مميزات قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري
( أ. د. علي العوض عبد الله (1)
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه والتابعين.
لما كانت قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري أفصح القراءات القرآنية كما ذكر السيوطي في الإتقان حيث قال: "وأصحّ القراءات سند نافع وعاصم، وأفصحها أبو عمرو والكسائي" (2) . فقد وجدتْ هذه القراءة الذيوع والانتشار في أنحاء العالم الإسلامي حيث ذكر ابن الجزري في حديثه عن انتشار هذه القراءة في الأمصار الإسلامية رواية عن ابن مجاهد عن وهب بن جرير قال: قال لي شعبة: "تمسك بقراءة أبي عمرو، فإنها ستصير للناس إسناداً". قال ابن الجزري معلِّقاً على ما قال شعبة: وقد صحَّ ما قاله شعبة رحمه الله تعالى فالقراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو بن العلاء، فلا تكاد تجد أحداً يلقن القرآن إلاَّ على حَرْفِهِ، خاصة في الفرش؛ وقد يخطئون في الأصول (3) .
ويمكننا أن نذكر بعض آراء السلف في هذه القراءة: رُوي أنَّ سفيان بن عيينة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلتُ: يا رسول الله قد اختلفت عليَّ القراءات فبقراءة مَنْ تأمرني أن أقرأ فقال: بقراءة أبي عمرو بن العلاء. وعن عبيد القاسم بن سلام قال: حدثني شجاع بن أبي نصر وكان صدوقاً قال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فعرضت عليه أشياء من قراءة أبي عمرو فما ردّ عليَّ إلاّ حرفين:
أحدهما: [البقرة: 128].
__________
(1) (() نائب مدير جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية (السُّودان ـ أم درمان).
(2) جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، طبع عيسى الحلبي، 1/81.
(3) محمد بن محمد الجزري: غاية النهاية في طبقات القُرَّاء، طبع مكتبة الخانجي، مصر، 1351هـ، 1/539.(1/1)
والآخر: ننسأْها أيضاً بسورة البقرة (1) .
وقال أحمد بن حنبل في إحدى الروايات: قراءة أبي عمرو أحبّ القراءات إليّ، هي قراءة قريش وقراءة الصحابة (2) . ويقال إنَّ هارون الرشيد أمر أبا محمد اليزيدي أن يقرئ أولاده بحرف أبي عمرو بن العلاء، وعلّل ذلك بقوله لفصاحته (3) . وقال اليزيدي: كان أبو عمرو قد عرض القراءات فقرأ من كل قراءة بأحسنها وبما يختار العرب ومما بلغه من لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء تصديقه في كتاب الله عزّ وجلّ (4) .
أمَّا أبو عمرو بن العلاء فاسمه زبان إمام العربية والإقراء مع الزهد والصدق والثقة، ليس في القُرَّاء السبعة أكثر شيوخاً منه، قرأ بمكة والمدينة والكوفة والبصرة على جماعة كثيرة، سمع أنس بن مالك وقرأعلى الحسن البصري وأبي العالية وسعيد بن جبير وعاصم بن أبي النجود وعبد الله بن إسحاق الحضرمي وابن كثير المكي وعكرمة مولى ابن عباس وابن محيصن ونصر عن عاصم ويزيد بن القعقاع المدني ويحيى بن يعمر العدواني.
روى القراءة عنه أيضاً جماعة كثيرة منهم مشهورون مثل أبي زيد الأنصاري والأصمعي وعيسى بن عمر ويحيى اليزيدي وسيبويه ويونس بن حبيب، وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، وقال عنه يونس بن حبيب تلميذه: لو قسّم علم أبي عمرو وزهده على مئة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً والله لو رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسرّه ما هو عليه (5) .
__________
(1) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(2) عبد الرحمن بن إسماعيل أبو شامة: كتاب إبراز المعاني من حرز الأماني، طبع البابي الحلبي، ص 5.
(3) مجلة الضياء، العدد الأول، طبع حكومة دبي، هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1398هـ، ص 84.
(4) شمس الدين بن عبد الله الذهبي: معرفة القُرَّاء الكبار، تحقيق جاد الحق، طبعة دار الكتب الحديثة، مصر، ص 8.
(5) ملخص عن معرفة القُرَّاء للذهبي، 1/87، وطبقات القُرَّاء، لابن الجزري، 1/288.(1/2)
هذا ولما كنتُ قد كتبتُ عن هذه القراءة في البحث الذي قدمته من قبل وشرحتُ فيه منظومة البهجة الفريدة للنشأة الجديدة في قراءة أبي عمرو تبيّن لي من خلال هذه الدراسة مميزات كثيرة لهذه القراءة عن بقية القراءات القرآنية الأخرى خاصة القراءات السبع، ولم أقف عند هذه المميزات كثيراً إذ لم تكن موضع البحث، كما أني قد درَّستُ هذه القراءة لطلبة كلية القرآن الكريم بأم درمان لعدد من السنين، وظهرت لي مميزات لها أثناء القراءة المتكررة مقارنة مع رواية حفص وورش، وظهر لي جلياً أنَّ لهذه القراءة مميزات تنفرد بها وتختص بها دون بقية القراءات الأخرى، فقد بيَّنتُ هذه المميزات في نقاط، وهي:
[1] اختصت هذه القراءة بمسائل الإدغام الكبير ولم يقرأ به غيره من القُرَّاء السبعة.
[2] أنَّ أبا عمرو كان يميل فيها إلى التخفيف ويترك التثقيل الذي يختاره غيره من القُرَّاء. قال مجاهد في السبعة عند استعراضه لأقوال الرواة عن أبي عمرو عند قوله تعالى ، يقول: "وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو لأنّه كان يستعمل في قراءته التخفيف كثيراً ثم يقول مرة أخرى في نهاية حديثه والقول ما أخبرتك به من أنّه كان يؤثر التخفيف في قراءته كلها، والدليل على إيثاره التخفيف أنّه كان يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره ويليّن الساكن من الهمز ولا يهمز همزتين وغير ذلك (1) .
[3] ولم يكن يلتزم التخفيف تماماً في كل قراءته بل نجده أحياناً يختار التثقيل ويكون اختياره هذا عندما تكون قراءته بالتشديد واختياره له يحمل وجهاً في القراءة وعمقاً في اللغة لا يحمله التخفيف.
__________
(1) أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد: كتاب السبعة في القراءات، تحقيق شوقي ضيف، طبع دار المعارف بمصر، ص 154.(1/3)
[4] ومن أبرز هذه السمات التي تميِّز هذه القراءة أنّ أبا عمرو كان يخالف القُرَّاء كثيراً في حروف أجمعوا عليها حيث يقول علماء القراءات: قرأ جمهور السبعة كذا وقرأ أبو عمرو كذا، وعند توجيه القراءة نجد اختيار أبي عمرو يحمل عمقاً في اللُّغة يكون أكثر دلالة على المعنى.
[5] تجده أحياناً يخيّر بين القراءتين وذلك إذا كان كل وجه يقرأ به يحمل معنى في اللُّغة جديراً بالاهتمام عنده. وفي اختياره للقراءة في كل ما ذكرنا عنه نجده أكثر القُرَّاء تمسُّكاً بالأثر والتزاماً به، ودليل ذلك ما قاله عن منهجه في القراءة: "لولا أن ليس لي أن أقرأ إلاَّ بما قُريء به لقرأت كذا كذا وكذا
كذا" (1) . فالقراءة عنده سنة متبعّة. قال الشاطبي:
وما لقياس في القراءة مدخل
[6] أمال إمالة محضة كلمة (النَّاس) المجرورة ولم يملها غيره من القُرَّاء.
[7] وتراه أحياناً يخالف الرسم العثماني الذي اتفقت المصاحف عليه في عدد من الكلمات القرآنية (2) ، حيث اختار في قراءته وجهاً يخالف ما عليه الرسم في المصاحف العثمانية، وبذلك يخالف ركناً من شروط صحة القراءة قال ابن الجزري في ذلك:
وكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالاً يحوي
__________
(1) غاية النهاية في طبقات القُرَّاء لابن الجزري، 1/290.
(2) مخالفة الرسم العثماني في بعض المواضع ليست مما ينفرد به أبو عمرو، فمما خولف فيه الرسم العثماني قراءة (السراط) و(سراط) أينما وجدا في القرآن، وهي قراءة قنبل من طريق ابن مجاهد، وكذا رويس، مع أنَّ الرسم لهذين الاسمين بالصاد الخالصة ووفق الرسم قرأ الباقون. هذا استدراك تفضل بكتابته مشكوراً فضيلة الشيخ/ أحمد محمد إسماعيل البيلي، وعزاه إلى الحسن بن أحمد بن الحسن الهمذاني العطار (ت 569هـ) في كتابه "غاية الاختصار"، طبعة 1414هـ، 2/403، وابن أبي مريم (ت 565 هـ) في كتابه: "الموضح في وجوه القراءات وعللها"، طبعة 1414هـ [التحرير]..(1/4)
وصح إسناداً هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنّه في السبعة
ونحن ـ إن شاء الله تعالى ـ نقف في هذا البحث مع هذه النقاط التي ذكرناها عن مميزات هذه القراءة ونقول مستعينين بالله:
[1] الإدغام الكبير
التخفيف من السمات البارزة التي تميّز قراءة أبي عمرو عن بقية القراءات حيث إننا نجد أبا عمرو يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره من القراء، ولهذا فقد اختصت هذه القراءة بمسائل الإدغام الكبير. قال الشاطبي:
ودونك الادغام الكبير وقطبه ... أبو عمرو البصري فيه تحفّلا
يقول أبو شامة في "إبراز المعاني" مشيراً إلى اختيار أبي عمرو للإدغام الكبير: إنّ مدار الإدغام الكبير على أبي عمرو فمنه أخذ وإليه أسند وعنه اشتهر من بين القُرَّاء السبعة (1) .
ويقول ابن القاصح شارحاً لهذا البيت: "ودونك إغراء"؛ أي: خذ الإدغام. وحقيقة الإدغام أن تصل حرفاً ساكناً بحرف متحرك فتصيّرهما حرفاً واحداً مشدداً يرتفع اللسان عنه ارتفاعة واحدة وهو بوزن حرفين. قوله: "وقطبه أبو عمرو": قطب كل شيء مِلاكه وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم، أي مدار الإدغام على أبي عمرو وهو منقول عن جماعة كالحسن وابن محيصن والأعمش إلاّ أنّه اشتهر عن أبي عمرو فنسب إليه فصار قطباً له يدور عليه كقطب الرحا، قوله فيه تحفّلا ... تحفّل أبو عمرو في أمر الإدغام من جمع حروفه ونقله والاحتجاج له يقال: احتفل في كذا أو بكذا والناظم نسب الإدغام إلى أبي عمرو (2) .
__________
(1) أبو شامة: إبراز المعاني، ص 61.
(2) سراج القارئ المبتدئ وتذكار المقرئ المنتهي لأبي القاسم علي بن القاصح، طبع دار الفكر، ص 33.(1/5)
وكان أبو عمرو يخصّ بقراءة الإدغام الكبير طائفة من تلاميذه الذين لهم إلمام واسع باللُّغة مع المعرفة التامة بوجوه القراءات، وفي ذلك يقول ابن الجزري: "وكان أبو عمرو يقرئ بهذه القراءة الماهر النّحْرِير الذي عرف وجوه القراءات ولغات العرب" (1) .
ويقول ابن الجزري في "النشر" عند ذكره لاختيار أبي عمرو للإدغام الكبير في قراءته قال أبو عمرو بن العلاء: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها ولا يحسنون غيره ومن شواهده في كلام العرب:
عشيةً تَمنى أن تكون حمامة ... بمكة يؤويك الستار المحرم
والإدغام في معناه الاصطلاحي: إدخال الحرف في الحرف، وكما يقول ابن الجزري: اللفظ بالحرفين كالثاني مشدّداً.
والكبير ما كان الأول من الحرفين فيه متحركاً سواء أكانا مثلين أم جنسين أم متقاربين، وسمي كبيراً لكثرة وقوعه إذ الحركة أكثر من السكون، وقيل لتأثيره في إسكان المتحرك قبل إسكانه وقيل لما فيه من الصعوبة (2) .
أَمَّا أحكام الإدغام الكبير؛ فإنَّ له شرطاً وسبباً ومانعاً، وشرطه التقاء المدغم بالمدغم فيه خطّاً، وأن يكون المدغم فيه أكثر من حرف إذا كان الإدغام من كلمة نحو (خلقكم). وسببه التماثل والتجانس والتقارب والأكثرون على الاكتفاء بالتماثل والتقارب، فالتماثل أن يتفقا ـ يعني الحرفين ـ مخرجاً وصفة، كالباء في الباء، والتاء في التاء، وسائر المتماثلين. والتجانس أن يتفقا مخرجاً ويتفقا صفة كالذال في الثاء، والثاء في الظاء، والتقارب أن يتقاربا مخرجاً أو صفة أو فيهما كالدال مع السين أو الشين (3) .
__________
(1) محمد بن محمد الجزري: النشر في القراءات العشر، إشراف علي محمد الضباع، طبع المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1/276.
(2) ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، 1/274.
(3) المصدر نفسه، 1/278.(1/6)
فإذا التقى المثلان فإمّا أن يكونا في كلمة أو كلمتين فإن كانا في كلمة فالمنقول عن أبي عمرو في رواية السوسي الإدغام ولم يقع من ذلك في القرآن إلاّ في كلمتين وهما: في البقرة،
و في المدثر، وأمّا ما عداهما من باقي باب المثلين من كلمة مثل (جباههم ووجوههم) فلم يدغمه السوسي. وفي ذلك يقول الشاطبي:
ففي كلمة عنه مناسككم وما ... سلككم وباقي الباب ليس مغوّلا
أمّا إذا التقى المثلان في كلمتين بأن يكون الأول آخر كلمة والثاني أول كلمة تليها فلا بُدّ من إدغام الحرف الذي وقع أولاً في الحرف الثاني إذا لم يكن هنالك مانع، وهذا النوع وقع في القرآن في سبعة عشر حرفاً وأمثلتها: (يأتي يوم، لا قبل لهم، يبتغ غير، الرحيم ملك، إنك كنت، الشوكة تكون، نصيب برحمتنا، فيه هدى، نحن نسبح، شهر رمضان، خلائف في الأرض، الناس سكارى، العفو وأمر، طبع على، حيث ثقفتموهم، النكاح حتى، الرزق قل) (1) .
وإلى هذا يشير الشاطبي بقوله:
وما كان من مثلين في كلمتيهما ... فلا بُدَّ من إدغام ما كان أولا
كيعلم ما فيه هدى وطبع على ... قلوبهم والعفو وأمر تمثلا
ووجهه طلب التخفيف ويعلّل لهذا صاحب إبراز المعنى بقوله: وإنّما فعلت العرب ذلك طلباً للخفّة لما ثقل التقاء الحرفين المتجانسين والمتقاربين على ألسنتهم (2) .
[2] الإدغام الصغير
الإدغام الصغير كما يقول ابن القاصح: "إدغام الحروف السواكن فيما قاربها وهو ما كان الحرف المدغم منه ساكناً. فمذهب أبي عمرو في هذا الباب إدغام حروف لم يدغمها غيره من القُرَّاء. ويتضح ذلك جلياً في الحديث عن إدغام (ذال إذ ودال قد وتاء التأنيث) ويمكننا أن نوضِّح مذهبه في هذا الباب بما ورد في "حرز الأماني" للشاطبي وشارحها ابن القاصح مع الاختصار.
__________
(1) إرشاد المريد إلى مقصود القصيد: الشيخ على محمد الضباع، طبع محمد علي صبيح، 1381هـ، ص 62.
(2) أبو شامة: إبراز المعاني، ص 60.(1/7)
يقول الشاطبي (1) عن ذلك مقدماً لإدغام هذه الحروف:
سأذكر ألفاظاً تليها حروفها ... بالاظهار والإدغام تُروى وتُجتلا
فدونك إذ في بيتها وحروفها ... وما بعد بالتقييد قُدهُ مُذللا
سأُسمي وبعد الواو تسمو حروف مَنْ في دال قد أيضاً وتاء مؤنث ... تسمّى على سيما تروق مُقّبلا
وفي هل وبل فاحتل بذهنك أحيلا
ثم يبدأ بـ (ذال إذ):
نَعمْ إذ تمشّت زينب صال دَلّها ... سَميَّ جمال واصلاّ من توصلا
فإظهارها أجرى دوام نسيمها ... وأظهر رَيَّا قوله واصِفٌ جَلا
يقول ابن القاصح بعد توضيحه لمذهب القُرَّاء في إدغام (ذال إذ) هذه: "توضيح، القُرَّاء في فصل ذال إذ على ثلاث مراتب: منهم من أظهرها عند حروفها الستة، وهم: نافع، وابن كثير، وعاصم، ومنهم من أدغمها في حروفها الستة، وهما: أبو عمرو وهشام، ومنهم من أظهرها عند بعضها وأدغم في بعضها، وهم: الكسائي، وخلف، وخلاد، وابن ذكوان. فأمّا الكسائي وخلاد فإنّهما أظهراها عند الجيم وأدغماها فيما بقي، وأمّا خلف فإنّه أدغم في التاء والدال وأظهر عندما بقي، وأمَّا ابن ذكوان فإنّه أدغم في الدال وأظهر عندما بقي (2) .
وفي الحديث عن (دال قد) يقول الشاطبي:
وقد سحبت ذيلاّ ضفا ظل زرنب ... جلته صباه شائقاً ومُعَللاّ
فاظهرها نجم بدا دلّ واضحاً ... وأدغم في ورش ضر ظمآن وامتلا
((وأدغم (مُـ)ـروٍ واكِفٌ ضَيْرَ (ذ) ابل ... (ز)وى (ظِ)لّه وغر تسداه كلكلا))
وفي حَرفِ زينّا خلافٌ ومظهرٌ ... هشامٌ بصاد حرفه متحمّلا
__________
(1) الشاطبية بشرح سراج القاري: ابن القاصح (ت 801هـ)، طبعة 1954م، القاهرة، ص 92.
(2) سراج القاري لابن القاصح، ص 94.(1/8)
يقول ابن القاصح ملخصاً لمذهب القُرَّاء في إدغام (دال قد) بعد تفصيله لهذا الباب وتوضيح مذهب كل قارئ: "(توضيح) القُرَّاء في (دال قد) على ثلاث مراتب: منهم من أظهرها عند حروفها الثمانية بلا خلاف، وهم: قالون، وابن كثير، وعاصم. ومنهم من أدغمها في حروفها الثمانية، وهم: أبو عمرو، وحمزة، والكسائي. ومنهم من أظهر عند بعضها وأدغم في بعضها، وهم: ورش، وابن ذكوان، وهشام.
أمّا ورش فإنّه أدغم في الضاد والطاء وأظهرها عند الستة الباقية، وأمّا ابن ذكوان فإنّ الأحرف الثمانية عنده على ثلاث مراتب، منها أربعة أظهر عندها بلا خلاف، وهي: السين، والصاد، والجيم، والشين، ومنها ثلاثة أدغم فيها بلا خلاف، وهي: الضاد والطاء والذال، ومنها حرف واحد اختلف عنه فيه، وهو الزاي. وأمّا هشام فإنّه أظهر (قال لقد ظلمك) وأدغم في السبعة البواقي (1) .
وأمّا عن ذكر تاء التأنيث فيقول الشاطبي:
وأبْدت سَنا ثَغْر صَفَتْ زُرق ظَلْمِهِ ... جمعن وروداً بارداً عطر الطِلاّ
فإظهاره دُرٌّ نمته بدوره ... وأدغم ورش ظافراً ومحوّلا
وأظهر كهف وافرٌ سَيبُ جُوده ... زكيٌ وفيٌّ عُصْرَةً ومُحَللاّ
وأظهر راويه هشام لهُدِّمتْ ... وفي وجبت خلف ابن ذكوان يفتلا
ويلخص ابن القاصح مذاهب القُرَّاء في هذا الباب بعد توضيحه لمذهب كل قارئ بقوله:
توضيح: القُرَّاء في تاء التأنيث على ثلاث مراتب: منهم من أظهرها عند جميع حروفها، وهم: عاصم، وقالون، وابن كثير. ومنهم من أدغمها في حروفها الجميع، وهم: أبو عمرو، وحمزة، والكسائي. ومنهم من أظهرها عند بعضها وأدغمها في بعضها، وهما: ورش وابن عامر (2) .
__________
(1) سراج القرائ لابن القاصح، ص 95.
(2) المصدر السابق، ص 96.(1/9)
ومما ذكر في هذا الباب يتضح لنا مذهب أبي عمرو في الإدغام الصغير، فهو قد أدغم كل هذا الباب بلا استثناء بخلاف غيره من القُرَّاء والرواة الذين نجدهم يدغمون أحياناً ويظهرون أحياناً أخرى مما يؤيد لنا القاعدة التي ذكرناها من قبل أنَّ أبا عمرو يدغم من الحروف ما لا يدغمه ويميل في قراءته غالباً إلى التخفيف الذي أصبح سمة بارزة لقراءته.
[3] إسكان بارئكم ويأمركم
ومن هذا التخفيف الذي اشتهرت به قراءة أبي عمرو عند توالي الحركات في الكلمة الواحدة نجده يسكّن الحرف إذا توالت الحركات، ويظهر ذلك في عدد من الكلمات في كتاب الله وقد اهتم الشاطبي بهذا الباب وأفرد له حيزاً في منظومته "حرز الأماني ووجه التهاني" حيث يقول:
وإسكان بارئكم ويأمركم له ... ويأمرهم أيضاً وتأمرهم تلا
وينصركم أيضاً ويشكركم وكم ... جليل عن الدوري مختلساً جلا
قال ابن القاصح: الهاء في له عائد على أبي عمرو المتقدم الذكر، يعني أنَّ إسكان الكلم الست المذكورة في البيتين لأبي عمرو ويريد إسكان الهمزة في بارئكم في الموضعين وإسكان الراء فيما بقي حيث وقع، وجملته اثنا عشر موضعاً، ثم يفصل هذه المواضع ويردف في ذلك قائلاً: ثم أخبر أنَّ كثيراً ممن يوصف بالجلالة من العراقيين روى عن الدوري الاختلاس، وهي الرواية الجيدة المختارة وكيفية الاختلاس أن تأتي بثلثي الحركة (1) .
يقول الإمام أبو زرعة في كتابه: "حجة القراءات" عند حديثه عن قول القُرَّاء في كلمة (بارئكم ويأمركم وينصركم): "قرأ أبو عمرو بالاختلاس، وحجته في ذلك أنّه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة، ورُوِيَ عنه إسكان الهمزة" (2) .
__________
(1) المصدر السابق، ص 150.
(2) حُجَّة القراءات، للإمام أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد، تحقيق سعيد الأفغاني، مؤسسة الرسالة، ط/3، 1402هـ ـ 1982م، ص 97.(1/10)
ولم يسلم هذا الوجه الذي اختاره أبو عمرو وقرأ به في هذه الكلمات من إنكار النحويين خاصة سيبويه الذي اتهم الراوي بهذه القراءة بعدم الضبط وعدم التثبت والظن في النقل حيث قال: وأمّا الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاساً يسرعون اللفظ ومن ثَمَّ قال أبو عمرو (إلى بارئكم). ويدلُّ على أنها متحركة وليست ساكنة... إلى أن يقول: وقد يجوز أن يسكّنوا الحرف المرفوع والمجرور في الشعر، ويضيف واصفاً للراوي بعدم الضبط والظن في النقل: إنَّ الراوي لم يضبط عن أبي عمرو لأنّه اختلس فظن أنّه سكّن (1) .
ويوافق ابن جني سيبويه في إنكار هذه القراءة ويصف الراوي بعدم الدارية والضبط حيث قال في حديثه عن الاختلاس عند القُرَّاء بعد أنْ ذكر بعض المواضع التي اختلس فيها أبو عمرو الحركة قال: "وكذلك قوله عزَّ وجلَّ مختلساً غير ممكن كسر الهمزة حتى دعا ذلك من لطف عليه تحصيل اللفظ إلى أن ادّعى أنّ أبا عمرو كان يسكّن الهمزة، والذي رواه صاحب الكتاب اختلاس هذه الحركة لا حذفها البتة، وهو أضبط لهذا الأمر من غيره من القُرَّاء الذين رووه ساكناً، ولم يؤت القوم من ضعف أمانة لكن أتوا من ضعف دراية" (2) .
وقد أنكر أبو شامة في "إبراز المعاني" هذه القراءة وامتدح رواية الاختلاس قال بعد ذكر الإسكان ورواته: "ورواية العراقيين عن أبي عمرو: الاختلاس، وهي الرواية الجيدة المختارة، فإنَّ الإسكان في حركات الإعراب لغير إدغام ولا وقف ولا اعتلال منكر، فإنّه على مضادة حكمة الإعراب، وجوَّزه سيبويه في ضرورة الشعر" (3) .
ومنع المبرد أيضاً قراءة التسكين وزعم أنَّ قراءة أبي عمرو لحن، قال أبو حيان في "البحر المحيط" عند حديثه عن الاختلاس في قوله تعالى
__________
(1) عمرو أبو بشر سيبويه، الكتاب، ط/1، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، 1326هـ، 2/297.
(2) عثمان أبي الفتح بان جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى، بيروت، 1/77.
(3) أبو شامة: إبراز المعاني، ص 231.(1/11)
قال: "ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب وزعم أنَّ قراءة أبي عمرو لحن" (1) .
وقد دافع عن أبي عمرو في هذه القراءة جماعة من علماء القراءات والنحو نذكر منهم: أبا عمرو الداني، وابن الجزري، وأبا شامة، وابن خالويه، وأبا حيان، والفرّاء.
فهؤلاء قد أجازوا الإسكان ودافعوا عنه موجهين للقراءة به ومحتجين بأنَّ ذلك وارد في لغة العرب. فالفراء قد أجاز الإسكان وقبله، جاء في تفسير الفخر الرازي عند قوله تعالى بسورة هود ما نصّه:"أجاز الفراء إسكان الميم الأولى، وروى ذلك عن أبي عمرو وذلك أنَّ الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضاً مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة
ثقيلة" (2) .
ومن شراح الشاطبية مَنْ أجاز الإسكان بعد إنكاره وامتدح قراءة الاختلاس، قال أبو شامة: "قال الشيخ في شرحه وقد ثبت الإسكان عن أبي عمرو والاختلاس معاً ووجه الإسكان أنَّ من العرب من يجتزئ بإحدى الحركتين عن الأخرى، وقد عزا الفراء ذلك إلى بني تميم وبني أسد وبعض النجديين، وذكر أنّّهم يخفون مثل يأمركم فيسكّنون الراء لتوالي الحركات.
وقد دافع عن الإسكان في قراءة أبي عمرو الإمام ابن خالويه واهتم بتوجيه هذه القراءة واستشهد لها بقول امرئ القيس، حيث يقول في قوله تعالى : رواه اليزيدي عن أبي عمرو لإسكان الهمزة فيه، وفي قوله: (يأمركمْ وينصركم) يسكّن ذلك كراهية لتوالي الحركات، يقول امرئ القيس:
فاليوم أشربْ غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل
أراد أشربُ فأسكن الباء تخفيفاً.
__________
(1) أثير الدين أبي محمد بن يوسف أبو حيان: تفسير البحر المحيط، طبع مطابع النصر الحديثة، الرياض، السعودية،
1/206.
(2) محمد فخر الدين: التفسير الكبير، ط/1، المطبعة البهية المصرية، 1357هـ، 17/214.(1/12)
وحكى سيبويه عن هارون: (بارئكم) باختلاس الهمزة والحركة لما رواه اليزيدي عنه بالإسكان لأنّ أبا عمرو كان يميل إلى التخفيف فيرى من سمعه يختلس بسرعة أنّه أسكن (1) .
وعليه فإنَّ القراءة بالإسكان صحيحة من الناحية العربية فهي لغة تميم وبني أسد وبعض النجديين، كما أنّ لها وجهاً في العربية ومع ذلك كله ثبوتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رواها الثقة.
ودافع إمام الفن ابن الجزري وأبو حيان الأندلسي عن هذه القراءة قال ابن الجزري: "إنَّ القُرَّاء الذين نقلوا الإسكان في (بارئكم) قد نقلوا الاختلاس وليس مقبولاً أن يكونوا أساءوا السمع عن أبي عمرو في الأولى ولا يسيئونه في الثانية، هذا مما لا يشك فيه ذو لب ولا يرتاب فيه ذو فهم، وإذن فلا وجه لاتهامهم بضعف الدارية، فإنَّ من يزعم أنَّ أئمة القُرَّاء ينقلون حروف القرآن من غير تحقيق ولا بصيرة ولا توقيف فقد ظنّ بهم ما هم منه مبرءون وعنه منزهون (2) .
وينقل ابن الجزري قول الإمام أبي عمرو الداني يقول قال الداني: "والإسكان أصحّ في النقل وأكثر في الأداء، وهو الذي اختاره وآخذ به. ثمَّ قال: وأئمة القُرَّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللُّغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عندهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأنّ القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها" (3) .
__________
(1) الحُجَّة في القراءات السبع، للإمام ابن خالويه الحسين بن أحمد، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، ط/5، مؤسسة الرسالة، 1990م، ص 78.
(2) ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، 2/214.
(3) المصدر السابق، 1/60.(1/13)
وممن انتصر لقراءة الإسكان عن أبي عمرو ودافع عنها وذكر أنَّها من صميم العربية وأنَّ مَنْ روى الإسكان هو أبصر النّاس بالعربية وأدرى بها محقق كتاب: "الخصائص" لابن جني، وهو الشيخ محمد علي النجار، حيث يقول معلقاً على ما ذهب إليه في الطعن في قراءة أبي عمرو واتهام الراوي لها بعدم الدراية وهو أبو محمد اليزيدي قال: وهذا الذي رواه الكتاب رواه الفراء أيضاً ورووا معه الإسكان، وممن روى الإسكان أبو محمد اليزيدي، وهو مَنْ هو في القراءة والبصر بالعربية، ومثل أبي محمد ما كان ليُرمى بإساءة السمع، وقد روى أدق من هذا عن أبي عمرو فقد ذكر أنَّ أبا عمرو كان يشم الهاء من (يهدي) والخاء من (يخصمون) شيئاً من الفتح وهذا من اللطف بمكان.
ثم وجّه قراءة الإسكان ودافع عنها حيث قال: "وقد أفاض العلماء في بيان أنَّ العرب قد تعمد للإسكان تخفيفاً وأنَّ تسكين المرفوع في نحو (يشعركم) لغة تميم وأسد، ثم قال معقباً على ما قاله ابن جني فيما حكاه عن سيبويه فلا وجه للإسكان من جهة الدارية، وابن جني في الطعن على القراءة في هذا الموطن تابع للمبرد قبله، وهذه نزعة جانبه فيها الإنصاف (1) .
فالإسكان الذي اختاره أبو عمرو وقرأ به هو لغة تميم وأسد وبعض نجد، وتميم من أفصح القبائل العربية ويؤكد ذلك ويرويه أبو العالية حيث يقول: "قرأ عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كل خمسٍ رجل فاختلفوا في اللغة فرضي قراءتهم كلهم، فكان بنو تميم أعرب العرب" (2) .
وأبو عمرو من هذه القبيلة، فهو تميمي الأصل، وهو أدرى بلغة قومه، والعربي ـ كما يقولون ـ: سيد لغته، أضف إلى كل هذا أنَّ هذه القراءة أخذها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) عثمان أبي الفتح بن جني: كتاب الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت، 1/72 (الهامش).
(2) تفسير الطبري، 1/45.(1/14)
أمَّا أبو محمد اليزيدي الذي روى هذه القراءة عن أبي عمرو فهو أحد الأعلام البارزين في لغة العرب، كما أنَّه أحد النحاة المشهورين، ومع هذا فقد اختص بنقل هذه القراءة عن أبي عمرو وكان في إتقانها وجودة نقلها أبرز من روى عن أبي عمرو وأميزهم على كثرة الرواة عنه حتى قالوا عنه: "إنَّه كان الغاية في قراءة أبي عمرو، فما كان للنحاة أنْ يصفوه بعدم الضبط والرواية وقد غاب عنهم أنَّ وظيفته الأولى التي عُرف بها واشتهر بها من بين رواة أبي عمرو على كثرتهم هي الضبط والأداء وصحة النقل (1) .
[4] إسقاط إحدى الهمزتين المتفقتين في الحركة
ومن المميزات التي اختصت بها قراءة أبي عمرو إسقاط إحدى الهمزتين المتفقتين في الحركة، وقد انفرد أبو عمرو بهذا الإسقاط للهمزة عن بقية القُرَّاء السبعة اختياراً للتخفيف الذي هو سمة بارزة في قراءته، قال الشاطبي:
وأسقط الأُولى في اتفاقهما معاً ... إذا كانتا من كلمتين فتى العلا
كجا أَمرنا من السما إِنَّ أوليا ... أُولئك أنواع اتفاق تجمّلا
قال ابن القاصح في شرحه: "حذف أبو عمرو بن العلاء الهمزة الأولى من همزتي القطع المتفقتين في الحركة إذا تلاصقتا بأن تكون الهمزة الأولى في آخر الكلمة، والهمزة الثانية في أول الكلمة الأخرى، وليس بينهما حاجز" (2) .
قال أبو شامة موجهاً لما اختاره أبو عمرو في هذه القراءة: "ووجه القراءة في إسقاط الأولى وتحقيق الثانية أنَّ مذهب أبي عمرو الإدغام في المثلين ولم يمكن هنا لثقل الهمزة غير مدغم فكيف به مشدّداً فعدَّل إلى الإسقاط واكتفى به (3) .
وهذا الإسقاط للهمزة الأولى الذي اختص به أبو عمرو وانفرد يه في قراءته عن سائر القراءات القرآنية أصبح ميزة من مميزات هذه القراءة.
__________
(1) انظر: ابن الجزري: طبقات القُرَّاء، 2/375.
(2) سراج القارئ المبتدئ، لابن القاصح، ص 70.
(3) أبو شامة: إبراز المعاني، ص 104.(1/15)
وأمثلة هذا الاتفاق بين الهمزتين كما ورد في بيت الإمام الشاطبي يكون بالفتح مثل: (جاءَ أمرنا)، والكسر مثل: (من السماءِ إِن)، والضم مثل: (أولياءُ أُولئك).
وهناك اختلاف بين القُرَّاء والنَّحويين، فالقُرَّاء يسقطون الأولى عن أبي عمرو، وأمَّا النحاة فيرون أنَّ أبا عمرو يخفّف الأولى من المتفقتين والمختلفتين جميعاً. قال أبو شامة مشيراً إلى هذا الخلاف: "وهذا نقل علماء القراءات عن قراءة أبي عمرو بإسقاط الهمزة، ثمَّ منهم من يرى أنَّ الساقِطة هي الأولى، لأنَّ أواخر الكلم محل التغيير، ومنهم من يجعل الساقِطة هي الثانية، لأنَّ الثقل بها حصل. والذي نقله النحاة عن أبي عمرو أنّه يخفف الأولى من المتفق والمختلف، والقُرَّاء على خلاف ما حكاه النحويون عنه، ذلك أنّهم يقولون: الهمزتان إذا التقتا بحركة واحدة حذفت إحداهما من غير أن تجعلها بين بين" (1) .
ومما يتعلق بهذا الإسقاط للهمزة الأولى أو الثانية فإن كانت الساقطة الأولى فالمدّ من قبيل المنفصل، وإن كانت الساقطة الثانية فالمد من قبيل المتصل، قال ابن القاصح: "ومن فوائد هذا الخلاف ما يظهر في نحو: (جاء أمرنا) من حكم المدّ، فإن قيل الساقطة هي الأولى كان المد من قبيل المنفصل، وإن قيل هي الثانية كان المدّ من قبيل المتصل" (2) .
__________
(1) المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(2) ابن القاصح: سراج القارئ المبتدئ، ص 87.(1/16)
وهذا التخفيف الذي تحدثنا عنه وأصبح مميزاً لقراءة أبي عمرو عن بقية قراءات القرآن الكريم نجد أبا عمرو أحياناً لا يختاره ويختار التثقيل خلافاً لما عهدنا عنده وعرفناه به ويكون هذا التشديد الذي يختاره ويقرأ به يحمل وجهاً في القراءة وعمقاً في اللُّغة لا يحمله التخفيف مع التزام القارئ بالأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحيد عنه، وأقرب ما وجدناه يوضح هذا المعنى في مطالعتنا لتوجيه هذه القراءة ما ذكره ابن خالويه في كتابه: "الحُجَّة في القراءات السبع"، حيث قرأ أبو عمرو بالتشديد مرة وبالتخفيف مرة في فعل واحد ولكن في آيات مختلفة.
ففي قوله تعالى في سورة آل عمران (1) فقد قرأ كلمة (يُبشّرك) بالتشديد بضمّ الياء مع تشديد الشين، والقراءة الأخرى بفتح الياء مع التخفيف. قال ابن خالويه: وهما لغتان فصيحتان، والتشديد أكثر والتخفيف حسن مستعمل.
فإن قيل: لِمَ خالف أبو عمرو أصله فخفّف قوله (2) ، فقل: إنَّ أبا عمرو فرّق بين البشارة والنضارة، فما صحبته الباء (3) شدّد فيه، لأنّه من البشرى، وما سقط منه الباء خفّفه (4) ، لأنّه من الحسن والنضارة، وهذا من أدلّ الدليل على معرفته بتصاريف الكلام، غير أنَّ التخفيف لا يقع إلاَّ فيما سرّ، والتشديد يقع فيما سرّ وضرّ" (5) .
[5] مخالفة القُرَّاء في حروف أجمعوا على قراءتها
__________
(1) سورة آل عمران، الآية (45).
(2) سورة الشورى، الآية (23).
(3) يقصد إذا تعدى بالباء كقوله تعالى نبشرك بكلمة .
(4) كقوله تعالى .
(5) ابن خالويه: الحُجّة في القراءات السبع، ص 109.(1/17)
من المميزات التي تميِّز هذه القراءة عن بقية قراءات القرآن الكريم أنَّ صاحبها كثيراً ما يخالف القُرَّاء في حروف أجمعوا عليها (1) ،
__________
(1) انفراد الإمام المقرئ في بعض المواضع بقراءة تخالف قراءة جميع الأئمة الآخرين أمر لم ينفرد به الإمام أبو عمرو ابن العلاء، بل يشاركه فيه أئمة آخرون، فمثلاً الإمام ابن كثير خالف إجماع القُرَّاء في قوله تعالى [البقرة: 37]، فإنَّ الأئمة التسعة قرأوا برفع (آدمُ) على الفاعلية ونصب (كلماتٍ) على المفعولية، وقرأ ابن كثير بنصب (آدمَ) على المفعولية، ورفع (كلماتٌ على الفاعلية). هذا تعليق طيب تفضَّل بكتابته مشكوراً فضيلة الشيخ/ أحمد محمد إسماعيل البيلي، وعزاه إلى الهمذاني العطار في كتابه "غاية الاختصار"، 2/407، وابن أبي مريم، الموضح، 1/230 [هيئة التحرير]. يقول فضيلة الشيخ/ البيلي: "واختلاف قراءة ابن كثير في آية البقرة هذه اختلاف نحوي، فقد قرأ بنصب (آدم) وهو في قراءة غيره مرفوع، وقرأ برفع (كلمات) وهي في قراءة غيره منصوبة. وهاك مثلاً آخر لمخالفته إجماع القُرَّاء، فقد قرأ قوله تعالى
[التوبة: 100]، فإنَّ جميع القُرَّاء قرأوا (تَحتَها) بنصب (تَحْتَها) ما عدا ابن كثير الذي قرأ: مِنْ تَحْتِهَا بزيادة (من) حرف الجر، وترتب على وجود حرف الجر أنْ يكون الظرف مجروراً". وأحاله إلى: غاية الاختصار، 2/510، والموضح، 2/603. ثم قال: "والاختلاف بين القراءات نحوياً أحد الأحرف السبعة التي نصَّ عليها الحديث النبوي الصحيح".(1/18)
حيث يقول علماء القراءات: قرأ جمهور السبعة كذا وقرأ أبو عمرو كذا، عند بحثنا عن هذا الاختيار الذي ذهب إليه أبو عمرو واختاره نجده يحمل عمقاً في اللغة وأكثر دلالة على المعنى، وعند ذلك ندرك سبب اختياره لهذه القراءة التي خالف فيها جمهور القُرَّاء وأمثلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى، فمثلاً في سورة نوح - عليه السلام - في قوله تعالى (1) قال ابن خالويه: "إجماع القُرَّاء على جمع السلامة إلاَّ أبا عمرو فإنّه قرأه (خطاياهم) على جمع التكثير وقال: إنَّ قوماً كفروا ألف سنة لم يكن لهم إلاَّ خطيئات (2) بل خطايا.
ومن أمثلة ذلك في سورة لقمان في قوله تعالى (3) ، قال ابن خالويه موجهاً لاختيار القُرَّاء في هذه الآية: "قوله تعالى يقرأ بالرفع والنصب، والحُجَّة لمن رفع أنّه رده على (ما) قبل دخول (أنَّ) عليها أو استأنفه بالواو كما قال (4) ، والحُجَّة لمن نصب أنَّه رده على اسم (أنَّ) (5) .
فإن قيل إنّ شرط أبي عمرو أن يرفع المعطوف على (أنّ) بعد تمام الخبر كقوله (6) ، فقل حجته بذلك أنّ (لو) تحتاج إلى جواب يأتي بعد الابتداء والخبر، فكان المعطوف عليها كالمعطوف على (أنّ) قبل تمام خبرها، والدليل على ذلك أنَّ تمام الخبر ها هنا في قوله ، وهذا أدلّ دليل على دقة تمييز أبي عمرو ولطافة حذقه للعربية" (7) .
__________
(1) سورة نوح، الآية (25).
(2) لأنّ جمع المؤنث السالم من جمع القلة.
(3) سورة لقمان، الآية (27).
(4) سورة آل عمران، الآية (154).
(5) الصحيح أنَّ أبا عمرو لم ينفرد بهذه القراءة، فهي قراءة يعقوب أيضاً، وقرأ بالرفع الباقون. انظر: ابن غَلْبُون
"ت 399هـ": التذكرة، 2/497، وغاية الاختصار، 2/615.
(6) سورة الجاثية، الآية (32).
(7) ابن خالويه: الحُجَّة في القراءات السبع، ص 286.(1/19)
كما أنّا نجد أنَّ الإمام أبا زرعة أيضاً يختم قوله بعد توجيهه لقراءة أبي عمرو في هذا الحرف بقوله: "وهذا من حذق أبي عمرو" (1) .
ومن أمثلة مخالفته للقُرَّاء في حروف أجمعوا على قراءتها في قوله تعالى في
سورة يوسف: (2) ، قال أبو زرعة في حُجَّته: "قرأ أبو عمرو (وقلن حاشا لله) بالألف، وحُجَّته ذكرها اليزيدي فقال: يقال: (حاشاك، وحاشا لك)، وليس لأحد من العرب يقول: (حاشك)، ولا (حاش لك) وقرأ الباقون (حاش لله) وحُجّتهم أنّها مكتوبة في المصاحف بغير ألف" (3) .
ولعلمه باللُّغة ومعرفته بها نجده أحياناً يخيّر بين القراءتين وذلك إذا كان كل وجه يقرأ به يحمل معنى جديراً بالاهتمام عنده ونجد هذا واضحاً في قوله تعالى في سورة آل عمران:
(4) ، قال ابن خالويه: "يقرأ بالياء والتاء والأمر فيهما قريب، فمن قرأها بالتاء جعل الخطاب للحاضرين وأدخل الغُيّب في الجملة، ومن قرأها بالياء وجّه الخطاب إلى الغُيَّب وأدخل الحاضرين في الجملة، ولهذا المعنى كان أبو عمرو يخيّر بينهما" (5) .
[6] إمالة كلمة (النّاس) المجرورة
من مميزات قراءة أبي عمرو أنّه أمال كلمة الناس المجرورة إمالة كبرى حيث وقع، فلم يؤثر عن أحد من القُرَّاء السبعة أنّه أمال هذه الكلمة غير أبي
عمرو (6) .
وذكر ابن الجزري أنَّ إمالة كلمة (النّاس) في موضع الجر لغة أهل
الحجاز (7) .
قال الشاطبي:
__________
(1) حُجَّة القراءات لأبي زرعة، ص 567.
(2) سورة يوسف، الآية (31).
(3) حُجَّة القراءات لأبي زرعة، ص 359.
(4) سورة آل عمران، الآية (115).
(5) ابن خالويه: الحُجَّة في القراءات، ص 113.
(6) استدرك فضيلة الشيخ/ البيلي على الباحث بقوله: "إنَّ الإمام الكسائي يشاركه ـ أي أبو عمرو ـ في إمالة (النَّاس) المجرورة هنا وحيثما جاءت مجرورة، والكسائي من السبعة باتفاق. انظر: الموضح، لابن أبي مريم، طبعة 1414هـ، 3/1418.
(7) ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، 2/62.(1/20)
وخُلْفُهمُ في الناس في الجر حُصّلا
قال ابن القاصح شارحاً ما ذكره الشاطبي: "وقولهم في الجرِّ أي وخلف الرواة في إمالة الناس نحو من الناس وبالناس عن المشار إليها بالحاء في قوله حصلا، وهو أبو عمرو فروى عنه إمالته ورُوِيَ عنه فتحه لكل من الدوري والسوسي وجهان: الفتح والإمالة، والترتيب أن يقرأ بالإمالة للدوري وبالفتح للسوسي، وهو نقل السخاوي عن الناظم" (1) .
والإمالة في اصطلاح القُرَّاء كما يقول ابن الجزري: "الإمالة أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء كثيراً، وهو المحض ويقال له الإضجاع، ويقال له البطح، وربما قيل له في الكسر أيضاً وقليلاً وهو بين اللفظين، ويقال أيضاً التقليل والتلطيف وبين بين وكلاهما جاز في لغة العرب، والإمالة الشديدة يجتنب معها القلب الخالص والإشباع المبالغ فيه، والإمالة المتوسطة بين الفتح المتوسط وبين الإمالة الشديدة" (2) .
[7] مخالفة رسم المصاحف العثمانية
القارئ لقراءة أبي عمرو البصري يجد أنَّ هنالك كلمات قرآنية قرأها أبو عمرو بقراءة خالف فيها رسم المصاحف العثمانية، وتحدث علماء القراءات عن هذه الكلمات وأشاروا إلى هذه المخالفة للرسم العثماني واختارها أبو عمرو في قراءته ونقلها عنه الثقات أمثال أبو محمد اليزيدي وأبو عمر الدوري وثبت ذلك في كتب القراءات.
__________
(1) ابن القاصح: سراج القارئ المبتدئ، ص 115.
(2) ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، 2/30.(1/21)
من هذه الآيات التي قرأ بها أبو عمرو بقراءة خالف فيها رسم المصاحف العثمانية كلمة (1) ، في سورة طه. قال الضباع في شرحه للشاطبية: قرأ حفص (إن هذان) بإسكان نون إن وتخفيف نون هذان مع ألف قبلها، وابن كثير بإسكان نون إن أيضاً وهذان بالألف وتشديد النون ولا بُدَّ له من الإشباع للساكنين، وأبو عمرو بتشديد نون إِنَّ وهذين بياء ساكنة مكان الألف وتخفيف النون، والباقون بتشديد نون إنَّ وهذان بالألف وتخفيف النون" (2) .
هذه هي القراءات؛ أمّا الرسم فقد اتفقت المصاحف على حذف الألف من هذان. قال الداني بسنده إلى أبي عبيد القاسم بن سلام: رأيتُ في الإمام مصحف عثمان بن عفان استخرج لي من بعض خزائن الأمراء، ورأيتُ فيه أثر دمه إلى أن قال في طه (إن هذان) (3) .
قال في "إتحاف فضلاء البشر" مدافعاً عن قراءة أبي عمرو وموجهاً لها مع مخالفتها لرسم المصاحف: "وقرأ أبو عمرو (إِنَّ) بتشديد النون و(هذين) بالياء مع تخفيف النون، وهذه القراءة واضحة من حيث الإعراب والمعنى، لأنّ هذين اسم إِنَّ نصب بالياء وساحران خبرها، دخلت اللام للتأكيد، ولكن استشكلت من حيث خطّ المصحف، وذلك أنَّ هذين رسم بغير ألف ولا ياء (هذن) في جميع المصاحف قال: ولا يرد هذا على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم بما هو خارج عن القياس مع صحة القراءة به وتواترها، وحيث ثبت تواتر القراءة فلا يلتفت لطعن طاعن" (4) .
قال أبو شامة شارحاً لقول الشاطبي: وهذين في هذان حج.
__________
(1) سورة طه، الآية (63).
(2) علي محمد الضباع: إرشاد المريد إلى مقصود القصيد (شرح الشاطبية)، مكتبة محمد على صبيح، 1381هـ ـ 1961م، ص 374.
(3) عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو: المقنع في معرفة مرسوم مصاحف الأمصار، طبع مطبعة الترقي، دمشق،
1359هـ، ص 15.
(4) أحمد بن محمد الدمياطي: إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، تعليق علي محمد الضباع، طبع عبد الحميد حنفي بمصر، ص 304.(1/22)
"قرأ أبو عمرو (إنَّ) لأنّه اسم إنَّ فهذه قراءة جلية أيضاً فلهذا قال حج أي غلب في حجته لذلك" (1) .
وينقل أبو شامة رأي الزجاج في هذه القراءة واعتراضه عليها وأنّها خالفت رسم المصحف حيث يقول: "قال الزجاج: وأمّا قراءة أبي عمرو فلا أُجيزها لأنّها خلاف المصحف، وكلما وجدت إلى موافقة المصحف سبيلاً لم أجز مخالفته، لأنّ اتباعه سنة وما عليه أكثر القُرَّاء (2) .
ويرد على الزجاج وغيره من النحاة الذين هاجموا أبا عمرو في قراءته هذه وأنكروها عليه الدكتور/ أحمد مكي الأنصاري في كتابه: "الدفاع عن القرآن ضد النَّحويين والمستشرقين" حيث يقول: "كان من المنتظر أن يتقبلوا قراءة أبي عمرو بقبول حسن لأنّها تتفق مع قواعدهم في إعراب المثنى بالياء في حال النصب بخلاف قراءة الألف فإنّها تخالف في ظاهرها ما وضعوه من القواعد المصنوعة، ولكنَّ أحداً من القُرَّاء لم يسلم من الغمزات فضلاً عن التخطيء والتجريح الصريح، من ذلك ما قالوه في قراءة أبي عمرو من الغمز الخفيف والهجوم العنيف تارة أخرى، استمع إلى الفراء يغمز أبا عمرو بن العلاء ويصفه بالجرأة في حياء حيث يقول معقباً على قراءته بالياء: ولست (اجترئ على ذلك)، ثم استمع إلى الزجاج يهاجم هذه القراءة ويردها في صراحة فيقول: لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنّها خلاف المصحف، يقول ذلك وكأنَّ أبا عمرو قد اخترعها اختراعاً دون أنْ يكون له سند قوي من الرواية الموثوق بها كل الثقة وأبو عمرو هو مَنْ هو ثقة وعدلاً وضبطاً واتباع أثر، وهو يعلم علم اليقين أنَّ القراءة سنة متبعة وما كان له أن يخالف ذلك في قليل أو كثير" (3) .
__________
(1) أبو شامة: إبراز المعاني، ص 396.
(2) نفس المصدر، ونفس الصفحة.
(3) د. أحمد مكي الأنصاري: الدفاع عن القرآن ضد النحويين والمستشرقين، طبع دار الاتحاد العربي، نشر دار المعارف، 1973م، ص 62.(1/23)
ومن هذه الكلمات التي قرأها أبو عمرو مخالفاً في قراءتها لجمهور القُرَّاء ورسوم المصاحف العثمانية كلمة (وأكون) بسورة المنافقون في قوله تعالى
(1) ، فقد رسمت هذه الكلمة بحذف الواو في المصاحف العثمانية على ما نقله الداني قال: حدثنا الخاقاني قال: حدثنا أحمد حدثنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: رأيتُ في الإمام مصحف عثمان ، بحذف الواو، واتفقت المصاحف بذلك فلم تختلف.
وقال الحلواني أحمد بن زيد عن خالد بن خداش قال: رأيتُ في الإمام عثمان (وأكون) بالواو، وقال: رأيتُ المصحف ممتلئاً دماً وأكثره في النجم.
قال الشيخ/ محمد علي الضباع نقلاً عن الجعبري: "وقد تعارض نقل هذين العدلين، ويحتمل أن يكون أحدهما رواه بعد دثور الواو" (2) .
ومما رواه الحلواني ونقله عنه الجعبري يتضح موافقة قراءة أبي عمرو لرسم المصحف العثماني وعدم مخالفتها له.
وفي تتبعنا لرسم هذه الكلمة في المصاحف السُّودانية المخطوطة التي كتبت على رواية الدوري عن أبي عمرو وجدت هذه الكلمة في أكثر المصاحف (وأكون) بالواو، وفي بعضها بغير واو، وقد نبّه كُتّاب المصاحف الذين يكتبون الواو في هذه الكلمة حيث كتبوا فوقها بالمداد الأحمر كلمة (خلاف) إشارة إلى الخلاف في رسم هذه الكلمة الذي ذكرناه، لكن وجدتُ الشريف محمد الأمين الهندي شيخ قُرَّاء السُّودان في فترة الحكم التركي في السُّودان كتب أبياتاً من النظم ينتصر فيها لقراءة الواو في (وأكون) ورسمها كذلك بالواو، قال الهندي:
وأكون رسمها بالواو ... عن الإمام المازني الراوي
ورسمها بالواو قل مختار ... عن كل المغاربة الأخيار
لكن حذفها جرى به العمل ... والراجح الإثبات والحذف أقل
__________
(1) سورة المنافقون، الآية (10).
(2) علي محمد الضباع: سير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين، الطبعة الأولى، طبع عبد الحميد حنفي، ص 105.(1/24)
وقد انتصر لأبي عمرو في قراءته هنا بالواو الإمام أبو زرعة، وبعد أن ذكر حُجّة من قرأ بحذف الواو وهم بقية القُرَّاء السبعة غير أبي عمرو قال: "وأما قول أبي عمرو: (وأكون) فإنه حمله على لفظ (فأصدق وأكون) وذلك أنَّ (لولا) معناه هلاّ، وجواب الاستفهام بالفاء يكون منصوباً وكان الحمل على اللفظ أوْلَى لظهوره في اللفظ وقربه مما لا لفظ له في الحال" (1) .
ومن الكلمات التي قرأها أبو عمرو وخالف فيها رسم المصحف كلمة (خطاياهم) بسورة نوح - عليه السلام - من قوله تعالى (2) ، فقد قرأها أبو عمرو (خطاياهم) وقرأ الباقون (خطيئاتهم) قال الإمام أبو زرعة: قرأ أبو عمرو: (مما خطاياهم) وحُجّته أنَّ الخطايا أكثر من الخطيئات، لأن جمع المؤنث بالتاء في الأغلب من كلام العرب أن يكون للقليل مثل نخلة ونخلات، وبقرة وبقرات، قال الأصمعي: "كان أبو عمرو يقرأ (خطاياهم) ويقول: إنَّ قوماً كفروا ألف سنة كانت لهم خطيئات؟ لا بل خطايا، إلى أنْ يقول: وحُجّته إجماع الجميع في سورة البقرة (3) ، وقرأ الباقون (خطيئاتهم) بالتاء وحُجّتهم مرسوم المصاحف بالتاء" (4) .
ومن هذه الكلمات التي خالف فيها أبو عمرو المصاحف كلمة (أقتت) في سورة المرسلات من قوله تعالى (5) . قال الشاطبي:
وُقّتَتْ واوه حَلا
قال ابن القاصح: "أخبر أنَّ المشار إليه بالحاء من (حلا) وهو أبو عمرو وقرأ (وإذا الرسل وُقتت) بواو مضمومة أوله، وأنَّ الباقين قرأوا (أُقتت) بهمزة مضمومة مكان الواو" (6) .
__________
(1) أبو زرعة: حُجّة القراءات، ص 711.
(2) سورة نوح، الآية رقم (25).
(3) سورة البقرة، الآية (58).
(4) أبو زرعة: حُجَّة القراءات، ص 727.
(5) سورة المرسلات، الآية (11).
(6) سراج القارئ المبتدئ لابن القاصح.(1/25)
قال أبو زرعة: "قرأ أبو عمرو (وإذا الرسل وُقّتَتْ) بالواو وتشديد القاف على الأصل لأنّها (فُعّلت) من الوقت مثل قوله: (1) ، وقرأ الباقون بالألف (أقتت) وحُجّتهم في ذلك خطّ المصاحف بالألف. فمن همز فإنَّه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن تبدل منها همزة فتقول في (وجوه) (أجوه)" (2) .
ونختم هذا البحث بالحديث عن أبي عمرو ومكانته العلمية على لسان تلاميذه الذي أخذوا عنه العلم ولازموه.
قال عنه تلميذه عبد الملك بن قريب الأصمعي: "وكان أبو عمرو رجل زمانه علماً ونبلاً وصدق لهجة غير معتد به ولا متبجح عليه، وكان أبو عمرو يحسن علوماً إذا أحسن إنسان فناً منها قال: مَنْ مثلي؟ ولا يعتد أبو عمرو بذلك، وما سمعتُهُ قَطُّ يَتَمدَّحُ إلاَّ أنَّ إنساناً لاحاه مرة فقال: والله يا هذا ما رأيتُ أحداً قط أعلم بأشعار العرب ولغاتها مني، فإنْ رضيت ما قلت وإلاَّ فأوجدني عمن ترى" (3) . ويقول الأصمعي أيضاً: "أنا لم أرَ بعد أبي عمرو أعلم منه" (4) .
وقال تلميذه أبو عبيدة معمر بن المثنى: "أبو عمرو أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر" (5) .
وقال عنه أيضاً يونس بن حبيب تلميذه: "لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء واحد لكان ينبغي لقول أبي عمرو أنْ يؤخذ كله ولكن ليس أحد إلاَّ وأنت آخذ من قوله وتارك" (6) .
__________
(1) سورة آل عمران، الآية (25).
(2) حُجَّة القراءات، ص 742.
(3) عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي: مجالس العلماء، طبع الكويت، 1963م، ص 242.
(4) محمد بن الحسن الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل، 1373هـ، طبع الخانجي، ص 31.
(5) ابن الجزري: غاية النهاية، 1/289.
(6) الزبيدي: طبقات النحويين، ص 31.(1/26)
ويقول عنه أبو محمد اليزيدي وكان أيضاً من تلاميذه وأخذ عليه القراءة: "وكان أبو عمرو قد عرف القراءات كلها، فقرأ من كل قراءة بأحسنها، ومما بلغه من لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء تصديقه في كتاب الله عزّ وجلّ" (1) .
ولكثرة العلماء الذين تتلمذوا عليه وأصبحوا أئمة في علوم شتى قال عنه الزجاج: "أبو العلماء وكفهم وبدء الرواة وسيفهم" (2) .
__________
(1) ابن الجزري: غاية النهاية، 1/278.
(2) الخصائص، لابن جني، 3/310.(1/27)