قسم التفسير(/)
?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ?
[شريطين مفرّغين]
سورة محمّد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
?الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا(1/1)
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (14)?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الهدى والسداد والتوفيق والرشاد، وأسأله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقا ويمنّ علينا باتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه وتركه.
كما أسأله جل وعلا أن يحيينا حياة طيبة، وأن يميتنا ميتة طيبة، وأن يحشرنا مع أولياء الله جل وعلا.
هذه الآيات التي سمعتموها من صدر سورة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أقف فيها مع آيتين أو مع مسألتين:
أما الأولى: فهي قوله جل وعلا ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?.
والثانية: هي قوله جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ?.
المسألة الأولى
أما الآية الأولى ففيها بيان أن المقتول في سبيل الله عز وجل سيهديه الله وسيصلح باله، وفي هذا دلالة ظاهرة أن الهداية تكون بعد الممات أو تكون بعد مفارقة الدنيا، فبحق الذين قتلوا في سبيل الله فهم سيُهدون، بعد تركهم لهذه الدنيا سيهديهم الله جل وعلا، وكذلك الذين ماتوا إذا كانوا على الإيمان سيهدون وسيصلح الله بالهم وسيدخلهم الجنة.
في هذا قال العلماء: إن الهداية التي جاءت في القرآن أربعة أنواع:(1/2)
النوع الأول الهداية الغريزية: وهي المذكورة في قوله تعالى ?الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى?[طه:50]، فهذه هداية جعلها الله جل وعلا رحمة منه لكل مخلوق، كل مخلوق هداه ?الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى?، هداه لما يصلحه، هداه لما قدر الله جل وعلا له في حياته.
سماها العلماء الهداية الغريزية، هذه هداية طبعية؛ طبع عليها الخلق.
النوع الثاني من الهداية هداية الدلالة والبيان والإرشاد: فإن الله جل وعلا هدى الخلق، وأقام لهم البينات الواضحة التي لا يلتبس معها النظر ولا السلوك لذي العقل ولذي اللب، فأرشد جل وعلا وبين وهدى وعلم ودلّ، وذلك بإنزال كتبه وبإرسال الرسل.
إنزال الكتب لإقامة الحجة على العباد ولهدايته ?يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ?[المائدة16].
كذلك الرسل يهدون إلى ما أمرهم الله جل وعلا به فيبينوه للناس.
فإذن هداية الدلالة والبيان لم تترك للاجتهاد، وإنما قد بينت وأوضحت لأن الله جل وعلا هو الهادي وإن الله لهادي الذين آمنوا، قال جل وعلا في حق نبيه ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[الشورى:52]، يعين هداية البيان والدلالة والإرشاد.
إذن لا خير ولا شيء فيه الصلاح للعباد إلا وقد بُيّن ودل عليه العباد وأرشدوا إليه، في الكتب بما أنزل على الرسل وخاصة القرآن العظيم الذي أنزله الله جل وعلا على قلب خاتم المرسلين، وبما أوحى الله جل وعلا إلى نبيه من السنة.(1/3)
وهذا يعني أن من ظنّ أو زعم أن هناك طريقا يوصل إلى الله جل وعلا ويهدي إلى الله دلالة وبيان لم يرد في الكتاب ولا في السنة، في ضمن هذا المقال أن البيان والهدى والدلالة والإرشاد التي جاءت في القرآن والسنة أنها لم تكن على وجه الكمال؛ لأن القائل بأنه يمكن أن نهتدي إلى سبيل لم ينص عليه في القرآن والسنة، معنى ذلك أن هناك سبيل هداية لم يرشد إليه العباد، وهذا ولاشك باطل ومناقض لما في التنزيل والسنة، إذ تنزيل القرآن كان لهداية الخلق، والله جل وعلا ما فرّط في الكتاب من شيء، على أحد التفسيرين بأنه القرآن، وبيّن القرآن وأنزل الذكر لتبينه وهذا ليكون حجة كافية، وأعظم ما يؤخذ من القرآن العظيم ومن الرسالة، أعظم ما يؤخذ هو سبيل الهداية وسبيل النجاة.
فإذن يتقرر بهذا أن سبيل النجاة وسبيل الهداية لابد أن يكون واضحا في القرآن وفي السنة أبلغ الوضوح وأعظم الوضوح وأظهره.
النوع الثالث من الهداية هداية التوفيق والإلهام: وهذا النوع من الهداية مبتدؤه من العبد ومنتهاه من الله جل وعلا؛ يعني أن الله جل وعلا يمن بتوفيقه وبإلهامه وتسديده للعبد بسبب من العبد، قال الله جل وعلا ?وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ?[الأنفال:23]، وهذا النوع من الهداية يأخذ في تحصيله وهو توفيق الله جل وعلا وإلهامه وتسدديه يأخذ بسببه العبد إذا سلك السبيل والطريق.
أما إذا سلك طريقا آخر بتفريط منه في العلم أو بتركه سبيل الحق بعد معرفته فإنه يوكل إلى نفسه ويحرم التوفيق والسداد والإلهام.(1/4)
لهذا كان ما عند الله جل وعلا إنما يطلب منه يعني امتثال ما أمر، ولا شك أن العبد إذا سلك سبيل الهداية راغبا، فإن التوفيق على الله جل وعلا قد ووعده به العبد، وعد الله جل وعلا حق لا يخلف الله الميعاد، ولهذا كان من أسرار الدعاء العظيم الذي في الفاتحة وهو قوله تعالى ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?[الفاتحة:6-7]، هذا الصراط فُسّر بأنه الإسلام القرآن السنة ونحو ذلك، وقيل في السؤال في الاستشكال إن المصلي قد حصلت له الهداية، الهداية إلى الصراط؛ لأنه ما دام مسلما مؤمنا مصليا قد هُدي إلى القرآن وإلى السنة وإلى الإسلام، فما فائدة هذا السؤال؟ وهو قول المصلي ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? مع أنه مهتد إذ كان مؤمنا مسلما؟
وأجيب بأجوبة أحسنا أن الهداية إلى الصراط المستقيم هداية إلى أفراد ذلك الصراط.
والصراط الذي هو الإسلام الإيمان القرآن السنة قد يأخذ العباد منه شيئا ويتركون شيئا آخرا، فأفراده كثيرة، أفراد القرآن من حيث الالتزام بها أحكامه أخباره كثيرة، كذلك أمور الإسلام الإيمان، فسؤال العبد ربه جل وعلا أن يهديه الصراط المستقيم؛ يعني أن يوفقه ويسدده لسلوك جميع أفراد الصراط المستقيم.(1/5)
لهذا وصف ذلك الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم فقال ? صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ? والذين أنعم الله عليهم هم الذين في سورة النساء يقوله جل وعلا ?وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا?[النساء:69-70]، فدل على أن الهداية للصراط أخص -هذا الصراط المذكور في الفاتحة- أخص من الهداية إلى مطلق الإسلام والإيمان أو مطلق الالتزام بالقرآن والسنة.
إذن فنحن في أمس الحاجة فيما يقول شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة العلماء إلى هذا الدعاء ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ? لأنه ما من زمن إلا والصوارف فيه على الالتزام بجميع أفراد الصراط المستقيم أكثر من الزمن الذي قبله، وهذا مأخوذ من قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» ذلك الشر يكون بكثرة، يكون بأشياء منها كثيرة الصوارف عن لزوم الصراط المستقيم، لهذا كانت الحاجة عظيمة إلى أن تسأل الله جل وعلا الهداية إلى الصراط المستقيم.
الهداية يعني الالتزام وتمامه حصول التوفيق من الله جل وعلا هو الذي يعنى به هذا النوع من الهداية وهو الهداية هداية التوفيق السداد والإلهام.
إن التوفيق من الله جل وعلا، التوفيق من الله جل وعلا، ومعنى التوفيق عند أهل السنة والجماعة أن لا يكل الله العبد لنفسه، أن يمده بعون خاص به يكون قوة له على الطاعة وصرفا لقلبه عما لا يرضاه الله جل وعلا.
وغير أهل السنة يفسرون التوفيق بأنه خلق القدرة على الفعلـ ويفسرون الخذلان بأنه حرمانه من القدرة على الفعل، وهذا قول الأشاعرة وما شابههم، وهو باطل وهذا ليس محل بيان بطلان.(1/6)
المقصود أن التوفيق إعانة خاصة من الله جل وعلا للعبد، هذه الإعانة هي هداية من الله جل وعلا، لو لم يعن الله جل علا عبده عليها لم حصل على الهداية لم؟ لأن إبليس وجنده يرصدون العبد ويرصدون توجهاته ويرصدون سلوكه، وهم أحرص ما يكونون على صرفه.
فإذا كان معه عون من الله جل وعلا وتوفيق وتسديد كان قويا عليه، فإذا حُرم ذلك العون ذلك التسديد كانوا أقوى عليه من نفسه، ولذلك يكون أحوج ما يكون العبد إلى أن يهديه الله جل وعلا هداية التوفيق؛ لكن هذه مع أنها منة من الله جل وعلا وتفضل وتكرم؛ لكنها بسبب من العبد وهو أن يكون سالكا سبل الهداية.
النوع الرابع من أنواع الهداية هو الذي جاء في هذه الآية، وهو أعظم أنواع الهداية وآخرها ونتيجتها ومحصَّلها، وهو هداية المؤمنين إلى طريق الجنة، هداية المؤمنين إلى سلوك سبيل الصراط في الآخرة، كما أنهم سلكوا السبيل والصراط في الدنيا فإنهم يُهدون إلى السبيل وإلى الصراط في الآخرة؛ لأنه بيننا وبين الصراط يعني يوم القيامة ظلمة، دون الجسر ظلمة، ويُهدى المؤمنون -يهديهم الله جل وعلا- إلى الصراط، كل بحسب عمله، وهذه خاتمة الهدايات بالنسبة لأهل الإيمان، يُهدون إلى سلوك الصراط وإلى نوع مشيهم وثباتهم وقوتهم على الصراط، وتعلمون أن من وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف وإنه مزلة، وهذا يشعره في أن السير عليه عسير إن لم يكن ثم مدد وتوفيق من الله جل وعلا، وهذا من أفراد هذه الهداية.
كذلك يهدى إلى طريق الجنة ويهدى إلى منزله، قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ? لأنهم قد قتلوا فإذن الهداية هنا ليست هداية الدنيا فإنما هي هداية الآخرة.(1/7)
ويقابل ذلك في حق أهل النار قال جل وعلا ?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ?[الصافات:23-24]، في سورة الصافات، يهدى أهل الجنة إلى الجنة ويهدى أهل النار إلى النار، وهذه ثمرة الهداية في الدنيا ثمرة من قبلها وثمرة من لم يقبلها.
المسألة الثانية
الآية الثانية هي قوله جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ?.
ذكرنا أن الهداية منها هداية بيان وإرشاد، وهذه لم يتركنا الله جل وعلا للاجتهاد فيها، فقد بينها لنا بيانا كافيا شافيا كاملا لا نقص فيه بوجه من الوجوه، إذْ من مقتضى الرحمة من إنزال الكتاب وإرسال الرسول أن يكون الهدى كاملا، قال جل وعلا في وصف القرآن ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء?[فصلت:44]، وهدى معه لا يكون الضلال ومعه لا يكون الالتباس، بالقرآن وبالسنة البينة كاملة والطريق والبيان ظاهر أتم الظهور، قال جل وعلا في وصف المؤمنين ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? أشد الناس حظا وأكثرهم نصيبا من هذه الآية هم الذين كانوا اشد استمساكا بالبينات التي جاءت في الكتاب والسنة، وأقلهم حظا من نقص من الاستمساك بما جاء من البينات في الكتاب والسنة، حتى يكون الناس على فريقين متباينين أشد التباين.
من كان على البينة يعني على الالتزام بالقرآن والسنة والأخذ بما جاء به من البينات.
والصنف الثاني من ترك هو الذين تركوا البينات التامة وكانوا في أعلى سوء العمل أعلى صور سوء العمل وذلك هو الكفر وأعلى صور ابتاع الهوى وذلك هو اتباع الشيطان.
وبين الفريقين من يقرب من هؤلاء ومن يقرب من هؤلاء.(1/8)
فهذه الآية تصدق على كل من كان عنده التزام بالبينات، وعنده تنوع سوء عمل ونوع هوى، فلا يدخل الذي عنده سوء العمل وعنده الهوى مع من كان على بينة من ربه يحتج بما جاءه عن ربه جل وعلا وبما جاءه به نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
فإذن في هذه الآية بيان أن المرء إما يكون على بينة من ربه، وإما أن يكون على غير بينة من ربه في بعض أمره أو في كل أمره.
وذلك من قوله ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ? والبينة تصدق على البينة الواحدة وعلى جنس البينات، وقال جل وعلا في وصف ما يقابل أولئك ?كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? وسوء العمل يصدق على الواحد ويصدق على جنس العمل.
فإذن دلت الآية على أن كل امرئ مخاطَب بأن يكون على بينة من ربه؛ لأنّ في هذه الآية الإنكار، الاستفهام ههنا إنكاري، ينكر على الذين جعلوا من ساء عملهم واتبعوا أهواءهم مساوون أو يفضلون عن أولئك الذين هم على بينة من ربهم.
فهذا الاستفهام فيه الإنكار وفي الإنكار توبيخ أيضا، قال جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ? إذن نستفيد من الآية الحث والحض على أن يكون المرء في أموره كلها على بينة من ربه، وأن يكون مقتفيا البينات والهدى الذي جاء في القرآن والسنة، لا يكون سالكا مع هواه وسالكا ما زين له من العمل؛ بل إنه إذا كان سالكا ما زين له من العمل وترك اتباع البينات والهدى فله نصيب من اتباع الهوى بحسب ذلك.(1/9)
إذا تقرر هذا مع ما بينا سالفا من أن الهدى -هدى البيان والإرشاد- قد تم في القرآن وبينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، فمعنى ذلك أنه لا يلتمس منهج السلف في الحقيقة بعدٌ عن البينات التي جاءت في الكتاب والسنة، لم؟ لأن المتبعين للسلف -الحمد لله وتوفيقه ومنته عليهم- ليس لهم مسألة في منهجهم ولا في عقيدتهم ولا في أمورهم إلا ولهم عليها بينة، لا يحتجّون بالرأي ولا بما اجتهدت فيه عقولهم؛ بل احتجاجهم بما جاءنا من البينات والهدى، والله جل وعلا قال في سورة هود ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ? قال جل وعلا بعد ما تلوتُ ?فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ?[هود:17].
إذا نظرنا إلى الذين خالفوا منهج السلف، هل كان احتجاجهم بعد أن خالفوا احتجاجا بالنصوص أو احتجاجا بالأقيسة والعقول والآراء؟ لاشك أن الجواب أنه إنما احتجوا بالأقيسة والعقول والآراء، وكل من خالف منهج السلف له نصيب من قوله تعالى ?زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ?.
أنظر إلى جميع المخالفين في باب التوحيد والصفات أو توحيد الإلهية، لهم في رد قول السلف أو في ردّ البينات التي جاءت في القرآن والسنة لهم في ردها منازع ومذاهب كلها خارجة من العقل والقياس والرأي.
وأعظم مصيبة دخلت على المسلمين تحكيم الرأي على الشرع، وهي المصيبة التي يعاني منها المسلمون اليوم.(1/10)
فالآية دلت بظهور كما سمعتم على أنه ليس بعد اتباع البينات وهي الدلائل والبراهين إلا تزيين سوء العمل وإلا ابتاع الهوى، وهذا ظاهر؛ لأن من خالف النصوص فله نصيب من اتباع الهوى، النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إنما بعث ليطاع.
إذا تأملت في هذا الزمن، وهو زمن خلافات، والخلافات فيه لا تظهر في صورة معارضة النصوص صريحة كما كان فيما مضى من الزمان.
كان فيما مضى الذين يعارضون النصوص يعارضونها بوضوح، يقولون مثلا هذه حديث آحاد لا نقبلها، هذه أحاديث حسنة لا يحتج في العقيدة إلا بالمتواتر أو إلا بالصحيح لا يقبل الحسن، هذه أقوال للسلف وهي تناسب زمنهم لا تصلح في لا نحكم بما قالوه على وفقنا، أقوال السلف أسلم ولكن أقوالنا أعلم وأحكم، ذلك كان فيما مضى من الزمان.
في هذا الزمان قلّ من يتجاسر على هذه الألفاظ؛ ولكن تجوسر على مخالفة السلف وترك البينات بأنواع أخر.
فترى عند المخالفين احترام لأقوال السلف، ترى عند المخالفين اعتداد بما ينقل عن السلف، ترى عندهم نقلا بل نقولا عما يروى عن السلف، فلا تجدهم يعارضون ذلك؛ لكنهم لا يلتزمونها، والتزموا بأشياء يخالف ما كان عليه هدي السلف، خاصة عند الجماعات الإسلامية التي ظهرت في هذا الوقت.
هذه المسألة لا شك أنها تحتاج إلى بصيرة بما كان عليه السلف، وبما عليه أولئك، أعظم مما كان من قبل، لم؟ لأن الأمر يعني في الأزمنة الماضية كان واضحا، هذا يتهجم على السلف، يقول: هؤلاء لا يصلح، أقوالهم لا تصلح، قواعد العلوم السلفية لا تصلح، وهذه منابذة واضحة، فيكون من تمسك ما عليه السلف يكون على بينة ووضوح.
في هذا الزمان التبس الأمر، اختلط الأمر، صار المنتسبون إلى السلف عندهم شيء جديد ألا وهو التفريط في ما نلتزم فيه بهدي السلف أو بمنهج السلف تفريط في المسائل.
يقولون مثلا: عقيدة سلفية، العقيدة تكون سلفية؛ ولكن المواجهة عصرية.(1/11)
وهذه كلمة من الكلمات التي ظهرت في هذا الزمن، يقولون: نأخذ بسلفية المعتقد؛ ولكن المواجهة نأخذ بها بما يناسب العصر. مواجهة من؟ المواجهة لاشك أنها مواجهة الكفر الشرك ومواجهة من حاد سبيل الله، مواجهة أهل الظلم والطغيان، ونحو ذلك.
مواجهتهم أليست من عظيم المسائل التي يحتاجها المسلم؟ الجواب: بلى؛ هي من عظيم المسائل التي يحتاجها المسلم.
إذن فادعاء أن المواجهة متروكة للاجتهاد ادّعاء بأننا في هذا الأمر لم نكن فيه على قول واضح وبينة ظاهرة؛ يعني أن هذه المسألة ترك فيها للاجتهاد، إذن فالهداية في هذه المسألة بكاملة.
لهذا أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ذكروا في عقائدهم اهتماما بهذه المسألة، ذكروا في عقائدهم كيف تكون المواجهة، أليس عند أهل السنة والجماعة المتحققين بما كان عليه السلف ليس عندهم أن المواجهة اجتهادية؛ بل عندهم أن المواجهة تبع لما جاء في النصوص من أحكام المواجهة.
المواجهة ما معناها؟ إما أن تكون مواجهة جهاد، أو تكون مواجهة إنكار منكر، أو تكون مواجهة خروج على والٍ، أو تكون مواجهة بإنكار منكر، ونحو ذلك، هذه أنواع المواجهات.
هل أنواع المواجهات من هذه مما نحن فيه على بينة من الله؟ أم مما لم تأتنَا؟ ما الجواب؟ الجواب نحن على بينة.
الآيات المكية فيها الكلام على ما يصنع المسلم مع المشركين إذا كان مستضعفا وليس ثم دار هجرة في دار كفر وليس ثم دار هجرة، ولا يستطيع إظهار دينه مثلا، بعض الآيات المكية.
الآيات المدنية فيها بيان قتال المشركين، ومجاهدتهم وما يتصل بالجهاد من مباحث.
وهذه في الواقع، واقع تميز الصف المسلم أو تميز المجتمع المسلم عن مجتمع الكفار.
إذن فهذان الحالان قد بيِّنا أتم بيان في القرآن:
حال يكون فيه المؤمنون بين المشركين؛ لكن تميز لصفهم ولا لمجتمعهم ولا لدولتهم عنهم.
والحال الثانية حال فيه بينونة وتميز للمسلمين ولمجتمع المؤمنين عن مجتمع الكافرين.(1/12)
ما الحال الثالثة؟ هل ثَم حال ثالثة في المواجهات، نعم، إنها إنكار المنكر، وإنكار المنكر بُيّن في السنة؛ بل وفي القرآن أكمل بيان.
فإذن المتّبعون للسلف؛ بل نقول إن هذه المسائل التي ذكرنا وهي مسائل المواجهات، هل هي أو هل أصحابها والمتنازعون فيها هل يدخلون في هذا الآية؟ الجواب: نعم، قال جل وعلا ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? كل من خالف في تلك المسائل فلابد أن تجد عنده تحسينا وتزيينا لعمله، وذلك التزيين والتحسين للعمل عقوبة؛ لأنه خالف البينات، إما أن يكون خالفها عن قصد وعمد بأن عرفها ثم خالف، وإما أن تكون مخالفته لها وتركه لها عن قصور وتقصير في البحث عن الحق، قال جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]، ولا يُعذر المرء بالإعراض عن تطلّب البينات والهدى مع إمكان ذلك، فإذن من خَالف طلب في البينات والهدى والصواب في تلك المسائل، من خالف ولم يطلب أو علم وخالف قصدا فلابد أن يعاقب، ومن أنواع العقوبة أن يزين له سوء عمله والعياذ بالله، وإذا زين له سوء العمل فمعنى ذلك أن يكون تحصيله للحق ضعيفا؛ لأن الواقع في الشيء الذي يرى ذلك الشيء الذي وقع حسنا جميلا، كيف يرى غيره حسنا جميلا فضلا عن أن يراه أحسن أو أجمل، وهذا هو الذي وقع فيه كثيرون اليوم.
إذن فالمسألة مسألة بينات وهدى، وليست مسألة تحسين وحسن وجمال، ليست المسألة آراء، إنّ هذا الأمر طيّب، ينتج نتائج طيبة؛ نراه حسنا لا ليست هذه المسألة عند أهل السنة والجماعة عند السلف، إنما السلف الصالح عندهم الاتباع، إذا اتبعوا فما ينتج عن الاتّباع هو الحسن الجميل وغيره قبيح وليس بحسن.(1/13)
اليوم تنظرون إلى المخالفين إلى منهج أهل السنة والجماعة كثيرون؛ لكن الذين تشتبه مخالفتهم تشتبه على كثيرين، وربما خدع بهم الأكثيرون أو خدع بهم كثيرون هم الذين يحترمون السلف الصالح ويقولون عقيدتنا عقيدة السلف الصالح؛ ولكنهم يخرجون عن منهج السلف في أشياء لا يستحسنونها.
منهج السلف مثلا في مسائل التغيير التي هي مسائل الساعة، ومسائل الإصلاح منهجهم واضح، وهي التي تسمى مسائل المواجهة، نقول نحن فيها: نحن على بينة من ربنا، لا نتركها، فلا تكن في مرية منه إنه الحق من ربك، ما دام أن هذا لنا عليه بيّنات والدلائل، فنحن في مرية منه، فعلينا أن ننظر إلى الاتباع والوسيلة، وليس علينا أن ننظر إلى ما نحصّله من النتائج أو ما نرومه من الغايات، لا؛ لأن الأمر إنما هو أمر عبادة.
نوح عليه السلام ما آمن معه إلا قليل، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يعلم أنه سيهاجر حتى أمره الله جل وعلا بالهجرة، لم يؤمر بعد، يعلم لأصحابه ولا يعلم ما يحكم الله جل وعلا فيه، حتى أمره ربه جل وعلا بالهجرة فهاجر.(1/14)
إذن فنصل من هذا إلى أن هذه المسائل المحدثة ننظر في إليها مطمئنين بتدبرنا في هذه الآية ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? ناقش المخالفين في ذلك، ستجد أنهم يحيلونك على قلوبهم، يحيلونك على عواطفهم يعني يحيلونك على ما تهواه أنفسهم؛ لكن ناقش أهل السنة المتحققين بمتابعة السلف، فستجد أنه وإن كان قلبه يغلي وإن كانت عواطفه جيّاشة فيضع عواطفه وقلبه جانبا وينظر نظر علم بالنصوص، لهذا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يستثار في مكة أفلا نميلن، لو أمرتنا لملنا على أهل منى بأسيافنا؟ أفلا نميل على أهل منى بأسيافنا؟ شكي إليه ما يلقونه، هذه شكوى الشباب؛ لأنهم ينظرون بعواطفهم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما مال فصبّره الله جل وعلا بقوله جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]، يعني أهل الشرك، وقال جل وعلا ?حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء?[يوسف:110] الآية، قال جل وعلا في هذه الآية ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ?، عائشة رضي الله عنها وغيرها يقول إن القراءة ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُواْ? لأن الرسل لا تظن بأن الله جل وعلا يكذبهم ما وعدهم؛ ولكن القراءة المتواترة ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ? وهذه حال يصل إليها المرء بشدة ما يعاني، شدة ما يعاني، يظن أنه قد كذب، لا شكا في وعد الله جل وعلا؛ ولكن ظنا أنه ليس بأهل أن يحقق فيه موعود الله جل وعلا، ?وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ? هذه الحال حال نفسية، حال نفسية، لهذا ثبت النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بسورة هود وثبت بسورة يوسف هو من معه، قال جل وعلا لا في آخر سورة هود ?وَكُلاًّ نَّقُصُّ(1/15)
عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ? هو عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أعلى الخلق مقاما وإيمانا واهتداء احتاج إلى تثبيت ?وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ?[هود:120]، كذلك مَن معه يحتاجون إلى ثبات وتثبيت، تثبيتهم وثباتهم بأي شيء؟ بمتابعة البينات والهدى، بتلاوة القرآن والتدبر فيه، وألا يخرجوا إلى أهواء أنفسهم.
لاشك أن أهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح -رضوان الله على الجميع- أنهم متحققون بذلك، إذا ناقشتهم ستناقش العالم من علماء المسلمين المتابعين للسلف الصالح ستجد أن جوابه جواب من عزل عاطفته وما يظهر فيه عن تحكيم تلك العاطفة وتلك الرغبات على النصوص.
وهذه مسألة من مسائل التوفيق العزيزة؛ وهي أن يوفق طالب العلم أو يوفق العبد إلى أن تكون متابعته للنص، لا أن يكون متابعا لهواه.
ولهذا جاء في الحديث الذي يصحّحه النووي وغيره من أهل العلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» يعني الإيمان الكامل، فإذا كمل الإيمان في قلب العبد، صار هواه وما بحبه ورغبته فيما جاء به الشرع تبعا لما جاء به الشرع.
أما الآخرون لأجل تربيتهم لأجل ما هم عليه، فتجد أن واقع هو يخالف ذلك، العاطفة بها يفهم النص، الظلم الواقع على العبد بها تفهم النصوص، ينزلون النصوص على الواقع الذي ضادّ أو يضاد أنفسهم وهواهم، وهذا لاشك أنه خروج بالنفس على الاتباع إلى تحكيم الهوى، بل هذا يعاقب العبد بأنواع من العقوبات، فإن أمر المتابعة وانتماء العبد لنظره إلى رغبيته وهواه هذا أمر عزيز جدا؛ لأنه هو خلاصة توحيد العبد لربه جل وعلا أن يخلص مما يشتهيه إلى ما يأمره ربه جل وعلا بهذه المسألة يعظم التباع خاصة في هذا الوقت كما ترون.(1/16)
فمن الناس من وفق إلى اتباع سبيل أهل السنة والجماعة أعني السلف الصالح؛ ولكنه لم يوفقوا إلى الطمأنينة لذلك، فتجد في نفسه تردد، في نفسه نزوع، تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، ذلك لأنه لو خبر نفسه وتأمّل وكان طبيبا بنفسه وفي قلبه لوجد أنه تنزع عنده نوازع يحكّم فيها نفسه على الشرع، إذا سألته على البينة لم يجد بينة إلا أن يجتهد في أن يجعل الدليل نبعا لما يهواه، وأهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح هؤلاء يجعلون أنفسهم تبعا للأئمة.
الذين يكون هذه المقالة -التي هي مقالة باطلة-، يقولون: نأخذ بسلفية المعتقد وبعصرية المواجهة، فهذه المقالة تغمض على كثيرين، وهي أن المواجهة من الدين فليس ثم مواجهة عصرية ومواجهة سلفية، المواجهة كلها يجب أن تكون على منهج السلف، ولهذا تجد أن من خالف منهج السلف في نوع المواجهة يحصل له نوع عقوبة، قال جل وعلا في سورة المائدة في وصف النصارى ?فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء?[المائدة:14]، الجماعات المنفصلة عن جماعة الإخوان المسلمين مثلا بتفرعاتها وأشكالها، ألا تجد أن بينهم شيئا من العداوة والبغضاء؟ نعم، إن بينهم ذلك، بعضهم يقدح في بعض حتى إن بعض الجماعات المنفصلة عن جماعات الإخوان يكفّر أصحابُها رؤوس الإخوان لأجل دخولهم في البرلمانات ونحو ذلك، وهذا نوع من الإلقاء والإغراء للعداوة والبغضاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: الفرقة سببها نسيان العباد حظ مما ذكروا به. فإذا نسي العباد شيئا حظا مما ذكروا به بعد أن بينوا به وكان الحجة قائمة عليهم يعاقبون بأنواع من العقوبات وأشدها وقوع الفرقة فيما بينهم، ووقوع الفرقة فيما بينهم، الفرقة التي معها العداوة والبغضاء، ولا شك أن هذا حقا في هذه الأمة وفي تاريخها وحصل في هذا الزمان.(1/17)
التفرق الذي حصل الآن في الأمة المسلمة، طائفة من الذين يدعون إلى عودة الحياة الإسلامية يقولون لابد من اتحاد الأمة الإسلامية، اتحاد الدول الإسلامية، ونحو ذلك، أليس كذلك؟ يطلبون الاتحاد الوحدة وهذه الدول وما فرقها إلا الاستعمار، ما فرق هذه الدول إلا الاستعمار وإلا الأمة واحدة ونحو ذلك، نسألهم لم تفرقوا شيعا وأحزابا؟ أليست الفرقة مذمومة؟ فهذه الفرقة التي تمارسونها في الجماعات والأحزاب أليست فرقة؟ بل هي فرقة تصرف عن الهدى أكثر من صرف تشتت هذه الدول عن الهدى، وهذا ظاهر، سببه اتباع الهوى سببه تزيين سوء العمل، سببه أن المواجهة التي كل الجماعات واقعة فيها -يعني الجميع في مواجهة- أن المواجهة جُعلت عصرية، إذا كان المواجهة عصرية فإذن طريقتي في المواجهة اجتهادية وطريقة الآخر اجتهادية والثالث اجتهادية.
فإذن من كل جماعة لا تعجب أن تنشأ جيوب واتجاهات، لم؟ لأننا جعلنا المواجهة اجتهادية وعصرية، فإذا كان ثم ثلاثة أربعة عشرة يرون رأيا في سبيل من سبل المواجهة، وليس على هذا الرأي أهل الفرقة الأصلية أو الجماعة الأصلية فلم لا يجتهدون هم ويجعلون أنفسهم جماعة يرون أن المواجهة تكون على هذا المنوال.
لماذا خصصت هذه المسألة بالذكر؟ لأن في الوقع من معايشة الشباب في هذه البلاد وفي غيرها وُجدت أن هذه المسألة هي أكثر المسائل( } محرم { )
لا يلزمنا أن تكون مواجهتنا عصرية هذه المسألة التي البلاء فيها اليوم واقع، الناس يعني من على منهج أهل السنة فيها فريقان:
منهم ومن عنده طمأنينة والحمد لله لما دل عليه الكتاب والسنة والبينات فيما في معتقد أهل السنة في طريق إنكار المنكر والكلام على منابذة أهل السنة والجماعة المتابعين للسلف الصالح لطرق الخوارج المعتزلة في الموقف من الولاة ونحو ذلك.(1/18)
وطائفة أخرى اعتراها بعض الشكوك، اعتراها بعض عدم الطمأنينة والقناعة بما دلت عليه البينات، وما جاءت الأدلة وما ذكره أهل السنة والجماعة في عقائدهم، فصاروا إلى مسألة المواجهة والموقف من الحكام مثلا والحكومات الكافرة أو من الولاة الولاة الذين لم يسلب اسم الإسلام وفي الإيمان، ينظرون إلى أن الموقف منهم والمواجهة تكون اجتهادية، وقع في بعض القلوب بعض الاشتباه خاصة عندنا الشباب السعوديين، فذهبوا مذاهب شتى خاصة المذهب الذي يقول أو الاتجاه الذي يقول: إن المواجهة عصرية.
هذه الطائفة الواقع أنه قصّروا في العلم؛ لأن الواجب أن المرء إذا كان عنده شبهة أن يسعى في إزالتها وكشفها، لا أن يجتهد برأيه ويخرج عما دلت عليه الأدلة إلى رأي رآه، إذا ما زالت الشبهة في يوم أو في أسبوع أو في شهر، ليس معنى ذلك أن تترك ما تعلمه أنه الحق لأجل جديد؛ لأجل كثرة المتكلمين به؟ لا؛ بل الواجب أن تبقى على ما كنت عليه إذا قع في القلب شيء من الشبهة تسعى في إزالته، تسأل أهل العلم إذا سأل واحد ولم يكن عنده جواب شافي، اسأل الثاني والثالث لابد أن يكون العلم النافع محفوظا في المتابعين للسلف، إذا جهله بعضهم فلن يجهله الآخرون.
إذن فأقول إنّ هذه الآية وهي قوله تعالى ?أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ? تفرض علينا أن نكون على بينة من ربنا في أمورنا جميعا، وخاصة هذا الأمر العظيم الذي هو أمر المواجهة.
في مصر تعلمون الحوادث التي حصلت وإن كانت حوادث فردية في غالب الأحيان، اجتهادية لكنها قد يكون معجبون بها.(1/19)
أقول من رحمة الله جل وعلا للسلفيين أن هيأ لهم من عنده البصيرة ومعرفة للنصوص ومتابعتها حتى لا تفجعهم هذه الأمور؛ لأن هذه الأمور التي تحدث السياسية أو القلاقل من بعض الإسلاميين أو في المواجهات أو بعض الجماعات ونحو ذلك، هذه قد يعلم قوة [...] الأشخاص، فإذا كان عندك من يقوده قيادة صحيحة فهذا من أنواع منة الله جل وعلا علينا، لهذا لو كان المرء لوكل في نفسه لتخطفته الأقوال والآراء الكثيرة التي نراها اليوم.
لهذا أوصي في آخر هذه الكلمة التي طالت، أوصي أن نكون على بينة من ربنا في جميع أمورنا، البينة قائمة والحجج واضحة؛ لكن المطلوب من العبد أنه يسعى في أن تكون نفسه مطمئنة بتلك البينات؛ لأن النفس إذا كانت مطمئنة لم يصرفه أحد لا يمنة ولا يسرة.
واليوم كثرت الأقوال وكثرت الآراء وكثرت الكتب وكثرت المجلات وكثرت النشرات وكثرت المحاضرات، وإذا سمعت لكل أحد فمعنى ذلك أنك عرضت دينك للتنقل، كما قال الإمام مالك رحمه الله من أكثر الخصومات أكثر التنقل، من أكثر الخصومات يعني أكثر السؤال والخصومة في المسائل أكثر التنقل.
وقال أيضا: إذا رأيت أهل الجدل فإياك وإياهم. قال رجل له يعني للإمام مالك: أرأيت الرجل منا يكون معه السنة أيجادل عليها؟ قال: لا، يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت، لم؟ لأن من ليس معه السنة، لن يجادلك بالسنة، سيجادلك بالرأي بالهوى وبالعقل، والمجادلة بالرأي والعقل والهوى تصرف كثيرين؛ لأنه ليس عند أكثر الخلق قوة العقل والإدراك ما تكون الحجة العقلية مدفوعة بحجة عقلية أخرى، فلهذا يكون الأمر على الإخبار بالسنة.(1/20)
في هذا الوقت كثرة المجادلين وكثر الآراء يجب علينا بعد أن من الله علينا تكرما منه وتفضلا، أن نكون على اطمئنان بما عليه سلفنا، على اطمئنان من عقائدنا، على اطمئنان بما جاء وذكره أئمتنا ومشايخنا وعلماؤنا، وأن ننصرف عنه، لا برأي ولا باجتهاد ولا بعقل؛ لأن هذا لا الطريق تابعنا فيه والمتابعة عبادة، وأصحاب الطرق الأخرى اجتهدوا والاجتهاد في هذه المسائل مردود مذموم إلا إذا كان اجتهادا فيما ليس فيه نص.
السلفيون إذا تابعوا فإنهم بإذن الله جل وعلا لن يعاقبوا، قد يبتلون ابتلاء من الله جل وعلا للتمحيص، لكن إذا تابعوا وحرصوا كدعوة أن يَلتزموا بها وأن يُلزموا من معهم بها بأصولها وعقائدها ومنهجها فإنهم بإذن الله وبتوفيقه لن يعاقبوا، إذا ابتلوا فالابتلاء لاشك قد يقع بأكمل الناس.
إذا نظرت إلى غيرهم فإنهم قد خلط في حقهم بين العقوبات وبين الابتلاء.
ولهذا نعود وأكرر أنه في خضمّ هذه الموجات العالية في هذا الوقت والاتجاهات المتباينة الوصية الوصية بالمتابعة للمتقدمين، والوصية الوصية بالحذر من المحدثات وأصحاب المحدثات خاصة في هذا الطريق الجديد أول كلمة جديدة التي قيل فيها عصرية المواجهة.
عصرية المواجهة أوش معناها؟ يعني إذا احتجنا في المواجهة إلى مظاهرات؟ لا بأس نعمل مظاهرات، نعمل، عصرية، إذا ما خرج السلف نخرج؛ لأن هذا من أنواع المواجهة العصرية، الزمن اقتضى ذلك، الأوضاع والارتباطات وواقع الدول ونحو ذلك اقتضى ذلك، فهذه المسائل وما يدخل تبعا لها من اجتهادات وآراء، لابد أن نكون معها على بينة.(1/21)
المسألة الأخيرة الحذر الحذر من الاستعجال؛ لأن مما يُغرى بها السلفيون أنهم بطيئون، بطيئون يمشون في دعوتهم مشي كما يقال مشي [...] بطيئين ما أحدثوا وما غيروا ما عملتم، ماذا قدمتهم؟ كيف واجهتم هذا الطغيان؟ كيف واجهتم هذا الظلم؟ كيف واجهتم هذه الحكومات الظالمة الحكومات الفاسدة التي فعلت وفعلت؟ كيف واجهت هؤلاء الطغاة والحكام؟
تأتي هذه الأسئلة ويأتي كثير من السلفين ويحتار، إذا كان على طمأنينة فيعلم أن المقصود أن يكون متابعا لا المقصود أن يصل إلى الغاية، إذا كان من أصحاب الاعتقادات من أصحاب المجادلات أو السماع فإنه قد يغرى بتلك الكلمات.
فإذن الحذر الحذر من الاستعجال، فإن ميزة المنهج السلفي في هذا الوقت أنه منهج يسير على خطاً ثابت في دلائلها ليس من المنهج العجل ولا يستخفه الحوادث ولا تستخفه المواقف ولا التغيرات، إنما سيسر بالمنهج واضح، حادثة تغيرات سياسية أقوال حوادث، يعلم دعاة السلفيين وقادة الدعوة أنه في عمر الدعوة قصيرة؛ سنة سنتين ثلاث، مثلا أزمة الخليج مرت سنة سنتين ثلاث هي في عمر الدعوة قصيرة، كيف أجعل الدعوة التي عمرها طويل أجعلها في طواعية هذه الأزمة التي ستنتهي قريبا؟ كيف أجعل الدعوة منفعلة بحادث منفعلة بموقف منفعلة بأحداث؟ لا يجوز ذلك.
الدعوة تسير على أصولها، ولا تنفعل بالأحداث ولا تتأثر بها، تؤثر الدعوة السلفية بالأحداث ولا تتأثر بها.(1/22)
وهذه الجملة لعلي أفصل الكلام عليها في المرة القادمة، وهي أعني هذه الجملة هي: أن الدعوة السلفية تتميز وتأثيرها في الأحداث وعدم تأثرها بالأحداث.بخلاف الدعوات الأخرى، الدعوات الأخرى مواقفها منفعلة بالأحداث، خططها المستقبلية الدعوية المرحلية تنفعل مع الأحداث، بحسب ما يجد يجددون، بحسب ما يحدث يفعلون، وهذا لاشك أنه ليس من طرق السلفيين، وبسب ما يظن أن طرق السلفيين وطريق الدعوة السلفية هو الذي هو الأمر الذي أمرنا به، وهو أن تكون طريقتنا على المنهج الصحيح سنصل ما نصل تحصل الغاية ما تحصل ليس علينا ذلك.
استغفر الله جل وعلا لي ولكم من زغل القول وزغل العمل وأسأله لي ولكم التوفيق والسداد.
وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد.
?????
هذه الآية وهي قوله تعالى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ?[غافر:55]، فيها أن الله جل وعلا وعده حق، وهذا الوعد لا شك أنه سيكون؛ يعني ما وعد الله جل وعلا به حاصل لا محالة، وما قدّره الله جل وعلا على العباد إما من ابتلاء ومصايب أو من تأخر موعود الله جل وعلا، أو من بعض ما لا يؤنسهم في الدنيا، هذا ليس إلى العبد إنما هو من الله جل وعلا، والذي على العبد أن يسعى فيما أمر به شرعا، وأن لا ينظر إلى ما يجعله الله جل وعلا قدَرا، فثم شرع شرعه الله جل وعلا وهو أمر هذا نحن مكلفون به امتثالا له واتباعا وطاعة، وأن ما يفعله الله جل وعلا ويخلقه ويقضيه ويقدره فهذا ليس إلينا، قال جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60] وقال جل وعلا ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ?[الأحقاف:35].(1/23)
بهذه الآيات جميعا تلحظ فيها أن الله جل وعلا يصرف العباد عن رؤية ما قدّره إلى رؤية ما شرَعه؛ يعني امتثالا واتباعا، في آية سورة المؤمن هذه قال جل وعلا ?وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ?[غافر:55]، قبلها قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:51]، هذا وعد الله هذا وعد، الذين آمنوا بنص الله جل وعلا أنهم منصورون ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173]، هذا وعد الله قال جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ? وعد الله بذلك حق وعليك الصبر، ما الذي تؤمر به؟ قال جل وعلا ?وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ? والاستغفار والتسبيح في هذا الموضع؛ يعني ملازمة الهدى وترك كل السيئات والبعد عن جميع ما لا يحب الله جل وعلا ويرضى، فأمر بالاستغفار وبملازمته والاستغفار يحدث الطمأنينة ويحدث البصيرة وينزل توفيق الله جل وعلا على العبد، فبالاستغفار يتّضح الأمر، وبالاستغفار يقوى العقل، لهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله ابن تيمية: ربما استعصت عليّ المسالة في مسائل العلم فأستغفر الله ألف مرة حتى يفتح لي مغلقها. يستغفر لأجل الفتح، فبالاستغفار يتيسر الأمر، موعود الله جل وعلا القدري لابد أن يكون؛ لكن على العباد أن يسعوا في وسيلته، ومن وسائله أن يكونوا مستغفرين لله جل وعلا، واستغفار الله جل وعلا استغفار العبد ربه فيه أن العبد محتاج إلى ربه، فيه أن العبد يستعظم لذنبه، فيه أن العبد محتاج إلى ربه، ففي الاستغفار عبوديات قلبية متنوعة، الاستغفار فيه ذل العبد لربه، الاستغفار فيه استكانة العبد وانكساره بين يدي ربه، وفي(1/24)
التسبيح بعده ملازمة الهدى والطاعة قال ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ? ملازمة الطاعة، إذن فأنت مأمور بملازمة الطاعة، وأما رؤية القدر متى يكون قدر الله متى يكون ما وعد الله جل وعلا به، فهذا ليس لنا وإنما عليك وإليك الصبر لا غير. والله أعلم.
على كل حال الأخ يطلب الشريط أنه يؤذن في توزيعه يكون بشرط أن يراجعه الشيخ أحمد والشيخ وليد يراجعان الشريط مرة أخرى، فإن رأوا أنه مناسب الأخطاء لأن المتكلم قد يخطئ أو قد يوجد أخطاء ليس لها تبعة لمن يسمعه فلا بأس وإذا كان في ذلك فلا يجوز.
الشريط بالمناسبة أخاف منه أنا كثيرا، ولذلك في الدروس والمحاضرات سواء في الرياض أو في غيرها أسحب الشريط أو لا أأذن بالتسجيل، والسبب أن تبعاته كبيرة جدا لهذا إذا روجع الشريط من قبل من يحسن الفهم والتصور وقال أنه مناسب لا بأس.
بعامة أي شريط تسمعونه تسمعه لي وفيه شيء أخطاء من الأخطاء فلا أسمح بتاتا ولا أبيح من يساعد في نشره، هذه وصية للجميع سواء هنا أو في مصر في أي مكان.
هذه وصية أظن مقبولة؛ لأن هذه المسألة ليست سهلة عندي لأن الأخطاء هناك أخطاء تكون مثلا زلة لسان ما لها تبعة؛ لكن أحيانا خطأ لفهم، تكلم في مسألة ذهب ذهنه المتكلم إلى شيء آخر فقررها خطأ، هذا لا ما أسمح به؛ لأن المتكلم أحيانا يخطئ، ما بلغنا من العلم أن تكون جميع المسائل التي نذكرها من الوضوح بحيث يكون الخطأ فيها نادر أو قليل.
لهذا نقول: إن المسائل التي ذكرتها فيها خطأ ولو كان خطأ لسان لكن يُتصور عند السامع أنه ليس خطا لسان أنه تقرير؛ فهذه لا يؤذن بنسخ الشريط ولو كان خطأ واحد والبقية كله نافع. إلا إذا رأيتم حذفها ونحو ذلك بمسح الشريط هذا يرجع لكم.(1/25)
وأرى أن هذه ما تقتصر علي أيضا على جميع المشايخ وطلاب العلم؛ لأن الشريط تبعته عظيمة يسمعها ألف ألفين عشرة آلاف، موش سهلة، أليس كذلك المسألة عظيمة لهذا الكلام المسجل حجة أكثر من الكلام المسموع لأن الكلام المسموع إذا التبس عليك فهمها، خلاص انتهت سمعتها مني وانتهت فتصحيحها أو فهمها مرة أخرى فتصحح، أما شريط ترده مرة مرتين ثلاث مرات فيوقع في الالتباس.
وكثير من الذين وقعوا في التباسات في الفهم من جراء بعض المحاضرات في الأشرطة لأنهم ظنوا أن كل معلومة في الشريط ما لم تكن من العلماء الكبار المحققين أنه كلها صحيحة فينبغي الحذر في هذا.
?????
س/ سبب اللجوء ما سبب لجوء الشباب إلى هذا المصطلح الجديد عصرية المواجهة رغم سلفية معتقدهم؟
ج/ هناك أسباب عدة، منها ما رأيتم الإفصاح عنه في هذا المجلس ومنها ما لا يمكن بيانه.
من تلك الأسباب ضيق النفس في الواقع والرغبة في الخلاص منه، الواقع في الأمة اليوم ويعيشه المسلمون سواء من جهة الأحكام أو من جهة الناس أو من جهة الحكومات، هذا لاشك أنه واقع يضغط على نفس أي مؤمن في قلبه اهتمام ويَقصره ربما على أشياء أكبر، ما لم يكن عنده قوة من اليقين والعلم بتوفيق الله جل وعلا، هذا الضغط أنتج أشياء منها الرغبة في الخلاص من هذا الواقع المرير، الرغبة في الخلاص في هذا الواقع المرير، لأجل الخلاص من هذا الواقع المرير تنوعت الفئات والاتجاهات والجماعات، فصار السبيل للخلاص منه يختلف فيه الناس، أحد تلك السبل أو السبيل من تلك السبل خرجوا على المعتقد الصحيح خرجوا بهذا المصطلح فمن أسبابه ضغط الواقع.(1/26)
من أسبابه بالنسبة ظهور المصطلح قلة العلم؛ لأن العلم كلما كان قويا كلما جعل الله في نفسه أقل في الاجتهاد أكثر، فتجد أن العلماء الكبار أقل من الشباب اجتهادا والشباب أجسر في الاجتهاد من العلماء المتقدمين؛ لأن العالم كلما رسخت قدمه في العلم كلما كان أحرص على المتابعة، لم؟ لكي يخلص من التبعة، يعني تبعة الاجتهاد الآراء الأقوال ليست بسهلة، يتبعه واحد عشرة ألف ألفين ثلاثة آلاف ليست بسهلة، فكلما كانت قدم العالم أرسخ كلما كان خلوصه عن الاجتهاد أكثر، ورغبة في الاتباع إلا إذا وجد أنه لا مناص من الاجتهاد في المسألة لعدم مجيئها في النص.
س/ يقول السائل: ..سلفية معتقدهم؟
ج/ سلفية المعتقد في الواقع كلمة مطاطة، سلفية المعتقد كلمة فيها شيء من السعة، بحسب رغبة المتكلم؛ لأن السلف لهم أبواب في مسائل الإيمان باب، باب الإيمانـ الأسماء والصفات باب من أبواب المعتقد، نتهج التلقي من أبواب المعتقد، الكلام في الغيبيات وما يتعلق بها هذه من أبواب المعتقد، هذه الأبواب تجد أن الملتزم بها اليوم كثير.
لكن هناك أبواب كتب العقيدة للسلف منها مثلا في مسائل الإمامة والولاية وما يتعلق بها، منها مسائل إنكار المنكر ومخالفة أهل السنة والجماعة للمعتزلة وللخوارج وما شابههم في طرق إنكار المنكر، ومنها الكلام في الأخلاق وما يتبع ذلك، لشيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية هذه ذكر عدة أشياء، منها فصل في الإمامة وما يتعلق بها، وفصل في إنكار المنكر وما يتعلق به، مخالفة أهل السنة للمبتدعة في ذلك، ومنها كلامه في الأخلاق وما يتعلق بذلك، ومنها أن أهل السنة والجماعة يبغضون التفرق والتحزب ويأمرون بالاجتماع والائتلاف.(1/27)
إذن إذا قالوا: نحن على معتقد السلف الصالح، نقول: الاختبار أن نأخذ أبواب معتقد أهل السنة والجماعة نبحث فيها الباب الأول الباب الثاني إلى أن تصل إلى هذه الأبواب، هل يلتزم بها أولئك بهذه الأبواب، تجد أنهم مثلا إذا أتت إلى مسائل الإمامة يفسرونها بالإمامة العظمى؛ يعني بعضهم يفسرون الإمامة الإمام الذي له الحق الإمام الأعظم الذي تجتمع عليه الأمة، وهذا مخالف لما جاء في السنة، مثلا في مسائل إنكار المنكر فيه أشياء مخالفة لما ذكروا.
حتى إنه من العجيب أن بعضهم استدل للمظاهرات وتجويز المظاهرات في الدعوة وأنها وسيلة من وسائل الدعوة بأي شيء؟ بما نقل في التاريخ بأن عوام بغداد خرجوا وفعلوا كذا وكذا، يعني أهل بغداد خرجوا وفعلوا وكسروا، وأهل دمشق خرجوا وعملوا ، هذا منهج جديد من الاستدلال.
نقل عن عوام في بلد من البلاد، يقولون: لم يزل التاريخ يحدثنا أن أهل دمشق خرجوا واجتمعوا إثارة للواليـ ولم يزل التاريخ يحدثنا أن أهل بغداد خرجوا حتى ذهبوا...
ما هذا يعني دخول مسألة مقررة ويذهب يتلمس إلى شيء من التاريخ، والعجب أن يقتنع ناس بمثل هذا.
كيف فهت أنها دليل على المظاهرة، المظاهرات ما هي؟ ليست إظهار الدين، المظاهرة المطالبة بأشياء، المشكلة هذا تلمس، واحد يكون على شيء مقرر عنده شيء، ويبحث إذا قرأ في السيرة شيء قال هذا ...
عنده مبدأ السرية يأتي إلى قصة أبو بكر وأنه لما أتت أحد الصحابيات، أحد الصحابيات أتت تسأل عن أبي بكر....(1/28)
المقصود أن حال بحادث سيرة أُستدل به على السرية، سمعنا الاحتجاج به في وقت مضى، يأخذون مثل هذه الحوادث التي عند أهل العلم تحتمل أشياء كثيرة لا يكون بها الاستدلال ولا الحجة ولا البرهان، فتجد أنه يقرر عنده شيء وهذا اتباع الهوى أنه تقرر عنده شيء وطريقة اجتهادية عقلية أخذها لنفسه، وإذا ناقش أو حصل سؤاله كيف، ذهب يتلمس هذه من السيرة هذه من كلام العلماء، هذا بلا شك ليس هو سبيل الاحتجاج الصحيح، الحجة الصحيحة واضحة من الله جل وعلا وبكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كلام الصحابة ولا معارض له، أو من كلام أحد أئمة أهل السنة، وأيضا لا يخالفه في الدليل.
نختم بهذا، وأرجو أن يصير اللقاء
?????
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) انتهى الشريط الأول.(1/29)
مقاصد السّور وأثر ذلك
في فهم التفسير
[شريط مفرّغ]
والتفسير أبوابه كثيرة ومختلفة، ولكن قلَّت العناية في هذا الزمن بالتفسير؛ لأنّ كثيرين يظنّون أنّهم يعلمون كلام الله جل وعلا، ولا شكّ أنّ الذي يعلم كلام الله جل وعلا، ويعلم معانيه، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه، سيكون ملتذًّا بهذا القرآن مقبلا عليه، يطمئن قلبه وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، و?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا?[الكهف:1]، حمدا كثيرا دائما ما تتابع الليل والنهار، كلّما حمد الله جل وعلا الحامدون، وكلّما غفل عن حمده سبحانه الغافلون.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل ربي جل جلاله -وهو المجيب لمن سأل، والمعطي لمن أقبل- أن يجعلني وإياكم ممن بارك قولهم عملهم، وأن لا يكلنا لأنفسنا طرفة عين، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُلزمنا كلمة التقوى في الحياة والممات، إنّه سبحانه جواد كريم.
كما أسأل ربي جل وعلا أنْ ينفعني وإياكم بما نسمع أو نقرأ من العلم، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، وأن يقيمنا على دينه ما أبقانا.
ثم إنّ من أنواع البركة التي يُفيضها الله جل وعلا على خاصة عباده أن يمن عليهم بمحبة العلم، ومحبة تداركه، والإقبال على ذلك، وحقيقة العلم هو العلم بكتاب الله جل وعلا وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذْ لا أرفع بالكلام ولا أعظم قدْرا من كلام ربنا جل وعلا، ولا أعظم ولا أرفع بعده من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم، فالموفَّق والمبارَك من علم وعمل واجتهد في ذلك حتى يصيب منه ما كتب الله له، «واعملوا فكل ميسر لما خلق له».(2/1)
ولهذا وصف الله جل وعلا كتابه بأنه مبارَك، وجعل من أصناف بركته التي أنزلها سبحانه وتعالى أنْ أنزل هذا الفرقان، كما قال سبحانه ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?[الفرقان:1]، وكما قال جل وعلا ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[ص:29]، وقال أيضا جل جلاله ?وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ?([1]) ونحو ذلك من الآيات التي فيها وصف القرآن بأنه مبارك؛ يعني كثير الخير لمن أقبل عليه، ففيه شفاء الصدور، وفيه شفاء القلوب، وفيه الهداية، وفيه التوفيق لمن أرد الله جل وعلا أن يوفقه.(2/2)
وفي الآية التي ذكرنا وصف الله جل وعلا كتابه بأنه مبارك وأنه أنزله لأمرين فقال سبحانه في سورة ص (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) واللام هنا هي لام (كي)؛ يعني أن العلة من إنزال القرآن وجعله مباركا أن يتدبر العباد هذا القرآن؛ أن يتدبروا آياته، ثم لكي يتذكر أولوا الألباب، وهذا فيه عِظمُ شأن تدبر القرآن وعِظمُ شأن التذكر حين التلاوة، وهذا إنما يكون بالتدبر، فلا تذكر إلا بتدبر القرآن، ولكن خَصّ الله جل وعلا في التذكر؛ خَص أولي الألباب فقال (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، وفي الحقيقة أنّ الذي يتذكر بعد التدبر ويقبل على القرآن هو العاقل وهو ذو اللب؛ الذي بلغ الغاية في ذلك، وقد سئل أحد سادات التابعين في الكوفة، فقيل له -أظنه إبراهيم النخعي- فقيل له: من أعقل الناس؟ من أعقل الناس؟ فقال: أعقل الناس فلان الزاهد. فذهبوا لينظروا من عقله، ولينظروا من أمره، فما وجدوه إلا مقبلا على القرآن، وعلى أمر آخرته، فعُلم أن قصد إبراهيم أنّ أعقل الناس هو من أقبل على أشرف الكلام، وأقبل على أشرف مقصود وهو الدار الآخرة، ? تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ?[القصص:83] فحضّ الله جل وعلا في هذه الآية على تدبر القرآن.
وموضوع هذه المحاضرة أثر من آثار تدبر القرآن عند أهل العلم؛ لأنّ الموضوع الذي سنتناوله يبحث في: علم مقاصد سور القرآن وأثر هذا العلم بالمقاصد في فهم التفسير.(2/3)
ومعلوم أن التفسير إنما هو بتدبر القرآن، فالذي يعلم التفسير لا شك أنه قد تدبر قبل ذلك، فعلم إذا كان عنده أهلية بالعلوم التي ينبغي توفرها في المفسر، والناس بعد ذلك نقلة أو يتلقون ما قاله المفسرون، فلما حضّ الله جل وعلا على تدبر القرآن وجب حينئذ أن يُقبل العباد بعامة وأن يُقبل العلماء بخاصة على هذا القرآن، ليخرجوا كنوزه؛ لأن القرآن حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، ويخرج منه بقدر العلوم وبقدر ما فتح الله على عبده يخرج منه من الفهوم ومن العلم؛ ما هو تفصيل وبيان لبعض كلمات المتقدمين من الصحابة والتابعين مما قد لا يدركها كل أحد، وهذه الجملة يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
فإذن علم التفسير من العلوم المهمة، وها أنتم تستقبلون دورة علمية، أو دروسا علمية في هذا المسجد المبارك في علوم شتى؛ من علم التوحيد، والحديث، والمصطلح، ونحو ذلك مما هو معلوم، وعلم التفسير أيضا أنتم بحاجة إليه؛ لأنّ القرآن هو أعظم ما يقبل عليه، فإذا علمت القرآن علمت الشريعة، ولهذا قال طائفة من العلماء: المفسر يحتاج إلى علوم كثيرة:
?منها علم اللغة؛ لأن القرآن أُنزل بلسان عربي مبين ?حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ?[الزخرف:1-4]، واللغة أقسام: منها النحو، ومنها علم المفردات، ومنها البلاغة بأقسامها الثلاثة، منها [الاستقراء]، إلى آخر علوم اللغة.
?ثم علم التوحيد الذي هو الأساس، فالقرآن كله في توحيد الله جل وعلا، من أوله إلى آخره كله في التوحيد، وذلك أن القرآن:
? إما أن يكون ما فيه خبرا عن الله جل وعلا؛ وعن صفاته سبحانه وتعالى، وعما يستحقه جل وعلا من توحيده بالعبادة، والبراءة من الشرك وأهله، ونحو ذلك، فهذا واضح بأنه في توحيد الله جل وعلا.(2/4)
? وإما أن يكون ما فيه خبرا عن أنبياء الله جل وعلا وعن رسله وعن قصصهم، فهذا خبر عن أهل التوحيد، وما جعل الله جل وعلا لهم؛ جعل لهم في الدنيا من الأحوال والعاقبة ?وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[فصلت:18].
? وإما أن يكون وهو القسم الثالث؛ أمرا ونهيا؛ أمر بأداء الفرائض، ونهي عن ارتكاب المحرمات، وهذا في حقوق التوحيد ومكملاته؛ لأن من وحد الله جل وعلا أطاع الله في أمره وانتهى عن نهيه وتخلص من داعي شهوته وهواه.
? والأمر الرابع خبر عن الأمور الغيبية، وما يحصل بعد الممات من النعيم والعذاب، ومن الجنة والنار، ومن [الحظور والشرور]([2]) لطائفة، ومن العذاب والنكال لطائفة، فهذا جزاء الموحدين وهذا جزاء المشركين.
وهذا المعنى العام من العلوم المهمة للمفسر؛ لأن سور القرآن لا تخرج عن هذه الأحوال الأربعة، فكل سورة إما أن تتناول هذه الأقسام الأربعة، وإما أن يكون فيه؛ يعني في السورة بعض من هذه الأقسام.
?والعلم الثالث العلم بالسنة لأن السنة مفسرة للقرآن ومبينة له.
?والعلم الرابع العلم بالفقه وأحكام الحلال والحرام والعبادات والمعاملات؛ لأن القرآن فيه آيات كثيرة في هذا الباب.
?والعلم الذي يليه؛ علم الجزاء يوم القيامة وأحوال الناس فيه، وهذا في القرآن منه الشيء الكثير.
? ثم علم أصول الفقه والعلوم المساعدة لأصول الفقه؛ لأن بها فهم كثير من آيات الله البينات.
إذا تبين لك هذا فإن المفسر الذي تكونت عنده حصيلة راسخة من هذه العلوم يمكنه أن يتدبر القرآن، وأن يكون مستخرجا لما فيه من الدلالات والعبر وموضوعات السور ومقاصد الصور، كما سيأتي بيانه، مكتفيا في ذلك بما فسّر به الصحابة والتابعون كتاب الله جل وعلا.(2/5)
لهذا فإن موضوع هذه المحاضرة هو موضوع في التفسير، والتفسير أبوابه كثيرة ومختلفة، ولكن قلَّت العناية في هذا الزمن بالتفسير؛ لأن كثيرين يظنون أنّهم يعلمون كلام الله جل وعلا، ولا شك أن الذي يعلم كلام الله جل وعلا، ويعلم معانيه، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه، سيكون ملتذا بهذا القرآن مقبلا عليه، يزن قلبه وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن.
إذن فالوصية في مقدمة هذه الدروس العلمية أن يهتم الجميع في القرآن حفظا وتلاوة، ثم الاهتمام بتدبر القرآن وتفسيره عبر كتب التفسير المعتمدة، وخاصة كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم والمأمونين من أئمة أهل العلم والدين والتفسير.
الموضوع كما سمعتَ؛ مقاصد السور، العلم بمقاصد السور لم ينص عليه الأوائل، وإنما اعتبره الصحابة والتابعون –بالاستقراء-، اعتبروه في تفسيرهم، ولكن لم ينص على هذا العلم بهذا الاسم إلا عند المتأخرين، وذلك شأن جميع العلوم، فإن العلوم كانت ممارسة عند السلف، لكن لم تكن التسمية موجودة، فعلم النحو كان ممارسا ولم يكون موجودا، البلاغة كانت ممارسة ولم تكن موجودة، علم أصول الفقه كان ممارسا في بعض الأحكام من القواعد الأصولية ولم يكن موجودا بهذا الاسم، وهكذا في علوم القرآن في أنحاء شتى، ومصطلح الحديث وعلوم أخرى.(2/6)
فما المقصود بعلم مقاصد السور؟ معلوم أن الله جل جلاله هو الذي تكلم بهذا القرآن وأن القرآن كلامه ?وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ? فالقرآن كلام الرب جل جلاله، ومقاصد السور يُعنى بها عند أهل هذا العلم: الموضوعات التي تدور عليها آيات سورة ما. يعني أن سورة من السور التي في القرآن أو أن معظم السور أو كل السور لها موضوع تدور عليه الآيات والمعاني التي في هذه السورة، إذا عُلم هذا المقصد؛ يعني هذا الغرض هذا الموضوع، فإن فهم التفسير سيكون سهلا، بل سيفهم المرء كلام الأولين، وسيفهم كلام المحققين بأكثر مما إذا أخذ الآيات مجردة عن موضوع السورة كما سيأتي في مثال نستعرضه إن شاء الله تعالى.
وأصلا في بحث مقاصد السور لم يكن بحثه في تاريخ العلم مبكرا، فإنما بحث قبله بُحث يسمى المناسبات، والعلماء اختلفوا في موضوع المناسبات، ويعنون بها مناسبات الآي؛ هل الآية هذه جاءت بعد الآية لمناسبة؟ هل بين الآية الأولى والثانية رابط؟ والثانية والثالثة بينها مناسبة؟ هل هذه الآيات في نظامها بينها وبين موضوع السورة اتصال؟ هذا يبحث في علم التفسير ويبحث في إعجاز القرآن، ولهذا عد طائفة من العلماء أن من وجوه إعجاز القرآن، وهو المنزل آية وبرهان ومعجز للخلق أجمعين، أنّ من وجوه الإعجاز أن يكون للسورة موضوع تدور عليه، وأن يكون بين الآيات ترابط هذه الآية بعد تلك، هذه القصة بعد تلك لغرض معلوم.
لهذا قلّ من يطرق هذا الموضوع من المفسرين أو من العلماء ولعدم كثرة طرقه أسباب منها:(2/7)
أولا: فيه نوع من الجرأة على كتاب الله جل وعلا، ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أنّ السور ليس لها موضوعات، وإلى أنّ الآيات لا تناسب بينها، وهذا قال به قليلون وغُلطوا في ذلك، فموضوع السورة يحتاج إلى قراءة السورة عدة مرات وتدبر ذلك ومعرفة كلام العلماء في التفسير حتى نفهم هذه السورة ما الموضوع الذي تدور عليه.
السبب الثاني: أن كثيرين من أهل العلم لم يتناولوا التفسير إلا عبر مدرسة تفسير الآيات، ومدرسة تفسير الآيات منقسمة إلى مدرستين؛ مدرسة التفسير بالأثر ومدرسة التفسير بالاجتهاد، وكلها راجعة إلى تفسير الآية وتفسير الكلمات في الآيات، أما الربط بين الآيات فلم يكن من مدارس التفسير المعروفة، ما صار له ذكر ولا قوة عند أهل العلم بالتفسير.
والسبب الثالث في عدم اشتهار هذا الموضوع: أن من تجرأ وكتب فيه من أهل العلم، وقال: إن للآيات تناسب وإن للسور موضوعات. رد عليه طائفة من العلماء وغلطوه بل ورموه بالقول على الله جل وعلا بلا علم، فهاب كثيرون أن يدخلوا هذا المضمار؛ لأجل براءة الذمة، ولأجل ألا يحملوا أنفسهم ما لا يطيقون، وهذا مقصد صائب.
ولغير ذلك من الأسباب.
ولهذا نقول العلماء في موضوع تركيب الآيات، والتناسق بين الآيات، وأن هذه الآية بعد هذه الآية لغرض، وأن هذه القصة بعد هذه القصة لغرض، وأنّ القصة لها موضوع ومقصد، اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقوال:
أما القول الأول: وهو أنه لا تناسب بين الآيات، بل تنزل الآية بحسب الوقائع، وتوضع في المصحف بحسب ما يأمر الله جل وعلا جبريل به فيأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ضعها في سورة كذا في موضع كذا، وأنّ هذا بحسب الوقائع وحسب الأحوال، ولا يقتضي ذلك تناسبا بين الآية والآية، وصلة بين الآية والآية.(2/8)
والقول الثاني: أنّ سور القرآن لا تخلو سورة إلا ولها موضوع، وليس ثم آية وبعد آية إلا وبينها تناسب وصلة، وأنه بين أول السورة وبين ختام السور تناسب، وأنه بين آخر السورة وأول السورة التي تليها تناسب واتساق في الموضوع، وأنه إلى آخر الأسرار واللطائف في علم التفسير، مما جعلوا ذلك لا يخرج عنه شيء البتة، وهذا قول قليلين من أهل العلم منهم البقاعي فيما صنف في نظم السور، والسيوطي وجماعة ممن قبلهم وبعدهم.
والقول الثالث: وهو القول الوسط وهو أعدل الأقوال، أنّ سور القرآن منها سور يظهر للمجتهد؛ يظهر للعالم بالتفسير، يظهر له موضوعها، ويظهر بين آياتها من التناسب، فهذا إذا ظهر لا حرج في إبدائه؛ لأنّ الله جل وعلا جعل القرآن محكما ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ?[هود:1]، فالقرآن كتاب لو بحثت فيه عن خلل لو بحثت فيه عن عدم اتساق لن تجد ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82]، فإذا ظهرت المناسبة وظهر الموضوع فلا مانع أنْ يقال هذه السورة موضوعها كذا، وهذه الآية بينها وبين ما قبلها المناسبة الفلانية، بحسب ما يظهر للعالم بالتفسير وللمجتهد، دون أنْ يكون الهمّ تطلّب ذلك والتكلف فيه؛ لأن التكلف فيه قد يُفضي إلى القول في المسألة بلا علم والاجتهاد فيما لا طائل منه وقد يكون الاختلاف فيه كبيرا.(2/9)
وهذا القول الثالث هو القول المعتدل الذي سلكه طائفة من العلماء في التفسير والعلماء بالاجتهاد، ومنهم ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وجماعة من المحققين في التفسير، ويظهر لك صوابه فيما إذا نظرت إلى الكتب المؤلفة في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور ونحو ذلك، فإنّ فيها أشياء متكلّفة، وفيها أشياء يتضح حسنها؛ بل إذا نظر ت إليها وتدبرت ما قيل من المناسبات والاتصال بموضوعات السور زادك يقينا بأنّ هذا القرآن إنما هو كلام الله جل وعلا، وإذا قرأت السورة أحسست بتأثير فيها ليس كتأثير من لم يعلم موضوع السورة ولا تناسب الآيات فيما يُذكر.
لهذا نقول إن هذه الأقوال الثلاثة المختار منها الثالث، وهو الذي يهم أن تعتني به من كلام أهل العلم؛ لأنّ فيه الفائدة المرجوّة إن شاء الله تعالى.
المصنفات في هذا الباب كثيرة، حتى زعم ابن العربي المالكي وهو من أهل الأندلس قد اتصل بالمشرق في فترة من عمره، زعم أنه كتب كتابا –زعم بمعنى قال؛ لأنّ زعم لا تعني التكذيب، زعم في اللغة بمعنى القول كما في الحديث الصحيح «أتانا رسولُك يزعم أنّك تزعم أنّ الله أرسلك»، قال العلماء بأن الزعم يستعمل بمعنى القول–، المقصود من هذا أن ابن العربي المالكي صاحب أحكام القرآن، وعارضة الأحوذي، وشرح الموطأ وكتب كثيرة معروفة، زعم أنه كتب كتابا في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور وعرضه على الناس في زمانه، قال: رأيت الناس بَطَلَة لم يقبلوا عليه، ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه، قال: فلما رأيت ذلك الإعراض منهم أحرقته وجعلته بيني وبين الله جل وعلا.
وكتب أيضا الرازي في تفسيره بعض المناسبات.
وإلى أنْ وصل الأمر إلى الزركشي؛ فعرض في كتابه علوم القرآن المسمى ”بالبرهان“، كتب فيه أبوابا جيدة بالتناسب والمقاصد، وهي قصيرة لكنها فيها تأصيل لهذه المسألة.(2/10)
ثم جمع ذلك مع تأمل البقاعي في كتابه الشبيه بالتفسير الذي أسماه”نظم الدرر في تناسب الآيات والسور“ وهو مطبوع في الهند، كتاب كبير في نحو اثني وعشرين مجلدا، والتزم فيه بأنْ يذكر مقصد السورة وأنْ يذكر التناسب بين كل آية والتي بعدها والتناسب بين آخر السورة والتي قبلها إلى آخر ما ذكر، مما جعله متكلفا في كثير من المواضع، حتى قال عن نفسه أنه ربما مكث شهرا في تأمل آية بعد آية ما المناسبة بينها، وعلماء عصره منهم من رد عليه لهذا التكلف الذي تكلفه في كتابه.
ثم السيوطي كتب عدة كتب في ذلك، وذكر في كتابه إعجاز القرآن الذي اسمه ”معترك الأقران في إعجاز القرآن“ ذكر من وجوه إعجاز العلم بالمقاصد، وتناسب الآيات والسور إلى آخر ذلك.
إذن فهذا العلم مكشوف بين علماء التفسير الذين كتبوا في علوم القرآن، ولكن ما بين مجيد فيه، وما بين مقصر في ذلك.
وإذا تأملت هذا الموضوع وجدتَ أنّ كثيرين من المفسرين يقولون هذه السورة فيها الموضوع الفلاني.
مثل ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية مثلا في سورة المائدة بأن هذه السورة كلها مختصة بعلم الأحكام الحلال والحرام والعقود بخاصة، حتى قصص الأنبياء التي فيها لها صلة بالأحكام، وحتى قصة ابني آدم لها صلة بهذا الموضوع.
سورة الفاتحة سُميت أم القرآن؛ لأن مقاصد القرآن التي فيه هي في سورة الفاتحة، وهكذا.
فإذن من أهل العلم من نص على الموضوع والمقصد، ومنهم من عرض له بدون التنصيص عرض له عمليا.
كيف يمكن أنْ يفهم المتدبر أو المفسّر الموضوع؟ يعني إذا أراد أن ينظر كيف يعرف الموضوع؟ الوسائل التي بها يعرف موضوع السورة؟
نذكر من ذلك بعض الأمور:
أولا أنْ ينص العلماء أو طائفة من العلماء المحققين على أنّ هذه السورة في الموضوع الفلاني.
مثلا سورة الإخلاص في توحيد الأسماء والصفات، أو في التوحيد العلمي الخبري.(2/11)
?قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ?[الكافرون:1] سورة الكافرون في التوحيد؛ توحيد الطلب توحيد العبادة.
سورة الفاتحة في بيان محامد الرب جل وعلا.
سورة النحل في النعم.
سورة الكهف في الابتلاء.
سورة العنكبوت في الفتنة.
سورة البقرة في بيان الكليات الخمس والضروريات التي تدور عليها أحكام الشريعة، وبيان عدو من أعداء الإسلام وهم اليهود.
سورة آل عمران في تكميل ذلك، مع بيان عدو جديد وهم النّصارى، والحوار معهم، ثم مجاهدة المشركين.
سورة النساء في بيان أحكام النساء والمواريث، وخُصّص ذلك في النساء لأجل هضم الجاهلية لحقوق النساء ونحو ذلك، ثم بيان أحكام العدو الثالث وهم المنافقون.
ثم سورة المائدة في بيان أحكام الحلال والحرام والعقود، إلى آخر ذلك مما هو تفصيل لأحكام الكليات الخمس وأحكام الشريعة التفصيلية.
وهكذا في أنحاء شتى، وهذا ينص عليه طائفة من العلماء بأن السورة في الموضوع الفلاني.
إذن نعلم موضوع السورة بأنْ ينص على هذا الموضوع وهذا المقصد للسورة بعض أهل العلم، فيقال هذه السورة في الموضوع الفلاني، وكذلك المناسبات بين الآي بأن ينص بعض أهل العلم المتحققين الراسخين؛ بأن هذه الآية جاءت بعد هذه الآية لأجل كذا فيما بينهما من الارتباط، وهذه السورة بعد هذه السورة لما بينهما من الارتباط وهكذا.
الوسيلة الثانية لمعرفة موضوع السورة والمقصد الذي تدور عليه السورة، المقصد نعني به الغاية أو الموضوع الكلي الذي تدور عليه السورة، أنْ يكون موضوع السورة ظاهر من أولها ثم والمفسر يقرأ يظهر له أن كل السورة مبيني على أولها.(2/12)
مثل مثلا سورة القيامة ?أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ?[القيامة:1-2] كل ما فيها ذكر لأحوال القيامة، ثم أحوال الموت، وما يدل أو وسائل الإيمان بيوم القيامة، لهذا بُحث هنا مثلا في سورة القيامة، بُحث عند من اعترض على موضوع السورة بقول الله جل وعلا ?لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ?[القيامة:16-19]، قال طائفة من العلماء –طائفة يعني واحد أو أكثر- قال طائفة من العلماء إنّ هذه الآيات لا صلة لها بموضوع القيامة (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)قال ما صلتها بموضوع القيامة؟ ما صلتها بموضوع الموت والعاقبة إلى آخره؟ وطبعا الآخرون ذكروا مناسبة ذلك وبينوه ومما هو ظاهر بين.
نأخذ سورة الواقعة مثلا سورة الواقعة ?إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الْأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً?[الواقعة:1-7] سورة الواقعة صار موضوعها حول تقسم الناس يوم القيامة ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال. ثم بعد ذلك أدلة تتعلق بهذا الأصل، ثم حال الناس عند النزع، وأين تذهب أرواحهم، فتلحظ من السورة أن الموضوع بين من أولها إلى آخرها، وهذا يتضح لك من أول السورة.
فإذن السبب الثاني أو الوسيلة الثانية لاستخراج المقصد أن يكون موضوع السورة ظاهرا من أولها.(2/13)
الوسيلة الثالثة لإدراك ذلك: الاستقراء؛ الاستقراء للآي من عالم بالتفسير، إما استقراء كاملا أو استقراء أغلبيا، وقد ذكر علماء الأصول أن الاستقراء الذي يُحتج به على قسمين: الاستقراء الكامل أو الاستقراء الأغلبي؛ لأنه حتى القواعد ما من قاعدة إلا ولها شواذ، فالاستقراء الأغلبي حجة كالاستقراء الكلي في الاحتجاج، لكن في القوة الاستقراء الكلي أعظم من الاستقراء الأغلبي، فإذا استقرأ الآيات واستخرج المفسر موضوعا ولو لم يسبق إلى ذلك، فإن هذه وسيلة ظاهرة من وسائل إدراج المعنى فيما إذا كان مصيبا فيه غير متكلف في ذلك.
وهناك وسائل أخر.
إذا تبين لك ذلك فنأتي إلى ما قد ينشطكم أكثر بعد هذا العرض النظري العلمي المقعّد بعض الشيء، إلى ما ينشط أكثر في بيان مثال لمقصد السورة، ثم النظر في الآيات التي تدور حول هذا المقصد، نأخذ مثالين:
الأول: سورة الفاتحة باختصار.
والثاني: سورة العنكبوت بنوع تطويل.
?أما سورة الفاتحة فهي فاتحة الكتاب، وهي أم القرآن، وتسمى أيضا سورة الحمد، افتتحها الله جل وعلا بحمده، فقال ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الفاتحة:2]، وحمدُه جل وعلا هو الذي تدور عليه السورة؛ بل أوّل الخلق أبتدئ بالحمد، وآخر ما ينتهي إليه الخلق إلى الحمد، والناس في الأولى والأخرى بل الخلق كله من الناس وغيرهم من المكلفين وغير المكلفين يدورون بين الحمد، وله الحمد في الأولى والآخرة سبحانه وتعالى، خلق السموات والأرض بالحمد ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ?[الأنعام:1]، وحين ينتهي الجزاء ?وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الزمر:75]، قيل؛ يعني قال الوجود، قالت الملائكة، قالت الخلائق بعد أن دخل أهل الجنةِ الجنةَ، ودخل أهل النارِ النارَ، واستقرت الأمور.(2/14)
فافتتح الله جل وعلا الكتاب بحمده كما أنه حمد نفسه على إنزال القرآن فقال ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّمًا?[الكهف:1-2].
فإذا كان كذلك، الحمد دارت الحياة عليه والخلق عليه وإنزال الكتب وبعث الرسل عليه، ولهذا صار الحمد هو أعظم ما يُفتتح به الكتاب الخاتم قال جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لهذا إذا تأملت القرآن وجدت أن الحمد يدور على خمسة معاني:
المعنى الأول: أن يحمد الله جل وعلا على ربوبيته.
والثاني: أن يحمد على ألوهيته.
الثالث: أن يحمد على أسمائه وصفاته.
الرابع: أن يحمد جل وعلا على خلْقِه سبحانه وتعالى وإحداثه وإبداعه الكائنات.
والخامس والأخير: أن يحمد الله جل وعلا على شرعه وكتابه وما أنزل.
الناس الآن؛ يقول فلان، يعني الحمد عندهم بمعنى إيش؟ بمعنى الشكر، فهل يدخل الحمد بمعنى الشكر في أحد هذه العناصر؛ في عدّ هذه الأقسام الخمسة للحمد؟ نعم وهو الحمد على خلق الله جل وعلا للصغير والكبير؛ لأنه ما من نعمة تسدى إليك إلا والله جل وعلا هو الذي خلقها، فيُحمد على ما أدى وعلى ما أرسل.
إذن سورة الفاتحة تدور في موضوعها على أركان حمد الله جل وعلا، والقرآن كله لو استوعب فإنه يدور من أوله إلى آخره على أنواع حمد الله جل وعلا، فإما أن تكون الآية أو السورة في حمده سبحانه على ربوبيته، أو على ألوهيته، أو على أسمائه وصفاته، أو على شرعه وكتابه وما انزل، أو على خلقه وقدره سبحانه وتعالى.(2/15)
ما معنى الحمد؟ قال العلماء: الحمد هو إثبات أنواع الكمالات للمحمود، إثبات أنواع الكمال للمحمود بحيث إنه فيما أُسس له من الكمال لا نقص له فيه بوجه من الوجوه، والله جل وعلا هو المثبت له أوجه الكمال في ربوبيته، وأوجه الكمال في إلهيته، وهو المثنى عليه بأوجه الكمال في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وفي شرعه وتنزيله وكتابه، وفي قدره سبحانه وتعالى وفي خلقه.
إذا كان كذلك، قال العلماء (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) معناه أن أنواع الحمد لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ الألف واللام تأتي لثلاثة أنواع في التفسير الألف واللام للتعريف للاستغراق للملك وللاختصار.
الأول للتعريف يشملها كأن تقول للاستغراق للملك للاختصار متى تكون الألف واللام للاستغراق إذا كانت يصح أن تضع مكانها (كل).
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذا قلت: كل حمد لله رب العالمين. صح أو لم يصح؟ صح فإذن هي للاستغراق، فإذن هنا نقول الحمد لله رب العالمين هذه مستغرقة لجميع أنواع المحامد لله جل وعلا، أنواع المحامد هذه الخمسة التي ذكرنا. (لله) اللام الثانية هذه إيش؟ اللام للاستحقاق يعني كل حمد لله جل وعلا فهو مستحَق له سبحانه وتعالى، طبعا (الـ) التي في الحمد هذه (الـ) للتعريف واللام هذه لام حرف جر هي التي تأتي للملك ولتمام الملك وللاختصار وإلى آخره.(2/16)
تأتي إلى (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،([3]) أولا (رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذا جُعل لأي شيء؟ إلى الربوبية، وقد ذكرنا لك أنّ من أركان الحمد؛ يعني ما يثنى على الله به الربوبية، فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ثم (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذا فيه الصفات، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيه الصفات وفيه الشرع والكتاب، وفيه أيضا الخلق والأمر، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه إيش؟ الألوهية، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه الربوبية، فيه أيضا القدر؛ لأنك تستعين بمن يعين ما يحدث فيملكوته. (نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) من النعم الدينية هو الهداية إلى الصراط المستقيم، فهو المحمود على كل نوع من أنواع الهداية للصراط المستقيم، ثم وصف قال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وهذا من أنواع النعم التي يحمد عليها، وهي راجعة إلى أحد أركان الحمد، ثم أيضا يفصل في ذلك في الموضوع بأشياء من نظر آخر؛ بأنواع المحامد، وأنواع الصفات، وأنواع العبودية، وأنواع الاستعانة إلى آخر ما هنالك.
هذا عرض موجز لما في هذه السورة من مما يدور حولها ذكره بعض العلماء.(2/17)
?المثال الثاني سورة العنكبوت؛ سورة العنكبوت سماها بعضهم أو قال بعضهم إنها تدور حول الفتنة، الفتنة ظاهرة في أول السورة قال جل وعلا ?الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3]، فالفتنة ذُكرت نصا في أول السورة، الفتنة تكون بأي شيء؟ المرء يفتن بعقله، يفتن بالدنيا، يفتن بوالديه، يفتن بأهله، يفتن بطول المكث وطول العمر، يفتن بعدم وجود العذاب، يفتن إذن عن إدراك الحقيقة بأنواع من الفتن كلها موجودة في هذه السورة.
فإذن في هذه السورة سورة العنكبوت ذكر الله جل وعلا أنواع وأصول الفتن، وذكر كيف ينجو المرء من هذه الفتنة؛ لأن الحقيقة أن الحياة إنما هي ابتلاء وفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الذي رواه مسلم في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى «يا محمد إِنّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ» فحقيقة الحياة أنها فتنة، والفتنة هل هي بالشر أو بالخير؟ هي بالشر والخير معا، ?وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?[الأنبياء:35].(2/18)
إذن هذه السورة ذكر الله جل وعلا في أولها (أَحَسِبَ النَّاسُ)، الناس يشمل من؟ يشمل المؤمن ويشمل الكافر، يشمل الكبير ويشمل الصغير، يشمل جميع الطبقات، جميع الطبقات في تعاملها مع الجميع، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) تقول المؤمن، فمتى يصدق الإيمان؟ إذا عرضت لك الفتنة فنجوت منها بشرع الله جل وعلا، فقد تفتتن بنفسك، فيه أناس يفتتن بجماله، يفتتن بحسنه، امرأة تفتتن بما لها بما عندها، رجل يفتتن بماله، أحد يفتتن بوالديه، لذلك تجد في هذه السورة تجد أن في هذه السورة ذكرا لجميع أنواع وأصول الفتن والجواب على ذلك.
خذ مثلا في أولها قال الله جل وعلا ? وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ [بِي]([4]) مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ?[العنكبوت:8] لاحظ الوالدان يفتنان؛ يجاهدان للشرك، يجاهدان ليشرك العبد، هذه أليست فتنة؟ فتنة عظيمة، وقد ذكر المفسرون أنها نزلت في قصة سعد بن أبي وقاص لما أرادته أمه على الكفر والشرك، ومع ذلك قال الله جل وعلا أن يصاحب والديه حسنا لكن لا يطيع؛ قال (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقال في أولها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) هذه فتنة عظيمة، ما المخرج منها؟ المخرج منها في تحقيق شرع الله ألا تطيع في الكفر والشرك أو في معصية الله لكن تصاحب بالحسنى، ومن الناس من تعرض عليه الفتنة فيصاحب والديه لا بالحسنى ولكن عن عقوق، ويكون قد وقع في بعضها، لكن من يصبر على هذا الأمر العظيم، وهو أن يصاحب بالحسنى وألا يطيع، هذا النجاة من الفتنة في هذه الحال.(2/19)
من أنواع الفتن أن يكون أناس كثير يكفرون بالله جل وعلا؛ لا يؤمنون، فيأتي المرء فيظن أنه وأهل الإيمان قليل، وأنّ الكفار أو المنافقين أو المجرمين أو العصاة، أنهم كثير، كيف هو يستقيم، هذا نوع من الفتنة يعرض على القلوب، وقلّ من الناس من يثبت ينظر الناس كلهم كذا، وفي هذه السورة الخبر، وفيها العلاج فاقرؤوا وتأملوا.
من الفتن أيضا التي ذُكرت في هذه السورة أن الإنسان ينظر إلى طول مكث أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى طول مكثهم في الأرض، إلى طول مكثهم يتمتعون بالقوة، إلى طول مكثهم وهم الذين يسيطرون من أعداء الله من الكفار والمشركين، فربما يحمله ذلك على أن تُزين له الدنيا وأن يصد عن سبيل الله ?زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[البقرة:212] هذه في سورة البقرة، في هذه السورة في سورة العنكبوت ذكر الله جل وعلا أولا قصة نوح عليه السلام في آيتين، ما مناسبة هاتين الآيتين لموضوع السورة وهو الفتنة؟ قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(14)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(15)وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ?[العنكبوت:14-16] قصة نوح في آيتين ما مناسبتها؟ طول هذا المكث تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعوهم، والمؤمن قليل كما أنت تعلم في سور أخرى، ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ?[هود:40]، قال العلماء: كان المؤمنون ثلاثة عشرة نفسا. وقال آخرون: كانوا بضعة وسبعين من الرجال والنساء. مكث ألف سنة والشرك بالله جل وعلا يعلو، عبادة الأوثان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهذا ينصحهم يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، ولا مستجيب إلا هذه(2/20)
الفئة القليلة، ألا يحصل للقلوب فتنة؟ يحصل فتنة، ليست مرور عشر، عشرين سنة، خمسين سنة، مائة سنة. مرّت مائة، مائتان، ثلاثمائة، أربعمائة، خمسمائة، ألف سنة إلا خمسين عاما، وثم جاء فرج الله جل وعلا، إذن فقد يفتتن المرء بطول مكث الأعداء، فهذه السورة نبهت المؤمن الصادق، ?وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ?[العنكبوت:11]، وقال في الآية التي قبلها (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا)؛ (الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) متى يعلم؟ إذا عُرضت الفتن فنجى.
فإذن موضوع السورة عندنا الفتنة، حتى قصة النبي كان مرجعها إلى الفتنة بما ينجيك أنت من الفتنة التي تطاولت، بعض الناس يظن أن أمر الله جل وعلا يحصل له كما يريد، لا، حكمة الله ماضية، الله جل وعلا يبتلي كما ابتلى نوح عليه السلام وقومه بأنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يستجب منهم إلا القليل، هذا نوع من الافتتان، المخرج منه في هذه السورة وهو الصبر (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ).(2/21)
قصة إبراهيم عليه السلام في نوع من الفتنة في من يجازف، في من يحاول في من....([5]) لا يستسلمون، وإنما يكيدون ويتخذون أشياء للمودة وللدنيا، وقال ?وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ?[العنكبوت:25]الآية، فإذن فيه مجادلات إلى آخره، وهذه يحصل فيها نوع افتتان، قلَّ من يصبر على الحق، ويمكث عليه، وأن لا يتأثر في هذه الفتنة في الشبه التي يلقيها المشركون أو التي يلقيها الكفار، وهذه الشبه تتجدد بتجدد الأزمان.
بعدها ذكر الله جل وعلا قصة لوط عليه السلام، وفيها الافتتان بالشهوة؛ الافتتان بشهوة الرجال التي هي مناقضة للفطرة، وأيضا شهوة بأنواعها، والإعلان بها، وأنه لا ضرر منها، ون نهى عنها إنما هو الذي يهجن هو الذي يرد عليه، نهاهم ?وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ? ولكن قالوا له ?ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ?[العنكبوت:29]، فتنة لأنّ زوجة لوط التي هي في بيته كانت ممن وقعوا في شراك أولئك؛ فهي تدل الرجال على الرجال الذين يأتون لوطا أو نحو ذلك، ?[لَنُنَجِّيَنَّهُ]([6]) وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ?[العنكبوت:32] هذا نوع من الفتنة من الشهوة، الشهوة ما المخرج منها؟ المخرج منها بأن يعلم الإنسان أنها فتنة، الشهوة التي في جسم الإنسان أرادها الله جل وعلا لبقاء النسل، ولأن يختبر العبد هل يصبر أم لا يصبر، هل يتحمل ويسير على ما أراد الله جل وعلا أم يتبع نفسه هواها ويطلق الحبل على ما يريد، فصارت الفتنة فأوقع الله جل وعلا العقوبة فيمن لم ينتهوا عن نهيه جل جلاله.(2/22)
من الفتنة أيضا أن يكون الناس في علم، وأن يكون المستمع يعلم، ولكنه لا يأبه بالعلم، الجاهل يُعَلَّم، لكن من يعلم أو المستمع الذي ينتشر فيه العلم، ويعلم الناس الحدود ويستفسرون، ولكن مع ذلك يخالفون، أليست هي فتنة؟ العلم لم يكن إذن في حقهم نعمة بل كان فتنة، لهذا ذكر الله جل وعلا أن عادا وثمودا كانوا علماء؛ علموا وكانوا مستفسرين، ولكنهم مع ذلك خالفوا قال سبحانه ?وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ?[العنكبوت:38]، (زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)، هل كانوا يجهلون؟ لا، كان العلم قاصرا؟ لا، يعلمون ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، والحالة أنهم كانوا مستبصرين على بصيرة، وهذه فتنة عظيمة؛ أن يكون المرء على علم ويترك العلم الموروث عن الرب جل جلاله وعن نبيه صلى الله عليه وسلم.(2/23)
القوة أيضا فتنة، المجادلة والحوار، الآن يطرح في كثير من الأحيان مباحث الحوار، الحوار مع النصارى، الحوار بين الحضارات، الحوار بين الديانات، الحوار بين المذاهب، الحوار بين الملل، إلى آخره، وهذا الحوار نوع من الفتنة، والآن تبثه بعض القنوات الفضائية؛ لأن فيه تأثيرا على من قلبه ضعيف، يرى ملل ونحل، وهذا يعبد كذا وهذا يعبد كذا، قد يشك ويفتتن، لكن المؤمن الصادق يعلم أن هذا التنوع وهذا التعدد وهذا الاختلاف إنما هو دليل من أدلة أنّ الحق واحد، وأنّ هؤلاء كما قال جل وعلا ?عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً?[الغاشية:3-4] أرادوا الطريق إلى الله جل وعلا فأخطؤوا، لكن موضوع الحوار يحاول المرء أو لا يحاول؟ يجادل أم لا يجادل؟ هذه قد تعرض عن المرء هذه الفتنة، ولكن من الذي يجادل ومن عنده علم، وليس كل أحد، ولهذا ذُكر كما يعلم بعضكم أنّ أناسا جادلوا، إما جادلوا ملحدا، أو جادلوا غير مسلم أو نصراني أو يهودي، أو جادلوا صاحب ملة من الملل أو مذهب من المذاهب الضالة، أو نحو ذلك، فربما غلب، أو ربما كان أقوى فوقع الافتتان في الناس، الله جل وعلا في هذه السورة بين أن الفتنة تقع إذا لم يكن الحوار من عالم وبالتي هي أحسن فقال جل وعلا ?وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ?[العنكبوت:46-47] إلى أنْ قال جل وعلا ?بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ?[العنكبوت:49] –نستمع للأذان-.(2/24)
نكمل الحديث عن مثال سورة العنكبوت بأثر فهم مقصد أو موضوع السورة على العلم بالتفسير، فذكر جل وعلا النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، لكن ممن؟ ممن هو عالم بالقرآن فقال (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ولهذا من لم يعلم القرآن، وحجج القرآن، وبينات القرآن، والبراهين التي في القرآن، وكيف جاء في القرآن الحوار مع الملحد ومع المتجبر ومع الطاغوت ومع الناس بجميع أصنافهم، من لم يعلم ذلك فإنه لا يصلح للحوار، فليس كل أحد يحاور برأيه وبفكره، وإنما الحوار للعلماء، الحوار كما يسمى أو المجادلة كما في القرآن، هذه إنما هي لأهل العلم الذين يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذن تقع الفتنة؛ الفتنة بالمجادلة، يقول له جادلني، ليش أنت ما تجادل؟ ويبدأ يبقى أحدهم في الجدال والحوار ويبحثون القضايا، هذا نوع افتتان للعامة، فإذن لابد هنا أن ينظر المرء في هذه الحال؛ أن يكون معتزا بدينه، وأن يعلم أن القرآن هو الحق، وأنه الذي كان في صدره فهو الذي على الحق؛ لأنّ القرآن حجة ماضية على الجميع، ولهذا قد يكون المرء لا يعلم بعض الحجج، فإذا كان كذلك فإنه يقول كما قال الله جل وعلا (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وهذا المجادلة الإجمالية ثم التفصيل عند من يعلم القرآن ويعلم الشريعة.(2/25)
من الفتن التي ذُكرت أيضا في هذه السورة؛ أن يجعل الله جل وعلا الحياة جميلة بلهوها ولعبها وما فيها من الملذات حتى ينسى المرء الآخرة، قال جل وعلا في آخر السورة ?وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ?[العنكبوت:64]؛ لأن كثيرين من الناس افتتنوا بالحياة؛ لهو ولعب ويظن أنها ستمتد ولا يعلم حقيقة الحياة، قال جل وعلا بعدها ?وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ?[العنكبوت:64]، (الْحَيَوَانُ) وهذا صيغة مبالغة من الحياة؛ يعني الدار الآخرة؛ يعني الجنة والنار هي ذات الحياة الباقية الكاملة، فمن أراد قمّة النعيم وكمال النعيم والتلذذ فهو في الجنة في الآخرة، ومن أراد الهرب من المؤذيات فهو المؤذيات كلها في النار، والذي يريد الهرب يهرب من النار، ولهذا قال طائفة من العلماء ما ذكر الله جل وعلا في القرآن -هذه ذكرها ابن الجوزي وجماعة- ما ذكر الله جل وعلا في القرآن من أنواع نعيم الدنيا، لتنظر إلى نعيم الدنيا أو لتتذكر به نعيم الآخرة، فكل مثال في الدنيا للنعيم أو للتلذذ هو حجة عليك في تذكرك نعيم الجنة، وكل مثال في الدنيا لأنواع المؤذيات ولو كانت الحشرة الصغيرة أو كان حرا يسيرا فهو مثال يذكرك الله جل وعلا به لما يكون في الآخرة من النكال ومن العذاب ومن الحرمان، فمن أراد حقيقة الحياة والسعادة فليبحث عن السعادة الأبدية، والحياة الدنيا هذه من اللهو واللعب (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) تحدث فتنة، وما الناس الآن ما افتتن الناس إلا باللهو واللعب بهذه الحياة الدنيا، لماذا قست القلوب؟ لأجل أن الناس أقبلوا على اللهو واللعب، لماذا أعرضوا عن الآخرة؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب، لماذا قل نصيبهم من القرآن؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب، والجاد العاقل هو الذي ينظر إلى قوله (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ(2/26)
كَانُوا يَعْلَمُونَ).
من الفتن التي ذُكرت في هذه السورة وذُكر فيها المخرج من الفتنة؛ الفتنة بالأمن؛ أمن الحرم أمن ما حوله يحصل الأمن سنوات وسنوات وسنوات، فيغتر الناس بأننا لن يصيبنا ما أصاب غيرنا، الزلازل تصيب الآخرين أما أهل الحرم فلا تصيبهم، الموبقات، ضيق المعيشة يصيب الآخرين، النكد يصيب الآخرين أما أهل الحرم فيقولون نحن أبناء الله وأحبَاؤه أو يقولون نحن الخاصة، أو يقولون أو يقولون، قال جل وعلا في بيان هذه الفتنة في آخر السورة ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ?[العنكبوت:67] نفس النظر إلى هذا النوع من الإنعام من الله جل وعلا وألاّ يكون هذا الإنعام سببا للافتتان بهذه النعمة وهذا الرخاء الذي جعل اله جل وعلا أهل مكة فيه زمن النبوة وما شاء الله من الأزمان بعده قالوا ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ? ما الغرض من هذا؟ ?أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ?[العنكبوت:67]، أفبالباطل يؤمنون بعد هذا الإنعام؟ يؤمنون بالباطل، بالشرك والكفر، وإنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإطاعة الشياطين، أو بما هو دون ذلك من المعاصي والموبقات والآثام، وبنعمة الله هم يكفرون، من الذي أنعم؟ الله جل وعلا ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53]. إذن من الافتتان الذي قد يصيب الله به بعض العباد كما ذكر في هذه السورة أن يظن العبد أن البلاء إنما هو للآخرين، أما هو لن يبتلى، فنقص الرزق يكون لفلان من الناس أما هو لا، المرض يكون لفلان أما هو لا، الإصابة بالأمراض الشديدة -أجارنا الله وإياكم منها- إنما يصاب به الآخرون أما هو صاحب صحة وعافية، السكتة، الغضب، إلى آخره، يصاب به الآخرون أما هو لا يتذكر، قال جل(2/27)
وعلا في بيان هذا المثال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ).
هذه أمثلة من أنواع الافتتان وأنواع البلاء، وما في هذه السورة مما يتصل بهذا الموضوع، ثم يتعانق في هذه السورة الابتداء مع الختام ليدلك على قول من قال من أهل العلم: إن موضوع السورة يتعانق فيه البداية مع النهاية. فقال جل وعلا في بدايتها (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ما المخرج في جميع هذه الحالات؟ الجواب في آخر السورة في آخر آية ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69].
موضوع مقاصد السور وأثر ذلك في التفسير له شعب من جهة التنظيم، وله أيضا شعب من جهة التطبيق، وإذا تأملت ما ذكرت من هذين المثالين في سورة الفاتحة وسورة العنكبوت، يكون لك به نظرة ورؤية إلى ما يذكره العلماء في موضوعات السور وما تشتمل عليه، ففهم إذن كما اتضح لك الآن أنّ فهم آيات سورة العنكبوت الآن تقرأها ربما يكون لك تدبر آخر، يكون تأثرك بالسورة وبالنظر إليها آخر، تشوف الآيات غير ما كنت تقرأ سابقا، لماذا؟ لأنه اتصل عندك الموضوع وفهمت هذه الآية ولماذا أتى بقصة النبي فلان، ولماذا أتى بقصة النبي الآخر عليهم جميعا السلام، إلى آخر ما هو معلوم.
فإذن هذا الموضوع وهو موضوع مقاصد السور من العلم النادر العزيز، لكنه مهم لكل طالب علم في التفسير بقدر ما ذكرنا، وهو أن ينص أحد من العلماء على المقصد والموضوع، وأن يكون ظاهرا في دور آيات السورة عليه.(2/28)
أسأل الله جل وعلا أن يبارك لي ولكم فيما سمعنا، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذي هم أهله وخاصته، وأن يزيدنا منه علما، وأن يذكرنا منه ما نسينا، وأن يجعلنا من المحلين لحلاله، المحرمين لحرامه، المعتقدين لما فيه من الغيب إنه سبحانه جواد كريم.
كما أني في الختام أرجو لكم جميعا بإقبال هذه الدروس العلمية أن تنتفعوا من أصحاب الفضيلة المشايخ الذين يشاركون فيها، جزاهم الله خيرا، وأنا بهذه المناسبة أشكر كل الإخوة في هذا المسجد؛ إمام المسجد الأخ خالد.... وجميع الإخوة الذين معه، وكذلك أصحاب الفضيلة الإخوة المشايخ الذين يشاركون في هذه الدورة على ما يتعبون وما يبذلون في الجلوس للإخوان وفي طلب العلم؛ لأننا في زمن نحتاج فيه بذل الدعوة وإلى بذل العلم إلى جهاد، أما الراحة فهي الوقت واسع للراحة، ولكن نحتاج إلى بذل وبذل كل في مجاله وكل فيما يستطيعه.
أسأل الله لجميع الهدى والتوفيق، وأن يبارك في الجهود، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى إنه سبحانه ولي ذلك.
كما أسأل ربي سبحانه أن يوفق ولاة أمورنا لكل خير، وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم بالخير والصلاح وتدلهم عليه، وأن يبارك في ما يعملون من الخير وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
كما أسأله جل جلاله أن يباعد بيننا وبين سبل المضلين، وأن يرد كيدهم إلى نحورهم إنه سبحانه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(2/29)
[مقدم المحاضرة] شكر الله معالي الشيخ هذا البيان الضافي الجليل الذي وفى وكفى بإذن الله وجعله في موازين حسناته، وقبل أن نبدأ بطرح الأسئلة أودّ أن أعتذر للإخوة الحضور حيث ما وردنا من الأسئلة أكثر من أن يكفيه الوقت المتاح، هذا من جانب، ومن جانب آخر أن بعض الأسئلة لم تكن في مجال وموضوع المحاضرة، ومعالي الشيخ طلب أن تكون الأسئلة في نطاق المحاضرة حفظا لوقت الذين جاؤوا لسماع هذا الموضوع بالذات.
[الشيخ] الأسئلة الأخرى آخذها الأسئلة التي تلقى أستفيد منها في موضوع محاضرات أخرى يعني أن بعض الأخوة جزاهم الله خيرا يطرح أسئلة جيدة، نجعلها عنصرا أو فقرة في محاضرة أخرى هذه نستفيد منها جزى الله الجميع خيرا. نعم.
[مقدم المحاضرة] يسدي جميع السائلين تحياتهم إلى معاليكم ثم يخبركم الكثير منهم بمحبتهم لكم في الله.
[الشيخ] أحبهم الله.
[مقدم المحاضرة] هناك اقتراح من أحد الأخوة أن تُجعل هذه المحاضرة على شكل كتيب في متناول الجميع.
1/ فضيلة الشيخ ما الأفضل للمبتدئ قراءته من الكتب التي تتناول التفسير، ثم يسأل يقول قلتم في كلامكم أنه يمكن أن يستخرج المعنى بالاستقراء الجزئي للسورة، فكيف يستخرج المعنى للسورة مع عدم الإلمام بالسورة؟(2/30)
أنا ما قلت هذا، أنا الذي قلته، أنا لم أقل إن المعنى أو المقصد يستخرج بالاستقراء الجزئي، وإنما قلت يستخرج بالاستقراء التام أو الأغلبي، أما الاستقراء الجزئي فليس بحجة، والاستقراء الجزئي هو الذي يقع فيه الناس اليوم، وليس جزئيا قد يكون استقراء لحالتين ثم يحكم، يقول والله كل الناس كذا وكذا، كل الموضوع، كم نظر في الكتاب ؟ نظر صفحتين، كم درس من حالات الناس؟ شاف له حالة حالتين وقال كل الناس وقعوا في كذا، الاستقراء حجة إذا كان كليا أو أغلبيا، ولا يجوز للمسلم أيضا أن يقفو ما ليس له به علم، وأن يقول والله يعمل قضية كلية وهو لا يعرف إلا حالة أو حالتين، وهذا خلاف حتى المنهجية الصحيحة في التفكير، وإذا وجدت في المرء الخلل في المنهجية حتى في رؤية الأشياء يقع من ذلك منهجيته في العلم؛ يكون تصوره للعلم غير صحيح؛ لأنه أصلا يتصور الأشياء باستقراء جزئي، يسرع في الحكم، ويسرع في تقييم الأشياء بما يسمع أو بحالة حالتين يجعلها قضية كلية.
إذن تعقيبا على السؤال إنما ذكرنا أنه يدرس الاستقراء الكلي أو الأغلبي، وعلماء الأصول بحثوا هذا، قالوا أن الاستقراء الكلي أو الأغلبي حجة، الاستقراء الكلي والأغلبي ممن؟ ليس من كل مسلم بل من عالم بالتفسير، والعالم بالتفسير هو الذي عنده العلوم التي ذكرنا، هذا في الغالب لا يخطئ، لهذا العلماء ذكروا أشياء من مقاصد السور، داروا فيها حول استقرائهم وتدبرهم وقراءتهم للسورة أكثر من مرة مع علمهم بالتفسير فاستخرجوا مقصدا وموضوعا ثم فصلوا في ذلك. نعم
2/ لما ذا لا نقول بترجيح قول من قال أن لكل سورة مقصدا، وأن بين كل آية وآية تناسبا على الإطلاق؛ لأن ذلك يدل على كمال القرآن وإعجازه، ولكن نقيد هذا القول بنقطتين:
الأولى: أنه ليس لكل أحد أن يُلِمَّ بجميع المقاصد والمناسبات، فقد يعلم بعضا ويجهل بعضا.
والثانية: نقيده بعدم الجزم بالمقصد والمناسبة بل يقال بأنه اجتهاد وأنه محتمل.(2/31)
فما رأي فضيلتكم؟
هذا وجيه، لكن السبب الثاني لا نحب أن يدخل الناس فيه؛ لأنه «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب»، وفي الحديث الآخر «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، أبو بكر رضي الله عنه يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
فإذن الأصل في هذه كما ذكرت لك لا يكون اجتهادا مجردا، وإنما يكون استقراء كلي أو أغلبي، أما مجرد الاجتهاد ظهر له بادر، بادر الرأي أو عاجل الرأي، وقال هذه السورة موضوعها كذا، هذا فيه تجني على القرآن، ولهذا قد يقال أنه يقال من جهة تنزيل القرآن أن القرآن محكم كل سورة لها مقصد علمها من علمها وجهلها من جهلها من جهلها وأن الآية بينها وبين ما قبلها وبعدها تناسق وتناسب علمه من علمه وجهله من جهله وأن في ذلك دلالة على إعجاز القرآن العظيم، هذا قد يقال من جهة العموم، لكن بالقيد الذي ذكرنا أنه لا يُقبل من كل أحد أن يقتحم هذا الباب. نعم
3/ يقول هل هناك علاقة بين التفسير الموضوعي للقرآن وبين علم المقاصد للسور؟
التفسير عند المتأخرين يعني في القرن الأخير هذا، جُعل منه التفسير الموضوعي، ومنه التفسير التحليلي، هذا تقسيم خاص تعليمي.
ويراد بالتفسير التحليلي كما تقرأ في تفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير؛ يعني الآية وتفسيرها والكلمات وتحليلها لغة ونحوا إلى آخره أو بيان سبب النزول يعني كل آية تأخذ على حدا، تفسير السورة تفسيرا تحليليا.
أما التفسير الموضوعي فيراد به موضوع في القرآن يعني مثلا توحيد الربوبية في القرآن، القرآن في هذا الموضوع توحيد الربوبية، الفتنة في القرآن الوسطية في القرآن، العدل في القرآن، الظلم في القرآن، قصص الأنبياء في القرآن، هذا يسمى تفسير موضوعي، بمعنى أن يأتي إلى موضوع فيجمع كل ما فيه من الآيات، ثم يقسم ذلك تقسيما منهجيا ويتحدث عنه.(2/32)
لا صلة لهذا بعلم المقاصد لأن مقاصد السور راجع إلى السورة في نفسها، والتفسير الموضوعي يجمع أطراف الموضوع في جميع سور القرآن.
4/ هل القرآن نزل وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم كاملا وبما نرد على النصارى فيقولهم أن الرسول لم يفسره كله والجمع بينه وبين حديث الرسول «تركتكم على المحجة البيضاء ».
ينبغي على القائل أو المتكلم أو الكاتب أو السائل إذا كتب اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه صلى الله وسلم عليه تسليما كثيرا، حتى ولو لم يكتب فإنه يصلى عليه والمرء ما يخسر كتابة صلى الله عليه وسلم ولو ألف مرة، لهذا أهل الحديث مما زاد في مقدارهم أنهم يكتبون في الحديث الواحد صلى الله عليه وسلم ويقولونها كذا مرة، وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «من صلى عليّ واحدة صلى الله عليع بها عشرا» ما معنى ذلك؟ يعني من أثنى عليّ؛ يعني من قال اللهم صلي على محمد، دعا لي بأن يثني الله علي في الملك الأعلى مرة واحدة، صلى الله بها عشرا؛ أثنى الله عليه بتلك الصلاة عشر مرات ، اللهم صلي وسلم على محمد كلما صلى عليه المصلون وكلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون. ما هو السؤال؟
هل نزل القرآن وفسّره الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/33)
النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، وإنما فسر آيات قليلة، لما؟ لأنّ التفسير يتبع الحاجة، يُفسر بمعنى يبين المعاني، لمن لا يفهم المعاني، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، فقهته العرب فهمت الآي، فهمته الصحابة، إلا في بعض الآيات لم تفهم ففسرها النبي صلى الله عليه وسلم فالمنقول من تفسيره عليه الصلاة والسلام قليل، تفسير الصحابة أكثر من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، لما؟ لأنّ الصحابة نقلوا للتابعين، والتابعون أقلّ علما بالقرآن من الصحابة لا من جهة اللغة، ولا من جهة أسباب النزول، ولا من جهة معرفة علوم القرآن، والعلوم المختلفة التي دار عليها القرآن، ولا من جهة السيرة، والتاريخ وأحوال العرب والجاهلية، إلى آخره، ففسروا القرآن أكثر، تفسيرهم أكثر، التابعون تفسيرهم لمن بعدهم أكثر من تفسير الصحابة لشدة الحاجة، هكذا إلى زمن التأليف والتصنيف كثرت التفاسير رغبة في أن يفهم الناس القرآن ويقبلوا عليه.
فإذن عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن لوضوحه، وعدم الحاجة إلى تفسيره، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعلمون التفسير، وربما لم يعلموا ففسر بعضهم لبعض أوفسر لهم النبي عليه الصلاة والسلام. نعم
5/ فضيلة الشيخ نأمل إرشادنا إلى أحسن الكتب التي تناولت الحديث عن مقاصد الصور.
ذكرت لك الكتب. نعم.
6/ أرجو إلقاء الضوء على مسألة تفسير الآيات بالكشوفات الكونية الحديثة، وعلاقة ذلك بمقصود الآيات وفهم خطابها.(2/34)
لو لم ترجو لكان أفضل، لأن هذا الموضوع ما يحتاج؛ لأنه لو تكلمنا في دقيقة أو دقيقتين نظلم هذا الموضوع، وهو موضوع شائك كما تعلمون، الآن كثير من الناس يعرضون المسائل الكونية ويربطونها بالآيات القرآنية، ويجعلون القرآن كتاب كون، كتاب فلك، كتاب زراعة، كتاب رياضيات، كتاب، وهذا ليس بصحيح ، لهذا أنا كما رجى السائل جزاه الله خيرا أنا أيضا أرجوه أن يؤجل جواب هذا السؤال إلى موضوع محاضرة -مستقل- عن تفسير القرآن بالعلوم الكونية أو بالطبيعيات أو بالمكتشفات الحديثة؛ لأنه يحتاج إلى بسط وتفصيل.
7/ ذكرتم أن طالب العلم لابد له من تعلم التفسير، وأن هذا التحصيل مربوط بفهم اللغة ومنها النحو، وللأسف فإن غالبية الناس في وقتنا الحاضر ويعنون من الضعف في النحو حبذا لو تنصحوننا بكتاب في هذا المجال خاص بالمبتدئين في مجال النحو.
المهم أنك تقبل على طالب علم؛ على أستاذ في النحو يعلمك، تكن جاد، النحو سهل، لكن يصعب على غير المقبل هو في الحقيقة سهل، لو أقبلت عليه لكان سهلا، كتب النحو كثيرة دائما نذكر من أوائلها الآجرّومية، وقطر الندى وشرحه، ومنظومة الحريري الملحة، والألفية، وشروح الألفية، ثم يتطور بعد ذلك إلى التسهيل وشروح التسهيل ثم يتطور إلى..... ([7]) ثم كتاب سبويه، يعني أن يبتدئ بالنحو بالكتب المختصرة عند المتأخرين، ثم إذا أتمها يرجع إلى المتقدين، وهذه مجالات ومدارك بعضها فوق بعض، وكما قال الله جل وعلا ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ?[ آل عمران:163].
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب لي ولكم الخير أينما كنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، إنه سبحانه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---
([1])الأنعام:92، و155، الشيخ قال (وَهَذَا كِتَابٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ).
([2])لم أسمعها جيدا.
([3])انتهى الوجه الأول من الشريط.
([4]) الشيخ قال (به).(2/35)
([5]) كلمة لم أفهمها.
([6]) الشيخ قال (فأنجيناه).
([7])كلمة لم أفهمها.(2/36)
مناهج المفسرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهو القائل {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فهذه الدّورة متخصصة في التفسير وعلوم القرآن وإنّ من مباحث هذه الدورة الكلام على مناهج المفسرين والكلام على مناهج المفسرين مهم لأنّ التفاسيرلكتاب الله جلّ وعلا كثرت جدّا حتى بلغت أكثر من مائة من التفاسير الموجودة بين أيدينا اليوم،ـ والتفاسير المفقودة كثيرة والتي لم تطبع أيضا كثيرة وهكذا فلابدّ لطالب العلم الذي يحرص على معرفة معاني كلام الله جلّ وعلا أن يعلم مناهج أولئك المفسرين وطرائقهم حتى إذا راجع تفسيرا لأحد أولئك يعلم مع ما يتميز به ذلك التفسير ويعلم منهج المؤلف حتى لا يضيع بين كثرة التفاسير.
منهج أو مناهج المفسرين المقصود بها الطرائق والخصائص التي يتميز بها التفسير والمناهج جمع منهج والمنهج والنّهج هو الطريق الملتزم يعني أنّ مناهج المفسرين هي الطرق والشروط التي اتبعوها في تفاسيرهم وهذه المناهج متنوعة متعددة والمفسرون منهم من يذكر شرطه في تفسيره ومنهم من لا يذكر ذلك فإذا كانت المناهج هي الطرق التي سلكها المفسر في تفسيره فأصبحت قواعد له في التفسير أو أصبحت مميزات وخصائص له في تفسيره.
هذه المناهج كيف نعلمها؟ كيف نعلم منهج ابن جرير مثلا في تفسيره؟ أو منهج القرطبي في تفسيره.؟ أو منهج ابن كثير في تفسيره؟ إلى آخر تلك التفاسير.
لمعرفة المنهج أحد طريقين:(3/1)
الطريق الأول: أن ينص المفسر على شرطه في التفسير في أول تفسيره أو أن ينص عليه في مواضع متفرقة من تفسيره مع خطبة الكتاب فإذا نص على شرطه كما نص ابن كثير رحمه الله على شرطه وطريقته في أول التفسير وكما نص القرطبي على ذلك بوضوح حيث قال: وشرطي فيه أني كذا وكذا وكما نص عليه أبو حيان الأندلسي في كتابه البحر المحيط وهكذا في عدة من التفاسير ينص المفسر على شرطه في تفسيره فإذا نص المفسر على شرطه في تفسيره صارت تلك الشروط المنصوصة منهجا له فنقول منهجه في التفسير كذا وكذا بناء على شرطه الذي نص عليه في تفسيره.
الطريق الثانية: أن يعلم شرطه في التفسير ويعلم المنهج عن طريق الاستقراء والاستقراء كما هو معلوم قسمان:(3/2)
- استقراء تام أو أغلبي والنوع الثاني استقراء ناقص والاستقراء حجة إذا كان تاما أو أغلبيا لأنه يكون دالا على صحة ما بحث بالاستقراء فإذا استقرأ أحد أهل العلم تفسيرا من التفاسير وقسم طريقه ذلك المفسر في العقيدة يسلك هذا الطريق وفي الحديث والأثر يسلك هذا الطريق وفي النحو يسلك هذا الطريق وفي الإسرائيليات يسلك هذا الطريق واستقرأ ذلك استقراء تاما بتتبع التفسير من أوله إلى آخره أو استقرأه استقراء أغلبيا فتقول هنا منهجه في التفسير كذا وكذا أما إذا كان الاستقراء ناقصا فتش في التفسير صفحة أو صفحتين أو ثلاثة أو مجلد أو مجلدين ولم يستقرأ التفسير بتمامه فلا يجوز أن يعتمد على ذلك الاستقراء الناقص ويقال طريقة فلان في التفسير كذا أو طريقة التفسير الفلاني كذا إذ لابدّ لكون الاستقراء حجة أن يكون استقراء تاما أو أغلبيا كما هو مقرر في موضعه من علم أصول الفقه وهذا وهذا وجد شروط ومناهج للمفسرين عرفنا تلك المناهج عن طريق شرط المؤلف أو عن طريق الاستقراء التام أو الأغلبي وإذا لم يمكن الاستقراء ولم يوجد الشرط فنستعمل عبارة أخرىغير منهج المفسر في تفسيره كذا وكذا نقول تميز التفسير الفلاني بكذا وكذا من خصائص التفسير الفلاني كذا وكذا تميز تفسير فلان بكذا وكذا مثلا من خصائص الدر المنثور كذا وكذا تميز الدّر المنثور بكيت وكيت من الطريقة فإذن نعدل عن استعمال لفظ المنهج إلى لفظ المميزات والخصائص والمميزات إذا لم يكن مشروطا أو إذا لم يكن مستقرأ استقراء تاما أو أغلبيا والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن على سبعة أحرف فثبت عنه بالتواتر عليه الصلاة والسلام أنّه قال: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف)) ونزوله على سبعة أحرف يستفاد منه في التفسير فوائد كثيرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه من التفسير الشيء الكثير وإنما نقل عنه تفسير كثير من الآيات ولكنه ليس بالأكثر والصحابة رضوان الله عليهم نقل عنهم من(3/3)
التفسير أكثر مما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر آيات كثير بحسب الحاجة ففسر مثلا قوله جلّ وعلا {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} بأنّ الزيادة هي النظر لوجه الله الكريم جلّ وعلا وفسر قوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} بأن المغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى وكذلك فسر صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة} بأنّ القوة الرمي ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ألا إنّ القوة الرمي ألا إنّ القوة الرمي)) وهكذا في أشياء من هذا القبيل كما فسر الخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله جلّ وعلا {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} بأنّ الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض الصبح أول ما ينفجر.
الصحابة كانوا يهابون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفسير وكانوا يعلمون أكثر معاني كلام الله جلّ وعلا وذلك لأنّهم رضي الله عنهم شهدوا التنزيل ومشاهدة التنزيل ومعرفة أسباب النزول تورث العلم بمعاني الآيات كما هي القاعدة عند أهل العلم أنّ معرفة السبب يورث العلم بالمسبب.(3/4)
ثانيا: الصحابة رضوان الله عليهم في عهده عليه الصلاة والسلام كانوا يرتحلون معه يغزون معه يجاهدون معه ويسمعون كلامه عليه الصلاة والسلام من جهة السنة فالسنة مفسرة للقرآن كذلك ما يعلمونه من تنوع الأحرف وأنّ هذه الآية أتى تفسير لها في الحرف الآخر من القرآن، أو أتى تفسيرها في موضع آخر من القرآن كما نقول مثلا في قوله جلّ وعلا {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} في أولها قال: {ولا تقربوهنّ حتى يطهرن} هنا هل يكتفى في جواز إتيان المرأة الحائض أن تطهر أم لابدّ أن تغتسل لا بد لهذا من تفسير في القراءة الأخرى {ولا تقربوهنّ حتى يطّهرن فإذا تطهرن فاتوهنّ من حيث أمركم الله} في شواهد كثيرة لذلك يعني أن القرآن يفسر بعضه بعضا والقرآن منه الأحرف السبعة التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومن الأحرف السبعة القراءات السبع المعروفة والعشرة التي بقيت في الأمة من مجموع الأحرف السبعة فإذن القرآن يفسر بعضه بعضا والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون الآية التي يحتاجون إلى تفسيرها إلى موضع آخر أو إلى قراءة أخرى فيتضح المعنى لهم وهم أهل تدبر للقرآن لأنهم امتثلوا قول الله جلّ وعلا: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} بعد عهده عليه الصلاة والسلام كثر التابعون واحتاج الناس إلى أن يفسر لهم القرآن وسبب زيادة التفسير في عهد الصحابة عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الحاجة إليه دعت وذلك أنّ الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدون التنزيل ويعلمون كثيرا من السنة ويعلمون القرآن والأحرف وذلك بخلاف زمن التابعين فإنهم كانوا أقل في ذلك من الصحابء رضوان الله عليهم فلذلك احتاج من بعدهم إلى أن يفسر الصحابة لهم ذلك.(3/5)
أيضا من المهمّات في التفسير التي تميز بها الصحابة رضوان الله عليهم في عهده عليه الصلاة والسلام وبعد عهده العلم بلغة العرب لأنّ القرآن، أنزل بلسان عربي مبين ومن سبل فهم هذا القرآن أن يكون المتدبر له على علم بلغة العرب فلغة العرب سبيل فهم القرآن لأنّ القرآن جاء بلسان العرب قال جلّ وعلا: {وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم} فاللسان يبين المعنى معنى الكتاب معنى ما أنزل الله جلّ جلاله ولهذا يحتاج الصحابة إلى معرفة موارد الكلمة في القرآن، في لغة العرب فيفسرونها بما دلت عليه في اللغة وعمر رضي الله عنه على سبيل المثال في ذلك لما كان يتلو سورة النحل في يوم الجمعة على المنبر وقف مرّة عند قوله جلّ وعلا: {أو يأخذهم على تخوف فإنّ ربكم لرؤوف رحيم} فقال عمر: ما التخوف؟ كأنّه أشكل عليه معنى التخوف في هذه الآية فقام: رجل من المسلمين فقال له يا أمير المؤمنين التخوف في لغتنا التنقص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا فردا
كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ(3/6)
وابن عباس رضي الله عنه يقول: كنت لا أعلم معنى {فاطر السموات والأرض} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يعني ابتدأتها قبله ففهم منها معنى فاطر السموات والأرض يعني ابتدأهما على غير مثال سابق لهما وابن عباس له في الاحتجاج بالشعر وباللغة الميدان الواسع وبمطالعة قصته مع نافع بن الأزرق وصاحبه وأسئلة ذينك الرجلين لابن عباس يتضح هذا فإنهما رأيا ابن عباس رضي الله عنهما يعني عن ابن عباس وعن أبيه يفسر القرآن ولا يسأل عن آية حتى يفسرها وهو في ذلك حري لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك فقال نافع لصاحبه قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن نسأله عن مَصَادِقِهِ من لغة العرب فأتيا ابن عباس فقالا له يا ابن عباس إنّا سائلوك عن آيٍ من القرآن لتخبرنا بمعناها على أن تبين لنا مصادق كلامك من كلام العرب فقال: اسألا عما بدا لكما؛ قالا: ما معنى قول الله جلّ وعلا: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ما الوسيلة هنا فقال ابن عباس الوسيلة الحاجة؛ فقالا له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم ألم تسمعا إلى قول عنترة:
إنّ الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قالا: فما معنى قول الله جلّ وعلا {عن اليمين وعن الشمال عزين} ما العزون؟ فقال ابن عباس: العزون الجماعات في تفرقة، جماعة هنا وجماعة هنا وجماعة هنا؛ فقالا له وهل تعرف العرب ذلك؟ -وهما يسألانه ليس للاستفادة من ابن عباس ولكن ليحرجاه- قال: نعم ألم تسمعا إلى قول الشاعر:
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
واحتجاج الصحابة في التفسير بلغة العرب كثير في ذلك فإذن يكون عندنا هنا أنّ مصادر الصحابة رضوان الله عليهم في التفسير عدة فمن مصادرهم في التفسير القرآن بأحرفه السبعة وبالقراءات لأنّ القرآن يفسر بعضه بعضا لأنه مثاني.(3/7)
ومن مصادر الصحابة في التفسير السنة فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم آيا تنصيصا وسنته تفسر لهم آيات كثيرة من القرآن لا على وجه التنصيص.
كذلك من مصادر التفسير عند الصحابة أسباب النزول ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه ما من آية أنزلت إلا وأنا أعلم متى أنزلت وأين أنزلت والله لو أنّ أحدا على ظهر الأرض عنده علم بالقرآن، ليس عندي تبلغه المطي لرحلت إليه، وابن مسعود كان من أعلم الصحابة بأسباب النزول وهكذا غيره.(3/8)
فمن مصادر التفسير عند الصحابة أنهم كانوا يعلمون أسباب النزول كذلك معرفتهم بلغة العرب فإنهم كانوا أهل علم باللسان العربي كما ذكرنا لكم شواهد ذلك كذلك من مصادر التفسير عند الصحابة رضوان الله عليهم العلم بأحوال العرب لأنّ القرآن نزل يفصل أحوال الناس ففيه حديث عن العرب فيه حديث عن مشركي العرب فيه حديث عن أهل الكتاب فيه حديث عن أنكحة العرب فيه حديث عن بيوع العرب منه حديث عن علاقات القبائل بعضها ببعض وهكذا في أشياء شتى فالعلم بأحوال العرب، العلم بتاريخ العرب بقصص العرب هذا يورث العلم بمعاني القرآن مثلا في قوله تعالى: {وأتوا البيوت من أبوابها} أمر بإتيان البيوت من الأبواب وترك الإتيان للبيوت من ظهرها بمعرفة تاريخ العرب وحال العرب في ذلك نعلم معنى هذه الآية، كذلك فيما يتعلق بالأنكحة كذلك فيما يتعلق بأحوال البيوعات والتجارات التي كانت عند العرب وهكذا في أنحاء شتى فمن مصادر التفسير عند الصحابة يعني من مراجع الصحابة في التفسير العلم بأحوال العرب التي كانوا عليها فإنّ من لم يعلم أحوال العرب كانوا عليها في عقائدهم وفي دياناتهم وفي تعبداتهم وفي علاقاتهم الاجتماعية وفي تجاراتهم إلى آخر هذه الأحوال فإنّه لن يحسن التفسير لأنه سيجعل التفسير يناسب قوما آخرين غير الأوائل والقرآن نزل للأولين والآخرين (ومعرفة السبب يورث العلم بالمسبب) (والعبرة كما هو معلوم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ولكن لابدّ من معرفة ما تشتمل عليه الآية أولاً ويدخل فيها من جهة المعنى من باب الأولية كذلك من مصادر التفسير عند الصحابة سؤال بعضهم بعضا فإنّ ابن عباس سأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله جلّ وعلا: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} فقال عمر: عائشة وحفصة فالصحابة يسأل بعضهم بعضا عن التفسير فيسأل الصغير(3/9)
الكبير ويسأل من لا علم عنده من عنده علم فصار عندهم احتجاج في التفسير بالقرآن وبالسنة وباللغة وكذلك بأقوال الصحابة إلى تفاصيل في ذلك يضيق المقام عن بسطها.
الصحابة رضوان الله عليهم توسعوا في التفسير وكان من مشاهدهم في التفسير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكانت ولادته في شعب أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنين ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات بأن يعلمه الله التأويل وأن يعلمه الفقه فقال: اللهم فقهه في الدين اللهم علمه الحكمة اللهم علمه التأويل فبرز ابن عباس في التفسير كثيرا وكذلك عبد الله بن مسعود وكذلك عائشة وكذلك عمر رضي الله عنه وكذلك علي رضي الله عنه فهؤلاء الخمسة يكثر النقل عنهم في التفسير ابن عباس وابن مسعود وعائشة وعمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
تميزت تفاسير الصحابة بأنّها اشتملت على الألفاظ القليلة والمعاني الكثيرة ولهذا من أتى بعدهم إنما يحوم حول كلام الصحابة ولهذا قال ابن رجب في كتابه فضل علم السلف على علم الخلف قال: كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة، فمما يظهر لك في تفاسير الصحابة أنّها كلمات قليلة ولكن تحتها المعاني الكثيرة.
تميزت تفاسير الصحابة بأنها سليمة من البدع سليمة من الضلال في الاعتقاد لأنهم أئمة المتقين وأئمة السلف وإليهم المرجع في التوحيد والعقيدة فتفاسيرهم مضمونة لا غلط فيها ولا إشكال فيها فمن أخذها فهو يأخذ مطمئن فأما تفاسير من بعدهم فحصل فيها الانحراف بقدر ما عند من بعدهم.(3/10)
تفاسير الصحابة تميزت بأنها يكثر فيها اختلاف تنوع ويقل فيها اختلاف التضاد، واختلاف التنوع معناه أن يكون يعبر عن تفسير الآية الله هو من مفرداتها لا بشيء كلي يشمل جميع المعاني لكن ببعض مفرداتها كما فسروا مثلا الصراط المستقيم فسره بعضهم بالقرآن، وفسره بعضهم بالسنة وفسره بعضهم بالإسلام وهذه من اختلافات التنوع لأنّ القرآن والسنة والإسلام بعضها يدل على بعض ولا يتصور قرآن بلا سنة أو سنة بلا إسلام هذا يسمى من اختلاف التنوع في مباحث هذا العلم اختلاف التنوع واختلاف التضاد فصلها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في رسالته في أصول التفسير بعد زمن الصحابة تكونت مدارس لا شك أنّ كل صحابي له تلامذة أخذوا عنه ابن مسعود في الكوفة له تلامذة أخذوا عنه التفسير وابن عباس في مكة له تلامذة أخذوا عنه التفسير فمثلا من تلامذة ابن مسعود عبيدة السلماني والربيع بن خثيم في غيره من علماء التابعين في التفسير من تلامذة ابن مسعود في التفسير سعيد ابن جبير وعكرمة وطاوس وغيره أولئك فإذن الصحابة الذين فسروا القرآن كذلك على في المدينة كل منهم صار له تلامذة أخذوا عنه التفسير من أبرز تلامذة ابن عباس في التفسير مجاهد بن جبر أبو الحجاج وقد عرض التفسير على ابن عباس ثلاث مرات عرض القرآن من أوله إلى آخره يسأل ابن عباس عن التفسير يجيبه ابن عباس عن التفسير ولهذا قال عدد من أئمة السلف إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به لأنّ مجاهدا رحمه الله عرض التفسير على ابن عباس ثلاث مرات كما ذكرت هذه المدارس صار فيها نوع اختلاف مدرسة ابن مسعود فيها اختلاف عن مدرسة ابن عباس من أوجه الاختلاف مثلا أن ابن مسعود كان ينحى كثيرا في التفسير منحى التفسير بأسباب النزول وبالقراءات ابن عباس كان ينحى في التفسير بالسنة وباللغة العربية بالاجتهاد فهنا توسع صارت هناك مدرسة ومدرسة كل مدرسة لها خصائصها التي تميزها عن غيرها.(3/11)
بعد التابعين أتى تبع التابعين فتوسعوا أيضا في التفسير ومن ثمّ بدأ تدوين التفسير بدأت كتابة التفسير كان التفسير ينقل حفظا ينقله الصحابة عن الصحابة ينقله التابعون عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقله تبع التابعين عن التابعين عن الصحابة ثم ابتدأ تدوين التفسير بدأ هناك من يصنف في التفسير كما صنف السدي تفسيره أعني به إسماعيل بن عبد الرحمن الكبير وصنف أيضا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم تفسيره وهكذا كغيرهم هذه الكتابات في التفسير انتقلت على شكل كتب ثم توسعت الكتابة في التفسير إلى أن وصلنا إلى تفاسير جمعت المأثور عن الصحابة وعن التابعين عن تب التابعين في التفسير مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير عبد الرزاق مطبوع وتفسير عبد بن حميد لم يطبع ومثل تفسير الإمام أحمد ومثل تفسير ابن أبي حاتم ومثل تفسير ابن جرير الطبري هذه التفاسير دونت تفاسير الصحابة بالأسانيد هذه المدرسة تسمى مدرسة التفسير بالأثر، يعني المدرسة التي يفسر فيها المفسر بناء على ما ينقله من كلام السلف على الآية فينقل بإسناده عن الصحابة وينقل بإسناده عن التابعين في تفسير الآيات ولا تجد في تلك التفاسير الكثير التفسير الخارج عن تفاسير السلف، هناك في خضم هذه الفترة يعني نهاية القرن الثالث تقريبا بدأت كتابات مختلفة فيها تفسير القرآن بالنحو لأنّه نشأت مدارس نحوية نشأت مدرسة نحاة البصرة سيبويه ومن معه نشأت مدرسة نحاة الكوفه ثم بعد ذلك نحاة بغداد وإلى آخره والنحو معتمد على القرآن والمدرسة النحوية يؤثر نظرها النحوي في التفسير فصار هناك رأي في التفسير من جهة النحو ورأى في التفسير من جهة اللغة فصنفت عدة مصنفات كمعاني القرآن للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة وكذلك مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى في كتب على هذا النحو، أتى هذا ابن جرير وهو إمام المفسرين فصنف كتابه جامع البيان وهو أعظم كتاب ألف في تفسير القرآن بالإجماع وبه عُدّ ابن جرير(3/12)
إمام الأئمة في التفسير وهو محمد بن جرير رحمه الله تعالى المولود سنة 224هـ والمتوفى سنة 310هـ صنف التفسير وجمع فيه ما تكلم عليه العلماء قبله في التفسير غلب عليه الأثر ولكنه اعتنى بالتفسير بالنحو والتفسير باللغة يعني أنّ تفسيره صار فيه عليه لمدرسة التفسير بالأثر ولكن المدرسة الأخرى التي حدثت هي مدرسة التفسير بالرأي ومدرسة التفسير بالأثر كانت قبل ابن جرير وبعده فمن تفاسير العلماء التي تنتمي إلى مدرسة التفسير بالأثر كما ذكرت لك ثم البغوي وابن كثير والدر المنثور إلى غير ذلك.
مدرسة التفسير بالرأي حدثت واختلف في تعريف الرأي فيها ما معنى التفسير بالرأي؟
ويجمعها أن يقال التفسير بالرأي معناه التفسير بالاجتهاد والاستنباط والاجتهاد الذي عمله أصحاب هذه المدرسة اجتهاد محمود واجتهاد مذموم مردود على صاحبه وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث حسنها بعض أهل العلم وضعفها آخرون أنّه قال: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) وفي لفظ قال: ((من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب)) ففيه ذم التفسير بالرأي لأنّ في الأول أنّه إن فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي الثاني أنه إن فسر القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب قال العلماء: هذا محمول على المعنى التالي وهو أنّ التفسير بالرأي إذا كان عن هوى وعن انحراف فإنّه يكون تفسيرا برأي يتبوأ صاحبه مقعده من النار فحملوا قوله عليه الصلاة والسلام: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النّار)) بمن قال في القرآن برأيه الذي نشأ عن هوى لا عن أدلة صحيحة كما قدمنا لأنّ الصحابة اجتهدوا في التفسير وقالوا في التفسير بأشياء لم ينقلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا إنه يذم جميع أنواع التفسير بالرأي بالاجتهاد والاستنباط يلزم من ذلك ذم الصحابة على باجتهادهم في التفسير وهذا باطل طبعا.(3/13)
فإذن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) يكون محمول على من فسره عن هوى كقول أهل الفرق المنحرفة كقول المرجئة والقدرية في القرآن وكقول الخوارج وقول المعتزلة وقول الأشاعرة وأشباه هذه الأقوال في القرآن فمن قال في القرآن برأيه وحمل معاني القرآن على رأي حادث خارج عن الإجماع بعد زمن النبوة بمائة سنة أو أكثر فإنّه متوعد بأن يتبوأ مقعده من النار وأما قوله عليه الصلاة والسلام من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ وإن أصاب، قال العلماء معناه من قال في القرآن برأيه وكان رأيه عن جهل لا عن علم فوافق الصواب اتفاقا ولم يأتي للصواب عن علم ويقين للآية عن علم وبينة مثلا واحد يفسر القرآن هكذا بمزاجه بما يطرأ في ذهنه يظهر له معنى للآية فيفسر فهذا وإن أصاب المعنى الصحيح لكنه أخطأ ومتوعد لأنه تجرأ على القرآن ففسره بغير علم.
إذن مدرسة التفسير بالرأي لها اتجاهان:
القسم الأول: الذين فسروا القرآن بالرأي الناشئ عن هوى كما فسرت المعتزلة بآرائهم وأهوائهم وكما فسرت الخوارج والإباضية والرافضة وكما فسر الأشاعرة والماتريدية القرآن بآرائهم وأهوائهم وتركوا تفاسير السلف إلى تفاسير محدثة فهؤلاء مذمومون لأنهم فسروا القرآن برأي لا دليل عليه ولا حجة فيه وإنما نشأ ذلك التفسير عن هوى منهم في ذلك التفسير فهذا رأي مذموم ومردود على صاحبه.
وتمثله عدة تفاسير من التفاسير المعروفة التي ينتمي أصحابها إلى شيء من الفرق التي ذكرت لكم بعضها.
القسم الثاني: من مدرسة التفسير بالرأي الذين فسروا القرآن بالاجتهاد والاستنباط وكان اجتهادهم واستنباطهم صحيحا وهذا إنما يسوغ إذا كمل المفسر شروط جواز التفسير بالاجتهاد والاستنباط وقد تجمع الشروط التي بها يجوز للمفسر أن يفسر القرآن بالاجتهاد والاستنباط فيما يلي:(3/14)
الشرط الأول: أن يكون عالما بعقيدة السلف عالما بالتوحيد بأقسامه الثلاثة بذلك أن يؤمن المفسر من أن يفسر القرآن عن هوى أو على نحو من أراء الجهمية والخوارج والمعتزلة والقدرية والمرجئة إلى آخر تلك الفرق.
الشرط الثاني: أن يكون عالما بالقرآن حافظا له يمكنه أن يفسر القرآن بالقرآن أو يستطيع أن يرد إلى المتشابه في موضع وإلى المحكم في موضع وحبذا لو كان عنده علم بالقراءات.
الشرط الثالث: أن يكون عالما بالسنة حتى يجتهد في آية والتفسير فيها منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الشرط الرابع: أن يكون عالما بأقوال الصحابة حتى لا يفترع تفسيرا ويظهر تفسيرا الصحابة على خلافه وباليقين أنّ التفسير الذي أحدث والصحابة على خلافه نقطع ببطلانه وابن جرير رحمه الله من المهتمين بهذا فمثلا عند قوله جلّ وعلا في سورة الأعراف: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما} نقل عن الصحابة والتابعين أنّ المراد هنا بالضمير هنا في الآية آدم وحواء ونقل عن الحسن أنّه قال المراد بهم اليهود والنصارى من جهة الجنس قال ابن جرير وهذا القول باطل وإنما حكمنا ببطلانه لإجماع الحجة من الصحابة على خلافه فيكون القول به محدثا على خلاف أقوال الصحابة فمن المهم للمفسر أن يرعَ أقوال الصحابة حتى لا يحدث قولا بخلاف أقوال الصحابة لأننا نجزم أنّه لا يمكن أن يكون ثمّ تفسير يغيب عن الصحابة البتة ويكون عند من بعدهم لأنّ الصحابة هم أولى بإدراك الصواب فإذا كان تفسير الآية لا يعرف عند الصحابة والصحابة يفسرون بخلاف هذا التفسير الذي اجتهد فيه صاحبه أو استنبطه فإن نجزم بأنّ هذا التفسير غلط فالحق لابدّ أن يكون محفوظا في الصحابة لأنّهم أهل العلم بالقرآن وأولى من يعلم القرآن.
الشرط الخامس: أن يكون عالما بأحوال العرب كما ذكرنا حتى لا ينزل آيات القرآن، على غير تنزيلها.(3/15)
الشرط السادس: أن يكون عالما باللغة العربية في نحوها وفي مفردتها وفي صرفها وفي علم المعاني من علوم البلاغة وهذا العلم الأفضل أن يكون بالقوة الذاتية بالعلم الذاتي في نفسه وأما إن كان بالقوة القريبة يعني بالمراجعة والكتب فلا بأس إذا استقامت له أصوله وهناك شروط أخر ذكرها طائفة من أهل العلم.
المقصود من هذا أن لا يجترئ من يظن نفسه يحسن التفسير على التفسير بالاجتهاد والاستنباط ولم تكتمل عنده آلاته لأنّ القول في التفسير شديد ولهذا حرّم جماعة من السلف القول في القرآن بالاجتهاد وقالوا لا نفسر القرآن إلا بالنقل عن الصحابة وبعد الصحابة ليس لأحد حق من أن يفسر القرآن وهو مذهب جماعة قليلة من التابعين.
هذه المدرسة مدرسة التفسير بالرأي بقسيمها (الرأي المحمود والرأي المذموم) يمكن أن نجمل التفاسير التي تنتمي لهذه المدرسة إلى أربع مدارس كبرى وذلك لأنّ التفسير بالرأي أكثر بكثير جدا من التفسير بالأثر التفاسير المنقولة بالأثر قليلة بالنسبة للتفاسير المبنية على الآراء فالتفسير بالرأي له عدة مدارس:
المدرسة الأولى: فسرت القرآن بالنظر إلى العقائد وهذه متنوعة فكل أصحاب عقيدة خاضوا في تفسير القرآن على حسب اعتقادهم فالرافضة لهم تفاسير في القرآن تفسير الطبرسي وتفسير الطوسي وهلمّ جرا.
- المعتزلة فسروا القرآن يريدون بذلك أن يبثوا عقائدهم في تفسير القرآن في أغراض معلومة من طالع أوائل كتب التفاسير التي تفسر على هذا النحو علم ذلك.
- الخوارج لهم تفاسير على هذا النحو الأشاعرة لهم تفاسير كثيرة على هذا النحو مثل القرطبي ومثل تفسير أبي السعود ومثل تفسير الرازي وأشباه هذه التفاسير.
- الماتوريدية أيضا لهم تفاسير مثل تفسير النسفي وتفسير الآلوسي روح المعاني وغير هذه التفاسير هذا قسم فسروا القرآن من جهة العقيدة وقد يكون لهم اعتناء بأشياء أخر مثل الاعتناء بالفقه لهم اعتناء باللغة الخ.(3/16)
لكن لهم اعتناء بالعقيدة بثوا العقائد في التفسير وكان لهم هم أن يقرروا عقائدهم في كتب التفسير.
المدرسة الثانية: المنتمية إلى مدرسة التفسير بالرأي مدرسة التفسير الموسوعي ونعني به الذي لم يشترط صاحبه في تفسيره على نفسه نوعا من أنواع علوم بل تجده يطرق كلّ علم من علوم التفسير فهو يفسر القرآن بالأثر ويفسره بأسباب النزول ويفسره باللغة ويفسره بالأحكام الفقهية ويفسره بالأحوال العامة بالعلوم المختلفة (بالتاريخ بالفلك بالرياضيات إلى آخره) كل علم عنده يدخله في التفسير هذا يسمى التفسير الموسوعي ومن أشهر التفاسير التي تنتمي إلى هذه المدرسة (تفسير مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازي وتفسير الآلوسي روح المعاني فإنهم جمعوا فيها كل شيء حتى قيل عن تفسير الرازي فيه كل شيء إلا التفسير وهذه المدرسة تمتاز بكبر تفاسيرها فتفسير الرازي اثنين وثلاثين جزء وتفسير الآلوسي ثلاثين جزء كبير.
المدرسة الثالثة: التفاسير اللغوية وهذه يعتني أصحابها بالنحو بالإعراب باللغة بالاستقاء مثل تفسير أبي حيان الأندلسي (البحر المحيط) ومثل (إعراب القرآن) للنّحاس وأشباه هذه الكتب.
القسم الرابع: والأخير التفاسير الفقهية وهي الموسومة بتفاسير أحكام القرآن لأنهم جعلوا همهم في التفسير أن يقرروا أحكام القرآن وذلك في الغالب يكونون فقهاء والفقيه يعتني بعلمه فإذا فسر القرآن يأتي علمه الذي برز فيه في التفسير فتجده يطيل ويعتني بآيات الأحكام أو الآيات التي فيها أحكام فقهية أو قواعد فقهية أو أصولية.(3/17)
وهذه المدرسة متنوعة بحسب المذاهب فالحنفية لهم تفاسير والشافعية لهم تفاسير فقهية يذكرون فيها أحكام القرآن على طريقتهم يعني على طريقة مذهبهم الفقهي فالحنابلة كذلك والمالكية كذلك فمثلا من تفاسير الحنفية في ذلك "أحكام القرآن" للجصاص ومن تفاسير الشافعية "أحكام القرآن" لإلكيا وللمالكية "أحكام القرآن" لابن العربي "وأحكام القرآن" للقرطبي وللحنابلة "أحكام القرآن" لعبد الرزاق الرسعني وأحكام القرآن لابن عادل الحنبلي فكل مذهب اعتنى بالأحكام الفقهية على مذهبه وجعلها تفسيرا للقرآن هذه مجموع مدارس التفسير بالرأي كل تفسير من هذه التفاسير له منهج وطريقة اعتمدها في تفسيره.
لو عرضنا لتفسير واحد من هذه التفاسير سواء في مدرسة التفسير بالأثر أو مدرسة التفسير بالرأي لنبين شروطه وطريقته لاحتاج إلى درس خاص في ساعة أو ساعتين نبين شروط فلان في تفسيره، تفسير ابن جرير نحتاج فيه إلى درسين أو ثلاثة تفسير ابن كثير نحتاج فيه أيضا لبيان منهجه وكذا أحكام القرآن للقرطبي نحتاج إلى وقت فيها لكن المقصود الإشارات التي بها يمكن أن تدخل هذا العلم الواسع (علم مناهج المفسرين) هذه المدارس استمرّت على هذا المنوال وفي خضمها ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم فشيخ الإسلام كان يفسر القرآن لكنه لم يؤلف تفسيرا والذي كتبه ووجدت في مجلدة مستقلة أنه كان يعتني رحمه الله بتفسير آيات أشكلت على المفسرين (كثر فيها الخلاف بين المفسرين ولم يتضح الراجح فيها) فيجتهد ابن تيمية رحمه الله في حلّ ما أشكل عليهم في تفسيرها.(3/18)
وقد ندم شيخ الإسلام رحمه الله آخر عمره على أنه لم يجعل النصيب الأوفر في عمره للتفسير لأنّه بالتفسير يستطيع المصلح والمجدد ويستطيع الإمام والعالم أن يقرر ما يريد يقرر مناهج السلف يقرر التوحيد يقرر العبادات يقرب الناس إلى ربهم يذكر بالآخرة يعظ بالتفسير يستطيع أن يصل الناس في جميع مشاربهم شيخ الإسلام وابن القيم لم يفسرا كل القرآن وإنما فسرا واعتنيا بآيات إن أشكلت وبما يهم تفسيره من آيات أو سور في التوحيد مثل تفسير سورة الإخلاص تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى تفسير المعوذتين وأشباه ذلك آية الكرسي أو آيات أشكل تفسيرها.
إذن شيخ الإسلام وابن القيم تميزت تفاسيرهم بشيئين:
أولا: أنهم اعتنوا بتفسير سور فيها التوحيد والعقيدة بعامة.
ثانيا: اعتنوا بتفسير آيات أشكل تفسيرها على العلماء من قبل.
هذه المدارس ظلّت مستمرّة والخلف يقلدون من قبلهم فيها وهكذا إلى أن وصلنا إلى مشارف العصر الحديث أنا سرت بكم تاريخيا مرورا بمدارس التفسير حتى يكون عندكم تصور إجمالي للتفاسير واتجاهاتها منذ نشأة التفسير في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر.
فلمعرفة العصر الحديث نحتاج: إلى ضابط فبالنظر إلى اختلاف وجهة التفسير يمكن أن نقول إنّ العصر الحديث للتفسير يبدأ ببداية القرن الرابع عشر (من ألف وثلاثمائة هجرية فما بعد) وذلك لأنّ التفاسير فيما قبل هذا التاريخ سارت على نمط التفاسير قبل ذلك فمثلا في القرن الثاني عشر أو في القرن الثالث عشر الهجري ظهر تفسير الآلوسي قد سار على نحو ما قبله وظهر تفسير الخطيب الشربيني على نحو ما قبله وظهر تفسير صديق حسن خان على طريقة ما قبله وظهر تفسير الشوكاني "فتح القدير" على طريقة ما قبله يعني أنه منذ ابتداء تميز التفاسير في مدرسة التفسير بالرأي على نحو ما ذكرنا لم يظهر اختلاف كثير في مدارس التفسير حتى ابتدأنا في العصر الحديث.(3/19)
العصر الحديث ظهرت تفاسير مختلفة ومتنوعة المشارب واجتهادات كثيرة في التفسير وكان لذلك سبب ولابد من معرفة السبب حتى يتصور لمَ ظهرت تلك التفاسير؟
لمّا جاءت الحملة الاستعمارية على البلاد الإسلامية وبخاصة حملة نابليون على مصر وصار فيها ما صار من ضرب لأصول العلوم الإسلامية نشأت ناشئة طلب منهم أن يذهبوا إلى فرنسا ليدرسوا فيها العلوم (الأدب أو علوم حديثة) ما شابه ذلك وكان الأزهر إذ ذاك يمانع أن يرسل أحد من أبناء المسلمين إلى أوربا فصار هناك اقتراح أن يذهب مع كل طائفة عالم من علماء الأزهر حتى يشرف على أولئك الطلبة وحتى يعلمهم ويحجزهم من الانحراف إن كان فذهب في مقدمات من ذهب بعض علماء الأزهر (من غير تسمية) وهؤلاء لما رجعوا مع التلامذة تأثروا بما عند الغرب (صار عندهم شيء من الإحراج) في ذلك الوقت الغرب عنده تقدم في الحضارة وبلاد المسلمين في تأخر وعدم تطور مدني فصاروا في إحراج من جهة أنّ بعض الجهلة من ذوي الثقافة الغربية عزوا التأخر في ذلك الوقت إلى الدين واتباع الناس للكتب القديمة وللتفاسير القديمة والناس ظلّوا على ذلك المنحى وهي التي أخرتهم عن التطور فظهرت هناك أقوال كثيرة تشكك في الإسلام وتشكك في القرآن وتشكك في السنّة إلى غير ذلك حتى صار ذلك شائعا في الناس بعض ضعاف النفوس في ضوء ذلك ظهرت فئات كثيرة من المسلمين تشككت في الدين في القرآن في السنة وبسبب تلك البعثات وخروج مدارس اللغات الاعتناء باللغات الأجنبية والاعتناء بالآداب الغربية والاهتمام ببحوث المستشرقين إلى غير ذلك.(3/20)
فمن العلماء من نظر إلى هذا الداء فوجد أنّ سبيل ارجاع المسلمين إلى دينهم أن يعتني بتفسير القرآن بتفسير عقلي يعظم القرآن في نفوس الناس حتى لا يبعدوا عن الدين وظهرت في هذا مدرسة محمد عبده أحد مشايخ الأزهر الكبار وأحد الذين اعتنوا بتفسير القرآن ومن امتداد مدرسته محمد رشيد رضا الذي كتب (تفسير المنار) معتمدا في كثير منه على تفاسير شيخه محمد عبده، هذا الوصف الذي ذكرنا نتج منه ضعافا في نفس بعض العلماء جعلهم يحملون القرآن على ما عند الغرب من العلوم فمثلا الآيات التي فيها ذكر لبعض المعلومات الفلكية ينزلونها على المكتشفات الحديثة وبالتالي يجعلونها دليلا على صحة القرآن وأن القرآن سبق الغرب لذلك وكذلك المعلومات الطبية أو المعلومات الغيبية وهكذا...ففسروا القرآن بتفسير عقلي خرجوا فيه عن التفاسير السابقة وعن تفاسير السلف وعما يجوز لأجل أن لا يتشكك الناس في القرآن وأن يقبل الناس القرآن وأن يعظموا القرآن ففسروا الآيات التي فيها بعض الكلام على الأجنّة في ما عند الغرب في ذلك وبعض الآيات الغيبية في الطب مثلا أو في الفلك أو في حال المطر أو ما أشبه ذلك أو في العيون في الأرض أو الأشجار أو النبات أو الجبال إلى غير ذلك...بتفسيرات توافق ما عند الغرب من العلوم وانهال الناس على محمد عبده ويحضرون تفسيره لأنه جعل تفسيره فيه الإصلاح وجعل فيه جدة على ما كان عليه المفسرون من قبل وضم إليه تلك التفاسير وانحرف في كثير منها إذ جعل القرآن تبع لمكتشفات الغرب ومن المعلوم أنّ تلك المكتشفات أو تلك النظريات تصلح في وقت وربما أتى ما هو أفضل منها فأبطل تلك النظرية أو ما هو أعمق بحثا واستقراء فصارت الأولى غير صحيحة فحمل القرآن على النظريات العلمية وتفسير القرآن بالنظريات العلمية هذا لا يسوغ لأنه حمل للقرآن الذي هو حق ثابت لا يتغير بشيء قد يتغير، نعم إنّ القطعي لا يناقض قطعيا واليقيني لا يناقض اليقيني فالعلم اليقيني لا(3/21)
يمكن أن يأتي في القرآن شيء بخلافه وكذلك العلم القطعي لا يمكن أن يأتي في القرآن بخلافه لكن تلك النظريات حملت عليها آيات من القرآن لضعف في نفوس أصحاب هذه المدرسة فنشأت أولى مدارس التفسير في العصر الحديث وهي تفسير القرآن بطريقة عقلانية يجمع فيها ما بين مكتشفات الغرب والمكتشفات العصرية وما بين المتقدمين فجعلوا خليطا واهتموا بالأشياء الحديثة وظهر لذلك تفسير طنطاوي جوهري وتفسير كما ذكرنا محمد عبده وفي خضم ذلك أنكرت بعض الغيبيات وفسر القرآن بتفاسير باطلة وأنكرت أشياء ظاهرة وكان في ذلك شيء من الانحراف في التفسير هذا نوع من مدارس التفسير التي ظهرت في العصر الحديث وقد ذكرنا سبب ظهور هذا النوع من التفاسير.
المدرسة الثانية: هي مدرسة تفسير القرآن على هامش المصحف وكان هذا ممنوعا في الزمن الأول أن يجعل القرآن في هامش المصحف لأنّ القرآن يجب أن يبقى كما هو وألاّ يدخل عليه ولكن لما توسع العصر وصار الناس بحاجة إلي شيء يبين لهم معاني القرآن مع آي القرآن فجعلوا تلك التفسيرات في هامش المصحف فصارت هناك تفاسير مختصرة طبعت مع المصحف وهذا نوع انتشر فصار هناك من اختصر مثلا تفسير الطبري وجعله في هامش المصحف في السنوات الأخيرة ومنهم من ألف تفسيرا لنفسه وجعله على هامش المصحف ومنهم من اختصر أو طول إلى آخره بهذا الشكل وهذا شيء جديد لم يسبق له مثيل في الزمن الأول.(3/22)
المدرسة الثالثة: مدرسة: التفاسير الدعوية وكان لظهورها سبب وهو أنه في هذا العصر ونعني به ما بعد سنة ألف وثلاثمائة هجرية مع ظهور الفساد وبعد الناس عن الدين وتسلط الاستعمار والغزو الثقافي الذي حصل للمسلمين وإبعادهم عن دينهم وعن القناعة بشرع الله جلّ وعلا ظهرت هناك جماعات مختلفة في العالم الإسلامي العربي وغير العربي فيها الدعوة لإرجاع الناس إلى الدين ولا شك أنّ الداعية يحتاج إلى أن يكون اعتماده على القرآن لهذا احتاجت تلك الدعوات إلى أن يفسر بعض منهم القرآن فاعتنى كبار بعض أصحاب تلك الدعوات بتفسير القرآن وتلك التفاسير كان المفسر يفسر فيها مراعيا أسباب الدعوة التي ينتمي إليها فمثلا فسر بعضهم تفسيرا موافقا لأصول جماعة التبليغ وبعضهم فسر القرآن على طريقة الإخوان المسلمين وبعضهم على طريقة جماعة النور في تركيا وبعضهم فسر على طريقة العلماء (جمعية العلماء أو رابطة العلماء في الجزائر) وهكذا في الباكستان والهند ظهرت مدارس كتفاسير الجماعة الإسلامية تفسير المودودي وغير ذلك هذه التفاسير فيها تفسير بالرأي يعني (الواقعي) نظروا في التفسير من جهة التأثير الدعوي في الناس ففسروا القرآن وهم ينظرون إلى الواقع لكي يؤثروا على الناس من طريق القرآن.
وهذه الطريقة خطأها أضعاف أضعاف صوابها لمَ؟
لأنّها أولا: مبنية على رأي مجرد من الأثر بل قد يكون مخالفا للأثر.
ثانيا: يخضعون نصوص القرآن للواقع فيجعلون الواقع هو الحاكم على القرآ، يجعلون الآيات تبعا لأحداث وتطورات الواقع.
ثالثا: بعض أصحاب هذه الطريقة يحكم على أمور لم تنجلّ بعد ويكون مبناها على أمور مستقبلية متكهنة.
رابعا: تأثر بعضها بعقائد منحرفة تصدع بالعقيدة السلفية.
ظهر من خلال هذه التفاسير وغرس الجوانب الدعوية في تلك الجماعات المختلفة في تفاسير أصحابها.(3/23)
هذه المدرسة ومن أمثلة تفاسير هذه المدرسة تفسير المودودي "ترجمان القرآن" وتفسير في ظلال القرآن لسيد قطب، وأشباه هذه التفاسير وتفسير "الأساس في التفسير" لسعيد حوى وأشباه تلك التفاسير.
من التفاسير أيضا التي ظهرت في العصر الحديث تفاسير المعاني للغات أخر وهي المسماة ترجمات القرآن وهي تراجم لمعاني القرآن فظهر في أغلب اللغات الحية في العالم تفسير والبعض يسمّيه تفسير القرآن وهذا غلط لأن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين لا يمكن لأحد أن يترجمه لأي لغة كانت ولكن الصواب أنها تراجم لتفسير القرآن فيأتي هذا الذي ترجم بنظر إلى الآية ويفهم تفسيرها بمراجعة كتب التفسير ثم يترجم مافهمه من التفسير وإلا فإنّ القرآن لا يمكن أن يترجم إلى أي لغة كانت لأنّ لغة العرب شريفة وفوق كلّ اللغات فمثلا في قول الله جلّ وعلا في سورة البقرة {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} فاللباس كيف يفسر باللغات الأخر؟ اللغة العربية فيها سعة لأصول الكلمات وكليات المعاني ولهذا إذا أتت الترجمة فلا بدّ أنّ المترجم يترجم بالنظر إلى تفسير الآية فكل ترجمة للقرآن تعد بمثابة تفسير ولهذا ظهرت في التراجم المختلفة تأثر تلك الترجمة بمذهب صاحبها إذا كان صاحبها قاديانيا أثر في ترجمته وهناك ملاحظات على بعض الترجمات من جهة مذهب صاحبها فإذا أتى لنعيم الجنة وجحيم النار فسرها على مشربه إذا أتى إلى الرقم تسعة عشر عظم ذلك وإذا أتى لبعض الغيبيات فسرها على طريقته ونحلته وبعضها تراجم لمعاني القرآن سلفية طيبة لبعض اللغات الحية وبعضها تفاسير أشعرية وبعضها تفاسير ماتوريدية وبعضها تفاسير دعوية إذن تراجم معاني القرآن التي تراها هي شيء محدث في هذا العصر وتنتمي إلى مدرسة التفسير بالرأي ويمكن للناظر فيه أن يجعله تفسيرا وأن يدرجه ضمن أي مدرسة من مدارس التفسير التي ذكرنا حسب عقيدة ومنهج وطريقة المترجم.(3/24)
وامتدادا للمدارس التي ذكرناها نهج من وجد من المفسرين المعاصرين كل واحد سلك مدرسة من تلك المدارس ولكل قوم وارث فمثلا التفسير:
بالنظر إلى الأحكام الفقهية وهذا ظهرت له عدة تفاسير مثل تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن فإنّه اعتنى بالفقهيات جدا وتفسير القرآن باللغويات بالبلاغة أو بالنحو له عدّة تفاسير مثل تفسير التحرير والتنوير للطّاهر بن عاشور والتفاسير الأثرية التي اعتمد فيها صاحبها على الأثر مثل تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيره ومنها تفاسير اعتمد أصحابها عقائد في فرقهم الباطلة كتفاسير الرافضة وتفاسير الإباضية تفاسير الخوارج إلى غير ذلك يعني أنّ كل التفاسير القديمة جاءتنا من جديد.
وبناء على ما ذكرنا: ينبغي على طالب العلم المهتم بالقرآن إذا أراد أن يراجع تفسيرا أو أن يجعل في بيته تفسيرا لكتاب الله جلّ وعلا عليه أن يحرص أتمّ الحرص على أن يسأل أهل العلم هل هذا التفسير تفسير مأمون أم لا؟ لأنّ من التفاسير ما لا يحمد وربما أضل من ينظر فيه فلا بد أن تسأل حتى لا تأخذ تفسيرا منحرفا في العقيدة تفسير للمعتزلة أو تفسير للأشاعرة مثل تفسير الفخر الرازي وتنظر فيه ربما هذا حصلت عند شبه كثيرة في التفسير، التفاسير كما رأيت كثيرة جدا تبلغ مئات من التفاسير أعداد كبيرة هذا من جهة التفاسير التي فسرت القرآن كاملا، أما من فسر سورة من القرآن فسر جزء من القرآن فهذا ليس حديثنا فيه مع أنه يمكن أن يدرج ضمن مدرسة من المدارس التي ذكرنا.(3/25)
إذا تبين فما من شك أن الراجح والمفضل من التفاسير المختلفة التي كثرت في الأمة جدا التفاسير التي تعتمد على أقوال السلف وعلى أقوال الصحابة والتابعين (التفاسير المنتمية إلى مدرسة التفسير بالأثر) ومدرسة التفسير بالرأي مفيدة لأنّ فيها استنباط وفيها لغويات وفيها نكت ولطائف والنكت هي الفوائد المهمة لكن لا تؤمن لأنّ أكثر من تعاطى التفسير بالاجتهاد والاستنباط (التفسير بالرأي) عنده انحراف في العقيدة أو عنده انحراف في السنة ولهذا لابد من الانتقاء وأقل التفاسير في الاجتهاد والاستنباط بالرأي خطأ حتى تكون أخطاؤه معدودة تفسير الشوكاني (فتح القدير) الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير الرواية يعني بها التفسير بالأثر والدراية يعني بها التفسير باللغة والنّحو والاستنباط وبتفسير القرآن بالقرآن وبتفسير القرآن بأصول الففه إلى غير ذلك من المباحث فمن احتاج إذن إلى أن ينظر في تفسير من التفاسير بالرأي فليكن تفسير الشوكاني فتح القدير يتلوه وهو أصعب منه تفسير أبي حيان الأندلسي (البحر المحيط) فإنه في العقيدة يغلب عليه السلامة وأما غيرها فيها انحرافات كثيرة مع كثرة الفوائد التي فيها لكن لا تصلح إلا لطالب علم متمكن يميز التفسير الصحيح من الباطل.
هذا عرض موجز مختصر يمكن أن تعتبره مدخلا لمعرفة مناهج المفسرين على جهة التفصيل ولا شك أنّ هذا العلم علم مهم وواسع ولا يمكن طرقه في محاضرة أو درس أو اثنين أو عشرة أو عشرين لابد له من سعة في الوقت وأيضا استعدادات عند المتلقين لأننا إذا دخلنا في التفاسير وذكرنا مميزاتها ومناهجها لابن من التفصيل ولأن ّ من التعرض لعلوم متنوعة تلحظ مما ذكر أنه عرض مختصر من بداية نشأة التفسير إلى وقتك الحاضر.(3/26)
أسأل الله جلّ وعلا أن ينفعك وإياي بما ذكرت وأن يجعلنا من المتبصرين في العلم الجادين فيه وأن ينعم علينا بالإقبال على القرآن وأن يتفضل علينا بفهم تفسيره وتدبر آياته وأسأل الله جلّ وعلا لي ولكم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(3/27)
شرح معاني سورة الفاتحة
[(02) شريطان مفرغان]
علينا لِزاما أنْ نتدبّر هذه السورة العظيمة الجليلة، التي افتتح الله بها كتابه، إذن أيها الإخوان فكلامنا مهما كُرِّر، ومهما كان معروفا في هذه المسائل، فإنما هو لتثبيتها، إذْ هي القضية الأولى، القضية العظمى، والمسألة المهمة، بل هي المسألة الرأس التي بُعث الأنبياء بها؛ توحيد الله بالعبادة، أن لا يعبد إلا الله.
أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)?
بسم الله الرحمن الرحيم
...ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةٌ أنس بها القلب فحالفها وألفها وصدّ عن من كرهها وخالفها، وأشهد.... ([1]) الذي لم يدع فسادا إلا أصلحه، ولا مُغلَقا من الأمور إلا فتحه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وعلى صحبه وسلّم تسليما كثيرا.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المقال، كما نعوذ بك من فتنة الفِعال، ونعوذ بك اللهم من العِيِّ والحَصَر، كما نعوذ بك اللهم من السّلاطة والهذر، فإن في كل منهما أدواء يعزّ لها الطبيب، وتعصي على الرفيق أعني المداوي.(4/1)
ليتنا حين نقدم لبعض المحاضرات كهذه، ليتنا نُخلي تقديمنا من الثناء في وجه المحاضر أو المتكلم، فإن السلف الصالح رضوان الله عليهم لم يكن هذا من هديهم، إنّ المحبة في القلوب، وإنها وإنْ كانت المحبة التي في القلوب تأبى إلا وأنْ تظهر، لكن الأفضل ألاّ تظهر في وجه من هو لها، لذا قال السلف: اتقوا المدح فإنه الذبح.
اللهم إنا نعوذ بك؛ نعوذ بك أن يؤثر فينا المقال، وإن كان حقا، كما نعوذ بك من أن تلين أنفسُنا إلى المدح، وإن كان صدقا.
حديثُنا الليلة أيها الإخوان الأكارم عن آيات من كتاب الله، نحاول أنْ نلتمس فيها ومنها بعض المعاني، التي تنير القلوب، وتحيي النفوس، وتَلْقَحُ الأفهام، وتنير الأفكار.
كتاب الله -أيها الأخوان- هو الكتاب الذي أنزله الله علينا لنتدبره، أنزله الله علينا لنتفهّم آياته، أنزله الله علينا ليكون لنا عبرة بما فيه، أنزله الله علينا لنأخذ منه كلَّ علومنا صغيرها وكبيرها.(4/2)
يقول الله جل وعلا ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الْأَوَّلِينَ?[المؤمنون:68]، وقال جل وعلا في آية سورة محمد ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، وقال جل وعلا في آية النساء ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82]، إذن فحقّ علينا أنْ لا نقرأ القرآن قراءة الأمانيّ؛ قراءة الذين لا يعرفون ما تحت كلماته من المعاني العظيمة؛ المعاني التي لو كانت أُلقيت على الجبال لخرت الجبال هدًّا و لتصدعت الصخور منها، القُرَّاء؛ قُرّاء القرآن قد يكونون كثرة، ولكن من منا يتدبر، من منا يؤثر فيه هذا القرآن كما أثر في ذلك الجيل الكريم؛ جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فأثمر فيهم قلوبا؛ قلوبا جاهدت في سبيل الله، نصرت دين الله لم تأخذها في ذلك محبة الأرض ولا محبة النساء ولا محبة الأهل ولا محبة المساكن ولا غير ذلك من المحابّ، تركوا ذلك، تركوا ذلك وتجردوا لنشر هذا الدين، لنشر ما جاء به القرآن.(4/3)
وإنّ أول سور القرآن هي سورة الفاتحة؛ أمّ القرآن؛ والسبع المثاني التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة أول ما نَزلت، وشُرعت بها قراءة في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا أن تُقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعاتها، ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله أنّ رسول صلى الله عليه وسلم قال «كلّ صَلاَة لا يَقْرَأْ فِيهَا بفَاتِحَة الكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ، خِدَاجٌ، خِدَاجٌ »، فقراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، الفاتحة التي نكرّرها في كل يوم وليلة أكثر من سبعَ عشرة مرة، هل تدبرنا ما فيها من المعاني؟ أم قرأناها قراءة من يبدؤها يريد إنهاءها ؟ إنه لمن العجب، لمن العجب أنْ نقرأ سورة سبعَ عشرة مرة، ثم لو سألنا سائل: ما المعاني المندرجة في هذه السورة؟ وما التي تفيده هذه السورة، ما الذي يفيده قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)؟ ما الذي يفيده قوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)؟ ما الذي يفيده قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؟ إلى غير ذلك من آيات السورة.
إذن أيها الإخوان كان علينا لزاما أنْ نتدبّر هذه السورة العظيمة الجليلة، التي افتتح الله بها كتابه، ونرجو أنْ ينفعنا الله جل وعلا في هذه الليلة ببعض ما ورَّثه لنا علماؤنا الأوائل وسلفنا من المعاني التي اشتملت عليها هذه السورة العظيمة.
إذا أراد القارئ أن يقرأ القرآن شُرِع له أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم كما قال جل وعلا في سورة النحل ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98].
وهذه الكلمة (أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) معناها ألتجئ وأعتصم وألتصق بجناب الله جل وعلا وبالله جل وعلا من شرّ الشيطان. (الرَّجِيمِ) يعني المرجوم؛ المطرود من رحمة الله، ألتجئ بالله وأعتصم من شر الشيطان أنْ يضرني في أمر من أمور ديني، أو أن يضرني في أمور من أمور دنياي.(4/4)
فإنّ الشيطان نصب نفسه لعداوتكم، فانصبوا أنفسكم لعداوته، الشيطان طلب من ربكم جل وعلا حين عصى -عصى ربه في السجود لآدم- طلب من ربكم أن يؤخره إلى يوم يبعثون، فأجابه ربكم حكمة وابتلاء، الشيطان لم تهدأ عداوته لبني آدم، لم تهدأ ولن تهدأ حتى يُدخل من يدخل منهم النار، ولن ينجو من الناس إلا صنف واحد ? قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ?[ص:82-83]، إذن لن ينجوا من حبائل الشيطان إلا أهل الإخلاص، وأهل الإخلاص هم الذين استعاذوا بالله؛ بالله وحده من شر الشيطان، استعاذوا بالله وحده من الشرور التي قد يحدثها الشيطان، وقد يحدثها أولياء الشيطان.
فإن الاستعاذة بمعناها الذي قدمناه، إنّ الاستعاذة بمعناها الذي قدمناه نوع من العبادة، لا تصح إلا لله جل وعلا، نوع من العبادة لا يجوز أنْ تصرف لغير الله؛ بمعنى أنه لا يجوز لمسلم؛ يحرم على المسلم أن يستعيذ بغير الله جل وعلا من أي شر وقع أو متوقع، وهذا المحرم رتبته الشّرك، فإنّ المحرمات درجات أعلاها الشّرك بالله ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام:151]، يقول جل وعلا في سورة الجن ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6]، أي إثما لأنهم فعلوا الشرك، وذلك أيها الإخوان أنّ الاستعاذة؛ وهي طلب اللجوء والاعتصام بالله جل وعلا، هي عمل القلب لابد وأنْ يكون المستعيذ، لا بد أن يكون في قلبه من تعظيم المستعاذ به ومن تقديره ومن محبته والخضوع له، لابد وأن يكون في قلبه من هذا شيء كثير، وكل هذه لا تصلح إلا لله جل وعلا، فالاستعاذة إذن حقٌّ لله جل وعلا، لا يجوز بأي حال أن تصرف لغير الله جل وعلا، لا يستعاذ من إنس أيا كانت درجته، ولا يستعاذ بملك، ولا يستعاذ بجنيّ.(4/5)
قد يقول بعض الإخوان: وهل يوجد هذا اليوم ؟ نقول قد يوجد، ولكن التحذير منه هو سنة الأنبياء، التحذير منه هو الذي ورّثه لنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، بل كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يخافون أكثر ما يخافون من الوقوع في الشرك، وهم الأنبياء الذين عصمهم الله جل وعلا من الوقوع في حبائل الشياطين بالشرك، قال إبراهيم الخليل داعيا ربه له ولبنيه قال?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم:35]، إبراهيم الخليل؛ خليل الله يسأل ربَّه أن يجنبه هو وبنيه أن يعبدوا الأصنام، هل كان خائفا؟ نعم، كان خائفا وَجِلاً، وهذه هي مرتبة المخلصين، أما مرتبة المغرورين فإنهم إذا ذُكروا بالتوحيد وذُكروا بترك الشرك، قالوا وهل نحن واقعون فيه حتى تنهانا؟ وهل نحن فيه خائضون حتى تنهانا؟ هذه هي مرتبتهم، فانظر البون الشاسع والفرق بين حال الأنبياء الذين يسألون ربهم أنْ يجنبهم هم وبنيهم من عبادة الأصنام، وبين حال القوم الذين ترى، يستكبرون عليهم أن يتكلم في التوحيد؛ توحيد الله، وذلك لأنه لم يجدوا اللذة التي وجدها أولئك الذين وحّدوا الله حق توحيده، فإن التوحيد أيها الإخوان له لذة تخالط القلوب، تخالط القلوب يعرفها من يعرفها، قال إبراهيم التَّيْمي أحد السلف الصالح عند هذه الآية: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) قال إبراهيم: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
إذن أيها الإخوان فكلامنا مهما كُرِّر، ومهما كان معروفا في هذه المسائل، فإنما هو لتثبيتها، إذْ هي القضية الأولى، القضية العظمى، والمسألة المهمة، بل هي المسألة الرأس التي بُعث الأنبياء بها؛ توحيد الله بالعبادة، أن لا يعبد إلا الله.(4/6)
تأمل سورة الأعراف وسورة هود وغيرها من السور، تجد ذلك جليا، ففي سورة الأعراف حكى الله جل وعلا عن نبيه نوح أنه قال لقومه ?لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59]، (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) هذه أول كلمة قالها نوح لقومه، ثم بعد هود قال لقومه ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:65]، ثم بعد ذلك صالح ?وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ?[الأعراف:73]الآيات، ثم بعد ذلك شعيب ?وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:58]، إذن هذه المسألة؛ مسألة التوحيد مسألة فهم معنى (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) جديرة بل واجب أنْ نعتني بها أيما اعتناء، نعتني بها فوق اعتنائنا بأي شيء، إذْ هي الغرض وهي الغاية من وجودك، وهي تحقيقها، وجب تحقيقها سوف يأتي إن شاء الله جل وعلا معنى هذه الكلمة العظيمة عند قوله سبحانه وتعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
والشياطين نوعان: شياطين الإنس وشياطين الجن.
شياطين الجن قد لا يُروا كما قال جل وعلا ?يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ?[الأعراف:27] شياطين الجن مكرهم قد يخفى على كثير من الناس أعني المسلمين.
والصنف الآخر من الشياطين الذين يدخلون في عموم الآية في عموم الاستعاذة (أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) يدخلون في حكم الشيطان بالتّبع؛ لأن الشيطان هنا ما دام أنه عرف ووصف بالرجيم أنه إبليس، لكن يدخل فيه أولياؤه.(4/7)
إذن وأنت تستعيذ الله من شر الشيطان الرجيم استحضر في قلبك استعاذتك من شر أوليائه، من شر أوليائه من الإنس ومن الجن قال جل وعلا في سورة الأنعام ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ?، ما أوصافهم؟ ?يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، هذه صفاتهم، وتأمل هذه الصفات تدبرها، وانظر الواقع تعلم وتعرف من هي الشياطين التي تصدك عن دينك.
(أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
البسملة آية من كتاب الله، وقولك (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) معناه أبتدئ، إن كنت تقرأ؛ تتلو القرآن، فمعناها أبتدئ تلاوتي متبركا باسم الله، متبركا بكل اسم لله جل وعلا؛ لأن قولَك (بِسْمِ اللَّهِ) هذه نكرة، (بِسْمِ) نكرة، فدخلت فيها جميع أسماء الله جل وعلا، ابتدئ تلاوتي متبركا بكل اسم لله جل وعلا، ابتدئ تلاوتي مستعينا بالله جل وعلا، متبرئا من الحول والقوة، فإنه لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يتبرأ من الحول والقوة، بعض الناس يفخرون بما عندهم، وهذا دليل القصور إما قصور العقل أو ضعف الإيمان، يعتقدون أنهم هُدُوا بحولهم وقوتهم، يعتقدون ما عندهم من زخرف وأموال بحولهم وقوتهم، يعتقدون أن ما عندهم ما لهم من الصحة الآتية بحولهم وقوتهم، والمؤمن يتبرأ من الحول والقوة فإنه لا يستقيم الإيمان، إيمان العبد حتى يتبرأ من الحول والقوة، ولذا جاء في الأثر الذي أخرجه الترمذي في جامعه «من قال لا حول ولا قوة إلا بالله غُرست نخلة في الجنة» وإسناده لا بأس به، (من قال لا حول ولا قوة إلى بالله غرست له نخلة في الجنة) قيل للحسن: إذن نُكثر. قال: فالله أكثر.(4/8)
حَذف المتعلق الذي تعلق به الجارّ والمجرور؛ أعني (بِسْمِ اللَّهِ) حذفه أيضا دلّ على العموم، والحذف شائع معروف في كلام العرب، إذا حُذف الفعل الذي تعلق به الجار والمجرور قد بالمناسب، وهنا حذف ليدل على عموم الأفعال وعلى عموم المتعلَّقات، فإنك تطلب البركة وتطلب العون بقولك (بِسْمِ اللَّهِ) وتطلب أشياء كثيرة.
نزل أضياف من الجن على أحد العرب وهو كان في البرية، فخاف منهم، فلما قدَّم الطعام، سألهم قال: مِنُونَ أنتم؟ قالوا: الجن. قلت: علم ظلامَ. فقلت: إلى الطعام. فقال منهم فريق نحسد الإنس الطعام، فقد فضلتم الأكل فينا، ولكن ذاك يعقبكم سقما. ([2])
الشاهد من هذا أنه قال: إلى الطعام؛ يعني هيا إلى الطعام؛ قوموا إلى الطعام.
فالمحذوف في قولك (بِسْمِ اللَّهِ) تقدره أنت بما يناسب حالك، فإذن من يقول (بِسْمِ اللَّهِ) متدبرا لحاله، ومتدبرا للبركة الحاصلة من هذه الكلمة لابد أن يكون قلبه حاضرا بالكلام، لا يقول (بِسْمِ اللَّهِ) وقلبه بين الأودية أودية الدنيا يسيح، لا.
البركة التي قلنا إنها متعلقة هنا وأنك تقول أبدأ تلاوتي مثلا، أو شربي، أو طعامي، أو لباسي، أو قراءتي، أو نحو ذلك، متبركا لكل اسم هو لله جل وعلا، ما معنى البركة هنا؟ البركة هي طلب النماء والزيادة؛ يعني أنك حين سألت الله جل وعلا وطلبت منه البركة؛ طلبت منه جل وعلا وحده أن يعطيك وحده نماء وزيادة في أجر عملك هذا الذي عملته، وربنا جل وعلا من لطفه بنا ورحمته بنا، أمرنا بأن نفتتح ونقول (بِسْمِ اللَّهِ)، ثم مع ذلك، الدعوة خير لنا، فانظر هذه الرحمة العظيمة بعباد الله، يأمرنا سبحانه أن نسمى، وفي هذه التسمية مصلحة لنا، أي مصلحة، وهي طلب النماء والزيادة في عملنا؛ طلب الزيادة من الخير ومن الثواب في صلاتك، في تلاوتك، طلب المنفعة في شرابك، طلب المنفعة ودفع المضرة في طعامك، ونحو ذلك.(4/9)
والبركة لله جل وعلا، البركة من الله يعطيها عباده، ليست البركة للعباد يعطونها من شاءوا، لا، البركة لله جل وعلا يعطيها من شاء من عباده، ولذلك قال جل وعلا ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1] (تَبَارَكَ) هذه الصيغة تَفَاعَل تُفيد أعلى وأعظم، تفيد أعلى وأعظم أنواع البركة وأعمها متعلقا وأثرا، البركة لله هو الذي سبحانه يعطيها من شاء من خلقه؛ فأعطاها الأنبياء، قال جل وعلا?رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ? يعني بركات الله ?عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ?[هود:73] في سورة هود، وقال جل وعلا في سورة الصافات ?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ?[الصافات:113] (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) من المبارِك؟ هو الله، أليس كذلك؟ ومن المبارَك عليه وعلى إسحاق؟ يعني على إبراهيم وإسحاق، أو على إسماعيل وإسحاق، وقال جل وعلا في سورة فصلت ?وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا?[فصلت:10].
المقصود من هذا أنّ البركة لله جل وعلا يعطيها من شاء من خلقه، وقد دلت الآيات ودلت السنة النبوية على أن البركة نوعان: بركة في الذوات، وبركة في الأعمال.
أما بركة الذوات: فهي للأنبياء والرسل لا يَشركهم فيها غيرهم، ولا يدخل فيها غيرهم، فلا تُطلب البركة؛ بركة الذات؛ يعني أن يُتَمَسَّح ببعض الناس، أو تُقَبَّل أيديهم دائما، أو يُغتسل بوضوئهم، ونحو ذلك، هذا ليس إلا للأنبياء؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه أعطى البركة للأنبياء، ولم يخبر جل وعلا ولم تدل السنة؛ سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن البركة أُعطيت -أعني بركة الذوات- لغير الأنبياء.(4/10)
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يطلبوا البركة بهذا المعنى أعني بشرب بقية الماء مثلا، أو بالوَضوء أعني بالتوضؤ بالوَضوء؛ وهو الماء، أو التمسح، أو تقبيل اليد، فإن هذا كله منكر، وهذا ممنوع في الشريعة ومحرم لأمور كثيرة.
النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنّ الصحابة كانوا يتبركون بذاته، يتبركون بذاته أو بأجزاء ذاته، يُقَبِّلون يده، يقبلون بطنه؛ يعني طلبا للفضل والبركة، يشربون بقية الماء، يَتَبَرَّكون بشعره، ونحو ذلك، وهذا حق لا شك فيه؛ لأنهم الأنبياء الذين أخبر الله بإعطائهم البركة.
أما غيرهم فليس لهم بركة؛ بركة ذوات، فغير الأنبياء لا يتمسح بهم مطلقا، ولا يعظمون مطلقا، ولا يتبرك بهم مطلقا، لأنه ليس لهم بركة؛ بركة ذات، ولذا فإن الصحابة لم يكونوا يعملون مع أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانوا يفعلونه معه،لم يكونوا يفعلون مع أبي بكر الصديق ما كانوا يفعلونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاطبي أحد العلماء الأجلاء الأندلسيين وهو من أهل القرن الثامن توفي من قبل سنة خمس وتسعين وسبعمائة (795)، يقول حين تعرض لهذه المسائل قال : إلا أنه قاطعنا، إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، وذلك أنّ الصحابة لم يكونوا يفعلون بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يفعلونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يشربون سؤر بعض الصحابة مهما كان جليلا، ولم يكونوا يتبركون بشعرهم أو بوَضوئهم، أو بنحو ذلك من الأعمال التي كانوا يعملونها مع رسول الله، -يقول- فهذا خير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن يُفعل بهم شيء مما كان يُفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/11)
إذن فالمسألة مسألة إجماع؛ أنه لا يتبرك بغير رسول الله بركة ذات، ولكن أحدث قومٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثوه في هذه المسائل وأشباهها، والعبرة كل العبرة بما كان عليه الأمر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم أعمق هذه الأمة علما، وأقلها تكلفا، وأقربها إلى الصراط المستقيم. هكذا قال من هو بهم خبير رضي الله عنهم أجمعين.
والنوع الثاني من أنواع البركة هو بركة العمل: ذلك أنّ الله جل وعلا أخبرنا في كتابه أن ذكره مبارك، قال جل وعلا ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ?[الأنبياء:50]، وأخبر أن كتابه كتاب مبارك، والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصِّل الإجمال الذي في القرآن ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ?[النحل:44]، (الذِّكْرَ) هو السنة، فإذن السنة مباركة، والقرآن مبارك، فكانت العلوم الناشئة منهما والتدبر فيهما والتحقيق في معانيهما، كانت تلك العلوم علوم مباركة.
إذن البركة الحاصلة لأهل العلم إنما هي بركة عمل؛ بركة عمل لأنهم تفقهوا في دين الله، وتفقهوا في آيات الله، وتفقهوا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت البركة التي عندهم هي بركة عمل، تُطلب منهم هذه البركة قولا لا ذاتا، تسألهم عن حكم الله في المسألة فيجيبوك، إذن فهم مباركون بركة عمل، وليست ذواتهم مباركة، أبدا، فكيف يكون ذلك، وخيرة الخلق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا كذلك.
هذه بعض المسائل المتعلقة بالمحذوف المقدّر في قولنا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(4/12)
يقول جل وعلا في أول آية من الفاتحة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(3)إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تأمل ذَكَرَ الله جل وعلا في الآية الأولى أنّ الحمد لله رب العالمين فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهذا يُورِث في النفس؛ يورث المحبة لمن يُحمد سبحانه وللذي ربى العالمين بنعمه، أليس كذلك؟ تورث المحبة الآية الأولى؛ المحبة لله جل وعلا الذي هو رب العالمين سبحانه.
والآية الثانية (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تورث في القلب الرجاء بأن يكون التَّالي؛ بأن تكون أنت وأنت تتلو هذه الآية في الصلاة أو في غير الصلاة أنْ تكون ممن شملتهم رحمة الله جل وعلا في الدنيا والآخرة، الآية الثانية تورث في القلب؛ القلب المتدبر المتأمل المتفحص لمعاني الله، تورث في القلب الرجاء بأنْ تكون ممن شملتهم الرحمة في الدنيا والآخرة.
والآية الثالثة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وفي القراءة السبعية الأخرى المتواترة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (مَلِكِ) و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) سبحانه وتعالى، (يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء، يوم الحساب يَوْمَ ?تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ?[الحاقة:18]، يوم يظهر ما استتر به المستترون من المعاصي، يظهر عند ذاك عيانا، يوم تنطق الألسن، يوم تنطق الجلود، وتنطق الأرجل، وتنطق الأيدي بما كان يفعله أصحابها، ذلك اليوم الذي قال الله فيه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يورث في القلب ماذا؟ يورث في القلب الخوف من الله جل وعلا.(4/13)
ثم قال بعد ذلك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، تأمل كيف بدأ بالآية تورث في القلب المحبة، ثم ثنى بالآية التي تورث في القلب الرجاء، ثم ثلّث بالآية التي تورث في القلب الخوف، ثم قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وليُقِرَّ في قلبك أيها العبد أنه واجب عليك أن تعبد الله محبة لله، ورجاء في الله، وخوفا من الله، تعبده لهذه الثلاث مجتمعة؛ بالحب والرجاء والخوف، لا تغلب جانبا عن جانب، فإنّ من الناس من تلاعبت بهم الشياطين فعبدوا الله بالحب وحده حتى تركوا الطاعة، ومن الناس من غلّبوا على قلوبهم الرجاء فخاضوا في معاصي الله وفي الآثام، ثم بعد ذلك يقولون ربُّنا أرحم الراحمين.... ([3])
... هو العذاب الأليم ?حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ?[غافر:1-3]، تأمل إذن هذه الآيات وكيف رُتِّبت هكذا، كتاب الله، كتاب حكيم، حكيم بمعنى محكم، حكيم بمعنى حاكم، حكيم بمعنى محكوم فيه، فهو حكيم بمعنى محكم، كما قال جل وعلا في أول سورة هود ? الر كِتَابٌ [أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ]([4]) مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ?[هود:1-2] فهو كتاب أحكمت آياته، إذن أن تكون الآية الأولى، ثم الآية الثانية، ثم الآية الثالثة تفيد هذه الفائدة، اعلم أن هذا من فضل الله عليك أن عرفك أهل العلم هذه المعارف، فلا تكن منك بعيدة، ولتكن منك على ذُكر دائما.
ثم تأمل أيضا، تدبر أن الله جل وعلا افتتح كتابه العزيز بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ثم ذكر بعد ذلك صفة أنه جل وعلا (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فذكر ثلاث صفات تدور عليها الأسماء الحسنى، ثلاثة أسماء، ذكر سبحانه ثلاثة أسماء:
الأول: الله.
الثاني: أنه الرب.(4/14)
الثالث: أنه مالك يوم الدين، سبحانه وتعالى.
افتتح الله كتابه بهذه الثلاثة أسماء، واختتم كتابه جل وعلا بهذه الثلاثة أسماء عينها، قال جل وعلا في آخر سورة ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ?[الناس:1-3]، الربوبية والملك والألوهية في آخر سورة وفي أول سورة من القرآن، هذه الثلاثة أسماء تدور عليها وتتفرّع منها معاني كثيرة من الصفات والأسماء الحسنى، فإذن لتكن منا على بال، ولعله يأتي بعد ما فيها من المعاني.
كونه جل وعلا الله، هو الله أي المألوه المعبود كما سيأتي.
والرب الذي ربى عباده بنعمه جل وعلا، خالقهم، وسيدهم، والمتصرف في شؤونهم، وأنه مالك يوم الدين، كل ملك فهو له، وأنت إنْ ملكت شيئا في الدنيا فإنك لا تملكه حقيقة؛ إنما تملكه بالإضافة إلى بني جنسك، وإلا فالملك حقيقة لمن؟ لله جل وعلا، ستذهب وتتركه يملكه غيرك، فإذن ليس ملكا حقيقيا إنما هو ملك إضافي.(4/15)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، (الْحَمْدُ) يقول أهل العلم إنّ الألف واللام تفيد الاستغراق في أول الحمد، معناه أن قولك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد شمل كل حمد يستحقه الله جل وعلا، كل أنواع المحامد ثابتة لله جل وعلا، تُقِرُّ وأنت تصلي وأنت تتلو هذه الآية تقر بأن جميع أنواع المحامد لله جل وعلا، المحامد لله جل وعلا وحده، وهو المستحق للحمد وحده جل وعلا، فالله جل وعلا يُحمد؛ يُحمد سبحانه بأسمائه، ويحمد سبحانه بصفاته، ويحمد سبحانه بأفعاله؛ الأفعال التي تدور بين الإنعام والإحسان وبين العدل والحكمة، ويحمد سبحانه على خلقه وأمره، ويحمد سبحانه على قدره وشرعه، كل هذه من أنواع المحامد التي يحمد الله جل وعلا عليها، يقول جل وعلا في أول سورة الأنعام ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ?[الأنعام:1] فحمد الله، فحمد سبحانه وتعالى، أخبر أن الحمد لله لأنه الذي خلق السموات والأرض، فهذا حمد بصفاته سبحانه وتعالى، ولكن قد يقول القائل ما معنى الحمد؟ الحمد معناه الثناء، الحمد معناه الثناء على الله باللسان، معناه الثناء على الله باللسان مع المحبة والتعظيم، فإنّ الحمد لا يسمى حمدا حتى يكون ثناء حتى يكون ثناء فيه المحبة والتعظيم، وإلا فإن الثناء أخص من الحمد، ولذا عطف عليه في حديث صحيح مسلم الحديث المعروف «قَسَمْتُ الصّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ.. فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِينَ) قَالَ الله جل وعلا: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: (الرّحْمَنِ الرّحِيمِ). قَالَ الله جل وعلا: أَثْنَىَ عَلَيّ عَبْدِي.» هذا من عطف الخاص على العام، فالحمد يشمل الثناء وزيادة فالثناء على الله مع الحب لله جل وعلا والتعظيم له سبحانه ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا(4/16)
والأفعال التي محض إحسان أو محض عدل وحكمة وعلى شرعه جل وعلا، كل هذه من أنواع المحامد التي يحمد الله جل وعلا عليها.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وإلا أيها الإخوان فإن المحامد التي يستحقها الله جل وعلا لا تحيط بها الأقلام مهما أوتيت؛ لأن الحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا، وخذ مثلا أنك تحمد الله على صفة الكلام له سبحانه؛ أي تثني على الله جل وعلا بها ثناء مع المحبة والتعظيم له سبحانه جل وعلا، هل تنفذ كلمات الله؟ لا تنفذ، فإن الحمد لا ينفذ، ولذا أخبر جل وعلا بأنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض، وأنه سبح له ما في السموات وما في الأرض، فقال جل وعلا في أول سورة التغابن? يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[التغابن:1]، قال أهل العلم: قوله (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) هذه جملة استئنافية واقعة موقع التعليل للتسبيح. أي أنه سبحانه يسبح له ما في السموات وما في الأرض لعلة أنه جل وعلا مستحق أن يحمد أكمل حمدٍ، حمدا دائما لا ينقطع وإن انقطعت أجيال البشر؛ بل هو يسبح لله جل وعلا ما في السموات وما فيالأرض، ولذا ورد التسبيح بهذه الصيغة ورد مرة بالماضي ومرة بالمضارع.
قال جل وعلا في سور ?سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?([5]).
وقال في سور ?يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?([6])
ليُعلمك أن التسبيح لله المستحق، لأنه سبحانه جل وعلا حقيق بأن يحمد جل وعلا بأن هذا التسبيح كان ولم يزل، كان في الماضي (سَبَّحَ) لأن صيغة الماضي (سَبَّحَ) تفيد كون الفعل حادثا في زمن الماضي، و(يُسَبِّحُ) تفيد كون الفعل حادثا وحاصلا في الزمان الحاضر وفي الزمان المستقبل.(4/17)
فإذن التسبيح لا ينقطع، كل المخلوقات تسبح بحمد الله، فهذا شيء ما يجب أن نستشعره حين قولنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، الْحَمْدُ لِلَّهِ ولفظ الجلالة (الله) معناه المعبود، الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ معناه المعبود سبحانه وتعالى، ذلك أنّ الله يعني هذه اللفظة مشتقة في كلام العرب على الصحيح من قول أهل العلم مشتقة من قولهم أله يأله إلهة؛ بمعنى عبد يعبد عبادة، أله يأله إلهة؛ معناها عبد يعبد عبادة ، سواء بسواء، (الله) معناه إله لكن خففت الهمزة لكثرة الاستعمال كما قال أهل العلم، فإذن لفظ الجلالة مشتق من أله يأله إلهة؛ بمعنى عبد يعبد عبادة -خلوكم معي بأسأل بعد قليل، إِلِّي شارد ذهنه يكون حاضر-، قرأ ابن عباس رضي الله عنه آية الأعراف في قول قوم فرعون له ?وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ? يعني وعبادتك، آية سورة الأعراف ? أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ?[الأعراف:127] هكذا قرأها ابن عباس يعني ويذرك وعبادتك، ذلك أن فرعون ماذا قال لقومه؟ قال لقومه –فرعون- ?مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي?[القصص:38] يعني ما علمت لكم أحدا يستحق أن تعبدوه إلا أنا، فلذلك قالوا له (وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَكَ) يعني عبادتك.
هذا فكون الإله -أيها الإخوان- بمعنى معبود، وكون أله بمعنى عبد، هذا هو معنى لغة العرب التي أنزل الله بها القرآن، فنحن إذا أردنا أن نتبصّر في كتاب الله وفي معاني كتاب الله يجب أن نعلم ماذا قال العرب وكيف استعملت العرب هذا الكلام، فقولنا الإله، معقول أن يكون مسلم يقول لا إله إلا الله ولا يعلم معنى الإله؟ من الناس من يظن أن معنى لا إله إلا الله يعني لا رب إلا الله، وقد بلغ الجهل بالمسلمين مبلغا يأسى له ذووا القلوب الحية، كيف تؤول حالهم إلى هذه الحال.(4/18)
سألت مرة أحد الناس في غير بلادنا، قلت له وهو يدعي الثقافة، قلت له ما معنى لا إله إلا الله؟ وهو يريد أن يظهر أنه مثقف ويقرأ ويعلم، قال: معنى لا إله إلا الله! هذا واضح. قلت: أريد أن تخبري بهذا الواضح. قال: يعني ربنا موجود. سبحان الله العظيم، قال: يعني ربنا موجود. قلت: له ما معنى لا إله إلا الله؟ قال: معناه ربنا موجود. قلت: سبحان الله العظيم.
إذن ما الفائدة أن ترسل الرسل؟ ما الفائدة من أن ترسل الرسل؟ قريش، العرب أخبر الله عنهم بقوله أنهم ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?([7]) وفي آية الزخرف ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وقال جل وعلا في آيات كثيرة كما في سورة المؤمنون ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ?[المؤمنون:86-87]، فإذن أولئك الأقوام كانوا يقولون ربنا موجود أم لا يقولون؟ يقولون، واضح من كلام الله، فإذن فهل معنى لا إله إلا الله التي حاجوا بها رسول الله، وقالوا قل ما شئت من الكلام نطعك إلا هذه الكلمة، ولما دعاهم إليها قالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] كانوا يفهمون إذن ما معنى لا إله إلا الله.
إذن معنى الإله فِعَال بمعنى مفعول يعني معبود، فالإله بمعنى المعبود، فالله معناه المعبود الذي يستحق سبحانه أن نعبده مع الخوف منه والتعظيم له والمحبة له جل وعلا والرجاء بعفوه وكرمه ورحمته.(4/19)
هذا هو معنى الإله، ومعنى لا إله إلا الله معناها لا معبود إلا الله، لا معبود حق إلا الله جل وعلا، ويدله لذلك دلالة ظاهرة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس ألا تعبدوا إلا الله، فقال جل وعلا في الآية التي سمعتموها قبل قليل في أول سورة هود ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، عندنا هذه الكلمة (لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) وعندنا (لا إله إلا الله) أليستا متساويتين؟ لا تعبدوا إلا الله، لا إله إلا الله، متساويتين، أليس كذلك؟ إلا أنّ (إله) وضع بدلها (تعبد)، فإذن الإله هو معنى العبادة، الإله بمعنى المعبود والإلهة بمعنى العبادة، هذا هو المعنى، نوح قال لقومه ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59]، وقال عنه جل وعلا في سورة هود (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ)، قال لقومه –نوح- (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ).(4/20)
فإذن الرسل بُعثوا بهذه الكلمة العظيمة؛ لا إله إلا الله؛ ومعناها لا معبود إلا الله، فإننا أيها الإخوان إنما خلقنا لأجل عبادة الله جل وعلا، ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ?[الذاريات:56-57]، ما خُلقنا إلا لأجل عبادة الله، ولكن الله سبحانه وتعالى رأفة بنا ورحمة شرع لنا وأباح لنا أن نتمتع ببعض الطيبات في الدنيا أو بالطيبات جميعا في هذه الدنيا دون إسراف ولا مخيلة منة منه وتكرما، وإلا فإننا خلقنا للعبادة لعبادة اله وحده فقط، ?وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى?[طه:131-132].(4/21)
قوله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حين تُقرأ ينبغي أن تُستحضر بعض هذه المعاني، بعضها، وقد تتزاحم في قلب البصير، ولكن كل واحد يأخذ منها بمقدار ما يسعه عقله ولبّه، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قلنا إنّ هذه الكلمة كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أفادت ماذا ؟ توحيدا لله جل وعلا في كونه الإله؛ في كونه المعبود وحده، وهذا الشيء هو الذي سماه أهل العلم منذ القديم سموه توحيد الألوهية، ذلك لأننا وجدنا أنّ الله جل وعلا أخبر سبحانه أنّ القوم الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يوحدون الله بنوع من التوحيد، ويأبون أن يوحدوه في النوع الآخر، وهذا لم يقله أهل العلم من عند أنفسهم، وإنما قالوه حين تدبروا القرآن ورأوا آيات الله، يقول جل وعلا عن أولئك الأقوام الذين بعث لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في سورة الصافات ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ?[الصافات:35]، إذن هم يستكبرون عند ماذا؟ عند قول لا إله إلا الله؛ يعني عند إثبات هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الألوهية، هذا واضح؟ أخبر سبحانه وتعالى عنهم أنهم يوحدون الله بنوع آخر وهو ما سماه أهل العلم بتوحيد الربوبية كما أشرنا إليكم الآيات كقوله ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?([8]) وكما قال جل وعلا في سورة يونس في آيات في آية آخرها ?وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31] إذا كنتم تقرون بأنّ الله هو المحيي وحده، وهو المميت وحده، وهو الخالق وحده، وهو الرازق وحده،كل هذه كان يعتقدها مشركوا العرب -يعني أكثر مشركوا العرب- أنه الخالق وحده، وأنه الرازق وحده، وأنه رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، كل هذه يقرون بها لله وحده، ماذا قال الله لهم،(4/22)
?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ(32)كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ?[يونس:31-33]، كانوا مقرون بالتوحيد؛ توحيد الربوبية وأبوا أن يقروا بتوحيد الألوهية، حاجهم الله جل وعلا بنوع آخر من الحجج بعد هذه الآية مباشرة، قال جل وعلا في سورة يونس ?قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?[يونس:34] الجواب أنهم سيقولون: لا. لأنهم يقرون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، ?قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ?[يونس:34]، ?قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي? يعني آلهتهم ?إِلَّا أَنْ يُهْدَى? يعني في الأصل لأنهم إما رسل أو رجال صالحين كانوا يُهْدَون إلى الطريق؛ لم يكونوا يملكون الهداية ?أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[يونس:35]، إذن لماذا قالوا ذلك؟ قال الله بعدها ?وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا?[يونس:36]، ولذلك ينبغي أن نتنبه لمسألة مهمة وهي أنّ أهل الباطل الذين قد يدافعون عن المعتقدات الخرافية الباطلة، قد يكون لديهم في اتّباعهم ظنّ وهو خلاف العلم، وقد يكونوا هم يحسبون ما عندهم علم، لكن العبرة لما قاله الله وقاله رسوله، ولذلك أخبر جل وعلا في آخر سورة غافر، قال جل وعلا ?فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ?[غافر:83] هم عندهم علم في ظنهم، لكنه ليس علما مجديا، ليس علم الحق، إنما هو(4/23)
علم بالباطل، ولذلك فإن أهل الباطل لديهم كتب وحجج، ولكن حَجّتهم الرسل وحجهم أهل الحق، ومن لم يتدبر بالحجج القرآنية في الرد على أهل الشرك وأهل الأهواء وأهل الضلال، من لم يتدبر سيختلط عليه الطريق، وسوف يظن كل من انتسب إلى العلم عالما، وهذا ليس صحيحا، فالعالم إذا انتسب إلى العلم فزنه بالسنة، زنه بالسنة، فإذا اتبع السنة؛ يعني الطريقة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته بالفهم والعلم والعمل والفقه، فهو محق، فهو عالم من علماء الحق، وإلا إنْ كان من أهل الأهواء ممن يحب أن يُعظم ويُبجل ويلتف الناس حوله، وهذا يُقَبِّل وهذا يتمسَّح وهو ساكت راض، فاعلم أنه ليس من علماء الحق، هذا من علماء الضلال؛ لأن هذه الأمور من محرمات أفعال القلوب ولا يرضى بها حقيقة؛ لأن العلم الصحيح يقود إلى العمل، ومن تعلم علما صحيحا ورأى الناس يعظمونه ثم هو ساكت معناه أن قلبه غير حي؛ قلبه ميت، بل هو يريد الرّفعة والجاه والسمعة، وكل هذه من المفسدات، في الحديث الذي رواه الترمذي في جامعه «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ» ورواه الإمام أحمد وغيرهما «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ في غَنَمِ بِأَفْسَدَ لهَا مِنْ حِرْصِ الْرّجل عَلَى الْمَالِ وَالشّرَفِ لِدِيِنِه» فلينتبه المنتسبون للعلم خاصة من هذا الداء، فإنهم قد يرفعون، لكن السلف الصالح رضي الله عنهم، لكن الشكوى إلى الله قلوبنا ليست كقلوب أولئك، من السلف من إذا رأى الحلقة قد غصّت وامتلأ المسجد بالناس تركهم وذهب؛ خاف الشهرة على نفسه، خاف على قلبه، كل هؤلاء أتوا يستمعون كلامي، إذن عندي شيء إذن أنا وأنا، السلف كانوا يهربون من هذا هربا، إنما كانوا يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكانوا أهرب ما يكونون عن السمعة، وعن الجاه، وعن الرفعة، وعن حب التبجيل والتعظيم، هذه كلمة أتت عرضا قادنا لها الكلامُ.(4/24)
ومما يدلك -نرجع إلى موضوعنا الأول- مما يدلك على فساد قول أولئك الذين ساووا بين توحيد الألوهية والربوبية؛ أو فسروا لا إله إلا الله بقولهم معناه ربنا موجود؛ أو لا رب إلا الله، أو نحو ذلك، أنّ الله جل وعلا قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) في أول سورة في كتاب الله وفي أول آية من كتاب، ففرّق الله جل وعلا بين الله وبين الرب، والشيء، الأمر لا توصف بنفسها، إنما توصف بشيء مغاير، أليس كذلك؟ هكذا قررّ أهل العلم، وهكذا هي اللغة، لا تصف الشيء بنفسه، لا تقول الكريم الكريم، هذا يسمى تأكيدا ما يسمى وصف، وقوله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) غاير بين الربوبية والألوهية، فإذن الألوهية شيء والربوبية شيء، فما الألوهية وما الربوبية؟ الألوهية هي أن تعبد الله وحده؛ يعني توحد الله جل وعلا بأفعالكَ أنت، بأفعالكَ أنت، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا تعبدوا إلا الله، توحده بأفعالك، أمثال هذه الأفعال الدعاء فلا يدعا إلا الله جل وعلا، الرجاء لا يرجى إلا الله، الاستغاثة، الاستعانة، الذبح، النذر، ونحو ذلك من أنواع العبادة، فكما أنك لا تصلي إلا لله فلا يدعا إلا الله؛ لأن الصلاة هي الدعاء، قال جل وعلا ?وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ?[التوبة:103] (صَلِّ عَلَيهِمْ) يعني أدعو لهم، فقال جل وعلا في الآية الأخرى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) يعني أن دعاءك سكن لهم، وقال جل وعلا في سورة الأحزاب ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ?[الأحزاب:56]، ما معنى الصلاة هنا؟ الدعاء، وكما أنه لا تصلي أيها العبد إلا لله فكذلك لا تدعو إلا الله، ومن فرق بين الصلاة والدعاء فقد فرق بين فردين ومتآخيين فلا سبيل إلى التفريق بينهما، يقول الأعشى؛ أعشى قيس، الشاعر المعروف في شعره:
تقول بنتي وقد قرَّبْتُ مرتحلا يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجع(4/25)
ما ذا قالت البنت؟ يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع، فقال:
عليك مثل الذي صليتِ......... ............................. ([9])
يعني دعوتِ، فالذين يفرقون بين الدعاء والصلاة يقولون صل لله وحده، ثم الدعاء أُدعو من شئت من الأنبياء والصالحين أو الأولياء ونحو ذلك. هؤلاء جهلة في الحقيقة لأنهم لا فهموا القرآن ولا السنة ولا اللغة، وإنما ما أتوا من شهواتهم الخفية التي الله أعلم بها، وإلا فإن الحق واضح، والحق أبلج كما أن الباطل لجلج، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، لأجل ضيق الوقت سنأخذ مقتطفات لبعض معاني السورة، وإلا فإن هذه السورة الكلام عليها يحتاج أياما؛ لأن كل كلمة منها تحتها أصول؛ أصول تكلم القرآن عنها، وأصول جاءت في القرآن وتكلم الله بها، ولذلك سميت أم القرآن، لماذا؟ لأن فيها الأصول التي جاءت في الكتاب كلها، ولكن من الناس من تدبر وقرأها...
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)،
(الرَّحْمَنِ)و (الرَّحِيمِ) اسمان من أسماء الله متضمنان بصفة من صفات الله جل وعلا وهي صفة الرحمة، وأهل السنة يثبتون هذه الصفة على حقيقتها لله جل وعلا، مع التنزيه لله أن يكون اتصافه بهذه الصفة مشابها لاتصاف المخلوقين بها، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، لكن هنا أريد أنْ أنبه إلى مسألة وهي أنّ الإيمان بالأسماء والصفات؛ لأننا ذكرت هنا نوعين من التوحيد: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية في أول آية، ثم في الآية الثانية نذكر توحيد الأسماء والصفات.(4/26)
الإيمان بالأسماء والصفات أيها الإخوان الإيمان الحقيقي؛ الإيمان الصحيح الذي كان على نور وبينة وعلم، هذا يُثمر في القلب، وتُرى آثاره على القلب وعلى العمل وعلى العلم، وذلك أن الإيمان أعني الإيمان بالأسماء والصفات ليس إيمانا مجردا بألفاظ لا معاني لها؛ بل إيمان بالألفاظ وما تحتها من المعاني، إيمان بالصفات وما فيها من المعاني، فالقلب الذي قرأ صاحبه (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كم سيتعلق به من المشاعر حين يمرّ في ذهنه ويحضر في قلبه سعة رحمة الله جل وعلا, كم سيكون تعلقه بالله طمعا في أن يكون من المرحومين، كم سيكون لهذا الإيمان بهذه الصفة وأن الله رحيم بعباده أرحم من الوالدة بولدها، كم سيثمر هذا في قلبه من الأمور والمعاني الخيرة التي تقوده إلى العمل الصحيح، فالإيمان بالأسماء والصفات، الإيمان يُثمر في القلوب، ولذلك الذين يعنون بهذا النوع من العلم ينبغي أن يتنبهوا حين يقرؤه ويدرسون، ينبغي أن يقرنوه دائما بأثر الإيمان بالصفات، لا ينبغي ولا يصح أن تدرس هذه الأمور خلوا من هذه الآثار؛ الآثار الإيمانية المترتبة عليها.
الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال «يضحك ربنا» إلى آخر الحديث، قال له أعرابي أوَ يضحك ربنا؟ قال : «نعم»، قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا.
معلوم أن ضحك الخالق جل وعلا ليس كضحكنا وحاشاه جل وعلا، ننزهه سبحانه عن الشبيه والمثيل والنديد، نثبت له سبحانه وتعالى ما أثبت لنفسه وما أثبته له رسوله مع التنزيه عن المشابهة.(4/27)
إذن أنظر كيف هذا الصحابي كيف انطبعت هذه الصفة في قلبه وأثنى على الله بها (لن نعدم من رب يضحك خيرا) سبحان الله، فكم منا من يقرأ ويسمع الأسماء والصفات ولا تثمر في قلبه، يمر عليه قول الله جل وعلا ? إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ?[هود:90] فلا يثمر في قلبه، ?حَمِيدٌ مَجِيدٌ?[هود:73] فلا يثمر في قلبه، يمر عليه اسم الله ?الرَّقِيبَ?[المائدة:117] فلا يثمر في قلبه، يمر عليه اسم الله العزيز، الحكيم، القدير، فلا يثمر في قلبه، الشعور بعظمة الله جل وعلا، وأنك أيها الإنسان ليس لك عِزّ إلا بطاعة الله جل وعلا، ليس لك فخر إلا بطاعة الله جل وعلا، فأنت تفخر إن كنت واعيا لنفسك بأن تكون من الطائعين؛ لأنك انتسبت لمن؟ لطاعة الله جل وعلا، ومن هو الله؟ ? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ?[الحشر:23] كل هذه وغيرها من الأسماء والصفات العليا، كل هذه، تثمر في القلوب ثمرات يُرى أثرها في الاعتقاد والعمل، يرى أثرها في الرقابة والتمجيد والعظمة والتحميد والتعظيم لله جل وعلا.
قوله جل وعلا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هذه فيها توحيد العبادة؛ توحيد الألوهية وكيف فهم منها أهل العلم ذلك؟ لأنه قدم المعبود يعني المفعول على العامل يعني الفعل، قدم (إِيَّاكَ) ما قال نعبد إياك، قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني نعبدك وحدك لا نعبد معك غيرك.
والعبادة ما هي؟ العبادة التي لا يجوز أن تُصرف إلا لله جل وعلا، هي كل عمل فيه مرضاة لله جل وعلا مما هو مختص به جل وعلا من أفعالك أيها العبد، كالتي قدمنا؛ دعاء، وطلب الشفاعة، والنذر، الذبح، غير ذلك مما ذُكر.
العبادة بمعنى آخر تعرف بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.(4/28)
إذن العبادة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هذه العبادة ليست كما يفهمها بعض الناس اليوم، ليست هي الشعائر التعبدية أو الأركان الخمسة فقط؛ الشهادة والصلاة، لا، والزكاة والصوم والحج، لا، العبادة أوسع كل ما فيه رضا لله جل وعلا؛ اسم جامع لكل ما يرضاه جل وعلا من الأقوال والأعمال. إذن فأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر عبادة، صلتك للرحم إن أحسنت النية فيها عبادة، دراستك للعلم الشرعي عبادة، دراستك لعلم غيره إن أحسنت النية فيها عبادة، كل هذا... ([10])
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الله جل وعلا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) في الحديث الذي رواه مسلم في حديثه «قَسَمْتُ الصّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي إلى نِصْفَيْنِ قَالَ العبد: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). قَالَ الله: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». (هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) فانظر وتأمل هذا الفضل العظيم الذي حذاك به خالقك، ومولاك، وربك، أنزل عليك كتابا فيه هذه السورة العظيمة، ثم أمرك أن تتعبده بأن تقرأها في كل ركعة في الصلاة، ثم بعد ذلك ومع ذلك إذا دعوت الله بها قال الله جل وعلا (هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ) فأيّ كرم فوق هذا، وأي رحمة للعبد فوق هذه الرحمة، وأيّ فضل كهذا الفضل، هل يعرف العباد حق ربهم عليهم؟ خلقك وشرفك بعبادته، وأرسل لك الرسل يدلوك الطريق حتى لا تضل، ثم بعد ذلك إذا اتبعت الرسل نلت رضا الله، ونلت الجنة بعفوه ورحمته، فأي فضل فوق هذا الفضل؛ يأمرك بالشيء ويجزيك عليه، يا له من فضل، يا له من فضل وإنعام تنكسر له القلوب وتحنّ بطاعة خالقها.(4/29)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الصراط هو الطريق، ووصف الطريق هنا بأنه المستقيم؛ يعني الذي جمع مع وضوحه القرب؛ قرب الوصول إلى البُغية، فإن المستقيم كما هو معروف هو أقرب، أو كما يقول أهل الرياضيات، يقولون فأقصر خط يصل بين نقطتين، فهذا حقيقة هو وصفه؛ وصف الصراط المستقيم، إذْ على أول الطريق أنت أيها العبد، وآخر الطريق فيه رضا الله، والجنة وأقصر طريق يوصلك؛ بل هو الطريق الوحيد هو ماذا؟ اتباع الرسول؛ واتّباع شرع الله.(4/30)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) تسأل ربك الهداية؛ هداية التوفيق والإلهام للصراط المستقيم، وهذا يجعل القلب يتفكر ويسأل: ألسنا مهتدين؟ نحن على خير إن شاء الله، فما فائدة هذا السؤال (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) نكرره في كل يوم وليلة كذا وكذا مرة؟ ما فائدة هذا التَّكرار؟ يعلمك ربك أنك لا تظن أنّ هذا الصراط؛ أنك إذا هديت عليه أول الأمر، أنك لا تحتاج إلى تثبت له، تثبيت لسيرك عليه؟ فإنّ هذا الصراط المستقيم تحتاج دائما إلى العناية بنفسك عليه، وأن تسأل ربك الثبات عليه سؤالا حينا بالهداية، وسؤالا حينا بالعبادة، وسؤالا حينا بالطاعة، وسؤالا حينا بالدعوة، كل هذه من وسائل التثبيت على الصراط المستقيم؛ لأن هذا الصراط قد انتصب عليه شياطين الإنس والجن ?لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ? قول إبليس في سورة الأعراف ? ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ?[الأعراف:16-17] إذن هذا الصراط قد انتصب عليه -يعني هذا الدين، اتّباع الشريعة هذا القرآن هوالصراط- قد انتصب لك عليه شياطين الإنس يضلوك ويثبطوك عن المُضِي فيه، فاحذر منه، اسأل الله دائما الثبات عليه، فاسأل الله دائما، وأنت تقول (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) اسأله حقيقة لا لفظا، اسأله مستشعرا حاجتك الملحة للثبات على صراط الله.
والصرط المستقيم هو الإسلام والقرآن والشريعة، ونحو ذلك من تفاسير السلف، والصراط تنوّع في القرآن:
أحيانا يطلق كهذه الآية.(4/31)
وأحيانا يضاف –صراط المستقيم-، وأحيانا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كما في قوله جل وعلا في آخر سورة الشورى ?وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52)صِرَاطِ اللَّهِ?[الشورى:52] فمرة أضافه إلى الله قال (صِرَاطِ اللَّهِ)، ومرة قال جل وعلا (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، فمرة قال (صِرَاطِ اللَّهِ) ومرة قال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أضافه مرة إلى الله؛ لأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي يُفسر به الصراط، وهو الذي تعبدنا بالإسلام، وأضافه حينا إلى الذين أنعمت عليهم (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؛ لأنهم هم الذين يسلكون، هم الذين يسرون عليه، يسيرون على صراط الله، الذين أنعم الله عليهم يسيرون على صراط الله، فهذا تشريف فوق التشريف؛ أنهم يسيرون على صراط هو صراط الله، هو الطريق الموصل إلى الله (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).(4/32)
واعلم أن ها هنا عجيبة دلت عليها هذه الآية، وهو أن الله جل وعلا سمّى الإسلام، وسمّى شرعه، وسمّى دينه، وسمّى قرآنه صراط مستقيما، كما أنه جل وعلا نصب يوم القيامة على متن جهنم طريقا وجسرا سماه صراطا، فهنا في هذه الدنيا هناك صراط هو الإسلام، وفي الآخرة هناك صراطا منصوب على متن جهنم أعاذنا الله وإياكم منها، واعلم أنه لن تعبر ذاك الصراط الذي هو على متن جهنم إلا بهذا الصراط إذا سلكته في الدنيا؛ صراط الله الإسلام الإيمان، لا يعبر ذاك الصراط إلا بهذا الصراط، وذاك الصراط أيضا جعل الله في جنبتيه كلاليب تخدش وتخطف من هو سائر عليه يوم القيامة، وكذلك على هذا الصراط في الدنيا؛ هناك كلاليب تخطف السائر على الصراط المنصوب على متن جهنم، وكذلك في هذه الدنيا على هذا الصراط الذي هو الإسلام أو الشريعة أو القرآن أو التوحيد فيه وفي جنبتي الصراط كلاليب أيضا تخطفك عن السير فيه، فتنبه لها إنها المعاصي، إنها الآثام، إنها حظوظ النفس، إنها الشهوات، إنها طاعة الهوى، طاعة إبليس، عبادته؛ لأن إبليس يعبد بالطاعة فمن أطاعه فقد عبده عبادة طاعة، كما قال جل وعلا في سورة يس ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ?[يس:60-61] فلهذا فعبادة الشيطان هي طاعته، فهذا الصراط عليه كلاليب في الدنيا من المعاصي الآثام فزن نفسك يا عبد الله عند قراءة هذه الآية في صلاة، في كل مرة، وفي كل فرض فزن نفسك بما حصل منك ما بين الفرض والفرض، وكرره، فهل مشيت على هذا الصراط مشيا جادا حثيثا أم تخطفتك كلاليب، فإذا تخطفتك كلاليب بين الفرض والفرض من عبادة الشيطان أو طاعته أو المعاصي، فاعلم أنك إن لم تبادر بالتوبة فستخطفك الكلاليب هناك، هذا حق يجب أن نستشعره ونحن نتلو هذه الآية، وعلى قدر سيرك على هذا الصراط في الدنيا يكون سيرك على(4/33)
ذاك الصراط في الآخرة، واعلم أنه جل وعلا وحد الصراط هنا فقال (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يعني هو صراط واحد، وسبحانه وتعالى ذكر في آخر سورة الأنعام أنّ غير سبيله سبل، غير صراطه سبل متفرقة، فقال جل وعلا في أول الآية، الآية محفوظة يعني ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي? هذا أول الآية ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي? هذه الآية كان يسميها السلف أو بعض العلماء يقول إنها آية الوصايا العشر، وهذه هي آخر الوصية ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ?[الأنعام:153] فإذن غير صراط الله هناك سبل، فهناك سبل، فصراط الله جل وعلا واحد، صراط الله جل وعلا واحد، وسيرك عليه على هذا الصراط الواحد تتجه فيه إلى واحد هو الله جل وعلا، فالصراط واحد وأنت تتجه إلى واحد جل وعلا، فلا تشرك في سيرك معه غيره سبحانه وتعالى أبدا، بل كما أن الصراط واحد فإذن هذا الصراط يوصل إلى الله جل وعلا وهو واحد، وأيضا سيرك على هذا الصراط يحتاج إلى شيء، يحتاج إلى أمر، وهو أن تسير عليه على بينه؛ أن تسير عليه على دليل ووضوح، وهذا هو التوحيد الآخر الذي دلت عليه هذه الآية وهو توحيد المتابعة؛ متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه الذي دل عليه القسم الثاني من الشهادة، وهو قولنا وأشهد أن محمدا رسول الله؛ يعني أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته وشرعه هو المقتفى وحده، لا نقتفي غيره أبدا.
فإذا كان السبيل واحد وهو الصراط، والمرجو والمراد واحد وهو الله جل وعلا، والدليل واحد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فجمعت هذه الآية بلوازمها ثلاثة أنواع من التوحيد، فانظر قلبك كيف إذا عالما بهذه المعاني كيف تشعر.... وتعظيمه وما يجب له من أنواع الجلال والتعظيم، ولذا قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان(4/34)
(فلواحد) لله جل وعلا، (كن واحدا) في قصدك وإرادتك، (في واحد) في سبيل واحد وهو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسرها قال (أعني سبيل الحق والإيمان) وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
الكلام على هذه السورة وعلى هذه الآيات وما يخطر بالبال عند تلاوتها كثير، ولكن لعل قليلا ينفع خير من كثير يذهب، فإن القلة معها النفع، وإنّ الكثرة قد يكون معه الزلل، ولذا أستغفر الله وأتوب إليه في آخر مقالي هذا، وأدعو الله سبحانه وتعالى لي ولكم بالثبات على دينه، وبالتبصر في طريق الحق، وبمعرفة حق الله علينا؛ فإن حق الله علينا عظيم، فيجب أن نفكر فيه –في هذا الحق-، وكيف نعبد الله جل وعلا ونتذلل له ونخضع له، ونكسر بين يديه، وتنكسر قلوبنا لله جل وعلا، عسانا نكون من الناجين المفلحين، فإن هذه الحياة أيها الإخوان ليست بشيء؛ فمن عاش مائة سنة كمن عاش عشرين سنة؛ يعني عند حلول الممات، ولكن الشأن كل الشأن فيما يستقدمه الإنسان في حياته، ربّ امرئ غرغر يعني حضرته الوفاة فمرت عليه حياته يودّ أنه يرجع ليعمل غير الذي كان يعمل، ولما كان الموت والأجل خفيّا عنا أوجب لذوي القلوب التي تخاف الآخرة وتعمل حق الله عليها، أوجب عليها التوبة الآن وحينا، ولكن ما نقول في زمن إذا أتينا فيه إلى المساجد رقّت قلوبنا وإذا رأينا خارج المساجد قست قلوبنا.
فنسأل الله العليم الجليل بأسمائه الحسنى وبصفاته العليا أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وأن يذكرنا منه نسينا، وأن يعلمنا به ما جهلنا، وأن يرزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيه عنا، تلاوة فيها التدبر ومعرفة كلامه سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأسئلة: أنتقي من الأسئلة لأني تأخرت عليكم وأطلت، لكن نرى الذي له اتصال بالمحاضرة والذي فيه فائدة.(4/35)
1/ سائل يقول: قلتم أنه –وبعد القول تكسر الهمزة- قلتم إنه لا يجوز تقبيل الأيدي تبركا. فما حكم تقبيل يد العالم أو الأبوين تقديرا واحتراما لمكانتهم؟
? أمّا الوالدان فتقبَّل أيديهم احتراما لا تبركا، والعالم لا تُقبَّل يده دائما، وإنما الذي ثبتت به السنة في تقبيل اليد هو التقبيل أحيانا، هذا جائز بشرط أن يؤمَن أنْ يرى المقبَّلة يده؛ أنْ يرى نفسَه أنه أهل لشيء، إذا أمن ذلك جاز تقبيله حينا وليس دائما؛ يعني ليس كلما لُقي قُبلت يده، بل يقبل مرة، وهذا جاءت به السنة كما قبّل اليهوديان رِجلا النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قبل كعب بن مالك يد أو رِجل النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قبل بعض الصحابة ..... ([11])، وكما فُعل بزيد ابن ثابت حينما قبل يده ابن عباس رضي الله عنه، هذا أحيانا؛ يجوز مرة، مرتين، ونحو ذلك، أما دائما فلا يجوز، وهذا قد تقرر عند أهل العلم لا مخالف لهم من بينهم إلا شذاذ أهل البدع الذين أرادوا أن يتكبروا وأن يغلوا الناس فيهم.
فتقبيل اليد للوالدين جائز؛ لأنه من الاحترام ومن البر والإحسان المأمور بهما، أما تقبيل غيرهما فيجوز حينا، حينا مع أمن خطر التعظيم، ومع أمن خطر الإعجاب؛ إعجاب المقبَّلة يده بنفسه أو بدينه أو بعلمه أو نحو ذلك.
2/ فيه بعض الناس يا شيخ....... ([12]) الانحناء صباحا مساء استدلالا بهذا الآداب.
? الانحناء عبادة، الركوع عبادة من العبادات، وصرفها لغير الله جل وعلا إن كان مع قصد التعظيم والمحبة والخضوع شرك، وإن كان لأجل التحية -وهذا ما لا يوجد عند المعظمين- لأجل التحية فهو من الشرك الأصغر المحرم؛ الذي لا يخرج من الملة، لكن إن كان مع الإنحاء أو السجود تعظيم ومحبة وخضوع للمسجود له كما يسجد بعض الصوفية؛ أعني بعض المريدين لشيوخهم أو نحو ذلك، فهذا شرك بالله جل وعلا، كما نصّ على ذلك أهل العلم.(4/36)
3/ بعضهم يقول أنّ من خصائص الرسول جل وعلا له مقاليد السموات والأرض، فما حكم من اعتقد هذا أو قال هذا.
? الله سبحانه وتعالى قال في سورة الشورى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ?[الشورى:11-12]، فهذه الآيات في سياق توحيد الله جل وعلا في الصفات، وفي الأفعال، وفي العلم، إذا كان كذلك، ([13]) كان قوله تعالى (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خاصا به جل وعلا، ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم له مقاليد السموات والأرض فقد رفعه عما أعطاه الله جل وعلا، وجعله في مرتبة الألوهية، وهذا شرك بالله جل وعلا، وهذا وهؤلاء الأقوام رأوا ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من حق، فرفعوه عنه إلى مقام الربوبية، وهذا غلو قاد إلى شرك، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أحب أن ترفعوني عن منزلتي التي أنزلني الله إياها»، فقال في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه «لا تُطْروني كما أطرَتِ النصارَى عيسى بنَ مريمَ, فإِنما أنا عبد, فقولوا: عبد اللهِ ورسوله«
4/ ما هي الكتب المبسطة في العقيدة تنصحونا بقراءتها، وما هي الكتب التي تحذرون منها؟
الكتب في العقيدة كثيرة، ولكن أضرب لك مثلا لكل فن منها:
أما في توحيد العبادة؛ يعني توحيد الألوهية: فأنصحك بقراءة رسالة العبودية لشيخ الإسلام، وبقراءة رسالة كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، هذان الكتابان متكاملان؛ يكمل أحدهما الآخر.
وأما في توحيد الأسماء والصفات: فتقرأ العقيدة الواسطية؛ فإنها عقيدة على اختصارها ووجازتها مباركة، وفيها علوم كثيرة تحت ألفاظها، وقد شرحها جمع من أهل العلم، فهذه الكتب نافعة للمبتدئ الذي يريد أن يسلك هذا السبيل.(4/37)
أما الكتب التي يحذر منها فهي كل كتاب ليس على طريقة السلف؛ ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، وهي كتب كثيرة لا حصر لها، والمؤمن إذا وجد كتابا لا يعلم عقيدة صاحبه ولا يعلم صحة ما فيه، أو لا يأمن قراءته فيسأل عنه أهل العلم، فهم يجيبوه، وإلا فهي كثر ولا يمكن تحديدها.
5/ يسأل عن توضيح مسألة الحَلِف أو القسم.
? الحلف لا يكون إلا بالله جل وعلا أو بأسمائه أو بصفاته بأحد أحرف الحلف اليمين الثلاثة الباء أو التاء أو الواو، هذه هي اليمين البارّة التي تنعقد وتجب في الحنث بها الكفارة، أما الحلف بغير الله وبغير أسمائه وصفاته فمحرّم وشرك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» والشرك هنا شركا أصغرا غير مخرج من الملة، وإنما هو قائد لتعظيم المحلوف به ومحبته واعتقاد أن له من خصائص الألوهية شيء، وهذا من الشرك الأصغر.
والشرك الأصغر: ضابطه كل ما يتوسل به، ويتوصل به ويتطرق به إلى الشرك الأكبر، كل وسيلة إلى الشرك الأكبر تسمى شركا أصغر.
وهذا ضابط جيد يمكن معه الراحة في كثير من المسائل التي يَلتبس فيها الشرك الأصغر بالشرك الأكبر.
6/ لكن بعض الناس المحلوف به يعظم كتعظيم الله.
? الحلف إذا كان مع التعظيم، فهذا اقترن به التعظيم، فيكون صرفا لعبادة أخرى معه، فمسألة الحلف قد توصل إلى الشرك الأكبر؛ الحلف بغير الله، ولكن هي بإطلاقها يقال: الحلف بغير الله شرك أصغر.(4/38)
لكن قد يقترن مع أي شيء من الشرك الأصغر ما يجعله من الشرك الأكبر، ولذلك قلنا كل وسيلة إلى الشرك الأكبر تسمى شركا أصغرا، فالحلف بغير الله وسيلة إلى أن يعظَّم المحلوف، ويظن أن له من خصائص الألوهية شيء، ولذلك قلنا إنّه شرك أصغر، فإذا بُلغت الغاية وهي أن يظن أن المحلوف به له من خصائص الألوهية شيء؛ كأنْ يكون له مقاليد السموات والأرض، أو عنده مفاتيح الغيب، أو هو يملك تصرفا في جزء من العالم ونحو ذلك، فلذلك يقسم به، وهذا شرك مخرج من الملة؛ ردة والعياذ بالله.
7/ يقول هنا: هناك أناس يضعون أسماءهم المشتملة على اسم من أسماء الله في الدبلة أي”الخاتم“، ويدخلون بها بيت الخلاء، فهل يجوز ذلك؟ بما فيها من مشقة من إخراج الخاتم كلما دخل بيت الخلاء أو أن يكون الخاتم أو الدبلة ضيقة إلى آخره.
? الخاتم وما شاكله إذا كان مكتوبا فيه اسما من أسماء الله فإنه يكره أن يدخل به بيت الخلاء، هكذا يقول أهل العلم، وإذا دخل به بيت الخلاء فليجعل الاسم في باطن كفه، يجعل الاسم؛ اسم من أسماء الله في باطن كفه، وكذلك الأوراق ونحوها التي فيها اسم من أسماء الله أو نحو ذلك، فإنه يكره الدخول بها إلى أماكن الخلاء، فإن أُستطيع أن تُجعل في الخارج مع الأمن فهذا لاشك أنه أفضل وأكمل تنزيها لاسم الله جل وعلا أن يكون في الأماكن القذرة، وإن لم يُستطع فإن الإثم مرفوع إن شاء الله.
8/ ولو كانت الدبلة من ذهب يجوز للرجل أن يلبسها؟
? هذه مسألة أخرى بارك الله فيكم.
9/ هذا السؤال وإن كان الأوْلى به الفقهاء؛ العلماء، لكن لعل للسائل حاجة للجواب عليه، يقول: هل يجوز شرعا أن يبيع الرجل من دمه، من غير أن يضرّه ذلك نظرا لحاجته للمال، وهل يقاس ذلك على تأجير الإنسان نفسه إلى آخره؟(4/39)
? الدم ، الدم نجس، والنجاسات يحرم بيعها، الدم نجس، والنجاسات يحرم بيعها، ولكن لأجل الضرورة قلنا بجواز التبرع بالدم، ونحو ذلك، لإنقاذ المصابين، أما بيعه فلا أعلم له وجها من الدليل الشرعي.
10/ الأسئلة كثيرة لكن مررت عليها لأجل الوقت، هذا السؤال يقول: ما حكم الاتجار بالعملات النقدية عن طريق البنوك؟
? العملات النقدية، كل عملة منها نقد مستقل بذاته، فلذلك عند صرفها والتبايع بها يشترط فيها التقابض، يشترط فيها شرط واحد وهو التقابض لاختلافها. ولا يقال إن أصولها واحدة وهي مغطاة بالفضة مثلا أو بالذهب مثلا؛ ذلك لأن التغطية -تغطية النقد- اختلفت الحال فيها بين اليوم وعشرين أو ثلاثين سنة مضت، فالآن يُغطى النقد بأشياء أخرى ليس لها علاقة بالذهب، قد يكون الذهب أحدها، ولذا فإنّ الصواب من أقوال أهل العلم في هذه المسألة: أنّ العملات كل عملة مستقلة بذاتها، وتعتبر نقد بذاته، ولذلك يشترط فيها التقابض«إذَا اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ, فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ, إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ» حديث متفق عليه، «إذَا اخْتَلَفَتْ الأَصْنَافُ, فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ, إذَا كَانَ يَداً بِيَدٍ» والذي يجري في بعض البنوك، بعض الناس يستسهل المسألة ويبيع ويشتري دون قبض، بل بالتحاويل ونحو ذلك، وهذا الأولى اجتنابه وتركه، لأجل أن فيه نوعا من الربا؛ لأنّ بعض أهل العلم يقول إنّ التبادل بالعملات؛ بالحوالات ونحو ذلك لدى البنوك هي إحالة على مليك، وهذه الإحالة صحيحة، وكأنها عندك؛ يعني كأنك قبضت، فيقيم هذه الحوالات مقام القبض، وهذا فيه توسع قد يكون مع الضرورة، لكن الأولى أن لا تتبع هذه، وأن يتجر المسلم في العملات، فليشتري وليبع بعد القبض ورؤية المال، فإن هذا أنقى لنفسه وأنقى لدينه وأبين للحلال والحرام.
وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أعدّ هذه المادّة:
سالم الجزائري عبدالمالك فؤاد
---(4/40)
([1]) الظاهر أنّ الشريط مقطوع.
([2])أظن أنها أبيات شعرية.
([3])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([4])الشيخ قال (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ أُحْكِمَتْ).
([5])الحشر:1، الصف:1، ووردت في أول سورة الحديد بصيغة (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
([6])الجمعة:1، التغابن:1، ووردت أيضا بصيغة:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)[الإسراء:44]
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[النور:36]
(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النور:41]
(يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الحشر:24].
([7])لقمان:25، الزمر:38.
([8])لقمان:25، الزمر:38.
([9])ذكر الشيخ البيت كاملا في شرحه لمتن الورقات
عليك مثل الذي صليتِ فاغتمضي نوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا.
([10])انتهى الشريط الأول.
([11])كلمة غير مفهومة.
([12])كلام غير واضح.
([13])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.(4/41)
- <xml xmlns:o="urn:schemas-microsoft-com:office:office">
<o:MainFile HRef="../4.htm" />
<o:File HRef="image001.gif" />
<o:File HRef="filelist.xml" />
</xml>(5/1)