سورة الفاتحة
سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن لحديث أبي سعيد بن المعلّى أخرجه البخاري (4474)، وهي مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ فتوحيد الربوبية توحيد الله تعالى بأفعاله، كالخلق والرَّزْق والإحياء والإماتة وغير ذلك من أفعاله تعالى، والمعنى أن الله واحد في أفعاله لا شريك له في خلق الخلق وإحيائهم وإماتتهم.
وتوحيد الألوهية توحيده سبحانه وتعالى بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والاستغاثة والذبح وغير ذلك من أفعال العباد، فإنه يتعين عليهم أن يجعلوها خالصة لله - عز وجل - ، فلا يشركوا مع الله أحداً في عبادته، فكما أنه لا خالق إلاّ الله ولا محيي إلاَّ الله ولا مميت إلاَّ الله، فإنه لا معبود حق إلاَّ الله.
وتوحيد الأسماء والصفات إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله * من الأسماء والصفات من غير تحريف أو تأويل أو تعطيل، ومن غير تكييف أو تشبيه أو تمثيل، كما قال الله - عز وجل - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]، فإن هذه الآية الكريمة واضحة الدلالة لمذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله - عز وجل - ، وهو الإثبات مع التنزيه، ففي قول الله - عز وجل - { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } إثبات اسمي السميع والبصير الدّالين على إثبات صفتي السمع والبصر لله - عز وجل - ، وفي قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، فله سبحانه وتعالى سمع لا كأسماع المخلوقين، وله بصر لا كأبصارهم؛ بل إن الآية الأولى من هذه السورة العظيمة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، أما توحيد الألوهية فيدل عليه قوله { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ؛ لأن إسناد الحمد من العباد إلى ربهم عبادة له وثناء عليه، وهو من أفعالهم.(1/1)
وأما توحيد الربوبية ففي قوله تعالى { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، فإنه سبحانه وتعالى رب كل شيء وخالقه ومليكه، كما قال الله - عز وجل - { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 21، 22].
وأما توحيد الأسماء والصفات فإن الآية مشتملة على اسمين من أسماء الله، وهما لفظ الجلالة في قوله { لِلَّهِ } ، والرب في قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، وفي الآية جاء ذكر الرب مضافاً، وجاء ذكره في سورة يس مجرداً عن الإضافة في قوله { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [يس:58] .
والعالمون هم كل مَن سوى الله، فالله سبحانه وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته هو الخالق، وكل من سواه مخلوق، قال الله - عز وجل - عن موسى وفرعون { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) } [الشعراء: 23 ـ 24].
و { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان من أسماء الله يدلان على صفة من صفات الله هي الرحمة، والرحمن من الأسماء التي لا تطلق إلاّ على الله، والرحيم جاء في القرآن إطلاقه على غيره، قال الله - عز وجل - في نبيه محمد * { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128]، قال ابن كثير في تفسيره عند تفسير البسملة في أول سورة الفاتحة: (( والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك )).(1/2)
و { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يدل على توحيد الربوبية، والله سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وهو مالك الدنيا والآخرة، قال الله - عز وجل - { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة: 120]، وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1]، وقال: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [المؤمنون: 88، 89].
ويوم الدين هو يوم الجزاء والحساب، وإنما نُص على كونه مالك يوم الدين مع أنه مالك الدنيا والآخرة لأنه في ذلك اليوم يخضع الجميع لرب العالمين، بخلاف الدنيا فإنه وُجد فيها من طغى وتكبّر، بل وُجد من قال: (أنا ربكم الأعلى)، وقال: (يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري).
و { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على توحيد الألوهية، وتقديم المفعول على الفعلين يدل على الحصر، وأن العبادة لا تكون إلاّ لله، وأن الاستعانة فيما لا يقدر عليه إلاّ الله لا تكون إلاّ بالله، والجملة الأولى تدل على أن المسلم يأتي بعبادته خالصة لوجه الله مع موافقتها لسنة رسول الله *، والجملة الثانية تدل على أن المسلم لا يستعين في أمور دينه ودنياه إلاّ بالله - عز وجل - .(1/3)
و { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } يدل على توحيد الألوهية، وهو دعاء، والدعاء من أنواع العبادة، كما قال الله - عز وجل - : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن: 18]، وهذا الدعاء مشتمل على أعظم مطلوب للعبد، وهو الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي يحصل بسلوكه الخروج من الظلمات إلى النور والظفر بسعادة الدنيا والآخرة، وحاجة العبد إلى هذه الهداية أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب زاد حياته الفانية، والهداية إلى الصراط المستقيم زاد حياته الباقية الدائمة، ويشتمل هذا الدعاء على طلب الثبات على الهداية الحاصلة وعلى طلب المزيد من الهداية، قال الله - عز وجل - : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17]، وقال عن أصحاب الكهف: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف: 13]، وقال: { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } [مريم: 76]، وفي الهداية إلى الصراط المستقيم سلوك طريق المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهم الذين جمعوا بين العلم والعمل، فيسأل العبد ربه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي تفضل الله به على رسله وأوليائه، ويسأله أن يجنبه طريق أعدائه الذين عندهم علم ولم يعملوا به، وهم اليهود المغضوب عليهم، والذين يعبدون الله على جهل وضلال، وهم النصارى الضالون، والحديث في بيان أن المغضوب عليهم اليهود وأن الضالين النصارى أخرجه الترمذي (2954) وغيره، وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني ~ (3263)، وفيه تسمية بعض الذين قالوا بثبوته من أهل العلم، وقد نقل ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ(1/4)
اللَّهِ } [التوبة: 34] عن سفيان بن عيينة أنه قال: (( من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبّادنا كان فيه شبه من النصارى )).
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في كتابه أضواء البيان (1/53): (( واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعاً مغضوباً عليهم جميعاً، فإن الغضب إنما خصّ به اليهود وإن شاركهم النصارى فيه؛ لأنهم يعرفون الحق وينكرونه ويأتون الباطل عمداً، فكان الغضب أخص صفاتهم، والنصارى جهلة لا يعرفون الحق، فكان الضلال أخص صفاتهم، وعلى هذا فقد يُبَيِّن أن { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود قوله تعالى فيهم: { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } الآية، وقوله فيهم أيضاً: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } الآية، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ } الآية، وقد يبيِّن أن { الضَّالِّينَ } النصارى قوله تعالى: { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } )).
ويتبين مما تقدّم أن سورة الفاتحة مشتملة في أكثر من موضع على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، ومن العلماء من يقسم التوحيد إلى نوعين: توحيد في المعرفة والإثبات ويشتمل على توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الألوهية، فلا تنافي بين القسمة الثنائية والثلاثية، قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية (ص: 42 ـ 43): (( ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.(1/5)
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله *، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول الحديد وطه وآخر الحشر وأول { الم (1) تَنْزِيلُ } السجدة وأوّل آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ، وأوّل سورة { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } وآخرها، وأوّل سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأوّل سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام.
وغالب سور القرآن متضمنة لنوعَي التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يَحُل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } توحيد، { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } توحيد، { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } توحيد، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } توحيد، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد الذين أنعم عليهم { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } الذين فارقوا التوحيد )).(1/6)
ولعظم شأن سورة الفاتحة واشتمالها على توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وعلى طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الذي حاجة المسلم إليه فوق كل حاجة، وضرورته إليه فوق كل ضرورة، شُرعت قراءتها في كل ركعة من ركعات الصلاة، ففي صحيح البخاري (756) ومسلم (393) عن عبادة بن الصامت > أن رسول الله * قال: (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ))، وفي صحيح مسلم (878) عن أبي هريرة > عن النبي * قال: (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ـ ثلاثاً ـ غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله * يقول: قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، قال: مجّدني عبدي، وقال مرّة: فوَّض إلي عبدي، فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل )).
ومعنى قول الله في هذا الحديث القدسي: (( فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل )) أن الجملة الأولى وهي { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } مشتملة على العبادة وهي لله، والجملة الثانية مشتملة على طلب العبد العون من الله، وأن الله تفضل عليه بأن له ما سأل.(1/7)
وقد استدل شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بسورة الفاتحة على صحّة خلافة أبي بكر >، فقال في كتابه أضواء البيان (1/51): (( يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحّة إمامة أبي بكر الصدّيق >؛ لأنه داخل فيمن أمَرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم ـ أعني الفاتحة ـ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم، فدلَّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وذلك في قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، وقد بيَّن الذين أنعم عليهم فعدَّ منهم الصديقين، وقد بيَّن * أن أبا بكر > من الصديقين، فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم، الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم، فلم يبق لبس في أن أبا بكر > على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق )).
سورة البقرة
افتتح الله تسعاً وعشرين سورة من سور القرآن أولها سورة البقرة بالحروف المقطعة، وأشير حول هذه الحروف إلى ما يلي:
1ـ الحروف المقطعة التي وردت في أوائل السور هي: الصاد واللام والهاء والسين والحاء والياء والراء والألف والميم والنون والقاف والطاء والعين والكاف، وهي أربعة عشر حرفاً، يجمعها جملة: (صِلْهُ سُحَيرا مَن قطَعَك)، وأقل هذه الحروف ذكراً الكاف؛ حيث جاءت مرة واحدة في سورة مريم، وأكثرها الميم؛ حيث جاءت في سبعة عشر موضعاً.
2ـ هذه الحروف تنقسم إلى خمسة أقسام:
آحادية: وهي (ص) و(ق) و(ن).
وثنائية: وهي (طه) و(طس) و(يس) و(حم).
وثلاثية: وهي (الم) و((الر) و(طسم).
ورباعية: وهي (المص) و(المر).
وخماسية: وهي (كهيعص) و(حم عسق).(1/8)
3ـ المشهور عند كثير من العلماء في معنى هذه الحروف قولهم: الله أعلم بمراده بذلك، وقد جاء التنويه بالقرآن بعد ذكر هذه الحروف في جميع السور المفتتحة بالحروف المقطعة إلاَّ في ثلاث سور هي: مريم والعنكبوت والروم، وقد جاء التنويه بالقرآن فيها في آخر مريم والروم وفي أثناء العنكبوت، فيُفهم من ذلك الإشارة إلى إعجاز القرآن، ووجه ذلك أن القرآن مؤلَّف من الحروف التي يؤلِّف الناس منها كلامهم، ومع ذلك فإنهم لا يستطيعون أن يؤلِّفوا من هذه الحروف كلاماً مثل هذا الكلام، قال ابن كثير في تفسيره في أول سورة البقرة بعد أن ذكر أقوالاً في المراد بالحروف المقطعة، قال: (( وقال آخرون: بل إنما ذُكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذُكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرّره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية )) إلى أن قال: (( قلت: ولهذا كل سورة افتُتحت بالحروف فلابد أن يُذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } )) إلى أن قال: (( وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم )).
ـ قوله: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } .(1/9)
الكتاب هو القرآن، والألف واللام فيه للعهد، أي الكتاب المعهود في الأذهان، وقد جاء ذكر الكتاب في القرآن كثيراً، والمراد به القرآن العظيم، من ذلك في أول سورة آل عمران ويونس ويوسف والرعد والحجر والشعراء والنمل والقصص ولقمان والسجدة والزمر وغافر والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف، وجاء في سورة مريم: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ } خمس مرات، وفي غير ذلك من الآيات.
وجاء ذكر الكتاب باللفظ المفرد مراداً به الجنس أي الكتب، مثل قوله تعالى: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [البقرة: 177]، وقوله: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } الآية، وقوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } [الحديد: 25]، فإن المراد بالكتاب في هذه الآيات الكتب، والألف واللام فيها لاستغراق الجنس، وقد جاء الجمع بين الكتاب مراداً به القرآن، والكتاب مراداً به الكتب في قول الله - عز وجل - في سورة النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } [النساء: 136]، وقوله في المائدة: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة: 48]، فإن المراد بالكتاب الأول في الآيتين القرآن، والمراد بالكتاب الثاني فيهما الكتب التي أنزلها الله على رسله قبل القرآن.(1/10)
وجاء في القرآن كثيراً ذكر الكتاب مراداً به التوراة، والألف واللام فيه للعهد الذهني، ففي البقرة في موضعين، وفي الأنعام في موضعين، وفي هود والإسراء والمؤمنون والفرقان والقصص و(الم) السجدة والصافات وفصلت وغير ذلك.
وجاء في القرآن ذكر الألف واللام في الكلمة مراداً بها العهد الذكري، مثل قوله: { وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } [الكهف: 80]، وقوله: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ } [الكهف: 82]، فإن الألف واللام في (الغلام) و(الجدار) ترجع إلى معهود مذكور قبله في قوله: { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ } [الكهف: 74]، وقوله: { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } [الكهف: 77]، ومثل قوله في سورة المزمل: { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [المزمل: 16]، فإنه راجع إلى قوله قبلها: { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } [المزمل: 15]، ومثل قوله: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } [التوبة: 5]، فإنه راجع إلى الأربعة في قوله: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [التوبة: 2]، وهي أشهر التسيير والإمهال للمشركين، قال ابن كثير في تفسيره: (( اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى: { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } الآية [التوبة: 36]، قاله أبو جعفر الباقر، ولكن قال ابن جرير: (آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم)، وهذا الذي ذهب إليه حكاه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب الضحاك أيضاً، وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص(1/11)
عليها في قوله: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ، ثم قال: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجَّلناكم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة.
ـ قوله: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } .
المتقون هم الملازمون لتقوى الله، والتقوى في اللغة من الوقاية، وهي أن تجعل بينك وبين الذي تخافه وقاية تقيك منه، كما يتقي الإنسان الشمس باتخاذه ما يظله من حرّها والبرد بلبس الألبسة الثقيلة، والشوك وما يؤذي في الأرض باتخاذ الأحذية وغير ذلك، وأما في الشرع فتقوى الله أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، فالمعنى اللغوي هنا عام، والمعنى الشرعي جزء من جزئيات المعنى اللغوي، وكثيراً ما تأتي المعاني الشرعية أجزاء من المعاني اللغوية، مثل الصوم، فإنه يطلق في اللغة على كل إمساك، ويطلق في الشرع على إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومثل الحج فإنه في اللغة يطلق على كل قصد، ويطلق في الشرع على قصد البيت العتيق والطواف به والإتيان بشعائر معينة، ومثل العمرة فإنها تطلق على كل زيارة، وتطلق في الشرع على زيارة البيت العتيق للطواف به والسعي بين الصفا والمروة.(1/12)
وتقوى الله وصيته للأولين والآخرين، قال الله - عز وجل - : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [النساء: 131]، وبيَّن الله أن تقواه خير زاد، فقال: { وَتَزَوَّدُوا فَإِن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة: 197]، ورتَّب كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة على التقوى، فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 282]، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [الأنفال: 29]، وقال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3]، وقال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق: 4]، وقال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [الطلاق: 5].
ـ قوله: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } .
الغيب في اللغة كل ما غاب عن الإنسان، وفي الشرع كل ما غاب عن الإنسان مما لا يُعرف إلاّ بالوحي، وذلك مثل الإخبار عن بدء الخلق وعن الرسل وأممهم والإخبار عما يجري في المستقبل مثل خروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وخروج المسيح الدجال وغير ذلك، وما يجري في القبور من النعيم والعذاب، وما يحصل بعد البعث من الحشر والحساب ووزن الأعمال والصراط والجنة وما أُعدَّ فيها من النعيم والنار وما أُعدّ فيها من العذاب، ومثل ما هو موجود مما لا نشاهده كالملائكة والجن وما في السماوات.
ومن الإيمان بالغيب الإيمان بأصول الإيمان الستة المبيَّنة في حديث جبريل المشهور، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.(1/13)
فإن الإيمان بأسماء الله وصفاته وأفعاله ومعرفة عبادته كل ذلك لا يُعرف إلاّ عن طريق الوحي من كتاب الله ومن سنّة رسوله *، والإيمان بالملائكة وأصل خَلْقهم وكيفيته وما كُلِّفوا به من الأعمال وغير ذلك مما يتعلّق بالملائكة كله من الإيمان بالغيب، والإيمان بالرسل ومعرفة من سُمّي منهم ومعرفة أممهم وما جرى بين الرسل والأمم من الإيمان بالغيب، والإيمان بالكتب ومعرفتها ومعرفة أسمائها والرسل التي أُنزلت عليهم من الإيمان بالغيب، والإيمان باليوم الآخر ومعرفة ما يحصل في القبر من نعيم أو عذاب وأهوال وما يحصل بعد البعث من حشر وحوض وحساب وميزان وصراط وجنّة ونار كله من الإيمان بالغيب، والإيمان بالقضاء والقدر من الإيمان بالغيب؛ فإن كل ما كُتب في اللوح المحفوظ مما سبق به قضاء الله وقدره لا يعلمه إلاّ الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يعلم الناس المقدَّر إلاّ بوقوعه أو بحصول الخبر بوقوعه في المستقبل من الصادق المصدوق *.
ولعظم شأن الإيمان بالغيب جعله الله أول صفات المتقين التي ذكرها في قوله تعالى: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 2، 3].
ـ قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16].(1/14)
في هذه الآية إخبار عن المنافقين بأنهم رغبوا في الضلالة ورضوها لأنفسهم وتركوا الهدى وأعرضوا عنه فخسروا هذا الذي رغبوا فيه وما ربحت تجارتهم فيه ولم يظفروا بالهدى الذي تركوه، ولهذا قال: { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } ، والباء داخلة على الشيء المتروك، وهكذا كل شيء يُشترى، فإن الباء فيه تدخل على المتروك وهو الثمن، ومن ذلك ما جاء في آيات أخرى عن بعض الكفار، مثل قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 86]، وقوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة: 175]، فإن الباء فيهما داخلة على الأشياء المتروكة، ونظير ذلك قول الله تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا $ygح !$¨Vد%ur وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [البقرة: 61]، فإن الباء داخلة على المتروك، وهو المن والسلوى الذي هو خير.
ـ قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 21، 22].(1/15)
اشتملت هاتان الآيتان على أوّل أَمْرٍ أَمَرَ الله به في المصحف، وهو عبادة الله، وهو أعظم مأمور به، وعلى أوّل نَهْيٍ نَهى الله عنه فيه، وهو الشرك بالله واتخاذ الأنداد له، وهو أعظم منهي عنه، وفي هاتين الآيتين الإلزام بتوحيد الألوهية، وهو عبادة الله وحده وترك عبادة من سواه، وذلك في قوله في أوّل الآية الأولى: { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } ، وقوله في آخر الآية الثانية: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وهذا هو معنى لا إله إلاّ الله؛ فإن قوله: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } بمعنى (لا إله)، وقوله: { اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } بمعنى (إلاّ الله)، وفيهما تقرير توحيد الربوبية، وهو كون الله خالقهم وخالق من قبلهم، وجاعل الأرض تحتهم والسماء فوقهم، الذي ينزل الغيث فيخرج من الأرض أرزاقهم، والمراد من هذا التقرير لتوحيد الربوبية، إلزام الكفار الذين بُعث فيهم الرسول * بتوحيد الألوهية، والمعنى: كما أنه لا خالق إلاّ الله ولا رازق إلاّ الله فإنه لا معبود حق سواه، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقرير التوحيد الذي أقروا به لإلزامهم بالتوحيد الذي جحدوه، مثل قوله تعالى: { أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ t,ح !#y‰tn ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ(1/16)
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [النمل: 60ـ 64]، فإن ما جاء في أوائل هذه الآيات من تقرير توحيد الربوبية الذي أقروا به، أريد به ما جاء في أواخرها، وهو الإلزام بالألوهية، وذلك في قوله: { أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } ، ولما سأل عبد الله بن مسعود > رسول الله * قائلاً: أي الذنب أعظم عند الله؟ أجابه * بقوله: (( أن تجعل لله نداً وهو خلقك )) أخرجه البخاري (4477) ومسلم (257).
ـ قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 23].(1/17)
في هذه الآية الكريمة بيان إعجاز القرآن، وأن الذين نزل عليهم ـ وهم أهل الفصاحة والبلاغة ـ تُحُدّوا بأن يأتوا بسورة من مثله، وأقصر سور القرآن سور العصر والكوثر والإخلاص، ومع ذلك لم يستطيعوا، وقد كان التحدي حصل بالإتيان بمثله، ثم بعشر سور مثله، ثم بسورة من مثله، وهذا التحدي مستمر، وقد أخبر الله بحصول عجز الجن والإنس مجتمعين عن الإتيان بمثله، كما قال الله - عز وجل - : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88]، ومن أهل الفصاحة والبلاغة من أقرَّ بفصاحة القرآن وبلاغته، ففي صحيح البخاري (4854) عن جبير بن مطعم > قال: (( سمعت النبي * يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ tbrمچدّ|_ءكJّ9$# } كاد قلبي أن يطير ))، وفيه (4023) قول جبير: (( سمعت النبي * يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أوّل ما وقر الإيمان في قلبي ))، وفيه (3050) عن محمد بن جبير عن أبيه ـ وكان في أسارى بدر ـ قال: (( سمعت النبي * يقرأ في المغرب بالطور )).
وما جاء عن النظّام المعتزلي من القول بالصرفة، وهو أن العرب كانوا قادرين على الإتيان بمثل القرآن، ولكنه لما حصل التحدي عجزوا باطل؛ لأنه كان بإمكانهم لما عجزوا عند التحدي أن يرجعوا إلى ما كانوا دوّنوه قبل ذلك من الكلام البليغ الذي يتنافسون فيه في أسواقهم، فيختاروا منه ما يقابلون به القرآن، لكنهم لم يفعلوا لأنه لا قبل لهم في معارضته بشيء مثله.(1/18)
ومن كلام العرب البليغ الوجيز ما يُذكر في علم البلاغة وهو قولهم: (القتل أنفى للقتل)، وقد جاء في القرآن الكريم في هذا المعنى قول الله - عز وجل - : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179]، ولم تَسْلم تلك الجملة من الخلل اللفظي والمعنوي، فالخلل اللفظي في كونها مكونة من ثلاث كلمات وواحدة منها مكرّرة، وأما الخلل المعنوي فإنه ليس كل قتل نافياً للقتل، بل من القتل ما يكون سبباً للقتل والاقتتال، وأما الآية القرآنية، فقد جاء فيها ذكر القصاص وهو الذي يكون به نفي القتل وحصول الحياة؛ لأن من عَرف أنه سيُقتل قصاصاً إذا قَتل غيره كفَّ عن القتل، وأبقى على حياته وحياة غيره.
ومن حاول الإتيان بشيء مثل القرآن باءَ بالخيبة وأعلن عجزه وإفلاسه أو أتى بما يبرهن على غبائه وسُخْفه، ومن الأول ما ذكره الشوكاني في تفسير أول آية من سورة المائدة قال: (( فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم، وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم! أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج، فقال: والله! ما أقدر ولا يطيق هذا أحد؛ إني فتحت المصحف فخرَجَت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا )).(1/19)
ومن الثاني ما أورده الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار (1/ 78 ـ 83) بعنوان: معارضة نصرانية سخيفة للفاتحة الشريفة، ذكر فيها أن أحد النصارى حاول معارضة الفاتحة بكلمات زعم أنها تغني عن سورة الفاتحة، وزعم أن ما بعد { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } حشو لا حاجة إليه، وسببه اشتمال ذلك على وصف النصارى بالضلال، وبعد أن أتى الشيخ محمد رشيد رضا ببيان شيء مما اشتملت عليه سورة الفاتحة من المعاني السامية والفصاحة والبلاغة، قال: (( هذه السورة الجليلة التي ذكَّرناك ـ أيها القارئ! ـ بمجمل مما فصلناه في تفسيرها يزعم أحد دعاة النصرانية في هذا العصر أنها بمعزل من البلاغة؛ بأن كل ما بعد الصراط المستقيم فيها (حشو وتحصيل حاصل)، وما قبله يمكن اختصاره بما لا يضيِّع شيئاً من معناه كما فعله بعضهم، قال هذا القول داعية من المبشرين المأجورين من قبل جمعيات التبشير الانجليزية والأمريكانية في كتاب لفَّقه في إبطال إعجاز القرآن بزعمه، بل أنكر بلاغته من أصلها، قال: (وما أحسن قول بعضهم أنه لو قال: الحمد للرحمن، رب الأكوان، الملك الديان، لك العبادة وبك المستعان، اهدنا صراط الإيمان، لأوجز وجمع كل المعنى وتخلص من ضعف التأليف والحشو والخروج عن الرديء كما بين الرحيم ونستعين) اهـ.(1/20)
أقول: لقد كان خيراً لهذا المتعصب المأجور لإضلال عوام المسلمين على شرط أن لا يذكر اسمه في كتيبه ولا يفضح نفسه بين قومه، أن يختصر لمستأجريه آلهتهم وكتبهم التي صدت جميع مستقلي الفكر من أقوامهم وشعوبهم عن دينهم، بل صدّت بعضهم عن كل دين؛ فإن اختصار الدراري السبع في السماء أهون من اختصار آيات الفاتحة السبع في الأرض، وحسب العالم من فضيحته إيراد سخافته هذه وتشهيره بها لو كان حياً يمشي بين الناس، وأما العامي الجاهل الذي قد يغتر بقول كل قائل، ولاسيما إذا كان الطعن بغير دينه، فربما يحتاج إلى التنبيه لبعض فضائح هذا الاختصار، وإن كانت لا تخفى على أولي الأبصار ))، ثم ذكر ~ جملة من فضائح هذا الاختصار المزعوم لسورة الفاتحة من هذا النصراني الضال الجاهل الحاقد.
ـ قوله: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 24 ـ 25].
جمع الله في هاتين الآيتين بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وكثيراً ما يأتي في القرآن الكريم الجمع بين ذلك في آية واحدة أو آيتين أو أكثر؛ ليعبد المسلم ربه جامعاً بين الرغبة والرهبة والخوف والرجاء، كما قال بعض أهل العلم عن الجمع بين الخوف والرجاء: إنه كالجناحين للطائر؛ إذا كانا سليمين سهل طيرانه، وإن اختل أحد الجناحين لم يحصل منه الطيران.(1/21)
ومن الآيات في ذلك قول الله - عز وجل - : { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 38 ـ 39]، وقوله: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } الآيات [طه: 23 ـ 24]، وقوله: { اعْلَمُوا أَن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 98]، وقوله: { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام: 147]، وقوله في ختام سورة الأنعام: { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 165]، وقوله في الأعراف: { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأعراف: 167]، وقوله: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [الحجر: 49 ـ 50]، وقوله: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد: 6]، وقوله: { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت: 43]، وقوله: { وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد: 20]، وقوله: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13ـ 14]، وقوله: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7(1/22)
ـ 8]، إلى غير ذلك من الآيات، وقد عمل أهل السنّة بنصوص الوعد والوعيد، فجعلوا مرتكب الكبيرة مؤمناً ناقص الإيمان، مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، فلم يضيفوا إليه الإيمان المطلق الكامل، ولم يسلبوه مطلق الإيمان، بخلاف المرجئة الذين أعملوا نصوص الوعد وأهملوا نصوص الوعيد، فاعتبروا مرتكب الكبيرة مؤمناً كامل الإيمان، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة!.
وبخلاف الخوارج والمعتزلة الذين أعملوا نصوص الوعيد وأهملوا نصوص الوعد، فسلبوا مرتكب الكبيرة الإيمان، وقالوا: إنه خالد مخلد في النار!، فالمرجئة فرَّطوا والخوارج والمعتزلة أفرطوا، وأهل السنّة والجماعة اعتدلوا وتوسطوا، وسلموا من الإفراط والتفريط، وقد قال الخطابي ~:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ـ قوله: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28].
جمع الله في هذه الآية بين موتتين وحياتين، فالموتة الأولى حيث كان الإنسان في الرحم نطفة ثم علقة ثم مضغة قبل نفخ الروح فيه، والحياة الأولى بعد نفخ الروح فيه، والموتة الثانية عند قبض روحه إذا بلغ أجله، والحياة الثانية عند البعث من القبور، وهذه الآية مبيِّنة للحياتين والموتتين في قول الله - عز وجل - : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } [غافر: 11].(1/23)
وفي هذه الآية الكريمة الإلزام بتوحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وعدم الإشراك به، وذلك بتقرير توحيد الربوبية، وأنه سبحانه وتعالى الخالق المحيي المميت، وقد مرَّ عند قول الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } الآيتين بيان مجيء القرآن بتقرير توحيد الربوبية للإلزام بتوحيد الألوهية، وذكر حديث عبد الله بن مسعود > أن النبي * قال له في جواب سؤاله: أي الذنب أعظم عند الله - عز وجل - ؟ قال: (( أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك )).
ـ قوله: { قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ ِNخhح !$oےôœr'خ/ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ِNخhح !$oےôœr'خ/ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 33].
في هذه الآية الكريمة بيان سعة علم الله - عز وجل - ، وأنه عالم غيب السماوات والأرض ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.(1/24)
وعلم الغيب على الإطلاق اختص به الله - عز وجل - ، فلم يشاركه فيه أحد، قال الله - عز وجل - : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } [النمل: 65]، وقال: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام: 59]، وقال: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [الجن: 26 ـ 27]، وقال عن رسله: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [المائدة: 109]، وقال عن نبيه إبراهيم: { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } [إبراهيم: 38]، وأخبر عن نبيه نوح أنه قال: { وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [هود: 31]، وأمر نبيه محمداً * أن يقول لقومه أنه لا يعلم الغيب، فقال: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [الأنعام: 50]، وقال: { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } [الأعراف: 188]، وبيَّن تعالى أن ما جاء في القرآن من أخبار عن الأمم السابقة لم يحصل للنبي * عن مشاهدة منه ومعاينة، وإنما كان من وحي الله - عز وجل - ، كما قال الله - عز وجل - بعد أن ذكر قصة نوح في سورة(1/25)
هود: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود: 49]، وقال في نهاية قصة يوسف: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [يوسف: 102]، والمعنى: ما كنت لدى إخوة يوسف لما تكلموا فيما بينهم في قتله أو إلقائه في غيابة الجب، بل حصلت لك هذه الأخبار بالوحي من الله - عز وجل - ، ومثل ذلك ما ذكره الله - عز وجل - عن مريم، فقال: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران: 44]، وكذا ما ذكره الله عن موسى في سورة القصص في قوله: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 44 ـ 46]، والمعنى أن إخبار النبي * عن الماضين في هذه الآيات ونظائرها لم يكن بمشاهدة ومعاينة، وإنما كان بالوحي من الله - عز وجل - وكأنه شاهد معاين لها، وقد قال *: (( وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه إذ انحدر في الوادي يلبي )) رواه البخاري (5913) ومسلم (422)، وقال *: (( كأني أنظر إلى يونس بن متى # على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف، خطام(1/26)
ناقته خلبة وهو يلبي )) رواه مسلم (420).
وقد أطلع الله بالوحي نبينا * على كثير من الغيوب ولم يطلعه على كل غيب؛ لأن علم الغيب على الإطلاق لا يكون إلاّ لله - عز وجل - ، ولم يكن النبي * يعلم براءة عائشة < من الإفك الذي رُميت به إلاّ بعد نزول آيات تتلى من سورة النور، وقد قال * لعائشة: (( يا عائشة! فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه )) رواه البخاري (2661) ومسلم (7020).
وكذا لم يكن النبي * يعلم مكان العقد الذي فقدته عائشة وكانت معه في سفر، فأقام رسول الله * على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فلما أصبحوا نزلت آية التيمم، ولما أثاروا الجمل الذي كانت تركبه عائشة وجدوا العقد تحته، أخرجه البخاري (334) ومسلم (816)، ولو كان رسول الله * يعلم الغيب لأخبرهم من أول الأمر أن العقد تحت الجمل ولم يقيموا لالتماسه، وقال *: (( إنكم تختصمون إلي، ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها )) رواه البخاري (2680) ومسلم (4473)، ولو كان * يعلم الغيب لعرف المحق من المبطل من المتخاصمين، ولما قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غَد، قال لها *: (( دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين )) رواه البخاري (5147)، وثبت أنه * لا يعلم بعد موته بما حصل من أصحابه بعده، قال *: (( ليردنَّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختُلجوا دوني، فأقول: أصحابي! فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك )) رواه البخاري (6582) ومسلم (5996)، والمراد بهؤلاء الأصحاب من ارتدّ بعد موته * وقُتل على أيدي الجيوش التي بعثها أبو بكر > لقتال المرتدّين.
وأما قول البوصيري في البردة:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم(1/27)
فهو من الغلو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله *؛ وذلك أن مثل هذا الكلام لا يقال إلاّ لله، فهو سبحانه الذي من جوده الدنيا والآخرة، ومن علمه علم اللوح والقلم.
وفيما تقدّم من النصوص دلالة واضحة لنفي علم الغيب عن الإنس، وأما الملائكة فقد نفى الله سبحانه علم الغيب عنهم بقوله عنهم: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 32]، وأما الجن فنفى علم الغيب عنهم بقوله: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ: 14]، وقوله عنهم: { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [الجن: 10].
ـ قوله: { يَا بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة: 47].(1/28)
المراد بالعالمين الذين فُضل عليهم بنوا إسرائيل هم عالمو زمانهم، وأمة نبينا محمد * هي خير الأمم، قال الله - عز وجل - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]، وقال: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143]، وخير هذه الأمة أصحاب رسول الله *، وقد امتُحن الصحابة وبنو إسرائيل بما يخاف منه ويُطمع فيه، فصبر الصحابة } ولم يصبر بنو إسرائيل، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~: (( ومما يدل على أفضلية أمة محمد * على بني إسرائيل أن الابتلاء الذي يظهر به الفضل وعدمه إنما يكون بخوف أو طمع، وقد ابتلَى أصحابَ النبي * بخوف وابتلاهم بطمع، وابتلى بني إسرائيل بخوف وابتلاهم بطمع، أما الخوف الذي ابتلى الله ـ جلّ وعلا ـ به أصحابَ محمد * فهو أنهم لما غزوا غزاة بدر وساحل أبو سفيان بالعير واستنفر لهم النفير، وجاءهم الخبر بأن العير سَلِمت وأن الجيش أقبل إليهم، وأخبرهم النبي * بذلك، قال له المقداد بن عمرو >: والله! لو سِرت بنا إلى بَرْك الغِماد لجالدنا مَن دونه معك، ولو خضت بنا هذا البحر لخضناه، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، بل إنّا معك مقاتلون، ولما أعاد الكلام قال له سعد بن معاذ >: (كأنك تعنينا معاشر الأنصار)؛ لأنهم اشترطوا عليه ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم بشرط أن يكون في داخل المدينة، ولم يشترط عليهم خارج المدينة، فأخبره النبي * أنه يعنيهم، فقال كلامه المعروف المأثور، قال: (والله! إنا لقوم صُبُر في الحرب، صُدُق عند اللقاء، والله! ما نكره أن تلقى بنا عدوك حتى تر منّا ما يقرُّ عينك، والله! لقد تخلف(1/29)
عنك أقوام لو علموا أنك تلقى كيداً ما تخلف عنك منهم رجل).
بخلاف بني إسرائيل لما امتُحنوا بخوف كهذا صدر منهم ما ذكره الله في سورة المائدة في قوله: { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [المائدة: 22]، وقالوا له: { إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]، كذلك ابتلى بني إسرائيل بصيد، وهو صيد السمك المذكور في الأعراف المشار له في البقرة: { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } [الأعراف: 163]، فحداهم القرم والطمع في أكل الحوت إلى أن اعتدوا في السبت، فمسخهم الله قردة، وقد امتحن الله ـ جلّ وعلا ـ أصحاب النبي * في عمرة الحديبية بالصيد وهم محرمون، فهيّأ لهم جميع أنواع الصيد من الوحوش والطير، من كبارها وصغارها، ولم يَعْتَدِ رجل منهم ولم يصد في الإحرام، كما بيّنه جلّ وعلا بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } [المائدة: 94]، فما مدَّ رجل منهم يده إلى صيد.
فظهر بهذا أن كلتا الأمتين امتحنت بصيد، وأن هؤلاء اعتدوا على ذلك الصيد فمُسخوا قردة، وأن أولئك اتقوا الله، وكذلك امتحنوا بخوف من عدو فصبر هؤلاء وثبتوا، وخاف هؤلاء وجبنوا، فدلَّ هذا على أنهم أفضل منهم، وهذا مما لا خلاف فيه، وهذا مما يبيّن أن قوله: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } ، أن المراد عالم زمانهم )) العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/57 ـ 60).(1/30)
ـ قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة: 61].
قوله: { بِغَيْرِ الْحَقِّ } هو وصف للقتل كاشف لا مفهوم له، أي إن من شأن قتل النبي أن يكون بغير حق، ولا يتصور أن يُقتل نبي بحق، ومثل هذه الآية قول الله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21]، وقوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [آل عمران: 112]، وقوله: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [النساء: 155].(1/31)
ومن الصفات الكاشفة قوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [المؤمنون: 117]، أي إن من شأن من يدعو غير الله أنه لا برهان له بذلك، ولا يُتصور أن يدعو غير الله ويكون له به برهان، وقوله: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } [المائدة: 44]، فإن الذين أسلموا وصف كاشف، ومعنى أسلموا استسلموا وانقادوا لله - عز وجل - ، كما قال الله - عز وجل - عن إبراهيم: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [البقرة: 131]، وقوله عن إبراهيم وإسماعيل: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } [البقرة: 128]، وقوله: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ y7ح !$t/#uن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 133].(1/32)
والوصف نوعان: كاشف ومخصِّص، وما تقدم من الآيات من أمثلة الوصف الكاشف، وأما الوصف المخصّص فله مفهوم، مثل قول الله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء: 92]؛ فإن وصف الرقبة بالمؤمنة مفهومه أنه لا يجزئ إعتاق الرقبة الكافرة، وقد جمع الوصفين الكاشف والمخصص قول الله - عز وجل - في المحرمات: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح !$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [النساء: 23]، فإن مفهوم قوله: { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أن الزوجة غير المدخول بها لا تحرم بنتها، كما هو نص الجملة بعدها: { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، وقوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } وصف كاشف لا مفهوم له؛ لأن الربيبة تحرم على زوج أمها سواء نشأت في حجره أو لم تنشأ، ويدل لذلك قوله * لزوجاته: (( فلا تعرضْنَ عليَّ بناتكن ولا أخواتكن )) رواه البخاري (5101) ومسلم (3586)، فيدخل تحت قوله: (( بناتكن )) كل بنت للزوجة، فيشمل بناتها وبنات أبنائها وبنات بناتها.
ـ قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 104].(1/33)
هذه أول آية في القرآن بدأها الله - عز وجل - بندائه للمؤمنين، وتبلغ الآيات المبدوءة بهذا النداء قريباً من التسعين آية، آخرها قوله تعالى في سورة التحريم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } [التحريم: 8]، والسور من الحديد إلى التحريم فيها آيات بدئت بهذا النداء، إلاّ سورة الطلاق ففيها: { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } [الطلاق: 10]، وقد أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية وتفسير الآية الأولى من سورة المائدة أثراً عن عبد الله بن مسعود > أنه قال: (( إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه ))، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم؛ وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا، يورّون بالرعونة، كما قال تعالى: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلّموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أُمرنا أن نردّ عليهم بـ (وعليكم)، وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا.(1/34)
والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، والتورية في الكلام وكذا المعاريض فيه أن يقول قولاً يريد منه معنى ويفهم السامع معنى آخر، وهو جائز إذا دعت إليه حاجة ولم يكن فيه إسقاط لحق أو إلحاق ضرر بأحد، وفي الأدب المفرد للبخاري (884) بسند صحيح عن عمر > أنه قال: (( أما في المعاريض ما يكفي المسلم الكذب؟ ))، وفيه أيضاً (885) بسند صحيح عن عمران بن حصين > أنه قال: (( إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب ))، ومن أمثلة ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (3911) عن أنس بن مالك > قال: (( أقبل نبي الله * إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يُعرف ونبي الله * شاب لا يُعرف، قال: فيلقى الرجلُ أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر! من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، قال: فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير )).
ـ قوله: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ y7ح !$t/#uن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 133].(1/35)
ذكر الله في هذه الآية إسماعيل من آباء يعقوب وهو عمّه، قال ابن كثير: (( وهذا من باب التغليب؛ لأن إسماعيل عمه، قال النحاس: والعرب تسمي العمَّ لأباً، نقله القرطبي ))، وقال في تفسير سورة الأنعام عند قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } الآيات، قال: (( وقوله في هذه الآية: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } أي وهدينا من ذريته { دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } الآية، وعود الضمير إلى نوح لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه، وهو اختيار ابن جرير، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل على ذلك لوط؛ فإنه ليس من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه ماران بن آزر، اللهم إلاّ أن يقال: إنه دخل في الذرية تغليباً، كما في قوله: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ y7ح !$t/#uن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ، فإسماعيل عمه ودخل في آبائه تغليباً، وكما قال في قوله: { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ } ، فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذُمَّ على المخالفة؛ لأنه كان في تشبه بهم، فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليباً، وإلاّ فهو كان من الجن وطبيعته من النار والملائكة من النور )).(1/36)
وفي كتاب المراسيل لأبي داود (509) قول المطلب بن عبد الله بن حنطب وهو من التابعين: (( العم في كتاب الله - عز وجل - والد ))، ولعلّه أراد بقوله: (( في كتاب الله )) ما جاء في هذه الآية من ذكر إسماعيل في آباء يعقوب، وأورد الشيخ الألباني ~ في السلسلة الصحيحة (1041): (( العم والد )) مرفوعاً عند الطبراني بإسناد فيه ضعف، وآخر مرسلاً عند سعيد بن منصور، وثالثاً عند ابن وهب في الجامع مرسلاً أو معضلاً، وفي صحيح مسلم (2277) أن النبي * قال في عمّه العباس: (( يا عمر! أما شعرتَ أن عمَّ الرجل صنو أبيه )).
ـ قوله: { فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 137].(1/37)
مِثل الشيء يَرِد ويراد به نفس الشيء وحقيقته، والمعنى: فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا، ومثله قول الله - عز وجل - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، أي ليس كالله شيء، وكذا قوله: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) عَلَى مِثْلِهِ } [الأحقاف: 10]، أي عليه، وقوله: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات: 60 ـ 61] أي لهذا، وفي صحيح البخاري (4981) عن أبي هريرة > قال: قال النبي *: (( ما من الأنبياء نبي إلاّ أُعطي من الآيات ما مِثلُه آمن عليه البشر )) الحديث، قال الحافظ في الفتح في شرحه (9/6): (( والمِثْل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه، والمعنى أن كل نبي أُعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها ))، ومن أمثلة ورود مثل الشيء مراداً به ما يساويه قول الله - عز وجل - : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } [الطور: 34]، والمعنى: فليأتوا بحديث يساويه في الفصاحة والبلاغة ولا سبيل لهم إلى ذلك؛ لقول الله - عز وجل - : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88].
ـ قوله: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِن هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة: 120].(1/38)
في هذه الآية دليل واضح على أن الكفار من اليهود والنصارى لا يكفيهم من المسلمين ولا يرضيهم عنهم أن يتنازلوا عن شيء مما هم عليه من الحق والهدى، ومن أمثلة ذلك ما يحاول به بعض المسلمين في هذا العصر من إظهار الإسلام بمظهر يعجب الغربيين، وهو أن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع وليس للغزو والطلب، مع وجود النصوص الواضحة في الكتاب والسنّة الدالة على أن الجهاد منه ما هو دفاع كغزوة أحد، ومنه ما هو انتقال وذهاب إلى بلاد الكفار لدعوتهم إلى الدخول في الإسلام أو الدخول تحت حكمه وأخذ الجزية منهم، فيشاهدون عدل الإسلام وحُسن ما جاء به فيكون ذلك سبباً في دخولهم الإسلام، وكيف يكون الجهاد دفاعاً فقط وقد ذهبت جيوش المسلمين في زمن الرسول * وبعده في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إلى الكفار في ديارهم حتى وصلوا إلى الهند والسند والصين شرقاً وإلى المحيط الأطلسي غرباً؟! ومع تقديم هذا التنازل منهم فإن ذلك غير كاف لإرضاء الكفار، بل لا يرضيهم إلاّ ما ذكره الله في هذه الآية من اتباع ملتهم والسير على نهجهم والأخذ بديمقراطيتهم المزعومة المبنية على الحرية في الاعتقاد والرأي، ولو كان في ذلك السخرية بالرسل الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، ولاسيما خيرهم وأفضلهم نبينا محمد *، وفي صحيح البخاري (3159) عن جبير بن حية قال: (( بعث عمر الناسَ في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين...(1/39)
فندبنا عمرـ أي لقتال الفرس ـ واستعمل علينا النعمان بن مقرن، حتى إذا كنّا بأرض العدو وخرج علينا عاملُ كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنّا في شقاء شديد وبلاء شديد، نمصّ الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلّت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبيُنا رسول ربنا * أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤتوا الجزية، وأخبرنا عن رسالة ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنّة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منّا ملك رقابكم )).
وقد ذكر ابن هشام في مغني اللبيب (2/14 ـ 16) أن (مِنْ) تأتي على خمسة عشر وجهاً، ومن هذه الوجوه البدَل، ومن أمثلة هذا الوجه في القرآن قوله في هذه الآية: { مِنَ اللَّهِ } أي بدلاً منه، ومن أمثلة ذلك أيضاً قول الله - عز وجل - : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ } [التوبة: 38]، وقوله عن نوح: { وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [هود: 30]، وقوله عن صالح: { فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } [هود: 63]، وقوله: { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } [الأنبياء: 42]، وقوله: { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60]، فإن (مِن) في هذه الآيات بمعنى البدل.
ـ قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [البقرة: 143].(1/40)
علمُ الله تعالى محيط بكل شيء، ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يتجدّد له علم بشيء لم يكن عالماً به في الأزل؛ قال الله - عز وجل - : { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } [طه: 98]، وقال: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12]، وقال: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101]، وقال في ختام سورة النساء وسورة النور: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، وقال في ختام سورة الأنفال: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .(1/41)
وأما ما جاء في هذه الآية ونظائرها، مثل قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } [سبأ: 21]، وقوله: { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } [الجن: 28]، وقوله: { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } [آل عمران: 166 ـ 167]، وقوله: { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } [الحديد: 25]، فليس المراد من هذه الآيات أن الله تعالى يحصل له علم بشيء لم يكن عالماً به في الأزل، وإنما المراد حصول العلم الذي يظهر للناس ويترتب عليه الثواب والعقاب، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في أضواء البيان عند هذه الآية (1/104): (( ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، وقد بيَّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله ـ جلّ وعلا ـ: { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، فقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } بعد قوله: { وَلِيَبْتَلِيَ } دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار، وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما عالم السّرّ والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى )).(1/42)
ـ قوله: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [البقرة: 177].
في هذه الآية دليل للإيمان بخمسة من أصول الإيمان الستة، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والكتاب في الآية المراد به الكتب، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس، وقد دلَّ على الإيمان بالأصول الستة حديث جبريل المشهور، وفيه سؤاله رسول الله * عن الإيمان؟ فأجابه بقوله: (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )) أخرجه مسلم في صحيحه (93)، وهو أول حديث عنده في كتاب الإيمان، ويدل لهذه الأصول الخمسة أيضاً قوله تعالى: { آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 285]، وفي قوله: { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إشارة إلى الإيمان باليوم الآخر، ويدل لها أيضاً قول الله - عز وجل - : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [النساء: 136]، ويأتي في الكتاب والسنّة الجمع بين الإيمان بالله وباليوم الآخر كقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } [النساء: 59]، وكقوله *: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) أخرجه البخاري (6018) ومسلم (174) عن أبي(1/43)
هريرة >، ووجه الجمع بينهما أن الإيمان بالله أصل الأصول، وهو الذي يُبنى عليه بقية الأصول ويُبنى عليه كل شيء يجب الإيمان به، وفي ذكر الإيمان باليوم الآخر معه تنبيه على الحساب والجزاء على الأعمال: إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فيُقْدم المسلم على فعل ما في تلك النصوص من الخير رجاء ثوابها، ويبتعد عن المحظورات التي حذِّر منها فيها خوفاً من العقاب عليها.
ـ قوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 230].
معنى الآية أن الزوج إذا طلّق امرأته الطلاق البائن الذي لا رجعة فيه، فإنها لا تحل له إلاّ بعد أن يتزوجها غيره زواج رغبة، ثم يطلقها الزوج الثاني بعد استمتاعه بها، والنكاح في الآية يراد به الوطء؛ يدل لذلك حديث عائشة <: (( أن رجلاً طلَّق امرأة ثلاثاً، فتزوجت فطلق، فسئل النبي *: أتحلُّ للأوّل؟ قال: لا! حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول )) رواه البخاري (5261) ومسلم (3531).
والنكاح يأتي يراد به الوطء، ويأتي مراداً به العقد، يقال: نكح فلان ابنة فلان، أي عقد عليها، ونكح فلان امرأته، أي وطئها، وأكثر ورود النكاح في القرآن يراد به العقد، ومنه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } الآية [الأحزاب: 49].
ـ قوله: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238].(1/44)
في هذه الآية الكريمة الأمر بالمحافظة على الصلوات الخمس، وتأكيد المحافظة على الصلاة الوسطى لعطفها على الصلوات وهي من جملتها، وعَطفُ الخاص على العام يفيد الاعتناء بالخاص لكونه ذُكر مفرداً بعد أن ذُكر مع غيره، وقد ذكر الله في أول سورة المؤمنون جملة من صفات المؤمنين وختمها بقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المؤمنون: 9]، وكذا في سورة المعارج وختمها بقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المعارج: 34].
واختلف العلماء في المراد بالصلاة الوسطى على أقوال، وأصحها أنها صلاة العصر؛ يدل لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه (1425) عن عليّ > قال: قال رسول الله * يوم الأحزاب: (( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء ))، وما أخرجه أيضاً (1426) عن ابن مسعود > قال: (( حبس المشركون رسول الله * عن صلاة العصر حتى احمرّت الشمس أو اصفرّت، فقال رسول الله *: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً ))، وفي صحيح البخاري (6396) عن عليّ > قال: (( كنا مع النبي * يوم الخندق فقال: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، وهي صلاة العصر )).
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (( والوسطى تأنيث الأوسط، ووسطُ الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وقد تقدّم، وقال أعرابي يمدح النبي *:
يا أوسطَ الناس طرّاً في مفاخرهم ... وأكرمَ الناس أُمّاً برَّةً وأبا
ووَسط فلانٌ القومَ يَسِطهم: أي صار في وسطهم )).(1/45)
والأمر بالمحافظة على صلاة العصر بخصوصها بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عموماً يدل على عظم شأنها، ويدل لذلك أيضاً قوله *: (( الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وُتر أهله وماله )) رواه البخاري (552) ومسلم (1417) عن ابن عمر { ، وقوله *: (( من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله )) رواه البخاري (553) عن بريدة >، ويدل لفضلها مع صلاة الفجر قوله *: (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر )) الحديث، أخرجه البخاري (555) ومسلم (1432) عن أبي هريرة >، وقوله *: (( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } )) أخرجه البخاري (554) ومسلم (1434) عن جرير >، وقوله *: (( من صلى البردَين دخل الجنّة )) رواه البخاري (574) ومسلم (1438) عن أبي موسى >.
وأما توسط العصر بين الصلوات؛ فلأن قبلها صلاتين في النهار، وبعدها صلاتين في الليل، وأيضاً فهي الوسطى بين الصلوات بعد فرضها ليلة المعراج، وأما أداء الصلوات فقد بدأ بالظهر حيث نزل جبريل وأمَّ النبي * في يومين بادئاً بصلاة الظهر، رواه الترمذي (149) بإسناد حسن.
ـ قوله: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة: 253].(1/46)
دلت هذه الآية على تفضيل الرسل بعضهم على بعض، ومثلها قول الله - عز وجل - : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } [الإسراء: 55]، وأما النهي عن التخيير بين الأنبياء في قوله *: (( لا تخيِّروا بين الأنبياء )) رواه البخاري (2412) ومسلم (6156)، وفي لفظ لهما (2411) (6153): (( لا تخيِّروني على موسى )) فمحمول على أنه كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، أو حمل التفضيل على العصبية كما هو سبب الحديث، وهو الاستباب الذي حصل بين مسلم ويهودي، قال أبو سعيد الخدري >: (( بينا رسول الله * جالس جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: مَن؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر! قلت: أي خبيث! على محمد *؟! فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي *: (( لا تخيِّروا بين الأنبياء )) الحديث.
فمن الأنبياء من اتخذه الله خليلاً، وهو إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما قال الله - عز وجل - : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [النساء: 125]، ونبينا محمد * كما قال *: (( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً )) الحديث رواه مسلم (1188).
ومنهم من كلمه الله كموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ، قال الله - عز وجل - : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء: 164]، وقال: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف: 143]، وكنبينا محمد * كلّمه الله ليلة عرج به إلى السماء.(1/47)
وأفضل الرسل أولوا العزم منهم، وهم نبينا محمد * ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وقد جمعهم الله - عز وجل - في قوله في سورة الأحزاب: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [الأحزاب: 7]، وقوله في سورة الشورى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا uZّٹ¢¹ur بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13]، وقد قال ابن كثير في تفسير قوله - عز وجل - : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } : (( وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال، وأشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء كلهم محمد *، وقد نصَّ على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل، وتكون (مِن) في قوله: { مِنَ الرُّسُلِ } لبيان الجنس، والله أعلم )).
وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في أضواء البيان (7/434 ـ 435): (( واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأن لفظة (مِن) في قوله: { مِنَ الرُّسُلِ } بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق؛ كما دلّ على ذلك بعض الآيات القرآنية، كقوله تعالى: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } الآية، فأمر الله ـ جلّ وعلا ـ نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس؛ لأنه هو صاحب الحوت، وكقوله: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } ،فآية القلم وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أُمر النبي * بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميعاً الرسل، والعلم عند الله تعالى )).(1/48)
وقال ابن كثير في تفسير آية الأحزاب: وقال أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن عليّ حدثنا أبو أحمد حدثنا حمزة الزيات حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة > قال: (خيار ولد آدم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وخيرهم محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين، موقوف وحمزة فيه ضعف)، ورجال هذا الإسناد رجال البخاري ومسلم إلاّ حمزة الزيات وهو من رجال مسلم، وقد قال عنه الحافظ في التقريب: ((صدوق زاهد ربما وهم ))، وهذا الأثر موقوف وله حكم الرفع، وقال في تفسير آية التفضيل بين الأنبياء في سورة الإسراء: (( ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصّاً في آيتين من القرآن ))، فذكرهما، ثم قال: (( ولا خلاف أن محمداً * أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع، والله الموفق )).
ـ قوله: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255].
1ـ هذه آية الكرسي، وهي أعظم آية في كتاب الله لحديث أبي بن كعب > قال: قال رسول الله *: (( يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال: قلت: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } . قال: فضرب في صدري وقال: والله! ليهنك العلم أبا المنذر )) رواه مسلم (1885).(1/49)
2ـ هذه الآية مشتملة على عشر جمل، ومثلها قوله تعالى في سورة الشورى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [الشورى: 15]، فإنها مشتملة على عشر جمل، نبّه على ذلك ابن كثير في تفسير آية الشورى.(1/50)
3ـ اشتملت آية الكرسي على خمسة أسماء من أسماء الله، وهي: الله، والحي، والقيوم، والعلي، والعظيم، وقد جاء اسم القيوم مقترنا مع اسم الحي في ثلاث آيات في القرآن: في هذه الآية، وفي أول سورة آل عمران: { الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران: 1ـ 2]، وفي سورة طه: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه: 111]، وقد جاء اسم الحي منفرداً كما في قوله: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، وأما اسم العلي فقد جاء مقترناً بثلاثة أسماء، وهي: العظيم كما في هذه الآية، وكما في أول سورة الشورى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [الشورى: 4]، والحكيم كما في قوله في سورة الشورى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى: 51]، والكبير في قوله في سورة النساء: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } [النساء: 34]، وقوله في سورتي الحج ولقمان: { وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، وقوله في سورة سبأ: { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [سبأ: 23].
4ـ قوله: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي إن الله - عز وجل - هو الإله الحق الذي لا تكون الألوهية إلاّ له، فهو الذي يجب أن يُفرد بالعبادة وأن لا يُجعل له شريك فيها؛ لأنه متفرد بالخلق والإيجاد، وهو المستحق أن يُعبد وحده لا شريك له، وكلمة الإخلاص تشتمل على نفي عام وإثبات خاص، ففيها نفي العبادة عن كل ما سوى الله وإثباتها لله وحده لا شريك له.(1/51)
5ـ قوله: { الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } وهو سبحانه وتعالى الحي في نفسه الكامل الحياة الذي لا يموت أبداً، كما قال: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } .
وهو سبحانه وتعالى القيوم المقيم لغيره الغني عن كل ما سواه المفتقر إليه كل من عداه، وأكد حياته وقيوميته بقوله: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } ؛ وذلك لكمال حياته وقيوميته، فلا تعتريه سنة وهي النعاس، ولا ما هو أقوى منها وهو النوم، وفي صحيح مسلم (445) عن أبي موسى > قال: (( قام فينا رسول الله * بخمس كلمات فقال: إن الله - عز وجل - لا ينام ولا ينبغي له أن ينام )) الحديث، وقد قال الله - عز وجل - : { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم: 25].
6ـ وقوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } بيان أنه مالك السماوات والأرض وما بينهما، فهو رب كل شيء ومليكه، المتصرف في ملكه كيف يشاء سبحانه وتعالى، وهو المنفرد بخلق السماوات والأرض وسائر المخلوقات، وهو المالك لها فلا شريك له في خلقه ولا في ملكه.
7ـ وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } أي إنه لعظمته وكبريائه لا يتقدم أحد للشفاعة عنده إلاّ بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع، كما قال الله - عز وجل - : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28]، وقال: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم: 26]، وقوله: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [طه: 109].(1/52)
8ـ وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } أي إن الله عالم بالأشياء ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وأن الله قد سبق علمه بكل شيء ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو العليم بذات الصدور، ولا يعلم أحد من خلقه إلاّ ما علّمه إياه، فما شاء أن يُعْلِمه أحد من خلقه أعلمه إياه وأطلعه عليه، وما لم يُطلع عليه لا سبيل إلى علمه.
9ـ وقوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } العرش هو أعظم المخلوقات، والكرسي مخلوق عظيم، وسع السماوات والأرض وهو دون العرش، وقد جاء تفسيره عن ابن عباس بأنه موضع القدمين رواه الطبراني في المعجم الكبير (12404) بإسناد حسن، ورواه الحاكم (2/282) وصححه ووافقه الذهبي، وهو سبحانه لا يُثقله ولا يكرثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومَن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه.
10ـ وقوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } : العظيم الكامل العظمة الذي خضع لعظمته كل شيء، وهو العلي الأعلى، له علو القدر وعلو القهر وعلو الذات.
ـ قوله: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 256].
جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود في سننه (2682) بسند صحيح عن ابن عباس { قال: (( كانت المرأة تكون مقلاتاً، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أُجليَت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله - عز وجل - : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } ))، قال أبو داود: المقلات التي لا يعيش لها ولد.(1/53)
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما ذكره ابن كثير في تفسيره هذه الآية، والمعنى أن الأفراد من الكفار لا يُكرهون على الدخول في الإسلام، وهذا لا ينافي ما جاء من الآيات في قتال الكفار حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية، مثل قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 5]، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [التوبة: 123]، وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73]، وقوله: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]، وقوله *: (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة )) الحديث، رواه البخاري (25) ومسلم (129)، وفي صحيح مسلم (4522) عن بريدة بن الحصيب قال: (( كان رسول الله * إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله - عز وجل - ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ))، وفيه أنهم يُدعَون إلى الإسلام، فإن أبَوا طُلب منهم دفع الجزية، فإن أبَوا قوتلوا.(1/54)
وفي صحيح البخاري (3159) عن جبير بن حية قال: (( بعث عمرُ الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين... فندَبَنا عمر ـ أي لقتال الفرس ـ، واستعمل علينا النعمان بن مقرن، حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج إلينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلّت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا * أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤتوا الجزية، وأخبرنا عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنّة في نعيم لم ير مثله قط ومن بقي منا ملك رقابكم )).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يقول تعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } أي لا تُكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيِّن واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بيّنة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً ))، وقال: (( وقد ذهب طائفة كبيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال؛ فإنه يجب أن يُدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية قوتل حتى يُقتل )).
ـ وقوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا } .(1/55)
المعنى أن من نفى العبادة عن كل ما سوى الله وأثبتها لله وحده فقد ثبت على الحق والهدى وسلم من الضلال، قال ابن كثير في تفسيره: (( أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يُعبد من دون الله، ووحَّد الله فعبده وحده وشهد أنه لا إله إلاّ هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم )).
سورة آل عمران
ـ قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [آل عمران: 31].
المحبة الصادقة لله ورسوله * سبب كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة، والمسلم يحب الله ورسوله ويحب من يحبه الله ورسوله، ويحب ما يحبه الله ورسوله *، قال *: (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )) رواه البخاري (16) واللفظ له، ومسلم (165).
ومحبة الله ورسوله لا تكون بمجرد الدعاوى، وإنما تكون باتباع ما جاء به الرسول * من الكتاب والسنّة، والدعاوى لابد فيها من إقامة البينات، وكما أن الأمور الدنيوية لا تثبت بمجرد الدعوى، بل لابد من إقامة البيّنة على ذلك، فكذا محبة الله ورسوله، لابد لمدّعيها أن يقيم البيّنة على ذلك وذلك بأن يكون متّبعاً للرسول *، ولهذا جاء عن بعض السلف تسمية هذه الآية بآية الامتحان والاختبار.(1/56)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله * أنه قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ))، ولهذا قال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأنُ أن تحب، إنما الشأن أن تُحَب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } )).(1/57)
ومحبة الرسول * لا تكون بالتمسح بما حول قبره * من الجدران. قال النووي في المجموع شرح المهذب (8/206): (( لا يجوز أن يطاف بقبره *، ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر، قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يَبعُد منه كما يَبعُد منه لو حضره في حياته *، هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثير من العوام وفعلهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة < أن رسول الله * قال: (( من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردّ ))، وفي رواية لمسلم: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ ))، وعن أبي هريرة > قال: قال رسول الله *: (( لا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم )) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقال الفضيل بن عياض ~ ما معناه: (( اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلّة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ))، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة فيما وافق الشرع، وكيف يُبتغى الفضل في مخالفة الصواب )).
ـ قوله تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } [آل عمران: 55].(1/58)
عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ رفعه الله حيّاً إلى السماء كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء: 158]، وقوله: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [النساء: 159] أي: قبل موت عيسى، وجاء في متواتر السنّة نزوله في آخر الزمان وحكمه بشريعة الإسلام التي جاء بها محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية )) الحديث، رواه البخاري (3448)، ومسلم (389).
وما جاء في هذه الآية من تقديم التوفي على الرفع محمول على أن المراد بالوفاة النوم، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [الأنعام: 60]، وقوله: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [الزمر: 42].(1/59)
أو أنه على التقديم والتأخير، كما في قوله تعالى: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَاد بِالْقَارِعَةِ } [الحاقة: 4]، وعاد في الوجود قبل ثمود، أو أنه محمول على أن المراد بالتوفي أخذُه ورفعُه إليه، كما يقال في توفي الدين: قبضُه وأخذه، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: ص 57): (( والجواب على هذا من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله تعالى: { مُتَوَفِّيكَ } لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى، وأما عطفه { وَرَافِعُكَ } على { مُتَوَفِّيكَ } فلا دليل فيه، لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك )) إلى أن قال: (( الوجه الثاني: أن معنى { مُتَوَفِّيكَ } أي: منيمك ورافعك إليَّ، أي في تلك النومة. وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله: { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } ، وقوله: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ، وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين، وقوله *: (( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا...)) الحديث.
الوجه الثالث: أن { مُتَوَفِّيكَ } اسم فاعل (( توفاه )) إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: (( توفى فلان دينه )) إذا قبضه إليه، فيكون معنى { مُتَوَفِّيكَ } على هذا: قابضك منهم إليَّ حيّاً، وهذا القول هو اختيار ابن جرير، وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياماً ثم أحياه، فالظاهر أنه من الإسرائيليات، وقد نهى * عن تصديقها وتكذيبها)).(1/60)
وأتباع عيسى الذين فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة هم الذين على شريعته المنزلة قبل بعثة نبينا محمد *، ثم اتبعوا الشريعة المحمدية التي نسخت شريعة عيسى وغيرها من الشرائع، أما الذين لم يتّبعوا محمداً * فإنهم غير متبعين لعيسى، بل متّبعون لما حرِّف وبُدِّل، وهم من جملة الذين كفروا، قال *: (( والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار ))، رواه مسلم (386).
ـ قوله: { إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [آل عمران: 59 ـ 60].(1/61)
عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في شريعة الإسلام هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو عبدٌ لا يُعبد، ورسول لا يُكذَّب، وأما اليهود والنصارى فقد فرَّطوا فيه وأفرطوا، فاليهود جفوا وفرَّطوا، إذ وصفوه بأنه ابن زنى، والنصارى أفرطوا؛ حتى غلوا فيه وعبدوه مع الله، وقد خلقه الله - عز وجل - بقدرته من مريم بدون أب، كما خلق آدم من تراب، وخلق حواء من آدم، وخلق سائر بني آدم من ذكر وأنثى، فهذه القسمة الرباعية انحصر فيها خلق البشر، وقد ذكر الله في أول سورة النساء خلق آدم وحواء وبني آدم غير عيسى، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [النساء: 1]، وكمل بخلق عيسى من أنثى بلا ذكر القسمة الرباعية لخلق البشر، وليس بغريب خلْق عيسى من أنثى بلا ذكر، فإنه دون خلق آدم من غير ذكر وأنثى، ولهذا قال سبحانه وتعالى: { إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 59]، فخلْق عيسى كان بـ (كن)، كما أن خلْق آدم كان بـ (كن)، وهذا الذي جاء في شريعة الإسلام عن خلق عيسى هو الحق بلا امتراء، ولهذا قال: { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [آل عمران: 60]، وقال في سورة مريم: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [مريم: 34 ـ 35].(1/62)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يقول ـ جلَّ وعلا ـ: { إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ } في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب { كَمَثَلِ آَدَمَ } فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم ، بل { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } ، فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بالطريق الأولى والأخرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب ـ جلّ جلاله ـ أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم، لا من ذكر ولا من أنثى، وخلَق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلَق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى )).
ومثل هذه القسمة الرباعية في أصل خلْق البشر، القسمة الرباعية في خلق بني آدم، إذ وهب لبعضهم الذكور، ووهب لبعضهم الإناث، ووهب لبعضهم الذكور والإناث، وجعل من يشاء عقيماً، كما قال - عز وجل - : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49 ـ 50].(1/63)
وكذا القسمة الرباعية في السعادة والشقاوة، فإن منهم من ينشأ على الإسلام ويموت عليه، ومنهم من ينشأ على الكفر ويموت عليه، ومنهم من تكون بدايته حسنة ونهايته سيئة، ومنهم من تكون بدايته سيئة ونهايته حسنة، ويدل للقسمين الأخيرين حديث ابن مسعود > وفيه: (( فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها ))، رواه البخاري (3208) ومسلم (6723).
ـ قوله: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92].(1/64)
دلّت هذه الآية على أن المسلم المتصدّق ينفق مما يحبه ويعجبه، ولا يعمد إلى الإنفاق من الرديء، ومثل هذه الآية قوله - عز وجل - : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } [الإنسان: 8 ـ 9]، وقوله: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } الآية، وقال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } [البقرة: 267]، قد دلّت هذه الآية على أن المسلم يتصدّق مما رزقه الله من طيب المكاسب والثمار، وليس من الخبيث الذي هو الرديء الذي لا يعجبه أن يعطى إياه، ولو أخذه أخذه بإغماض وحياء، فيعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، والخبيث يطلق على الحرام وعلى الرديء مما هو حلال، وهو المراد بالآية.
ومن إطلاق الخبيث على الرديء قوله *: (( كسب الحجام خبيث )) رواه مسلم (4012)، ويدل لكون المراد بالخبيث في هذا الحديث الرديء، قول ابن عباس >: (( احتجم النبي * وأعطى الذي حجمه، ولو كان حراماً لم يعطه )) رواه البخاري (2103) واللفظ له، ومسلم (4042).(1/65)
وأصحاب رسول الله * أسبق الناس إلى كل خير وأحرصهم على كل خير، ولهذا كانوا ينفقون من أحب أموالهم إليهم، قال أنس بن مالك >: (( كان أبو طلحة أكثر أنصاريٍّ بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } ، قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله! إن الله يقول: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله *: (( بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ))، قال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه )) رواه البخاري (4554)، ومسلم (2315).
وعن ابن عمر { : (( أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي * يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: (( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها )). قال: فتصدّق بها عمر )) الحديث، رواه البخاري (2737) ومسلم (4224).
والبر في الآية فُسِّر بالجنّة، حكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عباس، وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسّدي، وقال: فالمعنى: لن تصلوا إلى الجنّة وتعطَوها حتى تنفقوا مما تحبون.(1/66)
وفُسِّر بالعمل الصالح، ومنه قوله *: (( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً )) رواه مسلم (6639). وفي هذا الحديث مقابلة البر بالفجور، وقد ذكر الله الأبرار والفجار وبيَّن جزاءهم بقوله: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 ـ 14]، وقد أمر الله بالتعاون على البر والتقوى فقال: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة: 2]، وهذان اللفظان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذكر، فرِّق بينها في المعنى، وإذا انفرد أحدهما شمل المعنيين، فالبر في هذه الآية يراد به فعل الطاعات، والتقوى يراد بها اجتناب المعاصي، وإذا أُفرد البر، فإنه يشمل فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وكذا التقوى إذا أفردت تشملهما جميعاً.
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 102].
تقوى الله - عز وجل - : أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وقاية تقيه منه، وذلك بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.(1/67)
وتقوى الله حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يشكر فلا يُكفر، فسّرها بذلك عبد الله بن مسعود >، كما نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم عنه بإسناد صحيح، ومن العلماء من قال إن هذه الآية منسوخة بقوله { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]، حكاه ابن كثير في تفسير هذه الآية عن سعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع ابن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، والسدي وغيرهم، وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى القول بالنسخ عن بعض المفسرين، قال: (( وقيل: إن قوله: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } بيان لهذه الآية، والمعنى: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى )).
وقوله: { وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ، المعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه، حتى إذا وافاكم الأجل، يوافيكم وأنتم على حالة حسنة، فيُختم لكم بخاتمة طيبة. وقد قال رسول الله *: (( أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلَّ )) رواه البخاري (43) ومسلم (1830) واللفظ له.
وفي صحيح مسلم (4776) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص { ، وفيه قوله *: (( فمن أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنّة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ))، ومعناه مثل معنى الآية، ملازمة الإيمان والاستمرار عليه حتى الموت.
ـ قوله تعالى: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران: 104].(1/68)
أمر الله - عز وجل - في هذه الآية بأن يكون في بلاد المسلمين طوائف منهم يدعون إلى الخير ويبصرون بطريق الحق والهدى، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا التصدي من هذه الطوائف للقيام بالدعوة إلى الخير هو من فروض الكفايات، وعلى كل مسلم القيام بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب قدرته وطاقته، كما جاء ذلك مبيناً في حديث أبي سعيد الخدري > قال: سمعت رسول الله * يقول: (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )) رواه مسلم (177).
وهذا الحديث من جوامع الكلم، وهو الحديث الرابع والثلاثون من الأربعين النووية، وقد قلت في شرحي: (( هذا الحديث مشتمل على درجات إنكار المنكر، وأن من قدر على التغيير باليد تعيّن عليه ذلك، وهذا يكون من السلطان ونوابه في الولايات العامة، ويكون أيضاً من صاحب البيت في أهل بيته في الولايات الخاصة، ورؤية المنكر يحتمل أن يكون المراد منها الرؤية البصرية، أو ما يشملها ويشمل الرؤية العلمية، فإن لم يكن من أهل التغيير باليد، انتقل إلى التغيير باللسان، حيث يكون قادراً عليه، وإلاّ فقد بقي عليه التغيير بالقلب، وهو أضعف الإيمان، وتغيير المنكر بالقلب يكون بكراهة المنكر وحصول الأثر على القلب بسبب ذلك، ولا تنافي بين ما جاء في هذا الحديث من الأمر بتغيير المنكر وقول الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]، فإن المعنى: إذا قمتم بما هو مطلوب منكم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد أديتم ما عليكم، ولا يضركم بعد ذلك ضلال من ضلّ إذا اهتديتم )).(1/69)
ولقيام هذه الأمة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كانت خير أمة أخرجت للناس، كما قال الله - عز وجل - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بُعث فيهم رسول الله * ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي: خياراً، { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } )).
وقد لُعن من لعن من بني إسرائيل على ألسنة أنبيائهم لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال - عز وجل - : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78 ـ 79].
ولشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ عند الكلام على آية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية، في كتابه أضواء البيان تحقيقات جيدة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ èps)ح !#sŒ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185].(1/70)
في هذه الآية إخبار من الله - عز وجل - بحصول الموت لكل نفس، وأنه بعد الموت يجازى كلٌّ بما عمل، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والموت هو الفاصل بين الدنيا والآخرة، وكل من مات جاءت ساعته وقامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، ومن كان موجوداً في آخر الزمان يموت عند النفخ في الصور النفخة الأولى، وبذلك يكون الموت قد حصل للأولين والآخرين.
ومثل هذه الآية قول الله - عز وجل - : { كُلُّ نَفْسٍ èps)ح !#sŒ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [العنكبوت: 57]، وقوله: { كُلُّ نَفْسٍ èps)ح !#sŒ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35]، وقد أورد البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه (بابٌ في الأمل وطوله) أثراً عن عليّ > فقال: (( وقال عليّ بن أبي طالب: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل )).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } ، فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخراً كما كان أوّلاً )).(1/71)
وفي قول الله - عز وجل - : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } بيان أن من أحسن عمله في الحياة الدنيا يفوز بهذا الجزاء العظيم من الله - عز وجل - ، وهو السلامة من النار ودخول الجنّة، ويقابله من أساء العمل في الدنيا، فإن كان كافراً خلد في النار ولا سبيل له إلى دخول الجنّة، ومن كان مؤمناً مقترفاً شيئاً من المعاصي، فأمره إلى الله - عز وجل - ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنّة، وإن شاء عذّبه وأدخله النار، لكنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها ويدخل الجنّة، ومن أسباب الزحزحة عن النار ودخول الجنّة: ثبات المسلم على الإسلام وأن يدوم عليه حتى الممات، وأن يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به، لقوله * في حديث عبد الله بن عمرو { : (( فمن أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنّة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه )) رواه مسلم (4776).
ولما بيّن عظم الجزاء في الدار الآخرة، وهو الفوز بدخول الجنّة، والسلامة من النار، بيّن حقارة الدنيا وهوانها، وأنها ليست بشيء، فقال: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } ، والغرور بضم الغين وهو ما يحصل به الاغترار، وأما الغَرور بفتح الغين كما في قوله تعالى: { وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [لقمان: 33]، فالمراد به الشيطان.
ونقل القرطبي في تفسيره عن ابن عرفة أنه قال: (( الغُرور ما رأيت له ظاهراً تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول، والشيطان غَرور لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. قال: ومن هذا بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغرّ وباطن مجهول )).(1/72)
ومما يبيّن حقارة الدنيا وهوانها عند الله - عز وجل - قوله *: (( غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم ـ أو موضع قدم ـ من الجنّة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنّة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها ـ يعني الخمار ـ خير من الدنيا وما فيها )) رواه البخاري (6568)، وقوله *: (( والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر أحدكم بم ترجع )) رواه مسلم (2858).
ـ قوله: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران: 187].
هذه الآية فيها توبيخ لأهل الكتاب الذين أخذ عليهم الميثاق ببيان ما جاءتهم به رسلهم من البينات والهدى، فخالفوا وكتموا، واشتروا بذلك ثمناً قليلاً، وفيها تحذير لعلماء هذه الأمة من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب من الكتمان.
وعن أبي هريرة > قال: قال رسول الله *: (( من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار )) رواه الترمذي (249) بإسناد حسن.(1/73)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد *، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وُعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئس الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكُهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي * أنه قال: (( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار )).(1/74)
وقد ذم الله الذين يكتمون الحق ويشترون به ثمناً قليلاً في آيات أخرى، منها قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة: 174 ـ 175]، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [البقرة: 159]، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران: 77].
وأثنى الله على بعض أهل الكتاب الذين آمنوا بما أنزل إليهم وأنزل على محمد * ولم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فقال: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران: 199].
سورة النساء(1/75)
ـ قوله تعالى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء: 123 ـ 124].
بيّن الله تعالى في هذه الآية أن العمل الذي ينفع صاحبه عند الله هو الذي يكون خالصاً لوجهه ومطابقاً لسنّة نبيه محمد *، وهذان شرطان لابد منهما في قبول العمل، فإن قوله تعالى: { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } يدل على الإخلاص، وقوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ } يدل على المتابعة.
وهذا نظير قول الله - عز وجل - : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110].
وإذا فقد من العبادة أحد الشرطين فإنها مردودة، أما الرد لفقد الإخلاص، فيدل عليه قوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23]، وأما الرد لفقد المتابعة، فيدل عليه قوله *: (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ )) رواه البخاري (6297) ومسلم (4492)، وفي لفظ لمسلم (4493): (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ )).(1/76)
وكل عامل يجازى على عمله كما قال الله - عز وجل - : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7 ـ 8]، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ A$s)÷WدB ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40]، وقوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [طه: 112]، وقوله: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، وقوله عن مؤمن آل فرعون: { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [غافر: 40].
وقوله في هذه الآية: { وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } أي: لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم ولو كان شيئاً يسيراً، والنقير هو النقرة التي تكون في ظهر نواة التمر.
ونظير هذا قوله تعالى: { وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } ، والفتيل: هو الخيط الذي في شق النواة. وأما القطمير في قوله: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13]، فهو اللفافة الخفيفة التي تكون على نواة التمر. ذكر تفسير هذه الكلمات بهذا ابن كثير في تفسيره، وجاء بيانها بذلك في كتاب (القاموس المحيط) للفيروز أبادي.(1/77)
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء: 135].
اشتملت هذه الآية على بيان كمال عدل شريعة الإسلام، وأن المسلم عليه أن يقول الحق ولو على نفسه، ولا يحمله محبة الخير لنفسه ووالديه وأقاربه على أن يقول قولاً أو يشهد شهادة هو مبطل فيهما، لجلب مصلحة أو دفع مضرّة، وكذلك لا يحمله ما يكون في قلبه من عداوة وشحناء لغيره ولو كان كافراً على أن يترك العدل ويصير إلى خلافه، كما قال الله - عز وجل - : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } [المائدة: 2]، وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة: 8]، وقوله: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [الأنعام: 152].(1/78)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي: اشهد بالحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه وإن كان مضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه. وقوله: { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ، أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم؛ فإن الحق حاكم على كل أحد وهو مقدم على كل أحد. وقوله: { إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي: لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما. وقوله: { فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغضة الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كما قال تعالى: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } )).
وقال: (( { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } : قال مجاهد وغير واحد من السلف: { تَلْوُوا } أي: تحرفوا الشهادة وتغيّروها، واللّي: هو التحريف وتعمد الكذب، قال الله تعالى: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ } الآية، والإعراض هو: كتمان الشهادة وتركها، قال تعالى: { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ } )).
وقد ختم الله آيتي النساء والمائدة بالأمر بالعدل ببيان كون الله خبيراً بأعمال العباد، والمعنى: أن ما يحصل منهم من عدل أو جور، فإن الله يعلمه، ولا يخفى عليه منه شيء، وسيجازي كلاًّ بما عمل، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر.(1/79)
وقال ابن كثير في قوله تعالى في آية المائدة: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ، قال: (( من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، كما في قوله تعالى: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } [الفرقان: 24]، وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله * )).
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } [النساء: 174].(1/80)
في هذه الآية الكريمة إخبار من الله تعالى للعباد بأنه جاءهم منه الأدلة القاطعة الدالة على ربوبيته وألوهيته، وأنه الإله الحق الذي لا تكون العبادة إلاّ له، وإخبار بأنه أنزل إليهم نوراً مبيناً وهو القرآن الذي أنزله الله على رسوله * المشتمل على هدايتهم إلى الصراط المستقيم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ففي الأخذ بالكتاب والسنة هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وقد سمى الله ما أنزله على رسوله * نوراً لأنه يضيء لهم الطريق الموصل إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم. ومن الآيات التي وصف الله فيها القرآن بأنه نور، قوله تعالى: { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا } [التغابن: 8]، وقوله: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52]، وقوله: { فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف: 157]، وقوله: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [المائدة: 15 ـ 16].
وهذا النور المعنوي يزيل ظلمات الكفر والضلال والجهل، كما يزيل النور الحسيُّ ظلمة الليل.
سورة المائدة
ـ قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 35].(1/81)
أمر الله في هذه الآية عباده المؤمنين بتقواه والتقرب إليه بطاعته، والتقوى إذا أفردت تشمل فعل الطاعات وترك المعاصي، وإذا قرنت بالأمر بالطاعة تحمل على ترك المعاصي، وقد جمع الله في هذه الآية بين الأمر بتقواه وابتغاء الوسيلة إليه الذي هو التقرب إلى الله بطاعته، فيكون المراد بالتقوى هنا: ترك المعاصي، ومثل ذلك الجمع بين البر والتقوى في قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } يحمل البر على فعل الطاعات، والتقوى على ترك المعاصي، وتفسير الوسيلة بالقربة وهي التقرب إلى الله بطاعته، لا خلاف فيه بين المفسرين كما ذكره ابن كثير في تفسيره.(1/82)
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان عند تفسير هذه الآية: (( اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد * بإخلاص في ذلك لله تعالى؛ لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضا الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة، وأصل الوسيلة الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه، وهي العمل الصالح بإجماع العلماء؛ لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلاّ باتباع رسوله *، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جداً، كقوله تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7]، وقوله: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [النور: 54]، إلى غير ذلك من الآيات، وروي عن ابن عباس { أن المراد بالوسيلة: الحاجة. وقال: (( وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس فالمعنى: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } واطلبوا حاجتكم من الله؛ لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها. ومما يبيّن معنى هذا الوجه قوله تعالى: { إِن الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } الآية، وقوله: { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } الآية، وفي الحديث: (( وإذا سألت فاسأل الله )).(1/83)
ثم قال ~: (( التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء ومن أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول *، وتفسير ابن عباس داخل في هذا؛ لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته، وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال المدعين للتصوف، من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى وضلال مبين، وتلاعب بكتاب الله تعالى. واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرّح به تعالى في قوله عنهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ، وقوله: { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضا الله وجنّته ورحمته هي اتباع رسوله *، ومن حاد عن ذلك فقد ضلّ سواء السبيل { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } )).
ومعنى الوسيلة في هذه الآية، هو معنى الوسيلة في قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء: 57]، والمعنى: أن المدعوين من عباد الله الصالحين هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، أي: يتقربون إلى الله بطاعته، فعلى من دعاهم أن يكف عن ذلك ويدعو الله وحده كما كان المدعوون يدعون الله وحده.(1/84)
ومثل ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } [الإسراء: 42]، قال: (( قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى: لو كان الأمر كما تقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه )).
وقد روى البخاري في صحيحه (4714) عن عبد الله بن مسعود > في قوله تعالى: { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } ، قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم )).
ـ قوله تعالى: { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } [المائدة: 37].(1/85)
دلت هذه الآية على أن الكفار مخلدون في نار جهنم إلى غير نهاية، وأنهم يريدون الخروج منها ولا يحصل لهم ذلك، بل هم باقون في العذاب الدائم الذي لا انقضاء له ولا نهاية. وقد جاء في هذه الآية الكريمة قوله: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا } ، وجاء في سورة الحجر قوله عن أهل الجنّة: { لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر: 48]، لأن الكفار يريدون الخروج ولا يحصل لهم ما أرادوا، وأما أهل الجنّة فهم لا يريدون الخروج، ويخشون من الإخراج، فلهذا قال: { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } ، روى الترمذي في جامعه (2557) بإسناد حسن من حديث أبي هريرة >وفيه: (( فإذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار، قال: أتي بالموت ملبباً، فيوقف على السور الذي بين أهل الجنّة وأهل النار، ثم يقال: يا أهل الجنّة، فيطّلعون خائفين، ثم يقال: يا أهل النار، فيطّلعون مستبشرين يرجون الشفاعة، فيقال لأهل الجنّة وأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناه، هو الموت الذي وكّل بنا، فيضجع فيذبح على السور الذي بين الجنّة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنّة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت )).
ففيه خوف أهل الجنّة واستبشار أهل النار حين ينادَون.
ومن الآيات الدالة على خلود أهل النار فيها خلوداً مؤبداً إخباره تعالى بكون أهل النار خالدين فيها أبداً في سورة النساء والأحزاب والجن، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [فاطر: 36]، وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء: 56].(1/86)
ويجمع بين هذه الآيات الدالة على خلودهم في النار إلى غير نهاية، وقوله في سورة الأنعام: { قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } [الأنعام: 128]، وقوله في سورة هود: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود: 106 ـ 107]، بحمل الاستثناء على طبقة النار التي فيها عصاة الموحدين. وانظر توضيح ذلك في كلام شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في كتابه (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في الكلام على آية سورة الأنعام.
وقال ابن القيم في كتابه الوابل الصيب (ص: 49): (( ولما كان الناس على ثلاث طبقات: طيِّب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب، كانت دورهم ثلاثة: دار الطيِّب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذّبوا بقدر جزائهم، أخرجوا من النار، فأدخلوا الجنّة، ولا يبقى إلاّ دار الطيّب المحض، ودار الخبيث المحض )).(1/87)
وقال الشوكاني في تفسير آية هود مفنّداً كلاماً للزمخشري المعتزلي اعترض فيه على أهل السنّة في قولهم بإخراج أهل الكبائر من النار، فقال: (( ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سَعة، وفي السكوت عنه غنى، فقال: ولا يخدعنك قول المجْبرة: أن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روى لهم بعض النوابت عن ابن عمرو: (( ليأتين على جهنم يوم تَصْفُق فيه أبوابها ليس فيها أحد ))، ثم قال: وأقول: وما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما عليّ بن أبي طالب > ما يشغله عن تسيير هذا الحديث )) انتهى.(1/88)
وأقول: أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله * كما صحّ عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنّة المطهرة، وكما صحّ عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر، فما لك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، وأي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف، وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم، فلا مناداة ولا مخالفة، وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة، فالاستثناء الأول يحمل على معنى إلاّ ما شاء ربك من خروج العصاة من هذه الأمة من النار، والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلاّ ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنّة كما يخلد غيرهم، وذلك لتأخر دخولهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار، وقد قال بهذا من أهل العلم من قدّمنا ذكره، وبه قال ابن عباس حبر الأمة، وأما الطعن على صاحب رسول الله * وحافظ سنّته وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو > فإلى أين يا محمود، أتدري ما صنعت؟ وفي أي واد وقعت، وعلى أي جنب سقطت؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نجوم السماء بيدك القصيرة ورجلك العرجاء، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري، فيا لله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه )).(1/89)
ـ قوله: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } [المائدة: 65 ـ 66].
بيّن الله في هاتين الآيتين أن أهل الكتاب لو حصل منهم الإيمان بالله، والالتزام بما أنزله الله على رسلهم من الحق والهدى، وتركوا التحريف والتبديل، وآمنوا بمحمد * الذي بشّرت به كتبهم، لظفروا بمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، ودخول الجنّات.
وفي ذلك الجمع لهم بين التخلية وهي تكفير السيئات، والتحلية وهي التمتع بنعيم الجنّة، وقد قال ابن كثير ~ في هذا المعنى: (( لأزلنا عنهم المحذور، وأنلناهم المقصود ))، وهذا جزاؤهم في الآخرة، وأما جزاؤهم في الدنيا، فبيّنه الله في قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } ، أي: بما ينزله لهم من بركات السماء من الأمطار، وبما يخرجه لهم من بركات الأرض من الكنوز والثمار.
وهذا الجزاء الدنيوي والأخروي مما اشتمل عليه الدعاء الجامع الذي كان يكثر منه الرسول * كما في صحيح مسلم (6840): (( عن عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان يدعو بها النبي * أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: (( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ))، قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه )).(1/90)
قال ابن كثير ~: (( { لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي: لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق، والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً *، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه، والأمر باتباعه حتماً لا محالة )).(1/91)
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في أضواء البيان: (( ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه والعمل بما فيه، ليسر الله لهم الأرزاق، وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض، وبين في مواضع أخر أن ذلك ليس خاصاً بهم، كقوله عن نوح وقومه: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } ، وقوله عن هود وقومه: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } الآية، وقوله عن نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقومه: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، وقوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } الآية، على أحد الأقوال، وقوله: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } الآية، وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } الآية، وقوله: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } ، ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى سبب لنقيض ما يستجلب بطاعته، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } الآية، ونحوها من الآيات )).
سورة الأنعام(1/92)
ـ قوله تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 83 ـ 86].
1ـ من أصول الإيمان الإيمان برسل الله الكرام، من قصّه الله علينا منهم ومن لم يقصص، قال الله - عز وجل - : { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } [النساء: 164]، وقوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [غافر: 78].
والذين قصّوا في القرآن خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في هذه الآيات، والسبعة الباقون هم: محمد، وهود وصالح، وشعيب، وآدم، وإدريس، وذو الكفل.
وهذا العدد منهم الذي جاء في هذه الآيات هو أكبر عدد جاء في سورة من سور القرآن، وقد جاء في سورة الأنبياء ذكر سبعة عشر، وجاء في سورة النساء ثلاثة عشر في قوله: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } الآيتين.(1/93)
2ـ هؤلاء الثمانية عشر، خمسة عشر منهم من ذرية إبراهيم الخليل، والضمير في قوله: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } قيل: إنه راجع إلى نوح، لأنه أقرب مذكور وهذا لا إشكال فيه، وقيل: إنه راجع إلى إبراهيم، لأن سياق الآيات فيه، ولوط ليس من ذريّته وقد كان في زمانه، كما قال الله - عز وجل - : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 71]، وقوله: { فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت: 26]. وعلى هذا، يكون دخول لوط مع ذريّته للتغليب، كما دخل إسماعيل تغليباً في آباء يعقوب في قوله تعالى: { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ y7ح !$t/#uن إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية [البقرة: 133]، وكما دخل إبليس مع الملائكة تغليباً، كما قال - عز وجل - : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ } [البقرة: 34]، ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره.
3ـ أسماء هؤلاء الرسل ممنوعة من الصرف إلا ستة، فأسماؤهم مصروفة، وهم: نوح وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، ومحمد، يجمع الحروف الأُول من أسمائهم (( صِنْ شَملَه )).
4ـ مما جاء في بيان أزمان هؤلاء الرسل:
أوّلاً: إبراهيم ولوط في زمن واحد كما تقدّم، وكذلك موسى وهارون، وكذلك داود وسليمان، وكذا زكريا ويحيى وعيسى، ويحيى وعيسى ابنا خالة.
ثانياً: هود بعد نوح، وقد قال لقومه: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [الأعراف: 69]، وصالح بعد هود، وقد قال لقومه: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ } [الأعراف: 74].(1/94)
ثالثاً: شعيب بعد لوط، وقد قال لقومه: { وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [هود: 89].
رابعاً: شعيب قبل موسى وهارون، لأن الله ذكر في سورة الأعراف قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإهلاكه إياهم ثم قال: { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ $ygح !$t6/Rr& } [الأعراف: 101]، ثم قال بعد ذلك: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى } [الأعراف: 103]، فدلّ هذا على أن شعيباً متقدّم على موسى، وأما صهره الذي جاء ذكره في سورة القصص، فهو رجل صالح وليس بشعيب.
خامساً: موسى بعد يوسف، قال الله - عز وجل - : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } [غافر: 34].
سادساً: داود بعد موسى، كما في قول الله - عز وجل - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) مِنْ بَعْدِ مُوسَى } إلى قوله: { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } .
سابعاً: خمسة من هؤلاء الرسل هم أولوا العزم، وقد ذكرهم الله في قوله في سورة الأحزاب: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [الأحزاب: 4]، وفي قوله في سورة الشورى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13].(1/95)
ثامناً: الرسل المذكورون في القرآن ذكروا بأسمائهم، وقد ذكر يونس باسمه وبوصفه في موضعين في قول الله - عز وجل - : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } الآية، وفي قوله: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [القلم: 48].
ـ قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153].(1/96)
أمر الله - عز وجل - في هذه الآية بلزوم صراط الله المستقيم، وهو ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله *، ونهى عن اتباع السبل المخالفة لهذا الصراط، وقد أفرد الصراط وجمع السبل لأن الطريق إلى الله واحد، وهو ما جاء في الكتاب والسنّة، والطرق المخالفة لذلك كثيرة، ونظير ذلك قوله تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [البقرة: 257]، فأفرد النور وهو الحق، وجمع الظلمات التي هي طرق الضلال، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن الأمر باتباع طريق الهدى والتحذير من اتباع الطرق الأخرى كما في قوله في سورة الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } ، فالمسلم يسأل ربه أن يهديه الصراط المستقيم، وأن يسلمه من طرق المغضوب عليهم والضالين، وقوله: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 3]، وقوله: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13]، وقال: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، وقال: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:(1/97)
104 ـ 105]، وقال: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [الأحزاب: 36]، وقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( أي: عن أمر رسول الله * وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنّته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائناً ما كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله * أنه قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ ))، أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً و ظاهراً { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: في الدنيا بقتل، أو حدٍّ، أو حبسٍ، أو نحو ذلك )).
وقد أخبر * في حديث العرباض بن سارية عن وجود الاختلاف في هذه الأمة، وأنه مع وجوده يكون كثيراً حيث قال: (( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ))، ثم أرشد * عند وجود هذا الاختلاف إلى الطريق الأمثل والمنهج الأقوم، وهو اتباع السنن وترك البدع، فقال: (( فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإن كلّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة )) رواه أبو داود (4607) والترمذي (2676) وقال: حديث حسن صحيح.(1/98)
وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن (4142) عن عبد الله بن مسعود > قال: (( خطَّ لنا رسول الله * خطّاً ثم قال: (( هذا سبيل الله ))، ثم خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: (( هذه سبل متفرقة، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ))، ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } )).
وقال ابن عطية: (( وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل والبدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلّها عرضة للزلل، ومظنّة لسوء المعتقد ))، نقله عنه القرطبي في تفسيره، وقال: (( قلت: وهو الصحيح )).
وقال أبو عثمان النيسابوري كما في حلية الأولياء (10/ 244): (( من أمّر السنّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة )).(1/99)
وروى أبو داود في سننه (4612) بإسناد صحيح: (( أن رجلاً كتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنّة نبيه *، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنّته، وكُفُو مؤنته، فعليك بلزوم السنّة فإنها لك ـ بإذن الله ـ عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلاّ قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها؛ فإن السنّة إنما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم؛ فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كَفّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلاّ من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مَقْصَر، وما فوقهم من مَحْسَر، وقد قصَّر قوم دونَهم فجفَوا، وطمح عنهم أقوام فغَلَوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم )).
ـ قوله تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الأنعام: 160].(1/100)
في هذه الآية الكريمة بيان فضل الله - عز وجل - وعدله، وأنه يثيب على الحسنات بمضاعفتها إلى عشر، وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، ويجازي على السيئة بمثلها أو يعفو عنها، كما قال الله - عز وجل - : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 40]، وهذه الآية مبينة للآيات الأخرى المجملة، مثل قوله تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [القصص: 84]، وقوله: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل: 89 ـ 90].
وجاء في السنّة توضيح الجزاء على الحسنات والسيئات إذا همّ بها أو عملها، فعن ابن عباس { عن رسول الله * فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال: (( إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن همّ بها فعملها كتبها الله - عز وجل - عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة )). رواه البخاري (6491) ومسلم (338)، وهذا الحديث أورده النووي في الأربعين، وهو الحديث السابع والثلاثون.(1/101)
وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( واعلم أن تارك السيئة لا يعملها على ثلاثة أقسام، تارة يتركها لله، فهذا تكتب له حسنة على كفّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: (( فإنما تركها من جرّائي )) أي: من أجلي. وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها، فهذا لا له ولا عليه، لأنه لم ينو خيراً ولا فعل شراً، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها، بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يُقرِّب منها، فهذا يتنزّل منزلة فاعلها، كما جاء في الحديث في الصحيحين عن النبي * أنه قال: (( إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )). قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (( إنه كان حريصاً على قتل صاحبه )). وأما حديث: (( نية المؤمن خير من عمله )) فهو ضعيف، ذكر ذلك الحافظ في الفتح (4/219)، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني ~ (2789).
ـ قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162 ـ 163].
في هذه الآية الكريمة إخلاص العبادة لله وحده، ما كان منها بدنياً كالصلاة، وما كان منها مالياً كذبح بهيمة الأنعام تقرباً إلى الله - عز وجل - ، وأن الحياة لله تعمر في عبادته وطاعته، وهي ميدان العمل الذي تُجنى ثماره، ويحصّل جزاؤه بعد الموت.(1/102)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ، أي: أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى )).(1/103)
وقال في قوله: { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } : (( قال قتادة: أي: من هذه الأمة. وهو كما قال، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، وقد أخبر تعالى عن نوح أنه قال لقومه: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس: 72]، وقال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 130 ـ 132]، وقال يوسف ـ عليه السلام ـ: { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 101]، وقال موسى: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [يونس: 84 ـ 86]، وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا(1/104)
لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ } الآية [المائدة: 44]، وقوله: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [المائدة: 111]، فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام، ولكنهم متفاوتون فيه، بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضاً، إلى أن نُسخت بشريعة محمد * التي لا تُنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة، وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولهذا قال ـ عليه السلام ـ: (( نحن معاشر الأنبياء أولاد علاّت ديننا واحد ))، فإن أولاد العلاّت هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتّى، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات، كما أن إخوة الأخياف عكس هذا: بنو الأم الواحدة من آباء شتّى، والإخوة الأعيان: الأشقاء من أب واحد وأم واحدة )).
سورة الأعراف
ـ قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف: 180].
أسماء الله تعالى كلها حسنى، أي بالغة نهاية الحسن وكماله كما وصفها الله بذلك في هذه الآية، وفي قوله: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [طه: 8]، وقوله: { لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الحشر: 24].
والعلم بأسماء الله وصفاته من الغيب الذي لا يعرف إلاّ بالوحي، فيُثبت لله - عز وجل - ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله من الأسماء والصفات على وجه يليق بكمال الله وجلاله من غير تكييف أو تشبيه، ومن غير تحريف أو تعطيل، كما قال الله - عز وجل - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، ففي هذه الآية الإثبات في قوله: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، والتنزيه في قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .(1/105)
وأسماء الله غير محصورة بعدد، يدل لذلك حديث ابن مسعود > قال: قال رسول الله *: (( ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي، إلاّ أذهب الله همّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً، قال: فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلّمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلّمها ))، رواه الإمام أحمد في المسند (3712). قال المعلّقون على المسند: إسناده ضعيف كما قال الدارقطني في العلل، وقد نقلوا عن الحافظ ابن حجر تحسينه، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (198)، وقد صحّح هذا الحديث ابن القيم وشرحه شرحاً واسعاً في كتابه (شفاء العليل) في الباب السابع والعشرين منه (ص: 369 ـ 374).
وأما الحديث الذي رواه البخاري (2736) ومسلم (6809) عن أبي هريرة > أن رسول الله * قال: (( إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلاّ واحداً، من أحصاها دخل الجنّة ))، فلا يدل على حصر أسماء الله في هذا العدد، بل يدل على أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، من شأنها أن من أحصاها دخل الجنّة، كما لو قال قائل: عندي مائة كتاب أعددتها لطلبة العلم، فإنه لا يدل على أنه ليس عنده إلاّ هذا العدد.
ولم يثبت في سرد الأسماء حديث، وقد أوردت في كتاب (قطف الجنى الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني) تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله الحسنى مرتبة على حروف الهجاء، ومع كل اسم دليله من الكتاب أو السنّة.
والله تعالى يُدعى بأسمائه، فيقال: يا عزيز أعزني، يا رزاق ارزقني، يا لطيف الطف بي، يا رحمن يا رحيم ارحمني، وهكذا، ويُتوسل إلى الله - عز وجل - بأسمائه وصفاته.(1/106)
والإلحاد في أسماء الله: الميل بها عما تدل عليه إلى أمور لا تدل عليها، ومنه سمي اللحد في القبر لأنه في ناحيته. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (( والإلحاد يكون بثلاثة أوجه: (أحدها): بالتغيير فيها كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدلوا بها عما هي عليه فسموا بها أوثانهم، فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، قاله ابن عباس وقتادة، (الثاني): بالزيادة فيها، (الثالث): بالنقصان منها )).
وقال: (( ومعنى الزيادة في الأسماء التشبيه، والنقصان التعطيل، فإن المشبهة وصفوه بما لم يأذن فيه، والمعطلة سلبوه ما اتصف به، ولذلك قال أهل الحق: إن ديننا طريق بين طريقين، لا بتشبيه ولا بتعطيل ))، فالمشبهة أثبتوا وشبهوا، والمعطلة نزهوا وعطلوا، وأهل السنّة جمعوا بين الحسنيين، وسلموا من الإساءتين، فأثبتوا ونزهوا، كما قال الله - عز وجل - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فبإثباتهم سلموا من التعطيل، وبتنزيههم سلموا من التشبيه والتمثيل.
ـ قوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف: 199 ـ 200].
قال القرطبي في تفسيره: (( هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات، فقوله: { خُذِ الْعَفْوَ } دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله: { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار، وفي قوله: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة )).(1/107)
ونقل عن جعفر الصادق أنه قال: (( أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية )).
قال البخاري في صحيحه: (( العرف المعروف ))، وروى (4644) بإسناد معلق (( عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن الزبير أنه قال: أمر الله نبيه * أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، أو كما قال )).
وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في كتابه (أضواء البيان): (( بين في هذه الآية الكريمة ما ينبغي أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن، فبيّن أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته، وأن شيطان الجن لا منجى منه إلاّ بالاستعاذة بالله منه، قال في الأول: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ، وقال في الثاني: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وبين هذا الذي ذكرنا في موضعين آخرين:
أحدهما: في سورة { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } قال فيه في شيطان الإنس: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } [المؤمنون: 96]، وقال في الآخر: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون: 97 ـ 98].(1/108)
والثاني: في حم (السجدة) قال فيه في شيطان الإنس: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34]، وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلاّ لذي الحظ الكبير، والبخت العظيم عنده فقال: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 35]، ثم قال في شيطان الجن: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت: 36].
سورة الأنفال
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64].
اختلف في المعطوف عليه قوله: { وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، فقيل: إنه معطوف على لفظ الجلالة، والمعنى: حسبك الله وحسبك أتباعك من المؤمنين، وقيل: معطوف على الكاف في قوله: { حَسْبُكَ } ،والمعنى: حسبك الله وحسْب أتباعك من المؤمنين. وقد عزا القرطبي الأول إلى الحسن والنحاس، وعزا الثاني إلى الشعبي وابن زيد، وأرجحهما الثاني؛ لأن الحسْب وهو الكافي لم يرد مضافاً إلاّ إلى الله - عز وجل - ، فهو سبحانه وتعالى الكافي لنبيه *، وهو الكافي لأتباعه من المؤمنين، ولهذا قال في الآية قبلها: { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِن حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 62]، فأضاف الحسْب إليه وحده، وجعل التأييد له بنصره وبتوفيقه المؤمنين لنصره.(1/109)
وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [التوبة: 59]، فأضاف الحسب والرغبة إليه وحده، وأضاف الإيتاء في الموضعين إلى الله وإلى الرسول *، وقال تعالى: { وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ } [النور: 33]، وقال: { وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة: 74]، وقال: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 37]، فأضاف الإيتاء والإغناء والإنعام إلى الله وإلى غيره، ولم يأت إضافة الحسب إلى غيره، وقد مدح الله المؤمنين فقال: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173].
وانظر كلام شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ على هذه الآية في كتابه (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنفال: 70].(1/110)
في هذه الآية جاءت كلمة (خير) مرتين، الأولى في مقابلة الشر، كقوله تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7 ـ 8]، والثانية (أفعل) تفضيل، أي: أخيَر، ويأتي كثيراً حذف الهمزة من أخير وأشرّ في (أفعل) التفضيل، وجاء الجمع بين المعنيين لخير وشر في حديث رواه الترمذي (2263) بإسناد حسن أن النبي * قال: (( خيركم من يُرجى خيره ويؤمَن شره، وشركم من لا يُرجى خيره ولا يؤمَن شره )). فـ (خير) و(شر) في الأول (أفعل) تفضيل، وفي الثاني ما يقابل الشر.
سورة التوبة
ـ قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100].
في هذه الآية إخبار من الله عن رضاه عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وتابعيهم بإحسان، ورضاهم عنه، وأنه أعد لهم جنات النعيم، وأن ذلك هو الفوز العظيم، وأصحاب رسول الله * هم خير أمة محمد * التي هي خير الأمم، وقد جاءت الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة ببيان فضلهم ونبلهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم، قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار: من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية، وقال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة: هم الذين صلّوا إلى القبلتين مع رسول الله * )).(1/111)
وقال: (( فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويلَ من أبغضهم أو سبّهم، أو أبغض أو سبّ بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر ابن أبي قحافة >، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبّونهم ـ عياذاً بالله من ذلك ـ وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنّة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبّه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون لا يبتدون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون )).
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان): (( صرّح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى والوعد بالخلود في الجنات والفوز العظيم، وبيّن في مواضع أخر أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير، كقوله تعالى: { وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } الآية، وقوله: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا } [الحشر: 10]، وقوله: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } [الأنفال: 75]، ولا يخفى أنه تعالى صرّح في هذه الآية الكريمة أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم أنه ضال مخالف لله - عز وجل - ، حيث أبغض من رضي الله عنه، ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له ـ جلّ وعلا ـ، وتمرد وطغيان )).(1/112)
ـ قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 111].
في هذه الآية الكريمة بيان فضل الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال، وأن جزاءه عظيم عند الله - عز وجل - ، سواء قُتل المجاهد في سبيل الله، أو قَتل غيره من الكفار، وفي هذه الآية قُدّمت الأنفس على الأموال، ولم تقدم في موضع آخر في القرآن، وقدمت الأموال على الأنفس في آيات كثيرة جداً، وهو يدل على أهمية الجهاد بالأموال، لأن في ذلك الإنفاق على المجاهدين، وتوفير العتاد والسلاح، وغير ذلك مما يُحتاج إليه في الجهاد.
والجهاد في سبيل الله يكون بالنفس والمال واللسان، كما قال *: (( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )) رواه أبو داود (2504) بإسناد صحيح، ويكون بالقلب والنية، لقوله *: (( إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاّ كانوا معكم )) قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: (( وهم بالمدينة حبسهم العذر )). رواه البخاري (4423) ومسلم (4932)، وفي لفظ لمسلم (4933): (( إلاّ شركوكم في الأجر )).
وفي قوله تعالى: { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } دليل على أن قتل الإنسان نفسه حرام، وأنه ليس من الجهاد، بل هو من ظلم الإنسان نفسَه.(1/113)
قققال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنّة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قَبِل العوض عما يملكه بما تفضّل به على عباده المطيعين له، ولهذا قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم ـ والله ـ فأغلى ثمنهم )).
وهذا الجزاء العظيم للمجاهدين في سبيل الله وعد به الله في التوراة والإنجيل والقرآن، وهي أعظم الكتب المنزلة وأشهرها، ومن أصول أهل السنّة والجماعة: الإيمان بالكتب، ما سمي منها في القرآن وما لم يسمّ، والذي سمي منها في القرآن: التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وقد ورد ذكر الإنجيل في القرآن كثيراً، وورد ذكر التوراة أكثر بلفظ التوراة، وبلفظ الكتاب، وجاء ذكر الزبور في سورة النساء والإسراء في قوله تعالى فيهما: { وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } [النساء: 163]، وجاء ذكر صحف إبراهيم وموسى في سورة النجم وسورة الأعلى.
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119].
في غزوة تبوك استنفر رسول الله * الناس للغزو، ولم يأذن بالتخلف عن هذه الغزوة إلاّ لمن حبسه عذر من مرض وغيره، وكان من بين الذين تخلّفوا من غير عذر ثلاثة من أصحابه الكرام } ، وعند سؤالهم عن تخلفهم أجابوا بالصدق.(1/114)
وفي حديث كعب بن مالك > الطويل لما سأله النبي * عن تخلفه قال: (( إني والله يا رسول الله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنْ سأخرجُ من سَخَطه بعذر، والله لقد أعطيتُ جدلاً ولكني والله لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ليوشكن الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك. فقال رسول الله *: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك )) رواه البخاري (4418) ومسلم (7016).
وقد أنجاه الله وصاحبيه مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي لصدقهم، وأنزل الله توبته عليهم في قوله: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة: 118].
وكان من شكر كعب بن مالك > ربَّه إذ نجاه لصدقه: التزامه بالصدق ما بقي، قال في حديثه الطويل: (( فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلاّ صدقاً ما بقيت، فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله * أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله * إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت )). وأنزل الله بعد آية التوبة عليهم قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .(1/115)
فأمر عباده المؤمنين أن يتقوه بفعل ما أمروا به، وترك ما نُهوا عنه، وأن يكونوا مع الصادقين مع أصحاب رسول الله *، أهل الصدق والإيمان، وقد جاء في آية صفات المهاجرين في سورة الحشر وصفهم بالصدق، قال الله تعالى فيهم: { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحشر: 8].
وفي صحيح البخاري (6094) ومسلم (6639) واللفظ له عن عبد الله بن مسعود > قال: قال رسول الله *: (( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً )).
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 123].
في هذه الآية الكريمة الأمر بالجهاد في سبيل الله وقتال الكفار، الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى منهم، وهذا هو الصحيح في معنى قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [الرعد: 41]، أي: بفتح المسلمين لبلاد الكفار شيئا فشيئاً، حكى ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس { أنه قال: (( أولم يروا أنا نفتح لمحمد * الأرض بعد الأرض )). ثم ذكر أقوالاً أخرى وقال: (( والقول الأول أولى وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية )).(1/116)
وقد تكلم ابن كثير ~ في تفسير هذه الآية بكلام واف نفيس فقال: (( أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أوّلاً فأولاً، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول الله * بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن، واليمامة وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجاً، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام، لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع، لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام.
ثم اشتغل في السنة العاشرة بحَجَّته حجّة الوداع، ثم عاجلته المنية ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بعد حجَّته بأحد وثمانين يوماً، فاختاره الله لما عنده، وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق >، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبّته الله تعالى به، فوطّد القواعد وثبّت الدعائم، ورد شارد الدين وهو راغم، وردّ أهل الرّدّة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام، وبيّن الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان، وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من البلاد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر بذلك رسول الإله، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده، وولي عهده الفاروق الأواب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب >، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً، وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعداً وقرباً، ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي.(1/117)
ثم لما مات شهيداً، وقد عاش حميداً، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان > شهيد الدار، فكسا الإسلام رياسة حلّة سابغة، وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله وظهر دينه، وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، فكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاه الفجار، امتثالاً لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } [التوبة: 123]، وقوله تعالى: { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } أي: ويجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً لأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كقوله تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]، وقوله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73] )).(1/118)
وقال: (( وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة والقيام بأمر الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سفال وخسار، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدّموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدّموا إلى حوزة الإسلام فأخذوا من الأطراف بلداناً كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه وبقدر ما فيه من ولاية الله، والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم )).
ـ قوله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128].
في هذه الآية الكريمة بيان امتنان الله - عز وجل - على عباده بأعظم منّة، وهي إرساله رسوله الكريم محمداً * لهدايتهم إلى الحق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما قال - عز وجل - : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [آل عمران: 164].(1/119)
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على وصفه * بصفات عظيمة، وهي: حرصه * على هدايتهم وحصول ما فيه نفعهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأنه يشُق عليه كل ما فيه عنت وضرر عليهم، وأنه ذو رأفة ورحمة بهم ـ صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ـ، وفي هذه الآية وصفه * بأنه رؤوف رحيم، وقد جاء في آيات من القرآن وصف الله تعالى نفسه بأنه رؤوف رحيم، وما يضاف إلى الله - عز وجل - من الصفات يليق بكماله وجلاله، ولا يشبهه أحد من المخلوقين في صفاته، كما قال الله - عز وجل - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
سورة يونس
ـ قوله تعالى: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [يونس: 25].
لما ضرب الله المثل للدنيا وبيّن زوالها وفناءها، أخبر سبحانه أنه يدعو عباده إلى دار السلام وهي الجنة، دار البقاء والدوام في النعيم المقيم، ودار السلامة من الآفات والنقائص. ثم أخبر أن من المدعوين من هداهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصل سالكيه إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وأمّة محمد * أمّتان: أمّة دعوة، وأمّة إجابة، فأمّة الدعوة هم الجن والإنس من حين بعثته * إلى قيام الساعة، وأمّة الإجابة هم الذين وفّقهم الله للهداية إلى الحق والدخول في الدين الحنيف، وقد اشتملت هذه الآية على ذكر الأمّتين، فقوله: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ } حُذف فيه المفعول، والمعنى: والله يدعو إلى دار السلام كل أحد، وهذه أمّة الدعوة. وقوله: { وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أُظهر فيه المفعول، وهو: من شاء الله هدايته وهم أمّة الإجابة، فالدعوة عامة لكل أحد، والهداية إلى الصراط المستقيم خاصة لمن شاء الله هدايته.(1/120)
والهداية في هذه الآية هداية التوفيق التي اختص الله تعالى بها، ونفاها عن نبيه محمد * في قوله: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص: 56]، وأما هداية الدلالة والإرشاد والبيان، فقد أثبتها الله لنبيه في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، وحُذف في هذه الآية المفعول، والمعنى: وإنك لتهدي كل أحد إلى الصراط المستقيم، أي: تدله وتبيّن له وترشده.
ـ قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [يونس: 26].
في هذه الآية الكريمة بيان أن الذين أحسنوا في عبادة ربهم وأحسنوا إلى غيرهم بأي وجه من وجوه الإحسان، أن جزاءهم عند الله الحسنى وهي الجنّة وزيادة وهي: النظر إلى وجه الله - عز وجل - ، روى مسلم في صحيحه (449، 450) عن صهيب > عن النبي * قال: (( إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل - . ثم تلا هذه الآية: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } . فدلّ هذا الحديث على تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله - عز وجل - .(1/121)
ورؤية المؤمنين ربهم في الدار الآخرة جاءت في آيات، فيها قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22 ـ 23]، وقوله: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15]، ووجه الدلالة: أنه لما حُجب الكفار عن رؤية الله لسَخطه عليهم، دلّ على أن أولياءه يرونه لرضاه عنهم، كما جاء ذلك عن الشافعي ~. وأما الأحاديث، فهي متواترة جاءت عما يقرب من ثلاثين صحابياً، ذكرهم ابن القيم، وذكر أحاديثهم في كتابه (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص: 186 وما بعدها).
وممن أنكر رؤية الله في الدار الآخرة المعتزلة، ومنهم الزمخشري صاحب الكشاف، ولتمكنه في علم البلاغة يستدل لمذهبهم الباطل ببعض الآيات على وجه لا يتفطن له إلاّ القليل، قال السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن: 2/191): (( والمبتدع ليس له قصد إلاّ تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد، بحيث أنه متى لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعاً له فيه أدنى مجال سارع إليه. قال البلقيني: استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش من قوله في تفسير قوله تعالى: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } : وأي فوز أعظم من دخول الجنّة؟ أشار به إلى عدم الرؤية )).
ومثل قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى } : قوله تعالى: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن: 60]، وكما أن جزاء الذين أحسنوا الحسنى وهي الجنّة، فإن عاقبة الذين أساؤوا السوأى، كما قال الله - عز وجل - : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى } [الروم: 10]، والسوأى: النار، وهو أحد الأقوال في تفسير هذه الآية.
ـ قوله تعالى: { أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس: 62 ـ 63].(1/122)
في هاتين الآيتين الكريمتين بيان أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون وهم الذين آمنوا بربوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته، واتقوه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وكل من كان مؤمناً تقياً فهو ولي لله، وليست الولاية مقصورة على أفراد تدَّعى فيهم الولاية، ويُغلى فيهم حتى يُصرَف لبعضهم ما لا يُصرف إلاّ لله.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم بهم، فكل من كان تقياً كان لله ولياً، فـ { لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي: فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة، { وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا )).
سورة هود
ـ قوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود: 6].
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن كل دابة تدبُّ في الأرض في البر والبحر، أنه متكفّل برزقها، ويصل إليها ما كتبه الله لها، وأنه يعلم مستقرها ومستودعها، ومستقرُّها: حيث تأوي. ومستودعُها: حيث تموت. وقيل: مستقرّها: في الأرحام. ومستودعها: في الأصلاب. حكاهما ابن كثير عن ابن عباس { .(1/123)
وكل هذه الدواب وحركاتها وسكناتها وأرزاقها في كتاب مبين، هو اللوح المحفوظ، كما قال الله - عز وجل - : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } [الحديد: 22]، وقال: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38]، وفي سنن ابن ماجه (2144) بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله > قال: قال رسول الله *: (( أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلّ ودعوا ما حرم )). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ~ (2607). وعن عمر > قال: قال رسول الله *: (( لو أنكم كنتم توكلون على الله حقَّ توكّله لرُزقتم كما يُرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً )). وهو حديث صحيح، رواه الترمذي (2344) وغيره، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ~ (310).
وقال الشاعر:
لو كان في صخرة في البحر راسية ... صمّاء ملمومة مُلْس نواحيها
رزق لعبد براه الله لانفلقت ... حتى تؤدي إليه كل ما فيها
أو كان تحت طباق السبع مطلبها ... لسهّل الله في المرقى مراقيها
حتى تؤدي الذي في اللوح خُطّ له ... إن هيْ أتته وإلاّ سوف يأتيها
ـ قوله تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود: 112].(1/124)
أمر الله في هذه الآية نبيه محمداً * أن يستقيم هو وأمّته على ما أمر الله به. والاستقامة: الالتزام بما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله *، وذلك بامتثال الأوامر على قدر الاستطاعة واجتناب النواهي، كما قال *: (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم )). رواه البخاري (7288) ومسلم (6113)، ولما سأل أحد الصحابة رسول الله * أن يوصيه، أمره بالاستقامة، ففي صحيح مسلم (159) عن سفيان بن عبد الله الثقفي > قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال: (( قل آمنت بالله ثم استقم )).
وقد بيّن الله أن جزاء أهل الاستقامة الجنّة، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأحقاف: 13 ـ 14]، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت: 30 ـ 32].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، ونهى عن الطغيان، وهو البغي، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد، لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عليه شيء )).(1/125)
وقال القرطبي: (( قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله * آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: شيّبتني هود وأخواتها )).
سورة يوسف
ـ قوله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108].
أمر الله نبيه * في هذه الآية الكريمة أن يخبر الناس أن الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له هي سبيله وسبيل أتباعه الذين يسيرون على نهجه، وأن هذه الدعوة على علم وبصيرة، وهكذا تكون الدعوة عن علم بما يدعو الداعي إليه.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( يقول تعالى لعبده ورسوله * إلى الثقلين: الجن والإنس، آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقه ومسلكه وسنّته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، هو وكلّ من اتبعه إلى ما دعا إليه رسول الله * على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي .
وقوله: { وَسُبْحَانَ اللَّهِ } أي: وأنزه الله وأجلّه وأعظّمه وأقدّسه عن أن يكون له شريك أو نظير، أو عديل أو نديد، أو ولد أو والد، أو صاحبة أو وزير أو مشير، تبارك وتقدّس وتنزّه وتعالى عن ذلك كلّه علواً كبيراً، { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } )).
ـ قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف: 109].(1/126)
في هذه الآية الكريمة بيان أن الرسل من الرجال لا من النساء، لأن الرجال أكمل من النساء، قال ابن كثير ~ في تفسير هذه الآية: (( يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء، وهذا قول جمهور العلماء كما دلّ عليه سياق هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى لم يوح إلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع. وزعم بعضهم أن سارة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم بنت عمران أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } الآية، وبأن الملك جاء إلى مريم وبشرها بعيسى ـ عليه السلام ـ، وبقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف، فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه أهل السنّة والجماعة وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية وإنما فيهن صدّيقات، كما قال تعالى مخبراً عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن )).
وكما أن النساء لسن من أهل النبوة والرسالة؛ كذلك ليس لهن ولاية عامة وخاصة على الرجال، لأن الرسول * بلغه أن الفرس ولّوا عليهم ابنة كسرى قال: (( لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة )) رواه البخاري (4425).(1/127)
وفي هذه الآية: أن الرسل من أهل القرى، وذلك لرقة قلوبهم ولين طباعهم، بخلاف أهل البادية، وما جاء في هذه الآية من أن الرسل من أهل القرى، لا ينافي ما جاء في هذه السورة في قوله تعالى عن يعقوب: { وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } لأن من ذهب من الحاضرة إلى البادية فترة من الزمن، لا يخرجه عن كونه حضرياً، كما أن من جاء من البادية إلى الحاضرة فترة من الزمن لا يجعله حضرياً. وانظر كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص: 175) لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~.
ـ قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف: 110].
في قوله في هذه الآية { كُذِبُوا } قراءتان، بتشديد الذال المكسورة وتخفيفها، فعلى قراءة التشديد؛ تكون الضمائر كلها راجعة إلى الرسل، ومثل ذلك قوله تعالى: { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [الأنعام: 34]، وعلى قراءة التخفيف؛ يكون رجوع الضمير في قوله: { وَظَنُّوا } إلى أقوام الرسل لا إلى الرسل، والمعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن المرسَل إليهم أن الرسل قد كُذِبوا فيما وُعدوا به من النصر، جاءهم نصر الله.(1/128)
اختار ذلك ابن جرير في تفسيره وعزاه إلى ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك بأسانيده إليهم. وروى بإسناده أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير، فقال: (( يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } فهذا الموت، أن تظنّ الرسل أنهم قد كُذبوا، أو نظنّ أنهم قد كذبوا. قال: فقال سعيد بن جبير: يا أبا عبد الرحمن، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظنّ قومهم أن الرسل كذبتهم { جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } . قال: فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال: فرّج الله عنك كما فرّجت عنّي )).
سورة الرعد
ـ قوله تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [الرعد: 11].
معنى الآية ـ والله أعلم ـ: أن للعبد ملائكة موكلين بحفظه، وحفظُهم إياه من أمر الله لهم بذلك، وقيل: (( مِن )) بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله.(1/129)
وقوله: { إِن اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } هو مثل قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأنفال: 53]، قال ابن كثير في تفسير آية الأنفال: (( يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغيّر نعمة أنعمها على أحد إلاّ بسبب ذنب ارتكبه )). يبيّن ذلك ويوضحه قول الله - عز وجل - : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112]، وقوله: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: 30].
وقوله: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } ،المعنى: أن ما كتبه الله وقضاه لابد من وقوعه، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
والإرادة في الآية: إرادة كونية قدَرية، لابد من وقوع المراد، كما قال الله - عز وجل - : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82].
سورة إبراهيم
ـ قوله تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7].
وعد الله في هذه الآية من شكر نعمه بالزيادة فيها، وأوعد من كفرها بالعذاب الشديد. وشكر النعم سبب ثباتها وزيادتها، وكفرها سبب زوالها وذهابها، كما قيل: النعم إذا شُكرت قرَّت، وإذا كُفرت فرَّت.(1/130)
وقد قال الله - عز وجل - : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112].
وشكر الله على النعم يكون بالإقرار بها والتحدّث بها، وحمد الله عليها، وصرفها في طاعته تعالى، وما يقرّب إليه.
ونعم الله - عز وجل - لا تُعد ولا تُحصى، كما قال الله - عز وجل - : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [النحل: 53]، وقال: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]. وأعظم النعم نعمة الإسلام والهداية إلى الصراط المستقيم. ومن النعم: نعمة المال، والرزق، والولد، والصحة، والعافية، وغيرها، وقد قال *: (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصّحّة والفراغ )) رواه البخاري (6412).
والقدوة والأسوة في شكر النعم: نبينا محمد *؛ فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وكان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، ولما قالت له عائشة < في ذلك، قال: (( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً )) رواه البخاري (4838) ومسلم (7126).(1/131)
وأثنى الله على نوح ـ عليه السلام ـ فقال: { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء: 3]، وأثنى على إبراهيم فقال: { شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [النحل: 121]، وأخبر عن شكر سليمان لما أحضر إليه عرش بلقيس فقال: { فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل: 40]، وقال عن لقمان: { وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [لقمان: 12]، وفي صحيح مسلم (7500) عن صهيب > قال: قال رسول الله *: (( عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له )).
سورة الحجر
ـ قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
أخبر الله في هذه الآية عن تنزيله كتابه الكريم، وحفظه إياه من الزيادة والنقصان، والتغيير والتبديل، فلا يتطرّق إليه شيء من ذلك.
وقد تحقّق هذا الحفظ من وجوه:
الأول: حرصُ الرسول الكريم * على تلقيه من جبريل وتحريكه لسانه به لدى إلقائه عليه، لئلاّ يفوته منه شيء، وقد نهاه الله عن ذلك، ووعده بتمكينه من حفظه فقال: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه: 114]، وقال: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16 ـ 19].(1/132)
وفي صحيح البخاري (4929) عن ابن عباس { وفيه: (( فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله )).
الثاني: نزول القرآن منجّماً مفرّقاً في ثلاث وعشرين سنة، وفي ذلك تمكين الصحابة } من تلقيه عن الرسول * وحفظه شيئاً فشيئاً، كما قال الله - عز وجل - : { وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } [الإسراء: 106]. وروى ابن جرير في تفسيره (1/74) بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود > أنه قال: (( كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيَهن والعمل بهن ))، وقال ابن سعد في (الطبقات: 6/172): أخبرنا حفص بن عمر الحوضي قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن السلمي قال: (( إنا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنّا نتعلم القرآن والعمل به...)). وهذا إسناد حسن، وحماد بن زيد ممن سمع من عطاء قبل اختلاطه.
الثالث: جمْع أبي بكر الصديق > القرآن في صحف، ثم جمْع عثمان > القرآن في مصحف.
الرابع: توفيق الله - عز وجل - للألوف من المسلمين في مختلف العصور لحفظه عن ظهر قلب.
سورة النحل
ـ قوله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [النحل: 36].(1/133)
أخبر الله - عز وجل - في هذه الآية أنه بعث في كل أمّة من الأمم رسولاً من رسله الكرام للدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة كل ما سواه، وهذا هو معنى (( لا إله إلاّ الله ))؛ فإنها مشتملة على نفي عام، وهو نفي العبادة عن كل ما سوى الله، وإثبات خاص، وهو إثباتها لله وحده لا شريك له، وفي الآية إخباره تعالى بأن هذه الأمم منها من وفقه الله للهداية، فآمن بالرسل واستجاب لدعوتهم، ومنهم من كفر بما جاءت به الرسل، فبقي في الضلالة.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، وقوله: { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } [النحل: 2].
وما جاء في هذه الآية من إرسال الرسل في كل أمّة، لا يُشكل عليه ما جاء في قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } [النساء: 163]، وقول أهل الموقف يوم القيامة لنوح: (( يا نوح إنك أنت أوّل الرسل إلى أهل الأرض )) رواه البخاري (4712) ومسلم (480). لأن إرسال نوح ومَن بعده حصل بعد وجود الشرك والخروج عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بخلاف ما كان قبل نوح، فإن الناس كانوا على الفطرة، والرسل جاؤوا لتقرير ما فطر الله عليه الناس من التوحيد، وانظر كلام شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في أضواء البيان عند قوله تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [البقرة: 253].
ـ قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90].(1/134)
نقل القرطبي عن ابن مسعود > أنه قال: (( هذه أجمع آية في القرآن لخير يُمتثل، ولشر يجتنب )). والعدل: هو القسط والإنصاف، وضدّه الجور والظلم، ويدخل فيه أداء ما فرض الله على عباده. والإحسان يتعدّى بنفسه فيُقال: أحسن فلان عمله، أي: أتقنه، ويتعدى بالحرف فيُقال: أحسَن إلى غيره، أي: أوصل إليه بره ومعروفه، وكل من المعنيين مأمور به في الآية، وإيتاء ذي القربى هو من جملة الإحسان، وأُفرد بالذِّكر لكون القرابة أولى الناس ببر الإنسان وإحسانه، وهو من صلة الأرحام التي أمر الله بوصلها، وقد جاء في القرآن آيات كثيرة فيها الأمر بالعدل والندب إلى الإحسان، كقوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل: 126]، وهو عدل، ثم قال: { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } ، وهو إحسان، وقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } ،وهو عدل، ثم قال: { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } وهو إحسان، وقال: { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة: 45]، وهو عدل، ثم قال: { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } ، وهو إحسان، وقال: { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } [الشورى: 41]، وهو عدل، ثم قال: { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [الشورى: 43]، وهو إحسان، وقال: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: 40]، وهو عدل، ثم قال: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } ، وهو إحسان.(1/135)
والفواحش: ما فحش وعظم من الذنوب، قال الله - عز وجل - : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } [الإسراء: 32]، وقال: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا } [النساء: 22].
والمنكر: هو ما يقابل المعروف، وهو كل محرّم حرمه الله ونهى عنه. والبغي: الاعتداء والظلم، وهو من جملة المنكرات، لكنه أُفرد لخطورته وشدّة ضرره.
سورة الإسراء
ـ قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9].
أنزل الله كتابه الكريم هدى ورحمة للمؤمنين، ووصفه في هذه الآية بأنه يهدي للتي هي أقوم، أي: للطريقة التي هي أقوم. وكتاب الله وسنّة رسوله * فيهما الحق والهدى، وبالتمسك بما فيهما تحصل السعادة في الدنيا والآخرة.
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان): (( ذكر جلّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهداً برب العالمين جلّ وعلا، { يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، أي: الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب، فـ (( التي )) نعت لموصوف محذوف )).(1/136)
وقال: (( وهذه الآية الكريمة أجمل الله ـ جلّ وعلا ـ فيها جميع ما في القرآن من الهدي إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة، ولكن إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة )). ثم وفّى بما وعد به في أربع وخمسين صفحة من (3/488 ـ 542).
وهو دال على سعة علمه، ودقّة فهمه، وقوّة بصيرته، رحمه الله وغفر له.
ـ قوله تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } [الإسراء: 31].
نهى الله - عز وجل - في هذه الآية عن قتل الأولاد خشية الفقر، وأخبر سبحانه أنه رازق الأولاد والوالدين، ومثل هذه الآية، قوله تعالى في سورة الأنعام: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [الأنعام: 151]، ولما كان الفقر في هذه الآية متوقعاً لقوله: { خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ } قدّم تعالى رَزقه الأولاد على رَزق الوالدين، وكأن رَزق الآباء حصل بسبب الإبقاء على الأولاد، فكان رَزق الآباء تبعاً لرَزق الأولاد.
ولما كان الفقر في آية سورة الأنعام واقعاً لقوله تعالى: { مِنْ إِمْلَاقٍ } قدِّم رَزق الوالدين على رَزق الأولاد.(1/137)
وروى البخاري (4477) ومسلم (257) عن عبد الله بن مسعود > قال: سألت النبي *: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ))، قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أيّ؟ قال: (( وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك ))، قلت: ثم أيّ؟ قال: (( أن تزانيَ حليلة جارك )).
سورة الكهف
ـ قوله تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [الكهف: 109].
في هذه الآية الكريمة بيان أن كلام الله - عز وجل - لا ينتهي، وأنه لا نفاد له، وأنه لو كانت البحور مداداً يُكتب به كلام الله، لنفدت البحور ولو ضوعفت، لأن ماءها محصور، ولا ينفد كلام الله، لأنه لا حصر له ولا نفاد، وذلك أن الله - عز وجل - لا بداية له، فلا بداية لكلامه، ولا نهاية له، فلا نهاية لكلامه.
ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [لقمان: 27].
سورة مريم
ـ قوله تعالى: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [مريم: 71 ـ 72].
أشهر ما قيل في معنى الورود في الآية قولان: أحدهما: أنه الدخول فيها ولا يحصل لهم ضررها، وهذا حكاه ابن كثير عن ابن عباس، واختاره شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في (أضواء البيان)، وذكر أوجه اختيار هذا القول.(1/138)
والثاني: أنه المرور على الصراط على قدر الأعمال، والصراط منصوب على متن جهنم، فالذي يمر عليه حصل له ورود النار، وقد حكاه ابن كثير عن ابن مسعود >. قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: (( ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنّة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك، لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابها، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها وهو الصراط )).
ومما يقوي القول بأن المراد بالورود المرور على الصراط: ما رواه مسلم في صحيحه (6404) عن أم مُبَشِّر أنها سمعت النبي * يقول عند حفصة: (( لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها ))، قالت: بلى يا رسول الله. فانتهرها، فقالت حفصة: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } ، فقال النبي *: (( قد قال الله - عز وجل - : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } )).
قال النووي في شرح هذا الحديث: (( والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون )).
سورة طه
ـ قوله تعالى: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [طه: 114].(1/139)
في هذه الآية الكريمة أمْر الله نبيه محمداً * أن يسأله الزيادة من العلم، وذلك دال على فضل العلم الشرعي، ومن أدلته في القرآن قوله - عز وجل - : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ $JJح !$s% بِالْقِسْطِ } [آل عمران: 18]، وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9]، وقوله: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، وقوله: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة: 11].
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/141): (( وقوله - عز وجل - : { رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ، واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم )).
وقد أورد البخاري في صحيحه (82) في باب فضل العلم حديث ابن عمر { قال: سمعت رسول الله * قال: (( بينا أنا نائم أُتيتُ بقَدَح لبن، فشربت حتى إني لأري الرِّيّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب )). قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: (( العلم )).
ففي هذا الحديث تأويل رؤياه * اللبن بالعلم. وقد جاء في السنّة أمر النبي * بالدعاء عند شرب اللبن بطلب الزيادة منه، فعن الترمذي (3455) وحسّنه، وعند ابن ماجه (3322) بإسنادين يقوي بعضهما بعضاً عن ابن عباس قال: قال رسول الله *: (( من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه، ومن سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يُجزئ من الطعام والشراب إلاّ اللبن )). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ~ (2320).(1/140)
والخلاصة: أن الله أمر نبيه * في هذه الآية أن يسأله الزيادة من العلم، وأن النبي * أرشد عند شرب اللبن إلى سؤال الله الزيادة منه. وقد أوّل النبي * رؤياه اللبن في المنام بالعلم، وكل منهما ورد طلب الزيادة منه.
سورة الأنبياء
ـ قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34].
دلّت الآية الكريمة على أن مصير البشر إلى فناء، وأن الله - عز وجل - لم يجعل الخلد لأحد قبله *، فلا يكون له ولا لغيره البقاء، بل كلٌّ صائر إلى الفناء، كما قال الله - عز وجل - : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن: 26 ـ 27].
قال بعض أهل العلم: (( كان المشركون ينكرون نبوته * ويقولون: هو شاعر يُتربّص به ريب المنون، ولعلّه يموت كما مات شاعر بني فلان؛ فقال الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك )).
وقد استُدل بهذه الآية على أن الخضر ـ عليه السلام ـ قد مات، سواء كان ولياً أو نبياً أو رسولاً، لأنه بشر وكان في زمن موسى ـ عليه السلام ـ، وقد قال الله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } .
سورة الحج
ـ قوله تعالى: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج: 40 ـ 41].(1/141)
في هذه الآية الكريمة وعْد الله - عز وجل - أنه ناصر من ينصره، وممكّن له في الأرض، ونصر الله - عز وجل - يكون بإقامة شرعه، والعمل بما جاء في الكتاب والسنّة المطهرة. وهذه الآية نظير قوله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]، وقوله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } [النور: 55].
وفي الآية الثانية بيان صفات المستحقين لنصر الله - عز وجل - ، لكونهم نصروه وهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان) بعد إيراد جملة من الآيات التي فيها بيان نصر الله - عز وجل - من ينصره، قال: (( وفي قوله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } الآية دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر إلاّ مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فليس لهم وعد من الله بالنصر، لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناءً على أنه وعدهم إياه، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له )).(1/142)
وقال: (( وهذه الآيات تدل على صحّة خلافة الخلفاء الراشدين، لأن الله نصرهم على أعدائه، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقد مكّن لهم واستخلفهم في الأرض كما قال: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } الآية. والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله * وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل )).
سورة المؤمنون
ـ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون: 60].
ذكر الله في هذه الآية من صفات المؤمنين أنهم يعطُون ما يعطون وهم خائفون وَجِلون ألا يُتقبّل منهم، لما يعتري عملهم في ظنّهم من التقصير، وروى الترمذي في جامعه (3175) أن عائشة زوج النبي * قالت: سألت رسول الله * عن هذه الآية: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: (( لا يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدّقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم )) { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } .(1/143)
وأشار إلى طريق أخرى له عن أبي هريرة >. وانظر السلسلة الصحيحة للألباني ~ (162). قال: (( والسر في خوف المؤمنين ألا تقبل عبادتهم، ليس هو خشيتهم أن لا يوفيهم الله أجورهم، فإن هذا خلاف وعد الله إياهم في مثل قوله تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } [النساء: 73]؛ بل إنه ليزيدهم عليها كما قال: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } [فاطر: 30]، والله تعالى لا يخلف وعده كما قال في كتابه، وإنما السر أن القبول متعلّق بالقيام بالعبادة كما أمر الله - عز وجل - ، وهم لا يستطيعون الجزم بأنهم قاموا بها على مراد الله، بل يظنون أنهم قصَّروا في ذلك، ولهذا فهم يخافون أن لا تقبل منهم، فليتأمل المؤمن هذا عسى أن يزداد حرصاً على إحسان العبادة والإتيان بها كما أمر الله، وذلك بالإخلاص فيها له، واتباع نبيه * في هديه فيها، وذلك معنى قوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110] )).
وروى ابن جرير في تفسير هذه الآية (17/68) عن الحسن أنه كان يقول: (( إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً. ثم تلا الحسن: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } إلى { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } ، وقال المنافق: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } )).
سورة النور(1/144)
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور: 21].
نهى الله عباده المؤمنين في هذه الآية عن اتباع خطوات الشيطان، وهي طرائقه ومناهجه ومسالكه، وأخبر أن من كان كذلك، فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، كما قال الله - عز وجل - : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } الآية [التوبة: 67]. ونقل ابن كثير في تفسيره عن قتادة أنه قال: (( كل معصية فهي من خطوات الشيطان )). وخطوات الشيطان هي السبل المخالفة للصراط المستقيم، وقد نهى الله عن اتباعها بقوله: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153]، ثم أخبر تعالى أن ما يحصل من هداية واستقامة، فهي بفضل الله - عز وجل - على من يشاء من عباده، وأنه لولا فضل الله - عز وجل - ورحمته لم يهتد من اهتدى، كما قال الله - عز وجل - : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [الكهف: 17].(1/145)
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان): (( بيّن جلّ وعلا في هذه الآية أنه لولا فضله ورحمته ما زكا أحد من خلقه، ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه، ويُفهم من الآية أنه لا يمكن أحد أن يزكي نفسه بحال من الأحوال، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيّنا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } ، وقوله تعالى: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، والزكاة في هذه الآية: هي الطهارة من أنجاس الشرك والمعاصي. وقوله: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي: يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان، والتوبة النصوح، والأعمال الصالحة، وهذا الذي دلّت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ، ولا قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر. ووجه ذلك في قوله: { مَنْ زَكَّاهَا } أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح وقبوله منه، وكذلك الأمر في قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } كما لا يخفى )).
سورة الفرقان
ـ قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } [الفرقان: 32].(1/146)
في هذه الآية الكريمة مثال من أمثلة تعنت المشركين واعتراضهم على الرسول *، وذلك في كون القرآن نزل منجّماً مفرّقاً، ولم ينزل كالكتب السابقة دفعة واحدة، وقد بيّن الله في هذه الآية وغيرها الحكمة في ذلك، وهي ترجع إلى تثبيت فؤاده *، وإلى قراءته على الصحابة على مَهَل ليتمكنوا من حفظه.
وفي هذه الآية بيان أنه إنما نزل مفرقاً ليثبت الله به فؤاده *، وذلك أنه كلما حصل له شيء من إيذاء الكفار له ونزل عليه قصة نبي من الأنبياء، يكون في ذلك تسلية له، وتثبيت لفؤاده، كما قال الله في آخر سورة هود: { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [هود: 120]، وجاء في آخر سورة الإسراء قول الله - عز وجل - : { وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } [الإسراء: 106].
ففي هذه الآية بيان حكمة أخرى لتنزيله كذلك، وهي قراءته * القرآن على الصحابة في أوقات متعددة ليتمكنوا من حفظه والعناية به.
ـ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [الفرقان: 67].
بيّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن من صفات عباد الرحمن اعتدالهم في الإنفاق، وتوسطهم فيه بين التقتير والإسراف. والتقتير: هو النقص عن القدر الواجب إنفاقه. والإسراف: هو مجاوزة الحد في الإنفاق.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( أي: ليسوا بمبذّرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقّهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا )).
ومثل هذه الآية قوله تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [الإسراء: 29].
والحق وسط بين طرفين، وهدىً بين ضلالتين، كما قال الخطابي:(1/147)
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
سورة الشعراء
ـ قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [الشعراء: 205 ـ 207].
في هذه الآيات الكريمات بيان أنّ نصيب الكفار من المتعة واللذة إنما هو في هذه الحياة الدنيا، ولو عمِّروا ما عمِّروا من السنين، فإذا جاء هلاكهم انتهت متعتهم ولذّاتهم، قال *: (( الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر )) رواه مسلم (7417) عن أبي هريرة >.
وقال الله - عز وجل - : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } [الأحقاف: 20].
والكفار هم أحرص الناس على الحياة، ومنهم من يؤمن بالبعث كاليهود والنصارى، ومنهم من ينكره كالمشركين الذين بُعث فيهم الرسول *، قال تعالى: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } [البقرة: 96].(1/148)
وهذا النعيم الدنيوي للكفار ولو امتدّت بهم الأعمار، إذا ذاقوا شيئاً قليلاً من عذاب النار نسُوه، فلم يكن لهم على بال، كما قال *: (( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنّة، فيصبغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدّة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرّ بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدّة قط )) رواه مسلم (7088) عن أنس بن مالك >.
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ عن هذه الآية: (( وهذه هي أعظم آية في إزالة الداء العضال الذي هو طول الأمل، كفانا الله والمؤمنين شرّه )). ذكر ذلك عند الكلام على آية البقرة في كتابه (أضواء البيان).
سورة النمل
ـ قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ } [النمل: 4 ـ 5].(1/149)
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن الكفار المنكرين للبعث، أن الله عاقبهم على هذا الإنكار، أن زيّن لهم ما هم فيه من الباطل، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110]، وقال: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5]، وقال: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر: 8]، وقال: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [محمد: 14].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ } أي: يُكذبون بها، ويستبعدون وقوعها { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي حسّنا لهم ما هم فيه، ومددنا لهم في غيّهم فهم يتيهون في ضلالهم، وكان هذا جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } )).(1/150)
ثم أخبر تعالى عن عقوبتهم العاجلة والآجلة، فقال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ } أي ما يحصل لهم في الدنيا من القتل والأسر { وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ } أي: أنهم أشد الناس خسراناً في الآخرة، لأنهم ليس لهم فيها إلاّ العذاب الشديد الدائم الذي لا نهاية له، كما قال الله - عز وجل - : { وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ } [الشورى: 45].
سورة القصص
ـ قوله تعالى: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص: 88].
في هذه الآية الكريمة بيان أن الدعاء ـ وهو نوع من أنواع العبادة ـ لا يكون إلاّ لله وحده، فلا يدعى مع الله غيره، لأن الله سبحانه وتعالى هو الإله الحق الذي لا تكون العبادة إلا له، ولا يجوز أن يصرف شيء من أنواع العبادة لغيره سبحانه وتعالى.
وقوله: { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } يشتمل على نفي وإثبات، نفيٌ عام، وهو نفي العبادة عن كل ما سوى الله، وإثبات خاص، وهو إثباتها له سبحانه.
وقوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } فسِّر بأن الله تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت، وأنه لا يبقى إلاّ هو سبحانه وتعالى، وأهل السنّة يثبتون لله صفة الوجه على وجه يليق بكماله وجلاله، دون مشابهة لخلقه، والبقاء يكون لله - عز وجل - المتصف بصفات الكمال، ومنها: صفة الوجه. وفُسِّر بأن كل شيء من الأعمال لا ينفع عند الله إلاّ ما أريد به وجهه والتقرب به إليه.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: (( واختلف في معنى قوله { إِلَّا وَجْهَهُ } فقال بعضهم: معناه: كل شيء هالك إلاّ هو، وقال آخرون: معنى ذلك: إلاّ ما أريد به وجهه )).(1/151)
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( وقوله: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت؛ كما قال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فعبّر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } أي: إلاّ إياه )).
وقال: (( وقال مجاهد والثوري في قوله { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } أي: إلا ما أريد به وجهه، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له )).
وقال: (( وهذا القول لا ينافي القول الأول؛ فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلاّ ما أريد بها وجه الله - عز وجل - من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وهالكة وزائلة إلاّ ذاته تعالى، فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء )).
وقال البخاري في صحيحه في أول تفسير سورة القصص من كتاب التفسير: (( { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } : إلاّ ملكه، ويقال: إلاّ ما أريد به وجه الله )). وقال في كتاب التوحيد: (( باب قول الله - عز وجل - : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } )). وساق بإسناده (7406) عن جابر بن عبد الله قال: (( لما نزلت هذه الآية: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال النبي *: (( أعوذ بوجهك )) فقال: { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ، فقال النبي *: (( أعوذ بوجهك ))، فقال: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } ، فقال النبي *: (( هذا أيسر )).(1/152)
وإيراد البخاري الآية والحديث في كتاب التوحيد يفيد: أن الوجه صفة ذاتية لله - عز وجل - ، وأهل السنّة والجماعة يثبتون لله - عز وجل - كل ما ورد في الكتاب والسنّة من الصفات على وجه يليق بكمال الله سبحانه وتعالى، دون تكييف أو تشبيه أو تمثيل، ودون تأويل أو تحريف أو تعطيل، كما قال الله - عز وجل - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ çژچإt7ّ9$# } ، فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، ووجه لا كالوجوه، وهكذا يقال في سائر الصفات.
وأما قوله في سورة القصص: (( إلاّ ملكه ))، فالظاهر: أنها بفتح الميم وكسر اللام، والمعنى: كل شيء هالك إلاّ مَلِك كل شيء، وهو الله - عز وجل - ، ويكون هذا مثل تفسير من فسره بإلاّ هو، أو إلاّ إياه، كما مرَّ في كلام ابن جرير وابن كثير. والفرق بين تعبير من عبّر بهذا من أهل السنّة، ومن عبّر به من أهل الأهواء: أن أهل الأهواء يقولون: الوجه صلة أي زائد، ولا يثبتون لله صفة الوجه، وأما أهل السنّة، فإنهم يثبتون لله صفة الوجه، ويعتقدون أن البقاء للذات المتصفة بالصفات، ومنها: صفة الوجه.
سورة العنكبوت
ـ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت: 69].
الذين جاهدوا في الله هم: الرسول * وأصحابه الكرام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والجهاد في الله يكون بجهاد النفس على طاعة الله، وجهاد الكفار والمنافقين، والجهاد بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن جاهد في الله أثابه الله على جهاده بهدايته إلى سبل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.(1/153)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد ـ من أهل عكا ـ في قول الله: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ، قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدّثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه )).
وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان): (( ذكر جلّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين جاهدوا فيه، أنه يهديهم إلى سبل الخير والرشاد، وأقسم على ذلك بدليل اللام في قوله { لَنَهْدِيَنَّهُمْ } وهذا المعنى جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } ، وقوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } الآية )).
وقال أيضاً في الكلام على آخر آية في سورة النحل: (( وهذه المعية خاصة بعباده المؤمنين، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق، وكرّر هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ، وقوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } ، وقوله: { لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } ، وقوله: { قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } ، إلى غير ذلك من الآيات.(1/154)
وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم، ونفوذ القدرة، وكون الجميع في قبضته ـ جلَّ وعلا ـ، فالكائنات في يده ـ جلَّ وعلا ـ أصغر من حبة خردل، وهذه هي المذكورة أيضاً في آيات كثيرة، كقوله: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ } الآية، وقوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } الآية، وقوله: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا ڑْüخ7ح !$xî } ، وقوله: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } الآية، إلى غير ذلك من الآيات، فهو ـ جلَّ وعلا ـ مستو على عرشه كما قال، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله، وهو محيط بخلقه، كلهم في قبضة يده، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين )).
سورة الروم
ـ قوله تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم: 41].
فسِّر البر بالفيافي، وفسِّر البحر بالأمصار والقرى، حكاه ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، والسدي.
وحكى عن آخرين أن المراد بالبر: البر المعروف، وبالبحر: البحر المعروف. ثم قال: (( والقول الأول أظهر، وعليه الأكثر، ويؤيده ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة: أن رسول الله * صالح ملك أيلة وكتب له ببحره، يعني: ببلده )).(1/155)
وفي القاموس المحيط: (( والبحرة: البلدة...واسم مدينة النبي *، وبلدة في البحرين، وكل قرية لها نهر جار وماء ناقع ))، وفي صحيح البخاري (4566) قول سعد بن عبادة > في عبد الله بن أبيّ: (( ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصِّبوه بالعصابة ))، يريد بالبحيرة: مدينة النبي * وهو تصغير بحرة.
وفي صحيح البخاري (1452) قوله * للأعرابي الذي سأله عن الهجرة: (( فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟ )). قال: نعم. قال: (( فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرَك من عملك شيئاً )). والمراد بالبحار: المدن.
وقال الشوكاني في تفسير هذه الآية: (( والبر والبحر هما المعروفان المشهوران، وقيل: البر الفيافي، والبحر القرى التي على ماء، قاله عكرمة. والعرب تسمي الأمصار البحار، قال مجاهد: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر، والأول أولى، ويكون معنى البر: مدن البر، ومعنى البحر: مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها )).
وقال في معنى ظهور الفساد في البر والبحر: (( والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه، سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط، وكثرة الخوف، والموتان ونقصان الزرائع، ونقصان الثمار )).
وقال ابن كثير: (( وقوله: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } ، أي: بان النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي، قال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة )).(1/156)
وفي صحيح البخاري (6512): أن رسول الله * مُرَّ عليه بجنازة، قال: (( مستريح ومستراح منه )). قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: (( العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله - عز وجل - ، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب )).
وقوله تعالى: { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } هو مثل قوله: { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } ، وقوله: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .
سورة لقمان
ـ قوله تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان: 10].
في هذه الآية الكريمة بيان كمال قدرة الله - عز وجل - في خلقه السماوات والأرض، وما بث فيها من الدواب، وما أخرج منها من الأرزاق مما ينزله عليها من السماء من المطر.(1/157)
وقوله: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } ، قيل: إنه نفي للقيد دون المقيَّد، والمعنى: أن لها عمداً لكنها لا ترى، وقيل: إنه نفي للقيد والمقيَّد، والمعنى: أنها مرفوعة بغير عمد مرئية أو غير مرئية. ومثل هذه الآية قول الله - عز وجل - في سورة الرعد: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [الرعد: 2]، قال ابن كثير في تفسير آية الرعد: (( وقوله: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } ، روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى، وقال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة، يعني: بلا عمد، وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ } فعلى هذا يكون قوله: { تَرَوْنَهَا } تأكيداً لنفي ذلك، أي: هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة )).
ومن كمال قدرته تعالى على الخلق ورحمته بالمخلوقين في الأرض: أن ثبَّت الأرض بالجبال لئلا تميد بهم وتضطرب، كما قال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ: 6 ـ 7]، وكما خلق الأرض وجعلها مهاداً، وثبّتها بالجبال الرواسي؛ فقد ذرأ فيها من الدواب ما لا يعلمه إلاّ الله - عز وجل - ، وأنزل المطر من السماء، فأنبت فيها من أصناف النبات مما هو زينة للأرض ورزق للعباد، ومثل هذه الآية قوله - عز وجل - في سورة البقرة: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } [البقرة: 22].
سورة السجدة(1/158)
ـ قوله تعالى: { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة: 10 ـ 11].
في الآية الأولى بيان تكذيب الكفار بلقاء الله - عز وجل - ، وإنكارهم البعث، واستبعادهم حصوله إذا تفرقت أجسادهم في التراب، وهو معنى ضلالهم في الأرض، ومثل هذه الآية قول الله - عز وجل - عنهم في أول سورة (ق): { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3]، ثم بيّن أنه يعلم ما تفرق من أجسادهم في الأرض، وأن الله تعالى يعيد هذا المتفرق، فقال: { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ } [ق: 4]، ومثلها قول الله - عز وجل - : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [سبأ: 7]، وقد جاء في القرآن الكريم تقرير أمر البعث بثلاثة أدلة عقلية في آيات عديدة وهي: التنبيه على خلْقهم الأول، وعلى خلق السماوات والأرض، وعلى إحياء الأرض بالنبات بعد موتها، ومن الآيات في ذلك: قول الله - عز وجل - : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78 ـ 79]، وقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33]، وقوله: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر: 57]،وقوله: { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً(1/159)
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصلت: 39].
وفي الآية الثانية بيان أن مَلَك الموت يتوفاهم، وأنهم مبعوثون وراجعون إلى الله، وسيجازيهم على أعمالهم بإدخالهم النار وتخليدهم فيها إلى غير نهاية، وما جاء في هذه الآية من ذكر توفي ملك الموت، لا ينافيه ما جاء من توفي الملائكة لهم في قول الله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } [الأنعام: 61]، لأن ملك الموت له أعوان، إذا قبض الروح أخذوها منه، كما جاء مبيناً في حديث البراء بن عازب في مسند الإمام أحمد بإسناد حسن (18534)، قال رسول الله *: (( إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنّة، وحنوط من حنوط الجنّة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض...(1/160)
)) إلى أن قال: (( وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض )) الحديث.
سورة الأحزاب
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [الأحزاب: 1 ـ 3].
خطاب الله لنبيه * في هذه الآيات ونظائرها خطاب لأمته، وهذا هو الأصل فيما يخاطب الله به نبيه * أنه له ولأمته، إلاّ إذا دلّ دليل على اختصاصه بالخطاب، فيختص به الحكم، وفي قوله تعالى: { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } ما يدل على ذلك، فإنه قال في أولها: { وَاتَّبِعْ } بالإفراد، وفي آخرها قال: { إِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } بالجمع. ومثل هذه الآية: قول الله - عز وجل - في سورة الروم: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا } [الروم: 30]، ثم قال بعد ذلك: { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ } الآية [الروم: 31]. ويدل لذلك أيضاً، قول الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } الآيات،[الطلاق: 1].(1/161)
وتقوى الله - عز وجل - : طاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونقل ابن كثير في تفسير هذه الآية عن طلق بن حبيب أنه قال: (( التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله )).
وفي الآية الأولى النهي عن طاعة الكفار والمنافقين وسماع ما يقولون، وقد قال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } [آل عمران: 149 ـ 150].
والكفار هم الكافرون بالله ظاهراً وباطناً، والمنافقون: هم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وقد أخبر الله في سورة النساء أنهم في الدرك الأسفل من النار. والكفر أعم من الشرك؛ لأنه يشمل الشرك الذي هو دعوة غير الله معه، ويشمل ما كان كفراً وليس بشرك، كسَبِّ الله - عز وجل - أو سبِّ رسوله *.
وفي الآية الثانية الأمر باتباع الوحي، وهو ما جاء في الكتاب والسنّة، ومثل هذه الآية، قول الله - عز وجل - : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 3].
وفي الآية الثالثة الأمر بالتوكل على الله، وهو الاعتماد عليه، وأن من توكل على الله - عز وجل - ، فإنه سبحانه وتعالى حسبه وكافيه، والتوكل من أنواع العبادة، فلا يتوكل إلاّ عليه سبحانه وتعالى كما قال تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة: 23].
سورة سبأ(1/162)
ـ قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [سبأ: 3].
الساعة تطلق على موت من كان حياً في آخر الدنيا عند النفخة الأولى، وتطلق على البعث عند النفخة الثانية، وإنكار الكفار للبعث هو المراد بقول الله عنهم: { لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } .
ومن أدلة إطلاق قيام الساعة على البعث: قول الله - عز وجل - عن آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن مما أمر الله رسوله * أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في سورة يونس: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [يونس: 53]، والثانية هذه: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، والثالثة في التغابن: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن: 7] )).(1/163)
وقال: (( قال مجاهد وقتادة: { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ } لا يغيب عنه، أي: الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه منه شيء، فالعظام ـ وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت ـ فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرّة، فإنه بكل شيء عليم )). ومثل هذه الآية قوله تعالى: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس: 61]، وقد اطرد في القرآن عند ذكر الأصغر والأكبر، والصغير والكبير، تقديم الصغير والأصغر، كما في هاتين الآيتين، وكما في قول الله - عز وجل - : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]، وقوله: { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً } الآية، وقوله: { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ } )).
سورة فاطر
ـ قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [فاطر: 32 ـ 33].(1/164)
يخبر الله تعالى عن عظيم فضله وامتنانه أن اصطفى لهدايته إلى الإسلام من شاء الله هدايته من هذه الأمة بأقسامها الثلاثة: الظالمين لأنفسهم والمقتصدين والسابقين بالخيرات، وأن كل من هداه الله للإسلام فمآله إلى الجنّة، ولو ناله ما ناله من العذاب بسبب ظلمه لنفسه.
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان) في تفسير سورة المائدة: (( قوله تعالى: { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب قسمان: طائفة منهم مقتصدة في عملها، وكثير منهم سيء العمل، وقسَّم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } ، ووعد الجميع بالجنّة بقوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } . وذكر القسم الرابع: وهو الكفار منها بقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } الآية.
وأظهر الأقوال في المقتصد، والسابق، والظالم: أن المقتصد هو من امتثل الأمر واجتنب النهي ولم يزد على ذلك، وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات، خوفاً من أن يكون سبباً لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله: { خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الآية [التوبة: 102]، والعلم عند الله )).(1/165)
وقال في الكلام على قوله تعالى في سورة النور { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } الآية [النور: 22]، قال مستطرداً: (( من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } ، فقد بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاها في قوله: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } ، وبيّن أنهم ثلاثة أقسام:
الأول: الظالم لنفسه، وهو الذي يطيع الله ولكنه يعصيه أيضاً فهو الذي قال الله فيه: { خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } .
الثاني: المقتصد وهو الذي يطيع الله ولا يعصيه، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات.(1/166)
والثالث: السابق بالخيرات، وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه، والمقتصد والسابق. ثم إنه تعالى بيّن أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم، ثم وعد الجميع بجنات عدن، وهو لا يخلف الميعاد في قوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } إلى قوله: { وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } والواو في يدخلونها شاملة للظالم، والمقتصد والسابق على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعْده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنّة في الآية شامل لجميع المسلمين، ولذا قال بعدها متصلاً بها: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } إلى قوله: { فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } . واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنّة على المقتصد والسابق، فقال بعضهم: قدم الظالم لئلا يقنط، وأخّر السابق بالخيرات لئلا يعجب بعمله فيحبط. وقال بعضهم: قدم الظالم لنفسه لأن أكثر أهل الجنّة الظالمون لأنفسهم، لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم، كما قال تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } [ص: 24].
سورة يس
ـ قوله تعالى: { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [يس: 10 ـ 11].(1/167)
في هاتين الآيتين بيان أن أمة الدعوة لنبينا محمد * قسمان: قسم مستفيد من الإنذار، وهم المستجيبون لدعوته، الداخلون في دينه الحنيف، وقسم لم تحصل له الفائدة لعماه وارتكاسه في الضلال، ومثل الآية الأولى، قول الله - عز وجل - في أول سورة البقرة: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة: 6 ـ 7].
ومثل الآية الثانية، قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك: 12]. والمستفيدون من الإنذار هم المتبعون للوحي، المتمسكون بكتاب الله وسنّة رسوله *، الذين يخشون ربهم في السر والعلانية، وقد وعدهم الله - عز وجل - بالمغفرة لذنوبهم، وحصول الأجر الكريم الذي فيه رفعة درجاتهم، وعلو منازلهم.
وفي السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله: (( ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )) رواه البخاري (1423)، ومسلم (2380).
سورة الصافات
ـ قوله تعالى: { وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الصافات: 133 ـ 138].(1/168)
في هذه الآيات الكريمات بيان تكذيب قوم لوط له، وأن الله تعالى أهلكهم ونجّى لوطاً وأهله إلاّ امرأته؛ فإنها كانت في الهالكين، وقد جعل الله ديارهم المدمرة في طريق أهل الحجاز إلى الشام، وهم يمرون عليها ليلاً ونهاراً، وقال: { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أي: أفلا يعتبرون ويتعظون بما حل بهم، كما قال الله - عز وجل - في آخر قصة لوط في سورة هود: { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } .
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر إهلاك الأمم السابقة وأن كفار قريش لم يعتبروا بما حل بمن قبلهم، قال الله - عز وجل - : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ } [السجدة: 26]، وقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد: 10]، وقال: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام: 11].
وجاء مثل هذه الآيات في سورة يوسف، والنحل، والروم في موضعين، وسبأ، وغافر في موضعين.
والباء في قوله: { وَبِاللَّيْلِ } هي بمعنى (في) الظرفية، ومثلها قول الله - عز وجل - : { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات: 145]، وقوله: { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ } [الأحقاف: 21]، وقوله: { وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } [التكوير: 23]، وقوله: { وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى } [النجم: 7]، وقوله: { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات: 14]، وقوله: { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [النازعات: 16].
سورة ص(1/169)
ـ قوله تعالى: { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 4 ـ 5].
أخبر الله تعالى في الآية الأولى عن عجب الكفار من بعثة محمد *، وهو بشر مثلهم، وادعائهم أنه ساحر كذّاب، وقد جاء هذا العجب وهذه الدعوى في قول الله - عز وجل - : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } [يونس: 2].
وفي الآية الثانية: الإنكار عليهم في جحدهم ألوهية الله - عز وجل - ، وزعمهم آلهة أخرى يعبدونها مع الله، وأن دعوة الرسول * إلى ألوهية الله وحده شيء عجيب عندهم. وهذه الأمور الثلاثة التي أنكرها الكفار الذين بُعث فيهم رسول الله *، اتبعوا في إنكارها الأمم السابقة. أما التعجب من بعثة الرسل من البشر وإنكار ذلك وإنكار إفراد الله بالعبادة، فيدل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [إبراهيم: 9 ـ 10].(1/170)
وأما وصف الرسل بأنهم سحرة؛ فقد قال الله - عز وجل - في سورة الذاريات: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات: 52 ـ 53]. ويدل أيضاً لاتفاق الكفار على الكفر بالرسل واتباع ما كان عليه آباؤهم في عبادة آلهة مع الله، قول الله - عز وجل - في سورة سبأ: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34]، وقوله في سورة الزخرف: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف: 23].
سورة الزمر
ـ قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الزمر: 53 ـ 55].(1/171)
الذنوب كلها ـ وأعظمها الشرك ـ يكفرها التوبة منها، كما في هذه الآية، وكما في قول الله - عز وجل - : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان: 68 ـ 70]، وقوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38]. وفي صحيح البخاري (4810) ومسلم (322) عن ابن عباس: ((أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً * فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لِما عملْنا كفارةً، فنزل: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } [الفرقان: 68]، ونزل: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ } )).(1/172)
فالذنوب كلها تكفرها التوبة، والصغائر تكفر باجتناب الكبائر، كما قال الله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا tچح !$t6ں2 مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [النساء: 31]، وكل ذنب دون الشرك إذا مات صاحبه من غير توبة، فأمره إلى الله - عز وجل - ؛ إن شاء عفى عنه، وإن شاء عذّبه، لقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48]، وإذا لم يغفر الله لصاحب الكبيرة وأدخله النار، فإنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها ويدخل الجنّة، كما دلّت على ذلك الأحاديث المتواترة عن رسول الله * في إخراج أهل الكبائر من النار وإدخالهم الجنّة.(1/173)
وبعد أن أخبر الله - عز وجل - عن فضله وإحسانه بمغفرته لجميع الذنوب إذا تيب منها، أمر بالإنابة إليه والاستسلام له بلزم طاعته، وطاعة رسوله *، قبل حلول النقم ونزول العذاب. ثم أمر باتباع القرآن الكريم المنزل على رسوله الكريم فقال: { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الزمر: 55]. قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان) في الكلام على قوله تعالى: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قال: (( وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي: يقدمون الأحسن الذي هو أشد حُسناً على الأحسن الذي هو دونه في الحُسن، ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن، ويدل لهذا آيات من كتاب الله، أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع ما أنزل عليه * من الوحي، فهو في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ، وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } . وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلّت عليه آيات من كتابه.(1/174)
واعلم أوّلاً أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب، وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن، فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى: { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، قدموا فعل الخير الواجب على فعل الخير المندوب، وقدموا هذا الأخير على مطلق الحسن الذي هو الجائز، ولهذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب، لا على مطلق الحسن، كما قال تعالى: { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، وقال تعالى: { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الزمر: 35].
وقال: (( ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [النحل: 126]، فالأمر في قوله: { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } للجواز، والله لا يأمر إلاّ بحسن، فدل ذلك على أن الانتقام حسن، ولكن الله بيّن أن العفو والصبر خير منه وأحسن في قوله: { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن )). ثم ذكر ~ جملة منها.
سورة غافر
ـ قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60].
في هذه الآية الكريمة أمْر الرب سبحانه وتعالى عباده بدعائه، ووعْدُه الكريم بالإجابة، وتوعّدُه المستكبرين عن عبادته بإدخالهم النار صاغرين حقيرين، والدعاء يطلق على سؤال العبد ربه جلب الخير، ودفع الشر، وهو دعاء المسألة.(1/175)
ويطلق على العبادة، ومنه ذكر الله - عز وجل - والثناء عليه، وهو دعاء العبادة، روى الترمذي في جامعه (3247) ـ وقال: حديث حسن صحيح ـ عن النعمان بن بشير > قال: سمعت النبي * يقول: (( الدعاء هو العبادة ))، ثم قرأ: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان): (( قال بعض العلماء: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } : اعبدوني أثبكم عن عبادتكم، ويدل لهذا قوله بعده: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
وقال بعض العلماء: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أي: اسألوني أعطكم، ولا منافاة بين القولين؛ لأن دعاء الله من أنواع عبادته )).
وقال في سورة البقرة: (( قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ، ذكر في هذه الآية أنه ـ جلّ وعلا ـ قريب يجيب دعوة الداعي، وبيّن في آية أخرى تعليق ذلك على مشيئته ـ جلّ وعلا ـ وهي قوله: { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } الآية. وقال بعضهم: التعليق بالمشيئة في دعاء الكفار كما هو ظاهر سياق الآية، والوعد المطلق في دعاء المؤمنين، وعليه فدعاؤهم لا يرد، إما أن يعطوا ما سألوا، أو يدّخر لهم خير منه، أو يدفع عنهم من السوء بقدره. وقال بعض العلماء: المراد بالدعاء العبادة، وبالإجابة الثواب، وعليه فلا إشكال )).(1/176)
وفي مسند الإمام أحمد (11133) بإسناد حسن عن أبي سعيد أن النبي * قال: (( ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلاّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجّل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يَصرف عنه من السوء مثلها )). قالوا: إذاً نكثر؟ قال: (( الله أكثر )). وانظر الكلام في الدعاء وتوضيح دعاء العبادة والمسألة في أول الجزء الثالث من كتاب (بدائع الفوائد) لابن القيم.
سورة فصلت
ـ قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [فصلت: 19 ـ 20].
أخبر الله - عز وجل - عن أهل النار أنهم يحشرون ويساقون إليها، ويُجمع أولهم وآخرهم ويقذفون في النار، كما قال الله - عز وجل - : { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [مريم: 86]، وقال: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور: 13].
وأخبر أنهم إذا وقفوا على النار شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بأعمالهم التي عملوها، وفي صحيح مسلم (7439) عن أنس بن مالك > قال: كنا عند رسول الله * فضحك فقال: (( هل تدرون مم أضحك؟ )) قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (( من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى. قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلاّ شاهداً مني. قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً. قال: فيُختَم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي. قال: فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام. قال: فيقول: بعداً لَكُنَّ وسُحقاً، فعنكن كنت أناضل )).(1/177)
و (( ما )) في قوله: { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } زائدة لتأكيد الكلام، ومثلها قوله تعالى: { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } [البقرة: 282]، وقوله: { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ } [يونس: 51]، وقوله: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } [التوبة:124]، وقوله: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } [التوبة: 127].
ومثل هذه الآية، قوله تعالى في سورة النور: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النور: 24]، وقوله في سورة يس: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس: 65].
وفي شهادة أعضاء الإنسان عليه بأعماله التي عملها في الدنيا، دليل على أن البعث والمعاد يكون للأجساد التي كانت في الدنيا؛ لأنها هي التي شهدت ما حصل من أعماله في الدنيا. ويدل على ذلك من السنّة حديث قصّة الرجل الذي أوصى بنيه إذا مات أن يحرّقوا جسده ويرموا جزءاً من رماده في البر وجزءاً منه في البحر، فأمر الله - عز وجل - البحر بأن يخرج ما فيه، والبر بأن يخرج ما فيه، حتى عاد الجسد كما كان. والحديث رواه البخاري (7506)، ومسلم (6980) من حديث أبي هريرة >.
سورة الشورى
ـ قوله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى: 27 ـ 28].(1/178)
أخبر الله - عز وجل - في الآية الأولى: أن من أسباب البغي والطغيان: بسْط الله - عز وجل - الرزق للعباد، كما قال الله - عز وجل - : { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى } [العلق: 6 ـ 7]، وقال: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء: 16]، وقال: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112]، وقال: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } الآيات [القصص: 76].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( قوله: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ } أي: لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً. وقال قتادة: كان يقال: خير العيش مالاً يلهيك ولا يطغيك )).
وقال: (( وقوله: { وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي: ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم، وهو أعلم بذلك، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر )).(1/179)
وقال القرطبي في تفسيره: (( وقال ابن عباس: بغيُهم طلبهم منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، ومركباً بعد مركب، وملبساً بعد ملبس. وقيل: أراد لو أعطاهم الكثير لطلبوا ما هو أكثر منه، لقوله: (( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ))، وهذا هو البغي، وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: لو جعلناهم سواء في المال لما انقاد بعضهم لبعض، ولتعطّلت الصنائع. وقيل: أراد بالرزق المطر الذي هو سبب الرزق، أي لو أدام المطر لتشاغلوا به عن الدعاء، فيقبض تارة ليتضرعوا، ويبسط أخرى ليشكروا. وقيل: كانوا إذا أخصبوا أغار بعضهم على بعض، فلا يبعد حمل البغي على هذا )).
وأخبر تعالى في الآية الثانية أنه ينزل الغيث وهو المطر في وقت قنوطهم وشدّة حاجتهم إليه، فينشر الرحمة ويعم بفضله الخير، كما قال تعالى: { فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } [الروم: 48 ـ 49].
ورحمة الله رحمتان: رحمة هي صفة من صفاته، قائمة بذاته على الوجه الذي يليق بكماله، والله تعالى من أسمائه الرحمن والرحيم، ومن صفاته الرحمة. ورحمة هي من مخلوقاته، وهي من آثار رحمته التي هي صفة من صفاته، ومنه قوله تعالى في هذه الآية: { وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } ، وقوله: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } .
سورة الزخرف
ـ قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف: 26 ـ 28].(1/180)
أخبر الله - عز وجل - عن براءة إبراهيم رسوله وخليله مما كان يعبده أبوه وقومه من الأنداد، وأن عبادته لا تكون إلاّ لله وحده الذي خلقه وهو يهديه. وهذا هو معنى لا إله إلاّ الله، فإن قوله: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } بمعنى: لا إله، وقوله: { إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } بمعنى: إلاّ الله، وهذه هي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عقبه. ومنهم من وفقه الله - عز وجل - للتمسك بها، ومنهم من كان بخلاف ذلك.(1/181)
ومثل هذه الآية: قوله تعالى عن إبراهيم في سورة الشعراء: { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء: 75 ـ 78]، وقوله في سورة الممتحنة: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: 4]، وقوله في سورة العنكبوت: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِن الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [العنكبوت: 16 ـ 17]، وقوله في سورة الأنبياء: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء: 66 ـ 67]، وقوله في سورة الصافات: { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 95 ـ 96].
وانظر كلام شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في الكلام على آية الزخرف هذه في كتابه (أضواء البيان).
سورة الدخان(1/182)
ـ قوله تعالى: { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } [الدخان: 40 ـ 42].
يوم الفصل هو يوم القيامة، كما قال الله - عز وجل - : { لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [الممتحنة: 3]، فيفصل الله بين المؤمنين والكافرين، فيُدخل الكفار النار ويدخل المؤمنين الجنّة، ويفصل بين الخلق فيما يختصمون فيه، كما قال: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31].
والفصل بإنصاف المظلوم من الظالم، وذلك بإعطائه من حسناته وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات المظلوم فوضعت على الظالم، يدل لذلك ما رواه مسلم في صحيحه (6579) عن أبي هريرة > أن رسول الله * قال: (( أتدرون ما المفلس؟ )) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: (( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار )).(1/183)
ويوم الفصل هو يوم الدين الذي أنكره الكفار، كما قال الله تعالى: { وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20 ـ 21]، وهو اليوم الذي يموج الناس بعضهم في بعض، فيستشفعون بآدم ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، فيعتذر كل واحد منهم، ثم يأتون لنبينا محمد *، ويطلبون منه الشفاعة إلى الله - عز وجل - لفصل القضاء بينهم، فيشفع ويشفِّعه الله - عز وجل - ، ويأتي للفصل بين عباده، وهذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأوّلون والآخرون؛ لاستفادتهم جميعاً من شفاعته *.
ويوم القيامة هو الوقت الذي جعله الله للفصل بين العباد، كما في هذه الآية، وكما في قوله: { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا } [النبأ: 17]، وقوله: { هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ } [المرسلات: 38]، وفي ذلك اليوم لا ينفع الإنسان إلاّ ما قدمه من أعمال صالحة، ولا يغني فيه قريب عن قريبه كما في هذه الآية، وكما قال الله - عز وجل - : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34 ـ 37]، وقوله: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } [البقرة: 48]، وقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } [لقمان: 33].(1/184)
ولا يظفر بالسلامة في ذلك اليوم إلاّ من رحمه الله، كما قال تعالى: { إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } وفي ختم الآيات باسميه العزيز والرحيم، ترغيب وترهيب؛ فهو عزيز يعاقب من يستحق العقوبة، ورحيم بمن يتفضل عليه بالرحمة، كما قال تعالى: { اعْلَمُوا أَن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 98]، وقال: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } [الحجر: 49 ـ 50]، وقال: { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام: 147]، وقال: { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 165].
سورة الجاثية
ـ قوله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 18 ـ 20].
لما أخبر تعالى أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقهم من الطيبات، وفضلهم على عالمي زمانهم، وأنه آتاهم الآيات البينات، وأنهم اختلفوا بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم، وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة فيما يختلفون فيه، وفي ذلك تحذير لأمة محمد * أن تسلك طريقهم؛ لما أخبر بذلك، أخبر نبيه * أنه جعله على شريعة كاملة، وأن عليه وعلى أمته اتباع هذه الشريعة، والتمسك بما فيها، وألا يتبعوا الأهواء التي لا تغني عنهم من الله شيئاً.(1/185)
قال ابن كثير في تفسيره: (( { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا } أي: اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلاّ هو، وأعرض عن المشركين. وقال ها هنا: { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي: وماذا تغني عنهم وَلايتهم لبعضهم بعضاً، فإنهم لا يزيدونهم إلاّ خساراً ودماراً وهلاكاً، { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } ، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، ثم قال: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } يعني: القرآن، { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } )).
وما جاء في هذه الآيات من ذكر شريعة نبينا محمد * والقرآن المنزل عليه، بعد ذكر إيتاء بني إسرائيل الكتاب الذي هو التوراة وما أُنزل بعدها؛ جاء مثله في آيات منها: قوله تعالى في سورة الأنعام: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } الآية [الأنعام: 91]، ثم قال: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الآية، وقال فيها أيضاً: { ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } الآية، وقال بعدها: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .(1/186)
وقال في سورة الأنبياء: { وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } [الأنبياء: 48]، ثم قال: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [الأنبياء: 50]، وقال في سورة القصص: { وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى tچح !$|ءt/ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 43]، ثم قال بعدها: { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [القصص: 48 ـ 50].(1/187)
قال في سورة المائدة: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [المائدة: 44]، ثم ذكر الإنجيل وقال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة: 48]، وقال في سورة البقرة: { وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } [البقرة: 87]، ثم قال: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } إلى قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } [البقرة: 87 ـ 91].
سورة الأحقاف
ـ قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الأحقاف: 29 ـ 32].(1/188)
أخبر الله في هذه الآيات أنه صرف إلى رسوله * نفراً من الجن، والنفر دون العشرة، يستمعون قراءته * القرآن، وأنه أوصى بعضهم بعضاً بالإنصات لسماع القراءة، وأنه بعد فراغه من القراءة، انصرف هؤلاء النفر إلى قومهم منذرين لهم، وأنهم أخبروا قومهم بسماعهم كتاباً أنزل من بعد موسى يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم وأنهم قالوا في إنذارهم: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } وهو محمد *، { وَآَمِنُوا بِهِ } لتظفروا بالمغفرة، وتسلموا من العذاب الأليم، وأن من لم يجب هذه الدعوة، فإنه ليس بمعجز الله، فيعاقبه على عدم إجابته، وليس له من ينصره من دون الله - عز وجل - ، وأنه في ضلال مبين.
وفي هذه الآيات دليل على بعثة نبينا محمد * إلى الجن، ويدل لذلك أيضاً ما جاء في سورة الرحمن من الخطاب للجن والإنس، وقوله تعالى فيها: { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إحدى وثلاثين مرّة.
وفي جامع الترمذي (3291) عن جابر > قال: (( خرج رسول الله * على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: (( لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم؛ كنت كلما أتيت على قوله: { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد )). وله شاهد عن ابن عمر عند ابن جرير، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني ~ (2150).
ومما يتعلق في هذه الآيات مسألتان:(1/189)
الأولى: أن الجن فيهم نذر، وليس فيهم رسل، ولم يأت دليل يدل على بعث رسل من الجن، وأما ما جاء في قوله تعالى في سورة الأنعام وفي سورة الأعراف وهو قوله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي } الآيتين؛ فإنه لا يدل على رسل من الجن، والضمير فيهما يرجع إلى المجموع لا إلى الجميع، وهو يصدق بحصوله من أحد الثقلين وهم الرسل من الإنس، وفي هذه الآيات إشارة إلى ذلك، لأن الجن قالوا: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } فلم يذكروا كتاباً أنزل على أحد من الجن، ولا رسولاً أرسل إليهم، وإنما ذكروا موسى وكتابه، وكتاب موسى قد جاء بعده الزبور والإنجيل، ولم يشيروا إليهما، مع أنهما بعد التوراة، لأنهما متممان للتوراة، ومشتملان على شيء من أحكامها.
والمسألة الثانية: هل ثواب الجن على إيمانهم: المغفرة والإجارة من العذاب الأليم فقط؟ أو ثوابهم ذلك مع دخول الجنّة؟ فذهب بعض العلماء إلى أن ثوابهم: مغفرة الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم فقط، كما جاء في هذه الآيات، وذهب جمهور العلماء إلى أن ثوابهم: السلامة من العذاب، ودخول الجنّة، لقول الله - عز وجل - : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46]، وهي شاملة للجن والإنس، لأن الخطاب لهما في قوله تعالى: { فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، ولا تنافي بين ما جاء في سورة الأحقاف وسورة الرحمن؛ لأن ما جاء في سورة الأحقاف دلّ على بعض الثواب، وما جاء في سورة الرحمن دلّ على ثواب آخر، هو دخول الجنّة.(1/190)
قال ابن كثير في تفسيره: (( وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنّة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة، ولهذا قالوا هذا في هذا المقام، وهو مقام تبجح ومبالغة، فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه )).
وقال: (( والحق أن مؤمنهم كمؤمن الإنس يدخلون الجنّة، كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } ، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } فقد امتن الله تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنّة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: (( ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد )).(1/191)
فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضاً فإنه كان يجازي كافرهم بالنار ـ وهو مقام عدل ـ فلأن يجازي مؤمنهم بالجنّة، ـ وهو مقام فضل ـ بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك عموم قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا } [الكهف: 107] وما أشبه ذلك من الآيات، وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنّة، وهذه الجنّة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحاً؟ وما ذكروه ها هنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنّة، لأنه ليس في الآخرة إلاّ الجنّة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنّة لا محالة، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنّة وإن أجيروا من النار، ولو صحّ لقلنا به والله أعلم. وهذا نوح ـ عليه السلام ـ يقول لقومه: { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنّة، فكذلك هؤلاء )).
وفي كلام ابن كثير هذا الاستدلال من ستّة وجوه على أن مؤمني الجن في الجنّة، وقد أشار بقوله: (( وهذه الجنّة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً )) إلى حديث أنس > عن النبي * وفيه: (( ولا يزال في الجنّة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنّة )) رواه البخاري (7384) ومسلم (7179).
سورة محمد
ـ قوله تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24].(1/192)
أنكر الله في هذه الآية على المعرضين عن تدبر القرآن إعراضهم عن تدبر ما فيه من العبر والزواجر والعظات، التي تحملهم لو تدبروها على ترك ما هم عليه من الباطل. وأخبر أن الذي حال بينهم وبين ذلك: ما كان على قلوبهم من أقفال تحول دون دخول الخير إليها، وخروج الشر منها.
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: (( يقول تعالى ذكره: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله، فيتعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون؟ { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ، يقول: أم أقفل الله على قلوبهم، فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر )).
ومثل هذه الآية في الأمر بتدبر القرآن والإنكار على من أعرض عن تدبره: قول الله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } [ص: 29]، وقوله: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82]، وقوله: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } [المؤمنون: 68]، وقوله: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر: 17]، وقوله: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [الدخان: 58].
وقد استوفى شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في كتابه (أضواء البيان: ص 457 ـ 618) الكلام في هذه الآية، وذكر مسائل الاجتهاد والتقليد والكلام عليها.
سورة الفتح(1/193)
ـ قوله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح: 29].
اشتملت هذه الآية الكريمة على بيان فضل أصحاب رسول الله * وثنائه تعالى عليهم في التوراة والإنجيل، وأنهم أهل صلاة وعبادة فيما بينهم وبين ربهم، وذوو رفق ولين وتراحم فيما بينهم، وذوو شدّة وقوة في جهاد الكفار، وأنهم يفعلون ما يفعلون من العبادة والتآلف فيما بينهم والشدة في جهاد أعدائهم يبتغون الفضل من الله والرضوان، وأنهم فيما يتصفون به من القوة والشدة في جهاد أعدائهم يغيظ الله بهم الكفار، وأن الله - عز وجل - وعدهم المغفرة لذنوبهم والأجر العظيم الذي فيه رفعتهم وعلو درجاتهم.
وقوله: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } مبتدأ وخبر، أو { رَسُولُ اللَّهِ } وصفٌ، { وَالَّذِينَ مَعَهُ } معطوف على المبتدأ، والخبر { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، ومثل هذه الآية في التراحم بين المؤمنين والشدّة على أعدائهم قوله تعالى في سورة المائدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ 5Oح Iw } [المائدة: 54].(1/194)
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في (أضواء البيان: 2/136) في آية المائدة: (( أخبر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضاً عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه *، فأمره بلين الجانب للمؤمنين بقوله: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، وقوله: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الآية، وصرّح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين والشدة على الكافرين من صفات الرسول * وأصحابه } بقوله: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } )).
وما جاء في هذه الآيات من أمر الله لرسوله * بالرفق واللين للمؤمنين والشدة والغلظة على الكفار والمنافقين هو لأمته أيضاً؛ لأن الأصل في خطاب الرسول * أنه له وللأمة إلاّ إذا دلّ دليل على تخصيصه بالحكم، وقد أمر الله المؤمنين بجهاد الكفار والغلظة عليهم، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } .(1/195)
وقوله: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : فسِّر (السيما) بالسمت الحسن، وفسِّر بالخشوع والتواضع، حكى ابن كثير في تفسيره الأول عن ابن عباس، والثاني عن مجاهد وغيره، ثم نقل عن ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن منصور عن مجاهد: (( { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال: الخشوع، قلت: ما كنت أراه إلاّ هذا الأثر في الوجه، فقال: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون ))، وقال: (( وقال السدي: الصلاة تحسِّن وجوههم، وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ))، وقال: (( وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وقال أمير المؤمنين عثمان: ما أسر أحد سريرة إلاّ أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ))، وقال: (( فالصحابة } خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك ~: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله *، وقد نوَّه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال ههنا: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثم قال: { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي فراخه، { فَآَزَرَهُ } أي شدّه، { فَاسْتَغْلَظَ } أي شب وطال، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي فكذلك أصحاب محمد * آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع )).(1/196)
وقوله: { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } : هذا أشد شيء على الرافضة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ويتبرؤون منهم، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان } ، قال ابن كثير: (( ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك ~ في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة؛ قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك، والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم )).
وقال القرطبي في تفسيره: (( روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله *، فقرأ مالك هذه الآية: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } حتى بلغ { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } ، فقال مالك: مَن أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله * فقد أصابته هذه الآية، ذكره الخطيب أبو بكر )).(1/197)
وقوله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } : هذا الوعد الكريم للصحابة جميعاً } ، ومثله قول الله - عز وجل - : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد: 10]، و (مِن) فيها لبيان الجنس وليست للتبعيض، ومثل هذه الآية في كون (مِن) للجنس لا للتبعيض، قول الله - عز وجل - : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة: 73]، فإن (مِن) في قوله: { مِنْهُمْ } لكل الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة وليست لبعضهم، وقال ابن هشام في (مغني اللبيب: 2/15): (( وفي كتاب المصاحف لابن الأنباري أن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً } في الطعن على بعض الصحابة، والحق أن (مِن) فيها للتبيين لا للتبعيض، أي الذين آمنوا هم هؤلاء، ومثله: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 172]، وكلهم محسن ومتَّق، { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة: 73]، فالمقول فيهم ذلك كلهم كفار )).
سورة الحجرات(1/198)
ـ قوله تعالى: { وَإِنْ بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات: 9 ـ 10].
في هاتين الآيتين بيان عظم شأن الإصلاح بين المقتتلين من المسلمين؛ لأن الله أمر به فيهما ثلاث مرات، وقد عقد البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه باباً قال فيه: (( باب { وَإِنْ بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } فسماهم المؤمنين )) مستدلاً به على أن القتل وغيره من الكبائر دون الشرك لا يكفر به المسلم، وهذا بخلاف ما عليه أهل البدع من الخوارج ونحوهم من التكفير بارتكاب الكبائر، ولهذا قال البخاري ~: (( فسماهم المؤمنين )) ومثل قول البخاري هذا قول سفيان بن عيينة عقب حديث أبي بكرة عن النبي * أنه قال في الحسن: (( إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين )) رواه البخاري (7109)، قال: (( قوله: (من المسلمين) يعجبنا جداً )) ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (13/66)؛ وذلك لأن النبي * وصف الفئتين في هذا الحديث بكونهما من المسلمين.
والطائفة هي القطعة من الشيء، وتطلق على الواحد فما فوقه عند الجمهور، قاله الحافظ في الفتح (1/85).(1/199)
وقد أمر الله بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين، وذلك بالعمل على وقف الاقتتال بينهما وحصول الإصلاح الذي به تكف كل طائفة عن الأخرى، فإن حصل بغي من إحداهما على الأخرى قوتلت الباغية مع المبغي عليها حتى تفيء إلى أمر الله وتترك البغي؛ لقوله *: (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره )) أخرجه البخاري (6952)، فإن فاءت تعيَّن الصلح بينهما فيما حصل لهما، وذلك بالقسط وهو العدل والإنصاف.
ثم بيَّن تعالى عظم شأن الأخوة الدينية بين المسلمين في قوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ، وأمر بالإصلاح فيما يحصل بينهم من خلاف، وقد جاء في السنّة أحاديث كثيرة في ذكر الأخوة بين المسلمين المقتضية للأمر بإيصال الخير إليهم والنهي عن إلحاق الضرر بهم، مثل قوله *: (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) رواه البخاري (13) ومسلم (170)، وقوله *: (( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته )) الحديث رواه البخاري (2442) ومسلم (6578)، وقوله *: (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) رواه البخاري (6011) ومسلم (6586)، وقوله *: (( إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبّك بين أصابعه )) رواه البخاري (481) ومسلم (6585).(1/200)
وأما ما جرى بين الصحابة } من خلاف واقتتال فمذهب أهل السنّة والجماعة الكف عن الخوض فيه إلاّ بخير، وأن يُحسَن بهم الظن ويُحمل على أحسن المحامل ويُخرَّج على أحسن المخارج؛ لأنهم مجتهدون لا يَعدِمون الأجر والأجرين، قال ابن حجر في الفتح (13/ 34): (( واتفق أهل السنّة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عُرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلاّ عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين )).
سورة ق
ـ قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 16 ـ 18].
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن خلقه للإنسان وعِلمه بسرِّه وعلانيته وما يختلج في صدره، كما قال - عز وجل - : { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران: 154]، وقال: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك: 13 ـ 14]، وقال: { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اعِ'F{$ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 29].
وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فسِّر بتفسيرين:
أحدهما: قربه بالعلم والقدرة والإحاطة.(1/201)
والثاني: قرب الملائكة، نظير قوله في الواقعة: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ } [الواقعة: 85]. ذكر التفسيرين ابن القيم في مختصر الصواعق (2/268)، ورجّح الثاني منهما واستدل له، ورجّحه أيضاً ابن كثير في تفسيره، واقتصر على الأول منهما ابن أبي زيد في مقدمة رسالته، وقد جاء في القرآن الكريم ذكر الضمير بلفظ التعظيم والمراد به الملائكة، كما في قول الله - عز وجل - : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ } [القيامة: 18]، والذي قرأه على الرسول * جبريل، وقوله: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 74]، وهو إنما جادل الملائكة، كما قال الله - عز وجل - : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِن فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا } الآية، ومما استدل به ابن القيم لترجيح قرب الملائكة أن الله سبحانه قيَّد القرب في الآية بالظرف، وهو قوله: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } ، فالعامل في الظرف ما في قوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } من معنى الفعل، ولو كان المراد قربه سبحانه بنفسه لم يتقيد ذلك بوقت تلقي الملكين ولا كان في ذكر التقييد فائدة؛ فإن علمه سبحانه وقدرته ومشيئته عامة التعلق.(1/202)
ثم بيَّن تعالى أن الله وكَّل بالإنسان ملكين يكتبان الحسنات والسيئات، وأن كل لفظ يصدر منه يكتبانه، ويُعرض ذلك عليه يوم القيامة، فيُجازى على أعماله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان: 7/ 687 ـ 688): (( والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلّت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله، والقعيد: قال بعضهم: معناه القاعد، والأظهر أن معناه المُقاعِد، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعل وإرادة المُفاعِل، كالجليس بمعنى المُجالِس، والأكيل بمعنى المُؤاكل، والنديم بمعنى المنادم. وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائما أو غالباً يقال له قعيد )).
قال: (( والمعنى: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فحُذف الأول بدلالة الثاني عليه، وهو أسلوب عربي معروف )).
وقال: (( اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه: هل تكتبه الحفظة أو لا؟، فقال بعضهم: يُكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض، وهذا ظاهر قوله: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } لأن قوله: { مِنْ قَوْلٍ } نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة (مِن)، فهي نص صريح في العموم.
وقال بعض العلماء: لا يُكتب من الأعمال إلاّ ما فيه ثواب أو عقاب. وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلاّ فيما فيه ثواب أو عقاب، فالذين يقولون: لا يُكتب إلاّ ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون: يُكتب الجميع، متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب، إلاّ أن بعضهم يقولون: لا يُكتب أصلاً، وبعضهم يقولون: يكتب أوّلاً ثم يُمحى )).
سورة الذاريات(1/203)
ـ قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات: 56 ـ 58].
بيّن الله - عز وجل - في هذه الآيات أنه خلق الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك له، أي لأَمْرهم ونهيهم، ومن أطاعه أثابه ومن عصاه عاقبه، وأنه سبحانه وتعالى الغني عنهم وهم الفقراء إليه، كما قال - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [فاطر: 15]، وقال: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } [الأنعام: 14].(1/204)
قال القرطبي في تفسيره: (( قيل: إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده، فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص، والمعنى: وما خلقت أهل السعادة من الجن والإنس إلاّ ليوحدون ))، وقال ابن كثير في تفسيره: (( أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم ))، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في (أضواء البيان: 7/ 714 ـ 715): (( والتحقيق ـ إن شاء الله ـ في معنى هذه الآية الكريمة { إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } أي: إلاّ لآمرهم بعبادتي وأبتليهم، أي: أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرّح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، قال تعالى في أول سورة هود: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } ، ثم بيَّن الحكمة في ذلك فقال: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } ، وقال تعالى في أول سورة الملك: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } ، وقال تعالى في أول الكهف: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } الآية، فتصريحه ـ جلّ وعلا ـ في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً يفسر قوله: { لِيَعْبُدُونِ } ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.(1/205)
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا يتم إلاّ بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرّح تعالى بأن حكمة خلقهم أولاً وبعثهم ثانياً هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } ، وقوله في النجم: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } )).
والآياتان الثانية والثالثة مبيِّنتان لقوله تعالى في الأنعام: { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } ، فقوله: { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } ـ والقراءة بكسر النون ـ مبيِّنة لقوله: { وَلَا يُطْعَمُ } ، وقوله: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } مبيِّنة لقوله: { وَهُوَ يُطْعِمُ } ، والمتين هو الشديد القوة.(1/206)
وتقديم الجن على الإنس في الذكر في قوله: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ } لتقدم خلق الجن، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } [الحجر: 26 ـ 27]، وقد قدِّم الجن على الإنس في الآيات التي ذُكر فيها الجن والإنس إلاّ في ثلاثة مواضع، الأول في سورة الأنعام في قوله: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام: 112]، والثاني في سورة الإسراء في قوله: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء: 88]، والثالث في سورة الجن في قوله: { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الجن: 5].
سورة الطور
ـ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور: 21].
في هذه الآية الكريمة بيان تفضل الله - عز وجل - على الآباء والأبناء من أهل الجنّة الذين تفاوتت منازلهم، فيتفضل على الأبناء برفعهم إلى منازل آبائهم، ويتفضل على الآباء بأن تقرَّ أعينهم لمرافقة أبنائهم دون أن ينقص الآباءَ شيئاً من ثوابهم، ولهذا قال: { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } .(1/207)
وقوله: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي مرتهن بعمله فيجازى عليه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولا يُنقص أحد من عمله شيئاً، قال ابن كثير في تفسيره: (( يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا أعمالهم؛ لتقرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذاك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك، ولهذا قال: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } ))، وقال: (( وقوله: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، بل { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } أي مرتهن بعمله، لا يُحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أباً أو ابناً، كما قال: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ } )).
وقال القرطبي في تفسيره: (( { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } قيل: يرجع إلى أهل النار، قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنّة إلى نعيمهم، ولهذا قال: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } ، وقيل: هو عام لكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله، فأما الزيادة على ثواب العمل فهي تفضل من الله، ويحتمل أن يكون هذا في الذرية الذين لم يؤمنوا فلا يَلحقون آباءهم المؤمنين، بل يكونون مرتهنين بكفرهم )).
سورة النجم(1/208)
ـ قوله تعالى: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم: 26].
هذه الآية الكريمة تدل على أن الشفاعة عند الله لا تنفع إلاّ بتوفر شرطين:
أحدهما: رضاه عن الشافع وإذنه له بالشفاعة.
والثاني: رضاه عن المشفوع له.
قال الشوكاني في تفسيره: (( و (كم) هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير، ومحلها الرفع على الابتداء، والجملة بعدها خبرها، ولِما في (كم) من معنى التكثير جمع الضمير في (شفاعتهم) مع إفراد المَلَك، والمعنى التوبيخ لهم بما يتمنون ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع إلاّ لمن أذن أن يُشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم؟! وهو معنى قوله: { إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ } لهم بالشفاعة، { لِمَنْ يَشَاءُ } أن يشفعوا له، { وَيَرْضَى } بالشفاعة له لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظ، ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها لكونهم ليسوا من المستحقين لها )).(1/209)
وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في قوله تعالى من سورة البقرة: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } ، قال: (( والشفاعة في الاصطلاح هي التوسط للغير في جلب مصلحة أو دفع مضرّة، وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر؛ لأن صاحب الحاجة كان فرداً في حاجته فلما جاءه الشفيع صار شفعاً أي اثنين: صاحب الحاجة ومن يتوسط له فيها، هذا أصل معنى الشفاعة ))، وقال: (( وقد دلّ الكتاب والسنّة أن نفي الشفاعة المذكور هنا ليس على عمومه، وأن للشفاعة تفصيلاً، منها ما هو ثابت شرعاً، ومنها ما هو منفي شرعاً، أما المنفي شرعاً الذي أجمع عليه المسلمون فهو الشفاعة للكفار؛ لأن الكفار لا تنفعهم شفاعة ألبتّة، كما قال تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } ، وقال عنهم: { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } ، وقال ـ جلّ وعلا ـ: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } ، مع أنه قال في الكافر: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } ، فالشفاعة للكفار ممنوعة شرعاً بإجماع المسلمين، ولم يقع في هذا استثناء ألبتّة، إلاّ شفاعة النبي * لعمِّه أبي طالب فإنها نفعته بأن نُقل بسببها من محل من النار إلى محل أسهل منه، كما صحّ عنه * أنه قال: (( لعلّه تنفعه شفاعتي فيُجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، له نعلان يغلي منهما دماغه ))، أما غير هذا من الشفاعة للكفار فهو ممنوع إجماعاً، وإنما نفعت شفاعة النبي * عمَّه أبا طالب في نقل من محل من النار إلى محل آخر.
والشفاعة المنفية الأخرى هي الشفاعة بدون إذن رب السماوات والأرض، فهذه ممنوعة بتاتاً بإجماع المسلمين وبدلالة القرآن العظيم، كقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } )).(1/210)
وقال: (( أما الشفاعة للمؤمنين بإذن رب السماوات والأرض فهي جائزة شرعاً وواقعة، كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة، كما في قوله: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } ، وقوله ـ جلّ وعلا ـ: { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث )). (العذب النمير: 1/ 64 ـ 67).
سورة الحديد
ـ قوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد: 25].
أخبر الله - عز وجل - في هذه الآية أنه أرسل رسله بالآيات وهي المعجزات الدالة على صدق رسل الله، وأنزل الكتاب والمراد به الكتب، وأنزل الميزان وهو العدل والإنصاف الذي يكون فيما اشتملت عليه الكتب، وقد دلّت الآية على أن الكتب منزلة من الله تعالى على رسله الكرام، وهذه الكتب منها ما قصّه الله - عز وجل - علينا في القرآن وهو التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، ومنها ما لم يُقصص، والواجب الإيمان بالكتب كلها ما قُص منها وما لم يُقصص، ودلّت الآية على أن الكتب المشتملة على العدل أُنزلت للعمل بها والقيام بالعدل الذي اشتملت عليه.(1/211)
وأخبر الله - عز وجل - في هذه الآية أنه أنزل الحديد المشتمل على البأس الشديد لردع من لم تؤثِّر فيه الكتب، وعلى المنافع العظيمة الكثيرة للناس في معاشهم، كالمراكب المتنوعة في هذا الزمان، وكآلات الحرث والبناء وسائر وجوه الاستعمال للحديد، وليظهر من ينصر الله ورسله ويتميز ممن لم ينصره، فيترتب على ذلك الثواب والعقاب، وقد تقدّم الكلام في هذا المعنى في سورة البقرة عند قوله: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } .
وإنزال الكتب هو من عند الله - عز وجل - ، كما قال الله - عز وجل - : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الزمر: 1]، وقال: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [غافر: 2]، وقال: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ } [فصلت: 2 ـ 3]، وغيرها من الآيات، وأما إنزال الحديد فهو من الجبال التي خلقه الله فيها، قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية في إنزال الحديد (ص: 197): (( فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض، وقد قيل: إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود )).(1/212)
وقد جمع الله في هذه الآية بين القوتين: المعنوية والحسية، والدعوة إلى الحق تكون بالبيان، فإن نفعت حصل المقصود، وإلاّ انتُقل إلى القوة الحسية، ففي صحيح مسلم (4522) عن بريدة بن الحصيب قال: (( كان رسول الله * إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله - عز وجل - ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ))، وفيه أنهم يُدعون إلى الإسلام، فإن أبوا طُلب منهم دفع الجزية، فإن أبوا قوتلوا، قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان: 2/ 207): (( واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } الآية، ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ))، وجملة: (( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )) اشتهر نسبتها إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان >، وقد عزاها إليه ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 301)، وقد وهم في تفسيره في الكلام على قول الله - عز وجل - : { وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } [الإسراء: 80]؛ إذ قال: (( وفي الحديث: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )) فجعله حديثاً، ومثل هذا الوهم حصل لابن القيم في مسألة أخرى، فقال في كتاب الروح (ص: 324): (( وفي الحديث: ما لا نَفْس(1/213)
له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه ))، وقال في كتاب زاد المعاد (4/112): (( وأول من حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة فقال: ما لا نفس له سائلة: إبراهيم النخعي ))، والمراد بما لا نفس له سائلة : ما لا دم فيه كالجراد والذباب. وفي هذا المعنى قال الشاعر:
فمن لم يقومه الكتاب أقامه ... حدود الضبا والسمهري المثقف
فهل يستقيم الدين إلاّ بدعوة ... إلى الله يتلوها سنان ومرهف
وقال آخر:
ومن لم يؤدبه البيان وهديه ... فإن الحسام العضب نعم المؤدب
فقد أنزل الله الحديد وبأسه ... لمن سد أذنيه الهوى والتعصب
سورة الصف
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [الصف: 10 ـ 13].(1/214)
في هذه الآيات الحث على الاشتغال بتجارة الآخرة، وهي في الحقيقة التجارة الرابحة لدوام نفعها واستمرار ثوابها، قال الله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 29 ـ 30]، وقد وصف الله هذه التجارة بأنها منجية من عذاب أليم، ورأس مال هذه التجارة هو الإيمان بالله ورسوله والتقرب إليه تعالى بالأعمال الصالحة، وفي مقدمتها الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، وأرباح هذه التجارة مغفرة الذنوب وإدخال الجنات والظفر بالنعيم فيها، ومع هذا الثواب الأخروي يحصل في الدنيا النصر على الأعداء إذا قاتلهم المسلمون؛ كما قال الله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]، وقال: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: 40].
والآيات التي جاء فيها ذكر الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال قدِّم فيها ذكر المال والنفس على (في سبيل الله) إلا في ثلاثة مواضع، أحدها: هذا الموضع، وهو آخر ما ورد في القرآن في ذلك، والثاني: وهو أول موضع في القرآن قوله في سورة النساء: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [النساء: 95]، والثالث: في سورة التوبة في قوله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح !$xےّ9$# } [التوبة: 20].
سورة المنافقون(1/215)
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون: 9 ـ 11].
نهى الله المؤمنين عن الاشتغال بالدنيا والافتتان بما فيها من مال وولد، بحيث يُلهي ذلك عن ذكر الله، وهو كل ما هو طاعة لله - عز وجل - ، وأخبر أن من فعل ذلك يكون خاسراً، ثم أمرهم ببذل الأموال في طاعته تعالى والإنفاق في سبيله قبل حلول الأجل الذي ترخص عنده الدنيا على أهلها، وفي صحيح البخاري (1419) ومسلم (2382) عن أبي هريرة > قال: (( جاء رجل إلى النبي *، فقال: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان )).
وفي الآية تمني المؤمنين من أهل المال عند الموت تأخير الأجل ولو كان شيئاً يسيراً ليتصدقوا ويعملوا صالحاً، وأنى لهم ذلك؟! فقد كتب الله أن الأجل إذا جاء لا يؤخر، كما قال الله - عز وجل - هنا: { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .(1/216)
وأما تمني الكفار تأخير الأجل، فقد قال الله تعالى عنهم: { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم: 44]، وقال: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ $ygè=ح !$s% وَمِنْ Nخgح !#u'ur بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 99 ـ 100].
ومن صفات المنافقين غفلتهم عن ذكر الله وكسلهم عن حضور صلاة الجماعة وحرصهم الشديد على متاع الدنيا، كما قال الله - عز وجل - عنهم: { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 142]، وفي صحيح البخاري (644) ومسلم (1481) عن أبي هريرة > أن رسول الله * قال: (( والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بحطب ليُحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرقاً سميناً أو مِرماتين حسنتين لشهد العشاء ))، والعَرق السمين هو العظم عليه بقية اللحم، والمرماة: ما بين ظِلف الشاة من اللحم، والمعنى أن المنافقين الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة لو يعلم أحدهم أن في المسجد شيئاً من اللحم ولو كان شيئاً يسيراً في وقت صلاة العشاء لشهدوا العشاء للحصول على هذا اللحم؛ لأن همهم الدنيا وليس همهم الآخرة.(1/217)
وكان من هديه * القراءة في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين، رواه مسلم في صحيحه (2031) عن ابن عباس { ، ولعل الحكمة في ذلك اشتمال سورة الجمعة على شيء من أحكام صلاة الجمعة، وأما سورة المنافقين ففي قراءتها تنبيه المنافقين الذين قد يحضرون الجمعة إلى ما فيها من صفاتهم الذميمة لعلهم يستفيدون من ذلك.
وقد أثنى الله على الذين لا تشغلهم الدنيا عن ذكر الله بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور: 36 ـ 38].
[وجوه ووجوه]
سورة القيامة
ـ قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [القيامة: 22 ـ 25].
معنى قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } : أي مشرقة مضيئة حسنة، كما قال الله - عز وجل - : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } [المطففين: 24]، وقال: { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } [الإنسان: 11]، وقال *: (( نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها )) وهو حديث متواتر، جاء عن أكثر من عشرين صحابياً من أصحاب الرسول *.(1/218)
ومعنى قوله: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } : أي تنظر إلى الله نظراً عياناً، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله * أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( وقد ثبت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها )). ثم ذكر جملة من الأحاديث، ثم قال: (( ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقاً في مواضع من هذا التفسير، وبالله التوفيق. وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام )).
ولا تنافي بين هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } ؛ لأن قوله: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } قيل: إنه محمول على نفي الرؤية في الدنيا، فيكون مثل قوله لموسى: { لَنْ تَرَانِي } أي: في الدنيا. وقيل: إن نفي الإدراك في الآية لا يستلزم نفي الرؤية، والله تعالى يُرى ولا يحاط به رؤية، كما أنه يُعلم ولا يحاط به علماً، ونفي الإدراك ـ وهو أخص ـ لا يستلزم نفي الرؤية ـ وهي أعم ـ.
وتأويل من أوّل قوله: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } بمعنى: انتظار الثواب غير صحيح؛ لأن الانتظار يكون مع الفعل المتعدي، كما في قوله: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } ، والنظر في هذه الآية عُدِّي بحرف (إلى)، وهو يدل على النظر بالبصر، والفعل (نظر) يتعدى بنفسه، وبـ (في) وبـ (إلى)، فالمعدَّى بنفسه: للانتظار، والمعدَّى بـ (في): للتفكر والاعتبار، والمعدَّى بـ (إلى): يكون للنظر بالأبصار.(1/219)
قال ابن كثير: (( ومن تأول ذلك بأن المراد: (إلى) مفرد الآلاء، وهي النعم، كما قال الثوري، عن منصور، عن مجاهد: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال: تنتظر الثواب من ربها. رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد. وكذا قال أبو صالح أيضاً فقد أبعد هذا القائل النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } ؟ قال الشافعي ~: ما حَجَب الفجار إلاّ وقد عَلِم أن الأبرار يرونه - عز وجل - ، ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله * بما دل عليه سياق الآية الكريمة، وهي قوله: { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
وقال في قوله تعالى: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } : (( هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة، قال قتادة: كالحة، وقال السدي: تغير ألوانها، وقال ابن زيد: { بَاسِرَةٌ } أي: عابسة. { تَظُنُّ } أي: تستيقن، { أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال مجاهد: داهية. وقال قتادة: شر. وقال السدي: تستيقن أنها هالكة. وقال ابن زيد: تظن أن ستدخل النار )).
سورة عبس
ـ قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [عبس: 38 ـ 41].
معنى قوله: { مُسْفِرَةٌ } أي: مضيئة مشرقة مستنيرة. وقوله: { ضَاحِكَةٌ } أي: فرحة مسرورة، { مُسْتَبْشِرَةٌ } : بما أعده الله لها من النعيم المقيم في جنات النعيم، وهذه وجوه المؤمنين.
وأما وجوه الكفار، فقد وصفها الله - عز وجل - بقوله: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } . قال القرطبي في تفسيره: (( { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أي: غبار ودخان، { تَرْهَقُهَا } أي: تغشاها { قَتَرَةٌ } أي: كسوف وسواد. كذا قال ابن عباس. وعنه أيضاً: ذلة وشدة )).(1/220)
وقال ابن كثير في تفسيره: (( { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } أي: يكون الناس هنالك فريقين: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } ، أي: مستنيرة، { ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } أي: مسرورة فرحة من سرور قلوبهم، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنّة. { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي: يعلوها ويغشاها قترة، أي: سواد )).
سورة الغاشية
ـ قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً } [الغاشية: 2 ـ 11].
قيل: إن هذه الصفات للوجوه وهي كونها خاشعة عاملة ناصبة، في الآخرة. وقيل: إنه في الدنيا، أي: أنها تتعب وتنصَب وتجتهد في العمل، وتذِل فيه، فلا ينفعها ذلك في الدار الآخرة، لأنه مبني على ضلال، وقال البخاري في التفسير من صحيحه: (( وقال ابن عباس: { ×'s#دB%tو ×pt6د¹$¯R } : النصارى.
ونقل القرطبي في تفسيره عن عليّ >: أنهم أهل حروراء؛ يعني الخوارج الذين ذكرهم رسول الله * فقال: (( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية...)) الحديث.(1/221)
وقال ابن كثير في الكلام على قول الله في سورة الكهف { ِ@è% ِ@yd LنlمOخm7t^çR tûïخژy£÷zF{$$خ/ ¸x"uHùهr& اتةجب tûïد%©!$# ¨@|ت ِNهkكژ÷èy™ 'خû حo4quٹptّ:$# $u÷R'‰9$# ِNèdur tbqç7|،ّts† ِNهk¨Xr& tbqمZإ،ّtن† $·è÷Yك¹ } بعد أن نقل أثراً عن سعد بن أبي وقاص أنهم اليهود والنصارى، قال: (( وقال عليّ بن أبي طالب والضحاك وغير واحد: هم الحرورية، ومعنى هذا عن عليّ > أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية، كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت على هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية، يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول وهو مخطئ، وعمله مردود، كما قال تعالى: { ×nqم_مr >ح´tBِqtƒ îpyèد±"yz اثب ×'s#دB%tو ×pt6د¹$¯R اجب 4'n?َءs? #·'$tR ZpuدB%tn } ...)).
وقوله: { 4'n?َءs? #·'$tR ZpuدB%tn } ، هو مثل قوله تعالى: { NèO ِNهk¨Xخ) (#qن9$|ءs9 ثLىإspgّ:$# } ، وقوله: { èpuخ=َءs?ur AOٹدtrb } ، وقوله: { $pkâ:¨ZyftGtƒur 's+ô©F{$# اتتب "د%©!$# 'n?َءtƒ u'$¨Z9$# 3"uژِ9ن3ّ9$# } ، وقوله: { ِ/ن3è?ِ'xRr'sù #Y'$tR 4'©àn=s? اتحب ںw !$yg9n=َءtƒ wخ) 's+ô©F{$# اتخب "د%©!$# z>Ox. 4'¯<uqs?ur } ، والمعنى: أنه يعذب بالنار المتناهية في الحرارة.(1/222)
ثم ذكر تعالى شراب أهل النار بقوله: { 4's+َ،è@ ô`دB Aû÷ütم 7puدR#uن } ، أي: في شدّة الحرارة والغليان. ثم ذكر طعامهم بقوله: { }ّٹ©9 ِNçlm; îP$yèsغ wخ) `دB 8ىƒخژںر ادب w ك`دJَ،ç" ںwur سح_َّمƒ `دB 8يqم_ } . قال ابن كثير: (( وقوله: { }ّٹ©9 ِNçlm; îP$yèsغ wخ) `دB 8ىƒخژںر } قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: شجر من النار. وقال سعيد بن جبير: هو الزقوم. وعنه: أنها الحجارة. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي الجوزاء، وقتادة: هو الشبرق. قال قتادة: قريش تسميه في الربيع الشبرق، وفي الصيف الضريع. قال عكرمة: وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض. وقال البخاري: قال مجاهد: الضريع نبت يقال له الشبرق، يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس، وهو سم. وقال معمر عن قتادة: { wخ) `دB 8ىƒخژںر } هو الشبرق إذا يبس سمي الضريع. وقال سعيد عن قتادة: { }ّٹ©9 ِNçlm; îP$yèsغ wخ) `دB 8ىƒخژںر } من شر الطعام وأبشعه وأخبثه. وقوله: { w ك`دJَ،ç" ںwur سح_َّمƒ `دB 8يqم_ } يعني: لا يحصل به مقصود، ولا يندفع به محذور )).
وبعد أن ذكر تعالى أهل العذاب؛ ذكر أهل النعيم فقال: { ×nqم_مr 7ح´tBِqtƒ ×puH؟ه$¯R ارب $pkبژ÷è|،دj9 ×puإت#u' ازب 'خû >p¨Zy_ 7puد9%tو اتةب w كىyJَ،n@ $pkژدù Zpuةَ"s9 } والمعنى: أن أهل السعادة منعمون في الجنّة بفضل الله - عز وجل - بسبب أعمالهم الصالحة، كما قال - عز وجل - في من يؤتى كتابه بيمينه: { uqكgsù 'خû 7pt±ٹدم 7puإت#' اثتب 'خû >p¨Yy_ 7puٹد9%tو اثثب $ygèùqنـè% ×puدR#yٹ اثجب (#qè=ن. (#qç/uژُ°$#ur $O"ےدYyd !$yJخ/ َOçFّےn=َ™r& †خû دQ$ƒF{$# دpuد9$sƒّ:$# } [الحاقة: 21 ـ 24].(1/223)
قال ابن كثير: (( لما ذكر حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء فقال: { ×nqم_مr 7ح´tBِqtƒ } أي: يوم القيامة، { ×puH؟ه$¯R } ، أي: يعرف النعيم فيها، وإنما حصل لها ذلك بسعيها. وقال سفيان: { $pkبژ÷è|،دj9 ×puإت#u' } : قد رضيت عملها. وقوله: { 'خû >p¨Zy_ 7puد9%tو } أي: رفيعة بهية في الغرفات آمنون. { w كىyJَ،n@ $pkژدù Zpuةَ"s9 } أي: لا يسمع في الجنّة التي هم فيها كلمة لغو. كما قال: { w tbqمèyJَ،o" $pkژدù #·qَّs9 wخ) $VJ"n=y™ } ، وقال: { w ×qَّs9 $pkژدù ںwur زOٹدOù's? } ، وقال: { ںw tbqمèyJَ،o" $pkژدù #Yqَّs9 ںwur $¸JدOù's? اثخب wخ) Wxٹد% $VJ"n=y™ $VJ"n=y™ } )).
وقد حُذِفت واو العطف في قوله: { ×nqم_مr 7ح´tBِqtƒ ×puH؟ه$¯R } ، وهو من أدلة جواز حذف واو العطف.
وهذه المواضع الثلاثة: في القيامة، وعبس، والغاشية، قوبل فيها بين وجوه أهل النعيم وأهل العذاب. ومثلها قول الله - عز وجل - في سورة آل عمران: { tPِqtƒ گظuِ;s? ×nqم_مr -ٹuqَ،n@ur ×nqم_مr $¨Br'sù tûïد%©!$# ôN¨ٹuqَ™$# ِNكgèdqم_مr Lنnِچxےx.r& y‰÷èt/ ِNن3دY"yJƒخ) (#qè%rنsù z>#xyèّ9$# $yJخ/ ÷LنêZن. tbrمچàےُ3s? اتةدب $¨Br&ur tûïد%©!$# ôMزuِ/$# ِNكgèdqم_مr 'إ"sù دpuH÷qu' "!$# ِNèd $pkژدù tbrà$خ#"yz } [آل عمران: 106 ـ 107].
سورة الضحى
ـ قوله تعالى: { ِNs9r& x8ô‰ةgs† $VJٹدKtƒ 3"ur$t"sù ادب x8y‰y`urur ~w!$|ت 3"y‰ygsù اذب x8y‰y`urur Wxح !%tو 4سo_ّîr'sù } [الضحى: 6 ـ 8].(1/224)
مما امتن الله به على نبيه محمد * أنه كان يتيماً فآواه، وضالاً فهداه، وفقيراً فأغناه، وقد صان الله - عز وجل - نبيه * من ضلالات الجاهلية، فكان على الفطرة التي فطر الله الناس عليها لم ينحرف عنها، وكان يتعبد قبل أن يوحى إليه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 717) الأقوال فيما كان يتعبد به * قبل النبوة، وثالثها شريعة إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم قال: (( ولا يخفى قوة الثالث ولا سيما مع ما نُقل من ملازمته للحج والطواف ونحو ذلك مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، والله أعلم ))، وفي صحيح مسلم (7207) من حديث عياض بن حمار مرفوعاً، وفيه: (( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من أهل الكتاب ))، قال النووي في شرحه (17/ 197 ـ 198): (( والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله *، والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل )). والمراد بالضلال الذي كان عليه * ما لم يكن حصل له قبل نزول الوحي عليه؛ كما قال الله - عز وجل - : { y7د9؛xx.ur !$uZّym÷rr& y7ّs9خ) %[nrâ' ô`دiB $tRجچّBr& $tB |MZن. "ح'ô‰s? $tB ـ="tGإ3ّ9$# ںwur ك`"yJƒM}$# } [الشورى: 52]، أي إنه * قبل الوحي لم يكن يدري القرآن الذي أنزل عليه ولا تفاصيل الإيمان التي بُينت له في القرآن، وقال تعالى: { ك`ّtwU بà)tR y7ّn=tم z`|،ômr& ؤب|ءs)ّ9$# !$yJخ/ !$uZّym÷rr& y7ّs9خ) #x"yd tb#uنِچà)ّ9$# bخ)ur |MYà2 `دB ¾د&خ#ِ7s% z`دJs9 ڑْüخ=دے"tَّ9$# } [يوسف: 3]، أي عن هذه الأمور التي أوحاها الله إليه في القرآن الكريم، قال ابن كثير: (( وقوله: { x8y‰y`urur ~w!$|ت 3"y‰ygsù } كقوله: { y7د9؛xx.ur !$uZّym÷rr& y7ّs9خ) %[nrâ' ô`دiB $tRجچّBr& $tB |MZن.(1/225)
"ح'ô‰s? $tB ـ="tGإ3ّ9$# ںwur ك`"yJƒM}$# `إ3"s9ur çm"oYù=yèy_ #Y'qçR "د‰ِk¨X ¾دmخ/ `tB âن!$t±®S ô`دB $tRدٹ$t6دم y7¯Rخ)ur ü"د‰ِktJs9 4'n<خ) :ق؛uژإہ 5Oٹة)tGَ،oB } ، وقال القرطبي في تفسيره: (( قوله تعالى: { x8y‰y`urur ~w!$|ت 3"y‰ygsù } أي غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك: أي أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة، كقوله جلّ ثناؤه: { w '@إزtƒ 'خn1u' ںwur س|OYtƒ } أي: لا يغفل، وقال في حق نبيه: { bخ)ur |MYà2 `دB ¾د&خ#ِ7s% z`دJs9 ڑْüخ=دے"tَّ9$# } ، وقال قوم: (ضالاً): لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن وشرائع الإسلام، عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما، وهو معنى قوله تعالى: { $tB |MZن. "ح'ô‰s? $tB ـ="tGإ3ّ9$# ںwur ك`"yJƒM}$# } ))، وقال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ~ في (أضواء البيان) في الكلام على قوله تعالى عن موسى في سورة الشعراء: { tA$s% !$ygçFù=yèsù #]Œخ) O$tRr&ur z`دB tû,خk!!$ز9$# } ، (قال) أي: قال موسى مجيباً لفرعون: فعلتها إذاً، أي: إذْ فعلتها وأنا في ذلك الحين من الضالين، أي قبل أن يوحي الله إلي ويبعثني رسولاً، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية، وقول مَن قال من أهل العلم: { O$tRr&ur z`دB tû,خk!!$ز9$# } أي: من الجاهلين راجع إلى ما ذكرنا؛ لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلاً، أي غير عالم بما أوحى الله إليه.
وقد بيَّنا مراراً أن في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرآن وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات:(1/226)
الإطلاق الأول: يطلق الضلال مراداً به الذهاب عن حقيقة الشيء، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء: ضل عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما، وليس من الضلال في الدين، ومن هذا المعنى قوله هنا: { O$tRr&ur z`دB tû,خk!!$ز9$# } أي: من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي؛ لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي، ومنه على التحقيق: { x8y‰y`urur ~w!$|ت 3"y‰ygsù } أي: ذاهباً عما علمك من العلوم التي لا تُدرك إلاّ بالوحي، ومن هذا المعنى قوله تعالى: { tA$s% $ygكJù=دو y‰Zدم 'خn1u' 'خû 5="tGد. w '@إزtƒ 'خn1u' ںwur س|OYtƒ } ، فقوله: { w '@إزtƒ 'خn1u' } أي: لا يذهب عنه علم شيء كائناً ما كان، وقوله: { bخ*sù ِN©9 $tRqن3tƒ بû÷ün=م_u' ×@م_tچsù بb$s?r&zگِD$#ur `£JدB tbِq|تِچs? z`دB دن!#y‰pk'9$# br& ¨@إزs? $yJكg1y‰÷nخ) tچإe2xçFsù $yJكg1y‰÷nخ) 3"tچ÷zW{$# } ، فقوله: { br& ¨@إزs? $yJكg1y‰÷nخ) } أي: تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده: { tچإe2xçFsù $yJكg1y‰÷nخ) 3"tچ÷zW{$# } )).
قال: (( والإطلاق الثاني: وهو المشهور في اللغة وفي القرآن: هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحق إلى الباطل، وعن طريق الجنّة إلى النار، ومنه قوله تعالى: { خژِچxî إUqàزَّyJّ9$# َOخgّn=tو ںwur tûüدj9!$ز9$# } .
والإطلاق الثالث: هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال، تقول العرب: ضل الشيء إذا غاب واضمحل، ومنه قولهم: ضل السمن في الطعام إذا غاب فيه واضمحل، ولأجل هذا سمَّت العرب الدفن في القبر إضلالاً؛ لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل، وفي هذا قوله تعالى: { (# qن9$s%ur #sŒدنr& $uZù=n=|ت 'خû اعِ'F{$# } الآية، يعنون إذا دُفنوا وأكلتهم الأرض فضلوا فيها، أي غابوا فيها واضمحلوا )).
سورة الكافرون(1/227)
ـ قوله تعالى: { ِ@è% $pkڑ‰r'¯"tƒ ڑcrمچدے"x6ّ9$# اتب Iw ك‰ç6ôمr& $tB tbrك‰ç7÷ès? اثب Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç7ôمr& اجب Iwur O$tRr& س‰خ/%tو $¨B ÷L-n‰t6tم احب Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç6ôمr& اخب ِ/ن3s9 ِ/ن3مYƒدٹ u'ح<ur بûïدٹ } [الكافرون: 1 ـ 6].
هذه السورة مع سورة (قل هو الله أحد) يقال لهما سورتا الإخلاص، وقد جاءت السنة بالقراءة بهما في بعض النوافل، في ركعتي الطواف، أخرجه مسلم (2950) من حديث جابر الطويل، وفي الركعتين قبل الفجر، أخرجه مسلم (1690)، وفيهما وفي الركعتين بعد المغرب، أخرجه الإمام أحمد في مسنده (4763) بإسناد صحيح.
وفي مسند الإمام أحمد (23807) بإسناد صحيح أن النبي * قال لنوفل بن معاوية >: (( اقرأ عند منامك { ِ@è% $pkڑ‰r'¯"tƒ ڑcrمچدے"x6ّ9$# } ، قال: ثم نم على خاتمتها؛ فإنها براءة من الشرك )).
وفي جامع الترمذي أن { ِ@è% $pkڑ‰r'¯"tƒ ڑcrمچدے"x6ّ9$# } تعدل ربع القرآن، روى ذلك بأسانيد يقوي بعضها بعضاً عن أنس (2893) و(2895) وابن عباس (2894).
وقد أمر الله نبيه * في هذه السورة أن يعلن براءته من عبادة غير الله وأن يقول للكافرين: { Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç7ôمr& } ، والمعنى: أن الكافرين لا يعبدون ما يعبده النبي *؛ لأن عبادة الله - عز وجل - لا تحصل إلاّ بالإخلاص له وترك عبادة غيره، ثم أكد قوله: { Iw ك‰ç6ôمr& $tB tbrك‰ç7÷ès? } بقوله: { Iwur O$tRr& س‰خ/%tو $¨B ÷L-n‰t6tم } ، وهو تأكيد بالمعنى دون اللفظ، وأكد قوله: { Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç7ôمr& } بقوله: { Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç6ôمr& } ، وهو تأكيد باللفظ والمعنى.(1/228)
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره في بيان وجه الإتيان بقوله تعالى: { Iwur O$tRr& س‰خ/%tو $¨B ÷L-n‰t6tم احب Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç6ôمr& } بعد قوله: { Iw ك‰ç6ôمr& $tB tbrك‰ç7÷ès? اثب Iwur َOçFRr& tbrك‰خ7"tم !$tB ك‰ç7ôمr& } أربعة أوجه:
الأول: حاصله أن الآيتين الأوليين في بيان براءته * من معبودات الكفار وبراءتهم من عبادة الله، كما في قوله: { bخ)ur x8qç/Ox. @à)sù 'حk< 'ح?yJtم ِNن3s9ur ِNن3è=yJtم OçFRr& tbqن"ےƒجچt/ !$£JدB م@yJôمr& O$tRr&ur ضنü"جچt/ $£JدiB tbqè=yJ÷ès? } ، والآيتين الأخريين في بيان منهجه * وطريقته، وهي أنه يعبد الله وحده ويتبع ما جاءه من الوحي، وهذا بخلاف الكفار؛ فإن عبادتهم لآلهتهم مبنية على ما اخترعوه وابتدعوه من عبادة غير الله.
الثاني: ما حكاه عن البخاري أن الآيتين الأوليين للحال والماضي، والآيتين الأخيرتين للمستقبل.
الثالث: ما نقله عن ابن جرير عن بعض أهل العربية أن الآيتين الأخيرتين تأكيد للآيتين الأوليين.
الرابع: ما عزاه إلى ابن تيمية وأنه نصره في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: { Iw ك‰ç6ôمr& $tB tbrك‰ç7÷ès? } نفي الفعل لأنها جملة فعلية، { Iwur O$tRr& س‰خ/%tو $¨B ÷L-n‰t6tم } نفي قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلاً لذلك، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضاً.
سورة الإخلاص
ـ قوله تعالى: { ِ@è% uqèd ھ!$# î‰ymr& اتب ھ!$# ك‰yJ¢ء9$# اثب ِNs9 ô$خ#tƒ ِNs9ur ô‰s9qمƒ اجب ِNs9ur `ن3tƒ ¼م&©! #·qàےà2 7‰ymr& } [الإخلاص: 1 ـ 4].(1/229)
تقدم قريباً الاستدلال لقراءة سورة الإخلاص مع سورة { ِ@è% $pkڑ‰r'¯"tƒ ڑcrمچدے"x6ّ9$# } في ركعتي الطواف والركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب، وثبت عن الرسول * أنها تعدل ثلث القرآن، روى البخاري في صحيحه (7374) عن أبي سعيد >: (( أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: { ِ@è% uqèd ھ!$# î‰ymr& } يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي * فذكر له ذلك، فكأن الرجل يتقالّها، فقال رسول الله *: والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن )). وروى أيضاً (5015) عن أبي سعيد قال: قال النبي * لأصحابه: (( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن )).
وروى مسلم في صحيحه (1888) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله *: (( احشدوا؛ فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله * فقرأ: { ِ@è% uqèd ھ!$# î‰ymr& } ، ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبرجاءه من السماء، فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله * فقال: إني قلت لكم: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن )).
وجاء في السنّة قراءتها مع المعوذتين في الصباح والمساء ثلاثاً، روى الترمذي (3575) وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن خبيب قال: (( خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله * يصلي لنا، قال: فأدركته، فقال: قل. فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل. فلم أقل شيئاً، قال: قل. فقلت: ما أقول؟ قال: قل: { ِ@è% uqèd ھ!$# î‰ymr& } والمعوذتين حين تمسي وتصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء )).(1/230)
وجاءت السنّة بقراءة هذه السور الثلاث عند النوم والنفث في اليدين والمسح بهما ما أمكن من الجسد، ففي صحيح البخاري (5017) عن عائشة <: (( أن النبي * كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: { ِ@è% uqèd ھ!$# î‰ymr& } و { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ب,n=xےّ9$# } و { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ؤ¨$¨Y9$# } ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات )).
وقد اشتملت هذه السورة على أربع آيات، فالأولى والثانية في إثبات أحديته وصمديته، والثالثة والرابعة في تنزيهه عن الأصول والفروع والأشباه والنظراء، والأحد من أسمائه الحسنى، قال ابن كثير: (( ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلاّ على الله - عز وجل - ؛ لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله )).
والصمد فُسِّر بعدة تفسيرات ذكرها ابن كثير في تفسيره، وأولها: الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم ومسائلهم، عزاه إلى ابن عباس { ، وهو سبحانه وتعالى الغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل من عداه، كما قال - عز وجل - : { $pkڑ‰r'¯"tƒ â¨$¨Z9$# قOçFRr& âن!#tچs)àےّ9$# 'n<خ) "!$# ھ!$#ur uqèd گسح_tَّ9$# ك‰دJysّ9$# } .
وفي تنزهه سبحانه وتعالى عن الولد والوالد والشبيه والنظير تأكيد لأحديته تعالى، وتأكيد أيضاً لصمديته؛ لأن تنزهه عما ذُكر دال على كمال غناه عن غيره، وأن غيره مفتقر إليه لا يستغني عنه؛ لأن من كان والداً هو بحاجة إلى الولد، ومن كان مولوداً هو بحاجة إلى الوالد، والمتشابهان والمتماثلان يحتاج بعضهما إلى بعض.
سورة الفلق
ـ قوله تعالى: { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ب,n=xےّ9$# اتب `دB خhژں° $tB t,n=y{ اثب `دBur خhژں° @,إ™%yٌ #sŒخ) |=s%ur اجب `دBur جhچx© دM"sV"Oے¨Z9$# †خû د‰s)مèّ9$# احب `دBur جhچx© >‰إ™%tn #sŒخ) y‰|،ym } [الفلق: 1 ـ 5].(1/231)
مما ورد في فضلها مع سورة الناس حديث عقبة بن عامر > قال: قال رسول الله *: (( ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُر مثلهن قط؟ { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ب,n=xےّ9$# } ، { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ؤ¨$¨Y9$# } رواه مسلم (1891). وحديث عبد الله بن خبيب قال: (( كنت مع رسول الله * في طريق مكة، فأصبت خلوة من رسول الله * فدنوت منه، فقال: قل. فقلت: ما أقول؟ قال: قل. قلت: ما أقول؟ قال: { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ب,n=xےّ9$# } حتى ختمها، ثم قال: { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ؤ¨$¨Y9$# } حتى ختمها، ثم قال: ما تعوذ الناس بأفضل منهما )) رواه النسائي (5429) بإسناد حسن. وحديث أبي سعيد قال: (( كان رسول الله * يتعوذ من عين الجان، وعين الإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك )). رواه النسائي (5494) بإسناد حسن، وحديث عقبة بن عامر قال: (( أمرني رسول الله * أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة )). رواه أبو داود (1523) بإسناد حسن، ورواه الترمذي (2903) ولفظه: (( أمرني رسول الله * أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة )).
ومعنى { èŒqممr& ةb>tچخ/ ب,n=xےّ9$# } ألتجئ وأعتصم بالله، وقد اشتملت هذه الآية على أنواع التوحيد الثلاثة: فإن العوذ بالله توحيد الألوهية، و(رب الفلق) فيه توحيد الربوبية والأسماء والصفات؛ لأن من أسماء الله الرب، وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه، ومثله { ك‰ôJysّ9$# ! إ_Uu' ڑْüدJn="yèّ9$# } في سورة الفاتحة، و { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ؤ¨$¨Y9$# } في سورة الناس.(1/232)
و { ب,n=xےّ9$# } الصبح في قول جمهور المفسرين، عزاه ابن كثير إلى جابر وابن عباس { وغيرهما، وهو مثل قوله: { ك,د9$sù اy$t6ô¹M}$# } ، وقوله: { ثxِ6گء9$#ur !#sŒخ) tچxےَ™r& } ، وقوله: { ثxِ6گء9$#ur #sŒخ) }OےuZs? } ، ولعل تخصيصه بالذكر لأهميته في حياة الناس ومعايشهم، قال الله - عز وجل - : { ِ@è% َOçG÷ƒuنu'r& bخ) ں@yèy_ ھ!$# مNà6ّn=tو ں@ّ©9$# #´‰tB÷ژ| 4'n<خ) دQِqtƒ دpyJ"uٹة)ّ9$# ô`tB îm"s9خ) çژِچxî "!$# Nà6د?ù'tƒ >ن!$uإزخ/ ںxsùr& ڑcqمèyJَ،n@ } .
ثم ذكر المستعاذ منه بقوله: { `دB خhژں° $tB t,n=y{ } ، وهو يشمل أي شر من أي مخلوق، ثم نص على شرور ثلاث من المخلوقات، ولعل تخصيصها بالذكر مع أنها داخلة في عموم { `دB خhژں° $tB t,n=y{ } لخطورتها وشدّة ضررها.
وقوله: { `دBur خhژں° @,إ™%yٌ #sŒخ) |=s%ur } أي: الليل إذا أقبل بظلامه، حكاه ابن كثير عن ابن عباس وغيره، وفي القاموس المحيط: وقب الظلام: دخل، وهو يقابل الفلق؛ لأن الفلق إقبال النهار، ووقوب الغاسق إقبال الليل، ومنه قوله تعالى: { ةOد%r& no4qn=¢ء9$# د8qن9à$خ! ؤôJO±9$# 4'n<خ) ب,|،xî ب@ّ©9$# } ؛ فإن بعد دلوك الشمس ـ وهو زوالها ـ صلاتين هما الظهر والعصر، وفي غسق الليل ـ وهو أوله ـ صلاة المغرب والعشاء، وفي أول الليل تنتشر الشياطين كما في صحيح البخاري (3280) ومسلم (5253) عن جابر > عن النبي * قال: (( إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفّوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلّوهم...)) الحديث.
قوله: { `دBur جhچx© دM"sV"Oے¨Z9$# †خû د‰s)مèّ9$# } أي: السواحر اللاتي ينفثن في العقد في سحرهن، والسحر يكون من الرجال والنساء، ولعل تخصيص النساء بالذكر لكون السحر فيهن أكثر منه في الرجال.(1/233)
قوله: { `دBur جhچx© >‰إ™%tn #sŒخ) y‰|،ym } ، الحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن المحسود، سواء حصلت للحاسد أو لم تحصل، ويدخل في ذلك الحاسد الذي يصيب بعينه والذي لا يصيب بالعين، وإنما قيد الاستعاذة من شر الحاسد بقوله: { #sŒخ) y‰|،ym } لأن الضرر منه يكون بتلبسه بالحسد وتعلق نفسه بحسد المحسود.
سورة الناس
ـ قوله: { ِ@è% èŒqممr& ةb>tچخ/ ؤ¨$¨Y9$# اتب إ7خ=tB ؤ¨$¨Y9$# اثب دm"s9خ) ؤ¨$¨Y9$# اجب `دB جhچx© ؤ¨#uqَ™uqّ9$# ؤ¨$¨Ysƒّ:$# احب "د%©!$# â¨بqَ™uqمƒ †خû ح'rك‰ك¹ ؤZ$¨Y9$# اخب z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur } [الناس: 1 ـ 6].
تقدم في السورة قبلها ما يدل على فضل السورتين، وأن الآية الأولى منهما، مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، و { إ7خ=tB ؤ¨$¨Y9$# } فيه توحيد الربوبية والأسماء والصفات، و { دm"s9خ) ؤ¨$¨Y9$# } فيه توحيد الألوهية والأسماء والصفات، وإنما ذكر ربوبيته للناس مع أنه ربُّ العالمين، ربٌّ كل شيء ومليكُه، لشرف الإنس، ولهذا أُرسلت منهم الرسل، وأُنزلت عليهم الكتب، والجن تبع لهم، كما تقدم الاستدلال لذلك في سورة الأحقاف.(1/234)
وقد اشتملت هذه السورة على ثلاثة من أسماء الله الحسنى، وهي: الرب والملِك والإله، فيستعيذ المسلم بربه ومليكه وإلهه من شر الوسواس الذي هو الشيطان، الذي آلى على نفسه بإغواء بني آدم، إلاّ من حفظهم الله من شره. وهو يوسوس في الصدور عند الغفلة عن ذكر الله وطاعته، ويَخنَس عند ذكر الله - عز وجل - ، فيبتعد عن الإنسان، كما قال ابن عباس: (( إذا ذكر اللهَ العبدُ خَنَس من قلبه فذهب، وإذا غفل التقم قلبه فحدَّثه ومنّاه )). نقله عنه القرطبي في تفسيره. وقيل: المراد بالوسواس الخناس: القرين من الجن، لحديث ابن مسعود > قال: قال رسول الله *: (( ما منكم من أحد إلاّ وقد وكّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة ))، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: (( وإياي، إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير )). رواه مسلم في صحيحه (7108) (7109).
وقوله تعالى: { z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur } قيل: إنه بيان للناس في قوله { †خû ح'rك‰ك¹ ؤZ$¨Y9$# } ، فيدخل فيه الجن تغليباً. وقيل: إنه معطوف على الوسواس الخناس، وحذفت واو العطف.
قال ابن كثير: (( وقوله: { "د%©!$# â¨بqَ™uqمƒ †خû ح'rك‰ك¹ ؤZ$¨Y9$# } هل يختص هذا ببني آدم ـ كما هو ظاهر ـ أو يعم بني آدم والجن؟ فيه قولان، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليباً. وقال ابن جرير: (( وقد استُعمل فيهم: رجال من الجن. فلا بدع في إطلاق الناس عليهم.
وقوله: { z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur } هل هو تفصيل لقوله: { "د%©!$# â¨بqَ™uqمƒ †خû ح'rك‰ك¹ ؤZ$¨Y9$# } ثم بيّنهم فقال: { z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur } . فهذا يقوي القول الثاني. وقيل: قوله: { z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur } تفسير للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: { y7د9؛xx.ur $oYù=yèy_ بe@ن3د9 @cسة<tR #xrك‰tم tûüدـ"ux© ؤRM}$# اd`ةfّ9$#ur ساrqمƒ ِNكgàز÷èt/ 4'n<خ) <ظ÷èt/ t$مچ÷zم- ةAِqs)ّ9$# #Y'rل نî } )).(1/235)
وقال الشوكاني: (( ثم بيَّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان: جني وإنسي، فقال: { z`دB دp¨Yةfّ9$# ؤ¨$¨Y9$#ur } ، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فوسوسته في صدور الناس أنه يُرى نفسه كالناصح المشفق فيوقع في الصدر من كلامه الذي أخرجه مخرج النصيحة ما يوقع الشيطان فيه بوسوسته كما قال سبحانه: { tûüدـ"ux© ؤRM}$# اd`ةfّ9$#ur } .
وقال أيضاً: (( وقيل: يجوز أن يكون المراد: أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس )).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/236)