مصادر التفسير
(2)
التفسير بالسنة
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
ثلاث مسائل متممة للحديث عن التفسير بالسنة:
المسألة الأولى: التفسير بالسنة عند المحدّثين:
يورد المحدثون التفسير النبوي والتفسير بالسنة في كتبهم تحت كتاب يعنونونه بـ (كتاب التفسير).
وممن كتب في هذا الباب: الإمام البخاري في صحيحه، والنسائي في سننه الكبرى، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه(1).
وما أريد إبرازه هنا أمران:
الأول: أن استعمالهم للتفسير بالسنة كثير.
الثاني: أن ربطهم معنى الحديث بالآية وذكر ذلك تحت آية من الآيات التي يعنونون بها الأبواب هو اجتهاد خاص بهم، مما يعني أنهم شاركوا في هذا الجانب من التفسير.
وقد كان هؤلاء المحدّثون يحرصون على إيراد مايصلح من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسيراً لآية، ولو من طرف خفي.
بل كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يوردون مايتعلق بالآية من الأحاديث لأي سبب كان؛ كذكر بعض لفظ الآية في الحديث أو ذكر قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتلك الآية في زمن مخصوص، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يدل على مدى حرصهم واهتمامهم بربط الآية بما يتعلق بها من الحديث النبوي، وإن لم يكن جائياً في مساق التفسير، وقد أشار إلى هذا بعض شراح صحيح الإمام البخاري، ومنهم:
1- أبو مسعود الكنهكوهي (ت: 1323)، قال: ثم الذي ينبغي التنبه له: أن التفسير عند هؤلاء الكرام أعمّ من أن يكون شرح كلمة، أو بيان مايُقرأ بعد تمام سورة، ولا أقّل من أن يكون لفظ القرآن وارداً في الحديث.
وكون الأمور المتقدمة من التفسير ظاهر(2)، وإنما الخفاء في هذا الأخير والنكتة فيه: أن لفظ الحديث يفسر لفظ القرآن بحيث يُعلم منه أن المراد في الموضعين واحد، وكثيرا مايُكشف معنى اللفظ بوقوعه في قصة وكلام لايتضح مراده لو وقع هذا اللفظ في غير تلك القصة؛ فإذا لاحظ الرجل الآية والرواية معا كانت له مُكنة على تحصيل المعنى(3)).(1/1)
2- وقال (صاحب الفيض): (ثم اعلم أن تفسير المصنف (أي: البخاري) ليس على شاكلة تفسير المتأخرين في كشف المغلقات، وتقرير المسائل، بل قصد فيه إخراج حديث مناسب متعلق به ولو بوجه)(4).
وبهذا يتلخص أن المحدّثين يوردون من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يصلح أن يكون تفسيرا، كما يوردون ما يتعلق بالآية ـ من كلامه أوفعله ـ لأدنى سبب.
ومن أمثلة الأول (ما يصلح من كلامه تفسيرا):
1- ترجم البخاري في باب: ذكر إدريس (عليه السلام) بقوله (تعالى): ((ورفعناه مكانْا عليا)) [مريم: 57] ثم روى تحت هذا الباب حديث المعراج، وفيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجد في السموات إدريس وموسى وعيسى....)
2- وذكر النسائي تحت قوله (تعالى): ((فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) [ النساء: 140] حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ويلٌ للذي يحدث القوم فيكذب، فيضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)(6).
3- وذكر الترمذي في تفسير قوله (تعالى): ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) [السجدة: 17] حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: (إن موسى ـ عليه السلام ـ سأل ربه، فقال: أي رب، أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أدخل الجنة.
فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزلوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، قال: فيقال له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟
فيقول: نعم، أي ربّ، قد رضيت. فيقال له: فإن لك هذا، ومثله، فيقول رضيت أَيْ ربّ.
فيقال له: فإن لك هذا، وعشرة أمثاله. فيقول: رضيت أي ربّ، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك)(7).
ومن أمثلة الثاني (مايكون لأدنى سبب ):(1/2)
1- ماذكره البخاري تحت باب ((وهوألد الخصام)) [البقرة: 204]، من حديث عائشة (رضي الله عنها)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أبغضُ الرجال إلى الله الألد الخَصِم)(8).
2- وتحت تفسير قوله (تعالى): ((قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ)) [المائدة: 111] أورد النسائي أثر ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما إلى قوله: ((قولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا)) [البقرة: 136] إلى آخر الآية، وفي الأخرى ((قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ)) [المائدة:111](9).
المسألة الثانية: نظرة وصفية لأمثلة التفسير النبوي:
من خلال إلقاء نظرة سريعة على الوارد من التفسير النبوي يمكن فهرسة الأمثلة تحت عناوين كالتالي:
1- بيان معنى لفظة:
إن المتأمل في ما نقله الصحابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاحظ أنهم لم يوردوا عنه تفسيراً للألفاظ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن ذلك بسبب معرفتهم المعاني اللغوية؛ لأنهم عرب يفهمون معاني الخطاب، ولو ورد لهم استشكال في فهم ألفاظه أو مدلولاته اللغوية لسألوا عنها، ومما يدل على ذلك حديث ابن مسعود في نزول آية: ((الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] فهم فهموا الظلم بمعناه العام في لغتهم (أي أنهم استشكلوا مدلول لفظة: الظلم) فشق عليهم هذا الخطاب حتى بينه لهم رسول الله.
إذن .. لم يكن الصحابة بحاجة إلى بيان المفردات اللغوية، ولذا لم يرد في التفسير النبوي إلا نادراً، ومنه ماجاء عن أبي سعيد الخدري من تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للفظة (وسطاً) من قوله (تعالى):-((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة: 143] قال (والوسط العدل) (10).
2- بيان حكم فقهي في الآية:(1/3)
قد يرد الحكم في آية مطلقا فيذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مزيد بيان له، وذلك إما بتحديد مقدار الحكم الفقهي، أو تخصيص اللفظ العام أو غير ذلك.
ومن تحديد المقدار: مارواه البخاري في تفسير قوله (تعالى): ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أََوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاًسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أََوْ نُسُكٍ)) [البقرة: 196] عن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ماكنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاه؟
قلت: لا
قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك) فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة(11).
فأنت ترى أن البيان القرآني لم يحدد المقدار في الفدية، فلما فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسرها بالمقدار، وأنت تعلم أن هذا أحد أنواع بيان السنة للقرآن.
ومن تخصيص العام في الحكم الفقهي، مارواه مسلم عن أنس قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله (عز وجل) ((َيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)) [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)(12).
فلو أُخذ بظاهر العموم في قوله (فاعتزلوا) لفهم أن اعتزال المرأة عام: في مؤاكلتها ومشاربتها ومخالطتها ومجامعتها، فكان هذا البيان النبوي مخصصا لذلك العموم القرآني.
3- بيان المشكل:
إنما يعرف المشكل بسؤال الصحابة عنه؛ لأن السؤال لايقع إلا بعد استشكال ـ في الغالب ـ ومن أمثلة ماسأل عنه الصحابة: حياة الشهداء.(1/4)
قال مسروق: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ((َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) [آل عمران: 169] فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فأخبرنا أن أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل..) الحديث (13).
وعن المغيرة بن شعبة (رضى الله عنه) قال: لما قدمتُ نجران سألوني: إنكم تقرؤون: ((ياأخت هارون)) [مريم: 28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.
فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألته عن ذلك فقال: إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم) (14).
4- ذكر مصداق كلامه من القرآن:
ورد في تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة يذكر فيها مصداق كلامه من القرآن، وتأتي عبارات: (ثم قرأ) (اقرؤا إن شئتم) (مصداق ذلك من كتاب الله)، ومن ذلك مارواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه غضبان، وقال عبد الله: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصداق ذلك من كتاب الله جل ذكره: ((إنَّ الَذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ..)) [آل عمران: 77](15).
5- بيان مبهم:
القاعدة الغالبة أن ما أبهمه القرآن فلا فائدة عملية تنال من ذكره، ومع ذلك فإنه ورد سؤال الصحابة عن ذلك، إلا أنه نادر، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟.
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، فقلت: يارسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟(1/5)
قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا؛ لمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره)(16).
أخيراً..
هذه بعض الأمثلة للتفسير النبوي، والموضوع يحتاج إلى جمع وتأمل لتحديد نوع المثال، مما يفيد في معرفة ماكان يحتاجه الصحابة من البيان النبوي للقرآن، ولعل أقرب ما يذكر هنا هو ندرة ماورد عنه صلى الله عليه وسلم من بيان معنى غريب القرآن؛ مما يترتب عليه أن فهم عربية القرآن كان موكولًا للصحابة (رضي الله عنهم)، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يستفاد من التفسير النبوي في أصول التفسير:
إن النظر في التفسير النبوي، واستنطاق الأمثلة التفسيرية فيه يفيد في جوانب عدة، ومما يفيده هنا أن طريقة التفسير النبوي أصل معتمد في التفسير، فإذا ورد عنه تعميم للفظ، أو تفسير بمثاٍل، أو غير ذلك، حُكِم بصحة هذه الأساليب التفسيرية في التفسير، وأنها في المجال الذي يمكن الاقتداء به ولاقياس عليه.
كما أنه يفيد في بيان صحة بعض الأساليب التي اعتمدها المفسرون من السلف.
ثم إن هذا يفيد في تصحيح بعض مرويات السلف التي جاءت مخالفة للعبارة النبوية في التفسير، ذلك أن تحرير هذه الأساليب في التفسير النبوي يبين مدى احتمال النص لغير عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيما أظن ـ حسب علمي ـ أن (فِقهَ النصّ التفسيري) من التفسير النبوي لم يلق عناية من هذا الجانب، ولذا قمت بهذه المحاولة الاجتهادية لبيان هذه الفكرة من خلال أمثلة توضح ذلك.
إن مثل هذه الدراسة السريعة لا تكفي في تأصيل قضية كهذه، ولكنه جهد المقل، وبذرة ألقيها لتجد طريقها إلى النماء ـ إن شاء الله ـ وإليك أخي القارئ عرض الأمثلة:
* المثال الأول:(1/6)
عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه) قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ وهو على المنبر ـ يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ)) [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)(17).
وجاء عن جمع من السلف ما يلي:
1- لقوة: الرمي من القوة (مكحول).
2- لقوة: الرمي والسيوف والسلاح (ابن عباس)
3- مرهم بإعداد الخيل (عبّاد بن عبد الله ابن الزبير)
4- لقوة: ذكور الخيل (عكرمة ومجاهد) .
5- لقوة: الفرس إلى السهم ومادونه (سعيد بن المسيب) (18).
لقد فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- القوة بالرمي، فهل يُطّرح ماورد عن السلف من عبارات مخالفة لما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: مادام النص قد ثبت طاح ما دونه.
أم يقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يشير إلى القوة التي هي أنكى أنواع القوة، وأشدها تأثيراً في الحرب؟.
الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد هذا، وقد أشار إلى ذلك الإمام الطبري فقال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، ومايتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين من السلاح والرمي، وغير ذلك، ورباط الخيل.
ولا وجه لأن يقال: عنى بالقوة معنى من معاني القوة، وقد عمّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن ذلك مراداً به الخصوص؛ بقوله: (ألا إن القوة الرمي). قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر مايدل على أنه مراد به الرمي خاصة دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر: (ألا إن القوة الرمي) ولم يقل: دون غيرها.
ومن القوة ـ أيضا: السيف والرمح والحربة، وكل ماكان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي، أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله)(19).(1/7)
وبهذا يمكن القول أنه لما لم يكن في تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- مايدل على التخصيص، دل ذلك على أن مراده التمثيل، ولما مثل للقوة ذكر أعلى القوة وأشدها.
وإذا كان ذلك كذلك فإن روايات السلف لاتكون معارضة للتفسير النبوي، ولذا يصح قبولها والتفسير بها؛ لأنها تدخل في عموم القوة.
ونتيجة القول: أن التفسير بالمثال أسلوب صحيح في التفسير؛ لأنه وارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا الحديث، والله أعلم
* المثال الثاني:
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مفاتح الغيب خمس: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34](.2).
في هذا المثال تجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسر (مفاتح الغيب) في قوله تعالى: ((َوَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ...)) [الأنعام: 59] بآية لقمان: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...)) [لقمان: 34].
ويمكن القول: إن تفسير القرآن بالقرآن مسلك صحيح من مسالك التفسير بناء على هذا المثال.
ولعلك تقول: إن هذا المسلك واضح ومعروف مشهور.
فأقول لك: إن المراد هنا تأصيله بوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ في وروده عنه ماينبه إلى استعمال هذا المسلك.
ومما يدل على ذلك أن الصحابة لما استشكلوا قوله (تعالى): ((الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82] قال لهم: إنه ليس بذاك ألا تسمعُ إلى قول لقمان لابنه: ((إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13](21).(1/8)
فكأنه -صلى الله عليه وسلم- يرشدهم إلى هذا المسلك بقوله: (ألا تسمع)، وكان يمكن إجابتهم وحل إشكالهم بدون الإشارة إلى الآية والله أعلم.
وأخيراً..
إذا كان يمكن استنباط بعض الأساليب التفسيرية في التفسير النبوي والقياس عليها، فإن هناك مالايقاس عليه، ومنه:
أولاً: أن يكون التفسير في بيان حكم شرعي:
عن أنس بن مالك قال: (كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله عز وجل ((ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ))[البقرة: 222].
فقال رسول الله : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)(22).
إن قول الله (تعالى): ((فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)) لفظ عام، ويمكن أن يفهم منه اعتزال النساء في المؤاكلة والمنام والبيوت، فذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على تخصيص الاعتزال بالمجامعة دون غيرها من المعاشرة.
ثانيا: أن يكون التفسير لبيان أمر غيبي:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذا الآية ((َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) [ال عمران: 169]. فقال:
أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسر ح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل)(23).
إن صفة حياة هؤلاء الشهداء لايمكن إدراكها إلا عن سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا سأل الصحابة عن هذه الحياة الخاصة بالشهداء.
إنه في مثل هذين المثالين لايمكن استنباط (أسلوب تفسيري (لأن المجال في هذا ليس مفتوحا بحيث يمكن الاستنباط منه، بل هو محدد لبيان حكم شرعي أو أمر غيبي، ولذا يقف المفسر عند النص ولايمكنه تجاوزه، ليستفيد منه في نص آخر يقيسه عليه.
الهوامش:(1/9)
(1) كان ابن كثير من أكثر المفسرين تأثرا بهذا المنهج الذي عند المحدثين.
(2) ماذكره من قوله: (بيان مايقرأ بعد تمام سورة) ظاهر أنه ليس من التفسير، فتأمل.
(3) لامع الدراري: 9/4ـ5.
(4) انظر: لامع الدراري: 9/4 (حاشية رقم[1]).
(5) انظر: فتح الباري 6/431.
(6) السنن الكبرى 6/ 329
(7) سنن الترمذي 5/347.
(8) انظر: فتح الباري 8/36 ومثله النسائي في السنن الكبرى 1/301
(9) السنن الكبرى للنسائي 6/339.
(10) رواه البخاري (فتح الباري 8/21).
(11) رواه البخاري (فتح الباري 8/34).
(12) رواه مسلم ح/رقم 302.
(13) أخرجه مسلم ح/ 1887.
(14) رواه مسلم ح/2135.
(15) رواه البخاري.
(16) رواه مسلم ح/1398.
(17) رواه الإمام مسلم ح/1917.
(18) انظر: الدر المنثور: 4/83 ومابعدها.
(19) تفسير الطبري (ط: شاكر (14/37. وما ذكر الطبري من وهاء السند؛ لأنه رواه من طريق ابن لهيعة (14/3) ولذا ضعفه ـ فيما يظهر ـ ولم يكن عنده له إسناد آخر، والحديث ـ كما علمت ـ رواه مسلم وغيره، فلا شك في صحته.
(20) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/141 (ومن الطريف في تفسير القرآن بالقرآن عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر آيتين من سورة الأنعام بآيتين من سورة لقمان ).
(21) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/372).
(22) رواه مسلم برقم 302.
(23) رواه مسلم برقم 1887.(1/10)
مصادر التفسير
(1)
تفسير القرآن بالقرآن
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
يراد : بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله ، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وتابعيهم ، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل: »المراجع الأولية«؛ لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر ، ولكن الحديث هنا ليس عنها.
وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على تسميتها بـ(طرق التفسير) ، ذكر منها أربعة ، وهي: القرآن ، والسنة ، وأقوال الصحابة ، وأقوال التابعين في التفسير(1).
وجعلها بدر الدين الزركشي (ت: 794هـ) مآخذ التفسير ، وذكر أمهاتها ، وهي أربع: النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأخذ بقول الصحابة ، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع(2). وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعاً ـ إن شاء الله تعالى ـ .
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه ، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن(3) ، وقال آخر: إنه من أبلغ التفاسير(4)، وإنما يُرْجَع إلى القرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ إجمال في آية تبيّنه آية أخرى ، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى ، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى : بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح ، والمفَسّر حينما يُجْري عملية التفسير ، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه.
فتفسير المفسر لمعنى »عُطّلت« في قوله (تعالى): ((وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ)) [التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت ، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.(1/1)
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان معنى اللفظة في الآية.
ومن هنا ، فهل كل ما قيل فيه: (تفسير القرآن بالقرآن) يعني أن البيان عن شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرتها ، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82].
قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون ، ((لم يلبسوا إيمانهم بظلم)): بشرك ، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13]«(5).
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي (ت: 1393هـ): (ومن أنواع البيان المذكورة أن يكون الله خلق شيئاً لحِكَمٍ متعددة ، فيذكر بعضها في موضع ، فإننا نُبيّن البقية المذكورة في المواضع الأُخر).
ومثاله: قوله تعالى: ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا)) [الأنعام: 97].
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدنيا ، ورجم الشياطين أيضاً ، كما بينّه (تعالى) بقوله: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ)) [الملك: 5] وقوله: ((إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ)) [الصافات: 6 ، 7](6).
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: (ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ ، ومن طينٍ في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصالٍ ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه)(7).
نقد الأمثلة:(1/2)
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي:
ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى ، أي: إن القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد ، وهو حكمة خلق النجوم ، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان ، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف ، لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من مصدر آخر خارج عن الآيات؟
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين ، ولا بالحمأ المسنون...إلخ ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيها ، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى تزيل هذا الإشكال ، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات وترتيبها في الوجود ، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم عليه السلام ، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل ، حيث كان آدم تراباً ، ثم طيناً ، ثم... إلخ.
وبهذا يظهر جليّاً أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى ، وإن كان في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه تفسير قرآن بقرآن ، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى ، فإنه ليس تعبيراً مطابقاً لهذا المصطلح ، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:(1/3)
ظهر مما سبق أن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) قد استُعمل بتوسع في تطبيقاته ، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين ، خاصة من نصّ على هذا المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير (ت: 774هـ) ، والأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) ، والشنقيطي (ت: 1393هـ).
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [الشعراء: 3] حيث قال: »أي قاتلها لعدم إيمان قومك.
»تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) [الحجر: 88] وفي الكهف: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف: 6]. وفي فاطر: ((فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)) [فاطر: 8]. ونحوه: ((إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ)) [النحل: 37]. ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة ، ومحبته لإسلامهم ، وشدة حرصه على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ«(8).
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن ، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن اعتبار كتب (متشابه القرآن)(9) ، وكتب (الوجوه والنظائر) من كتب تفسير القرآن بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب (متشابه القرآن) توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر ، وقد يقع الخلاف بينهما في حرف أو كلمة ، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب (الوجوه والنظائر) تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات ، وتذكر وجه الفرق فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:(1/4)
إن مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري (ت: 310هـ) بسنده في تفسير قوله تعالى: ((وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ)) [الطور: 6] قال: »الموقَد ، وقرأ قول الله تعالى: ((وَإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ)) [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ«(10).
أما كتب التفسير ، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1) الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في كتابه (تفسير القرآن العظيم).
(2) الأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) في كتابه: (مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن).
(3) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت1393هـ) في كتابه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)(11).
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) ، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان ، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ تعبيراً دقيقاً عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى ، وهو بهذا مصطلح مفتوح ، يشمل أمثلة كثيرة.
وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير ، وأنها قد سارت عليه ، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولاً: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخل في هذا المصطلح ما يلي:
1- الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عاماً في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82]. وقد خصّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك ، واستدل له بقوله تعالى: ((إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13].(1/5)
ـ وفي قوله تعالى: ((وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)) [الإسراء: 24].عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر ، وهو مخصوص بقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى)) [التوبة: 113].فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين ، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان(12).
2- الآية المبيّنة لآية مجملة:
ـ أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقرة: 3] ، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منها ، وذلك كقوله: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ)) [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منها ، على أصحّ التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور...(13).
ـ وفي قوله تعالى: ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) [المائدة: 1] ، إجمال في المتلو ، وقد بيّنه قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)) [المائدة: 3].
3- الآية المقيدة لآية مطلقة:
ـ أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض ، كما في قوله تعالى: ((وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ)) [الشورى: 5] ، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) [ غافر: 7].(1/6)
ـ وفي قوله تعالى: ((إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)) [آل عمران: 90] ، إطلاق في عدم قبول التوبة ، وهو مقيّد في قول بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت ، ودليل التقييد قوله تعالى: ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)) [النساء: 14].
4- تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ »سِجّيل« في قوله تعالى: ((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ)) [هود: 82] ، والممطر عليهم هم قوم لوط (عليه الصلاة والسلام) ، وقد وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين ، في قوله تعالى: ((قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ)) [الذاريات: 32 ، 33](15).
5- تفسير معنى آية بآية أخرى:
التسوية في قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ)) [النساء: 42] ، يراد بها: أن يكونوا كالتراب ، والمعنى: يودّون لو جُعِلوا والأرض سواءً ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: ((وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً)) [النبأ: 40](16).
ثانياً: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخل في هذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسير ، وإن لم يكن في الآية ما يشكل فتُبَيّنُهُ الآية الأخرى ، ومن أمثلته ما يلي:
1- الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:(1/7)
سبق مثال في ذلك ، وهو: مراحل خلق آدم(17) ، ومن أمثلته عصا موسى (عليه الصلاة والسلام)؛ حيث وصفها مرة بأنها ((حَيَّةٌ تَسْعَى)) [طه: 20] ، ومرة بأنها ((تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ)) [النمل: 10] ، ومرة بأنها ((ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ)) [الأعراف: 107] ، فاختلف الوصف والحدث واحد ، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله (سبحانه) جعل عصا موسى كالحية في سعيها ، وكالثعبان في عِظَمها ، وكالجان (وهو: صغار الحيّات) في خِفّتِها(18).
2- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثها ، بل قد يزاد فيها أو ينقص في الموضع الآخر ، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة ، ومثال ذلك:
قوله (تعالى): ((إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ)) [طه: 40] ، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية ، وهي:
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله (تعالى): ((وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)) [القصص: 11 ، 12](19).
3- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله (تعالى): ((قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ)) [الأنعام: 33].(1/8)
قال: »صرح (تعالى) في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما يقوله الكفار في تكذيبه ، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخرى كقوله: ((فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات)) [ فاطر: 8] ، وقوله: ((فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)) [المائدة: 68] ، وقوله: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف: 6] ، وقوله: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [الشعراء: 3].
والباخع: المهلك نفسه...إلخ(21).
4- جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر »وصفاً« وُصف به شيء ، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي وصفت به ، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن ورودها ، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني »والبقعة مباركة (لما)(21) وصفها الله لما أفاض (تعالى) (فيه)(22) من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة ، حيث قال: ((وَنَجَّيْنَاهُ)) أي: إبراهيم ((وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: ((إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)) [ال عمران: 96].
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: ((شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ)) [النور: 35](23).(1/9)
* ومن أمثلة الثاني قوله: »وسمّى الله كتابه هدى في آيات: ((ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)) [البقرة: 2] ، ((إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)) [الإسراء: 9] ، ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)) [ فصلت: 44] ، وفي لقمان: ((هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ)) [لقمان: 3] ، وفي النحل: ((تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل: 89] ، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين ، وفي يونس: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)) [يونس: 57](24).
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسير إما أن يكون طريقه النقل ، وإما أن يكون طريقه الاستدلال ،
والأول: يطلق عليه (التفسير المأثور) ،
والثاني: يطلق عليه (التفسير بالرأي).
ومن هنا فإن تصنيف (تفسير القرآن بالقرآن) ، في أحدهما يكون بالنظر إلى القائل به أولاً ، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به ، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ ـ اجتهاداً منه ـ إلى الربط بين آية وآية ، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط ، وعليه فإنه لا يلزم قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من التابعين وغيرهم ، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:(1/10)
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً ، فإنه يكون أبلغ التفاسير ، ولذا: فإن ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن ، بل لأن المفسّر به هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مفاتح الغيب(26) خمسٌ ، ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34](26).
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر ، والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً ، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع التي يجب الأخذ بها في التفسير(27).
هذا.. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيراً:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي ، لا يعني صعوبة الوصول إليه في كل حالٍ ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ـ ولا يكاد يختلف في تفسيرها اثنان ، مثل تفسير »الطارق« في قوله (تعالى): ((وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)) [الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله (تعالى): ((النَّجْمُ الثَّاقِبُ)) [الطارق: 3] ، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن ، والله أعلم.
الهوامش :
(1) مقدمة في أصول التفسير ، (ت: د. عدنان زرزور) ، ص93 وما بعدها.
(2) انظر: البرهان في علوم القرآن ، جـ2 ، ص156-164.(1/11)
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في (أصول التفسير) ، (ت: عدنان زرزور) ، ص93.
(4) ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن) ، (ت: طه شاهين) ، ص116.
(5) رواه الإمام البخاري ، انظر: فتح الباري (ط: الريان) ، جـ6 ، ص448 ، ح3360.
(6) أضواء البيان ، جـ1 ، ص87.
(7) التفسير والمفسرون ، جـ1 ، ص42.
(8) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن ، للأمير الصنعاني ، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني (رسالة ماجستير ، على الآلة الكاتبة) ص71،72 ، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
(9) تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها ، وهذه الكتب تخص القراء.
الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة ، وهذا المقصود هنا ، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره.
(10) تفسير الطبري ، جـ27 ، ص19 ، وانظر له في الجزء نفسه ص22 ، 37 ، 38 ، 61 ، 69 ، 74 ، 76 ، 92 ، 113 ، 120 ، وفي الجزء نفسه عن علي ص18 ، وابن عباس ، ص55 ، 72 ، وعكرمة ، ص72.
(11) يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة ، وهي كالتالي:
1- جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك.
2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي ، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير ، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
(12) انظر: تفسير الطبري ، جـ15 ، ص6768 ، والتحرير والتنوير ، جـ15 ، ص72.
(13) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص107،108.
أضواء البيان جـ1 ص 343.
(14) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص343.
(15) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص86.
(16) انظر: تفسير الطبري ، جـ5 ، ص93 ، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي ، جـ1 ، ص246.
(17) انظر: ص4 من المجلة نفسها.(1/12)
(18) انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل ، للرازي ص327 ، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني ، ص282،283 ، وتيجان البيان في مشكلات القرآن ، للخطيب العمري ، ص173.
(19) انظر: أضواء البيان ، جـ4 ، ص408.
(20) أضواء البيان، جـ2، ص189، وانظر:مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71،72.
(21) كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق ، حيث قال المحقق: والصواب (كما).
(22) الصواب (فيها) انظر: حاشية 7 ، ص194 ، من التحقيق.
(23) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن ، ص194.
(24) المصدر السابق ، ص188،189.
(25) وردت في قوله (تعالى): ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)) [الأنعام: 59].
(26) رواه البخاري ، انظر: فتح الباري ، جـ8 ، ص141.
(27) سبق أن طرحتها في مجلة البيان ، ع76 ، ص15.(1/13)
مصادر التفسير
(3)
تفسير الصحابة للقرآن
الحلقة الأولى –
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
الصحابة (رضوان الله عليهم) خِيَرَةُ الله (سبحانه) لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، جعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، وهم أرقّّ الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأبعدهم عن التكلف، حفظ الله بهم الدين، ونشره بهم في العالمين، وكانوا في علمه بين مُكْثرٍ ومُقلّ.
قال مسروق: (لقد جالست أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدتهم كالإخاذ (الغدير)، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله ابن مسعود من ذلك الإخاذ) (1).
ولِما كان لهم من الصحبة والقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة أحواله، فإن لأقوالهم تقدّماً على غيرها عند أهل العلم، فتجدهم يعتمدون عليها في بيان الدين، ويتخيّرُونَ من أقوالهم إذا اختلفوا، غير خارجين عنها إلى غيرها (2).
هذا، وقد تميّزت أقوالهم بالعمق من غير تكلّف، ومن نظر في تفسيراتهم ووازنها بأقوال المتأخرين عَرَفَ صدق هذا القول.
ولقد كان من أبرز مَنْ أظهر هذه الفكرة، وبيّن ما للصحابة من مزيّة في عباراتهم التفسيرية الإمامُ ابن القيم في كتبه، ومن ذلك قوله: (... فعاد الصواب إلى قول الصحابة، وهم أعلم الأمّة بكتاب الله ومُراده) (3).
أهمية تفسير الصحابة:
وقد ذكر العلماء أسباباً تدلّ على أهمية الرجوع إلى تفسيرهم، وهذه الأسباب كالتالي:
1- أنهم شهدوا التنزيل، وعرفوا أحواله:
لقد كان لمشاهدتهم التنزيل، ومعرفة أحواله أكبر الأثر في علوّ تفسيرهم وصحته، إذ الشاهد يدرك من الفهم ما لا يدركه الغائب.(1/1)
وفي حجيّةِ بيان الصحابة للقرآن، فيما لو اختلفوا، قال الشاطبي: (وأما الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة، فهم أقْعَدُ في فَهْمِ القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييدُ بعض المطلَقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم ينقل عن أحدهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية) (4).
ومعرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن؛ لأن الجهل بأسباب النزول مُوقِعٌ في الشّبَه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مَورِدَ الإجمال حتى يقع الاختلاف.
وإنما يقع ذلك؛ لأن معرفة أسباب النزول بمنزلة مقتضيات الأحوال التي يُفْهَمُ بها الخطاب، وإذا فات نقل بعض القرائن الدّالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيءٍ منه.
ومعرفة أسباب النزول رافعة لكل مشكلٍ في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى مقتضى الحال (5).
إن ممّا يدلّ على ما سبق من الكلام: ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (أُتيَ برجلٍ من المهاجرين الأولين ـ وقد شرب الخمر ـ فأمر به عمر أن يُجلد، فقال: لِمَ تجلدني؟! بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟.
قال: فإن الله (تعالى) يقول في كتابه: ((لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا..)) [المائدة: 93]، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله: بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر: ألا تَرُودّن عليه؟(1/2)
فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذراً للماضين، وحجّة على الباقين، عذراً للماضين؛ لأنهم لَقُوا الله قبل أن حرّم الله عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: ((.. إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ..)) [المائدة: 90] [المائدة: 90]. حتى بلغ الآية الأخرى)(6).
فانظر كيف خفي على هذا البدريّ (رضي الله عنه) حكم هذه الآية لمّا لم يكن يعلم سبب نزولها؟ وكيف لم تكن مشكَلة عند من علم سبب نزولها؟ فنزلها منزلتها، وبيّن معناها.
2- أنهم عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن:
يقول الشاطبي ـ في بيان أهمية معرفة الأحوال في التفسير ـ: (ومن ذلك: معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمّ سبب خاص، لا بدّ لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشّبه والإشكالات التي يتعذّر الخروج منها إلا بهذه المعرفة) (7).
أ -ومن الأمثلة التي تدلّ على أهمية معرفة أحوالهم في التفسير: ما رواه البخاري في تفسير قوله (تعالى): ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..)) [البقرة: 198] عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كانت عُكاظٌ ومجنّةٌ وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثّموا أن يَتّجِروا في المواسم، فنزلت ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..)) في مواسم الحج)(8).
أ- ومثله ما رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنهما) قالت: (كانت قريش ومن دَانَ دينها يقفون المزدلفة، وكانوا يسمّون الحُمْسُ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات، ثُمّ يقفَ بها، ثُمّ يُفِيِضَ منها، فذلك قوله (تعالى): ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ..)) [البقرة: 199] (9).(1/3)
أ- ومثله ما رواه البخاري عن ابن المنكدر، قال: (سمعت جابراً (رضي الله عنه) قال: كانت اليهود تقول: (إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..)))(10).
3- أنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن:
لما كان القرآن نزل بلغتهم، فإنهم أعرف به من غيرهم، وهم في مرتبة الفصاحة العربية، فلم تتغيّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا في الفصاحة، ولذا فَهُم أعرف من غيرهم في فهم الكتاب والسنة، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صحّ اعتماده من هذه الجهة (11).
كما أن ما نقل عنهم من كلام أو تفسير فإنه حجّة في اللغة، وفيه بيان لصحّة الإطلاق في لغة العرب، قال ابن حجر: (استشكل ابن التين قوله (12): (ناساً من الجن) من حيث إن الناس ضدّ الجنّ.
وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من نَاسَ: إذا تحرك، أو ذُكر للتقابل، حيث قال: (ناس من الناس)، (وناساً من الجن) ويا ليت شعري، على من يعترض؟!) (13).
4- حسن فهمهم:
إن من نَظَرَ في أقوال الصحابة في التفسير متدبراً لهذه الأقوال، ومتفهماً لمراميها، وعلاقتها بتفسير الآية، فإنه سيتبيّن له ما آتاهم الله من حسن البيان عن معاني القرآن، من غير تكلّفٍ في البيان، ولا تعمّق في تجنيس الكلام، بل تراهم يُلْقون الألفاظ بداهة على المعنى، فتصيب منه المراد.
وكان مما عزّز لهم حسن الفهم: ما سبق ذكره من الأسباب التي دعت إلى الرجوع إلى تفسيرهم من: مشاهدة التنزيل، ومعرفة أحوال من نزل فيهم القرآن، وكونهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن، مع ما لهم من معرفة بأحوال صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم-، مما كان يعينهم على فهم المراد وحسن الاستنباط، قال ابن القيم: (قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين حديث مسند)(14).(1/4)
وقال في موضع آخر من كتابه: (هو عندنا في حكم المرفوع) (15).
وهذا وإن كان فيه نظرٌ، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله (عز وجل) من كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول -صلى الله عليه وسلم- علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يُعدَلُ عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل)(16).
إن هذه المزيّة تُوجِبُ على دارسِ التفسير أن يرجع إلى أقوالهم، وأن يَفْهَم تفسيراتِهم، ليَعْتَمِد عليها في التفسير، ويبنيَ عليها مسائل الآيات وفوائدها.
غير إن كثيراً ممن يَدْرُسُ التفسير أو يُدَرّسُه لا يهتم بإيراد أقوال الصحابة(17)، وكثيراً ما تراه يكتفي بأن ينسب التفسير إلى المتأخرين من المفسرين كالزجاج والزمخشري وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وابن كثير... وغيرهم.
إن في هذا المسلك ما يقطعُ على طالب العلم شرف الوصول إلى علوم هؤلاء الصحابة وأفهامهم، بل قد يجعله ينظر إلى أقوالهم نظر المقلّلِ من شأنها، ويرى أن تفسيراتهم سطحيّة، لا عمق فيها، ولا تقرير!!.
وهذا خطأ مَحْضٌ، ومجانبة الصواب، وإنما كان سبيل أهل العلم الراسخين فيه أنهم (يتكثّرون بموافقة الصحابة)، وانظر كم الفرق بين أن يُقال: هذا قول ابن عباس في الآية، أو يقال: هذا قول الزجاج أو ابن عطية أوغيرهم في الآية.
فانظر إلى ما ستميل إليه نفسك؟، وأي قول سيطمئن له قلبك؟.
5- سلامة قصدهم:
لم يقع بين الصحابة خلافٌ يُؤَثّر في علمهم، بحيث يوجّه آراءهم العلمية إلى ما يعتقدونه، وإن كان مخالفاً للحق، بل كان شأن الخلاف بينهم إظهار الحق، لا الانتصار للنفس أو المذهب الذي ذُهِبَ إليه.(1/5)
لقد ظهر ـ خلاف أمرهم في الخلاف ـ فيمن بعدهم من أصحاب العقائد الباطلة؛ كالخوارج، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، فظهر في أقوالهم مجانبةُ الحق، وكثر الخلاف بسبب كثرة الآراء الباطلة، مما جعل القرآنَ عُرضةً للتحريف والتأويل، إذ كلّ يصرفه إلى مذهب، وهذا مما سلم منه جيل الصحابة، فلم يتلوّث بمثل هذه الخلافات.
ولهذا جاء تفسيرهم بعيداً عن إشكالات التأويل، وصرف اللفظ القرآني إلى ما يناسب المذهب، أو غيرها من الانحرافات في التفسير.
الهوامش :
1- المدخل إلى السنن الكبرى، ص 16.
2- انظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ص109 ـ 110.
3- انظر: بدائع التفسير، جـ2 ص216، وجـ3 ص313، 402، 404، وشفاء العليل، ص54.
4- انظر: الموافقات بتحقيق محيي الدين عبد الحميد، جـ3 ص 218 ـ 219.
5- الموافقات، جـ3 ص 225 (بتصرف).
6- الدرر المنثور، جـ3 ص 161، وانظر: المستدرك.
7- الموافقات، جـ3 ص 229، وقد أحال في هذه المسألة على النوع الثاني من المقاصد (جـ2ص44)، والموافقات، جـ3 ص 227.
8- انظر: فتح الباري، جـ8 ص34.
9- انظر: فتح الباري، جـ8 ص 35.
10- انظر: فتح الباري، جـ8 ص 37.
11- انظر: الموافقات، جـ3 ص 218.
12- يعني ابن مسعود (رضي الله عنه).
13- فتح الباري، جـ8 ص249.
14- المستدرك، جـ2 ص258.
15- المستدرك.
16- بدائع التفسير، جـ3 ص404.
17- وأيضاً التابعين وأتباعهم ممن لهم عناية بالتفسير.(1/6)
مصادر التفسير
(4)
تفسير الصحابة للقرآن
الحلقة الثانية –
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
مصادر الصحابة في التفسير:
للتفسير مرجعان:
الأول: ما يَرْجِعُ إلى النقل.
والثاني: ما يرجع إلى الاستدلال(1).
ويمكن توزيع مصادر الصحابة على هذين المرجعين؛ لأن تفاسير الصحابة: منها ما يرجع إلى النقل، ومنها ما اعتمدوا فيه على استنباطهم، وهم فيه مجتهدون.
تفصيل مصادر الصحابة:
أولاً: ما يرجع إلى النقل، ويندرج تحته قسمان:
الأول: ما يرجع إلى المشاهدة، وتحته ما يلي:
1- أسباب النزول.
2- أحوال من نزل فيهم القرآن.
وهذان بينهما تلازم في حالة ما إذا كان سبب النزول متعلقاً بحال من أحوال من نزل فيهم القرآن.
الثاني: ما يرجع إلى السماع، ويندرج تحته ما يلي:
1- ما يروونه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من التفسير النبوي الصريح.
2- ما يرويه بعضهم عن بعض.
3- ما يروونه من الغيبيّاتِ.
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال) ، ويندرج تحته ما يلي:
1- تفسير القرآن بالقرآن.
2- تفسير القرآن بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس نصّاً في التفسير.
3- التفسير اللغوي(المحتملات اللغوية).
4- المحتملات المرادة في الخطاب القرآني، أو ما يرجع إلى احتمال النص القرآني أكثر من معنى.
تفصيل هذه المصادر:
أولاً: ما يَرْجِعُ إلى النّقْلِ:
الأول: ما يتعلق بالمشاهدة:
ويعتبر هذا مما تميّز به الصحابة (رضي الله عنهم)؛ لأن المشاهدة لا يمكن أن تتأتّى لغيرهم؛ ولذا: فإن الأصل أن ما ورد من هذا الباب فإن مَحَلّهُ القبول بلا خلاف.
ويدخل فيما يتعلق بالمشاهدة ما يلي:
1- أسباب النزول:
لقد سبق الحديث عن أن مشاهدتهم لأسباب النزول كانت من أهم أسباب رجوع من جاء بعدهم إلى تفسيرهم، والاعتماد عليه في فهم الآية.(1/1)
والمراد بسبب النزول: ما كان صريحاً في السببية، ويظهر ذلك من خلال النصّ المروي في السبب؛ كأن يقول الصحابي: كان كذا وكذا فنزلت الآية، أو يقع سؤال فينزل جوابه، أو غيرها مما يمكن معرفته من خلال النص بقرائن تدل على السببية الصريحة.
2- معرفة أحوال من نزل فيهم القرآن:
إن معرفة هذه الأحوال تفيد في درايتهم بقصة الآية، الذي هو أشبه بسبب النزول، بحيث لو فقدت هذه المعرفة لوقع الخطأ في فهم المراد بالآية، كما وقع لعروة بن الزبير (رضي الله عنه) في فهم قوله (تعالى): ((إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..)) [البقرة: 158].
قال عروة: (قلت لعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ وأنا يومئذ حديث السّن ـ أرأيتِ قول الله (تبارك وتعالى): ((إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..)) [ البقرة: 158] فما أرى على أحدٍ شيئاً ألا يطّوف بهما.
فقالت عائشة: كَلاّ، لو كانت كما تقول كانت: (فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما)، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يُهِلّون لمناة ـ وكانت مناة حَذْوَ قُدَيدٍ ـ وكانوا يتحرّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأنزل الله: ((إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..)) [البقرة: 158]) (2).
ويلحظ من هذا المثال: أن سبب النزول قد يكون من أجل حالٍ من أحوال من نزل فيهم الخطاب من العرب أو اليهود، وبهذا يكون المثال صالحاً للتمثيل به في الأمرين.(1/2)
ومما نزل بسبب حال من أحوال اليهود، ما روى جابر (رضي الله عنه) قال: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: ((نساؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..)) [البقرة:223](3).
تنبيه:
للصحابة فيما يتعلق بالمشاهدة حالتان:
الأولى: أن يكون الصحابي ممن حضر سبب النزول، أو عايش الأحوال التي نزل بشأنها القرآن، وهذا هو الذي ينطبق عليه الحديث هنا.
الثانية: أن يكون سمعه من صحابي آخر، وبهذا فإنه يدخل في القسم الذي بعده.
الثاني: ما يتعلق بالسماع:
يشمل هذا القسم كل الروايات التي يرويها الصحابي عن غيره، ويدخل في هذا القسم ما يلي:
1- الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
والمراد به: ما يروونه من التفسير النبوي الصريح، وقد يقع تفسيره جواباً لأسئلتهم، أو أن يفسّر لهم ابتداءً.
* ومن الأول: ما رواه مسلم في تفسير قوله (تعالى): ((.. لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ..)) [التوبة: 108] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟.
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفّاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لِمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره) (4).
* ومن الثاني: ما رواه البخاري عن أبي ذرّ، قال: (كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر، أتدري أين تغيب الشمس؟.
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله (تعالى):
((وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ)))(5).
2- ما يرويه الصحابي عن الصحابي:(1/3)
قد تكون الرواية عن الصحابي مجردة من السؤال، بحيث يورد الصحابي تفسير الصحابي إيراداً من غير سؤال، أو تكون عن سؤالٍ؛ ومنه: ما رواه البخاري عن ابن عباس في قوله (تعالى):
((.. وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) [التحريم:4].
قال ابن عباس: أردت أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمكثت سنة، فلم أجد له موضعاً، حتى خرجت معه حاجّاً، فلما كنّا بظهران ذهب عمر لحاجته، فقال: أدركني بالوضوء، فأدركته بالإداوة، فجعلت أسكب عليه، ورأيت موضعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان تظاهرتا؟
قال ابن عباس: فما أتممت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة) (6).
ويدخل في باب الرواية: ما كان من أسباب النزول، أو أحوال من نزل فيهم القرآن، إذا كان الصحابي لم يحضر السبب أو الحال، فإن طريقه في ذلك: الرواية، وروايته مقبولة في ذلك، وإن لم ينسبها إلى من رواها له من الصحابة، وذلك لأن الصحابة عدول باتفاق الأمة.
ويمكن التمثيل لهذا بما يرويه صغار الصحابة أو من تأخر إسلامهم من أحداثٍ لم يحضروها أو يعاصروها.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه أبو هريرة وابن عباس في تفسير قوله (تعالى): ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء: 214] من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صعد الصفا، ونادى بطون قريش.. إلى آخر الحديث(7).
وذلك أن أبا هريرة أسلم في المدينة، وابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، والحدث الذي يرويانه في تفسير الآية كان بمكة، وكان في أوائل سنيّ البعثة.
3- ما يروونه من المغيّبات:
تشمل الأمور الغيبية ما مضى، وما سيكون، والأخبار الماضية إما أن يكون مصدرها الرسول، وهذا هو المراد، وإما أن يكون مصدرها أهل الكتاب، وهذا يدخل في البحث السابق.(1/4)
أما الأخبار المستقبلية، فالغالب أنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد يرد منها ما هو عن أهل الكتاب.
وها هنا مسألة تحتاج إلى بحث، وهي: كيف نُميّزُ ما روي عن أهل الكتاب مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟.
الجواب: (................)*.
هذا.. وما يُروى عن أهل الكتاب، فقد اصطلح العلماء على تسميته بـ (الإسرائيليات). وهي عند الصحابة على قسمين من حيث التحمّل في الرواية:
الأول: السماع منهم، وهذا يأخذونه عن بعض مسلمة أهل الكتاب: كابن سلام من الصحابة، وكعب الأحبار وأبي الجلد من التابعين.
ويظهر من استقراء المرويات الإسرائيلية أن الصحابة لا يسندون مروياتهم ـ في الغالب ـ مما يجعل الباحث لا يجزم بالأخذ المباشر عن مُسِلمةِ بني إسرائيل، بل قد يكون مما اطّلعوا عليه وقرؤوه، والله أعلم.
ومن أمثلة الرواية عن عبد الله بن سلام: ما رواه ابن مُجلّز، قال: (جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله عن الهدهد، لم تفقّده سليمان من بين الطير؟.
فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نزل منزلة في مسيرٍ له، فلم يَدْرِ ما بُعْدُ الماء، فقال: من يعلم بُعْدَ الماء؟، قالوا: الهدهد، فذلك حين تفقّده) (8).
الثاني: ما يكون من طريق الوجادة، وهو ما يقرؤونه من كتب أهل الكتاب، كما حصل لعبد الله بن عمرو بن العاص من إصابته زاملتين فيها كتبٌ من كتب أهل الكتاب (9).
اسْتِطْرَادٌ:
مما يحسن توجيه النظر إليه في هذا المبحث، أن بعض المعاصرين قد شنّ غارة على وجود مرويات بني إسرائيل في تفسير الصحابة، وعدّ ذلك من عيوب تفسيرهم.
والذي يجب التنبّه له أن الحديث عن الإسرائيليات يَطَال سلف الأمة من المفسرين: صحابةً، وتابعين، ولقد كان هؤلاء أعلم الناس بالتفسير، وأعظم الذائدين عن الدين كل تحريف وبطلان.
لقد تجوّز سلف هذه الأمة في رواية الإسرائيليات، أفلم يكونوا يعرفون حكم روايتها ومنزلتها في التفسير؟.(1/5)
ألم يكونوا يميّزون هذه الإسرائيليات التي استطاع المتأخرون تمييزها؟!، وإذا كان ذلك كذلك؟ فما الضرر من روايتها؟.
ألا يكفي المفسر بأن يحكم على الخبر بأنه إسرائيلي، مما يجعله يتوقف في قبول الخبر؟.
إن بحث(الإسرائيليات) يحتاج إلى إعادة نظر فيما يتعلق بمنهج سلف الأمة في روايتهم لها، ومن أهم ما يجب بحثه في ذلك ما يلي:
1- جَمْعُ مروياتهم فيها، وجَعْلُ مرويات كل مفسرٍ على حِدَةٍ.
2- محاولة معرفة طريق تحمّل المفسر لها، وكيفية أدائه لها، فهل كان يكتفي بعرضها ثقةً منه بتلاميذه الناقلين عنه؟.
أو هل كان ينقدها، ويبين لتلاميذه ما فيها؟.
3- ما مدى اعتماد المفسر عليها؟.
وهل كان يذكرها على سبيل الرواية لما عنده في تفسير هذه الآية، من غير نظر إلى صحة وضعف المروي؟.
أوْ هل كان يرويها على سبيل الاستئناس بها في التفسير؟.
أو هل يعتمد عليها، ويبني فهم الآية على ما يرويه منها؟.
تلك المسائل وغيرها لا يتأتّى إلا بعد جمع المرويات، واستنطاقها لإبراز جوابات هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يَثُورَ مع البحث.
ثم بعد هذا يمكن استنباط منهج السلف وموقفهم من الإسرائيليات في التفسير. والله أعلم.
الهوامش :
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العلم: إما نقلٌ مُصَدّقٌ، وإما استدلال محقّقٌ) (مقدمة في أصول التفسير، ص55).
2- رواه البخاري (فتح الباري، جـ8 ص24 ـ 25).
3- رواه البخاري (فتح الباري، جـ8 ص37).
4- رواه مسلم في صحيحه (رقم 1398).
5- انظر: البخاري (فتح الباري، جـ8 ص402).
6- رواه البخاري (فتح الباري، جـ8 ص527).
7- انظر روايتهما في: صحيح البخاري(فتح الباري، جـ8 ص 360).
* جواب هذا السؤال يحتاج بحثاً خاصّاً، والمراد هنا الإشارة إلى هذا الإشكال فقط.
8 ـ تفسير الطبري، جـ19 ص 143. وانظر: سؤال ابن عباس لأبي الجلد في تفسير الطبري: جـ1 ص 151، 13، 123.
9 ـ رواه البخاري(فتح الباري، جـ1 ص167).(1/6)
مصادر التفسير
(5)
تفسير الصحابة للقرآن
-الحلقة الثالثة-
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال):
يكون معتمد المفسّر في هذا القسم العقل، ولا خلاف في أن الصحابة قد اجتهدوا في بيان القرآن، وقد نبّه ابن الأثير إلى ذلك في شرحه لحديث: (من قال في كتاب الله (عز وجل) برأيه...)(1)، حيث قال: (وباطل أن يكون المراد به : أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة (رضي الله عنهم) قد فسّروا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوهٍ، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي، وإن النبي دعا لابن عباس، فقال: (اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل)(2)، فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك؟)(3).
ويشتمل هذا القسم على أربعة أنواع، هي :
1- تفسير القرآن بالقرآن :
قد سبق الحديث عن أن تفسير القرآن بالقرآن مرجعه إلى الرأي، وذلك أن ربط الصحابي بين آية وأخرى كان معتمداً على العقل، ولو كان عنده سندٌ إلى رسول الله لذكره، مثل ما مرّ ذكره في تفسير قوله (تعالى): ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] حيث أُسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن الأمثلة الواردة عنهم في تفسير القرآن بالقرآن ما يلي:
عن عمر بن الخطاب في تفسير قوله (تعالى): ((وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)) [التكوير: 7] قال: تزويجها: أن يؤلف كل قوم إلى شبههم، وقال: ((احْشُرُوا الَذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ)) [الصافات:22](4).
و مما يحسن بحثه في هذا الموضوع: كيفية استفادة الصحابة من القرآن في تفسيرهم.
2- تفسير القرآن بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم مما لم ينص فيها على التفسير :
سبق الحديث عن هذا القسم، وأن معتمد المفسر هاهنا العقل، وذلك لأن الصحابي يجتهد في ربط الحديث بمعنى الآية.(1/1)
ومن أمثلته: ما رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي قال: (فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح) يقول أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم: ((وَقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)))(5).
فنلاحظ أن أبا هريرة نزّل الحديث على معنى الآية، فجعل اجتماع الملائكة هو الشهود الذي يحصل في صلاة الفجر.
3- التفسير اللغوي (المحتملات اللغوية) :
نزل القرآن بلغة الصحابة (رضي الله عنهم)، ولذا: فهم أئمة التفسير اللغوي، وإذا روي عن أحدهم تفسير لغوي، فإن محلّه القبول.
وبالنظر إلى الألفاظ اللغوية المفسّرة تجد أنها على قسمين:
الأول: ألاّ يحتمل اللفظ إلا معنى واحداً، وهذا ما لا يقع فيه خلاف، وهو أشبه بأن يجعل من القسم الذي طريقه السماع لا الاجتهاد، لعدم الحاجة لإعمال الرأي في مثل هذا.
الثاني: ما يحتمل أكثر من معنى، والسياق محتمل لها جميعها، ففي مثل هذا يكون التّميّزُ وإعمال الرأي اعتماداً على المعنى اللغوي، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره الطبري في تفسير قوله (تعالى): ((خِتَامُهُ مِسْكٌ)) [المطففين: 26] أن فيه ثلاثة أقوال، اثنين منها عن صحابيين:
القول الأول: بمعنى خِلْطُهُ، وهذا قول ابن مسعود، قال: (أما إنه ليس بالخاتم الذي يختم، أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول: طيب كذا وكذا خلطه مسك).
القول الثاني: بمعنى: آخر شرابهم، وهذا قول ابن عباس، قال: (طيّب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها حتى تختم بالمسك)(6).
4- ما يرجع إلى احتمال النص القرآني أكثر من معنى :
قد تحتمل الآية أكثر من معنى، فيذكر صحابي أحد هذه المعاني، ثم يذكر الآخر معنًى غيره من المعاني المحتملة لهذا الخطاب القرآني، وقد يعتمد في اختياره على ما سبق من الأقسام الثلاثة فيما يتعلق بالاجتهاد.(1/2)
ومن أمثلة ذلك: تفسيرهم قوله (تعالى): ((لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ)) [الانشقاق: 19]، ورد في قوله ((لَتَرْكَبُنَّ)) قراءات، منها: فتح التاء والباء، وقد اختلف في: من وجّه إليه الخطاب؟، على قولين:
الأول: أن الخطاب موجّه للرسول، واختلف في معنى ((طَبَقاً عَن طَبَقٍ)) على هذا القول على معنيين:
1- لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، وهذا مروي عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي.
2- لتركبن يا محمد سماءً بعد سماءٍ، وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية علقمة.
الثاني: أن الخطاب موجّه للسماء، والمعنى: أنها تتغيّر ضروباً من التغيّر: تتشقق بالغمام مرّة، وتَحْمَر أخرى، فتصير وردة كالدهان، وتكون أخرى كالمهل، وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية مرة الهمذاني و إبراهيم النخعي(7).
في هذا المثال تجد لابن مسعود قولين في تحديد من وجّه له الخطاب، وفي الأول يوافقه ابن عباس في هذه الجزئية، ثم يخالفه في معنى الركوب طبقاً عن طبق.
وما كان ذلك الاختلاف إلا لاحتمال هذا النص هذه المعاني المذكورة، فأبدى كل واحد منهما أحد هذه المحتملات.
مسألة : في اجتهاد الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم :
تُظهر بعض النصوص أن الصحابة كان لهم اجتهادات في فهم الخطاب القرآني وتفسيره في عصر الرسول، وكان لاجتهادهم حالتان:
الحالة الأولى: أن يُقِرّ الرسول اجتهادهم، ومن ذلك: الأثر المروي عن عمرو بن العاص، قال: بعثني رسول الله عام (ذات السلاسل)، فاحتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال: (ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] فتيممت، ثم صليت، فضحك، ولم يقل شيئاً)(8).(1/3)
ومنه: ما رواه الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: (تلا رسول الله يوماً ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) [محمد: 24]، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله (عز وجل) يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر (رضي الله عنه) حتى وُلّيَ فاستعان به)(9).
الحالة الثانية : أن يُصَحّح الرسول فهمهم للآية :
ومثاله: تفسيرهم الظلم، في قوله (تعالى): ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82]، فقد فهم الصحابة أن الظلم عام يشمل جميع أنواعه، وذلك بقولهم: (وأينا لم يظلم نفسه)، فأخبرهم الرسول بالمراد بالظلم في الآية، وأنه الشرك(10).
ومنه حديث عدي بن حاتم، في قوله (تعالى): ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ)) [البقرة: 187] حيث عمد (رضي الله عنه) إلى عقالين: أبيض وأسود، ثم جعلهما تحت وسادة، ثم جعل ينظر إليهما في بعض الليل، فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بفعله، فأرشده الرسول إلى أن المراد بهما سواد الليل وبياض النهار(11).
ففي هذين المثالين تلاحظ أن الصحابة فهموا الآية على معنى محتمل، لكنه غير المراد، فأرشدهم الرسول إلى المعنى المراد بالآية، ولم ينههم عن تفهّمِ القرآن إلا بالرجوع إليه.
حكم تفسير الصحابي :
لا يصلح إطلاق الحكم على تفسير الصحابي جملة من حيث الاحتجاج به أو عدمه، بل لابدّ من التفصيل في تفسير الصحابي.
لقد سبق ذكر أن الصحابة يجتهدون في التفسير، وهذا الاجتهاد عرضة للخطأ، لأن الواحد منهم غير معصوم حتى يقبل منه كل قوله.
ثم إن هذا الاجتهاد مدعاة لوقوع الاختلاف في التفسير، وبهذا لا يكون قول أحدهم حجة؛ لأن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعضٍ.
ويمكن تنزيل الحكم مقسّماً على مصادرهم: النقلية والاستدلالية.(1/4)
أولاً : المصادر النقلية :
يشمل الحكم على المصادر النقلية ما يلي:
أسباب النزول، وأحوال من نزل فيهم القرآن، والأمور الغيبية.
ويمكن القول بأن هذه الأمور الثلاثة لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي ليس له في هذه الأمور إلا النقل، وإن نُسب إليه التفسير، فإنما هو على سبيل التوسع في إطلاق التفسير له، ولأنه هو الناقل له.
ويحترز في هذا الحكم مما يكون من قبيل الاجتهاد في (أسباب النزول)، إذ قد تُطلق عبارة النزول ويراد بها أن المذكور في النزول داخل في حكم الآية، وكثيراً ما تصدّر بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا وكذا.
ولذا: قد يرد عنهم أقوال كثيرة في سبب النزول، وهي غير صريحة في السببية، وإنما تكون داخلة في حكم الآية، وهذا إنما قاله من قاله اجتهاداً منه.
ويلحق بهذا: أحوال من نزل فيهم الخطاب، إذ قد يقع الاجتهاد في حمل معنى الآية على حالٍ من الأحوال.
وقد يرد في الآية سببان صحيحان صريحان، فتحمل الآية عليهما، ومن ذلك ما يلي:
ما ورد في سبب نزول قوله (تعالى): ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)) [البقرة: 223]
روى أبو داود عن ابن عباس، قال: (إن ابن عمر (والله يغفر له) أوهم؛ إنما كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم.
وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون منهن مقبلات مدبرات ومستلقيات.(1/5)
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنّا نُؤتى على حرفٍ، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شَرِيَ (انتشر) أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله (عز وجلّ): ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)) [البقرة: 223] أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد).(12)
ـ وروى البخاري عن جابر في نزول هذه الآية ما يلي: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)))(13).
ففي هذين السببن ترى ما يلي:
1- أنها تحكي حالاً من أحوال من نزل فيهم القرآن، وقد سبق أن السبب قد يكون في ذكر حالٍ من أحوال العرب.
2- أن ابن عباس ذكر السبب في قضية طريقة الجماع في خبر الرجل القرشي والأنصارية.
3- أن جابر ذكر السبب في نتيجة إحدى طرق الجماع.
وقد أنزل الله هذه الآية لإبطال هذين الحالين اللذين كان يعمل بهما اليهود والأنصار.
هذا، وقد أخبر الحاكم أن سبب النزول له حكم الرفع؛ فقد قال بعد حديث جابر السابق: (هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا، فإنه حديث مسند).(14)
* كما يحترز في المغيبات من أن تكون من مرويات بني إسرائيل، فإذا سلمت من ذلك فإن لها حكم المرفوع؛ لأن الأمور الغيبية لا يمكن القول فيها بالاجتهاد.
ومن أمثلته: ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير (الكرسي) بأنه (موضع قدمي الرحمن).
فهذا المثال يتعلق بصفات الله (عز وجل) ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل، ولا مجال للاستنباط فيها.
فإن قيل: إن ابن عباس قد اشتهر عنه الأخذ من مرويات بني إسرائيل، وعليه: فإن هذا التفسير يحتمل أن يكون مما تلقّاه عنهم؟.(1/6)
فالجواب: أنه لا يُظنّ بابن عباس أنه يرجع إليهم في معرفة صفات الله، وهم من أهل التعطيل لها، فمثل هذه المسائل المتعلقة بالله لا تؤخذ إلا من المعصوم في خبره، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم إن ابن عباس لم ينفرد بهذا التفسير، بل قد صحّ عن أبي موسى(15) مثل قول ابن عباس، وهذا مما يُعزّز قول ابن عباس، ويدل على تلقيه من الرسول، والله أعلم.
أما ما يثبت من هذه المغيبات أنه من الإسرائيليات فإنه ينظر إليه:
إن كان موافقاً لما في الكتاب والسنة قُبِلَ، وإن كان مخالفاً لهما رُدّ وترك، وإن لم تظهر فيه موافقة ولا مخالفة فالحكم فيه: التوقف، والله أعلم.
ثانياً : المصادر الاستدلالية (الاجتهاد) :
سبق تقسيم هذه المصادر إلى أربعة أقسام، وسيكون الحديث هنا عامّاً عنها.
والتفسير إما أن يكون بياناً عن لفظٍ، وإما أن يكون بياناً عن معنىً.
فإذا لم يحتمل اللفظ أو المعنى المراد إلا تفسيراً واحداً لا غير، فإن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، وحكم هذا التفسير: القبول؛ لعدم احتمال غيره.
أما إذا وقع الاحتمال في الآية، فإن هذا مجال الاجتهاد والرأي، وإذا كانت الآية محتملة لأكثر من قول، فإن هذا الاجتهاد يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون مما توافق عليه اجتهاد الصحابة (أو كان في حكمه؛ كالإجماع السكوتي) فإن هذا حجة يجب قبوله عنهم.
الثاني: أن يقع بينهم خلاف مُحقّق، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بحجيّة هذه الأقوال، ولا بأحدها على الآخر؛ لأن قول أحدهم لا يكون حجة على الآخر، فلا يقال: معنى الآية كذا لأنه قول ابن عباس، مع وجود مخالفٍ له من الصحابة.
وإنما يكون عمل من بعدهم في مثل هذه الحالة الترجيح بدليل صالح للترجيح، ومحلّ هذا البحث موضع آخر، وهو قواعد الترجيح؛ لأن المراد هنا بيان ما يكون حجة وما لا يكون من أقوال الصحابة.. والله أعلم
الهوامش :
1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ح/790. البيان(1/7)
2) أخرجه أحمد، جـ1ص266، وصحح إسناده أحمد شاكر، ح/2397، ح/2881. البيان
3) جامع الأصول، جـ2ص4.
4) انظر : الدر المنثور، جـ 8 ص430.
5) انظر : فتح الباري، جـ 8 ص251.
6) انظر أقوالهم في تفسير الطبري، جـ30 ص106، 107..
7)انظر مروياتهم في تفسير الطبري، جـ30 ص122،124.
8) أخرجه أحمد وأبو داود.
9) تفسير الطبري، جـ 26 ص58.
10) انظر رواية ذلك في صحيح البخاري (فتح الباري، جـ 1 ص110، جـ 6 ص448).
11) انظر روايته في صحيح البخاري (فتح الباري، جـ 8 ص231)..
12) انظر : عون المعبود، جـ 6 ص204،205.
13) انظر : فتح الباري، جـ 8 ص37.
14) معرفة علوم الحديث، ص20.
15) أشار إلى روايتهما ابن حجر في الفتح (جـ 8ص47)، وقد صحح إسناد أبي موسى.(1/8)