الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فإن القرآن الكريم كلام الله _عز وجل_ أنزله على قلب نبينا محمد " ليكون من المنذرين.
وما زال العلماء _منذ نزوله_ يتعاقبون على دراسته، ويعكُفون على النهل من معينه، والتزود من هدايته.
هذا وإن لعلماء التفسير من ذلك أوفرَ الحظ والنصيب؛ حيث صرفوا همهم لتدبر كتاب الله، وفهم مراده _عز وجل_ فكان من ذلك المؤلفاتُ العظيمةُ في التفسير على اختلاف مناهج أصحابها.
ومن أعظم ما أُلِّف في هذا الشأن في العصور المتأخرة ما رقمته يراعةُ العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور × وذلك في تفسيره المعروف بـ: التحرير والتنوير.
فهو تفسيرٌ عظيمٌ حافلٌ بما لذَّ وطاب من العلوم، ولا غرو في ذلك؛ فصاحبه عالم كبير، وجهبذ نحرير، له يد طولى، وقِدْحٌ مُعَلَّى في علوم شتى.
والذي يطَّلع على مؤلفاته الكثيرة المتنوعة يراها تحمل طابعاً مميزاً، وطرزاً فريداً لا تجده إلا عند الندرة من العلماء، وفي القليل من المؤلفات.
ومع ذلك فإن هذا العالم لم يأخذ حظَّه من الذيوع والشهرة.
ونظراً لعظم شأن تفسيره، ولأنه مليء بكنوز من العلم والمعارف، والثقافة، ولكونه مطولاً يقع في ثلاثين جزءاً، وفي صفحات يصل عددها إلى أحد عشر ألفاً ومائة وسبع وتسعين صفحة من غير الفهارس، وبخط صغير، ولو كان الخط أكبر لكانت الصفحات أكثر، وهذا مما يصرف عن قراءته _ فقد رأيت أن أستخرج بعض اللطائف الرائعة، واللفتات البارعة التي احتوى عليها ذلك التفسير العظيم؛ رغبةً في عموم النفع، وإسهاماً في التعريف بذلك العمل الجليل الذي لا يخطر لكثير من طلبة العلم _فضلاً عن غيرهم_ ما يشتمل عليه من نفائس العلم وغواليه، وقد سميته (التقريب لتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور).(1/1)
وقد صُدِّر ذلك الكتاب بمقدمة، وتوطئة، وأربعة مباحث تحتوي على معالم عامة في سيرة ابن عاشور، وتعريف عامٍّ بتفسيره، ومنهجه فيه، وخلاصة ما اشتمل عليه مع مقدمة في علم البلاغة، ثم الشروع في إيراد اللطائف التي استخرجت من ذلك التفسير.
والكتاب المذكور يقع فيما يزيد على ألف صفحة.
وهو الآن في طور الإعداد للطبع.
وقد بدا لي بعد استخارة ومشورة أن تُفرد تلك المباحث، ويُزاد عليها مقدمة ابن عاشور على تفسيره، ومختارات من مقدماته العشر؛ لتكون كالمدخل بين يدي ذلك التفسير(1) وسميته:
(مدخل لتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور)
وأخيراً أسأل الله _بأسمائه الحسنى وصفاته العلى_ أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر للشيخ ابن عاشور، وأن يسكنه فسيح جناته؛ إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي: ص.ب: 460
27/3/1428هـ
جامعة القصيم _كلية الشريعة وأصول الدين_
www.toislam.net
alhamad@toislam.net
قبل الدخول في سيرة ابن عاشور، ومنهجه المجمل والمفصل في تفسيره _ يحسن التنبيه إلى الأمور التالية:
1_ أن هذا المدخل الذي يشتمل على منهج ابن عاشور في تفسيره أشبه ما يكون بالقراءة، أو الانطباع العام؛ فلم يكن المقصود _ابتداءً_ دراسة هذا الكتاب بقدر ما كان إبرازاً لمزاياه، ولفتاً للأنظار إليه.
وليس من ضرورة ذلك تتبع المؤلف في كل صغيرة وكبيرة، والوقوف عند كل شاردة وواردة في تفسيره.
2_ أن ابن عاشور عالم كبير متفنِّن، وقد أمضى ما يقرب من أربعين سنة في تفسيره؛ فيحتاج في مناقشته في بعض الأمور إلى كبير مثله، أو مجموعة متخصصين في شتى الفنون؛ فلا يحسن _والحالة هذه_ أن يسارع إلى تخطئته؛ لقوة عارضته، وكثرة مخارجه، وجزالة عبارته، وإن كان هذا الأمر نسبياً، ويختلف من شخص لآخر.
__________
(1) _ سبق أن استللت من ذلك الكتاب أغراض السور، وأُفْرِدَتْ في كتيب خاص.(1/2)
3_ أن كلامه في بعض المواضع يحمل على بعض؛ فقد يظهر في موضعٍ ما إشكال، أو إجمال؛ فإذا انتقلت إلى موضع آخر في نفس الموضوع ربما زال الإشكال.
4_ أننا بحاجة إلى إبراز الوجه المشرق _وما أكثره_ في سير علمائنا ومؤلفاتهم.
فليس بالضرورة إذا ذكر شخص أو عالم أن تُذكر هفواته، أو تُتَلمس عثراته، أو يُفصل فيها من غير حاجة.
أما إذا احْتِيْجَ إلى الرد والمناقشة مع أحد منهم فلذلك موضعه، ومناسبته، وما يليق به.
وإذا كانت الحاجة إلى التفصيل فُصِّل في ذلك، وإلا ذكرت أخطاؤه إجمالاً.
وبذلك نحفظ لعلمائنا وعظمائنا أقدارهم بلا وكس، ولا شطط.
كيف إذا استحضرنا أن الشيخ ابن عاشور قد عاش في مرحلة حرجة من مراحل تاريخ أمة الإسلام خصوصاً في بلدان المغرب العربي؟
حيث إن الاستعمار كان يضرب بجرانه فيها، ويجوس خلال ديارها؛ سعياً في تغريبها، وتفريقها، وطمس هويَّتها، والقضاء على ما بقي من معالم دينها، وعلومها، وعفتها؛ فذلك يدعو إلى الاحتفاء بهذا العالم، ويقود إلى التماس المعاذير له.
ولا يعني ذلك أن يساير في خطئه، وإنما المقصود أن يحفظ له قدره، وألا يغمط إحسانه، وفضله.
يقول العلامة الأستاذ محمد كرد علي × في مذكراته 1/ 274 : =دخل عليَّ مستشار المعارف, وأنا في مكتبي بالوزارة ظاهر الغضب على محرر جريدتنا المقتبس؛ لنشره في الجريدة تعريضاً ببعض رصفائي الوزراء؛ خدمة لأعراض من يخدمهم من حزبه؛ فسألني المستشار عن غضبي على خلاف عادتي, فذكرت له السبب, فقال: لا أعرف كيف أعلل هذه الأخلاق فيكم تسقطون أبداً رجالَكم من الأعين, ورجالُكُم قليلون مهما بلغ عددهم لا يتجاوز المائة؛ فإذا أسقطتموهم كلهم فمن يبقى يخدمكم في السراء والضراء, وينفعكم باسمه ومكانته؟!+.(1/3)
وقال الأستاذ محمد كرد علي _أيضاً_ : =كان أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري وهو على سرير الموت يقول لمن حوله من أصحابه: اذكروا مَنْ عندكم من الرجال الذين ينفعونكم في الشدائد, ودوِّنوا أسماءهم في جريدة؛ لئلا تنسوهم, ونوِّهوا بهم عند كل سانحة, واحرصوا عليهم حرصَكم على أعزِّ عزيز.
وأظنهم على كثرة ماكدَّوا حافظتهم وذاكرتهم لم يعدوا أكثر من خمسين رجلاً.
وكان يقول لنا _أي الشيخ طاهر_ تجاوزوا عن سيئاتهم, وانتفعوا بحسناتهم.
وشيخنا هذا قضى عمره في السعي إلى الإصلاح والتجدد+.
5_ أن المؤلف × يرى أن القرآن الكريم كتاب هدى وإصلاح، ومنبع علوم وآداب؛ فلا عجب _إذاً_ أن تجد في تفسيره تعرُّضاً لكثير من العلوم، والفنون، وشتى المعارف من صناعة، وطب، ونظريات في الفلك وغير ذلك من فروع الثقافة المختلفة التي قد يرى غيره أنها ليس من صميم عمل المفسر.
ولكن إذا علم منهجه زال العجب، وكان ذلك أدعى لقبول ما يورده؛ إذ هو ينطلق من القرآن الكريم إلى كلِّ ما مِنْ شأنِه رفعةُ الأمةِ في علومها، وشؤون حياتها الأولى والأخرى.
6_ أن من أسباب دراسة سيرة الشيخ ابن عاشور وتفسيره التحرير والتنوير _ الرغبةَ في مزيد من الصلة بعلماء المغرب _بكافة دوله_ حيث إن بُعد المسافة، وقلة التواصل سبب للحرمان من الإفادة والتقارب.
وقد لمست شيئاً من ذلك من خلال كثير من الرسائل التي تصل عبر البريد العادي أو الإلكتروني؛ حيث وجدت الرغبة في مزيد من التواصل، بل والتعجب من أولئك في كوننا في بلادنا نعرف أو نُعنى بعلماء تلك البلاد كالشيخ ابن عاشور، والشيخ محمد الخضر حسين وهما من تونس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي من الجزائر _رحم الله الجميع_.
ولا ريب أن العلم رحمٌ بين أهله، ولئن بُسط العذر في الزمن الماضي لقلة وسائل الاتصال _ فهو الآن غير مبسوط؛ لتيسر الاتصال _ولله الحمد_.
فهذه بعض التنبيهات التي أحببت الإشارة إليها في بداية هذا الكتاب.(1/4)
هو العلامة الشيخ محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس جمادى الأولى سنة 1296هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي كان يحرص على أن يكون خليفة لهم في العلم والسلطان والجاه.
تلقى العلم كأبناء جيله، حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطُّشٍ وحبٍّ للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها من المعارف، والثقافات، بل والطب، وإتقان الفرنسية؛ فكان آية في ذلك كله.
له مؤلفات كثيرة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا، وردٌّ على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وأليس الصبح بقريب، وغيرها كثيرٌ كثيرٌ سواء أكان مطبوعاً أم مخطوطاً.
وكان ذا عقل جبار، وذا تدفُّق وتدفُّع في العلم؛ فكأنه إذا كتب في أي فنٍّ أو موضوع _ يغرف من بحر، وينحت من صخر؛ فإذا رأيت عنوان الموضوع الذي يريد الكتابة فيه قلت: ماذا سيقول؟ فإذا قرأت ما تحته رأيت العجب العجاب؛ لذا فإنك تحتاج وأنت تقرأ له أن تُحضر ذهنك، ولا تتشاغل عنه.
وكان ذا أسلوب محكم النسج، شديد الأسر، يذكر بأرباب البيان الأوائل.
وكان إذا كتب استجمع مواهبه العلمية، واللغوية، والأدبية، والاجتماعية، والتاريخية، والتربوية وغيرها لخدمة غرضه الذي يرمي إليه.(1/5)
فلا غروَ _إذاً_ أن تجد في كتاباته عن أي موضوع: القصةَ، والحادثةَ التاريخيةَ، والنكتةَ البلاغيةَ، والمسألةَ النحويةَ، والأبياتِ الشعريةَ، والمقاصدَ الشرعيةَ، والمناقشةَ الحرةَ، والترجيحَ والموازنةَ.
كل ذلك بأدب عالٍ، وأسلوب راقٍ، ونَفَسٍ مستريض؛ فتشعر إذا قرأت له أن هذا البحث كتبه مجموعةٌ من المتخصصين في فنون شتى.
يقول الأستاذ محمد الطاهر الميساوي _حفظه الله_ في مقدمة كتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور: =ومن ثمَّ فلا غرابة أن جاءت هذه السيرة وارفة الأفنان، متنوعة العطاء، دانية القطوف، وكأنما أنت في حضرة مجمع من العلماء ضُمَّ في صعيد واحد: اللغوي، والأديب، والمفسر، والمحدث، والأصولي، والفقيه، والمربي، والمؤرخ، والفيلسوف، والمنطقي، بل وحتى العالم بأمور الطب.
ويكفي لمعرفة مكانة ابن عاشور في التفسير الإحالة على موسوعته تفسير التحرير والتنوير.
أما في الحديث فهو حافظ حجة له إسناد جامع لصحيحي البخاري ومسلم، وله كذلك إسناد عزيز روى به أحاديث البخاري يعرف بسند المحمّدين، وقد أجاز بذلك عدداً من العلماء من تونس والجزائر والمغرب.
هذا إلى تحقيقاته وشروحه على مرويات الإمامين مالك بن أنس (كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا) وأبي عبدالله البخاري (النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح) التي استدرك فيها على الكثيرين من سابقيه.
أما رسوخ قدمه في الفقه وأصوله فيكفي شاهداً له كتاب (المقاصد) الذي بين أيدينا، وشرحه المسهب وتحقيقاته المتينة على كتاب تنقيح الفصول في الأصول للقرافي(1).
__________
(1) _ يقول الميساوي: =العنوان الكامل لهذا الكتاب المهم هو: حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول، وقد نَشَرَتْه في أربعة أجزاء مطبعةُ النهضة بتونس سنة 1341هـ.
وسنقوم بإعداده للنشر في القريب العاجل بعون الله _ تعالى _+.(1/6)
وابن عاشور إلى هذا وذاك لُغوي محقِّق بالمعنى الواسع لعلوم اللغة، سَلَّمَتْ له بالإمامة في ذلك المجامعُ العلمية كمجمعيْ دمشق والقاهرة اللَّذيْن اعتمداه عضواً مراسلاً بهما، وما تزال مداخلاته وأنظاره على صفحات مجلتيهما تنتظر الجمع والتحقيق والنشر.
ذلك فضلاً عن العدد الكبير من كتب اللغة والأدب ودواوين الشعر التي حققها، فمنها ما نشر، ومنها ما لا يزال مخطوطاً.
وللفلسفة والمنطق عند ابن عاشور مكانة وتقدير؛ فقد كان يدرِّس المنطق والحكمة، وكان كتاب النجاة للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا من جملة الكتب التي درَّسها بجامع الزيتونة، جنباً إلى جنب مع المقدمة لابن خلدون، ودلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني، والموافقات للشاطبي..إلخ.
وهو كثيراً ما يستشهد بأقوال الفلاسفة وينوه بآرائهم، ويوظف مناهجهم في استدلالاته وتحليلاته، ويدرأ ما حاق بأنظارهم من سوء فهم وسوء تأويل.
أما ما قد يثير الاستغراب حقّاً فهو صلته بالطب التي تحتاج إلى تحقيق، خاصة وأن له في هذا كتاباً مخطوطاً بعنوان تصحيح وتعليق على كتاب الانتصار لجالينوس للحكيم ابن زهر.
أما التاريخ فله فيه كذلك آثار ما تزال مخطوطة منها كتاب (تاريخ العرب) وكتابات في السير والتراجم+.(1)
وقال الميساوي: =ولكن على الرغم من سمات الغزارة والتنوع والشمول والأصالة التي طبعت شخصيته فاصطبغت بها آثاره وأعماله _ فإن ما صُرِف له من عناية الباحثين وجهود الدارسين لا يكاد يفي بمعشار ما يستحق، بل إن طوائف كبيرة من المهتمين بحركة الفكر الإسلامي ومصائره في العصر الحديث لا يكادون يعرفون عنه شيئاً ذا بال، ناهيك عن عامة المثقفين وسائر جمهور المسلمين.
__________
(1) _ مقدمة مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي ص16_17.(1/7)
فمن العسير العثور على دراسة علمية ضافية تترجم لشخصيته ترجمة موثقة ووافية، وتعرف بتراثه العلمي تعريفاً دقيقاً، فضلاً عن أن تحيط بذلك التراث تحليلاً لمكوناته وأبعاده، واستجلاءً لمواطن الأصالة والابتكار فيه، وتقديراً وتقويماً لمكانته في سياق حركة الفكر والثقافة الإسلاميين في موطن نشأته _تونس_ على وجه الخصوص، وفي العالم الإسلامي بوجه العموم.
بل إن آثاره العلمية لم يتح لها من الانتشار والتداول ما يجعلها في متناول الدارسين والباحثين، فضلاً عن سواهم من طلاب المعرفة والمثقفين.
فكثيرٌ مما طُبع منها قد تطاول عليه العهد ونفد من المكتبات، ولم يجد من أهل العزم من المحققين والناشرين من يتولَّى نفضَ الغبار عنه، وإخراجه للناس إخراجاً جديداً.
أما ما لَمْ يُطبع _وهو غزير_ فلا يزال طيَّ النسيان يقبع مخطوطاً على رفوف المكتبة العاشورية بالمرسى في تونس، ويتراكم عليه غبارُ السنين، وتتهدده آفاتُها بالإتلاف، وكأنما تواطأت صروفُ الزمان، وإهمال الإنسان أو تدبيرُه على تغييب مَعْلَمٍ مهم من معالِم الحياة الفكرية والعلمية للمسلمين في القرن العشرين!
فالرجل =لم يلق حظه+ كما قال بحق المرحوم الشيخ محمد الغزالي.
إن ابن عاشور ليس اسماً عاديّاً في محيط الثقافة الإسلامية، بل إن اسمه وجهاده قد ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بواحدة من أهم مؤسسات هذه الثقافة وبرمز من أبرز رموزها في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهي جامعة الزيتونة.
وهو _بدون شك_ آخر العمالقة الذين عرفهم التاريخ المديد لهذه المؤسسة العريقة، قبل أن يتم الإجهازُ عليها، وطمسُها في ظل عهود الاستقلال الموهوم، والتحديث المزيف.(1/8)
لقد عَرَفَتِ الزيتونةُ محمداً الطاهر ابن عاشور طالباً نابهاً متميزاً في تحصيله العلمي، وخَبَرتْهُ أَرْوِقتُها مدرِّساً متحمساً مقتدراً، وَعِهدَه طلابُها وأساتيذُها داعيةً لإصلاح التعليم الزيتوني، وحاملاً للوائه، وعاملاً في سبيله من مواقع مختلفة، كما عرفت تونس ابن عاشور شيخاً لجامعها الأعظم _الزيتونة_ وخبرته قاضياً ومفتياً يتوخَّى تحقيقَ العدل والالتزام بالحق في أقضيته وفتاويه مهما كان في ذلك من معارضة لرغبات المتقاضين، أو مناقضة لأهواء المستفتين+.(1)
هذا وقد تولى مناصب علمية وإدارية بارزة كالتدريس، والقضاء، والإفتاء، وعضويات المجامع العلمية، وغيرها.
أوليات ابن عاشور(2): اعتنى الأوَّلون بالتصنيف بالأوائل, مثل أبي هلال العسكري, والجراعي, والسيوطي.
وللشيخ محمد الطاهر ابن عاشور أوّليات تستحقّ الوقوف عندها, والإشارة إليها, وهي مظهر من مظاهر تميّز المترجم له × وفيما يلي شيء من ذلك:
1_ وهو أوّل مَنْ جمع بين منصب شيخ الإسلام المالكي, وشيخ الجامع الأعظم (الزيتونة).
2_ وهو أوَّل مَنْ سُمِّي شيخاً للجامع الأعظم سنة (1351هـ _ 1932م) ليتولَّى الإصلاحات العلمية والتعليمية, فكان أوّل شيخ لإدارة التعليم بجامع الزيتونة عوضاً عن النظارة(3) التي كانت هي المسيّرة للتعليم به.
3_ وأوَّل مَنْ لُقِّبَ بشيخ الإسلام, وهو لقب تفخيمي تداولته الرئاسة الشرعية الحنفية بتونس منذ القرن العاشر الهجري, ولم يكن لدى المالكية بتونس هذا اللقب.
وقد أُطلق على رئيس المجلس الشرعي الأعلى للمالكية بصفة رسمية عليه.
__________
(1) _ المرجع السابق ص17_19.
(2) _ انظر شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره د. بلقاسم الغالي ص56_62، ومحمد الطاهر بن عاشور علامة الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه للأستاذ خالد الطباع ص78_80.
(3) _ النظارة: هي الهيئة المشرفة على التعليم.(1/9)
4_ وهو أوَّل مَنَََْ تقلَّد جائزة الدولة التقديرية للدولة التونسية ونال وسام الاستحقاق الثقافي سنة (1968م) وهو أعلى وسام ثقافي قررت الدولة التونسية إسناده إلى كلّ مفكر امتاز بإنتاجه الوافر ومؤلفاته العميقة الأبحاث, ودعوته الإصلاحية ذات الأثر البعيد المدى في مختلف الأوساط الفكرية.
وحصل على جائزة رئيس الجمهورية في الإسلاميات عامي 1972م_1973م.
5_ وهو أوَّل مَنْ أحيا التصنيف في مقاصد الشريعة في عصرنا الحالي بعد العزّ ابن عبدالسلام (ت 660هـ) والشاطبي (790هـ).
6_ وهو أوَّلُ مَن أدخل إصلاحاتٍ تعليميّةً وتنظيميّة في الجامع الزيتوني في إطار منظومة تربوية فكرية, صاغها في كتابه: (أليس الصبح بقريب) الذي ألفه في بواكير حياته، والذي دل على عقلية تربوية فذة، وكان شاهداً على الإصلاح التربوي والتعليمي الشرعي المنشود.
فأضاف إلى الدراسة موادَّ جديدةً كالكيمياء والفيزياء والجبر وغيرها, وأكثر من دروس الصرف, ومن دروس أدب اللغة, وشَرَع بنفسه في تدريس ديوان الحماسة, ولعلّه أول من درّس ذلك في الزيتونة.
أخلاق ابن عاشور وشمائله: كان الشيخ × تزينه أخلاق رضية، وتواضع جم، فلم يكن على سعة اطلاعه وغزارة معارفه مغروراً كشأن بعض الأدعياء ممن لم يبلغ شأوه.
كان مترفعاً عن صغائر الأمور، إن نظرت إليه _كما يقول مترجموه_ لم تقل إلا أنه رجل من النبلاء جمع بين النبل في الحسب والنسب، والنبل في العلم والأخلاق حتى قال فيه الشيخ محمد الخضر حسين: =ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم+(1).
__________
(1) _ تونس وجامع الزيتونة ص81، وانظر محمد الطاهر بن عاشور للطباع ص81.(1/10)
وقد اشتهر × بالصبر، وقوة الاحتمال، وعلو الهمة، والاعتزاز بالنفس، والصمود أمام الكوارث، والترفع عن الدنايا، تراه في كتاباته عفيف القلم، حلو المحاضرة، طيب المعاشرة مع تلاميذه حتى إنك لا تجد بين كتاباته رداً على أحد ممن وقف ضده موقف الخصم، بل أسبغ على كتاباته طابع العلم الذي يجب أن يُبَلِّغه، لا مظهر الردود التي تضيع أوقات طالب العلم، وتقود إلى الأحقاد والتعصب.
بل إن أشهر ما عُرِف به الشيخُ رحابة صدره مع منتقدي فتاويه، ومخالفيه في الرأي؛ فهو لا يغلظ لهم القول، ولا ينقدهم النقد اللاذع، بل يُلَمِّح باحترام وتقدير ولطف دون أن يتعدى دائرة النطاق العلمي النزيه.
وما عَرف لسانُه ولا قلمه نابيَ الكلام؛ فإذا احتاج إلى الرد على أحد _ عَلَت ردودَه مسحةٌ من الأدب الجم، واحترام آراء الآخرين، وترك الاستخفاف أو الاستنقاص للمخالفين كيفما كانت شخصياتهم، ومهما كانت آراؤهم.
ولذلك لم يَنْزِل طيلة حياته إلى الإسفاف في القول كما هو الشأن في المناقشات التي ظهرت في عصره، والمعارك الأدبية والعلمية التي كانت يومئذ محط أنظار الناس(1).
يقول فيه صديقه في الطلب الشيخ محمد الخضر حسين متحدثاً عن شيء من أخلاقه: =شب الأستاذ على ذكاء فائق، وألمعية وقادة، فلم يلبث أن ظهر نبوغه بين أهل العلم+(2).
ويقول فيه: =وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان، ويضيف إلى غزارةِ العلمِ وقوةِ النظرِ صفاءَ الذوقِ، وسعةَ الاطلاعِ في آداب اللغة.
وأذكر أنه كانَ يوماً في ناحية من جامع الزيتونة ومعه أديبان من خيرة أدبائنا، وكنتُ أقرأ درساً في ناحية أخرى من الجامع، فبعث إليَّ بورقة بها هذان البيتان:
تأَلَّقَتِ الآدابُ كالبدر في السَّحَرْ ... وقد لفظ البحران موجُهما الدرر
__________
(1) _ انظر شيخ الجامع الأعظم ص150، ومحمد الطاهر بن عاشور للطباع ص81.
(2) _ تونس وجامع الزيتونة ص125_126.(1/11)
فما لي أرى منطيقها الآن غائباً ... وفي مجمع البحرين لا يُفقد (الخضر)(1)
وقد وصف ابن عاشور نفسه بقوله: =ولا آنَسُ برفقة ولا حديثٍ أُنْسي بمسامرة الأساتيذ والإخوان في دقائق العلم ورقائق الأدب, ولا حُبِّبَ إليِّ شيء ما حُبّبت إليّ الخلوة إلى الكتاب والقرطاس متنكّباً كلَّ ما يجري من مشاغل تكاليف الحياة الخاصة, ولا أعباء الأمانات العامة التي حُمِّلتُها فاحتملتُها في القضاء وإدارة التعليم حالت بيني وبين أنسي في دروس تضيء منها بروق البحث الذكي, والفهم الصائب بيني وبين أبنائي الذين ما كانوا إلاَّ قرَّة عين وعدّة فخر, ومنهم اليوم علماء بارزون, أو في مطالعة تحارير أَخْلُصُ فيها نجيّاً إلى الماضي من العلماء والأدباء الذين خلَّفوا لنا آثارهم الجليلة ميادين فسيحة ركضنا فيها الأفهام والأقلام مرامي بعيدة سدَّدنا إليها صائب المهام+.(2)
ووصفه أحدهم فقال: =رأيتُ فيه شيخاً مهيباً يمثّل امتداداً للسلف الصالح في سمته, ودخل في عقده العاشر ولم تَنَلْ منه السنون شيئاً..
قامة سمهرية خفيفة اللحم, وعقلية شابة ثرية بحصيلتها, وقلب حافظ أصاب من علوم القدماء والمحدثين, ولسان لافظ يقدر على الخوض في كلّ شيء من المعارف, وذهن متفتّح يشقّق الحديث روافد مع وقار يزيّنه, وفضل يبيّنه, وأخلاق وشمائل حسنة تهش للأضياف، وترحّب بالوارد, وتعطي في عمق لمن يريد الاغتراف من بحر كثرت مياهه, وقد ازدحمت العلوم فيه+.(3)
__________
(1) _ انظر شيخ الجامع الأعظم ص63، ومحمد الطاهر بن عاشور ص82.
(2) _ محمد الطاهر بن عاشور ص82.
(3) _ مجلة جوهر الإسلام عدد1، السنة 1963م ص56، وانظر شيخ الجامع الأعظم ص63.(1/12)
ووصفه الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة فقال: =كان فريداً مع تقدّم السنّ في حضور واستحضار ما يسأل عنه من مسائل؛ أذكر أنّني طلبتُ منه ذات يوم من شهر أوت (أغسطس _آب ) (1963م) بعد أن جلستُ إليه في زيارتي له بعد العصر عن وجه إعراب خفي عليّ, فإذا الإمام _ رحمة الله عليه _ يفيض في بيان ذلك، ويشرح الوجوه المختلفة، فيستشهد بما أوردهُ ابن هشام في (المغني) وفي (التصريح), وكأنه يقرأ في كتاب.
وكذلك كان شأنه في كلِّ ما يُسأل عنه من قضايا العلم اللغوي أو الشرعي, كان خزانة علم تتنقل يجد لديه كل طالب بغيته, أعانه على حصول ذلك وبلوغ المرتبة العالية العجيبة فيه اشتغاله المتواصل بالمراجعة والتدريس والتحقيق والتأليف, مع صحة ذهن, وجودة طبع, وقوة عارضة, وطلاقة لسان.
والشيخ صبور على المحن, فلم يَشْكُ من أحد؛ رغم الحملات التي أُثيرت ضدّه، ولم أعثر في نقده العلمي على ما يمسُّ الذوق، أو يخدش الكرامة, عفّ اللسان, كريم, مُحِبٌّ لأهل العلم ولطلبته، ولمن كان أهلاً للمحبة.
وكان في مناقشاته العلمية لا يجرح أحداً، ولا يحطّ من قدره, فإذا لاحظ تهافتاً في الفكر لمَّح إلى ذلك تلميحاً.
ولم أجد في خصوماته الفكرية ما يمسّ شخصية أحد قطّ, ورغم الحملات التي شُنَّت ضده في فتوى التجنّس وغيرها لم ينزل عن المستوى الخلقي الذي يتصف به العلماء, بل لم يُشِرْ إلى خصومه, ولم يشكُ منهم قط.
وأما عاداته ومعاملاته فكان الشيخ كثير الإحسان إلى مساعديه من المستكتبين والعملة, ومن عاداته عدم تناول وجبة العشاء, فإذا حضر مأدبة تظاهر بالأكل مجاملةً+.(1)
قال داغر: =امتاز إلى جانب علمه ودأبه ومعرفته الواسعة وتحرره الفكري, بالتواضع، والنفس الخيرّة، والعقل الراجح، والتدبير القويم+.(2)
__________
(1) _ شيخ الجامع الأعظم ص63_74.
(2) _ محمد الطاهر بن عاشور ص84.(1/13)
ويقول فيه الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة: =هو نمطٌ فريد من الأشياخ لم نعرف مثله بين معاصريه أو طلابه أو من كان في درجتهم من أهل العلم؛ إذ كان انكبابه على الدرس متميّزاً, واشتغاله بالمطالعة غير منقطع, مع عناية دائمة مستمرة بالتدوين والكتابة, وتقديم ما يحتاج إليه الناس من معارف وعلوم, وأذواق وآداب, وملاحظات وتأملات؛ فلا بدع إذا اطّرَدتْ جهودُه، واستمرّ عطاؤه في مختلف مجالات الدرس والثقافة: في حقول المعرفة الشرعية الدينية, وفي الدراسات اللغوية, وفي معالجة أوضاع التعليم في الزيتونة, والعمل على إصلاحها, مع ذبّه عن الإسلام أصوله وآدابه, وتطلعه كل يوم إلى مزيدٍ من المعرفة بكلّ ما يمكن أن يقع تحت يده من كتب فريدة, ومخطوطات ومصنفات في شتّى العلوم والفنون.
وقد وهبه الله متانة علمٍ, وسعة ثقافة, وعمق نظر, وقدرة لا تفتر على التدوين والنشر, وملكات نقدية يتضح أثرها في طريقة الجمع بين الأصول والتعريفات, وما يلحق بها من ابتداعات وتصرفات.
وهكذا صدرت مقالاته وتحقيقاته، وبحوثه وتآليفه متدفقة متوالية من غير انقطاع أو ضعف, فَنُشِر ما نُشِرَ, وبقي الكثير منها محفوظاً بخزانة آل عاشور ينتظر من يتولى نشره وطبعه وتحقيقه+.(1)
ومن لطائف ذكائه ما ذكره تلميذه أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر حيث حكى عن نفسه أنه كان يحضر دروس العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في (الموطأ) وهو إذ ذاك شيخ الزيتونة, وشيخ الإسلام المالكي حوالي عام(1933م) وفي ذات مرة ناقش الشيخ ابن عاشور في مدلول لفظة لغوية, والشيخ ابن عاشور متمكِّن في مادة اللغة, متثبت في نقله, مع سمو ذوق وقدرة على الترجيح بين الأقوال, في أسلوب علمي وحُسن عرض, ولما طالت المناقشة أراد المترجم أن يفحم الشيخ ابن عاشور؛ فاخترع لوقته شاهداً شعرياً على صحّة زعمه, فأجابه الشيخ ابن عاشور بديهةً ومن الوزن والرويّ نفسه:
__________
(1) _ محمد الطاهر بن عاشور ص84_85.(1/14)
يروون من الشعر ما لا يوجد(1)
ففغر فاه مبهوتاً من شدة ذكاء الشيخ، وسرعة بديهته.
وأخيراً هذه مقالةٌ تجمع كثيراً من معالم سيرة الشيخ ابن عاشور كتبها الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي الجزائري 1306_1385هـ في الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ونُشرت في جريدة البصائر سنة 1948هـ، وهي في آثار البشير 3/548_552، بعنوان (الرجال أعمال _ محمد الطاهر بن عاشور وعبدالحميد بن باديس إماما النهضة العلمية في الشمال الإفريقي).
ومما جاء في تلك المقالة التي كتبها البشير × قوله:
=الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور علم من الأعلام الذين يعدُّهم التاريخ الحاضر من ذخائره؛ فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلٌّ في الاستدلال لها، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذّرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي، وتفرّد بالتوسع والتجديد لفروع من العلم ضيَّقها المنهاجُ الزيتوني، وأبلاها الركودُ الذهنيُّ، وأنزلتها الاعتبارات التقليدية دون منزلتها بمراحل؛ فأفاض عليها هذا الإمام من روحه وأسلوبه حياةً وجِدَّةً، وأشاع فيها مائية ورونقاً، حتى استرجعت بعض قيمتها في النفوس، ومنزلتها في الاعتبار+.
وقال: =هذه لمحات دالة _في الجملة_ على منزلته العلميةِ، وخلاصتُها أنه إمام في العلميات لا يُنازع في إمامته أحد.
__________
(1) _ هكذا في كتاب الأستاذ الطباع، والبيت هكذا لا يستقيم وزنه، ولعل الصواب:
يروي من الأشعار ما لا يوجد(1/15)
وأما العمليات فلا نعدّ منها التدريس في جامع الزيتونة، وإنما نعدّ منها إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وقد اجتمعت في الأستاذِ وسائلُه، وتكاملت أدواته، من عقل راجح لا يخيس وزنُه، وبصيرة نافذة إلى ما وراء المظاهر الغرَّارة، وفكر غوّاص على حقائق الأشياء، وذكاء تشفُّ له الحُجُب، واطلاع على تاريخنا العلمي في جميع أطواره، واستعدادٍ قوي متمكن للتجديد والإصلاح.
ومن شأن هذه المواهب المتجمعة في أمثال الأستاذ أنها تكمن حتى تُظهرها الحاجة والضرورة، والحاجة إذا ألحَّت كشفت عن رجل الساعة، وأخرجت القائم المنتظر، وقد وُجدت الحاجة إلى الإصلاح في كليتنا، فوُجد الرجل المدّخر، فكان الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور.
وإن تدبير الأحوال الاجتماعية لأقوى وأبقى من تدبير الجماعات، وإن تدبير الجماعات لأَثَرٌ من روح الاجتماع وإن غفل الناس عن ذلك.
تقلّد الأستاذ مشيخةَ الجامعِ للمرة الأولى، فدلّت المصائر على أن التدبير الاجتماعي لم يكمُل، وكان من الظواهر المحسوسة أنها وظيفة جديدة لم يطمئن موطنها، ولم يدمّث موطئها، ولم تهشّ لها النفوس المبتلاة بالتقليد، والمريضةُ بالمنافسة، خصوصاً وهي _في حقيقتها_ نزع للسلطة من جماعة وحصرها في واحد.
والخروج عن المألوفات العادية يراه المجدّدون وضعاً للإصْر، وانطلاقاً من الأسر، ويراه الجامدون فساداً في الأرض وشرطاً من أشراط الساعة.
ثم قُلِّد الأستاذُ مشيخةَ الجامع للمرة الثانية، وكان الأمر قد استتبّ، والنفوس النافرة من التجديد قد اطمأنَّت، والضرورة الداعية إلى الإصلاح قد رَجَحت؛ ومعنى ذلك كله أن التدبير الاجتماعي قد كمل؛ فخبّ الجواد في مضماره، وشع نور ذلك الاستعداد من ناره، وكان ما سرّ نفوس المصلحين من إصلاح وإن لم يبلغ مداه بعد.
لم يرَ جامع الزيتونة في عهوده الأخيرة عهداً أزهر من هذا العهد، ولم يرَ في الرجال المسيرين له رجلاً أقدر على الإصلاح، وأمدّ باعاً من شيخه الحالي.(1/16)
وإذا كان الإصلاح يسير ببطء فما الذنب ذنبه، وإنما الذنب لطبيعة الزمان والمكان، وضعف المقتضيات، وقوّة الموانع.
وحسبه أنه حرَّك الخامد، وزعزع الجامد، وأجال اليد المُصلحة في الإدارة وفي كتب الدراسة وفي أشياء أُخر.
وتلك هي مبادئ الإصلاح التي ينبني عليها أساسه.
وحسبه _أيضاً_ أنه نبّه الأذهان إلى أن إصلاحاتِ خير الدين كعهد الأمان، كلاهما لا يصلح لهذا الزمان.
وشتّان ما زمنٌ كله ممهد بالاحتلال، وزمن كل ما فيه ينادي بالاستقلال+.
وقال: =وإن الزيتونة لا تتبوّأ مكانها الرفيع إلا بواسطة جهاز داخلي متماسك الأجزاء من علمائها، يؤُمّهم إمامٌ مدرّب محنّك فقيه في المذاهب الإدارية، مجتهد في أصولها.
وإن ذلك الإمامَ المدرّبَ الفقيه المجتهد الجامع لشروط الإمامة في هذا الباب _ لهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
إن الذين يُثيرون في وجهه الغبار، أو يضعون في وجهته العواثر _ لمجرمون.
وإنا _إن شاء الله_ للأستاذ الأكبر في طريقه الإصلاحي لمؤيدون وناصرون+.
وفاته: بعض من ترجموا للشيخ ابن عاشور يذكرون أنه توفي سنة 1393هـ.
ولعل أقرب الناس صلة بالشيخ تلميذه معالي الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة _حفظه الله_.
وقد ذكر أن الشيخ توفي بالمرسى يوم الأحد 13 رجب 1394هـ، 12 أغسطس 1973م، ووري التراب في مقبرة الزلاج في مدينة تونس(1).
وقد ذكر الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة أن عمر الشيخ ابن عاشور 94 سنة، ولعل ذلك يصدق عليه بالتاريخ الميلادي حيث ولد في سبتمبر عام 1879م، وتوفي _كما مر_ عام 1973م.
أما في التاريخ الهجري فيكون عمره 98 سنة؛ حيث ولد في جمادى الأولى عام 1296، وتوفي عام 1394م.
لعل الترجمة الماضية تغنينا عن كثرة التفصيل؛ ولذا سيكون التعريف بالكتاب من خلال ما يلي:
__________
(1) _ انظر شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور، للشيخ محمد الحبيب بن الخوجة 1/169.(1/17)
أولاً: اسم الكتاب: يقول مؤلفه ابن عاشور في مقدمة كتابه 1/8_9: =وسميته (تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد) واختصرت هذا الاسم باسم: (التحرير والتنوير من التفسير)+.
فهذه تسمية مؤلفه له.
ثم اشتهر هذا التفسير باسم: (التحرير والتنوير) و(تفسير التحرير والتنوير) كما هو على غلاف الكتاب المطبوع.
ثانياً: قصة تأليفه للكتاب وبدايته ونهايته: لقد كان تفسير الكتاب المجيد أكبر أمنية كان يتمناها الشيخ ابن عاشور _ كما يقول في مقدمته _.
ولكنه كان يتردد كثيراً، فتارة يقدم، وتارة يحجم؛ إذ كانت الصوارف تعوقه، والتهيب من الإقدام على هذا الأمر العظيم يقف دونه.
وبعد تردد، واستخارة، واستعانة بالله _عز وجل_ عقد العزم على الشروع في التفسير، وأقدم عليه _كما يقول_: إقدام الشجاع على وادي السباع.
وكانت بداية تأليفه للتفسير عام 1341هـ، وفرغ منه عام 1380هـ.
وبعد فراغه منه ختمه بكلمة عظيمة مؤثرة قال فيها: =وإن كلام رب الناس حقيق بأن يُخدم سعياً على الرأس, وما أدّى هذا الحقَّ إلا قلمُ مُفَسِّرٍ يسعى على القرطاس, وإنَّ قلمي استنَّ بشوط فسيح, وكم زُجِرَ عند الكَلالِ والإعياء زجر المنيح, وإذ قد أتى على التمام فقد حقَّ له أنْ يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف, فكانت مدة تأليفه تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر, وهي حقبة لم تَخْلُ من أشغالٍ صارفةٍ, ومؤلفات أخرى أفنانُها وارفة, ومنازعَ بقريحةٍ شاربةٍ طوراً, وطوراً غارفة, وما خلال ذلك من تشتت بال, وتطور أحوال, مما لم تَخْلُ عن الشكاية منه الأجيال, ولا كُفران لله فإن نِعَمَهُ أوفى, ومكاييلَ فضلِه عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.
وأرجو منه _تعالى_ لهذا التفسير أن يُنجد ويغور, وأن ينفع به الخاصة والجمهور, ويجعلني به من الذين يرجون تجارةً لن تبور.(1/18)
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقيّ مدينة تونس, وكَتَبَ محمد الطاهر ابن عاشور+(1).
وقد طبع هذا التفسير في دار سحنون للنشر والتوزيع بتونس.
وقد جاء في ثلاثين جزءاً، في خمسة عشر مجلداً، وعدد صفحات التفسير كلها أحد عشر ألفاً ومائة وسبع وتسعون صفحة (11197 صفحة) عدا صفحات فهارس كل جزء، فإنها لم تذكر في هذه الطبعة أعني طبعة دار سحنون.
أولاً: منهج ابن عاشور المجمل
لقد سلك ابن عاشور في تفسيره منهجاً متميزاً، فجاء محتوياً على مزايا عظيمة، متضمناً علوماً كثيرة، وفوائد جمة وربما كانت عزيزة.
وقد بذل في هذا التفسير قصارى جهده، واستجمع قواه العقلية والعلمية؛ فتجلت فيه مواهبه المتعددة، وتبين من خلاله علوُّ كعبه، ووفرة اطلاعه، وعلميته الفذة النادرة، ومنهجه التربوي، ونظراته الإصلاحية.
ولقد بين × في مقدمته الرائعة منهجه بإجمال، ويمكن حصر ذلك بما يلي:
1_ بدأ تفسير ه بمقدمات عشر؛ لتكون _ كما يقول _ عوناً للباحث في التفسير، وتغنيه عن مُعاد كثير، وهذه المقدمات تضمنت علماً غزيراً عظيماً.
2_ اهتم ببيان وجوه الإعجاز، ونكت البلاغة العربية، وأساليب الاستعمال.
3_ اهتم ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض.
4_ لم يغادر سورة إلا وبين أغراضها، وما تشتمل عليها بإجمال.
5_ اهتم بتحليل الألفاظ، وتبيين معاني المفردات بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميسُ اللغة.
6_ عُنِيَ باستنباط الفوائد، وربطها بحياة المسلمين.
7_ حَرِصَ على استلهام العبر من القرآن؛ لتكون سبباً في النهوض بالأمة.
فهذا مجمل منهجه الذي بيَّنه، وسار عليه.
ثانياً: منهج ابن عاشور المفصل في تفسيره
أما منهجه على وجه التفصيل فيحتاج إلى مزيد بسط وبيان.
وفيما يلي بيان لذلك، ومن خلاله سيتبين خلاصة ما اشتمل عليه التفسير من العلوم والمعارف.
__________
(1) _ تفسير التحرير والتنوير 30/636_637.(1/19)
1_ منهجه في العقيدة: لقد سار _في الجملة_ على منهج السلف الصالح في أبواب العقيدة عدا آيات الصفات؛ فهو يسير فيها على وفق منهج الأشاعرة، وإن كان يخالفهم أحياناً، ويقترب من منهج السلف.
وإذا تعرَّض لتأويل آية جاء بأقوال السلف، وربما انتصر لهم، وإذا خالفهم في تأويل صفة أثنى عليهم، واعتذر لهم دون تعنيف أو تسفيه.
بل أحياناً يكون له في الصفة الواحدة قول يسير فيه على منهج أهل التأويل، وفي موضع آخر يوافق فيها السلف _كما في مسألة الرؤية_ فتراه _على سبيل المثال_ يتردد فيها في بعض المواضع، وفي سورة المطففين عند قوله _تعالى_: [كَلاَّ إِنَّهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوْبُوْن] تجده يثبت الرؤية، ولعلَّه رأيه الذي انتهى إليه.
ويُلتمس له العذر فيما وقع فيه من تأويلٍ وقع فيه كثير من المفسرين _ بأنه نشأ في بيئة علمية أشعرية؛ فهذا بالنسبة لباب الصفات.
أما بقية أبواب العقيدة كإثبات الوحدانية، أو الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر _ فهو يسير فيها _في الجملة_ على طريقة السلف.
وكذلك الحال بالنسبة لباب الإيمان، وحكم مرتكب الكبيرة، ومسألة الشفاعة، ومسائل الحكمة والتعليل، وفي باب الصحابة وغير ذلك من أبواب العقيدة _ يسير فيها على وفق منهج السلف.
بل إنه يرد على المخالفين في ذلك؛ فتراه يناقش المعتزلة، والخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة، ويُفنِّد رأيهم، وتراه يُخطِّئ الفلاسفة ويرد عليهم في عدد من المسائل كقولهم: بعلم الله بالكليات دون الجزئيات، وقولهم: في صدور المعلول عن العلة، أو إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.(1/20)
وتراه يُخطِّئ الشيعة والباطنية وغيرهم في كثير من مخالفاتهم العقدية، بل يخالف الأشاعرة في عدد من المسائل في باب القدر وغيره، فعلى الرغم من أن ابن عاشور قد نشأ في جوٍّ يسود فيه المذهب الأشعري إلا أنه لم يكن ليتحرج من توجيه النقد لما آل إليه المذهب الأشعري(1).
كما أنه × يُنكر البدع الحادثة، والأباطيل والخرافات كالطيرة، وأداء صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، وغيرها مما ورد في التفسير، وإن كان _أحياناً_ يميل إلى تسويغ بعض البدع كما في سورة القدر؛ حيث قال في قوله _تعالى_: [تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ] الآيةَ: =وفي هذا أصل عظيم لإقامة المواكب؛ لإحياء ذكرى أيام مجد الإسلام، وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها+ 30/463.
كما أنه يرد على أباطيل الصوفية، وإن كان _أحياناً_ يورد أقوالاً لبعضهم كابن عربي دون تعليق عليها.
فهذا مجمل منهجه في العقيدة، وسيتضح مزيد بيان لهذه الفقرة في الفقرات التالية.
2_ العناية بالحديث الشريف: فكثيراً ما يورد الأحاديث النبوية، ويستشهد بها، ويحرص على بيان صحيحها من ضعيفها، ويستعين بها على تفسير آية، أو ترجيح قول، أو بيان سبب نزول.
وربما ذكر الحديثَ دون عزوٍ أو بيانٍ لدرجة صحته.
3_ الإلمام بالفقه: فكثيراً ما يتعرض للمسائل الفقهية التي يمر بها تفسيره، فيبين ما فيها من خلاف، ويوضح أقوال أهل المذاهب، ثم يرجِّح ما يراه راجحاً.
وقد يتعرض للمسائل التي يحتاج إليها الناس في وقته، أو التي وقع فيها الخلاف كمسألة أخذ الأجر على القربات، ومسألة نقل لحوم الهدي من مكة، ومسألة أحكام الخروج من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه، إلى غير ذلك من المسائل.
4_ العناية بعلم القراءات: فهو يورد القراءات، ويرجح ذلك القول بناءً على تلك القراءة أو غيرها، وهكذا...
__________
(1) _ انظر مقدمة الميساوي على مقاصد الشريعة ص71.(1/21)
5_ العناية بمقاصد الشريعة: فهو يؤكد كثيراً على إثبات أن هناك مقاصد للتشريع، وأن منها ما هو خاص، وما هو عام، وتراه يعنى بالمصالح العليا، والغايات الكبرى التي ينبني عليها التشريع؛ فتفسيره مليء بالإشارة إلى ذلك العلم.
ولا غرو في ذلك فهو إمام له باع طويل، ونظرات في ذلك العلم _علم المقاصد_ بل هو باعثه، ومجدده في العصر الحديث خصوصاً في كتابه العظيم (مقاصد الشريعة الإسلامية) الذي قال في مقدمته أنه قصد فيه: =خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات، والآداب التي رأى أنها الجديرة بأن تُخصَّ باسم الشريعة، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد وترجيحاتها مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع، والقوانين، والسياسات الاجتماعية لحفظ نظام العالم، وإصلاح المجتمع+(1).
ولهذا تراه في تفسيره يُشير _أحياناً_ إلى كتابه المذكور عند التعرُّض لشيء من مقاصد الشريعة.
ومما يمر بقارئ التفسير من تلك المقاصد _زيادة على ما مضى_ تعرض المؤلف لتعليل الأحكام، والحديث عن سماحة الشريعة الإسلامية، وملاءمتها للفطرة، وعلى نوط الأحكام بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال.
وتراه يتعرض للحرية من حيث معناها، ومداها، ومراتِبُها في نظر الشريعة، وتراه يُبدي ويُعيد حول مقصد الشريعة من نظام الأمة، وأن تكون قويةً مرهوبةَ الجناب، مطمئنة البال.
وتجده يُبيِّن أن من مقاصد الشريعة تعيينَ أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها، ويوضح مقاصدَ أحكامِ العائلة، وآصرةَ النكاح، والنسب، والقرابة، ومقاصد التصرفات المالية، وأحكام التبرعات، والمقصد من العقوبات.
إلى غير ذلك مما سيأتي إشارة إليه في الفقرات التالية.
6_ تلمس الحكم: فتراه يحرص على تلمس الحكم من الأحكام، والتشريعات، وأزمنتها، وأماكنها، وأعدادها.
__________
(1) _ انظر مقاصد الشريعة الإسلامية، ص175.(1/22)
من أمثلة ذلك حديثه عن الحكمة من كون الأيام التي يجب على الحاج المتمتع صومها إذا لم يجد الهدي عشراً، وعن فائدة جعل بعضها في الحج.
قال × عند قوله _تعالى_: [فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ].
قال: =وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت: بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج؛ ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل.
وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية+. 2/229
وكما في حديثه عن تقديم الأفئدة على الأبصار 7/443.
وحديثه عن حكمة تحريم الربا 4/86_87.
وحديثه عن حكمة جعل التيمم عوضاً عن الطهارة بالماء 5/68_69.
وحكمة الرخصة في أكل ذبائح أهل الكتاب 6/120_121.
7_ العناية بالقواعد الأصولية: حيث جاء ذلك التفسير حافلاً بذكرها، وبيان حدودها، وما يندرج تحتها من أفراد بحسب ما يتيسر له مما يناسب المقام.
8_ العناية بالمسائل النحوية، والصرفية: فالكتاب حافل بأوجه الأعاريب، واختلاف النحاة، وترجيح ما يراه المؤلف صواباً، والاستدراك على بعض المفسرين، والنحاة فيما فاتهم.
وقل مثل ذلك في شأن المسائل الصرفية، حيث يُعنى ببنية الكلمات التي يتعرض لها، ويحرص على ردها إلى أصولها، ويتطرق إلى الأوزان، والجموع وما جرى مجرى ذلك من المسائل الصرفية.(1/23)
9_ العناية بمسائل فقه اللغة: فالمؤلف × عُني كثيراً بمسائل فقه اللغة، وسنن العرب في كلامها، فتراه يتطرق لمسألة نشأة اللغة كما في تفسيره لقوله _تعالى_: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
وتراه يتعرض للغة العربية، وفضلها، وامتيازها.
وتراه يبحث في المشترك، والمترادف، والمتضاد، والمُعَرَّب، والقياس، كما عني بمبتكرات القرآن _كما سيأتي في فقرة آتية_ والنحت وما إلى ذلك من مباحث ذلك العلم.
10_ العناية بالبلاغة العربية، وأساليب البيان: فهو فارس ذلك الميدان الذي لا يُشق له غبار.
وسيكون الحديث عن ذلك مفرداً في مبحث آتٍ.
11_ العناية بالقصص القرآني: ويتجلى ذلك من خلال تنويهه بقصص القرآن، وذكر تميزه عن غيره من القصص.
كما يتجلى من خلال اهتمامه بقصص الأنبياء وأممهم، واستلهام العبر من تلك القصص.
12_ التعرض للكتب السماوية المحرفة: فكثيراً ما ينقل من التوراة وأسفارها الخمسة، ويبين ما في ذلك من التحريف، والباطل، والصواب.
ويوضح من خلال ذلك صحة القرآن، وسلامته من التحريف.
13_ التنويه بأمهات العبادات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغيرها.
فتراه عند مروره بها يعرج على فوائدها، وحكمها، وآثارها الدنيوية والأخروية.
14_ التنويه بمكارم الأخلاق وأصول الفضائل: كالصبر، والحلم، والشكر، والصفح، والعفو، والكرم، وحسن الخلق، والشجاعة، وعلو الهمة، وأصالة الرأي، وعزة النفس، وإباءة الضيم.
فتراه _في كل سانحة_ يُنَوِّه بتلك المكارم والفضائل، ويُعلي من شأنها، ويبين حدودها، والفروق بينها، ويدعو إلى التحلي بها، ويبين آثارها الحميدة على الأفراد والأمة.
15_ التحذير من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور: فتراه كثيراً ما يُحذِّر من الجور، والظلم، والبخل، والفساد، والكذب، والنفاق، والتبذير، وما جرى مجرى ذلك.(1/24)
16_ العناية بمعالم الإصلاح العامة: فقد جاء تفسيره حافلاً بما ينهض بالأمة، ويُعلي منارها، وينزلها منزلتها اللائقة بها، ويوصلها إلى أعلى مراتب السيادة، وأقصى درجات المجادة.
ولهذا تراه يحرص على بيان أصول الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى فقه المصالح والمفاسد.
وتراه يحرص على ما يرفع من شأن الأمة كي تستقل عن غيرها في نحو الصناعة، والاقتصاد، وما جرى مجرى ذلك.
17_ الاهتمام بأصول التربية والتعليم: فكثيراً ما يبين السبل التي ترتقي بالتربية، والتعليم، كيف لا، وهو المربي الحكيم الذي باشر التعليم، وسبر أحواله، وخبر علله وأدواءه؟ كيف لا، وقد ألَّف كتابه العظيم (أليس الصبح بقريب) وهو في بواكير حياته؛ حيث كتبه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ذلك الكتاب الذي لم يُؤلَّف مثله في بابه، والذي تحدث فيه عن العلم، وتاريخ العلوم، وتطورها، وأسباب الرقي بمستوى التعلم العربي والإسلامي.
ولهذا جاء تفسيراً حافلاً بالنظرات التربوية؛ حيث يقف عند الآيات التي تشير وترشد إلى معالم التربية، وأصولها، كما في قوله _تعالى_ في سورة النساء: [كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ].
18_ الاعتداد بالسلف الصالح، والاعتزاز بالأمة وتاريخها: فمع أنَّه ألَّف تفسيره في وقت ضعف المسلمين، وتسلط الاستعمار، وسقوط الخلافة، وتغلغل الأفكار الغربية، وحدوث الهزيمة النفسية، وتأثر الكثير من المثقفين بكل ما مضى _ إلا أن ذلك لم يَنَلْ نَيْلَه من الشيخ ابن عاشور بل كان محباً لسلفه الصالح، مفاخراً بهم، معتزاً بأمته، محتفلاً بتاريخها المجيد، نافياً عنه ما علق به من زيف وتحريف.
19_ التنويه بما شاده الأوائل، والحرصُ على الإفادة منه وألا يُقتصر عليه ويوقف عنده: قال × في مقدمته الرائعة 1/7 مشيراً إلى هذا المعنى: =فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.(1/25)
ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجلٍ معتكفٍ فيما شاده الأقدمون، وآخرَ آخذٍ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضرٌّ كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناحُ الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فَنُهَذِّبَهُ ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالماً بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل+.
20_ الاعتزاز باللغة العربية: فتراه يتفاخر بها، ويُعلي من شأنها، ويرى أنها أعذب اللغات وأعظمها، وأوسعها مع أنه عاش في وقت الهزيمة _كما مرَّ_ وفي وقت كانت العربية توصم بالجمود، وتلاقي كلَّ جحود وكنود.
ومع ذلك لم يفقد ثقته بِلُغَتِه، ولم تنل منه تلك الدعايات فتيلاً أو قطميراً.
كيف لا، وهو الخبير باللغة، العالم بأسرارها، البصير بآدابها وشتَّى فنونها وعلومها.
21_ العناية بالضوابط، والتعريفات، والحدود: بحيث يتطرق للألفاظ التي تمر به في التفسير، فيعرفها بدقة، ووضوح، وشمول لا تكاد تجده عند غيره.
22_ العناية بمبتكرات القرآن، ولطائفه، وعاداته: ويعني بمبتكرات القرآن ما تميز به لفظ القرآن عن بقية كلام العرب، وأنه جاء على أسلوب يخالف الشعر، والخطابة، وعلى طريقة ليس فيها اتباع لطرائق العرب القديمة في الكلام، كما في 1/120.
كما عني باللطائف القرآنية، وذلك كثير في تفسيره، كما في 8_1/212.
كما عني × بعادات القرآن، وبيَّن أنه حق على المفسِّر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه، وبيَّن أن بعض السلف قد تعرض لشيء منها كابن عباس _رضي الله عنهما_ حيث يرى أن كل كأس في القرآن فالمراد بها الخمر، وأن كل ما جاء من [يَا أَيُّهَا النَّاْسُ] فالمراد به أهل مكة.
وابن عيينة يرى أن الله ما سمَّى مطراً في القرآن إلا عذاباً، وهكذا. انظر 1/124_125.(1/26)
23_ الربط بين هداية القرآن لمصالح المعاش الدنيوي، والمعاد الأخروي: كما في تفسيره لقول الله _ عز وجل _: [وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ].
فإنه أتى بكلام بديع حول هذا المعنى، وهكذا دأبه في كل مناسبة تمر به.
24_ العناية بعلم الجغرافيا: فقد تبين في تفسيره مدى نبوغه وضلوعه في هذا العلم؛ فكثر إيراده له؛ لأنه يحتاج إليه في تحديد المواضع والأماكن التي ورد ذكرها في القرآن الكريم؛ فلهذا كان يتحرى الصواب، ويحرص على تحقيق مواقع تلك المواضع والأماكن كبابل، ومدين، وثمود، والأحقاف وغيرها.
وقل مثل ذلك في عنايته بخطوط الطول، ودوائر العرض، كما في تفسيره لقوله _ تعالى _: [قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ].
25_ العناية بالتاريخ: ويظهر ذلك من خلال تتبعه الأحداثَ، ومعرفة أسباب النزول؛ فتراه يرجح أن هذه السورة أو الآية نزلت أولاً؛ بناءاً على ما ترجح عنده من الحوادث التاريخية وهكذا...
وتراه يفيد من التاريخ في الأحوال التي نزلت فيها النوازل، فأفتى فيها علماء ذلك المِصْرِ بكذا وكذا، وأفتى غيرهم بكذا وكذا.
26_ الاستشهاد بأقوال الفلاسفة، والحكماء: فهو يورد أقوالهم، ويفند ما خالف الحق من آرائهم، ويوظف الحكمة في الاستدلال، والتحليل.
ولهذا تراه يتعرض لأقوال أفلاطون، وأرسطو، وينقل آراء الفلاسفة المنتسبين للإسلام كالكندي، والفارابي، وابن سيناء، ويبين ما فيها من حق، وباطل.
27_ التعرض لبعض مسائل الطب، والتشريح، والأحياء: فقد جاء تفسيره محتوياً على نظرات في ذلك الميدان، كما في تفسير قوله _تعالى_: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا] وغيرها من الآيات.
كما في حديثه في سورة النور عن أن أصل لون البشر البياض، وأن التشريح أثبت أن ألوان لحوم البشر التي تحت الطبقة الجلدية متحدة اللون 21/74_75.
وكما في حديثه في السورة نفسها عن حالة النوم 21/76.(1/27)
وكما في حديثه عن أطوار خلق الإنسان كما في سورة الزمر 23/333_334.
وكما في حديثه عن قوله _تعالى_ [يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ] 30/263_264.
28_ التعرض لمسائل في باب الإعجاز العلمي: وهذه الفقرة قريبة من الفقرة التي قبلها والتي بعدها.
والمقصود بالإعجاز العلمي ههنا الحقائقُ العلمية التي كشف عنها العلم، ووافقت أحدث ما انتهى إليه الكشف العلمي في هذا العصر مع كونها مجهولة في عصر النبوة وما بعده لقرون عديدة.
والشيخ ابن عاشور _كما يقول الدكتور بلقاسم الغالي_: =حين يأخذ بهذا اللون من الإعجاز إنما يأخذ به في اعتدال فهو يخالف الشاطبي الذي يرى (أن الشريعة أمية ليس فيها من علوم المتقدمين والمتأخرين شيء؛ لذلك لا ينبغي تناول آيات القرآن من وجهة نظر العلوم الحكمية بجميع أنواعها).
وهو يخالف المغالين الذين أسرفوا في تأويل آيات إلى حد التكلف والمجافاة للفظ القرآن وسياقه، ولم يخرج الألفاظ والتراكيب عند مدلولاتها اللغوية، ولم يحمل النصوص ما لا تحتمل+(1).
وقد تعرض الشيخ ابن عاشور في تفسيره لمسائل في الإعجاز العلمي، ونص على هذه التسمية في مواضع عديدة كما في المقدمة العاشرة من تفسيره، وكما في تفسيره لقوله _تعالى_: [أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً...] الأنبياء:30.
وكما في تفسيره لقوله _تعالى_: [خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] العلق.
ولقد أوغل الشيخ ابن عاشور في هذا الباب برفق؛ حيث لم يكن ممن أنكروا ذلك، ولم يكن _أيضاً_ ممن أغرق في النظريات العلمية، واسترسل مع دقائقها؛ فلعل هذا هو المنهج الراشد في هذه المسألة.
__________
(1) _ شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور _حياته وآثاره_ د. بلقاسم الغالي ص83_84.(1/28)
29_ التعرض لنظريات في علم الفلك، والطبيعة، وعلم النفس: كما في تفسيره للآيات التي فيها تعرض لبعض المظاهر الفلكية، والطبيعية كالحديث عن السماء، والأرض، والسحاب، والمطر، وتكوين الجنين، وخصائص النبات ونحو ذلك، كما في تفسير قوله _ تعالى _: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً] وغيرها من الآيات.
وكذلك تعرَّض لبعض النظريات في علم النفس، وما جاء في القرآن من الإشارات إلى ذلك العلم.
30_ العناية بعالم الحيوان، والطير: فكثيراً ما يتعرض لها عند ورودها في الآيات، كالكلب، والذئب، والخنزير، والغراب، والهدهد، وغيرها، فتراه يذكر تعريفها، وطبائعها، وفصائلها، ومواطنها، وأنواعها، وغرائب عجائبها.
31_ التعرض للمعادن، وما يستخرج من الأرض: ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسير سورة الإسراء من قوله _ تعالى _: [قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50)].
فإنه تكلم عن الحديد بكلام عجيب بديع، حيث قسم أصنافه إلى ثمانية عشر صنفاً باعتبار تركيب أجزائه، وبين خصائص كل صنف.
وقل مثل ذلك في حديثه عن الزجاج في سورة النور، حيث تكلم عليه بكلام علمي، بين فيه تعريفه، واسمه في اصطلاح الكيمياء، واسمه عند العرب، وغيرهم، ومن اشتهر بصناعته، إلى غير ذلك.
32_ إيراد النوادر والمُلح: فكثيراً ما يورد ذلك في تضاعيف تفسيره لبعض الآيات؛ حتى يعضد المعنى الذي يرجحه أو يميل إليه، ولأجل أن يخفف من جفوة المباحث الجادة، ويلطف من عنف الممارسة للمناقشات القوية الرصينة؛ فلهذا أودع تفسيرَه كثيراً من القصص التاريخية، والنظرات النقدية، والمُلح والنوادر والأفاكيه الأدبية التي تُروِّح عن القارئ، وتعضد ما هو بصدده.(1/29)
33_ احترامه لمشايخه، ونقله عنهم: فكان يشيد بهم، وينوه بعلمهم، وينقل عنهم ما أفاده منهم ولو عن طريق المشافهة، وذلك كما في نقله عن شيخه سالم بو حاجب، وشيخه وجده الوزير العزيز بوعتور، كما في 10/143_145، و12/121 و16/113_114.
بل لقد كان ينقل عن أصحابه وأقرانه، كإيراده بيتاً لصاحبه الشيخ محمد الخضر حسين، كما في سورة البقرة عند قوله _تعالى_: [وَمِنَ النَّاْسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنَّا] الآية.
وكما في استشهاده ببيت لصاحبه الشيخ عبدالعزيز المسعودي 19/236_238.
34_ جزالة الأسلوب: فقد كتب تفسيره بأسلوب عربي بليغ قوي أخَّاذ، شديد الأسر، محكم النسج.
35_ توظيف الثقافة والمعارف: فقد وظَّف ثقافته ومعارفه أحسن توظيف لخدمة الغرض الذي يرمي إليه؛ فجاء تفسيره حافلاً بالشواهد التاريخية، والأساليب البيانية، والفوائد العلمية، والاقتباسات، والتضمينات، والإشارات.
ومن الأمثلة على ذلك قوله في 1/274: = فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل، وإحاطة بموارد الشريعة، وإغضاء عن غرضها، ويَؤُول إلى تكفير جمهور المسلمين، وانتقاض الجامعة الإسلامية، بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة؛ حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره شيء(1)، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي(2)
__________
(1) _ هذا تضمين لبيت أبي نواس الذي يقول فيه:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ ... (م)
(2) _ هذا تضمين لبيت النابغة:
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حَمَام شِراع وارد الثَّمد
يَحَفُّه جانباً نيقٍ وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونِصفُه فَقَدِ
فحسَّبوه فألفوه كما حسبت ... تسعاً وتسعين لم تنقص ولن تزدِ
قوله: (فتاة الحي): هي زرقاء اليمامة، وكان يضرب بها المثل في حدة البصر.
وقوله: (شِراع): مجتمعة، (والثمد): الماء القليل يكون في الشتاء، ويقل في الصيف.
وقوله: (يحفه): يحيط به، (والنيق): الجبل، وقوله: (قد): أي حسب، والحسبة: الحساب.
والمعنى أنها أسرعت في أخذ حساب الطير في تلك الناحية.
ومعنى البيت: أصِبْ في أمري، ولا تخطئ فيه كما أصابت الزرقاء في عدد الحمام ولم تخطئ.
والقصة _ كما زعموا _ أن زرقاء اليمامة _وهي من بقايا طسم وجديس_ كان لها قطاة؛ فمر بها سرب من القطا بين جبلين، فقالت:
ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه
أو نصفه قَدِيَه ... تم الحمام ميه
فهذ قصة فتاة الحي، ومقصود ابن عاشور ×: انظر إلى الشريعة نظرة شاملة؛ حتى إذا حكمت في أي مسألة _ كان حكمك مصيباً جازماً كحكم فتاة الحي.
وهكذا وظف تلك القصة لخدمة غرضه. (م)(1/30)
+.
وقوله في 1/274 بعد أن قرر مسألة العفو عن العصاة: =ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج، والإباضية، والمعتزلة، ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد، أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد(1)+.
36_ إرجاع الأشياء إلى أصولها، وأسبابها الأولى: فإذا مر به عادة من العادات، أو خرافة من الخرافات، أو عمل يعد رمزاً لأمر من الأمور _ رجع إلى أصل ذلك، ومبدئه، وسببه.
ومن ذلك حديثه عن شجرة الزيتون _كما في سورة النور_ حيث تحدث عن أصل تلك الشجرة، وأنها معروفة قبل الطوفان، وتحدث عن أماكن نباتها.
37_ لزوم العدل، وتحري الإنصاف: قال × في مقدمته 1/7: =فجعلت حقاً عليَّ أن أبدي في تفسير القرآن نكتاً لم أرَ من سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارةً لها وآونةً عليها+.
وقد صدق × في ذلك؛ فكان يلزم العدل، ويتحرى الإنصاف في مسائل الخلاف التي يوردها.
38_ الحرص على الموازنة، والترجيح، والمناقشة الحرة: وهذه الفقرة قريبة من سابقتها؛ فهو يوازن، ويرجح، ويناقش بنزاهة وحرية بعيداً عن التعصب؛ فمع أنه مالكي المذهب إلا أنه قد يخالف المالكية، وقد ينتقد بعض علمائهم فيما يوردونه.
وتراه يورد كلاماً لأئمة اللغة وأساطين البلاغة، وعلماء التفسير كالزمخشري، والسكاكي، وابن عطية، فيوازن بين أقوالهم، ويناقشهم، وربما استدرك عليهم وخالفهم.
39_ سمو العبارة، وهدوء النبرة، ولزوم الأدب: فلا ترى عنده تسفيهاً للخصوم، ولا رمياً بالتهم جزافاً، ولا تعنيفاً على المخالف.
بل تجد عنده العبارة المهذبة، والأدب العالي، والرفق بالمخالف.
40_ الأمانة العلمية: وتتجلى هذه المزية في عزو النقول، والدقة في ذلك، وترك التزيُّد على المخالفين إلى غير ذلك.
__________
(1) _ هذا تضمين لبيت من أبيات لنصر بن سيار يقول مطلعها:
أرى خلل الرماد وميض جَمْرٍ ... ويوشك أن يكون لها ضرام ... (م)(1/31)
41_ طول النَّفس، والاستقراء، والدأب في تتبع المسائل: فتراه يورد المسألة ويطيل فيها، ويورد الأقوال عليها، فلا يَفْرُغ منها إلا وقد قتلها بحثاً وتحريراً.
ولا تراه يقنع بكل ما قيل، بل يَرُدُّ ما لا يعضده البحث والدليل كما في حديثه عن الحروف المقطعة في القرآن، وسرد الأقوال الواردة فيها 1/207_216، وكما في حديثه عن مسألة براءة القرآن من الشعر عند تفسير قوله _تعالى_ في سورة يس: [وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ] 23/57_65، وكما في حديثه عن معنى كون الإسلام هو الفطرة 21/90_92.
ولا أدل على طول نفسه من كونه فسر القرآن في مدة تسعة وثلاثين عاماً وستة أشهر، وهو _في ذاته_ عُمْرٌ.
ومما يدل على ذلك _أيضاً_ استدراكه على نفسه فقد يقرر شيئاً، أو يفوته شيء، أو يتبين له الصواب، أو يظهر له مزيد فائدة فيما بعد؛ فتراه بعد ذلك ينبه القارئ، ويوصيه بأن يُلحق الفائدة الجديدة بنظيراتها مما سبق تفسيره.
ولا ريب أن طول مدة التأليف تمده بما يستجد له من المعارف والأبحاث.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسيره لقوله _تعالى_: [فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ] 30/451، حيث تكلم في تفسير هذه الآية عن دار الندوة، وتاريخها وأن الخليفة العباسي المعتضد بالله =لمَّا زاد المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجداً متصلاً بالمسجد الحرام، فاستمر كذلك، ثم هُدم، وأُدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبدالعزيز ملك الحجاز ونجد سنة 1379هـ+.
ويُلاحظ أن تاريخ هذه الزيارة التي ذكرها ابن عاشور كانت قُبَيْل انتهائه من التفسير بسنة واحدة.
وهذا يدلُّ على دأبه، وتتبعه.
كما أن من أجلِّ ما تميز به تفسير التحرير والتنوير أن مؤلفه ابتنى كثيراً من أحكامه على الاستقراء في اللغة والبلاغة، والفقه وغير ذلك.
وتلك خصيصة لا يقوم بها إلا الأفذاذ.(1/32)
42_ تعاهده لتفسيره بالتهذيب، والتشذيب، والزيادة: وهذه الفقرة قريبة من السابقة؛ فيظهر أنه بعد أن فرغ من تفسيره صار يتعاهده بالتشذيب، والتهذيب قبل أن يطبع، بدليل أنه قد أشار في خاتمة التفسير أنه انتهى منه عام 1380هـ، ومع ذلك يورد فوائد ونقولاً من كتب ثم يحيل إليها في الهامش، وربما ذكر تاريخ طباعة تلك الكتب المحال إليها وهي تحمل تاريخاً حديثاً بالنسبة لتاريخ انتهائه من التفسير، أي أنها صدرت بعد انتهائه من تفسيره.
مثال ذلك ما نجده في تفسير سورة الإسراء 15/19، حيث نقل كلاماً من كتاب، ثم عزا إليه في الهامش، وقال: =حرَّره عارف عارف في المجلة المسماة: (رسالة العلم) بالمملكة الأردنية عدد 2 من السنة 12 كانون الأول سنة 1968م+ ا_هـ.
وهذه السنة الميلادية توافق بالتاريخ الهجري سنة 1388هـ تقريباً.
وهذا يعني أنه أضاف هذه الفائدة بعد فراغه من التفسير بثمان سنوات.
43_ كثرة النقول: فالتفسير طافح بالنقول عن الأئمة والعلماء في شتى الفنون سواءٌ كانت شرعية، أو لغوية، أو بلاغية، أو غيرها من فروع العلم والثقافة العامة.
44_ كثرة الاستشهاد: سواء بالأشعار، أو الأمثال، أو الحوادث العامة، فجاء تفسيره حافلاً بالشواهد من هذا القبيل، كما في قصة الوزير الأندلسي محمد ابن الخطيب السلماني مع ملك المغرب.
حيث قال ×: في تفسير قوله _تعالى_: [يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]: أعيد خطاب بني إسرائيل بطريق النداء مماثلاً لما وقع في خطابهم الأول؛ لقصد التكرير للاهتمام بهذا الخطاب، وما يترتب عليه؛ فإن الخطاب الأول قُصِدَ منه تذكيرهم بنعم الله _تعالى_ ليكون ذلك التذكير داعية لامتثال ما يَرِدُ إليهم من الله من أمر، ونهي على لسان نبيه".(1/33)
غير أنه لما كان الغرض المقصود من ذلك هو الامتثالَ كان حقُّ البلاغة أن يفضي البليغ إلى المقصود، ولا يطيل في المقدمة، وإنما يلم بها إلماماً، ويشير إليها إجمالاً؛ تنبيهاً بالمبادرة إلى المقصود على شدة الاهتمام به.
ولم يزل الخطباء، والبلغاء يعدون مثل ذلك من نباهة الخطيب، ويذكرونه في مناقب وزير الأندلس محمد بن الخطيب السلماني؛ إذ قال عند سفارته عن ملك غرناطة إلى ملك المغرب ابن عنان أبياته المشهورة التي ارتجلها عند الدخول عليه طالعها:
خليفةَ الله ساعدَ القدرُ ... عُلاك ما لاح في الدجا قمر
ثم قال:
والناس طُرَّا بأرض أندلس ... لولاك ما وطَّنوا ولا عمروا
وقد أهمتهم نفوسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا
فقال له أبو عنان: ما ترجع إليهم إلا بجميع مطالبهم، وأذن له في الجلوس، فسلم عليه.
قال القاضي أبو القاسم الشريف(1) _وكان من جملة الوفد_: =لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا+.
فكان الإجمالُ في المقدمة قضاءً لحقِّ صدارتها بالتقديم، وكان الإفضاءُ إلى المقصود قضاءً لحقه في العناية، والرجوعُ إلى تفصيل النعم قضاءً لِحَقِّهَا من التعداد؛ فإن ذكر النعم تمجيد للمنعم، وتكريم للمنعم عليه، وعظة له ولمن يبلغهم خبر ذلك تبعث على الشكر؛ فللتكرير هنا نكتةُ جمعِ الكلامين بعد تفريقهما، ونكتةُ التعداد لما فيه إجمال معنى النعمة. 1/482_483
45_ التكرار: فكثيراً ما يورد الشاهد، أو القصة، أو الحادثة، أو المسألة في أكثر من موضع ومناسبة، كما في استشهاده ببيت عمرو بن معدي كرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وكما في بيت الأحوص:
وإذا تزول تزول عن مُتَخَمِّط ... تخشى بوادرُه على الأقران
وكما في بيت بشار:
بكِّرا صاحبيَّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
__________
(1) _ هو أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني السبتي ثم الغرناطي قاضي غرناطة المتوفى سنة 760 وله الشرح المشهور على مقصورة حازم القرطاجني.(1/34)
وكما في استشهاده بقصة سيف الدولة مع المتنبي في بيتيه اللذين يقول فيهما:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضَّاح وثغرك باسم
وكما في تكراره لبعض المسائل والألفاظ والمصطلحات، كتكراره لبعض المصطلحات البلاغية _كما سيأتي_ وتكراره لبعض المصطلحات النحوية كقوله: هذه حال مؤسسة، أو حال مؤكدة، ويعني بالمؤسسة: ما تفيد معنى جديداً كقوله: =جاء زيداً راكباً+.
ويعني بالمؤكدة ما تؤكد معنى موجوداً كقوله _تعالى_: [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً] وقوله: [ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ].
وكثيراً ما يورد بعض الألفاظ والمصطلحات في فقه اللغة ككلمة (فَذْلَكَة)، فتراه يقول: =هذه فذلكة+، أو =فكان هذا الختام فذلكة+.
والفذلكة: كلمة مُحْدَثة، ومعناها مُجْمَل ما فُصِّل وخلاصته، ومنه فَذْلَكَ الحسابَ: أي أنهاه وفرغ منه.
وهي منحوتة من: فَذَلِكَ كذا وكذا إذا أجمل حسابه.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المكررة.
فهذا هو مجمل منهج الشيخ ابن عاشور في تفسيره، وخلاصة مزاياه، وما اشتمل عليه.
ولم أُكثر من إيراد الأمثلة، والشواهد على ما ذُكر؛ رغبة في الإيجاز.
ومن خلال ذلك يتضح لنا أن ابن عاشور يرى أن القرآن كتاب هدى وإصلاح، ومنبع علوم وآداب.
تمهيد: البلاغة في تفسير التحرير والتنوير
لم يحفل تفسيرٌ من التفاسير بالبلاغة العربية، وأساليب الاستعمال كما حفل به تفسير التحرير والتنوير.
ولم يخصَّ أحدٌ من المفسرين _كما يقول ابن عاشور في مقدمة تفسيره_ فن دقائق البلاغة بكتابٍ كما خصوا الأفانين الأخرى.
ومن أجل ذلك _كما يقول_ التزم ألا يُغفل التنبيه على ما يلوح له من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن العظيم؛ كلما أُلْهِمَهُ بحسب مبلغ الفهم والتدبر(1).
__________
(1) _ انظر مقدمة تفسير التحرير والتنوير 1/8، وستأتي كاملةً بنصها بعد قليل.(1/35)
ولهذا جاء تفسيره حافلاً بدقائق البلاغة، ونكتها، وأفانينها؛ فلا تكاد تمر بآيةٍ إلا وتجده قد بيَّن أنها مشتملةٌ على فنٍّ أو أكثر من فنون البلاغة.
ولا تبالغ إذا قلت: إن هذا التفسير خيرُ تطبيقٍ عملي لقواعد البلاغة العربية على آيات القرآن الكريم.
ومن أجل ذلك كثر إيراده للمصطلحات البلاغية؛ فتراه كثيراً ما يقول: وهذا تذييل، أو تتميم، أو اعتراض، أو حذف، أو إيجاز، أو إيغال، أو استفهام نوعه كذا وكذا، وتراه يورد الكثير من مسائل التشبيه، والاستعارة بأنواعها، والبديع وأقسامه، وما جرى مجرى ذلك.
فإذا لم يكن القارئ على علمٍ بالبلاغة _ حصل عنده إشكالاتٌ كثيرة، والتبس عليه المقصود في مواطن عدة، وفاته علمٌ غزيرٌ، وخيرٌ كثيرٌ، وربما عدَّ العناية بالبلاغة، ومسائلها ضرباً من الترف، أو التملح.
ومن أجل ذلك هذه نبذةٌ موجزة في علم البلاغة تُبِيْن عن شيءٍ من فضل هذا العلم، وتاريخه، وتطوره، وأشهر الكتب فيه.
وبعد ذلك يكون الحديث عن علوم البلاغة الثلاثة _المعاني، والبيان، والبديع_ وعن بعض ما يدخل تحت هذه الأقسام من الموضوعات بشيء من الإيجاز.
قال أبو هلال العسكري × متحدثاً عن فضل هذا العلم ومسيس الحاجة إليه: =اعلم _علَّمك الله الخير، ودلَّك عليه، وقَيَّضه لك، وجعلك من أهله_ أنَّ أحق العلوم بالتعلم، وأولاها بالتحفظ _بعد المعرفة بالله جل ثناؤه_ علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله _تعالى_ الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحة النبوة، التي رفعت أعلام الحق، وأقامت منار الدين، وأزالت شبه الكفر ببراهينها، وهتكت حجب الشك بيقينها.(1/36)
وقد عَلِمْنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإعجاز البديع، والاختصار اللطيف؛ وضمَّنه من الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمهِ وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز الخلق عنها، وتحيرت عقولهم فيها.
وإنما يعرف إعجازه من جهة عجز العرب عنه، وقصورهم عن بلوغ غايته، في حسنه وبراعته، وسلاسته ونصاعته(1)، وكمال معانيه، وصفاء ألفاظه.
وقبيحٌ _لعمري_ بالفقيه المؤتم به؛ والقارئ المهتدَى بهديه، والمتكلم المشار إليه في حسن مناظرته، وتمام آلته في مجادلته، وشدة شكيمته في حِجَاجه(2) وبالعربي الصليب(3)، والقرشي الصريح(4) _ ألا يعرف إعجاز كتاب الله _تعالى_ إلا من الجهة التي يعرفه منها الزنجي(5) والنبطي(6) أو أن يستدل عليه بما استدل به الجاهل الغبي+(7).
إلى أن قال ×: =ولهذا العلم بعد ذلك فضائل مشهورة، ومناقب معروفة؛ منها أن صاحب العربية إذا أخل بطلبه، وفرَّط في التماسه، ففاتته فضيلته، وَعَلقَتْ به رذيلةُ فَوْتِهِ _ عفّى على جميع محاسنه، وعمَّى(8) سائر فضائله؛ لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد، وآخر رديء؛ ولفظٍ حسن، وآخر قبيح؛ وشعر نادر، وآخر بارد _ بان جهله، وظهر نقصه.
__________
(1) _ النصاعة هنا: الوضوح.
(2) _ شديد الشكيمة: أبيّ لا ينقاد. والحِجَاج: مصدر حاجه: إذا غلبه في الحجة.
(3) _ الصليب: الخالص النسب.
(4) _ الصريح: الخالص النسب.
(5) _ الزنجي : بفتح الزاي وكسرها: واحد الزنوج وهم جيل من السودان.
(6) _ النبطي: واحد النبط بفتحتين وهم جيل من العجم كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين.
(7) _ كتاب الصناعتين ص1_2.
(8) _ عَمَّى: أخفى. والسائر: الباقي.(1/37)
وهو _أيضاً_ إذا أراد أن يصنع قصيدة، أو ينشئ رسالة _وقد فاته هذا العلم_ مزج الصفو بالكدر، وخلط الغُرر بالعُرر(1) واستعمل الوحشي العكر؛ فجعل نفسه مهزأة(2) للجاهل، وعبرةً للعاقل؛ كما فعل ابن جحدر في قوله:
حلفتُ بما أرقَلَتْ حَوْلَهُ ... هَمَرْجَلَةٌ خَلْقُها شَيْظَمُ(3)
وما شَبْرَقَتْ من تَنُوفيَّةٍ ... بها مِنْ وَحَى الجنِّ زِيزَيَمُ(4)
وأنشده ابن الأعرابي، فقال: إن كنت كاذباً فالله حسيبك.
وكما ترجم بعضهم كتابه إلى بعض الرؤساء: مُكَركَسَة تَرَبُوتَا ومحبوسة بِسَرِّيتا.
فدلَّ على سخافة عقله، واستحكام جهله؛ وضرَّه الغريب الذي أتقنه ولم ينفعه، وحطه ولم يرفعه لمَّا فاته هذا العلم، وتخلف عن هذا الفن.
وإذا أراد _أيضاً_ تصنيف كلام منثور، أو تأليف شعر منظوم، وتخطى هذا العلم ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه؛ فأخذ الرديء المرذول، وترك الجيد المقبول، فدل على قصور فهمه، وتأخر معرفته وعلمه.
وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله؛ كما أن شعرَه قطعةٌ من علمه+(5).
هذا العلم كان مندرجاً في جملة علم الأدب، وكانت مسائله شُعْبَةً من شعب النحو والأدب؛ وكانت مبثوثة في تضاعيف مؤلفات العلماء ككتاب سيبويه، وكطبقات الشعراء لابن سلام، والبيان والتبيين للجاحظ، والبديع لابن المعتز، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني.
__________
(1) _ الغرة: النفيس من كل شيء، والعرة: القذر.
(2) _ هزؤاً.
(3) _ أرقلت: أسرعت، والهمرجلة: الناقة، والشيظم: الطويل الجسيم الفتيّ من الإبل والخيل والناس.
(4) _ شبرقت. الشبرقة: عدو الدابة وخْدَاً. والتنوفية: المفازة والأرض الواسعة البعيدة الأطراف، والوَحَى: الصوت الخفي، وزيزيم: صوت الجن.
(5) _ كتاب الصناعتين ص2_3.(1/38)
ثم ألَّف أبو هلال العسكري ت 395هـ كتابه العظيم (كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر) فعرض زبدة تلك الكتب، وصار كتابه من أمهات البلاغة.
ثم جاء الشيخ عبدالقاهر الجرجاني ت 471هـ فخصَّ علم البلاغة بالتدوين في كتابيه: (كتاب دلائل الإعجاز) و(كتاب أسرار البلاغة) فأعطى ألقاباً للمسائل، وأخرج الكلام في الإعجاز عن الصفة الجزئية إلى قواعد كلية مسهبة مبرهنة.
ولم يَصِرْ عِلْمُ البلاغةِ فنَّاً مهذَّباً مبوباً إلا منذ صنف يوسف السكاكي ت 626هـ القسم الثالث من كتابه (مفتاح علوم العربية).
حيث جمع زبدة ما كتبه الأئمة قبله في هذه الفنون، ونظم لآلئها المتفرقة في تضاعيف كتبهم، وأحاط بكثير من قواعدها المبعثرة في الأمهات، ورتبها أحسن ترتيب، وبوَّبها خير تبويب، وفَصَل فنونَ البيان(1) الثلاثة بعضها من بعض؛ لما كان له من واسع الاطلاع على علوم المنطق والفلسفة.
وقد اختصر مؤلَّفه في كتاب آخر سماه (التبيان) ولخَّص (المفتاح) بعض المتأخرين في أمهات مشهورة كما فعل ابن مالك في كتابه (المصباح) والخطيب جلال الدين محمد بن عبدالرحمن القزويني المتوفى سنة 739هـ في كتابيه (تلخيص المفتاح) و(شرح الإيضاح).
والأخير مؤلف جليل جمع فيه مؤلفه خلاصة (المفتاح) و(دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) و (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي.
ثم طفق المؤلفون من القرن الثامن وما بعده يوسعون الشروح والحواشي على المفتاح وتلخيصه للقزويني، وصرفوا جلَّ همتهم في تفسير ما أشكل من عبارات المؤلفين، والجمع بين ما تناقض من آرائهما.
__________
(1) _ كانت مسائل البلاغة كلها تسمى بـ: علم البيان، كما كان يسميها عبدالقاهر الجرجاني، ثم أفصح السكاكي عن الفرق في مباحث البلاغة؛ فصارت فنونها الثلاثة المعروفة: المعاني، والبيان، والبديع؛ فتتابع الناس من بعده على هذه الاصطلاحات.(1/39)
ومن أجلِّ تلك الشروح شروح مسعود سعد الدين التفتازاني ت 791هـ، وشروح السيد الجرجاني ت 816هـ، ثم تتابعت التقريرات، والحواشي توضح ما انبهم من تلك التراكيب المجملة، والعبارات الغامضة.
ومما يحسن التنبيه عليه أن أساليب التأليف في تلك العصور قد ملكت عليها العجمةُ أمرَها، ومن ثم لم يكن للقارئ أن يجعلها قدوة في أساليبها؛ فهي أحرى أن تكون أساليب اصطلاحية علمية لا لغوية أدبية، تشرح كلام العرب، وتبين مزاياه.
ثم أنشئت في العصر الحديث المدارسُ العالية والثانوية في مصر، فَأُلِّفَت المختصرات التي تناسب تلك البرامج المدرسية، ومن جملة ذلك ما أُلِّفَ في البلاغة، فهي _وإن اختلف ترتيبها، وتبويبها_ تنحو في الجملة منحى ما كتبه صاحب التلخيص وشراحه.(1)
ومن أهمها كتاب: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة لعبدالمتعال الصعيدي.
ومن الكتب التي أُلِّفت فيها _ زيادة على ما ذكر آنفاً _ المثل السائر لابن الأثير، هذا في القديم.
أما في العصر الحديث فهناك كتب كثيرة منها: موجز البلاغة لابن عاشور، والبلاغة الواضحة لعلي الجارم، ومصطفى أمين، وهو كتاب سهل ميسور، وسلسلة (في البلاغة العربية) د.عبدالعزيز عتيق، والبلاغة تطور وتاريخ د. شوقي ضيف، ومعجم البلاغة د. بدوي طبانة، والبلاغة العربية د. بكري شيخ أمين.
مرَّ قبل قليل أن مسائل البلاغة تُسمى علم البيان، ثم استقر الأمر على يد السكاكي الذي ميَّز بعضها عن بعض تمييزاً تاماً، وجعل لكل مبحث منها علماً خاصاً؛ فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة _المعاني، والبيان، والبديع_.
ثم أتى مَنْ بَعْده؛ فكان عمدتَهم على هذا الترتيب.
وإليك فيما يلي نبذة عن تعريف البلاغة، وأقسامها الثلاثة، وبعض ما يدخل تحت هذه الأقسام من موضوعات، مع ملاحظة أنني سأقتصر على التعريفات الاصطلاحية فحسب دون تفصيل؛ إيثاراً للاختصار.
__________
(1) _ انظر علوم البلاغة لأحمد مصطفى المراغي ص9_11.(1/40)
1_ تعريف البلاغة: هي الإتيان بالكلام الخالي من التعقيد، الخالص من تنافر الكلمات وضعف التأليف، المطابق لمقتضى الحال الذي يتمكن في النفوس مع صورة مقبولة، ومعرض حسن.(1)
وهذا التعريف يشمل أقسام البلاغة الثلاثة.
2_ تعريف علم المعاني: هو ما يبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى حال التعبير.(2)
وقيل: هو قواعدُ يُعرف بها كيفية مطابقة الكلام مقتضى الحال؛ حتى يكون وَفْقَ الغرض الذي سيق له.(3)
ويدخل تحت علم المعاني أبواب عديدة وهي: الخبر، والإنشاء، والذكر، والحذف، والتقديم، والتعريف، والتنكير، والتقييد، والخروج عن مقتضى الظاهر، والقصر، والفصل، والوصل، والإيجاز، والإطناب، والمساواة.
ولكل واحد من هذه الأبواب تعريفات، ويدخل تحته عدد من المباحث لا يتسع المجال لذكرها، ويمكن الرجوع إليها في كتب البلاغة.
وفائدة هذا العلم: الوقوف على أسرار البلاغة، ومعرفة وجه إعجاز القرآن وما اشتمل عليه من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما تضمنه من عذوبة، وجزالة، وسلاسة.
ولهذا ترى الشيخ ابن عاشور × يورد هذه المصطلحات كثيراً؛ فتارة يقول: في هذه الآية حذف، أو يقول: والتنكير ههنا للتعظيم أو التفخيم، وهكذا.
وربما تطرق لبعض ما يدخل تحت الأبواب السابقة من أبواب علم المعاني، فيقول: وهذه الآية، أو في هذه الآية تذييل، أو اعتراض، أو تتميم، أو تكرير، أو تكميل.
وهذه المصطلحات _على وجه الخصوص_ ترد كثيراً في التفسير، وهي داخلة ضمن باب الإطناب.
أ_ فالتذييل: هو الإتيان بجملة مستقلة عقب الجملة الأولى التي تشتمل على معناها للتأكيد.
وتحت التذييل أضرب وتقسيمات.
وقد أكثر ابن عاشور في تفسيره من إيراد التذييل؛ لما له من الأهمية، والشرف.
__________
(1) _ انظر كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص10، والإيضاح للخطيب القزويني ص19.
(2) _ انظر أليس الصبح بقريب لابن عاشور ص222.
(3) _ علوم البلاغة لأحمد مصطفى المراغي ص41.(1/41)
قال أبو هلال العسكري ×: =وللتذييل في الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير؛ لأن المعنى يزداد به انشراحاً، والمقصد انفتاحاً+(1).
وقال: =فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه؛ حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد عند من فهمه+(2).
ب_ والاعتراض: هو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنىً _ بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب.
وهو من دقائق البلاغة وله فوائد عديدة.
ج _ والتتميم: هو أن يُؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بِفَضْلَه، كمقول أو حال أو نحو ذلك لقصد المبالغة.
د_ والتكرير: يراد به تكرير المعاني والألفاظِ، وحَدُّهُ تكرير اللفظ على المعنى مردداً.
هـ _ والتكميل: هو ما يُسمى بالاحتراس وهو أن يُؤتى بكلام يوهم خلاف المراد بما يدفعه.
و_ الإدماج: أحدُ ضروب الإطناب، وهو أن يُدمج المتكلم غرضاً في جملة من المعاني قدْ نحاه؛ ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد.
ومن أمثلة ذلك قول الله _تعالى_: [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُوْنَ شَهْراً].
ومعناه أن الوالدة تكلفت بحمل مولودها، ورضاعه ثلاثين شهراً، وأدمج فيه أن أقل الحمل ستة أشهر؛ إذ يسقط من الثلاثين شهراً _ حَوْلان؛ للرضاع، بدليل قوله _تعالى_: [والوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ].
فيبقى للحمل ستة أشهر، وهو أقله. (3)
والأمثلة على ما مضى كثيرة في تفسير ابن عاشور.
3_ تعريف علم البيان: هو علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. (4)
ويدخل تحت هذا الفن ثلاثة أبواب هي:
__________
(1) _ كتاب الصناعتين ص313.
(2) _ كتاب الصناعتين ص313.
(3) _ انظر بغية الإيضاح لتلخيص علوم المفتاح لعبدالمتعال الصعيدي 1/35_240 و2/3_160، وعلوم البلاغة ص41_206، ومعجم البلاغة العربية د. بدوي طبانة، ص227_228.
(4) _ انظر بغية الإيضاح 3/2_3.(1/42)
أ_ التشبيه. ب_ الحقيقة والمجاز. ج_ الكناية.
أ ــ التشبيه: هو إلحاق أمرٍ (المُشَبَّه) بأمرٍ (المشَبَّه به) في معنى مشترك (وجه الشبه) بأداة (الكاف أو ما في معناها) لغرض (فائدة).
ومما سبق يتبيَّن أن للتشبيه أربعة أركان، وهي المشبَّه، والمشبَّه به، وهذان طرفا التشبيه، ووجه الشبه، والأداة.
مثال: زيد كالأسد.
فالمشبَّه زيد، والمشبَّه به الأسد، ووجه الشبه الشجاعة، والأداة الكاف.
وللتشبيه فوائد عديدة منها إيضاح المعنى المقصود مع الإيجاز والاختصار.
ومنها ما يُحدثه في النفس من تأثير، وذلك بما يحدثه فيها من الأنس بإخراجها من خفي إلى جلي كالانتقال مما يحصل بالفكرة إلى ما يعلم بالفطرة، أو بإخراجها مما لم تألف إلى ما ألفته، أو مما لا تعلمه إلى ما هي به أعلم كالانتقال من المعقول إلى المحسوس إلى ذلك من فوائده وآثاره.(1)
هذا ويدخل تحت باب التشبيه تقسيمات وتفريعات كثيرة كالتفصيل في أركان التشبيه، وأغراضه، وأقسامه، وغرائبه، ومحاسنه، وعيوبه.
ب ــ الحقيقة والمجاز: وهو الفن الثاني من أبواب علم البيان، وذلك مما يرد كثيراً في كتب البلاغة، والأصول، والعقائد وغيرها، وفيما يلي نبذة يسيرة عن الحقيقة والمجاز.
_ تعريف الحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع.
أو هي: استعمال اللفظ فيما وضع له في الأصل.
مثل كلمة (أسد): تدل على الحيوان المعروف، وكلمة (الشمس): تدل على الكوكب العظيم المعروف، وكلمة (البحر): تدل على الماء العظيم الملح؛ وهكذا جميع ألفاظ اللغة.
_ تعريف المجاز: المجاز في اللغة: اسم مكان كالمطاف والمزار، والألف فيه منقلبة عن واو، وقيل: هو مصدر ميمي، أي بمعنى: التجوُّز.
وفي الاصطلاح: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل؛ لعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
__________
(1) _ انظر بغية الإيضاح 3/10_11.(1/43)
_ شرح مفردات تعريف المجاز: قوله: =في غير ما وضع له+: أي المعنى الوضعي للَّفظ، ويسمى الحقيقي أو الأصلي الذي ذكرته معاجم اللغة، كوضع كلمة الأسد للحيوان المعروف الكاسر، وكذلك القمر.
قوله: (لِعِلاقة): العلاقة هي الشيء الذي يربط بين المعنى الأصلي للفظ، والمعنى المجازي، كالشجاعة في قولك: رأيت أسداً يكرُّ بسيفه !
فالأسد هنا لا يقصد به الحيوان؛ وإنما يقصد به الرجل الشجاع، إذاً فقد انتقل من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، والعلاقة هي الشجاعة.
قوله: (القرينة) القرينة: هي التي تمنع الذهن من أن ينصرف إلى المعنى الوضعي الأصلي للفظ، مثل قولك (يكر بسيفه) في قولك: (رأيت أسداً يكر بسيفه) لأن الأسد لا يكر بالسيف؛ فَعُلم أن المقصود باللفظ مجازه لا حقيقته؛ لأن الأسد لا يحمل السيف.
وكذلك قولك في الرجل الكريم: جاء البحر، ونحو ذلك من الأمثلة مما سيأتي ذكره.
_ تطبيق: إليك هذا التطبيق الذي يبين لك ما ذكر بصورة أجلى: قال أهل المدينة في استقبالهم للنبي"لما قدم من تبوك هو وأصحابه:
طلع البدرُ علينا ... من ثَنِيَّات الوداع
فالمجاز في هذا البيت واقع في لفظ (البدر) حيث يريدون به النبي " وهذا استعمال مجازي؛ ذلك لأن الاستعمال الحقيقي للبدر إنما هو الكوكب العظيم الذي يكون في السماء ليلاً.
والعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي هي الحسن والإشراق؛ فالبدر حَسَنٌ مشرق، وكذلك النبي ".
والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي هي: (من ثنيات الوداع) فهي التي أثبتت مجازية البدر، والسبب أن البدر الحقيقي لا يظهر بين ثنيات الوداع وهي الجبال الصغيرة، وإنما يظهر في السماء كما هو معلوم؛ فعلم بذلك أن اللفظ أريد به مجازُه لا حقيقته.
_ أمثلة لألفاظ يتبين فيها الحقيقة من المجاز:
1_ الشمس لها دلالتان: إحداهما حقيقية وهي دلالة الكوكب العظيم المعروف.
والأخرى مجازية وهي: الوجه المليح.(1/44)
2_ البحر له دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي دلالته على الماء العظيم الملح.
والأخرى مجازية وهي: دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء، أو العالم الغزير العلم.
3_ اليد لها دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي الجارحة المعروفة، كما تقول: كتبت بيدي.
والأخرى مجازية بمعنى النعمة، كما تقول: لفلانٍ عليَّ يدٌ، أي: نعمة.
_ مسائل عامة في المجاز:
أ_ يفرق بين الحقيقة والمجاز بسياق الكلام، وقرائن الأحوال، ولا يمكن أن يقال: إن كلا الدلالتين الحقيقية والمجازية سواء؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً.
ب_ أن كل مجاز له حقيقة؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة.
وليس مِنْ ضرورةِ كلِّ حقيقة أن يكون لها مجاز.
ج_ أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة _ كما مر في الأمثلة الماضية _.
_ الخلاف في أصل وقوع المجاز: اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن، على ثلاثة أقوال:
أ_ أن المجاز واقع في اللغة والقرآن: وهذا مذهب جماهير العلماء، والمفسرين، والأصوليين، واللغويين، والبلاغيين، وغيرهم؛ بل حكى الإجماع على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه (الطراز) غير أن في تلك الدعوى توسعاً؛ لوجود المخالف المعتبر.
ب_ إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن: وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
ج_ أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن: وقد ذهب إلى ذلك داود الظاهري، وابنه محمد، وابن القاصّ الشافعي، وابن خويز منداد المالكي، ومنذر بن سعيد البلوطي، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي.
_ خاتمة الحديث عن المجاز: وبعد أن وقفت على شيء من أمر المجاز، وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه _ يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات.(1/45)
فهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يشدد في النكير على القائلين بالمجاز.
ويدخل تحت باب الحقيقة والمجاز مباحث عديدة تدور حول أقسام المجاز، وعلاقاته، والاستعارة، وأقسامها، وما جرى مجرى ذلك.
ج ــ الكناية: هي في اصطلاح أهل البلاغة: لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى.
مثال ذلك قولهم: (فلان طويل النجاد) أي طويل القامة، مع جواز أن يراد حقيقةً طول النجاد _أيضاً_ فالنجاد حمائل السيف، وطول النجاد يستلزم طول القامة، فإذا قيل: فلان طويل النجاد فالمراد أنه طويل القامة؛ فقد استعمل اللفظ في لازم معناه.
ومثل: (فلانة نؤوم الضحى) أي مرفهة محترمة، ومثل: (فلان كثير الرماد) أي كريم، وهكذا...
ويدخل تحت باب الكناية أقسامها، والتعريض، والتلويح، والرمز، والإيحاء، والإشارة.
4_ تعريف علم البديع: هو علمٌ يعرف به الوجوه، والمزايا التي تكسب الكلام حُسْناً، وقبولاً بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال(1).
وتنقسم المحسنات إلى قسمين:
أ_ محسنات معنوية: وهي التي يكون التحسين بها راجعاً إلى المعنى.
ب_ محسنات لفظية: وهي التي يكون التحسين بها راجعاً إلى اللفظ.
والمحسنات المعنوية كثيرةٌ، وأشهرها:
أ_ الطباق: وهو الجمع بين معنيين متقابلين؛ نحو: [وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ].
ب_ المقابلة: وهي أن يؤتى بمعنيين متوافقين، أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على سبيل الترتيب، نحو قوله _تعالى_: [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى].
ج_ مراعاة النظير: وهو أن يجمع في الكلام بين أمرين، أو أمورٍ متناسبةٍ لا بالتضاد، كقوله _تعالى_: [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ].
ويعرف هذا النوع بالتناسب، والائتلاف.
__________
(1) _ انظر: البلاغة العربية ص 318.(1/46)
د_ الإرصاد: وهو أن يجعل قبل آخر الفقرة، أو البيت ما يفهمها عند معرفة الروي، كقوله _تعالى_: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ].
هـ _ المشاكلة: وهي ذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته تحقيقاً، أو تقديراً.
فالأول كقوله _تعالى_: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا].
والثاني كقوله _تعالى_: [صِبْغَةَاللهِ].
و_ التورية: وهي أن يذكر المتكلم لفظاً له معنيان: أحدهما قريب، ودلالة اللفظ عليه ظاهرة، والآخر بعيد، ودلالة اللفظ عليه خفية، وهو المراد، ويورَّى عنه بالمعنى القريب، فيتوهم السامع لأول وهلة أنه يريده، وهي ليس بمراد.
مثل: قول أبي بكر ÷ وقد سئل عن النبي " حين الهجرة، فقيل له: من هذا؟ فقال: =هادٍ يهديني السبيل+.
وهناك محسنات معنوية أخرى، كالعكس، والرجوع، واللف والنشر، والجمع، والتفريق، والتقسيم، والتجريد، وحسن التعليل، والتفريع، وتجاهل العارف، وغيرها(1).
أما المحسنات اللفظية، فكثيرةٌ _أيضاً_ ومن أشهرها ما يلي:
أ_ الجناس أو التجنيس: وهو تشابه الكلمتين في اللفظ، مع اختلاف المعنى، وينقسم إلى قسمين:
تام: وهو ما اتفق فيه اللفظان في هيئة الحروف، وعددها، ونوعها، وترتيبها، كقوله _تعالى_: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ].
وغير تام: وهو ما اختلف فيه اللفظ في واحدٍ من الأربعة المتقدمة، كقوله _تعالى_: [وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ].
ب_ رد العجز على الصدر: وهو جعل أحد اللفظين المكررين، أو المتجانسين، أو ملحقين بهما اشتقاقاً، أو شبه اشتقاق في أول الفقرة والآخر في صدرها.
فالمكرران نحو: [وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ] والمتجانسان نحو: [اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً].
__________
(1) _ انظر: علوم البلاغة ص 318 – 353.(1/47)
ومن المحسنات اللفظية _أيضاً_ السجع، والموازنة، والقلب(1).
فهذه نبذةٌ يسيرة عن علم البلاغة.
وفي خاتمة الحديث عن منهج ابن عاشور في تفسيره، وعمَّا تضمنه من العلوم والمعارف _ تحسن الإشارة إلى أن هذا الكتاب يحتاج إلى مزيد عناية واهتمام؛ فعسى أن ينفر بعض المتخصصين لخدمة ذلك التفسير إما عبر رسائل علمية، أو جهود ذاتية؛ حتى تتم الفائدة المرجوة من الكتاب.
وقد لا يحتاج ذلك إلى كبير جهد بل يكفي في ذلك أن تُشرح بعض الألفاظ، أو المصطلحات التي تغلق العبارة، وينبهم معها المعنى ككثير من المصطلحات البلاغية، أو النحوية، أو الإشارات التاريخية، أو نحو ذلك.
كما أنه هناك بعض الأخطاء المطبعية الواضحة خصوصاً في طبعة دار سحنون، وهناك بعض الأخطاء في نسبة بعض الشواهد وذلك قليل.
كما أن بعض الأبيات الشعرية كُتبت كتابةً غير صحيحة كأن يُكتب البيت على أنه مدوَّر وهو ليس كذلك.
وقد سمعت من بعض طلبة العلم ممن زاروا أسرة الشيخ ابن عاشور قريباً، ونظروا في خزانة آل عاشور _ أن للشيخ × حواشيَ كثيرةً على تفسيره بعدما فرغ منه، وأنها موجودة عند أسرته في تونس.
ولا ريب أن تلك الحواشي ستكون خلاصة ما انتهى إليه، خاصة وأنه عاش بعد فراغه من التفسير مدة ثلاث عشرة سنة؛ فعسى الله أن يُقيِّض لذلك التفسير من يقوم على خدمته، ويبرزه في حلة قشيبة، ومعرض حسن.
ولعل من درسوا ابن عاشور من خلال رسائل علمية أو غيرها، ولم ينشروها_ أن يقوموا بنشرها؛ لتعم الفائدة، ويحصل الأجر _إن شاء الله_.
ثم إن في هذا التفسير مادة ضخمة من المعارف، والعلوم، والمباحث التي تفيد طلاب العلم، والدارسين ممن يبحثون عن موضوعات يكتبون فيها سواء كانت أكاديمية أو غيرها.
فمما يُقترح البحث فيه من خلال تفسير التحرير والتنوير موضوعات في علوم الشريعة، وفي اللغة، وفي الأدب، والمنطق، ونحو ذلك.
__________
(1) _ انظر: علوم البلاغة ص 354 – 366.(1/48)
وإليك أيها القارئ الكريم نماذج من ذلك على سبيل العموم والإجمال، مع مراعاة أن بعضها قد يكون مما بحث، ولكن لم أطلع عليه، أو أنه يحتاج إلى مزيد بحث.
1_ مسائل العقيدة في تفسير التحرير والتنوير، ومنهج ابن عاشور في تقريرها.
وتحت هذا العنوان مادة خصبة؛ حيث إنه × يتناول تلك المسائل بالبحث والتقرير، فيُحتاج إلى معرفة منهجه في ذلك على وجه التحديد، وهل هو أشعري بحت يقرر ما يقرره الأشاعرة في أصول معتقدهم؟ أو أنه يتلمس الحق من أي أحد؟ لأن من يرى بعض أقواله قد يظن أنه مضطرب، ولكن الذي يظهر أنه لا يتقيد بمنهج الأشاعرة.
وكذلك يحتاج إلى معرفة مقاصده من إطلاقاته في ذلك الشأن عندما يقول _على سبيل المثال_: وهذا قول الأشاعرة، أو عندما يقول: وهذا قول أهل السنة، أو: وقد كان أهل السنة محقين في كذا وكذا، أو عندما يذكر السلف الصالح.
وهل يعد نفسه من الأشاعرة أوْ لا؟
مسائل تحتاج إلى بحث وتحرير بعدل وإنصاف وإحسان.
كما يمكن بحث بعض مسائل العقيدة مفردة، كمسائل القدر والحكمة والتعليل، أو تقرير الوحدانية عند ابن عاشور، أو نحو ذلك.
كما يمكن بحث: موقف ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير من الفرق الإسلامية.
إلى غير ذلك من المباحث العقدية الجديرة بالعناية.
2_ علوم الحديث في تفسير التحرير والتنوير.
3_ المسائل الأصولية في تفسير التحرير والتنوير، أو منهج ابن عاشور في تقرير مسائل الأصول في تفسيره التحرير والتنوير.
4_ مقاصد الشريعة من خلال تفسير التحرير والتنوير.
5_ مبتكرات القرآن من خلال تفسير التحرير والتنوير.
6_ المسائل الفقهية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
7_ المسائل النحوية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
8_ المسائل الصرفية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
9_ فقه اللغة من خلال تفسير التحرير والتنوير، أو بحث بعض مسائل فقه اللغة كالمشترك، والمترادف، والمعرب، ونحو ذلك.(1/49)
10_ الاقتباس والتضمين في تفسير التحرير والتنوير.
11_ موقف ابن عاشور من الفلاسفة من خلال تفسير التحرير والتنوير.
12_ الأدب العربي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
13_ آراء ابن عاشور النقدية من خلال تفسير التحرير والتنوير.
14_ منهج ابن عاشور في الترجيح، ويدخل تحت هذا عدة موضوعات سواء كانت في العقيدة، أو الفقه، أو الأصول، أو اللغة، أو الأدب، أو غير ذلك.
15_ منهج ابن عاشور في الضوابط والتعريفات من خلال تفسير التحرير والتنوير.
16_ منج ابن عاشور الإصلاحي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
17_ منهج ابن عاشور التربوي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
18_ منهج ابن عاشور الاجتماعي من خلال تفسير التحرير والتنوير.
19_ منهج ابن عاشور في التتبع والاستقراء في تفسير التحرير والتنوير.
20_ الإعجاز العلمي في تفسير التحرير والتنوير.
21_ موقف ابن عاشور من الكتب السماوية في تفسير التحرير والتنوير.
22_ علم الأخلاق من خلال تفسير التحرير والتنوير.
23_ عالم الطير والحيوان في تفسير التحرير والتنوير.
24_ النوادر والملح في تفسير التحرير والتنوير.
فهذه أمثلة يسيرة مقترحة لما يمكن أن يبحث في ذلك الكتاب القيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.(1/50)
الحمد لله على أن بيَّن للمستهدين معالم مراده، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانوناً عاماً معصوماً، وأعجز بعجائبه فظهرت يوماً فيوماً، وجعله مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً، وما فرط فيه من شيء يعظ مسيئاً ويَعِدُ محسناً؛ حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد؛ فكان الحال بتصديقه أنطقَ من اللسان، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان، وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق، كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق؛ فبه أصبح الرسول الأمي سيدَ الحكماء المربين، وبه شرح صدره إذ قال: [إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ] فلم يزل كتابه مُشِعَّاً نيِّراً، محفوظاً من لدنه أن يترك فيكون مبدلاً ومغيراً.
ثم قيض لتبيينه أصحابَه الأشداءَ الرحماءَ، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء؛ فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين(1) أما بعد:
__________
(1) _ قال رسول الله ": =أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم+ فبنيت على هذا التشبيه تشبيه المقتدين بهم بفريقين: فريق سائرون في البر وفي ذلك تشبيه عملهم في الإهداء، وهو اتباع طريق السنة؛ بالسير في طرق البر.
= وفريق ماخرون أي سائرون في الفلك المواخر في البحر، وتضمن ذلك تشبيه عملهم في الإهداء وهو الخوض في العلوم بالمخر في البحر. ومن ذلك الإشارة إلى أن العلم كالبحر _كما هو شائع_ وأن السنة كالسبيل المُبَلِّغ للمقصود.(1/51)
فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، ومُوْثِقِ شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذِ قوس البلاغة من محل نياطها؛ طمعاً في بيان نُكَتٍ من العلم وكلياتٍ من التشريع، وتفاصيلَ من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسِّرِه(1).
ولكني كنت على كلفي بذلك أَتَجَّهم التقَحُّم على هذا المجال، وأحجم عن الزجّ بِسيَةِ قوسي في هذا النضال؛ اتقاءَ ما عسى أن يعرَِّض له المرءُ نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتاتِ سهامِ الفهم وإن بلغ ساعدُ الذهن كمالَ الفُتُوَّة؛ فبقِيتُ أسوّف النفس مرة ومرة أسومها زَجراً، فإن رأيتُ منها تصميماً أحَلْتُها على فرصة أخرى، وأنا آمل أن يُمْنَح من التيسير ما يشجّع على قصد هذا الغرض العسير.
وفيما أنا بين إقدام وإحجام، أتخيل هذا الحَقل مَرَةً القتاد وأخرى الثُّمام(2)
__________
(1) _ أشير بهذا إلى أن المهم من كلام المفسرين يرشد إلى الزيادة على ما ذكروه، والذي دون ذلك من كلامهم ينبه إلى تقويم ما ذكروه، والمفسر هنا مراد به الجنس.
(2) _ قوله: =القتاد+: يشير به إلى الصعوبة؛ لأن القتاد هو الشوك؛ ولهذا يقال لما عَزَّ وصعب وعسر: دونه خرط القتاد.
وقوله: =الثُّمام+: هو نبت قريب سهل التناول؛ لأنه لا يطول؛ فصار يضرب به المثل لما قرب وسهل تناوله.(م)(1/52)
إذا أنا بأملي قد خُيِّل إليَّ أنه تباعد أو انقضى؛ إذ قُدِّر أن تسند إلي خطة القضا(1)، فبقيت متلهفاً ولات حين مناص، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان، وأضرب المثل بأبى الوليد ابن رشد في كتاب البيان(2).
ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه، إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد مَنَّ بالنُّقلة إلى خطة الفتيا(3)، وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا؛ فتحول إلى الرجاء ذلك اليأس، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة؛ فهو يقضي بها ويعلمها الناس(4).
هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته، واستعنت بالله _تعالى_ واستخرته، وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط إذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد.
__________
(1) _ في 26 رمضان 1331 والقضاء هنا بالقصر لمراعاة السجع.
(2) _ حيث ذكر أنه شرع فيه, ثم عاقه عنه تقليد خطة القضاء بقرطبة فعزم على الرجوع إليه إن أريح من القضاء, وأنه عرض عزمه على أمير المؤمنين علي بن يوسف ابن تاشفين, فأجابه لذلك وأعفاه من القضاء. ليعود إلى إكمال كتابه =البيان والتحصيل+ وهذا الكتاب هو شرح جليل على كتاب العتبية الذي جمع فيه العتبي سماع أصحاب مالك منه, وسماع أصحاب ابن القاسم منه.
(3) _ في 26 رجب 1341
(4) _ أردت الإشارةَ إلى الحديث: =لا حسد إلا في اثنتين+ لأنه يتعين أن لا يكون المراد خصوص الجمع بين القضاء بها وتعليمها، بل يحصل المقصود ولو بأن يقضي بها مدة, ويعلمها الناس مدة أخرى.(1/53)
أقدمت على هذا المهم(1) إقدام الشجاع، على وادي السباع(2) متوسطاً في معترك أنظار الناظرين، وزائر(3) بين ضباح الزائرين(4) فجعلت حقاً علي أن أبدي في تفسير القرآن نُكَتاً لم أَرَ مَنْ سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارةً لها وآونةً عليها؛ فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحدَ رجلين: رجلٍ معتكفٍ فيما شاده الأقدمون، وآخرَ آخذٍ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضرٌّ كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالماً بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل.(5)
والتفاسير _وإن كانت كثيرة_ فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق؛ بحيث لاحظّ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل.
__________
(1) _ يعني بالمهم: الأمر العظيم، وهو تفسير القرآن الكريم، ولعل الكلمة: المَهْمَه: وهو المفازة والمكان القَفْر، ولعل سياق الكلام يعضد اللفظ الثاني. (م)
(2) _ وادي السباع موضع بين مكة والبصرة، وهو واد قفر من السكان تكثر به السباع قال سحيم ابن وثيل الرياحي:
مررتُ على وادي السباع ولا أَرى ... كوادي السباع حين يُظْلَمُ وَاديا
أَقلَّ به ركبٌ أَتَوْهُ تَئِيَّةً ... وأخوفَ إلاَّ ما وقَى اللهُ ساريا
(3) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: زائراً.
(4) _ الزائرين هنا اسم فاعل من زأر بهمزة بعد الزاي, وهو الذي مصدره الزئير, وهو صوت الأسد قال عنترة:
حَلَّتْ بأرض الزائرِينَ فأصبحتْ ... عَسِراً عليَّ طِلاَبُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
(5) _ تأمل هذا الكلام العظيم الذي يدل على نفس كبيرة، وهمة عالية. (م)(1/54)
وإن أهم التفاسير تفسير الكشاف، و المحرر الوجيز لابن عطية، ومفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي، وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع، وتفسير الشهاب الآلوسي، وما كتبه الطيبي، والقزويني، والقطب، والتفتزاني على الكشاف، وما كتبه الخفاجي على تفسير البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير القرطبي، والموجود من تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي من تقييد تلميذه الأبي، وهو بكونه تعليقاً على تفسير ابن عطية أشبه منه بالتفسير؛ لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن وتفاسير الأحكام، وتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري، وكتاب درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني.
ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها، وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه، وما أجلبه من المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة، ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر؛ فكم من كلام تنشئه تَجِدُكَ قد سبقك إليه متكلم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم، وقديماً قيل:
هل غادر الشعراء من متردم
إن معاني القرآن ومقاصده ذاتُ أفانينَ كثيرةٍ بعيدةِ المدى، متراميةِ الأطراف، موزعةِ على آياته؛ فالأحكام مبينة في آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر.
وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان، ولكن فَنَّاً من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونُكَتِهِ آيةٌ من آيات القرآن، وهو فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى.
من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما أُلْهِمْتُهُ بحسب مبلغ الفهم، وطاقة التدبر.(1/55)
وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز، ونكت البلاغة العربية، وأساليب الاستعمال، واهتممت _أيضاً_ ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى: (نظم الدرر في تناسب الآي والسور).
إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع؛ فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع.
أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض فلا أراه حقاً على المفسر.
ولم أغادر سورةً إلا بينت ما أحيط به من أغراضها؛ لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصوراً على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه، وتحجب عنه روائع جماله.
واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميسُ اللغة، وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول منه فوائد ونكتاً على قدر استعداده؛ فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير؛ ففيه أحسن ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير.
وسميته: (تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد).
واختصرت هذا الاسم باسم: (التحرير والتنوير من التفسير).
وها أنا(1) أبتدئ بتقديم مقدماتٍ تكون عوناً للباحث في التفسير، وتغنيه عن معاد كثير. 1/5_9
1_ التفسير: مصدر فَسَّر بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدرُه الفسر، وكلاهما فعلٌ متعدٍّ، فالتضعيف ليس للتعدية. 1/10
__________
(1) _ عن قصد قلت: =وها أنا+ ولم أقل: =وها أنا ذا+ كما التزمه كثير من المحذلقين؛ أَخْذاً بظاهر كلام مغني اللبيب لما بينته عند قوله _تعالى_: [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤلاء تَقْتُلُوْنَ أَنْفُسَكُمْ] سورة البقرة.(1/56)
2_ والفسر: الإبانة، والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع، ثم قيل: المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل: يختص المضاعف بإبانة المعقولات. 1/10
3_ والتفسير في الاصطلاح نقول: هو اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها باختصار أو توسع. 1/11
4_ وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحثُ عن معانيه، وما يستنبط منه.
وبهذه الحيثية خالف عِلْمَ القراءات؛ لأن تمايز العلوم _ كما يقولون _ بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات. 1/12
5_ والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهوراً؛ إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي"إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر÷عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولاً في التفسير، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهم _.
وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية؛ فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير.
وهو _أيضاً_ أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق. 1/14(1/57)
6_ وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80هـ والمتوفي سنة 149هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة، وجمع فيه آثاراً وغيرها، وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير، ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها، وهي تفسير محمد بن السائب الكلبي المتوفي سنة 146هـ عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رُمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة: (دروغدت) بالفارسية بمعنى الكذاب(1) وهي أوهى الروايات، فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدى عن الكلبي فهي سلسلة الكذب(2) أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقد قيل: إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي طالب، وقال: إن علياً لم يمت، وإنه يرجع إلى الدنيا، وقد قيل: إنه ادعى إلهية علي. 1/14_15.
7_ وقد جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، وهل هو مساو للتفسير أو أخص منه أو مباين؟
وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب.
ومنهم من جعل التفسير للمعنى، الظاهر والتأويل للمتشابه.
ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل؛ فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله _تعالى_: [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ] بإخراج الطير من البيضة فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل.
__________
(1) _ تفسير القرطبي
(2) _ الإتقان(1/58)
وهنالك أقوال أخر لا عبرة بها، وهذه كلها اصطلاحات لا مشاحة فيها إلا أن اللغة والآثار تشهد للقول الأول؛ لأن التأويل مصدر أَوَّله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول، قال الأعشى:
على أنها كانت تَأَوُّلُ حُبِّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السقاب فأَصْحَبا
أي تبيين تفسير حبها أنه كان صغيراً في قلبه، فلم يزل يشب حتى صار كبيراً كهذا السقب، أي ولد الناقة الذي هو من السقاب الربيعية لم يزل يشب حتى كبر، وصار له ولد يصحبه.
قاله أبو عبيدة، وقد قال الله _تعالى_: [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ]: أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه.
وقال " في دعائه لابن عباس: =اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل+: أي فَهْمَ معاني القرآن.
وفي حديث عائشة _رضي الله عنها_ كان " يقول في ركوعه: =سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي+ يتأول القرآن: أي يعمل بقوله _تعالى_: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ].
فلذلك جمع في دعائه التسبيح، والحمد، وذكر لفظ الرب، وطلب المغفرة، فقولها يتأول صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها، ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة، وقرب انتقاله " الذي فهمه منها عمر وابن عباس _رضي الله عنهما_. 1/16_17.
1_ استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه؛ لتكون عوناً لهم على إتقان تدوين ذلك العلم.
وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد: العون والغواث؛ فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء، وليس كل ما يذكر في العلم معدوداً من مدده، بل مدده ما يتوقف عليه تَقَوُّمه. 1/18(1/59)
فاستمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد من المجموع الملتئم من علم العربية، وعلم الآثار، ومن أخبار العرب، وأصول الفقه، قيل: وعلم الكلام، وعلم القراءات. 1/18
2_ ولذلك _ أي لإيجاد الذوق أو تكميله _ لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية ببيت من الشعر، أو بشيء من كلام العرب؛ لتكميل ما عنده من الذوق عند خفاء المعنى، ولإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات. 1/21
3_ وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى؛ إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مراداً منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع. 1/25
4_ وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى؛ فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية؛ لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استناداً لاستعمال عربي صحيح. 1/25
5_ وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم، وإنما خصصتها بالذكر؛ تنبيهاً لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو؛ فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها؛ لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار؛ فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله _تعالى_: [وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] وقوله: [قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ] يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب. 1/25(1/60)
6_ وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم، وهي من أصول الفقه؛ فَتَحَصَّل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما: أن علم الأصول قد أُوْدِعَتْ فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب، وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى، ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه؛ فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط، ويفصح عنها، فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها. 1/25_26
7_ تنبيه: اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي"في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك؛ لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد _أيضاً_ من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضاً آخر منها؛ لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم، وتقييد المطلق، وبيان المجمل، وتأويل الظاهر، ودلالة الاقتضاء، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام في مغني اللبيب في حرف (لا) عن أبي علي الفارسي أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو [وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] وجوابه: [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ]. اهـ
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه؛ لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض؛ إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصوداً في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.(1/61)
واعلم أن استمداد علم التفسير من هذه المواد لا ينافي كَوْنَه رأسَ العلومِ الإسلامية كما تقدم؛ لأن كونه رأس العلوم الإسلامية معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار. 1/27
1_ ثم لو كان التفسير مقصوراً على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية؛ لكان التفسير نزراً ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة فمن يليهم في تفسير آيات القرآن، وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. 1/28
2_ فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيراً للمطالع، وتنزيلاً في البرج والطالع. 1/37
1_ إن القرآن أنزله الله _تعالى_ كتاباً لصلاح أمر الناس كافة؛ رحمة لهم؛ لتبليغهم مراد الله منهم.
قال الله _تعالى_: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ].
فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية.
فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر.
أما الصلاح الجماعي فيحصل أولاً من الصلاح الفردي؛ إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات، ومواثبة القوى النفسانية، وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.(1/62)
وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حِفْظُ نظام العالم الإسلامي، وضَبْطُ تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورَعْيُ المصالح الكلية الإسلامية، وحِفْظُ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع. 1/38
2_ فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله _تعالى_ في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى، ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلاً وتفريعاً كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائدُ المُفَسِّر في ذلك أن يعرف _على الإجمال_ مقاصدَ القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات. 1/41_42
1_ أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها؛ لبيان حكمها، أو لحكايتها، أو إنكارها، أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا؛ حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا.
بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها، ونجد لبعض الآي أسباباً ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل؛ فكان أمر أسباب نزول القرآن دائراً بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه، وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن؛ فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير؛ لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل غير مدخر ما أراه في ذلك رأياً يجمع شتاتها.(1/63)
وأنا عاذرٌ المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول، فاستكثروا منها بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه؛ فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته؛ ليذكي قبسه، ويمد نفسه؛ فيرضى بما يجد رضى الصبِّ بالوعد، ويقول: زدني من حديثك يا سعد غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب.
ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة؛ فأثبتوها في كتبهم، ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفاً، حتى أوهموا كثيراً من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم؛ فإن القرآن جاء هادياً إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح؛ فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام.
نعم إن العلماء توجسوا منها، فقالوا إن سبب النزول لا يخصَّص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها؛ إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا: =العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب+.
ولكن أسباباً كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام، أو تقييد مطلق، أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. 1/46
2_ وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم؛ فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين. 1/50(1/64)
1_ لولا عنايةُ كثيرٍ من المفسرين بذكرِ اختلافِ القراءاتِ في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء _ لكنت بمعزل عن التكلم في ذلك؛ لأن علم القراءات علم جليل مستقل، قد خص بالتدوين والتأليف، وقد أشبع فيه أصحابه، وأسهبوا بما ليس عليه مزيد، ولكني رأيتني بمحل الاضطرار إلى أن ألقي عليكم جملاً في هذا الغرض تعرفون بها مقدار تعلق اختلاف القراءات بالتفسير، ومراتب القراءات قوةً وضعفاً? كي لا تعجبوا من إعراضي عن ذكر كثير من القراءات في أثناء التفسير. 1/51
2_ من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجهاً في العربية، ووافقت خط المصحف _أي مصحف عثمان_ وصح سند راويها فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها.
قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبعٌ لتواتر المصحف الذي وافقته، وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه. 1/53
3_ ثم إن القراءاتِ العشرَ الصحيحةَ المتواترةَ قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة، أو الفصاحة، أو كثرة المعاني، أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحاناً.
على أن كثيراً من العلماء كان لا يرى مانعاً من ترجيح قراءة على غيرها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة الزمخشري وفي أكثر ما رُجح به نظر سنذكره في مواضعه.
وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين، والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين، وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا?(1/65)
فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين، والمعربين من تحسين بعض القراءات، واختيارها على بعض؛ لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ _ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا _أي بالأندلس_ فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها؛ لما فيها من تسهيل النبرات، وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة. 1/61_62
4_ تنبيه: أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها؛ لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام.
وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون؛ لأنها القراءة المدنية إماماً وراوياً، ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة.
والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي ليبيا، وبرواية ورش في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق، والشام، وغالب البلاد المصرية، والهند، وباكستان، وتركيا، والأفغان.
وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر. 1/63
1_ امتن الله على رسوله"بقوله: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ].(1/66)
فعلمنا من قوله: [أَحْسَنَ] أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض(1) وتجديد النشاط، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من خير أو شر؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا، ولو كان من هذا لساوى كثيراً من قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديراً بالتفضيل على كل جنس القصص.
والقصة: الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها، فليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن نزوله قصصاً مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم، وجمع القصة قِصَص بكسر القاف.
وأما القَصَص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص، وهو مصدر سمي به المفعول، يقال: قص على فلان إذا أخبره بخبر.
وأبصر أهل العلم أن ليس الغرض من سوقها قاصراً على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم، أو التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم، كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر الأشياء وأوائلها، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل.
إن في تلك القصص لعبراً جمة، وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها، ويعرض عما عداه؛ ليكون تعرضه للقصص منزهاً عن قصد التَفَكُّه بها.
من أجل ذلك كُلِّه لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها؛ لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين؛ فهو بالخطابة أشبه.
وللقرآن أسلوبٌ خاص هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير، وبالذكر في آيات يأتي تفسيرها؛ فكان أسلوبه قاضياً للوطرين، وكان أجلُّ من أسلوب القصاصين في سَوْق القصص؛ لمجرد معرفتها؛ لأن سَوْقَها في مناسباتها يكسبها صفتين: صفة البرهان، وصفة التبيان.
__________
(1) _ من أحمض القوم: أفاضوا فيما يؤنسهم.(1/67)
ونجد من مميزات قصص القرآنِ نَسْجَ نظمها على أسلوب الإيجاز؛ ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص، مثال ذلك قوله _تعالى_ في سورة القلم: [فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ].
فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها؛ لأن ذلك مَحَزُّ حكايتها، ولم تحك أثناء قوله: [إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ] وقوله: [فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ].
ومن مميزاتها طَيُّ ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله _تعالى_ في سورة يوسف: [وَاسْتَبَقَا الْبَابَ] فقد طُوي ذِكْرُ حضورِ سيدها، وطرقِه البابَ، وإسراعِهما إليه لفتحه؛ فإسراع يوسف، ليقطع عليها ما توسمه فيها من المَكْرِ بِهِ؛ لتري سيدها أنه أراد بها سوءاً، وإسراعها هي لضد ذلك؛ لتكون البادئة بالحكاية، فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية، فدل على ذلك ما بعده من قوله: [وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً] الآيات.
ومنها أن القصص بُثَّت بأسلوب بديع؛ إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع. 1/64_65
1_ هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن، وله اتصال متين بالتفسير؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور، ومناسبة بعضها لبعض؛ فيغني المفسر عن إعادته.(1/68)
معلوم لك أن موضوع علم التفسير هو القرآن؛ لتبيان معانيه، وما يشتمل عليه من إرشادٍ، وهدىً، وآداب، وإصلاح حال الأمة في جماعتها، وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها: بفهم دلالته اللغوية والبلاغية؛ فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله _تعالى_ كلاماً عربياً إلى محمد"بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به، ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرأوه منه في صلواتهم، وجعل قراءته عبادة. 1/70
2_ فالقرآن اسم للكلام الموحى به إلى النبي"وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، أولاها الفاتحة، وأخراها سورة الناس، صار هذا الاسم عَلَماً على هذا الوحي، وهو على وزن فُعْلان، وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غُفْران، وشُكْران، وبُهتان، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان، وحسان، وعدنان.
واسم قرآن صالح للاعتبارين؛ لأنه مشتق من القراءة؛ لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] الآية.
وقال _تعالى_: [وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]. 1/71
3_ فاسم القرآن هو الاسم الذي جُعِل علماً على الوحي المنزل على محمد" ولم يسبق أن أُطلق على غيره قبله، وهو أشهر أسمائه، وأكثرها وروداً في آياته، وأشهرها دوراناً على ألسنة السلف. 1/71
4_ وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف، أو أجناس أنهاها في الإتقان إلى نَيِّفٍ وعشرين، والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة: التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله. 1/72(1/69)
5_ الآية: هي مقدار من القرآن مركب ولو تقديراً أو إلحاقاً؛ فقولي: =ولو تقديراً+: لإدخال قوله _تعالى_: [مُدْهَامَّتَانِ] إذ التقدير: هما مدهامتان، ونحو [وَالْفَجْرِ] إذ التقدير أقسم بالفجر، وقولي: =أو إلحاقاً+: لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة؛ فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا: آلر، وآلمر، وطس، وذلك أمر توقيفي، وسنة متبعة، ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها.
وتسميةُ هذه الأجزاءِ آياتٌ هو من مبتكرات القرآن، قال _تعالى_: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ] وقال: [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ].
وإنما سميت آية؛ لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي"لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جُعِلت دليلاً على أن القرآن منزل من عند الله، وليس من تأليف البشر؛ إذ قد تحدى النبي به أهل الفصاحة، والبلاغة من أهل اللسان العربي؛ فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره. 1/74
6_ وكان المسلمون في عصر النبوة، وما بعده يقدرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عدداً من الآيات كما ورد في حديث سحور النبي"أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.
قال أبو بكر ابن العربي: =وتحديد الآية من معضلات القرآن؛ فمن آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع، ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام+.
وقال الزمخشري: =الآيات علم توقيفي+.
وأنا أقول: لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعاً لانتهاء نزولها، وأمارته وقوع الفاصلة.
والذي استخلصته أن الفواصل هي الكلماتُ التي تتماثل في أواخر حروفها، أو تتقارب، مع تماثلِ أو تقاربِ صِيَغِ النُّطْقِ بها، وتُكرَّر في السورة تكرراً يؤذن بأن تماثلها، أو تقاربَها مقصودٌ من النظم في آيات كثيرة متماثلة، تكثر وتقل، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع.(1/70)
والعبرةُ فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون، وهي أكثر شبهاً بالتزام ما لا يلزم في القوافي، وأكثرها جارٍ على أسلوب الأسجاع.
والذي استخلصته _أيضاً_ أن تلك الفواصلَ كلَّها منتهى آيات، ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه، وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام، ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادراً كقوله _تعالى_: [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ].
فهذا المقدار عُدَّ آية وهو لم ينته بفاصلة، ومثله نادر؛ فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف، مثل: شقاق، مناص، كذاب، عجاب.
وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو، أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة، وبعد ذلك حرف، مثل: [أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ] [إِذْ يَسْتَمِعُونَ] [نَذِيرٌ مُبِينٌ] [ مِنْ طِينٍ].
فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام_ تكون الآية غير منتهية ولو طالت، كقوله _تعالى_: [قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ] إلى قوله: [وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ] فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة. 1/75_76
7_ واعلم أن هذه الفواصلَ من جملة المقصود من الإعجاز؛ لأنها ترجع إلى مُحَسِّنات الكلام، وهي من جانب فصاحة الكلام؛ فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل؛ لتقع في الأسماع؛ فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر، وبالأسجاع في الكلام المسجوع، فإن قوله _تعالى_: [إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ] إلى آخر الآيات، فقوله: [فِي الْحَمِيمِ] متصل بقوله: [يُسْحَبُونَ] وقوله: و [مِنْ دُونِ اللَّهِ] متصل بقوله: [تُشْرِكُونَ].(1/71)
وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها.
وقوله _تعالى_: [وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] آية، وقوله: [مِنْ دُونِهِ] ابتداء الآية بعدها في سورة هود.
ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يُلْقِيَهُ مُلْقِيْهِ على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه؟ فإن ذلك إضاعةٌ لجهود الشعراء، وتغطيةٌ على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنثر.
وأن إلفاء(1) السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة؟
ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق؛ فيكون مضيعاً لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته.
والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام فضول، فإن البيان وظيفةُ ملقي دَرْسٍ لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه. 1/76
8_ وآياتُ القرآنِ متفاوتةٌ في مقادير كلماتها؛ فبعضها أطول من بعض، ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلاً، تقدير تقريبي، وتفاوت الآيات في الطول تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام. 1/77
9_ وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبي"حسب نزول الوحي، ومن المعلوم أن القرآن نزل مُنَجَّماً آيات؛ فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة. 1/79
10_ واتساق الحروف، واتساق الآيات، واتساق السور، كله عن رسول الله". 1/79
11_ إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها؛ فإصلاحُ كُفَّارها بدعوتهم إلى الإيمان، ونبذِ العبادة الضالة، واتباع الإيمان، والإسلام.
__________
(1) _ هكذا في الأصل، ولعل الصواب: إلقاء. (م)(1/72)
وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم، وتثبيتهم على هداهم، وإرشادهم إلى طرق النجاح، وتزكية نفوسهم، ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلاً بعضُها عن بعض؛ لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه، فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها، وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة، ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة؛ لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد، أو تقويم معوج، كقوله: [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ] إلى قوله: [قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ] فقوله: [قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ] جملة معترضة. 1/81_82
12_ وقوف القرآن: الوَقْفُ هو قطعُ الصوتِ عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة، والوقف عند انتهاء جملة من جمل القرآن قد يكون أصلاً لمعنى الكلام؛ فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله _تعالى_: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ].
فإذا وقف عند كلمة (قتل) كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم، ومع الأنبياء أصحابهم؛ فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم؛ فكان المقصود تأييس المشركين من وهن المسلمين على فرض قتل النبي"في غزوته على نحو قوله _تعالى_ في خطاب المسلمين: [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] الآية.(1/73)
وإذا وصل قوله: [قُتِلَ] عند قوله: [كَثِيرٌ] كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى، فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله _تعالى_: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً] إلى قوله: [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ]. 1/82
13_ ولما كان القرآن مراداً منه فهم معانيه، وإعجاز الجاحدين به، وكان قد نزل بين أهل اللسان _ كان فهم معانيه مفروغاً من حصوله عند جميعهم، فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم، بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر، وأسجاع النثر، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدمناه عند الكلام على آيات القرآن، فكان عدم الوقف عليها تفريطاً في الغرض المقصود منها. 1/83
14_ سور القرآن: السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة.
وكونُها تشتمل على ثلاث آياتٍ مأخوذٌ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال: =جاء الحارث بن خزيمة _هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة_ بالآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما منه، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة+ إلخ.
فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقل مقدار سورة.(1/74)
وتسميةُ القطعة المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن، وشاعت تلك التسمية عند العرب حتى المشركين منهم، فالتحدي للعرب بقوله _تعالى_: [فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ] وقوله: [فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ] لا يكون إلا تحدياً باسم معلوم المسمى، والمقدارِ عندهم وقتَ التحدي؛ فإن آياتِ التحدي نزلت بعد السور الأُوَل.
وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله _تعالى_: [سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا] أي هذه سورة،وقد زادته السنة بياناً، ولم تكن أجزاء التوراة، والإنجيل، والزبور مسماة سوراً عند العرب في الجاهلية، ولا في الإسلام.
ووجهُ تسميةِ الجزء المعين من القرآن سورة قيل: مأخوذة من السُّوْر بضم السين، وتسكين الواو، وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بِمَحَلَّة قومٍ، زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة، أو رسالة، أو مقامة.
وقيل: مأخوذة من السُّؤر بهمزة بعد السين، وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السؤرَ جزءٌ مما يُشْرب، ثم خففوا الهمزة بعد الضمة فصارت واواً.
قال ابن عطية: =وترك الهمز في سورة هو لغة قريش، ومن جاورها من هذيل، وكنانة، وهوازن، وسعد بن بكر.
وأما الهمز فهو لغة تميم، وليست إحدى اللغتين بدالَّةٍ على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل؛ لأن للعرب في تخفيفِ المهموز وهمزِ المخفف من حروف العلة طريقتين، كما قالوا: أُجوه، وإِعاء، وإِشاح في وُجوه، ووعاء، ووشاح، وكما قالوا: الذئب بالهمز، والذيب بالياء+.
قال الفراء: =ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزاً، كما قالوا: رثأت الميت، ولبأت بالحج، وحلأت السويق بالهمز+.
وجمع سُوْرَة سُوَرٌ بتحريك الواو كغرف، ونقل في شرح القاموس عن الكراع أنها تجمع على سور بسكون الواو.(1/75)
وتسوير القرآن من السنة في زمن النبي"فقد كان القرآن يومئذ مقسماً إلى مائة وأربع عشرة سورة بأسمائها، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود؛ فإنه لم يثبت المعوذتين في سور القرآن، وكان يقول: =إنما هما تعوذٌ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو من القرآن+.
وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح، على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع، والخنع، وجعل سورة الفيل، وسورة قريش سورة واحدة.
وكل ذلك استناداً لما فهمه من نزول القرآن، ولم يُحْفَظْ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا، ولا اختلفوا في عدد سوره، وأنها مائة وأربع عشرة سورة، روى أصحاب السنن عن ابن عباس أن رسول الله"كان إذا نزلت الآية يقول: =ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا+.
وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي"محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن، فترتيب الآيات في السور هو بتوقيف من النبي". 1/85_86
15_ واعلم أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف أسماء السور، بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة، علامة على الفصل بين السورتين، وإنما فعلوا ذلك؛ كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس بآية قرآنية، فاختاروا البسملة؛ لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن، وفي الإتقان أن سورة البينة سميت في مصحف أبيّ سورة أهل الكتاب.
وهذا يُؤْذِنُ بأنه كان يسمي السور في مصحفه، وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في عصر التابعين ولم ينكر عليهم ذلك. 1/91
1_ إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح، وفطنة الأفهام؛ فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم، وبخاصة كلام بلغائهم.(1/76)
ولذلك كان الإيجاز عمودَ بلاغتهم؛ لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين، كما يقال: =لمحة دالة+ لأجل ذلك كثر في كلامهم: المجاز، والاستعارة، والتمثيل، والكناية، والتعريض، والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة، والاستطراد ومستتبعات التراكيب، والأمثال، والتلميح، والتمليح، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار، ونحو ذلك. 1/93
2_ وملاك ذلك كله توفير المعاني، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها؛ ليسهل اعتلاقها بالأذهان.
وإذ قد كان القرآن وحياً من العلام _ سبحانه _ وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله، وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه _كما سيأتي في المقدمة العاشرة_ فقد نُسِجَ نَظْمُه نسجاً بالغاً منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق، واللطائف لفظاً ومعنىً بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم.(1/77)
فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب؛ فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته، ولم يَسَعْهُمْ إلا الإذعان، سواء في ذلك من آمن منهم، مثل: لبيد بن ربيعة، وكعب بن زهير، والنابغة الجعدي، ومن استمر على كفره عناداً مثل: الوليد بن المغيرة؛ فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم، وهو لكونه كتابَ تشريعٍ، وتأديب، وتعليم كان حقيقاً بأن يودع فيه من المعاني، والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغةُ الواردُ هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات؛ ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى؛ فمعتادُ البلغاءِ إيداعُ المتكلمِ معنىً يدعوه إليه غرضُ كلامِه، وتركُ غيره، والقرآنُ ينبغي أن يودع من المعاني كُلَّ ما يحتاج السامعون إلى علمه، وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصوداً، وكان ما هو أدنى منه مراداً معه لا مراداً دونه، سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال والظهور، أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض، ولو أن تبلغ حد التأويل، وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح.
أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر، مثل قوله _تعالى_: [وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً] أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقيناً بل فهموه خطأ.(1/78)
ومثل قوله: [فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ] ففي كل من كلمة (ذِكْرَ) و(رَبِّهِ) معنيان، ومثل قوله: [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ] ففي لفظ (رب) معنيان، وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر؛ تكثيراً للمعاني مع إيجاز اللفظ، وهذا من وجوه الإعجاز، ومثاله قوله _تعالى_: [إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ] بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري: =أباه+ بالباء الموحدة؛ فنشأ احتمال فيمن هو الواعد. 1/93_94
3_ وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها، وتتدبرها، فتنهال عليك معانٍ كثيرةً يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي.
وقد تتكاثر عليك فلا تَكُ من كثرتها في حصر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحاً بذلك. 1/97
4_ ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه، أو معانيه دفعة، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي، ومعناه المجازي معاً، بَلْهَ إرادةِ المعاني المكنَّى عنها مع المعاني المصرح بها، وإرادة المعاني المسْتَتْبَعات بفتح الباء من التراكيب المستتبِعة بكسر الباء.
وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان، وبقي المبحثان الأولان وهما: استعمال المشترك في معنييه أو معانيه، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه _ محَلَّ ترددٍّ بين المتصدِّين لاستخراج معاني القرآن تفسيراً وتشريعاً، سَبَبُهُ أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن، أو واقع بندرة؛ فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملاً من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ويعدون ذلك خطباً عظيماً.(1/79)
من أجل ذلك اختلف علماء العربية، وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافاً ينبئ عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال.
وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري(1): يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم، وليس بدلالة اللغة.
وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب؛ لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة، كدلالة المجاز والاستعارة.
والحق أن المشترك يصحُّ إطلاقُه على عدة من معانيه جميعاً أو بعضاً إطلاقاً لغوياً، فقال قوم: هو من قبيل الحقيقة، ونسب إلى الشافعي، وأبي بكر الباقلاني، وجمهور المعتزلة.
وقال قوم: هو المجاز، وجزم ابن الحاجب بأنه مراد الباقلاني من قوله في كتاب التقريب والإرشاد: =إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة+.
ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز، وهذا لا يستقيم؛ لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وهي لا تُتَصَوَّر في موضوعنا؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة، وإلا لانتقضت حقيقة المشترك؛ فارتفع الموضوع من أصله.
وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي، وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه؛ فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وقرينة المشترك مُعَيِّنة للمعاني المرادة كُلاًّ أو بعضاً. 1/98_99
__________
(1) _ محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي، المتوفى سنة 439هـ، له كتاب (المعتمد في أصول الفقه).(1/80)
1_ لم أر غرضاً تناضلت له سهام الأفهام، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم، فرجعت دونها حسرى، واقتنعت بما بلغته من صبابة نزراً _ مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن؛ فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل، ومَوْرِدَها للمعلول والناهل، ومُغْلَى سبائها للنديم والواغل.
ولقد سبق أن أُلِّف عِلْمُ البلاغة مشتملاً على نماذج من وجوه إعجازه، والتفرقة بين حقيقته ومجازه، إلا أنه باحثٌ عن كل خصائص الكلام العربي البليغ؛ ليكون معياراً للنقد أو آلة للصنع، ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله.
قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح: =واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كل شاهد بناؤها، واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها+.
إلى أن قال: =ثم إذا كنت ممن ملك الذوق، وتصفحت كلام رب العزة_ أطلعْتُك على ما يوردك موارد العزة، وكشفت عن وجه إعجازه القناع+ اهـ. 1/101
2_ فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أَنْ أُلِمَّ بك _ أيها المتأمل _ إلمامةً ليست كخطرة طيف، ولا هي كإقامة المُنْتَجِعِ في المَرْبَع؛ حتى يظله الصيف، وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزاً، وتتبصر منها نواحي إعجازه، وما أنا بمستقصٍ دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور؛ فذلك له مصنفاته، وكل صغير وكبير مستطر، ثم ترى منها بلاغة القرآن، ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب؛ حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر، وفتح عقول، وفتح ممالك، وفتح أدبٍ غَضٍّ ارتقى به الأدب العربي مرتقىً لم يبلغه أدبُ أمةٍ من قبل.(1/81)
وكنت أرى الباحثين ممن تقدمني يخلطون هذين الغرضين خلطاً، وربما أهملوا معظم الفن الثاني، وربما ألموا به إلماماً وخلطوه بقسم الإعجاز، وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولاً ونكتاً أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني، والرماني، وعبد القاهر، والخطابي، وعياض، والسكاكي، فكونوا منها بالمرصاد، وافْلُوا عنها كما يفلي عن النار الرماد.
وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير: هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغاً حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملاً على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار؛ فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته، وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية؛ لئلا يكون المفسر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسر. 1/101_102
3_ فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير؛ فَمِنْ مقُلٍّ مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف، ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العِلْقَ النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي. 1/102(1/82)
4_ واعلم أنه لا شك في أن خصوصياتِ الكلام البليغ، ودقائقَهُ مرادةٌ لله _تعالى_ في كون القرآن معجزاً، وملحوظة للمتحدَّيْن به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبين، وإن إشاراتٍ كثيرةً في القرآن تلفت الأذهان لذلك، ويحضرني الآن من ذلك أمور: أحدها: ما رواه مسلم، والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله": قال الله _تعالى_: =قسمت الصلاة _أي سورة الفاتحة_ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله _تعالى_: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله _تعالى_ أثنى علي عبدي، وإذ قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل+.
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم؛ إذ قسَّم الفاتحة ثلاثةَ أقسامٍ، وحسنُ التقسيم من المحسنات البديعية مع ما تضمنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله: فإذا قال: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] قال: هذا بيني وبين عبدي؛ إذ كان ذلك مزيجاً من القسمين الذي قبله والذي بعده.
وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية، والتجنيس من المحسنات، ومنه قوله _تعالى_: [وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ]. 1/108
5_ نرى من أفانين الكلام الالتفات: وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم، أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها.
وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية؛ لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع، فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة.
وكان معدوداً عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.(1/83)
وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصيّ، والقدر العَلِيّ في باب البلاغة، وبه فاق امرؤُ القيس، ونَبُهَتْ سمعته، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله: [وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً] وقوله: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ] وقوله: [وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ] وقوله _تعالى_: [ابْلَعِي مَاءَكِ] وقوله: [صِبْغَةَ اللَّهِ] إلى غير ذلك من وجوه البديع. 1/109
6_ ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية، هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام، وخاصة في إعجاز القرآن؛ فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها، وما يقتضيها؛ فيتصدى لِتَطَلُّب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة، أو مغصوبة؛ ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية. 1/111
7_ ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية؛ فإن بلغاءهم كان تنافُسُهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تَفَطَّن لها ما لم يجد من قدرته قِبَلاً بمثله.
وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان؛ فَعُلِمَ ألا مَبْلَغَ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله، هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه. 1/111_112(1/84)
8_ نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة، ومقصد التشريع؛ فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه، وهو في هذا النوع يُشْبِهُ خُطَبَهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاماً كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه: [وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ] هذا من حيث ما لمعانيه من العموم، والإيماء إلى العلل، والمقاصد، وغيرها. 1/115_116
9_ ومن أساليبه، ما أسميه بالتفنن: وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض، والتنظير، والتذييل، والإتيان بالمترادفات عند التكرير؛ تجنباً لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية؛ فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود؛ فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه.
ومن أبدع أمثلة ذلك قوله: [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]. 1/116(1/85)
10_ فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غَضٍّ جديدٍ صالح لكل العقول، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها، معطٍ لكل فن ما يليق به من المعاني، والألفاظ، واللهجة: فتضمن المحاورةَ، والخَطابة، والجدل، والأمثال _أي الكلم الجوامع_ والقصص، والتوصيف، والرواية.
وكان لفصاحة ألفاظه، وتناسبها في تراكيبه، وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع، وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع _ كان لذلك سريعَ العُلوق بالحوافظ، خفيفَ الانتقال والسير في القبائل، مع كون مادتِه ولُحْمَتِه هي الحقيقةَ دون المبالغات الكاذبة، والمفاخرات المزعومة؛ فكان بذلك له صولةُ الحق، وروعةٌ لسامعيه، وذلك تأثير روحاني، وليس بلفظي، ولا معنوي.
وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله: [وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً].
والطباق كقوله: [كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ].
وقد ألَّفَ ابنُ أبي الإصبع كتاباً في بديع القرآن.
وصار _لمجيئه نثراً_ أدباً جديداً، غضاً، ومتناولاً لكل الطبقات.
وكان لبلاغته، وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب؛ حتى وصفوه بالسحر، وبالشعر [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ]. 1/119
11_ مبتكرات القرآن: هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يُقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه؛ إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام. 1/120(1/86)
12_ ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير: وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف، وقد أومأ إليها في الكشاف إيماءاً. 1/120
13_ ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم، والعذاب في الآخرةِ، وفي تمثيل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب؛ إذ كان فَنُّ القصص مفقوداً من أدب العربية إلا نادراً، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية التي قتلت الرجل، وعاهدت أخاه وغدر بها.
فلما جاء القرآن بالأوصاف بُهِتَ به العرب كما في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف [وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ] الآية، وفي سورة الحديد [فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ] الآيات. 1/120
14_ ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص؛ فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة، مثل تغيير شاول إلى طالوت، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزر. 1/121
15_ ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز: وهو متنافسهم، وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه؛ إذ كان _مع ما فيه من الإيجاز المُبَيَّن في علم المعاني_ فيه إيجاز عظيم آخر وهو صَلُوْحِيَّةُ معظمِ آياته لأن تؤخذ منها معانٍ متعددةٌ كلُّها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه، وبعضها وإن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه، وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال، أو الانتهاء، وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. 1/121
16_ ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين, وهو يرجع إلى إيجاز الحذف, والتضمين أن يضمَّن الفعلُ أو الوصفُ معنى فعلٍ أو وصفٍ آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل بالجملة معنيان. 1/123(1/87)
17_ عادات القرآن: يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه، وقد تعرض بعض السلف لشيء منها، فعن ابن عباس: =كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر+ وذكر ذلك الطبري عن الضحاك _ أيضاً _.
وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة: ما سمى الله مطراً في القرآن إلا عذاباً، وتسميه العرب الغيث كما قال _تعالى_: [وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا].
وعن ابن عباس: أن كل ما جاء من (يا أيها الناس) فالمقصود به أهل مكة المشركون.
وقال الجاحظ في البيان: =وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس+.
قلت: والنفع والضر، والسماء والأرض.
وذكر صاحب الكشاف، وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة، ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد، والاعتراض لمناسبة التضاد، ورأيت منه قليلاً في شعر العرب كقول لبيد:
فاقطعْ لُبانَة مَنْ تعرَّضَ وصلُه ... فلشرُّ واصِل خلَّة صَرَّامُها
وأحْبُ الُمجامِلَ بالجزيلِ وصرمُه ... باقٍ إذا ظلِعَتْ وزاغَ قِوامها
1/124_125
18_ وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها، ومنها أن كلمة (هؤلاء) إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها المشركون من أهل مكة كقوله _تعالى_: [بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ] وقوله: [فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ].
وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات، وفي الإتقان للسيوطي شيء من ذلك.(1/88)
وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ =قال+ دون حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] إلى قوله: [أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]. 1/125
19_ إن العلم نوعان علم اصطلاحي، وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور، ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.
وأما العلم الحقيقي فهو معرفةُ ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف، وإدراك الحقائق النافعة عاجلاً وآجلاً، وكلا العِلْمين كمال إنساني، ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه، وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب؛ لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات، والمتخيلات، والافتراضات المختلفة، ولا تحوم حول تقرير الحقائق، وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقاً كما أشار إليه فخر الدين الرازي.(1/89)
وقد اشتمل القرآن على النوعين؛ فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كَدِّ فِكْر، ولا يقتضي نظراً؛ فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب، ومعرفة الشرائع، والأحكام، وقصص الأنبياء والأمم، وأخبار العالم، وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ] وقال: [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا] ونحو هذا من محاجة أهل الكتاب. 1/126
20_ وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم؛ فينبلج للناس شيئاً فشيئاً انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم، وتطورات العلوم.
وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله؛ لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهلُه دقائقَ العلومِ، والجائي به ثاوٍ بينهم لم يفارقهم. 1/127
_ المقدمة ... 3
_ توطئة ... 7
_ المبحث الأول: معالم في سيرة العلامة ابن عاشور: ... 11
_ اسمُه وولادته ... 13
_ تَلَقِّيه العلم ... 13
_ مؤلفاته ... 13
_ أوليات ابن عاشور ... 18
_ أخلاق ابن عاشور وشمائله ... 20
_ كلمات لعدد من العلماء في أخلاقه، وعلمه، وسيرته ... 21
_ وفاته ... 28
_ المبحث الثاني: تعريف عام بتفسير التحرير والتنوير ... 31
_ أولاً: اسم الكتاب ... 33
_ ثانياً: قصة تأليفه وبدايته ونهايته ... 33
_ المبحث الثالث: منهج ابن عاشور في تفسيره وخلاصة ما اشتمل عليه ... 35
_ منهجه المجمل، وتحته سبع فقرات ... 37(1/90)
_ منهجه المفصَّل، وخلاصة ما اشتمل عليه، وتحته خمس وأربعون فقرة ... 38
_ المبحث الرابع: مقدمة في علم البلاغة ... 59
تمهيد: البلاغة في تفسير التحرير والتنوير ... 61
أولاً: فضل علم البلاغة ... 63
ثانياً: نبذة عن تاريخ البلاغة وأشهر الكتب المؤلفة فيه ... 66
ثالثاً: علوم البلاغة: ... 69
1_ تعريف علم البلاغة ... 69
2_ تعريف علم المعاني، وفائدته، ومصطلحات بلاغية ترد كثيراً في تفسير التحرير والتنوير ... 69
3_ تعريف علم البيان: أ_ التشبيه ب_ الحقيقة والمجاز جـ _الكناية ... 72
4_ تعريف علم البديع ... 77
أ_ محسنات معنوية ... 78
ب_ محسنات لفظية ... 79
_ مقترح حول هذا التفسير ... 81
_ مقدمة ابن عاشور على تفسيره ... 87
_ مختارات من مقدمات ابن عاشور العشر على تفسيره ... 97
المقدمة الأولى: في التفسير والتأويل، وكون التفسير علماً، وتحته ستة نُقولٍ ... 99
المقدمة الثانية: في استمداد علم التفسير، وتحته سبعة نقول ... 103
المقدمة الثالثة: في صحة التفسير بغير المأثور، ومعنى التفسير بالرأي ونحوه، وتحته نقلان ... 107
المقدمة الرابعة: فيما يحق أن يكون غرض المفسر، وتحته نقلان ... 108
المقدمة الخامسة: في أسباب النزول، وتحته نقلان ... 110
المقدمة السادسة: في القراءات، وتحته أربعة نقولات ... 112
المقدمة السابعة: قصص القرآن، وتحته نقل واحد ... 115
المقدمة الثامنة: في اسم القرآن، وآياته، وسوره، وترتيبها، وأسمائها، وتحته خمسة عشر نقلاً ... 118
المقدمة التاسعة: في أن المعاني التي تحتملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها، وتحته أربعة نقولات ... 128
المقدمة العاشرة: في إعجاز القرآن، وتحته عشرون نقلاً ... 132
_ الفهرس ... 143(1/91)