ومثال التشابه يقع في المركب لترتيبه ونظمه قوله جل ذكره الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا فإن الخفاء هنا جاء من جهة الترتيب بين لفظ قيما وما قبله ولو قيل أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا لكان أظهر أيضا
واعلم أن مقدمة هذا القسم فواتح السور المشهورة لأن التشابه والخفاء في المراد منها جاء من ناحية ألفاظها لا محالة
والقسم الثاني هو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء المعنى وحده مثاله كل ما جاء في القرآن الكريم وصفا لله تعالى أو لأهوال القيامة أو لنعيم الجنة وعذاب النار فإن العقل البشري لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات الخالق ولا بأهوال القيامة ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار وكيف السبيل إلى أن يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه وما يكن فينا مثله ولا جنسه
واعلم أن في مقدمة هذا القسم المشكلات المعروفة بمتشابهات الصفات فإن التشابه والخفاء لم يجيء ناحية غرابة في اللفظ أو اشتراك فيه بين عدة معان أو إيجاز أو إطناب مثلا فتعين أن يكون من ناحية المعنى وحده
القسم الثالث وهو ما كان التشابه فيه راجعا في اللفظ والمعنى معا له أمثلة كثيرة منها قوله عز اسمه وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها فإن من لا يعرف عادة العرب في الجاهلية لا يستطيع أن يفهم هذا النص الكريم على وجهه ورد أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته يدخل ويخرج منه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل قول الله وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون
فهذا الخفاء الذي في هذه الآية يرجع إلى اللفظ بسبب اختصاره ولو بسط لقيل وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة ويرجع الخفاء إلى المعنى أيضا لأن هذا النص على فرض بسطه كما رأيت لا بد معه من معرفة عادة العرب في الجاهلية وإلا لتعذر فهمه
قال الراغب في مفردات القرآن المتشابه بالجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومن جهة المعنى فقط ومن جهتهما فالأول ضربان أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة إما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون أو الاشتراك كاليد واليمين (2/201)
وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب ضرب لاختصار الكلام نحو وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم وضرب لبسطه نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع وضرب لنظم الكلام نحو الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا
والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة فإن تلك الأوصاف لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه
والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو فانكحوا ما طاب لكم من النساء والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إنما النسيء زيادة في الكفر فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية الخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشروط الصلاة والنكاح وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم اه
وهو كلام جيد غير أن في بعضه شيئا
أنواع المتشابهات
يمكننا أن ننوع المتشابهات على ضوء ما سبق ثلاثة أنواع
النوع الأول ما لا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله وحقائق صفاته وكالعلم بوقت القيامة ونحوه من الغيوب التي استأثر الله تعالى بها وعنده مفاتح الغيب لا يعملها إلا هو إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير
النوع الثاني ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من الإجمال والبسط والترتيب ونحوها مما سبق
النوع الثالث ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب الله (2/202)
قال الراغب المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة وضرب متردد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم وهو المشار إليه بقوله لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
هل في ذكر المتشابهات من حكمة
عرفنا أن المتشابهات أنواع ثلاثة ونزيدك هنا أن لهذه المتشابهات المتنوعة حكمة بل حكما في ذكر الشارع إياها
فالنوع الأول وهو ما استأثر الله بعلمه تلوح لنا فيه حكم خمس
أولاها رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء وإذا كان الجبل حين تجلى له ربه جعله دكا وخر موسى صعقا فكيف لو تجلى سبحانه بذاته وحقائق صفاته للإنسان ومن هذا القبيل أخفى الله على الناس معرفة الساعة رحمة بهم كيلا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها وكيلا يفتك بهم الخوف والهلع لو أدركوا بالتحديد شدة قربها منهم ولمثل هذا حجب الله عن العباد معرفة آجالهم ليعيشوا في بحبوحة من أعمارهم فسبحانه من إله حكيم رحمن رحيم
ثانيتها الابتلاء والاختبار أيؤمن البشر بالغيب ثقة بخبر الصادق أم لا فالذين اهتدوا يقولون آمنا وإن لم يعرفوا على التعيين والذين في قلوبهم زيع يكفرون به وهو الحق من ربهم ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة والخروج من الدين جملة
ثالثتها ما ذكره الفخر الرازي بقوله إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام وطبائع العوام تنبوا في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي محض فيقع في التعليل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه ويكون ذلك مخلوطا بما يدل على الحق الصريح فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه والقسم الثاني وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم اه وهذه الحكمة ظاهرة في متشابه الصفات
رابعتها إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما وأن الخلق جميعا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وهناك لا يخضع العبد ويخشع (2/203)
ويطامن من كبريائه ويخنع ويقول ما قالت الملائكة بالأمس سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
قال بعض العارفين العقل مبتلى باعتقاد أحقية المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره وقيل لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية والمتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها ولهذا ختم الآية يريد آية هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات بقوله وما يذكر إلا أولوا الألباب تعريضا للزائغين ومدحا للراسخين ويعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولي العقول ومن ثم قال الراسخون في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب فخضعوا لباريهم لاستنزال العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني اه
خامستها ما ذكره الفخر الرازي أيضا بقوله لو كان أي القرآن كله محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد وكان بصريحه مبطلا لجميع المذاهب المخالفة له وذلك منفر لأرباب المذاهب الأخرى عن النظر فيه أما وجود المتشابه والمحكم فيه فيطمع كل ذي مذهب أن يجد فيه كل ما يؤيد مذهبه فيضطر إلى النظر فيه وقد يتخلص المبطل عن باطله إذا أمعن فيه النظر فيصل إلى الحق
يضاف إلى هذه الحكم الخمس ما ذكرناه عند الكلام على فواتح السور ودفع الشبهات عنها بالجزء الأول من هذا الكتاب بالطبعة الثانية
وأما النوع الثاني والثالث من المتشابهات فتلوح لنا في ذكره واشتمال القرآن عليه حكم خمس أيضا
أولاها تحقيق إعجاز القرآن لأن كل ما استتبع فيه شيئا من الخفاء المؤدي إلى التشابه له مدخل عظيم في بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى في البيان ولو أخذنا في شرح هذا لضاق بنا المقام وخرجنا جملة من هذا الميدان إلى ميدان علوم البلاغة وما حوت من خواص وأسرار للإيجاز والإطناب والمساواة والتقديم والتأخير والذكر والحذف والحقيقة والمجاز ونحو ذلك
ثانيتها تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه (2/204)
المستلزمة للخفاء دال على معان كثيرة زائدة على ما يستفاد من أصل الكلام ولو عبر عن هذه المعاني الثانوية الكثيرة بألفاظ لخرج القرآن في مجلدات واسعة ضخمة يتعذر معها حفظه والمحافظة عليه قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
وكذلك يدرك القارئ لدقة القرآن وعلو أسلوبه روعة ولذة تغريه على قراءته وتشجعه على استظهاره وحفظه
ثالثتها ما ذكره الفخر الرازي بقوله متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب قال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين
رابعتها ما ذكره الفخر أيضا بقوله باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى تحصيل علوم كثيرة مثل اللغة والنحو وأصول الفقه مما يعينه على النظر والاستدلال فكان وجود المتشابه سببا في تحصيل علوم كثيرة
خامستها ما ذكره أيضا بقوله باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر الناظر فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية فيتخلص من ظلمة التقليد وفي ذلك تنويه بشأن العقل والتعويل عليه ولو كان كله محكما لما احتاج إلى الدلائل العقلية ولظل العقل مهملا اه
ملاحظة
يمكن اعتبار بعض هذه الحكم في النوع الأول كما يمكن اعتبار بعض حكم النوع الأول هنا لكن بشيء من التكليف ولقد راعينا ما يجب أن تراعيه من أن بعض هذه الحكم لا تتأتى إلا في أنواع خاصة من المتشابهات ولكن المجموع يتحقق في المجموع وذلك كاف في صحة هذا العرض فاكتف أنت به ولاحظه وبالله تعالى التوفيق
متشابه الصفات
عرفنا أن المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة ونزيدك هنا أن من بينها لونين كثر الكلام فيهما أولهما فواتح السور نحو آلم ق طس وما أشبهها وقد أفضنا القول فيها بالمبحث السابع من الجزء الأول من هذا الكتاب ثانيهما الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى وتسمى آيات الصفات أو متشابه الصفات ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد سماه رد المتشابهات إلى الآيات المحكمات مثل قوله سبحانه الرحمن على العرش استوى وما أشبهه وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل والقال وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين (2/205)
الرأي الرشيد في متشابه الصفات
علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها
فأول ما اتفقوا عليه صرفها عن ظواهرها المستحيلة واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته
ثانيه أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويدر طعن الطاعنين
ثالثه أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا وجب القول به إجماعا وذلك كقوله سبحانه وهو معكم أين ما كنتم فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب
المذهب الأول مذهب السلف ويسمى مذهب المفوضة بكسر الواو وتشديدها وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة ويستدلون على مذهبهم هذا بدليلين
أحدهما عقلي وهو أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجري على قوانين اللغة واستعمالات العرب وهي لا تفيد إلا الظن مع أن صفات الله من العقائد التي لا يكفي فيها الظن بل لا بد فيها من اليقين ولا سبيل إليه فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير
والدليل الثاني نقلي يعتمدون فيه على عدة أمور منها حديث عائشة السابق وفيه فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم
ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله يقول لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يعلم تأويله إلا الله الحديث
ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أبيه عن جده عن رسول الله قال إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا وما تشابه فآمنوا به (2/206)
ومنها ما أخرجه الدارمي عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ابن صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال له من أنت فقال أنا عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمى رأسه وجاء في رواية أخرى فضربه حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ثم عاد ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين اه والدبرة بفتحات ثلاثة هي قرحة الدابة في أصل الوضع اللغوي والمراد هنا أنه صير في ظهره من الضرب جرح داميا كأنه قرحة في دابة وB عمر فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها
ومنها ما ورد من أن الإمام مالكا رضي الله عنه سأل عن الاستواء في قوله سبحانه الرحمن على العرش استوى فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني يريد رحمة الله عليه أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله بالدليل القاطع والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه ولا سلطان لنا به والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين هذا المراد اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع المتشابهات وما جزاء المبتدع إلا أن يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم لأنه رجل سوء وذلك سر قوله وأظنك رجل سوء أخرجوه عني اه
قال ابن الصلاح على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها اه
المذهب الثاني مذهب الخلف ويسمى مذهب المؤولة بتشديد الواو وكسرها وهم (2/207)
فريقان فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين وينسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين فيحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة ويليق بالله عقلا وشعرا وينسب هذا الرأي إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين قال السيوطي وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال في الرسالة النظامية الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها اه
أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن مقام الإهمال الذي يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له وما دام في الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم فالنظر قاض بوجوبه انتفاعا بما ورد عن الحكيم العليم وتنزيها له عن أن يجري مجرى العجوز العقيم
المذهب الثالث مذهب المتوسطين وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال وتوسط ابن دقيق العيد فقال إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرها مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله فنحمله على حق الله وما يجب له اه
تطبيق وتمثيل
ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه الرحمن على العرش استوى فنقول يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على العرش وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيز مستحيل لأن الأدلة القاطعة تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه سواء أكان مكانا يحل فيه أم غيره وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله قطعا لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغنى عنهم فقال ليس كمثله شيء وقال هو الغني الحميد فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضا
ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم فرأى السلفيون أن يفوضوا تعيين معنى الاستواء إلى الله هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به ولا دليل عندهم على هذا التعيين ورأى الخلف أن يؤولوا لأنه يبعد كل ا لبعد أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون وما دام ميدان اللغة متسعا للتأويل وجب التأويل بيد أنهم افترقوا في هذا التأويل فرقتين فطائفة الأشاعرة يؤولون من غير تعيين ويقولون إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى (2/208)
متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين تسمى صفة الاستواء وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر من غير معاناة ولا تكلف لأن اللغة تتسع لهذا المعنى ومنه قول الشاعر العربي
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
أي استوى وقهر أو دبر وحكم فكذلك يكون معنى النص الكريم الرحمن استولى على عرش العالم وحكم العالم بقدرته ودبره بمشيئته وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل إن رآه قريبا ويتوقف إن رآه بعيدا
ومثل ذلك في نحو ويبقى وجه ربك ولتصنع على عيني يد الله فوق أيديهم والسموات مطويات بيمنه يخافون ربهم من فوقهم وجاء ربك وعنده مفاتح الغيب فالسلف يفوضون في معانيها تفويضا مطلقا بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة والأشاعرة يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي نعلمها ولكنهم يفوضون الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات ولفظ ولتصنع على عيني بتربية موسى ملحوظا بعناية الله وجميل رعايته ولفظ اليد بالقدرة ولفظ اليمين بالقوة والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي والمجيء في قوله وجاء ربك بمجيء أمره والعندية في قوله وعنده مفاتح الغيب بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك في الجميع
إرشاد وتحذير
لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان حتى باتت هذه الكلمات نفسها من المتشابهات ومن المؤسف أنهم يواجهون العامة وأشباههم بهذا ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون من ذلك قولهم إن الله تعالى يشار إليه بالإشارة الحسية وله من الجهات الست جهة الفوق ويقولون إنه استوى على عرشه بذاته استواء حقيقا بمعنى أنه استقر فوقه استقرارا حقيقيا غير أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف وهكذا يتناولون أمثال هذه الآية وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظواهر ولقد تجلى لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته ولقد علمت أن حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على حقيقتها ليس رأيا لأحد من المسلمين وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان الأخرى كاليهود والنصارى وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة أما نحن معاشر (2/209)
المسلمين فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلة القطعية التي توافرت على أنه تعالى ليس جسما ولا متحيزا ولا متجزئا ولا متركبا ولا محتاجا لأحد ولا إلى مكان ولا إلى زمان ولا نحو ذلك ولقد جاء القرآن بهذا في محكماته إذ يقول ليس كمثله شيء ويقول قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ويقول إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ويقول يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد وغير هذا كثير في الكتاب والسنة فكل ما جاء مخالفا بظاهره لتلك القطعيات والمحكمات فهو من المتشابهات التي لا يجوز اتباعها كما تبين لك فيما سلف
ثم إن هؤلاء المتحمسين في السلف متناقضون لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون إنه مستو غير مستو ومستقر فوق العرش غير مستقر أو متحيز غير متحيز وجسم غير جسم أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت فإن أرادوا بقولهم الاستواء على حقيقته أنه على حقيقته التي يعلمها الله ولا نعلمها نحن فقد اتفقنا لكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم لا يجوز أن يصدر من مؤمن خصوصا في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج لأن القول بأن اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللغة والاستواء في اللغة العربية يدل على ما هو مستحيل على الله في ظاهره فلا بد إذن من صرفه عن هذا الظاهر واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له خرج عن الحقيقة إلى المجاز لا محالة ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي ثم إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمة الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الاستواء وقد مر بك هذا وذاك (2/210)
لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة واكتفوا بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه ثم فوضوا الأمر في تعيين معانيها إلى الله وحده وبذلك يكونوه سلفيين حقا لكنها شبهات عرضت لهم في هذا المقام فشوشت حالهم وبلبلت أفكارهم فلنعرضها عليك مع ما أشبهها والله يتولى هدانا وهداهم ويجمعنا جميعا على ما يحبه ويرضاه آمين
دفع الشبهات الواردة في هذا المقام
الشبهة الأولى ودفعها
يقولون إن القول بأن الله لا جهة له وأنه ليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا ولا شمالا إلى غير ذلك يستلزم أن الله غير موجود أو هو قول بأن الله غير موجود فإن التجرد من الإنصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به إلا المعدوم ومن لم يتشرف بشرف الوجود
وندفع هذه الشبهة بأمور
أولها أن هذا قياس للغائب على الشاهد وقياس الغائب على الشاهد فاسد ذلك أن الله تعالى ليس يشبه خلقه حتى يكون حكمه كحكمهم في وجوب أن يكون له جهة من الجهات الست ما دام موجودا وكيف يقاس المجرد عن المادة بما هو مادي ثم كيف يستوي الخلق وخلقه في جريان أحكام الخلق على خالقه إن المادي هو الذي يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات وأن تكون له جهة من تلك الجهات أما عين المادي فترتفع عنه هذه الصفات كلها ولا يمكن أن تكون له أية جهة من هذه الجهات جميعها ونظير ذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له أحد الوصفين فإما جاهل وإما عالم أما الحجر فلا يتصف بواحد منها ألبتة فلا يقال إنه جاهل ولا إنه عالم بل العلم والجهل مرتفعان عنه بل هما ممتنعان عليه لا محالة لأن طبيعته تأبى قابليته لكليهما وهكذا تنتفي المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها أيا كانت هذه المتقابلات وأيا كان هذا المحل الذي ليس قابلا لها فيمتنع مثلا أن توصف الدار بأنها سمعية أو صماء وأن توصف الأرض بأنها متكلمة أو خرساء وأن توصف السماء بأنها متزوجة أو أيم وهلم جرا
ثانيا نقول لهؤلاء أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش والسماء والأرض وقبل أن يخلق الزمان والمكان وقبل أن تكون هناك جهات ست فإن قالوا لم يكن له جهة ولا مكان نقول قد اعترفتم بما نقول نحن به وهو الآن على ما عليه كان لا جهة له ولا مكان وإن زعموا أن العالم قديم بقدم فقد تداووا من داء بداء واستجاروا من (2/211)
الرمضاء بالنار ووجب أن ننتقل بهم إلى إثبات حدوث العالم والله هو ولي الهداية والتوفيق
ثالثا نقول لهؤلاء إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها فماذا تفعلون بمثل قوله تعالى ءأمنتم من في السماء مع قوله وهو الله في السموات وفي الأرض أتقولون إنه في السماء حقيقة أم في الأرض حقيقة أم فيهما معا حقيقة وإذا كان في الأرض وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة فوق وإذا كان فيهما معا حقيقة فلماذا يقال له جهة فوق ولا يقال له جهة تحت ولماذا يشار إليه فوق ولا يشار إليه تحت ثم ألا يعلمون أن الجهات أمور نسبية فما هو فوق بالنسبة إلينا يكون تحتا بالنسبة إلى غيرنا فأين يذهبون
رابعا نقول لهؤلاء ماذا تقولون في قوله تعالى يد الله فوق أيديهم بإفراد اليد مع قوله لما خلقت بيدي بتثنيتها ومع قوله والسماء بنيناها بأييد بجمعها فإذا كنتم تعلمون النصوص على ظواهرها حقيقة فأخبرونا أله يد واحدة بناء على الآية الأولى أم له يدان اثنتان بناء على الآية الثانية أما له أيد أكثر من اثنتين بناء على الآية الثالثة
خامسا نقول لهؤلاء قد ورد في الصحيح أن رسول الله قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري ومسلم وغيرهما فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف في البلاد باختلاف المشارق والمغارب وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولا حقيقيا في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما تقولون ومتى يكون في السماء حقيقة كما تقولون مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت من الأوقات ولا في ساعة من الساعات كما هو ثابت مسطور لا يمارى فيه إلا جهول مأفون
سادسا نقول لهؤلاء ما قاله حجة الإسلام الغزالي ونصه نقول للمتشبث بظواهر الألفاظ إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه فما أسمعنا نداءه فأي فائدة في نزوله ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا فلا بد أن يكون ظاهر النزول غير مراد وأن المراد به شيء آخر غير ظاهره وهل هذا إلا مثل من يريد وهو بالمشرق إسماع شخص في المغرب فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع نداءه فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وسعيه نحو المغرب عبثا صرفا لا فائدة فيه وكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل اه (2/212)
الشبهة الثانية ودفعها
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في حاشيته على العقائد العضدية فإن قلت إن كلام الله وكلام النبي مؤلف من الألفاظ العربية ومدلولاتها معلومة لدى أهل اللغة فيجب الأخذ بمدلول اللفظ كائنا ما كان
قلت حينئذ لا يكون ناجيا إلا طائفا المجسمة الظاهريون القائلون بوجوب الأخذ بجميع النصوص وترك طريق الاستدلال رأسا مع أنه لا يخفى ما في آراء هذه الطائفة من الضلال والإضلال مع سلوكهم طريقا ليس يفيد اليقين بوجه فإن للتخاطبات مناسبات ترد بمطابقتها فلا سبيل إلا الاستدلال العقلي وتأويل ما يفيد بظاهره نقصا إلى ما يفيد الكمال وإذا صح التأويل للبرهان في شيء صح في بقية الأشياء حيث لا فرق بين برهان وبرهان ولا لفظ ولفظ
وقال في قوله تعالى ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات إن الوحي من الله للنبي تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض ومن الغريب أنهم يقولون في الرد على هذا إن علو الله على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه لا حاجة لتأويله بعلو مرتبة الربوبية وليت شعري إذا لم نؤوله بعلو مرتبة الربوبية فماذا نريد منه وهل بقي بعد ذلك شيء غير العلو الحسي الذي يستلزم الجهة والتحيز ولا يمكن نفي ذلك اللازم عنه متى أردنا العلو الحسي فإن نفي التحيز عن العلو الحسي غير معقول ولا معنى للاستلزام إلا هذا أما هم فينفون اللوازم ولا أدري كيف ننفي اللوازم مع فرضها لوازم هذا خلف ولكن القول ليسوا أهل منطق والمتتبع لكلامهم يجد فيه العبارات الصريحة في إثبات الجهة لله تعالى وقد كفر العراقي وغيره مثبت الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له اه
الشبهة الثالثة ودفعها
نقل السيوطي عن بعضهم أنه قال إن قيل ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى قلنا إن كان أي المتشابه مما يمكن علمه فله فوائد منها الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب ومنها ظهور التفاضل وتفاوت الدرجات إذ لو كان كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره وإن كان أي المتشابه مما لا يمكن علمه أي بأن استأثر الله به فله فوائد منها ابتلاء العباد (2/213)
بالوقوف عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف اه على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم دل على أنه نزل من عند الله وأنه هو الذي أعجزهم عن الوقوف
ونسترعي نظرك هنا إلى ما أسلفناه في الحكم الماضية ثم إلى ما ذكره ابن اللبان في مقدمة كتابه رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات إذ قال ما خلاصته ليس في الوجود فاعل إلا الله وأفعال العباد منسوبة الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهي في الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياته مظهرين مظهر عبادي منسوب لعباده وهو الصور والجوارح الجثمانية ومظهر حقيقي منسوب إليه وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لأفهامهم والتأنيس لقلوبهم ولقد نبه في كتابه تعالى على القسمين وأنه منزه عن الجوارح في الحالين فنبه على الأول بقوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فهذا يفيد أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى ونبه على الثاني بقوله فيما أخبر عنه نبيه في صحيح مسلم ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وقد حقق الله ذلك لنبيه بقوله إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله وبقوله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبا إليه تعالى فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه ولا تجسيم ولكن الغرض من ذلك التقريب للأفهام والتأنيس للقلوب والواجب سلوكه إنما هو رد المتشابه إلى المحكم على القواعد اللغوية وعلى مواضعات العرب وعلى ما كان يفهمه الصحابة والتابعون من الكتاب والسنة اه ما أردنا نقله
الشبهة الرابعة ودفعها
نقل السيوطي أيضا عن الإمام فخر الدين الرازي أنه قال من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا والقدري يقول هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى عنهم ذلك في معرض الذم في قوله وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر (2/214)
وفي موضع آخر وقالوا قلوبنا غلف ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى لا تدركه الأبصار ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم الرحمن على العرش استوى والثاني متمسك بقوله تعالى ليس كمثله شيء ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة متشابهة وإنما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا
والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها أنه يوجب مزيد المشقة في الوصول إلى المراد وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب إلى آخر ما نقلناه عنه فيما سبق من بيان حكم الله وأسراره في ذكر المتشابهات فاجعلها على بال منك في رفع هذه الشبهة وأضف إليها ما نقلنا آنفا عن ابن اللبان وما بسطناه في دفع الشبهات السالفة وارجع إلى ما كتبناه في مثل هذا المقام بالمبحث السابع من هذا الكتاب
الشبهة الخامسة ودفعها
قال السيوطي في كتابه الإتقان أورد بعضهم سؤالا وهو أنه هل للمحكم مزية على المتشابه أو لا فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع وإلا فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء وإنه منزل بالحكمة
وأجاب أبو عبد الله النكرباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه ويخالفه من وجه فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع وأنه لا يختار القبيح ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال والمتشابه يحتاج إلى فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق ولأن المحكم أصل والعلم بالأصل أسبق ولأن المحكم يعلم مفصلا والمتشابه لا يعلم إلا مجملا اه
أقول ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب وهو أن المحكم له مزية على المتشابه لأنه بنص القرآن هو أم الكتاب على ما سلف بيانه والاعتراض بأن هذا ينقض الأصل المجمع عليه وهو أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه منزل بالحكمة الاعتراض بهذا ساقط من أساسه لأن المساواة بين كلام الله إنما هي في خصائص القرآن العامة ككونه منزلا على النبي بالحق وبالحكمة وكونه متعبدا بتلاوته ومتحدي بأقصر سورة منه ومكتوبا في المصاحف ومنقولا بالتواتر ومحرما حمله ومسه على الجنب ونحو ذلك والمساواة في هذه الخصائص لا تنافي ذلك الامتياز الذي امتازت به المحكمات وكيف يتصور التنافي (2/215)
على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له حكمه وله مزاياه فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات ومزية المتشابه أنه محك الاختبار والابتلاء ومجال التسابق والاجتهاد إلى غير ذلك من الفوائد التي عرفتها ثم كيف يتصور هذا التنافي والقرآن كله مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله فمنه عقائد وأحكام وأوامر ونواه وعبادات وقصص وتنبؤات ووعد ووعيد وناسخ ومنسوخ وهلم مما يستنفد ذكره وقتا طويلا ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته أو خاصته التي غاير بها الآخر وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنها كلها أجزاء للقرآن متساوية في القرآنية وخصائصها العامة وخلاصة هذا الجواب أن اميتاز المحكم على المتشابه في أمور ومساواته إياه في أمور أخرى فلا تناقض ولا تعارض كما أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته وخاصته التي صار بها عضوا والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للإنسان في خصائصه العامة من حسن وحياة
الشبهة السادسة ودفعها
يقولون إن الناظر في موقف السلف والخلف من المتشابه يجزم بأنهم جميعا مؤولون لأنهم اشتركوا في صرف ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها وصرفها عن ظواهرها تأويل لها لا محالة وإذا كانوا جميعا مؤولين فقد وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه وهو اتباع المتشابهات بالتأويل إذ وصف سبحانه هؤلاء بأن في قلوبهم زيغا فقال في الآية السابقة فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وندفع هذه الشبهة أولا بأن القول بكون السلف والخلف مجمعين على تأويل المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي أو ما يقرب من المعنى اللغوي أما بحسب الاصطلاح السائد فلا لأن السلف وإن وافقوا الخلف في التأويل فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه عن ظاهره وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين أما الخلف فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين كما سبق تفصيله
ثانيا أن القول بأن السلف واخلف جميعا وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى الله عنه قول خاطئ واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد لأن النهي فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ واتباع الهوى بقرينة قوله سبحانه وأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الاستقامة والحجة إلى الهوى والشهوة أما التأويل القائم على تحكيم البراهين القاطعة واتباع الهداية الراشدة فليس من هذا القبيل الذي حظره الله وحرمه وكيف ينهانا عنه وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب رد المتشابهات إلى المحكمات إذ جعل هذه (2/216)
المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق بيانه ثم كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما وقد دعا به الرسول لابن عباس فقال في الحديث المشهور اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
ويتلخص من هذا أن الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل وهو ما يكون به رد المتشابهات إلى المحكمات ثم نهانا عن نوع آخر منه وهو ما كان ناشئا عن الهوى والشهوة لا على البرهان والحجة قصدا إلى الضلال والفتنة وهما لونان مختلفان وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان
وإذن فمن لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل كالظاهرية والمشبهة ومن فسر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة والبرهان قائما على الزيغ والبهتان فقد ضل أيضا كالباطنية والإسماعيلية وكل هؤلاء يقال فيهم إنهم متبعون للمتشابه ابتغاء الفتنة أما من يؤول المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردا لهم إلى محكمات الكتاب القائمة وأعلامه الواضحة فأولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج سلف الأمة وخلفها وأئمتها وعلماؤها روي عن البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس إنني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ما هو قال فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقال وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وقال ولا يكتمون الله حديثا وقال قالوا والله ربنا ما كنا مشركين قال ابن عباس فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ولا يتساؤلون ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون فأما قوله والله ربنا ما كنا مشركين فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا إلى آخر الحديث نسأل الله أن يسلمنا وأن يهدينا سواء الصراط وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آهل وصحبه وسلم آمين
المبحث السادس عشر
في أسلوب القرآن الكريم
الأسلوب في اللغة
يطلق الأسلوب في لغة العرب إطلاقات مختلفة فيقال للطريق بين الأشجار وللفن وللوجه وللمذهب وللشموخ بالانف ولعنق الأسد ويقال لطريقة المتكلم في (2/217)
كلامه أيضا وأنسب هذه المعاني بالاصطلاح الآتي هو المعنى الأخير أو هو الفن أو المذهب لكن مع التقييد
الأسلوب في الاصطلاح
تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه او هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك
معنى أسلوب القرآن
وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر تتعدد بتعدد أشخاصهم بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها والفنون التي يعالجها
الأسلوب غير المفردات والتراكيب
ونلفت نظرك إلى أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام وإنما هو الطريقة التي انتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه
وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة وهذا هو السر أيضا في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة بل جاء كتابا عربيا جاريا على مألوف العرب من هذه الناحية فمن حروفهم تألفت كلماته ومن كلماتهم تألفت تراكيبه وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها وتنافسوا في حلبتها وبلغوا الشأو الأعلى فيها نقول إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ومذهبه الكلامي المعجز ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية فقال جل ذكره في سورة يوسف إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون (2/218)
وقال في سورة الزخرف إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون وقال في سورة الزمر قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون
مثال لهذا الفارق
وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا نمثل للفرق ين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه في صنعته وضعيف وبارع في حرفته وهذا الاختلاف لم يجيء من ناحية مواد الثياب المخيطة ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التي تستخدم في الخياطة إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التي اتبعت في اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة في شكلها وهندستها وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا وبراعة وقصورا لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ولا من حيث القواعد الفنية العامة في تركيبها بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ودقة تطبيق هذه القواعد في تحضير العقاقير والأدوية حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه يختلف بوضوح عن مزاج الرديء منها وأثره وضرره وقل مثل هذا في كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة في الجميع لذالكم البيان اللغوي في أية لغة ما هو إلا صناعة موادها وقواعدها واحدة في المفردات والتراكيب ولكن البيان يختلف بعد ذلك باختلاف الطرائق والأساليب وإن شئت فقل يختلف باختلاف الأذواق والمواهب التي انتقت هذه المفردات اللغوية واصطفت تلك الجمل التركيبية حتى إنك لترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد بوجوه مختلفة من المفردات ومذاهب شتى من التراكيب يتفاوت حظها من الجودة والرداءة ومن الحسن والدمامة ومن القبول والرد بمقدار ما بينهم من اختلاف في طرائق اختيارهم لما اختاروه من مواد اللغة إفرادا وتركيبا ولما لاحظوه من المناسبات مع هذا الاختيار فإذا سلم ذوق المتكلم وسمت حاسته البيانية حسن اختياره وسما كلامه سموا قد يأخذ عليك حسك ويملك قلبك ولبك وإذا فسد ذوق المتكلم وانحطت حاسته البيانية ساء اختياره ونزل كلامه نزولا قد تتقزز منه نفسك ويتأذى به سمعك وربما فررت منه وأنت تتمثل بقول الشاعر
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
بيان ذلك في اللغة العربية
بيان ذلك في لغتنا المحبوبة العربية أن مفرداتها منها متآلف في حروفه ومتنافر (2/219)
وواضح مستأنس وخفي غريب ورقيق خفيف على الأسماع وثقيل كرية تمجه الأسماع وموافق لقياس اللغة ومخالف له ثم من هذه المفردات عام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين ومعرف ومنكر وظاهر ومضمر وحقيقة ومجاز وكذلك التراكيب العربية منها ما هو حقيقة ومجاز ومنها متآلف الكلمات ومتنافرها وواضح المعاني ومعقدها وموافق للقياس اللغوي والخارج عليه ومنها الاسمية والفعلية والخبرية والإنشائية وفيها النفي والإثبات والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والفصل والوصل إلى غير ذلك مما هو مفصل في علوم اللغة وكتبها
ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها هو المسلك العام الذي ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم ولكن ليس شيء من هذه المتنوعات بالذي يحسن استعماله إطلاقا ولا شيء منها بالذي يسوء استعماله إطلاقا أي في كافة الأحوال وجميع المقامات بل لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة
ولعلمائنا أكرمهم الله أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة مكان حرف أو كلمة ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 412ه في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ كلوا من قوله سبحانه في سورة البقرة وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ كلوا أيضا لكن من قوله سبحانه في سورة الأعراف وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء ومنه وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا فإن وجود الأكل متعلق بالدخول والدخول موصل إلى الأكل فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف (2/220)
وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا لأن السكنى مقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه مجتازا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء اه
تفاوت القوى والقدر
ولا ريب أن القوى والقدر تتفاوت تفاوتا بعيدا فيما نعرف من الأحوال ومناسباتها وأن ميدان الاختيار فسيح مليء بشتى الألوان والصور للمفردات ومركباتها فماذا عسى أن تبلغ قدرة الإنسان في استعراض كل هذه الألوان والصور وفي إقامة ميزان دقيق بينها تمهيدا لحسن الاختيار على ضوء تلك الأحوال المقتضية لما ينبغي أن يكون منها هنا ينفسح المجال ثم ينفسح فما يهتدي إليه متكلم قد يغفل عنه متكلم وما يتيقظ له كاتب قد يغفل عنه كاتب وما يدركه شاعر قد يفوت شاعرا آخر بل ما يدركه الإنسان الواحد في موضع قد يخطئه في موضع سواه وهكذا
وليس من غرضنا هنا أن نستقصي الأحوال والمناسبات ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لكل حال وما يناسبها فلذلك محله من علوم اللغة وكتبها كما قلنا ولكن الذي نريد أن نضع يدك عليه في هذا المقام هو أن أسلوب أي كلام بليغ معناه صورته الفنية أو طابعه الخاص أو مزاجه الشخصي الذي تهيأ له برعاية صاحبه لجملة الأحوال ومناسباتها في هذا الكلام وأنه على حسب ما تحتوي أساليب الكلام من الأحوال والمناسبات يتفاوت هذا الكلام في درجات البلاغة علوا ونزولا وفي حظه عند السامعين ردا وقبولا وأنه لم يظفر الوجود بكلام إلهي ولا بشري بلغ الطرف الأعلى في البلاغة ووصل إلى قمة الإعجاز من هذه الناحية غير القرآن الكريم لأن منشئ هذا الكتاب هو وحده الذي تعلقت إرادته بأن تكون معجزة نبي الإسلام من هذا الطراز لحكمة شرحناها وقد تعرض لها فيما يأتي ولأنه سبحانه هو الذي انتهت إليه الإحاطة بجميع أحوال الخلق وحده ولأنه عز سلطانه هو القادر وحده على تضمين كلامه كل المناسبات التي اقتضتها تلك الأحوال الكثيرة التي لم يحط ولن يحيط بها سواه ومن الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وفيها الخفي الذي لا يعلمه من يعلم السر وأخفي ثم من ذا الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وهم أجيال متعددة منهم من لم يخلقوا وقت نزول القرآن ومنهم من لم يعرفوا لنا إلى الآن بعد بضعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن وأنت خبير بأن القرآن هو كتاب الساعة الذي يخاطب الأجيال كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها فلا غرو أن يضمنه منزله كل ما تحتاج إليه الأمم على اختلاف أجيالها من المناسبات الملائمة لأحوالهم وليس ذلك في قدرة أحد إلا العليم بأسرار الخلق وخفيات السموات والأرض (2/221)
قل أنزله الذي يعلم السر في السموت والأرض
تنزيلا ممن خلق الأرض والسموت العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموت وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى
ومن شواهد ما نذكر أننا نلاحظ في كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار وذلك في الألفاظ التي نمر بها على القرون والأجيال منذ نزل القرآن إلى اليوم فإذا بعض الأجيال يفهم منها ما يناسب تفكيره ويلائم ذوقه ويوائم معارفه وإذا أجيال أخرى تفهم من هذه الألفاظ عينها غير ما فهمته تلك الأجيال ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة وكان ذلك قدحا في أنه كتاب الدين العام الخالد ودستور البشرية في كل عصر ومصر فسبحان من أنزل هذا القرآن مشبعا لحاجات الجميع وافيا تجارب الجميع ملائما لأذواق الجميع متفقا ومعارف الجميع مما يدل دلالة واضحة على أنه كلام الله وحده أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
ولعل لنا عودة لمثل هذا الكلام في فرصة أخرى فلنمسك القلم عن الجولان في هذا الميدان ولنرجع عودا على بدء إلى أسلوب القرآن ولنذكر شيئا من خصائص أسلوب القرآن ومزاياه التي انفرد بها وكانت هي السر في إعجازه اللغوي أو البلاغي أو الأسلوبي
خصائص أسلوب القرآن
إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته أفاض العلماء فيها بين مقل ومكثر ولكنهم بعد أن طال بهم المطاف وبعد أن دميت أقدامهم وحفيت أقلامهم لم يزيدوا على أن قدموا إلينا قلا من كثره وقطرة من بحر معترفين بأنهم عجزوا عن الوفاء وأن ما خفي عليهم فلم يذكروه أكثر مما ظهر لهم فذكروه وأنهم لم يزيدوا على أن قربوا لنا البعيد بضرب من التمثيل رجاء الإيضاح والتبيين أما الاستقصاء والإحاطة بمزايا الأسلوب القرآني وخصائصه على وجه الاستيعاب فأمر استأثر به منزله الذي عنده علم الكتاب
وإذن فلنذكر نحن بدورنا شيئا من خصائص أسلوب القرآن على وجه التمثيل والتقريب أيضا وما لا يدرك كله لا يترك أقله
الخاصة الأولى
مسحة القرآن اللفظية فإنها مسحة خلابة عجيبة تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي (2/222)
ونريد بنظام القرآن الصوتي اتساق القرآن وائتلافه في حركاته وسكناته ومداته وغناته واتصالاته وسكتاته اتساقا عجيبا وائتلافا رائعا يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية وهي مرسلة على وجه السذاجة في الهواء مجردة من هيكل الحروف والكلمات كأن يكون السامع بعيدا عن القارئ المجود بحيث لا تبلغ إلى سمعه الحروف والكلمات متميزا بعضها عن بعض بل يبلغه مجرد الأصوات الساذجة المؤلفة من المدات والغنات والحركات والسكنات والاتصالات والسكتات نقول إن من ألقى سمعه إلى هذه المجموعة الصوتية الساذجة يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها والطبع أن يمجها ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل لأنه يتنقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة
وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام سواء أكان مرسلا أم مسجوعا حتى خيل إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا حتى قال قائلهم وهو الوليد بن المغيرة وما هو بالشعر معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيدة بيد انه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر لأنه اخذ من النثر جلاله وروعته ومن النظم جماله ومتعته ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية بين إطلاق النثر وإرساله وتقييد الشعر وأوزانه ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء وما هو بالشعر ولا بالسحر لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه والقرآن ليس منه ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس (2/223)
خبيثة ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه وقد نشأ فيه وشب وشاب بينهم هذا إلى أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة لا محل فيها إلى خبث ورجس بل هي تحارب السحر وخبثه ورجسه وتسمه بأنه كفر إذ قال ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببال هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر
ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل فليس بمعجز ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتي في يوم من الأيام بمثل هذا الذي جاء به القرآن
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله بكسر القاف وفتح الباء قال الوليد لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره قال وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال أبو جهل للوليد لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال الوليد دعني أفكر فلما فكر قال هذا سحر يأثره عن غيره وفي ذلك نزل قوله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري فانظر إلى الرجل حين أرسل نفسه على سجيتها العربية وبديهتها الفطرية كيف أنصف في حكمه حين تجرد ساعة من عناده وكفره وقال والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا إلى أن قال وإنه ليحطم ما تحته ثم انظر إلى الرجل حين غلبت عليه شقوته وعاوده عناده وتعصبه كيف قاوم فطرته وأكره نفسه على مخالفة شعوره ووجدانه وقال ما قال بعد أن حار وذهب كل مذهب في ضلاله وحيرته على نحو ما يصور القرآن تلك الحيرة والمقاومة والاستكراه بقوله إنه فكر وقدر الخ نسأل الله الحماية والهداية بمنه وكرمه آمين
ونريد بجمال القرآن اللغوي تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم وبيان ذلك (2/224)
أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه
ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي وذاك النظام الصوتي أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى وذلك أن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفي آذانهم ويعرف بذاته ومزاياه بينهم فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله مصداقا لقوله سبحانه إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
الخاصة الثانية
إرضاؤه العامة والخاصة ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قرئ عليهم أحسوا جللاه وذاقوا حلاوته وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام لا في إشراق ديباجته ولا في امتلائه وثروته ولا كذلك كلام البشر فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة لم يرض العامة لأنهم لا يفهمونه وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة لم يرض الخاصة لنزوله إلى مستوى ليس فيه متاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم
الخاصة الثالثة
إرضاؤه العقل والعاطفة ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا ويجمع الحق والجمال معا انظر إليه مثلا وهو في معمعان الاستدلال العقلي على البعث (2/225)
والإعادة في مواجهة منكريهما كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا ويمتع العاطفة إمتاعا بما جاء في طي هذه الأدلة المسكتة المقنعة إذ قال الله سبحانه في سورة فصلت ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحى الموتي إنه على كل شيء قدير وإذا قال في سورة ق أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددنها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج تأمل في الأسلوب البارع الذي أقنع العقل وأمتع العاطفة في آن واحد حتى في الجملة التي هي بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل إذ قال في الآية الأولى إن الذي أحياها لمحي الموتى وفي الآيات الأخيرة كذلك الخروج يا للجمال الساحر ويا للإعجاز الباهر الذي يستقبل عقل الإنسان وقلبه معا بأنصع الأدلة وأمتع المعروضات في هذه الكلمات المعدودات
ثم انظر إلى القرآن وهو يسوق قصة يوسف مثلا كيف يأتي في خلالها بالعظات البالغة ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة إذ قال في فصل من فصول تلك الرواية الرائعة وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون فتأمل في هذه الآية كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاث بدواعي العفاف الثلاث مقابلة صورت من القصص الممتع جدالا عنيفا بين جند الرحمن وجند الشيطان ووضعتها أمام العقل المنصف في كفتي ميزان وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ويوجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان
وهل تسعد بمثل هذا في كلام البشر لا ثم لا بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما أسلوب علمي وأسلوب أدبي فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعري ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمي ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة وعلى فرض تكافئها في شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدع والمناوبة فكلام الشخص إما وليد فكرة وإما وليد (2/226)
عاطفة وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية تكون ثمرة للتفكير ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور أما إن تأتي كل جملة من جملة جامعة للغايتين معا فدون ذلك صعود السماء وكيف يتسنى ذلك للإنسان وهو لم يوهب القوتين متكافئتين ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا في آن واحد متقارنتين ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه أما القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام لأنه تنزيل من القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن والذي جمع بين الروح والجسد في قران فتبارك الله رب العالمين
الخاصة الرابعة
جودة سبك القرآن وإحكام سرده ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجملة وآياته وسورة مبلغا لا يداينه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد وآية ذلك أنك إذا تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة فبين كلمات الجملة السورة الواحدة من والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين حمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعانقة الآيات وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوي الخلق حسن السمت قرءانا عربيا غير ذي عوج فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار على حين أنها مؤلفة من حلقات لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ذات أجزاء ولكل جزء موضع خاص من الحلقة ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة وحدة بديعة متآلفة تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها
يعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه من غير تفكك ولا تخاذل ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات فنحيلك عليها ونكتفي بمثل واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار (2/227)
هذه سورة الفاتحة تأمل كيف تترابط وتتناسق في حسن تخلص من معنى إلى معنى ومن مقصد إلى مقصد لقد افتتحت متوجة باسم الله كما يتوج القاضي كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك لإعلان الجهة التي يستمد منها نفوذه في صدور أحكامه ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هي به تعالى وحده وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال وبوصف لفظ الجلالة بأنه الرحمن الرحيم ثم انتقل الكلام إلى إعلان أنه تعالى مستحق للمحامد كلها ما دام أنه المستعان وحده بالدليل ثم انتقل الكلام إلى تدعيم هذا الاستحقاق بأدلة ثلاثة جرت على اسم الجلالة مجرى الأوصاف في مقام حمده الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم انتقل الكلام إلى إعلان وحدانيته في ألوهيته وربوبيته إياك نعبد وإياك نستعين ما دام أنه هو المعين وحده ومستحق المحامد كلها وحده ثم انتقل الكلام في براعة إلى بيان المطمح الأعلى للإنسان وأن هذا المطمح الأعلى هو الهداية إلى الصراط المستقيم وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذا المطمح عن طريق أحد إلا عن طريق الله وحده بقرينة ما سبق من أدلة التوحيد والتمجيد قبله اهدنا الصراط المستقيم ثم انتقل الكلام من حيث لا تشعر أو من حيث تشعر إلى تقسيم الخلق بالنسبة إلى هذه الهداية ثلاثة أقسام تنبيها وإغراء على المقصود وتحذيرا وتنفيرا من الوقوع في نقيض هذا المقصود صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وإذا الناس أمام عينيك بين منعم عليه بمعرفة الحق واتباعه ومغضوب عليه بمخالفة الحق مع العلم به وضال رضي أن يعيش عيشة الأنعام في متاهة الجهالة والحيرة والضلال لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحق ليتشرف بمعرفته ويسعد باتباعه ثم تنظر في سورة البقرة فإذا هي وما بعدها ترتبط بالفاتحة ارتباط المفصل بالمجمل فالهداية إلى الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تشرحها سور البقرة وما وليها من سورة القرآن حيث جاءتنا بتفاصيل هذه الهداية في بيان كامل وعرض شامل
أما بعد فقد يظن بعض الجهلة أن هذه الوحدة الفنية البيانية في القرآن أمر تافه هين لا يسمو إلى حد التنويه به فضلا عن أن ينظم في عداد ما هو مناط للإعجاز ولأجل الرد على هؤلاء نطلب منهم أن ينظروا نظرة فاحصة في كلام البلغاء وحملة الأقلام فإن لم يكن عندهم نظر ولا ذوق فليستمعوا إلى حكم نقدة البيان وصيارفته عليهم بأنهم كثيرا ما يخطئون في تنظيم أغراضهم إذا قالوا بل يأتون بها شتيتا مفككا غير متماسك ولا متجاذب مما يعاب الشعراء من أجله بسوء التخلص حين ينتقلون من غرض إلى غرض في (2/228)
القصيدة الواحدة ومما يضطر الكاتب والعلماء والمؤلفين إلى تلافي هذا النقص بما يستخدمون في تنقلاتهم بين أغراضهم من أسماء الإشارة وأدوات التنبيه والحديث عن النفس وكثرة التقسيم والترقيم والتبويب والعنونة ولفظ أما بعد نحو هذا وان ألا وإن قلنا كذا ونقول كذا ينقسم الكتاب إلى مباحث المبحث الأول في كذا الخ ينقسم هذا المبحث إلى نقاط أولها كذا الخ ملاحظة تنبيه فذلكة أما بعد الخ
هذا في كلام البشر أما كلام مالك القوى والقدر فإنه على تنوع أغراضه وطول نفسه في سوره وآياته ينتقل من مقصد إلى مقصد وينقلك أنت معه بين هذه المقاصد غير مستعين بوسائل العجز المذكورة بل بطريقة سحرية قد تشعر بها وقد لا تشعر وحسبك أن تنظر في المثال الآنف الذي قدمناه لك في سورة الفاتحة وحبذا أن تنظر في أطول سور القرآن وهي سورة البقرة فإنك ستطرب وتعجب وسيذهب بك الطرب والعجب إلى حد الذوق البالغ لهذا اللون من الإعجاز القاهر وأدلك على كتاب النبأ العظيم فقد أجاد في بيان هذا اللون وأبدع وأشبع العقول والقلوب وأمتع بما عرض من التناسب والترابط بين آحاد هذه السورة
الخاصة الخامسة
براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرق مختلفة بمقدرة فائقة خارقة تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء ولسنا هنا بسبيل الاستيعاب والاستقراء ولكنها أمثلة تهديك ونماذج تكفيك
منها تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين بالوجوه الآتية
الإتيان بصريح مادة الأمر نحو قوله سبحانه إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلى أهلها
والأخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين نحو كتب عليكم الصيام
والإخبار بكونه على الناس نحو ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
والإخبار عن المكلفين بالفعل المطلوب منه نحو والمطلقت يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء أي مطلوب منهن أن يتربصن (2/229)
والإخبار عن المبتدأ بمعنى يطلب تحقيقه من غيره نحو ومن دخله كان آمنا أي مطلوب من المخاطبين تأمين دخل الحرم
وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر نحو حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أو بلام الأمر نحو ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليوفوا بالبيت العتيق
والإخبار عن الفعل بأنه خير ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير
ووصف الفعل وصفا عنوانيا بأنه بر نحو ولكن البر من اتقى
ووصف الفعل بالفريضة نحو قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم أي من بذل المهور والنفقة
وترتيب الوعد والثواب على الفعل نحو من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون
وترتيب الفعل على شرط قبله نحو فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى
وإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام نحو أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون أي تذكروا
وإيقاع الفعل عقب ترج نحو ولعلكم تشكرون
وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل نحو ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
ومنها تعبيره عن النهي بالوسائل الآتية
الإتيان في جانب الفعل بمادة الفعل بمادة النهي نحو إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم
والإتيان في جانبه بمادة التحريم نحو إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
ونفي الحل عنه نحو لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها
والنهي عنه بلفظ لا نحو ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن (2/230)
ووصفه بأنه ليس برا نحو وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها
ووصفه بأنه شر نحو ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم
وذكر الفعل مقرونا بالوعيد نحو والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم الخ
وذكر الفعل منسوبا إليه الإثم نحو فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه
ونظم الأمر في سلك ما هو بالغ الإثم والحرمة والإخبار عن الفعل بأنه رجس ووصفه بأنه من عمل الشيطان والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه وترتيب مضار مؤذية على فعله والأمر بالانتهاء عنه في صورة الاستفهام ونمثل لهذه الطرق كلها بتحريم الخمر والميسر في قوله سبحانه يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
ومنها تعبيره عن إباحة الفعل بالطرق الآتية
التصريح في جانبه بمادة الحل نحو حلت لكم بهيمة الأنعام
والأمر به مع قرينه صارفة عن الطلب نحو وكلوا واشربوا
ونفي الإثم عن الفعل نحو فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه
ونفي الحرج عنه نحو ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج أي في ترك القتال أو في الأكل من البيوت (2/231)
ونفي الجناح عنه في غير ما ادعى فيه الحرمة نحو ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الخ أما ما ادعى فيه الحرمة فإن نفى الجناح عنه يصدق بوجوبه نحو فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما
وإنكار تحريمه في صورة استفهام نحو قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق
والامتنان بالشي ووصفه بأنه رزق حسن نحو ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا
وهكذا تجد القرآن يفتن في أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة بين إنشاء وإخبار وإظهار وإضمار وتكلم وغيبة وخطاب ومضي وحضور واستقبال واسمية وفعليه واستفهام وامتنان ووصف ووعد ووعيد إلى غير ذلك ومن عجب أنه في تحويله الكلام من نمط إلى نمط كثيرا ما تجده سريعا لا يجاري في سرعته ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشي مكبا على وجهه مضطربا أو متعثرا بل هو محتفظ دائما بمكانته العليا من البلاغة يمشي سويا على صراط مستقيم
ولقد خلع هذا التصرف والافتنان لباسا فضفاضا من الجدة والروعة على القرآن ومسحه بطابع من الحلاوة والطلاوة حتى لا يمل قارئه ولا يسأم سامعه مهما كثرت القراءة والسماع بل ينتقل كل منهما من لون إلى لون كما ينتقل الطائر في روضة غناء من فنن إلى فنن ومن زهر إلى زهر
واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى وكان في الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه اقرأ إن شئت قوله سبحانه في سورة الإسراء ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقوله سبحانه في سورة الكهف ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وقوله سبحانه في سورة الرعد كذلك يضرب الله الأمثال
الخاصة السادسة
جمع القرآن بين الإجمال والبيان مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان في كلام (2/232)
واحد للناس بل كلامهم إما مجمل وإما مبين لأن الكلمة إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان وإما خفية المعنى تحتاج إلى بيان ولكن القرآن وحده هو الذي انحرقت له العادة فتسمع الجملة منه وإذا هي بينة مجملة في آن واحد أما أنها بينة أو مبينة بتشديد الياء وفتحها فلأنها واضحة المغزى وضوحا يريح النفس من عناء التنقيب والبحث لأول وهلة فإذا أمنعت النظر فيها لاحت منها معان جديدة كلها صحيح أو محتمل لأن يكون صحيحا وكلما أمنعت فيها النظر زادتك من المعارف والأسرار بقدر ما تصيب أنت من النظر وما تحمل من الاستعداد على حد قول القائل
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
ولهذا السر وسع كتاب الله جميع أصحاب المذهب الحضر من أبناء البشر ووجد أصحاب هذه المذاهب المختلفة والمشارب المتباينة شقاء أنفسهم وعقولهم فيه وأخذت الأجيال المتعاقبة من مدده الفياض ما جعلهم يجتمعون عليه ويدينون به ولا كذلك البشر في كلامهم فإنهم إذا قصدوا إلى توضيح أغراضهم ضاقت ألفاظهم ولم تتسع لاستنباط وتأويل وإذا قصدوا إلى إجمالها لم يتضح ما أرادوه وربما التحق عندئذ بالألغاز وما لا يفيد
والأمر في هذه الخاصة ظاهر غني بظهوره عن التمثيل وحسبك أن ترجع إلى كتب التفسير ففيها من ذلك الشيء الكثير ولا ينبئك مثل خبير
الخاصة السابعة
قصد القرآن في اللفظ مع وفائه بالمعنى ومعنى هذا إنك في كل من جمل القرآن تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية دون أن يزيد اللفظ على المعنى أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير تجده قد جلى لك المعنى في صورة كاملة لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها بل هو كما قال الله كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
ولا يمكن أن تظفر في غير القرآن بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن بل كل منطيق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان تجده بين هاتين الغايتين كالزوج بين ضرتين بمقدار (2/233)
ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه حمله ذلك في الغالب على أن يغض من شأن المعنى فتجيء صورته ناقصة خفية ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة حمله ذلك على أن يخرج عن حد القصد في اللفظ راكبا متن الإسهاب والإكثار حرصا على أن يفوته شيء من المعنى الذي يقصده ولكن ينذر حينئذ أن يسلم هذا اللفظ من داء التخمة في إسرافه وفضوله تلك التخمة التي تذهب ببهائه ورونقه وتجعل السامع يتعثر في ذيوله لا يكاد يميز بين زوائد المعنى وأصوله
وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين وهما القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى في جملة أو جملتين من كلامه فإن الكلال والإعياء لا بد لاحقا به في بقية هذا الكلام وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا في الفينة بعد الفينة كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس في الحين بعد الحين وهو يبحث في التراب أو ينقب بين الصخور
وإن كنت في شك فسائل أئمة البيان وصيارفته هل ظفرتم بقطعة من النثر أو بقصيدة من الشعر كانت كلها أو أكثرها جامعا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب
وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددا ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر وقارن بين الجملتين ووازن بين الكلامين وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد اه وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا حتى كلام رسول الله الذي أوتي جوامع الكلم وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي وصيغ على أكمل ما خلق الله فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن وسبحان الله وبحمده سبحانه الله العظيم (2/234)
تعليق وتمثيل
يحلو لي أن أسوق إليك هنا كلمة قيمة فيها تعليق وتمثيل لما نحن بصدده وهي لصديقنا العلامة الجليل الشيخ محمد عبد الله دارز في كتابه النبأ العظيم الذي اقتبسنا منه فيما يتصل بإعجاز القرآن كثيرا
قلنا إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني أجل تلك ظاهرة بارزة فيه كله يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب ولذلك نسميه إيجازا كله لأننا نراه في كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما ونرى أن مراميه في كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلي بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى
دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها مقحمة وفي بعض حروفة إنها زائدة زيادة معنوية ودع عنك قول الذي يستخف كلمة التأكيد فيرمي بها في كل موطن يظن فيها الزيادة لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به أجل دع عنك هذا وذاك فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل مستورا أو مكشوفا بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف قل الله أعلم بأسرار كلامه ولا علم لنا إلا بتعليمه ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار قائلا أين أنا من فلان وفلان كلا فرق صغير مفضول قد فظن إلى ما يفطن له الكبير الفاضل ألا ترى إلى قصة عمر في الأحجية المشهورة فجد في الطلب وقل رب زدني علما فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عمي على غيرك والله ولي الذين آموا يخرجهم من الظلمات إلىالنور (2/235)
ولنضرب لك مثلا قوله تعالى ليس كمثله شيء
أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة فرارا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية التشبيه عن مثل الله فتكون تسليما بثبوت المثل له سبحانه أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه لأن السالبة كما يقول علماء المنطق تصدق بعدم الموضع أو لأن النفي كما يقول علماء النحو قد يوجه إلى المقيد وقيده جميعا تقول ليس لفلان ولد يعاونه إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد لا يعاونه وتقول ليس محمد أخا لعلي إذ كان أخا لغير علي أو لم يكن أخا لأحد وقليل منهم من ذهب إلى انه لا بأس ببقائها على أصلها إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصا ولا احتمالا لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضا وذلك أنه لو كان هناك مثل لله لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب
وقصارى هذا التوجيه لو تاملته أنه مصحح لا مرجح أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا من التعمية والتعقيد وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول هذا أخو فلان فقال هذا ابن أخت خالة فلان فماله إذا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد ذلك الاسم الذي لا نعرف له مسمى ها هنا فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا ألبتة وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان
ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظا بقوة دلالته قائما بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى أو لتهدم ركن من أركانه ونحن نبين لك هذا من طريقين أحدهما أدق مسلكا من الآخر الطريق الأول وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور أنه لو قيل ليس مثله شيء لكان ذلك نفيا للمثل المكافئ وهو المثل التام المماثلة فحسب إذ إن هذا المعنى هو الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه وإذا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها وأن عسى أن تكون (2/236)
هذه المنزلة للملائكة والأنبياء أو للكواكب وقوى الطبيعة أو للجن والأوثان والكهان فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه وشرك ما في خلقه أو أمره فكان وضع هذا الحرف في ا لكلام إقصاء للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها كأنه قيل ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى على حد قوله تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما نهيا عن يسير الأذى صريحا وعما فوق اليسير بطريق الأحرى
الطريق الثاني وهو أدق مسلكا أن المقصود الأول من هذه الجملة وهو نفي الشبيه وإن كان يكفي لأدائه أن يقال ليس كالله شيء أو ليس كمثله شيء لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجتك وطريق برهانه العقلي
ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت فلان لا يكذب ولا يبخل أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها فإذا زدت فيه كلمة فقلت مثل فلان لا يكذب ولا يبخل لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم
على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الكريم الحكيمة قائلة مثله تعالى لا يكون له مثل تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه فلا جرم جيء فيها بلفظين كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة ليقوم أحدهما ركنا في الدعوى والآخر دعامة لها وبرهانا فالتشبيه المدلول عليه بالكاف لما تصوب إليه النقي تأدى به أصل التوحيد المطلوب ولفظ المثل المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب
واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحده الصانع لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العلمية حسب ما أرشد إليه قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ينقض فرض التعدد من أساسه ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار فكأننا بها تقول لنا (2/237)
إن حقيقة الإله ليس من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها كلا فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينية لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شيء وإنشاء لكل شيء فاطر السموات والأرض وحققت سلطانا على كل شيء وعلوا فوق كل شيء له مقاليد السموات والأرض لو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا ومنشئا ومنشأ ومستعليا مستعلى عليه أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا فأنى يكون كل منهما إلها وللإله المثل الأعلى
أرأيت كم أفدنا من هذه الكاف وجوها من المعاني كلها شاف كاف فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظام الحكيم حرفا حرفا اه وهو كلام جد نفيس فاحرص عليه
الشبهات الواردة على أسلوب القرآن
تنمر أعداء الله على القرآن وألقوا في طريق الإيمان به حبالا وعصيا من التخييلات والأوهام من ذلك شبهات لفقوها ووجهوها إلى أسلوبه وهي مع التوائها وخبثها تراها مفضوحة منقوضة في هذا الكتاب بالجزء الأول فارجع إلى ذلك هناك والله يتولى بتوفيقه هدانا وهداك وهو حسبنا ونعم الوكيل
المبحث السابع عشر
في إعجاز القرآن وما يتعلق به
إعجاز القرآن مركب إضافي معناه بحسب أصل اللغة إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به فهو من إضافة المصدر لفاعله والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به والتقدير إعجاز القرآن خلق الله عن الإتيان بما تحداهم به ولكن التعجيز المذكور ليس مقصودا لذاته بل المقصود لازمه وهو إظهار أن هذا الكتاب حق وأن الرسول الذي جاء به رسول صدق وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز ولكن للأزمة وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون (2/238)
عن الله فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر لحكمة عالية وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة
ولقد تناولنا في المبحث الثالث من هذا الكتاب الكلام على المعجزة ما هي وعلى الفرق بينهما وبين السحر وغير وعلى وجه دلالتهما على تأييد الحق وتصديق الرسل مع ضرب الأمثال ونقض الشبهات فارجع إلى ذلك هناك من الجزء الأول
وقبل أن نخوض في موضوعنا هذا ننبهك إلى أننا سنختص سيدنا محمدا بالذكر في نفي نسبة القرآن إليه وذلك للتنصيص من أول الأمر على ما يشبه محل النزاع أو موضع الاشتباه عند كثير من أشباه الناس ولأنه إذا كانت طبيعة القرآن تأبى أن ينسب إلى أفضل الخلق على أنه من تأليفه فأحر بها أن تأبى نسبته إلى غيره بالطريق الأولى
ومتى سلم الدليل على أن القرآن كلام الله وحده سلمت نبوة نبي الإسلام وسلم كل ما جاء به القرآن وسلم الإسلام كله بل سلمت الأديان الصحيحة والكتب الإلهية كلها لأنه لم يبق على وجه الأرض شاهد مقبول الشهادة إلا هذا الكتاب الذي أنزله الله مقررا لنبوة الأنبياء السابقين وأديانهم ومصححا لأغلاط اللاغطين فيها والمحرفين لها وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أهدى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
وجوه إعجاز القرآن
الناظر في هذا الكتاب الكريم بإنصاف تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة من الإعجاز كما تتراءى للناظر إلى قطعة من الماس ألوان عجيبة متعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع ومختلفة باختلاف ما يكون عليه الناظر وما تكون عليه قطعة الماس من الأوضاع وسنبدأ بما نراه سليما من المطاعن ثم نقفي بما لا يسلم في نظرنا من طعن
الوجه الأول لغته وأسلوبه
أما الوجه الأول فلغته وأسلوبه على نحو ما فصلناه في المبحث السابق وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على تلك الخصائص العليا التي تحدثنا عنها والتي لم تجتمع بل لم توجد خاصة واحدة منها في كلام على نحو ما وجدت في القرآن وكل ما كان من هذا القبيل فهو لا شك معجز خصوصا أن النبي تحدى به (2/239)
فأعجز أساطين الفصحاء وأعيا مقاويل البلغاء وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان وفي أمة كانت مواهبها محشودة للتفوق في هذه الناحية وإذا كان أهل الصناعة هؤلاء قد عجزوا عن معارضة القرآن فغيرهم أشد عجزا وأفحش عيا
وها قد مرت على اللغة العربية من عهد نزول القرآن إلى عصرنا هذا أدوار مختلفة بين علو ونزول واتساع وانقباض وحركة وجمود وحضارة وبداوة والقرآن في كل هذه الأدوار واقف في عليائه يطل على الجميع من سمائه وهو يشع نورا وهداية ويفيض عذوبة وجلالة ويسيل رقة وجزالة ويرف جدة وطلاوة ولا يزل كما كان غضا طريا يحمل راية الإعجاز ويتحدى أمم العالم في يقين وثقة قائلا في صراحة الحق وقوته وسلطان الإعجاز وصولته قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
القدر المعجز من القرآن
ومن عجيب أمر هذا القرآن وأمر هؤلاء العرب أنه طاولهم في المعارضة وتنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ثم إلى التحدي بسورة واحدة من مثله وهم على رغم هذه المطاولة ينتقلون من عجز إلى عجز ومن هزيمة إلى هزيمة وهو في كل مرة من مرات هذا التحدي وهذه المطاولة ينتقل من فوز إلى فوز ويخرج من نصر إلى نصر
تصور أنه قال لهم في سورة الطور أول ما تحداهم أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فلما انقطعوا مد لهم في الحبل وقال في سورة هود أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون فلما عجزوا هذه المرة أيضا طاولهم مرة أخرى وأرخى لهم الحبل إلى آخره وقال في سورة البقرة وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين فكان عجزهم بعد ذلك أشنع وأبشع وسجل الله عليهم الهزيمة أبد الدهر فلم يفعلوا ولن يفعلوا ودحضت حجتهم وافتضح أمرهم وظهر أمر الله وهم كارهون
بهذا يتبين لك أن القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه وأن القائلين (2/240)
بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه وهم المعتزلة والقائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن ولو كان أقل من سورة كل أولئك بمنأى عن الصواب وهم محجوجون بما بين يديك من الآيات
معارضة القرآن
وهل أتاك نبأ الخصم إذ هموا أن يعارضوا القرآن فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون محاولات مضحكة مخجلة أخجلتهم أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم فباؤوا بغضب من الله وسخط من الناس وكان مصرعهم هذا كسبا جديدا للحق وبرهانا ماديا على أن القرآن كلام الله القادر وحده لا يستطيع معارضته إنسان ولا جان ومن ارتاب فأمامه الميدان
يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك
يقول حجة الأدب العربي فقيدنا الرافعي عليه سحائب الرحمة إن مسيلمة لم يرد أن يعرض للقرآن من ناحية الصناعة البيانية إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرا في نفوسهم ذلك أنه رأى معرب تعظم الكهان في الجاهلية وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن كقولهم يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله البخاري في المناقب إسلام عمر فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضا فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة ويقولون إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقا ولا في دعوى النبوة صادقا وإنما كان اتباعهم إياه كما قال قائلهم كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر
ويروي التاريخ أن أبا العلاء المعري وأبا الطيب المتنبي وابن المقفع حدثتهم نفوسهم مرة أن يعارضوا القرآن فما كادوا يبدؤون هذه المحاولة حتى انتهوا منها بتكسير أقلامهم وتمزيق صحفهم لأنهم لمسوا بأنفسهم وعورة الطريق واستحالة المحاولة وأكبر (2/241)
ظني وظن الكاتبين من قبلي أنهم كان يعتقدون من أعماق قلوبهم بلاغة القرآن وإعجازه من أول الأمر وإنما أرادوا أن يضموا دليلا جديدا إلى ما لديهم من أدلة ذاقوها بحاستهم البيانية من باب ولكن ليطمئن قلبي ويا ليت شعري إن لم يتذوق أمثال هؤلاء بلاغة القرآن وإعجازه فمن غيرهم
وتحدثنا الأيام القريبة أن زعماء البهائية والقاديانية وضعوا كتبا يزعمون أنهم يعارضون بها القرآن ثم خافوا وخجلوا أن يظهروها للناس فأخفوها ولكن على أمل أن تتغير الظروف ويأتي على الناس زمان تروج فيه أمثال هذه السفاسف إذ ما استحر فيهم الجهل باللغة العربية آدابها والدين الإسلامي وكتابه ألا خيبهم الله وخيب ما يأملون
في القرآن آلاف المعجزات
علمنا من قبل أن القرآن يزيد على مائتي آية وستة آلاف آية وعلمنا اليوم أن حبل التحدي قد طال حتى صار بسورة وان السورة تصدق بسورة الكوثر وهي ثلاث آيات قصار وأن مقدارها من آية أو آيات طويلة له حكم السورة وان لأسلوب التنزيل سبع خواص لا توجد واحدة منها على كمالها في أي كلام آخر كما بسطنا القول في ذلك بالمبحث الآنف فيخلص لنا في ضوء هذه الحقائق أن القرآن مشتمل على آلاف من المعجزات لا معجزة واحدة كما يبدو لبعض السذج والسطحيين وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمل القرآن من وجوه الإعجاز التالية تراءت لنا معجزات متنوعات شتى تجل عن الإحصاء والتعداد وسبحان من يجعل من الواحد كثرة ومن الفرد أمة أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به أي لكان هذا القرآن
معجزات القرآن خالدة
وهنا نلفت النظر إلى أن القرآن بما اشتمل عليه من هذه المعجزات الكثيرة قد كتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام ولم يمت بموت الرسول بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب ويتحدى كل منكر ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من هداية الإسلام وسعادة بني الإنسان ومن هذا يظهر الفرق جليا بين معجزات نبي الإسلام ومعجزات إخوانه الأنبياء عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم حتى يرث الله (2/242)
الأرض ومن عليها أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد قصيرة الأمد ذهبت بذهاب زمانهم وماتت بموتهم ومن يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان ولا يسلم له شاهد بها إلا هذا القرآن وتلك نعمة يمنها القرآن على سائر الكتب والرسل وما صح من الأديان كافة قال تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وقال عز اسمه آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله
حكمة بالغة في هذا الاختيار
وهنا نقف هنيهة لنعلم أن حكمة الله البالغة قضت أن تكون معجزة الإسلام باقية بجانبه تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير الذي هو خاتمة الأديان والشرائع لذلك اختار سبحانه أن تكون معجزة الإسلام شيئا يصلح للبقاء فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر وحديث يقرأ على سمع الزمان وكان من أسرار الإعجاز فيه بلوغه من الفصاحة والبيان مبلغا يعجز الخلق أجمعين وكان من عدله تعالى ورحمته أن اللغة التي صيغت بها هذه المعجزة هي اللغة العربية دون غيرها من اللغات لأن اللغة العربية حين مبعث الرسول كانت قد بلغت لدى الشعب العربي أوج عظمتها من الاعتناء بها والاعتداد بالنابغين فيها والاعتزاز بالجيد منها وكان هذا الشعب العربي قد استكملت له حينذاك ملكة في النقد والمفاضلة تؤهله بسهولة ويسر للحكم على جيد الكلام وزيفه ووضع كل كلام في درجته من العلو أو النزول وترجع براعتهم في هذه الناحية إلى أنهم كانوا قد وقفوا عليها حياتهم والتمسوا من ورائها عظمتهم وعلقوا عليها آمالهم
ولا يغيبن عنك أن هذا الشعب العربي كان مطبوعا أيامئذ على الصراحة في الرأي لا يعرف النفاق ولا الذبذبة وكانوا فوق ذلك شجعانا يأنفون الذل ويعافون الضيم مهما كلفتهم سجاياهم هذه من بذل مال وسفك دم فلما نزل القرآن لم يسع هذا الشعب الحر الصريح الأبي المتمهر في لغته إلا أن يلقي السلاح من يده ويخضع لسلطان هذا التنزيل وبلاغته ويدين له ويؤمن به عن إدراك ووجدان بعد أن ذاق حلاوته ولمس إعجازه وحكم بملكته العربية الناقدة وصراحته المعروفة السافرة وشجاعته النادرة الفائقة أن هذا الذكر الحكيم لا يمكن أن يكون كلام مخلوق من البشر ولا غير البشر إنما هو تنزيل من حكيم حميد (2/243)
بهذه الشهادة ينجح العالم كله
شهادة هذا شانها وهذا شان من شهد بها جديرة أن ينجح بها العالم حين يتلقاها بالقبول كما يتلقى بالقبول شهادة لجان التحكيم في هذا العصر ثقة منه بأنهم فنيون يحسنون المقارنة والموازنة واطمئنانا إلى انهم عادلون لا يعرفون المحاباة والمداهنة بل شهادة أولئك العرب أزكى وأطهر وأحكم وأقوم لأنها صدرت عن أعداء القرآن حين نزوله بعد محاولات ومصاولات مخضتهم مخضا عنيفا وأفحمتهم إفحاما مريرا والفضل ما شهدت به الأعداء
أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي
ومما يفيد في هذا المقام ويدفع التلبيس أن تعرف بعد ما بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي الشريف ولا أدل على ذلك من أن بين يدي التاريخ إلى يوم الناس هذا آلافا مؤلفة من كتب السنة تملأ دون الكتب في الشرق والغرب وتنادي كل من له إلمام وذوق في البيان العربي أن هلم لتحس بحاستك البيانية المدى البعيد بين أسلوبي القرآن والحديث ولتؤمن عن وجدان بأن أسلوب التنزيل أعلى وأجل من أسلوب الأحاديث النبوية علوا خارقا للعادة خارجا عن محيط الطاقة البشرية وإن بلغ كلام الرسول في جودته وروعته وجلالته ما جعله خير بيان لخير إنسان
غير أن هذه الفوارق كما قلنا فوارق فنية لا يدركها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من معرفة اللسان العربي والذوق العربي ولقد نزل القرآن أول ما نزل على أمة العرب وهم مطبوعون على اللغة الفصحى منقطعون لإحيائها وترقيتها وكانوا يتفاضلون بينهم بالتفوق في علو البيان وفصاحة اللسان حتى بلغ في تقديسهم لهذا أنهم كانوا يقيمون المعارض العامة للتفاخر والتفاضل بفصيح المنظوم وبليغ المنثور وحتى إن القبيلة كان يرفعها بيت واحد من الشعر يكون رائعا في مدحها ويضعها بيت يكون لاذعا في ذمها ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبي الإسلام ويعرفون مقدرته الكلامية من قبل أن يوحى إليه فلم يخطر ببال منصف منهم أن يقول إن هذا القرآن كلام محمد وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه الصلاة و السلام
يضاف إلى هذا أنه لم يعرف في نشأته بينهم بالخطابة ولا بالكتابة ولا بالشعر ولم يؤثر أنه شاركهم في معارضهم وأسواقهم العامة التي كانوا يقيمونها للتسابق في البيان بل كان مقبلا على شأنه زاهدا في الظهور ميالا إلى العزلة وكل ما اشتهر به قبل النبوة أنه كان صادقا لم يجربوا عليه كذبا أمينا ما خان أبدا ميمون النقيبة عالي الأخلاق علوا ممتازا فهل يعقل أن رجلا سلخ عهد شبابه وكهولته على هذا النمط يجيء في سن الشيخوخة (2/244)
فينافس العالم كله ويتحداه بشيء من لدنه وهو الذي ما نافس أحدا قبل ذلك ولا تحداه بل كان من خلقه الحياء والتواضع وعدم الاستطالة على خلق الله ثم هل يتصور أن هذا الإنسان الكامل يتورع عن الكذب على الناس في صباه وشبابه وكهولته ثم يجيء في سن الشيخوخة فيكذب أفظع الكذب على الله ومن أظلم ممن اقترى على الله كذبا أو قال أوحي إلى ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله
ألا إن وجود القرآن كلاما متلوا لم ينقص كلمة ولا حرفا لرحمة واسعة من الله بعباد لم تتسن لأي كتاب في أمة غير هذا الكتاب الذي ينهل الظامئون من بحره الروي في كل عصر ويأوي المنصفون إلى هدية الرباني في كل مصر ويكتسب بما فيه من سمات الألوهية أتباعا في كل أفق مصداقا لقوله سبحانه سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ولقوله ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة رواه الشيخان
الوجه الثاني طريقة تأليفه
وبيان ذلك أن القرآن لم ينزل جملة واحدة وإنما نزل مفرقا منجما على أكثر من عشرين عاما على حسب الوقائع والدواعي المتجددة كما تقدم بيانه في المبحث الثالث من هذا الكتاب وكان الرسول كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال ضعوه في مكان كذا من سورة كذا وهو بشر لا يدري طبعا ما ستجيء به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل فيها ثم مضى العمر الطويل والرسول على هذا العهد وإذا القرآن كله بعد ذلك يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف وينسجم ولا يؤخذ عليه شيء من التخاذل والتفاوت بل كان من ضروب إعجازه ما فيه من انسجام ووحده وترابط حتى إن الناظر فيه دون أن يعلم بتنجيم نزوله لا يخطر على باله أنه نزل منجما وحتى إنك مهما أمعنت النظر وبحثت لا تستطيع أن تجد فرقا بين السور التي نزلت جملة والسور التي نزلت منجمة من حيث إحكام الربط في كل منهما فسورة البقرة مثلا وقد نزلت بضعة وثمانين نجما في تسع سنين لا تجد فرقا بينها وبين سورة الأنعام التي نزلت دفعة واحدة كما (2/245)
يقول الجمهور من حيث نظام المبنى ودقة المعنى وتمام الوحدة الفنية وإذا قرأت سورة الضحى وسورة اقرأ وسورة الماعون لا تشعر بفارق بينها وبين كثير من السور القصار مثلها من حيث الإحكام والوحدة والانسجام كذلك على حين أن تلك السور الثلاث نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين فقل لي بربك هل يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا القرآن كلام محمد أو غير محمد مع ما علمت من هذا الانفصال الزماني البعيد بين أول ما نزل وآخره ومع ما علمت من ارتباط كل نجم بحادثة من أحداث الزمن ووقائعه ومع ما علمت من أن ترتيب هذه النجوم في القرآن ليس على ترتيب هذا النزول الخاضع للحدثان بدليل أن أول ما نزل من القرآن إطلاقا وهو صدر سورة اقرأ مدون بالمصحف في أواخره وبدليل أن آخر ما نزل منه إطلاقا وهو آية واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله مدون بالمصحف في أوائله
إن كنت في شك من أن هذا الكتاب المحكم الرصين قد جاء في طريقة تأليفه معجزة فاجمع أهل الدنيا يظاهر بعضهم بعضا واطلب إليهم أن يؤلفوا لك كتابا في حجم سورة البقرة لا في حجم سورة القرآن كله لكن على شرط أن تكون طريقة تأليفه هي الطريقة التي خضعت لها سورة البقرة من الارتباط بأحداث الزمن ووقائعه ومن وضع هذه النجوم مبعثرة غير مرتبة في الكتاب بترتيب الأحداث والوقائع ثم من تمام هذا الكتاب أخيرا على وحدة فنية تربط بين بداياته ونهاياته وأوساطه وسائر أجزائه فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فاطلب إليهم أن يعمدوا مثلا إلى حديث النبي وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه وقد قاله الرسول في أوقات مختلفة واسألهم بعد ذلك هل في مكنتهم أن ينظموا من هذا السرد الشتيت الماثل أمامهم كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة كالقرآن من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ومن حاوله من الخلق فإنما يحاول العبث العابث وسيخرج إلى الناس من هذه المحاولة بثوب مرقع وكلام مشوش ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام
إذن فالقرآن الكريم تنطق طريقة تأليفه بأنه لا يمكن أن يكون صادرا إلا ممن له السلطان الكامل على الفلك ودورته والعلم المحيط بالزمن وحوادثه والبقاء السرمدي حتى يبلغ مراده وينفذ مشيئته ذلكم الله وحده الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض والذي يعلم الغيب في السموات وفي الأرض والذي لا يذوق الموت ولا تأخذه سنة ولا نوم (2/246)
لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
الوجه الثالث علومه ومعارفه
بيان ذلك أن القرآن قد اشتمل على علوم ومعارف في هداية الخلق إلى الحق بلغت في نباله القصد ونصاعة الحجة وحسن الأثر وعموم النفع مبلغا يستحيل على محمد وهو رجل أمي نشأ بين الأميين أن يأتي بها من عند نفسه بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة ومشترعين وأخلاقيين أن يأتوا من تلقاء أنفسهم بمثلها
هذا هو التنزيل الحكيم تقرؤه فإذا بحر العلوم والمعارف متلاطم زاخر وإذا روح الإصلاح فيه قوي قاهر ثم إذا هو يجمع الكمال من أطرافه فبينا تراه يصلح ما أفسده الفلاسفة بفلسفتهم إذ تراه يهدم ما تردى فيه الوثنيون بشركهم وبينا تراه يصحح ما حرفه أهل الأديان في دياناتهم إذ تراه يقدم للإنسانية مزيجا صالحا من عقيدة راشدة ترفع همة العبد وعبادة قويمة تطهر نفس الإنسان وأخلاق عالية تؤهل المرء لأن يكون خليفة الله في الأرض وأحكام شخصية ومدنية واجتماعية تكفل حماية المجتمع من الفوضى والفساد وتضمن له حياة الطمأنينة والنظام والسلام والسعادة دينا قيما يساوق الفطرة ويوائم الطبيعة ويشبع حاجات القلب والعقل ويوفق بين مطالب الروح والجسد ويؤلف بين مصالح الدين والدنيا ويجمع بين عز الآخرة والأولى كل ذلك في قصد واعتدال وببراهين واضحة مقنعة تبهر العقل وتملك اللب والكلام على هذه التفاصيل يستنفد مجلدا بل مجلدات فلنجتزئ هنا بأمثلة وإشارات ولنخترها في موضوع العقائد التي هي واحدة في جميع أديان الله بحسب أصلها قبل التعريف ولنتعرض في هذه الأمثلة إلى شيء من المقارنة بين تعاليم الإسلام تعاليم واليهود والنصارى على عهد نزوله ثم إلى شيء من رد القرآن عليهم وتصحيحه لأغلاطهم وفضحه لأباطيلهم ومقصدنا من هذا قطع ألسنة خراصة زعم أصحابها أن تعاليم القرآن استمدها محمد من بعض أهل الكتاب في عصره ثم نسبها إلى ربه ليستمد من هذه النسبة قدسيتها كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا
أمثلة من عقيدة الإيمان بالله
جاء في القرآن بالعقيدة في الله بيضاء نقية نزهة فيها عن جميع النقائص نص على استحالة الولد وكل ما يشعر بمشابهة الخالق بالمخلوق ووصف الله بالكمال المطلق ونص على وحدانيته في ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته بمعنى أنه أحد في تدبير خلقه وأحد (2/247)
في استحاقة العبادة دون غيره أم تر أنه يقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ويقول وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيرا ويقول قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ويقول قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ويقول فلا تدعوا مع الله أحدا ويقول ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ويقول إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ويقول ومن يغفر الذنوب إلا الله ويقول قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ويقول والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم ولا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد ويقول قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا إلى غير ذلك وهو جد كثير
وضل اليهود بعد موسى فعبدوا بعلا وزعموا في عهد من عهودهم ما زعمت النصارى من أن لله ابنا وشبهوا الله تعالى بالإنسان فنعتوه بأنه تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح يوم السبت وركبوا رؤوسهم فقالوا إنه سبحانه ظهر في شكل إنسان وصارع إسرائيل فلم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه إلى غير ذلك من أغلاطهم وفضائحهم
وضل النصارى بعد عيسى فذهبوا إلى عقيدة معقدة من التثليث وصارت كنائسهم من عهد قسطنطين كهياكل الوثنية الأولى وخلعوا على رجال كهونتهم ما هو حق الله وحده من التشريع والتحليل والتحريم حتى تعزى بهم وثنيو العرب ورأوا أنهم امثل من هؤلاء المسيحيين في الوثنية ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا ءألهتنا خير أم هو ثم احتجوا على شركهم بأنهم ما سمعوا دعوة التوحيد الذي جاء به الإسلام في الملة الآخرة وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة أي النصرانية
فانظر مدى البون الشاسع بين الحق الذي جاء به القرآن في هذا الباب وبين الباطل الذي جاء به هؤلاء وهؤلاء على أن كتاب الله لم يكتف بذلك بل رد على المبطلين ببراهينه الساطعة وأدلته القاطعة استمع إليه وهو يقول قل يأهل الكتاب تعالوا (2/248)
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ويقول يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ويقول ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ويقول بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ويقول في نفي التعب الذي افتراه اليهود على الله ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ويقول نعيا عليهم في عبادة بعل أتدعون بعلا وتذرون احسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين ويقول نعيا عليهم في فرية أخرى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ويقول في نفي البنوة التي زعموها لله هم والنصارى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
أمثلة من عقيدة البعث والجزاء
جاء القرآن بعقيدة البعث بعد الموت واضحة شاملة للروح والجسد عادة لا ظلم فيها ولا محاباة مقسطة لا شفاعة هتاك بالمعنى الفاسد ولا فداء عامة لا فضل لجنس ولا لطائفة ولا لشخص إلا بالتقوى اقرأ إن شئت قوله سبحانه والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا وقوله أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقه فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى وقوله ونضع الموازين (2/249)
القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين وقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقوله واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون وقوله فإذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
وضل اليهود فزعموا أنهم الشعب المختار من بين شعوب الأرض وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة هي مدة عبادتهم العجل أربعين يوما
وضل النصارى فزعموا أيضا أنهم أبناء الله وأحباؤه وذهبوا مذهب الهنود في كرشنة أنه قتل وصلب ليخلص الإنسان ويفديه من الخطيئة فهو المخلص الفادي الذي يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه وهو الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي الذي هو عين الأول والثالث وكل منهما عين الآخر كذلك قال الهنود في كرشنة ثم جاء مخرفة النصارى فتابعوهم على هذا الخيال الفاسد الذي تأباه العقول والطباع ولا يتفق وعدل الله وحكمته في الجزاء والمسؤولية ولم يستطع الخابطون في الضلال أن يروجوه في ضحاياهم إلا بترويضهم عليه من عهد الصغر وتنشئتهم على سماعه واعتقاده من غير بحث ولا نظر بل قالوا اعتقد وأنت أعمى
وضل نساك النصارى فتابعوا الهنود أيضا في احتقار اللذات المادية وفي تربية النفوس على الحرمان وتعذيب الجسد وزادوا الطين بلة فقالوا إن البعث روحاني مجرد عن إعادة الجسم مخدوعين بتلك النظرية الفلسفية الخاطئة وهي احتقار اللذات المادية وذمهم إياها بأنها حيوانية وغاب عنهم أنها لا تكون نقصا إلا إذا سخر الإنسان عقله وقواه لها وأسرف فيها إسرافا يشغله عن اللذات العقلية والروحية القائمة على العلم النافع والعمل الصالح أما إذا اعتدل فيها ووفق بين المطالب الروحية والجسمية فتلك مفخرة للإنسان وميزة لنوع الإنسان بها صار عالما عجيبا جمع بين روحانية الملائكة وجثمانية الحيوان والنبات وقد خلقه الله في الدنيا مظهرا من مظاهر إبداعه واقتداره فكيف ينقص ملكوت الآخرة هذا المظهر العجيب على حين أن الآخرة هي دار العجائب والغرائب فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
وكذلك ضل متطرفة اليهود فعكسوا الأمر وأفرطوا في حب المادة حتى أحلوا لأنفسهم جمعها من أي طريق وبالغوا في استنزاف دماء العالم بالربا وأكل أموال الناس (2/250)
بالباطل وظنوا أن لا جناح عليهم إذا رزؤوا أي عنصر غريب عنهم ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل
ولكن القرآن قد جاء يرد هؤلاء وهؤلاء إلى جادة الاعتدال ووقف موقفا وسطا يرجع إليه المغالي وينتهي إليه المقصر فأعلن عقيدته في وضوح على نحو ما ذكرنا وتناول أخطاءهم المذكورة بالإصلاح والتقويم فقال في معرض الرد على أنهم الشعب المختار قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين وقال في هذا المعرض أيضا يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير وقال أيضا ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا قال في معرض الرد على فرية أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير وقال في تفنيد ما زعموه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون وقال في تكذيب ما زعموا من قتل عيسى وصلبه وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا وقال في دحض عقيدة الفداء ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى إنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير
وقال من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ونزلت سورة المسد تسجل العذاب على عم من أعمام أفضل الخلق محمد وذكر القرآن ما ذكر في ابن نوح ولم يطب القرآن نفسا بضلالة اعتقد وأنت أعمى بل حث على النظر والتفكر وحاكم العقائد والتعاليم الإسلامية إلى العقول السليمة ونعى على المقلدين تقليدا أعمى والأمر في هذا أظهر من أن تساق له أمثلة (2/251)
وعالج القرآن شبهة احتقار اللذات المادية بالمعنى الذي أرادوه فقال قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقال يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون وذم الرهبانية ومبتدعيها فقال ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها وعاب على اليهود خيانتهم وظلمهم للشعوب فقال ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وقال الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وقال ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون إلى غير ذلك من آيات كثيرة في هذه المواضيع
والذي نريد أن تفطن له هنا هو أن هداية القرآن كما رأيت هداية تامة عامة صححت معارف الفلاسفة المكبين على البحث والنظر كما صححت معارف الأميين ومن لا ينتمي إلى العلم بسبب وصححت أغلاط أهل الكتاب من يهود ونصارى كما صححت أغلاط مؤلهة الحجر وعبدة الوثن وإذن فليس يصح في الأذهان شيء إذا قيل إن هذه الهدايات القرآنية ليست وحيا من الله وإنما هي نابغة من نفس محمد الأمي الناشئ في الأميين وليس يصح في الأذهان شيء إذا قيل إنه قد استقى هذه الهدايات من بعض أهل الكتاب الذين لقيهم في الجزيرة العربية ولو صح هذا لكانوا هم أولى منه بدعوى الرسالة والنبوة وكيف يصح هذا والقرآن هو الذي علمهم ما جهلوا من حقائق دينهم وهل فاقد الشيء يعطيه وحسبك ما قدمناه لك من تلك الأمثلة التي تتصل بأساس الأديان وصميم العقائد والتي تريك بالمنظار المكبر أن القرآن جالس على كرسي الأستاذية العليا للعالم كله يعلم اليهود والنصارى وغير اليهود والنصارى لا على مقعد التلمذة الدنيا يتلقف من هؤلاء وهؤلاء
فإن لم يكفك ما سمعت فدونك القرآن تصفحه وتجول في آفاقه وناهيك مثل قوله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (2/252)
ومثل قوله يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير
وإن شئت أكثر من هذا فتأمل كيف أعلن الحق في صراحة أن بيانه لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه هو من مقاصده الأولى إذ قال في سورة النحل وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون هكذا قدم أنه بيان لما اختلف فيه الكتابيون قبل أن يقول وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
وكذلك قال في سورة النحل إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقض بينهم بحكمه وهو العزيز العليم
لقد لفت القرآن نفسه أنظار الناس إلى هذه الناحية من الإعجاز وأقام الدليل على أنه كلام الله ولا يمكن أن يكون كلام محمد إذ قال جلت حكمته في سورة العنكبوت وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وإذ قال سبحانه مرة أخرى في سورة الشورى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور
ويرحم الله البوصيري في قوله
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
ومجد وعظم وشرف وكرم ورزقنا كمال الإيمان به وكمال اتباعه آمين
الوجه الربع وفاؤه بحاجات البشر
ومعنى هذا أن القرآن الكريم جاء بهدايات تامة كاملة تفي بحاجات البشر في كل عصر ومصر وفاء لا تظفر به في أي تشريع ولا في أي دين آخر ويتجلى لك هذا إذا استعرضت المقاصد النبيلة التي رمى إليها القرآن في هدايته والتي نعرض عليك من تفاصيلها ما يأتي (2/253)
أولا إصلاح العقائد عن طريق إرشاد الخلق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما تحت عنوان الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله واليوم الآخر
ثانيا إصلاح العبادات عن طريق إرشاد الخلق إلى ما يزكي النفوس ويغذي الأرواح ويقوم الإرادة ويفيد الفرد والمجموع منها
ثالثا إصلاح الأخلاق عن طريق إرشاد الخلق إلى فضائلهم وتنفيرهم من رذائلها في قصد واعتدال وعند حد وسط لا إفراط فيه ولا تفريط
رابعا إصلاح الاجتماع عن طريق إرشاد الخلق إلى توحيد صفوفهم ومحو العصبيات وإزالة الفوارق التي تباعد بينهم وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد من نفس واحدة ومن عائلة واحدة أبوهم آدم وأمهم حواء وأنه لا فضل لشعب على شعب ولا لأحد على أحد إلا بالتقوى وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه متكافئون في الأفضلية وفي الحقوق والتبعات من غير استثناءات ولا امتيازات وأن الإسلام عقد إخاء بينهم أقوى من إخاء النسب والعصب وأن لسانهم العام هو لسان هذا الدين ولسان كتابه لغة العرب وأنهم أمة واحدة يؤلف بينها المبدأ ولا تفرقها الحدود الإقليمية ولا الفواصل السياسية والوضعية وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون
خامسا إصلاح السياسة أو الحكم الدولي عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس ومراعاة الفضائل في الأحكام والمعاملات من الحق والعدل والوفاء بالعهود والرحمة والمواساة والمحبة واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل كالرشوة والربا والتجارة بالدين والخرافات
سادسا الإصلاح المالي عن طريق الدعوة إلى الاقتصاد وحماية المال من التلف والضياع ووجوب إنفاقه في وجوه البر وأداء الحقوق الخاصة والعامة والسعي المشروع
سابعا الإصلاح النسائي عن طريق حماية المرأة واحترامها وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية
ثامنا الإصلاح الحربي عن طريق تهذيب الحرب ووضعها على قواعد سليمة لخير الإنسانية في مبدئها وغايتها ووجوب التزام الرحمة فيها والوفاء بمعاهداتها وإيثار السلم عليها والاكتفاء بالجزية عند النصر والظفر فيها
تاسعا محاربة الاسترقاق في المستقبل وتحرير الرقيق الموجود بطرق شتى منها الترغيب العظيم في تحرير الرقاب وجعله كفارة للقتل وللظهار ولإفساد الصيام بطريقة فاحشة ولليمين الحانثة ولإيذاء المملوك باللطم أو الضرب (2/254)
عاشرا تحرير العقول والأفكار ومنع الإكراه والاضطهاد والسيطرة الدينية القائمة على الاستبداد والغطرسة فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر
دليل على هذا الوجه من الإعجاز
والدليل على هذا الوجه من إعجاز القرآن أن غير المسلمين كانوا ولا يزالون حائرين يبحثون عن النور وينقبون عما يفي بحاجتهم في كثير من نواحي حياتهم حتى اضطروا تحت ضغط هذه الحاجة وبعد طول المطاف وقسوة التجارب أن يرجعوا إلى هداية القرآن من حيث يشعرون أو لا يشعرون وإليك شواهد على ذلك
أمريكا حرمت الخمر أخيرا ولكنها فشلت ولم تنجح لأنها لم توفق إلى الطريقة الحكيمة التي اتبعها الإسلام في تحريم الخمر
أمريكا أباحت الطلاق وإن كانت قد أسرفت فيه إلى درجة ضارة
أسبانيا أصدرت حكومتها قانونا بمنع البغاء الرسمي في بلادها وبمنع النساء من البروز على الشواطئ في ثياب الاستحمام
مصلحو أوروبا يرفعون أصواتهم بضرورة الرجوع إلى مبدأ تعدد الزوجات حتى بعض نسائهم طالبن بهذا
اليهود يطالبون أيضا بتعدد الزوجات وقد تزعم هذه الحركة يهودي اسمه مورشه ليكفر مان وبرهن على أن ذلك من أحكام الدين اليهودي وطلب إلى اليهود إلغاء قرار الحاخام غرشون الذي تعدى حدود الدين اليهودي بإبطاله الزواج بأكثر من واحدة وأصبح له أتباع كثيرون
زعيم فرنسا نادى غداة هزيمتها في الحرب القائمة الآن يقول إن سبب انهيار دولتهم هو انغماسهم في الشهوات الجنسية وإسرافهم في المفاسد والمفاتن
الوجه الخامس
موقف القرآن من العلوم الكونية
ومعنى هذا أن القرآن روعيت فيه بالنسبة إلى العلوم الكونية اعتبارات خمسة لا يصدر مثلها عن مخلوق فضلا عن رجل أمي نشأ في الأميين وهو محمد (2/255)
أولها أنه لم يجعل تلك العلوم الكونية من موضوعه وذلك لأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء وفي تفاصيلها من الدقة والخفاء ما يعلو على أفهام العامة ثم إن أمرها بعد ذلك هين بإزاء ما يقصده القرآن من إنقاذ الإنسانية العاثرة وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فالقرآن كما أسلفنا في المبحث الأول كتاب هداية وإعجاز وعلى هذا فلا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز حتى إذا ذكر فيه شيء من الكونيات فإنما ذلك للهداية ودلالة الخلق على الخالق ولا يقصد القرآن مطلقا من ذكر هذه الكونيات أن يشرح حقيقة علمية في الهيئة والفلك أو الطبيعة والكيمياء ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية أو نظرية هندسية ولا أن يزيد في علم الطب بابا ولا في علم التشريح فصلا ولا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض إلى غير ذلك
ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون وهم في ذلك مخطئون ومسرفون وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلا ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ويحمل كتاب الله على ما ليس من وظيفته خصوصا بعد أن أعلن الكتاب نفسه هذه الوظيفة وحددها مرات كثيرة منها قوله سبحانه ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ومنها قوله جلت حكمته قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم
ومما يجب التفطن له أن عظمة القرآن لا تتوقف على أن ننتحل له وظيفة جديدة ولا أن نحمله مهمة ما أنزل الله بها من سلطان فإن وظيفته في هداية العالم أسمى وظيفة في الوجود ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة وما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية أليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم ويحترب وينتحر ثم أليست العلوم الكونية هي التي ترمي الناس في هذه الأيام بالمنايا وتقذفهم بالحمم وتظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة من مدافع رشاشة ودبابات فتاكة وطائرات أزازة وقنابل مهلكة وغازات محرقة ومدمرات في البر والبحر وفي الهواء والماء وما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى الله ووحي السماء بالأنياب والمخالب للوحوش الضارية والسباع الواغلة في أديم الغبراء
ثانيها أن القرآن دعا إلى هذه العلوم ما دعا إليه من البحث والنظر والانتفاع بما في الكون من نعم وعبر قال سبحانه قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وقال جل شأنه وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (2/256)
ثالثها أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى ومقهورة لمراده ونفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة وهي مألوهة وزعموها ذات تأثير وسلطان بينما هي خاضعة لقدرة الله وسلطانه إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده وكذلك أشعرنا القرآن أنها هالكة كل شيء هالك إلا وجهه وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
رابعها أن القرآن حين يعرض لآية كونية في معرضة من معارض الهداية يتحدث عنها حديث المحيط بعلوم الكون الخبير بأسرار السموات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية في البر والبحر ولا في النجوم والكواكب ولا في السحاب والماء ولا في الإنسان والحيوان والنبات والجماد وذلك هو الذي بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية وأوقع من أوقع منهم في الإسراف واعتبار هذه العلوم من علوم القرآن
خامسها أن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال في سمط واحد بحيث يمر النظم القرآني الكريم على سامعيه في كل جيل وقبيل فإذا هو واضح فيما سبق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه ودقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب ومسائل وعلوم وفنون
ولنضرب لذلك مثلا تلك الآية الحكيمة وهي قوله عز اسمه ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فإنها مرت على بني الإنسان منذ نزلت إلى الآن ففهموا منها جميعا أن الله تعالى يدل على قدرته وإبداعه وكماله بأنه خلق من الأشياء متنوعات مختلفة الأشكال والخصائص لكنهم اختلفوا بعد ذلك فالأوائل يؤثر عنهم أن الزوجين في الآية الكريمة هما الأمران المتقابلان تقابلا ما لا بخصوص الذكورة والأنوثة روي عن الحسن أنه فسر الزوجين بالليل والنهار والسماء والأرض والشمس والقمر والبر والبحر والحياة والموت وهكذا عدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج الله تعالى فرد لا مثيل له أما المتأخرون ففهموا أن الزوجين في الآية هما الأمران المتقابلان بالذكورة والأنوثة ويقولون إنه ما من شيء في الوجود إلا منه الذكر والأنثى سواء في ذلك الإنسان والحيوان والجماد وغيرها مما لا نعلم ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ويقولون إن أحدث نظرية في أصول الأكوان تقرر أن أصول جميع الكائنات تتكون من زوجين اثنين وبلسان العلم الحديث إلكترون وبروتون (2/257)
ولا أحب أن نتوسع في هذا فبين أيدينا أمثلة كثيرة ومؤلفات جمة تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن أو بتفسير القرآن وشرحه بعلوم الكون وأحداثها فيما أعلم كتاب تحت الطبع الآن ألفه شاب فاضل مثقف وسماه بين القرآن والعلم وضمنه شتيتا من الأبحاث المختلفة في الاجتماع وعلم النفس وعلم الوارثة والزراعة والتغذية وفيما وراء الطبيعة مما لا يتسع المقام لذكره ومما لا نرى حاجة إليه خصوصا بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد وأن أبحاثا كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين إثبات ونفي فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم وما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر وما أثبته المؤرخون قديما ينفيه المؤرخون حديثا وما أنكره الماديون وأسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه ويسرفون في إثباته باسم العلم أيضا إلى غير ذلك مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ومما جعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم حتى لقد ظهر في عالم المطبوعات كتاب خطير من مصدر علمي محترم عندهم له خطورته وجلالته وشأنه فصدع هذا الكتاب بناء علمهم وزلزل أركانه الثقة به بعد أن نقض بالدليل والبرهان كثيرا من المقررات والمسلمات التي يزعمونها يقينية ثم انتهى بقارئه إلى أن هذا الكون غامض متغلغل في الغموض والخفاء ومن هنا سمى تأليفه الكون الغامض وهذا المؤلف هو السير جيمس جينز
فهل يليق بعد ذلك كله أن نبقى مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه وتحاكموا إليه وقد سجنوه وسجنوا أنفسهم معه في سجن ضيق هو دائرة المادة تلك الدائرة المسجونة هي أيضا في حدود ما تفهم عقولهم وتصل تجاربهم وقد تكون عقولهم خاطئة وتجاربهم فاشلة ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر وأخفى
ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم ولكنه يهفوا إلى العلم ويدعو إليه ويقيم بناءه عليه فأثبتوا العلم أولا ووفروا له الثقة وحققوه ثم اطلبوه في القرآن فإنكم لا شك يومئذ واجدوه وليس من الحكمة ولا الإنصاف في شيء أن نحاكم المعارف العليا إلى المعارف الدنيا ولا أن نحبس القرآن في هذا القفص الضيق الذي انحبست فيه طائفة مخدوعة من البشر بل الواجب أن نتحرر من أغلال هذه المادة المظلمة وأن نطير في سموات القرآن حيث نستشرف المعارف النورانية المطلقة والحقائق الإلهية المشرقة وأن نوجه اهتمامنا دائما إلى استجلاء عظات هذا التنزيل وهداياته الفائقة وألا نقطع برأي في تفاصيل ما يعرض له القرآن من الكونيات إلا إن كان لنا عليه دليل وبرهان لا شك فيه ولا نكران وإلا وجب أن نتوقف عن هذه التفاصيل ونكل علمها إلى العالم الخبير قائلين ما قالت (2/258)
الملائكة حين أظهر الله لهم على لسان آدم ما لم يكونوا يحتسبون سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
كلمة في الموضوع
والآن يروقني أن أنقل لك مقتطفات قيمة للعلامة المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش في هذا الموضوع لكن بتصرف قليل
ليست مهمة القرآن كسائر الكتب السماوية البحث في الشؤون الكونية والمسائل العلمية والفنية على النحو المألوف في الكتب الخاصة الموضوعة فيها
لما جاء القرآن الكريم كان في جزيرة العرب من العقائد الفاسدة والعلم الخاطئ بالكونيات أضعاف ما كان منها لدى بني إسرائيل عندما أخرجهم موسى من مصر فكان من الحكمة الإلهية أن يتنزل على محمد في سبيل تصحيح تلك العقائد والمعلومات أضعاف ما تنزل على موسى في سفر التكوين والحكمة البالغة في ذلك أن الدعوة إلى توحيد الخلق وتقرير الحق من العقائد وقبول ما يلي ذلك من الشرائع والأخلاق ما كانت لتجد سبيلها إلى قلوب عرفت للأجرام العلوية في ألوهيتها وتزاوجها وما كان من أثرها في تكوين هذه الكائنات ونظامها ما قررته العقلية القديمة في بلاد مصر والإغريق وما يثبته في جزيرة العرب وما حولها أساطير الأشوريين والبابليين والكلدانيين إذن كان لزاما أن يسترعي القرآن انتباه الناس إلى وجه الخطأ في عقائدهم وأن يشككهم في الباطل الذي اتبعوه لأنهم وجدوا عليه آباءهم وأن يطلقهم بذلك من الحجر الذي أشقاهم وألحقهم بالأنعام من الحيوان
كانت إذن مهمة القرآن الحكيم التي أرادها لتمهيد السبيل إلى التعريف بالخالق جل شأنه أن يعين العقول بضرب الأمثال لم تفكر وفيم تفكر وكيف تفكر فهو في جهاده هذا كان يخطط أرض العلم لتقيم العقول البشرية عليها صروحه الشامخة المتينة ويرسم الخطوط الأساسية للصور كي يملأها الرسام بما يلزم لها من الألوان والظلال ومعالم الجمال
لم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد فيما ضرب لنا من الأمثال في بيان بعض غوامض الحقائق الكونية بل جاء في ذلك بحقائق أمر الأميين وغير المحصلين بالتسليم بها والتفويض فيها كما أمر العقول الناضجة المقتدرة بطلابها والوقوف على دقائقها والعلم بوجوه الصواب فيها ثم نصح الفريقين أن يعترفا بعجز عقولهم وألا يقطعا بشيء فيما لا تبلغه أبحاثهم وسعيهم بل يتهمون أنفسهم بالعجز والقصور ويسألون أهل الذكر فيما لا يعلمون أو يكلون أمر لا يدركون إلى من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (2/159)
أن المسيحين حينما ثاروا في وجه العلم ونظام الحكم ثوراتهم التجديدية في أوروبة لم يكونوا ليشبهوا في شيء من مواقفهم تلك أحدا من الشعوب الإسلامية فإنما كان مبعث حركتهم العنيفة ومصدر ثورتهم الدموية أن رجال الكنيسة باسم الدين حجروا على العقول والوجدان وقرروا للكنيسة فلسفة حرموا على الناس حتى استيضاح ما غمض عليهم منها ثم قرروا تكفير من يقول بغيرها ولو اعتمد في رأيه على الحس والمعاينة حتى لقد كان منهم ميلانشتون وكيرمونيني اللذان رفضا أن ينظرا إلى السماء بالآلة المقربة تلسكوب وقد روي عن غاليلو أن من تلاميذ المذهب الارسطاطالي من كانوا ينكرون وجود أجسام علوية مرئية بالفعل وأنهم كانوا يعتبرون فلسفة أرسطو كتلة واحدة لا تقبل التفكيك إذا نقض منها حجر انهار سائر بنيانها على أثره فكان ذلك سبب مغالاتهم في التمسك بها والحرص عليها مجتمعة
ثم قال في تعدد الأرضين
لم يذكر القدماء شيئا في أمر تعدد الأرضين سوى ما نقله ابن سينا عن قدماء حكماء الفرس من أن هنالك أراضي كثرة غير أرضنا وما زال الرأي السائد بين سائر الحكماء والفلاسفة يقول بعدم تعددها حتى جاء غاليلو المتوفى سنة 1642 بمناظيره المكبرة والمقربة وكذلك من جاؤوا بعده فأثبتوا بمشاهداتهم العينية الصادقة أن السيارات جميعها أراض كأرضنا وقد يكون بها ما بأرضنا من الجبال والوهاد والماء والهواء والخلائق والعمران ولم يعتمدوا في هذا التجويز إلا على الحدس والظن فإن مناظيرهم لم تثبت لهم ذلك بعد
أما القرآن فقد صرح بتعدد الأرضين في آية الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ففي تفسير أبي السعود من مفسري القرن التاسع للهجرة أن الجمهور على أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض وفي تفسير النيسابوري أنها سبع أرضين ما بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام وفي كل أرض منها خلق إلى (2/260)
أن قال وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويشهدون الضياء منها ومن أصرح الآيات في أن السيارات أرض مأهولة آية الشورى ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة إذ المراد بالسموات هنا السيارات على ما يأتي لنا من التأويل ومن الآيات البينة في هذا الموضوع قوله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون
ومن قصرت عقولهم استبعدوا وجود الحيوان في الأجرام السماوية ولكن نفى الزمخشري والبيضاوي وغيرها استبعاد أن يخلق الله فيها صنوفا من الحيوان يمشون فيها مشي الإنسان على الأرض فالله خلق كما قالوا ما نعلم وما لا نعلم اه ما أردنا نقله
الوجه السادس
سياسته في الإصلاح
ومعنى هذا أن القرآن انتهج طريقا عجيبا في إصلاحه وسلك سياسة حكيمة وصل بها من مكان قريب إلى ما أراد من هداية الخلق فتذرع بجميع الوسائل المؤدية إلى نجاح هذا الإصلاح الوافي بكل ما يحتاج إليه البشر مما يدل بوضوح على أن القرآن في سياسته هذه لا يمكن أن يصدر عن نفس محمد ولا غير محمد
وبيان ذلك من وجوه
أولها مجيء هذا الكتاب منجما ومخالفته بذلك سائر كتب الله الإلهية بعدا بالناس عن الطفرة وتيسيرا لتلقيهم إياه وقبولهم ما جاء به على نحو ما بينا في أسرار التنجيم بالمبحث الثالث من هذا الكتاب
ثانيها مجيء هذا الكتاب بذلك الأسلوب الشائق الرائع الحبيب إلى نفوسهم ليكون لهم من هذا الأسلوب دافع إلى الإقبال عليه والاستئناس بما جاء من تعاليمه وإن كانت مخالفة لما مردوا عليه من قبل
ثالثها مجيء هذا الكتاب على غير المعهود في تأليف القوانين والعلوم والفنون والآداب من بناء تقسيمها وتبويبها على الموضوعات بحيث يختص كل باب من الكتاب بموضوع معين ويختص كل فصل من فصول هذا الباب بمسألة أو مسائل وهكذا فأنت تجد في الغالب كل سورة من سور القرآن جامعة لمزيج من مقاصد وموضوعات يشعر الناظر فيها بمتعة ولذة كما تنقل بين هذه المقاصد في السورة الواحدة كما يشعر الآكل (2/261)
باللذة والمتعة كلما وجد ألوانا شتى من الأطعمة على المائدة الواحدة وإذن ففي هذا النمط الذي اختاره القرآن فائدتان دفع السأم والملل عن الناظر في هذا الكتاب وانقياد النفوس إلى هدايته بلباقة من حيث لا تحس بغضاضة يضاف إلى هذا ما نلمحه من الوحدة الفنية في السورة أو القطعة الواحدة ومن وفاء القرآن بجميع الاصطلاحات البشرية على رغم هذا الانتشار القاضي في العادة بعدم الانسجام وبفوات شيء أو أشياء من مقاصد التأليف وأغراض المؤلفين حتى ليبدو ذلك وجها جديدا من وجوه الإعجاز يؤمن به عن خبرة وإحساس كل من ابتلى بتأليف أو مزاولة آثار المؤلفين
رابعها تكرار ما يستحق التكرار من الأمور المهمة حتى يجد سبيله إلى النفوس النافرة والطباع العصية فتسلس له القيادة وتلقى إليه السلم مثال ذلك تقرير القرآن لعقيدة التوحيد واستئصاله لشأفة الشرك بوساطة الحديث عنهما مرارا وتكرارا تارة يصرح وأخرى يلوح وتارة يوجز وأخرى يطنب وتارة يذكر العقيدة مرسلة وأخرى يذكرها مدللة وتارة يشفعها بدليل واحد وأخرى بجملة أدلة وتارة يضرب لها الأمثال وأخرى يسوق فيها القصص وتارة يقرنها بالوعد وأخرى بالوعيد وهلم
خامسها مخاطبة العقول والأفكار ودعوته إلى إعمال النظر وطلب الدليل والبرهان ونعيه على من أهملوا العقول واستمرؤوا التقليد الأعمى وركنوا إلى الجمود اقرأ قوله سبحانه وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وقوله إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون وقوله لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون
وهكذا كثيرا ما نسمع في القرآن أمثال قوله سبحانه أفلا يسمعون قليلا ما تتذكرون أني يؤفكون قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت قل انظروا ماذا في السماوات والأرض إلى غير ذلك مما يرفع كرامة الإنسان ويحاكم أهم الأمور حتى العقيدة في الله تعالى إلى العقول ليصل المرء من وراء ذلك إلى اقتناع الضمير واطمئنان القلب وبرد اليقين وحرارة الإيمان
سادسها استغلاله الغرائز النفسية استغلالا صالحا بعد أن يهذبها بالدليل ويصقلها بالبرهان هذه غريزة التقليد والمحاكاة في الإنسان مثلا قد نأى بها القرآن عن احتذاء الأمثلة (2/262)
السيئة من الجهلة والفسقة وذهب بها إلى مقام أمين من وجوب اتباع الأمثلة الطيبة والتأسي بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
وهذه غريزة حب البقاء والعلو في الإنسان قد نأى بها القرآن أيضا عن الظلم والبغي وذهب بها إلى حيث الدفاع عن النفس والعرض والدين والوطن وقاد بهم عباد الله إلى الحق والخير إذا وعدهم حياة ثانية في الخلود والبقاء وفيها الملك الواسع والاستعلاء العادل وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا
وهكذا دخل القرآن على الناس من هذا الباب فقادهم من غرائزهم حتى ناط أوامره بمصالحهم ونواهيه بمفاسدهم وجعل ذلك قاعدة عامة قال فيها من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وأن أسأتم فلها
وأن أردت تفصيلا وتمثيلا فانظر إلى تلك المقارنة الرائعة بين المؤمن والمشرك إذ يقول سبحانه ضرب الله مثلا رجل فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون فأنت ترى في هذه الآية الكريمة أن المشرك مع معبوديه مثله مثل عبد اشترك فيه شركاء متنازعون مختلفون كل واحد منهم يدعي أيهم عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في أعمال شتى وهو متحير متعب مجهود لا يدري أيهم يرضى بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته ولا يدري ممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه فهمه شعاع وقلبه أوزاع أما المؤمن فمثله مثل عبد له سيد واحد فهمه وقلبه مجتمع وضميره مستريح وعمله مريح ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار
وإن أردت مثالا ثانيا فاستمع إلى القرآن وهو يقول في فريضة الصلاة إن الإنسن خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين وقوله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
وإن أردت أمثلة أخرى فاقرأ قول سبحانه في فرض الزكاة خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وفي فرض الصيام كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وفي فرض الحج وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم (2/263)
الخ وفي عموم الإيمان والعمل الصالح من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون
سابعها ترتيبه الأوامر والنواهي ترتيبا يسع جميع الناس على تفاوت استعدادهم ومواهبهم فالأوامر الدينية درجات هذا إيمان وهذا إسلام وهذا ركن وهذا فرض وهذا واجب وهذا مندوب مؤكد وهذا مندوب غير مؤكد والمناهي كذلك درجات هذا نفاق وهذا شرك وهذا كفر وهذه كبيرة وهذه صغيرة وهذا مكروه تحريما وهذا مكروه تنزيها وما وراء هذه الأوامر والنواهي فمباحات لكل أن يأخذ وأن يدع منها ما شاء
ولا ريب أن وضع التشريع على هذا الوجه فيه متسع للجميع وفيه إغراء للنفوس الضعيفة أن تتشرف باعتناق الإسلام ولو في أدنى درجة من درجاته حتى إذا أنست به وذاقت حلاوته تدرجت في مدارج الرقي فمن إيمان إلى إسلام إلى أداء ركن إلى أداء فرض إلى أداء واجب إلى أداء مندوب غير مؤكد ومن ترك نفاق إلى ترك شرك وكفر إلى ترك كبيرة إلى ترك صغيرة إلى ترك مكروه تحريما إلى ترك مكروه تنزيها إلى ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ومن مجرد أداء للنوافل إلى زيادة فيها وإكثار منها حتى يصل العبد إلى ذلك المقام الذي جاء فيه عن الله تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي فيما يرويه عن ربه
على ضوء هذه السياسة الشرعية الحكيمة التي نزل بها القرآن كان يتدرج بالأقوام رويدا رويدا كما كان يتساهل معهم تأليفا لقلوبهم واستمالة لهم إلى اعتناق الدين على أي وجه ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم انه أتى النبي فأسلم على أن يصلي صلاتين لا خمسا فقبل منه وجاء في رواية أخرى على ألا يصلي إلا صلاة فقبل وعن وهب قال سألت جابر عن شأن ثقيف إذ بايعت فقال اشترطت على النبي أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي يقول بعد ذلك سيتصدقون ويجاهدون رواه أبو داود وعن أنس أن رسول الله قال لرجل أسلم قال أجدني كارها قال أسلم وإن كنت كارها رواه أحمد قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد أن سرد هذه الأحاديث فيها دليل على أنه يجوز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه وإن شرط شرطا باطلا (2/264)
والمراقب لنزول القرن وسير التشريع الإسلامي يرى من مظاهر هذه السياسة البارعة المعجزة شيئا كثيرا وحسبك ان يبتدئ الأمر بتقرير عقيدة التوحيد وألا تفرض الصلوات الخمس إلا بعد عشر سنوات تقريبا من البعثة ثم سائر العبادات بعضها تلو بعض أما المعاملات فلم يستبحر الأمر فيها إلا بعد الهجرة وقل مثل ذلك في المنهيات ولعلك لم تنس التدرج الإلهي الحكيم في تحريم الخمر
ثامنها مجيء القرآن بمطالب الروح والجسد جميعا بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر وفي ذلك آيات كثيرة تقدم التنويه بها في مناسبات أخرى ومن أجلها كان المسلمون أمة وسطا بين من تغلب عليهم المادية والحظوظ الجسدية كاليهود ومن تغلب عليهم النواحي الروحية وتعذيب الجسد وإذلال النفس كالهندوس والنصارى في تعاليمهم وإن خالفتها الكثرة الغامرة منهم
تاسعها مجيء القرآن بمطالب الدنيا والآخرة جميعا عن طريق التزام تعاليمه وهداياته التي أجملنا مقاصدها فيما سبق لا عن طريق الاعتقادات الخاطئة والأماني الكاذبة والتواكل وترك العمل والآيات في هذا المعنى أظهر من أن تذكر
عاشرها مجيء القرآن بالتيسير ورفع الحرج عن الناس وما جعل عليكم في الدين من حرج ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لا يكلف الله نفسا إلا وسعها يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وهذا باب واسع وضع منه علماؤنا قواعد عامة كقولهم المشقة تجلب التيسير والضرورات تبيح المحظورات ثم فرعوا عليها فروعا وسعت ولا تزال تسع الناس أجمعين والحمد لله رب العالمين
الوجه السابع أنباء الغيب فيه
ومعنى هذا أن القرآن قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد بها ولا سبيل لمثله أن يعلمها مما يدل دلالة بينة على أن هذا القرآن المشتمل على تلك الغيوب لا يعقل أن يكون نابعا من نفس محمد ولا غير محمد من الخلق بل هو كلام علام الغيوب وقيوم الوجود الذي يملك زمام العالم وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر (2/265)
من ذلك قصص عن الماضي البعيد المتغلغل في أحشاء القدم وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلا عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء وسر الإعجاز في ذلك كله أنه وقع كما حدث وما تخلف وجاء على النحو الذي أخبر به في إجمال ما أجمل وتفصيل ما فصل وأنه إن اخبر عن غيب الماضي صدقه ما شهد به التاريخ وإن أخبر عن غيب الحاضر صدقه ما جاء به الأنبياء وما يجد في العالم من تجارب وعلوم وإن أخبر عن غيب المستقبل صدقه ما تلده الليالي وما تجيء به الأيام
غيب الماضي
أما غيوب الماضي في القرآن فكثيرة تتمثل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لعلم محمد بها من سبيل
منها قصة نوح التي قال الله فيها تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا
ومنها قصة موسى التي يقول الله فيها وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون
ومنها قصة مريم وفيها يقول الله ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون
غيب الحاضر
أما غيب الحاضر فنزيد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن للرسول سبيل إلى رؤيته ولا العلم به فضلا عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح الذي أيده ما جاء به الأنبياء وكتبهم عليهم الصلاة والسلام وأمثلة هذا الضرب كثيرة في القرآن لا تحتاج إلى عرض ولا بيان
ومنه أيضا ما فضح الله به المنافقين في عصر الرسول مما كان قائما بهم وخفي أمره عليه كقوله ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وكقوله في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون (2/266)
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون
وسورة التوبة فيها من هذا الضرب شيء كثير
ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلا العلم الحديث وسيأتي التمثيل له
غيب المستقبل
وأما غيب المستقبل فنمثل له بأمثلة عشرة
المثال الأول إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون في بضع سنين من إعلان هذا النبأ الذي يقول الله فيه غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وبيان ذلك أن دولة الرومان وهي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية في حروب طاحنة بينهما سنة 614م فاغتم المسلمون بسبب أنها هزيمة لدولة متدينة أمام دولة وثنية وفرح المشركون وقالوا للمسلمين في شماتة العدو إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبهم المجوس وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم فنزلت الآيات الكريمة يبشر الله فيها المسلمين بأن هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار في بضع سنين أي في مدة تتراوح بين ثلاثة سنوات وتسع ولم يك مظنونا وقت هذه البشارة أن الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها لأن الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت في عقر دارها كما يدل عليه النص الكريم في أدنى ا لأرض ولأن دولة الفرس كانت قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة حتى إنه بسبب استحالة أن ينتصر الروم عادة أو تقوم لهم قائمة راهن بعض المشركين أبا بكر على تحقق هذه النبوءة ولكن الله تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمدية
ومما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى وهي البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في هذه الوقت الذي ينتصر فيه الروم ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ولقد صدق الله وعده في هذه كما صدقه في تلك وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعا في الظرف الذي صدر فيه الرومان (2/267)
وهكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد مع تقطع الأسباب في انتصار الروم كما علمت ومع تقطع الأسباب أيضا في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة لأنهم كانوا أيامئذ في مكة في صدر الإسلام والمسلمون في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات وإن كنت في شك فأعد على سمعك هذه الكلمات بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون
ثم ألست ترى معي أن هذه العبارة الكريمة في بضع سنين قد حاطت هاتين النبوءتين بسياج من الدقة والحكمة لا يترك شبهة لمشتبه ولا فرصة لمعاند لأن البضع كما علمت من ثلاثة إلى تسع والناس يختلفون في حساب الأشهر والسنين فمنهم من يؤقت بالشمس ومنهم من يؤقت بالقمر ثم إن منهم من يجبر الكسر ويكمله إذا عد وحسب ومنهم من يلغيه يضاف إلى ذلك أن زمن الانتصار قد يطول حبله فتبتدئ بشائره في عام ولا تنتهي مواقعه الفاصلة إلا بعد عام أو أكثر ونظر الحاسبين يختلف تبعا لذلك في تعيين وقت الانتصار فمنهم من يضيفه إلى وقت تلك البشائر ومنهم من يضيفه إلى يوم الفصل ومنهم من يضيفه إلى ما بينهما لذلك كله جاء التعبير بقوله جلت حكمته سيغلبون في بضع سنين من الدقة البيانية والاحتراس البارع بحيث لا يدع مجالا لطاعن ولا حاسب وظهر أمر الله وصدق وعده على كل اعتبار من الاعتبارات وفي كل اصطلاح من الاصطلاحات ومن أصدق من الله قيلا
المثال الثاني إنباء القرآن بأن الله عاصم رسوله وحافظه من الناس لا يصلون إليه بقتل ولا يتمكنون من اغتيال حياته الشريفة بحال وذلك في قوله عز و جل والله يعصمك من الناس ولقد تحققت نبوءة القرآن هذه ولم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله عليه الصلاة و السلام مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ومع أنهم كانوا يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص للإيقاع به والقضاء عليه وعلى دعوته وهو أضعف منهم استعدادا وأقل جنودا فمن الذي يملك هذا الوعد وتنفيذه إذن إلا الله الذي يغلب ولا يغلب والذي لا يقف شيء في سبيل تنفيذ مراده وهو القاهر فوق عباده وإن لم تصدقني فسل التاريخ والمؤرخين كم من الملوك والأمراء والفراعين ضرجت الأرض بدمائهم وهم بين جنودهم وخدمهم وحشمهم
فهل يمكن بعد هذا أن يكون القرآن الذي احتوى ذلك الضمان من كلام محمد وهو (2/268)
من قد علمت ضعفه وقوة أعدائه يومئذ حتى لقد كان يتخذ الحراس قبل نزول هذه الآية فلما نزلت إذا ثقته واعتداده بها أعظم من ثقته واعتداده بمن كانوا يحرسونه وسرعان ما صرف حراسه وسرحهم عند نزول الآية قائلا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله كما رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري وكذلك روى مسلم في صحيحه عن جابر قال كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي أتخافني قال لا قال من يمنعك مني قال الله يمنعني منك ضع السيف فوضعه ومما يجدر التنبيه له أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف
ومن شواهد حماية الله لرسوله وإنجازه له هذا الوعد ما ورد عن علي رضي الله عنه قال كنا إذا احمر البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول الله فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه
ومن أبلغ الشواهد على ذلك أيضا ما ثبت من أنه في يوم حنين حين أعجبت المسلمين كثرتهم وأدبهم الله بالهزيمة حتى ولوا مدبرين أنزل سبحانه سكينته على رسوله حتى لقد جعل يركض بغلته إلى جهة العدو والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع فأقبل المشركون إلى رسول الله فلما غشوه لم يفر ولم ينكص بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه وجعل يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه فوالله ما نالوا منه نيلا بل أيده الله بجنده وكيف أيديهم عنه بيده رواه الشيخان
المثال الثالث ما جاء في معرض التحدي بالقرآن من قوله سبحانه فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا وقوله قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فإن ما تراه في هاتين الآيتين من القطع بانتفاء قدرة المخاطبين وجميع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن قد تناول أطواء المستقبل والمستقبل غيب لا يملكه محمد ولا مخلوق غيره ومع ذلك فقد تحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين به دون أن يستطيعوا معارضة أقصر سورة منه ومضت بعدهم أجيال وأجيال من عرب وأعجام وكلهم قد باؤوا بالعجز ولم يستطيعوا المعارضة إلى اليوم مع وجود أعداء للإسلام في هذه العصور المتأخرة أكثر وأقدر وأحرص على هدم بناء هذا الدين من أولئك الأعداء الأولين (2/269)
لاحظ مع هذا ما يثيره مثل هذا التحدي الطويل العريض الجريء من الحمية الأدبية التي تبعث روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم ثم لاحظ أن المتأخرين من الناقدين لا يعيبهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إما نقصا يعالجونه بالكمال أو كمالا يعالجونه بما هو أكمل منه وإذا فرضنا أن واحدا قد عجز عن هذا فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز أمة وإذا عجز أمة فمن البعيد أن يعجز جيل وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدي عن رجل يعرف ما يقول فضلا عن رجل عظيم فضلا عن رسول كريم فضلا عن محمد أفضل المرسلين وهل يمكن أن يفسر هذا التحدي الجريئ الطويل العريض إلا بأنه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار وحديث عمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه
المثال السابع ما جاء من التنبؤ بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحا باهرا فقد أخبر القرآن والمسلمون في مكة قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس بأن الإسلام سيظهر ويبقى وأن كتابه سيكتب له الحفظ والخلود منفردا بهذه الميزة عن سائر كتب الله اقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة الرعد كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وفي سورة إبراهيم ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وفي سورة الحجر إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
أجل في هذه السور الثلاث المكية قطع القرآن هذه العهود المؤكدة بتلك اللغة الواثقة والإسلام يومئذ في مكة مدفوع مضطهد والمسلمون قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس وليس هناك من بواسم الآمال ما يلقي ضوءا على نجاح هذا الدين الوليد ولئن التمست هذه الآمال في نفس الداعي من طبيعة دعوته فما كانت لتصل إلى هذا الحد من اليقين والتأكيد ولئن وصلت إلى هذا الحد ما دام صاحبها حيا يتعهدها بنفسه ويغذيها بنشاطه فليس لديه من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح بعد موته مع ما هو معروف بأن المستقبل مليء بتشتيت المفاجآت والليالي من الزمان حبالى مثقلات والتاريخ لا يزال يقص علينا وعلى الناس نبأ من قتل من الأنبياء وما ضاع أو حرف من كتب الله ووحي السماء وما حبط من دعوات الحق ونهض من دعوات الباطل كل ذلك فقد كان ومحمد لم يكن في يوم من الأيام بالرجل الأخرق الذي يسير مع الأوهام أو يطير مع الخيال أو يطلب المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة بل كان معروفا منذ نشأته بتواضعه ورجاحة عقله واتزانه ودقته حتى لقد كان يثبت في كلامه (2/270)
ويتحرى إلى أن لقب واشتهر بأنه الصادق الأمين وجاء القرآن نفسه يشهد بأنه كان قبل نبوته لا يطمع في نبوة ولا يأمل وفي وحي وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك وكذلك لم يكن بعد نبوته بالذي يضمن بقاء هذا الوحي وحفظه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليه كبيرا
فلا مناص إذن من أن تكون تلك البشارات المؤكدة والعهود الموثقة صادرة من أفق غير أفقه آتية من مالك قاهر لا راد لحكمة معبرة عن مراد من يملك العالم ويحكمه في ماضيه وحاضره ومستقبله
ومما يؤيد صدق هذه التنبؤات أن الإسلام لقي من ضروب النعت مرارا وتكرارا في أزمان متطاولة وعهود مختلفة ما كان بعضه كافيا في محوه وزواله ولكنه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقي ثابتا يسامي الجبال شامخا يطاول السماء وكذلك لقي كتابه العزيز ولا يزال يلقى من الهمز واللمز والطعن والسباب والمحاولات القاتلة ما لا يتصوره إنسان في أي زمان وما لم يلق كتاب قبله من الكيد والتضليل والبهتان ومع ذلك كله فالقرآن هو القرآن لا يزال جالسا على عرشه في سمائه يمد العالم كله بحرارته وضيائه ولم تنل منه هذه المحاولات إلا كما ينال نباح الكلاب من عاليات السحاب
المثال الخامس تنبؤ القرآن بأن المستقبل السعيد يتنظر المسلمين في وقت لم تكن عوامل هذا المستقبل السعيد مواتية ثم إذا تأويل هذا النبأ يأتي على نحو ما أخبر القرآن في أقصر ما يكون من الزمان أجل إننا لنقرأ في سورة الصافات المكية وإن جندنا لهم الغالبون وفي سورة غافر المكية أيضا إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وكذلك نقرأ في سورة النور المدنية وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا على حين أن سجلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذي أصاب الرسول وأتباعه في مكة والمدينة على عهد نزول هذه الوعود المؤكدة الكريمة حتى لقد كان أكبر أماني المسلمين بعد هجرتهم وتنفسهم الصعداء قليلا أن يسلم لهم دينهم ويعيشوا آمنين في مهاجرهم كما يدل على ذلك ما صححه الحاكم عن أبي بن كعب قال لما قدم رسول الله وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت الآية وكذلك روى ابن أبي حاتم عن (2/271)
البراء قال نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد أي قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخ هكذا كان حال الصحابة أيام أن وعدهم الله ما وعد وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي رغم هذه الحال المنافية في العادة لما وعد فدالت الدولة لهم واستخلفهم في أقطار الأرض وأورثهم ملك كسرى وقيصر ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدث بها إلا من يملك تحقيقها ومن يخرق إن شاء عادات الكون ونواميسه من أجلها إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز
المثال السادس تنبؤ القرآن بأن الرسول وأصحابه وقد كانوا بالمدينة سيدخلون مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين إذ قال سبحانه لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون ثم وقع هذا التنبؤ كما أخبر مع أن ظروفه لم تكن تسمح به في مجرى العادة فدل ذلك على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كلام محمد ولا مخلوق سواه بل هو كلام القادر على أن يبلغ مراده ويخرق العادة
ولزيادة البيان نذكر أن الرسول رأى في نومه كأنه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فقص رؤياه على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها من عامهم ثم خرجوا محرمين يسوقون الهدي إلى مكة لا يقصدون حربا وإنما يقصدون عمرة ونسكا ولكنهم ما كادوا يبلغون الحديبية حتى صدتهم قريش وأبت عليهم ما أرادوا وكادت تكون حرب لولا أن الرسول رضي بصلح بينه وبينهم وإن كان قاسيا إيثارا منه للمسألة وحبا للسلام العام ثم قفل راجعا على أن يؤدي نسكه في العام القابل نزولا على مواد هذا الصلح القاسي وعز ذلك على أصحابه واتخذ المنافقون منه حطبا لنفاقهم ومادة لدسهم ولمزهم فقال عبد الله بن أبي رأسهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ولكن على رغم هذا وعلى رغم ما هو معروف من غدر قريش ونكثهم العهود وتقطيعهم الأرحام نزلت الآية الكريمة تحمل هذا الوعد بل تلك الوعود الثلاثة المؤكدة وهي دخول مكة وأداء النسك والأمن على أنفسهم من قريش حتى يتحللوا ويقفلوا راجعين إلى المدينة وقد أنجز الله وعده فتم الأمر على أكمله في العام الذي بعد عام الحديبية ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
المثال السابع تنبؤ الكفار بهزيمة جموع الأعداء في وقت لا مجال فيه لفكرة الحرب فضلا عن التقاء الجمعين وانتصار المسلمين وانهزام المشركين وذلك قوله سبحانه (2/272)
في سورة القمر المكية سيهزم الجمع ويولون الدبر وأنت خبير بأن الجهاد لم يشرع إلا في السنة الثانية للهجرة فأين ما يتنبأ به القرآن إذن إنه لا بد أن يكون كلاما تنزل ممن يعلم الغيب في السموات والأرض أما محمد الرجل الأمي فأنى له ذلك إن لم يكن تلقاه من لدن حكيم عليم روى ابن أبي حاتم وابن مردويه أن عمر رضي الله عنه جعل يقول حين نزلت هذه الآية أي جمع هذا فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله يقولها
المثال الثامن تنبؤ القرآن في مكة بهذا المستقبل الأسود الذي ينتظر كفار قريش ثم وقوع ذلك كما تنبأ اقرأ قوله سبحانه فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب اليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون وسبب نزول هذه الآيات أن أهل مكة لما تمردوا على رسول الله واستعصوا دعا عليهم بسنين كسني يوسف أي بالجوع والقحط الشديدين عسى أن يتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله فأجابه الله بهذه الآيات وفيها عند التأمل خمسة تنبؤات
أولها الإخبار بما يغشاهم من القحط وشدة الجوع حتى ينظر الرجل إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان
ثانيها الإخبار بأنهم سيضرعون إلى الله حين تحل بهم هذه الأزمة هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون
ثالثها الإخبار بأن الله سيكشف عنهم ذلك العذاب قليلا
رابعها الإخبار بأنهم سيعودون إلى كفرهم وعتوهم
خامسها الإخبار بأن الله سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم بدر
ولقد حقق الله ذلك كله ما انخرم منه ولا نبوءة واحدة فأصيبوا بالقحط حتى أكلوا العظام وجعل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من شدة جوعه وجهده ثم قالوا متضرعين ذلك الذي حكاه الله عنهم هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ثم كشف الله عنهم هذا العذاب قليلا ثم عادوا إلى كفرهم وعتوهم ثم انتقم الله منهم يوم بدر فبطش بهم البطشة الكبرى حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون وأديل للمسلمين منهم
أرأيت ذلك كله وهل يمكن أن يصدر مثله من مخلوق كلا بل هو الله العزيز الحكيم (2/273)
المثال التاسع تنبؤ القرآن بهذا المستقبل المظلم الأسود المضروب على اليهود بوجه مؤكد مؤبد ثم تحقق هذا النبأ كاملا عاما يتناول القرون والأجيال من عهد نزول القرآن لم ينخرم مرة من المرات في يوم واحد من الأيام اقرأ ما نزل في شأنهم من قوله سبحانه في سورة آل عمران لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءو بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ثم انظر كم تنبؤا في هذا النظم الكريم وضعه الله كأنه الأغلال في عنق هذا الشعب الماكر اللئيم ألست ترى فيه أنهم لا يستطيعون أن ينالوا من المسلمين بالحرب والقتل والأسر إنما ضررهم أذى بالغدر وبسوء الاستغلال والمكر وعلى فرض أنهم يقاتلونهم المسلمين فسيلوذون حينئذ بالفرار ويولون الأدبار ولا سبيل لهم في المستقبل إلى الانتصار ثم إن الذلة قد ضربت عليهم كما ضرب الحجر على السفهاء لا يستطيعون الفكاك إلا أن دخلوا في عهد من الله أو عهد من الناس ثم إن المسكنة وهي خوف الفقر قد ضربت عليهم كذلك فهم أشد الشعوب خوفا من الفقر ولذلك كانوا أشدها طمعا وشرها في جمع الدنيا لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال إلى أم رؤوسهم ولا يتورعون عن الجري وراء الدنايا بأحط الوسائل وإن كانوا يملكون الآن ما يقرب من نصف ثروة العالم
ثم اقرأ في شأن هذه الطائفة قول الله تعالى في سورة الأعراف وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب وخبرني ألست تقرأ في هذا النص الكريم صكا مسجلا بعبودية هؤلاء وذلتهم إلى الأبد ثم ألست ترى أن تداول القرون والأحقاب من لدن نزول القرآن إلى اليوم لم يزد هذا التنبؤ إلا تصديقا وتحقيقا ما خرمه مرة وإنما أشبعه إعجازا وتأييدا إن كنت في شك فسل التاريخ قديمه وحديثه أو فاستمع إلى صوت المآسي الماثلة القريبة ثم قل صدق الله ما القرآن إلا كلامه وما محمد إلا عبده ورسوله
وإليك مثالا آخر في شأن هؤلاء أبدع في الإعجاز وأروع
المثال العاشر تحدي القرآن لأعداء الله اليهود في شيء يظهر أنه سهل بسيط وأنه كان في متناول قدرتهم وفي دائرة استطاعتهم ومع ذلك انصرفوا عنه وعجزوا فدل هذا التحدي مع الانصراف والعجز على أن القرآن كلام من يستطيع تصريف القلوب وتحريك الألسنة وهو الله وحده أما محمد صلوات الله وسلامه عليه فمحال أن يقامر بنفسه وبدعوته ويتحدى بهذا الأمر الظاهرة سهولته وهو بشر لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يقلب القلوب ولا أن يعقد الألسنة (2/274)
وبيان ذلك أن اليهود زعموا أنهم هم الشعب المختار من بين شعوب الخلق وادعوا أن الدار الآخرة وقف عليهم وخالصة لهم من دون الناس فخاطب الله رسوله في سورة البقرة يرد عليهم ويتحداهم بقوله قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ثم قال ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين فأنت ترى هذا النظم الكريم يبطل مزاعم اليهود بطلب يبدو لكل ناظر أنه هين وهو أن يتمنوا الموت لو كانوا صادقين في ادعائهم أن نعيم الآخرة وقف عليهم ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولا ولو بألسنتهم نحن نتمنى الموت كي تنهض حجتهم على محمد ويكنوه لكنهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول إني أتمنى الموت وعلى ذلك قامت الحجة عليهم وبان كذبهم في كبريائهم وغرورهم وبلغ من أمر القرآن معهم أنه نفى عنهم هذا التمني نفيا يشمل آباد المستقبل فقال ولن يتمنوه أبدا
وها قد مضى على نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا وما تمنى أحد منهم الموت لو كانوا صادقين بل أعلن القرآن في السورة نفسها مبلغ حرصهم على الحياة وأملهم فيها فقال ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون فكان ذلك علما جديدا من أعلام النبوة لأنه تنويه بغيب حاضر لم يكن يعلمه محمد ولا قومه
خبرني بربك هل يتصور عاقل أن محمدا وهو في موقف الخصومة الشديدة من اليهود تطوع له نفسه أن يتحداهم هذا التحدي من عنده في لغة الواثق الذي لا يتردد والآمن الذي لا يخاف المستقبل وهل كان يأمن أن يرد عليه واحد منهم فيقول إني أتمنى الموت وهنا تكون القاضية فتنقطع لا قدر الله حجة الرسول ويظهر عجزه وتفشل دعوته أمام قوم هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا ومن أحرصهم على إفحام الرسول وتعجيزه
فصدور هذا التحدي من رجل عظيم كمحمد ثم استخذاء هؤلاء وانصرافهم عن الرد عليه وعن إسكاته وهو في مقدور أقل رجل منهم ثم تسجيل هذا الاستخذاء عليهم في الحال بقوله ولتجدنهم أحرص الناس على حياة وفي الاستقبال بقوله ولن يتمنوه أبدا كل أولئك أدلة ساطعة على أن القرآن كلام علام الغيوب قاهر الألسنة ومقلب القلوب وهي أيضا براهين قاطعة على أن محمدا لا يمكن أن يكون مصدر هذا الكتاب ولا منبع هذا الفيض بل قصاراه أنه مهبط هذا التنزيل وأنه يتلقاه من لدن حكيم عليم (2/275)
المثال الحادي عشر وهو من عجائب هذا الباب أن القرآن عرض لتعيين بعض أحداث جزئية تقع في المستقبل لشخص معين ثم تحقق الأمر كما أخبر هذا هو الوليد ابن المغيرة المخزومي يقول الله فيه سنسمه على الخرطوم أي سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها وقد كان ففي غزوة بدر الكبرى خطم ذلك الرجل بالسيف أي ضرب به أنفه وبقي أثر هذه الضربة سمة فيه وعلامة له ولعلك لم تنس أن الوليد هو الذي نزل فيه ذرنى ومن خلقت وحيدا وما بعدها من الآيات التي ذكرناها قبلا وهو أيضا الذي نزلت فيه هنا هذه الآيات من سورة القلم ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم نعوذ به تعالى من الكفر والعناد وسوء الأخلاق ونسأله الإيمان الكامل والعمل الصالح والخلق الفاضل آمين
على هامش الوجه السابع
في هذا الوجه من الإعجاز على ما شرحنا ومثلنا معجزات كثيرة لا معجزة واحدة لأن كل نبأ من أنباء الغيب معجزة فانظر ما عدة تلك الأنباء يتبين لك عدد تلك المعجزات
وإنه ليروعك هذا الإعجاز إذا لاحظت أن هذه الكثرة الغامرة لم تتخلف منها قط نبوءة واحدة بل وقعت كما أنبأ على الحال الذي أنبأ ولو تخلفت واحدة لقامت الدنيا وقعدت وطبل أعداؤه ورقصوا فرحا بالعثور على سقطة لهذا الذي جاءهم من فوقهم وتحداهم بما ليس في طوقهم وسفه معبوداتهم ومعبودات آبائهم ولو كان ذلك لنقل وتواتر ما دامت هذه الدواعي متوافرة على نقله وتواتره كما ترى
ويزيد في أمر هذا الإعجاز أن المتحدث بهذه الأنباء الغيبية أمي نشأ في الأميين وأن من هذه الأنباء ما كان تحديا وإجابة لسؤال العلماء من أهل الكتاب كما سألوا عن أصحاب الكهف وذي القرنين عن الروح ونحوها وأجابهم عما سألوه وهم يعلمون أنه غيب بالنسبة إليه ليست لديه وسيلة عادية للعلم به ولم يؤثر عنهم أنهم كذبوه في شيء مما أخبر تكذيبا يستندون فيه إلى دليل بل هو الذي كان يكذبهم فيما حرفوه ويرشدهم إلى حقيقة ما بدلوه ويتحداهم بما في أيديهم إذا جادلوه وإليك شاهدا على ذلك
قالت اليهود مرة للنبي إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله فقالت اليهود إنها لم (2/276)
تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام فنزل تكذيبا لهم وتحديا بالتوراة التي عندهم كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
يضاف إلى ما ذكرنا أن النبي كان يخفى عليه وجه الصواب في بعض ما يعنيه من الشؤون ويهمه من الأمور فكان يتوقف تارة كما توقف في حديث الإفك مدة حتى نزل الوحي ببراءة عائشة زوجه وبنت صديقه وكان يجتهد ويخطئ تارة أخرى كما حدث في أسرى بدر على ما سيأتي فلو كانت هذه الأنباء الغيبية نابعة من نفسه ولم تكن من ربه لكان الأحرى به أن يعرف وجه الصواب في أمثال تلك الشؤون والمهام مع أن أسباب العلم فيها أقرب إلى اليسر والسهولة من تلك الغيبيات التي تقطعت أسبابها العادية جملة ومع أن الرسول قد آلمه ما أصابه من جراء عدم علمه بأمثال تلك الشؤون والمهام وإلى ذلك يشير القرآن في قوله قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون
معجزات يكشف عنها العلم الحديث
ويتصل بما ذكرنا من أنباء الغيب نوع طريف لم يكشف عنه إلا العلم في العصر الحديث وكان قبل ذلك مخبوءا في ضمير الزمن خفيا على المعاصرين لنزول القرآن حتى صاغ أعداء الله من هذا الخفاء شبهة ولفقوا منه تهمة وما علموا أن جهلهم لا يصح أن يكون حجة بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله وإليك أمثلة ثلاثة من هذا النوع
معجزة يكشف عنها التاريخ الحديث
قال العلامة صاحب مجلة الفتح الغراء في سورة التوبة نقرأ هذه الآية الكريمة وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون فصدر هذه الآية وهو جملة وقالت اليهود عزير ابن الله يتضمن من وقائع التاريخ وحقائق العلم أمرا لم يكن أحدا يعرفه على وجه الأرض في عصر نزول القرآن
ذلك أن اسم عزير لم يكن معروفا عند بني إسرائيل إلا بعد دخولهم مصر (2/277)
واختلاطهم بأهلها واتصالهم بعقائد ووثنيتها واسم عزير هو أوزيرس كما ينطق به الإفرنج أو عوزر كما ينطق به قدماء المصريين وقدماء المصريين منذ تركوا عقيدة التوحيد وانتحلوا عبادة الشمس كانوا يعتقدون في عوزر أو أوزيرس أنه ابن الله وكذلك بنو إسرائيل في دور من أدوار حلولهم في مصر القديمة استحسنوا هذه العقيدة عقيدة أن أوزيرس ابن الله وصار اسم أوزيرس أو عوزر عزير من الأسماء المقدسة التي طرأت عليهم من ديانة قدماء المصريين وصاروا يسمون أولادهم بهذا الاسم الذي قدسوه كفرا وضلالا فعاب الله عليهم ذلك في القرآن الحكيم ودلهم على هذه الوقائع من تاريخهم الذي نسيه البشر جميعا
إن اليهود لا يستطيعون أن يدعوا في وقت من الأوقات أن اسم عزير كان معروفا عندهم قبل اختلاطهم بقدماء المصريين وهذا الاسم في لغتهم من مادة عوزر وهي تدل على الألوهية ومعناه الإله المعين وكانت بالمعنى نفسه عند قدماء المصريين في اسم عوزر أو أوزيرس الذي كان عندهم في الدهر الأول بمعنى الإله الواحد ثم صاروا يعتقدون أنه ابن الله عقب عبادتهم للشمس واليهود أخذوا منهم هذا الاسم في الطور الثاني عندما كانوا يعتقدون أن أوزيرس ابن الله
فهذا سر من أسرار القرآن لم يكتشف إلا بعد ظهور حقيقة ما كان عليه قدماء المصريين في العصر الحديث وما كان شيء من ذلك معروفا في الدنيا عند نزول القرآن حتى إن أعداء الإسلام كانوا يصوغون من جهلهم بهذه الحقيقة التاريخية شبهة يلطخون بها وجه الإسلام ويطعنون بها في القرآن فقال اليهود منهم إن القرآن يقولنا ما لم نقل في كتبنا ولا في عقائدنا وأتى دعاة النصرانية منهم بما شاء لهم أدبهم من السب والطعن والزراية بالقرآن ودين الإسلام ونبي الإسلام اه بتصرف طفيف
معجزة يكشف عنها الطب الحديث
كتب العلامة المرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا في مجلة الأزهر الغراء يقول في مقال له تحت عنوان الطب وصيام شهر رمضان من الناس من يتوهم أن في صيام رمضان وهو من أركان الإسلام مضرة تلحق بالصائم لما يصيب الجهاز الهضمي خاصة وغيره عامة ولما يكون من بعض الصائمين من انفعال وغضب وهذا خطأ لأن ما ذهبوا إليه ليس من الصيام في شيء ولكنه من ترك الاعتدال في طعام الإفطار والسحور ولأنهم لم يراعوا ما يتناسب مع خلو المعدة النهار كله في وقت الإفطار لأن السحور يجب أن يقتصر على بضع لقيمات لأنه لا ضرر من الجوع في حد ذاته (2/278)
وبما أن الصيام يستعمل طبيا في حالات كثيرة ووقاية في حالات أكثر وأن كثيرا من الأوامر الدينية لم تظهر حكمتها وستظهر مع تقدم العلوم رأيت من الواجب على أن أكتب عما ظهر طبيا للآن من فوائده هذه الأوامر وإيضاح آيات قرآنية لأبين معناها الذي لا يظهر إلا لمن بحث عنها في نور الطب الحديث وسأبدأ بالصيام
الصيام
للصيام فوائد في ثلاث جهات أولاها وأهمها الجهة الروحية وهذه أتركها لعلماء الدين والمتصوفة منهم ثانيها الجهة الأخلاقية وهذه أتركها لعلماء الأخلاق ومن السهل البرهنة على أن الصيام يعود الإنسان النظام والقناعة وطاعة الرؤساء والصبر وكبح شهوات النفس وحب الخير والصدقة وغير ذلك من الفضائل وثالثها وأقلها أهمية الجهة المادية أو الصحية وهي محل بحثنا
لقد ظهر أن الصيام يفيد في حالات كثيرة وهو العلاج الوحيد في أحوال أخرى وهو أعم علاج إن لم يمكن العلاج الوحيد للوقاية من أمراض شتى
فللعلاج يستعمل في
اضطرابات الأمعاء المزمنة المصحوبة بتخمر في المواد الزلالية والنشوية وهنا ينجح الصيام وخصوصا عدم شرب الماء بين الأكلتين وأن تكون بين الأكلة والأخرى مدة طويلة كما في صيام رمضان ويمكن أخذ الغذاء المناسب حسب حالة التخمر وهذه الطريقة هي أنجع طريقة لتطهير الأمعاء
زيادة الوزن الناشئ من كثرة الغذاء وقلة الحركة فالصيام أنجع من كل علاج مع الاعتدال وقت الإفطار في الطعام والاكتفاء بالماء في السحور
زيادة الضغط الذاتي وهو آخذ في الانتشار بازدياد الترف والانفعالات النفسية ففي هذه الحالة يكون شهر رمضان نعمة وبركة خصوصا إذا كان وزن الشخص أكثر من الوزن الطبيعي لمثله
البول السكري وهو منتشر انتشار الضغط ويكون في مدته الأولى وقبل ظهوره مصحوبا غالبا بزيادة الوزن فهنا يكن الصيام علاجا نافعا إذ إن السكر يهبط مع قلة السمن ويهبط السكر في العادة بعد الأكل بخمس ساعات إلى أقل من الحد الطبيعي في حالات البول السكري الخفيف وبعد عشر ساعات إلى أقل من الحد الطبيعي بكثير ولا يزال الصيام مع بعض الملاحظات في الغذاء أهم علاج لهذا المرض حتى بعد ظهور الأنسولين خصوصا إذا كان الشخص يزيد على الوزن الطبيعي ولم يكن هناك علاج لهذا المرض قبل الأنسولين غير الصيام (2/279)
التهاب الكلى الحاد والزمن المصحوب بارتشاح وتورم
أمراض القلب المصحوبة بتورم
التهاب المفاصل المزمنة خصوصا إذا كانت مصحوبة بسمن كما يحصل عند السيدات غالبا بعد سن الأربعين وقد شوهدت حالات تتمشى في شهر رمضان بالصيام فقط أكثر مما تتمشى مع علاج سنوات بالكهرباء والحقن والأدوية وكل الطب الحديث
وب سائل يقول ولكن الصيام في كل هذه الحالات يحتاج إلى إرشاد طبيب في كل مرض على حدته والصيام الذي كتب على المسلمين إنما كتب على الأصحاء وهذا صحيح ولكن فائدة الصيام للأصحاء هي الوقاية من هذه الأمراض وخصوصا الأمراض التي مر ذكرها تحت رقم 1و2و3و7
وهذه الأمراض كلها تبتدئ في الإنسان تدريجا بحيث لا يمكن الجزم بأول المرض فلا الشخص ولا طبيبه يمكنهما أن يعرفا أول المرض لأن الطب لم يتقدم بعد إلى الحد الذي يعرف فيه أسباب هذه الأمراض كلها ولكن من المؤكد طبيا أن الوقاية من كل هذه الأمراض هي في الصيام بل إن الوقاية فعالة جدا قبل ظهور أعراض المرض بوضوح وقد ظهر بإحصاءات لا تقبل الشك أن زيادة السمن يصحبها استعداد للبول السكري وزيادة الضغط الذاتي للدم والتهاب المفاصل المزمن وغير ذلك ومع قلة الوزن الاستعداد لهذه الأمراض بالنسبة نفسها وهذا هو السر في أن شركات التأمين لا تقبل تأمينا على الأشخاص الذين يزيد وزنهم إلا بشروط تثقل كلما زاد الوزن والصيام مدة شهر كل سنة هو خير وقاية من كل هذه الأمراض
وهذه الأمراض تنتشر بزيادة الحضارة والترف فقد انتشرت في أوروبا أكثر من الأول وفي مصر يكاد يكون البول السكري وزياد ضغط الدم مقتصرين على الطبقات الوسطى والعليا وهو قليل جدا في الفقراء
ويغلب على الظن أن ذلك هو السر في الصيام في الإسلام أشد منه في الأديان السابقة لأن الإسلام وهو آخر الشرائع السماوية جاء في زمن نحتاج فيه إلى الوقاية من أمراض تزداد كلما ازداد الترف اه رحمه الله عليه
معجزة يكشف عنها علم الاجتماع
كتب العلامة مدير مجلة الأزهر الغراء تحت عنوان معجزات القرآن العلمية القرآن يضع أصول علم الاجتماع قبل العلم بأكثر من ألف سنة مقالا ضافيا نقتطف منه ما يلي (2/280)
لما جاء الإسلام وشرع أهله في إحياء موات العلم ونقل كتبه القيمة إلى لغتهم نظروا في كل شيء مستهدين بالأصول الأولية للقرآن الكريم كقوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر وقوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم فأدركوا على وجه عام أن لكل شيء في هذا الوجود نظاما يجري عليه كما فعل بعض المؤرخين وخاصة ابن خلدون ولكن المعارف التي كانت قد جمعت عن الأمم لم تكن تكفي لتكوين علم خاص بها وتلت هذا الدور نهضة أوروبا فادخر الله هذا السبق للفيلسوف الفرنسي الكبير أوجست كومت 1798 - 1853 واضع أصول الفلسفة الوضعية فإنه أول من جعل للاجتماع علما ووضعه في رأس جميع العلوم البشرية لشرف موضوعه من ناحية ولأنه لا يتسنى إلا لمن يأخذ من كل علم بطرف لتشعب بحوثه واستنادها على جملة المعارف البشرية
فعلم الاجتماع البشري أحدث العلوم وضعا ولكنه أشرفها موضوعا إذ يعرفنا على أي الأصول تقوم الجماعات وبأيها تحفظ وجودها وترتقي وما هي عوامل التأليف التي تقوي وجودها وعوامل التحليل التي تفصم عرى ألفتها وهذه كلها معارف عالية ضرورية للمجتمع ضرورة على قوانين الصحة والطب لآحاده
ثم ذكر من قواعد علم الاجتماع أن الإنسان لا يستطيع أن يؤثر في المجتمع لمجرد رأي يبدو له في إصلاحه ولكن ذلك لا يكون إلا إذا فهم الكافة سداد هذا الرأي وعملوا به عند ذاك يوجد في المجتمع ميل جديد للتحول عن الجهة التي يراد تحويله منها إلى الوجهة التي يريده على أن يكون عليها وهذا كله مصداق لقوله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمعنى الآية أن الأمة التي تريد أن يحول الله عنها حالا لا ترضاه لمجتمعها يجب عليها أن تغير من نفسيتها أولا فإن فعلت حول الله عنها ما تكره ووجه إليها من نعمه ما تحب وهذا وحده معجزة علمية للقرآن كان يجب أن يعقد لها فصل خاص وأن يشاد بذكرها أعظم إشادة فكشف هذا السر يجعلنا ندرك سر تنبيه القرآن على وجوب الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وبعد أن ساق أدلة عن الكتاب والسنة على ذلك قال
القرآن أثبت أن للاجتماع نواميس ثابتة قبل أن يتخيلها أعلم علماء الأرض تخيلا وقد رأيت أن تعيين تلك النواميس والتحسس مما خفي منها هو الشغل الشاغل اليوم لفلاسفة الاجتماع فقال سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا وقال تعالى فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (2/281)
ولم يكتف الكتاب بهذا وحده ولكنه قرر أيضا أن الجماعات كالآحاد لها آجال لا نستطيع أن نتعداها وهو ما هدى إليه علم الاجتماع بعد أن وجد أن وجوه الشبه بين الفرد والمجتمع واحدة فقال تعالى ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وقد تكرر مثلها في سور كثيرة من القرآن الكريم
فالذي يتامل في سبق القرآن الكريم العالم كله أكثر من عشرة قرون في وضع أصول العلم الاجتماعي ويكون من غير أهل هذا الدين يدهش كل الدهش ولا يكاد يصدق عينيه وسندأب نحن من جهتنا على تجلية الأصول العلمية مستخرجين إياها من الكتاب الكريم ليتحقق العالم أنه على ما يقوله موحيه سبحانه وتعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء
وبذلك يتضح سر نهضة المسلمين التي حصلت لهم زعامة العلم والحكمة في العالم في سنين معدودة فإنهم لو كانوا بدؤوا حياتهم العلمية على النحو الذي تبدؤها به كل أمة ما استطاعوا أن يبزوا الأمم التي تقدمتهم في هذا السبيل بقرون كثيرة ولكنهم لبدئهم إياها مستنيرين بهذه الأصول القرآنية العالية بلغوا منها أوجا في مدى قصير لم تبلغه أمة في آماد طويلة وعلى المسلمين اليوم أن يدركوا هذا الأمر الجلل وأن يجعلوا كتابهم نبراسا لهم في اقتباسهم العلم عن الأمم الغربية ليبلغوا منه ما بلغه أسلافهم في عهدهم الأول ويزيدوا عليه ما هدى إليه البشر في العصور الأخيرة اه
الوجه الثامن آيات العتاب
ومعنى هذا أن القرآن سجل في كثير من آياته بعض أخطاء في الرأي على الرسول ووجه إليه بسببها عتابا نشعر بلطفه تارة وبعنفه أخرى ولا ريب أن العقل المنصف يحكم جازما بأن هذا القرآن كلام الله وحده ولو كان كلام محمد ما سجل على نفسه هذه الأخطاء وهذا العتاب يتلوهما الناس بل ويتقربون إلى الله بتلاوتهما حتى يوم المآب
الخطأ في الاجتهاد ليس معصية
وننبهك في هذه المناسبة إلى أن هذا الخطأ ليس معصية حتى يقدح ذلك في عصمة الرسول إنما هو خطأ فحسب بل هو من نوع الخطأ الذي يستحق صاحبه أجرا لأنه صادر عن اجتهاد منه والاجتهاد الصالح وهو بذل الجهد في الاطلاع والبحث والموازنة والاستنتاج مجهود شاق يبذله صاحبه لغرض شريف فليس من الإنصاف حرمانه من المكافأة متى كان أهلا للاجتهاد وإن أخطأ لأن الإنسان ليس في وسعه أن يكون معصوما (2/282)
من الخطأ بل المجتهد يخطئ بعد أن يبذل وسعه في طلب الصواب وهو يتمنى ألا يخطئ بل وهو يخشى أشد الخشية أن يخطئ والله تعالى يقول لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعلى هذا قررت شريعتنا السمحة أن المجتهد له أجر إن أخطأ وأجران إذا أصاب روى الجماعة كلهم حديث إذا حكم الحاكم في شيء فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد بل كان النبي يعطي أمراء الجيوش والسرايا حق الحكم بما يرون فيه المصلحة ويقول للواحد منهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه
ولا ريب أن الرسول كان في موضع الإمامة الكبرى للخلق فكان من حكمة الله أن يجتهد ليقلده الخلق في الاجتهاد وأن يخطئ في بعض الأمور لئلا يصرفهم خوف الخطأ في الاجتهاد عن الاجتهاد ما دام أفضل الخلق على الإطلاق قد أخطأ ومع خطئه لم يمتنع عن الاجتهاد بل عاش طوال حياته يجتهد في كل ما لم ينزل عليه فيه وحي حتى يتقرر في الناس مبدأ الانتفاع بمواهب العقول وثمار القرائح ويتحرر الفكر البشري من رق الجمود والركود ثم كان من حكمة الله أيضا أن يقف رسوله على وجه الصواب فيما أعوزه فيه الصواب ليعلم الناس أنه ليس كأحدهم ولا أن اجتهاده كاجتهادهم بل اجتهاده حجة دونهم لأنه مؤيد من لدن ربه يتولاه مولاه دائما حتى لا يقره على خطأ في الأمور الاجتهادية وهنا يزداد الذين آمنوا إيمانا به وثقة بكل ما صدر عنه ثم يقتدون به في وجوب الخضوع للحق إذا ظهر كما كان الرسول يخضع له ويعلنه ويعلن خطأه فيما أخطأ فيه لا تأخذه العزة بالإثم ولا تلويه العظمة عن حق بل هنا سر العظمة وسر النهضة وسر تربية الأمة بالقدوة لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا
إنما العار الجارح لكرامة البشر أن يجمد الإنسان فلا يجتهد وهو أهل للاجتهاد أو يجمد المجتهد على رأيه وإن كان عظيما بعد أن يستعلن له خطؤه مع أن الرجوع إلى الحق فضيلة والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والكمال المطلق لله وحده
وفي الحديث كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
يضاف إلى ما ذكرنا من الحكم والأسرار في أخطاء الرسول الاجتهادية أمر آخر له قيمته وخطره وهو إقامة أدلة مادية ناطقة على بشرية الرسول وعبوديته وأنه وهو أفضل خلق الله لم يخرج عن أن يكون عبدا من عبيد الله يصيبه من أعراض العبودية ما يصيب (2/283)
العباد ومن ذلك خطؤه في الاجتهاد وبذلك لا يضل المسلمون في إطرائه ولا يغلون في إجلاله كما ضل النصارى في ابن مريم ولقد نبه الرسول إلى ذلك فقال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله رواه البخاري وقال إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله رواه أحمد وابن ماجه وقال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن
وخلاصة القول أن في هذا المقام أمورا ثلاثة
أولها أن خطأ الرسول لم يكن من جنس الأخطاء المعروفة التي يتردى فيها كثير من ذوي النفوس الوضيعة كمخالفة أمر من الأوامر الإلهية الصريحة أو ارتكاب فعل من الأفعال القبيحة إنما كان خطؤه عليه الصلاة و السلام في أمور ليس لديه فيها نص صريح فأعمل نظره وأجال فكره وبذل وسعه ولكن على رغم ذلك كله أخطأ
ثانيها أن الله تعالى لم يقر رسوله على خطأ أبدا لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب والحق للباطل ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول فيما يقول ويفعل ولكان في ذلك تلبيس على الناس وتضليل لهم عن الحق الذي فرض الله عليهم اتباعه ولكان ذلك مدعاة إلى التشكك فيما يصدر عن الرسول ضرورة أنه على هذا الفرض قد يجتهد ويخطئ ولا يرشده الله إلى وجه الصواب فيما أخطأ وهذه اللوازم كلها باطلة لا محالة فبطل ملزومها وثبت أن الحكيم العليم لا يمكن أن يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا بل يبين له وجه الصواب وقد يكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب لطيفا أو عنيفا توجيها له وتكليما لا عقوبة وتنكيلا
ثالثها أن الرسول كان يرجع الصواب الذي أرشده مولاه دون أن يبدي غضاضة ودون أن يكتم شيئا مما أوحي إليه من تسجيل الأخطاء عليه وتوجيه العتاب إليه وفي ذلك لا ريب أنصع دليل على عصمته وأمانته وعلى صدقه في كل ما يبلغ عن ربه وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه ولكن تنزيل العزيز الرحيم
آيات العتاب نوعان
أما بعد فإن العتاب الموجه للرسول في القرآن على نوعين نوع لطيف لين ونوع عنيف خشن ولنمثل لها بأمثله ثلاثة (2/284)
المثال الأول قوله تعالى في سورة التوبة عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكذبين وذلك أنه عليه السلام كان قد أذن لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك حين جاؤوا يستأذنون ويعتذرون فقبل منهم تلك الأعذار أخذا بظواهرهم ودفعا لأن يقال إنه لا يقبل العذر من أصحاب الأعذار ولكن الله تعالى عاتبه كما ترى وأمره بكمال التثبت والتحري وألا ينخدع بتلك الظواهر فإن من وارثها أسفل المقاصد والله أعلم بما يبيتون ولعله لم يخف عليك لطف هذا العتاب بتصدير العفو فبه خطابا للرسول من رب الأرباب
المثال الثاني قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم وذلك أنه وقع في أسر المسلمين يوم بدر سبعون من أشراف قريش فاستشار الرسول أصحابه فيهم فمنهم من اشتد وأبى عليهم إلا السيف ومنهم من رق لحالهم وأشار بقبول الفداء منهم وكان الرسول مطبوعا على الرحمة ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فرجح بمقتضى طبعه الكريم ورحمته الواسعة رأى من أشار بقبول الفداء عسى أن يسلموا أو يخرج الله من أصلابهم من يعبده ويمجده ولينتفع المسلمون بمال الفدية في شؤونهم الخاصة والعامة ولكن ما لبث حتى نزلت الآيات الكريمة المذكورة وفيها تسجيل لخطأ ذلك الإجتهاد المحمدي فلو كان القرآن كلامه ما سجل على نفسه ذلك الخطأ
أمر آخر في هذه الآيات ظاهرة عجيبة هي الجمع بين متقابلات لا تجتمع في نفس بشر على هذا الوجه فصدرها استنكار للفعل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن وعقب هذا الاستنكار عتاب قاس مر وتخويف من العذاب تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وفي أثر هذا الاستنكار والعتاب والتخويف إذن بالأكل ووصف له بالطيب والحل وبشارة بالمغفرة والرحمة لمن أكل فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ومثلك يعلم أن نظم هذه المتقابلات في سلك واحد بهذه الصورة لآمر واحد ومأمور واحد لا يمكن أن يصدر من نفس بشرية هكذا من غير فاصل بين الإنكار والإذن ولا بين المدح والذم ولا بين الوعيد والوعد لأن من طبيعة البشر أن يشغلهم شأن عن شأن ولا يجتمع لهم في أمر واحد ووقت واحد خاطران متقابلان ولا حالان متنافيان كالغضب والرضا والإستمجان والاستحسان بل إذا تواردا على النفس فإنما يرادن متعاقبين في زمنين وإذا تعاقب فاللاحق منهما يمحو (2/285)
السابق وإذا محاه لم يبق معنى لإثباته وتسجيله بل من الطبيعي تركه والإضراب عنه خصوصا إذا كان هذا الخاطر الأول وإعلانا لتخطئة المتكلم ونقده ولومه كقبول الفداء في هذا المقام وأكله
فلا جرم أن هذه الظاهرة تأبى هي الأخرى إلا أن تكون دليل إعجاز وبرهان صدق على أن هنا نفسيتين مختلفتين نفسية لا يشغلها شأن ولا تتأثر ببواعث الغضب والرضا كما يتأثر الإنسان ونفسية نسبتها إلى الأخرى نسبة المأمور من آمره والمسود من سيده ولكن مع الحب والقرب فهذه الآيات الكريمة ليست إلا كلام سيد عزيز يقول لعبده الحبيب أخطأت فيما مضى وما كان لك أن تفعل ولكني عفوت وغفرت وأذنت لك بمثله في المستقبل
المثال الثالث قول عز و جل عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يد ربك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة وذلك أن النبي كان مشتغلا ذات يوم بدعوة أشراف من قريش إلى الإسلام وإذا عبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول وكان عبد الله رجلا أعمى تشرف بهداية الإسلام من قبل ولم يقدر تشاغله بدعاية هؤلاء الصناديد الذين كان النبي حريصا على هدايتهم كل الحرص وكان يستمليهم ويتألفهم إليه طمعا في أن يسلموا فلا يلبث جماهير العرب أن تقتدي بهم في إسلامهم وفي أي شيء جاء هذا الصحابي يسأل أنه مسلم فطبيعي انه لم يسأله عن الإسلام بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول يا رسول الله علمني مما علمك الله
وجد الرسول نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم فآثر الإقبال على أولئك الصناديد وعبس في وجه ابن أم مكتوم هذا واعرض عنه لا احتقارا له وغضا من شأنه ولكن حرصا على هداية هؤلاء خوفا من أن تفوت هذه الفرصة السانحة لدعوتهم فأنزل الله على رسوله تلك الآيات السالفة يعاتبه فيها ذلك العتاب القاسي الخشن ويفهمه أن حرصه على الهداية ما كان ينبغي أن يصل به إلى حد الإقبال الشديد على هؤلاء الصناديد وهم عنه معرضون ولا إلى حد الإعراض العابس في وجه هذا الضعيف الأعمى وهو عليه مقبل
وكأني بك تحسن حرارة هذا العتاب وذلك لتقرير مبدأ من المبادئ العالية هو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شانهم والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (2/286)
ولعلك تلمح معي من وراء هذا العتاب رحمة الرسول بأعدائه وإخلاصه لدعوته وتفانيه في وظيفته وحرصه على هداية الناس أجمعين زاده الله شرفا على شرفه وعزا على عزه آمين
الوجه التاسع
ما نزل بعد طول انتظار
ومعنى هذا أن القرآن آيات كثيرة تناولت مهمات الأمور ومع ذلك لم تنزل إلا بعد تلبث وطول انتظار فدل هذا على أن القرآن كلام الله لا كلام محمد لأنه لو كان كلام محمد ما كان معنى لهذا الانتظار فإن الانتظار في ذاته شاق وتعلقه بمهمات الأمور يجعله أشق خصوصا على رجل عظيم يتحدى قومه بل تحدى العالم كله
ولبيان هذا الوجه نمثل بأمثلة خمسة
أولها حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة نزل فيه قول الله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره فأنت تفهم معي من هذه الآية أن محمدا كان يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة ومن أجل ذلك كان يقلب وجهه في السماء تلهفا إلى نزول الوحي بهذا التحويل ولقد طال به الأمر سنة ونصف سنة وهو يستقبل بيت المقدس فلو كان القرآن من وضعه لنفس عن نفسه وأسعفها بهذا الذي تهفو إليه نفسه ويصبو إليه قومه لأن الكعبة في نظرهم هي مفخرتهم ومفخرة آبائهم من قبلهم
ثانيها حادث الإفك وهو من أخطر الأحداث وأشنعها لم ينزل القرآن فيه إلا بعد أن مضى على الحادث قرابة أربعين يوما على حين أنه يتصل بعرض الرسول وعرض صديقه الأول أبي بكر وقام على اتهام أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق ورميها بأقذر العار وهو عار الزنى فلو كان القرآن كلام محمد ما بخل على نفسه بتلك الآيات التي تنقذ سمعته وسمعة زوجه الحصان الطاهرة ولما انتظر يوما واحدا في القضاء على هذه الوشايات الحقيرة الآثمة التي تولى كبرها أعداء الله المنافقون اقرأ قوله سبحانه إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم إلى قوله أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم في سورة النور ثم حدثني بعد قراءتها ألم يكن الواجب على محمد أن يعجل الحكم بهذه البراءة لو كان الأمر إليه خصوصا أنه (2/287)
قد علم الناس وجوب الدفاع عن العرض ولو بالنفس ثم أخبرني ألا ترى فارقا كبيرا بين هذه اللغة الجريئة القاطعة المنذرة والمبسرة التي صيغت بها آيات البراءة وبين لغة الرسول الحذرة المتحفظة التي رويت عنه في هذه الحادثة إن كنت في شك فأمامك آيات البراءة وهاك كلمتين مما أثر عنه في هذا الأمر الجلل ورد أنه قال حين طال الانتظار وبلغت القلوب الحناجر إني لا أعلم إلا خيرا وورد أنه قال قبيل الساعة التي نزلت فيها آيات البراءة يا عائشة أما إنه قد بلغني كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله
فهل يجوز في عقل عاقل أن يكون صاحب هذا الكلام هو صاحب آيات البراءة دع عنك الأسلوبين ولكن تأمل النفسيتين المتميزتين في الكلامين تميز السيد من المسود والعابد من المعبود
ثالثها ما ورد من أن النبي سئل عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فقال لسائليه ائتوني غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عليه الوحي حتى شق ذلك عليه وكذبته قريش وقالوا ودعه ربه وقلاه أي تركه ربه وأبغضه فأنزل الله والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ثم نهاه مولاه أن يترك المشيئة مرة أخرى إذ قال له في سورة الكهف ولا تقولن لشاىء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ولما نزل جبريل بعد هذا الإبطاء والتمهل قال له ما حكاه الله عنه في سورة مريم وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا يعني أن عدم الإسراع بالنزول لم يكن سببه إعراض الله عنه كما يزعمون بل كان لعدم الإذن به لحكم بالغة قد عرضنا لبعضها في الكلام على أسرار تنجيم القرآن بالجزء الأول وحسبك هنا أن يستدل المنصف بهذا الإبطاء والتراخي على أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم لا كلام النبي الكريم
رابعها ما ورد من أنه لما نزل قوله سبحانه وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله انخلعت قلوب الصحابة وذعروا ذعرا شديدا لأنهم فهموا من هذه الآية أن الله تعالى سيحاسبهم على كل ما يجول بخاطرهم ولو كانت خواطر رديئة ثم سألوا فقالوا يا رسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها فقال لهم النبي أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فجعلوا يقولونها ويضرعون إلى الله بها حتى أنزل تقدست أسماؤه الآية الأخيرة من سورة البقرة وهي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخر السورة فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم وفهموا أنهم (2/288)
لا يحاسبون إلا على ما يقع تحت اختيارهم وفي دائرة طاقتهم من نية وعزم وقول وعمل أما خلجات الضمائر العابرة وخطرات السوء ولو كانت كافرة فلا يتعلق بها تكليف لأنها ليست في مقدور العبد والقرآن يقول لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
فأنت ترى أن النبي لم يبين لهم هذا البيان حين سألوه لأنه لم يوح وقتئذ إليه ولو كان من وحي نفسه كما يقول الأفاكون لأسعف أصحابه بالآية الأخيرة وأنقذهم من هول هذا الخوف الذي أكل قلوبهم لا سيما أنهم أصحابه وهو نبيهم ومن خلقه الرحمة خصوصا بهم بالمؤمنين رءوف رحيم وأيضا لو كان يملك هذا الكلام لعاجلهم بالبيان وإلا كان كاتما للعلم وكاتم العلم ملعون فأين يذهبون
خامسها ورد أن كبير المنافقين عبد الله بن أبي لما توفي قام إليه النبي فكفنه في ثوبه وأراد أن يستغفر له فقال له عمر أتستغفر له وتصلي عليه وقد نهاك ربك فقال إنما خيرني ربي فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيده على السبعين ثم صلى عليه فأنزل الله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فترك الصلاة عليهم
اقرأ الرواية بتمامها في الصحيحين ثم نبئني هل يعقل أن يكون القرآن كلام محمد مع ما ترى من أنه فهم في الآية الأولى غير ما فهم عمر ثم جاءت الآية الثانية صارفة للرسول عن فهمه ومؤيده لعمر أفما كان الأجدر به لو كان القرآن كلامه أن يكون هو أدرى الناس بمراده منه وأعرفهم بحقيقة المقصود من ألفاظه وأن يجيء آخر الكلام مؤيدا لما فهمه هو لا لما فهمه غيره لكن الواقع غير ذلك فقد سبق إلى فهمه أن كلمة أو في الآية الأولى للتخيير وفهم عمر أنها للمساواة وفهم الرسول أن المراد بكلمة سبعين حقيقة العدد المعروف في العشرات بين الستين والثمانين وفهم عمر أنها للمبالغة للتحديد فلا مفهوم لها ولما كان ما فهمه الرسول جاريا على أصل الوضع في معنى أو وفي معنى سبعين مرة تمسك برأيه خصوصا أن فيه رحمة برجل من الناس وإن كان منافقا وكان مطبوعا على الرحمة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
الوجه العاشر
مظهر النبي عند هبوط الوحي عليه
وبيان ذلك أن النبي كان في أول عهده بالوحي يتعجل في تلقفه ويحرك لسانه بالقرآن من قبل أن يفرغ أمين الوحي من إيحائه إليه وذلك للإسراع بحفظه والحرص على (2/289)
استظهاره حتى يبلغه للناس كما أنزل وكان عليه الصلاة و السلام يجد من ذلك شدة على نفسه فوق الشدة العظمى التي يحسها من نزل الوحي عليه حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن جسمه ليثقل بحيث يحس ثقله من بجواره وحتى أن وجهه ليحمر ويسمع له غطيط روى مسلم أنه كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه الشريف فاقتضت رحمة الله بمصطفاه أن يخفف عنه هذا العناء فأنزل عليه في سورة القيامة لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأنه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه وبهذا اطمأن الرسول ثقة بأن الله قد تكفل له بأن يجمع القرآن في صدره وأن يقرأه على الناس كاملا لا ينقص كلمة ولا حرفا وأن يبين له معناه فلا تخفى عليه خافية منه كذلك قال الله في سورة الأعلى سنقرئك فلا تنسى وقال له مرة ثالثة في سورة طه ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علما
ألا ترى في هذا كله نورا يهدي إلى أن القرآن كلام الله وحده ومحال أن يكون كلام محمد وإلا لما احتاج إلى هذا العناء الذي كان يعانيه في نزول القرآن عليه ولكان الهدوء والسكون والصمت أجدى في إنضاج الفكرة وانتقاء ألفاظها لديه ولما كان ثمة من داع إلى أن يطمأن على حفظه وتبليغه وبيان معانيه أضف إلى ذلك أن هذه الحال التي كانت تعروه عند الوحي لم تكن من عادته في تحضير كلامه لا قبل النبوة ولا بعدها ولم تكن من عادة أحد من قومه بل كان ديدنهم جميعا تحضير الكلام في نفوسهم وكفى
الوجه الحادي عشر
آية المباهلة
وذلك أن القرآن دعا إلى المباهلة وهي مفاعلة من الابتهال والضراعة إلى الله بحرارة واجتهاد فأبى المدعوون وهم النصارى من أهل نجران أن يستجيبوا لها وخافوها ولاذوا بالفرار منها مع أنها لا تكلفهم شيئا سوى أن يأتوا بأبنائهم ونسائهم ويأتي الرسول بأبنائه ونسائه ثم يجتمع الجميع في مكان واحد يبتهلون إلى الله ويضرعون إليه بإخلاص وقوة أن ينزل لعنته وغضبه على من كان كاذبا من الفريقين قال سبحانه في سورة آل عمران فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم
ورد أنه لما دعاهم إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فقال العاقب وكان ذا (2/290)
رأيهم والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل وما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله وقد غدا متحضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول إذا أنا دعوت فآمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا يا أبا القاسم رأينا ألا نباهلك فصالحهم النبي على ألفي حلة كل سنة فقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قددة وخنازير
وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كان المباهلة مختصة به وبمن يكذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحالة واستيفائه بصدقه حتى جرؤ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم وفيه دليل على صحة نبوة النبي لأنه لو لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك اه من تفسير النسفي
ونقول أليس هذا دليلا ماديا على أن القرآن كلام القادر على إنزال اللعنة وإهلاك الكاذب ثم أليس قبول محمد لهذه المبالهة مع امتناع أعدائه دليلا على أن صدقه في نبوته كان أمرا معروفا مقررا حتى في نفوس مخالفيه من أهل الكتاب وإلا فلماذا نكصوا على أعقابهم ولاذوا بالفرار من المباهلة تأمل كلمة العاقب وأسقف نجران في الرواية الآنفة لكنه الحقد والكبرياء أكلا قلوبهم فحسدوه أن آتاه الله النبوة دونهم مع أنه أمي وهم أهل كتاب وكبر عليهم أن يؤمنوا به ويدينوا له فتضيع رياستهم وتنحط منزلتهم في نفوس العامة والحسد والكبر من الحجب الكثيفة التي تحول بين المرء وسعادته فالحسود لا يسود والمتكبر مخذول لا يسترشد ولا يتوب سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين معاذا بك اللهم من مقتك وغضبك ومن كل ما يؤدي إلى مقتك وغضبك آمين
الوجه الثاني عشر
عجز الرسول عن الإتيان ببدل له
وذلك أن أعداء الإسلام طلبوا النبي أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو أن يبدله فلم يفعل وما ذاك إلا لأن القرآن ليس كلامه بل هو خارج عن طوقه آت من فوقه ولو (2/291)
كان كلامه لاستطاع أن يأتي بغيره وأن يبدله حين اقترحوا عليه وحينئذ يكتسب أنصارا إلى أنصاره ويضم أعوانا إلى أعوانه ويكون ذلك أروج لدعوته التي يحرص على نجاحها لكنه أعلن عجزه عن إجابة هذه المقترحات وأبدى مخاوفه إن هو أقدم على هذا الذي سألوه وتنصل من نسبة القرآن إليه مع أنه الفخر كل الفخر وألقمهم حجرا في أفواههم بتلك الحجة التي أقامها عليهم وهي أنه نشأ فيهم لا يعرف ولا يعرفون عنه ذلك الذي جاء به وهو القرآن
اقرأ إن شئت هاتين الآيتين في سورة يونس قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون والمعنى أن القرآن فوق طاقتي وليس من مقدوري وما أنا إلا ناقل له أتبع ما يوحى إلي منه وإني أخاف سطوة صاحب هذا الكتاب إذا أنا تلاعبت بنصوصه أو غيرت فيه فالقرآن كلامه ولو أراد ألا أكون رسولا بينه وبينكم ما كانت لي حيلة إلى أن أتلو هذا الكتاب عليكم وتأخذوه عني فقد نشأت بينكم ومكثت أكثر من أربعين سنة قبل نزوله وهو عمر طويل وأنتم لا تعرفون مني هذا الاستعداد الأعلى ولا تسمعون مني مطلقا مثل هذا الكلام المعجز ولم تأخذوا علي قط أني كذبت مرة على عبد من عباد الله فكيف أكذب على الله بعد هذا العمر الطويل أفلا تعقلون يا لها كلمة فيها من لذعة التعنيف والتخجيل بمقدار ما فيها من لفت النظر إلى قوة الدليل
الوجه الثالث عشر
الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه
وذلك أنك تقرأ القرآن فتجد فيه آيات كثيرة تجرد الرسول محمدا من أن يكون له فيها حرف أو كلمة وتصفه بأنه كان قبل نزول القرآن لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان وتمتن عليه بأن الله آتاه الكتاب والحكمة بعد أن كان بعيدا عنهما وغير مستعد لهما ولم يكن عنده رجاء من قبل لأن يكون منهل هذا الفيض ولا مشرق ذلك النور اقرأ قوله سبحانه في سورة النساء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما وقوله في ختام سورة الشورى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان وقوله في سورة القصص وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك (2/292)
بل كان يخاف انقطاع هذا المدد الفياض عنه فإذا فتر الوحي عراه من الحزن على فترته والتلهف على عودته ما يجعله يمشي في الشعاب والجبال كأنه يتلمسه حتى لقد كاد يتردى مرة من شاهق وهو يطلبه وأكثر من هذا أنه كان يخشى أن يتلفت منه شيء أثناء إيحائه إليه لولا أن طمأنه الله عليه كما تقدم شرحه في الوجه العاشر وأكثر من هذا وذاك أنه كان يخاف أن ينزع الله من قبله ما أنزل عليه وحفظه إياه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا
قل لي وربك هل يتصور منصف على وجه الأرض أن القرآن كلام محمد بعد ما قصصنا عليك من هذه الآيات التي تجرده من إنشائه ووضعه بل تجرده من رجاء نزوله عليه قبل مبعثه ومن رجاء بقائه لديه بعد نزوله عليه وهل يصح في الأذهان أن أحدا يبتكر بعبقريته أمرا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ثم يقول للعالم في صراحة ليس هذا الفخر فخري وما هو من صنعي وما كان لدي استعداد أن آتي بشيء منه وأنتم تعرفونني وتعرفون استعدادي من قبل
ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق ويجافي العرف والعادة وينافي مقررات علم النفس وعلم الاجتماع فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة في جلائل الأمور ومعاليها مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها لا سيما إذا كان ذلك نابعا منها وصادرا عنها وكان صاحب هذه النفس صدوقا ما كذب قط رافعا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق وليس شيء أجل شأنا ولا أخلد ذكرا من القرآن الكريم الذي جمع الله به شمل أمة وأقام به خير ملة وأسس به أعظم دولة فما كان لمحمد أن يزهد في هذا المجد الخالد ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به
وأي وجه لمحمد في أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجد فليس شيء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه وإن كان يطلب هداية الناس فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه ولو كان القرآن من تأليف محمد لأثبت به ألوهيته بدلا من نبوته لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله كما بينا في الوجوه السالفة للإعجاز وإذن لكانت تلك الألوهية أبلغ في نجاح دعوته وأرجى في ترويج ديانته لأن الناس تبهرهم الألوهية أكثر مما تبهرهم النبوة ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أن يشرفهم أنهم أتباع رسول لم يخرج ولن يخرج يوما من أرض العبودية ولم يرتق ولن يرتقي يوما إلى سماء الربوبية (2/293)
العبد عبد وإن تعالى ... والمولى مولى وإن تنزل
ولهذا كان أعداء الرسل كثيرا ما يعظم عليهم أن يخضعوا لرجل منهم وكانوا يعجبون أم يوحى إلى بشر مثلهم ويقترحون أن يروا الله جهرة أو تنزل لهم الملائكة عيانا فلو كان محمد صاحب هذا التنزيل لخرج عن مستوى الخلق جملة ولظهر في أفق الألوهية يطل على العالم بعظمه تنقطع دونها الأعناق وتخضع لها الرقاب وأن يحقق كل ما اقترحه معارضوه من الآيات ولكنه اعترف بعبوديته حينذاك وتبرأ من حوله وقوته إزاء هذا الكتاب وغيره من المعجزات وخوارق العادات اقرأ في سورة الإسراء وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
الوجه الرابع عشر تأثير القرآن ونجاحه
ومعنى هذا أن القرآن بلغ في تأثيره ونجاحه مبلغا خرق به العادة في كل ما عرف من كتب الله والناس وخرج عن المعهود في سنن الله من التأثير النافع بالكلام وغير الكلام وبيان ذلك أن الإصلاح العام الذي جاء به القرآن والانقلاب العالمي الذي تركه هذا الكتاب ما حدث ولم يكن ليحدث في أي عهد من عهود التاريخ قديمه وحديثه إلا على أساس من الإيمان العميق القائم على وجدان قوي بحيث يكون له من السلطان القاهر على النفوس والحكم النافذ على العواطف والميول ما يصد الناس عن نهجهم الأول في عقائدهم التي توارثوها وعبادتهم التي ألفوها وأخلاقهم التي نشؤوا عليها وعاداتهم التي امتزجت بدمائهم وما يحملهم على اعتناق هذا الدين الجديد الذي هدم تلك الموروثات فيهم وحارب تلك الأوضاع المألوفة لديهم
وهذا الأساس الذي لا بد منه تقصر عنه في العادة جميع الكتب التعليمية التي يؤلفها العلماء والمصلحون وتعجز عن إيجاده كافة القوانين البشرية التي يضعها القادة والمشترعون لأن قصارى هذه الكتب والقوانين إذا وفقت أن تشرح الحقائق وتبين الواجهات لا أن تحمل على الإيمان والإذعان وتدفع إلى العمل بوحي هذا الإيمان وإذا فرض أن يؤمن بها أصحاب الاستعداد السليم فإيمان مجرد حينئذ من قوة الدفع ودفعة التحويل ولا سبيل في العادة إلى التأثير بها على الجماهير ونجاحها فيهم نجاحا عاما إلا بأمرين أحدهما تربية الأحداث وترويضهم عليها علما وعملا من عهد الطفولة والآخر قوة حاكمة تحمل الكبار على احترامها حملا بالقوة والقهر ومع هذا وذاك فتربية الصغار (2/294)
على هذا الغرار هيهات أن تكون تربية استقلالية بل هي تقليدية تفقد الدليل والبرهان وكذلك إجبار الكبار هيهات أن يصل إلى موضع الإذعان والوجدان
لكن القرآن الكريم وحده وهو الذي نفخ الإيمان في الكبار والصغار نفخا وبثه روحا عاما وأشعر النفوس بما جاء فيه إشعارا ودفعها إلى التخلي عن موروثاتها ومقدساتها جملة وحملها على التحلي بهدية الكريم علما وعملا على حين أن الذي أتى بهذا القرآن رجل أمي لا دولة له ولا سلطان ولا حكومة ولا جند ولا اضطهاد ولا إجبار إنما هو الاقتناع والرغبة والرضا والإذعان لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله
هذا الأساس الذي وضعه القرآن وحده هو سر نهضته وإن شئت فقل هو نار ثورته بل هو نور هدايته والروح الساري لإحياء العالم بدعوته وذلك عن طريق أسلوبه المعجز الذي هو النفوس والمشاعر وملك القلوب والعقول وكان له من السلطان ما جعل أعداءه منذ نزوله إلى اليوم يخشون بأسه وصولته ويخافون تأثيره وعمله أكثر مما يخافون الجيوش الفاتحة والحرب الجائحة لأن سلطان الجيوش والحروب لا يعدو هياكل الأجسام والأشباح أما سلطان هذا الكتاب فقد امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح بما لم يعهد له نظير في أية نهضة من النهضات
ولقد أشار القرآن نفسه إلى هذه الوجه من وجوه إعجازه حين سمى الله كتابه روحا من أمره بقوله وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وحين سماه نورا بقوله قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين وحين وصف بالحياة والنور من آمن به في قوله أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وفي قوله من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة وفي قوله يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم
هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذي نتحدث فيه أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفه حاذقا لأساليبه العربية ملما بظروفه وأسباب نزوله أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم ونقلت حدود (2/295)
الممالك وعن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاء أشبه بالقهر وما هو بالقهر وأفعل من السحر وما هو بالسحر سواء في ذلك أنصاره وأعداؤه ومحالفوه ومخالفوه وما ذاك إلا لأنهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته ولمسوا بحاستهم البيانية إعجازه فوجد تياره الكهربائي موضعا في نفوسهم لشرارة ناره أو لهطول غيثه وانبلاج أنواره
تأثيره في أعدائه
أما أعداؤه المشركين فقد ثبت أنه جذبهم إليه بقوته في مظاهر كثيرة نذكر بعضها على سبيل التمثيل
المظهر الأول أن هؤلاء المشركين مع حربهم له ونفورهم مما جاء به كانوا يخرجون من جنح الليل البهيم يستمعون إليه والمسلمون يرتلونه في بيوتهم فهل ذاك إلا لأنه استولى على مشاعرهم ولكن أبى عليهم عنادهم وكبرهم وكراهتهم للحق أن يؤمنوا به بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون
المظهر الثاني أن أئمة الكفر منهم كانوا يجتهدون في صد رسول الله عن قراءته في المسجد الحرام وفي مجامع العرب وأسواقهم وكذلك كانوا يمنعون المسلمين من إظهاره حتى لقد هالهم من أبي أبكر أن يصلي به في فناء داره وذلك لأن الأولاد والنساء كانوا يجتمعون عليه يستمتعون بلذة هذا الحديث ويتأثرون به ويهتزون له
المظهر الثالث أنهم ذعروا ذعرا شديدا من قوة تأثيره ونفوذه إلى النفوس على رغم صدهم عنه واضطهادهم لمن أذعن له فتواصوا على ألا يسمعوه وتعاقدوا على أن يلغوا فيه إذا سمعوه وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون
المظهر الرابع أن بعض شجعانهم وصناديدهم كان الواحد منهم يحمله طغيانه وكفره وتحمسه لموروثه على أن يخرج من بيته شاهرا سيفه معلنا غدره ناويا القضاء على دعوة القرآن ومن جاء بالقرآن فما يلبث حين تدركه لمحة من لمحات العناية وينصت إلى صوت القرآن في سورة أو آية أن يذل للحق ويخشع ويؤمن بالله ورسوله وكتابه ويخضع وإن أردت شاهدا على هذا فاستعرض قصة إسلام عمر وهي مشهورة أو فتأمل كيف أسلم سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس هو وابن أخيه أسيد بن حضير رضي الله عنهم أجمعين وإليك كلمة قصيرة عن إسلام سعد وأسيد فيها نقع كبير
تروي كتب السيرة أن رسول الله وهو في مكة قبل الهجرة أرسل مع أهل (2/296)
المدينة الذين جاؤوا وبايعوه بيعة العقبة مبعوثين جليلين يعلمانهم الإسلام وينشرانه في المدينة هما مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما وقد نجح هذان في مهمتهما أكثر نجاح وأحدثا في المدينة ثورة فكرية أو حركة تبشيرية جزع لها سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس حتى قال لابن أخيه أسيد بن حضير ألا تذهب إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما فلما انتهى إليهما أسيد قال لهما ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ثم هددهما وقال اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة رضي الله عن مصعب فقد تغاضى عن هذه التهديد وقال لأسيد في وقار المؤمن وثباته أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كفننا عنك ما تكره ثم قرأ مصعب القرآن وأسيد يسمع فما قام من مجلسه حتى أسلم ثم كر راجعا إلى سعد فقال له والله ما رأيت بالرجلين بأسا فغضب سعد وذهب هو نفسه ثائرا مهتاجا فاستقبله مصعب بما استقبل به أسيدا وانتهى الأمر بإسلامه أيضا ثم كر راجعا فجمع قبيلته وقال لهم ما تعدونني فيكم قالوا سيدنا وابن سيدنا فقال سعد كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا فأسلموا أجمعين
تأثير القرآن في نفوس أوليائه
تلك مظاهر لفعل القرآن بنفوس شانئيه فهل تدري ماذا فعل بهم بعد أن دانوا له وآمنوا به وأصبحوا من تابعيه ومحبيه لعلك لم تنس ما فعل القرآن بعمر وسعد وأسيد الذين نوهنا بهم بين يديك ألم يعودوا من خيرة جنود الإسلام ودعاته من يوم أسلموا بل من ساعة أسلموا وهناك مظاهر أربعة لهذا الضرب أيضا
المظهر الأول تنافسهم في حفظه وقراءته في الصلاة وفي غير الصلاة حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيد منامهم من أجل تهجدهم به في الأسحار ومناجاتهم العزيز الغفار وما كان هذا حالا نادرا فيهم بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دويا كدوي النحل بالقرآن وكان التفاضل بينهم بمقدار ما يحفظ أحدهم من القرآن وكانت المرأة ترضى بل تغتبط أن يكون مهرها سورة يعلمها إياها زوجها من القرآن
المظهر الثاني عملهم به وتنفيذهم لتعاليمه في كل شأن من شؤونهم تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافي هداياته طيبة بذلك نفوسهم طيعة أجسامهم سخية أيديهم وأرواحهم حتى صهرهم القرآن في بوتقته وأخرجهم للعالم خلقا آخر مستقيم العقيدة قويم العبادة طاهر العادة كريم الخلق نبيل المطمح
المظهر الثالث استبسالهم في نشر القرآن والدفاع عنه وعن هدايته فأخلصوا له وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه وهو مدافع عنه ومنهم من انتظر حتى (2/297)
أتاه اليقين وهو مجاهد في سبيله مضح بنفسه ونفيسه ولقد بلغ الأمر إلى حد أن الرسول كان يرد بعض من يتطوع بالجندية من الشباب لحداثة أسنانهم وكان كثير من ذوي الأعذار يؤلمهم التخلف عن الغزو حتى يضطر الرسول أن يتخلف معهم جبرا لخاطرهم ويرسل سراياه وبعوثه بعد أن ينظمها ويزودها بما تحتاجه ولا يخرج معهم روى مالك والشيخان أن رسول الله قال والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل
المظهر الرابع ذلك النجاح الباهر الذي أحرزه القرآن في هداية العالم فقد وجد قبل النبي أنبياء ومصلحون وعلماء ومشترعون وفلاسفة وأخلاقيون وحكام ومتحكمون فما تسنى لأحد من هؤلاء بل ما تسنى لجميعهم أن يحدثوا مثل هذه النهضة الرائعة التي أحدثها محمد في العقائد والأخلاق وفي العبادات والمعاملات وفي السياسة والإدارة وفي كافة نواحي الإصلاح الإنساني وما كان لمحمد ولا لألف رجل غير محمد أن يأتوا بمثل هذا الدستور الصالح الذي أحيا موات الأمة العربية في أقل من عشرين سنة ثم نفخ فيهم من روحه فهبوا بعد وفاته ينقذون العالم ففتحوا ملك كسر وقيصر ووضعوا رجلا في الشرق ورجلا في الغرب وخفقت رايتهم على نصف المعمور في أقل من قرن ونصف قرن من الزمان
أفسحر هذا أم هو برهان عقلي لمحه المنصفون من الباحثين فاكتفوا من محمد بهذا النجاح الباهر دليلا على أنه رسول من رب العالمين
هذا فيلسوف من فلاسفة فرنسا يذكر في كتاب له ما زعمه دعاة النصرانية من أن محمدا لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى ثم يفند هذا الزعم ويقول إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان به ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين
أجل لقد صدق الرجل فإن فعل القرآن في نفوس العرب كان أشد وأرقى وأبلغ مما فعلت معجزات جميع الأنبياء وإن شئت مقارنة بسيطة فهذا موسى عليه السلام قد أتى بني إسرائيل بآيات باهرة من عصا يلقيها فإذا هي ثعبان مبين ومن يد يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين ومن انفلاق البحر فإذا هو طريق يابسة يمشون فيها ناجين آمنين إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في مصر وفي طور سينا مدة التيه فهل تعلم مدى تأثير هذه الهدايات في إيمانهم بالله ووحدانيته وإخلاصهم لدينه ونصرة رسوله إنهم ما كادوا (2/298)
يخرجون من البحر بهذه المعجزة الإلهية الكبرى ويرون بأعينهم عبدة الأصنام والأوثان حتى كان منهم ما حكاه الله في القرآن وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين
ثم لما ذهب موسى إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما السلام نسوا الله تعالى وحنوا إلى ما وقر في نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها فعبدوا العجل كما تحدثت سورة الأعراف بذلك واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين
ولما دعاهم موسى إلى قتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أبوا وخالفوا وفضلوا القعود والاستخذاء على الجلاد والنزول إلى ميادين الجهاد قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون هؤلاء أصحاب موسى فانظر إلى أصحاب محمد كيف تأثروه بالقرآن حتى ليحدث التاريخ عنهم أنهم قطعوا شجرة الرضوان وهي تلك الشجرة التاريخية المباركة التي ورد ذكرها في القرآن وما هذا إلا لأن الناس تبركوا بها فخاف عمر إن طال الزمان بالناس أن يعودوا إلى وثنيتهم ويعبدوها فأمر بقطعها ووافقه الصحابة على ذلك
وكذلك يذكر التاريخ أن محمدا استشار أصحابه حين عزم على قتال المشركين في غزوة بدر فقالوا والله لو استعرضت بنا هذا البحر يريدون البحر الأحمر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد إنا لا نقول لك ما قال قوم موسى لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون هكذا كانوا يفضلون مصافحة المنايا في ميادين الجهاد ويتهافتون على الغزو طمعا في الاستشهاد وهكذا حصروا على الموت فوهبهم الله الحياة وأتقنوا صناعة الموت فدانت لهم الملوك وعنت الكماة ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (2/299)
وجوه معلولة
ذكر بعضهم وجوها أخرى للإعجاز ولكنها لا تسلم في نظرنا من طعن لأن منها ما يتداخل بعضه في بعض ومنها ما لا يجوز أن يكون وجها من وجوه الإعجاز بحال ونمثل لهذا الذي ذكروه بتلك الأوجه العشرة التي عدها القرطبي وهي
نظمه البديع المخالف لكل نظم معهود
أسلوبه العجيب المخالف لجميع الأساليب
جزالته التي لا تمكن لمخلوق
التصرف في الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربي
الوفاء بالوعد المدرك بالحسن والعيان كوعد المؤمنين بالنصر وغير ذلك
الأخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يطلع عليها إلا بالوحي
ما تضمنه القرآن من العلوم المختلفة التي بها قوام الأنام
اشتماله على الحكم البالغة
عدم الاختلاف والتناقض بين معانيه
الإخبار عن الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله بما لم تجر العادة بصدوره ممن لم يقرأ الكتاب ولم يتعلم ولم يسافر إلى حيث يختلط بأهل الكتاب
فإن المتأمل في هذه الأوجه يلاحظ أن أسلوب القرآن العجيب يشمل جزالته التي لا تمكن لمخلوق ويشمل التصرف في الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربي ويلاحظ أيضا أن الوفاء بالوعد المدرك بالحس والعيان كوعد المؤمنين بالنصر ينضوي تحت مضمون الإخبار بالمغيبات وكذلك الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله تنتظم في سلك الإخبار بالغيبات ويلاحظ كذلك أن الاشتمال على الحكم البالغة وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجها من وجوه الإعجاز لأنهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيرا ما نجد كلام الناس مشتملا على حكم وسليما من التناقض والاختلاف
وبعضهم جعل وجه الإعجاز في القرآن هو الفصاحة وحدها وذلك غير سديد أيضا لأن مجرد الفصاحة دون مراعاة لمقتضى الحال أمر لا يخرج بالكلام عن المعهود في مقدور البشر فكثيرا ما يكون الكلام البشري فصيحا لكن تعوزه الخصائص والنكات الزائدة التي هي مناط بلاغته في أقل درجاته فضلا عن إعجازه (2/300)
شبهة القول بالصرفة
ومن الباحثين من طوعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته إما لأن البواعث على هذا العمل لم تتوافر وإما لأن الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأن حادثا مفاجئا لا قبل له به قد اعترضه فعطل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهرا عنه على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن لم ينشأ من أن القرآن بلغ في بلاغته حد الإعجاز الذي لا تسمو إليه قدرة البشر عادة بل لواحد من ثلاثة
أولها أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم
ثانيها أن صارفا إليها زهدهم في المعارضة فلم تتعلق بها إرادتهم ولم تنبعث إليها عزائمهم فكسلوا وقعدوا على رغم توافر البواعث والدواعي
ثالثها أن عارضا مفاجئا عطل مواهبهم البيانية وعاق قدرهم البلاغية وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة على رغم تعلق إرادتهم بها وتوجه همتهم إليها
بهذا التوجيه أو نحوه يعزى القول بالصرفة إلى أبي إسحاق الإسفراييني من أهل السنة والنظام من المعتزلة والمرتضى من الشيعة وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها أو التمست لهم علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجيء من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم بل جاءت على الفرضين الأولين من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه المعارضة ولو أنهم حاولوها لنالوها وجاءت على الفرض الأخير من ناحية عجزهم عنه لكن بسبب خارجي عن القرآن وهو وجود مانع منعهم منها قهرا ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه
تفنيد هذا القول
وهذا القول بفروضه التي افترضوها أو بشبهاته التي تخيلوها لا يثبت أمام البحث ولا يتفق والواقع
أما الفرض الأول فينقضه ما سجل التاريخ وأثبت التواتر من أن دواعي المعارضة كانت قائمة موفورة ودوافعها كانت مائلة متآخذة وذلك لأدلة كثيرة (2/301)
منها أن القرآن تحداهم غير مرة أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه ثم سجل العجز عليهم وقال بلغة واثقة إنهم لا يستطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا ولو ظاهرهم الإنس والجن فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا ولو كانوا أجبن خلق الله
ومنها أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم فكيف لا يحركهم هذا التحدي والاستفزاز
ومنها أن صناعتهم البيان وديدنهم التنافس في ميادين الكلام فكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة
ومنها أن القرآن أثار حفائظهم وسفه عقولهم وعقول آبائهم ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك فكيف يسكتون بعد هذا التقريع والتشنيع
ومنها أن القرآن أقام حربا شعواء على أعز شيء لديهم وهي عقائدهم المتغلغة فيهم وعوائدهم المتمكنة منهم فأي شيء يلهب المشاعر ويحرك الهمم إلى المساجلة أكثر من هذا ما دامت هذه المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو استطاعوا
وأما الفرض الثاني فينقضه الواقع التاريخي أيضا ودليلنا على هذا ما تواترت به الأنباء من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ونالت منالها من عزائمهم فهبوا هبة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ولم يدعوا بابا إلا دخلوه
لقد آذوه وآذوا أصحابه فسبوا من سبوا وعذبوا من عذبوا وقتلوا من قتلوا
ولقد طلبوا إلى عمه أبي طالب أن يكفه وإلا نازلوه وإياه
ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر
ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا وأن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به ولما أبي عليهم ذلك عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة فأبى أيضا ونزل قول الله قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ونزلت كذلك سورة الكافرون (2/302)
ولقد صادروه وصادروا أصحابه في عبادتهم وانبعث شقي منهم فوضع النجاسة على ظهره وهو يصلي وخنقه طاغية من طواغيتهم لولا أن جاء أبو بكر فدفعه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه
ولقد اتهموه مرة بالسحر وأخرى بالشعر وثالثه بالجنون ورابعة بالكهانة وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم فيبهتونه ويكذبونه أمام من لا يعرفونه ولقد شدوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم
ولقد تآمروا على الرسول أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه لولا أن حفظه الله وحماه من مكرهم وأمره بالهجرة من بينهم
ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره فشبت الحرب بينه وبينهم في خمس وسبعين موقعة منها سبع وعشرون غزوة وثمان وأربعون سرية
فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ونبي القرآن وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل زاهدين في النزول إلى هذا الميدان
وهل يصح مع هذا كله أن يقال إنهم كانوا في تشاغل عن القرآن غير معنيين به ولا آبهين له
وإذا كان أمر القرآن لم يحركهم ولم يسترع انتباههم فلماذا كانت جميع هذه المهاترات والمصاولات مع أن خصمهم الذي يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة ودلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به أليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن معارضة القرآن ليست إلا بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة واقتناعهم بإعجاز القرآن وإلا فلماذا آثروا الملاكمة على المكالمة والمقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف
وقد يظن جاهل أن حماستهم في خصومتهم هذه ليس مبعثها شعورهم بقوة القرآن وإعجازه وإنما مبعثها بغضهم لمحمد وأصحابه ولكن هذا الظن يكذبه ما هو مقرر تاريخيا وثابت ثبوتا قطعيا من أن محمدا وأصحابه لم تكن بينهم وبين هؤلاء عداوة قبل نزول القرآن بل كانوا أمة واحدة وقبيلة واحدة وكان الرسول وأصحابه من أحب الناس إليهم لدماثه أخلاقهم وللرحم الماسة التي بينهم
وقد يظن آخر أنت حماسة قريش في خصومتهم للنبي وأتباعه إنما كان مبعثها مجرد (2/303)
المخالفة في الدين بقطع النظر عن إعجاز هذا القرآن الكريم وهذا ظن خاطئ أيضا لأمرين أحدهما أنه كان بين المشركين في جزيرة العرب يهود وأهل كتاب يخالفونهم في الدين فما أرث ذلك بينهم حربا ولا أوقد لخصومتهم نارا على مثل ما كان بينهم وبين محمد والآخر أنه كان يوجد بين العرب حنفاء من مقاويل الخطباء وفحول الشعراء كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة فما كان هذا ليثير حفائظهم ولا ليقفهم موقف الخصومة منهم بل رضوا بتحنفهم ومخالفتهم لدينهم ودين آبائهم وزادوا على ذلك أن سجلوا كلامهم في التوحيد وشعرهم في التنزيه والتمجيد لأنهم لم يجدوا في هذا المنظوم والمنثور مثل ما وجدوا في القرآن من شدة التأثير وقوة الدفع ذلك الكتاب الذي جاءهم من فوقهم وكان له شأن غير شأنهم ورأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحا من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته ويهتز له كل من شام برقه ولا سبيل إلى وقف تياره وأثره إلا بالوقوف في وجهه والحيلولة بين الناس وبينه روى أبو داود والترمذي أن الرسول قال ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فتأمل كلمة أن أبلغ كلام ربي ولم يقل منعوني أن أتلو أو أعمل في نفسي بكلام ربي لأن التلاوة والعمل من غير استعلان بالقرآن ونشر له كان لا يؤثر على قريش كثيرا إنما الذي كان يحز في نفوسهم ويقض من مضاجعهم هو نشر هذا النور الذي يكاد يخطف الأبصار وإعلان هذا الكتاب الذي يجذب القلوب والأفكار وكان من تأثيره وفتحه وعزوة للنفوس ما ألمعنا إليه في إسلام عمر وسعد وأسيد
وأما الفرض الثالث فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته اقتناعا بإعجازه وعجزهم الفطري عن مساجلته ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي شرحناها ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ولكان ذلك مثار عجب لهم ولأعلنوا ذلك في الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ولكانوا بعد نزول القرآن أقل فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله ولأمكننا نحن الآن وأمكن المشتغلين بالأدب العربي في كل عصر أن يتبينوا الكذب في دعوى إعجاز القرآن وكل هذه اللوازم باطلة فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة بناء على هذه الشبهة الهازلة
ثم ألم يكف هؤلاء شهادة أعداء القرآن أنفسهم في أوقات تخليهم من عنادهم كتلك الشهادة التي خرجت من فم الوليد والفضل ما شهدت به الأعداء ثم ألم يكفهم ما في القرآن من وجوه الإعجاز الكثيرة التي دللنا عليها فيما سبق (2/304)
والتي لا تزال قائمة ماثلة ناطقة إلى يومنا هذا ولا تزيدها الأيام وما يجد في العالم من علوم ومعارف وتجارب إلا وضوحا وبيانا
إني لأعجب من القول بالصرفة في ذاته ثم ليشتد عجبي وأسفي حين ينسب إلى ثلاثة من علماء المسلمين الذي نرجوهم للدفاع عن القرآن ونربأ بأمثالهم أن يثيروا هذه الشبهات في إعجاز القرآن
على أنني أشك كثيرا في نسبة هذه الآراء السقيمة إلى أعلام من العلماء ويبدو لي أن الطعن في نسبتها إليهم والقول بأنها مدسوسة من أعداء الإسلام عليهم أقرب إلى العقول وأقوى في الدليل لأن ظهور وجوه الإعجاز في القرآن من ناحية وعلم هؤلاء من ناحية أخرى قرينتان مانعتان من صحة عزو هذا الرأي الآثم إليهم
ولقد عودنا أعداء الإسلام أن يفتروا على رسول الله وعلى أصحابه وعلى الأئمة والعلماء فلم لا يكون هذا منه
على أن الحق لا يعرف بالرجال إنما يعرف الحق بسلامة الاستدلال وها قد طاش هذا الرأي في الميزان فلنرده على قائله أيا كان
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
وأحب أن تلتفت إلى أن هذه الشبهة قد أثارها أعداء الإسلام فيما أثاروا وصوبوا منها سهما طائشا إلى القرآن وإعجازه فلنكتف بنقضنا لها هنا عن إعادتها بين ما سنذكره في دفع الشبهات هناك إن شاء الله
دفع الشبهات الواردة في هذا المقام
لقد كان ما ذكرناه من وجوه الإعجاز الأربعة عشر كافيا للقضاء على كل شبهة ولرد كل فرية ومحو كل تهمة لولا أن المخذولين من أعداء الإسلام وجدوا آذانا صاغية من نفوس عزيزة علينا وفئات متعلمة تعلما مدنيا فتأثروا بدجلهم ثم رضوا أن يكونوا أبواقا لهم يرددون شبهاتهم على تلاميذنا في الجامعات والمدارس ويطلقون بخورهم على جماهيرنا في المطبوعات والأندية والمجالس لهذا كان من واجبنا أن نحشد قوانا لتطهير الجو الإسلامي من هذه الجراثيم الفتاكة والمطاعن الجارية الهدامة وألا نكتفي عند المناسبة بذكر أحد المتلازمين عن الآخر اللهم إلا إذا كان الأمر ظاهرا لا يحتاج إلى تنبيه أما عند الحاجة فقد نكرر ما سبق لنا ذكره ولكن بمقدار الحاجة من غير إكثار
ونلفت نظرك إلى ما أسلفناه من الكلام على الوحي بين مثبتيه ومنكريه بالمبحث (2/305)
الثالث من هذا الكتاب من الجزء الأول وإلى ما حواه هذا الكلام من أدلة علمية عقلية ومن تفنيد شبهات عشر تتصل بإعجاز القرآن عن قرب أو بعد
ثم نلفت نظرك أيضا إلى نقض تلك الشبهات الست التي أثيرت حول المكي والمدني من القرآن بالجزء الأول
ونرشدك إلى أننا راعينا عند كلامنا على أسلوب القرآن وإعجازه تفصيلات وتوجيهات نعتقد أن فيها غناء عن دفع كثير من الشبهات فاحرص عليها ثم اشدد يديك على ما يلقى إليك
الشبهة الأولى ودفعها
يقولون إن محمدا لقي بحيرا الراهب فأخذ عنه وتعلم منه وما تلك المعارف التي في القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم
وندفع هذا أولا بأنها دعوى مجردة من الدليل خالية من التحديد والتعيين ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من بحيرا الراهب ومتى كان ذلك وأين كان
ثانيا أن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه سافر إلى الشام في تجارة مرتين مرة في طفولته ومرة في شبابه ولم يسافر غير هاتين المرتين ولم يجاوز سوق بصرى فيهما ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين ولم يك أمره سرا هناك بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذ وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن ثم حذره عليه من اليهود وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته كذلك روي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا وليس في شيء من الروايات أنه سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق فأنى يؤفكون
ثالثا أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه (2/306)
رابعا أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم
خامسها أنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العالم كله لمجرد أنه لقي مصادقة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين على حين أن التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها
سادسا أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف
وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره وما قررناه من الوفاء في تعاليم القرآن دون غيره وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها فارجع إلى ما أسلفناه ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور
سابعا أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه وندعوهم أن يقرؤوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفه ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ ومن ذلك الخبط والخلط هدانا وهداهم الله فإن الهدي هداه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
ثامنا أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا بأن يقولوا إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه بل لجؤوا إلى رجل في نسبة الأستاذية (2/307)
إليه شيء من الطرافة والهزل حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها فقالوا إنما يعلمله بشر وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه ضالا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم أحدهما أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه والآخر غريب عنهم وليس منهم ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين
الشبهة الثانية ودفعها
يقولون نحن لا نشك في صدق محمد في إخباره عما رأى وسمع ولكنا نعتقد أن نفسه هي منبع هذه الأخبار لأنه لم يثبت علميا أن هناك غيبا وراء المادة يصح أن يتنزل منه قرآن أو يفيض عنه علم أو يأتي منه دين ثم ضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الفتاة الفرنسية جان دارك الناشئة في القرن الخامس عشر الميلادي قد حدث التاريخ عنها أنها اعتقدت وهي في بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ودفع العدو عنه واعتقدت أنها تسمع صوت الوحي الإلهي يحضها على القتال والجهاد وانطلقت تحت هذا التأثير فجردت حملة على أعداء وطنها وقادت الجيش بنفسها فقهرتهم ثم دارت الدائرة فوقعت أسيرة وماتت ميتة الأبطال في ميدان النزال ولا يزال ذكرها يتلألأ نورا ويعبق أريجا حتى لقد قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن
وندفع هذه الشبهة بأمور
أولها تلك الأدلة العلمية التي أقمناها هناك على إثبات الوحي الإلهي الحقيقي لا الوحي النفسي الخيالي مع دفع الشبهات الواردة عليها بالمبحث الثالث من هذا الكتاب
ثانيها هذه الأدلة الأربعة عشر التي أقمناها وجوها لإعجاز القرآن في هذا المبحث ففي كل وجه منها دفع كاف لهذه الشبهة عند التأمل والإنصاف لأن الإنسان محدود القوى والمواهب فلا يستطيع أن يخرق النواميس الكونية العادية وما ذكرناه من وجوه إعجاز القرآن فيه أربعة عشر دليلا على حرف القرآن للنواميس الكونية المعتادة وخرقها لا يملكها إلا من قهر الكون ونواميسه وكان له السلطان المطلق على العالم وما فيه وهو الله وحده (2/308)
لا محمد ولا غير محمد لا بالعقل الباطن ولا الظاهر لا بالوحي النفسي ولا الانفعال العصبي
ثالثها أن الدراس لتاريخ هذه الفتاة يعلم أن أعصابها كانت ثائرة لتلك الانقسامات الداخلية التي مزقت فرنسا والتي كانت تراها وتسمعها كل يوم بين أهلها وفي بلدها جوارد ورمي مع ما شاع في عهدها من خرافات كان لها أثرها في نفسها وعقلها ومخها من تلك الخرافات أن فتاة عذراء ستبعث في هذا الزمن تخلص فرنسا من عدوها يضاف إلى هذا أن الفتاة كانت بعيدة الخيال تسبح فيه يقظة ومناما وتتوهم منذ حداثتها بأنها ترى وتسمع ما لم تر ولم تسمع حتى خيل إليها أنها دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها ولما تعدى البرغنيور على قريتها التي ولدت فيها قوي عندها هذا الخيال حتى صار عقيدة إلى غير ذلك مما يدل على أن الفتاة كانت أعصابها متهيجة تهيجا ناشئا عن تألمها من الحال السياسة السيئة في بلادها وعن تأثرها بالاعتقادات الخرافية التي سادت زمنها
وليس هذا بدعا فكم رأينا وسمعنا أصحاب دعايات عريضة يعتمدون فيها على مثل هذه الخيالات الباطلة كالذين قاموا باسم المهدي المنتظر يدعون ويحاربون وكغلام أحمد القادياني والباب البهائي الذين أقام كل منهما نحلته الباطلة على أوهام فارغة
لكن محمدا لم يك عصبيا ثائرا مهتاجا بل كان وقورا متزن العقل ثابت الفؤاد قوي الأعصاب يثور الشجعان من حوله وهو لا يثور ويشطح الناس ويسرفون في الخيال وهو واقف مع الحجة يكره الشطح والإسراف في الخيال بل يحارب الإسراف في الخيال وما يستلزمه ويرد هؤلاء المسرفين إلى حظيرة الحقائق ويحاكمهم إلى العقل ألم تر إلى القرآن كيف يذم الشعراء الذين يركبون مطايا الخيال إلى حد الغواية ويقول والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا
وانظر كيف ينفي القرآن أنه شعر وأن الرسول شاعر فيقول وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين
وتأمل ما جاء في صحيح مسلم وغيره من أنه أبى على عائشة أم المؤمنين أن تقول في شأن صبي من الأنصار جيء به ميتا ليصلي عليه طوبى لهذا لم يعمل شرا فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم مع أن (2/309)
أطفال المسلمين يعلم الله أنهم في الجنة لكن توقف الرسول وإباءه على عائشة أن تقول هذا كان قبل أن يعلمه الله ذلك فلم يسمح لها أن تسير مع الوهم أو الظن ما دام الأمر غيبا ولا يعلم الغيب إلا الله
وتدبر ما رواه البخاري من أنه لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت أم العلاء امرأة من الأنصار رحمه الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال وما يدريك أن الله أكرمه فقالت بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله قال أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فوالله لا أزكى أحدا بعده أبدا وكذلك يقول القرآن الكريم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين
فهل يعقل أن يقاس صاحب هذه الدقة البالغة والتثبت الدقيق بفتاة خفيفة سابحة في أوهامها غريقة في أحلامها
رابعها أن تلك الفتاة جان دارك لم تأت ولا بدليل واحد معقول على صدق أوهامها وتخيلاتها التي تزعمها وحيا وحديثا من الله إليها لكن محمدا له على وحيه الذي يدعيه ألف دليل ودليل كما سبق بيانه فأين الثرى من الثريا وأين الظلام من النور
خامسها أن هذه الفتاة الهائجة الثائرة لم تكن صاحبة دعوة إلى إصلاح ولا ذات أثر باق في التاريخ إنما كانت صاحبة سيف ومسعرة حرب في فترة من الزمن لغرض مشترك بين الإنسان والحيوان وهو الدفاع عن النفس والوطن بمقتضى غريزة حب البقاء ثم لم تلبث جذوتها أن بردت وحماستها أن خمدت
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فأين هذه الآنسة الثائرة من أفضل الخلق في دعوته الكبرى وأثره الخالد في إصلاح أديان البشر وشرائعهم وأعمالهم وأخلاقهم وفي إنقاذ الإنسانية العانية وتجديد دمها بدينه الجديد الذي قلب به أوضاع الدنيا ونقل بسببه العالم إلى طور سعيد بل إلى الطور السعيد الذي لولاه لدام يتخبط في الظلمات ولبات في عداد الأموات أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها
الشبهة الثالثة ودفعها
يقولون إنه كان يلقى ورقة بن نوفل فيأخذ عنه ويسمع منه وورقة لا يبخل (2/310)
عليه لأنه قريب لخديجة زوج محمد يريدون بهذا أن يوهموا قراءهم وسامعيهم بأن هذا القرآن استمد علومه من هذا النصراني الكبير الذي يجيد اللغة العبرية ويقرأ بها ما شاء الله
وندفع هذه الشبهة بمثل ما دفعنا به ما قبلها ونقرر أنه لا دليل عندهم على هذا الذي يتوهمونه ويوهمون الناس به بل الدليل قائم عليهم فإن الروايات الصحيحة تثبت أن خديجة ذهبت بالنبي حين بدأه الوحي إلى ورقة ولما قص الرسول قصصه قال هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى ثم تمنى أن يكون شابا فيه حياة وقوة ينصر بهما الرسول ويؤازره حين يخرجه قومه ولم تذكر هذه الروايات الصحيحة أنه ألقى إلى الرسول عظة أو درس له درسا في العقائد أو التشريع ولا أن الرسول كان يتردد عليه كما يتوهمون أو يوهمون فأنى لهم ما يقولون وأي منصف يسمع كلمة ورقة هذه ولا يفهم منها أنه كان يتمنى أن يعيش حتى يكون تلميذا لمحمد وجنديا مخلصا في صفه ينصره ويدافع عنه في وقت المحنة ولكن القوم ركبوا رؤوسهم على رغم ذلك وحاولوا قلب الأوضاع وإيهام أن ورقة هو الأستاذ الخصوصي الذي استقى منه محمد دينه وقرآنه ألا ساء ما يحكمون
الشبهة الرابعة ودفعها
يقولون إن إعجاز القرآن للبشر عن أن يأتوا بمثله لا يدل على قدسيته وأنه كلام الله وشاهد ذلك أن لكل متأدب أسلوبا خاصا به يتبع استعداده الأدبي ومزاجه الشخصي وهذا الأسلوب الخاص يستحيل على غيره أن يأتي بمثله ضرورة اختلاف مواهب المتأدبين وأمزجتهم ومع هذا فإعجاز كل أسلوب لغير صاحبه وعجز كل متأدب عن الإتيان بأسلوب غيره لم يضف على الأساليب البشرية شيئا من القدسية وأنها كلام الله فكذلك القرآن يزعمون أنه كلام محمد ويعترفون بإعجازه على هذا النحو
وندفع هذه الشبهة أولا بوجوه الإعجاز التي بسطناها سابقا غير وجه الإعجاز بالأسلوب
ثانيا أن هذه الشبهة مغالطة فإن التحدي بالقرآن ليس معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بنفس صورته الكلامية ومنهاجه المعين الذي انفرد به أسلوبه حتى ترد هذه الشبهة بل معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بكلام من عندهم أيا كانت صورته ومزاجه وأيا كان نمطه ومنهاجه ولكن على شرط ألا يطيش في الميزان إذا قيس هو والقرآن بمقياس واحد من البيان بل يظهر أنه يماثله أو يقاربه في خصائصه وإن كان على صورة بيانية غير صورته هذا هو ما يتحداهم به الرسول وهو الذي يتنافس فيه البلغاء عادة فيتماثلون أو يتفاضلون مع احتفاظ كل منهم بمنهاجه الخاص ونمطه المعين (2/311)
ومثال ذلك أن يتبارى قوم في العدو والجري إلى هدف واحد ويرسم لكل واحد من هؤلاء المتبارين طريق معين بحيث لا يمشي أحدهم من طريق صاحبه ولا يضع قدمه في موضع قدم أخيه بل يمشي في طريقه هو غير مزاحم ولا مزاحم ويسير موازيا لقرنه في المبدأ وفي الاتجاه ثم يمضون جميعا إلى الهدف المشترك الذي إليه يتسابقون وإذا هم بعد ذلك بين سابق مبرز ولاحق متخلف ومساو متكافئ دون أن يكون اختلاف طرقهم قادحا فيما يكون بينهم من هذا التفاضل أو التماثل بل يعرف التناسب بينهم بمعرفة نسبة ما قطعه كل من طريقه إلى ذلك الهدف المشترك كذلك المتنافسون في ميدان البيان يختار كل منهم طريقته التي يستمدها من مزاجه الشخصي واستعداده الخاص للوصول إلى الغاية البيانية العامة ثم هم بعد ذلك يتفاوتون أو يتعادلون بمقدار وفائهم بخصائص البيان أو نقصهم منها فالمدعوون إلى معارضة القرآن إن افترضتهم أكفاء لنبي القرآن فسيأتون بمثل ما جاء به وإن افترضتهم أعلى منه كعبا فسيأتون بأحسن مما جاء به وإن افترضتهم دونه فلن يشق عليهم أن يأتوا بقريب مما جاء به مع احتفاظ كل منهم بنمطه في الكلام ومنهجه في البيان لكن شيئا من هذه المراتب الثلاث لم يكن فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثل القرآن ولا بما يعلوه ولا بما يقرب منه لا بالنسبة إليه كله ولا بالنسبة لعشر سور ولا بالنسبة لسورة واحدة من مثله لا منفردين ولا مجتمعين ولو كان معهم الإنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا يضاف إلى ذلك أنهم كانوا أئمة البيان ونقدة الكلام وكانوا أهل إباء وضيم يحرصون على الغلبة في هذه الحلبة من معارضة القرآن
أليس ذلك بدليل كاف على أن هذا الكتاب تنزيل العزيز الرحيم ولا يمكن أن يكون كلام محمد ولا غير محمد من المخلوقين
الشبهة الخامسة ودفعها
يقولون إن عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ما هو إلا نظير عجزهم عن الإتيان بمثل الكلام النبوي وإذن فلا يتجه القول بقدسية القرآن وأنه كلام الله كما لا يتجه القول بقدسية الحديث النبوي وأنه كلام الله
وندفع هذه الشبهة أولا بأن الحديث النبوي إن عجز عامة الناس عن الإتيان بمثله فلن يعجز أحد خاصتهم عن الإتيان ولو بمقدار سطر واحد منه وإذا عجز أحد هؤلاء الممتازين عن مقدار سطر واحد منه نفسه فلن يعجز عن مقدار سطر واحد من مماثله القريب منه وإن عجز أن يأتي بسطر من هذا المثل وهو وحده فلن يعجز عنه إذا انضم إليه ظهير ومعين أيا كان ذلك الظهير والمعين وإن عجز عن هذا مع الظهير والمعين أيا كان فلن يعجز الإنس والجن جميعا أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا كما قال القرآن (2/312)
ذلك شأن الحديث النبوي مع معارضيه أما القرآن الكريم فله شأن آخر لأن أحدا لا يستطيع الإتيان بمثل أقصر سورة منه لا هو وحده ولا مع غيره ولو اجتمع من بأطرافها من الثقلين
وإنما قلنا إن الحديث النبوي لا يعجز بعض الخواص الممتازين أن يأتي بمثله لأن التفاوت بين الرسول وبلغاء العرب مما يتفق مثله في مجاري العادة بين بعض الناس وبعض في حدود الطاقة البشرية كالتفاوت بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح والحسن والأحسن وليس هذا التفاوت بالأمر الشاذ الخارق للنواميس العادية جملة بحيث تنقطع الصلة بين الرسول وسائر البلغاء جميعا لاختصاصه من بينهم بفطرة شاذة لا تمت إلى سائر الفطر بنسب إلا كما ينتسب النقيض إلى النقيض والضد إلى الضد كلا بل إن هذا القول باطل من وجهين
أحدهما أنه يخالف المعقول والمشاهد لما هو معروف من أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة ومن أن الطبائع الشخصية يقع بينها التشابه والتماثل في شيء أو أشياء في واحد أو أكثر في زمن قريب أو أزمنة متطاولة في كل فنون الكلام او في بعض فنونه والآخر انه يخالف المنقول في الكتاب والسنة من أن البشرية قدر مشترك بين الرسول وجميع آحاد الأمة ولا ريب أن هذه البشرية المشتركة وجه شبه يؤدي لا محالة إلى المماثلة بين كلامه وكلام من تجمعه بهم رابطة أو روابط خاصة على نحو ما قررنا أليس الله يقول قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ويقول قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ثم أليس الرسول يقول في الحديث الآنف إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي الخ ويقول لرجل رآه فامتلأ منه فرقا ورعبا هون عليك فإني لست بملك إنا أنت ابن امرأة من قريش تأكل القديد
ثانيا أننا نجد تشابها بين كلام النبوة وكلام بعض الخواص من الصحابة والتابعين حتى لقد نسمع الحديث فيشتبه علينا أمره أهو مرفوع ينتهي إلى النبي أم موقوف عند الصحابي أم مقطوع عند التابعي إلى أن يرشدنا السند إلى عين قائله
ومن أوتي حاسة بيانية يدرك هذا الشبه كثيرا كلما كان صاحب البيان المشابه تصله بالرسول صلات قوية كتلك الصلات أو العوامل المتآخذة التي توافرت في علي بن أبي طالب حتى مسحت بيانه مسحة نبوية وجعلت نفسه في الكلام من أشبه الأنفاس بكلام رسول الله إن لم يكن أشبهها
أما القرآن وما أدراك ما القرآن فلن تستطيع أن تجد له شبيها أو ندا لأن الذي صنعه على عينه لن نستطيع أن تجد له شبيها أو ندا فكيف يقاس القرآن بالحديث في هذا المقام أم كيف يجمع بينهما في قران (2/313)
ثالثا أن القرآن لو كان كلام محمد كالحديث الشريف لكان أسلوبهما واحدا ضرورة أنهما على هذا الفرض صادران عن شخص واحد استعداده واحد ومزاجه واحد ولكن الواقع غير ذلك فأسلوب القرآن ضرب وحده تظهر عليه سمات الألوهية التي تجل عن المشابهة والمماثلة وأسلوب الحديث النبوي ضرب آخر لا يجل عن المشابهة والمماثلة بل هو محلق في جو البيان يعلو أساليب الناس في جملته دون تفصيله ولا يستطيع بحال أن يصعد إلى سماء إعجاز القرآن فإن افترضت أنه كان له أسلوبا مختلفان أحدهما يحضره ويتعمل له وهو ما سماه بالقرآن والآخر يرسله ولا يحضره وهو ما سمي بالحديث إن افترضت ذلك فانظر علاج الشبهة العاشرة في المبحث الثالث من هذا الكتاب من الجزء الأول فإن فيه شفاء ما في نفسك والله يكتب العافية لي ولك
الشبهة السادسة ودفعها
يقولون إن أنباء القرآن الغيبية لا تستقيم أن تكون وجها من وجوه الإعجاز الدالة على أنه كلام الله بل هو كلام محمد استقى أبناءه من أهل الكتاب في الشام وغيرها أو رمى فيه الكلام على عواهنه فصادف الحقيقة اتفاقا أو استنبط الأنباء برأيه استنباطا ثم نسبها إلى الله
وندفع هذه الشبهة أولا بأن أكثر أنباء الغيب التي في القرآن لم يكن لأهل الكتاب علم بها على عهده
ثانيا أنه صحح أغلاطهم في كثير من هذه الأنباء فليس بمعقول أن يأخذها عنهم وهو الذي صححها لهم
ثالثا أن أهل الكتاب في زمنه كانوا أبخل الناس بما في أيديهم من علم الكتاب
رابعا أنه لو كان لهذه الشبهة ظل من الحقيقة لطار بها أهل الكتاب فرحا وطعنوا بها في محمد وقرآنه ولطبل لها المشركون ورقصوا لكن شيئا من ذلك لم يكن بل إن جلة من علماء أهل الكتاب آمنوا بهذا القرآن ثم لم يمض زمن طويل حتى أعطت قريش مقادتها لها عن إيمان وإذعان
خامسا أن محمدا كان رجلا عظيما بشهادة هؤلاء الطاعنين وصاحب هذه العظمة البشرية يستحيل أن يكون ممن يرمي الكلام على عواهنه خصوصا أنه رجل مسؤول في موقف الخصومة بينه وبين أعداء ألداء فما يكون له أن يرجم بالغيب ويقامر بنفسه وبدعوته وهو لا يضمن الأيام وما تأتي به مما ليس في الحسبان (2/314)
سادسا أنه على فرض رجمه بالغيب جزافا من غير حجة يستحيل في مجرى العادة أن يتحقق كل ما جاء به مع هذه الكثرة بل كان يخطئ ولو مرة واحدة إما في غيوب الماضي أو الحاضر أو المستقبل لكنه لم يخطئ في واحدة منها على كثرتها وتنوعها
سابعا أن هذه الأنباء الغيبية ليست في كثرتها مما يصلح أن يكون مجالا للرأي ثم إن ما يصلح أن يكون مجالا للرأي أخبر محمد في بعضه بغير ما يقضي به ظاهر الرأي والاجتهاد انظر ما ذكرناه تحت عنوان أنباء الغيب من هذا المبحث وتأمل نبوءة انتصار الروم على الفرس وانتصار المسلمين على المشركين في وقت لم تتوافر فيه عوامل هذا الانتصار كما بينا سابقا
الشبهة السابعة ودفعها
يقولون إن ما تذكرونه من علوم القرآن ومعارفه وتشريعاته الكاملة لا يستقيم أن يكون وجها من وجوه الإعجاز فهذا سولون اليوناني وضع وحده قانونا وافيا كان موضع التقدير والإجلال والطاعة وما قال أحد إنه أتى بذلك معجزة ولا إنه صار بهذا التشريع نبيا
وندفع هذه الشبهة أولا بأن البون شاسع بين ما جاء به القرآن وما جاء به هذا القانون السولوني اليوناني ونحن نتحداهم أن يثبتوا لنا كماله ووفاءه بكافة ضروب الإصلاح البشري على نحو ما شرحنا سابقا بالنسبة إلى القرآن الكريم
ثانيا أن الفرق بعيد بين ظروف محمد التي جاء فيها بالقرآن وظروف سولون التي وضع فيها القانون وهذا الفرق البعيد له مدخل كبير في إثبات هذا الوجه من الإعجاز بالنسبة إلى محمد دون سولون فمحمد كان أميا نشأ في الأميين أما سولون فكان فيلسوفا نشأ بين فلاسفة ومتعلمين بل هو أحد الفلاسفة السبعة الذين كان يشار إليهم بالبنان في القرن السابع قبل الميلاد المسيحي
ومحمد لم يتقلد قبل القرآن أعمالا إدارية ولا عسكرية بل جاءه القرآن بعد أن حببت إليه الخلوة والعزلة أما سولون فقد تولى قبل وضعه القانون أعمالا إدارية وعسكرية وانتخب في عام 594 قبل الميلاد أرجونا أي رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها وقلدوه سلطة مطلقة ليغير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذي وضعه زراكوت من قبله فوضع لها نظاما جديدا أقرته الأمة حكومة وشعبا وقررت اتباعه والعمل به عشر سنين
فهل يجوز حتى في عقول المغفلين أن تقام موازنة ويصاغ قياس مع هذه المفارقات (2/315)
الهائلة بين محمد الأمي الناشئ في الأمين وسولون الفيلسوف والحاكم والقائد والزعيم والناشئ في أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة
ثالثا أين ذلك القانون الذي وضعه أو عدله سولون وما أثره وما مبلغ نجاحه بجانب قانون القرآن الجامع ودستوره الخالد وأثره البارز ونجاحه المعجز ثم ما قيمة قانون وضع تحت تأثير تلك الظروف ومات وأصبح في خبر كان بجانب القرآن الذي جاء في ظروف مضادة جعلته معجزة بل معجزات ثم حي حياة دائمة لا مؤقتة ولا يزال يزداد مع مرور العصور والقرون جدة وحياة وثباتا واستقرارا حتى أصبح كثير من الأمم المتحضرة تستمد منه وقررت مؤتمرات دولية اعتباره مصدرا من مصادر القانون المقارن في هذا العصر إلى غير ذلك مما أشرنا إليه قبلا
خلاصة
والخلاصة أن القرآن من آية ناحية أتيته لا ترى فيه إلا أنوارا متبلجة وأدلة ساطعة على أنه كلام الله ولا يمكن أن تجد فيه نكتة من كذب ولا وصمة من زور ولا لطخة من جهل وإني لأقضي العجب من هؤلاء الذين أغمضوا أعينهم عن هذه الأنوار وطوعت لهم أنفسهم اتهام محمد بالكذب وزعموا أن القرآن من تأليفه هو لا من تأليف ربه مع أن الكاذب لا بد أن تكشف عن خبيئته الأيام والمضلل لا مناص له من أن يفتضح أمره ويتهتك ستره
ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإن التحفت به فإنك عار فيا أيها اللاعبون بالنار الهازئون بقوانين العقل والمنطق العابثون بمقررات علم النفس وعلم الاجتماع الغافلون عن نواميس الكون وأوضاع التاريخ الساخرون بدين الله وكتابه ورسوله كلمة واحدة أقولها لكم فاعقلوها معقول أن يكذب الكاذب ليجلب إلى نفسه أسباب العظمة والمجد وليس بمعقول أبدا حتى عند البهائم أن يكذب الصادق الأمين ليبعد عن نفسه أعظم عظمة وأمجد مجد ولا شئ أعظم من القرآن ولا أمجد فكيف يتنصل محمد منه ولا يتشرف بنسبته إليه لو كان من تأليفه ووضعه
يمينا لا حنث فيها لو أن محمدا كان كاذبا لكذب في أن ينسب هذا القرآن إلى نفسه على حين أنه ليس من إنشائه ورصفه كيما يحرز به الشرف الأعلى ويدرك به المقام الأسمى لو كان ينال شرف ويعلو مقام بالافتراء والكذب ولكن كيف يكذب الصادق الأمين ومولاه يتوعد ويقول ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم
ومن أعجب العجب أن نسمع أمثال تلك الشبهات الساقطة في محيطنا الإسلامي على حين أن طوائف كثيرة من علماء الإفرنج في هذه العصور الأخيرة قد أعلنوا بعد دراستهم للقرآن ونبي القرآن إن محمدا كان سليم الفطرة وكامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق غير طموع في المال ولا جنون إلى الملك ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمة كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل وبهذا كله وبما ثبت من سيرته ويقينه بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من سنه من رؤية ملك الوحي ومن إقرائه إياه هذا القرآن ومن إنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه وسائر الناس ولقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الباحثين الأجانب أن أعلن هذه الحقيقة لو وجدت نسخة من القرآن ملقاة في فلاه ولم يخبرنا أحد عن اسمها ومصدرها لعلمنا بمجرد دراستها أنها كلام الله ولا يمكن أن تمون كلام سواه
كلمة الختام
أما بعد الكلام في إعجاز جميع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام أطول حتى لقد اطلعت على رسالة خبيثة أسموها حسن الإيجاز في إبطال الإعجاز فوجدتها قد حملت من الأكاذيب والأراجيف ومن اللف والدوران أشكالا وألوانا في الصفيحة الواحدة وعقيدتي أن ما بسطناه في هذا المبحث وما يتصل به فيه الكفاية لمن أراد الهداية ولو أننا استقصينا وجوه الرد على مثل هذه الرسالة لاقتضينا الأمر كتابا كبيرا كاملا على حين أنها هي لا تزيد على اثنتين وعشرين صفحة من القطع الصغير ثم أنى لنا ذلك الرد المسهب الآن وأزمة الورق طاحنه وأدوات الطباعة عزيزة حتى لقد اضطررنا من أجل هذا أن نقف في الكتابة عند هذا الحد بالطبع ولقد كنا نود أن نمضي قدما حتى نأتي على قصص القرآن وأمثاله وجدله ولكن الضرورات تبيح المحظورات وعسى أن يكون خيرا
نحمده سبحانه أن كتب لنا التوفيق في هذه المحنة حتى انتهينا إلى هذه الغاية ونستغفره ونتوب إليه من كل خطأ ونسأله القبول والمزيد والتعجيل بتفريج الكروب وأن يصلح الحال والمآل لنا وللمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها (2/316)
أعجب العجب أن نسمع أمثال تلك الشبهات الساقطة في محيطنا الإسلامي على حين أن طوائف كثيرة من علماء الإفرنج في هذه العصور الأخيرة قد أعلنوا بعد دراستهم للقرآن ونبي القرآن إن محمدا كان سليم الفطرة وكامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق غير طموع في المال ولا جنون إلى الملك ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمة كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل وبهذا كله وبما ثبت من سيرته ويقينه بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من سنه من رؤية ملك الوحي ومن إقرائه إياه هذا القرآن ومن إنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه وسائر الناس ولقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الباحثين الأجانب أن أعلن هذه الحقيقة لو وجدت نسخة من القرآن ملقاة في فلاه ولم يخبرنا أحد عن اسمها ومصدرها لعلمنا بمجرد دراستها أنها كلام الله ولا يمكن أن تكون كلام سواه
كلمة الختام
أما بعد فإن الكلام في إعجاز القرآن طويل وعلاج جميع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام أطول حتى لقد اطلعت على رسالة خبيثة أسموها كتاب حسن الإيجاز في إبطال الإعجاز فوجدتها قد حملت من الأكاذيب والأراجيف ومن اللف والدوران أشكالا وألوانا في الصحيفة الواحدة وعقيدتي أن ما بسطناه في هذا المبحث وما يتصل به فيه الكفاية لمن أراد الهداية ولو أننا استقصينا وجوه الرد على مثل هذه الرسالة لاقتضانا الأمر كتابا كبيرا كاملا على حين أنها هي لا تزيد على اثنتين وعشرين صفحة من القطع الصغير ثم أنى لنا ذلك الرد المسهب الآن وأزمة الورق طاحنه وأدوات الطباعة عزيزة حتى لقد اضطررنا من أجل هذا أن نقف في الكتابة عند هذا الحد بالطبع ولقد كنا نود أن نمضي قدما حتى نأتي على قصص القرآن وأمثاله وجدله ولكن الضرورات تبيح المحظورات وعسى أن يكون خيرا
نحمده سبحانه أن كتب لنا التوفيق في هذه المحنة حتى انتهينا إلى هذه الغاية ونستغفره ونتوب إليه من كل خطأ وزلل ونسأله القبول والمزيد والتعجيل بتفريج الكروب وأن يصلح الحال والمآل لنا وللمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها (2/317)