصحة لقراءة من قرأ ( وما يخدعون ) ، ومن الأدلة أيضًا على أن قراءة من قرأ ( وما يخدعون ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ ( وما يخادعون ) أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين في أول الآية فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضاد في المعنى ، وذلك غير جائز من الله عز وجل ( تحقيق القراءة من النشر ص : 207 ، وانظر تفسير الطبري1/277) .
يفهم مما سبق أن الإمام الطبري اعتمد في ترجيح قراءة متواترة على مثلها وجعل قوة القراءة لما تحمله من معنى وليس لقوة سندها المبني على النقل والسماع .
ثالثًا : موقفه من القراءات المخالفة للرسم القرآني :
لئن كان الطبري مخطئًا في طعنه في القراءات في القسمين الأولين فهو محق ومصيب في رفضه ورده لكل قراءة لا توافق الرسم القرآني .
ففي قوله تعالى : ( صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون )(البقرة/18 ، وتفسيره 1/330) يقول الطبري : " قرئ ( صمًا بكمًا عميًا ) أي بالرفع والنصب ، والقراءة التي هي قراءة الرفع دون النصب ، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين ، وإذا قرئ نصبًا كانت قراءة مخالفة لرسم مصاحفهم " .(1/8)
وفي قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين )(البقرة/184) .. ذكر القراءة المتواترة ثم ذكر قراءات أخرى مثل : ( يطوقونه ) ثم وصفها بأنها شاذة ؛ لأنها مخالفة لرسم مصاحف المسلمين ، يقول : " وأما قراءة من قرأ ذلك (وعلى الذين يطوقونه ) فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف وغير جائز " .
تقييم لموقف ابن جرير :
إن هذا الموقف من مثل ابن جرير موقف عجيب وغريب ، وقد جانب الصواب في الإنكار والطعن والرد للقراءات المتواترة ، ونحن إذ لا نحكم عليه برده للقراءات بأنه رادّ للقرآن ذاته كما قال أحد المفسرين ، فهذا ما لا يتصوره عاقل ، فابن جرير هو إمام المفسرين بلا منازع ، وهو خير مدافع عن القرآن الكريم، ولكن هذه هنة من هناته ، وقد حكم العلماء على كل من رد القراءات المتواترة بأنه آثم ، أيًا كان في أي مكان وزمان ، بل قال عنه ابن الجزري بأنه أول من ركب هذا المحظور .. وقد أصابتني الحيرة في موقف ابن جرير كما ذكرت وازدادت حيرتي فأخذت أفتش عن حلقة مفقودة في هذا الموضوع : كيف يرد ابن جرير قراءات متواترة ؟ وكيف يرد قراءة ابن عامر وهي متواترة في حين أنني أجد في تفسيره ما يشير إلى إجلاله للقراء ويرى أن إجماعهم على القراءة لا محيد عنه ، ويرى أن قراءتهم هي القراءة وغيرها لا يعتد به لمخالفته قراء الأمصار ؟(1/9)
وقرأت ثم قرأت لأفتش عن هذه الحقيقة : هل القراءة التي ردها الطبري كانت متواترة في نظره ، ثم قام بعد ذلك بردها فيكون قد ارتكب إثمًا محققًا ؟ ، قلت في نفسي ما أظن ذلك بل أعتقد خلاف ذلك ؛ لأنني تتبعت موقف الطبري في القراءات فوجدت إجلالاً لها منه ، فلا يحيد عن الصحيح منها حسب نظره ، لذا جزمت بأن الطبري لم يحكم بتواترها ثم ردها ، بل هو موقن بضعفها ، وهذا خطأ يمكن أن نحمله مسؤولية التقصير فيه ، وأجلت النظر في تفسيره ، فلم أجد لقولي دليلاً محسوسًا ، بل هو استنباط واستنتاج ، ولكنني جزمت بأن في كتابه " المفقود " " الجامع " في علم القراءات ما يفيد هذا ، وأن فيه الأسرار الكامنة في موقفه من القراء السبعة أصحاب القراءات المتواترة ، إذ هم متقدمون عليه ، وفيه السر الكامن في طعنه لقراءات ابن عامر بالذات .
" أقول جزمت بأن السر كامن في كتابه المفقود لأنني تتبعت تفسيره فلم أجد لهذه الظاهرة تفسيرًا .. " .
وأنقذني الله من حيرةٍ طالت ووجدت ضالتي المنشودة فيما نقله السخاوي عنه ـ وما أظن أن ما نقله إلاّ أنه اطلع على كتاب الطبري " الجامع في القراءات " .. يقول السخاوي في كتابه عن القراءات في الورقة رقم 100 وأثبت هذا بحروفه وكلماته دون تصرف : " وقد تكلم محمد بن جرير الطبري في قراءة ابن عامر رحمه الله واتبعه الناس على ذلك ، ولم يسبقه أحد إلى تصنيف( لعلها تضعيف ) قراءة هؤلاء السبعة "
وقد تكلم محمد بن جرير الطبري في قراءة ابن عامر ـ رحمه الله ـ فقال : " وقد زعم بعضهم أن عبد الله بن عامر أخذ قراءته عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي ، وعليه قرأ القرآن ، وأن المغيرة قرأ على عثمان بن عفان " .(1/10)
وقال : " وهذا غير معروف عن عثمان ، وذلك أنّا لا نعلم أحدًا ادعى أن عثمان أقرأه القرآن ، بل لا نحفظ عنه من حروف القرآن إلاّ أحرفًا يسيرة ، ولو كان سبيله في الانتصاب لأخذ القرآن على من قرأه عليه السبيل التي وصفها الرّاوي عن المغيرة بن أبي شهاب ما ذكرنا ، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه والحكاية عنه غيرهُ من المسلمين ، إمّا من أدانيه ، وأهل الخصوص به ، وأما من الأباعد والأقاصي ، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمسّ رحمًا ، وأوجب حقًا من المغيرة ، كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته ، ومن الأباعد من لا يحصى عدده كثرة .
وفي عدم مدعي ذلك عثمان الدليل الواضح على بطول قول من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن أبي شهاب ، ثم إلى أن أخذها المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان قراءة علي " .
قال : " وبعد ، فإن الذي حكى ذلك وقاله رجل مجهول من أهل الشام لا يعرف بالنقل في أهل النقل ، ولا بالقرآن في أهل القرآن ، يقال له عراك بن خالد المري ، ذكر ذلك عنه هشام بن عمار ، وعرّاك لا يعرفه أهل الآثار ، ولا نعلم أحدًا روي عنه غير هشام بن عمّار " .
قال : وحدثني بقراءة عبد الله بن عامر كلّها العباس بن الوليد البيروتي ، وقال : حدثني عبد الحميد بن بكار ، عن أيوب بن تميم ، عن يحيى بن الحارث ، عن عبد الله بن عامر اليحصبيّ أن هذه حروف أهل الشام التي يقرؤونها .
قال : " فنسب عبد الله بن عامر قراءته إلى أنها حروف أهل الشام في هذه الرواية التي رواها لي العباس بن الوليد ، ولم يضفها إلى أحد منهم بعينه " .
ولعله أراد بقوله : " إنها حروف أهل الشام " أنه قد أخذ ذلك عن جماعة من قرائها ، فقد كان أدرك منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقًا كثيرًا .(1/11)
ولو كانت قراءته أخذها ـ كما ذكر عراك بن خالد ـ عن يحيى بن الحارث ، عنه عن المغيرة بن أبي شهاب ، عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ، لم يكن ليترك بيان ذلك إن شاء الله مع جلالة قدر عثمان ومكانه عند أهل الشام ، ليعرفهم بذلك فضل حروفه على غيرها من حروف القراء " . أ.هـ الطبري .
.
ثم يتابع السخاوي فيقول : وهذا قول ظاهر السقوط ، أما قوله : " إنا لا نعلم أحدًا ادّعى أن عثمان أقرأه القرآن " ، ( فهذا غير صحيح ) ، فإن أبا عبد الرحمن السّلمي ـ رحمه الله ـ قرأ على عثمان ـ رضي الله عنه ـ وروي أنه علمه القرآن ، وقرأ أيضًا على عثمان ـ رضي الله عنه ـ أبو الأسود الدؤلي ، وروى الأعمش عن يحيى بن وثاب عن زرّ بن حبيش الأسدي عن أبي عمرو عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وذكر حروفًا من القرآن تكون أربعين حرفًا .
وقال لي شيخنا أبو القاسم الشاطبي ـ رحمه الله ـ : " إياك وطعن الطبري على ابن عامر " .
ثم إن هذا لا يلزم ، إذ لا يمتنع أن يكون أقرأ المغيرة وحده ، لرغبة المغيرة في ذلك ، أو لأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أراد أن يخصه بذلك ـ وقد رأينا من العلماء المشهورين من لم يأخذ عنه إلاّ النفر اليسير ، بل منهم من لم يأخذ عنه إلا رجل واحد .
هذا لو انفرد المغيرة بالأخذ عنه ، وقد أخذ عنه أبو عبد الرحمن ، وأبو الأسود الدؤلي ، وزر بن حبيش ، كما تقدم .
وما ذكره من أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ ما انتصب لإقراء القرآن ، فقد تبين بقراءة من ذكرناه عليه خلاف ذلك .
وأما قوله : " فقد كان له من أقاربه من هو أوجب حقًا من المغيرة ، فهذا لا يلزم أيضًا ، إنما يكون قادحًا لو كان غير المغيرة من أقاربه وقد سأله ذلك فأبى أن يقرئه .
فأما كون أقاربه لم يقرأوا عليه ، فكثير من العلماء قد أخذ عنهم الأجانب والأباعد دون الأقارب ، وعن قتادة : " أزهد الناس في العالم أهله " وعن الحسن : " أزهد الناس في العلم جيرانه " .(1/12)
وأما قوله في عراك : " إنه مجهول لا يعرف بالنقل في أهل النقل ولا بالقرآن في أهل القرآن " فكفى به تعريفًا وتعديلاً أخذ هشام عنه كلامًا ثم تحدث كلامًا يطول في التوثيق وإثبات التواتر في الأصل تقدم التعليق عليه " . أ.هـ السخاوي .
وهذا كلام لا نأخذ عليه إلاّ أنه خص دفاعه عن ابن عامر ، ولعل عذره أنه من أهل الشام وأراد بدفاعه عن ابن عامر دفاعه عن قراءة أهل الشام بالذات والله أعلم بالنيات .
يظهر لنا من كل ما تقدم أن طعن ابن جرير في هذه القراءات إنما هو ناجم عن اعتقاده بعدم تواترها وهذا موطن الداء في موقفه منها ، وهو على أية حال مخطئ في مخالفته للإجماع على تواترها ، ولعل موقفه هذا قد كان له تأثير على ابن الجزري الذي كان يقول بتواتر القراءات السبع ثم عدل عنه إلى الاكتفاء بشهرتها وهو موقف كان مدعاة للنقد وإن كان أهون من موقف الطبري الذي رماها بالسقوط ، ورمى أصحابها بالغفلة والغباء ، غفر الله له ولهم ولنا أجمعين .
ثانيًا : الزمخشري :
هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الإمام الحنفي المعتزلي الملقب بجار الله ، ولد في سنة 467هـ بقرية من قرى خوارزم تدعى زمخشر ، وتوفي سنة 538هـ ، وهو إمام في التفسير والحديث والنحو والبلاغة والأدب ، وقد ألف في شتى العلوم ومن أهم كتبه " تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل " و " أساس البلاغة في اللغة " و " المفصّل في النحو " .
ويعتبر تفسيره من أمهات كتب التفسير بالرأي كما أن تفسير الطبري من أمهات التفسير بالمأثور ، بيد أن الزمخشري كان معتزلي الاعتقاد متظاهرًا بالاعتزال فيقرأ كتابه على حذر، قال السبكي : " واعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه ، ومصنفه إمام في فنه ، إلاّ أنه رجل مبتدع متجاهر ببدعته ، يضع من قدر النبوة كثيرًا ، ويسيء أدبه على أهل السنة والجماعة " .(1/13)
لذا ينصح قارئ الكشاف بقراءته مع أحد حواشيه ، وأحسنها حاشية (فتوح الغيب) للإمام شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي أو حاشية (الكشاف على الكشاف) لسراج الدين البلقيني ، أو حاشية ( الانتصاف ) لناصر الدين ابن المنير الإسكندري .
موقف الزمخشري من القراءات :
لقد جارى الإمام الزمخشري ( اللغويين والنحويين ) ونهج منهجهم في رد بعض القراءات القرآنية التي خالفت قواعدهم وطعن فيها ومن نسبت إليهم عن القراء .
ففي قوله تعالى : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامَ )(النساء/1) يقول : قرئ ( والأرحام ) بالحركات الثلاث ، فالنصب على وجهين : إما على اتقوا الله والأرحام أو بعطف على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا " وينصره قراءة ابن مسعود ( تساءلون به والأرحامَ ) والجر على عطف الظاهر على الضمير وليس بسديد ، لأن الضمير المتصل متصل والجار والمجرور كشيء واحد ، فحكم على قراءة الجر بأنها ليست سديدة ومعلوم أنها قراءة متواترة عن السبعة قرأ بها حفص وحده وقرأ الباقون ( والأرحامَ ) نصبًا .
وفي قوله تعالى : ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم )(الأنعام/137) قرأ ابن عامر : ( قتلُ أولادهم شركائهم ) برفع القتل وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء ، والفصل بينهما بغير الظرف ، يقول الزمخشري : " لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجًا مردودًا كما سمج " زج القلوص أبي مزادة " ، فكيف به في الكلام المنثور ؟! فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته ؟! " .
لم يقف الزمخشري عند هذا الحد في الطعن بهذه القراءة ، بل وصف القارئ بها أن الذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف ( شركائهم ) مكتوبًا بالياء ، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لكان الأولاد شركاءهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب (الكشاف2/54 ، وتحقيق القراءة من النشر 2/263 ، وكتاب السبعة ص370) .(1/14)
والزمخشري في طعنه في القراءات يجرح القراء أحيانًا ويخطئهم أحيانًا بأنهم يلحنون ؛ لقلة درايتهم بالنحو والصرف ، " ففي قوله تعالى : ( وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء)(البقرة/284) قرئ : ( فيغفرْ ويعذبْ ) مجزومين عطفًا على جواب الشرط ، ومرفوعين على فهو يغفر ويعذب ، فإن قلت : كيف يقرأ الجازم ؟ ، قلت يظهر الراء ويدغم الراء في اللام لا من مخطئ خطأ فاحشًا ، ورواية عن أبي عمرو مخطئ مرتين ؛ لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ،والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلاّ أهل النحو " (الكشاف1/407) .
إن موقف الزمخشري من القراءات القرآنية المخالفة في زعمه قواعد النحو العربية هو نفس موقف الطبري ، إلاّ أنه سليط اللسان في التهكم لا على القراءة وحدها ، بل على القرّاء أنفسهم .
أما موقفه من القراءات القرآنية التي تحتمل معنى يراه جديرًا بالقبول في طعنه أو تفضيله وترجيحه للقراءة التي تحمل المعنى الأقوى في نظره ، وذلك في مثل موقف الطبري من قراءة (ملك يوم الدين) غير أن الزمخشري يضيف بعدًا جديدًا لهذا الموقف ، أعني الترجيح لقوة المعنى في نظره ، هذا البعد الجديد يتجلى في توجيهه للقراءة توجيهًا بلاغيًا لولعة وعنايته ، وهاك شيئًا من مواقفه في هذا الجانب :
قال تعالى : ( إن الله يُدافع عن الذين آمنوا )(الحج/38) قرأ ابن كثير وأبو عمرو البصريان : ( إن الله يدفع ) بفتح الياء والفاء وإسكان الدال من غير الألف وقرأ الباقون ( يدافع ) بضم الياء وفتح الدال وألف بعدها مع كسر الفاء .
يقول الزمخشري : " ومن قرأ ( يدافع ) فمعناه يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ (تحقيق القراءة من كتاب السبق في القراءات لابن مجاهد ص : 437 ، والنشر 2/326 ، والتفسير من الكشاف3/15 ) .(1/15)
وليت الزمخشري يقف عند هذا الحد في الترجيح بين القراءات المتواترة فقد عمد إلى قراءة شاذة مخالفة للرسم القرآني ، ورأى فيها بلاغة ما لم يره في المتواتر .
ففي قوله تعالى : ( فشربوا منه إلا قليلاً منهم )(البقرة/249) قرأ الأعمش ( إلاّ قليلٌ ) بالرفع ـ وهي قراءة لم تثبت ـ ، قال وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبًا وهو باب جليل من علم العربية (الكشاف1/381) ، وقد لا يكون هناك أدنى مبرر للحكم بالقوة لقراءة دون قراءة إلاّ لاشتمالها على نكتة بلاغية يلمحها فيها كما في قوله تعالى : ( ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ منكم بربهم يشركون )(النحل/54)(الكشاف2/413) .
يقول : " قرأ قتادة ( كاشف الضر ) على فاعل بمعنى فعل ، وهو أقوى من كشف ، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة " .
وثالثة الأثافي موقف الزمخشري من القراءات التي تخالف الرسم والذي اختلف عن موقف الطبري ، إذ أن الطبري قد وقف موقفًا واضحًا وسليمًا من تلك القراءات التي تخالف الرسم أو الرسوم على حد تعبيره فردّها ردًا قاطعًا لعدم قرآنيتها ، أما الزمخشري فقد أكثر من ذكر هذه القراءة دون نقد أو رد بل صرف عنايته لتوجيهها ، ولعل هذا الفارق بين الطبري والزمخشري يعود إلى علم الأول بالقراءات وجهل الثاني بها ، إذ رماه أبو حيان بأنه ضعيف في هذا العلم ، وهاك بعض الأمثلة :
قال تعالى : ( ءاعجميٌ وعربيٌ )(فصلت/44) يقول : " وقرئ ( أعجمي ) ولم يعقب على ذلك بل اكتفى بشرح كلمة الأعجمي بأنه الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه من أي جنس كان .
وفي قوله تعالى : ( لولَّوْا إليه وهم يجمحون )(التوبة/63) .(1/16)
يقول وقرأ أنس يجمزون ، فسئل ، فقال : " يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد وفي قوله تعالى : ( أتستبدلون الذي هو أدنى )(البقرة/) يقول : " وقرأ زهير الفرقبي ( أدنأ ) بالهمزة من الدناءة ، ولا شك أنها قراءة مخالفة للرسم ، ولكن الزمخشري لا يعول على ذلك ، إذ همه توجيه المعنى وسلامته ، ولا يهمه بعد ذلك أن يعرفنا بالقارئ ومدى اعتبار قراءة مثل هذا الشخص زهير الفرقبي ، بل لا يذكر لنا من هو القارئ لقراءة في منتهى الشذوذ ، وما أعجب كلامه حين ذكر قراءة في فاتحة الكتاب والتي بدأها بداية غريبة حين جعلها أول القرآن نزولاً وحكم بنزولها قبل سورة إقرأ وسورة المدثر ، ونسب هذا القول لجمهور المفسرين ، كما أنهى السورة بقول أشد غرابة حين ختمها بقراءة لخاتمة كلماتها ( الضالين ) يقول : ( ولا الضألين ) بالهمز ، كما قرأ عمرو بن عبيد ( ولا جأن ) ثم قال : " وهذه لغة من جدّ في الهرب من التقاء الساكنين " ( ينظر في تفسير جميع هذه الآيات من مواضعها بالكشاف 2/196 ، 1/285 ، 2/262 ) .
وبهذا ننهي حديثنا عن الزمخشري دون تعليق عليه تاركين الحديث عنه للمدافعين عن القراءات الرادّين لسهام الطاعنين ، فحديثهم عن ذلك فيه الكفاية والنهاية .
حكم الطعن في القراءات :
لا يفوتنا ونحن ننهي الحديث عن الطاعنين أن نذكر حكم الطعن في القراءات القرآنية المتواترة فنقول : إن من العلماء من يهوّن أمر الطعن في القراءات ظنًا منه أن الخلاف في القراءات لا يعدو أن يكون لونًا من ألوان الاختلاف في الاجتهادات الفقهية ، وهذا وهم باطل ، ذلك أن مصدر الاختلاف بين القراءات هو الوحي ، بينما منشأ الاختلاف في الفقه هو الاجتهاد المبني على النظر الذي قد يصيب وقد يخطئ .(1/17)
قال أبو جعفر النحاس : السلامة ـ عند أهل الدين ـ إذا صحت القراءات ألا يقال : " إحداهما أجود " ، لأنهما جميعًا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيأثم من قال بذلك ، ذلك لأن اختلاف القراء ـ عند المسلمين ـ صواب بإطلاق ، وليس كاختلاف الفقهاء صوابًا يحتمل الخطأ ، ولا نعلم أحدًا من الصحابة من كان يفضل قراءة على قراءة ، بل ينكرون تفضيل قراءة على قراءة من أي وجه ، كما قال السيوطي( الاتقان) فلئن كان المرجّح لقراءة على قراءة آثمًا ، فما بالك بالذي يطعن ويرد قراءة متواترة " .
قال الألوسي في شأن من يطعن في القراءة وذلك في صدد رده على الزمخشري في تشنيعه لقراءة ابن عامر : " إنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفًا قرأ به اجتهادًا لا نقلاً وسماعًا كما ذهب إليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبيّن منشأ غلطه ، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى "(روح المعاني8/23) .
| السابق |
موقف ابن جرير و الزمخشري من القراءآت المتواترة
موقف ابن جرير و الزمخشري من القراءآت المتواترة(1/18)