بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن أولى ما اشتغل به المشتغلون، وسعى في تحصيله المسلمون هو العلم بكتاب الله عز وجلّ، لأنّ شرف العلم من شرف المعلوم، وعلم التفسير من أهم العلوم المتعلّقة بكتاب الله تعالى إذ به يعقل المسلم عن الله تعالى خطابه.
إنّ العلومَ وإن جلّت محاسنُها فتاجُها ما به الإيمان قد وجَبا
هو الكتابُ العزيز الله يحفظه وبعد ذلك علْمٌ فرّج الكُرَبا
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبهِ نور النبوّة سن الشرع والأَدَبا (1)
ولقد تنوعت مناهج العلماء في تفسير كتاب الله الكريم ما بين مطوَّلٍ ومختصر، ومفسِّرٍ بالرأي وآخر بالأثر، ومن هذه المناهج تفسير آيات الأحكام، وهو منهج يجمع بين علمي التفسير والفقه، حيث يذكر المفسّر الآية ثم يذكر الأحكام الفقهيّة المشتملة عليها، وأقوال أئمة المذاهب فيها.
وممن اشتُهر بهذا المنهج من التفاسير تفسير العالم النحرير، والعلَم الشهير أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي رحمه الله المسمّى بـ ( الجامع لأحكام القرآن والمبيِّن لما تضمَّنه من السنة وآي الفرقان ) (2) ، فهو فريد في بابه لا يستغني عنه العالم فضلا عن طالب العلم.
وقد توجّه إليّ طلب كريم من شيخنا الأستاذ الدكتور حسن أبو غدة بدراسة منهج هذا الإمام في تفسير آيات الأحكام، فاستعنت بالله على الكتابة في هذا الموضوع، وقد قسّمتُ هذا البحث إلى مبحثين على النحو التالي:
- المبحث الأول: نبذة عن المؤلِّف والمؤلَّف، وفيه مطلبان:
- المطلب الأول: نبذة عن حياة المؤلِّف.
- المطلب الثاني: نبذة عن الكتاب.
- المبحث الثاني: منهج المؤلّف في تفسير آيات الأحكام مع أمثلةٍ تطبيقيّة على ذلك.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/31 .
(2) هكذا سمّاه مؤلِّفه وانظر: مقدِّمة القرطبي في تفسيره 1/7 .(1/1)
ثم ختمت البحت بخاتمة ذكرتُ فيها أهم النتائج، والله تعالى أسأل أن يجعله بحثاً مباركاً مسدداً، وأن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه سميع قريب وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
- المبحث الأول: نبذة عن المؤلِّف والمؤلَّف.
- المطلب الأول: نبذة عن حياة المؤلِّف. (1)
اسمه ونشأته: هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري القرطبي، ولم تذكر كتب التاريخ سنة ولادته؛ لكنه من أهل قرطبة، وقد رجّح الدكتور مفتاح السنوسي أن ولادة القرطبي في أواخر القرن السادس، أو مستهل القرن السابع، (2) ثم رحل إلى صعيد مصر واستقرّ بمنية أبي خُصَيب (3) واستقرّ فيها إلى أن توفي في شوال سنة 671 هـ .
__________
(1) ... انظر ترجمته في : طبقات المفسرين للداوودي 2/69، نفح الطِيب لابن المقرّي 2/420، هدية العارفين للبغدادي 2/129، الأعلام للزكلي 5/322، معجم المؤلفين لعمر كحّالة 3/52، ومقدّمة الجامع لأحكام القرآن 1/2.
(2) ... انظر: كتاب القرطبي حياته وآثاره العلمية ومنهجه في التفسير ص 86.
(3) ... مدينة كبيرة على شاطئ النيل في شمال أسيوط في مصر . ( انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 5/218 ).(1/2)
مكانته العلميّة: كان – رحمه الله – من العلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، أوقاته معمورة ما بين عبادةٍ وتصنيف، وله تصانيف تدل على إمامته وكثرة اطلاعه وفضله، فمن تصانيفه كتابه (( الجامع لأحكام القرآن )) وهو من أجلّ التفاسير وأعظمها نفعاً (1) ، وكتابه (( الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ))، وكتابه (( التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ))، وكتابه (( قمع الحرص بالزهد والقناعة )) وغير ذلك من الكتب، وله أرجوزة جمع فيها أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان طارح التكلّف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقيّة، وقد سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب (( المُفهِم في شرح مسلم )) بعض هذا الشرح، وحدّث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي اليحصبي، وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد البكري وغيرهما.
- المطلب الثاني: نبذة عن الكتاب.
يُعتبر تفسير القرطبي (( الجامع لأحكام القرآن )) أشهر كتبه وأعظمها نفعاً كما تقدّم، وقد أوضح القرطبي سبب تأليفه بقوله : (( فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري، وأستفرغ فيه مُنّتي (2) ) (3)
__________
(1) ... سيأتي الحديث عنه في المبحث الثاني بإذن الله.
(2) ... المُنّة بالضم القوة ، ( انظر: القاموس المحيط ص 1235 ).
(3) ... الجامع لأحكام القرآن 1/6.(1/3)
كما بيّن طريقة تأليفه بقوله: ((..بأن أكتب تعليقاً وجيزاً، يتضمن نكتاً من التفسير واللغات، والإعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعاً بين معانيهما، ومبيناً ما أشكل منهما، بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف )) (1) ، وبهذا يتبيّن أن تفسير القرطبي يعتبر من التفسير بالمأثور الذي يفسر القرآن بالقرآن أو بالآثار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن السلف رحمهم الله. (2)
وقد بيّن رحمه الله شرطه ومنهجه في تفسيره أوضح بيان، ولعلّي أُجمله في النقاط التالية: (3)
1) إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله.
2) الإضراب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين.
3) تبيين آيات الأحكام، بمسائل تُسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها. (4)
4) إن لم تتضمن الآية حكماً ذكر ما فيها من التفسير والتأويل.
5) ذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، وبيان الغريب من الألفاظ، مع الاستشهاد بأشعار العرب.
والذي يقرأ تفسير القرطبي يجد أنه قد التزم بما شرطه، وخطه من منهج في الغالب، فهو يعرِض لأسباب النزول، والغريب من الألفاظ، ويحتكم إلى اللغة كثيراً، ويرد على الفِرق كالمعتزلة، والقدريّة، والروافض، والفلاسفة، كما كان ينقل عن كثير ممن تقدمه في التفسير ، خصوصاً من ألّف منهم في كتب الأحكام كابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن العربي، وأبو بكر الجصاص. (5)
__________
(1) ... المصدر السابق.
(2) ... انظر: القرطبي حياته وآثاره العلمية ومنهجه في التفسير د/مفتاح السنوسي ص 227.
(3) ... انظر: الجامع لأحكام القرآن 1/6-7
(4) ... سيأتي بيان ذلك في المبحث الثالث بإذن الله.
(5) ... انظر: التفسير والمفسرون د/محمد الذهبي 2/337-338.(1/4)
- المبحث الثاني: منهج القرطبي في تفسير آيات الأحكام.
سأُركّز في هذا المبحث على منهج القرطبي رحمه الله في تفسيره لآيات الأحكام خاصة، وذلك استقراءً من بعض المواضع من تفسيره، والتي تتعلّق بالأحكام الفقهيّة، وهذه الآيات هي:
1) آيات الصيام 183 – 186 من سورة البقرة.
2) آية الإحصار في الحج 196 من سورة البقرة.
3) آيات القتل 92 – 94 من سورة النساء.
4) آية الوضوء 6 من سورة المائدة.
5) آية الغنائم 41 من سورة الأنفال.
وقد اتّضح لي من خلال تأمل تفسير الآيات المتقدّمة أن منهجه فيها ما يلي:
1) تقسيم الآية إلى مسائل.
وهذا واضح شهير في تفسيره – رحمه الله – وقد نص عليه في مقدّمة كتابه كما تقدّم، فيُقسّم الآية إلى عدة مسائل بحسب الأحكام التي تتضمنها، كقوله في آية القتل: ((فيه عشرون مسألة)) (1) وقوله في آية الغنائم: ((فيه ست وعشرون مسألة)) (2) .
ومما يلاحظ على هذه المسائل أنها ليست كلّها في ذكر المسائل والأحكام الفقهيّة بل قد تشتمل على بيان بعض الفضائل كقوله في المسألة الثانية من آيات الصيام: ((الثانية: فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم ...)) (3) أو تشتمل على تفسير لا علاقة له بالمسائل الفقهية كقوله في آخر مسألة في آية الوضوء: (( الثانية والثلاثون: قوله تعالى: ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِن حَرَجٍ ) أي من ضيق في الدين ...)) (4) بل ربما أحياناً يذكر في بعض المسائل أموراً تتعلّق بالعقيدة، فيقرر مذهب أهل السنة والجماعة، ويرد على أهل التعطيل والفلاسفة وغيرهم. (5)
__________
(1) ... 5/201.
(2) ... 8/3.
(3) ... 2/183.
(4) ... 6/72.
(5) ... انظر على سبيل المثال المسألة الرابعة عشرة في آيات الصيام عندما تكلّم عن إرادة الله عند قوله تعالى ( يُريدُ اللهُ بكمُ اليُسْر ) 2/202.
(6) ... انظر: التفسير والمفسّرون د/محمد الذهبي 2/338، القرطبي حياته وآثاره ومنهجه في التفسير د/مفتاح السنوسي 267(1/5)
2) مراعاة الدليل وعدم التعصب للمذهب.
وهذا الأمر مما يميز الإمام القرطبي - رحمه الله – ولعلّ هذا – والله أعلم - مما زاد من قيمة هذا التفسير المبارك، فيُلاحَظ عند ذكره لمسائل الخلاف بين الأئمة لا يتعصب لمذهبه المالكي بل يتجرد مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه أنه الحق، وهذا كثير واضح في تفسيره. (1)
ومن أمثلته ما ذكره في آيات الصيام عند قوله تعالى ( ولِتُكْمِلوا العِدَّةَ..) في المسألة السابعة عشرة في حكم صلاة عيد الفطر في اليوم الثاني، مع نقله عن ابن عبد البر أنه لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحجتهم في ذلك أن صلاة العيد لو قضيت بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه مثلها. (2)
لكنه قال: (( قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من لم يصلِّ ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس) (3) ) (4)
ومن أمثلة ذلك أيضاً مسألة تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر، فقد وضّح أن ظاهر المذهب المنع من تقديم الحلق على الذبح إن كان عامداً قاصداً، ثم قال: والصحيح الجواز، لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: (لا حرج). (5) (6)
__________
(2) ... انظر: 2/203
(3) ... أبواب الصلاة باب ما جاء في إعادتهما (ركعتي الفجر) بعد طلوع الشمس ( 421 ).
(4) ... 2/204.
(5) ... رواه البخاري ( 1734 ) كتاب الحج باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسياً أو جاهلاً، ومسلم ( 1307 ) كتاب الحج باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي.
(6) ... انظر: 2/254.(1/6)
ومن الأمثلة مخالفته لمذهب الإمام مالك في تقسيم القتل إلى عمْدٍ وخطأ في آية القتل حيث ذكر رأي الجمهور في التقسيم إلى عمد، وشِبه عمد، وخطأ. قال: (( قلت: وهو الصحيح، فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أُهُبِها (1) ، فلا تستباح إلا بأمر بين لا إشكال فيه، وهذا فيه إشكال، لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد )) (2)
وكذلك من الأمثلة ترجيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً لما في صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يُلبِّي بالحج والعمرة معا)، (3) مع أن مذهب الإمام مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حج مفرِداً، والإفراد أفضل. (4)
فمما تقدّم يتضّح وبجلاء أن القرطبي – رحمه الله – يدور مع الدليل حيث دار فإذا كان الدليل يؤيّد غير ما رجّحه الإمام مالك أخذ به، وهذا من سعة الأفق، ولا غرابة في ذلك فإن القرطبي لم يتعصّب للمذهب حتى في طلبه للعلم، فقد تلقّى العلم عن بعض مشايخ الشافعيّة كما ذكر في المسألة السادسة في آية الغنائم في أن السلب لا يُعطى للقاتل إلا أن يقيم البيّنة على قتله، قال: قلت: سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم يقول: إنما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أبا قتادة - السلب بشهادة الأسود بن خزاعي وعبد الله بن أنيس. (5)
3) تحقيق مذهب المالكيّة.
مما يتميّز به القرطبي كذلك في تفسيره التحقيق التام للمذهب المالكي حيث يذكر روايات الإمام مالك في المسألة، وقول أئمة المذهب، ومن وافق، ومن خالف، وذلك في كثير من المسائل، ومع ذلك قد يرجح بين هذه الأقوال، والأمثلة في ذلك كثيرة:
__________
(1) ... الأهب: بضم الهمزة والهاء جمع إهاب، وهو الجلد
(2) ... 5/212.
(8) ... ( 1232 ) كتاب الحج باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة.
(9) ... انظر: 2/258-259.
(5) ... 8/8.(1/7)
فمنها أنه لما ذكر قَدر السفر الذي يترخّص فيه المسافر بالرّخص في آية الصيام قال: (( واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلاً، قال ابن خوَيزمَنْداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرّة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلاً، وقال مرة: مسيرة يومٍ وليلة، وروي عنه يومان، وهو قول الشافعي، وفصّل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلاً، وفي غير المذهب ثلاثة أميال )) (1)
وكذلك من الأمثلة مسألة دخول المرافق في الغسل في آية الوضوء حيث قال في المسألة السادسة: (( فقال قوم: نعم ، وقيل: لا يدخل المرفقان في الغسل، والروايتان مرويّتان عن مالك، الثانية لأشهب، والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح )) (2)
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره في آية الإحصار في الحج في المسألة الأولى عند تعيين المانع في الإحصار
حيث أورد قول ابن العربي أن المانع هو العدوّ خاصة ثم قال ابن العربي: وهو اختيار علمائنا، فقال القرطبي: (( قلت: ما حكاه ابن العربي من أنه اختيار علمائنا فلم يقل به إلا أشهب وحده، وخالفه سائر أصحاب مالك في هذا وقالوا: الإحصار إنما هو المرض، وأما العدو فإنما يقال فيه: حصر حصراً فهو محصور، قاله الباجي في المنتقى )) (3)
4) ذكر الشواهد من أقوال العرب وأشعارهم
ومن منهج القرطبي رحمه الله في تفسيره لآيات الأحكام ذكر الشواهد على بعض المسائل من أقوال العرب وأشعارهم، (4) حيث يجعل لغة العرب هي الفيصل في الحكم، وذلك ليقينه أن القرآن نزل بلغة العرب وبما يعرفونه من ألفاظ.
__________
(1) ... 2/186.
(2) ... 6/58.
(4) ... 2/247
(4) ... انظر: كتاب الشواهد الشعرية في تفسير القرطبي للدكتور عبد العال مكرم ، وكتاب أبو عبد الله القرطبي وجهوده في النحو واللغة في كتابه الجامع لأحكام القرآن د/عبد القادر رحيم الهيتي ص51.(1/8)
ومن أمثلة ذلك ما ذكره من الخلاف في توجيه قراءة ( وأرجلِكُم ) بالخفض في آية الوضوء في المسألة الثالث عشرة حيث قال: (( فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فتَرجَّحَ قولُ من قال: إن المراد بقراءة الخفض الغسل.
وقال: والعامل في قوله ( وأرجلكم ) قولُه: ( فاغسلوا ) والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبزَ واللبن أي وشربت اللبن، ومنه قول الشاعر: علفتُها تبناً وماءً بارداً، وقال آخر:
ورأيتُ زوجَك في الوغى متقلِّداً سيفاً ورُمْحاً
التقدير: علفتها تبناً وسقيتها ماءً، ومتقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً )) (1)
وكذلك من الأمثلة ما أورده في آية الإحصار في الحج في المسألة الأولى في الفرق بين كلمتي (حُصِر) و ( وأُحصِر ) قال: (( قلت: فالأكثر من أهل اللغة على أن ( حصر ) في العدو، و ( أحصر ) في المرض، وقد قيل ذلك في قول الله تعالى: ( لِلفُقَراءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في سَبيلِ اللهِ )، وقال ابن ميّادة:
وما هجرُ ليلى أن تكون تباعدَتْ عليك ولا أنْ أحصرَتْك شُغولُ
وقال الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأما من العدو فلا يقال فيه إلا حُصر)) (2) ولعلّ مما يُلحق باهتمام القرطبي بأقوال العرب وأشعارهم المسألة الآتية وهي النقطة الخامسة.
5) اهتمامه بالإعراب .
فهو رحمه الله كثيراً ما يذكر موقع الكلمة من الإعراب، وخصوصاً ما له علاقة بفهم المقصود من الآية، وهذا الأمر أكثر من أن يُحصر.
مثال ذلك قوله في آية الإحصار في الحج في المسألة الحادية عشرة عند قوله تعالى: ( ... فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْي ) قال: (( ( ما ) في موضع رفع، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر، ويحتمل أن يكون في موضع نصب، أي فانحروا أو فاهدوا )) (3)
__________
(1) ... 6/64.
(2) ... 2/248.
(4) ... 2/251.(1/9)
وكذلك قوله في المسألة الثامنة من آية الغنائم عند قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُم مِن شَيءٍ فأَنَّ للّهِ خُمُسَهُ..) الآية، قال: (( ( ما ) في قوله: ( ما غنمتم ) بمعنى الذي والهاء محذوفة، أي الذي غنمتموه، ودخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة، و( أنّ ) الثانية توكيد للأولى، ويجوز كسرها )) (1)
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره في آية الصيام في المسألة الثالثة عند قوله تعالى: ( .. كَمَا كُتِبَ عَلى الَّذِين مِن قَبلِكُم ) قال: (( الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتاباً كما، أو صوماً كما، أو على الحال من الصيام، أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم.
وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بـ ( كما ) إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول، و ( ما ) في موضع خفض، وصلتها ( كتب على الذين من قبلكم )، والضمير في ( كُتِب ) يعود على ( ما ) )) (2)
6) اهتمامه بالمسائل الأصوليّة.
إن المتأمّل لتفسير القرطبي يستطيع أن يُدرك أنه – رحمه الله – فقيه أصولي فهو يخرِّج بعض المسائل الفقهيّة على المسائل الأصوليّة، وقد ورد ذلك في مواضع من تفسيره :
فمن ذلك ما أورده في المسألة الثالثة في آية الوضوء عند الكلام على حكم غسل الوجه قال: (( وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدّر، وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو: " أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله " )) (3)
__________
(1) ... 8/8-9.
(2) ... 2/184.
(3) ... 6/57.
(4) ... انظر: 6/69-70 .(1/10)
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره في المسألة السابعة والعشرون من آية الوضوء عند قوله تعالى: (وإنّ كُنتم مَرْضَى أو عَلى سَفَرٍ أو جَاءَ أحدٌ مِنكم مِنَ الغَائط ...) الآية قال: (( تقدّم في (النساء) مستوفى، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة، فإن الغائطَ كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في (النساء) فهو عام، غير أن جُل علمائنا خصّصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود، أو خرج المعتاد على وجه السلس والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضاً... إلى أن قال: وتتمته في كتب الأصول )) (1)
فهذا يدل على أن القرطبي – رحمه الله - يهتم بالمسائل الأصوليّة إلا أنه يؤْثر جانب الاختصار وعدم التطويل في ذكرها.
وبمناسبة الكلام على مسألة تخصيص العام فإن القرطبي – رحمه الله – يذكر عدداً من المخصِّصَات للعموم، فمن ذلك التخصيص بعُرف الشرع حيث قال في المسألة الأولى من آية الغنائم: (( واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى: ( غَنِمْتُم مِن شيءٍ ) مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه؛ ولكنّ عُرْف الشرعِ قيّد اللفظ بهذا النوع، وسمى الشرعُ الواصلَ من الكفار إلينا من الأموال باسمين: غنيمة وفيئا، فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة، والفيء مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف )) (2)
ومن ذلك اعتباره للتخصيص بالإجماع حيث قال في المسألة الثالثة من آية الغنائم: (( لم يختلف العلماء أن قوله: ( واعْلَموا أنمّا غَنِمْتُم مِن شيء ) ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص، فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام )) (3)
__________
(2) ... انظر: 8/3.
(3) ... 8/5.(1/11)
وقد ذكر عن أبي العباس بن سريج من أصحاب الشافعي قوله: (( ليس الحديث (من قتل قتيلا فله سلبه) على عمومه، لإجماع العلماء على أنّ من قتل أسيراً أو امرأة أو شيخاً أنه ليس له سلب واحد منهم )) (1) وهذا مثال على تخصيص السنة بالإجماع.
7) اهتمامه بصحة الأحاديث.
إن مما يُميّز منهج القرطبي – رحمه الله – في تفسير آيات الأحكام اهتمامه بالجانب الحديثي في المسائل إذا كان الدليل على المسألة حديثاً، فهو يجمع بين الفقه والحديث، وهذه ميزة مهمة؛ لأنّ بعض الفقهاء لا يلتفت إلى التحقق من صحة الحديث عند إيراده شاهداً على المسألة، وقد وقفت على بعض الأمثلة التي توضّح اهتمام القرطبي بهذا الجانب:
فمن ذلك ما أورده في المسألة السابعة من آيات الصيام عند الكلام على وجوب التتابع في صوم القضاء بعض الأحاديث في ذلك فقال: (( اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما الدارقطني في سننه، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات ) فسقطت (متتابعات ) قال: هذا إسناد صحيح.
وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من كان عليه صوم من رمضان فليَسْرده ولا يقطعه) في إسناده عبد الرحمن ابن إبراهيم ضعيف الحديث، وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان ( صمه كيف شئت ) )) (2)
ومن الأمثلة كذلك ما أورده في آيات الصيام أيضاً في المسألة العاشرة في حكم من أخّر قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان الآخر، فقد ذكر خلاف العلماء في وجوب الكفارة ثم قال: (( قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسنداً فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: (( يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا )).
خرّجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح.
__________
(1) ... 8/6.
(2) ... 2/189.(1/12)
وروي عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: ( يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا ). في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان )) (1)
وبهذا يظهر أن القرطبي رحمه الله لا يقول بوجوب الكفارة على من أخّر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان الآخر، وذلك لضعف الآثار المروية فيه، وهو بذلك يخالف مذهب الجمهور، ومن بينهم الإمام مالك في وجوب الكفارة.
كما يلاحظ أن القرطبي أحياناً ينقل تضعيف بعض الأئمة للحديث كما في المسألة الحادية والعشرين في مدة المسح للمسافر قال: (( ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت، وهو قول الليث بن سعد، قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول: ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت.
وروى أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال: (نعم) قال: يوماً ؟ قال: (يوماً) قال: ويومين ؟ قال: (ويومين) قال: وثلاثة أيام ؟ قال: (نعم وما شئت) في رواية (نعم وما بدا لك)، قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي (2) ) (3)
فكأن القرطبي رحمه الله يميل بهذا النقل إلى تضعيف حديث عدم التوقيت لاسيّما وأن أحاديث التوقيت مروية بأسانيد صحيحة عند مسلم وغيره.
8) ذكر سبب الخلاف في المسألة.
في بعض المواضع من تفسير القرطبي يلاحظ أنه يذكر سبب خلاف الفقهاء في المسألة، وهذا الأمر له أهميّة كبيرة، فإذا علم الفقيه سببَ الخلاف عاد إليه وحقّقه إن كان من المجتهدين.
__________
(1) ... 2/189-190.
(2) ... ( 158 ) كتاب الطهارة باب التوقيت في المسح.
(3) ... 6/67.(1/13)
ومن أمثلة المسائل التي ذكر القرطبي سبب الخلاف فيها ما ذكره في المسألة الثالثة في آية الوضوء في مسألة غسْل ما وراء العِذار إلى الأذن، وهو ما خلف الصُّدغ (1) الذي من وراء شعر اللحية قال: (( وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا ؟ والله أعلم، وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا؟ )) (2)
ومن الأمثلة كذلك ما ذكره في المسألة السابعة عشرة في آية الوضوء في مسألة ترتيب الأعضاء في الوضوء قال: (( وسبب الخلاف ما قال بعضهم: إن ( الفاء ) توجب التعقيب في قوله: ( فاغْسِلوا ) فإنها لما كانت جواباً للشرط ربطت المشروط به، فاقتضت الترتيب في الجميع )) (3)
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره في المسألة الثانية والعشرون عند الكلام عن شرط المسح على الخفين وهو عند الجمهور لبسهما على طهارة. قال: (( ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث، وشذ داود فقال: المراد بالطهارة هاهنا هي الطهارة من النجس فقط، فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين، وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة )) (4)
ومن الأمثلة مسألة التيمم في الحضر وخلاف العلماء فيه حيث قال – رحمه الله - : (( وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية، فقال مالك ومن تابعه: ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم ... ثم قال: وأما من منعه في الحضر فقال: إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، كالفطر وقصر الصلاة، ولم يبح التيمم إلا بشرطين، وهما المرض والسفر، فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى )) (5)
9) ذكر القراءات في الآية.
__________
(1) بضم الصاد هو جانب الوجه من العين إلى الأذن . ( المعجم الوسيط 1/510 ).
(2) 6/57.
(3) ... 6/66.
(4) ... 6/68.
(5) ... انظر: 5/142.(1/14)
يُعدّ تفسير القرطبي – رحمه الله – من أوسع الكتب التي تناولت القراءات بعد كتب القراءات، ويمكن إيجاز تلك الجهود في التالي: (1)
- استقصاء القراءات في الكلمة القرآنية.
- نسبة القراءة إلى قارئها.
- بيان درجة القراءة.
- توجيه القراءات، وخصوصاً ما كان له علاقة بالمسائل الفقهيّة.
والأمثلة على ما تقدّم كثيرة، فمن ذلك ما أورده في آيات الصيام عند قوله تعالى: " وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَه فِديَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطوَّعَ خَيراً فهوَ خيرٌ لَهُ وأنْ تَصُوموا خيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُون " قال: (( قوله تعالى: ( وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَه ) قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها،وقرأ حميد على الأصل من غير اعتلال، والقياس الاعتلال، ومشهور قراءة ابن عباس " يطوقونه " بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه، وقد روى مجاهد " يطيقونه " بالياء بعد الطاء على لفظ " يُكِيلونه " وهي باطلة ومحال، لأنّ الفعل مأخوذ من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال )) (2)
ومن الأمثلة ما جاء في قوله تعالى في آيات الصيام (فمَن تَطَوَّعَ خيراً فهُوَ خَيرٌ لَهُ ) حيث قال القرطبي: (( قرأ عيسى بن عمرو ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي ( يَطَّوَّعْ خَيراً ) مشددا وجزم العين على معنى يتطوع، الباقون ( تَطَوَّعَ ) بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي )) (3)
__________
(1) ... أبو عبد الله القرطبي وجهوده في النحو واللغة في كتابه الجامع لأحكام القرآن ص 231.
(2) ... 2/192.
(3) ... 2/194.(1/15)
ومن الأمثلة كذلك ما ذكره في المسألة الثالثة عشرة من آية الوضوء عند قوله تعالى ( وأرجُلَكُم ) قال: (( قرأ نافع وابن عامر والكسائي ( وأرجلَكم ) بالنصب، وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ ( وأرجلُكم ) بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ( وأرجلِكم ) بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون، فمن قرأ بالنصب جعل العامل ( اغسلوا ) وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء، قال ابن العربي: اتفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من ردَّ ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلّق الطبري بقراءة الخفض )) (1)
ثم أفاض وأسهب في ذكر الخلاف بين العلماء في ذلك وتوجيه أقوال كل منهم بما يقلّ أن يوجد في كتاب غيره.
ومن الأمثلة أيضاً ما ذكره في آية الإحصار في الحج عند قوله تعالى: ( وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُم ) قال: (( ( وسَبعةٍ ) قراءة الجمهور بالخفض على العطف، وقرأ زيد ابن علي ( وسبعةً ) بالنصب، على معنى: وصوموا سبعة )) (2)
10) ذكر سبب النزول.
__________
(1) ... انظر: 6/62.
(2) ... 2/266.(1/16)
ومما يهتم القرطبي رحمه الله بإيراده سبب نزول الآية؛ لأن السبب مما يُعين على فهم الآية والمراد منها، وقد كان القرطبي أحياناً يورد سبب النزول لترجيح رأي فقهي، وقد وفقتُ على مثال لذلك عند قول الله تعالى في آية الإحصار في الحج : ( فَمنْ كَانَ مِنكم مَريضاً أو بهِ أذىً مَن رأسِهِ ففِدية مِن صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُكٍ ) فقد ردّ على بعض الشافعية القائلين بأن المحصر في أول الآية العدو لا المرض، بقوله: (( أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها – يعني المرض -، لاتساق الكلام بعضه على بعض، وانتظام بعضه ببعض، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه.
ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية، روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن كعب بن عجرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال: (أيؤذيك هوامّك) قال نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام) (1) ) (2)
11) ذكر مسائل الإجماع والاتفاق.
ومما يميّز تفسير الإمام القرطبي – رحمه الله – أنه يذكر في ثنايا المسائل الفقهيّة في تفسيره ما أجمع عليه العلماء أو ما اتفقوا عليه، وقد لاحظتُ ذلك كثيراً عند قراءتي لتفسيره
__________
(1) ... رواه البخاري ( 1817 ) كتاب المحصر باب النسك شاة، ومسلم ( 1201 ) كتاب الحج باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى.
(2) ... 2/255.(1/17)
ومن الأمثلة على ذلك قوله في المسألة الثالثة في آيات الصيام: (( اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيّت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافراً بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافراً بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا.
ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره وأخذ في أسباب الحركة فلا شيء عليه، وحُكي ذلك عن أصبغ وابن الماجشون )) (1)
فهو هنا كأنه يُحرر محل النزاع في المسألة فيذكر ما أجمعوا واتفقوا عليه ثم يذكر ما حدث فيه الخلاف.
ومثله قوله في آيات القتل في المسألة العاشرة: (( ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية، واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا، فقال مالك: فيه الغرة والكفارة، وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة )) (2)
ومن الأمثلة ما ذكره في المسألة الثالثة من آية الإحصار في الحج حيث قال: (( أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك، لأنه زاد ولم ينقص )). (3)
الخاتمة
وبعد هذا التطواف في كتاب الجامع لأحكام القرآن الكريم للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي رحمه الله رحمة واسعة يمكن أن نخرج بالنتائج التالية:
1) أن كتاب الجامع لأحكام القرآن يعتبر اسماً على مسمى، فقد جمع الإمام القرطبي فيه جميع الأحكام الفقهيّة التي تمر من خلال آيات القرآن الكريم، ويُفصّل القول فيها بذكر أقوال العلماء.
__________
(1) ... 2/186.
(2) ... 5/208.
(3) ... 2/245.(1/18)
2) أن الإمام القرطبي أحد أئمة المذهب المالكي المحققين للمذهب، فهو صاحب علم غزير وتحقيق دقيق، كما أنه على دراية بأقوال المذاهب الأخرى، وأدلتها؛ لكنه مع ذلك منصف في حكمه متبع للدليل في رأيه.
3) أن طريقة القرطبي رحمه الله في تقسيم الآيات إلى مسائل تُعتبر من أنفع الطرق في تفسير آيات الأحكام وشمولية الموضوعات، ولعلّه بذلك قد سبق الطرق الحديثة في عمل البحوث والرسائل العلميّة.
4) عناية القرطبي الكبيرة عند ترجيحه للمسائل الفقهيّة، بالاعتضاد بما يُرجّح المسألة من ذكر أسباب النزول إن وُجد، أو القراءات، أو الإعراب مع استشهاده بأقوال العرب وأشعارهم.
5) يُبيّن القرطبي رحمه الله أحياناً سبب الخلاف في المسألة الفقهيّة، مع بيانه لمواضع الإجماع والاتفاق، ومواضع الاختلاف، ويعتني بتخريج الفروع الفقهيّة على المسائل الأصولية، فهو فقيه أصولي.
هذا ما تيسّر لي جمعه وترتيبه في هذا البحث المبارك، والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،
المصادر والمراجع
1) أبو عبد الله القرطبي وجهوده في النحو واللغة في كتابه الجامع لأحكام القرآن، د/عبد القادر الهيتي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1417هـ.
2) الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية عشرة، 1997م.
3) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1410هـ.
4) التفسير والمفسرون، د/محمد بن حسين الذهبي، مكتبة وهبة، الطبعة السابعة، 1421هـ.
5) الجامع لأحكام القرآن الكريم، محمد بن أحمد القرطبي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
6) الشواهد الشعرية في تفسير القرطبي، د/ عبد العال سالم مكرم، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1418هـ.
7) صحيح مسلم، تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي، درا إحياء التراث العربي.(1/19)
8) طبقات المفسرين، محمد بن علي الداوودي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1403هـ.
9) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر، دار المعرفة، بدون ط
10) القاموس المحيط، محمد الفيروز آبادي، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة، 1424هـ.
11) معجم المؤلفين، عمر رضا كحّالة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1414هـ.
12) المعجم الوسيط، د/إبراهيم أنيس وآخرون، دار المعارف، الطبعة الثانية.
13) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد التلمساني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415هـ.
14) هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا البغدادي، دار إحياء التراث العربي، 1955م.
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ................................................... 2
المبحث الأول: نبذة عن المؤلف.................................. 3
المبحث الثاني: نبذة عن الكتاب.................................. 3
المبحث الثالث: منهجه في تفسير آيات الأحكام.................... 4
- تقسيم الآية إلى مسائل........................................ 5
- مراعاة الدليل وعدم التعصب للمذهب ......................... 5
- تحقيق مذهب المالكية ......................................... 7
- ذكر الشواهد من أقوال العرب وأشعارهم ...................... 8
- اهتمامه بالإعراب ............................................ 8
- اهتمامه بالمسائل الأصولية .................................... 9
- اهتمامه بصحة الأحاديث .................................... 10
- ذكر سبب الخلاف في المسألة ................................ 12
- ذكر القراءات في الآية ....................................... 13
- ذكر سبب النزول ........................................... 14
- ذكر مسائل الإجماع ........................................ 15(1/20)
الخاتمة ..................................................... 16
فهرس المصادر والمراجع ......................................... 17
فهرس الموضوعات ............................................. 18(1/21)