الكتاب :كِتَابُ إِعْجَازِ القُرآن ونَقْضِ مَطَاعِنِ عَبَدَةِ الصُّلْبَان
المؤلف : الشيخ وائل بن علي بن أحمد الدِّسُوقيّ
ليسانس في اللغة العربية و العلوم الإسلامية
ودبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
النشرة : الأولى 1423 هـ
النشرة : الثانية 1427 هـ ، مزيدة ومنقحة .
__________ كِتَابُ إِعْجَازِ القُرآن _____________
_____________ ونَقْضِ _________________
__________ مَطَاعِنِ عَبَدَةِ الصُّلْبَان ____________
ويحتوِي :
* الرد المفصَّل والمجمل على شبهات النصارى حول القرآن الكريم .
* الرد على شبهتهم حول حديث رضاع الكبير .
* شهادةُ الإنجيلِ أنهُ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له الأحدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ .
* الرد الجميل لألوهية عيسى عليه السلام بصريح الإنجيل وأنَّه عبدُ اللهِ ورسولُهُ .
* البشارات بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب .
* دعوة أهل الكتاب للإسلام و ثواب من آمن وعقوبة من كفر منهم .
__________ بقلم ____________
الشيخ / وائل بن علي بن أحمد الدِّسُوقيّ
ليسانس في اللغة العربية و العلوم الإسلامية
ودبلوم الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية
ــــــــــــــــــ
النشرة الأولى : 1423 هـ
النشرة الثانية : 1427 هـ ، مزيدة ومنقحة
(1/1)
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1/1)
" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) " (1) . فقد قالوا على الله بهتانا عظيما . قال الله سبحانه وتعالى : " لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (2) (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) " (3) .
و" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً " (4) .(1/2)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد ، بل هو كما وصف نفسه فقال : " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) " (5) . القائل في كتابه : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " (6) ، والقائل : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)" (7).
وأشهد أن محمداً عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القَائِلُ :"وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ " (8) . وتصديق ذلك في كتاب الله تعالي ، قال الله عز وجل : " وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ " (9). قال سعيد بن جُبَيْر : " الأحزابُ : المِللُ كلها " (10) .
ــــــــــــــــــــ
(1) سورة الكهف (1-5).
(2) قال ابن عباس و مجاهد و قتادة : " إِدّاً : قولا عظيما منكرا ".
(3) سورة مريم (90-93).
(4) سورة الإسراء (111).
(5) سورة الإخلاص (1-4).
( 6 ) سورة آل عمران (85).
( 7 ) سورة آل عمران (19).
( 8 ) رواه مسلم في صحيحه (153) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
( 9 ) سورة هود (17).
(10) رواه الحاكم في المستدرك (3309) ، وعبد الرزاق في تفسيره (2/303) وصححه الحاكم والذهبي .
(1/2)
*** ومن هذه الأحزاب والملل اليهود والنصارى :(1/3)
فقد ذكر اللهُ تعالي في القرآن ميلاد عيسي عليه السلام وأنه عبدٌ لله ، قال الله تعالي : " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً " الآيات إلي قوله تعالي:" فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ " (1).
فبَيَّنَ اللهُ تعالى أن النصارى اختلفوا في حقيقة عيسي عليه السلام وتفرقوا شيعاً وأحزاباً ، فاليهود والنصارى داخلون في قول الله تعالي : " وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) " (2).
* وقد بيَّن اللهُ عز وجل حقيقة عيسى عليه السلام وأنه عبد من عباد الله المُكْرَمين ، خلقه الله تعالي من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وكما خلق حواء من غير أب .
قال الله تعالي : " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) " سورة آل عمران (59-62) .
* و بيَّن اللهُ عز وجل أن عيسى رسول من البشر ؛ يجوع و يأكل ويشرب ، وينام ، ويتألم ، ويولد ويموت ، وأنه ليس إلهاً ولا جزءاً من الله ، وبيّن الله تعالى أن الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم أو إن عيسى ابن الله أو إن الله ثالث ثلاثة ، قد كفروا بالله تعالي وبرسله عليهم الصلاة والسلام .(1/4)
قال الله تعالي :
" لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) " (3).
ــــــــــــــ
(1) سورة مريم (30-37).
(2) سورة الروم (31-32).
(3) سورة المائدة (73-76).
(1/3)
* وقد تبرأ عيسى عليه السلام مِنْ كل مَنْ عبده مع الله ، أو زعم أن فيه جزءا إلهيا ، وكذلك مَنْ عَبَدَ أمَّه مريم البتول أو سماها أم الإله ، وبَيَّن عيسى للناس أنه عبدٌ مثلهم يعبد الله ربه ورب العالمين وحده لا شريك له .(1/5)
قال الله سبحانه وتعالي : " وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) " سورة المائدة (116-118) .
* وبمثل ذلك نطق الإنجيل :
(1/4)
شهادةُ الإنجيلِ أنهُ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له الأحدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ، وأنَّ عيسي عبدُ اللهِ ورسولُهُ صلَّيْ اللهُ عليهِ وسلمَ
* في إنجيل يوحنا (17/3) قال عيسى عليه السلام : " الحياةُ الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ، والذي أرسلتَهُ يسوع المسيح "، وفي إنجيل متي (4/ 10 ) : " مكتوب : للرب إلهك تسجد ، وإياه وحده تعبد " ، وفي لوقا (4/8) مثله ، وفي يوحنا (8/26) يقول عيسى عليه السلام : " الذي أرسلني هو الحق ، وما أقوله للعالم هو ما سمعتُه منه ". وفي لوقا (7/16) بعد أن رأوا إحدى معجزات عيسى الدالة على نبوته وأنه عبد الله ورسوله : " مَجَّدُوا اللهَ قائلين : قد قام فينا نبي عظيم ، وتفقد الله شعبه ". فهو نبي الله وعبده ورسوله وليس إلها مع الله ، تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا .(1/6)
* وعيسى عليه السلام مُعَلِّمٌ وليس ربًّا ولا إلها ، ففي إنجيل متَّى (19/16-17) تَقَدَّمَ أحد الناس وَقَالَ لعيسى عليه السلام : " أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ " ، فَقَالَ لَهُ عيسى عليه السلام : " لِمَاذَا تَدْعُوني صَالِحًا ، لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ " . وفي مرقس (10/17-18) و لوقا (18/18-19) مثله .
وفي إنجيل مرقس (12/28-30و32) سأل أحد الكتبة عيسى عليه السلام : " أَيَّةُ وصية هي أُولي الوصايا جميعا , فقال يسوع : أولي الوصايا جميعا هي : " اسمع يا إسرائيل ، الرب إلهنا رب واحد ، فأَحِبَّ الرب إلهك بكل قلبك ، وبكل نفسك ، وبكل فكرك ، وبكل قوتك ، هذه هي الوصية الأولي . فقال له الكاتب : صحيح يا مُعَلِّمُ حسب الحق تكلمت فإن الله واحد ، وليس آخر سواه ".
* وفي كتبهم أن جميع الخلق أبناء الله تعالي خاصة المؤمنين منهم ، وأن هذا ليس مختصاً بعيسي عليه السلام ، وهذه البنوة ليست بنوة ولادة ، ولكنها بنوة رعاية وعناية وقيام بالمصالح وهداية ، فالخلق عيال الله وأحبُّ الناس إلي الله أنفعهم لعياله :
ففي إنجيل متَّى (6/6) يقول عيسي عليه السلام مخاطبا أمته : " عندما تصلي ادخل غرفتك ، وأغلق عليك بابك ، وصلِّ إلي أبيك الذي في الخفاء ، وأبوك الذي يرى في الخفاء هو يكافئك ". وفي متَّى (5/44-45) يقول : " صلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ، ويضطهدونكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات ". وفي متَّى (6/9-12) علم عيسي عليه السلام تلاميذه الصلاة :(1/7)
" أبانا الذي في السماء ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك علي الأرض كما هي في السماء ، خبزنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا ". وذكرها في لوقا (11/2-4) أيضا ، وفي إنجيل برنابا ( الفصل السابع والثلاثون ) ذكر الصلاة السابقة وقال عيسى في آخرها : " لأنك أنت وحدك إلهنا الذي يجب له المجد والإكرام إلى الأبد ".
وفي يوحنا (20/17) : " إني أصعد إلى أبي و أبيكم و إلهي و إلهكم " .
(1/5)
*** وهذا مصدّقٌ لما في القرآن الكريم :
* فقد أثبت رفع عيسى إلى السماء ونجاته ممن أرادوا قتله ، وكذَّبَ اللهُ تعالى مَنْ ادَّعى قتل المسيح أو صلبه .
قال الله تعالى : " إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (55) " (1) .
و قال الله سبحانه : " وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) " (2)
* بل وصف الإنجيلُ عيسي عليه السلام بأنه ابن الإنسان ، لينفي أنه ابن الله بمعني الولادة ، ووصفه بأنه يأكل ويشرب لينفي عنه الألوهية والربوبية :
فقال في متَّى (11/19) : " جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب " ، وفي لوقا (7/34) مثله . وقال في يوحنا ( 8/40) : " انا انسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " .
*** وفي القرآن الكريم :(1/8)
يقول الله تعالى : " مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)"(3)
أي أن عيسي يأكل الطعام ويدخل الخلاء ليقضي حاجته ، لأن كل من يأكل في الدنيا فلابد أن يتغوط ويبول ، والله عز وجل منزه عن ذلك فهو الصمد عز وجل .
قال المفسرون : " الصمد : هو الذي لا يأكل ولا يشرب " (4).
و قال الله عز وجل : "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) " (5).
* وفي إنجيل مرقس (12/28-30و32) سأل أحدُ الكتبة عيسى عليه السلام : " أَيَّةُ وصية هي أُولي الوصايا جميعا , فقال يسوع : أولي الوصايا جميعا هي : " اسمع يا إسرائيل ، الرب إلهنا رب واحد ، فأَحِبَّ الرب إلهك بكل قلبك ، وبكل نفسك ، وبكل فكرك ، وبكل قوتك ، هذه هي الوصية الأولي . فقال له الكاتب : صحيح يا معلم حسب الحق تكلمت فإن الله واحد ، وليس آخر سواه ".
*** وفي القرآن الكريم : " وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) " (6).
وذكر الله سبحانه قول عيسى ووصيته لقومه : " مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ " (7) .(1/9)
ـــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران (55).
(2) سورة النساء (156-158).
(3) سورة المائدة (75).
(4) تفسير ابن كثير (4/571).
(5) سورة التوبة (30-31).
(6) سورة المائدة (72).
(7) سورة المائدة (117).
(1/6)
فصل
ذكر بعض البشارات بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب
*** قال الله تعالى : " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) " (1)
* في هذه الآية قاعدتان مهمتان :
الأولى : أن النبيَّ محمدا صلى الله عليه وسلم مذكورٌ في التوراة والإنجيل باسمه وصفته .
والثانية : أن النبيَّ محمدا صلى الله عليه وسلم رسولُ الله أرسله إلى الناس كافة ، ومن لم يؤمن به ويتبع شريعته فقد كفر بالله والقرآن والتوراة والإنجيل ، وكفر أيضا بموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، لأن من كفر برسول فقد كفر بسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام .(1/10)
*** قال الله تعالى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)" (2)
قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : " ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته :
ــــــــــــ
(1) الأعراف (157-158) .
(2) آل عمران (81-86) .
(1/7)
لئن بُعِثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهم أحياءٌ ليؤمِنُنَّ به ولينصُرُنَّه " (1) .(1/11)
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره : " وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء ، يؤذنهم فيه بأنّ رسولاً يجيء مصدّقاً لما معهم ، ويأمُرُهم بالإيمان به وبنصره ، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليكون هذا الميثاق محفوظاً لدى سائر الأجيال . قال : والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الأناجيل كثيرة . قال : وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا المعنى هو ظاهر الآية ، وبه فسر محققو المفسرين من السلف والخلف منهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وطاوس ، والسدِّي " (2).
*** وقال الله عز وجل ذاكرا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في التوراة والإنجيل : " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) " (3)
*** وقال الله عز وجل : " وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) " (4).
*** وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى - عليهما الصلاة والسلام - "(1/12)
رواه ابن اسحاق والحاكم والطبري في تفسيره ، قال ابن كثير: " و هذا إسناد جيد قوي " . وصحح إسناده الحاكم والذهبي والألباني (5) .
ــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير (2/67) .
(2) التحرير والتنوير (3/145) .
(3) سورة الفتح (29) .
(4) سورة الصف (6) .
(5) مستدرك الحاكم (2/600) وتفسير الطبري (3/82/2070 ) وتاريخ ابن كثير ( 2 / 275 ) والصحيحة (1545) للألباني .
(1/8)
*** وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : " لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ ، قَالَ : أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا " رواه البخاري في صحيحه (1981، 4461) .
ونحن نذكر بعض البشارات بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتب أهل الكتاب على ما وقع فيها من تحريف وزيادة ونقصان وتغيير وخطأ في الترجمة :(1/13)
* في إنجيل يوحنا (14/15-17) يقول عيسى عليه السلام : " ان كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، و انا أطلب من الاب فيعطيكم معزيا (فارقليطا) آخر ( = أي نبيا آخر غير المسيح وهو أحمد صلى الله عليه وسلم ) ليمكث معكم الى الابد ، روح الحق الذي لا يستطيع العالم ان يقبله لانه لا يراه و لا يعرفه و اما انتم فتعرفونه " .
*** ومثله في القرآن الكريم في وصف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى:" لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) " سورة المائدة .
وقال الله تعالى:" الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) " سورة البقرة .
وقال الله تعالى:" وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)" سورة البقرة .
وقال الله تعالى:" وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) " سورة البقرة .
(1/9)(1/14)
* وفي إنجيل يوحنا (14/24-26) يقول عيسى عليه السلام : " الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للاب الذي ارسلني ، بهذا كلمتكم و انا عندكم ، و اما المعزي (الفارقليط) ( = أحمد صلى الله عليه وسلم ) الذي سيرسله الاب فهو يعلمكم كل شيء و يُذَكِّرُكُم بكل ما قلتُه لكم " .
* وفيه (15/26) يقول عيسى عليه السلام : " ومتى جاء المعزي (الفارقليط) (= أحمد صلى الله عليه وسلم) ... فهو يشهد لي "
* وفيه (16/5-8) يقول عيسى عليه السلام : " وأما الآن فأنا ماض الى الذي ارسلني و ليس احد منكم يسألني أين تمضي ، لكن لاني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم ، لكني اقول لكم الحق انه خير لكم ان انطلق لانه ان لم انطلق لا ياتيكم المعزي (الفارقليط) (= أحمد صلى الله عليه وسلم ) ، ولكن ان ذهبت ارسله اليكم ، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية و على برّ و على دينونة"
* وفيه (16/12-13) يقول عيسى عليه السلام : " ان لي امورا كثيرة ايضا لاقول لكم ولكن لا تستطيعون ان تحتملوا الآن ، و اما متى جاء ذاك روح الحق (= الصادق المصدوق الأمين أحمد صلى الله عليه وسلم) فهو يرشدكم الى جميع الحق لانه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به و يخبركم بأمور آتية " .
*** ومثله في القرآن الكريم في وصف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) " سورة النجم .
و قال الله عز وجل : " وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) " سورة التكوير .(1/15)
و قال الله عز وجل : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)" سورة المائدة .
و قال الله عز وجل : " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) " سورة آل عمران .
و قال الله عز وجل : " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) " سورة البقرة .
(1/10)
* فالإنجيل المترجَم من اليونانية إلي الإنجليزية والعربية وغيرها يعبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بـ :" المعزي ، و الفارقليط " وهي معربة من كلمة : (بيركليتوس) اليونانية (PERIQLYTOS) التي تعني اسم : " أحمد " ، صيغة المبالغة من الحمد :
((1/16)
1) ذكر الأستاذ عبد الوهاب النجار في كتابه قصص الأنبياء (ص397، 398) ، أنه كان في سنة 1894م زميل دراسة اللغة العربية للمستشرق الإيطالي كارلو نالينو وقد سأله النجار في ليلة 27/7/1311هـ ما معنى : (بيريكلتوس) ؟. فأجابه قائلاً : إن القسس يقولون إن هذه الكلمة معناها : (المعزي) . فقال النجار : إني أسأل الدكتور كارلونالينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود باللغة اليونانية القديمة.ولست أسأل قسيساً.فقال: إن معناها : "الذي له حمد كثير" . فقال النجار: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال الدكتور: نعم. فقال النجار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه (أحمد) " . اهـ
(2) وهذه الكلمة كانت سبباً في إسلام القس الأسباني: أنسلم تورميدا في القرن التاسع الهجري بعدما أخبره أستاذه القسيس (نقلاً ومرتيل) - بعد إلحاح منه - أن الفارقليط هو اسم من أسماء محمّد صلى الله عليه وسلم . فكان ذلك سبباً في إشهار إسلامه وتغيير اسمه إلى عبد الله الترجمان وتأليف كتابه: " تحفة الأريب في الرّدّ على أهل الصليب " ، وذكر فيه قصته مفصلة (ص65-75) وتوفي سنة 832 هـ . وقصته جديرة بالقراءة .
*** وفي التوراة في سفر التثنية (18/ 18 - 19) يقول الله عز وجل لموسى عليه السلام :
" أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه "
وهذه البشارة لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم :
فقوله : " إخوتهم " هم بنو إسماعيل جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : " مثلك " أي أن محمدا صلى الله عليه وسلم مثل موسى في كون شريعته تامة وناسخة لما قبلها ، وفي كونه جاهد أعداء الله من سائر الملل ، ولا يعرف هذا لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ممن جاء بعد موسى عليه السلام .
وقوله : " أجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به " .(1/17)
هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن ، قال الله تعالى : " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) " (سورة النجم 3-4) . وقال عز وجل : " وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) " (سورة التكوير 24) .
(1/11)
* وفي التوراة في سفر التثنية (33/1-2) : " جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران "
وهذا إشارة إلى ثلاث نبوات :
الأولى: نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء .
الثانية : نبوة عيسى عليه السلام ، وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته .
الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه عليه الصلاة والسلام النبوة وأول ما نزل عليه من الوحى ، وفاران هى مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكرت التوراة " مكة " باسم " فاران " في سفر التكوين (21 - 21) :
" إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل ونقلها هى وابنها فنزلت وسكنت فى برية فاران " .
فموسى عليه السلام تلقى رسالته على جبل سيناء ، وعيسى تلقى الإنجيل بساعير، و " فاران " هي " مكة المكرمة " ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذى به غار حراء ، الذى تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بَدء الوحى .
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة : جاء من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : " تلألأ " وفي نسخة : " استعلن " تفيد قوة الإسلام وظهوره على سائر الأديان ، كما قال عز وجل : " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) ". (سورة الفتح 28) .
(1/12)
فصل(1/18)
ثواب من آمن بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع شريعته من أهل الكتاب وعقوبة من كفر به ولم يتبعه
* قال الله عز وجل : " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) " سورة النساء .(1/19)
* وقال الله تبارك وتعالى : " الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) " سورة القصص .
* وقال الله سبحانه وتعالى: " وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) " سورة المائدة.
(1/13)(1/20)
* وقال الله سبحانه وتعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) " سورة النساء .
* وعن أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
" ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ؛ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ " وذكر الحديث .
رواه البخاري (2789) ومسلم (219) .
* وقال الله سبحانه وتعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) " سورة الحديد .
والحمد لله رب العالمين .
(1/14)
فصل
الردّ على عابدي الرهبان والصلبان ، ممن طعن في القرآن
هذا وقد أحضر لي بعض الناس أوراقا فيها طعن في القرآن الكريم ، وطلبوا مني الرد عليها ، فتأملتها فإذا هي تشتمل علي أنواع من الباطل والتحريف والجهل باللغة العربية والقرآن الكريم.(1/21)
وكاتبها يرسل الأقوال بغير حجة ولا دليل ، فيقول : قال القرآن كذا وكذا وكان يجب أن يقول كذا وكذا . وأحيانا يضع قواعد للُّغَةِ والبلاغة العربية من غير أن يستدل لها من لغة العرب وكلامها وكلام علمائها المعتبرين وكتبهم .
وقد ألح عَليّ جماعة من المسلمين أن أقوم بالرد علي هذه الأوراق خاصة أنها نشرت في الشبكة العنكبوتية العالمية وطبعت ووزعت ، فاستعنتُ بالله تعالى وتوكلتُ عليه وقلتُ :
هناك جوابان : جواب مجمل ، وجواب مفصل .
*** أما الرد المجمل فأقول مستعينا بالله تعالي :
أولا : نزل القرآن الكريم باللغة العربية ، قال الله تعالي : " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)" (سورة الشعراء 195) ، وقال سبحانه : " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4) " (سورة إبراهيم 4 ) ، وقال سبحانه وتعالي : " قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ (28) " (سورة الزمر 28).
ثانيا : أعلم الناس باللغة العربية هم العرب الأوائل في الجزيرة العربية وهم أفصح الناس وفيهم الخطباء والبلغاء والشعراء ، وأفصح العرب قريش قبيلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثالثا : أشد الناس عداوة للنبي صلي الله عليه وسلم وأحرص الناس علي تكذيبه والطعن فيه هم الكفار من قريش ، قال الله تعالي : " لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا (82) " (سورة المائدة 82) ، وقال سبحانه : " وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) " (سورة مريم 97) .(1/22)
رابعا : وقد تحداهم الله تعالى وبين عجزهم أمام إعجاز القرآن الكريم ، قال الله تعالي : " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) " (سورة البقرة 23-24) . وقال سبحانه وتعالي : " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِسُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) " (سورة هود 13-14) .
(1/15)
وقال الله سبحانه وتعالي مبينا عَجْز جميع الخلق عن الإتيان بمثل هذا القرآن الحكيم : " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) " (سورة الإسراء 88) .
*** ومع كون قريش أفصح العرب وأعلم الناس باللغة ، ومع شدة عداوتهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وتحدِّي القرآن لهم ، وحرصهم علي تكذيبه ومعارضته ، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله ولا أن يطعنوا في بلاغته وإعجازه .(1/23)
فكيف يأتي الآن من يَدَّعِي الخطأ في القرآن أو يطعن في بلاغته ونظمه ، سبحانك هذا بهتان عظيم , ولو قيس علمُ هذا الطاعن باللغة العربية بعلم العرب الأوائل وسليقتهم وفصاحتهم لكان البون شاسعا فأين الثري من الثريا ، فمحالٌ أن يكون في القرآن شيءٌ يخالف قواعد لغة العرب ، فإن اللغة أساسُها القرآن الكريم ، وهو الذي حفظ لغة العرب , ولو كان فيه شيء من ذلك - حاشا وكلا - لكان أول من يستخرجه كفار قريش ، ولشنَّعوا به علي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ولمَّا لم يحدث شَيْء من ذلك ، علمنا أن هذا القرآنَ كلامُ الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
قال الله تعالي : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) "( سورة النساء 82) .
*** بل لقد شهد أعداؤه العالمون باللغة العربية بفصاحة القرآن وبلاغته :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن الوليد بن المغيرة جاء إلي رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رَقَّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فَسَلَّم ، قال: يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ، قال : لم , قال : ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله ، قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، قال : فقل فيه قولا أنك منكر له ، قال : وماذا أقول فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه , ولا بقصيده مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، و والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمرٌ أعلاه ، مغدقٌ أسفله ، وإنه ليعلو ولا يُعْلَي عليه ، وإنه ليَحْطِمُ ما تحته ".
رواه إسحاق بن راهوية في مسنده والحاكم (3872) والبيهقي في دلائل النبوة (505) وصحح إسناده الحاكم والذهبي والألباني .
(1/16)(1/24)
فهذا الرد المجمل يدحض ويبطل كل شبهة يُورِدُهَا أعداءُ الإسلام علي إعجاز القرآن الكريم وبلاغته وبيانه .
*** وقد أجادَ من قال عن آيات القرآن وإعجازه :
دامتْ لدينا ففاقتْ كلَّ معجزة * من النبيين إذ جاءت ولم تَدُم
مُحكمات فما تُبقين من شُبَهٍ * لذي شقاق وما تبغين من حَكَم
ما حُوْرِبَتْ قَطُّ إلا عاد من حَرَب * أعدى الأعادي إليها مُلْقِيَ السَّلَم
رَدَّت بلاغَتُهَا دَعْوَى معارضها * رَدَّ الغيورِ يَدَ الجاني عن الحُرُمِ
لها معانٍ كموجِ البحرِ في مَدَدٍ * وفوق جوهرِهِ في الحُسْنِ والقِيَمِ
وكالصراط وكالميزان معدلة * فالقسط من غيرها في الناس لم يَقُم
فما تُعَدُّ ولا تحصي عجائِبُها * ولا تُسَامُ علي الإكثارِ بالسأَمِ
قرَّتْ بها عينُ قاريها فقلتُ له * لقد ظفرتَ بحبل الله فاعْتَصِمِ
لا تعجَبَنْ لحسودٍ راح ينكرُها * تجاهُلا وهو عَيْنُ الحاذِقِ الفهمِ
قد تُنكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ من رَمَدٍ * ويُنْكِرُ الفمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
*** وقد أحسن القائل :
فالله أكبر إن دين محمد * وكتابه أقوي وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوالف عنده * طلع الصباح فأَطفئ القنديلا
فاترك جدال أخرى الضَّلال ولا تكن * بمراء من لم يهتدي مشغولا
مالي أجادل فيه كل أخي عمى * كيما أقيم علي النهار دليلا
فاعدل إلي مدح النبي محمد * قولا غدا عن غيره معدولا
فإذا حصلتَ علي الهدي بكتابه * لا تبغِ بَعْد لغيره تحصيلا
ولربما ألقي عليك بيانُهُ * قولا من الحق المبين ثقيلا
يَذَرُ المعارِضَ ذا الفصاحة أَلْكَنًا * في قوله وأخا الحِجَى مخبولا
قارنتُ ضوءَ النيِّرَينِ بنُوره * فرأيتُ ضوءَ النيّرين ضئيلا
فلو استمد العالمون علومه * مَدَّتْهُم القطراتُ منه سيولا
(1/17)
هذا ، وقَبْلَ أن نبدأ في الرد المفصَّل ، نختم بقول الله عز وجل :(1/25)
" وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) "
( سورة الصف 6 ) .
و بقول الله سبحانه وتعالي : " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) " ( سورة آل عمران 64 ) .
وصلي الله وسلَّم وباركَ علي محمد النبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلي آله وصحبه أجمعين .
وكتبه
وائل بن علي بن أحمد الدِّسُوقيُّ
جمادي الأولى 1423 هـ
(1/18)
الرد المفصَّل على شبهات النصارى حول القرآن الكريم
الشبهة الأولى
قال الطاعنون في القرآن الكريم :
جاء في سورة المائدة 5: 69 " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ".
" وكان يجب أن ينصب المعطوف علي اسم إن فيقول : وَالصَّابِئِينَ ، كما فعل هذا في سورة البقرة 2 : 62 وسورة الحج 22 : 17 " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
أن رفع كلمة " الصابئين " موافق للغة العرب ، من وجوه كثيرة :(1/26)
قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في كتاب الإتقان في علوم القرآن الكريم (1/541) : " وقوله تعالي " وَالصَّابِئُونَ " فيه أوجه : ( أحدهما ) أنه مبتدأ حذف خبره أي وَالصَّابِئُونَ كذلك ] أي مثل اليهود والنصارى [ ، ( الثاني ) أنه معطوف علي محل إن مع اسمها فإن محلهما الرفعُ بالابتداء ، ( الثالث ) أنه معطوف علي الفاعل في " هَادُوا " ، ( الرابع ) أن " إن " بمعني " نعم " فالَّذِينَ آَمَنُوا وما بعدها في موضع رفع ، و " الصَّابِئُونَ " عطف عليه ، ( الخامس ) أنه علي إجراء صيغة الجمع مجرى المفرد والنون حرف الإعراب" ا.هـ.
قلت : سبقه إلي ذكر هذه الأوجه الإعرابية الإمام أبو البقاء العُكْبُري في كتابه " إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن " (1/221) : و ذكر أن الوجه الأول هو قول سيبويه ، وزاد وجها (سادسا) وهو أن " الصَّابِئُونَ " علي لغة بلحرث من قبائل العرب وهم يجعلون التثنية بالألف علي كل حال والجمع بالواو علي كل حال . وذكر العلماء أن أصح الوجوه هو الوجه الأول وقد ورد مثل ذلك في لغة العرب وشعرها . قال الشاعر :
فمن يكُ أمسى بالمدينة رَحْلهُ * فإني وقيارٌ بها لغريب
فرفع " قيارٌ " وهو معطوف علي اسم إن المنصوب ، والمعني : إني غريب وقيارٌ كذلك .
وانظر تفسير القرطبي (6/246-247) ومشكل إعراب القرآن (1/232) لمكي بن أبي طالب القيسي.
( فائدة مهمة ) ذكر الشيخ محمود بن حمزة الكرماني في كتاب " أسرار التكرار في القرآن" (1/31-32) أن القرآن قدم الصَّابِئِينَ في الذكر علي النصاري في سورة الحج لأنهم متقدمون عليهم في الزمان والتاريخ . وأخرهم عنهم في سورة البقرة لأنهم أهل كتاب ولشرف عيسي عليه السلام عبد الله ورسوله . وراعى في سورة المائدة بين المعنيين فقدمهم في اللفظ وأخرهم في المعني والتقدير : وَالصَّابِئُونَ كذلك . قال : " فتأمل فيها وفي أمثالها يظهر لك إعجاز القرآن " ا.هـ.(1/27)
والله أعلم .
(1/19)
الشبهة الثانية
قال أعداء الإسلام :
" جاء في سورة البقرة 2 : 124 " قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ". وكان يجب أن يرفع الفاعل فيقول : الظالمون " . ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قوله تعالى في سورة البقرة ( 124 ) : " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " . جمع أنواعا من البلاغة وفنونا من الفصاحة .
قال علماء البلاغة : " جَمَعَت هذه الكلمات القليلة ـ وهي بعضُ آية ـ ثلاث مراجعات فيها معاني الكلام : فجمعت الخبر والطلب والإثبات والنفي والتأكيد والحذف والبشارة والنِّذارة والوعد والوعيد " ا . هـ . (الإتقان 2/258)
و" العهد " هنا فاعل ، و " الظَّالِمِينَ " مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم ، والمعني أن الله سيجعل من ذرية إبراهيم أئمة وأنبياء وهذا الخير لا ينالُ الظالمين ولا يدخلون فيه كما أن الله تعالي وعد نوحا أن ينجي أهله فلما غرق ابنُه الكافر قال نوح عليه السلام :
" رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ " (سورة هود 45) فقال له ربه عز وجل : " إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح " (سورة هود 46) فبين له أن وعد الله تعالي بنجاة أهله لا ينالُ ابنَه . والنكتة في ذلك أن الهُدَي والنُّبُوَّة رحمةٌ من الله تعالي ينزلها علي من يستحقها من عباده عز وجل ، وهذا من كمال علم الله وحكمته ، قال الله سبحانه وتعالى :
" وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون " (سورة القصص 68) . والله سبحانه هو الذي يقسم بين الناس الهدى والرحمات والبركات لا أن الناس ينالونها بقوتهم وعمَلِهم ومالِهِم وإلا لنالها اليهود بمالهم وعلمهم ، ولكن كما قال الله تعالي :(1/28)
" مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (سورة فاطر 2) .
وعهد الله ونبوته ورسالته لا تنال الظالمين ، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى : " وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) " (سورة الزخرف 13-32 ) .
وانظر التبيان في إعراب القرآن للعكبري (1/61) ، والله أعلم .
(1/20)
الشبهة الثالثة
قال الطاعنون في القرآن الكريم :
" جاء في سورة الأعراف 7 : 56 " إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ". وكان يجب أن يتبع خبر إن اسمها في التأنيث فيقول : قريبة " . ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قوله تعالى : " إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " سورة الأعراف (56)
اشتملت هذه الآية على باب عظيم من أبواب البلاغة تحته أنواع كثيرة .
قال الإمام السيوطي في الإتقان (2/107) : " قال الجوهري : ذُكِّرت - أي الرحمة - علي معني الإحسان " ا.هـ. والمعنى : إحسانُ الله تعالي قريبٌ من المحسنين ، ولهذا قال الله تعالى : " هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) " ( سورة الرحمن 60 ) ، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إن الله محسن يحب المحسنين " (1) .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إن الله كتب الإحسان علي كل شَيْء " (2) ، أي أمر الله عز وجل بالإحسان في كل شَيْءٍ .(1/29)
وذكر العلماء أن هذا باب من أبواب بلاغة القرآن العظيمة ، وعرّفوه بأنه " إقامة صيغة مقامَ صيغة أخري " لحكمة عظيمة سبقت الإشارة إليها لأن القرآن كلامُ الله عز وجل الحكيم الخبير .
وفي هذا الباب قال السيوطي (2/103) : " تحته أنواع كثيرة " ، ومنها النوع الوارد هنا في آية الأعراف وهو " تذكير المؤنث علي تأويله بمذَكَّر " ، وله نظائر في القرآن الكريم ولغة العرب منها قوله تعالي : " فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّه " (سورة البقرة 275) .
فذكَّر الفعل علي معني : من جاءه واعظ أي رسول من ربه أو قرآن من ربه ، والرسول والقرآن مُذَكَّران .
ومنها قوله تعالي : " فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي " ( سورة الأنعام 78 ) فقال " هذا " ولم يقل "هذه" تأدبا ، لأن الإله لا يؤنث . وتأويله في اللغة : " هذا الطالع أو البازغ هو ربي" .
وذكر العلامة ابن منظور صاحب لسان العرب أن صيغة " فَعِيل " يوصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثني والجمع علي صورة واحدة ، وأورد من لغة العرب ما يشهد لذلك ، واستدل كذلك بهذه الآية الكريمة موضع البحث : " إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " . فراجع لسان العرب (2/438) و الإتقان للعكبري (1/276) . والله أعلم .
ــــــــــــــــ
(1) رواه البيهقي والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 5/317) .
(2) رواه مسلم في صحيحه (1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
(1/21)
الشبهة الرابعة
قال أعداء الإسلام :
" جاء في سورة الأعراف 7: 160 " وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ". وكان يجب أن يُذَكّر العدد ويأتي مفرد المعدود فيقول : اثني عشر سبطا " . ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قوله تعالى في سورة الأعراف (160) : " وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا " .(1/30)
موافق للغة العرب الفصحاء وبلاغتهم ، قال الإمام مكي بن أبي طالب في كتاب إعراب القرآن (1/303) : " إنما أنث العدد علي تقدير حذف أمَّة ، تقديره : اثنتي عشرة أمة ، وأسباط بدل من اثنتي عشرة ، و" أمما " نعت لأسباط " ا.هـ.
وفي ذلك بلاغة عظيمة لأنه قال : " وقطعناهم " فكأنهم صاروا قطعا متفرقة ، ولهذا قدر العلماء محذوفا هو" أمة " ، والتفرق يؤدي إلي الضعف ، والتأنيث يدل علي الضعف , و التذكير يدل علي القوة ، ولهذا أنث العدد ، والله أعلم .
ونقل صاحب لسان العرب (7/310) عن الأخفش قوله : " أنث لأنه أراد اثنتي عشرة فرقة ، وقال قُطْرُب : واحد الأسباط : سِبْط ، يقال : هذا سبط ، هذه سبط ، هؤلاء سبط ، وهي الفرقة . وذكر العلماء أن الأسباط في ولد إسحاق عليه السلام كالقبائل في ولد إسماعيل عليه السلام " ا.هـ.
وأورد الإمام الطبري في تفسيره (9/88) ما يشهد لذلك من لغة العرب وأنهم يؤنثون أحيانا العدد مع أن المعدود مذكر وهذا في الاثنين والعشرة ، وأما في الثلاثة إلي التسعة فالعدد يخالف المعدود .
وقال الإمام ابن هشام الأنصاري في كتاب " أوضح المسالك إلي ألفية بن مالك " (4/257) : " أسباط بدل من اثنتي عشرة ، والتمييز محذوف تقديره فرقة " . والله أعلم .
(1/22)
الشبهة الخامسة
قال الطاعنون في القرآن الكريم :
" جاء في سورة الحج 22 : 19 " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " . وكان يجب أن يُثني الضمير العائد علي المثني فيقول: خصمان اختصما في ربهما " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " سورة الحج (19).
قال الإمام الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن (2/86) :
" العرب تسمي الاثنين جَمْعَاً كقوله تعالى : " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " ا.هـ.(1/31)
وقال صاحب لسان العرب (12/180) : " الخصم يكون للاثنين وللجمع والمؤنث ، ثم قال : وشاهد التثنية والجمع والإفراد قول ذي الرمة : (أَبَرَّ عَلى الخُصوم فَلَيسِ خَصمٌ * وَلا خَصمانِ يَغلِبُهُ جِدالا) ، فأفرد وثني وجمع " ا.هـ.
وقال الإمام الثعالبي في تفسيره (3/74) : " قال مجاهد : الإشارة إلي المؤمنين والكفار علي العموم . قال : والمعني أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مُذ كانا إلي يوم القيامة بالعداوة الجدال والحرب ،
و " خصم " مصدر يوصف به الواحد والجمع ، ويدل علي أنه أراد الجمع قوله " اختصموا " ا.هـ. والله أعلم .
(1/23)
الشبهة السادسة
قال أعداء الإسلام :
" جاء في سورة التوبة 9 : 69 " وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ". وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد علي ضمير الجمع فيقول : " خضتم كالذين خاضوا " ا. هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قوله تعالى في سورة التوبة : " وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا " (69) .
قال الإمام العكبري رحمه الله تعالي في إعراب القرآن (2/18) :
" في " الذي " وجهان :
( أحدهما ) أنه جنس ، والتقدير : خوضاً كخوض الذين خاضوا ، و ( الثاني ) أن " الذي" هنا مصدرية ، أي كخوضهم " ا.هـ .
قلت : ولهذا فسرها قتادة فقال : " لعبتم كالذي لعبوا " (1) فهو تشبيه للخوض بالخوض ، وليس تشبيها للخائض بالخائض ، والله أعلم .
وأورد الإمام ابن كثير شاهدا علي ذلك من شعر العرب فقال في تفسيره (2/193) : " وقال عبد الله بن رواحة :
وثَبَّتَ اللهُ ما آتاك من حسن في المر * سلين ونصرا كالذي نصروا " ا.هـ
وهذا علي الوجه الثاني الذي ذكره العلماء في أن " الذي " هنا مصدرية ، والمعني : خضتم كخوضهم ، والله أعلم . (1) .
وأورد الآلوسى في تفسيره " روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني " ( 1/164) شاهداً آخر من شعر العرب :
قال : " قوله تعالى : " وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا " على وجه قول الشاعر :(1/32)
يا رب عيسى لا تبارك في أحد * في قائم منهم و لا فيمن قعد *
إلا الذي قاموا بأطراف المسد " .
وأورد شاهدا آخر فقال ( 3/53) : " (الذي) يستعمل للجمع كما في قوله :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد " ا . هـ
وذكر الآلوسي كذلك ( 10/134) أن النون في ( الذي ) قد تحذفها العرب تخفيفاً واستدل بالبيت السابق ، والله أعلم وأحكم .
ــــــــــــــ
(1) الدر المنثور (4/234) للسيوطي , و تفسير الطبري (10/176) .
(1/24)
الشبهة السابعة
قال أعداء الإسلام :
" جاء في سورة المنافقون 63 : 10 " وَأَنْفِقُوا مِمَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ". وكان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فأصدق و أكون " ا.هـ.
*** والجواب بمعونة الله تعالي :
في قول الله تعالى : " فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ منَ الصَّالِحِينَ " سورة المنافقون (10) .
عطف " أَكُنْ " على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه ، كأنه قال : " إن أخرتني أصدق و أكن".
قال الخليل وسيبويه : إن جزم الفعل " أكن " لأنه معطوف على المعنى المقدر , هو : " أَخِّرْني أَصَّدقْ و أكن من الصالحين " (1) .
وذكر العكبري في إعراب القرآن ( 2 / 52 ) أنه مجزوم على المعنى لأن معنى الآية الشرطية وذكر نحوه العلامة ابن منظور في لسان العرب ( 14 / 57 ) .
واستشهد علي ذلك بقول الشاعر:
أيّا فعلت فإنني لك كاشح * وعلي انتقاصك في الحياة وأزدد
ونقل عن أحمد بن يحيي ( ثعلب ) والمُبَرّد قالا : " جزم الشاعر قوله :
" وأزدد " علي النَسَق ، أي علي العطف علي موضع الفاء التي في :(1/33)
" فإنني " ، كأنه قال : أيّا تفعل أبْغضك وأزْدَدِ ، قالا : وهو مثل معني قراءة من قرأ : " فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ " علي الجزم " ا.هـ بمعناه.
وذكر القرطبي في تفسيره (18/131) : أن سبب عدم جزم فأصدق هو اقتران الفاء بالفعل . وبيّن مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن (2/737) السبب في نصب " فأصدق " فقال : "والنصب علي إضمار أنْ " ا.هـ. و" أنْ " المخففة من نواصب الفعل المضارع كما هو معلوم .
وقال أيضا (1/391) : جزم " وأكن " حمله علي معني فأصدق لأنه بمعني أصَّدّق مجزوما لأنه جواب التمني . ا.هـ.
وقال الزمخشري في المفصَّل في صنعة الإعراب (ص336) : " سأل سيبويه الخليلَ عن قوله تعالي: " رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ منَ الصَّالِحِينَ " ، فقال الخليل : هذا كقول عمرو بن معدي كرب :
دعني فأذهب جانباً * يوما وأكفك جانباً
وكقوله :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى * ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
أي كما جزموا الثاني لأن الأول قد تدخله الفاء فكأنها ثابتة فيه ، فكذلك جزموا الثاني لأن الأول يكون مجزوما ولا فاء فيه فكأنه مجزوم . ا.هـ.
و ذكر ابن هشام في " مغني اللبيب عن كتب الأعاريب " (ص 553 ، ص 620) بيتا للهذلي وقع فيه مثل ذلك . وكذلك ذكر ابن جني في الخصائص (2/424) أمثلة لذلك من لغة العرب .
والقرآن الكريم نزل بلغة العرب ، وقد أعجزهم ببيانه وتحداهم بفصاحته فلم يحيروا جواباً ، والجاهل بالقرآن جاهل بلغة العرب ، والله أعلم وأحكم .
ـــــــــــــــ
(1) الإتقان (1/581) .
(1/25)
الشبهة الثامنة
قال أعداء القرآن الكريم :
" جاء في سورة البقرة 2: 17 " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ". وكان يجب أن يجعل الضمير العائد علي المفرد مفردا ، فيقول : استوقد ... ذهب الله بنوره..." ا.هـ .
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :(1/34)
قول الله تبارك وتعالى : " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ " سورة البقرة ( 17)
قال ابن النحاس في معاني القرآن الكريم (1/102) :
" قال ابن كيسان : القصد في التشبيه كان إلي الفعل ولم يكن إلي تشبيه العين بالعين ، فصار مثل قوله تعالي : " مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ "( سورة لقمان 28 ) . فالمعني إلا كبعث نفس واحدة ، وكإيقاد الذي استوقد نارا "اهـ.
وقال الإمام ابنُ جرير الطبري في تفسيره (1/140) بعد أن ذكر الشبهة التي ذكرها نصارى زماننا : " أما في الموضع الذي مثَّل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسن ، وفي نظائره ، كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك : " تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ " ( سورة الأحزاب 19 ) ، يعني كدوران عين الذي يغشي عليه من الموت ، وكقوله : " مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ " ( سورة لقمان 28 ) . فأما تمثيل الجماعة المنافقين بالمستوقد الواحد فإنما جاز لأن المرادَ من الخبر عن مثل المنافقين الخبرُ عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر ، والاستضاءة - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معني واحد لا معان مختلفة ، فالمثل لها في معني المثل للشخص الواحد من الأشياء المختلفة الأشخاص ، وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلي الله عليه وسلم ، وبما جاء به قولا ، وهم به مكذبون اعتقاداً ، كمثل استضاءة الموقِد ناراً ، ثم أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف المثل إليهم ،كما قال نابغة بني جعدة :
وكيف تُواصِل من أصبحتْ * خلَالَته كأبي مرحب(1/35)
يريد كخلالة أبي مرحب ، فأسقط خلالة ، إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه علي ما حذف منه ، وكذلك القول في قوله تعالي : " مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا " لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم حَسُنَ حذف ذكر الاستضاءة ، وإضافة المثل إلي أهله " ا.هـ.
وقال رحمه الله تعالي (1/145) : " والهاء والميم في قوله تعالي : " ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ " عائدة علي الهاء والميم في قوله : " مثلهم " ا.هـ.
وفي الآية وجه آخر ذكره العلماء من وجوه لغة العرب الجائزة في كلامهم ( انظر تفسير البيضاوي 1/186-190) ، والله أعلم .
(1/26)
الشبهة التاسعة
قال أعداء القرآن الكريم :
" جاء في سورة النساء 4: 162 " لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ". وكان يجب أن يرفع المعطوف علي المرفوع فيقول : والمقيمون الصلاة " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ " الآية ( 162) من سورة النساء ، بنصب : " الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ " . لها وجه صحيح فصيح في اللغة العربية :
قال الزرقاني في مناهل العرفان (1/268) : " قرأ الجمهور بالياء منصوباً ، وقرأها جماعةٌ بالواو منهم أبو عمرو في رواية يونس وهارون عنه ، ولكل من القراءتين وجه صحيح فصيح في اللغة العربية ، فالنصبُ مُخرج علي المدح ، والتقديرُ : وأمدح المقيمين الصلاة . والرفعُ مُخرج علي العطف ، والمعطوف عليه مرفوع كما تري " ا.هـ.(1/36)
وقال الإمام اللغوي الفرَّاء في كتابه "معاني القرآن الكريم " (2/238) :
" قال جل وعز " وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ " وفيه معني المدح أي : واذكروا المقيمين علي الصلاة " ا.هـ.
وأورد ابن الجوزي في تفسيره " زاد المسير" (2/251-254) وجوها عدة في إعراب الآية قال : " ( والوجه الرابع ) أنه منصوب علي المدح فالمعني اذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة . وأنشدوا :
لا يَبعَدَن قَومي الَّذينَ هُمُ * سُمُّ العُداةِ وَآفَةُ الجُزرِ
النازِلونَ بِكُلَّ مُعتَرَكٍ * وَالطَيَّبونَ مَعاقِدَ الأُزرِ
وهذا علي معني : اذكر النازلين وهم الطيبون ، ومن هذا قولك "مررت بزيد الكريمِ " ؛ إن أردتَ أن تخلصه من غيره فالخفض هو الكلام ، وإن أردت المدح والثناء فإن شئت نصبت فقلت : بزيد الكريمَ ، كأنك قلت: اذكر الكريم ، وإن شئت رفعت علي معني هو الكريمُ ، وتقول : "جاءني قومك المطعمين في المحل و المغيثون في الشدائد " , على معنى : اذكر المطعمين وهم المغيثون ، وهذا القول اختيار الخليل وسيبويه ، فهذه الأقوال حكاها الزجاج واختار هذا القول " ا. هـ. والله أعلم .
(1/27)
الشبهة العاشرة
قال أجهل الناس باللغة :
" جاء في سورة هود 10 : 11 " وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ". وكان يجب أن يجر المضاف إليه فيقول : بعد ضراءِ " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قال الله تعالى : " وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ " ( سورة هود 10 )
فقال بعض النصارى : " وكان يجب أن يجر المضاف إليه فيقول : بعد ضراءِ" ا.هـ.
قلت : اعتراضهم هذا يدل علي عظيم جهلهم ، فهم كما وصفهم العالمون بأحوالهم ومنهم البوصيري رحمه الله تعالي ، حيث قال :
جاء المسيح من الإله رسولا * فأبي أقلُّ العالمين عقولا(1/37)
قومٌ رأوا بشرا كريما فادّعوا * من جهلهم بالله فيه حلولا
فكأنما جاء المسيح إليهم * ليكذبوا التوراة والأنجيلا
فاعجب لأمته التي قد صيرت * تنزيهها لإلهها التنكيلا
وإذا أراد الله فتنة معشر * وأضلهم رأوا القبيحَ جميلا
أسمعتُمُ أن الإله لحاجة * يتناول المشروب والمأكولا
و يمسه الألم الذي لم يستطع * صرفا له عنه ولا تحويلا
يا ليت شعري حين مات بزعمهم * من كان بالتدبير عنه كفيلا
زعموا الإله فدى العبيدَ بنفسه * وأراه كان القاتل المقتولا
وأُجِلُّ رُوْحًا قامت الموتى به * عن أن يُرَي بِيَدِ اليهود قتيلا
فَدعُوا حديث الصليب عنه دونكم * من كتبكم ما وافق التنزيلا
ثم تكلم البوصيري رحمه الله تعالي عما ورد في كتبهم مما يكذب الصَّلب والفداء الذي قامت عليه عقيدة النصارى ، وبيَّن أن في كتبهم ما يناقض ذلك وينافيه .
* ثم نقول جوابا على شبهتهم وبالله التوفيق :
" ضراء " مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف . وسبب منعه من الصرف أنه مؤنث بألف التأنيث الممدودة .
قال أبو البركات الأنباري في " الإنصاف في مسائل الخلاف " (1/40-41): " ولا خلاف أن ما في آخره ألف التأنيث أشد تمَكُّنا في الثأنيث مما في آخره تاء التأنيث ، لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها ، ولم تخرج الكلمة من تذكير إلي تأنيث ، وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها ، وأخرجت الكلمة من التذكير إلي التأنيث ؛ ولهذا المعني قام التأنيثُ بالألف في منع الصرف مقام شيئين {أي عِلَّتين} بخلاف التأنيث بالتاء " ا.هـ. وذكر نحوه أبو البقاء في " اللُّبَابِ في علل البناء والإعراب " (1/511) .
* وختاما نقول : من لم يعرف باب الممنوع من الصرف ، كيف يتكلم في لغة العرب ، فضلا عن أن يتكلم في إعجاز القرآن ، والله الهادي ، لا رب سواه ، ولا إله غيره .
(1/28)
الشبهة الحادية عشرة
قال الطاعنون بالباطل :(1/38)
" جاء في سورة البقرة 2 : 80 " لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ".
وكان يجب أن يجمعها جمع قلة حيث أنه أراد القلة ، فيقول : أياما معدودات ... " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تبارك وتعالى : " لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً " سورة البقرة (80) ، من الأدلة الواضحة على إعجاز القرآن ، وأنه تنزيل من حكيم حميد .
قال السيوطي في الإتقان ( 2/ 307 ) : " قال ابنُ جماعة : جاء في سورة البقرة (80 ) : " وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً " وفي آل عمران (24) " معدودات " ، لأن قائل ذلك فرقتان من اليهود ؛ إحداهما قالت : إنما نُعَذَّبُ بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا ، والأخرى قالت : إنما نُعَذَّبُ أربعين عدة أيام عبادة العِجْل ، فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة ، وآية آل عمران تحتمل قصد الفرقة الأولي حيث أتي بجمع القلة : " مَعْدُودَةً " ا.هـ. بمعناه ، وذكر نحوه الكرماني في كتابه
" أسرار التكرار في القرآن " (ص 32) ، والله أعلم .
وقد أورد الحافظ ابن حجر العسقلاني الآثار الواردة في سبب نزول هذه الآية ، ومَنْ قال من اليهود أنهم سيعذبون أربعين يوما ، ومَن قال أنهم سيعذبون سبعة أيام ، وذلك في كتابه الحافل :
" العُجَاب في بيان الأسباب " (1/273- 277) وتكلم علي أسانيدها ، فراجعه إن شئت الاستزادة .
وصدق الله العظيم : " إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) " (سورة القصص : 76) وقال سبحانه : " وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا " (سورة الإسراء : 12) .(1/39)
وأبدي الإمامُ الزركشيُّ في كتابه البرهان (1/128) وجها آخر لورود : " مَعْدُودَةً " في آية البقرة ، فراجعه إن شئت تزدد إيمانا بإعجاز القرآن ؛ الذي لاتنقضي عجائبه ، ولا يَخْلَقُ على كثرة الردّ ، والله أعلى وأعلم .
(1/29)
الشبهة الثانية عشرة
قال المبطِلُون :
" جاء في سورة البقرة 2 : 183 - 184 " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ " . وكان يجب أن يجمعها جمع كثرة حيث أن المراد جمع كثرة عدته 30 يوما فيقول أياما معدودة .... " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تبارك وتعالى : " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ " سورة البقرة ( 183 - 184 ) .
قال العلماء : " العرب تضع جمع القلة موضع جمع الكثرة لحكمة " (1) .
قال سيبويه إمام النحاة : " وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير " ا.هـ
ولذلك شواهد في كلام العرب الفصحاء .
قال الإمام الزركشي في البرهان ( 3/355 ) : " الجموع يقع بعضها موقع بعض لاشتراكها في مطلق الجمعية كقوله تعالي : " وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ "(سورة سبأ 37) ، وغُرَف الجنة لا تحصي" . ثم قال (3/357 ): " ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي الله عنه :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وحكي أن النابغة قال لحسان : قد قللتَ جفانك وأسيافك .
وطعن ( أبو علي ) الفارسي في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة - فيما له جمع كثرة وفيما لا جمع له كثرة - في كلام العرب ".(1/40)
ثم قال الإمام الزركشي ( 3/358 ) : " قوله تعالي: " أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ " فإن أياما ( علي وزن ) أفعال مع أنها ثلاثون لكن ليس لليوم جمعٌ غيره ، ولا يسأل عن حكمة وضع جملة القلة موضع الكثرة إلا إذا كان له جمع كثرة ، و إلا فلا يسأل كهذه الآية ، فاليوم لا يُجْمع إلا علي أيام فليس له إلا جمع واحد " ا.هـ بمعناه .
ولعل الحكمة في ذلك أن أيام رمضان قليلة إذا قيست بسائر أيام السنة التي أبيح الفطر فيها ، وهي قليلة أيضا إذا قيست بعظيم حق الله على عباده ، وهي قليلة أيضا إذا قيست بالثواب الموعود عليها من الله الغفور الشكور عز وجل ، والله أعلى وأعلم .
ووضع أحد الجمعين مكان الآخر لحكمة ورد في عدة مواضع في القرآن الكريم كما بين ذلك العلماء (2) ، وكلها لحكم عظيمة ، والله تعالى أحكم الحاكمين .
ــــــــــــــــ
(1) انظر اللباب في علل البناء والأعراب ( 2/179) وشرح ابن عقيل علي الألفية (4/114) والمفصل للزمخشري (ص296) .
(2) انظر التبيان في إعراب القرآن ( 1/95 ، 2/55 ، 2/294 ) .
(1/30)
الشبهة الثالثة عشرة
قالت النصارى :
" جاء في سورة الصافات 37 : 123 - 132 " وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)" ، و : " سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) " ، و : " إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) " . فلماذا قال : إلياسين بالجمع عن إلياس المفرد ؟ فمن الخطأ لغويا تغيير اسم العلم حبا في السجع المتكلف " .
وجاء في سورة التين 1-3 : " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) " فلماذا قال : سينين بالجمع عن سيناء ؟ فمن الخطأ لغويا تغيير اسم العلم حبا في السجع المتكلف " ا.هـ .
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) " ( الصافات 130) .(1/41)
إلياس اسم عبراني كما ذكر العلماء ، والأسماء الأعجمية تغيرها العرب لتوافق لغاتها وفصاحتها كما قالوا جبريل وجبرائيل ، وميكال وميكائيل وميكائين ، وإدريس وإدراسين . (1) وقال بعض العلماء : إلياسين أي آله الذين آمنوا به وصدقوه .
قال العلامة ابن الهائم المصري في التبيان في تفسير غريب القرآن (1/354) : " يعني إلياس وأهل دينه ، جمعهم بغير إضافة بل بالياء والنون ، وأصله إلياسين بياء النسب ثم حُذِفَتْ كالأعجميين" ا.هـ. أي ياء مشددة حذفت لثقله وثقل الجمع .(2)
وقد ورد جمع الاسم المفرد مسموعاً في لغة العرب ، وكذلك ورد تغييرهم للاسم الأعجمي :
قال الطبري في تفسيره ( 23/95 ) :
" وقال بعض بني نُمير لضَبٍّ صاده :
يقول رب السوق لما جينا * هذا ورب البيت إسرائينا
قال : فهذا كقولهم : إلياسين ، والعجمي من الأسماء قد تفعل به هذا العرب ، تقول : ميكال وميكائيل وميكائين ، وهي في بني أسد تقول : هذا إسماعين (3) قد جاء ، وأما الجمع فيدخل فيه أصحابه وآله ، قال الشاعر : أنا ابن سعد سَيّد السعدينا " ا.هـ بتصرف .
وهناك أمثلة أخري من لغة العرب ذكرها العلماء ، فانظرها في زاد المسير لابن الجوزي (7/84) وحجة القراءات (1/611) لابن زنجلة .
*** وأما قول الله تعالي : " وَطُورِ سِينِينَ " ( سورة التين : 2 ) .
فالجواب عنه نظير ما سبق في قوله تعالي : " إلياسين " .
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالي في تفسيره (23/96) : " ونظير تسمية إلياس بإلياسين قوله تعالي : " وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ " (سورة المؤمنون 20 ) . ثم قال في موضع آخر: " وَطُورِ سِينِينَ " وهو موضعٌ واحد سُمِّيَ بذلك " ا.هـ. أي علي عادة العرب الفصحاء كما سبق لا يتركون الاسم الأعجمي حتي يغيروه ليوافق فصاحتهم و طلاقة ألسنتهم .
وبذلك قال الإمام أبو جعفر النحاس في " معاني القرآن " (6/56) . (4)(1/42)
وذكر بعض العلماء أن كلمة " سينين " كلمة حبشية معناها الشيء الحسن ، وأن العرب نقلتها من الحبشية إلي العربية فمنهم من قال : سيناء ، ومنهم من قال : سينين .
وقد تكلم بنحوها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أفصح العرب ، كما ثبت في صحيح البخاري (5397) أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأي طفلة لبست ثيابا جديدة فقال لها : " يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا " ، أي هذا حسنٌ يا أم خالد ، قال الراوي : " وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ ".
ولهذا قال السيوطي في الإتقان (2/50) :" إن العرب تقلب المنقول ( أي من لغة إلي لغة ) نحو "وطور سينين" أي سيناء ، و"سلام علي إلياسين" أي علي إلياس" ا.هـ بتصرف.
وهناك وجه آخر وهو أن سينين نوع من الشجر ينبت علي الجبل المذكور ، لأن الطور الجبل الذي عليه نبات . قال الأخفش : السينين شجر واحدتها سِينِينة ، وتابعه الإمام الجوهري صاحب الصحاح (5) ، والله أعلم .
ـــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي (15/118) والإتقان للسيوطي (2/369) .
(2) إعراب مشكل القرآن لمكي بن أبي طالب (2/172) .
(3) ولازال الناس بمصر يسمون "إسماعيل" بـ "إسماعين" بالنون ، وانظر تفسير الطبري (23/95) .
(4) و انظر تفسير القرطبي (20/112) .
(5) الصحاح (5/2141) ولسان العرب (13/29) وانظر تفسير ابن كثير (4/240) ومشكل إعراب القرآن (2/499) .
(1/31)
الشبهة الرابعة عشرة
قال أعداء الإسلام :
" جاء في سورة البقرة (2 : 177) : " لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ " ، والصواب أن يقال : ولكن البر أن تؤمنوا بالله لأن البر هو الإيمان لا المؤمن " ا.هـ .
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :(1/43)
قال الله تعالى : " وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ " ( سورة البقرة 177) .
قال العلامة ابن الهائم المصري في التبيان في تفسير غريب القرآن (1/119) : " معناه ولكن البرَّ برّ من آمن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، كقوله تعالي : " وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ " ( سورة يوسف 82 ) أي أهل القرية ، ويجوز أن يُسَمَّي الفاعل والمفعول به بالمصدر ، كقولك رجل عَدْل ورضى ، فرضى في موضع مرضِي ، وعدْل في موضع عادل ، فعلي هذا يجوز أن يكون " البر" بمعني " البار" ا.هـ.
وقال العكبري في إعراب القرآن (1/77) : " ولكن البر " يقرأ بتشديد النون ونصب البر ، وبتخفيف النون ورفع البر علي الابتداء ، وفي التقدير ثلاثة أوجه : (أحدها) أن البر هنا اسم فاعل من برّ يبر وأصله برر ، مثل فطن ، فنقلت كسرة الراء إلي الباء ، ويجوز أن يكون مصدرا وصف مثل عدْل . والوجه ( الثاني ) أن يكون التقدير: ولكن ذا البر من آمن ، والوجه (الثالث) أن يكون التقدير : ولكن البر برّ مَنْ آمن ، لحذف المضاف علي التقديرين" ا.هـ باختصار .
وأيد ذلك الإمام مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن له (1/118) .(1/44)
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالي في تفسيره ( 2/95 ) : " فإن قال قائل: فكيف قيل " وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ " وقد علمتَ أن " البر " فعل ، و " مَنْ " اسم فكيف يكون الفعل هو الإنسان ، قيل : إن معني ذلك غير ما توهمته ، وإنما معناه : ولكن البر كمن بالله واليوم الآخر ، فوضع " مَنْ " موضع الفعل ، اكتفاء بدلالته ودلالة صلته التي هي صفة من الفعل المحذوف ، كما تفعله العرب فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة فتقول : الجود حاتم ، والشجاعة عنترة ، وإنما الجود حاتم والشجاعة عنترة ، ومعناها : الجود جود حاتم ، فتستغني بذكر حاتم إذ كان معروفا بالجود من إعادة ذكر الجود بعد الذي قد ذكَرَتْه ، فتضعه موضع جوده لدلالة الكلام علي ما حذفته استغناء بما ذكرته عما لم تذكره ،كما قيل : " وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا " ( سورة يوسف 82 ) ، والمعني : أهل القرية ، وكما قال الشاعر وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي :
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا * وَمَا هي وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ
يريد بغام عناق أو صوت ، كما يقال : حسبت صياحي أخاك ، يعني به حسبت صياحي صياح أخيك " ا.هـ.
وهذا الذي ذكره الطبري بدلائله من لغة العرب ، هو قول سيبويه واختيار ابن جِنِّي من أئمة اللغة ، و ذكره ابن منظور في لسان العرب (4/51) .
وراجع إن شئت تفسير الإمام القرطبي ( 2/238- 239 ) فقد أورد دلائل أخرى علي وقوع مثل ذلك في لغة العرب الفصيحة الصحيحة ، والله أعلم .
(1/32)
الشبهة الخامسة عشرة
قال المبطِلُون :
" جاء في سورة البقرة 2: 177 " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ " . وكان يجب أن يُرفع المعطوف علي المرفوع فيقول : والموفون ، والصابرون " ا.هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :(1/45)
قول الله تعالى : " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ " (سورة البقرة 177 ) .
قال الإمام السيوطي في الإتقان (2/188) : " قَطْعُ النعوت في مقام المدحِ والذمِّ أبلغُ من إجرائها ، قال الفارسي : إذا ذكرت صفات في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف في إعرابها لأن المقام يقتضي الإطناب ، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن وعند الاتحاد تكون نوعاً واحداً ، مثاله في المدح : " وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " ( سورة النساء 162 ) وقوله تعالي : " ولكن البر من آمن بالله " إلي قوله : " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ" ( سورة البقرة 177 ) ، ومثاله في الذم : " وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ " ( سورة المسد 4 ) " ا.هـ.
وقال العكبري في التبيان (1/78) : " والموفون في رفعه ثلاثة أوجه : (أحدها) أن يكون معطوفا علي " مَن آمن " ، والتقدير : ولكن البر المؤمنون والموفون ، و( الثاني ) هو خبر لمبتدأ محذوف تقديره : وهم الموفون ، وعلي هذين الوجهين ينتصب : " الصابرين " علي إضمار " أعني" ، وهو في المعني معطوف علي " مَنْ " ولكنْ جاز النصب لما تكررت الصفات . و (الوجه الثالث) أن يعطف الموفون علي الضمير في " آمن " وجري طول الكلام مجري توكيد الضمير فعلي هذا يجوز أن ينتصب " الصابرين " علي إضمار " أعني " وبالعطف علي " ذوي القربى " لأن "الموفون" علي هذا الوجه داخل في الصلة ، و" حين البأس " ظرف للصابرين " ا.هـ.(1/46)
وقال الإمام الطبري في تفسيره (2/200) : " وأما " الصابرين " فنصب وهو مِن نعت " مَنْ " علي وجه المدح ، لأن مِن شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذم بالنصب أحياناً وبالرفع أحياناً ، كما قال الشاعر :
إلي الملكِ القرمِ وابنِ الهُمَامِ * وليثَ الكتيبة في المزدَحَم
وذا الرأي حين تغم الأمور * بذات الصليل وذات اللجم
فنصب " ليث الكتيبة " و " ذا الرأي " علي المدح ، والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد . ومنه قول الآخر :
فليت التي فيها النجوم تواضعت * علي كل غث منهم وسمين
غيوث الوري في كل مَحل وأزمة * أسود الشري يحمين كل عرين " ا.هـ.
والله أعلم .
(1/33)
الشبهة السادسة عشرة
قال الذين يسعون في آيات الله معاجِزين :
" جاء في سورة آل عمران 3 : 59 " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ". وكان يجب أن يعتبر المقام الذي يقتضي صيغة الماضي لا المضارع ، فيقول : قال له كن فكان " ا.هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ". سورة آل عمران ( 59 ) .(1/47)
قال الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسيره (3/296) : " أما قوله " ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " فإنما قال له : " فَيَكُونُ " وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم وذلك خبر عن أمر قد تقضى ، وقد أخرج الخبر عنه مخرج الخبر عما قد مضى ، فقال جل ثناؤه : " خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ " لأنه بمعني الإعلام من الله لنبيه [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] أن تكوينه الأشياء بقوله : كن . ثم قال : " فَيَكُونُ " خبر مبتدأ ، وقد تناهي الخبر عن أمر آدم عند قوله : " كُنْ " ، فتأويل الكلام إذًا : إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ ، واعلم يا محمد [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] أنَّ ما قال له ربك كن فهو كائن . فلما كان في قوله : " كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ " دلالة علي أن الكلام يراد به إعلام نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائر خلقه أنه كائن ما كوَّنه ابتداءً مِنْ غير أصْل ولا أوَّل ولا عنصر ، استغني بدلاله الكلام عن المعني ، وقيل : " فَيَكُونُ " فعطف بالمستقبل علي الماضي علي ذلك المعني . وقد قال بعض أهل العربية : " فَيَكُونُ " رُفِعَ علي الابتداء ، ومعناه كن فكان ، فكأنه قال : فإذا هو كائن " ا.هـ.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره (4/103) : " تم الكلام عند قوله : " كَمَثَلِ آَدَمَ " ثم قال : " خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " أي فكان ، والمستقبل يكون في موضع الماضي إذا عُرف المعني ". ا.هـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير (1/398) : " قوله تعالي : " ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " أي فكان فأريد بالمستقبل الماضي ، كقوله تعالي : " وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ " أي ما تلت الشياطين " ا.هـ.(1/48)
وقال النسفي في تفسيره (1/157) : " قوله : " فَيَكُونُ " أي فكان وهي حكاية حال ماضيه ، و " ثم " لترتيب الخبر علي الخبر لا لترتيب المُخْبَر عنه " . ا. هـ. والله أعلم .
(1/34)
الشبهة السابعة عشرة
قال الذين يَسْعَون في آيات الله مُعَاجِِزِين :
"جاء في سورة يوسف 12: 15 " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " . فأين جواب لما ؟ ولو حذفت الواو التي قبل " أوحينا " لاستقام المعني " ا.هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قوله تعالى : " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " ( سورة يوسف 15 ) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره (9/142) : " جواب "لَمَّا" محذوف ، أي فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، أي : فلما ذهبوا به وأجمعوا علي طرحه في الجب عظمت فتنتهم ، وقيل : جواب "لَمَّا " قولهم " قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ " (سورة يوسف 17) ،
وقيل التقدير فلما ذهبوا به [من] عند أبيهم وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها ، هذا علي مذهب البصريين ، وأما علي قول الكوفيين فالجواب : " أوحينا " والواو مزيدة ، والواو عندهم تزاد مع " لَمَّا " و " حتَّى " ، قال الله تعالي : " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ" (سورة هود 40) أي فار ، ومنه قوله تعالي : " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ " (سورة الصافات 103-104) أي ناديناه . وهذا معروف في لغة العرب ، قال امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي * بنا بطن خِبْتِ ذي عِقافٍ عقنقل
اي انتحي " . ا.هـ بتصرف .(1/49)
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره (12/160) : " قوله تعالي : " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا " فأدخلت الواو في الجواب ، كذلك قال امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحي * بنا بطن خِبْتِ ذي عِقافٍ عقنقل
فأدخل الواو في جواب لما ، وإنما الكلام فلما أجزنا ساحة الحي انتحي بنا ، وكذلك في قوله تعالي : " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا " لأن قوله : " أَجْمَعُوا " هو الجواب " . ا. هـ.
وقال الشيخ محمد بن محمد العماري الشهير بأبي السعود في تفسيره " إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم " (4/258) : " جواب "لَمَّا" محذوف إيذانا بظهوره ، وإشعارًا بأن تفصيله مما لا يحويه فَلَكُ العبارة ، ومجملُه : فَعَلُوا به من الأذية ما فعلوا " ا.هـ.
وانظر رُوح المعاني للألوسي (12/196) . والله أعلم .
(1/35)
الشبهة الثامنة عشرة
قال الذين يريدون أن يُطْفِئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون :
" جاء في سورة الفتح 48: 8-9 " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) ". وهنا تري اضطرابا في المعني بسبب الالتفات من خطاب محمد إلي خطاب غيره . ولأن الضمير المنصوب في قوله تعزروه وتوقروه عائد علي
الرسول المذكور آخرا وفي قوله تسبحوه عائد علي اسم الجلالة المذكور أو هذا ما يقتضيه المعني وليس في اللفظ ما يعيِّنه تعييناً يزيل اللبس ، فإن كان القول تعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا عائدا علي الرسول يكون كافرا لأن التسبيح لله فقط ، وإن كان القول تعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا عائدا علي الله يكون كفرا لأنه تعالي لا يحتاج لمن يعزره ويقويه " ا.هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :(1/50)
قول الله تعالى : " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) " ( سورة الفتح 8 و 9 ) .
قال السيوطي في الإتقان (1/550) : " الأصلُ توافقُ الضمائر في المرجع ، قال الزمخشري في قوله تعالي : " لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ " الضمائر لله تعالي ، والمراد بتعزيره : تعزيرُ دينِه ورسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ا.هـ.
قلت : ومنه قول الله تعالي : " إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ " ( سورة محمد صلي الله عليه وسلم : 7 ) أي إن تنصروا دينه وتجاهدوا في سبيله ينصركم . ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك " . (1)
* وهناك وجه آخر في الآية :
قال القرطبي رحمه الله تعالي (16/217) : " تعزروه وتوقروه " : الهاء فيهما للنبي صلي الله عليه وسلم ، وهما وقف تام ، ثم تبتديء : " وتسبحوه " أي تسبحوا الله " بكرة وأصيلا " وهو قول الضحاك " .
وقال رحمه الله تعالي (16/250) : " ردَّ التسبيحَ علي اسم الله تعالي ، والتوقيرَ والتعزيرَ علي اسم الرسول صلي الله عليه وسلم لأن المعني معلوم " ا.هـ.
وانظر زاد المسير (3/441) لابن الجوزي ، وروح المعاني للألوسي (26/95 - 96) . والله أعلم .
ــــــــــــ
(1) رواه أحمد في مسنده (1/293 ، 303 ، 307 ) والترمذي ( 4/667) عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الترمذي والضياء في المختارة ، وحسنه ابن رجب .
(1/36)
الشبهة التاسعة عشرة
قال المُبْطِلُون :(1/51)
" جاء في سورة الإنسان 76: 15 " وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ"، بالتنوين مع أنها لا تنون لامتناعها من الصرف ؟ لأنها علي وزن مصابيح . و جاء في سورة الإنسان 76: 4 " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ". فلماذا قال سلاسلا بالتنوين مع أنها لا تنون لامتناعها من الصرف ؟ " ا.هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ" ( سورة الإنسان 15) .وقوله تعالى : " إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا "( سورة الإنسان 4).
قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد الشهير بابن زنجلة في كتابه " حُجَّةِ القراءات " (783) : " من قرأ " قواريرًا قواريرًا " بإجرائهما جميعا [ أي بتنوين الكلمتين ] كانت له ثلاث حجج :
( إحداهن ) أن يقول نونت الأولي لأنها رأس آية ، ورؤوس الآيات جاءت بالتنوين كقوله : " سميعاً بصيراً "، فنَوّنَ " قواريراً " الأولي ليوافق بين رؤوس الآيات ، ونون الثاني علي الجوار للأول .
( والحجة الثانية ) أن العرب تجري ما لا يجري ، [ أي تنون مالا ينصرف ] في كثير من كلامها ، من ذلك قول عمرو بن كلثوم :
كأن سيوفنا فينا وفيهم * مخاريقٌ بأيدي لاعبينا
فأجري " مخاريق ". و( الحجة الثالثة ) اتباع المصاحف وذلك أنهم جميعاً في مصاحف أهل الحجاز والكوفة بالألف ، قال : " وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص : " قواريرَ قواريرَ " بغير تنوين ، ووقفوا علي الأولي بالألف لأنها رأس آية ، وآيتها علي الألف ، ووقفوا علي الثانية بغير ألف لأنها ليست برأس آية " ا.هـ. مختصراً .(1/52)
و قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره (19/123) : " من صَرَف فله أربع حجج : (أحدها) أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد فجعلت في حكم الآحاد فصرفت . (الثانية) أن الأخفش حكي عن العرب صرف جميع مالا ينصرف إلا أفعل منك ، وكذا قال الكسائي والفراء : هو علي لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم : هو أظرف منك ، فإنهم لا يجرونه ، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :
كأن سيوفنا فينا وفيهم * مخاريقٌ بأيدي لاعبينا
وقال لبيد :
وجزورُ أيسار دعوت لحتفها * بمغالقٍ متشابه أجسامُها
وقال لبيد أيضا :
فضلا وذو كرم يعن علي الندي * سَمْح كسوبُ رغائبٍ غَنَّامُهَا
فصرف : مخاريق ومغالق ورغائب ، وسبيلها أن لا تصرف .
و (الحجة الثالثة) أن تقول : تؤنث قوارير الأول لأنه رأس آية ، ورؤوس الآي جاءت بالنون كقوله عز وجل : " مذكوراً " ، " سميعاً بصيراً " ، فنون الأول ليوافق بين رؤوس الآي ، ونوّن الثاني علي الجوار للأول .
و ( الحجة الرابعة ) اتباع المصاحف ، وذلك لأنها جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف ". ا.هـ.
وقال الزركشي في البرهان (1/66) : " قوله تعالي : " قوارير قواريرا " ، صرف الأول لأنه آخر الآية وآخر الثاني بالألف فحسن جعله منونا ليقلب تنوينه ألفا فيتناسب مع بقية الآية كقوله تعالي : " سلاسلاً وأغلالاً " فإن سلاسلاً لما نظم إلي " أغلالاً وسعيراً " صرف ونون للتناسب ، وبقي قوارير الثاني فإنه وإن لم يكن آخر الآية جاز صرفه ، لأنه لما نَوَّن قواريرا الأول ناسب أن ينون قواريرا الثاني ليتناسبا ، ولأجل هذا لم ينون قواريرا الثاني إلا من ينون قواريرا الأول ، ثم قال : "وإنما صرف للتناسب واجتماعه مع غيره من المنصرفات فَيُردّ إلي الأصل ليتناسب معها " ا.هـ. وذكر كلاما بديعا في مراعاة التناسب في القرآن فليراجعه من شاء (1) ، والله الموفق ، لا رب سواه ، ولا إله غيره .
ـــــــــــــ
((1/53)
1) وانظر تفسير الطبري (29 / 216) .
(1/37)
الشبهة العشرون
قال أعداء الإسلام :
" جاء في سورة الشورى 42 : 17 " اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ". فلماذا لم يتبع خبر لعل اسمها في التأنيث فيقول قريبة ؟ " ا.هـ
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ " (سورة الشورى 17) قال العلامة ابن منظور في لسان العرب (1/662) : " قوله تعالي " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ " ذَكَّرَ قريبا لأن تأنيث الساعة غير حقيقي ، وقد يجوز أن يُذَكَّر لأن الساعة في معني البعث " ا.هـ.
والمعني : وما يدريك لعل وقت قيام الساعة قريب ، كما قال الله تعالي في سورة الأحزاب (63) : " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ".
وقال القرطبي رحمه الله تعالي في تفسيره (16/15) : " قال : " قَرِيبٌ " ، ولم يقل : قريبة ، لأن تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت قاله الزجاج ، والمعني : لعل البعث أو لعل مجئ الساعة قريب ، وقال الكسائي : قريب نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعني ولفظ واحد .
قال الله تعالي : " إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " (سورة الأعراف 56) .
وقال الشاعر:
وكنا قريبًا والديار بعيدة * فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا " ا.هـ.
وذكر الإمام مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالي في كتابه مشكل إعراب القرآن ( 2 / 645 - 646 ) خمسة أوجه في سبب تذكير قريب كلها تمشي علي قواعد اللغة والبلاغة فليراجعها من شاء الاستزادة .(1/54)
وهناك وجه آخر لم أر مَنْ تعرض لذكره فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ، والله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه بريئان : وهو أن التذكير يدل علي القوة والتأنيث علي الضعف . والساعة شديدة قوية ولهذا ذكر " قريب " كما أنث آلهة المشركين لبيان ضعفها وعجزها فقال عز وجل : " إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا " ( سورة النساء 117) . وقال سبحانه وتعالي: " وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا "( سورة الزمر 17). والله أعلم .
(1/38)
الشبهة الحادية و العشرون
قال أَجْهَلُ الناس باللغة :
" جاء في سورة البقرة 2 : 196 " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ". فلماذا لم يقل تلك عشرة مع حذف كلمة كاملة تلافيا لإيضاح الواضح لأنه مَنْ يظن العشرة تسعة ؟ " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تبارك وتعالى : " فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ " ( سورة البقرة آية 196 ). هذه الآية الكريمة من دلائل إعجاز القرآن وأسراره التي تزيد المؤمن إيمانا .
قال الإمام الزركشي في البرهان في علوم القرآن (4/84) : " التمام من العدد قد علم وإنما بقي احتمال نقص في صفاتها ، ولهذا قال : " كَامِلَةٌ " ، ومن هذا قولهم : " رجل كامل " إذا جمع خصال الخير " ا.هـ. ووافقه السيوطي في الإتقان (1/571) .
قلت : ومنه قوله تعالي في آيات الصيام من سورة البقرة (185) :(1/55)
" وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ " فأمرهم بإكمال الصيام وإحسانه ، والإكمال يتضمن معني زائدا علي الإتمام وهو الإحسان والإتقان ، أي أكملوا الصيام وأحسنوه بالبعد عن المُحَرَّمات وبفعل الطاعات وبإخلاص النيات ، فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، وفي الحديث القدسي يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ تعالى : " الصيام لي وأنا أجزي به " رواه البخاري في صحيحه ( 1761) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
فالناس يتفاوتون في مراتب الصيام . وصيام المسلمين وحَجُّهم غير صيام النصارى الذين يأكلون ويشربون فيه ولا يراعون حرمته ، ولهذا وصف الله عز وجل صيام المسلمين بالكمال وأمرهم بإكماله ، لأن الله عز وجل قد أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة ورضي لهم الإسلام دينا . قال الله تعالي : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " ( سورة المائدة 3 ) .
وذكر العلماء أسراراً بديعة من إعجاز القرآن وبيانه في هذه الآية الكريمة فمن شاء راجعها في البرهان للزركشي (2/479-482) فقد ذكر أحد عشر وجها في مناسبة ذكر العشرة الكاملة بعد قوله ثلاثة وسبعة (1) .(1/56)
ومثله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ " رواه البخاري (2531) ومسلم (4836) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه . و هذا من أسرار القرآن البديعة التي تزيد المؤمن إيماناً ، قال الله تعالي : " وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا " إلي قوله تعالي : " وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا " ( سورة المدثر 31 ) . والله أعلى وأعلم .
ــــــــــــــــــــ
(1) وانظر تفسير الطبري (2/254) وأحكام القرآن لابن العربي (1/372-374) .
(1/39)
الشبهة الثانية و العشرون
قال الظالمون :
" جاء في سورة الأنبياء 21 : 3 " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ". مع حذف ضمير الفاعل في أسروا لوجود الفاعل ظاهر وهو " الذين " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا " ( سورة الأنبياء 3 )(1/57)
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره (11/268-269) : " وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا " أي تناجَوا فيما بينهم بالتكذيب ، ثم بَيَّنَ مَنْ هم فقال : " الَّذِينَ ظَلَمُوا " أي الذين أشركوا ، فالذين ظلموا بدل من الواو في " أسروا " ، وهو عائد علي الناس المتقدم ذكرهم ، ولا يوقف على هذا القول علي " النَّجْوَى " ، قال المُبَرِّد : وهو كقولك " إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله " ، فبنو بدل من الواو في " انطلقوا ". وقيل هو رفع علي الذم أي هم الذين ظلموا . وقيل : " علي حذف القول ، التقدير : يقول الذين ظلموا ، وحذف القول مثل قوله تعالي : " وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " (سورة الرعد 23 - 24 ) أي يقولون : " سَلَامٌ عَلَيْكُمْ " . واختار هذا القول النحاس ، قال : و الدليل علي صحة هذا الجواب أن بعده " هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " . وقول ( رابع ) يكون منصوبا بمعني : أعني الذين ظلموا ، وأجاز الفرَّاء أن يكون خفضا بمعني : اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم ، ولا يوقف علي هذا الوجه علي " النَّجْوَى" ، ويوقف علي الوجوه الثلاثة المتقدمة قبله فهذه خمسة أقوال ، وأجاز الأخفش الرفع علي لغة ، قال القرطبي : وهو حسن " .ا.هـ بتصرف .
قلت : واللغة التي ذكرها الأخفش لقبيلة طيء ، وهم يلحقون علامات التثنية والجمع بالفعل ، وهذه اللغة الفصيحة الصحيحة مشهورة عند النحاة باسم : " أكلوني البراغيث " .
ووردت في القرآن الكريم والحديث الشريف ، ومن ذلك قول الله تعالي : " ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ " ( سورة المائدة 71 ) (1) . والله أعلم وأحكم .
ــــــــــــــ
(1) انظر الإتقان للسيوطي (1/526) وتفسير الطبري (17/2) وإعراب القرآن لمكي بن أبي طالب (2/477) .
(1/40)
الشبهة الثالثة و العشرون
قال المُعْتَدُون :(1/58)
" جاء في سورة يونس 10 : 22 " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ " . فلماذا التفت عن المخاطب إلي الغائب قبل تمام المعني ؟ والأصح أن يستمر علي خطاب المخاطب " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قال الله تعالى : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ " ( سورة يونس آية 22 ) . هذه الآية من بديع بلاغة القرآن الكريم ، وفيها نوع عظيم من أنواع البديع يقال له الالتفات ، وله فوائد كثيرة .
قال الشيخ أبو بكر ابن الباقلاني في كتاب " إعجاز القرآن " (ص 99 - 101) : " ومن البديع الالتفات وهو اعتراض في الكلام ، فمتي خرج عن الكلام الأول ثم رجع إليه علي وجه يَلْطُفُ كان ذلك إلتفاتا " ، وَعَدَّ من بديع الالتفات الآيةَ السابقة ، وأورد عدة أبيات من أشعار العرب فيها الالتفات وأن ذلك شائع في اللغة الفصيحة الصحيحة وأنَّ فُحولَ الشعراء كانوا يستعملونه .(1/59)
وقال السيوطي في الإتقان (2/228) : " الالتفات : نقل الكلام من أسلوب إلي آخر ، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلي آخر منها بعد التعبير بالأول هذا هو المشهور ، [ زاد ] السكاكي : أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره ، وله فوائد : منها تطرية الكلام ، وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات والسآمة من الاستمرار علي منوال واحد ، وهذه فائدته العامة ، ويختص كل موضع بنُكَت ولطائف باختلاف محله " . ثم قال السيوطي : "ومثال الالتفات من الخطاب إلى الغيبة قول الله تعالي : " حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ " ولم يقل " بكم " ، ونُكْتَةُ العدول عن خطابهم إلي حكاية حالهم لغيرهم : التعجب من كفرهم وفعلهم ، إذ لو استمر علي خطابهم لفاتت تلك الفائدة ، وقيل لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل : " هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ " فلو كان "وجرين بكم" للزم الذم للجميع ، فالتفت عن الأول للإشارة إلي اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلي الخاص ، قلت : ورأيتُ عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك وهو أن الخطاب أوله خاص وآخره عام . فأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال : " ذكَرَ الحديثَ عنهم ثم حدثَ عن غيرهم ، ولم يقل وجرين بكم لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم ، وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق " هذه عبارته ، فلله در السلف ما كان أوقفهم علي المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانا طويلا ويُفْنُون فيها أعمارهم ثم غايتهم أن يحوموا حول الحمي .(1/60)
ومما ذكر في توجيهه أيضا أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاك وغلبة الرياح فخاطبهم خطاب الحاضرين ، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن وأمنوا الهلاك لم يبق حضورهم كما كان ، علي عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة " ا.هـ كلام السيوطي رحمه الله تعالى . والله أعلم .
(1/41)
الشبهة الرابعة و العشرون
قال الظالمون :
" جاء في سورة التوبة 9 : 62 " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ". فلماذا لم يثن الضمير العائد علي الاثنين ، اسم الجلالة ورسوله ، فيقول أن يرضوهما ؟ " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :
قول الله تعالى : " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " ( سورة التوبة 62 ) . قال السيوطي في الإتقان (1/549) : " قد يُذْكَرُ شيئان ويعادُ الضمير إلي أحدهما ، والغالب كونه الثاني نحو : " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ " ( سورة البقرة 45 ) فأعيد الضمير للصلاة ، وقوله تعالي : " جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ " (سورة يونس 5 ) أي قدَّر القمر منازل لأنه الذي يُعْلَمُ به الشهور ، وقوله تعالي : " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " أراد يرضوهما فأفرد لأن الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو داعي العباد والمُخَاطِبُ لهم شفاها ، ويلزم من رضاه رضا ربِّه تعالي " ا. هـ بنحوه .(1/61)
وقال الزركشي في البرهان (3/127 - 128) : " قيل إنما أفرد الضمير لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضمير واحد كما جاء في الحديث : " بئس خطيب القوم أنتَ ، قل : ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورسولَهُ " ( 1 ) . قال الزمخشري : " قد يقصدون ذكر الشيء فيذكرون قبله ما هو سبب منه ثم يعطفونه عليه مضافا إلي ضميره وليس لهم قصد إلي الأول ،كقوله : " سَرَّنِي زيد وحسن حاله " والمراد حسن حاله ، وفائدة هذا الدلالة علي قوة الاختصاص بذكر المعني : ورسول الله أحق أن يرضوه ، ويَدُلُّ عليه ما تقدمه من قوله : " الذين يؤذون رسول الله " ، ولهذا وَحَّدَ الضمير ولم يُثَنِّ. ا. هـ.
وذكر السيوطي في الإتقان (2/103-104) : من أساليب القرآن الكريم إقامة صيغة مقام أخري ، قال : " وتحته أنواع كثيرة ". فذكر منها إطلاق واحد من المفرد والمثني والجمع علي آخر منها ، مثال إطلاق المفرد علي المثني : " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إن كانوا مؤمنين " أي يرضوهما ، فأفرد لتلازم الرضَاْءَيْنِ " ا. هـ.
وقال الطبري في تفسيره (11/86) : " اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر كما قال الشاعر :
رماني بأمر كنت منه ووالدي * بريًّا ومن فوق الطوي رماني " ا. هـ.
ومنه قوله تعالي : " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " ( سورة التوبة 34 ) ، وقوله : " وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا " (سورة الجمعة 11 ) ، وقوله تعالي : " وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ " ( سورة البقرة 45 ) .(1/62)
قال القرطبي (1/373 - 374) : " فَرَدَّ الكنايةَ إلي الفضة لأنها الأغلب والأعم ، وإلي التجارة لأنها الأفضل والأهم . وقيل إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها ، كما قال : " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " ولم يقل : " يرضوهما " ، لأن رضا الرسول عليه الصلاة والسلام داخل في رضا الله عز وجل . ومنه قول الشاعر [ هو حسان بن ثابت رضي الله عنه ] :
إِنَّ شَرخَ الشَبابِ وَالشَعَرَ الأَسْـ * وَدَ ما لَم يُعاصَ كانَ جُنونا
ولم يقل يعاصَيَا ، ردَّ إلي الشباب لأن الشعر الأسود داخل فيه " ا. هـ. بنحوه.
وقال رحمه الله تعالي (7/387) في قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ " (سورة الأنفال 20 ) ، قال : " عنه " ولم يقل : " عنهما " لأن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم طاعة لله ، وهو كقوله تعالي : " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " ا.هـ.
وقال رحمه الله تعالي (8/193 - 194) : " وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ " ابتداء وخبر ، ومذهب سيبويه أن التقدير : " واللهُ أحقُّ أن يُرْضُوه ورسوله " علي التقديم والتأخير ، ثم ذكر قولا آخر ، ثم قال : قال النحاس : قول سيبويه أَولاها " . ا. هـ. والله أعلم .
ـــــــــــــ
( 1 ) الحديث رواه مُسْلِمٌ في صحيحه ( 3 / 12 ـ 13 ) عن عَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه .
(1/42)
الشبهة الخامسة و العشرون
قال الذين كذبوا بما لم يُحيطوا بعِلْمِهِ :
" جاء في سورة التحريم 66 :4 " إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ". والخِطَابُ (كما يقول البيضاوي ) موجه لحفصة وعائشة . فلماذا لم يقل صغا قلباكما بدل صغت قلوبكما إذ أنه ليس للاثنتين أكثر من قَلْبَيْن ؟ " ا.هـ.
*** والجواب بتوفيق الله تعالي :(1/63)
قوله تعالى : " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " ( سورة التحريم 4 ) .
قال القرطبي رحمه الله تعالي (6/173 - 174) : " قال الخليل بن أحمد والفَرَّاء : كل شيء يوجد مِنْ خَلْق الإنسان إذا أضيف إلي اثنين جمع ، تقول : هشمت رؤسَهُما ، وأشبعت بطونهما ، وقال الله تعالي : " إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " ، ولهذا قال : " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا " (سورة المائدة 38 ) ولم يقل يَدَيْهِما " ا. هـ.
وبين الحكمة من ذلك فقال (18/188) : " قيل : كلما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به لأنه أمكن وأخف " ا. هـ.
قلت : وورد لذلك نظائر كثيرة في القرآن الكريم ولغة العرب :
قال السيوطي في الإتقان (2/105) : " مِنْ إطلاق الجمع علي المثني : " قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " (سورة فصلت 11 ) ، وقال : " قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ " ( سورة ص 22 ) ، وقال : " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ " (سورة النساء 11 ) أي أَخَوَان ، وقال سبحانه : " وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ " ( سورة الأنبياء 78 )". ا.هـ (1)
وقال الإمام أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن (3/11) : " قال زيد بن ثابت : إن العرب تسمي الأَخَوَين إخوة " ا. هـ
وقال الإمام الشوكاني في فتح القدير (5/250) : قال : " قلوبكما " ولم يقل : " قلباكما " ، لأن العرب تستكره الجمع بين تَثْنِيَتَيْنِ في لفظٍ واحدٍ " . ا. هـ ، والله أعلم .
ـــــــــــــــ
(1) وانظر تفسير الطبري (4/279) وروح المعاني (8/99) .
(1/43)
_____________ فصل _______________
الرد علي شبهتهم حول الحديث الشريف المتعلق برَضَاع الكبير(1/64)
وأما الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه (10/ 31 - 33 بشرح النووي ) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :
"جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِيهِ ، قَالَتْ وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ " . وفي رواية : قال صلي الله عليه وسلم : أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ " .
*** قال العلماء : هذا الحديث يتضمن كمال رحمة الإسلام وعدله وحفظه للحرمات ؛ وبيانُ ذلك أن أبا حذيفة رضي الله عنه كان قد تبني سالما رضي الله عنه وهو صغير قبل تحريم التبني ، فلما حرَّم اللهُ عز وجل التبني رُدَّ كل إنسان إلي أبيه ، ولما لم يكن أبو سالم موجودا - لأنه من بلاد فارس وسبي صغيرا - نُسِبَ نسبة ولاء إلي أبي حذيفة ، لقوله تعالى : " ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) " (سورة الأحزاب 5) .
وكان سالم حافظا للقرآن ، ومن مناقبه العظيمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمع إلي قراءته القرآن فقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك " . وهو مِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ ، شهد غزوة بدر ، وكان يؤم المهاجرين بالمدينة قبل هجرة الرسول صلي الله عليه وسلم لأنه كان أحفظهم .(1/65)
فلما كبر سالم وبلغ مبلغ الرجال كان علي سهلة أن تحتجب منه ، وكان علي سالم أن لا يدخل البيت إلا في وجود أبي حذيفة لئلا يخلو بها ،
ــــــــــــــ
(1) قال الإمام الذهبي في النبلاء (1/168) : " إسناده جيد " ا.هـ
(1/44)
والإسلام دين الرحمة الذي أمر بصلة الأرحام والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، فأمرهم نبي الرحمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر يرضي الله تبارك وتعالي ، ويحمي الأنساب ويحفظ الحرمات ، ويراعي ويُطَيِّب نفس أبي حُذَيفة وامرأته الأم الرحيم التي ربت سالما طفلا صغيرا وكفلته وأعتقته ، وزوَّجَهُ أبو حذيفة شريفةً قرشيةً هي ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة ، وهذا من كمال إحسان الإسلام إلى الموالي والعبيد ، فشَرْعُ الله تبارك وتعالي رحمةٌ كله ومصلحةٌ كُلُّهُ وخيرٌ كله ، فأمَرَ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي أرسله الله رحمة للعالمين - سَهلةَ أن تُرضِعَ سالما ليزول ما في نفس أبي حذيفة ويصيرَ ابنًا لهما من الرَّضَاع ، فجمع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أداء حق الله تعالي وتعظيم حرماته ، وبين إعطاء الإنسان حقه الذي أمر الله به من رحمته والإحسان إليه ، فصلوات الله وتسليماته ورحماته وبركاته عليه ،كما وَحَّدَ اللهَ وأَحْيا أمرَهُ ودعا إليه ، والحمد لله علي نعمة الإسلام وكفي بها نعمة .
*** وأما طريقة الرضاع ، فقد ذكر العلماء أنها - أي سهلة - حلبت اللبن في إناء ثم شربه سالم من الإناء بعد ذلك ، وقد أجمع العلماء على عدم جواز إلقام المرأة ثديها للأجنبي الكبير .
قال الإمام أبو عُمَر بن عبد البر رحمه الله تعالي : " صفة رضاع الكبير أن يُحْلَبَ له اللبنُ ويُسقاه ، أما أن تلقمه المرأة ثديها فلا ينبغي عند أحد من العلماء " ا. هـ. وبنحو ذلك قال القاضي عياض رحمه الله تعالي .
قال الإمام النووي رحمه الله تعالي : " وهو حسن " ا. هـ.(1/66)
وقد وردت بذلك رواية : أخرجها ابن سعد في الطبقات عن الواقدي عن محمد بن عبد الله أخي الزهري عن أبيه قال : " كانت سهلة تحلب في مسعط أو إناء قدر رضعته فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام " ، وسندها ضعيف .
وانظر شرح النووي علي صحيح مسلم (10/32) وشرح الزرقاني علي موطأ مالك (3/90) وسير أعلام النبلاء للذهبي (1/167) . والله أعلم .
____________ تم بحمد الله تعالى _____________
____ كِتَابُ إِعْجَازِ القُرآن ونَقْضِ مَطَاعِنِ عَبَدَةِ الصُّلْبَان ____
وصلي الله وسلَّم وبارك علي مَن أرسلَهُ اللهُ رحمة للعالمين ، محمد بن عبد الله ، رسول الله إلى الناس كافة ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسبحان الله وبحمده ، سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
______________________ كتبه _________
__________________ وائل بن علي الدِّسُوقيّ _____
_________________ جمادى الأولى 1423 هـ _____
(1/45)(1/67)