|
تأليف : د.عبد الهادي حميتو
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
الإهداء: إلى قارئ الذكر الحكيم
بيني وبينك كم نسب ... ننمي إليه وكم سبب
شتى الوشائج بيننا ... ندلي بها عند النسب
في اللوح منتظم السطو ... ر يخطه قلم القصب
في الحبر من مهج المحا ... بر قد تجلب وانسكب
في الحروف ممشوق العذب ... في الخط معتدل النسب
في الشيخ مرهوب الجنا ... ب إذا تنحنح أو وثب
في كل "محضرة" سبب ... يدني إليك على كثب
يا قارئ الذكر الحكيم ... أجل علق يكتسب
يا ناذرا للعمر فيه عن المكاسب والنشب
متبوئا من علمه ... أسنى المنازل والرتب
يطوي عليه جنانه ... يتلوه ملتزم الأدب
أهديك مقرأ نافع المدني قارئك الأحب
عند المغاربة الألى ... جعلوه أفضل منتخب
ارسلت في تاريخه ... قلمي يلملم ما انشعب
ويجوس في أرجائه ... بين المدارس والشعب
وأدرت حول رجاله ... أشهى إليك من الضرب
فإذا رضيت نسيجه ... فلقد أصبت بك الأرب
ومتى يكن عيب به ... فالصفح من شيم العرب
ولرب عذر سقته ... إن كان عذر قد وجب
أني مهدت لك الطر ... يق ولم أقصر في الطلب
آسفي د.عبد الهادي حميتو
بسم الله الرحمن الرحيم
تصديرللبحث:
الحمد لله بجميع المحامد، أقصى ما يبلغه الحامد، وأشهد أن لا إله إلا الله، له الدين الواصب، والسلطان الغالب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي العاقب(1)المبعوث بأشرف البقاع وأزكى المناقب. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وحملة كتابه، والداعين إلى سنته والموقرين لجنابه، ما ترادفت الأعصار، وتعاقب الليل والنهار.
__________
(1) - هو من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وفسر بأنه الذي ختم به الأنبياء فلا نبي بعده يعقبه ويتبعه.
(1/1)
ورضي الله تعالى عن خلفائه الراشدين، وسائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم على الهدي المبين، ومن اقتفى منهم الآثار، وخصوصا الأئمة القراء نجوم الهداية في الحواضر والأمصار، الذين تجردوا لقراءة القرآن وضبط رسومه وحروفه، من القراء السبعة المشهورين ومشايخهم ممن تحملوه عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الوجوه التي تلقوه بها من مشكاة النبوة غضا طريا، ونهجوا في تلاوته وأدائه بقواعده لمن جاء بعدهم منهاجا رضيا، وصراطا سويا.
وأخص بمزيد الرضا علم هذه الكوكبة، وفارس تلك الحلبة، إمام دار الهجرة النبوية، سيد قراء المدينة، الإمام المخصوص بالتجلة والإكبار: نافع بن أبي نعيم المدني: قدوة أهل المغرب وما والاه في قراءة كتاب الله، وإمامهم في تلاوته وتأدية حروفه من زمنه وإلى يومنا ثم إلى ما شاء الله، اختيارا يربو عليه الصغير، ويكبر فيه الكبير، من رواية صاحبه وراويته أبي سعيد عثمان بن سعيد المصري، وطريق تلميذه وقيدوم حملة طريقته أبي يعقوب الأزرق المدني ثم المصري.
وبعد فإن أشرف العلوم ما يتصل منها بكتاب الله، وأسناها قدرا وأجلها ما عليه تتوقف تلاوته وينتظم به أداؤه، وهو علم الرواية المصحح لنقل القرآن، الضابط لطرق النقل وقواعد الأداء، إذ لا سبيل إلى تفهم القرآن والفقه في أحكامه، والنفاذ إلى أسراره، دون تحقيق حروفه ومعرفة كيفية أدائه، ومواضع وقفه وابتدائه، وقواعد رسمه وضبطه، وخصوصيات كتابته وخطه، وما يتعلق به.
(1/2)
وذلك أمر لا ينتهض به إلا أهل الهمم العالية من الصفوة الباقية، الذين هم في كل جيل، حلية أهل العصر. ونخبة النخبة في كل صقع ومصر، فهم السفرة الكرام في تحصيل هذه العلوم، والبررة المنتدبون لحفظها والذود عنها، والمعلمون القيمون عليها نشرا وتعليمًا، وتوجيها وتفهيما، وتقريبا وتيسيرا، لتستمر بذلك رسالة السلف في تربية الخلف، على ما فهمه وعلمه علماء هذا الشأن في هذه العلوم بمختلف شعبها وفروعها، من جريانها على التوقيف والأخذ، لا على الاجتهاد والرأي والاختراع وإعمال الفكر.
ولا فرق عندهم في ذلك بين المقروء والمرسوم، فكل ما بلغهم بطريق النقل المتوارث عند أهل هذا الشأن أخذوا به واعتمدوه، ووجهوه ونصروه، وحفظوه على وجهه، غير عادلين به عن سبيله، ولا ناكبين عن قبيله، نزولا على قول قائل، أو دعوة مأفون جاهل.
ولقد أحسن الإمام البغوي أبو محمد الحسين بن مسعود رحمه الله (ت 510هـ) في مقدمة كتابه في التفسير المسمى بمعالم التنزيل في الإشارة إلى هذا التلازم بين المباني والمعاني فيما تضمنه ما بين الدفتين من المصحف الشريف فقال: "والناس كما أنهم متعبدون باتباع أحكام القرآن وحفظ حدوده، فهم متعبدون بتلاوته على سنن خط المصحف الإمام، وأن لا يجاوزوا فيما يوافق الخط ما قرأ به القراء المعروفون الذين خلفوا الصحابة والتابعين واتفقت الأمة على اختيارهم"(1).
وبهذا يتبين أن الأمة كما أنها متعبدة بهذا القرآن علما وعملا، فهي متعبدة به أيضا حفظا ووعيا، وأداء وتجويدا، وبيانا وتفسيرا، "ولم تزل العلماء تستنبط من كل حرف يقرأ به قارئ معنى لا يوجد في قراءة الآخر، والقراءة حجة الفقهاء في الاستنباط، وحجتهم في الاهتداء"(2).
__________
(1) - معالم التنزيل للبغوي: 1/37.
(2) - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر للشيخ أحمد بن محمد البنا الدمياطي 1/67.
(1/3)
ولذلك كان طلب هذه العلوم والتخصص في فروعها واجبا من الواجبات الكفائية على المسلمين، قال أبو محمد بن حزم في "رسالة التلخيص" متحدثا عن الواجبات الكفائية:
"ثم طلب علم القرآن واختلاف القراء السبعة فيه، وضبط قراءتهم كلهم، فرض على الكفاية، وفضل عظيم لمن طلبه إن كان في بلده كثير ممن يحكمه وأجر جزيل، قال عليه السلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، فكفى بهذا فضلا، وقد أمر - عليه السلام - بتعلم القرآن ممن تعلمه، فهو خير، ولو ضاع هذا الباب لذهب القرآن وضاع، وحرام على المسلمين تضييعه، وذهابه من أشراط الساعة، وكذلك ذهاب العلم"(1).
مقدمة البحث وموضوعه:
__________
(1) - رسالة التلخيص لوجوه التخليص لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي (مجموعة رسائل ابن حزم 3/161-162).
(1/4)
ثم أما بعد فهذا جهد متواضع مني أردت به الإسهام بنصيب في خدمة هذا الكتاب والتأريخ لقراءته ورجاله ومدارسه في هذه الجهات من ديار العروبة والإسلام، بذلت فيه غاية وسعي، وصرفت في إعداده وإنجازه طرفا من عمري، الملم من أشتات مادته ما تناثر في الخزائن، وأؤلف من تفاريق مباحثه ما تبعثر في الأوراق والمصنفات، جعلته لقراءة نافع ومدارسها الفنية في هذه الديار بمنزلة الدليل، لعل القارئ الكريم يجد فيه ما يتعلل به منه ولو بالقليل، إن لم يصل إلى شفاء الغليل، وتتبعتها في مسارها غداة دخولها برواياتها وخاصة منها تلك الرواية التي ارتضع المغاربة أخلافها فدرت عليهم بأزكى اللبان، ووردوا مناهلها في أرض الكنانة فانبجست لهم منها أعاذب العيون وأطايب الخلجان، أعني رواية الإمام أبي سعيد ورش عميد المدرسة النافعية في بلاد مصر. فتتبعت مسارها في سراها نحو الديار المغربية في ركاب أهل الرحلة من طلابها، أتنقل معهم عبر القرون من عصر إلى عصر، وعبر الآفاق أتجشم معهم عناء السفر من قطر إلى قطر، أتوقل الأوعار حينا مع من توقلها، واعتسف المجاهل آنا آخر مع من اعتسفها، ولربما عدت مع العائدين حافل العيبة بعد طول الغيبة، مملوء الوطاب، وربما انقلبت خاوي الوفاض راضيا من الغنيمة بالإياب.
وإني لا أريد أن أمن هنا على القارئ الكريم إذا شكوت إليه بثي، وناجيته بما عانيت في إعداد هذا البحث وكتابته، فإني صرفت في ذلك أعواما عديدة أجافي جنبي طويلا عن مضجعه، وقد هجعت النفوس ونامت العيون، فأبقى إلى الهزيع الأخير من الليل، أسامر السراج وأنادم الكتاب، أرجع البصر في سفر عتيق، أو أفحص في المظان عن قارئ مغمور، أو أنقب عن أصل من أصول الأداء، أو أنقر عن ترجمة أخذتني من جرائها البرحاء.
(1/5)
ولربما بكرت بعدها إلى مثل ذلك بكور الغراب، فأصبحت وأمسيت في بيتي لأيام معدودات "رهين المحبسين": الكتابة والكتاب، يمر بي الشهر الكامل لا أميز بين أعجازه وهواديه(1)والأسبوع الحافل لا أفرق بين مفاريده ومثانيه، تستبد بي فكرة لاحت، أو تسنح لي فائدة سنحت وأسعفت بعد أن اعتاصت علي زمانا وامتنعت، فتتملكني نشوة الظفر، تملك من أحرز قصب السبق وقضى اللبانة وأدرك الوطر.
وقديما قالها إمام أهل البصرة في القراءة ورواية اللغة وآدابها أبو عمرو بن العلاء، وكان يومئذ هاربا مع أبيه من أمير العراق الحجاج بن يوسف الثقفي، فلما كانا ببعض الطريق خرج فسمع منشدا بنشد:
"ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال"
قال: وسمعت عجوزا تقول: مات الحجاج، قال: فما أدري بأيهما كنت أسر؟ بقول المنشد "فرجة" بالفتح، أو بقول العجوز: "مات الحجاج" !(2).
لقد حببت إلي في ذلك المعاناة، فكنت أكابد في عنت البحث رهقا جميلا، وأصابر من ألقاهم من أهل القراءة وحفظة الخزائن طويلا طويلا، فربما لاقيت بلا سابق معرفة أخا كريما أو ابن أخ كريم، وربما جمعتني الصدفة بآخر "مناع للخير معتد أثيم"، حتى ظنني بعضهم أتعاطى كتابة الحروز، واعتقدت امرأة أرسلت إليها أريد أن تطلعني على خزانة زوجها المتوفى، أني أبحث عن تقاييد الدفائن وأحترف استخراج الكنوز، فقلت في نفسي كما قال القائل:
راحت مشرقة ورحت معربا ... شتان بين مشرق ومغرب
__________
(1) - أي أوائله وأواخره.
(2) - ينظر الخبر في إنباه الرواة على أنباه النحاة لأبي الحسن الفقطي 4/134-135 وجمال القراء وكمال الإقراء لأبي الحسن السخاوي 2/453.
(1/6)
ومع هذا كنت أحتسب مثل هذا العنت احتسابا، وأطرق المظان أسمع عنها بابا بابا، وخاصة بيوت المعروفين في جهتنا في الجنوب المغربي من بقايا القراء الذين كنت آنس عندهم بغيتي، وأتوقع الدلالة على طلبتي، فكان فيهم الغث والسمين، والأصيل والهجين، ومع ذلك ما من رحلة شددتها بحمد الله إلا عدت منها بشيء قل أو كثر، حتى أصبت بطول الصبر والمطاولة ما لم يكن يدور لي بالحسبان في السنوات الأول، ووصلت يدي إلى كنوز، لم تدرك قيمتها تلك العجوز، منها ما وقفت عليه في الخزائن العامة، ومنها ما وقفت عليه في الخزائن الخاصة، ومنها ما وصل إلي مصورا عن نسخه الخطية بالمشرق، ومنها ما وصل إلي مطبوعا قبل أن تعرف نسخه المطبوعة حتى الآن في التداول.
ولقد طالما أعياني في السنوات الأولى لنحو ثمانية أعوام أن أقف على جامع البيان لأبي عمرو الداني أو كتاب "التحديد" له، أو "الموضح"، أو على "تبصره" مكي و"هادي" ابن سفيان و"كامل الهذلي" وتلخيص أبي علي بن بليمة"، و"تجريد ابن الفحام"، و"عنوان" أبي الطاهر بن خلف، و"مفتاح" ابن عبد الوهاب و"كافي" ابن شريح، و"إقناع" ابن الباذش، و"تكملة القيجاطي" و"أرجوزة الهوزني" في المخارج والصفات و"بارع" ابن آجروم في قراءة نافع، و"نافع" الجادري فيها و"مختصر ابن جزي" في ذلك وسواها كثير، فما لبثت أن سيقت إلي بعون الله جميعا حتى قضيت منها الوطر، وعرفت بها وأفدت منها، وأثبت نصوص بعضها بتمامها إنقاذا لها من الضياع، وخاصة منها ما لا أعلم لنسخه وجودا في الخزائن كالهوزنية المذكورة والبارع والنافع وعمدة البيان المسماة أيضا بـ"الخراز القديم"، و"تبصرة الاخوان في مقرأ الاصبهان" وغيرها كثير مما أثبته بنصه في هذه الدراسة أو عرضت قسما منه للتعريف به.
(1/7)
على أني وضعت تصميمي لهذا البحث وليس في الساحة من كتب القراءات المطبوعة إلا عدد يسير جدا كالنشر والغاية لابن الجزري ومنجد المقرئين له، وسراج القارئ لابن القاصح والنجوم الطوالع للمارغني، ثم كتاب السبعة لابن مجاهد والكشف لمكي بن أبي طالب.
بل إن كتب أبي عمرو الداني الأمهات لم يكن يومئذ منها بالمكتبات شيء، لنفاد طبعاتها منذ زمان كـ"التيسير" في القراءات السبع و"المقنع" في الرسم، و"المحكم" في الضبط، ولم تظهر طبعاتها الجديدة إلا في العهد الأخير.
وهذا أمر قد تطلب مني إعادة كتابة عدد من فصول البحث كلما جد جديد في الميدان بوقوفي على كتاب لم أكن قد تمكنت من العثور عليه مطبوعا أو مخطوطا، وتكرر ذلك علي كثيرا حتى بت أشفق منه بقدر ما أغتبط به.
وأخرى ينبغي أن ألفت نظر القارئ الكريم إليها، وهي أنى سجلت موضوع أطروحتي هذه سنة 1981 وميدان البحث في علوم القراءة في المغرب يومئذ خال مهجور، لا سيما ما يتعلق منه بقراءة نافع وتاريخ المدرسة المغربية في القراءة، إذ لم يكن قد ظهر في هذا الميدان إلا بحوث يسيرة منها ما هو عرض سريع، ومنها ما يلامس الموضوع بشكل جانبي(1).
__________
(1) - من الرسائل التي لامست الموضوع رسالة السيد عبد السلام الكنوني وهي بعنوان "المدرسة القرآنية في المغرب" وقد طبع الجزء الأول منها منذ زمان. ومنها مقدمة تحقيق كتاب "إيضاح ما ينبهم على الورى من قراءة عالم أم القرى" لأبي زيد بن القاضي تحقيق السيد بلوالي محمد، ومنه نسخ مرقونة بخزانة دار الحديث بالرباط. ومنها الدراسة القيمة التي صدر بها الدكتور الحسن وكاك لكتاب "تقييد وقف القرآن الكريم "للشيخ محمد بن أبي جمعة الهبطي، وقد طبع مؤخرا.
(1/8)
ثم نشطت الرسائل الجامعية مؤخرا وخاصة في شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بالرباط فسجلت في جوانب من هذا الموضوع رسائل عديدة تحت إشراف أستاذنا الدكتور التهامي الراجي الهاشمي اتجه كثير منها إلى تحيق شروح "الدرر اللوامع" لابن بري، وشروح "مورد الظمآن" للخراز، وبعض كتب "ابن غازي" وشروحها وكتب أبي زيد ابن القاضي وأبي سرحان مسعود جموع السجلماسي والشيخ ابن عبد السلام الفاسي مما يعالج بعض الجوانب التي تناولتها في موضوعي هذا بتركيز أو إيجاز، وقد أثبت في أواخر هذا البحث قائمة تشتمل على أهم عناوين تلك البحوث وأسماء طلبة الدراسات الذين سجلوها في بحوثهم الجامعية استنادا إلى منشورات كنت أحصل عليها من حين لآخر، في متابعتي لما جد في الموضوع كما تقتضيه طبيعة البحث ويقتضيه منهجه المعتاد(1).
ولقد استفدت من بعض تلك البحوث التي تمت مناقشتها، ولم أجد غضاضة في الإشارة إليها وإن كان بعض أصحابها قد انتفعوا ببعض ما كتبته أو جمعته حينما كانوا في طور الإعداد، فأمددتهم بما تيسر لي رغبة في تحقيق الاستفادة، وتأثما من كتمان العلم أو احتكاره عن طلابه مهما كانت الدوافع والأسباب.
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى قائمة الرسائل الجامعية في آخر عدد من هذه السلسلة.
(1/9)
ومهما يكن فلقد لمست من خلال هذه الرحلة المباركة في رحاب المدرسة المغربية في مسيرتها التاريخية الطويلة الأمد كيف تغلغلت قراءة نافع وأرست جذورها في البلاد، وبسقت فروعها فأزهت وازدهرت وأثمرت في كل الجهات، وكيف كان لرواية ورش من بين رواياتها المتعددة الحظوة الكاملة والمكانة البارزة التي لم تزاحمها عليها قراءة ولا رواية، وتبين لي كيف وشجت هذه الرواية في الكيان المغربي فأصبحت جزءا لا يتجزأ منه حتى اشتقت منها الأسماء والألقاب فقيل لمن يتقن بعض الروايات عن نافع "نافع"(1)، ولمن يغلب عليه الاشتغال بروايتها أو اقرائها "الورشي"(2)، ولمن يتقنها وحدها "الوراشي"(3).
وبلغ الغلو مداه عند بعضهم حتى زعم أن قراءة أهل الجنة برواية ورش"(4).
__________
(1) - لقب بهذا اللقب القارئ سعيد بن محمد النحوي أبو عثمان القرطبي لقبه به كما سيأتي الشيخ أبو الحسن الأنطاكي نزيل قرطبة لكثرة ما قرأ عليه القرآن بحرف نافع، فقال له: "أنت نافع" وسينفع الله بك، فجرت عليه (يمكن لمزيد من المعرفة به الاطلاع على ترجمته في موضعها من البحث.
(2) - نسب هكذا من قراء قرطبة محمد بن أحمد بن عبد الأعلى "نسب إلى قراءة ورش لاشتهاره بها" نفح الطيب للمقري 2/413.
(3) - لا يزال هذا الاستعمال شائعا إلى اليوم في البوادي المغربية ويعبر به عمن يتقن هذه الرواية أو من يعرفها وحدها دون غيرها من الروايات.
(4) - ينظر في ذلك حاشية الشيخ يوسف بن سعيد السفطي المالكي على متن الجواهر الزكية في حل ألفاظ العشماوية".. وكذا "إتحاف القراء المتحزبين" للحسن بن محمد ابعقيلي السوسي 56.
(1/10)
وزعم آخر أنه "رأى الطلبة مناما يقرأون القرآن جماعة برواية ورش بين يدي الله تعالى في الجنة"(1).
وحسبك بهذا الغلو والهوس دليلا على مقدار انبهار بعض المغاربة بهذه الرواية إلى حد التعصب لها. ولكنك أنت بعيدا عن هذا الغلو والتعصب تستطيع أن تكتشف أثر هذه الرواية على المغاربة بصفة عامة علمائهم وعامتهم، فأنت لا تخطئ أثرا من قراءة نافع في كتابات التونسيين ومحاضراتهم وهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "النبيء" بالهمز كما هي قراءة نافع(2).
__________
(1) - كتب هذا الهراء الشيخ المعروف بالحاج الحسن بن محمد بن أبي جمعة البعقيلي الولتيتي السوسي نزيل الدار البيضاء في رسالة له بعنوان "إتحاف القراء المتحزبين"، وهي رسالة واسعة الانتشار في أيدي أتباع الطريقة التيجانية كتبها في أوائل جمادى الأولى عام 1364هـ وأسلوبها مهلهل أقرب إلى كلام العوام.
ومما جاء فيها قوله: "فحفاظ كتاب الله يدخلون الجنة متحزبين تلاوة معلومة برواية ورش، وذلك كشفنا ووجداننا" ص 56.
(2) - من أمثلة ذلك بعض الدروس التي كان يلقيها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور بالمجالس الحسنية بالرباط.
(1/11)
وأنت يمكنك أن تعرف موضع المغربي في الصف في الصلاة وهو يؤمن خلف الإمام بلفظ "آمين" يمد الهمزة فيها مدا وسطا أو مشبعا، وهو أثر من آثار رواية ورش، وتسمعه في الأذان والإقامة يفخم لام "حي على الصلاة" وفي دعاء الختم تسمع "الاخرة" بالمد وإسقاط الهمزة، وتسمع "النبيء الأمي" مهموزا في الأولى مخففا في الثانية، وقل مثل ذلك في لهجاتهم حينما يتحدثون عن "الأرض" و"الاخرة" وحينما يخبر المغربي أنه "يأخذ" و"يأكل" و"يؤذن المؤذن" بإبدال الهمز في كل ذلك، وحينما يذكر ما تقدمت فيه الكسرة على الراء فيرققها نحو "الكراء" "والشراء" أو تقدمت الياء الساكنة فتسمعهم يرققون الراء من "الجيران" و"الغيرة" و"السيرة" و"المسيرة" ونحو ذلك مما يعتبر مظهرا من مظاهر تأثير القراءة التي يقرأون بها وتنطبع بها ألسنتهم وطباعهم . يستوي في ذلك العالم بالتجويد والجاهل به.
ولقد شجعني على المضي في بحث هذا الموضوع ما استشعرته من خلو الساحة من موضوع مثله يسد فراغا كنت أشعر بوجوده، ألا وهو التعريف بالمدرسة المغربية في القراءة تعريفا وافيا ينتظم حركة التاريخ وتطورها معه في أعصارها المتعاقبة من زمن الفتح إلى وقتنا أو قريب منه.
ذلك أني رأيت الدعوة إلى العودة إلى الأصالة قد اتجهت إلى الجانب المذهبي في الميدان الفقهي مركزة عليه حتى كادت تجعله الواجهة الوحيدة التي تبلورت من خلالها الأصالة المغربية وعبرت عن نفسها منه الشخصية الاعتبارية والحضارية لهذا الجناح من البلاد الإسلامية.
وكنت أرى أن هذا على ما فيه من سداد في جانب منه هو في الوقت ذاته إجحاف بجوانب أخرى لا ينبغي غض الطرف عنها، وفي طليعتها "القراءة الرسمية" التي وجدتها تشكل مع المذهب الفقهي نوعا من التكامل والتلاحم لا يمكن فصمه وتجاهله أو الغض من قيمته وأثره في بناء الشخصية المتميزة ورسم معالمها الحضارية والعلمية.
(1/12)
فقد لاحظت أنه قد كتبت في الجانب المذهبي والفقهي البحوث والمؤلفات، وعقدت له اللقاءات والندوات، وسجلت في رصد بعض قضاياه ودراستها الرسائل الجامعية العديدة، بينما كان التقصير باديا بالنسبة لقراءة نافع عند أهل هذه المنطقة مع أنهما كانا معا جنبا إلى جنب القناتين العظيمتين اللتين تدفق منهما عطاء المدرسة المغربية، وتبلور من خلالهما إسهامها الثري في المجالين القرائي والفقهي على السواء.
ولهذا السبب كنت وأنا أتلمس الطريق في اختيار موضوع أطروحتي للدكتوراه أستشعر مقدار الحاجة إلى بحث واف يستكشف جوانب هذه المدرسة، ويتوجه على وجه الخصوص إلى إبراز أثر هذه القراءة في تحديد المسار الذي سارت فيه المدرسة في سعيها نحو إثبات الذات، والانعتاق من التبعية لغيرها، لا في الجانب الفكري والمذهبي فقط كما اعتادت الأبحاث والدراسات المذكورة أن تقف عنده، وإنما في الجانب القرائي أيضا، وذلك لما ستلاحظه من قدرة "المدرسة المغربية" في القراءة على امتلاك نموذجها الخاص وطرازها المتميز في التلاوة والأداء وغيرهما، وأن تعمل من جهة ثانية على مقاومة التأثيرات السلبية التي كانت لا تزال تفد عليها مع رواد الرحلة العلمية حتى استطاعت على عهد "الأقطاب" في أواخر المائة الرابعة ـ كما سنرى ـ أن تظهر في الميدان بطرازها المغربي القح الكامل متمثلا في نوعية خطها في الكتابة، وترتيب الحروف الهجائية والأوضاع المعتمدة في الرسم والنقط والضبط، والألوان المستعملة في نقط المصحف، والرموز التي يشار بها إلى الحركات والسكنات وعلامات التشديد والتخفيف والهمز وغير ذلك، بالإضافة إلى اعتمادها على رواية خاصة من طريق خاصة من اختيارات خاصة ظلت تجري عليها ما شاءت من التحقيق حتى انتهت منها إلى ما استقرت عليه في التلاوة والأداء.
(1/13)
ولقد كان لي قبل أن يستقر بي الاختيار على "قراءة نافع عند المغاربة" هوى خاص في يعسوب هذه المدرسة وواضع تصميمها في هيكلها العام الشيخ الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني صاحب الاختيارات التي أخذ بها المغاربة في الرسم والضبط وسائر علوم القراءة والأداء، وكنت أريد أن أجعل دراسة شخصيته من هذه الناحية موضوعا لأطروحتي، إلا أنى عندما عرضت هذا الاقتراح على السيد مدير دار الحديث وناقشه معي تفضل فاقترح علي أن أتوجه إلى دراسة هذا الأثر الذي لأبي عمرو الداني وغيره في المدرسة المغربية بصورة أوسع توفر للدراسة آفاقا أرحب وأفسح، وكان اقتراحه أن يكون العنوان كما أثبته في أول البحث: "قراءة الإمام نافع عند المغاربة"، فتلقيت اقتراحه بالقبول، فلما عرضت هذا الاقتراح على أستاذي المشرف لينظر فيه قابله بالاستحسان والارتياح، إذ كان الموضوع ما يزال بكرا لم يوفه أحد بعد ما يستحقه من الدراسة.
وأقبلت على الإعداد للموضوع الجديد، وقد خيل إلي أن الأمر لا يزيد على تغيير في العنوان، لا في الجوهر، فلما بدأت أعالج جوانب الموضوع تفتحت علي منه أبواب وشعب ما كانت يومئذ في الحسبان، وبدا لي الدرب طويلا عريضا يقع أبو عمرو الداني منه في منعرج كبير وخطير، ولكنه ليس المنعرج الوحيد، بل قبله وبإزائه وبعده مهامه فيح تحار فيهن القطا أو كما قيل:
"تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد".
وقطعت في الإعداد والكتابة بضع سنين أتقدم بالدراسة والبحث صاعدا مع الزمن أريد أن لا تفوتني حقبة ولا ناحية من نواحي المغرب الكبير دون أن أعرج عليها وأتحدث عن مستوى القراءة فيها من خلال الترجمة لقرائها والتركيز على الرحلات العلمية المنطلقة منها، حتى اتسع بي المجال، وتراحبت الجوانب والآفاق.
(1/14)
ولم أجد عندها بدا من إعادة النظر في الحقبة التاريخية التي يتناولها البحث، فعدت إلى أستاذي المشرف وإدارة الدار أستأذن في تقليص هذه الحقبة لأقف بالمعالجة في حدود مشارف المائة العاشرة من الهجرة على أن أعمل على إدراج القرون الباقية ضمن امتدادات آخر مدرسة معتبرة أقف بالبحث عندها لأن إشعاعها العلمي ـ كما تبين لي ـ قد انتظم سائر الآفاق في الجهات التي تنتشر فيها قراءة نافع من رواية ورش في الأقطار المغربية، فكانت الموافقة على ذلك حافزا جديدا على التركيز على الجوانب المهمة من الموضوع ومحاولة إيفائها ما تستحقه.
وأحسب أني بعملي هذا قد سددت بعض الفراغ، فجمعت أشتات المادة، ورسمت المسار العام الذي سارت فيه المدرسة المغربية في القراءة، وعرفت تعريفا كافيا بأقطابها وأئمتها ومشايخ الإقراء بها ممن كان لهم مذهب في القراءة ورسمها وضبطها وأصولها وقواعد تجويدها وأدائها، أو كان لهم مؤلفات أو منظومات أسهمت في تيسير هذه العلوم وكان لها صدى عند القراء والمتعلمين.
وكنت حريصا على أن أضع مواد البناء قبل الشروع في العمل، فاقتضى مني ذلك بضعة أعوام، أجمع الجذاذات وأسجل في المذكرات، وأقرأ في كتب التراجم والرحلات وبرامج العلماء وفهارس المخطوطات، وأقوم بجولات واسعة في المكتبة التاريخية والأدبية وكتب الطبقات المختلفة وفي بعضها المطولات التي تقع في مجلدات، وأضم ذلك كله إلى ما تجمع عندي من أراجيز ومنظومات وأسانيد وإجازات وغيرها مما أمست معه المواد الأولية جاهزة على كثرتها ووفرتها وتنوعها.
ثم أخذت أعيد النظر في التصميم الأولي الذي كنت وضعته للبحث غداة اقتراحه وتسجيله متبعا في بنائه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه "المنهج التاريخي"، ومراوحا بينه من حين إلى آخر وبين "المنهج الاستقرائي" وذلك حسب ما تمليه طبيعة البحث في جوانب الموضوع.
(1/15)
وقد حاولت من خلال ما قدمته في هذا البحث أن أجيب عن عدد من الإشكاليات المطروحة أهمها ما يلي:
1ـ ما موقع المغاربة من التاريخ العلمي للأمة الإسلامية تعلما وتعليما وتأثيرا ؟
2- ما موقعهم بصفة خاصة في مجال القراءة وعلومها رواية ودراية ورحلة وتصنيفا وتدوينا ونشرا ؟
3- هل يمكن الحديث في هذا الصدد عن "مدرسة مغربية" لها مقوماتها البنائية وأصولها الفنية، أو عن مجموعة مدارس على الأقل يتألف من تلك المجموعة ما يمكن تسميته "المدرسة المغربية الجامعة" ذات الطراز المغربي الخاص، في مقابل "المدرسة المشرقية" أو مجموعة المدارس المشرقية المنصهرة في "مدرسة جامعة" تشترك في كثير من مقوماتها البنائية ومكوناتها الفنية على نحو ما نجده في مدرسة "الحافظ ابن الجزري" من خلال كتاب "النشر" أو "طيبة النشر" اللذين سيطر من خلالهما على ساحة الإقراء بالمشرق سيطرة مطلقة كاملة.
4- كيف استطاعت المدرسة المغربية أن تبني كيانها في هذا الجناح القاصي من البلاد الإسلامية مع اعتمادها منذ البداية على نقل "النموذج المدني" ثم "النموذج المصري" ثم انفتحت على نماذج أخرى من الشام والعراق وغيرها؟ وكيف تأتى لها أن تعبر عن ذاتها وشخصيتها دون أن تتعبدها النماذج المذكورة؟
5- أين يتجلى النبوغ المغربي وتتمثل العبقرية والإبداع عند القارئ المغربي، وهو مع هذا يتعامل في إطار سداه ولحمته الرواية والنقل؟
(1/16)
للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها كان علي أن أتنقل في البحث في أبواب وفصول متناسقة الحلقات ممسك بعضها ببعض مترقيا صعدا مع تطورات القراءة منذ دخولها إلى هذه الجهات ابتداء من القيروان وأفريقية وصقلية، ومرورا بالأندلس في فترات التأسيس، وانتهاء إلى نشوء المدارس الفنية في عهد "الأقطاب"، وانسياحا معها في مختلف امتداداتها في الآفاق في حواضر إفريقية والأندلس ثم في الحواضر المغربية بعد تداعي المجد العلمي في الحواضر الأولى إلى السقوط بسبب الغزو الهمجي حينا وحركة الاسترداد الصليبية في أحيان أخرى.
وكانت لي من خلال ذلك وقفات طويلة عند بعض شخصيات هذه المدرسة أدرس معالم حياتهم العلمية في رحلاتهم ومدارسهم ومؤلفاتهم وتلامذتهم وإشعاعهم، مما أرجو معه أن أكون قد وفيتهم ما يستحقونه أو أكثر.
وقمت في هذا الإطار بالتعريف بكثير من المصنفات التي كان لها أثر ملحوظ في ساحة الإقراء، وأثبت عن كل كتاب عرفت به معلومات مفيدة، وربما عرفت ببعض الكتب المفقودة اعتمادا على بعض النصوص المنقولة عنها في بعض المصادر وذلك لما لها من أهمية وما كان لها من تأثير في موضوعها عند الآخذين بها والمعتمدين عليها.
وناقشت في خلال ذلك الكثير من القضايا، وصححت العديد من الأوهام التي كنت أقف عليها، ونبهت على عدد من قرائنا المغمورين الذين لا تكاد تجد لهم ذكرا في كتب التراجم ممن ضاعت في مجاهل التاريخ شخصياتهم وآثارهم، وبقيت في الميدان العملي اختياراتهم وآراؤهم، وخاصة في ميدان رسم المصاحف وضبطها وبعض قواعد التجويد وأصول الأداء. وأوردت مجموعة كبيرة من قصائد المغاربة وأراجيزهم في قراءة نافع بعد تصحيح متونها ومقابلتها على ما وفقت عليه من نسخها الخطية، كما أثبت بعض هذه الأراجيز التي لا أعلم لها وجودا في أيدي الناس بعد أن طال بحثي عنها ـ كما تقدم ـ حتى وفق الله إلى الحصول عليها في نسخة وحيدة.
(1/17)
وتتبعت إشعاع تلك القصائد والأراجيز التي استعرضتها أو سقت نصوصها الكاملة، فأوردت ما تيسر لي من أسماء أو مطالع القصائد أو الأراجيز التي نسجت على منوالها معارضة لها أو شرحا أو تذييلا وتكميلا أو اختصارا لها.
ووقفت من خلال معالجة مذاهب الأئمة على عدد من الخصومات العلمية والمعارك النقدية بين علماء المدرسة المغربية، واستعرضت في آخر البحث المحور العام للأسانيد المغربية في قراءة نافع من رواية ورش، كما عقدت الفصل الأخير لخصائص التلاوة المغربية في ضوء اختيارات الأئمة الأقطاب مع التنبيه على أهم مسائل الخلاف، وبيان ما استقر عليه العمل فيها، وتوقفت بصفة خاصة عند عدد من القضايا الأدائية التي زاغت فيها التلاوة المغربية عند المتأخرين عن الطريق القاصد الذي رسمه الأئمة، وما ألف في ذلك من الرسائل والردود تصحيحا وتوجيها.
وترجمت في صلب الموضوع لمشاهير الأئمة وأصحابهم في مواضعها من البحث، وترجمت لآخرين منهم ومن غيرهم بالهوامش تراجم مختصرة أكتفي فيها في الغالب بذكر مصدر أو مصدرين رغبة في الاختصار، وربما أحلت على الترجمة دون أن أدخل في التفاصيل.
ووثقت سائر النقول التي أوردتها في البحث بتسمية المصادر أو المراجع التي استقيت منها، كما وضعت كلام غيري سواء سميت صاحبه أم لا بين مزدوجتين لأشير عقبه بالهامش إلى القائل والمصدر الناقل مع ذكر الجزء ورقم الصفحة إذا كان المصدر أو المرجع مطبوعا أو رقم الورقة إذا كان مخطوطا أو مصورا عن خزانة عامة، وأكتفي أحيانا بكتابة لفظ (مخطوط) بين هلالين إذا كان مخطوطا أو مصورا عن خزانة خاصة.
ونبهت على ما رجعت إليه من المخطوطات في الخزائن العامة غالبا بالتصريح بأسمائها، وفي أحيان أخرى أذكر رموزها كالتالي:
... م خ ع ... = مخطوط الخزانة العامة بالرباط.
... م خ ح ... = مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط.
م خ ت ... = مخطوط الخزانة العامة بتطوان. ...
م خ ق ... = مخطوط بخزانة القرويين بفاس.
(1/18)
وأسمي في غيرها مواضع المخطوطات في مثل خزانة ابن يوسف بمراكش والصبيحية بسلا والناصرية بتمكروت والمحجوبية بسوس وأوقاف آسفي بهذه المدينة، إلى جانب الخزائن المشرقية كدار الكتب المصرية وبلدية الأسكندرية وخزانة الجامعة بالمدينة المنورة وغيرها مما حصلت منه مباشرة أو بالواسطة على عدد من المصورات أفدت منها في التعريف والدرس والبحث.
وربما رجعت في أول البحث إلى بعض المؤلفات كـ"التيسير" لأبي عمرو الداني و"الإقناع" لأبي جعفر بن الباذش وغيرهما في المخطوطات، ثم ظهرت مطبوعة فعدلت عن المخطوطات إليها في طبعاتها الجديدة.
وتخففت في أثناء البحث من الإشارة إلى مواضع الآيات أو حروف القراءة في سورها وأرقام آياتها إلا في القليل النادر، وذلك اعتبارا مني لخصوصية الموضوع، إذ لا يكون المهتم به والمتعامل معه في الغالب إلا حافظا للقرآن حفظا كاملا لا يبقى معه محتاجا إلى من يدله على موقع الآية أو الحرف من سورته وموضعها من المصحف الشريف.
كما لم أكثر من تخريج الأحاديث والآثار والشروح اللغوية إلا عندما تستدعي الحاجة شيئا من ذلك فأعلق بالهامش باختصار.
هذا، وإني بعد هذا لأزجي خالص الشكر لكل من ساعدني أو أنجدني في مضايق البحث أو أشار علي فيه برأي أو أسدى إلي فيه نصحا في الجملة، وأبتهل إلى الله جلت قدرته وتعالت كلمته أن يجعل هذا العمل عنده من الباقيات الصالحات، وأن يكتبه لصاحبه في صحائف القربات وديوان الحسنات، وأن يجازي عنه كل من قدم له يدا في الإشراف والإعداد والتوجيه والنشر وغير ذلك مما ارتبط بإنجاز هذا العمل وتيسير بلوغه إلى القراء، كما أسأله سبحانه حسن القبول والمغفرة الشاملة لي ولوالدي ولمن علمني الخير وأعانني عليه ولجميع المسلمين، والله ولي التوفيق.
لا إله غيره، ولا رب سواه.
- د. عبد الهادي حميتو
عنوان البحث:
"قراءة الإمام نافع عند المغاربة
من رواية أبي سعيد ورش"
(1/19)
دراسة وبحث في مدارسها الفنية ومقوماتها الأدائية
وامتداداتها في المغرب والأندلس
إلى أواخر القرن العاشر الهجري
مدخل:
تقتضي منا أصول المنهج العلمي في البحث قبل الدخول في صلب هذا الموضوع أن نزود القارئ الكريم بطائفة من المصطلحات التي سيجدها كثيرة الدور من خلاله ليكون على بينة من مدلولاتها في مواقعها من السياق، ويردد غالبها في النقول التي أستعين بها من كلام الأئمة فيحتاج القارئ إلى التوقف عندها وربما التبس عليه أمرها. وأبدأ هذا البيان بتحليل مكونات العنوان لتحديد المقاصد منها قبل الدخول في تفصيل جوانب الموضوع.
فأما قولي "قراءة نافع" فالمراد به ما ينسب إلى الإمام أبي رؤيم نافع بن عبد الرحمن المدني إمام دار الهجرة النبوية في القراءة من حروف أخذ بها في اختياره في القراءة وأصول في أدائها قرأ بها عليه رواة قراءته على اختلاف بينهم في ذلك، منها ما وافق سائر القراء السبعة وغيرهم، ومنها ما خالفهم كلا أو بعضا.
وأما قولي "من رواية أبي سعيد ورش" فهو قيد أردت به تحديد الرواية التي أريد إدارة هذا البحث عليها، وهي رواية أبي سعيد عثمان بن سعيد المصري المعروف بورش الذي اختار المغاربة روايته هذه واعتمدوها في التلاوة "الرسمية".
وأما قولي "عند المغاربة" فقيد آخر المراد به الطريق الخاص الذي أخذ به جمهورهم في هذه الرواية إلى أن اجتمع عليه الجميع، وهو طريق أبي يعقوب يوسف بن عمرو بن يسار الأزرق المدني ثم المصري عميد مدرسة ورش بمصر. وهذه الإضافة "عند المغاربة" أردت بها التوجه بالدرس إلى نمط خاص في قراءة نافع من هذه الرواية والطريق المذكورين اشتهر بنقله أئمة القراءة والأداء من المغاربة الذين رحلوا في طلب هذا الشأن وتصدروا له وعكفوا بعد ذلك على استنباط قواعده وتأصيل أصوله وعزو ذلك وتوجيهه وبيان مستنداته رواية ودراية.
(1/20)
ولفظ "المغاربة" نسبة شائعة الاستعمال قديما وحديثا، إلا أن مفهومها القديم كان أوسع دلالة من مفهومها في وقتنا، إذ يراد به ما يقابل "المشارقة" بوجه عام، وهذه النسبة إلى "المغارب" الأدنى والأوسط والأقصى هي كذلك باعتبار قربها أو بعدها عن عواصم المشرق العربي التي تنقلت فيها مراكز الخلافة كما أطلق عليها ذلك بعد الفتح ومضى عليه الاصطلاح في الصدر الأول ثم في سائر العصور بعده.
ثم جرى عرف القراء بعد قيام "المدرسة المغربية" في القراءة وعلومها وظهور "الطراز المغربي" في الرسم والضبط وعلوم الأداء على إطلاق هذا اللفظ "المغاربة" في مقابل "المشارقة" للتنبيه على بعض الفوارق والمذاهب التي استقل بها هؤلاء عن أولئك أو العكس، وذلك شائع كثير عند عدد من شراح "الشاطبية" من المشارقة كأبي شامة والجعبري وابن القاصح، وعند غيرهم كابن الجزري في "النشر" والقسطلاني في "لطائف الإشارات لفنون القراءات" وأحمد البنا الدمياطي في "إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر".
ومن أمثلة ذلك قول الحافظ ابن الجزري في باب الراءات من "النشر" عند ذكر "فرق" من سورة الشعراء: "فذهب جمهور المغاربة والمصريين إلى ترقيقه... وذهب سائر أهل الأداء إلى التفخيم(1).
وقال البنا في "الإتحاف" عند ذكر المد المتصل: "ذهب أكثر العراقيين وكثير من المغاربة إلى مده لكل القراء قدرا واحدا مشبعا"(2).
وربما عبر بعضهم عن "المغاربة" بـ"أهل المغرب" كقول أبي عمرو الداني "أهل المشرق"ينقطون الفاء بواحدة من فوقها، والقاف باثنتين من فوقها، و"أهل المغرب" ينقطون الفاء بواحدة من تحتها والقاف بواحدة من فوقها"(3).
__________
(1) - النشر 2/103.
(2) - إتحاف فضلاء البشر 1/158.
(3) - المحكم في نقط المصاحف 37.
(1/21)
وربما استعمل أهل الأندلس هذه النسبة يريدون بها أهل افريقية والمغرب الأقصى أو أهل القيروان كقول أبي عمرو الداني: "وكان قوم من "المغاربة" يرون ترقيق الراء الساكنة إذا كان بعدها ياء مفتوحة للكل وبعضهم لورش"(1). وكقول أبي جعفر بن الباذش في مد نحو "ءامنوا" وقد تنازع القراء في هذا الأصل، فمنهم من أخذ فيه لورش بالمد الطويل المفرط، وعلى ذلك "المغاربة"(2).
فالمراد بالمغاربة عندي القراء المنتسبون إلى هذا الإطار الجغرافي بمفهومه القديم الذي يمتد في طوله من ضفة النيل بالإسكندرية من جهة المشرق إلى مدينة سلا من جهة المغرب، وينفسح عرضا عن يمين وشمال ليشمل سائر بلاد الجريد الليبية (الزاب الأعلى)، وافريقية (المغرب الأدنى) والمغرب الأوسط (الزاب الأسفل) إلى مدينة تاهرت ثم ينتظم سائر "بلاد العدوة" أو المغرب الأقصى من سبتة وطنجة في الشمال إلى بلاد تامسنا ومراكش وسلاسل الجبال وبلاد السوس الأقصى والصحراء المغربية، ويشمل في العدوة الأخرى سائر الجزر البحرية المسامتة للشواطئ المغربية كصقلية ومالطة وسائر البلاد الأندلسية(3).
فاستعمال لفظ المغرب والنسبة إليه في أكثر استعمالاته في هذا البحث يرادف مفهوم مصطلح "الغرب الإسلامي" ويشمل الأقطار الداخلة اليوم في "الاتحاد المغاربي" الذي يشمل ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريطانيا".
__________
(1) - نقله الجعبري في "كنز المعاني" عند قول الشاطبي: "وما بعده كسر أو الياء فما لهم بترقيقه نص وثيق فيمثلا".
(2) - الإقناع لابن الباذش 1/474.
(3) - هذا التحديد والتفصيل مستفاد من "البيان المغرب" لابن عذاري المراكشي 1/5-6 وكتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" لمؤلف من أهل السادسة ومن أهل مراكش 110-139 وما بعدها وكتاب "صفة جزيرة الأندلس الجزء المقتبس من "كتاب الروض المعطار" للحميري 1-2. والمعجب للمراكشي 13-18.
(1/22)
إلا أن هذه النسبة ستأخذ منذ أواخر المائة السادسة تنكمش لتدل على الامتداد الجغرافي الذي يعرف اليوم بـ"المغرب الأقصى"، وذلك بعد سقوط صقلية وتفكك وحدة المغرب السياسية في القرن السابع الهجري وسقوط الحواضر الأندلسية تباعا إلى أن كان الجلاء العام عنها، وهكذا يضيق مفهوم هذه النسبة منذ هذا العهد ليتطابق فيه المفهوم المراد بالمفهوم السياسي الحالي.
ولفظ "قراءة" الوارد في أول العنوان يراد به كما تقدم ما ينسب إلى الإمام نافع من حروف وأصول أدائية. ولكن هذا اللفظ كثير الدور في أثناء البحث وقد يراد به غير هذا المعنى، وقد يعبر بدلا منه بلفظ "رواية" أو بهما لمعنى خاص كقولنا: "قرأ نافع من رواية ورش"، وربما قلنا: "من طريق "التيسير" أو "الشاطبية" فناسب الأمر أن نذكر بالفروق بين هذه المصطلحات وغيرها مما يكثر استعماله في البحث.
وقد تعرض لبيان ذلك أكثر المؤلفين في القراءة لضرورة معرفة القارئ بالفروق المذكورة، إذ يتوقف عليها التمييز بين مواضع الاتفاق والاختلاف بين القراء والرواة والطرق عنهم.
وقد نبه الشيخ أبو الحسن علي النوري الصفاقسي في "كتاب غيث النفع في القراءات السبع "على هذه الفروق فقال:
"إن كل ما ينسب لإمام من الأئمة فهو قراءة، وما نسب للآخذين عنه ولو بواسطة فهو رواية، وما نسب لمن أخذ عن الرواة وإن سفل فهو طريق، فنقول مثلا: "إثبات البسملة ـ يعني بين السورتين ـ قراءة المكي، ورواية قالون عن نافع، وطريق الاصبهاني عن ورش. قال:
"وهذا ـ أعني القراءات والروايات والطرق ـ هو الخلاف الواجب، فلا بد أن يأتي القارئ بجميع ذلك، ولو أخل بشيء منه كان نقصا في روايته.
(1/23)
"وأما الخلاف الجائز فهو خلاف الأوجه التي على سبيل التخيير والإباحة، فبأي وجه أتى القارئ أجزأه، لا يكون ذلك نقصا في روايته، كأوجه البسملة، والوقف بالسكون والروم والإشمام، وبالطويل والتوسط والقصر في نحو "متاب" و"العالمين" و"نستعين" و"الميت" و"الموت"(1).
فنحن إذن في موضوعنا نريد هذه المعاني كلما استعملنا هذه الألفاظ، إلا أننا ربما وجدنا بعض المؤلفين لا يراعي هذا الاصطلاح أحيانا فيستعمل "قراءة" في مكان "رواية" فنتركه على لفظه كما هو، كقول ابن الباذش مثلا:
"فأما "ألم": الله" في قراءة الجماعة و"ألم أحسب الناس" في قراءة ورش فمن أهل الأداء من يراعي اللفظ فلا يزيد في تمكين الياء من هجاء "ميم" فيهما لتحرك الميم"(2).
والطريق الذي نعنيه في بحثنا كلما ذكرنا "التلاوة المغربية" هو الطريق التي عليها الأداء والأخذ. ولفظ "طريق" يذكر ويؤنث، "فأهل الحجاز يؤنثون، وبنو تميم يذكرون"(3).
والمراد بـ"المدارس" في عنوان البحث مجموعة الخصائص البنائية والفنية التي تمثل أسلوب إمام معتبر من أئمة القراءة ومناحيه في اختياراته في الأداء وغيره، وكذلك يستعمل على سبيل التوسع فينتظم مجموعة المدارس الناشئة في جهة أو منطقة على أسس تركيبية متشابهة أو متقاربة فيطلق على مجموعها اسم مدرسة، وذلك ما نريده حينما نعمم فنقول "المدرسة المغربية" أو "المشرقية" أو "القيروانية" أو "الأندلسية"، فإذا أردنا المعنى الأول كقولنا "مدرسة أبي عمرو الداني" أو "مدرسة أبي الحسن الأنطاكي" تحرينا الدقة اعتبارا بجملة المقومات الفنية التي تكون الطابع الخاص به واتجاهه العلمي والفكري والأدائي.
__________
(1) - غيث النفع لأبي الحسن النوري بهامش سراج القارئ لابن القاصح 33-35
(2) - الإقناع 1/479-480.
(3) - معاني القرآن للأخفش 1/167.
(1/24)
وتكملة لما في العنوان نورد هنا مجموعة من الألفاظ الاصطلاحية الأخرى التي تعتبر في هذا الفن بمنزلة الأدوات التي تساعد القارئ والمؤلف والموجه على التعبير عن مراده، ويعتبر العلم بمدلولاتها بمنزلة المفاتيح الضرورية لولوج الميدان.
فمن ذلك لفظ "التلاوة" و"الأخذ" و"الأداء" و"العرض" و"القارئ" و"المقرئ" و"المقرأ" و"الحروف" و"الأصول"، ومصطلحات أخرى نعرف ببعضها في مكان ورودها من البحث.
فالتلاوة مصدر تلا إذا قرأ الحروف والكلمات متتالية، ومنه قوله تعالى "اتل ما أوحي إليك من ربك".
وقد حاول الشيخ محمد بن علي بن يالوشة التونسي ـ رحمه الله ـ بيان الفرق الدقيق بين لفظ التلاوة والنظائر الكثيرة الاستعمال في معناه فليرجع إليه في موضعه(1).
كما أحصى الإمام أبو الأصبغ عبد العزيز بن علي الأندلسي المعروف بابن الطحان المتوفى بحلب سنة (ت 560) أو حولها(2)جملة " الأصول الدائرة في القراءة على اختلاف القراءات المتعاقبة على أنواع الروايات" فقال: "عشرون أصلا يحققها الإقراء، ويحكمها الأداء" فسماها فذكر منها "البسملة" و"المد" و"اللين" و"القصر"
و"الإدغام" و"الإظهار" و"تحقيق الهمز" و"تخفيفه" و"الإمالة" و"التغليط" و"الترقيق" الخ(3).
__________
(1) - انظر كتابه الفوائد المفهمة في شرح الجزرية المقدمة: 20.
(2) - ستأتي ترجمة ابن الطحان في أصحاب أبي الحسن شريح الرعيني-.
(3) - الإحصاء المذكور في كتابه المسمى "مرشد القاري إلى تحقيق معالم المقاري" وهو ما يزال مخطوطا أشار بعضهم إلى وجود نسخة منه مخطوطة في تشيستر بيتي برقم 3925 ذكره الدكتور حسن علي البواب في تحقيقه لكتاب ابن الجزري "التمهيد في علم التجويد" 53. وقد نقل مادة هذا الكتاب أيضا القاضي أحمد بن عمر بن محمد بن أبي الرضا الحموي (ت 791) في كتابه المسمى " القواعد والإشارات في أصول القراءات" ابتداء من ص 42 وأشار إليه في مواضع منه ص 47-50.
(1/25)
وهناك مصطلحات أخرى كالحدر والتدوير والتحقيق لأنواع الأداء ومراتب التلاوة كما سيأتي، والإفراد والجمع، والإرداف، والتصدير والتشهير و"الرمزيات" و"الرسميات" و"الحطيات" ومصطلحات أخرى كثيرة ترد في أثناء البحث ننبه عليها في مواضع ذكرها بعون الله.
ثم التعويل بعد هذا على فطنة القارئ الكريم وحذقه في التعامل مع لغة هذا الفن الذي يفتقر كسائر العلوم والفنون إلى لغة خاصة تفي بالتعبير بحقائقه، وتؤدي عن مقاصده ومعانيه.
والله عز وجل المسؤول أن يوفقنا للسداد، وأن يسلك بنا وبسائر المسلمين سبيل الخير والرشاد وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تمهيد:
(1/26)
لا يستطيع أحد في نظري أن يماري في مجال تفوق المغاربة في حفظ القرآن والعناية البالغة بعلوم القراءة، وإحراز قصب السبق في مضمار الرسم والضبط والمعرفة بوجوه القراءات وطرقها حتى قيل: "ان علم القراءات هو الميدان الوحيد الذي سيطر عليه المغاربة سيطرة تامة"(1)وان المتتبع لتاريخ القراءات في هذه المناطق، والمتصفح لتراجم القراء في كتب الطبقات، لا يخطئه أن يدرك هذه الحقيقة، ولا أن يجدها ماثلة واضحة، وانه ليزداد يقينا بها كلما تقدم وتدرج في الحقب التاريخية، حيث يلاحظ بجلاء استيلاء أئمة القراء في المغرب على الأمد الأقصى في تحقيق القراءات وتحرير الروايات والطرق، والرحلة في طلبها إلى الآفاق، والعكوف عليها بالدرس والتصنيف والتأليف، وتقريبها من الطلاب والمتعلمين بالبسط والتيسير والتعريف نظما ونثرا، إلى الحد الذي استأثر معه أئمتهم لقرون طويلة بمراكز الصدارة، واستحوذوا من خلال مؤلفاتهم فيها وقصائدهم السائرة في كل فرع من فروعها على ميدان القراءة وكراسي الإقراء في المغرب والمشرق على السواء، بل تم لهم ذلك حتى في أعظم المدارس التي تخرجت منها طلائعهم الأولى في الحجاز ومصر والشام وغيرها.
__________
(1) - الدكتور عبد العزيز الأهواني : "كتب برامج العلماء في الأندلس، مجلة معهد المخطوطات مجلد 1/118.
(1/27)
وما تزال شواهد هذا النبوغ حية ماثلة إلى اليوم في مؤلفاتهم الجامعة التي وصلت إلينا، أو وصلت إلينا أصداؤها في هذه العلوم والفنون، والتي ما تزال حتى الساعة معالم نيرة يهتدى بها عند علماء هذا الشأن، ويعتمد عليها في جميع ما يتصل بالقراءة والتجويد والرسم والضبط والوقف والابتداء ومعرفة عدد الآي وغير ذلك، وخاصة من لدن الهيئات العلمية التي تتولى مراجعة المصاحف الشريفة وإعدادها للطبع والنشر في كافة الأقطار الإسلامية. وما تزال أحفل كتب المتأخرين بذكر مذاهب القراء كالنشر لابن الجزري ولطائف الإشارات لأبي العباس القسطلاني، وإتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للبناء الدمياطي وغيرها من أصدق الشواهد على ما ذكرناه لأئمة القراء بالمغرب من شفوف في هذا الميدان، ونبوغ فيه على الأقران، كما تفصح عن ذلك أسماء مصنفاتهم التي ظلت وما تزال عمدة كل باحث، ومنهل كل وارد، ورصيد كل قارئ، إذ كان أقصى ما يطمح إليه القارئ أن يصل طريقه في القراءات بطرقهم، وأن يحظى في رحلته العلمية بسماع بعض مؤلفاتهم والإجازة ببعض قصائدهم ومصنفاتهم.
(1/28)
وتمهيدا منا لإعطاء صور زاهية عن هذا التفوق وذلك النبوغ، لاسيما فيما يتصل بقراءة الإمام نافع بن أبي نعيم إمام دار الهجرة النبوية في القراءة، من رواية أبي سعيد عثمان بن سعيد ورش رائد هذه القراءة وحامل لوائها في مصر، نرى من المفيد أن نقدم بين يدي ذلك حديثا موسعا نقف من خلاله على معالم من تاريخ المدرسة القرآنية بالمغرب من أول الفتح الإسلامي لهذه الديار، إلى حين تعرفها على قراءة نافع على أيدي روادها، واعتماد المغاربة لها قراءة رسمية جامعة، وذلك حتى يتأتى لنا بناء هذا البحث بناء تصاعديا نراعي فيه المسار التاريخي الذي سلكته القراءة على امتداد العصور الإسلامية، بقصد وضع هذه القراءة التي اخترنا إدارة هذا البحث حولها في إطارها الزماني والمكاني، باعتبارها القراءة المغربية المختارة من جهة، واعتبارها أيضا إحدى القيم العليا التي تشكل منها الطراز المغربي وتبلور من خلالها إسهامه في بناء الحضارة الإسلامية في هذه الجهات، وهي حضارة تعرضت مع الأسف لكثير من المعوقات حالت بينها وبين الحفاظ على وحدتها وامتداداتها. فضاع جهادها في غمار الفتن الحالكة والعهود المظلمة، ولم يبق منها في بعض الجهات إلا الذكريات، حتى وصفها بعض شعراء المشرق بحق أو بغير حق بقوله: ...
"حضارة رقدت فيها السيوف على ... أغمادها، وأفاقت فوقها الكتب"(1)
وهدفنا من هذا البحث أمران أساسيان:
أحدهما محاولة إبراز مظاهر النبوغ المغربي في هذا الجانب الرفيع من الثقافة الإسلامية، وتقدير مدى إسهام المغاربة في خدمة كتاب الله والتبريز في علومه، والحفاظ عليها عبر العصور إلى اليوم.
__________
(1) - من قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة ألقاها في زيارته للمغرب، نشرت بمجلة المناهل المغربية العدد 4 السنة 2 نوفمبر 1975، مطلعها "دنيا وبين يديها تغرق الحقب". ص 7.
(1/29)
وثانيهما التعرف على المسار الذي سارت فيه قراءة نافع في الجهات المغربية في زحمة القراءات المأثورة الأخرى، وكيف كانت أحد أهم العوامل التاريخية والحضارية التي ساعدت على تعميق الإحساس بالوحدة الفكرية والمذهبية بين الأقطار والجهات المغربية عبر القرون الماضية، وتوثيق الروابط بين أصقاعها المترامية بصورة مكنتها من الحفاظ على شخصيتها الاعتبارية، والصمود في مواجهة مختلف التيارات المذهبية والفكرية المتعاقبة التي غزتها في مختلف العهود.
ولسنا نعني هنا أننا سنقف على الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية مؤرخين ومفصلين، وإنما نعني أن تتبعنا لتطور القراءة في المناطق والجهات، يقتضي منا بين الحين والآخر، أن نلم ببعض الأحداث التاريخية التي كان لها إلى جانب أبعادها السياسية والاجتماعية في المناطق المغربية، أبعاد مماثلة في التأثير على حركة الإقراء وتوزيع القراء في الرقعة الفسيحة الممتدة عبر الجهات المغربية في افريقية والأندلس والمغرب الأقصى، ثم في الامتدادات المشرقية بعد ذلك، وخصوصا بعد تداعي الحواضر الأندلسية إلى السقوط وانفراط عقد الوحدة السياسية بين الأقطار المغربية، وسوف نرى أن هذه الأحداث المؤلمة كثيرا ما كانت حافزا للقراء على الهجرة من هذا القطر إلى ذلك، والتنقل عبر البلاد، في ظروف بالغة الحرج في كثير من الأحيان، إلا أن الغريب في الأمر أن ذلك كان كثيرا ما يجري لصالح القراءات، إذ لا يكاد القارئ يغادر بلده، حتى يجد الترحيب الزائد والاستقبال الحفي في غيره، مما يتألق معه نجمه أكثر وأوفر مما كان لو بقي في بلده، وسوف نرى مصداق ما ذكرناه مع طائفة من الأئمة الذين اضطرتهم الفتن والقلاقل إلى النزوح عن ديارهم، كيف أنهم سرعان ما استعاضوا منها المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الديار التي احتلوها في البداية مهاجرين ولاجئين.
(1/30)
وقبل أن نمضي قدما في الحديث عن مظاهر هذا النشاط، وكيف تبلور في مدارس القراءات من خلال جهود أولئك الأئمة وآثارهم في القراءة على العموم وفي قراءة نافع على الخصوص، تقتضي منا طبيعة البحث الإلمام بأولى الخطوات التي خطتها المسيرة القرآنية في الغرب الإسلامي، واستجلاء معالم الطريق الذي عبرت منه طلائع القراءات في رحلة العبور إلى هذه الديار، وذلك من خلال الفصول الأربعة التالية
الفصل الأول:
المدرسة القرآنية في الغرب الإسلامي
ومؤسساتها ومقوماتها التعليمية
يرتبط تاريخ المدرسة القرآنية في الأقطار المغربية بتاريخ دخول الإسلام وانتشاره بها ذلك لأن الفتح الإسلامي إنما هو في حقيقته تمهيد للبلاد وإزالة للعوائق التي تحول دون بلوغ دعوة القرآن إلى العباد، وتحقيقا لهذه الغاية، كانت الدعوة إلى كتاب الله شعار الفاتحين من الصحابة والتابعين، والتعليمات النبوية والتوجيهات الرسمية التي كانت توجه إلى قادة الفتح وإلى الدعاة على حد سواء كانت كلها تلتقي على الدعوة إلى كتاب الله والعمل به، وتأمر بالمسارعة إلى تقديمه للناس بعد تحقق الاستجابة لدعوته والإذعان له، وهكذا نقرأ في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "لما بعث خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، أمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثا قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا فليقبل منهم، وإن لم يفعلوا فليقاتلهم، فخرج حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وبذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ان هم أسلموا ولم يقاتلوا"(1).
__________
(1) - الروض الأنف للإمام السهيلي 4/217.
(1/31)
وفي السيرة أيضا نقرأ أنه لما بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرو بن حزم إلى اليمن داعيا زوده بهذا الكتاب المتضمن لبيان مهمته:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود، من محمد رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، وينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر"(1).
وهكذا كانت سيوف الفتح محكومة بدعوة القرآن وتعاليم النبوة، وليست متروكة للأهواء فكان "قوام الدين بالمصحف والسيف"(2)، جريا على السنن القويم والمنهاج المستقيم الذي رسمه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للجهاد فيما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من عدل عن هذا ـ يعني المصحف ـ"(3).
ولا يخفى ما كان لهذه السيرة من أثر في نشر الإسلام وعموم دعوة القرآن وتقبل الكافة لها تقبلا سريعا، وبذلك "انتشر الإسلام في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الممالك المصاقبة لهم كممالك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ممالك الأطراف"(4).
وهكذا كان القرآن الكريم يسير حيثما سارت راية الفتح والجهاد، وسرعان ما كان يقبل أهل البلاد المفتوحة على تعلمه والتفقه في أحكامه، وكان الخلفاء وأولياء الأمور يجعلون العناية بتعليم كتاب الله رأس ما يهتمون به في الأقاليم المفتوحة عقب فتحها، كما تشهد بذلك التعليمات الرسمية.
__________
(1) - الروض الأنف 218 والسيرة النبوية للحافظ ابن كثير 4/117.
(2) - السياسة الشرعية لأبي العباس بن تيمية 26.
(3) - المصدر نفسه ص 26.
(4) - إعجاز القرآن للباقلاني بهامش الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/20.
(1/32)
فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يبعث إلى أهل الولايات بالشام والعراق قائلا: "إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم"(1).
وهذا عامله على البصرة أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يشرح لأهل البصرة أسس مأموريته فيقول: "ان أمير المؤمنين بعثني إليكم أعلمكم كتاب ربكم وأنظف طرقكم"(2).
ولم يكن نصيب البلدان المغربية المفتوحة من هذا دون نصيب غيرها من البلدان المفتوحة قبلها، بل ان تأخر فتحها عن معظم البلدان المشرقية قد أعطاها فرصا أقوى للاستفادة من هذه العناية المبذولة، وذلك بسبب تفرغ كثير من فقهاء الصحابة وقرائهم لهذا الأمر، ومشاركتهم الواسعة في الحملات الجهادية التي كانت توجه إلى هذه الجهات، انطلاقا من بلاد مصر التي تم فتحها مبكرا في أواخر خلافة عمر.
وان المتتبع لأخبار هذه الفتوحات في المصادر التاريخية لا يكاد يجد حملة من تلك الحملات التي وجهت نحو إتمام الفتح في جهات افريقية، إلا وجدها تضم جماعة من المعدودين في قراء الصحابة.
ففي أولى هذه الحملات كان عمرو بن العاص رضي الله عنه تمكن بعد إتمام فتح بلاد مصر من الوصول إلى برقة "فصالحه أهلها على الجزية، ثم سار إلى طرابلس فحاصرها وفتحها عنوة"(3).
وكان عمرو نفسه من المعدودين في القراء، وممن "وردت عنه الرواية في حروف القرآن"(4).
وفي سنة سبع وعشرين كانت الحملة الثانية على افريقية بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل عثمان ـ رضي الله عنه ـ على مصر، "فغزاها وافتتحها"(5).
__________
(1) - السياسة الشرعية لابن تيمية 26.
(2) - حلية الأولياء لأبي نعيم 1/257.
(3) - البيان المغرب لابن عذاري المراكشي 1/8.
(4) - غاية النهاية 1/601 ترجمة 2455
(5) - البيان المغرب 1/14.
(1/33)
وتطنب المصادر التاريخية في عدد من خرج معه من فضلاء الصحابة في هذه الحملة فتذكر فيهم "عبد الله بن الزبير، وأبا ذر الغفاري، وعبد الله بن عباس، ومسور بن مخرمة، والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن بن صبيحة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخويه عبيد الله وعاصما، والسائب بن أبي وداعة، والسائب بن عامر بن هشام، وبسر بن أرطاة، ومع كل واحد منهم جماعة من قومه ..."(1).
وذكر أن تعداد هذا الجيش كان عشرين ألفا أكثرهم من الصحابة"(2).
وعن سليمان بن يسار(3)ـ وهو من الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة في زمن نافع ـ قال:
"غزونا افريقية مع معاوية بن حديج ومعنا بشر كثير من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم"(4).
__________
(1) - رياض النفوس في طبقات علماء القيروان للمالكي 1/15.
(2) - طبقات علماء افريقية وتونس لأبي العرب 70.
(3) - سيأتي التعريف به في علماء المدينة.
(4) - الاستقصاء للناصري 1/90.
(1/34)
وقد استمر الفتح في اتجاه الجهات الداخلية من المغرب إلى زمن معاوية رضي الله عنه، حيث عقد لعقبة بن نافع على المغرب سنة خمسين من الهجرة"(1)، فتوغل في الفتح لإتمام ما تبقى من الجيوب والمعاقل المنيعة وقد ذكروا أنه وصل إلى افريقية في عشرة آلاف من المسلمين، وكان في عسكره ثمانية عشر من الصحابة(2)، وربما تزايد هذا العدد بعد ذلك إذ ذكر أبو العرب عن بعض المحدثين أن عقبة بن نافع لما دخلها كان معه خمسة وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(3). ولا شك أن المناطق المغربية قد استفادت استفادة جلى من دخول هذا الحشد من الصحابة ومن معهم من التابعين فيما يخص الإرشاد والتعليم إلى جانب وظائف الإمامة في الصلاة وغير ذلك، وقد اهتمت المصادر التاريخية التي اهتمت بهذه الحقبة بذكر أسماء مشاهير من دخل المغرب من الصحابة والتابعين يمكن الرجوع إلى قوائمهم في تلك المصادر المطولة(4).
ولا شك أن قسما كبيرا من هذا العدد قد أطال المقام بهذه الجهات حتى أخذ عنه، وفيهم من أدركته الوفاة في بعضها على نحو ما يذكرون عن المنيذر الافريقي رضي الله عنه الذي أقام بافريقية حتى غلب عليه هذا الاسم، وعاش بها حتى شهد فتح الأندلس بعد التسعين من الهجرة وربما دفن في بعض مدنها(5).
__________
(1) - البيان المغرب لابن عذاري 1/19.
(2) - الاستقصاء للناصري 1/85.
(3) - طبقات علماء افريقية لأبي العرب ص 17.
(4) - يمكن الرجوع في ذلك إلى رياض النفوس للمالكي 1/60-98 والاستقصاء للناصري 1/85-89 والمعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي ص 26، وشجرة النور الزكية لابن مخلوف التونسي التتمة الملحقة بالكتاب 87.
(5) - تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية والنصوص التاريخية الملحقة به ص 201-202، وانظر مناقشة المقري لدخول المنيذر الافريقي إلى الأندلس في كتابه نفح الطيب 4/4-5.
(1/35)
ولا غرو أن اهتمام هذه المصادر بدخول الصحابة إلى هذه الجهات له مغزاه الخاص، فلقد كانوا ـ رضوان الله عليهم ـ مادة الإسلام الأولى وحملة الكتاب ومعلمين للأجيال الحلال والحرام، والقائمين على حدود الله علما وعملا وتوجيها، لاسيما في معسكرات الجهاد التي كانت يومئذ أشبه بمدارس متنقلة، وكان الرجل يطرق الفسطاط طروقا فيسمع لأهله دويا كدوي النحل(1).
لقد كانت قراءة القرآن والتهجد به وتعلمه وتعليمه الشغل الشاغل لهم لاسيما في فترات الاستجمام والراحة، ولهذا كان تسجيل دخول الصحابي إلى بلد من البلدان مثار اهتمام خاص. وذلك لما كان يترتب على دخوله من آثار في التعليم والتوجيه وحفز الهمم على التفقه في الدين ومعرفة حدوده وأحكامه، ولذلك كان الاهتمام كبيرا بإرسال هذه الكفاءات مع الجند وانتدابها من لدن الخلفاء للقيام بمهام القيادة والإمامة والتعليم والتوجيه وغير ذلك من الوظائف الدينية.
وقد توجهت همم الفاتحين منذ البداية إلى العمل على تحفيظ القرآن للمغاربة ونشره بينهم وتعميم تعليمه في الجهات والأقاليم، وقد سلكوا لتحقيق ذلك أكثر من سبيل، ويمكن للباحث أن يتمثل عملهم في ذلك فيما أخذوا به من الوسائل التالية:
أ ـ في بعثات التوجيه والإقراء.
ب ـ في تأسيس الربط الجهادية وتعميرها والإشراف على التعليم فيها.
ج ـ في بناء المساجد الجامعة والخاصة وتنصيب الأئمة والمقرئين بها.
د ـ في إحداث مكاتب ومحاضر لتعليم القرآن وتنظيمها وتعميمها.
هـ ـ في العناية باستنساخ المصاحف الشريفة وتجويدها ونشرها.
وسنقف عند كل عنصر منها وقفة خاصة، لإعطاء صورة تقريبية عن عملهم من خلاله دون إفاضة في التفاصيل.
أ
بعثات التوجيه والإقراء في عهد الصحابة والتابعين
__________
(1) - التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 34.
(1/36)
كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون أن أنجع الوسائل وأنفعها في تثبيت الإسلام وتعميق الإيمان في النفوس، هو تعليم القرآن ونشره وتعميمه، بل كانوا يعدون ذلك أفضل الجهاد، انسجاما مع الأحاديث النبوية في ذلك والتي تجعل الاشتغال به تعلما وتعليما أفضل الأعمال، وتعد خير أفراد الأمة من تعلم القرآن وعلمه(1). ولهذا لم يكونوا يجدون لأنفسهم عذرا في التخلف عن الخروج في حملات الجهاد إلى مختلف الجهات، حتى مع تقدم السن، والعجز عن البلاء الحسن في القتال، إذ كانوا يعتبرون حركة الجهاد تعبئة عامة لا يغني فيها مقام الجندي في الميدان، عن مقام القارئ والمرشد في المعسكر والرباط، ولقد قيل للمقداد بن الأسود ـ رضي الله عنه ـ وقد شوهد جالسا على تابوت في معسكر الجند بمدينة حمص عقب فتح الشام، وذلك بعد أن امتدت به السن، فقيل له: أنت اليوم من أهل الأعذار، فقال: "أتت علينا البحوث"(2)مشيرا إلى قول الله تعالى في هذه السورة:
"انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون"(3).
ولقد كانت هذه الكفاءات التعليمية تزود حملات الجهاد بروح إيمانية عالية، وكان يتطوع فيها للتعليم والتوجيه مجموعات من الصحابة والتابعين يكون عليها الاعتماد في الأمور التي ترجع إلى التعليم الديني، وكان فيهم من ينتدب رسميا من دار الخلافة مما يمكن تسميته ببعثات الإقراء والتعليم المنظم، ومن أهم تلك البعثات لهذا العهد في المناطق المغربية في زمن الفتح:
1- بعثة عقبة بن نافع الفهري
__________
(1) - ينظر حديث عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" صحيح البخاري 3/232.
(2) - المراد سورة التوبة لأنها بحثت عن أحوال المنافقين وهتكت أستارهم، ينظر سر تسميتها بذلك في الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/54- وخبر المقداد عند أبي نعيم في حلية الأولياء 1/176.
(3) - سورة التوبة آلآية 41.
(1/37)
وهي بعثة دخلت المغرب معه في ولايته الثانية زمن يزيد ين معاوية سنة اثنتين وستين من الهجرة، فرحل من الشام في اتجاه المغرب، ومعه خمسة وعشرون من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(1).
وربما كان من رجال هذه البعثة أبو منصور الفارسي القارئ والد يزيد بن أبي منصور التابعي، وكانت له صحبة على اختلاف في ذلك بين العلماء(2)، وقد ذكروا أنه كان فقيها قارئا للقرآن، متفننا في العلم، يروي عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وابن عمر، قدم افريقية وسكن القيروان إلى أن مات بها(3).
ويتجلى مقدار اهتمام عقبة بن نافع بنشر القرآن وتعليمه وتعميمه في الوصية التي خلفها لأولاده حين عزم على الخروج للغزو حيث "دعا بأولاده فقال لهم: إني بعت نفسي من الله، وما أدري ما يأتي علي في سفري، ثم قال: أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها، إياكم أن تملأوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل"(4).
ومن المأثور في كتب التاريخ المغربي للفتح أن عقبة لما أنهى مهمته ببلوغ الشاطئ الأطلسي في الغرب وقرر العودة من حيث أتى، عين جماعة من أصحابه يعلمون الناس القرآن ويفقهونهم في الدين وجعل على رأسهم شاكر بن عبد الله(5)صاحب الرباط المشهور على مراحل من مراكش(6).
2- بعثة حسان بن النعمان
أما ثانية أهم البعثات في هذا الشأن فهي البعثة التي رافقت حسان بن النعمان في دخوله إلى الغرب، وقد قدم افريقية واليا عليها لعبد الملك بن مروان في سنة ثمان وسبعين(7).
__________
(1) - ينظر البيان المغرب لابن عذاري: 1/23.
(2) - طبقات علماء افريقية لأبي العرب 18-19.
(3) - مناقب الحضيكي 2/405-406
(4) - رياض النفوس للمالكي 1/34 وعند ابن عذاري بصيغة أخرى في البيان المغرب 1/23-24.
(5) - تختلف المصادر في اسم أبيه ونسبه اختلافا كثيرا، وفي بعضها ابن يعلى بن مصلين.
(6) - البيان المغرب 1/27-28.
(7) - المصدر نفسه 1/34.
(1/38)
ونشير إلى أن هذا الوالي قد جاء إلى المغرب بعد اختلال الأحوال وانتقاض البربر على المسلمين بعد مقتل عقبة بن نافع وعجز خلفه عن رأب الصدع ورد الأمر إلى نصابه، فاستطاع حسان بما أوتي من حنكة في القيادة أن يقضي على الأحلاف البربرية ويبدد شمل المعارضة المعتصمة بالجبال بزعامة الكاهنة التي عزمت على إجلاء العرب من افريقية، ويذكر أنه لما تخلى كثير من أحلافها عن نصرتها راجعت الإسلام، فاستصفى حسان من جندها وغيرهم من البربر الأجلاد يجاهدون مع العرب فأجابوه إلى ذلك وأسلموا على يديه(1). وعقد هذه المؤاخاة بين أجناد العرب والبربر، "وعهد إلى ثلاثة عشر فقيها من كبار التابعين بتعليم القرآن وأصول الإسلام واللغة العربية"(2).
3- بعثة موسى بن نصير
ثم كانت البعثة الثالثة التي واصل بها الخلفاء في المشرق هذا العدد، وهي البعثة التي يقترن ذكرها بالوالي الجديد موسى بن نصير، وكان قدومه إلى افريقية بعد انسحاب حسان عنها معزولا، الأمر الذي خلف فراغا هائلا رجع معه الأمر إلى ما كان عليه من المخالفة على الولاة، وخصوصا في الجهات الداخلية والمعاقل الأطلسية، فلما كانت سنة ست وثمانين وولي الخلافة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمه عبد الله بن مروان واليه على مصر بولاية موسى بن نصير افريقية والمغرب، وقطعها عن عمه، وكانت أكثر مدن افريقية خالية باختلاف البرابر عليها(3).
__________
(1) - نفسه 1/38 ورياض النفوس 1/56.
(2) - الخوارج في بلاد المغرب، للدكتور محمد إسماعيل عبد الرزاق 38.
(3) - البيان المغرب 1/41.
(1/39)
ثم خرج موسى غازيا من افريقية إلى طنجة، فوجد البربر قد هربوا إلى الغرب خوفا من العرب فسار وراءهم حتى بلغ السوس الأدنى وهو بلاد درعة، فاستأمن إليه البربر وأطاعوا وولى عليهم واليا(1)"واستعمل مولاه طارقا على طنجة وما والاها في سبعة عشر ألفا من العرب واثني عشر من البربر، وأمر العرب أن يعلموا البرابر القرآن، وأن يفقهوهم في الدين"(2).
والذي يهمنا هنا ما جاء في المصادر التاريخية من أنه اختار من جنده سبعة عشر رجلا من القراء والفقهاء وندبهم إلى سائر الجهات يعلمون القرآن وشرائع الإسلام(3).
ولم تتعرض المصادر لتسمية أولئك القراء والفقهاء، إلا أن اهتمامهم بذكر عددهم يشير إلى أنهم كانوا في مهمتهم متمايزين عن غيرهم ممن يتطوعون بالقيام بهذه الشؤون، وربما كان فيهم التابعي الجليل عبد الرحمن بن رافع التنوخي الذي قيل انه أول من استقضي بالقيروان بعد بنائها ولاه عليها موسى بن نصير سنة ثمانين(4).
وربما كان منهم صالح بن منصور المعروف بالعبد الصالح الذي يذكر ابن عذاري أنه دخل المغرب في الافتتاح الأول زمن الوليد بن عبد الملك، فنزل في بني تمسمان وعلى يديه أسلم بربرها وهم صنهاجة وغمارة(5)وحفيده سعيد بن إدريس بن صالح هو باني مدينة نكور(6).
ونشير هنا إلى مكانة موسى بن نصير نفسه في العلم والرواية، فقد كان يروي عن جماعة من قراء الصحابة وفقهائهم، ومن أبرزهم تميم الداري أحد الصحابة القراء(7)، فغير بعيد أن يكون له أثر في تلقين القراءة إلى جانب من كان يلقنها من أصحابه ورجال بعثته.
4- بعثة عمر بن عبد العزيز
__________
(1) - البيان المغرب 1/42.
(2) - البيان المغرب 1/42 وتاريخ ابن خلدون 6/110.
(3) - معالم الإيمان للدباغ 1/213 وتاريخ ابن خلدون 6/110.
(4) - مناقب الحضيكي 2/406-407.
(5) - البيان المغرب 1/176-178.
(6) - المصدر نفسه 1/176.
(7) - جذوة المقتبس للحميدي ص 6.
(1/40)
ولعل أبرز البعثات المنتدبة في هذا الشأن هي بعثة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ومكانة عمر في العلم والحرص على تعميمه مشهورة مشهودة، وسيأتي طرف من أخبارها في المسجد النبوي على عهد نافع، وبلغ من عنايته بقراءة القرآن وتشجيع القراء أنه كان "لا يفرض في بيت المال إلا لمن قرأ القرآن"(1).
وقد قام بإجراءات كثيرة لتفريغ المعلمين والمتعلمين لهذا الغرض وكتب بذلك إلى عماله ـ كما سيأتي ـ ومن بين تلك الإجراءات توجيه عدد من بعثات الإقراء إلى الأقاليم والجهات، أفذاذا وجماعات، ومنها بعثته المذكورة إلى افريقية والمغرب، وهي أكثر البعثات تخصصا في القراءة في نظرنا، وأعمقها أثرا في هذه المناطق كما سنعود إليه بمزيد من البيان، وقد وجه على رأس هذه البعثة قارئا جليلا هو إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم القرشيين، وهو من رواة قراءة امام أهل الشام عبد الله بن عامر اليحصبي وممن قرأ القرآن أيضا على أنس بن مالك(2). وعن عبد الرحمن بن عامر اليحصبي قال: قال لي إسماعيل بن عبد الله أخوك أكبر مني بخمس سنين وعلى أخيك قرأت القرآن"(3).
وقد عده ابن حبان فيمن سمى من مشاهير علماء الشام من التابعين، فذكر أنه من صالحي أهل الشام وخيار الدمشقيين، كان عمر بن عبد العزيز قد ولاه جند افريقية، ومات في خلافة مروان بن محمد سنة اثنتين وثلاثين ومائة(4).
__________
(1) - القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس ص 84.
(2) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين للأندرابي ص 81.
(3) - تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/344-345.
(4) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ص 179. ونحوه في تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/348-349.
(1/41)
وقد وجه معه عمر عشرة من فقهاء التابعين يفقهون أهل افريقية، فأقام أكثرهم بالقيروان مدة واختط دارا وبنى مسجدا، كما كان فيهم من غزا الأندلس ومن ولي القضاء بالقيروان أو غيرها مما يكون معه الانتفاع بهم والأخذ عنهم قد شمل المغرب كله. وسيأتي التعريف بأثرهم في ذلك في الفصل التالي بعون الله.
2- في تأسيس الربط وتعميرها والإشراف على التعليم والتوجيه فيها
أما العامل الثاني أو الوسيلة الثانية التي اعتمدها الفقهاء والولاة والدعاة في نشر الإسلام ودعم جهود الفاتحين في المناطق المغربية، فتمثل في إنشاء سلسلة من الربط الجهادية في أطراف البلاد، والربط مفردها رباط، ككتب وكتاب "والرباط واحد الرباطات المبنية"(1). قال في اللسان "والرباط والمرابطة: ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا"(2).
وقد توسع في استعمال اللفظ ليدل على عمل المرابط ومكان المرابطة، وجرى إطلاقه على القلاع والحصون التي تشاد على أطراف البلاد وعلى خطوط المواصلات لحراسة الثغور والشواطئ، وتأمين حاجة المنطقة إلى الدفاع والإنذار بالعدو عند الحاجة. وقد كان تأسيس بعض هذه الربط في بعض المناطق الشاطئية تمهيدا لتحويلها إلى حواضر مهمة ومراكز للحكم، على غرار ما تم بمصر بالنسبة لمدينة الفسطاط، وما تم بالقيروان نفسها التي تحولت فيما بعد إلى قاعدة إدارية، إذ يذكر أن عقبة بن نافع لما هم ببنائها قال لأصحابه: "نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط"(3)والذي يهمنا هنا أن هذه الربط الجهادية كانت تقوم في الأحوال الأمنية بمهمة التعليم وتحفيظ القرآن وانتساخ المصاحف ونحو ذلك مما يعكف عليه نزلاؤها احتسابا وطلبا للأجر والمثوبة.
__________
(1) - لسان العرب لابن منظور ... مادة ربط 7/303 ع 2.
(2) - المصدر نفسه 7/302 ع 2.
(3) - البيان المغرب 1/19.
(1/42)
وعرفت المرابطة في الثغور البحرية في صدر الإسلام بشكل واسع، وكانت الربط تمتد على طول سواحل الشام ومصر وافريقية المسامتة لبلاد الروم في الشرق والغرب، وتحتفظ بعض المصادر التاريخية بشذرات من أخبار هذه الربط لهذا العهد تشهد أن عمارها كانوا في الغالب من القراء والعلماء حتى كانت المرابطة فيها عنوان زهد القارئ والعالم في متع الدنيا وعيش الرغد في الحواضر.
وهذا أحد كبار رواد هذه الربط في زمنه وعميد القراء والزهاد في عهده أبو محمد عبد الله بن المبارك (ت 181) يخاطب من أحد هذه الربط بالشام رائد شعر الزهد في عصره ببغداد الشاعر أبا العتاهية شاعر الخلافة العباسية، ناعيا عليه المفارقة العجيبة بين ما يعيش فيه وبين ما يدعو إليه، فيقول:
أيها القارئ الذي لبس الصوف ... وأضحى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتعبد فيه ... ليس بغداد منزل العباد
ان بغداد للملوك محل ... ومناخ للقارئ الصياد(1)
وله مثل ذلك أيضا وهو يخاطب زميله في الرباط في بلد طرسوس من سواحل الشام أبا علي الفضيل بن عياض (ت 187) حين خرج الفضيل حاجا تاركا المرابطة في هذا الثغر، فطابت له المجاروة بالبلد الحرام فكتب إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
__________
(1) - نقله عياض في ترتيب المدارك 3/73 وفي "الفنية في شيوخ عياض" له 104.
(1/43)
من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تنخضب(1)إلى آخر القطعة. وسوف يمر بنا ـ بعون الله ـ من خلال استعراضنا لتراجم طائفة من قراء الصدر الأول مقدار ما أسهم به طائفة من القراء الذين كانوا يقيمون في هذه الربط الجهادية في إثراء حركة الإقراء فيها، واستغلال وجودهم وتفرغهم بها في تخريج الطلاب وشداة القراء، ابتداء مما نقرؤه في أخبار الفتوحات، ومرورا بالعهود التالية التي اقتضت من الأمراء والولاة إقامة حاميات عسكرية في الثغور كان القراء والمعلمون في طليعة من يبادر إلى المرابطة فيها متطوعين ومحتسبين.
وفي هذا الصدد تستوقفنا إشارات مشرقة في تراجم بعض القراء الذين لهم صلات وثيقة بموضوع بحثنا، منها ما جاء في ترجمة شيخ الإمام نافع عبد الرحمن بن هرمز الأعرج من أنه خرج إلى الأسكندرية مرابطا في آخر حياته، إلى أن أدركته الوفاة بها سنة 117 أو بعدها(2).
ومنها ما نقرؤه في ترجمة صاحب ورش أبي يعقوب يوسف الأزرق من أنه في أثناء قراءته عليه كان يقرأ بطريقة "التحقيق"، وكان يقرأ عليه بطريقة "الحدر"(3)إذا رابط معه بالأسكندرية"(4).
ونقرأ نحوا من ذلك في ترجمة أبي الأشعث عامر بن سعيد ـ أو سعير ـ من أنه "رابط للغزو سبعين عاما، وأنه كان مرابطا بثغر "المصيصة" من سواحل الشام، وبها كان يقصده القراء في رواية ورش ليعرضوا عليه(5).
__________
(1) - القطعة بتمامها في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 1/187.
(2) - غاية النهاية 1/381.
(3) - هو بمعنى سرعة القراءة وسيأتي بيانه.
(4) - غاية النهاية 2/420 ترجمة 3934.
(5) - ترجمته في غاية النهاية 1/349-350 ترجمة 1499 وسيأتي.
(1/44)
وإنما سقنا هذه الأخبار والأمثلة لبيان مقدار الأثر الذي كان لهذه الربط في مجال القراءة وتعليم القرآن بوجه عام. وأحسب أنه لو نقلت إلينا أخبار الربط الافريقية والمغربية على وجهها وعلى نحو ما نقلت لنا أخبار غيرها من الربط المشرقية، لوقفنا منها على قريب مما كان يجري بها من حركة ونشاط في هذا المضمار، ولاسيما منها تلك الربط التي كانت معروفة على السواحل، والتي ذكر أنها بلغت ألف رباط من طنجة إلى الاسكندرية على نحو ستة آلاف كيلومتر ... وكان الناس يتطوعون فيها لمدد معينة لحراسة الثغور، أو للتعليم بالمجان، أو للمعالجة أو انتساخ المخطوطات"(1).
والمشهور في كتب التاريخ أن أقدم هذه الربط هو "رباط المنستير"، ويقع بين المهدية وسوسة بالقطر التونسي، وكانت "المنستير" من أعظم مدائن الروم قبل الإسلام"(2).
أما الرباط المعروف باسمها فقد أسسه هرثمة بن أعين والي المنطقة لهارون الرشيد سنة إحدى وثمانين ومائة(3)، ولعل شهرة هذا الرباط إنما جاءته من وقوعه على الطريق الرابطة بين المشرق العربي وبين الجهات الداخلية من المغرب والأندلس، فكان منزلا مشهورا على الطريق التي تعبرها القوافل. أما المصادر المغربية فتشير إلى رباط أقدم منه بما ينيف على قرن من الزمن، هو رباط شاكر بن عبد الله الأزدي الآنف الذكر، وهو ما يزال يحمل اسم صاحبه إلى اليوم(4).
__________
(1) - الدكتور محمد عبد القادر أحمد في بحث "المخطوطات العربية بالمغرب" مجلة المورد العراقية العدد 1 مجلد 8-1399-1979.
(2) - البيان المغرب 1/24.
(3) - البيان المغرب 1/79 والاستقصاء 1/135.
(4) - يقع هذا الرباط في جنوبي مدينة مراكش على بعد خمسة وثمانين كلم منها، وقد كان تأسيسه سنة 62 هـ، وجدد بناءه المولى محمد بن عبد الله العلوي سنة 1187، ويمكن الرجوع في ذلك إلى الاستقصاء للناصري 4/115، والموسوعة المغربية معلمة الصحراء لعبد العزيز بنعبد الله ص 106.
(1/45)
ولا يخفى ما كان لهذا الرباط وأمثاله على المدى الطويل من أثر في الحفاظ على الإسلام وتكوين الأجيال تكوينا صحيحا سواء في المعرفة الدينية وتكوين "أطر" الدعوة، أم في التدريب على القتال والفروسية، وقد اشتهر بعض هذه الربط بالدراسات الفقهية المتخصصة، ومنها رباط قصر زياد بتونس، وكان يسمى "درا مالك" لكثرة من فيه من العلماء والعباد والصالحين من أصحاب مالك، وكان فيه من أصحاب سحنون(1)أربعة عشر رجلا(2)، وكان سحنون نفسه من رواده، وصام به مرابطا خمسة عشر رمضانا(3).
وكانت ترتبط بهذه الربط العامرة مساجد خاصة يجتمع فيها المرابطون وغيرهم في أوقات مخصوصة من كل أسبوع لسماع القرآن وحضور مجالس الذكر وإنشاد الأشعار في الزهد والرقائق والترغيب في الجهاد، وكان يطلق على كل مسجد منها اسم اليوم الذي اعتيد على الاجتماع فيه لهذا الغرض، كمسجد السبت ومسجد الخميس اللذين كانت تقرأ بهما الرقائق كل يوم خميس وسبت "يحضر تلك المجالس الصلحاء والقراء وأهل الخير"(4).
وامتدادا لهذا الدور الذي مثلته الربط الجهادية في الصدر الأول في هذا المجال ظهر في الجنوب المغربي في المائة الخامسة رباط عبد الله بن ياسين الجزولي الذي منه حركة المرابطين في طور ترعرعها ونشأتها انطلقت، ومنه اشتقت اسمها الذي أقامت على قواعده أركان أقوى دولة حكمت المغرب عسكريا وبنت صرح وحدته التاريخية من نهر السينغال جنوبا إلى طليطلة وما وراءها شمالا، ففي هذا الرباط تكون رجال هذه الحركة، ومنه اندفعوا لإنقاذ المغرب من براثن النحلة البرغواطية الضالة، واستنقاذ الأندلس من سقوط عاجل في أيدي نصارى الشمال كان وشيك الوقوع.
__________
(1) - هو عبد السلام بن سعيد التنوخي عميد فقهاء المالكية بالقيروان، وسيأتي في مكانه من البحث.
(2) - ترتيب المدارك 4/384.
(3) - المصدر نفسه 4/74.
(4) - معالم الإيمان للدباغ 1/31-32.
(1/46)
وقد تمحور عمله في رباطه على إقامة شعائر الدين وقراءة القرآن وتعليمه والتفقه في أحكامه، "فلم تمر مدة حتى اجتمع له من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم "المرابطين" أو أسماهم الناس بذلك للزومهم الرباط المذكور"(1).
وقد احتفظت المصادر التاريخية بنص الكتاب الذي بعث به الشيخ المقرئ الداعية المتصدر بالقيروان أبو عمران الفاسي(2)، إلى تلميذه المدعو وكاك بن زلو اللمطي المقيم بوادي نفيس من الجنوب المغربي يطلب منه تزويد الأمير الصنهاجي العائد من رحلة الحج برجل يثق بدينه وورعه وكثرة علمه وسياسته، ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام(3)، "وكان وكاك في داره التي بناها بالسوس، وسماها دار المرابطين"(4)، فوقع اختياره على عبد الله بن ياسين الذي نهض بهذه المأمورية وقام بها خير قيام، قبل أن يترجم عمله إلى واقع حي في صورة دولة فتية وضع قواعدها على العلم والجهاد، وهكذا يمكننا أن نعتبر هذا الرباط أقوى مدرسة قرآنية انطلقت في افريقية والمغرب بمثل هذا الحشد الحاشد من الحفاظ، ولو أتيح لنا من الوثائق ما يكشف عن هذه الحقبة من تاريخ المنطقة لتغير الكثير من أحكام المتأخرين في هذه الحقبة من تاريخ المرابطين.
3- في إقامة المساجد الجامعة والخاصة وتنصيب الأئمة والمقرئين بها
لا يخفى على أحد الدور القيادي الذي كان للمساجد في الإسلام، ولذلك كان بناء المسجد الجامع أول ما يأخذ باهتمام الأمراء كلما تيسر لهم فتح بلد من البلدان أو تمصير مصر جديد.
__________
(1) - ذكريات مشاهير رجال المغرب: عبد الله بن ياسين لعبد الله كنون عدد 37 ص 10-11.
(2) - سيأتي التعريف به في مشايخ القراءة بالقيروان وفاس.
(3) - تاريخ ابن خلدون 6/183.
(4) - ترتيب المدارك 8/81-82.
(1/47)
وقد كان أول ما بادر المهاجرون الأولون إلى عمله غداة مقدمهم المدينة المنورة إنشاء أول مسجد بني في الإسلام، روى عمر بن شبة عن أبي كعب القرظي قال: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء وقد بنى أصحابه مسجدا يصلون فيه إلى بيت المقدس، فلما قدم صلى بهم إليه، ولم يحدث في المسجد شيئا"(1).
ولعل النبي صلة الله عليه وسلم عمل على توسيعه بعد ذلك، فبناه باللبن، إذ ذكر ابن شبة خبرا آخر يفيد اشتراك الجميع في العمل، وفيه تجلى مقدار الارتباط بين القرآن وإقامة المساجد، إذ كان عبد الله بن رواحة يرتجز: "أفلح من يعالج المساجدا"
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المساجدا"
فقال عبد الله بن رواحة: "يقرأ القرآن قائما وقاعدا"
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقاعدا"
فقال عبد الله رضي الله عنه: "ولا يبيت الليل عنه راقدا"
فقال صلى الله عليه وسلم: "راقدا"(2).
ذلك كان أول المؤسسات التي عني المسلمون بإقامتها بعد الهجرة، فكان هذا المسجد مسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام(3).
ولقد بلغ من عناية المخططين للأمصار التي بنيت عقب الفتح بإقامة المساجد الجامعة في المواقع اللائقة بمكانتها أنهم كانوا يراعون في التخطيط أن تكون الأبعاد إلى المسجد متكافئة من جميع أطراف المصر، ولذلك يكون المسجد أول ما يتبرك ببنائه، ثم تقام دار الإمارة حوله، ثم يؤذن للناس بالبناء، ومن أبرز الأمثلة في اتباع هذا التصميم مدينة الفسطاط في مصر، التي اختطها عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد الفتح، ومدينة القيروان التي اختطها عقبة في ولايته الأولى سنة خمسين(4).
__________
(1) - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/51.
(2) - المصدر نفسه 1/52.
(3) - السيرة النبوية لابن هشام 2/189.
(4) - مجموعة رسائل ابن جزم – رسالة في جملة فتوح الإسلام 2/128.
(1/48)
وفي بعض المصادر أن عبيد الله بن سعد الفاتح الأول لافريقية تقدم عقبة إلى تأسيس مسجد بموضع القيروان، وهو المسجد المعروف عند باب عبد الله بـ"مسجد ابن أبي سرح"(1).
والمتتبع لحركة إنشاء المساجد لهذا العهد في البلاد المغربية المفتوحة يلاحظ تلك العناية البالغة التي لقيتها في العهود الأولى مع قلة الإمكانيات وضعف الموارد، هذا إلى جانب المساجد الخاصة التي كان يقيمها المتطوعون، ويجعلون منها في الوقت نفسه محاضر لتعليم القرآن.
فهذا البهلول بن راشد كان له بالقيروان مسجده الخاص الذي يقرئ فيه، وقد زاره فيه الأمير هرثمة بن أعين في موكبه(2).
وفي أخبار التابعي الجليل حنش بن عبد الله الصنعاني أنه اختط بالقيروان مسجدا ينسب إليه(3).
وفي أخبار أبي عبد الله بن رباح اللخمي أحد أعضاء البعثة العمرية أنه سكن القيروان، واختط بها مسجدا عند باب نافع(4).
وفي ترجمة عبد الله بن يزيد الحبلي (ت 100) أنه بث بافريقية علما كثيرا، واختط بالقيروان درا ومسجدا بناحية باب تونس(5).
وقد قيل عن عنبسة بن خارجة الغافقي (ت 210) انه أقام بالقيروان مسجدا عظيما فيه نحو عشرين سارية عظاما(6).
ومثل ذلك عن إسماعيل بن عبيد الملقب بـ"تاجر الله" أنه أسس مسجد الزيتونة بالقيروان عام 71هـ(7).
__________
(1) - رياض النفوس للمالكي 1/67.
(2) - ترتيب المدارك 3/95.
(3) - معالم الإيمان للدباغ 1/187 – ورياض النفوس 1/121 ترجمة 41.
(4) - رياض النفوس 1/119-120.
(5) - معالم الإيمان 1/14.
(6) - ترتيب المدارك 3/319.
(7) - معالم الإيمان 1/126، وينظر في باقي مساجد التابعين بالقيروان رياض النفوس 1/129-130.
(1/49)
وهكذا اطرد بناء المساجد العامة والخاصة في القيروان وغيرها حيث نلاحظ أسماء كثير منها يقترن بأسماء الولاة ككثير من المساجد التي كانت تحمل اسم عقبة، والتي يعلل ابن عذاري لذلك أنها "ربما سميت باسمه تبركا، وان أسسها غيره من بعده فبنوها في موضع نزوله"(1).
ولقد قيل عنه انه "لما توغل في الفتح وراء جبال درن في أرياض الصحراء، بنى مسجدا للصلاة في "ايجلي" بالسوس كما بنى آخر بدرعة"(2). ولعله غير المسجد الذي ينسب إليه تأسيسه حين نزل "ماسة" من السوس الأقصى"(3).
ويذكر ابن عذاري في حوادث سنة 85 أنه "في هذا التاريخ تم إسلام أهل المغرب الأقصى وحولوا المساجد التي كان بناها المشركون إلى القبلة، وجعلوا المنابر في مساجد الجماعات وفيها صنع مسجد أغمات هيلانية"(4).
وكذلك كان بناء المساجد أو توسيعها أو إعادة ترميمها أو نحو ذلك مما يتصل بهذا الشأن، مما يتنافس فيه العامة والخاصة ويرونه من أعظم القربات إلى الله عز وجل، فهذا والي القيروان زيادة الله بن الأغلب(5)يقول عن توسيعه لجامعها: "ما أبالي ما قدمت عليه يوم القيامة وفي صحيفتي أربع حسنات"، وذكر منها بناء المسجد الجامع بالقيروان(6).
ويذكر ابن عذاري في حوادث سنة 215 عن إبراهيم بن الأغلب صاحب افريقية أنه "أخرج مالا كثيرا لحفر المواجل وبنيان المساجد والقناطر لكلمة كانت منه على سكر"(7).
__________
(1) - البيان المغرب 1/27.
(2) - المصدر نفسه 1/27.
(3) - رياض النفوس 1/40 والبيان المغرب 1/27.
(4) - البيان المغرب 1/43.
(5) - كانت ولايته ابتداء من سنة 201 البيان المغرب 1/96.
(6) - المصدر نفسه 1/106.
(7) - المصدر نفسه 1/113.
(1/50)
والمساجد التي تقترن بأسماء الولاة في افريقية والمغرب كثيرة، كالمسجد الجامع بتونس الذي بناه والي افريقية عبد الله بن الحبحاب، وكانت ولايته سنة 116(1)، وبالمغرب الأقصى ما يزال مسجد موسى بن نصير قائما بين شفشاون وتطوان، وكذلك مسجد "الشرافات" المنسوب لطارق بن زياد"(2).
ولقد عني الأمراء بإقامة صروح المساجد في جميع المدن الناشئة في الشمال المغربي خاصة كفاس التي يذكر أن المولى إدريس الأزهر حين شرع في بنائها "شرع في بناء المسجد والسور"(3).
وعندما تم لأبيه إدريس الأمر وتمهد له المغرب اتجه إلى تلمسان ففتحها " واختط مسجدها وصنع فيه منبرا وكتب عليه اسمه، وقد دخله أبو مروان عبد الملك الوراق في سنة 255هـ فرأى منبره وما كتب عليه(4).
وفي النصف الأول من المائة الثالثة لما أحست مل من فاطمة الفهرية القيروانية وأختها مريم بفاس بالحاجة الماسة إلى مساجد فسيحة تتسع لأكبر عدد من المصلين، قامت الأولى ببناء جامع القرويين في عدوة القرويين، وقامت الأخرى ببناء جامع الأندلس في عدوة الأندلس(5).
وحين قامت زناتة بالدعوة للأمويين عقب اختلال أمر الأدارسة بفاس قام عامل عبد الرحمن الناصر (300-350) عليها أحمد بن أبي بكر الزناتي بتوسيع مسجد القرويين منفقا عليه أخماس غنائم الروم(6).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/51.
(2) - المناهل مجلة تصدرها وزارة الثقافة المغربية العدد 28 السنة العاشرة 1404-1983 بحث "شفشاون وآثارها المعمارية عبير التاريخ لعبد العزيز بنعبد الله ص 22.
(3) - كان ذلك قبل بناء فاس الحالية كما في الأنيس المطرب بروض القرطاس لابن أبي زرع ص 30.
(4) - الأنيس المطرب ص 50.
(5) - المصدر نفسه 54-55.
(6) - المناهل عدد 28 شفشاون وآثارها للأستاذ عبد العزيز بنعبد الله 27.
(1/51)
ولما دخل يوسف بن تاشفين فاس سنة 462 حمل أهلها على الاستكثار من المساجد ورتب بناءها(1)وقد انتهى عدد مساجدها في أيام المنصور الموحدي (580-595) وابنه الناصر (595-610) إلى سبعمائة وثمانين مسجدا"(2).
ويذكر صاحب اختصار الأخبار عما كان بسبتة من سني الآثار أنه كان بها ألف مسجد"(3).
أما في الأندلس فلو ذهبنا نتقصى حركة بناء المساجد العامة والخاصة لطال بنا القول واتسع المجال، ولكن حسبنا أن نسوق للدلالة على كثرتها وانتشارها ما ذكره العلامة أبو العباس المقري عن قرطبة وأرباضها في قوله: "ومبلغ عدد المساجد بها في أيام عبد الرحمن الناصر (300-350) ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجدا"(4).
ويقول عن أرباضها التابعة لها وعددها "واحد وعشرون ربضا، في كل ربض من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله، ولا يحتاجون لغيره، وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه ومقلص(5). تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له"(6).
تلك بعض الصور والنماذج عن عناية الناس بإقامة المساجد لهذا العصر في المغرب والأندلس، ونحن وإن ركزنا على الحواضر الكبرى، فإنما أردنا بذلك ضرب الأمثلة، إذ مهما يقل عن جدارتها بمثل ذلك بحكم تزايد عمرانها وكثرة سكانها، فإنها لم تكن إلا صورة مكبرة للمدن الصغيرة التابعة لها.
__________
(1) - تاريخ ابن خلدون 6/185.
(2) - الأنيس المطرب 47.
(3) - محمد العربي الخطابي في موضوع "سبتة ورجالها" العدد 22 ص 17- 1402هـ-1982.
(4) - أزهار الرياض للمقري 2/272.
(5) - أصلها "مقلس" أي لابس القلنسوة وهي الزي الرسمي للمفتين القضاة.
(6) - نفح الطيب للمقري 1/7.
(1/52)
ولا يخفى ما كان يستتبعه وجود مثل هذا العدد الوفير من المساجد من تأثير عام في مجال القراءة والتعليم، بحكم حاجة هذه المساجد إلى من يقوم بوظائفها الشرعية من الأئمة في الصلوات والخطباء والمعلمين وغيرهم، هذا مع ما كان لها أيضا من أثر في السير بالقراءة العامة نحو "التوحيد" بعد الاستقرار على رواية ورش. حيث "كان الأئمة في قرطبة ـ كما يقول ابن رشد (ت 520هـ) لا يقرأون إلا بها"(1).
وهكذا كان الترابط تاما بين انتشار المساجد وانتشار القرآن، وكان لهذا الانتشار أثره البليغ في توجيه القراء على نمط واحد في القراءة والأداء، وعلى الأخص به، بعد أن ظهرت قراءة "الحزب الراتب" في جماعة ـ كما سيأتي ـ في افريقية والمغرب.
4- في إحداث مكاتب وملحقات لتعليم القرآن بأجنحة المساجد وغيرها
وقد اقتضت التطورات التي عرفها تعليم القرآن لهذا العهد اتخاذ مكاتب أو كتاتيب وملحقات خاصة لهذا الغرض في أجنحة المساجد أو في بعض أروقتها، وتعميم ذلك في عامة المداشر والقرى.
وكان من دواعي الاستكثار من هذه المكاتب و"المحاضر" ازدياد الرغبة في تعميم هذا التعليم والوصول به إلى جميع الجهات والأطراف، كما كان من دواعي فصلها عن المساجد أحيانا، الاحتياط لها، لما يمكن أن يحدثه وجود المتعلمين في المسجد في أثناء الصلوات من تشويش على المصلين، أو يؤدي إليه هذا الوجود من إتلاف للمرافق العامة للمسجد كالفرش وآنية الوضوء والمياه ووسائل الإنارة والمصاحف المحفوظة بالخزائن.
__________
(1) - سيأتي الحديث عن ترسيم هذه الرواية ودواعيه.
(1/53)
ويظهر أن فصل هذه الملحقات عن المساجد العامة قد اقتضى في بعض الأحيان تدخل السلطة القضائية، ومن بقايا ما وصل إلينا من أخبار هذا التدخل رسالة للإمام سحنون بن سعيد (ت 240) وهو يومئذ قاضي القيروان(1)إلى نظيره محمد بن زياد بن عبد الرحمن اللخمي قاضي الجماعة بقرطبة(2)يشير عليه ألا يعلم معلم في المسجد، قال ابن لبابة: " لما يخاف من قلة تحفظ الصبيان"(3).
ولا يتوقع أن يهتم سحنون بهذه القضية حتى يكاتب في شأنها نظيره بقرطبة، إلا وقد قام بذلك في إيالته القضائية(4).
ومما يدل على وفرة هذه المكاتب وتزايد الاهتمام بها في افريقية والمغرب في صدر المائة الثالثة، ظهور مؤلفات علمية لهذا العهد تنظم شؤونها وتفصل في القضايا الفقهية التي تثيرها، وتبتدئ هذه السلسلة من المؤلفات برسالة "آداب المعلمين" التي أملاها سحنون على ولده محمد في توجيه المعلمين وتزويدهم بالتعليمات القضائية والآداب التي يحتاجون إلى الالتزام بها في وظيفتهم(5).
__________
(1) - ولي القضاء لمحمد بن الأغلب سنة 233 - البيان المغرب 1/109.
(2) - ولي القضاء لعبد الرحمن بن الحكم الأموي – قضاة قرطبة للخشني 128-134.
(3) - الوثيقة السادسة من الوثائق التسع للحسبة على المساجد في الأندلس. تحقيق الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف ص 32 نشر كلية الآداب بجامعة الكويت حوليات كلية الآداب الحولية الخامسة 1404-1984.
(4) - تدل بعض الأخبار عن أن بعض المعلمين في المساجد كانوا يستعملونها لمهن أخرى كالخياطة فاقتضى الأمر فصلهم عن هذه المساجد. يراجع في ذلك كتاب رياض النفوس 1/336.
(5) - يمكن الرجوع إلى الصفحات التالية من "آداب المعلمين" 94-98-102-104-105-118 إلخ.
(1/54)
وتوالت الرسائل من لدن أئمة العلم بالقيروان في هذا الموضوع، فكتب فيه أبو محمد بن أبي زيد عدة رسائل منها "رسالة فيمن تؤخذ عنه تلاوة القرآن، ورسالة إلى أهل سجلماسة في تلاوة القرآن" و"أجوبة القرويين"(1).
وكتب فيه أبو الحسن علي بن خلف القابسي (ت 403) "كتاب المعلمين والمتعلمين"(2)وكتب فيه من الأندلسيين من أهل قرطبة أحمد بن عفيف (ت 410) "كتاب المعلمين"(3).
وكتب فيه القاضي أبو بكر بن العربي المعافري قاضي اشبيلية (ت 543) "كتاب آداب المعلمين"(4).
وأما نشأة هذه الكتاتيب فتكاد تكون مصاحبة لفتح هذه المناطق، وربما كان التبكير بإنشائها داخلا في السياسة العامة التي انتهجها الفاتحون لترسيخ شعائر الإسلام ومؤسساته فيها، وربما تم أكثر ذلك في البداية على أيدي بعثات الإقراء من التابعين، ثم اتسع الأخذ بها بعد أن أصبحت وظيفة اجتماعية يرتفق المعلمون بريعها في المعاش.
وقد حفلت المصادر التي تتحدث عن القيروان في زمن التابعين بأخبار هذه الحركة، فينقل المالكي في الرياض عن أبي الحسن الدارقطني بسند يتصل بغياث بن شبيب قال: "كان سفيان بن وهب ـ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان، فيسلم علينا ونحن في الكتاب، وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه"(5).
__________
(1) - ينقل عنها العلامة الشوشاوي في كتابه "الفوائد الجميلة" الباب السادس 277-288-291. وانظر الرسالتين الأولى والثانية في مؤلفات ابن أبي زيد في ترجمته في الديباج لابن فرحون 136-137.
(2) - ذكرها له في الديباج 200-201.
(3) - ترتيب المدارك 8/8-9.
(4) - نقل عنه حسين بن طلحة الشوشاوي في الباب السادس من الفوائد الجميلة ص 305.
(5) - المالكي في رياض النفوس 1/91- والحضيكي في مناقب الحضيكي 2/403.
(1/55)
ونقرأ في أخبار البعثة العمرية الآنفة الذكر ـ أن كلا منهم قد اختط بالقيروان دارا لسكناه ومسجدا لعبادته وكتابا لتحفيظ القرآن(1).
ومن أصحاب الكتاتيب بالقيروان من التابعين شقران بن علي الهمداني "وكان يقرئ في كتاب منسوب إليه بالقيروان، وكان يقرئ فيه بالمجان(2).
وفي أخبار الفقيه أسد بن الفرات قاضي القيروان المولود بها سنة 142هـ أنه "كان يشتغل في صباه بتعليم القرآن بقرية على وادي مجردة(3).
وكان أحمد بن يزيد القرشي المعروف بالمعلم وبراوية الصمادحي يعلم القرآن في أول أمره(4).
ويذكر عن عمر بن يمكتين ـ وهو من شيوخ الخوارج الاباضية ـ أنه "هو أول من علم القرآن بجبل نفوسة"(5).
ويظهر أن هذا النوع من التعليم سرعان ما لقي الإقبال، فانتقل من المجانية إلى "المشارطة" عليه، وساعد على الأخذ بها ما أفتى به مالك وأصحابه من جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونقل القابسي عن مالك قوله: "كل من أدركت من أهل العلم لا يرون بأجر معلمي القرآن بأسا"(6).
__________
(1) - القراءات لهند شلبي: 131 وما بعدها.
(2) - مقدمة تحقيق كتاب آداب المعلمين لمحمد بن سحنون بقلم حسن حسني عبد الوهاب ص 59- طبعة تونس 1392-1972.
(3) - رياض النفوس 1/255 ووادي مجرة أو "بجردة" من أشهر الأنهار التونسية.
(4) - المصدر نفسه 1/473 ترجمة 154.
(5) - السير للشماخي 142 طبعة القاهرة 1301هـ.
(6) - إيضاح الأسرار والبدائع شرح الدرر اللوامع لابن المجراد، ذكره عند قول ابن بري "وخير من علمه وعلمه".
(1/56)
وقد عالج سحنون في رسالة "آداب المعلمين" هذا الموضوع بإفاضة، وتحدث عما جاء في ختم القرآن، وما يجب في ذلك للمعلم، وما يجب في إجارته، ومتى تجب(1)، وتبعه على ذلك المؤلفون في هذه الشؤون كابن أبي زيد والقابسي وأبي عمران الفاسي وسواهم(2).
ولقد تجلى أثر هذه الكتاتيب بسرعة في تخريج الدفعات الأولى من قراء المنطقة ليتولى طائفة منهم القيام بمثل ذلك وما يتبعه من وظائف في الإمامة وغيرها. وقد ساعد نبوغ بعض الأحداث والأساليب المتبعة في التحفيظ على تحقيق مستويات مشرفة في هذا الشأن، فمن ذلك ما نستفيده من قصة ذكرها المالكي في ترجمة المقرئ القيرواني عبد الجبار بن خالد السرتي ـ وهو ممن أنجبتهم المنطقة من الحفاظ ـ جاء فيها أن الأمير إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب صنع مأدبة لاعذار ولده، فمضى أهل العلم من شيوخ القرآن لتهنئته، وكان فيهم عبد الجبار بن خالد، فلما أتى الأمير أكبره وعظمه وسر برؤيته، وأخرج إليه أولاده، فدعا لهم وبارك عليهم، ثم قال: "أيها الأمير، هل علمت مقدار هذه النعمة عليك، أعطاك الله مثل هؤلاء البنين، وعلمتهم كتاب الله، وأحييت فيهم سنة رسول الله ـ يعني الختان ـ"(3).
__________
(1) - آداب المعلمين الصفحات 94-96-119-126.
(2) - من المؤلفات في ذلك كتاب "جامع جوامع الاختصار والتبيان، فيما يعرض بين المعلمين آباء الصبيان" لأبي العباس محمد بن أبي جمعة المغراوي المعروف بشقرون " من أصحاب ابن غازي، ينقل عنه ابن القاضي المقرئ في جواب له في عدم جواز إقراء من لم يحكم مخارج الحروف، وسيأتي في ترجمته. ومنها أرجوزة القاضي محمد بن عزوز كرضيلو المسماة بنكتة المعلمين، وأولها: "الحمد لله الذي أورثنا كتابه العزيز وانتخبنا" – مخطوطة ــ.
(3) - رياض النفوس 1/466. وانظر مبلغ حفظه للقرآن ومضيه فيه كالجواد في صلاة التراويح في 1/464 منه.
(1/57)
فقول عبد الجبار للأمير "علمتهم كتاب الله" يدل على ما قدمنا من مظاهر النبوغ في الحفظ التي أخذت تلفت الأنظار من لدن القراء المختصين من أمثال عبد الجبار السرتي، وهو من أفضل أصحاب سحنون.
ولعل الإدراك الواعي من لدن أئمة الفقه بالقيروان لأهمية تعليم القرآن في مثل هذه "المحاضر" والمشارطة عليه بين الآباء والمعلمين، هو الذي دعاهم إلى القول بإجبارية التعليم ووجوب تنصيب من يقوم به من أهل الكفاية، وقد ساق العلامة الحسين بن علي بن طلحة الشوشاوي (ت 899) في كتابه (الفوائد الجميلة على الآيات الجلية) طائفة من الأقوال عن الأئمة المتقدمين في ذلك صدر لها بقوله: "وأما من الذي يعقد "الحضار"(1)من أهل الموضع ؟ فقال أبو عمران الفاسي في "التعاليق"(2): "الذي يعقد الحضار هو السلطان أو القاضي وجماعة من الناس، فإذا عقدوه فـ"الشرط" لازم لجميع أهل الموضع، وينكل من امتنع من تسليم ولده للمكتب، ويجبر على ما ينو به من أجر المعلم، ومن أبى طرد ونفي إن قدر عليه، لهدمه ركنا من أركان الدين، ولا تجوز شهادته، ويؤدب أدبا وجيعا"(3).
وهذا التقويم للتعليم القرآني باعتباره ركنا من أركان الدين هو ما رمينا إلى الوقوف عنده من خلال العوامل التي جعلناها من مقومات المدرسة القرآنية في المغرب وأهم خصائصها، وهو أثر كان له بعده العلمي وأثره الفعال في النبوغ الذي امتاز به المغاربة في مجال حفظ القرآن الكريم والقيام على قراءاته ورواياته.
__________
(1) - الحضار اسم المكتب الذي يجتمع فيه الصبيان للتعلم، وما يزال معروفا في الحواضر بهذا الاسم إلى اليوم، ويسمى في بعض الجهات الجنوبية من المغرب وفي موريتانيا بالمحضرة، وربما كتب بالظاء.
(2) - لم أقف على ذكر له في مؤلفاته، ولم يتعرض لذكره في كشف الظنون في مادة "تعليق".
(3) - الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة 291-292.
(1/58)
وقد عرفت الأندلس نوعا من التعليم الراقي يدخل في هذا التعليم الرسمي وكان ينعت "بالتأديب"، وكان ظهوره في البداية مرتبطا بالقصور، ثم تطور وغدا تعليما قريبا من العموم، وخصوصا في قرطبة حيث كانت له أوقاف خاصة، وكان أكثره تحت إشراف السلطة، ولعل الأخذ بنظام التأديب قد كان في بدايته احتذاء للنموذج المشرقي في قصور الأمراء والولاة، وهو أمر يلفت النظر في تراجم القراء خاصة أصحاب الرحلات العلمية منهم، إذ يلاحظ أن الواحد منهم لا يكاد يعود من رحلته حتى يجد الحظوة والاهتمام من الأمراء وسرعان ما يجري انتدابه للتأديب في القصر، كما نقرأ مثلا في ترجمة الغازي بن قيس القرطبي صاحب نافع، وفي ترجمة محمد بن عبد الله القرطبي صاحب ورش(1)وتطورت هذه الوظيفة حتى أمسى المؤدب الرسمي يعين بمرسوم خلافي، ومن أمثلة هذا النوع ما نجده في أيام الحكم المستنصر (ت 366)، وذلك في استقباله للفقيه المقرئ أحمد بن يوسف القسطلي (ت 361) غداة عودته من رحلته المشرقية، وانتدابه لتأديب ولي عهده أبي الوليد هشام المعروف فيما بعد بالمؤيد، يقول المؤرخ ابن حيان: "عهد بعقد استئماره وبإجراء الرزق عليه: الراتب والحملان والعلوفة، وعهد بإقامة علوفة للأمير أبي الوليد محدودة العدد، موصوفة الأطعمة، تقدم إليه والي من معه من صبيانه كل يوم بموضع حضاره ذلك"(2).
__________
(1) - سيأتي ذكره هو والغازي بن قيس في رواد قراءة نافع بالأندلس.
(2) - المقتبس في أخبار بلاد الأندلس لابن حيان 76-77 القسم المنشور بتحقيق عبد الرحمن بن على الحجي نشر دار الثقافة ببيروت 1965م. ومثله في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 1/62.
(1/59)
والواضح أن هذا اللون من التأديب لم يكن يستفيد منه أبناء الأمراء وحدهم، وإنما كان يشمل من معهم من أبناء الحاشية، بدليل قوله "وإلى من معه من صبيانه"، وربما كان ينتفع به معهم غيرهم من الجيران عموما، بل اننا نقرأ في عهد الحكم المذكور أخبارا طريفة عن هذا الشأن تصور مبلغ العناية بتعليم القرآن في هذه المحاضر بوجه عام، فقد عد ابن عذاري "من مناقب الحكم المستنصر اتخاذه المعلمين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حول المسجد الجامع وبكل ربض من أرباض قرطبة، وأجرى عليهم المرتبات، وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم... وعدد هذه المكاتب سبعة وعشرون مكتبا، منها حوالي المسجد الجامع ثلاثة، وباقيها في كل ربض من أرباض المدينة، وفي ذلك يقول ابن شخيص:
وساحة المسجد الأعلى مكللة ... مكاتبا لليتامى في نواحيها
لو مكنت سور القرآن من كلم ... نادتك يا خير تاليها وراعيها(1)
وزيادة في إكرام المؤدبين " "حبس الحكم حوانيت السراجين بقرطبة على المعلمين لأولاد الضعفاء"(2).
ذلك جانب من هذه الرعاية الرسمية لهذا اللون من التعليم الديني في الأندلس يلتقي مع ما قدمنا عن مثله في افريقية والمغرب، على ما ساقه ابن خلدون من خصائص سكانهما ويتجلى من خلالها تعلقهم المتين بالقرآن الكريم، وإلى هذه الخاصية يشير في تاريخه إذ يقول:
__________
(1) - البيان المغرب 2/240/241.
(2) - المصدر نفسه 2/249.
(1/60)
"وأما إقامتهم لمراسيم الشريعة وأخذهم بأحكام الملة ونصرهم لدين الله، فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين لكتاب الله لصبيانهم، والاستفتاء في فروض أعيانهم، واقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم، وتدارس القرآن بين أحيائهم، وتحكيم حملة الفقه في نوازلهم وقضاياهم، وصاغيتهم إلى أهل الخير والدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم ... ما يدل على رسوخ إيمانهم وصحة معتقداتهم، ومتين ديانتهم التي كانت ملاكا لعزهم، ومقادا إلى سلطانهم وملكهم"(1).
مذهب المغاربة في تعليم الناشئة:
ولقد أبدى ابن خلدون وأعاد في ذكر هذه المزية التي لأهل المغرب، وأشار بصفة خاصة إلى اعتمادهم للقرآن الكريم وسيلة تعليمية يزاوجون فيها بين حفظ القرآن وبين تلقي مبادئ القراءة والكتابة من خلاله، بالإضافة إلى المعارف الأولية التي تحصل لهم من خلال ذلك، وفي ذلك يقول: "اعلم أن تعليم الولدان القرآن شعار الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض فنون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات"(2).
وتوسع في هذا المعنى شرحا وبيانا وهو بصدد عرض الأنماط التعليمية المستعملة في الأندلس والمغرب وموقع القرآن فيها فقال:
__________
(1) - تاريخ ابن خلدون 6/105.
(2) - مقدمة ابن خلدون 538.
(1/61)
"فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوز حد البلوغ إلى الشبيبة، وكذا مذهبهم في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم"(1).
وقد عرض ابن خلدون نمطا آخر في التعليم شاع الأخذ به واستعماله في الأندلس، ونمطا آخر جرى الأخذ به واستعماله مؤخرا بتونس، تتم فيه المزاوجة بين تعليم القرآن وتلقين علوم اللغة والأدب، إلا أن في كلامه ما يدل على أنه إنما يعني طورا متأخرا في الزمن إلى عصره أو قريب منه، ودليل ذلك ما ساقه بعده نقلا عن القاضي أبي بكر بن العربي الاشبيلي (ت 543)، إذ ذكر أنه "ذهب في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، ودعا إلى التعليم على الطريقة الأندلسية بتقديم العربية وآدابها"(2).
ومع ما ذكره ابن خلدون عن كون ابن العربي دعا إلى التعليم على الطريقة الأندلسية، فإنه ذكر من كلام ابن العربي نفسه ما يدل على أن الطريقة المذكورة أشبه بأن تكون الطريقة المقترحة فقط، أو على الأقل النمط الخاص الذي كان يأخذ به بعض الكبراء في زمنه، استمرارا لما عليه الأمر في المشرق، وإلا فان ابن العربي نفسه في المائة السادسة ينعي على أهل بلده أو على المغاربة عموما، ما درجوا عليه من التبكير بالقرآن في أول طور من التعليم فيقول:
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون ص 538.
(2) - المصدر نفسه 539.
(1/62)
"ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره، يقرأ ما لا يفهم، وينصب في أمر غيره أهم"(1).
ولهذا نلاحظ أن ابن خلدون وإن كان قد أثنى على الطريقة المقترحة كما يصفها الفقيه صاحب الرحلة المشرقية الطويلة الأمد، فإنه لا يلبث أن يدرك بجلاء أن دعوته تلك صيحة في واد فيقول معقبا على ذلك المقترح:
"وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه، وهي أملك بالأحوال(2).
ثم لا يلبث أن ينقض ما بناه من إعجاب فيقول: "ان تلقين القرآن في هذه السن المواتية أولى من أن تذهب خلوا منه بحصول القواطع والآفات"(3).
ومهما يكن فان عناية المغاربة بتحفيظ القرآن للناشئة في هذه السن المواتية، كان لها أثرها البعيد في شيوع حفظه ورسوخ علومه في هذه المناطق كما قدمنا "فهم أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم"(4)، وهذا ابن العربي نفسه الذي ينعي على أهل بلده أخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره، يقول متحدثا عما شاهده في أنحاء المشرق أثناء رحلته:
"ومنهم ـ وهم الأكثر ـ من يؤخر حفظ القرآن ويتعلم الفقه والحديث وما شاء الله، فربما كان إماما وهو لا يحفظه، وما رأيت بعيني إماما يحفظ القرآن ولا رأيت فقيها يحفظه إلا اثنين، ذلك لتعلموا أن المقصود حدوده لا حروفه، وعلقت القلوب اليوم بالحروف، وضيعوا الحدود خلافا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم"(5).
__________
(1) - نفس المصدر والصفحة.
(2) - المقدمة ص 540.
(3) - نفس المصدر والصفحة (بتصرف).
(4) - مقدمة ابن خلدون 538.
(5) - أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي المجلد الرابع ص 1984-1985.
(1/63)
وقول ابن العربي "وعلقت القلوب اليوم بالحروف" إشارة قيمة إلى ما ذكرنا لهم من نبوغ في حفظ القرآن والقيام عليه قراءة ورسما، والحرص البليغ على جمع رواياته والرحلة في طلبها إلى أقصى المعمور، حتى انه لا يعرف أهل منطقة في ديار الإسلام كان لهم مثل هذا الشغف بالضرب في أقطار الأرض لهذا الغرض، وهذا الإمام أبو القاسم يوسف بن علي ابن جبارة الهذلي البسكرى (ت 465) يقول عنه الحافظ ابن الجزري: "وطاف البلاد في طلب القراءات، فلا أعلم أحدا في هذه الأمة رحل في القراءات رحلته، ولا لقي من لقي من الشيوخ"(1).
لقد كان علم القرآن وقراءته إذن أهم خصوصية للمغاربة، وقد قدمنا قول بعض الباحثين من أهل المشرق: "انه الميدان الوحيد الذي سيطر عليه المغاربة سيطرة تامة"(2).
وسوف نرى من خلال هذا البحث أن هذه الخاصية ليست دعوى مرسلة ليس لها ما يثبتها من الواقع التاريخي، فما تزال تنطق بها أخبار رحلاتهم وسجلاتهم المدونة ومؤلفاتهم الجامعة، ولولا ذلك ما تعرفوا على قراءات الأئمة من قراء الأمصار، ولا استطاعوا أن يهتدوا إلى قراءة كقراءة نافع يرحل الرواد منهم إليها في مصرها وبدونها عن صاحبها، ويضبطون أهم رواياتها من بعده على أكابر أصحابه، ثم يعتمدون منها روايتهم المفضلة، ويتخذونها قراءة جامعة يتلقون على أساسها كتاب الله.
ولقد ظل الأسلوب المتبع في التعليم يسير على هذا السلم الذي رسمه أبو العباس أحمد بن خليل السكوني الاشبيلي (ت 581)(3). في وصيته الشعرية إذ يقول:
"ان العلوم لجمة وأجلها ... علم القرآن وسنة المختار
__________
(1) - غاية النهاية 397 - 398 ترجمة 3929. وسيأتي التعريف بالهذلي بين أئمة القيروان بعون الله.
(2) - كتب برامج العلماء في الأندلس للدكتور عبد العزيز الأهواني مجلة معهد المخطوطات مجلد 1/118.
(3) - سيأتي في أصحاب الامام شريح الرعيني الاسبيلي وفي امتداد مدرسته في مراكش في عهد الوحدة.
(1/64)
فاحفظ كتاب الله واحو علومه ... فإذا انتهيت فصل إلى الآثار
واعرف صحيح رواية وسقيمها وتحر هدي السادة الأبرار
وعلى الإمام الأصبحي فعولن(1)فهو العليم بموقع الأخبار"(2)
5- في العناية بالمصاحف الشريفة استنساخا وتجويدا ونشرا
أما العامل الخامس من مقومات المدرسة القرآنية في المغرب والذي كان له أثره أيضا في تعليم كتاب الله وتعميمه، فهو المصاحف المكتوبة، سواء منها مصاحف السلف التي وصلت إلى هذه الجهات وكانت القراءة عليها وبمضمن حروفها، أو تلك التي استنسخت فيما بعد وجرى اعتماد الناس عليها في تقويم الرسم ومعرفة مواقع رؤوس الآي، ونحو ذلك مما يستعان عليه بالمصاحف المعتمدة، ومعلوم أن القرآن الكريم كما دخل إلى هذه المناطق محفوظا في الصدور، دخل إليها في الوقت نفسه مكتوبا في السطور، ولا شك أن المصاحف الأولى التي دخل بها الصحابة والتابعون قد كان لها أثرها في دعم حركة التعليم والإقراء وتزويد المكاتب بوسيلة أساسية يستأنس بها المتعلمون، ويرجع إليها المعلمون في تصحيح التلاوة وتحقيق الحروف ونحو ذلك عند الاقتضاء.
ويمكننا تقدير عدد المصاحف التي وردت على افريقية والمغرب غداة الفتح بالنظر إلى ما نعرفه من سيرة السلف في الصدر الأول، حين كان الواحد منهم لا يكاد يفارق مصحفه حتى وهو في أحرج المواقف وحتى كان ربما يستشهد ومصحفه في حجره أو في عنقه(3).
__________
(1) - هو الإمام مالك بن أنس امام المذهب، وسيأتي في الرواة عن نافع المدني.
(2) - للقطعة بقية يمكن الرجوع إليها بتمامها في الذيل والتكملة لابن عبد الملك 1/114 ترجمة 148.
(3) - من أبرز الأمثلة على وجود المصاحف بكثرة في معسكرات الجند وحملهم لها في المعارك، حادثة رفع المصاحف على رؤوس الرماح يوم صفين، وقد قدر عددها بخمسمائة مصحف.
(1/65)
وقد كان قادة الفتح يختارون للقيادة والإمارة غالبا من بين القراء، أو يبعث معهم من القراء من يسد الحاجة في مجال التعليم والإمامة والتوجيه العام، وقد عرف لطائفة من أولئك الأمراء والمرشدين المنتدبين مصحفه الخاص الذي كان يقرأ فيه ويقرئ على أساسه بالحرف الذي قرأ به على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو غيره ممن كان يقرئ من قراء الصحابة والتابعين.
ولا شك أن المناطق المغربية على اختلافها قد استفادت من مصاحف الولاة والفاتحين في هذا المضمار، سواء في عهد التبعية لدار الإمارة بمصر، أو بعد استقلالها بقاعدتها وامارتها في القيروان، أو بعد ذلك حين اتسعت الرقعة وامتدت عبر الأقاليم الأندلسية والمغربية.
ويمكن بهذا الاعتبار أن تكون مصاحف الولاة الأولين بمصر قد عرفت الطريق إليها وتداولها الناس بالنسخ والقراءة، ومن أهمها "مصحف عقبة بن عامر" ـ رضي الله عنه ـ الذي ّمات وهو وال بمصر سنة 58هـ"(1)"وكان مقرئا فصيحا مفوها من فقهاء الصحابة"(2)، وكان له مصحف خاص كتبه بخطه(3)، وقد لاحظ ابن يونس صاحب تاريخ مصر وجود اختلاف بينه وبين مصحف عثمان في ترتيب السور، قال: "وهو الآن موجود" ـ يعني في زمنه ـ(4).
__________
(1) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 55 ترجمة 378.
(2) - العبر في أخبار من غبر للحافظ الذهبي 1/662.
(3) - القرآن وعلومه في مصر للدكتور عبد الله خورشيد البري 158 نقلا عن ابن يونس.
(4) - رآه ابن يونس رأي العين عند زميله ابن قديد، وذكر أنه على غير تأليف مصحف عثمان. انظر كتاب الانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دقماق 4/11 طبعة القاهرة 1893. توفي ابن يونس سنة 347.
(1/66)
وكان بمصر "مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص"، وهو من قراء الصحابة وممن "وردت عنهم الرواية في حروف القرآن"(1)، وقد روى أبو بكر بن أبي داود السجستاني في كتاب المصاحف بسنده عن أبي بكر بن عياش(2)قال: "قدم علينا شعيب بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فكان الذي بيني وبينه، فقال يا أبا بكر، ألا أخرج لك مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص؟ فأخرج حروفا تخالف حروفنا.."(3).
وكان بمصر أيضا "مصحف عبد العزيز بن مروان"، وكان واليا عليها لأخيه عبد الملك، وقد كتب هذا المصحف أنفة وحمية حين أرسل الحجاج بن يوسف عامل الأمويين إلى مسجد الفسطاط الجامع بنسخة من المصحف العثماني الامام، فغضب وامتعض لذلك وقال: "أيبعث إلى جند أنا فيه بمصحف"(4).
فمن المحتمل أن هذه المصاحف وأمثالها مما كان متداولا في مصر أو غيرها كالحجاز والشام قد دخلت في زمن الفتح وبعده على أيدي الفاتحين من الصحابة والتابعين، هذا بالإضافة إلى ما قد يكون لهؤلاء من مصاحف أخرى أو نسخ عن المصاحف التي كانت مشهورة كمصحف ابن عباس ومصحف ابن عمر ومصحف ابن الزبير ومصحف عائشة وغيرها مما كان معروفا(5).
__________
(1) - غاية النهاية 1/439 ترجمة 1835.
(2) - هو المعروف بشعبة عند القراء أحد راويي قراءة عاصم (95-193) معرفة القراء الكبار للذهبي 1/110-115 الطبقة الرابعة. وغاية النهاية لابن الجزري 1/325-327 ترجمة 1421 ووفيات الأعيان 2/353.
(3) - المصاحف 93.
(4) - فتوح مصر لابن عبد الحكم 117-118 طبعة ليدن 1920.-ــ والانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دقماق 72.
(5) - يمكن الرجوع في معرفة بعض الفروق بين المصاحف المذكورة إلى كتاب المصاحف لابن أبي داود 92-98.
(1/67)
وقد وصلت إلينا إشارات في هذا الصدد عن وجود مثل هذه المصاحف أو نسخ عنها أثناء الفتح، وقد قدمنا أسماء كل من ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وسواهم ممن شاركوا في الفتح، ولذلك كان وجود الرواية عنهم في هذا المجال أمرا طبيعيا(1).
- المصحف العقباني:
على أن هنالك ذكرا أيضا لمصحف الفاتح الأول للمغرب عقبة بن نافع، وقد عرف مصحفه بالمصحف "العقباني" في مقابل المصحف "العثماني"، "وكان الملوك يتوارثونه بعد المصحف "العثماني" "(2).
ومن الراجح أن مصحفه قد انتسخه بالقيروان من المصحف الامام "العثماني"، وظل تتداوله الأيدي وتترامى به الأحداث إلى أن وقع إلى الأشراف الزيدانيين، ثم إلى المولى عبد الله بن المولى إسماعيل العلوي، فغربه إلى المشرق مرة أخرى "ورجع الدر إلى صدفه، والإبريز إلى معدنه".
ومن الراجح أيضا حصول افريقية على نسخة أو أكثر من المصحف الامام على عهد بني أمية، فقد رأينا كيف أرسل الحجاج بنسخة منه إلى المسجد الجامع بمصر. ولا يقال هنا انه لو كان لاشتهر وبقي متداولا، إذ أن كثيرا من ذخائر التراث المغربي في هذه الجهات قد ضاع، لا سيما في مدينة تعرضت لما تعرضت له كالقيروان من الحرائق المريعة والفتن الهائلة لعهود طوال، ثم كانت نهايتها الخراب العام.
__________
(1) - تشككت الباحثة التونسية هند شلبي في إمكانية دخول هذه المصاحف مع أصحابها زمن الفتح، يمكن الرجوع إلى أول الباب الثاني من كتابها "القراءات بافريقية" ص 47.
(2) - المصحف الشريف للباحث محمد المنوني مجلة دعوة الحق العدد ص 71 السنة 1968.
(1/68)
ويقوي ما ذهبنا إليه ما أفاده العلامة العبدري في رحلته من وقوفه بالقيروان لما زارها سنة 688هـ على ما يشبه أن يكون نسخة من مصحف عثمان، وفي ذلك يقول: "ودخلنا بيت الكتب، فأخرجت لنا مصاحف كثيرة بخط مشرقي ... ورأيت بها مصحفا كاملا مضمونا بين لوحين مجلدين غير منقوط ولا مشكول، وخطه مشرقي بين جدا مليح، وطوله شبران ونصف، في عرض شبر ونصف، وذكروا أنه الذي بعثه عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى المغرب، وأنه بخط عبد الله بن عمر رضي الله عنهما"(1).
وما قيل عن المصحف العثماني بالنسبة للقيروان يقال مثله بالنسبة للأندلس، فقد ذكر المقري ما يفيد وجود نسخة منه بجامع قرطبة في أيام الأمويين، وذلك إذ يقول: "وفي الجامع المذكور في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي خطه بيده، وعليه حلية ذهب"(2).
وما تزال في بعض ذخائر القيروان التي أفلتت من النهب، بقايا من المصاحف التي خطها بعض رجال السلف في الصدر الأول، ومنها "مصحف شريف بقلم مغربي، كتبه خديج بن معونة بن سلمة الأنصاري سنة 47 هـ بمدينة القيروان، كتبه للأمير عقبة بن نافع الفهري"(3).
وإلى جانب هذه المصاحف الرسمية، فإن الأخبار كثيرة عن وجود مصاحف فردية كثيرة كانت بأيدي التابعين، وأنها كانت ترافقهم في الحل والترحال، "فعندما هبت على الأسطول الإسلامي في فتح الأندلس ريح عاصفة وضربت المراكب بعضها ببعض، دعا الجنود الله، وتقلدوا المصاحف"(4).
__________
(1) - رحلة العبدري 65.
(2) - نفح الطيب 2/86 ويمكن الرجوع في تتبع ما آل إليه أمر هذا المصحف إلى الاستقصاء 3/75.
(3) - تاريخ الخط العربي في العصر الأموي للدكتور صلاح الدين المنجد 83 الطبعة 1 بيروت ــ 1972.
(4) - فتوح مصر لابن عبد الحكم 208.
(1/69)
وكان التابعي الجليل حنش بن عبد الله الصنعاني إذا أراد الصلاة من الليل "أوقد المصباح وقرب المصحف" .. وإذا تعايا في آية نظر في المصحف"(1).
وقيل عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري الذي غزا صقلية مع من غزاها سنة 107هـ انه "غرق في البحر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو متقلد المصحف"(2).
ويدل على استعمال المعلمين والمتعلمين لمثل هذه المصاحف وشيوع ذلك بين العامة: ما جاء في رسالة "آداب المعلمين" لابن سحنون من تعليمات في شأن ما ينبغي أن يأخذ به المتعلم" أن لا يمس المصحف إلا على وضوء"(3)وتقريره أن "قراءة الصبي القرآن في المصحف مع معرفة حروفه وإقامة إعرابه توجب "الختمة" للمعلم وان لم يستظهر الصبي القرآن"(4).
والقول في ما يخص البلاد الأندلسية كالقول في افريقية والمغرب، فمن المفروض أنها عرفت العدد الوفير من مثل هذه المصاحف العامة والخاصة على أيدي الولاة والفاتحين ثم على أيدي الأمواج البشرية التي هاجرت إليها من مصر والشام وافريقية ـ كما سيأتي ـ، وخصوصا حين قيام امارة بني أمية بها قبل النصف الأول من المائة الثانية للهجرة.
وتدل بعض الإشارات الباقية على تعرفها بصورة مبكرة على بعض المصاحف المدنية، وربما كانت عمدتها منذ أيام الفتح قبل أن تتغلب عليها العناصر الشامية.
وقد أفادنا نص عند الإمام أبي عمرو الداني في "كتاب المحكم في نقط المصاحف" عن تعرف المنطقة على النظام المدني المتبع في نقط المصاحف وشكلها في وقت مبكر بعد الفتح، وفي ذلك يقول:
__________
(1) - رياض النفوس للمالكي 1/121 ومعالم الإيمان 1/187.
(2) - رياض النفوس 1/106-107 ترجمة 32.
(3) - آداب المعلمين 113.
(4) - آداب المعلمين 108. والختمة أراد بها المكافأة المادية المتعارف عليها، وتسمى أيضا "الحذقة".
(1/70)
"وصل إلي مصحف جامع عتيق كتب في أول خلافة هشام بن عبد الملك(1)سنة عشر ومائة، وفيه الحركات والهمزات والتنوين والتشديد نقط بالحمرة على ما رويناه عن السالفين من نقاط أهل المشرق(2).
وقد جاء في أخبار رحلة الغازي بن قيس ـ كما سيأتي ـ أنه "صحح مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة"(3)، ومعنى ذلك أنه كان له مصحف شخصي خرج به في رحلته من قرطبة إلى المدينة فعرضه عليه، وذلك دليل على وفرة المصاحف عند أمثاله ممن كانوا يشتغلون مثله في التأديب. ويدل على هذه الوفرة عبارات كثيرة في محكم الداني يشير بها إلى مصاحف هذه الحقبة كقوله "وفي مصاحف أهل بلدنا القديمة"(4)، وقوله "ووصل إلي مصحف جامع عتيق"(5)، وقوله "وقد تأملت في مصاحفنا القديمة التي كتبت في زمان الغازي بن قيس"(6)، وقوله "ورأيت في مصحف كتبه ونقطه حكم بن عمران الناقط ناقط أهل الأندلس في سنة سبع وعشرين ومائتين.."(7).
ولا أدل على تلك الوفرة للمصاحف في الأيدي من الرواج الذي كان لمهنة النسخ حتى تعاطاه النساء، وهذا المراكشي صاحب المعجب ينقل عن ابن فياض صاحب تاريخ قرطبة قوله:
"كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي" وعلق المراكشي على ذلك بقوله: "هذا ما في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها"(8).
__________
(1) - ولي هشام بعد أخيه يزيد سنة 105، ومات سنة 125 هـ. ينظر كتاب أسماء الخلفاء والولاة لابن حزم مجموعة رسائل ابن حزم 2/144.
(2) - المحكم 87.
(3) - غاية النهاية 2/2 ترجمة 2534.
(4) - المحكم 174.
(5) - نفسه 174.
(6) - المحكم 8.
(7) - نفسه 87.
(8) - المعجب لعبد الواحد المراكشي 520.
(1/71)
كل ذلك وغيره يدل على مدى شيوع استعمال المصاحف وسعة انتشارها بين العامة والخاصة، باعتبارها إحدى أهم الوسائل التعليمية، ولا يخفى ما كان يترتب على ذلك من دخول القرآن إلى كل بيت، وذلك ما رمينا إلى رصده في مساره من خلال هذا الاستعراض لمقومات المدرسة القرآنية في الأقطار المغربية في الصدر الأول، والوسائل التي اعتمدتها في تعليم القرآن وتعميمه، ولعلنا من خلال ذلك قد انتهينا مع القارئ الكريم إلى تصور شامل عن المسار العريض الذي سارت عبره المسيرة القرآنية في هذه الديار، وما أخذت به من أساليب ومناهج في التلقين والتعليم، متدرجة بذلك كله نحو الوحدة الشاملة التي نعمت بها ردحا طويلا من الزمن، والتي كان من أجلى مظاهرها "وحدة القراءة" و"وحدة المذهب".
وقبل أن نتطرق إلى تتبع المنافذ والمسالك التي عبرت منها هذه القراءة التي توحدت الأقطار المغربية عليها، ـ أعني قراءة نافع ـ أرى من المفيد أن نحاول التعرف باختصار على أهم ما عرفته الأمصار الإسلامية في المائة الأولى والثانية من قراءات، وكيف كانت أصداؤها تتجاوب في المناطق المغربية على تفاوت في المستوى والدرجة إلى أن كانت الغلبة للاتجاه المدني لعوامل وأسباب نقف عليها آخر هذا الباب ــ أدت إلى اجتماع الناس في عامة الأقطار والجهات المغربية على قراءة امام دار الهجرة في القراءة نافع بن أبي نعيم المدني.
الفصل الثاني:
القراء والقراءات المتداولة
في المناطق المغربية قبل دخول قراءة نافع
(1/72)
دخل المناطق المغربية ـ كما قدمنا ـ عشرات من الصحابة، ووصلت طائفة منهم إلى أقصى ما بلغته راية الإسلام في الغرب، وكان معهم من التابعين عامة الجيش الفاتح، ودخل معهم كتاب الله ـ كما رأينا ـ محفوظا في الصدور ومكتوبا في السطور، وكان يقدم راية الجهاد حيثما توجهت ويستأثر بأوقات الفاتحين تعلما وتعليما وتلاوة وتهجدا، فكانوا ـ كما وصفوا بحق ـ رهبانا بالليل ليوثا بالنهار، وكان محور هذا النشاط في المعسكرات مجموعة من قراء الصحابة وفقهائهم يجدون عندهم العتاد الروحي والغذاء المعنوي، فهم الموجهون والمرشدون، والمعلمون والمقرئون، والمفسرون للكتاب والمبلغون للسنة النبوية.
ولقد وقفنا من قبل على أسماء طائفة من خيارهم ممن شاركوا في فتح هذه المناطق وكانوا مادة الإسلام الأولى بها، وتحدثنا عن احتمال دخول مصاحفهم، وما قد تكون استفادته من وجودها بين ظهرانيهم، وما كانت تخلفه معها إقامة الصحابي في بلد من البلدان أو دخوله إليه، من أصداء وآثار بليغة في الحياة العلمية والدينية.
(1/73)
ونؤكد هنا أن استفادة المناطق المغربية من دخول هذه "الأطر" العلمية كانت استفادة كبيرة، ونحن وإن كنا لا نستند في تقدير مدى هذه الاستفادة إلى وثائق مادية أو أخبار مدونة كثيرة، فإننا باستجماع ما هو في المتناول، نحصل على تمثل وتصور تقريبي لذلك يتأتى لنا من خلاله الحكم دون مجازفة، اعتبارا لما كانت عليه هذه المناطق من حاجة ماسة في هذا المجال، ولما كان أولئك العلية من أهل العلم والدين يحظون به من الاحترام والتقدير العام، مما يبعد معه أن يوجدوا في جند من الأجناد دون أن يستقطبوا الهمم، ويلتف عليهم الجم الغفير من أهل الرغبة والحاجة إلى المعرفة الدينية، ولاسيما طلاب كتاب الله الذين يتمثلون في مجالسهم كلمات النبوة ونفحات الإيمان. فنحن إذن حين ندرس تاريخ الفتح، ندرس معه تلقائيا تاريخ اتصال المغاربة بقراءة القرآن، ويبقى لنا فقط أن نتساءل عن نوع القراءة التي كانت من بواكير ما قرأوا به كتاب الله ؟
للجواب عن ذلك نبادر إلى التأكيد بأن المناطق المغربية لم تكن بدعا في هذا الشأن بالقياس إلى غيرها من ديار الإسلام، فالقراءات في الأمصار الإسلامية على العموم قد سارت في مسار واحد اقتضته التطورات التاريخية من جهة، كما اقتضاه تحول القراءة إلى صناعة واختصاص(1).
وتبعا لذلك يمكن تمثل المراحل التي مرت منها في ثلاثة أطوار متتالية:
أ طور القراءة الفردية
ب طور الاختيار بين القراءات
ج- طور الاستقرار على قراءة مختارة في كل مصر أو قطر.
نص لأبي عبيد في قراء السلف:
__________
(1) - لعل أول من تحدث عن تحول القراءة إلى صناعة أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" وذلك حين نعى على القراء إهمالهم للتفقه في الدين، واتخاذهم القراءة صناعة رفرفوا عليها "العواصم" 1/199-201.
(1/74)
ولإعطاء بيان عن أهم الرجال الذين يمثلون كل طور من هذه الأطوار، نستعين بهذا النص لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224) أول من ألف في القراءات(1)نقله عنه علم الدين السخاوي(2)في كتابه "جمال القراء"، عن كتاب " القراءات" الذي أرخ فيه أبو عبيد لطبقات القراء والمقرئين إلى زمنه، وتحدث عن أهم الأئمة الذين انتصبوا للقراءة والرواية إلى نهاية المائة الثانية فقال:
"هذه تسمية أهل القرآن من السلف على منازلهم.."
"فمما نبدأ بذكره في كتابنا هذا سيد المرسلين وإمام المتقين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن، ثم المهاجرون والأنصار وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفظ عنه منهم في القراءة شيء، وإن كان ذلك حرفا واحدا فما فوقه.
فمن المهاجرين أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وطلحة ابن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان وعبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمرو بن العاص وأبو هريرة ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن السائب قارئ مكة".
ومن الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت ومجمع بن جارية وأنس بن مالك " قال:
ومن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة وأم سلمة.
قال أبو عبيد: وقد علمنا أن بعض من ذكرنا أكثر في القراءة من بعض، غير أنا سميناهم على منازلهم في الفضل والإسلام، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة وحكي عنه منها شيء وإن كان يسيرا، وأمسكنا عن ذكر من لم يبلغنا عنه منها شيء، وان كانوا أئمة هداة في الدين.
__________
(1) - قال ابن الجزري في النشر 1/33-34: "فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب".
(2) - سيأتي في أصحاب القاسم بن فيره الشاطبي وشارحي قصيدته حرز الأماني.
(1/75)
فأما سالم الذي ذكرناه فإنه كان مولى لامرأة من الأنصار، وانما ذكرناه في المهاجرين لأنه خرج مع أبيه مهاجرا إلى رسول لله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن من ساكني المدينة، فهو مهاجري الدار أنصاري العداد، ونسبه في عبس بن قيس عيلان ـ قال أبو عبيد ـ رحمه الله ـ:
ثم التابعون فمنهم من أهل المدينة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز – قد كان بالمدينة والشام ــ وسليمان بن يسار وعبد الرحمان بن هرمز ــ الذي يعرف بالأعرج ــ وابن شهاب وعطاء بن يسار ومعاذ بن الحارث – الذي بعرف بمعاذ القارئ ــ وزيد بن أسلم" قال:
ومن أهل مكة عبيد الله بن عمير الليثي وعطاء بن أبي رباح وطاووس وعكرمة مولى ابن عباس وعبد الله بن أبي مليكة".
ومن أهل الكوفة علقمة بن قيس والأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع وعبيدة السلماني وعمرو بن شرحبيل والحارث بن قيس وربيع بن خيثم وعمرو بن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وأبو زرعة بن عمرو بن جرير وسعيد بن جبير وإبراهيم بن يزيد النخعي وعامر الشعبي، وهو عامر بن شراحيل.
ومن أهل البصرة عامر بن عبد الله ـ وهو الذي يعرف بابن عبد قيس، كان يقرئ الناس، وأبو العالية الرياحي وأبو رجاء العطاردي ونصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر ـ ثم انتقل إلى خراسان ـ وجابر بن زيد والحسن بن أبي الحسن ومحمد بن سيرين وقتادة بن دعامة".
(1/76)
ومن أهل الشام المغيرة بن شهاب(1)المخزومي ـ صاحب عثمان بن عفان في القراءة ـ قال: ـ كذلك حدثني هشام بن عمار الدمشقي قال: حدثني عراك بن خالد المري قال: سمعت يحيى ابن الحارث الذماري يقول: ختمت القرآن على عبد الله بن عامر اليحصبي، وقرأ عبد الله بن عامر على المغيرة بن شهاب المخزومي، وقرأ المغيرة على عثمان ليس بينه وبينه أحد" قال:
فهؤلاء الذين سميناهم من الصحابة والتابعين هم الذين يحكى عنهم عظم القراءة وان كان الغالب عليهم الفقه والحديث"(2).
__________
(1) - كذا في جمال القراء للسخاوي 2/424- وما بعدها، ومثله في كتاب رسم المصحف لغانم قد وري الحمد 638 نقلا عن مخطوطة جمال القراء قبل طبعه. والصحيح "المغيرة بن أبي شهاب كما نجده عند أبن الجزري في غاية النهاية 2/305-306 ترجمة 3635 والسبعة في القراءات لابن مجاهد 85.
(2) - جمال القراء وكمال الإقراء لعلم الدين السخاوي 2/424-428.
(1/77)
هذا الطرف من نص أبي عبيد الطويل يمثل في نظرنا الطور الأول من الأطوار الثلاثة الذي أطلقنا عليه "طور القراءة الفردية" على معنى أن القارئ من الصحابة أو التابعين كان يقرأ القرآن بالحرف الذي تلقاه به عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو تلقاه عنه من قراء الصحابة دون أن يتجاوز ذلك إلى تعديد مصادره في الغالب، إذ لم يكن القراء في هذه المرحلة يهتمون بجمع الروايات المتعلقة بالحروف والموازنة بينها لاختيار ما هو أيسر أداء أو أشهر أو أفصح أو غير ذلك، بقصد الحصول على اختيار شامل للقرآن ينسب إلى القارئ ويمهر باسمه، وانما بدأ هذا الاهتمام في الطور الثاني على عهد المختصين في القراءة الذين تجردوا لها خاصة، ولم يغلب عليهم الاشتغال بغيرها من مباحث الفقه ورواية الحديث، وهذا الطور الذي نعتناه بطور الاختيار بين القراءات المأثورة هو الطور الذي عاصره الإمام نافع ومن عرف معه من القراء السبعة أو العشرة أئمة الأمصار الخمسة، وإلى هذا الطور يشير أبو عبيد في تتمة نصه من كتابه "القراءات" بقوله:
"ثم قام من بعدهم بالقرآن قوم ليست لهم أسنان من ذكرنا ولا قدمتهم، غير أنهم تجردوا للقراءة واشتدت بها عنايتهم ولها طلبهم، حتى صاروا بذلك أئمة يأخذها الناس عنهم ويقتدون بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هؤلاء الأمصار.
(1/78)
فكان من قراء المدينة أبو جعفر القارئ، واسمه يزيد بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وشيبة بن نصاح مولى أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم(1)، وكان أقدم هؤلاء الثلاثة أبو جعفر، قد كان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرة(2)، حدثنا إسماعيل بن جعفر عنه(3)، ثم كان بعده شيبة على مثل منهاجه ومذهبه، ثم ثلثهما نافع بن أبي نعيم، وإليه صارت قراءة أهل المدينة، وبها تمسكوا إلى اليوم. فهؤلاء قراء أهل المدينة، وهؤلاء قراء الحجاز في دهرهم.
وكان من قراء أهل مكة عبد الله بن كثير وحميد بن قيس ـ الذي يقال له الأعرج ـ ومحمد بن محيصن، فكان أقدم هؤلاء الثلاثة ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة، وأكثرهم به اقتدوا فيها. وكان حميد بن قيس قرأ على مجاهد(4)قراءته، فكان يتبعها لا يكاد يعدوها إلى غيرها، وكان ابن محيصن أعلمهم بالعربية وأقومهم عليها، فهؤلاء قراء مكة في زمانهم".
__________
(1) - سيأتي التعريف بهم جميعا في قراء المدرسة المدنية.
(2) - كانت وقعة الحرة في زمن يزيد بن معاوية سنة 63 هـ.
(3) - هو أيضا من رواة قراءة نافع وسيأتي في أصحابه.
(4) - هو مجاهد بن جبر من أصحاب ابن عباس عرض عليه القراءة والتفسير، مات سنة 104 هـ على الراجح، ترجم له في غاية النهاية 2/41-42 ترجمة 2659. وترجم لحميد بن قيس في غاية النهاية 1/265 ترجمة 1200.
(1/79)
وكان من قراء الكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود ـ والأعمش(1)، وكان أقدم الثلاثة وأعلاهم يحيى، يقال انه قرأ على عبيد الله بن نضيلة ـ صاحب عبد الله ـ(2).
ثم تبعه عاصم، وكان أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي(3)وزر بن حبيش(4). ثم كان الأعمش فكان امام أهل الكوفة المقدم في زمانه عليهم، حتى بلغ إلى أن قرأ عليه طلحة بن مصرف(5)وكان أقدم من الأعمش. فهؤلاء الثلاثة هم رؤساء أهل الكوفة في القراءة.
ثم تلاهم حمزة بن حبيب رابعا، وهو الذي صار عظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن يطبق عليه جماعتهم، وكان ممن اتبع حمزة في قراءته سليم بن عيسى(6)، وممن وافقه، وكان ممن فارقه أبو بكر بن عياش(7)فإنه اتبع عاصما وممن وافقه".
وأما الكسائي(8)فإنه كان يتخير القراءات، فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا، فهؤلاء قراء الكوفة.
__________
(1) - ترجمة يحيى في غاية النهاية 2/380 ترجمة 3871، وترجمة عاصم 1/346-349 ترجمة 1496 وترجمة سليمان بن مهران الأعمش في الغاية 1/315 ترجمة 1389. ومعرفة القراء للذهبي 1/78-80 طبقة 3.
(2) - سماه ابن الجزري عبيد بن نضلة، وهو أبو معاوية الكوفي من أصحاب ابن مسعود مات في حدود 75 هـ ترجمته في غاية النهاية 1/497-498 ترجمة 2071.
(3) - هو عبد الله بن حبيب – سيأتي فيمن قرأ على أبي وغيره، ترجمته في الغاية 1/413-414 ترجمة 1761.
(4) - هو أبو مريم الأسدي الكوفي من أصحاب ابن مسعود وشيوخ عاصم الكوفي مات سنة 82 هـ غاية النهاية 1/294.
(5) - طلحة بن مصرف اليامي الكوفي له اختيار في القراءة مات سنة 112 هـ غاية النهاية 1/343 ترجمة 1488.
(6) - سليم بن عيسى أبو عيسى الكوفي يروي عنه الدوري والسوسي توفي 188-189. غاية 1/318-319.
(7) - هو شعبة بن عياش الكوفي الأسدي أحد راويي قراءة عاصم توفي سنة 193-194. غاية 1/326 ترجمة 4321.
(8) - هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي سيأتي مع القراء السبعة.
(1/80)
وكان من قراء أهل البصرة عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(1)وأبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي(2)،
__________
(1) - من أوائل نحاة البصرة أخذ عن يحيى بن يعمر وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء توفي سنة 117. غاية 1/410.
(2) - هو أبو عمر الثقفي النحوي من أول المؤلفين في علم النحو، ألف كتابيه الجامع والكامل في النحو وفيهما قال تلميذه الخليل بن أحمد:
ذهب النحو جميعا كله ... غير ما ألف عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للنحو شمس وقمر
ترجمته في غاية النهاية 1/316 ترجمة 2498. وانباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي 2/374-377 ت 5230 .
(1/81)
وكان أقدم الثلاثة ابن أبي إسحاق، وكانت قراءته مأخوذة عن يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم(1)، وكان عيسى بن عمر عالما بالنحو(2)، غير أنه كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية يفارق قراءة العامة، ويستنكره الناس، وكان الغالب عليه حب النصب ما وجد إليه سبيلا....(3)والذي صار إليه أهل البصرة فاتخذوه اماما أبو عمرو ابن العلاء، فهؤلاء قراء أهل البصرة، وقد كان لهم رابع وهو عاصم الجحدري(4)لم يرو عنه في الكثرة ما روي عن هؤلاء الثلاثة"(5).
__________
(1) - نصر بن عاصم ويقال له نصر الحروف- الليثي الدؤلي عرض القرآن على أبي الأسود الدؤلي. غاية 2/336.
(2) - ترجم له في انباه الرواة 2/374-377 وبغية الوعاة للسيوطي 2/237-238 ترجمة 1880. ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي 43.
(3) - ذكر أمثلة لذلك تركتها اختصارا منها ( حمالة الحطب، والزانية والزانية، والسارق والسارقة، وهؤلاء بناتي هن أطهر لكم) يعني أنه كان ينصب (حمالة وما بعدها وكذلك لفظ أطهر في آية سورة هود).
(4) - هو عاصم بن أبي الصباح أبو المجشر الجحدري البصري مقرئ لغوي كاتب للمصاحف تولى ذلك للحجاج في ولايته مع جماعة من علماء البصرة، أخذ القراءة عن بعض أصحاب ابن عباس مات حول 130 هـ ترجمته في غاية النهاية /349 ترجمة 1498.
(5) - جمال القراء 2/430-431 نقلا عن كتاب القراءات لأبي عبيد.
(1/82)
وكان من قراء أهل الشام عبد الله بن عامر اليحصبي ويحيى بن الحارث الذماري(1)وثالث قد سمي لي بالشام ونسيت اسمه(2)، فكان أقدم هؤلاء الثلاثة عبد الله ابن عامر، وهو امام دمشق في دهره، وإليه صارت قراءتهم، ثم اتبعه يحيى بن الحارث الذماري وخلفه في القراءة وقام مقامه. ـ قال ـ وقد ذكروا الثالث بصفة لا أحفظها.
فهؤلاء قراء الأمصار الذين كانوا بعد التابعين"(3).
هكذا ساق أبو عبيد هذا النص ليخلص إلى تصنيف القراء عموما إلى زمنه على نمطين: نمط كان يقرأ بحرف من الحروف التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من قراء الصحابة، ولم يتجرد لتتبع غيره من الحروف والروايات فضلا عن الموازنة والاختيار منها، ونمط من أهل التخصص في القراءة والتجدر لرواية الحروف والعكوف على الروايات موازنة بينها وتمحيصا وانتخابا لوجوهها المختارة، مما اتسع معه مجال عمل القارئ في توجيه الحروف المقروء بها ودراستها من جهة التأويل واللغة مرة، ومن جهة الشهرة والاستفاضة أخرى، وكان فيهم من يتحرى الغرائب من جهة اللغة كما رأينا عند ابن محيصن المكي وعيسى بن عمر البصري، فكان الناس يميلون إلى هذا الاتجاه أو ذاك، ولكن جمهور الناس كانت تتوجه بالإمامة إلى أناس مخصوصين كانت العناية الإلهية تعدهم ليكونوا أئمة الجماعة وألسنة الأمة في قراءة كتاب الله. وقد علق الإمام السخاوي على نص أبي عبيد بقوله:
"وهذا الذي ذكره أبو عبيد يعرفك كيف كان هذا الشأن من أول الإسلام إلى آخر ما ذكره"(4).
__________
(1) - من أصحاب ابن عامر وإمام الجامع الأموي وشيخ القراءة بدمشق، توفي سنة 145 هـ. غاية النهاية 2/367-368.
(2) - قال السخاوي: هو خليد بن سعد صاحب أبي الدرداء، لكن أطبق أهل السام على ابن عامر "جمال القراء" 2/432.
(3) - جمال القراء 2/431.
(4) - المصدر نفسه 2/432.
(1/83)
ولم يتحدث أبو عبيد عما تم بعد ذلك أي عن الطور الأخير الذي وقع فيه الإجماع على اختيار قراءات السبعة وحدهم، وذلك لأنه لم يدرك هذا الطور وان كان ربما عاش بدايته، ولمح اليه من خلال اشارته إلى من اجتمع الناس على قراءته من الأئمة في الأمصار الخمسة المشهورة.
ولقد تولى الإمام السخاوي اتمام هذا التصنيف تأسيسا على ما ذكره أبو عبيد في الجرد التاريخي السالف، فأشار إلى الطور الثالث ـ أعني طور الاقتصار على قراءات السبعة ـ مبينا المقومات والأسس التي انبنى عليها اختيار قراءات أولئك السبعة خاصة فقال:
"فلما كان العصر الرابع سنة ثلاثمائة وما قاربها، كان أبو بكر بن مجاهد(1)ـ رحمه الله ـ (ت 324) قد انتهت إليه الرياسة في علم القراءة، وتقدم في ذلك على أهل ذلك العصر، اختار من القراءات ما وافق خط المصحف، ومن القراء بها من اشتهرت عدالته، وفاقت معرفته، وتقدم أهل زمانه في الدين والأمانة، والمعرفة والصيانة، واختاره أهل عصره في هذا الشأن، وأطبقوا على قراءته وقصد من سائر الأمصار، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وخص في ذلك بطول البقاء، ورأى أن يكونوا سبعة تأسيا بعدد المصاحف الأئمة، وبقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ان هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف من سبعة أبواب" فاختار هؤلاء القراء السبعة أئمة الأمصار، فكان أبو بكر ـ رحمه الله ـ أول من اقتصر على هؤلاء السبعة، وصنف كتابه في قراءتهم، واتبعه الناس على ذلك، ولم يسبقه أحد إلى تصنيف قراءة هؤلاء السبعة"(2).
__________
(1) - هو أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد العطشي البغدادي صاحب كتاب "السبعة في القراءات" وغيره، وأول من سبع السبعة. ترجمته في معرفة القراء الكبار 1/216- طبعة 8 وغاية النهاية 1/139-142 ترجمة 663.
(2) - جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي 2/432.
(1/84)
ذلك هو الإطار العام الذي تطورت فيه القراءات في الصدر الأول، استندنا في رسمه إلى هذا النص الطويل لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)، والذيل عليه لأبي الحسن السخاوي الذي تحدث عن الطور الثالث من أطوار القراءة في الأمصار الخمسة، والذي اكتمل في صورته الأخيرة في عمل أبي بكر بن مجاهد شيخ القراء ببغداد (ت 324 هـ) أي بعد القاسم بن سلام بمائة عام.
وقد نقلناه هنا على ما به من طول، لنحاول أن نترصد من خلاله ونتمثل آثار هذا التطور في مراحله المتعاقبة، على القراءة في الأقطار والجهات المغربية التي يعنينا الحديث عنها هنا منذ أول الفتح.
- الأطوار الأولى التي عرفتها القراءة في المناطق المغربية
ولعل من المفيد في ذلك أن نعود إلى تتبع هذه الأطوار من بدايتها، لنرافق امتدادات قراءات الأمصار الإسلامية في اتجاه الأقطار والجهات المغربية، ولتتلمس معالم الطريق التي سلكتها في كل طور من أطوارها الثلاثة قبل أن يجتمع أهلها نهائيا على قراءة امام من أولئك السبعة، ويعتمدوها قراءة رسمية.
أ طور القراءة الفردية الحرة
(1/85)
يبتدئ هذا الطور من أول الفتح الإسلامي لهذه الجهات، إذ كان القارئ من الصحابة وغيرهم من التابعين يقرأ ويقرئ بالحرف الذي تلقى به القرآن من شيخه، ولا يعنيه بعد ذلك أن يكون موافقا لما عند غيره أو مخالفا، وعلى هذا الأساس كانت قراءات السلف تختلف فيما بينها في كثير من حروف القراءة وكيفيات الأداء، لكن القراء لهذا العهد لم يكونوا يهتمون كثيرا بالوقوف على مظاهر هذا الاختلاف، لما جاء من النهي عن المراء في القرآن، ولمعرفتهم بنزول القرآن الكريم على الحروف السبعة، والاذن لكل قارئ أن يقرأ كما علم(1)، وينبني على هذا التصور التسليم بأن الذين أسهموا في نشر القرآن وتعليمه بافريقية والمغرب من الصحابة ومن أخذ عنهم من التابعين، لم تكن تجمعهم قراءة واحدة معينة، وانما كانوا يقرأون على أنحاء كثيرة وأنماط أدائية متعددة بتعدد مصادر الأخذ والتلقي، الأمر الذي يتأتى معه القول بتعرف هذه المناطق على معظم ما هو متداول لهذا العهد من حروف القراءة، وما رسم من ذلك في مصاحف الصحابة، كما يمكن القول أيضا باطمئنان بتعرفها خاصة على حروف أهل المدينة وأهل الشام، وأن هذه الحروف سرعان ما غدت متداولة في القراءة عند جمهور القراء والمتعلمين لعدة أسباب:
أولها فيما يخص حروف أهل المدينة، أن عامة الصحابة القراء الذين كانوا يقومون على الإقراء اما مدنيون أو قرأوا بالمدينة.
ثانيها فيما يخص حروف أهل الشام، أن فتح هذه المناطق كان على أيدي الدولة الأموية بالشام، فكانت عامة المؤثرات في القراءة والشؤون العامة شامية، بما في ذلك بعثات التوجيه والإقراء التي تصاحب الجند.
__________
(1) - وفي حديث علي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرأوا القرآن كما علمتم" –السبعة 47.
(1/86)
وثالثها سعي الدولة الأموية إلى توحيد القراءة وحروفها على وفاق المصحف العثماني، وخصوصا في عهد إمارة الحجاج بن يوسف الثقفي كما قدمنا، وإن كان هذا لا يعني أنها قد استطاعت أن تحول دون استمرار القراءة بالحروف الشاذة عن هذا المصحف حتى في الشام نفسها أو العراق، لاسيما في حمص والكوفة حيث مركز قراءة ابن مسعود، رغم سطوة الحجاج، فقد بقيت معروفة بين القراء وجمهور الرواة، كما قال سليمان الأعمش (ت 148): "أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد فيهم الا كقراءة عبد الله فيكم ما يقرأ بها الا الرجل والرجلان"(1).
ومعنى هذا أن أصداء تلك الروايات المنقولة عن الصحابة في شواذ الحروف قد ظلت معروفة في قراءة الآخذين عنهم من التابعين لا يرون حرجا في القراءة بها عند الاقتضاء، وهذا عبد الرحمن ابن الأسود المدني ـ وهو معدود في التابعين يروي عن أبي بن كعب وعائشة وغيرهما، وقد غزا افريقية مع ابن أبي سرح(2)ـ يروي ابن أبي داوود من قراءته بهذه الحروف الشواذ، أن أبان بن عمران النخعي قال: "قلت لعبد الرحمن بن الأسود: انك تقرأ (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين)"(3). يعني أنه يخالف قراءة الجمهور.
__________
(1) - كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد 67.
(2) - معالم الإيمان للدباغ 1/161.
(3) - المصاحف لابن أبي داود 60، وهي قراءة أبي وابن مسعود وعمر بن الخطاب كما في البحر المحيط 1/28.
(1/87)
فإذا كان مثل هذا يجري في أكثر السور دورانا على الالسنة في الصلاة، فما الظن بغيره مما فيه مجال لاتساع الخلاف مما يقرأ به من الشواذ. فمن المحتمل جدا أن أمثال هذه الحروف التي اعتبرت فيما بعد شاذة كانت مما يقرأ به الآخذون عن الفاتحين، ولا يجدون أدنى غضاضة في ذلك أو حرج أو إحراج. وكيف وقد تلقاها القارئ موثقة عن شيخه لا يخالجه أدنى شك في صحتها وجواز القراءة والإقراء بها، وانما تعارف الناس على التمييز بين المتواترة وغيرها من الحروف بعد أن دونت القراءات واستفاض نقلها في عهود لاحقة.
ولقد تحدثنا في الفصل الماضي عن طائفة من بعثات الإقراء الرسمية التي كانت تنتدب مع الجند أثناء الفتح أو بعده، ووقفنا على جهودهم في نشر القرآن وتعليمه، ولا شك أن البعثات الأولى منها كانت تتولى الدعوة والإرشاد أكثر مما تتفرغ لتلقين القرآن، ولهذا فلا يمكن الحديث عن أثرها في القراءة والسعي إلى توحيدها على نمط معين، ولهذا فيمكن أن تكون القراءة ظلت مطلقة على مصاحف الصحابة الذين شهدوا زمن الفتح كابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعبد الله بن عمرو، أو على مصاحف الفاتحين كعقبة بن عامر أو عقبة بن نافع وغيرهم.
(1/88)
والبعثة الوحيدة التي يمكن الحديث عن أثرها في توحيد القراءة على وفق المصحف العثماني الإمام هي بعثة عمر بن عبد العزيز، وذلك لوصولها إلى هذه المناطق على رأس المائة الأولى من الهجرة، وهو زمن قطعت فيه القراءة الرسمية شوطا بعيدا في الأمصار الإسلامية باتساع جمهورها وبداية ظهور الأئمة الكبار الذين ذكر أبو عبيد أنهم "تجردوا للقراءة واشتدت بها عنايتهم ولها طلبهم"، لاسيما في بلاد الشام الذين يذكر الحافظ ابن عساكر عنهم أنه "لما قدم كتاب عثمان إلى أهل الشام في القراءة، قالوا سمعنا وأطعنا وما اختلف في ذلك اثنان، انتهوا إلى ما أجمعت عليه الأمة وعرفوا فضله"(1).
__________
(1) - تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران 1/65. وقد وقع بعض التوقف في شأن بعض القراءات المرسومة في المصحف العثماني من الصحابي الجلي أبي الدرداء حين وصل المصحف إلى دمشق، فقال في قوله تعالى في سورة الليل "وما خلق الذكر والأنثى" "وهؤلاء يريدونني أن أقرأ (وما خلق) فلا أتابعهم" وكان يقرؤها هكذا (والذكر والأنثى). يمكن الرجوع إلى البخاري بشرح ابن حجر 10/335 وصحيح مسلم 1/566 وجامع الترمذي بشرح عارضة الأحوذي لابن العربي 11/58.
(1/89)
فلا بدع في أن ينعكس الموقف الشامي إذن على الجهات المغربية بحكم التبعية السياسية وهيمنة العناصر الشامية في الجملة في زمن بني أمية سواء في معسكرات الجند أو على صعيد البعثات والهيئات التعليمية، فالمفروض أن يكون من أهداف البعثة العمرية البارزة في هذا المجال توحيد القراءة، وتوجيه جمهور القراء إلى حفظ القراءة العامة التي عليها جمهور الأمة في الأمصار الإسلامية في المشرق، وبهذا يمكن اعتبار عمل هذه البعثة في المنطقة الجسر القوي الذي يصل بين الطور الأول الذي سميناه طور القراءة الفردية، وبين الطور الثاني طور الاختيار بين القراءات في ضوء الخط المرسوم في المصحف الإمام. ولعل من تمام الإفادة أن نتعرف بنوع من التفضيل على أفراد البعثة العمرية ومكانتهم في وضع اللبنات الأولى في صرح المدرسة القرآنية في الغرب الإسلامي، ورسم المسار الذي سارت فيه القراءة في مختلف الجهات المغربية نحو اختيار قراءة جامعة يلتقي عليها جمهور القراء في تلاوة كتاب الله. وسيكون هذا التعريف بنشاطهم في ذلك مدخلا للطور الثاني من الأطوار الثلاثة التي عاصرت المناطق المغربية رجالها واستفادت من مدارسها المختلفة، وكان لها أثرها في سيادة هذه القراءة أو تلك مما غلب على بعض جهاتها في مختلف الفترات.
ب طور الاختيار بين القراءات والروايات في ضوء المصحف الإمام وأثر
البعثة العمرية.
زود أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز المناطق المغربية بعشرة من خيار فقهاء التابعين لتفقيه أهلها(1)وإقرائهم القرآن(2)، وهؤلاء أسماء رجال البعثة:
__________
(1) - رياض النفوس 1/101 – وكذا 1/116- 1/102.
(2) - حسن المحاضرة للسيوطي 1/298.
(1/90)
1- إسماعيل بن عبيد الأنصاري مولى لهم ـ يعرف بتاجر الله ـ وقد قدمنا أنه هو الذي أسس جامع الزيتونة بالقيروان، وكان "ومن أهل الفضل والعبادة.. مع علم وفقه، صحب جماعة من الصحابة وهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه من أهل افريقية بكر بن سوادة الجذامي وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم .. وكان من سكان القيروان، انتفع به خلق كثير من أهلها وغيرهم، وبث فيها علما كثيرا، وهو أحد العشرة التابعين .. ركب البحر في غزاة عطاء بن رافع، فغرق وهو متقلد الصحف، وختم اللهـ عز وجل ـ أعماله بالشهادة، وكان ذلك في سنة سبع ومائة"(1).
2- إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر القرشي المخزومي ـ مولى لهم ـ وهو والي عمر بن عبد العزيز على افريقية والمغرب، ويذكر ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار أنه كان "من صالحي أهل الشام وخيار الدمشقيين، كان قد ولاه عمر بن عبد العزيز جند افريقية، ومات في خلافة مروان سنة 132"(2).
وهو معدود في المصادر الافريقية في عداد أفراد البعثة العمرية وفي طليعتها(3).
أما ابن عذاري فيذكر أن عمر "بعث معه عشرة من التابعين أهل علم وفضل"(4).
وهذا يقتضي أنه ليس في الجملة، وذكر المالكي أن عمر استعمله على أهل افريقية ليحكم بينهم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم ــ ويفقههم في الدين ـ قال ـ وهو أحد العشرة التابعين.."(5).
__________
(1) - رياض النفوس 1/106-107. وفضائله كثيرة ذكر بعضها أبو العرب في طبقات علماء افريقية 25.
(2) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 179 ترجمة 1418.
(3) - معالم الإيمان 1/203 ورياض النفوس 1/115.
(4) - البيان المغرب 1/48.
(5) - رياض النفوس 1/116 ترجمة 38.
(1/91)
ونستفيد من هذا أن مهمة إسماعيل كانت موزعة بين الولاية والتعليم، ولعل هذا ما جعل تأثيره في افريقية أوسع من تأثير غيره من أفراد البعثة المذكورين فبله أو بعده، وقد "أسلم على يده خلق كثير"(1)، وعلى الرغم من اسناد الولاية إلى غيره بعد وفاة عمر(2)فإنه ظل مقيما بالقيروان نحوا من ثلاثين سنة، الأمر الذي جعله أكثر انصرافا إلى العبادة والتعليم والإقراء، فإذا علمنا انه كان قبل الولاية مشتغلا بتعليم القرآن بالشام، ومؤدبا لأولاد الخليفة عبد الملك بن مروان(3)، فإننا لا نستبعد أن يظل التعليم والتأديب شغله الشاغل بعد اعتزال الولاية.
ومن شواهد اهتمام ابن أبي المهاجر بالقراءة ما رواه عبد الله بن المبارك المروزي عن إسماعيل بن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه يوحى إليه، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدا من خلق الله أعطي أفضل مما أعطي فقد حقر ما عظم الله، وعظم ما حقر الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن يجهل فيمن يجهل ولا أن يحد فيمن يحد، ولكن يعفو ويصفح"(4).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/116.
(2) - ولي بعده يزيد بن أبي مسلم، "فسار في البربر بالظلم والغشم، فقتلوه في مصلاه" البيان المغرب 1/48.
(3) - تاريخ الإسلام للذهبي 5/226- وتهذيب التهذيب لابن حجر 1/317.
(4) - كتاب الزهد لابن المبارك 275-276.
(1/92)
وكان إسماعيل يروي عن عبد الله بن عمرو وفضالة بن عبيد وعن جماعة من التابعين، أما الرواة عنه فقد شحت المصادر بذكرهم، واكتفت من أهل الشام بذكر أبي عمرو الأوزاعي(1)وسعيد بن عبد العزيز التنوخي(2)ومن أهل افريقية بذكر زياد بن أنعم(3).
ظهور القراءة الجماعية:
ولا نتجاوز هذه الشخصية دون أن نلفت النظر إلى ملاحظة قيمة ينبغي إبداؤها، وهي اقتران اسمه بظهور القراءة الجماعية، أي بقراءة القرآن في جماعة دفعة واحدة، فيما أطلق عليه يومئذ "الدراسة" وهو أمر لاقى من أول ظهوره موجة من الاستنكار، واعتبر من البدع والمحدثات(4).
__________
(1) - هو إمام أهل الشام في الففه توفي سنة 157 هـ، وسيأتي ذكره عند ذكر الأوزاعية بالأندلس.
(2) - هو أبو محمد التنوخي "من فقهاء أهل الشام وعبادهم وحفاظ الدمشقيين وزهادهم، مات سنة 167 هـ وهو ابن بضع وسبعين سنة". مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 184 ترجمة 1466.
(3) - رياض النفوس 1/116– طبقات علماء افريقية لأبي العرب 20– ومعالم الإيمان 1/203-206.
(4) - تاريخ دمشق لابن عساكر 2/49-50 طبعة دمشق 1954.
(1/93)
ولعل أول من ظهرت "الدراسة" في حلقته هو الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن زيد، وكانت حلقة حافلة في مسجد دمشق يبلغ تعداد من تضمه ألفا وستمائة ونيفا(1)، وذكر الإمام النووي نقلا عن أبي داود أن أبا الدرداء "كان يدرس القرآن معه نفر يقرأون جميعا"(2)، وذكر الحافظ الذهبي أن أبا الدرداء "هو الذي سن الحلق للقراءة"(3). ولكن الحافظ ابن عساكر ينسب احداث هذه "الدراسة" إلى هشام بن إسماعيل المخزومي في قدمته على عبد الملك ـ، قال: ـ فحجبه عبد الملك، فجلس بعد الصبح في مسجد دمشق وعبد الملك في الخضراء"(4)، فأخبر أن عبد الملك يقرأ في الخضراء، فقرأ هشام بن إسماعيل، فجعل عبد الملك يقرأ بقراءة هشام، فقرأ بقراءته مولى له، فاستحسن ذلك من يليه من أهل المسجد فقرأ بقراءته"(5).
ويمكن الجمع بين الخبرين بالنظر إلى احتمال أن يكون هشام هذا من رواد حلقة أبي الدرداء، وأن يكون أسلوب الدراسة كان قد انقطع أو تنوسي العمل به منذ وفاة أبي الدرداء سنة 32(6)حتى أعاد هشام احياءه في مسجد دمشق، وغدا منذ هذا العهد مألوفا بالشام حتى حمله الحاملون معهم فيما حملوا إلى افريقية من أنواع المؤثرات.
__________
(1) - تاريخ دمشق 1/315- وغاية النهاية 1/606-607.
(2) - التبيان في آداب حملة القرآن للنووي 57.
(3) - سير أعلام النبلاء للذهبي 2/249.
(4) - يعني دار الإمارة بدمشق.
(5) - تاريخ دمشق 2/49 والتبيان للنووي 57 وينظر في نسبة الدراسة لهشام تاريخ أبي زرعة الدمشقيي 2/713.
(6) - ترجمته في غاية النهاية 1/606-607 ترجمة 2480.
(1/94)
والذي يهمنا بالنسبة لمترجمنا إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ما ذكره عنه ابن عساكر وعن بعض أبنائه في هذا الصدد في قوله: "فممن كان يحضر "الدراسة" ممن يوصف بالعلم أو بالرياسة .. إسماعيل ابن عبيد الله بن أبي المهاجر، وقد ولي افريقية لهشام بن عبد الملك(1)وابناه: عبد الرحمن ومروان ابنا إسماعيل"(2).
وعلى هذا فيمكن أن يكون لهذا الوالي وولديه أثر في إدخال هذا النمط من تلاوة القرآن، وهو نمط استحسنه غير واحد من المتأخرين لقيمته التعليمية ـ كما سيأتي ـ وربما كان أخذه له عن امام أهل الشام بعد ابن عامر: صاحبه يحيى بن الحارث الذماري ـ امام المسجد الجامع الأموي وشيخ القراءة بدمشق، يقول عبد الملك بن العلاء أحد تلامذته:
"كنا ندرس في مجلس يحيى بن الحارث في مسجد دمشق في خلافة يزيد بن عبد الملك (101-105) إذ خرج علينا أمير دمشق الضحاك بن عبد الرحمن(3)... فأقبل علينا منكرا لما نصنع، فقال: ما هذا؟ وما انتم؟ فقلنا: ندرس كتاب الله، فقال: أتدرسون كتاب الله تعالى؟ ان هذا لشيء ما سمعته ولا رأيته، ولا سمعت أنه كان قبل"(4).
__________
(1) - لم أقف على من ذكر ولاية له بعد عزله في أول عهد يزيد. وقد ولي هشام ما بين (105-125 هـ).
(2) - تاريخ دمشق 2/50.
(3) - هو أبو زرعة الضحاك بن عبد الرحمان بن عزرب الأشعري البصري من علماء التابعين بالشام وصالحيهم ذكره ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار 115 ترجمة 886 وذكر النووي إنكاره في التبيان 57.
(4) - تاريخ دمشق 2/52.
(1/95)
لا نستبعد إذن أن يكون دخول هذا النمط من التعليم بواسطة "الدراسة" أي القراءة الجماعية قد عرف في افريقية ابتداء من هذا العهد، وربما كان ذلك على يد إسماعيل بن أبي المهاجر في عهد ولايته أو بعد ذلك حين غادر الامارة في عهد يزيد بن عبد الملك الذي ولي الخلافة سنة 101 هـ، ويوافق هذا العهد نفسه الذي يذكر أن يحيى بن الحارث الذماري ـ صاحب ابن عامر أحد السبعة القراء ـ قد أحيا هذه الدراسة فيه بمسجد دمشق، هذا إن لم تكن قد بقيت على مستوى محدود من زمن الصحابي الجليل أبي الدرداء (ت 32).
على أنه لا مانع من أن تكون قد دخلت أيضا عن طريق العناصر الشامية التي كانت تتدفق على افريقية والأندلس دون انقطاع، ولاسيما على اثر القلاقل التي عرفتها البلاد الشامية في صدر المائة الثانية، أو في أثناء الحملات العسكرية الكبيرة التي كانت تخرج من هذه الجهات لنجدة بعض الأمراء.
ويذكر ابن عذاري وغيره أنه في دفعة واحدة "خرج مع كلثوم بن عياض اثنا عشر ألفا من أهل الشام سنة 123 على عهد هشام حين ولاه افريقية، كتب إلى والي كل بلد أن يخرج معه بمن معه"(1).
وإذا ثبت هذا أمكن لنا أن نرتب عليه آثاره الحتمية في وجود قراءة جامعة يقرأ القراء المجتمعون بها على هذا النمط الجديد الذي سموه بـ"الدراسة"، ولا يبقى لنا إلا أن نتساءل عن نوع القراءة المشتركة التي اجتمع ويجتمع على القراءة بها هؤلاء الدارسون، وعن الحدود المستعملة فيها؟؟.
قراءة ابن عامر الشامي بإفريقية:
الظاهر الذي تقتضيه طبيعة الأشياء بحكم ما قدمنا من عوامل أن تكون القراءة الشامية هي المرشحة وحدها لهذه الغاية يومئذ بحكم غلبة العناصر الشامية وكون الأمراء على افريقية والأندلس انما ينتدبون منها، ولمكان إسماعيل بن أبي المهاجر قارئا وواليا وواحدا من أعضاء البعثة العمرية.
__________
(1) - البيان المغرب 1/54.
(1/96)
معنى ذلك أن المدار في هذا كان على قراءة إمام أهل الشام عبد الله بن عامر اليحصبي (ت 118)، وهو شيخ إسماعيل بن أبي المهاجر كما يدل على ذلك هذا الخبر الهام الذي ذكره أبو زرعة الدمشقي في تاريخه قال: "وسمعت أبا مسهر(1)أو حدثت عنه عن عبد الرحمن بن عامر اليحصبي(2)قال: قال لي إسماعيل بن عبيد الله:
"أخوك أكبر مني بخمس سنين قال: وعلى أخيك قرأت القرآن"(3).
فهذا الخبر يدل دلالة صريحة على أن ابن أبي المهاجر كان من حملة القراءة عن إمام أهل الشام في القراءة فلا بدع اذن في أن يكون في طليعة من قام بنشرها في ولايته أو بعدها، وأن تكون هي المعتمدة في هذا النمط المستحدث في القراءة وهو أسلوب "الدراسة" على ما قوبل يه هذا النمط في بعض الأحيان من استهجان.
على أننا لا ننفي التأثير الذي كان يرد على المنطقة الافريقية من البلاد المصرية وغيرها بحكم الاحتكاك وقرب الجوار، ومن الجائز أن تسهم هذه الجهة أيضا في إدخال هذا النمط، اما تأثرا بما ظهر بالشام وفلسطين(4)، واما بصفة تلقائية باعتبار "الدراسة" من الوسائل التعليمية الناجعة في استظهار القرآن أو استذكاره مخافة النسيان، وتدل جملة من الفتاوى التي عرضت على الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ في شأنها على أنها كانت مستعملة بمصر.
فهذا صاحبه عبد الله بن وهب الذي روى عنه الفقه كما روى عن نافع القراءة ـ كما سيأتي ـ يقول له مستفتيا: "أرأيت القوم يجتمعون فيقرأون جميعا سورة واحدة حتى يختموها،؟ فأنكر مالك ذلك وعابه وقال: ليس هكذا يصنع الناس،وانما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضه"(5).
__________
(1) - من الرواة عن نافع وسيأتي في أصحابه.
(2) - هو أخو عبد الله بن عامر القارئ.
(3) - تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/344.
(4) - ينظر في ذلك تاريخ دمشق 2/50 وتاريخ أبي زرعة الدمشقي 2/713.
(5) - نقله النووي في التبيان في آداب حملة القرآن 57.
(1/97)
والظاهر من استفتاء ابن وهب ـ وهو من قراء المصريين ـ أنه كان في سؤاله يصف أمرا واقعا في بلاده، وهو ما يفهم من قول مالك نفسه عن أهل الأسكندرية فيما ساقه الإمام أبو إسحاق الشاطبي(1)عن مالك في سياق إنكاره لهذا النمط من القراءة قال: "لا يجتمع القوم يقرأون في سورة واحدة كما يفعل أهل الأسكندرية، هذا مكروه لا يعجبني"(2).
- موقف العلماء من القراءة الجماعية في افريقية:
ومهما يكن فإن مناطق إفريقية لا بد أن تكون قد تعرفت على أسلوب "الدراسة" باعتباره نمطا تعليميا جديدا، وربما أسهمت فيها بنصيب قليل أو كثير عن طريق من دخلها من قراء الشام ممن أخذوا بهذا النمط، أو من قراء بلاد مصر بفعل الاحتكاك وقرب الجوار، أو بسبب هجرة من هاجر منهم إليها.
ولعل أهل إفريقية قد توسعوا في الأخذ بذلك تأثرا بأهل الشام والاسكندرية قبل أن يسود فيهم مذهب مالك، وأن يكثر أتباعه في القيروان والمنطقة، وأما بعد ذلك فقد ناقشوا المسألة وحاولوا في زمن سحنون (ت 240 هـ) أن يبثوا فيها على مذهب مالك بالمنع منها والأخذ على يد من سعى في ترويجها، وفي هذا السياق يقول سحنون فيما حكاه عنه ابنه في الرسالة التي دونها عنه في آداب المعلمين:
"ولقد سئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمع فيها للقراءة، فقال: بدعة، وأرى للوالي أن ينهاهم عن ذلك ويحسن تأديبهم"(3).
لكن يبدو أن في قول سحنون وتعبيره بلفظ "هذه المجالس" ما يشعر بأنها أمست في هذه الجهة أيضا أمرا واقعا شائعا، وان كان أهل العلم ما يزالون يتوقفون في إباحته والإذن فيه.
__________
(1) - هو إبراهيم بن موسى الغرناطي أبو إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات (ت 790).
(2) - المعيار المعرب 11/169.
(3) - رسالة آداب المعلمين لابن سحنون 105.
(1/98)
ولقد زاد في الأمر ما ظهر في أثناء النصف الثاني من المائة الرابعة من احداث ما عرف فيما بعد بـ"الحزب الراتب"(1)، وقد ذكروا أن الشيخ المقرئ أبا محمد محرز بن خلف المؤدب (ت 413) هو "أول من سن قراءة القرآن بعد صلاة الصبح بافريقية"(2).
ولم يذكروا لنا شيئا عن الكيفية التي كان يتم بها القيام بهذه الوظيفة التي "سنها" أهي الطريقة الجماعية في الأداء أي "الدراسة"، أم هي تلاوة قارئ واحد والناس يستمعون بعد الفراغ من صلاة الصبح؟ الظاهر أن المراد قراءة الجماعة من القراء دفعة واحدة، ولذلك ظل الأمر محل استشكال، وبقيت الأسئلة حوله تتردد في الميدان الفقهي، ولكن الجواب عنها كما نجده عند الإمام القابسي قد بدأ يأخذ اتجاها جديدا، فقد سئل أبو الحسن علي بن خلف القابسي (ت 403) "عن المجتمعين بعد صلاة الصبح يقرأون الحزب من القرآن متفقين فيه، هل يجوز أم لا؟ فأجاب: ان كان لما يجدون في ذلك من القوة والنشاط في الحفظ والدراسة فلا بأس"(3).
ولا شك أن هذا فقه جديد للقضية المعروضة أملاه الواقع العملي أكثر مما أملاه النظر الفقهي والمذهبي وأقره الشيخ القابسي ـ وهو أحد أساطين المالكية في زمنه ـ ناظرا إلى ما لمس فيه من مصلحة راجحة في الحفز على الاستذكار والاستظهار، وهذا توسط منه في الفتيا بين مذهب المنع ومذهب الترخيص.
__________
(1) - سيأتي الحديث عن ترسيمه في زمن الموحدين.
(2) - الفوائد الجميلة للشوشاوي.
(3) - المعيار 11/169.
(1/99)
ويهمنا من هذا هنا ما يكون لابن أبي المهاجر ـ والي عمر بن عبد العزيز ـ من أثر في وضع اللبنات الأولى لهذه الدراسة المحدثة، لأنه ما من شك عندنا في أن لها تأثيرا كبيرا في توحيد القراءة والأداء على نمط واحد ولا تتأتى مع تباين القراءات، لما يؤدي إليه ذلك من التفاوت في الأداء بسبب الخلاف في أصول القراءات وفرشها. وسواء كانت القراءة التي اعتمدت في هذه القراءة الجماعية قراءة ابن عامر تبعا لما رأينا من المؤثرات الشامية، أم قراءة نافع من رواية ورش أو غيره تبعا لوصول طلائع الرواة عنه إلى افريقية في زمنه ـ كما سيأتي ـ وظهور مدرسة ورش القوية في مصر بعد منتصف المائة الثانية، فان ذلك يفيدنا في تقدير اجتماع كثير من الناس على بعض قراءات السبعة المطابقة لمصحف الجماعة، وقد اختاروها على غيرها لهذا الاعتبار، وسيأتي الحديث عن وصول طائفة أخرى من الروايات عن السبعة وغيرهم إلى افريقية وغيرها لهذا العهد وتلاقحها جميعا ثم تنافسها على الحظوة بالمكانة الأولى في المساجد الجامعة والتعليم والإقراء إلى أن كانت الغلبة لقراءة نافع.
أما باقي رجال البعثة العمرية فهم:
3- أبو ثمامة بكر بن سوادة الجذامي المصري الشامي الأصل
"كان رجلا فاضلا جليلا، روى عن جماعة من الصحابة، منهم عقبة بن عامر وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وأبو ثور الفهمي، وروى عن جماعة من التابعين، منهم سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، قال أبو سعيد بن يونس:
"كان فقيها مفتيا سكن القيروان، وكانت وفاته بها سنة 128 ـ رحمه الله تعالى ـ، ويقال انه غرق في مجاز الأندلس، وكان أحد العشرة التابعين"(1)
4- جعثل بن عاهان بن عمير أبو سعيد الرعيني المصري
__________
(1) - رياض النفوس للمالكي 1/112-113 ترجمة 36.
(1/100)
"هو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز من التابعين، وولي قضاء الجند بافريقية لهشام بن عبد الملك، ذكره ابن يونس وقال: كان أحد القراء الفقهاء"(1).
وقال ابن حجر وغيره: "بعثه عمر بن عبد العزيز إلى المغرب ليقرئهم القرآن"(2).
روى من التابعين عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجيشاني(3)وأخرج له النسائي في سننه عن عقبة بن عامر2 أما الرواة عنه فمنهم عبد الله بن زحر(4)وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم(5)وبكر بن سوادة زميله في البعثة(6)ومن الطريف أنه وحده من بين أفراد البعثة نعت بـ"القارئ"، وقد جاء عن شيخه أبي تميم الجيشاني أنه كان من المختصين بمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ، وأنه تعلم عليه القرآن(7).
2- حبان بن أبي جبلة القرشي المصري ـ من موالي بني عبد الدار ـ
كان "من أهل الدين والفضل روى عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص وولده عبد الله، وروى عنه زياد بن أنعم وأبو شيبة عبد الرحمن بن يحيى الصدفي وعبيد الله ابن زحر، سكن القيروان وانتفع به أهلها"(8).
دخل افريقية مع رجال البعثة العمرية وبقي بها حتى توفي بالقيروان سنة (125-122)(9)، وقد وهم فيه بعضهم فعده من الصحابة(10)، كما وهم بعضهم في جعل مرسله إلى مصر لتفقيه أهلها عمر بن الخطاب(11).
6- سعد بن مسعود التجيبي المصري
__________
(1) - نقله في رياض النفوس 1/114 ترجمة 37.
(2) - تهذيب التهذيب: 2/79 ومعالم الإيمان: 1/202 وحسن المحاضرة: 1/298.
(3) - سنن النسائي 3/233-234 المطبعة التجارية الكبرى بمصر.
(4) - رياض النفوس 1/114.
(5) - معالم الإيمان 1/202 وكذا 1/230-237.
(6) - رياض النفوس 1/114.
(7) - أسد الغابة لابن الأثير 5/152 طبعة طهران (في خمسة أجزاء) 1980.
(8) - رياض النفوس 1/111-112 ترجمة 35.
(9) - رياض النفوس 1/111-112 وتهذيب التهذيب 2/271.
(10) - حسن المحاضرة 1/190.
(11) - نفس المصدر والصفحة.
(1/101)
"كان رجلا فاضلا مشهورا بالدين والفضل .. وهو من العشرة الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله تعالى عنه ـ ليفقهوا أهل القيروان"(1).
صحب جماعة من الصحابة وروى عنهم، منهم أبو الدرداء وغيره، وروى عنه جماعة منهم عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم7 وقد ذكروا أنه بث في القيروان علما كثيرا(2).
7- طلق بن جابان الفارسي
وهو معدود في العشرة من التابعين(3)، إلا أن المصادر التي ترجمت له لا تذكر أحدا من شيوخه في الرواية، إلا أن ابن يونس ذكر أنه يروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن المدني من التابعين(4).
أما الرواة عنه فمنهم عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وموسى بن علي بن رباح، ومن المصريين سعيد بن أبي أيوب(5)، ويظهر أن قدومه في البعثة إلى القيروان كان بعد إقامة طويلة في مصر حتى تفقه عليه أهلها(6).
8- عبد الرحمن بن رافع أبو الجهم التنوخي المصري
"من فضلاء المؤمنين، روى عن جماعة وروى عنه جماعة، سكن القيروان وانتفع به خلق كثير، وهو أول من استقضي بها بعد فتحها، ولاه عليها موسى بن نصير سنة 80 هـ، وهو أحد العشرة التابعين، توفي بالقيروان سنة 113 هـ رحمه الله"(7).
ومن الرواة عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وولده إبراهيم بن عبد الرحمن وبكر بن سوادة الجذامي. ـ أحد رفاقه في البعثة ـ(8).
9- عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن الحبلي المعافري
__________
(1) - رياض النفوس 1/102 ترجمة 39 – معالم الإيمان 1/184-187 – تهذيب التهذيب 12/115.
(2) - معالم الإيمان 1/184.
(3) - طبقات علماء افريقية لأبي العرب 20.
(4) - نقله في رياض النفوس 1/118 ترجمة 39.
(5) - رياض النفوس 1/117-118.
(6) - القراءات بافريقية 147.
(7) - رياض النفوس 1/100. ترجمة 33.
(8) - تهذيب التهذيب 6/168 – الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/232. معالم الإيمان 1/198.
(1/102)
"من فضلاء التابعين، بعثه عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله تعالى عنه ـ إلى افريقية ليفقههم في الدين، فانتفع به أهل افريقية، وبث فيها علما كثيرا، توفي بالقيروان سنة 100"(1).
روى عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر وعقبة بن عامر وفضالة بن عبيد وغيرهم"(2). ويظهر من كثرة شيوخه ووفرة رواياته أنه كان من أهم أفراد البعثة في هذا الشأن، ولعله قد عاش في افريقية منذ أول الفتح ثم انتدب مع رجال البعثة الرسمية للتعليم والتوجيه، ولهذا زاد عدد الرواة عنه زيادة ملحوظة بالقياس إلى رفاقه، مع تقدم وفاته، ومن الرواة عنه أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي وعبيد الله بن هبيرة وعمرو بن سعيد المعافري وإسماعيل بن زيد الأبلي وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم وأبو كريب جميل بن كريب المعافري القاضي وزميله في البعثة بكر بن سوادة الجذامي(3).
ويظهر أنه أخذ القراءة خاصة عن عقبة بن عامر الصحابي الجليل، لأنه يصفه بأنه "كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن"(4)، وقد وقفت له على حديث مسلسل(5)يرويه عن المنيذر الافريقي.
10- موهب بن حي المعافري
"من أهل الفضل والدين، وهو أحد العشرة التابعين، صحب ابن عباس وروى عنه وعن غيره من الصحابة، وسكن القيروان، وبث فيها علما كثيرا، وفيها كانت وفاته"(6).
__________
(1) - رياض النفوس 1/100 ترجمة 30.
(2) - رياض النفوس 1/1-1 وتاريخ رواة العلم بالأندلس لابن الفرضي 1/368-369 ترجمة 631.
(3) - ذكر له المالكي حديثا منثورا في ترجمته منه استنفدنا أسماء بعض الرواة عنه رياض النفوس 1/99-100.
(4) - تاريخ الإسلام للذهبي 2/306.
(5) - حديث مسلسل أكثر رجال سنده أئمة من أهل فاس والمغرب ذكره الشيخ عبد الباقي الأيوبي في كتابه "المناهل المسلسلة " 163 رقم الحديث 155.
(6) - رياض النفوس 1/110 ترجمة 34 ومعالم الإيمان 1/213.
(1/103)
ومن الرواة عنه عبد الرحمن بن زياد وعياش بن عباس القتباني(1)ومن روايتهما عنه هذا الحديث قال موهب: "سألت ابن عباس فقلت له: انا لنغزو المغرب وليسوا بأهل كتاب، فنجد في آنيتهم السمن والعسل وفي قربهم، أفنأكل ذلك وننتفع به؟ فقال: لا بأس بذلك، لأن الدباغ طهور لها"(2).
أولئك هم العشرة أعضاء البعثة العمرية، وأولئك هم طليعة الرعيل الأول من القراء والمقرئين بافريفية والمغرب بعد الفاتحين الأولين من الصحابة والتابعين، وقد ترجح لدينا من خلال ما عرضنا من سيرهم وأخبارهم أنهم كانوا يمثلون الجسر الأول الذي مرت عبره القراءة في هذه الجهات من طور القراءة الفردية كما كان يؤديها رجال الفتح دون تقيد أو التزام بقراءة شخص معين أو مصر معين أو رجوع لشيء غير الرواية والسماع، بقطع النظر عن كون المقروء به محل اتفاق أو اختلاف مع قراءة الجماعة كما تضمنها المصحف الإمام ـإلى طور الاختيار بين القراءات المأثورة عن السلف، واستصفاء ما هو موافق من حروفها لقراءة الجماعة ومصحفها المجتمع عليه على غرار ما تحقق في باقي الأمصار الإسلامية في الحجاز والشام والعراق على أيدي كبار الأئمة المتجردين للقراءة خاصة كما رأينا في الطور الثاني من نص أبي عبيد القاسم بن سلام.
__________
(1) - من رجال الحديث من المصريين توفي سنة 133 هـ ترجم له ابن حجر في تقريب التهذيب 2/95.
(2) - رياض النفوس 1/111.
(1/104)
واستكمالا منا للصورة عن هذه الحقبة بافريقية نرى أن نتحدث قليلا عن الجيل الأول الذي مثل الطبقة الأولى من قراء افريقية والجهات التابعة لها، من أبناء المنطقة أو من نشأوا فيها أو الواردين عليها ممن نسب إليهم إسهام في القراءة والإقراء أو عرف لهم تأثير ما في مجال الإقراء والتعليم على ما نجده في الكتب التاريخية من قلة الحفل بأخبار هذا الشأن والعناية بتفاصيل كافية فيه، مما ضاع معه تاريخ القراءة في المنطقة، وضاقت معه مساحة الاستفادة من تراجم العلماء المذكورين في كتب التراجم، إذ لا يكاد أحد من أصحابها يتجاوز الحديث عن العموميات والعبارات العامة المقتضبة. على أننا أيضا لا نريد بعملنا تقديم إحصاء عن شخصيات العصر ممن يعزون إلى نقل العلم والرواية، وإنما غرضنا الإلمام بذكر بعض الشخصيات التي كان لها شفوف وتفوق على أهل العصر بتنصيص المصادر على نشاط لها في القراءة أو رحلة مهمة في طلب العلم إلى مصر من الأمصار التي تزدهر فيها، أو رحلة من هذا المصر إلى بعض الجهات الافريقية، مما نرجو أن يساعدنا على تمثل سليم قريب من الواقع التاريخي الذي عرفه تطور القراءات بهذه الجهات.
الرواة عن الصحابة وعن التابعين الكبار من قراء المنطقة:
فممن ذكروا بالرواية عن الصحابة وأكابر التابعين:
1- أبو رشدين حنش بن عبد الله السبائي الصنعاني "من أهل الفضل والدين، يروي عن جماعة من الصحابة منهم علي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو الدرداء وفضالة بن عبيد ورويفع بن ثابت. ويروي عنه الحارث بن يزيد وابن أنعم وقيس بن الحجاج وعامر بن يحيى وجماعة، ولد بصنعاء اليمن وغزا المغرب، وسكن القيروان، واختط بها دارا ومسجدا ينسب إليه، وله بافريقية آثار ومقامات، وشهد غزو الأندلس مع موسى بن نصير، وعاش بعد الفتح إلى سنة 100 هـ فتوفي بافريقية"(1).
__________
(1) - رياض النفوس 1/121 ترجمة 41 وجذوة المقتبس للحميدي 201-203 ترجمة 403.
(1/105)
وقد أشرنا من قبل إلى مصحفه الذي كان يتهجد وهو بجواره، فإذا تعايا في آية نظر فيه(1).
وقد ذكر الحميدي ما يدل على وجود طويل له في المنطقة، لأنه دخل في حملة رويفع بن ثابت الأنصاري الذي ولاه معاوية على طرابلس سنة 46 هـ وغزا افريقية من قبل مسلمة بن مخلد، ومات ببرقة وهو أمير عليها(2)ـ، وكان حنش مع علي بن أبي طالب في الكوفة، وقدم مصر بعد قتله فأقام فيها حتى كانت حملة رويفع(3). وعلى كل حال فقد كان من أقدم "الأطر" العلمية في المنطقة، ولهذا فنحن نعتبره في طليعة قرائها الذين كانت تروى عنهم القراءة وتؤخذ عنهم، وربما كان لنا أن نجزم بالنظر إلى تعدد مصادره وكثرة تنقله وتردده بين أكثر من جهة ومصر، أنه كان قد عرف أكثر من قراءة من قراءات الصحابة فيكون في قراءته قد اختار من مروياته حروفه الخاصة به، لاسيما بعد ظهور المصاحف العثمانية في الأمصار ودعوة القراء إلى القراءة بمضمنها.
2- أبو سعيد المقبري، واسمه كيسان مولى لبني ليث، وكان من فضلاء التابعين، روى عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وأبو هريرة وكان مختصا به، وروى عنه جماعة من المحدثين منهم يزيد بن أبي حبيب وابن أنعم، سكن القيروان وروى عنه أهلها إلى أن توفي سنة 100 هـ(4).
3- أبو غطيف المدني واسمه جندب بن بشر وقيل حبيب، "من فضلاء التابعين يروي عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وهو عمدته في الرواية، حدث عنه ابن أنعم وموسى بن علي بن رباح سكن القيروان واختط بها، وتزوج بنت بكر بن سوادة ـ أحد أفراد البعثة العمرية ـ(5).
__________
(1) - رياض النفوس 1/181.
(2) - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لابن مخلوف – التتمة 99.
(3) - جذوة المقتبس 201-203 ترجمة 403.
(4) - رياض النفوس 1/123-124 ترجمة 43.
(5) - رياض النفوس 1/122 ترجمة 42.
(1/106)
4- المغيرة بن أبي بردة الكناني حليف بني عبد الدار .. معدود في التابعين روى عن أبى هريرة وغيره، وروى عنه موسى بن الأشعث البلوي وابن أنعم وولده عبد الله بن المغيرة، وروى عنه من أهل مصر يزيد بن أبى حبيب والحارث بن يزيد وسعيد بن سلمة، وغزا مع موسى بن نصير المغرب والأندلس(1).
8- ومنهم ولده أبو المغيرة عبد الله بن المغيرة القرشي "من فضلاء التابعين، يروي عن أبيه وعن سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن أقاموا بافريقية عهدا طويلا(2).
6- ومنهم عمارة بن غراب التجيبي وهو تابعي يروي عن عائشة أم المؤمنين وغيرها، سكن القيروان وروى عنه ابن أنعم، وذكره سحنون في تآليفه(3).
7- ومنهم زياد بن أنعم الشعباني والد عبد الرحمن من فضلاء التابعين، يروي عن ابن عمر وأبي أيوب الأنصاري، وروى عنه ابنه عبد الرحمن، سكن القيروان واختط بها مسجدا في ناحية باب نافع"(4).
8- عبد الرحمن بن السميفع، ويعرف بابن وعلة المصري، كان من أهل الفضل والدين معدودا في التابعين، روى عن ابن عمر وابن عباس، وروى عنه زيد بن أسلم ويحيى بن سعيد الأنصاري والقعقاع بن حكيم وابن أنعم وغيرهم، سكن افريقية، وكان بها مسجده"(5).
9- أبو عبد الله علي بن رباح بن قصير اللخمي، "كان فاضلا جليلا من جملة التابعين، يروي عن جماعة من الصحابة عمرو بن العاص وولده عبد الله وعقبة بن عامر وأبى هريرة وعائشة أم المؤمنين، وروى عنه جماعة كثيرة، قدم افريقية مجاهدا، وسكن القيروان واختط بها دارا ومسجدا .. وانتفع به وتفقه على يديه أهل القيروان، وكان راوية ابن عباس وأبي هريرة"(6).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/124-125 ترجمة 44.
(2) - نفسه 1/128 ترجمة 46.
(3) - نفس المصدر والصفحة.
(4) - نفس المصدر 1/129 ترجمة 47.
(5) - رياض النفوس 1/130-131 ترجمة 48.
(6) - نفسه 1/119-120 ترجمة 40.
(1/107)
10- أبو الأشعث ربيعة بن يزيد مولى أبي سفيان، كان معدودا في التابعين، يروي عن عقبة بن عامر الجهني وغيره، ويروي عنه الفرج بن فضالة وعبد الله بن عامر القارئ وسعيد بن عبد العزيز، وكان يعرف بالدمشقي، أوطن افريقية وكان مشهورا"(1)
وممن يروي عن الصحابة عياض بن عقبة بن نافع الفهري(2)وأبو منصور مولى سعد بن أبي وقاص الزهري، وكان مقرئا للقرآن ومفتيا، وأبو علقمة مولى ابن عباس ولي قضاء افريقية(3)، وأبو عثمان مسلم بن يسار المدني مولى الأنصار يعرف بالطبندي(4)، وأبو عمران موسى بن الأشعث البلوي(5)، وميسرة الزرودي(6)وعمرو بن راشد بن مسلم الكناني، ويقال عمارة بن راشد وكان أصله من الشام(7)، وأبو معمر عباد بن عبد الصمد من أصحاب أنس بن مالك(8)، ويحيى بن سعيد الأنصاري القاضي أحد شيوخ المحدثين من أئمة السنة بالمدينة المنورة(9)، وأبو أيوب سليمان بن يسار المدني أخو عطاء بن يسار الفقيه، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة(10)، وأبو ليلى دخين بن عامر الحجري من الرواة عن عقبة بن عامر وغيره(11)، وأبو عقيل زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام التيمي المدني صحب إسماعيل بن عبد الله أمير افريقية وغزا معه، وكانت له مكانة عند عمر بن عبد العزيز(12)، وأبو قبيل حيي بن هانئ المعافري من أصحاب عقبة بن عامر(13).
__________
(1) - رياض النفوس 1/131 ترجمة 49.
(2) - نفسه 1/132-133 ترجمة 50. وترجمة أبي منصور في المصدر نفسه 1/133-134 ترجمة 51.
(3) - المصدر نفسه 1/134-135 ترجمة 51 مكرر.
(4) - نفسه 1/135-136 ترجمة 52.
(5) - نفسه 1/136 ترجمة 53.
(6) - نفسه 1/137 ترجمة 54.
(7) - نفسه 1/137 ترجمة 55.
(8) - نفسه 1/138-139 ترجمة 56.
(9) - نفسه 1/147-148 ترجمة 62.
(10) - نفسه 1/149 ترجمة 63.
(11) - نفسه 1/100 ترجمة 65.
(12) - رياض النفوس1/ 1/142-143.
(13) - نفسه 1/143-144.
(1/108)
وكثير غيرهم ممن ذكر المالكي وغيره من التابعين الذين كانوا البذور الأولى للمدرسة القرآنية في افريقية والمغرب، كما كانوا يمثلون امتدادات الطور الثاني من أطوار القراءة في الغالب لتعدد مصادر الأخذ عندهم ومعاصرتهم للحركة الرسمية التي رافقت المصحف الإمام في عموم الأمصار بغية الوصول إلى توحيد الأخذ بالقراءات المتواترة وترك الشواذ، فكانوا كما أسلفنا صلة الوصل بين هذا الطور والذي يليه مما سنقف عليه، وهو ما سميناه "طور الاستقرار على قراءة مختارة"، إلا أننا ههنا سنسميه احتياطا باسم "طور العمل على توحيد القراءة في المناطق المغربية على قراءة جامعة، وذلك لأن هذا العمل بهذه الجهات كان عملا مضنيا اقتضى من علماء المنطقة وأئمة الإقراء جهادا طويلا استغرق في بعض الجهات أزيد من مائتي عام.
ج- طور العمل على توحيد القراءة في المنطقة المغربية على قراءة جامعة
(1/109)
لا شك أن الإحساس بالحاجة إلى قراءة واحدة جامعة بدأ يظهر منذ أيام الخلفاء الراشدين، ولكن كثرة القراءات المأثورة في حروف القرآن مما كان يقرأ به الصحابة انطلاقا من الرخصة في ذلك مما أقره النبي صلى الله عليه وسلم وأذن فيه وانطلاقا من الحديث الشريف "ان هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا كما علمتم"(1)ـ كان يحول دون قيام هذا المشروع، وكل ما أمكن التفكير فيه والإعداد زمن خلافة عمر، ثم جرى تنفيذه زمن خلافة عثمان، هو توحيد الحروف المتواترة في صورة من الخط واحدة تحتمل ما هو ثابت في القراءة مع إبقاء قدر من المرونة يتسع لوجوه الخلاف التي تقبلها العربية من جهة، وتتفق مع ما هو يقيني ثابت في الرواية والنقل الصحيح مما اشتهر واستفاض، وكان هذا هو الباعث على تجريد المصاحف الأئمة من النقط والشكل(2). ولقد تأتى بهذا الأسلوب في التدوين حصر الحروف المتداولة بين القراء في دائرة المرسوم في هذه المصاحف التي أرسلت إلى الأمصار المشهورة، وأرسل عثمان معها مبعوثين رسميين يقرئون الناس بما فيها من حروفه لا يتجاوزونه إلى غيره(3)،
__________
(1) - الحديث مروي بصيغ كثيرة عن أزيد من عشرين صحابيا، ونص أبو عبيد على تواتره، ذكره السيوطي في الإتقان 1/131.
(2) - يمكن الرجوع في سبب تجريدها من النقط والشكل إلى المحكم للداني ص 3- والنشر لابن الجزري 1/33.
(3) - أرسل عثمان المصاحف مع طائفة من القراء "فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المصحف المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري" (مناهل العرفان في علوم القرآن) للزرقاني 1/396-397)..
(1/110)
ولم يلبث القراء أن أخذوا يتحاشون ما خرج عن هذه المصاحف مما يسمى بالشواذ، ويهجرونها في القراءة والإقراء، وظهر في الأمصار الكبرى جماعة من كبار الأئمة تفرغوا لهذا الشأن ـ رأينا طائفة كبيرة من أسمائهم في النص الذي نقلنا عن أبي عبيد ـ وتجردوا لتمحيص الروايات وتجريد الحروف المتواترة في النقل، ونشرها في القراءة والأداء، فعول الناس في كل مصر على مجموعة معدودة معينة من هذه القراءات التي اختارها لهم أولئك الأئمة، وكان ظهور تلك القراءات ابتداء من النصف الثاني من المائة الأولى، إلا أن انتشارها بشكل واسع كان بعد ذلك في أثناء المائة الثانية فما بعدها.
وكان كل إمام من الأئمة المذكورين في مصر على رأس مدرسة، ومدار نشاط كبير في الإقراء، وذا أثر في القراءة لا يقف في حدود المصر الذي ينتسب إليه، وإنما يتجاوزه في أحيان كثيرة إلى الأقطار المجاورة والآفاق البعيدة، الأمر الذي كان يطير بشهرتهم في كل اتجاه، ويجعل الطلاب من كل حدب وصوب يشدون إليهم الرحال رغبة في الأخذ عنهم ووصل أسانيدهم في القراءة بهم، وتحقيقا لمزيد من الضبط وصحة الإسناد.
(1/111)
ولقد كان هذا النشاط على أشده في الأمصار الإسلامية، والبلاد الافريقية والمغربية يومئذ في بداية تكوينها العلمي، انما يصلها من أصداء ذلك ما كانت تسمح به الصلات النسبية بين القيروان وبين الجهات الشرقية سواء من حيث التبعية السياسية، أم من حيث الاستفادة ممن كان يرد عليها من هذه الأمصار من الشخصيات العلمية، أو من كان يشد الرحال إليها لهذه الغاية، وهذا ليس من شأنه بهذا المستوى وحده أن يعطيها من القوة والرسوخ في العلم ما يمكنها من تحقيق "الاكتفاء الذاتي" أو من التعبير عن قدرتها على منافسة الحواضر في المشرق في هذا المجال في اختيار مذاهبها الخاصة، سواء في مجال الفقه أم في مجال القراءة أم في أي مجال، ولذلك فلم يكن منتظرا منها لهذا العهد غير الاتباع التام واقتفاء الآثار، فكان أكثر جهد علمائها وقرائها الوقوف على ما هو سائد من العلوم الشرعية في الأمصار ومحاولة استيعابه ونقله بكامل الأمانة إلى بلدانهم.
طلائع الرحلات العلمية نحو المشرق:
وفي هذا المضمار يمكن تصنيف طائفة كبيرة من الرحلات العلمية التي كانت النوافذ العلمية الأولى التي فتحها الرواد على البلاد الإسلامية المشرقية، وذلك بعد انصرام زمن الصحابة والتابعين أو ابتداء من أواخر هذا العهد. فلقد كان الكلف بالجديد يستهوي هؤلاء الرواد، وكان أكثر ما يستأثر باهتمامهم المجال الفقهي، إحساسا منهم بحاجة هذه المناطق بعد استتباب الأمن فيها وزيادة العمران إلى البث في كثير من القضايا العامة والطارئة وتقديم الفتاوى الشرعية للمشاكل والنوازل استنباطا من الكتاب العزيز والسنة المشرفة بعد تحصيل الوسائل وتكوين الملكات. وهكذا يمكن للمتتبع لتاريخ الحركة العلمية في المناطق المغربية أن يلاحظ أن الحافز الأكبر الذي كان يحرك الهمم في اتجاه المشرق إنما كان أحد أمرين:
- أحدهما أداء فريضة الحج والوقوف على المشاهد الإسلامية بالمدينة المنورة.
(1/112)
- وثانيهما لقاء المشيخة والاغتراف من المناهل العلمية الصافية المعتمدة.
ولقد كانت الرحلة في كثير من الأحيان تمضي على رسلها، فتتحقق للطالب المجد الغايتان معا، وتكون رحلة الحج مناسبة للإقامة بالحرمين الشريفين للتضلع من علوم الرواية، بالإضافة إلى عدول الطالب غالبا عن الطريق القاصد في الذهاب والأياب ليعرج على هذا البلد أو ذاك، وغرضه لقاء المشيخة والسماع من أكابر العلماء، وبذلك كان يجمع الغنم من طرفيه، فيعود من الرحلة الحجازية غالبا محملا بأوقار العلم والرواية.
ثم كان مما يزيد في إغراء الأقران بمثل هذه الرحلات الناجحة، أن الواحد من أهلها لا يكاد يشارف حدود بلده عائدا حتى يجد الأعناق مشرئبة والنفوس متعطشة إلى ما عنده من جديد، لاسيما فيما يخص الفقه المذهبي وقراءة القرآن الكريم، ومن هنا كان لا مناص من أن تفد على المناطق المغربية أصداء الحركة العلمية في المشرق، ثم يتطور الأمر إلى إقبال أبنائها على النهل من ينابيعها، ثم يعودون وقد امتلأت حواصلهم بما جمعوا من روايات وما نالوه من درجات في الفقه والحديث والقراءة وغير ذلك مما كان محور هذه الرحلات.
ثم ان المناطق المغربية كانت مسرحا لتعاقب مختلف المؤثرات عليها، وذلك بحكم اختلاف التبعية السياسية، فقد كانت أول الأمر تابعة في الولاية لبلاد مصر، ثم أصبحت لها إمارتها التابعة للشام ولدار الخلافة بها، إلى أن سقطت دولة بني أمية سنة 132 وانتقلت الخلافة إلى العباسيين بالعراق، فكان كل ذلك يصحب معه آثارا بليغة في التوجهات العامة والمذاهب السائدة واتجاهات الرحلة من الطرفين. وقد رأينا فيما قدمنا ولمسنا جوانب من تلك الآثار من الحجاز والشام ومصر يوم كانت افريقية ولاية شامية.
(1/113)
أما بعد تحول عاصمة الخلافة إلى العراق، فقد دخل في الاعتبار عامل جديد سيؤدي إلى تحول اتجاه الرحلة إلى هذه الآفاق، ويؤدي بالتالي إلى استجلاب مذاهبها في الفقه والقراءة وغير ذلك، بل يؤدي أيضا إلى تحول الناس بصفة عامة إلى اعتناق المذهب الفكري للدولة وتبني اتجاهها في كل شيء وذلك ما أدى إلى دخول هذه المذاهب إلى المناطق المغربية إما عن طريق الدولة والقضاء الرسمي، وإما عن طريق الرحلات العلمية إلى حواضر العراق البصرة والكوفة وواسط ثم بغداد وسامراء وغيرها من المراكز، الأمر الذي أدى بالتبع إلى دخول القراءات السائدة في هذه الأمصار ومحاولة هيمنتها على جمهرة القراء، لاسيما قراءة حمزة بن حبيب إمام أهل الكوفة وأحد القراء السبعة. ونحاول فيما يلي التعرف على المعابر التي عبرت منها هذه المؤثرات إلى افريقية وما إليها فيما يخص جانب القراءة في هذا الطور الذي كانت ما تزال تبحث فيه لنفسها عن قاعدة مشتركة تؤسس عليها مطامحها في اتجاه الوحدة المنشودة.
أثر المدارس العراقية في افريقية والقيروان، ودخول قراءة حمزة وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما
أدى انتقال قاعدة الخلافة من الشام إلى العراق بعد العقد الثالث من المائة الثانية إلى انتقال الاهتمام من الأفق الأول إلى الثاني، فأمسى اتجاه الرحلات العلمية تبعا لذلك خاضعا لهذا التحول الجديد، إذ غدا الولاة على المنطقة الافريقية والعاملون في ركابهم يختارون وينتدبون من دار الخلافة مباشرة، وأصبح على العاملين في الجهاز الرسمي بمن فيهم من أهل العلم يولون وجوههم نحو العراق، إما للقاء المسؤولين وإما للحصول على بعض الامتيازات من لدن الخلفاء ابتغاء الحظوة لديهم، وتعبيرا عن الولاء للدولة الجديدة .
(1/114)
ولقد كانت أخبار النهضة العلمية والعمرانية التي شهدتها حواضر العراق في المائة الثانية حافزا آخر من الحوافز التي كانت تحرك الهمم إلى ارتياد هذه الأمصار والجهات، للتعرف على علمائها والتفقه على فقهائها وعقد الصلات العلمية معهم، الأمر الذي كان ربما حفز طائفة من علماء العراق أيضا على الخروج إلى افريقية لنشر العلم والمعرفة وتبادل الرواية مع من بها من العلماء، وقد استفادت المنطقة استفادة جلى من هذه الحركة سنقف على مظاهر منها من خلال استعراض طائفة من تلك الاتصالات التي ظلت مستحكمة بين افريقية والحواضر العراقية ابتداء من قيام الدولة العباسية، ومرورا بنشوء إمارة بني الأغلب في افريقية والقيروان، إلى منتصف المائة الثالثة حين بدأ الصراع الحاد بين "المدرسة المدنية" وبين "المدرسة العراقية"، وهؤلاء أهم الشخصيات التي أثرت في هذا المضمار منذ بداية الاتصال:
1- عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وقد ترجمنا لوالده في التابعين، وقد ذكروا أن المترجم أول مولود ولد في الإسلام بعد فتح افريقية، وولي القضاء لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ثم لأبي جعفر المنصور، وطال زمن ولايته، ثم استعفى، وخرج إلى العراق ولقي أكابر العلماء والمحدثين، وأخذ عنه جمهور من أهل افريقية ومصر والعراق منهم سفيان الثوري (ت 161 هـ) وعبد الله بن لهيعة وعبد الله بن وهب وابن غانم والبهلول بن راشد وابن حسان والصمادحي وسواهم من الأعلام(1)ومن شعره يحن إلى القيروان حين طال به المقام ببغداد قبل أن يلي القضاء من قبل المنصور:
... ذكرت القيروان فهاج شوقي ... وأين القيروان من العراق
... مسيرة أشهر للعيس نصا ... وللخيل المضمرة العتاق(2)
2- البهلول بن راشد الحجري الرعيني مولى لهم العالم الزاهد العابد
__________
(1) - سيأتي ذكر هؤلاء الأعلام في أماكن مختلفة من هذا الفصل وغيره.
(2) - معالم الإيمان 1/232- ورياض النفوس 1/156 ترجمة 67 وشجرة النور الزكية61-62.
(1/115)
ولد سنة 128 هـ، وتلقى العلم بالقيروان، وسمع من عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وموسى بن علي بن رباح وغيرهما .. وكان له مسجد خاص يقرئ فيه، وقد تقدم ذكر زيارة هرثمة بن أعين له في موكبه، وقد "أهدى إليه مزودا مليئا بالدراهم فأبى قبولها"(1).
وكان أخذه للقراءة عن قارئ من القيروان سبق أن ذكرناه في المعلمين هو مسافر بن سنان الواعظ(2)ولقد حدث يحيى بن زكرياء بن الحكم عن أبيه(3)قال:
"قلت للبهلول بن راشد يا أبا عمرو، أرأيت هذه القراءة التي تقرأ عندك أشيء رويته عن السلف فنرويه عنك، أم شيء رأيته؟ فقال لي: ما أخذته عن أحد(4)، إلا أني كنت عند معلمي أخيط وكان يرسلني فأمر على مسافر بن سنان في المسجد الجامع ـ وهو يذكر الناس ـ وقوم من القراء يقرأون، فأقف عليه وأستحلي سماع ذلك، فأبطئ على معلمي، فحاسبت نفسي وقلت لا يسوغ لي هذا ولا يسعني ذلك لأني مستأجر، فكنت آخذ من معلمي "طريحة" أعملها بأجرة معلومة.. فإذا فرغت منها مضيت إلى مجلس مسافر، فأسمع ما يجري في مجلسه من المواعظ والذكر فانتفعت بذلك، وبقيت حلاوة تلك المجالس في قلبي ومنفعتها إلى الآن، ـ قال البهلول ـ وهؤلاء القراء إن أتوني سمعت قراءتهم، وإن غابوا لم أرسل وراءهم"(5).
__________
(1) - ترتيب المدارك 3/94-95.
(2) - ترجمته في رياض النفوس 1/199 ترجمة 85.
(3) - هو زكرياء بن الحكم أبو يحيى اللخمي، كان من أهل العلم سمع من مالك وحيوة بن شريح.. له ترجمة في ترتيب المدارك 3/324 ورياض النفوس 1/238 ترجمة 92 – ومعالم الإيمان 2/68-69.
(4) - لعله يعني أنه أخذ ذلك سماعا دون عرض.
(5) - رياض النفوس 1/199-200.
(1/116)
ومن دلالة هذا الخبر نستفيد أن البهلول كان يقرأ بقراءة خاصة كانت تؤخذ عنه، ويعرضها عليه أصحابه وذلك معنى قوله: "وهؤلاء القراء إن أتوني سمعت قراءتهم" فهو سماع عرض على سبيل الإجازة للقارئ ولهذا أراد السائل التثبت منه كما يدل على ذلك قوله للشيخ: "أشيء رويته عن السلف فنرويه عنك؟" إلا أن هذه الحال ربما كانت قبل رحلة البهلول إلى المشرق حيث اتسعت روايته وغدا معدودا في أعلام رواة العلم بافريقية، فقد رحل إلى العراق كما رحل إلى الحجاز، وسمع من مالك والليث بن سعد وسفيان الثوري وغيرهم(1). وسمع منه سحنون وعون بن يوسف وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وتوفي سنة 183"(2).
3- علي بن زياد
ومنهم أبو الحسن علي بن زياد العبسي التونسي، ولد بطرابلس وانتقل إلى تونس فسكنها، سمع العلم بافريقية من خالد بن أبي عمران وغيره، ورحل إلى المشرق فسمع من مالك وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن لهيعة(3)وغيرهم، ولم يكن في عصره بافريقية مثله"(4).
قال أبو سعيد بن يونس:
"هو أول من أدخل الموطأ وجامع سفيان إلى المغرب، وفسر لهم قول مالك ولم يكونوا يعرفونه، وكان قد دخل الحجاز والعراق في طلب العلم، وهو معلم سحنون الفقه"(5).
__________
(1) - رياض النفوس 1/200- 214.
(2) - ترجمته في الرياض 1/214 - ترجمة 86 وترتيب المدارك 87-98- وشجرة النور 60 طبقة 6.
(3) - هو عبد الله بن لهيعة المصري سيأتي.
(4) - شجرة النورالزكية لابن مخلوف 60 الطبقة 5 ترجمة 33.
(5) - نقله عياض في ترتيب المدارك 3/80.
(1/117)
ولا يبعد أن يكون لابن زياد أثر أيضا في التعرف على بعض قراءات الأمصار واجتلابها، لاسيما وقد قرأ على سفيان الثوري أحد أكابر رواة القراءة عن حمزة(1). وقد ذكر من نجباء تلاميذه سحنون والبهلول ابن راشد وأسد بن الفرات وشجرة(2)، ومات ابن زياد في سنة 183 هـ، وهي سنة وفاة البهلول(3).
4- ابن أبي حسان (40-126 هـ)
ومن رواد المدارس العراقية من أهل افريقية أبو محمد عبد الله بن أبي حسان اليحصبي من أشراف العرب الداخلين إلى افريقية. رحل إلى الحجاز والعراق فأخذ عن مالك وابن أبي ذئب(4)وابن عيينة(5)وغيرهم، وأخذ اللغة عن سيبويه والكسائي، وروى عنه سحنون بن سعيد ومحمد بن وضاح القرطبي وجماعة(6).
__________
(1) - روى القراءة عرضا عن حمزة وروى عن عاصم والأعمش حروفا. توفي سنة 161 هـ. غاية النهاية 1/308 – ترجمة 1358.
(2) - هو شجرة بن عيسى المعافري، ولي قضاء تونس أيام سحنون (169-262 هـ) ترتيب المدارك 4/101-102.
(3) - ترتيب المدارك 3/84 ورياض النفوس 1/234-237 ترجمة 91.
(4) - هو عبد الرحمن بن المغيرة القرشي من فقهاء المدينة المعتبرين في زمن مالك، مات بالكوفة سنة 159 هـ ترجمته في طبقات الفقهاء للشيرازي 67.
(5) - هو سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي المكي الإمام المحدث (107-198) عرض القرآن على حميد بن قيس المكي وعبد الله بن كثير. ترجم له ابن الجزري في غاية النهاية. 1/308 ترجمة 1358.
(6) - ترتيب المدارك 3/310-315 وشجرة النور 63 الطبقة 5 ترجمة 41.
(1/118)
ومن المحتمل أنه قرأ على جماعة ممن سمينا، لاسيما سيبويه الذي كان أحد رواة قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري ـ أحد السبعة ـ(1)أو الكسائي علي بن حمزة ـ أحد السبعة أيضا ـ، كما لا نستبعد أيضا أن يكون قد سمع القراءة بالمدينة من نافع أو غيره من المتصدرين بها، إذ تدل روايته عن ابن أبي ذئب المتوفى سنة 159 هـ على أن رحلته إلى المدينة كانت في زمن تصدر نافع بالحرم النبوي لتأخر وفاة نافع إلى سنة 169 هـ.
5- أسد بن الفرات
__________
(1) - سيبويه هو عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي البصري (ت 180 هـ) له رواية عن أبي عمرو بن العلاء رواها له أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل في القراءات، وذكر ابن الجزري في ترجمة عمرو بن سعيد أنه روى قراءة أبي عمرو من رواية يونس بن حبيب وسيبويه من طريق نحوية غريبة .. "غاية النهاية" 1/601 ترجمة 2452.
(1/119)
ومن هذا الرعيل ممن شدوا الرحال في طلب العلم إلى العراق أسد بن الفرات بن سنان القاضي الفقيه، قدم أبوه افريقية به سنة 144 هـ، وتعلم بالقيروان، وكان بعد ذلك يعلم القرآن في بعض القرى(1)، ثم أخذ يختلف إلى علي بن زياد بتونس، ولزمه حتى تعلم منه، وتفقه بفقهه، ثم رحل إلى المشرق فسمع من مالك بن أنس موطأ وغيره، ثم ذهب إلى العراق، فلقي أبا يوسف(2)ومحمد بن الحسن(3)وأسد بن عمرو(4)وكتب عن يحيى بن أبي زائدة(5)وهشيم(6)وأبي بكر بن عياش(7)وغيرهم، وأخذ عنه أبو يوسف موطأ مالك"(8).
__________
(1) - تقدم أنه كان يعلم في كتاب بوادي بجردة بتونس، ينظر ترتيب المدارك 3/391 ورياض النفوس 1/254.
(2) - هو يعقوب بن إبراهيم قاضي قضاة بغداد في زمن الرشيد (ت 182 هـ). طبقات ابن سعد 7/330-331. وطبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي 134.
(3) - من أصحاب أبي حنيفة تفقه عليه وعلى صاحبه أبي يوسف القاضي (ت 187 هـ). طبقات الشيرازي 135.
(4) - أسد بن عمرو بن عامر البجلي الكوفي من أصحاب أبي حنيفة (ت 190 هـ). لسان الميزان لابن حجر1/383.
(5) - هو يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة الكوفي الحافظ (ت 183 هـ). خلاصة التهذيب للخزرجي 423.
(6) - هشيم بن بشير الواسطي نزيل بغداد توفي بها في شعبان سنة 183 هـ. طبقات ابن سعد 7/325.
(7) - هو شعبة بن عياش أحد الرواة المشهورين في قراءة عاصم، تقدم التعريف به.
(8) - ترتيب المدارك 3/291.
(1/120)
ومن النظر في مشيخته يتجلى مقدار اهتمامه بلقاء الأئمة المعتمدين في الرواية، ولا أستبعد أن يكون في خلال وجوده الطويل بالحجاز والعراق قد تلقى القراءة من جملة ما تلقاه، إلا أن اهتمام المؤرخين قد انصرف إلى ذكر الجانب الذي يهمهم أو الجانب الذي غلب عليه، لاسيما وهو يروي عن أبي بكر بن عياش راوية عاصم بن أبي النجود قارئ الكوفة وإمامها. وربما دل على منزلة أسد في القراءة وصية كل من مالك وابن القاسم(1)له، فقد قال له مالك ـ وهو يودعه ـ: "أوصيك بتقوى الله العظيم والقرآن ومناصحة هذه الأمة خيرا... ـ قال أسد ـ "وما ودعت ابن القاسم قط إلا وقال لي: "أوصيك بتقوى الله والقرآن ونشر العلم"(2).
وتصف لنا قولة منسوبة إليه مدى إقبال الناس يومئذ على مذاهب أهل العراق، فقد قال عبد الرحيم الزاهد: "قلت لأسد لما قدم علينا بكتب أهل المدينة وأهل العراق: أي القولين تأمرني أتبع وأسمع منك؟ فقال لي: "إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بقول مالك، وإن أردت الدنيا فعليك بقول أهل العراق"(3).
وقد ولي أسد القضاء بالقيروان زمانا لزيادة الله بن الأغلب(4)، ثم ولاه على الجيش الخارج لغزو صقلية فكان فتحها على يده، وتوفي وهو محاصر سرقسطة أعظم مدنها سنة 213 هـ وقيل 214 أو 217، وقبره ومسجده بصقلية، وكان قدومه من المشرق سنة 181 هـ(5).
6- عبد الله بن غانم الرعيني
__________
(1) - هو عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب الإمام مالك وأحد مشاهير رواة مذهبه بمصر سيأتي في الرواة عن نافع.
(2) - ترتيب المدارك 3/292-293.
(3) - نفسه 3/306.
(4) - ولي زيادة الله افريقية سنة ثلاث أو أربع ومائتين – رياض النفوس 1/255- وترتيب المدارك 3/304.
(5) -ترتيب المدارك3/309 – رياض النفوس 1/255-273 ترجمة 104 – شجرة النور الزكية 62.
(1/121)
ومن أعلام أصحاب الرحلة العلمية في المائة الثانية من الأفارقة عبد الله بن غانم بن شراحيل الرعيني القيرواني قاضي افريقية وصاحب مالك بن أنس، روى عن مالك وعليه اعتماده، ودخل العراق فروى بها عن سفيان وجماعة يطول ذكرهم، ولقي أبا يوسف صاحب أبي حنيفة، وكانت رحلته وسماعه من سفيان هو وصاحباه عبد الله بن فروخ الفارسي والبهلول بن راشد في وقت واحد، وكان ابن غانم يتولى القراءة حين السماع عليه. ولما عاد من رحلته ولي القضاء سنة 171 هـ وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، وبقي في القضاء إلى أن مات في ربيع الآخر سنة 190 هـ وقيل 196.(1)
7- عبد الله بن فروخ الفارسي
ومنهم أبو محمد عبد الله بن فروخ الفارسي الفقيه المحدث من أعلام علماء افريقية. رحل إلى المشرق فدخل الحجاز والعراق، وسمع من مالك وسفيان الثوري وابن جريح والأعمش واجتمع بأبي حنيفة وذاكره. وناظر زفر بن الحارث صاحب أبي حنيفة في مجلس شيخه حتى قطعه، وذكر عياض أنه "كان اعتماده في الفقه والحديث على مالك وبصحبته اشتهر". وذكر المالكي أنه رجع من رحلته إلى إفريقية فأوطنها، وأقام بها يعلم الناس العلم ويحدثهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفع به كثير، ثم رحل إلى المشرق فوصل إلى مصر، ثم تمادى إلى مكة فحج ورجع إلى مصر فتوفي بها ودفن بسفح المقطم سنة 176 هـ، وكانت لوفاته بمصر فجعة عظيمة في قلوب أهل العلم، وقالوا: طمعنا أن يكون خلفا لنا من الليث(2)" "(3).
8- عنبسة بن خارجة الغافقي
__________
(1) - ترتيب المدارك 3/65-79 – ورياض النفوس 1/215-229 ترجمة 87- وشجرة النور 62.
(2) - توفي الليث سنة 175 هـ، وسيأتي في الرواة عن نافع.
(3) - ترتيب المدارك 3/104 – ورياض النفوس 1/178.
(1/122)
ومنهم أبو خارجة عنبسة الغافقي الإمام المحدث. رحل من القيروان فدخل العراق والحجاز ومصر وسمع من الليث بن سعد ومالك بن أنس وعبد الله بن وهب وسفيان الثوري وابن عيينة وجماعة من أهل المدينة، وعاد إلى بلده، وكان مقامه في حصن على البحر يقال له " ينقة" في ناحية سفاقس في الغربي منها، سمع منه أبو داود العطار(1)وروى عنه عون بن يوسف(2)وجماعة، وكان سحنون يجله، توفي سنة 210 وقيل 220 هـ(3).
9- معاوية الصمادحي
ومنهم أبو عون معاوية بن الفضل الصمادحي الإمام الثقة العالم بالفقه والحديث. سمع من أبيه وابن أنعم، ودخل العراق والحجاز فسمع من سفيان الثوري ووكيع بن الجراح(4)والفضيل بن عياش وقيل روى عن مالك، وسمع ابن القاسم وغيره من أصحابه، وعنه أخذ فرات(5)وعامة فقهاء افريقية وابن وضاح القرطبي وأحمد بن يزيد القرطبي(6)، وكان كثير المرابطة في "المنستير" وكانت له كل يوم ختمة، مات سنة 225 هـ(7).
أثر علماء الكوفة وقرائهم في إفريقية والقيروان:
__________
(1) - هو أحمد بن موسى بن جرير الأزدي العطار من أصحاب يحيى بن سلام في رواية التفسير سيأتي عن قريب.
(2) - هو عون بن يوسف الخزاعي أبو محمد من أهل القيروان له رحلة إلى المدينة بعد موت مالك. ترتيب المدارك 4/89.
(3) - ترجمته في رياض النفوس 1/241-247 ترجمة 96 وشجرة النور 2-63 الطبقة 5 ترجمة 40.
(4) - وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي (ت 196 هـ) الخلاصة للخزرجي 415 وطبقات المفسرين للداودي 2/357.
(5) - هو فرات بن محمد العبدي من أصحاب سحنون. ترجمته في شجرة النور 72 الطبقة 6 ترجمة 89.
(6) - سيأتي في أصحاب ابن وضاح.
(7) - ترجمته في معالم الإيمان 1/317-319- وترتيب المدارك 4/95 ورياض النفوس 1/231- ترجمة 89.
(1/123)
من هذه التراجم وأمثالها مما لم أر داعيا للإطالة به نستطيع أن نتبين إلى أي حد كان الإقبال على الأخذ عن أئمة العراق لهذا العهد وعن أهل الكوفة على الخصوص كالأعمش وسفيان وأبي بكر بن عياش، وهم جميعا في عداد القراء، ومن ذلك يتضح ما كان للكوفة بوجه خاص من تأثير جلي على المسار العلمي بافريقية، ولا شك أن دواعي تأثر هؤلاء العلماء بنوع القراءة السائدة بها متوافرة في هذا الطور الذي هو طور الاختيار بين القراءات المأثورة قبل أن تستقر المنطقة الافريقية على قراءة جامعة، إلا أن القراءة التي كانت مرشحة يومئذ لأن تحظى باهتمامهم وإقبالهم هي التي عليها جمهرة القراء بالكوفة، وقد قدمنا في نص أبي عبيد القاسم ابن سلام أن رؤساء الكوفة في هذا الشأن كانوا ثلاثة هم يحيى بن وثاب ثم الأعمش وعاصم بن أبي النجود قال: ثم تلاهم حمزة رابعا، وهو الذي صار عظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن يطبق عليه جماعتهم" ثم قال: "وأما الكسائي فإنه كان يتخير القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا".
وهكذا نلاحظ أن المدار كان يومئذ على قراءة حمزة، وفي هذا يقول أبو بكر بن مجاهد أول من سبع السبعة وجعل حمزة معهم ـ: "وكان ممن تجرد للقراءة ونصب نفسه لها، وكان ينحو نحو أصحاب عبد الله(1)، لأن قراءة عبد الله انتهت بالكوفة إلى الأعمش، وكان حمزة قد قرأ على الأعمش بها"(2).
ثم أسند ابن مجاهد عن محمد بن الهيثم(3)المقرئ (ت 249هـ) قوله: "أدركت الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة، ولا أعلمني أدركت حلقة من حلق المسجد يقرأون بقراءة عاصم"(4).
__________
(1) - يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) - كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد 71-72.
(3) - مقرئ ضابط في قراءة حمزة ولي قضاء عكبرة. ترجمته في غاية النهاية 2/274.
(4) - كتاب السبعة 76.
(1/124)
وهذا يدل إذن على أن أكثر حلقات الإقراء في المسجد الجامع بالكوفة كانت خالصة لقراءة حمزة لا يكاد يزاحمها عليها شيء من القراءات الأخرى وهو ما يساعدنا على تمثل مدى تعرض أصحاب الرحلات العلمية إليها لسماع قراءة حمزة والرغبة في تحصيل حروفها والدخول بها عند العودة إلى المنطقة، وإن كانت كتب التراجم التي بين أيدينا لا تكاد تصرح بشيء في هذا المجال، إلا أن طبيعة الأحداث تقتضي مثل هذا التأثر والتصرف، إذ ليس بالأمر المعتاد أن يقيم طالب العلم في بلد يجد بين قراءة أهله وبين قراءته نحو الفوارق التي بين قراءة حمزة وبين قراءة غيره دون أن يحفزه ذلك على محاولة رصد هذا الخلاف ورواية أصوله وحروفه. وبهذا نقول بكل اطمئنان عن تعرف افريقية والمناطق التابعة لها على قراءة حمزة وتمكنها فيها واحتوائها على جمهرة القارئين وهيمنتها على المتعلمين تبعا لذلك، على نحو ما تم لها ذلك في مصرها، وبين أيدينا من كتب التراجم إشارة واحدة نعتبرها كافية في هذا الصدد لأهميتها، وهي إشارة جاءت عند الإمام ابن الفرضي في سياق حديثه عن أحد أعلام القراء الأندلسيين الذين دخلوا بقراءة نافع إلى افريقية، وهو محمد بن خيرون المقرئ، فقد ذكر أنه "قدم بقراءة نافع على أهل افريقية، وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة.."(1).
ومصدر غلبة هذه القراءة في هذا الطور إذن واضح، ويمكن إجماله في جملة أمور:
أ ـ كثرة الرحلات العلمية إلى العراق.
ب ـ تبني الدولة الأغلبية بافريقية لمذهب أبي حنيفة في الفقه تبعا لدار الخلافة ببغداد.
ج ـ أثر بعض الشخصيات التي وليت القضاء في نشر مذاهب الكوفيين ومن أهمها أسد بن الفرات.
د ـ دخول جماعة من علماء الكوفة إلى افريقية وتولي بعضهم مراكز مهمة كالقضاء وغيره من شؤون الدولة.
__________
(1) - تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/799 ترجمة 1393. ومثله في غاية النهاية 2/217 ترجمة 3314.
(1/125)
فقد دخلها جماعة منهم عبد الله بن المغيرة الكوفي الذي "سمع من سفيان ومن كبار الكوفيين"(1)ودخلها أبو سليمان النحوي صاحب محمد بن يحيى المعروف بالكسائي الصغير(2)الذي ناظره محمد بن سحنون(3). هذا بالإضافة إلى جماعة كبيرة من علماء العصر بها ممن كانوا ينتسبون لأهل العراق نسبا أو مذهبا، أذكر منهم الشخصيات التالية:
- محمد بن زرزور الفقيه الفارسي "وكان على مذهب أبي حنيفة، وكان حافظا لبيبا (ت291 هـ)(4).
- محمد بن المنيب الأزدي الفقيه وكان يذهب مذهب أهل العراق، عرض عليه القضاء فلم يقبله (ت 293 هـ)(5).
- وأبو عقال بن خير الفقيه، وكان يذهب مذهب أهل العراق، وكتب للقاضي ابن عبدون في أيامه (ت 296 هـ)(6).
- ومحمد بن محمد بن الفرج البغدادي مولى بني هاشم، وكانت له عناية وطلب (ت 290 هـ)(7).
- وزيدان بن إسماعيل الأزدي .. وكان من الثقات في العلم (ت 293 هـ)(8).
- ومحمد بن أبي الهيثم اللؤلؤي الفقيه (ت 294 هـ)(9).
- وسليمان بن حفص الفراء، وكان جهميا يقول بخلق القرآن ويدعو إليه الناس، (ت 296 هـ)(10).
- وأحمد بن محمد بن سيرين الفقيه بمذهب أهل العراق، ولي قضاء برقة للعبيديين(11).
- ومحمد الكلاعي وكان هو وأصحابه على مذهب أهل العراق، وكانوا يعادون حملة الفقه المالكي ويسعون بهم(12).
__________
(1) - طبقات علماء افريقية لأبي العرب 161-162.
(2) - من كبار أساتذة ابن مجاهد البغدادي (189-288). ترجمته في غاية النهاية 2/3535.
(3) - رياض النفوس 1/449.
(4) - البيان المغرب1/36.
(5) - نفسه 1/142 ورياض النفوس 1/463 ترجمة 150.
(6) - ترجمة ابن عبدون في البيان المغرب 1/121 وكذا 1/121.
(7) - البيان المغرب 1/136.
(8) - نفسه 1/142.
(9) - نفسه 1/144.
(10) - نفسه 1/119.
(11) - 1/153.
(12) -1/154-155
(1/126)
- وعبد الله بن محمد بن سعيد بن الأشج، وهو فقيه قيرواني عراقي المذهب كان يحتال في تسويغ الربا للصارفة والتجار (ت 286 هـ)(1).
- وأحمد بن يحيى بن طيب المتطبب الفقيه بقول أهل العراق مات مقتولا بمدينة رقادة (ت 297 هـ)(2).
- وأبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني البغدادي المعروف بالرياضي صاحب المؤلفات الحسان في فنون من العلم منها كتاب في القرآن سماه "سراج الهدى" (ت 298 هـ)(3).
- وخلف بن معمر بن منصور من الفقهاء العراقيين (ت 303 هـ)(4).
- ومحمد بن موسى التميمي من شيوخ العراقيين (ت 307 هـ)(5).
- وأحمد بن عبد ارحمن اللخمي من الفقهاء العراقيين (ت 308 هـ).
- وأحمد بن عبدون بن وهب من العراقيين (ت 308 هـ)(6).
- وأحمد بن مسعود المعروف بـ"دلك"، رحل إلى العراق وجلس إلى داود الظاهري ( ت 270 هـ)(7).
فهؤلاء نحو عشرين شخصية تنحصر وفياتهم بين أواخر العقد التاسع من المائة الثالثة وبين العقد الأول من الرابعة، وقد وقع التنبيه على انتمائهم في الاتجاه الفقهي أو الفكري بوجه عام إلى مذاهب أهل العراق، وذلك معناه كما أسلفنا سيادة تلك المذاهب في الجملة واستئثارها بالسواد الأعظم من العاملين في ركاب الدولة، ومن شأن القراءة والإمامة والتعليم والتوجيه أن تكون تابعة لذلك، ومعنى ذلك أيضا دخول ابن خيرون المقرئ بقراءة نافع إلى وسط علمي درج القراء فيه على قراءة حمزة وحدها، "ولم يكن يقرأ لنافع إلا خواص من الناس"(8). فكان بذلك رائدها الكبير في افريقية بالقيروان كما سيمر بنا.
__________
(1) - معالم الإيمان 2/332.
(2) - البيان المغرب 1/161.
(3) - البيان المغرب 1/162.
(4) - نفسه 1/173.
(5) - نفسه 1/183.
(6) - نفس المصدر والصفحة.
(7) - رياض النفوس 1/454 في ترجمة ابن سحنون.
(8) - غاية النهاية 2/217 ترجمة 3314.
(1/127)
ذلك ما يتعلق بقراءة حمزة في افريقية انطلاقا من شيوع الأخذ بمذاهب العراقيين السائدة في الكوفة، فهل كان لمذاهب العراقيين في البصرة مثل ذلك بحكم المنافسة التي كانت معروفة بين المصرين؟.
أثر المدرسة البصرية:
لا نستبعد أن يكون لها نصيب من التأثير، إلا أنه ليس في قوة الأثر الذي للكوفة وعلمائها، وربما كان بعض ذلك راجعا إلى ميل الدراسات في البصرة إلى نوع من التخصص في مباحث النحو واللغة والرواية الأدبية، ومع هذا فقد وصل إلى افريقية شيء من التأثير العلمي في مجال القراءة يمكن ملاحظته من خلال النظر في مستويات الأعلام الذين دخلوها من مدينة البصرة ونشروا فيها مذاهبهم وتركوا آثارهم ماثلة في بعض ما خلفوا من أعمال. ومن أولئك الأعلام نذكر على سبيل المثال:
1- يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة أبو زكرياء التيمي البصري الإمام المفسر (124-200 هـ)
كان يحيى أحد أعلام رواة العلم بالبصرة، وكان يقول: "أحصيت بقلبي من لقيت من العلماء فعددت ثلاثمائة وثلاثة وستين عالما سوى التابعين وهم أربعة وعشرون، وامرأة تحدث عن عائشة رضي الله عنها"(1).
__________
(1) - رياض النفوس 1/188.
(1/128)
وأما شيوخه في القراءة خاصة فيمكن استفادتهم مما ذكره ابن الجزري في ترجمته في قوله: "روى الحروف عن أصحاب الحسن البصري(1)عن الحسن بن دينار(2)وغيره، وله اختيار في القراءة من طريق الآثار ... نزل المغرب وسكن افريقية دهرا، وسمع الناس بها كتابه في تفسير القرآن، وليس لأحد من المتقدمين مثله، وكتابه "الجامع"، وكان ثقة ثبتا ذا علم بالكتاب والسنة ومعرفة اللغة والعربية، وصاحب سنة، وسمع منه بمصر عبد الله بن وهب ومثله من الأئمة، توفي في صفر سنة 200 هـ"(3).
ويهمنا مما ذكر ابن الجزري بالنسبة لموضوعنا العناصر التالية:
1- أنه كان صاحب اختيار في القراءة من طريق الآثار، بمعنى أنه كان ينتمي إلى الطور الثاني من أطوار القراءة طور الاختيار بين القراءات دون التزام قراءة قارئ معين من السبعة أو العشرة أو غيرهم.
2- أنه أقام بافريقية دهرا بحيث يمكن أن يأخذ اختياره هذا طريقه إلى الرواية عند أهلها.
3- أنه ألف كتابا في التفسير ضمنه اختياره في القراءة في الغالب، ورواه عنه جمهور من رواة العلم(4).
__________
(1) - هو الحسن بن يسار إمام أهل البصرة في زمنه وأحد القراء الأربعة الزائدين على العشرة (ت 110 هـ) ترجمته في كتاب مشاهير علماء الأمصار88 ترجمة 642. وغاية النهاية 1/235 ترجمة 1074.
(2) - هو الحسن بن واصل التميمي أبو سعيد المعروف بابن دينار البصري. ترجمته في تهذيب التهذيب 2/275.
(3) - غاية النهاية 2/373 ترجمة 3848.
(4) - يمكن الرجوع في معرفة نوع الاختيار الذي كان يختاره في القراءة في تفسيره والذي كان يشير إليه في التفسير بعبارة "والذي في مصحفنا" – إلى كتاب التفسير ورجاله لابن عاشور ص 28. وما يزال تفسيره إلى اليوم معروفا تحتفظ بمخطوطة له عتيقة جدا مكتبة جامع الزيتونة بتونس تحت عدد 1/44-46 حسب ما جاء عند بروكلمان في تاريخ الأدب العربي 4/10 طبعة دار المعارف بمصر تعريب الدكتور عبد الحليم النجار.
(1/129)
فمن الرواة عنه ولده محمد بن يحيى، وطريقه عنه هي إحدى أهم الطرق التي روي بها تفسيره في افريقية والأندلس معا(1)، منهم أبو داود أحمد بن موسى العطار (ت 212 هـ)، وهو أشهر الرواة عنه، ومن طريقه روي عنه التفسير المذكور في إحدى طرقه المشهورة(2). ومنهم أبو عبد الله إسماعيل بن رباح الجزري (ت 212 هـ)(3). وأبو سنان زيد بن سنان (ت 244 هـ)(4)، ومحمد بن قادم(5)، وأبو الربيع اللحياني(6)وعبد الله ابن محمد بن علي أبو جعفر الدغشي(7)، وعون بن يوسف الخزاعي(8). وسواهم من أعلام القيروان.
ولا شك أن الرواة عن ابن سلام كانوا أوفر عددا مما ذكرنا، نظرا لشهرته ومكانته في العلم وعلو أسانيده في القراءة وغيرها.
وقد دخل افريقية قارئ آخر من مدينة البصرة ومن تلامذة الحسن البصري أيضا، وهو:
2- عباد بن عبد الصمد أبو معمر البصري(9)
كان يعد في جملة التابعين على اختلاف في ذلك(10)، وذكر أبو العرب أنه كان يروي عن أنس بن مالك وعليه يعتمد، وعن عبد الرحمن بن غنم(11)"(12). قال المالكي في الرياض:
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى إحدى رواياتها الأندلسية عند ابن خير في فهرسة ما روى عن شيوخه 56-57.
(2) - ترجمته في معالم الإيمان 2/158-159 وترتيب المدارك 4/395-396 وروايته عند ابن خير – فهرسة 57.
(3) - معالم الإيمان 1/145 - ورياض النفوس 1/333-334 .
(4) - معالم الإيمان 1/1/223-2/108.
(5) - طبقات علماء افريقية لأبي العرب 199
(6) - طبقات علماء افريقية 210-212.
(7) - المصدر نفسه 196-197.
(8) - روايته عنه في رياض النفوس 1/191.
(9) - ترجم له ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل 3/82.
(10) - رياض النفوس 1/138 ترجمة 56.
(11) - هو عبد الرحمن بن غنم الأشعري بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقه الناس كما في طبقات ابن سعد 7/441.
(12) - ذكر بعض روايته عن أنس في طبقات علماء افريقية ص 11.
(1/130)
"وروى عنه كامل بن طلحة ويحيى بن سليمان الحفري(1)، وكان أصله من البصرة، سكن القيروان وأوطنها وروى عنه بعض أهلها، ثم خرج إلى "قصطيلية"(2)وأوطنها وأقام بها، وتوفي بها، وكان يروي عن غير واحد من التابعين منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وعطاء بن أبي رباح"(3).
ومن الطريف أن يحيى بن سلام كان يتهمه في روايته عن أنس وغيره ويطعن عليه في روايته(4).
ومن الرواة عنه من أهل افريقية عبد الرحمن بن حريز(5)، وأبو الحجاج رباح بن ثابت الأزدي(6)، وأبو يحيى مقسم بن عبيد الله الأزدي(7).
ومن المحتمل جدا أن أصحابه أخذوا عنه فيما اخذوا بعض ما كان يرويه في حروف القراءة إن لم يكونوا قد أخذوا عنه قراءة الحسن البصري أو غيره من قراء البصرة المشهورين كأبي عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري.
3- عبد الله بن يزيد القصير
__________
(1) - كامل بن طلحة من الغرب الداخلين إلى افريقية ومن المحدثين – طبقات علماء افريقية 83.
أما الحفري فهو أبو زكرياء يحيى بن سليمان الخراز كان عالما فرضيا (134-237). طبقات علماء افريقية 90.
(2) - مدينة كبيرة قديمة من بلاد الجريد وهي أكثرها نخيلا وتمرا – كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار 155 4.
(3) - رياض النفوس 1/138 ترجمة 56.
(4) -المصدر نفسه 1/138
(5) - نفس المصدر والصفحة.
(6) - رياض النفوس 1/283.
(7) - نفس المصدر 1/295.
(1/131)
ومن الشخصيات التي لها صلة بالبصرة من الوافدين على المنطقة عبد الله بن يزيد أبو عبد الله القرشي المقرئ المعروف بالقصير البصري ثم المكي، وهو "إمام كبير في الحديث ومشهور في القراءات، لقن القرآن سبعين سنة، ثقة روى الحروف عن نافع وعن البصريين، وله اختيار في القراءة، روى عنه ابنه محمد شيخ أبي بكر الأصبهاني(1)، قال النقاش: كان بعد أبي عمرو في البصرة يقرئ أبو عبد الله القصير، مات في رجب سنة 213 هـ"(2).
والذي يهمنا منه إلى جانب ما ذكر له من مكانة في القراءات ما ذكر أبو العرب من دخوله افريقية سنة 156 هـ وكيلا لرجل من التجار(3)، وظهر أنه كان كثير التنقل للتجارة، فقد روى المالكي عنه قوله: "رأيت أربعة ما رأيت في الدنيا مثلهم: رأيت ابن عون(4)في البصرة فما رأيت مثله، ورأيت سفيان الثوري في الكوفة فما رأيت مثله، ورأيت رباح بن يزيد(5)بافريقية فما رأيت مثله، ورأيت الأوزاعي بالشام فما رأيت مثله"(6). وينبغي أن ننبه هنا على إمكان إسهام أبي عبد الله القصير في تعريف الأفارقة أيضا بقراءة نافع، لأنه أحد الرواة عنه كما قدمنا، فيكون له تبعا لذلك أثره في اتساع رواية القراءات بالمنطقة. وبذلك تكون قد تعرفت على أكثر القراءات المأثورة، وبالأخص على قراءات السبعة أئمة الأمصار الخمسة الكبرى.
__________
(1) - هو محمد بن عبد الرحيم يروي رواية ورش عن أصحابه وأصحاب أصحابه وسيأتي في مدرسة ورش بمصر.
(2) - غاية النهاية 1/463-464 ترجمة 1931.
(3) - طبقات علماء افريقية 163.
(4) - هو عبد الله بن عون المزني أبو عون الخراز البصري يروي عن عطاء ومجاهد والحسن (ت 161) – الخلاصة 209.
(5) - ترجمته بتوسع في رياض النفوس 1/300-312.
(6) - ريا ض النفوس 1/301.
(1/132)
وهذا ما تؤكده بعض المصاحف الأثرية الباقية التي احتفظت بها مكتبة القيروان العتيقة – كما تحدثت عنها بعض الدراسات الحديثة ـ، فهذه المصاحف منقوطة بوجه عام على طريقة أبي الأسود الدؤلي ـ أي: بواسطة الشكل المدور(1)لا بالحركات كما أنها تختلف من مصحف إلى آخر بين الأمصار في النقط(2). على اللون الأحمر على طريقة أهل العراق(3)وبين إدخال لون ثان لنقط الكلمة بقراءة ثانية على طريقة طوائف من أهل الكوفة والبصرة(4)أيضا"(5). وفي بعض المصاحف ـ وهو مصحف محبس على يد القاضي عبد الله ابن هاشم(6)بتاريخ 363 هـ ـ أضيف لون ثالث للونين السابقين، بحيث استعمل اللون الأحمر للقراءة الأصلية، واللون الأخضر للقراءة الثانية، وأضيف اللون الأزرق لقراءة ثالثة"(7).
ظاهرة التعدد والسعي نحو توحيد القراءة:
__________
(1) - هو الشكل باستعمال النقط فوق الحرف أو تحته أو بين يديه – كما سيأتي- ويمكن الرجوع لصفته في المحكم للداني 22.
(2) - النقط يعني الشكل على النمط الذي ابتكره أبو الأسود بالبصرة.
(3) - المحكم للداني 20.
(4) - المحكم 20
(5) - القراءات بافريقية لهند شلبي 191.
(6) - ترجم له في معالم الإيمان 3/80-81. ومحبس المصحف علي بن أحمد الحيان- أو الحنان- على جامع القيروان على يد القاضي المذكور – القراءات بافريقية: ص 3
(7) - القراءات بافريقية 197.
(1/133)
وهناك مصاحف أخرى على هذا النمط أو قريب منه(1)، وكلها تشهد إلى جانب ما سبق ذكره على تعدد مصادر القراءة عند أهل افريقية والقيروان لهذا العهد، وأن ظاهرة التعدد كانت عامة، إلا أنها مع ذلك منسجمة مع الطور الثاني الذي كانت تمر منه عامة الأمصار الكبرى نفسها، وهو طور الاختيار يبن طائفة القراءات والحروف دون التزام بقراءة إمام معين في الغالب الأعم، وهو طور ما لبث أن وجه الاهتمام إلى طائفة من الاختيارات المشهورة بالأمصار لمجموعة من الأئمة وقع الإجماع بين أهلها عليهم، وكثر الآخذون لها عنهم، فتصدى طائفة من رواة العلم لجمع قراءاتهم وذكر أهم رواياتها، وألفوا فيها كتبا ضمنوها ذلك، وكان لهم أثر عميق في التنويه بأصحابها والدعوة إلى الاقتصار في القراءة على ما صح عنهم لتواتره واستفاضته وشهرته بين أئمة الإقراء، وهكذا ظهرت الريادة في التأليف في هذا الشأن في الاقتصار على أئمة مخصوصين من أئمة الأمصار، فألف في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام (224) كتابه "القراءات" قال ابن الجزري": "جعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة.. وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية(2).
__________
(1) - من أمثلة هذه المصاحف مصحف فضل مولاة أبي أيوب أحمد بن محمد محبس بتاريخ المحرم سنة 295 هـ (القراءات بافريقية 90)، ومصحف المعز بن باديس الصنهاجي (ت 454 حبسه على جامع القيروان (القراءات بافريقية 64)، ومصحف أم ملال عمة المعز على نفس الجامع (القراءات بافريقية 64).
(2) - من أهم رواة قراءة نافع وغيره أخذها عن كردم المغربي وإسحاق المسيبي (ت258 هـ) ترجمته في غاية النهاية 1/42-43 ترجمة 176.
(1/134)
جمع كتابا في قراءات الخمسة من كل مصر واحد (ت 258 هـ)، وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون(1)، ألف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما، منهم هؤلاء السبعة، (ت 282 هـ)،... وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط.."(2).
وكان ظهور تأليف ابن مجاهد أواخر المائة الثالثة بداية الاستقرار على قراءات السبعة وحدهم، وبداية التراجع في رواية الحروف في الوقت نفسه باجتماع الناس في كل مصر من الأمصار الخمسة على قراءة جامعة غاية ما غدا يسعى إليه جمهورهم التمكن من معرفتها وإتقان أدائها، وهو الطور الثالث الذي نبهنا عليه فيما قدمنا.
وهذا الإمام أبو عمرو الداني في تتبعه لأصحاب الاختيارات في أرجوزته "المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات" لما بلغ إلى زمن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) ختم ذكرهم به فقال :
"والطبري صاحب التفسير له اختيار ليس بالشهير
وهو في "جامعة" مذكور ... وعند كل صحبه مشهور
فهؤلاء أهل الاختيار ... لأحرف القرآن في الأقطار(3)
بل ان ابن مجاهد نفسه – وهو إمام القراء في بغداد في زمنه ــ قال له رجل من أصحابه: "لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عليه؟ فقال: نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا، أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا"(4).
__________
(1) - سيأتي ذكره في الرواة عنه.
(2) - النشر لابن الجزري 1/23-24.
(3) - سيأتي ذكر هذه الأرجوزة في مؤلفات أبي عمرو الداني.
(4) - نقله الذهبي في ترجمة ابن مجاهد في معرفة القراء الكبار وطبقاتهم على الأمصار 1/217 الطبقة 8.
(1/135)
ومعنى هذا أن الاختيارات الكثيرة التي كانت تروى عن الأئمة وتنسب إليهم ويأخذ بها أصحابهم قد أخذت تضمر وتقل منذ أواخر المائة الثالثة لتفسح المجال في كل مصر للقراءة الرسمية التي أمست قراءة الجماعة به، وأمست تستأثر بالنشاط العام في القراءة والإقراء والتعليم والتأليف والتلاوة وغير ذلك.
لقد كان من السهل على كل مصر أن يستقر على قراءته الجامعة هذه نظرا لسعة جمهور الآخذين لتلك القراءة عن إمامها أو عن جمهور أصحابه، أما بالنسبة للجهات التابعة لتلك الأمصار فقد بقيت فيها الروايات التي دخلتها وانتشرت فيها، وهكذا انتشرت قراءة نافع من رواية ورش مثلا في مصر، ومن رواية الغازي بن قيس في الأندلس، ومن روايات متعددة في افريقية والقيروان بحسب من دخل بها رواية عنه أو عن بعض أصحابه ـ كما سيأتي ـ، وظلت قراءة حمزة أيضا مستأثرة بالسواد الأعظم من القراء ـ كما تقدم ـ قبل أن تزحزحها عن مكانتها قراءة نافع بعد الصراع المذهبي المرير الذي مرت منه المنطقة قبل أن تستقر في القراءة والمذهب الفقهي والاتجاه الفكري على قاعدة جامعة كما سنقف عليه بحول الله في آخر الباب.
ولا أريد أن أتطرق إلى الحديث عن هذا الطور بالنسبة لافريقية وما يتبعها من الجهات المغربية قبل أن نتعرف على المسار الذي سارت فيه القراءة في البلاد الأندلسية خلال المدة التي حصرنا حديثنا فيها، وهي المدة التي تبتدئ من زمن فتحها في آخر المائة الأولى، وتمتد إلى أواسط المائة الثالثة، وهو الوقت الذي اكتمل فيه توحيد القراءة بها واعتماد قراءة نافع المدني قراءة رسمية، وسوف نقف في الفصل الآتي بعون الله على هذا المسار وتلك الأسباب والعوامل التي ساعدت على ذلك لنتجه بالبحث إلى غايته في التعريف بالإمام نافع وقراءته ورواياتها وجهود المغاربة في خدمتها واعتمادها والقيام عليها إلى اليوم.
الفصل الثالث :
دخول قراءة نافع إلى الأندلس وافريقية وروادها
(1/136)
أولا – دخول قراءة نافع إلى الأندلس والقراءة فيها منذ الفتح الإسلامي لها في أواخر القرن الثاني
بعد أن وقفنا على التطورات التي مرت منها المدرسة القرآنية في المغرب في افريقية والقيروان وما إليها من الجهات ابتداء من زمن الفتح، واستعرضنا مختلف المؤثرات التي وردت عليها في أثناء ذلك وبعده من الجهات الشامية والعراقية ومن خلال الرحلات العلمية إلى هذه الآفاق أو على يد بعض الواردين منها من العلماء والقراء، نريد أن نقف في هذا الفصل على المسالك التي عبرتها قراءة نافع إمام دار الهجرة في القراءة إلى البلاد الأندلسية ثم افريقية والمغرب الأقصى، وقد تعمدنا تأخير الحديث عن رحلات أهل افريقية إلى الحجاز مع أنها واكبت في الزمن تاريخ الحركة العلمية التي تتبعنا نشاطها في اتجاه العراق ابتداء من النصف الثاني من المائة الثانية، وهدفنا من هذا التأخير أولا أن نستكمل الصورة عن باقي الجهات المغربية التي تأخر فتحها كالجهات الأندلسية، ولنربط ثانيا بين تلك الرحلات العلمية الحجازية وبين ما ترتب عنها من آثار في التعريف بالمذاهب المدنية في الفقه والقراءة ورواية الآثار، تمهيدا للدعوة إلى إقرارها واعتمادها عمليا وحمل الناس عليها بالتوجيه والإقناع مرة وبغير ذلك أخرى، إلى أن كانت لها الهيمنة التامة والسيادة المطلقة.
(1/137)
وسيكون حديثنا عن البلاد الأندلسية أولا حتى نلم بمثل ما ألممنا به من تطورات عرفها ميدان الاقراء فيما تحدثنا عنه من جهات، وغرضنا أن نراعي السياق التاريخي الذي سلكته القراءة المدنية في اتجاه المناطق المغربية، لأننا سنلاحظ تحقيق البلاد الأندلسية لنوع من السبق في مجال استقبال قراءة نافع من جهة، ثم في مجال السعي إلى ترسيمها واعتمادها وحدها قراءة رسمية جامعة، ولهذا نرى من الضروري لكي نضع هذه القراءة في إطارها التاريخي في هذه المنطقة، أن نمهد لذلك بالحديث عن التطور الذي عرفه ميدان الاقراء فيها قبل أن تأخذ قراءة نافع طريقها إلى الصدارة في مدارسها التأسيسية، وأن تستأثر بالمقام الأول هنالك، ثم نثني بعده بالحديث عن رواد القراءة المدنية في الأندلس وافريقية محاولين من خلال استعراضهم أن نتبين معالم النقلة الكبيرة التي تحققت من خلالها تلك الوحدة المذهبية الشاملة التي ظلت هذه المناطق تسعى إليها ردحا كبيرا من الزمن، وتتحسس الطريق إليها من خلال الأحداث إلى أن استوفت مقوماتها واستكملت عناصرها وآساسها.
لقد كانت الأندلس على موعد مع الطلائع الأولى من القراء في ركاب الفتح الإسلامي، وكان القراء من الصحابة والتابعين كما رأينا في المصاف الأولى من جميع حركات الجهاد، ولم يحتج الفاتحون للبلاد الأندلسية لمثل ما احتاجوا إليه في افريقية من زمن في تمهيد البلاد وترسيخ أقدام الإسلام فيها، ولذلك فقد تأتى لهم بسهولة إقامة المؤسسات الدينية ونهوضها برسالتها في التوجيه والتعليم والقيادة، ولا شك أن طائفة من "الأطر" التعليمية التي اعتدنا أن نراها مرافقة لحملات الجهاد ما لبثت أن أخذت تباشر مهماتها في توطيد ركائز الإسلام وذلك بإقامة المساجد وعمارتها وتلقين القرآن وإقرائه وإنشاء المكاتب لتعليمه للناشئة، وتوفير المصاحف المساعدة ونحو ذلك مما يساعد على قيام حركة تعليمية رأينا صورا منها عرضناه في الفصل الأول من هذا الباب.
(1/138)
ولقد عملت الخلافة في المشرق بعد الفتح على تشجيع الهجرة إلى هذه المناطق بأعداد كثيفة أحيانا وذلك لتضمن استمرار الولاء لها من جهة، ولتحقق التوازن المطلوب بين العناصر المحلية والعناصر العربية والافريقية التي عبرت المجاز أثناء الفتح وبعده، وكان لهذه الأفواج الوافدة عليها آثار واضحة في ترسيخ الاهتمام بالتعليم والتوجيه وإنشاء المؤسسات التعليمية لذلك، وآثار أخرى في تحديد المسارات القوية التي تمارس التأثير على الأحداث، ومن ثم لا بد لمن يريد التاريخ لتطور القراءة في البلاد لهذا العهد، أن يحاول معرفة أهم العناصر القوية التي كانت بأيديها مقاليد الأمور، بما في ذلك التأثير على الاتجاه العلمي وقيادته على نحو من الأنحاء ليساير التوجهات العامة في البلاد. ولا شك أن أول ملاحظة يمكن أن يلاحظها المتتبع لتاريخ الأندلس منذ أول الفتح وخلال عصر الولاة الذي امتد إلى أواخر العقد الرابع من المائة الثانية، هي التبعية لما هو سائد في بلاد الشام، وهيمنة العناصر الشامية على الحياة، وذلك أمر طبيعي لما نعلمه من تبعية سياسية لهذه المناطق للخلافة بالشام، لأن فتحها كان على أيديهم، ولذلك لم يكد ينتهي الفتح حتى امتلأت الأندلس بالشاميين، ثم توالت الهجرة إليها في ركاب الولاة، فدخلتها جماعات كثيرة تعرض المؤرخون لذكر عديد منها، فقد دخلها جيش من العرب في خلافة عبد العزيز مع واليه عليها السمح بن مالك الخولاني سنة 100 هـ(1)، ودخلها في ولاية عبد الملك بن قطن سنة 122 هـ "نحو عشرة آلاف من عرب الشام، معززين لعرب الأندلس ضد البربر الذين كانوا بشذونة يتزعمهم رجل زناتي"(2).
__________
(1) 1- تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية: النبذ التاريخية المذيل بها ص 207.
(2) - البيان المغرب 2/31.
(1/139)
وفي ولاية أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي الذي وليها من قبل حنظلة بن صفوان عامل افريقية سنة 125 هـ ازداد عدد أهل الشام حتى ضاقت بهم قرطبة، فاضطر إلى توزيعهم على المناطق "فأنزل أهل دمشق" "ألبيرة" لشبهها بها، وأنزل أهل حمص اشبيلية وسماها "حمص" لشبهها بها، وأنزل أهل "قنسرين" جيان وسماها قنسرين، وأهل الأردن بـ"رية" وهي "مالقة" وسماها "الأردن"، وأهل فلسطين "شذونة" وهي "شريش" وسماها "فلسطين"، وأهل مصر "تدمير" وسماها "مصر"(1).
ودخلها قبل ذلك بلج بن بشر القشيري(2)سنة 123 بعهد من هشام بن عبد الملك ومعه نحو من عشرة آلاف من الشاميين، وإلى هذه الوفرة في عددهم يشير لسان الدين ابن الخطيب في رسالة له إلى ملك مصر المنصور بن الناصر بن قلاوون بقوله: "وصرفت أشراف الشام أعنتها إلى التماس خيره، وطارت بأجنحة العزائم تيمنا بطيره، وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره"(3).
__________
(1) - تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية 45 - والبيان المغرب 2/33- وتاريخ ابن خلدون /119-120.
(2) - هو ابن أخي كلثوم بن عياض والي افريقية مات مقتولا بالأندلس على أيدي الجند من أهل اليمن، يمكن الرجوع في ذلك إلى تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية 40-41 والبيان المغرب 2/30-33.
(3) - الأدب الأندلسي للدكتور مصطفى الشكعة ص 577.
(1/140)
ثم بلغ الأمر مداه الأقصى في هيمنة العناصر الشامية على الجهات الأندلسية بقيام امارة بني أمية بها بوصول "صقر قريش" عبد الرحمن الداخل إليها، مفلتا من قبضة العباسيين، وطامحا إلى تجديد ما تداعى من ملك أسلافه في المشرق، ومحاولا استثمار ما كان قد بقي بالأندلس من مظاهر الولاء لهم، لإقامة امارة فتية تضع حدا للصراع على النفوذ بالبلاد الأندلسية، وتوحدها تحت راية واحدة تمهيدا لبسط سلطانها وتوسيع مدى حكمها ليشمل ما وراء المجاز من العدوة المغربية في أيام قوتها وعزها، الأمر الذي أصبحت معه قرطبة تنافس دمشق منذ أن دخلها يعسوب الأمويين سنة 138 هـ، ثم ظلت تنافس بغداد في عصر ازدهارها بهجة وعظمة وعمرانا لأزيد من ثلاثة قرون.
العناصر الشامية وغلبتها على الأندلس:
والذي يهمنا من سوق هذه الأحداث ههنا هو إبراز تفوق العناصر الشامية من حيث العدد والنفوذ على غيرها من العناصر، الأمر الذي يستتبع آثاره في تغلب الطابع الشامي بها في جميع المجالات بما في ذلك من قراءة وفقه وتوجيه وتعليم، ولذلك انتشر عندهم في الفتيا والقضاء مذهب أبي عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 157 هـ) "أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وحفظا وفضلا وعبادة وضبطا مع زهادة"(1)، وقد ساد مذهبه في الأندلس بلا مزاحم في وقت مبكر مع الطلائع الشامية، حتى ان المقري عبر عن ذلك بمثل هذه العبارة دون أن يلقي لها بالا(2)فقال: "واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام منذ أول الفتح"(3).
__________
(1) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 180 ترجمة 1425.
(2) - وذلك لأن الأندلس فتحت ما بين سنتي 91-92 وميلاد الأوزاعي سنة 80 هـ، فقوله "لأول الفتح" لا يناسب سن الأوزاعي عند فتحها.
(3) - نفح الطيب للمقري 2/185.
(1/141)
ومعلوم أن قوله "كانوا على مذهب الأوزاعي وأهل الشام" يتضمن الإشارة إلى اقتداء أهل الأندلس بأهل الشام في مذهبهم في القراءة أيضا، فإذا كان وجودهم المكثف قد استطاع أن يجعلها في المجال الفقهي أوزاعية، فمن باب أولى سيجعل قراءتها على وفاق ما هو سائد في القراءة عندهم، ولا شك أن القراءة الشامية كانت يومئذ قد انضبطت على قراءة إمامها عبد الله بن عامر "فقد كان الناس بدمشق وسائر بلاد الشام حتى الجزيرة الفراتية وأعمالها لا يأخذون إلا بقراءة ابن عامر، وما زال الأمر كذلك إلى حدود الخمسمائة"(1). ومعنى هذا أن الذين دخلوا بالفقه على مذهب الأوزاعي كانوا في الوقت ذاته يحملون قراءته أو قراءة ابن عامر أو غيره من قراء مدرسته كيحيى بن الحارث الذماري أو غيره ممن تقدم ذكره في النص الذي اقتبسناه عن أبي عبيد في الفصل الماضي.
ومن الطريف أن يكون أبو عمرو الأوزاعي أحد الثلاثة الذين رووا القراءة عن مالك بن أنس، إذ يذكر ابن الجزري في ترجمة مالك أنه "روى القراءة عنه أبو عمرو الأوزاعي ويحيى بن سعيد(2)والحلواني(3)"(4).
رواد من فقهاء المنطقة وقرائها وصلتهم بالمذاهب الشامية في الفقه والقراءة
__________
(1) - النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/264.
(2) - هو يحيى بن سعيد الأنصاري من فقهاء المدينة استقضاه أبو جعفر المنصور ومات بالعراق سنة 143 ترجم به ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار 80 ترجمة 581.
(3) - الحلواني هو أحمد بن يزيد سيأتي في الرواة.
(4) - غاية النهاية 2/36 ترجمة 2642.
(1/142)
وقد ذكروا أن صعصعة بن سلام (ت 192 هـ) هو أول من أدخل فقه الأوزاعي إلى الأندلس(1)، وأنه ولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غرست الأشجار في الجامع وهو مذهب الأوزاعي والشاميين"(2).
وذكروا أن المنتدبين للقضاء أيام عبد الرحمن بن معاوية كانوا يختارون من مشيخة الشاميين كمصعب بن عمران"(3). وهذا يستتبع أن تحظى مذاهب أهل الشام بالعناية القصوى لأنها غدت هي الطريق إلى تولي مثل هذه المناصب الرسمية، وسيكون اتجاه الرحلات العلمية أيضا تبعا لذلك، ولهذا نجد الرواية عن الأوزاعي تتصدر في تراجم علماء العصر.
فممن دخل الشام من الأندلسيين وروى عن علمائها وقرائها محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن محمد الأندلسي قال الحميدي: "يروي عن الأوزاعي، وروى عن إبراهيم بن أبي عبلة(4)"(5).
ومنهم أسد بن عبد الرحمن السبائي الأندلسي "روى عن مكحول(6)والأوزاعي، ولي قضاء كورة "ألبيرة " في إمارة عبد الرحمن بن معاوية. وكان حيا بعد الخمسين ومائة"(7).
__________
(1) - جذوة المقتبس للحميدي 244 ترجمة 510.
(2) - "تسع وثائق في شؤون الحسبة على المساجد في الأندلس: الوثيقة الأولى ص 22 حوليات كلية الآداب بالكويت السنة 1404-1984 تحقيق الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف. (عن مخطوط أحكام ابن سهل).
(3) - تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية 66/ ومثله في تاريخ علماء الأندلس 1/354 ترجمة 608.
(4) - هو إبراهيم بن أبي عبلة الشامي الدمشقي تابعي كبير له حروف في القراءة واختيار خالف فيه العامة في صحة إسنادها إليه. ننظر أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى ووائلة بن الأسقع مات سنة (152-153) ترجمته في مشاهير علماء الأمصار 117- وغاية النهاية 1/19 ترجمة 72.
(5) - جذوة المقتبس 42-43.
(6) - من كبار فقهاء الشام (ت 112 هـ) مشاهير علماء الأمصار 114 ترجمة 870.
(7) - جذوة المقتبس 172 ترجمة 320.
(1/143)
ومنهم الغازي بن قيس القرطبي الذي يروي عن الأوزاعي وغيره(1)وسيأتي عن قريب.
وقد كان الفقهاء على هذا المذهب يشكلون الطليعة العلمية بالبلاد الأندلسية لهذا العهد، وكان يطلق على زعيمهم صعصعة بن سلام "إمام الأوزاعية"(2)مما يدل على كثرتهم وتمايزهم عن غيرهم.
فالقراءة السائدة إذن لابد أن تكون إما قراءة ابن عامر أو غيره من أصحابه والآخذين بمذهبه، إن لم تكن قراءة إمام المذهب نفسه.
وينبغي أن نشير بهذا الصدد أيضا إلى إمكانية دخول بعض الشواذ المعروفة من رواية الشاميين، وقد بقي بعضها معروفا إلى وقت متأخر(3)، وقد سجل أبو عمرو الداني في "المنبهة" أسماء قراء الشواذ بالشام فقال:
ومنهم من ساكني الشآم ... شريح الحمصي(4)ذو التمام
وابن أبي عبلة إبراهيم(5)وهو شيخ ثقة قديم
وابن قطيب(6)وأبو البرهسم(7) ... عمران وهو منهم مقدم
عنه أتت حروف أهل حمص ... وهو مخالف لكل شخص(8)
__________
(1) - جذوة المقتبس 324 ترجمة 748.
(2) - ترتيب المدارك 1/26-27 والمعيار للونشريسي 6/356.
(3) - قرأ بها الحافظ أبو عمرو على فارس بن أحمد الحمصي كما في غاية النهاية 2/322 ترجمة 3692.
(4) - هو شريح بن يزيد الحضرمي (203هـ) له قراءة شاذة عن أبي البرهسم وغيره. غاية النهاية 1/325 ت 1419.
(5) - تقدم التعريف به أعلاه.
(6) - هو يزيد بن قطيب السكوني له اختيار في القراءة ينسب إليه، روى عن أبي بحرية صاحب معاذ بن جبل وأخذ عنه القراءة، ورواها عنه أبو البرهسم. ترجمته في غاية النهاية 2/382 ترجمة 3881.
(7) - هو عمران بن عثمان أبو البرهسم الزبيدي الشامي الحضرمي. ترجمته في غاية النهاية 1/604-605. ترجمة 2471.
(8) - باب القول في الشواذ من الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني تحقيق الدكتور الحسن وكاك.
(1/144)
فهذه الشواذ لهذا العهد كنت معروفة عند أهل حمص وغيرهم، ولكن القراءة الرسمية كنت أوسع منها جمهورا، والحرص عليها من طرف العلماء كان كبيرا، وهذا ما نستفيده من قول أبي زرعة الدمشقي: "كان القراء بدمشق يحكمون القراءة الشامية العثمانية ويضبطونها: هشام(1)وابن ذكوان(2)والوليد ابن عتبة(3)"(4).
__________
(1) - هو هشام بن عمار الدمشقي الإمام المقرئ المحدث (153-245 هـ) أحد الراويين المشهورين لقراءة ابن عامر أخذها عن أصحاب أصحابه له ترجمة حافلة في غاية النهاية 2/354-356 ترجمة 3787.
(2) - هو عبد الله بن ذكوان الراوي الثاني لقراءة ابن عامر مع هشام وشيخ الاقراء بالشام وإمام جامع دمشق أخذ قراءة ابن عامر عن أصحاب أصحابه أيوب بن تميم وغيره (173-242) غاية النهاية 1/404 ت 1720.
(3) - الوليد بن عتبة بن بنان الدمشقي مقرئ حاذق (176-240) يروي عن أيوب وغيره. غاية النهاية 2/360.
(4) - غاية النهاية 2/360 ترجمة 3806.
(1/145)
فسمى القراءة على وفق المصحف الشامي "شامية عثمانية"، وهي إشارة ضمنية إلى نوع من التفوق عند الأئمة الثلاثة في إتقانها وضبطها والقيام عليها، ولذلك كانت هذه القراءة مشهورة في مصرها لا يكاد يزاحمها فيه شيء، إلا أن الرواة عن ابن عامر كانوا من الكثرة بحيث أدى الاختلاف بينهم إلى تشعب قراءته وتنوع رواياتها وقيام طائفة من أصحابه بنوع من الاختيار بين تلك الروايات الثابتة عنه سعيا إلى توحيد القراءة عليها، وكان للأئمة الثلاثة الذين سماهم أبو زرعة أكبر الفضل في ذلك، وان كان لكل واحد منهم أيضا كان يخالف صاحبيه فيما كان ينتهي إليه من اختيار، وربما خالف الواحد منهم نفسه فيما كان يأخذ به ثم عدل عنه إلى غيره من الحروف، وإلى هذا الطور يشير راوية القراءات أبو العباس أحمد بن يزيد الحلواني فيما حدث به عن شيخه هشام بن عمار وأسلوبه في الاختيار، فقال: "قدمت دمشق سنة 242، بعد وفاة ابن ذكوان، فقرأت على هشام بن عمار وختمت عليه لابن عامر، ورجعت إلى بلدي فبلغني عن هشام حروف لم يأخذ بها علي، فرحلت إليه ثانية وقرأت عليه بتلك الحروف وأجازها لي وختمت عليه ثانية ورجعت إلى حلوان(1)، ثم بلغني عنه حروف لم يأخذ بها علي فرحلت إليه ثالثة، وقرأت عليه بتلك الحروف وأجازها لي وختمت عليه ثالثة، ورجعت إلى حلوان فورد علي كتابه أني أخذت عليك "ثم كيدوني" في الأعراف(2)بياء في الوصل، وهو بياء في الحالين"(3).
__________
(1) - بلد بالعراق هو أوله وآخر حد الجبل من جهة الشام، يمكن الرجوع إلى معجم ما استعجم للبكري 1/463.
(2) - الآية رقم 195 ونصها "قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون" قال الداني في التيسير ص 70-71: وأثبت ابن عامر في رواية هشام الياء في الحالين في قوله "ثم كيدون" في الأعراف، وحذف الياء في الحالين في رواية ابن ذكوان بخلاف عن الأخفش عنه".
(3) - نقله علم الدين السخاوي في جمال القراء وكمال الإقراء 2/458.
(1/146)
فإذا كان هذا شأن الأئمة الآخذين بهذه القراءة والمتصدرين للأخذ على الرواة بها، فما سيكون عليه شأن الذين كانوا يرحلون إليهم من البلاد الأندلسية؟ لا شك أن أولئك الرواة سيعودون بوجوه شتى من الاختلاف عن ابن عامر وغيره مما يحول دون تحقيق وحدة في القراءة والأداء، وبذلك سيبقى الأمر في أمس الحاجة إلى سلوك سبيل قاصد يؤدي إلى توحيد القراءة على نمط واحد، ونحن وإن كنا لا ندري شيئا عن الجهود التي كانت تبذل في هذا الصدد في المائة الأولى التي أعقبت فتح الأندلس، فنحن نعتبر إحساس المسؤولين بوجوب البحث عن قاعدة جامعة تعطي لدولتهم طابعها المميز وصبغتها الخاصة، ولعل التفكير كان منذ البداية منصبا على مذاهب أهل الشام في الفقه والقراءة والتوجيه العام بحكم غلبة العناصر الشامية وتفوقها وانتماء البيت الحاكم إليها، إلا أن الميدان العلمي ما لبث أن عرف تحولا جذريا ف النصف الثاني من المائة الثانية موليا وجهه هذه المرة شطر المدينة المنورة بالحجاز لأسباب وعوامل سنقف عندها عن قريب، فتحول اتجاه الرحلة أو على الأصح اتسع مجالها فلم يعد يقف عند حدود الشام .
الرواة عن أهل المدينة لهذا العهد ورواد الرحلة العلمية:
وتطلعت أبصار الأندلسيين إلى الرواية عن أهل دار الهجرة والأخذ لمذاهبهم واختياراتهم والاقتداء بهم في قراءتهم وأنماط حياتهم. ولقد كانت المدينة لهذا العهد حافلة بالحلق العلمية في العلوم الإسلامية وكانت أصداء هذا النشاط تبلغ مسامع أهل العلم إلى الأندلس فتحرك هممهم وأشواقهم، ولاسيما فيما يخص الفقه والقراءة حيث كان يتصدر بالحرم النبوي الشريف مالك بن أنس إمام المذهب ونافع بن أبي نعيم إمام القراءة.
(1/147)
وترامت أخبار هذا النشاط مع الزمن على أيدي الرواد الأولين من أصحاب الرحلات العلمية فتزايد الإقبال واتسع حتى لا يكاد المتتبع لأسماء من رحل إلى المدينة للقاء مالك يضبط عددها لكثرتها وتوزعها على الجهات(1).
ونكتفي هنا بذكر ألمع هذه الأسماء:
ـ الغازي بن قيس القرطبي(2)
ـ سعيد بن عبدوس الطليطلي(3)
ـ زياد بن عبد الرحمن المعروف بـ"شبطون"(4)
ـ سعيد بن أبي هند الطليطلي "حكيم الأندلس: كما كان يسميه مالك(5).
ـ يحيى بن مضر الفقيه القرطبي الشامي الأصل(6)
ـ قرعوس بن العباس القرطبي(7).
ـ محمد بن بشير(8).
ـ طالوت بن عبد الجبار المعافري(9).
ـ عبد الرحمن بن عبيد الله الأشبوني(10).
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى طبقات الرواة عن مالك في ترتيب المدارك لعياض بخصوص الأندلسيين 2/178-179 ثم على حروف المعجم مع عامة الرواة عنه في الجزء نفسه 2/180 إلى 224 وهم نيف على ألف اسم كما ذكر عياض.
(2) - هو رائد قراءة نافع وأول من دخل بها إلى الأندلس وسيأتي الحديث عنه.
(3) - ترجمته في ترتيب المدارك وأخبار رحلته في 3/113.
(4) - هو أول من أدخل إلى الأندلس موطأ مالك متفقها بالسماع منه (ت حول 199هـ) – ترجمته في ترتيب المدارك 3/116-122 وتاريخ افتتاح الأندلس لاين القوطية 65. ــ وجذوة المقتبس 218-249 ونفح الطيب 2/251.
(5) - ولي الوزارة لبني أمية وولي القضاء وتوفي صدر أيام عبد الرحمن بن معاوية. ترتيب المدارك 3/123-125.
(6) - كان من متزعمي ثورة الربض من الفقهاء فأخذ وصلب سنة (189هـ) ترتيب المدارك 3/126 والبيان المغرب لابن عذاري 2/77.
(7) - هو من الطبقة الوسطى من أصحاب مالك ترتيب المدارك 3/325-326.
(8) - محمد بن بشير القاضي من عرب مصر، ولي القضاء للأمويين. ترجمته في ترتيب المدارك 3/327-339.
(9) - كان جليل القدر في الفقهاء ترجمته في ترتيب المدارك 3/340-342 والمعجب في تاريخ المغرب 36.
(10) - ترجمته في ترتيب المدارك 3/344.
(1/148)
ـ حسان وحفص ابنا عبد السلام السلمي(1).
ـ عبد الرحمن بن موسى الهواري(2).
ـ محمد بن يحيى السبائي(3).
ـ داود بن جعفر الصغير القرطبي(4).
ـ شبطون بن عبد الله الأنصاري(5).
ـ محمد بن إبراهيم بن مزين الأودي(6).
ـ يحيى بن يحيى الليثي(7).
وسوى هؤلاء كثير ممن شدوا الرحال إلى المدينة فأخذوا العلم بها واشتهروا بالرواية عن مالك والنقل عنه والقضاء والفتيا على مذهبه.
__________
(1) - هما من أهل سرقسطة، وكان حسان أسن من حفص وكان من أهل العلم والدين، وكان حفص متفننا في العلوم بليغا حاذقا، يحكى أنه لزم مالكا سبعة أعوام .. وكان الحكم بن هشام يستقدمه كل عام يؤم به في رمضان "ترتيب المدارك" 3/344.
(2) - هو من أكابر أصحاب مالك من أهل أستجة رحل أول خلافة الإمام عبد الرحمن بن معاوية فلقي مالك بن أنس وابن عيينة ونظراءهما من الأئمة ولقي الأصمعي وأبا زيد وغيرهما من رواة الغريب وداخل العرب في محالها وكان فصيحا .. حافظا للفقه والتفسير والقراءات وله كتاب في تفسير القرآن ـ قال عياض ـ رأيت بعضه رواه جماعة من أهل قرطبة، وكان القائم بالقضاء أيام الحكم (180-206) ـ ترتيب المدارك 3/343.
(3) - ترجمته في ترتيب المدارك 3/345.
(4) - نفسه 3/346.
(5) - نفسه 3/344.
(6) - كان قاضي الجماعة لعبد الرحمن الداخل بقرطبة ولاه عليها في محرم سنة 170. وقد استعفى من القضاء ورحل حاجا فأدى الفريضة وروى عن مالك بن أنس (ت 183). والذيل والتكملة لابن عبد الملك 6/105 ترجمة 272.
(7) - سيأتي ذكره في الرواة عن نافع وبيان أثره في ترسيم الاتجاه المدني في الفقه والقراءة.
(1/149)
ولا شك أن طائفة كبيرة منهم كانت في الوقت نفسه قد تعرفت على قراءة نافع بالمدينة وأخذت بها كلا أو بعضا لطول تصدره بالمسجد النبوي ذاته حيث كانت حلقة مالك في الفقه والحديث كما سيأتي، ومع قوة هذا الاحتمال فإن المؤرخين للقراءة قد أطبقوا على إسناد الريادة في دخول قراءة نافع إلى الأندلس إلى الغازي بن قيس القرطبي، ولا يخالجنا شك مع ذلك في أن من سمينا من الفقهاء ومن لم نسم ممن كانوا يمثلون مناطق مختلفة من البلاد الأندلسية، لم يرحلوا إلى المدينة في طلب العلم حتى حفظوا القرآن الكريم وتأهلوا لرواية الفقه والحديث، فهم بالدرجة الأولى قراء قبل أن يصبحوا في عداد الفقهاء، وفيهم من كان في مستوى من التبريز فيها كان يخول له القيام بتأديب أبناء الأمراء، كما قيل عن الغازي نفسه قبل رحلته، إلا أن اهتمام المؤرخين لهم والمترجمين كان يتجه إلى الجانب الفقهي باعتبار ما غلب عليهم وقامت عليه شهرتهم، أو باعتبار توجه المؤرخين لهم إلى هذا الجانب لأنه الذي يهمهم، ويهمهم منه خاصة تتلمذهم على مالك وروايتهم عنه، ولذلك فنحن نعتبر أكثرهم ممن أدركوا حياة نافع في زمن تصدره بالمدينة داخلين في زمرة قراء المنطقة الذين تعرفوا على قراءته أو تأثروا بها أو شاركوا في نقل حروفها، إذ ليس من المقبول في مجرى العادة ومنطق الأشياء ـ كما سبق القول ـ أن يقضي قارئ من أهل العلم السنوات العديدة بالمدينة متفرغا للطلب ثم يفوته التشرف بالرواية عن إمامها في القراءة أو السماع منه ولو في أثناء الصلوات، لاسيما إذا كان يخالفه في قراءته فيقرأ بغير الحروف أو الأوجه التي تلقاها في بلده، وذلك أمر لا مناص من تعرض القارئ له ولا بد من ملاحظته بأدنى انتباه، ومن هنا يمكن اعتبار عامة الرواة عن مالك في حياة نافع داخلين في عداد الآخذين عنه ولو بطريق السماع، وإن كان أصحاب الطبقات المؤلفون في القراء لا يذكرون إلا رواية الغازي بن قيس.
(1/150)
ونحن لا نسعى هنا إلى مزاحمة الغازي في هذه الريادة بذكر أحد ممن أخذ عن نافع من الأندلسيين لهذا العهد من مثل يحيى بن يحيى الذي جاء التصريح بروايته عنه، ومثل أبي موسى الهواري صاحب أول كتاب يذكر لأهل الأندلس في تفسير القرآن وأقدم من وصف بالحفظ للتفسير والقراءات(1)، وإنما نريد أن نصل إلى إثبات تعرف طائفة من أفراد هذه الطليعة العلمية على قراءة نافع، إلا أن أحدا منهم لم يثبت أنه تفرغ لروايتها عنه وعرضها عليه وضبطها عنه بالصورة التي تأتى مثلها للغازي ـ كما سيأتي ـ الأمر الذي يعطيه حقا مقام الريادة منفردا به في هذا الباب فلا يزاحمه عليها أحد من أهل زمانه.
ولنا عودة بحول الله إلى تقويم هذه الريادة وعناصرها وكيف كان الغازي من خلالها يضع في البلاد، الأندلسية أصول "المدرسة المدنية" الاتباعية في القراءة والرسم والضبط والعدد وغير ذلك من فروع هذا العلم، ويرسم معالم أولى المدارس التأسيسية في القراءة في المنطقة حسب روايته عن نافع وما أخذه عن أهل المدينة مما أطلق عليه اسم "هجاء السنة" وبلور من خلاله مناهجهم واختياراتهم في رسم المصاحف وضبطها وفي القراءة بوجه عام.
ونريد هنا أن نلقي نظرة مماثلة على الجهات الافريقية لنتعرف على المسار الذي عبرت منه قراءة نافع إليها بعد أن تعرفنا قبل هذا على القراءات التي كانت سائدة بها بعد الفتح إلى ما بعد المائتين.
ثانيا دخول قراءة نافع إلى افريقية والمغرب
__________
(1) - ترتيب المدارك 3/343
(1/151)
إذا انتقلنا بالحديث إلى الجهات الافريقية والمغربية لنواصل متابعة رصدنا لمسار الرحلات العلمية نحو المشرق، أمكننا أن نلاحظ نوعا من التحول أيضا بالنسبة إليها نحو الحجاز، وبالخصوص بعد موت عدد من كبار أعلام الكوفة وأئمتها في الفقه والحديث والقراءة كانت تشد إليهم الرحال في هذا الشأن كسليمان بن مهران الأعمش (ت 148)، وحمزة بن حبيب الزيات (156-158)، وسفيان الثوري (-161) وأبي حنيفة (-150) الأمر الذي جعل الاهتمام يتوجه نحو أئمة الحجاز، وقد رأينا في الفصل الماضي جماعة من العلماء تأتى لهم الجمع بين الأخذ عن المدرسة "المدنية" والمدرسة "العراقية" معا، فكانوا بذلك بحسب ما غلب على كل واحد منهم ـ الرعيل الأول الذي مثل صلة وصل بين المدرستين وربط المنطقة بهما عن طريق ما حصله من علوم وروايات ومناهج في الفكر والعمل الفقهي، إلا أن مما يلفت النظر أن مدرسة الإمام مالك قد أخذت منذ العشرة السادسة من المائة الثانية تلقى إقبالا منقطع النظير، فكانت تجمع في روادها بين الأقطار الإسلامية من افريقية والأندلس إلى مصر والشام والعراق واليمن وخراسان وغيرها(1)، فكانت رحلة الطالب تحقق له إلى جانب أداء الفريضة وزيارة الديار المقدسة، لقاء مثل هذه الأصناف من طلبة العلم في الحلقات العديدة التي كانت تملأ رحاب المسجد النبوي.
وقد كانت حلقة نافع بن أبي نعيم في هذا المسجد لا تقل عن حلقة مالك الفقهية في الكثرة والازدحام ونوعية العارضين للقراءة عليه من أقطار البلدان الإسلامية، مما كان يتيح لمرتاد هذا المسجد أن يحصل في آن واحد على قراءة أهل المدينة وفقهها معا متنقلا بين حلقتي نافع ومالك، حتى إذا عاد من رحلته اتجه إلى ما قدر له من غلبة القراءة أو الفقه أو رواية الحديث أو نحو ذلك مما يقصده الطلاب فيه.
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى القائمة الطويلة التي تضم أزيد من ألف اسم من أسماء مشاهير الرواة عن مالك في ترتيب المدارك 2/180-124.
(1/152)
وبهذا يمكن اعتبار الجم الغفير من رواة الفقه المالكي الذين تلقوه عن مالك ما بين زمن تصدره حول (117)(1)ووفاة نافع (ت 169 هـ) هم في الوقت ذاته من رواة قراءة نافع على نسبة ما أتيح لكل واحد منهم بحسب اهتمامه ومدة مكثه بالمدينة، ولاسيما إذا اعتبرنا قيام نافع بإمامة الناس في الصلاة بالمسجد النبوي ستين سنة(2). وبهذا يكون أدنى ما يأخذه رواد هذا المسجد من قراءته ما سمعوه منه في أثناء الصلوات.
وبناء على هذا فيمكن تصور دخول الرواية عن نافع إلى المناطق المغربية كلا أو بعضا على مستويات مختلفة مع هؤلاء الأفواج الذين كانوا يدخلون المدينة المنورة سنويا، بالإضافة إلى طلبة العلم الذين يطيلون المقام بها، فإذا صح هذا لنا أمكن لنا أن نربط بين تاريخ الرحلات العلمية إلى المدينة وبين تعرف المناطق المغربية وغيرها على قراءة نافع وانتشارها فيها بالتدريج، على الرغم من عدم ذكر كتب التراجم لأصحاب تلك الرحلات في عداد القراء، وذلك لما ذكرناه من توافر الهمم على الاهتمام بقراءة القارئ الذي تستمع إليه، لاسيما إذا كانت هنالك فروق ملحوظة بين قراءته والقراءة التي يأخذ بها المستمع.
- أهم الرواة الذين أخذوا الفقه والحديث عن الإمام مالك بن أنس من أهل افريقية:
__________
(1) - تصدر مالك في حياة شيخه نافع مولى عبد الله بن عمر (ت 117 هـ).
(2) - سيأتي ذلك في الفصل الخاص بترجمة نافع.
(1/153)
ومن هذا المنطلق نسوق هذه الأسماء المدرجة في هذه القائمة التي تمثل أهم الرواة عن مالك من أهل افريقية، وإن كنا لا نعني التأكيد منها على كل فرد فرد لتقديم إحصاء شامل عن المحتمل أخذهم للقراءة عن نافع، وغرضنا فحسب أن نلفت النظر إلى تزايد الاهتمام بمذاهب أهل المدينة منذ نهاية النصف الأول من المائة الثانية، وكثافة عدد الطلاب الذين شدوا الرحال في اتجاه المدينة لهذا العهد، لما سيكون لهذا الأمر من أثر عميق وملموس في التحول إلى مذهب مالك وتأصيله في المناطق الافريقية والمغربية، ولما سيكون له بالتبع من تشجيع لقراءة أهل المدينة بالأخذ بها والدعوة إليها، نظرا لوفرة القراء بها من هؤلاء العائدين، ولوصول كثير منهم إلى مواقع النفوذ والتأثير بحيث استطاعوا حمل القراء "الرسميين" عليها بكافة الوسائل كما سيأتي. ونكتفي هنا بسوق أسماء هذه الطبقة الذين تلقوا الرواية عن مالك أو كبار أصحابه ممن كان لهم شأن في نصرة مذهبه ونشره والقيام عليه:
ـ أبو مسعود عبد الرحيم ـ وقيل العباس ـ بن أشرس الأنصاري من أهل تونس، سمع من مالك وابن القاسم(1).
ـ عمر بن سمك بن حميد مولى موسى بن نصير رو عن مالك(2).
ـ عبد الله بن عثمان الابزاري أبو طالب المعافري سمع من مالك وعبد الله بن فروخ(3).
ـ عباس بن الوليد الفارسي التونسي، لقي مالكا وكثيرا من المحدثين كانت رحلته مع أسد بن الفرات(4).
__________
(1) - ترجمته في رياض النفوس 1/252-253 ترجمة 101 ـ وترتيب المدارك 3/85-86 ـ والديباج المذهب 152.
(2) - ترجمته في طبقات علماء افريقية لأبي العرب 97 ـ ورياض النفوس 1/153 ترجمة 102.
(3) - طبقات أبي العرب 100 ـ ورياض النفوس 1/253-254 ترجمة 103 ـ وترتيب المدارك 3/316.
(4) - ترجمته في رياض النفوس 1/248-251 ترجمة 99 ـ وشجرة النور الزكية لابن مخلوف 62.
(1/154)
ـ عبد الله بن أبي حسان اليحصبي أبو محمد، سمع من مالك وابن أبي ذئب(1).
ـ عمر بن الحكم اللخمي، سمع من مالك، وروى عن الأوزاعي(2).
ـ البهلول بن عمر بن صالح التجيبي من جملة أصحاب مالك من أهل افريقية(3).
ـ زرارة بن عبد الله أبو عبد الله، روى عن مالك والليث بن سعد وابن فروخ وغيرهم(4).
ـ رباح بن ثابت أبو الحجاج الأزدي، سمع من مالك وابن أبي ذئب(5).
ـ محمد بن معاوية الخضرمي أبو عبد الله، سمع من مالك موطأه، وكان له سن وإدراك(6)
ـ الحارث بن أسد القفصي، سمع من مالك وكان ثقة(7).
ـ عبد المؤمن بن المستنير الجزري، روى عن مالك وأصحابه(8).
ـ علي بن يونس بن عياض الليثي، سمع من مالك وابن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم(9).
ـ حاتم بن عثمان المعافري، سمع من مالك، وكان يمضي بمسائل ابن غانم إليه(10).
ـ يزيد بن محمد الجمحي، لقي مالك بن أنس وإبراهيم بن محمد من أهل المدينة(11).
ـ يحيى بن زكرياء بن محمد بن الحكم التجيبي، مذكور في جماعة أصحاب مالك(12).
__________
(1) - معالم الايمان 2/58-62 ـ وترتيب المدارك 3/310-315 ـ ورياض النفوس 1/284-289 ترجمة 109.
(2) - ترجمته في رياض النفوس 1/247 ترجمة 97.
(3) - ترجمته في رياض النفوس 1/281-282 ترجمة 106.
(4) - طبقات أبي العرب 78 ـ ومعالم الايمان 2/65-66 ـ ورياض النفوس 1/282.
(5) - طبقات أبي العرب 76 ـ ومعالم الايمان 2/62-63 ـ ورياض النفوس 1/283 ترجمة 408.
(6) - رياض النفوس 1/290 ـ وترتيب المدارك 3/323.
(7) - رياض النفوس 1/290- 291 ترجمة 111 ـ وترتيب المدارك 3/322-.
(8) - طبقات أبي العرب 111. ـ ورياض النفوس 1/291 ترجمة 112 ـ.
(9) - رياض النفوس 1/292-294 ترجمة 113.
(10) - رياض النفوس 1/232-233 ترجمة 90.
(11) - معالم الايمان 2/69-71 ـ ورياض النفوس 1/239 ـ ترجمة 93.-
(12) - طبقات أبي العرب 77 ـ ورياض النفوس 1/240 ترجمة 95.
(1/155)
ـ محمد بن عبد الله بن قيس أبو محرز الكناني، من أصحاب مالك، ولي القضاء لابن الأغلب(1).
ـ أبو القاسم الزواوي، سمع من مالك وروى عنه الحديث(2).
ـ محمد بن عبد الأعلى الكندي، سمع من مالك وروى عن الليث(3).
ـ سقلاب بن زياد الهمداني، سمع من مالك(4).
ـ عبد الملك بن أبي كريمة أبو زيد الأنصاري، سمع من مالك والثوري وغيرهما(5).
__________
(1) - طبقات أبي العرب 84-85 ومعالم الايمان، 2/29 ـ ورياض النفوس 1/274-280 ترجمة 105.
(2) - رياض النفوس 1/248 ترجمة 98 ـ وترتيب المدارك 4/414-415.
(3) - طبقات علماء افريقية لأبي العرب 87 ـ ورياض النفوس 1/251 ترجمة 100 ـ.
(4) - طبقات أبي العرب 62 ـ ورياض النفوس 1/230 ترجمة 88.
(5) - رياض النفوس 1/232 ترجمة 121 ـ.
(1/156)
ونكتفي بهذه الأسماء التي ذكر أصحابها بالرواية المباشرة عن مالك، وغرضنا من ذكرها ما نبهنا عليه من احتمال نقلها لقراءة نافع وإن لم تشتهر بالقراءة والاقراء، ولكن بناء على ما ذكرنا من اعتبار لمجرى العادة في عدم إمكان دخول عالم في مستوى أولئك الأعلام لهذا البلد أو ذاك في رحلة طلب العلم، دون أن يلفت نظره نوع القراءة السائدة في البلد، لاسيما حين تكون مخالفة لما يأخذ به، وحين تكون أيضا قراءة إمام الحرم النبوي وإذا كان قد قيل عن افريقية انها "كانت قبل رحلة سحنون ـ سنة 188- قد عمرها مذهب مالك بن أنس، لأنه رحل منها أكثر من ثلاثين رجلا كلهم لقي مالك بن أنس وسمع منه"(1)، فإن منطق الأشياء يقضي أن لا يقل عدد من تشرفوا بالعرض على نافع من أهل هذه الجهات عن هذا العدد إن لم يفقه، إلا أن المصادر التاريخية إنما كانت تعنى في الغالب بالفقهاء، ولأن كثيرا من أولئك الفقهاء إنما نسبوا إلى ما غلب عليهم لهذا العهد، إذ لم يكن التصدر لاقراء القراءة خاصة قد أخذ طريقه بعد فيما يظهر، وكان انصراف تلك الطبقة من الفقهاء العائدين بالرواية عن أهل المدينة إلى نصرة المذهب المالكي والتمكين له قد اقتضى منهم نوعا من التفرغ له، وحدد مجال عملهم في مقاومة التيار العراقي الواسع النفوذ.
غير أن انصرافهم لمقاومة هذا التيار قد أفاد بصورة غير مباشرة في توجيه "الرأي العام" وتعريفه بقيمة هذه الروايات الجديدة التي بدأت تدخل في ركاب هؤلاء الرواة ومن جملتها رواية طائفة منهم للقراءة المدنية.
الإمام سحنون بن سعيد التنوخي وأثره في ترسيم مذهب أهل المدينة بإفريقية والمغرب في الفقه والقراءة:
__________
(1) - ترتيب المدارك 4/51 ـ وترجمة سحنون وتاريخ رحلته في ترتيب المدارك 4/45 ومعالم الإيمان 2/77.
(1/157)
وقد تحدث عياض عن جهود أولئك الرواد في الميدان الفقهي وما تكللت به من نجاح في هذا الميدان فقال: "ان افريقية وما وراءها من المغرب كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك، فاخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون(1)فغلب في أيامه، وفض حلق المخالفين"، واستقر المذهب في أصحابه فشاع في تلك الأقطار"(2).
وتعبير عياض بقوله "فض حلق المخالفين" لا يعني بالضرورة أنهم منعوا من إقامة حلقهم ونشر مذاهبهم في الفقه والقراءة وعلوم الرواية عموما، لأن الدولة كانت يومئذ لهم، وكان أمراء بني الأغلب في أول دولتهم يناصرون مذاهبهم ـ كما أسلفنا ـ ويختارون منها "أطر" القضاء والإمامة وغيرها، الأمر الذي أدى إلى وقوع صراع حميم بين فقهاء المالكية أو "المدنيين" كما كانوا يسمون: وبين أولئك "العراقيين" في النحلة والمذهب الفقهي، حيث "كان فقهاء المالكية في جميع أقطار الشمال الافريقي وقفوا ضد تسرب مبادئ المعتزلة، بل انهم اتخذوا موقف عداء من الدولة الأغلبية لانحيازها لفقه أهل العراق ومبادئ المعتزلة"(3).
__________
(1) - هو عبد السلام بن سعيد التنوخي القيرواني، رحل في طلب العلم إلى مصر سنة 178 مقتصرا عليها، ثم عاد إلى بلده، ورحل بعد موت مالك بنحو عشر سنين سنة 188هـ فسمع بمصر والمدينة من كبار أصحابه، وانصرف إلى افريقية سنة 191هـ، وهو صاحب "المدونة الكبرى" على مذهب مالك توفي سنة 240. ترجمته في طبقات أبي العرب 101-104 ورياض النفوس 1/345-375 ترجمة 126 ـ وترتيب المدارك 4/45-104 ـ والمعالم 2/77.
(2) - ترتيب المدارك 1/25-26.
(3) - أسباب انتشار المذهب المالكي للدكتور عباس الجراري ـ ندوة القاضي عياض 1/180.
(1/158)
وإنما يريد بفض حلق المخالفين استقطابه مع هؤلاء "المدنيين" لجمهور طلاب العلم بصورة صرفت الأنظار إليهم، وزهدت بشكل عام في المذاهب الوافدة من العراق، إيثارا لمذاهب أهل المدينة دار الوحي والهجرة. ولقد بلغت هذه الحلق في مسجد القيروان الجامع أوجها في عهد سحنون على أيدي أولئك الرواد حتى قال فيهم الشاعر أبو القاسم الغنزاري من قصيدة طويلة نقتطف منها هذه الأبيات:
فهل للقيروان وساكنيها عديل حين يفتخر الفخور
عراق الشرق بغداد وهذي عراق الغرب بينهما كثير
ولست أقيس بغدادا إليها وكيف تقاس بالسنة الشهور
... ... -------------------------------
بها حلق العلوم لها دوي يجاوبها الكتاب المستنير(1).
قائمة بأسماء أهم علماء الأندلس الذين رحلوا للأخذ عن سحنون بالقيروان وغيره
ولإعطاء صورة عن مبلغ الإقبال على الأخذ عن سحنون وعظم حاشيته العلمية في مسجد القيروان نورد فيما يلي هذه القائمة التي جمعناها من تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي وغيره مرتبة على الهجاء دون توسع في الحديث عن أولئك الرواة وما يمكن أن يتحملوه من آثار عن "المدرسة القيروانية" وما ينقلون إليها عن "المدرسة الأندلسية".
ـ إبراهيم بن زرعة مولى قريش يكنى أبا زياد روى عنه سحنون بن سعيد – تاريخ علماء الاندلس 1/33 ترجمة 2.
ـ إبراهيم بن يزيد بن قلزم من أهل قرطبة سمع من يحيى بن يحيى وغيره، ورحل فسمع من سحنون 1/34/35.
ـ إبراهيم بن شعيب الباهلي من أهل البيرة، روى عن يحيى بن يحيى وغيره، ورحل إلى سحنون ـ 1/35 ترجمة 6.
إبراهيم بن خالد من أهل البيرة، وهو أحد السبعة الذين اجتمعوا فيها. من رواة سحنون في وقت واحد ـ 361.
إبراهيم بن خلاد اللخمي من أهل البيرة أحد السبعة المذكورين من رواة سحنون ـ 1/36 ترجمة 8.
ـ إبراهيم بن محمد بن باز يعرف بابن القزاز من أهل قرطبة ـ سيأتي في مدرسة ورش بالأندلس ـ 1/37 ترجمة 10.
__________
(1) - رياض النفوس 2/490-493.
(1/159)
ـ إبراهيم بن قاسم بن هلال القيسي من أهل قرطبة، رحل حاجا فسمع من سحنون بن سعيد ـ 1/38 ترجمة 12.
ـ إبراهيم بن النعمان أندلسي سكن القيروان سمع من سحنون توفي بمدينة سوسة سنة 283هـ 1/39 ترجمة 13.
ـ إبراهيم الزاهد الأندلسي كان خياطا، وكان له سماع من سحنون ـ 1/44 ترجمة 22.
ـ أبان بن عيسى بن دينار الغافقي من أهل قرطبة يكنى أبا القاسم، رحل فلقي سحنون ـ 1/58 ترجمة 51.
ـ أحمد بن الوليد بن عبد الخالق الباهلي من أهل طليطلة، سمع من سحنون وولي قضاء طليطلة ـ 1/62 ترجمة 59.
ـ أحمد بن محمد بن عجلان من أهل سرقسطة له رحلة ولأخيه سمعا فيها من سحنون ـ 1/1/62 ترجمة 60.
ـ أحمد بن سليمان بن أبي الربيع من أهل البيرة وهو أحد السبعة أصحاب سحنون ـ 1/65 ترجمة 67.
ـ إسحاق بن عبد ربه من أهل باجة، سمع من يحيى بن يحيى ورحل فسمع من سحنون ـ 1/40 ترجمة 224.
ـ إسحاق بن إبراهيم بن عبد الكريم من قرية يالش يعرف بالشاري، سمع من سحنون وغيره ـ 1/141 ترجمة 225.
ـ أصبغ بن خليل من أهل قرطبة من أصحاب الغازي بن قيس ويحيى بن يحيى – 1/150-151 ترجمة 245.
ـ بقي بن مخلد القرطبي ـ 1/169 ترجمة 281.
ـ بشر بن جنادة أبو سعيد 1/178 ترجمة 296.
ـ تمام بن موهب القبري 1/180 ترجمة 300.
ـ حرم بن غالب الرعيني 1/213 ترجمة 359.
ـ زكرياء بن قطام الطليطلي 1/271 ترجمة 444.
ـ سعيد بن النمر الغافقي 1/296 ترجمة 472.
ـ سعيد بن عياض الطليطلي 1/293 ترجمة 477.
ـ سعيد بن مسعدة الحجاري 1/293 ترجمة 479.
ـ سعيد بن حسان الجمحي 1/293 ترجمة 480.
ـ سليمان بن نصر المري 1/325 ترجمة 543.
ـ الصباح بن ابي عبد الرحمن 1/352 ترجمة 605.
ـ عبد الله بن الفرج النمري 1/372 ترجمة 639.
ـ عبد الله بن مسعود الطليطلي 1/273 ترجمة 641.
ـ عبد الله بن إبراهيم بن وزير 1/373 ترجمة 642.
ـ عبد الله بن حمدون الأسلمي 1/ 375 ترجمة 649.
ـ عبد الله بن أبي عطاء الأندلسي 1/377 ترجمة 651.
(1/160)
ـ عبد الرحمن بن عيسى بن دينار 1/442 ترجمة 781.
ـ عبد الأعلى بن وهب القرطبي 1/474 ترجمة 835.
ـ عبد الجبار بن محمد بن عمران 2/485 ترجمة 839.
ـ عبد الوهاب بن عباس بن ناصح 2/486 ترجمة 841.
ـ عبد الملك بن محمد ـ الذيل والتكملة للمراكشي 5/37.
ـ محمد بن أيمن ـ الذيل والتكملة 6/135.
ـ يحيى بن أيوب ابن الفرضي 2/904.
ـ عبد المجيد بن عفان البلوي 2/498 ترجمة 864.
ـ عبد البصير بن إبراهيم من قرية أنطليش 2/501 ترجمة 780.
ـ عثمان بن أيوب بن أبي الصلت 2/512 ترجمة 887.
ـ عمر بن موسى الكناني 2/541 ترجمة 939.
ـ عمر بن زيد من أهل طليطلة 2/541-542 ترجمة 940.
ـ عميرة بن عبد الرحمن العتقي 2/553 ترجمة 967.
ـ عيسى بن عاصم بن مسلم الثقفي 2/557 ترجمة 974.
ـ عيسى بن الأشج من أهل أستجة 2/557 ترجمة 975.
ـ علكدة بن نوح الرعيني 2/576 ترجمة 1009.
ـ فرج بن أبي الحزم من أهل وشقة 2/587 ترجمة 1030.
ـ محمد بن أحمد بن عبد العزيز القرطبي 2/634 ترجمة 1102.
ـ محمد بن عامر القيسي 2/630 ترجمة 1103.
ـ محمد بن عبد الواحد الطليطلي 2/638 ترجمة 1106.
ـ محمد بن عبد الله بن قنون 2/638 ترجمة 1107.
ـ محمد بن يوسف بن مطروح 2/639 1111.
ـ محمد بن إدريس بن أبي سفيان 2/641 ترجمة 1115.
ـ محمد بن عميرة العتقي 2/242 ترجمة 1117.
ـ محمد بن عجلان 2/243 .
ـ محمد بن محمد التطيلي 2/650.
ـ محمد بن سليمان 2/658.
ـ محمد بن الأبح 2/648.
ـ محمد بن وضاح 2/650.
ـ محارب بن قطن 2/810.
ـ مطرف من قيس 2/833.
ـ وليد بن قزلمان 2/871.
ـ وهب بن نافع 2/875.
ـ هارون بن سالم 2/884.
ـ هاشم بن محمد اللخمي 2/887.
ـ يحيى بن حجاج 2/802.
ـ يحيى بن قاسم 2/904.
ـ يحيى بن عمر 2/906.
(1/161)
إلا أن سحنون قد استطاع فيما يبدو بحسن تأتيه للأمور أن يلطف من عداء المالكية للدولة، واستطاع أن يفرض لهم اعتبارا خاصا لدى ولاة الأمور، وسلاحه في ذلك حاشيته العلمية الممتازة التي كانت تقود وراءها قاعدة واسعة من طلاب العلم بالقيروان وتستأثر بإعجاب ولاة الأمر والعامة على حد سواء، ولذلك قيل في سحنون:
"كان أيمن عالم دخل المغرب، كان أصحابه مصابيح في كل بلدة، عد له نحو سبعمائة رجل ظهروا بصحبته، وانتفعوا بمجالسته"(1).
وعلى الرغم من تعدد المناهل والمصادر التي كانت المنطقة الافريقية تستقي منها لأزيد من قرن ونصف فإنه مع حاشيته العريضة هذه قد استطاع أن يحول الاهتمام إلى مذاهب أهل المدينة تحويلا سريعا وعاما، وأن يرسخ في ضمن ذلك الميل إلى جميع ما هو مدني والنفور مما سواه، بما في ذلك الأخذ بقراءتهم وتفضيلها على غيرها ولقد قيل عنه خاصة "أخذ بمذهب أهل المدينة في كل شيء"(2)، وأنه "تأدب بأدب أهل المدينة حتى في العيش"(3).
ففي عهد تصدره إذن - ما بين عودته من رحلته سنة 191 وبين وفاته سنة 240هـ تمت النقلة العظيمة في افريقية والجهات المغربية التابعة لها إلى مذاهب أهل المدينة، وتم وضع الأسس العتيدة لها بالمنطقة.
ونحن وإن كنا لا نجد من ربط بين هذا التحول وبين آثاره على المدرسة القرآنية هنالك، فإننا باستقراء الأحداث والاستعانة ببعض الشذرات من الإشارات في المصادر نستطيع تقدير هذه الآثار وتمثل معالمها جلية واضحة بذلك.
وأول ما ينبغي أن نستحضره هنا تلك الرسالة التعليمية التي أملاها سحنون على ولده محمد وحررها بقلمه في "آداب المعلمين"، فهذه الرسالة في نظرنا تشكل "برنامج عمل" أو المنهاج التربوي الذي رسمه سحنون وسعى بمعرفة حاشيته العلمية إلى تطبيقه وتعميمه والدعوة إليه بكل سبيل.
__________
(1) - ترتيب المدارك 4/74.
(2) - نفسه 4/53.
(3) - رياض النفوس 1/364.
(1/162)
ـ وثاني ملاحظة يمكن أن نقف عندها هي هذه الدعوة من سحنون إلى اعتماد قراءة نافع في التعليم حتى نكاد نشم من عبارته أنه يريد قصر القراء والمتعلمين عليها، فها هو حين يذكر واجبات القائم بالتعليم يقول:
"وينبغي أن يعلمهم إعراب القرآن، وذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن، والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل، ويلزمه ذلك ... ويلزمه أن يعلمهم ما علم من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إن أقرأهم لغيره"(1).
فالقراءة الحسنة إذن على رأي سحنون هي قراءة نافع، وتوصيته هذه بها دليل على أنها قراءته المختارة وقراءة أصحابه، وإلا ما كان لتوصيته بها ما يزكيها من واقع الحال، وفي هذا ما يدل على أن هذه القراءة قد أصبح لها جمهور معتبر في أيام سحنون، إلا أن المنافسة ما تزال بينها وبين غيرها من القراءات، وبالأخص بينها وبين قراءة حمزة، وطالما أن الأمر كذلك فإن ما تقدم ذكره من نسبة الريادة في قراءة نافع إلى محمد بن خيرون الذي قدم من رحلته إلى مصر فنزل القيروان ـ قال ابن الفرضي ـ: "وهو الذي قدم بقراءة نافع على أهل افريقية وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة، ولم يكن يقرأ لنافع إلا خواص الناس .."(2).
- نشر قراءة نافع وأهم روادها بإفريقية:
__________
(1) - رسالة آداب المعلمين ص 102. وقد أبقيت لفظ "القراءة الحسنة" كما هو في النص، وأحسب أن اللفظ محرف عن "القراءة السنية" إشارة إلى ما سيأتي من قول مالك بن أنس: "قراءة نافع سنة".
(2) - تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/799 ترجمة 1393 ـ وتبعه ابن الجزري في الغاية 2/217 ت 3314.
(1/163)
إن ما قدمنا ذكره من هذا إنما يصف طورا متقدما ربما لا يتجاوز المائة الثانية، أما بعدها فقد انعكس الأمر، وأخذت قراءة نافع تفشو فشوا ظاهرا، ولم يعد يقرأ بها فحسب خواص من الناس إلى أن قدم بها ابن خيرون ـ كما يقول ابن الفرضي ـ فوفاة ابن خيرون (306 هـ) وهي متأخرة، ونحن لا ندري زمن عودته من رحلته ودخوله بقراءة نافع، ولكننا نعرف ذلك على وجه التقريب لأنها في الثلث الأخير على الأكثر من المائة الثالثة، اعتبارا ببعض وفيات مشيخته في مصر كأبي بكر عبد الله بن سيف (ت 307)(1)وكأبي الحسن إسماعيل النحاس المتوفى سنة بضع وثمانين ومائتين(2)، إذ لو كان متقدم الرحلة إلى العقود الوسطى من المائة الثالثة لروى عن مشايخ شيوخه لاسيما المتأخرين من الرواة عن ورش مباشرة كيوسف الأزرق (ت في حدود 240)(3)ويونس بن عبد الأعلى، (ت 264 هـ). إلا أن يكون انما أراد مستوى الإطباق عليها دون غيره مما كان يؤخذ به قبل ترسيمها واعتمادها في التعليم العام.
ونخلص من هذا إلى تأكيد انتشار قراءة نافع بافريقية قبل الوقت الذي حدده ابن الفرضي، وأن هذا الانتشار قد كان في زمن سحنون وربما في العقود الأولى من المائة الثالثة، ثم تزايد الإقبال عليها من لدن الجمهور بتدخل من السلطة القضائية لصالحها، وبالأخص على عهد ولاية سحنون للقضاء سنة 234 هـ(4). ثم بلغ الأخذ بها مداه على عهد المتولين للقضاء من أصحابه.
أما الريادة الأولى في إدخالها إلى الناحية فقد بدأت في عهد مبكر جدا، وخصوصا على المستوى العادي الذي يكتفي بسماع القراءة دون عرض على القارئ، على غرار ما توقعنا وقوعه لدى عامة رواد حلقات العلم في المدينة من أهل افريقية ممن رحلوا إليها زمن تصدر نافع بالمسجد النبوي الشريف.
__________
(1) - ترجمته في غاية النهاية 1/445 ترجمة 1805.
(2) - ترجمته في غاية النهاية 1/165 ترجمة 770.
(3) - ترجمته في غاية النهاية 2/402 ترجمة 3934.
(4) - ترتيب المدارك 4/55.
(1/164)
وأما الريادة على المستوى العالي: مستوى الرواية والعرض على نافع والتحمل الكامل عنه، فقد استأثر بها رجلان لا ندري أيهما قدم بها قبل الآخر، وهما:
ـ أبو يحيى زكرياء بن يحيى المعروف بـ"الوقار":
وهو مصري نزل افريقية "قرأ القرآن على نافع"(1)، وعنه أخذ أبو عبد الرحمن المقرئ حرف نافع .. وأوطن طرابلس(2)، ولم يترجم له ابن الجزري في حرف الزاي، ولكنه في آخر حرف الياء ذكر أبا يحيى "البطيح" وقال: "بفتح الموحدة وياء آخر الحروف وحاء مهملة، وهو مجهول، وروى القراءة عنه(3)محمد بن برغوث القروي(4)ويظهر أن ابن الجزري قد اكتفى بنقل عبارة أبي عمرو الداني بالنص دون زيادة، كما أنه لم يذكره في ترجمة نافع بين الآخذين عنه من المصريين أو غيرهم(5)، مما يدل على أنه لم يعرفه.
أما عياض فقد ذكر عبارة الداني تماما كما ذكرها ابن الجزري، إلا أنه سماه فقال: "أبو يحيى زكرياء بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الله من موالي قريش مصري" ثم نقل قول أبي عمرو الذي حكاه ابن الجزري فقال: "معلقا عليه: "وأبو يحيى هذا المجهول عند أبي عمرو هو أبو يحيى الوقار، ولم يذكر أبو عمرو الوقار جملة(6)، واراه لم يبلغه خبره، أو لم يعلم أن "البطيح"(7)هو الوقار.."(8).
__________
(1) - ترتيب المدارك 4/36-37.
(2) - نفس المصدر 4/37.
(3) - في الغاية (روى القراءة عن) والصحيح ما في ترتيب المدارك (روى القراءة عنه محمد بن برغوث) ف/37.
(4) - غاية النهاية 2/408 ترجمة 3954.
(5) - يمكن الرجوع إلى ترجمة نافع في غاية النهاية 2/330-332.
(6) - يعني في طبقات القراء والمقرئين للداني، وهو من مصادر عياض وابن الجزري.
(7) - ضبطه ابن الجزري بما تقدم "البطيح" وفي طبقات أبي العرب" البرج برج طيب" ص 100 ـ وفي ترتيب المدارك "البرطنج" 4/37.
(8) - نفس المصدر الأخير والصفحة.
(1/165)
وقد أفادنا أبو العرب في طبقاته بتاريخ وجود الوقار في افريقية فذكر أنه قدمها في وقت قدوم عبد العزيز ابن يحيى المدني(1)سنة 225(2)، وقال في ترجمة عبد العزيز المذكور: "قدم إلينا سنة 225 وخرج أول 226(3)، وذكر عياض ما يدل على أن الوقار كان ينفس على عبد العزيز حظوته عند أصحابه، ولذلك لما أراد عبد العزيز الخروج عنهم استعانوا عليه ببعض الشفعاء(4)حتى يستوعب الناس سماعهم منه، فصبر، فقال الوقار: إني أريد الخروج، فإن استعنتم علي كما استعنتم على عبد العزيز جلست"(5).
ومهما يكن فإن أبا يحيى يعتبر أحد رواد قراءة نافع الأولين بافريقية ممن أخذوها عنه مباشرة، أما الآخذون عنه فمنهم ابنه أبو بكر بن أبي يحيى الوقار "وكان إماما فقيها حافظا نظارا، وروى عن أبيه وجماعة وله مؤلفات في الفقه كان: أهل القيروان يفضلونها على غيرها ومات في رجب سنة 269(6).
ومنهم سهل بن عبد الله بن سهل القبرياني(7)وإبراهيم بن داود بن يعقوب نزيل طرابلس(8).
وأهم أصحابه ممن ذكروا بالقراءة خاصة:
محمد بن برغوث القيرواني المقرئ
__________
(1) - من علماء المدينة سمع من مالك موطأه وغيره وسمع من الليث وجماعة. طبقات علماء افريقية 78.
(2) - المصدر نفسه 99.
(3) - المصدر نفسه 78.
(4) - استعانوا عليه ببعض ولد علي بن حميد كما ذكر أبو العرب عن سهل القبرياني. طبقات 100.
(5) - طبقات أبي العرب 100 ـ وترتيب المدارك 4/38.
(6) - طبقات الفقهاء للشيرازي 154 ـ وشجرة لنور الزكية 68 طبقة 6 ترجمة 70.
(7) - ترجمته في طبقات علماء افريقية لأبي العرب 134 ـ.
(8) - ترجمته في ترتيب المدارك 4/419.
(1/166)
ولعله هو المراد فيما تقدم من قول عياض: "وعنه أخذ أبو عبد الرحمن المقرئ"، لكن ابن الجزري قال فيه:"محمد بن برغوث، أبو عبد الله القروي، مقرئ متصدر بجامع القيروان، أخذ القراءة عرضا عن أبي يحيى شيخ ...(1)، وروى عن نافع بن أبي نعيم، وسمع من أسد بن الفرات، روى عنه القراءة أبو تميم محمد بن أحمد التميمي(2)، وتوفي سنة 272هـ"(3).
فابن برغوث هذا أول هذا الرعيل الطيب الذي أنجبته افريقية في طليعة مدرسة الإمام نافع بها، ولا شك أن القراءة والعرض على أبي يحيى الوقار لم يقتصرا على تخريج قارئ واحد في المنطقة مع توافر الدواعي إلى الطلب وكثرة الطلاب، وإنما يتعلق الأمر بقلة الأخبار المتعلقة بهذا العصر، وبالأخص منها ما يتعلق بالقراءة ودخولها والآخذين بها.
ويظهر أنه لولا تصدر ابن برغوث بالمسجد الجامع بالقيروان لذهب ذكره كغيره ممن شاركوه في الأخذ عن الوقار أو غيره من مشيخة العصر في قراءة نافع أو غيرها، ولسنا ندري متى تصدر بهذا الجامع، ولكن عرضه على أبي يحيى قد كان بين سنة دخوله افريقية ـ أي سنة 225 هـ ـ وبين وفاته سنة 254 أو 263 على الخلاف في ذلك(4).
ـ ترسيم قراءة نافع وصدور الأمر القضائي الرسمي بالاقتصار عليها في التعليم والإقراء
والذي يهمنا أكثر في شأن هذا القارئ ما ذكره عياض نقلا عن أبي عمرو الداني في ترجمة أبي العباس عبد الله بن طالب قاضي القيروان(5)قال:
__________
(1) - بياض بالترجمة بعد كلمة شيخ، ويظهر أن الضمير في روى عائد على الشيخ المذكور وهو الوقار.
(2) - هو أبو العرب صاحب طبقات علماء افريقية.
(3) - غاية النهاية 2/104 ترجمة 2871.
(4) - ينظر الخلاف في سنة وفاة الوقار في ترتيب المدارك 4/38 وطبقات الفقهاء للشيرازي 154 والدبياج 118.
(5) - ترجمته في رياض النفوس 1/4747-470 ترجمة 155 ـ وترتيب المدارك 4/308-331.
(1/167)
"وذكر أبو عمرو الداني في كتابه ـ طبقات القراء والمقرئين ـ أن ابن طالب أيام قضائه، أمر ابن برغوث المقرئ بجامع القيروان، ألا يقرئ الناس إلا بحرف نافع"(1).
ولا يخفى ما كان لهذا الأمر القضائي في دعم قراءة نافع في القيروان وافريقية بوجه عام، إذ لا يصدر مثله عادة إلا ليأخذ طريقه إلى التنفيذ والتطبيق، كما أن مثله من الأوامر يكتسي طابع العمومية، إذ لا فائدة من إصدار أمر قضائي كهذا إلى مقرئ واحد، إلا لأحد أمرين: إما لكثرة غاشيته من العارضين والمتعلمين عليه، وإما لكون الأخذ بقراءة نافع قد غدا من الشيوع والانتشار بحيث اقتضى أن يتدخل القضاء رسميا ليطالب ابن برغوث بالاقتصار في الإقراء على ما اقتصر عليه عامة المشتغلين به على هذه القراءة وحدها، مع دلالة الخبر على أنه كان يحسن غيرها من القراءات.
ومهما يكن فقد كان لهذا المرسوم القضائي أثره البعيد في الإسراع بتعميم قراءة نافع واعتمادها قراءة رسمية جامعة، وربما كان هذا الزمن قد صادف الوقت الذي دخل فيه محمد بن عمرو بن خيرون ـ الآنف الذكر ـ بقراءة نافع من رواية ورش بطرقها المشهورة في زمنه كما سيأتي(2).
ويمكن تحديد زمن صدور هذا الأمر القضائي على وجه التقريب بما بين ولاية ابن طالب الأولى سنة 257-259، وولايته الثانية 267-275(3)وقبل وفاة ابن برغوث سنة 272 كما تقدم.
__________
(1) - ترتيب المدارك 4/313.
(2) - سيأتي الحديث عن ريادته في ادخال رواية ورش إلى افريقية عند ذكر المدارس التأسيسية في قراءة نافع.
(3) - البيان المغرب 1/115-116 وكذا 1/117-121.
(1/168)
ولا ننسى أن ابن طالب هذا ليس إلا واحدا ممن بلغوا إلى مواقع النفوذ من أصحاب سحنون، وواحدا من عدد السبعمائة الذين ذكر أنهم انتفعوا بصحبته، ودعوته هذه إنما هي ترجمة لدعوة شيخه إلى الالتزام بالقراءة الحسنة قراءة نافع، مع فارق واحد، هو أن سحنون ذكر في توجيهاته "أنه لا بأس إن أقرأهم لغيره"(1). بينما نرى ابن طالب يأمر بالاقتصار على قراءة نافع وحدها، ولعل هذا التدرج كان ضروريا لتأخذ الأوامر مأخذها اللازم في التنفيذ.
وقد كان ابن طالب الذي أصدر الأمر القضائي بذلك يتمتع في افريقية بسلطة زائدة على غيره ممن ولي القضاء قبله، إذ كان ينتمي إلى البيت الحاكم في النسب من جهة، "وكان إبراهيم بن أحمد بن الأغلب(2)قد فوض إليه النظر في الولاة والجباة والحدود والقصاص والعزل والولاية، فقطع المنكر والملاهي من القيروان."(3)فهو إذن مؤهل ومخول للقيام بهذه الصلاحيات.
وننتهي من هذا إلى اعتبار زمن ولاية ابن طالب القضاء، هو بداية ترسيم قراءة نافع في افريقية، وأن دخول ابن خيرون بها في هذا العهد أو قريبا منه، إنما كان استجابة لهذه الرعاية التي لمسها في المنطقة لهذه القراءة على الخصوص لاسيما وهو غريب الدار، أندلسي النجار، إنما مر من افريقية عابر سبيل إلى مصر ليأخذ هنالك عن أساطين مدرسة ورش بها، فما لبث أن احتل مكانته الرائدة في القيروان، حتى رحل إليه القراء من الآفاق(4).
وقد كانت الريادة قبله على مستوى أدنى لمن تقدمه في الاقراء من أصحاب نافع الذين رأينا من بينهم خاصة أبا يحيى زكرياء بن يحيى الوقار. أما الشخصية الثانية التي شاركته في هذه الريادة فهو:
2ـ كردم بن خالد ـ أو خليد ـ أبو خالد ـ أو خليد ـ التونسي
__________
(1) - رسالة "آداب المعلمين" لابن سحنون 102.
(2) - ينظر تاريخ ولايته في البيان المغرب 1/116ـ.
(3) - رياض النفوس 1/476ـ
(4) - ابن الفرضي 2/799.
(1/169)
ذكره ابن مجاهد في الرواة عن نافع في أول كتاب السبعة وقال: "وكردم رجل من أهل المغرب"(1).وذكره الذهبي في أصحاب نافع(2)، وقال ابن الجزري: "قدم المدينة وعرض على نافع، وكان زاهدا عابدا فاضلا"، روى عنه أحمد بن جبير الأنطاكي(3)، وقال الداني: "لا أعلم روى عنه أحد غيره"(4).
وقد كان معدودا في العشرة المشهورين بالنقل عن نافع ـ كما سيأتي ـ إلا أن ضياع أخباره قد حرمنا من معرفة نشاطه في القراءة والإقراء سواء في المناطق الافريقية أم غيرها.
بقي أن نشير إلى أن هذا العصر ـ أعني المائة الثالثة ـ قد شهد احتكاكا واسعا بالمدرسة المصرية التي كانت حافلة بأعلام الرواية عن أبي سعيد ورش وأصحابه، وأن هذه الرواية قد دخلت إلى افريقية على أيدي رجال المدرسة المدنية أيضا، إذ كانت الرحلات العلمية بعد موت مالك وأعلام أصحابه بالمدينة قد اقتصرت في الغالب على مصر، وكان بها جماعة كبيرة من أئمة الرواية عن مالك وأصحابه كابن القاسم وابن وهب وأشهب وأصبغ وعبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم ويونس بن عبد الأعلى وأحمد بن صالح وغيرهم والثلاثة المتأخرون كانوا من أعلام مدرسة ورش في مصر، فكانوا مقصودين في فقه المذهب والقراءة معا، وكانت الرحلة من افريقية والأندلس إليهم، ولاسيما يونس بن عبد الأعلى الذي تأخرت وفاته إلى سنة 264 هـ، وسيأتي لنا الحديث عن هؤلاء الرجال وآثارهم في العدد الموالي بحول الله.
الريادة في الجهات المغربية الداخلية
__________
(1) - السبعة في القراءات 64.
(2) - معرفة القراء 1/90.
(3) - تقدم.
(4) - غاية النهاية 2/32 ترجمة 2631.
(1/170)
أما الجهات المغربية الداخلية فالريادة فيها في هذه القراءة غير معروفة لأحد على سبيل التعيين، ولكنها مع ذلك كانت تستفيد من الجهات الإفرييقية بحكم تبعيتها لها بعد الفتح وحركة التواصل التي ظلت قائمة بينها، الأمر الذي كان يجعل الحديث عن افريقية والقيروان حديثا في الوقت نفسه عن امتداداتها في هذه الأقاليم، إلا أن قاعدة المغرب يومئذ كانت تستقطب إليها كل نابه ينبغ في علم من العلوم فينسب إليها دون بلده أو جهته.
ولقد عرف المغرب الأقصى بعد المائتين أفواجا من الأندلسيين والقرويين يمكن أن تحمل معها إليه نصيبا من التأثير في هذا المجال، من أهمها نزوح جالية كبيرة إليه على إثر "ثورة الربض" بقرطبة، وهي ثورة قامت بالربض الشرقي منها ضد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل لأمور نقمها عليه أهله، وكان عامة من خرج عليه من أهل العلم والديانة "فأوقع بهم الواقعة المشهورة، وهدم ديارهم ومساجدهم"(1)وقد كانت الحركة الأولى سنة 189هـ، وهي حركة منيت بالفشل إذ ظفر الحكم بمدبريها وصلب منهم اثنين وسبعين من رؤوس أهل العلم وكان من بين المصلوبين من الفقهاء يحيى بن مضر ـ الذي سبق ذكره في الرواة عن مالك ــ، وهرب من المشتركين فيها يحيى بن يحيى الليثي وطالوت بن عبد الجبار وعيسى بن دينار وهم أعلام المالكية في عصرهم(2).
ثم كانت الحركة الثانية سنة 202هـ ضد الحكم نفسه، فكان نصيبها كسابقتها، فقتل فيها وصلب جماعة "وتفرق أهل الربض في جميع أقطار الأندلس، ومنهم من جاز البحر إلى العدوة بالأهل والولد، فاحتلوا بعدوة فاس، فهم عدوة الأندلس منها، فصيروها مدينة"(3).
النازحون من الأندلس والقيروان إلى المغرب لهذا العهد وأثرهم العام:
__________
(1) - جذوة المقتبس 10.
(2) - شيوخ العصر في الأندلس للدكتور حسين مؤنس 22.
(3) - البيان المغرب 1/77.
(1/171)
ولقد كان لهؤلاء الفارين من قرطبة من أهل الربض من الوقع والأثر في المواطن التي نزلوها ما قيل معه: "لم يخرج منهم طائفة بناحية من نواحي الدنيا إلا وتغلبوا عليها واستوطنوها على قهر من أهلها، وأكثر من هرب من أهل العلم والخير، ممن أتهم أو خاف على نفسه، إلى ناحية طليطلة، ثم أمنهم الحكم، وكتب لهم أمانا على الأنفس والأموال، وأباح لهم التفسح في البلدان حيثما أحبو ا من أقطار مملكته، حاشا قرطبة أو ما قرب منها"(1).
والذي يهمنا هنا من هذه الواقعة هو ما ترتب عليها من نزوح نحو من ثمانمائة أسرة من قرطبة إلى فاس وفيهم بلا شك عدد كبير من أهل العلم بالفقه والحديث والقراءة وغير ذلك، فأوسع لهم المولى إدريس الأصغر جنابه بمدينته الجديدة فاس، وأذن لهم في النزول فأسسوا بها عدوة الأندلس التي كان لها أثر كبير في المد الحضاري في هذه المدينة والإسراع بتعريب أهلها، كما يمكن أن يكون في أولئك النازحين طائفة ممن حملوا معهم قراءة نافع حسب الرواية التي كان عليها الناس لهذا العهد بقرطبة، وهي رواية الغازي بن قيس عنه، وهذا أمر لا ينبغي أن يسقطه من الحسبان والاعتبار من يريد الحديث عن المسار الذي عبرت منه هذه القراءة إلى الديار المغربية قبل استقرارها وانتشارها واعتمادها قراءة جامعة بصفة رسمية.
وأما الحدث الثاني الذي يمكن أن يكون قد صحب معه تأثيرا مماثلا في هذا الصدد، فهو نزوح أفواج أخرى من أهل القيروان إلى المغرب ونزولهم بمدينة فاس، حيث أسسوا بها العدوة المنسوبة إليهم "عدوة القرويين"، وذلك بعد سنة من تأسيس "عدوة الأندلس"(2). ولا يخفى ما كان بين العدوتين من تنافس شمل جميع المجالات وعم جميع الميادين، الأمر الذي جعل المدينة بعدوتيها ملتقى للمؤثرات وللحركات العلمية القائمة في الأندلس وافريقية على السواء.
__________
(1) - نفس المصدر والصفحةـ.
(2) - المصدر نفسه 1/236 ـ والأنيس المطرب بروض القرطاس لابن أبي زرع 180.
(1/172)
والذي كان يحقق استمرار التواصل بين جميع الجهات الافريقية والأندلسية والمغربية، وجود إحساس مشترك بين نازلة هذه الأقطار أكدته كثير من الأحداث مع الزمن، بأن العدوة الأندلسية إنما هي امتداد طبيعي للعدوة المغربية، ولذلك لم يكن التنقل بين العدوتين أمر غير عادي، مما كان يجعل كثيرا من العشائر تتردد بين العدوتين باستمرار خلال السنة انتجاعا للعيش بالتجارة أو لطلب العلم أو في رحلة الحج أو لغير ذلك من الأسباب، يضاف إلى ذلك أن الولاء للقبيلة كان حتى ذلك الحين ما يزال يتحكم في العلاقات الاجتماعية بين السكان، إذ كان يكفي وجود أدنى سبب يصل بين المرء وقبيلة ما من نسب أو ولاء أو صهر ليجد لديها السكن والإيواء، أو الإسعاف والنصرة متى احتاج إليهما، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كان من نزول عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" بالمغرب الأوسط لخؤولة له في نفزة، لأن أمه كانت من سبيهم(1).
ومن ذلك أيضا نزول المولى إدريس بن عبد الله الحسني بقبيلة أوربة بحكم اصهاره إليها(2)، وكان مثل ذلك يحدث بين رجال العدوتين وقبائلهما بصورة عادية، فلم يكن يعدم المرء في هذه أو تلك لجئا وعشيرة يأوي إليها كلما تردد على هذا البلد أو ذاك، هذا فضلا عن الدور الذي كان للمجاورة بالمساجد والربط حيث كان في إمكان أي طالب غريب أن يأوي إليها عالما أو متعلما أو مرابطا، الأمر الذي كان معه الداخل إلى أي ناحية يجد له نزلا يحل به. وذلك ما كان ييسر للطالب عبور المجاز وارتياد الآفاق العلمية في العدوتين، قبل أن يطمئن به المقام في بلد من البلدان، وربما نسب إلى هذا البلد الذي ألقى فيه عصا التسيار.
__________
(1) - البيان المغرب 2/41.
(2) - ينظر الأنيس المطرب بروض القرطاس 20 والبيان المغرب 1/210ـ.
(1/173)
وقد كانت الجهات الشمالية من المغرب مهيأة أكثر من غيرها للاستفادة من هذه الصلات العلمية الدائمة، إلا أنها كانت في غالب الأحيان تفقد "أطرها" العلمية بسبب ذلك، إذ لا يلبث الخارج منها للطلب أن يطيب له المقام في المناخ العلمي الذي يتخرج فيه، فيستقر ببعض الحواضر هنالك في افريقية حينا أو في الجهات الأندلسية آونة أخرى. ولهذا كثيرا ما تطالعنا أسماء طائفة من المنتسبين إلى الحواضر المغربية تضعها كتب التراجم عادة في قسم خاص تحت عنوان "الغرباء"(1).
- طلائع الرحلات العلمية في المغرب:
ونشير ههنا على سبيل المثال لا الحصر إلى أسماء طائفة من النابهين من علماء المنطقة الشمالية من المغرب كانوا في زمانهم يمثلون هذه الطليعة التي استفادت من المناخ العلمي العام الذي كان سائدا في افريقية والأندلس وهم في الوقت ذاته يمثلون نتائج هذا اللقاح الذي كان يتم بين هذه الأقطار لهذا العهد، فمنهم:
ـ الحسن بن سعيد بن إدريس بن رزين الكتامي البربري من أهل المغرب، دخل الأندلس وكان من أصحاب المحدث الأندلسي الكبير الإمام بقي بن مخلد(2).
__________
(1) - نجد هذا عند ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس وفي التكملة لابن الأبار وفي الذيل والتكملة للمراكشي.
(2) - هو إمام المحدثين في الأندلس في زمنه (ت سنة 276). تاريخ علماء الأندلس 1/169 ترجمة 2181. وروايته عنه في جذوة المقتبس 178 ترجمة 331.
(1/174)
ـ حسين بن فتح أبو علي المقرئ المؤدب، أصله من مدينة "نكور"(1)" سكن أشبيلية، وكان يؤدب بالقرآن، وكان له بصر بالنحو والغريب والشعر، سمع من أبي جعفر أحمد بن محمد بن هارون البغدادي(2).
ـ ومنهم أبو الأصبغ عيسى بن العلاء بن نذير بن أيمن السبتي، أخذ العلم عن مشيخة قرطبة، وعاد إلى بلده فولى القضاء والصلاة، وكان فقيها محدثا وعالما ضابطا توفي سنة (336) أخذ عنه بسبتة جماعة سماهم عياض(3).
__________
(1) - مدينة صغيرة في بني تمسمان من شمال المغرب، أسسها سعيد بن إدريس بن صالح بن منصور الذي ملك بها 37 سنة، وكان جده قد دخل من المشرق زمن الوليد بن عبد الملك. البيان المغرب 1/176.
(2) - سمع منه كتب ابن قتيبة، وهو من المؤلفين في القراءات، ترجمته عند ابن الفرضي تاريخ علماء الأندلس 1/207.
(3) - ترتيب المدارك 6/276-277 وذكره ابن الفرضي في الغرباء ينظر تاريخ علماء الأندلس 2/567 ترجمة 993.
(1/175)
ـ ومنهم طائفة من علماء "البصرة"(1)كأبي هارون العمري(2)، وأحمد بن حذافة وبشار بن ركانة وقد حجا في رحلة واحدة مع أبي هارون العمري(3)، وكأبي محمد الأصيلي(4)وابن العجوز السبتي(5)وأبي عمران الفاسي(6)وسواهم من أعلام المغرب لهذا العهد.
8- مكانة مدينة سبتة في هذا الصدد
__________
(1) - مدينة مغربية كانت من ولايات الدولة الادريسية إلى أن خربها أبو الفتوح الصنهاجي. البيان المغرب 1/235.
(2) - ترجمته في ترتيب المدارك 5/145-149.
(3) - المصدر نفسه 5/149.
(4) - هو عبد الله بن إبراهيم أبو محمد الأصيلي ولد بأصيلا ونشأ بها وتنقل في طلب العلم فدخل قرطبة سنة 342، ورحل إلى المشرق فتنقل في أقطاره نحوا من ثلاثة عشر عاما، ورجع فسكن قرطبة وأخذ عنه الكبار، وقرأ عليه بها أبو عمران الفاسي. ترجمته في تاريخ علماء الأندلس 1/249 وترتيب المدارك 7/135 والجذوة للحميدي 239 والديباج المذهب لابن فرحون 138-139. وكانت وفاته سنة 392.
(5) - هو عبد الرحيم بن أحمد الكتامي السبتي يعرف بابن العجوز، كانت الرحلة إليه في وقته بالمغرب، طلب العلم في آفاق المغرب والأندلس وافريقية ولزم ابن أبي زيد القيرواني، وتوفي سنة 413 وقيل 418 (ترجمته في ترتيب المدارك) 7/272-280 والصلة لابن بشكوال 1/871 والديباج 153.
(6) - هو موسى بن أبي حاج الفاسي نزيل القيروان، سيأتي في المتصدرين للقراءات بها.
(1/176)
وينبغي أن نشر هنا إلى الدور الذي كانت تضطلع به مدينة سبتة في هذا الصدد منذ أول الفتح، إذ كانت دائما بوابة الأندلس التي تستقبل التأثير وتحمله في آن، وقد كانت منذ عهود مبكرة "مطمح ملوك العدوتين وكان للناصر المرواني(1)صاحب الأندلس عناية واهتمام بدخولها في ايالته حتى حصل له ذلك، ومنها ملك المغرب(2). ويمكننا إدراك مقدار تأثر سبتة بالحملة العلمية الناهضة في الأندلس واحتذائها لها في جميع المجالات، مما ذكره ابن عذاري من أنها "كان يحكم فيها برأي فقهاء الأندلس ... وكانوا مع ذلك يؤدون الطاعة لبني إدريس حتى افتتحها عبد الرحمن الناصر، ودخلها قائده فرج بن عفير يوم الجمعة لليلة خلت من شعبان سنة 319"(3).
ولم تنفرد سبتة باستقبال هذا التأثير بل شاركتها فيه حواضر أخرى كطنجة التي نبغ فيها غير واحد من الأعلام بل كان منها أقدم قارئ مذكور بلغ مستوى الإمامة في القراءة، ونعني به أبا الربيع سليمان بن أحمد الطنجي المعمر الذي "رحل إلى مصر وبرع في القراءات، وقرأ مع أبي الطيب بن غلبون(4)... ورجع فأقرأ بالمرية دهرا طويلا، وزاد على المائة سنين، ومات قبل سنة (440هـ)(5).
__________
(1) - هو عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر، ولي الحكم سنة 300هـ، ومات سنة 350 وسيأتي الحديث عن المدرسة القرطبية في زمنه.
(2) - أزهار الرياض للمقري 2/257.
(3) - البيان المغرب 1/203-204.
(4) - هو الإمام عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي المتوفى سنة 389، وسيأتي ذكره في روافد مدرسة ورش بصر من الشاميين، وفي مشيخة كثير من أئمة القراءات في افريقية والأندلس.
(5) - غاية النهاية 1/311 ترجمة 1370.
(1/177)
ذلك جانب من هذا النشاط العلمي الذي بلغتنا أصداؤه من خلال هذا العصر، والذي يهمنا من خلال عرض النماذج التي ذكرناها عنه التأكيد على وجدود الصلات العلمية الدائمة التي كانت لا تنقطع، ولا تني آثارها تنعكس على الحواضر المغربية، ولا شك أن هذه الحواضر كانت تحتضن كثيرا من المبادرات الفردية في أكثر من مجال بما في ذلك إسهامها في القراءة وشد الرحال في طلبها إلى افريقية ومصر والأندلس وغيرها وإن كانت المصادر عندنا فقيرة في هذا الشان إذ لم يكن اهتمامها بتتبع هذه المبادرات وتسجيل أخبارها.
وبناء على ما تقدم يمكن القول باطمئنان: ان المناطق المغربية قد تعرفت على قراءة نافع على أيدي هؤلاء الأعلام ومن خلال حركات الهجرة التي رأينا، والصلات الدائمة بينها وبين افريقية والأندلس، بالإضافة إلى المبادرات التي أشرنا إليها مما كان يتحقق على أيدي أصحاب الرحلات الحجازية التي كان العائد منها غالبا يجد أكثر من داع يدعوه إلى التوقف في أثناء الطريق بمصر أو بالقيروان حيث كانت قراءة نافع قد أخذت طريقها لتصبح قراءة رسمية جامعة قبل منتصف المائة الرابعة، وربما عرج الطالب منهم على مواطن أخرى لمزيد من الإتقان فدخل صقلية أو قرطبة أو غيرها من حواضر الأندلس، وهي يومئذ في أوج نشاطها الثقافي والحضاري.(1)
__________
(1) - سيأتي لنا الحديث عن سلسلة طويلة من الرحلات العلمية من المناطق الافريقية والأندلسية والمغربية وأثرها في دخول مختلف القراءات والروايات والمصنفات في القراءات وآثار المدارس الفنية من مختلف الجهات المشرقية من حجازية أو شامية أو عراقية أو مصرية، وذلك في طائفة من الفصول الآتية في البحث بعون الله.
(1/178)
تلك هي أهم المنافذ التي نفذت منها هذه القراءة إلى مختلف المناطق في افريقية والمغرب والأندلس، وأولئك هم الرواد الذين تم على أيديهم دخولها والقيام عليها إلى أن تحقق لها الحصول والظفر بالصدارة على غيرها من قراءات السلف، واعتمادها في مجموع الأقطار المغربية وامتداداتها قراءة رسمية جامعة لا تجد لها مزاحمة ولا منافسة من قراءة أخرى إلى اليوم. ولعل القارئ الكريم قد لمس معنا عن كثب أهم العوامل والأسباب التي ساعدت على ذلك، ولكننا رأينا لمزيد من البيان أن نقف معه على إبرازها وتحديد أهم عناصرها لأننا لم نقف على أحد تقدمنا إلى دراستها واستخلاصها ومحاولة استقرائها من الوقائع والمظان. ونسوقها فيما يلي مجملة في نقط، ثم نأخذ في تفصيلها بعون الله:
عوامل اعتماد قراءة نافع قراءة رسمية:
1- الرحلة إلى الحجاز.
2- إيثار مذاهب أهل المدينة على غيرها.
3- العلاقة بين القراءة والمذهب.
4- النقل المزدوج للقراءة والمذهب معا على أيدي الرواد.
5- تشجيع السلطة الحاكمة وتدخلها.
6- الرغبة في استقلال الشخصية عن المشرق.
7- ميل المغاربة إلى الوحدة السياسية والمذهبية والفكرية.
ولنا وقفة مع كل عامل من هذه العوامل لبيان أثره في ترسيخ جذور هذه القراءة في المناطق المغربية ودعمها بكل الوسائل إلى حين استقرارها واستوائها في هذه الآفاق وانفرادها بالمقام الأول بغير مزاحم أو منافس.
الفصل الرابع:
عوامل اعتماد قراءة نافع قراءة رسمية
العامل الأول: الرحلة إلى الحجاز
(1/179)
على الرغم من كون الباعث الأول على أكثر الرحلات الحجازية إنما هو أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، فإن رحلة الحج كانت تتوج عادة بدخول المدينة المنورة للصلاة في المسجد النبوي وزيارة الروضة الشريفة، والتملي بمشاهد الحرم المدني، وكان هذا يستتبع عن قصد أو غير قصد الاتصال بعلماء أهل المدينة الذين واصلوا منذ خلافة الراشدين القيام بنشر العلم ورواية الحديث في حلقات ومجالس علمية في رحاب هذا المسجد لا تنقطع على السنين، الأمر الذي كان يتيح للوارد على المدينة أن يتوج زيارته لهذه المشاهد بالتعرف على أولئك الأعلام، والجلوس إليهم في تلك الحلقات والمجالس العلمية قبل الرحيل عنها، ليعود إلى بلاده مزودا بزاد نفيس من علوم الإسلام، في وقت كانت تتطلع فبه عامة البلدان إلى الرواية عن أهل المدينة، إذ كانت الرواية عنهم عنوان الشرف عند أهل الأمصار، على ما جاء عن أبي العالية الرياحي(1)قال: "كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن بالبصرة، فلم نرض حتى رحلنا إليهم فسمعناها من أفواههم"(2).
__________
(1) - هو رفيع بن مهران الرياحي البصري أحد الأئمة من طلائع مدرسة البصرة، قرأ على أبي بن كعب وغيره، وكان من علماء التابعين، مات سنة 90 وقيل 96هـ. ترجمته في غاية النهاية 1/284-285 ترجمة 1272.
(2) - الطبقات الكبرى لابن سعد 7/113.
(1/180)
وأخرج الحافظ ابن عبد البر عن قيس بن عباد(1)فال: "قدمت المدينة أطلب العلم والشرف"(2)وقال علي بن المديني(3): "حججت حجة، وليس لي هم إلا أن أسمع"(4).
ولقد كان اهتمام أهل المغرب عموما بالغا مداه في الصدر الأول في طلب هذا الشأن في الحجاز اغتناما لرحلة الحج التي هي رحلة العمر في الغالب، ولما لاحظه العلامة ابن خلدون من التناسب الذي بين المغاربة وأهل الحجاز في أحوال المعاش، ولكون هذا المجال هو الذي استغرق أكثر توجهاتهم "لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلاميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة"(5).
فالرحلة إلى الحجاز كانت أهم الأسباب التي مهدت لتعرف المغاربة على مذاهب أهل المدينة، وساعدت على الوقوف على قراءة نافع بها، وكان هم الطالب يومئذ أن تتاح له فرصة كهذه ليجمع بين أداء الفريضة والزيارة، وبين الأخذ عن إمام دار الهجرة في الفقه مالك بن أنس، وإمامها في القراءة نافع بن أبي نعيم.
العامل الثاني: إيثار مذاهب أهل المدينة على غيرها
__________
(1) - هو قيس بن عباد ـ بضم العين والتخفيف ـ المنقري القيسي. ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم القسم الثاني من الجزء الثالث 101.
(2) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر النمري 1/80.
(3) - هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح التميمي السعدي أبو الحسن البصري الحافظ امام أهل الحديث في زمنه، مات سنة 234. ـ خلاصة تذهيب تهذيب الكمال للخزرجي 275.
(4) - علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح: 54.
(5) - مقدمة ابن خلدون 449.
(1/181)
لا يرتاب أحد في علو مكانة المدينة المنورة عند عامة المسلمين، باعتبارها دار هجرة خير المرسلين ومثواه حيا وميتا، وإلى هذه المكانة يشير عياض بقوله متحدثا عن أهلها:
"بوأهم دار وحيه ومأرز(1)دينه، ومتبوأ شرعه ومهبط ملائكته، ومهاجر نبيه ومنزل كتابه، ومجثم مثوى رسله ومجتمع الخير كله، كهف الإيمان والحكمة، ومعدن الشريعة والسنة، وسراج الهدى الذي بنوره أضاءت المشارق والمغارب، وينبوع العلم الذي استمدت منه سائر الأودية والمذانب"(2).
وقد نشأ عن هذا التوقير العام للمدينة،توقير لجميع ما ينسب إليها أو ينقل عن أهلها من شعائر الدين ومظاهر السلوك، ومن هنا جاء اعتماد المغاربة لفقه أهل المدينة وقراءتهم وما أثر عنهم من عمل. ولا شك أن اعتماد قراءة نافع من لدن جمهور قراء المناطق المغربية إنما كان استجابة لهذا التقدير وانسجاما معه، وهو أمر له من الدواعي ما ييسره ويبعث عليه ويحمل على إيثاره، لاسيما لدى أولئك الأصحاب الرواد الذين اقتنعوا تمام الاقتناع بمكانة المدينة ومكانة مشيختها من أمثال مالك ونافع وهو ما يتمشى وما حفظه مالك نفسه للمدينة من اعتبار خاص، على ما قرره في رسالته المشهورة إلى صاحبه الليث بن سعد دفاعا عن إيثاره للأخذ بمذهب أهل المدينة وعملهم إذ يقول:
__________
(1) - بمعنى مأوي، وهو ينظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" ذكره عياض في ترتيب المدارك 1/37، وأصله في البخاري عن أبي هريرة 1/322.
(2) - ترتيب المدارك 1/4.
(1/182)
"فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويبين لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته، ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر بعده، فما نزل بهم مما عملوه أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك ... فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه للأثر الذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها"(1).
وكما ساد هذا التقدير لمذاهب أهل المدينة باعتبارها استمرارا عمليا وميراثا نبويا، ساد أيضا مثل ذلك في النظر إلى رجالها وقيمة الروايات المنقولة عنهم عن الثقات، وقد ترامى أثر ذلك إلى الآخذين عنهم من أهل افريقية من الرواد ثم استمر أثره في تلامذتهم، مما تميزت به "المدرسة المدنية" عن سواها في ملامحها وسماتها وخصائصها العامة، وهذا شيخ المذهب بافريقية الإمام سحنون يقول:
"المدني إذا لم يكن هكذا ـ يريد في الدين، وشد على يديه ـ لم يسو شيئا"(2).
وقد قال مالك قبله للخليفة المهدي العباسي لما دخل المدينة: "ما على وجه الأرض خير من أهل المدينة ولا خير من المدينة"(3). وقال مالك أيضا لأبي جعفر المنصور حين أراده على تأليف كتاب في الفقه يحمل الناس عليه: "فإني رأيت أصل هذا العلم رواية أهل المدينة وعلمهم"(4).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/41-43.
(2) - المصدر نفسه 1/21.
(3) - ترتيب المدارك 2/102.
(4) - الانتقاء لابن عبد البر 41.
(1/183)
ولا يخفى أن هذه الخاصية التي لأهل المدينة في هذا الشأن كما تسري على الرواية الفقهية والسنن العملية تسري على القراءة من باب أولى، لأن القراءة نقل محض لا مجال فيه لرأي أو اجتهاد شخصي، على ما أثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "القراءة سنة، فاقرأوا كما تجدونه"(1)، وعن عروة بن الزبير قال: "إنما قراءة القرآن سنة من السنن، فاقرأوه كما أقرئتموه"(2).
كان اعتماد قراءة نافع إذن وإيثارها على غيرها من قراءات أئمة الأمصار الأخرى داخلا في إيثار ما عليه عمل أهل المدينة من السنن القولية والفعلية، وهو ما نحا إليه مالك ـ رحمه الله ـ حين قال: "قراءة أهل المدينة سنة، قيل له: قراءة نافع؟ قال: نعم"(3)وقد أثر ذلك عن غير مالك من الأئمة أيضا(4).
ولقد غدا الأخذ بمذاهب المدنيين شعار الدولة في الأندلس، وتجاوز الأمر فيه مستوى الاقتناع والإقناع بجدارته وأحقيته، إلى مستوى الإلزام الذي لا خيار فيه لأحد في الميدان الفقهي والعملي، ابتداء من حياة مالك حيث كانت لخطوات الحثيثة نحو ترسيمه، وانتهاء إلى عهد القوة والملك العريض الذي تأثل لأمويي الأندلس في المائة الرابعة على أيام عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر والحاجب المنصور بن أبي عامر.
__________
(1) - ورد الحديث بطرق عديدة عند ابن مجاهد في كتاب السبعة في القراءات 49-51.
(2) - المصدر نفسه 52.
(3) - رواه سعيد بن منصور عن مالك، ولم أقف عليه في القسم المطبوع من سنن سعيد بن منصور في الجزءين ونقله الذهبي في معرفة القراء الكبار 1/90.
(4) - سيأتي مثل ذلك عن الإمام أحمد والليث وابن وهب، ويمكن الرجوع إلى ابراز المعاني لأبي شامة 6 ومعرفة القراء الكبار 1/90 وغاية النهاية 2/332 والنشر 1/112. وكتاب السبعة لابن مجاهد 62.
(1/184)
ولكم يبدو من الطريف أن أولئك الحكام قد حاولوا الأخذ بمذاهب المدنيين في كل شيء، حتى عملوا على إدخال مذاهبهم في التوقيع والغناء، وسموا الجناح الذي تقيم فيه الجواري المستوردات من هناك بـ"دار المدنيات"(1)، فغير بدع أن يتمسك قوم هذا شأنهم في الشغف بكل ما هو مدني بمذهب مالك وقراءة نافع وأن يرتبط في أذهانهم تقديرهم للمدينة وخصوصية أهلها بتقدير فقه إمامها وقراءة قارئها، لاسيما إذا كان هذا التقدير مستندا إلى شعور إسلامي مشترك بين الأمة، وإلى ما هو متعارف عند العلماء، حتى قالوا عن الحديث انه "إذا جاوز الحديث الحرة(2)ضعف نخاعه"(3).
وهذا الإمام أبو بكر بن مجاهد أول من جمع قراءات السبعة في كتابه، وضع نافعا في طليعتهم مع تأخر زمنه ووفاته عنهم جميعا ما عدا الكسائي، ولمح إلى سر تقديمه بقوله عن المدينة:
"مهاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعدن الأكابر من صحابته، وبها حفظ عنه الآخر من أمره، فكان الإمام الذي قام بالقراءة بمدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد التابعين أبو عبد الرحمن نافع ابن أبي نعيم"(4).
__________
(1) - استكثر أمراء بني أمية بقرطبة من الجواري والقيان وأخذوا بأسباب البذخ والرفاه فتأنقوا في اختيارهن من المدنيات اللاتي تلقين أصول العزف والغناء بالمدينة، وأفرد لهن عبد الرحمن الأوسط (206-238) دارا خاصة بهن سميت "دار المدنيات" يمكن الرجوع في ذلك إلى نفح الطيب 4/136.
(2) - هي المعروفة بحرة واقم بظاهر المدينة حيث دارت المعركة المعروفة بوقعة الحرة على عهد يزيد.
(3) - التمهيد لابن عبد البر 1/80، وهناك رواية بلفظ "انقطع نخاعه" تنظر في نشر البنوذ للعلوي 2/90.
(4) - كتاب السبعة لابن مجاهد 53.
(1/185)
وهكذا غدا تقديم نافع في الذكر على القراء السبعة تقليدا لما درج عليه عامة المؤلفين وأصحاب القصائد التعليمية كالشاطبي في "حرز الأماني" وغيره، فقال الفاسي في اللآلئ الفريدة: "بدأ ـ يعني الشاطبي ـ بنافع تفضيلا له علما ومحلا"(1). وقال القسطلاني معللا لتقديمه له: "قدم لشرف محله"(2).
ونجد صدى هذا الإيثار والتوجيه أيضا عند المفسرين المغاربة في اعتمادهم قراءة نافع في أول ما يديرون عليه تفاسيرهم ثم يذكرون بعد ما يحتاج إليه من اختلاف، فقد علل الإمام ابن جزي لبنائه تفسيره عليها بقوله: "وانما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع لوجهين: أحدهما أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر المغرب، والأخرى اقتداء بالمدينة ـ شرفها الله ـ لأنها قراءة أهل المدينة، وقال مالك: قراءة نافع سنة"(3).
ونجد صدى هذا حتى عند المتأخرين من الأئمة، فهذا العلامة محمد الطاهر بن عاشور التونسي يقول في تفسيره: "وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون، لأنها القراءة المدنية قارئا وراويا، ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية العشرة"(4).
وقد بلغ الأمر مداه في التمسك بـ"المدنية" في انتقاد الإمام المارغني على أبي الحسن بن بري ما فعله في أرجوزته المسماة بـ"الدرر اللوامع" من تقديم ورش على قالون
في الذكر(5)
__________
(1) - اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة لمحمد بن الحسن الفاسي (مخطوط سيأتي في شروح الشاطبية).
(2) - لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1/94.
(3) - التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي 1/7.
(4) - التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور التونسي ـ المقدمة السادسة 1/63.
(5) - يعني في قوله:
على الذي روى أبو سعيد ... عثمان ورش عالم التجوي
والعالم الصدر المعلم العلم ... عيسى بن مينا وهو قالون الأصم
(1/186)
قال: "إذ كانوا يلتزمون تقديم قالون عليه، لأنه مدني، ولأن كبار الأئمة كالداني والشاطبي قدموه، ولذا جرى عملنا بتونس بتقديمه على ورش في الإفراد والجمع"(1).
فإيثار مذاهب أهل المدينة كان أولا وراء اختيار قراءة نافع، ثم زاد عند أهل تونس فاختاروا من قراءة نافع الرواية المدنية، وهي رواية قالون، والتزموا بهذا التقديم حتى في إيراد مسائل الخلاف، وجاء أهل والمغرب فاختاروا رواية ورش المصري، ولكنهم اختاروا منها الطريق المدنية، وهي طريق يوسف الأزرق المدني، فكان الانتساب إلى المدينة داخلا في الحسبان، وحاضرا في الأذهان، وسرت من هذا آثاره إلى القراءة والرسم والضبط والعدد، فكانت "المدنية" صبغة عامة وسمة أساسية فيها، على غرار ما سيأتي لنا عند أبي عمرو الداني من تنبيهات يسوقها بعبارات مختلفة تؤكد على استمساك المغاربة بـ"المدنية" استمساكا تاما، كأن يقول: "ولم يخالفوهم في شيء جرى استعمالهم عليه"(2)، أو يقول: "وعلى استعماله واتباع أهل المدينة فيه عامة أهل بلدنا"(3)، أو يقول: "غير أن اتباع أهل المدينة أولى، والعمل بقولهم ألزم"(4). وسوف نرى هذا المنحى واضحا في "المدرسة الاتباعية" في موضعه من البحث بعون الله.
وقد انتهى بعض الباحثين إلى شبيه بما انتهينا إليه هنا في دراسته لآثار المدرسة المدنية في مصر في التفسير والفقه والقراءة، فذكر أنها ظاهرة عامة، وفسرها "بسيادة المدينة روحيا وثقافيا حينذاك"(5).
ومعنى هذا أن عامل "إيثار المدينة" قد أعطى النتائج ذاتها في مصر كما أعطاها في افريقية والمغرب والأندلس، وبهذا صح لنا اعتباره في طليعة العوامل التي مهدت لقراءة نافع ومكنت لها في هذه الديار.
__________
(1) - النجوم الطوالع للمارغني 18.
(2) - المحكم في نقط المصاحف للداني 8.
(3) - المحكم 50.
(4) - نفس المصدر والصفحة.
(5) - القرآن وعلومه في مصر للدكتور عبد الله خورشيد البري 357.
(1/187)
العامل الثالث: العلاقة الوثقى بين نافع ومالك أو بين القراءة والمذهب المدنيين
وكما كان للعاملين السابقين ـ الرحلة إلى الحجاز، وإيثار مذاهب أهل المدينة ـ أثرهما في اعتماد قراءة نافع المدني، فإن العلاقة الوثقى التي تربط بين إمامي المدينة لم تكن أيضا أقل شأنا واعتبارا في ذلك، فإلى جانب المعاصرة بينهما والزمالة في عهد الطلب والدرس ووحدة الشيوخ ـ كما سيأتي في الباب التالي ـ من ذكر جلوس نافع بن أبي نعيم إلى نافع مولى عبد الله بن عمر، ومالك من الصبيان -(1)وأخذهما معا عن ربيعة والزهري وابن هرمز وأبي الزناد وأبي جعفر المدني وغيرهم من مشيخة المدينة، فإن الوشيجه الأمتن التي زادت في توطيد العلاقة وإحكام الوصيلة بين الإمامين المدنيين، هي تدبجهما أي: قراءة كل منهما على الآخر، حيث قرأ مالك القرآن على نافع وعرض عليه(2)، وقرأ نافع على مالك الموطأ"(3).
هذا بالإضافة إلى تعاونهما في تخريج الأجيال العديدة من المدنيين والوافدين على المسجد النبوي من مختلف آفاق البلدان الإسلامية، فقد كانت لكل منهما حلقته، بل كانت حلقة نافع إلى جوار حلقة مالك، وسيأتي لنا كيف زجر نافع أحد تلامذته حين رفع صوته بالقراءة في حلقته وقال له: "أو ما ترى مالكا"(4).
__________
(1) - إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/111.
(2) - ترتيب المدارك 1/81 وكذا 2/172 وإبراز المعاني لأبي شامة 5 ووفيات الأعيان 4/135 ونشر البنود 1/344 وينظر البحث الذي شارك به أستاذنا الدكتور الراجي التهامي في "ندوة الإمام مالك" 1/280.
(3) - دليل الحيران في شرح مورد الظمآن للمارغني 25.
(4) - ترتيب المدارك 2/36.
(1/188)
كما سيأتي لنا أيضا بيان المكانة التي كان يحظى بها نافع عند الإمام مالك، سواء في الثناء على شخصه، أم في التنويه بقراءته، أم في توقيره والحرص على سمعته، فمن الأول قول مالك: "نافع إمام الناس في القراءة(1)، ومن الثاني قوله: "قراءة نافع سنة"(2)، ومن الثالث احتياطه له حينما استشاره الخليفة في تقديمه لصلاة التراويح في رمضان بالمسجد النبوي فقال مالك: "هو إمام، وأخاف أن يكون منه شيء في الغفلة"(3)وقد سرى هذا التقدير لنافع على لسان إمام المذهب وتناقله الأتباع من الطرفين، وعمل عمله إلى جانب المزايا الرفيعة والشمائل العالية التي اختص بها في زيادة إجلاله وتوقيره، حتى ارتبط في الأذهان واقترن التنويه بمالك بمثله لنافع باعتبار ما ذكرنا من المشيخة، واعتبار مذهب كل منهما من السنن العملية التي تمثل طريقة أهل المدينة المنورة هذا في القراءة، وذلك في المذهب الفقهي، بل ان الأمر قد تجاوز ذلك إلى ما فهمه بعض الأئمة من دخول نافع مع مالك في مقتضى التنويه الذي تأوله سفيان بن عيينة وغيره من الأئمة بخصوص حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآتي، فقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس (ت 338هـ) وهو من أعلام مدرسة ورش بمصر ـ عند حديثه عن مكانة الإمام نافع وما كان له من السبق في وضع "كتاب التمام" لتحديد مواقع الوقف التام، وذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال:
"سيأتي على الناس زمن تضرب فيه أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يوجد إلا عند عالم المدينة،(4).
__________
(1) - غاية النهاية 2/333.
(2) - تقدم ذكره من رواية ابن وهب وغيره وسيأتي تحقيق معنى هذا القول.
(3) - ترتيب المدارك 2/105.
(4) - ورد الحديث بصيغ متقاربة وطرق متعددة ذكرها ابن عبد البر في الانتقاء 19-22 وعياض في ترتيب المدارك 2/68-71، وابن فرحون في الديباج المذهب 13-14.
(1/189)
قال النحاس: قال مصعب الزبيري(1): قال ابن عيينة: نرى أن هذا الحديث: "يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة،" أنه مالك بن أنس".
ثم ذكر النحاس رواية أخرى عن الإمام أبي عبد الرحمن النسائي ـ صاحب السنن ـ قال: "أرجو أن يكون العالم مالك بن أنس".
قال أبو جعفر النحاس: "وانما ذكرنا هذا لأن نافعا مع مالك كانا في عصر واحد بالمدينة"(2).
يعني أنه إشارة أو تلميح إلى احتمال دخول نافع مع مالك في هذا التقريظ النبوي الشريف لعالم المدينة، لاسيما على القول الذي يذهب إلى أن المراد بعالم المدينة "الجنس" لا الشخص المعين(3)، أي أن عالم المدينة في ذلك الزمن يكون أرسخ قدما في العلم من عالم غيرها من الأمصار، وذلك فيما لمح إليه النحاس كما يصدق في الفقه والآثار يصدق على القراءة وعلومها، فيشترك فيه مالك ونافع على حد سواء.
وعلى هذا المحمل حمله أبو المغيرة محمد بن إسحاق المخزومي(4)من علماء المدينة قال: "فيكون على هذا سعيد بن المسيب، لأنه النهاية في وقته، ثم بعده غيره ممن هو مثله من شيوخ مالك، ثم بعدهم مالك، ثم بعده من قام بعلمه وصار أعلم أصحابه بمذهبه، ثم هكذا مادام للعلم طالب ولمذهب أهل المدينة إمام".
__________
(1) - مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت الزبيري أبو عبد الله المدني روى عن مالك الموطأ وغيره وعرف بصحبته، اشتهر بمعرفة الأنساب (ت 236 هـ) ترجمته في ترتيب المدارك 3/170-172 وخلاصة الخزرجي ص 378.
(2) - كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر بن النحاس 76.
(3) - ينظر في هذا الشأن ترتيب المدارك 1/70-75.
(4) - كان بالمدينة ثم خرج إلى العراق فولي القضاء بفارس. ترجمته في ترتيب المدارك 4/276.
(1/190)
قال عياض: "ويجوز على هذا أن يقال: هو ابن شهاب في وقته وفنه، والعمري(1)في وقته وفنه، ومالك في وقته وفنه.."(2).
فدل هذا إذن على إمكان دخول نافع في مقتضى التقريظ المذكور، فيكون دالا بعمومه عليه. وهكذا ارتبط عند الناس انطلاقا من هذا وغيره" إجلال مالك بإجلال نافع، وسرى معه التقدير المشترك للإمامين في الأخذ بمذهبيهما في القراءة والفقه، واعتبروا قول مالك عن قراءته هي سنة وأخذه عنه، فقراءته هي قراءة إمام المذهب، فكل مخالفة عنها مخالفة لهذا الإمام في الجملة، ولهذا نجدهم كثيرا ما يكتفون في التنويه بقدره بذكر قراءة مالك عليه، كقول ابن وهب: "فكيف برجل قرأ عليه مالك"(3)وكقول أبي وكيل ميمون الفخار في تحفة المنافع:
إذ هي سنة، وأخذ مالكـ بحرف نافع، فهل من سالك(4).
ثم انتقلوا بالاقتران بين المذهب والقراءة إلى مستوى أرفع، حتى في مجال اختيار الروايات، رغبة منهم في تحقيق مزيد من التلاحم بينهما، ففي الأندلس مثلا كان الغازي بن قيس في شخصيته ملتقى للقراءة والمذهب، فقد قدمنا أنه الرائد الأول في إدخال قراءة نافع، في حين أنه أيضا أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس(5)، فاجتمع الناس على رويته لهذا الازدواج في شخصيته العلمية.
__________
(1) - هو عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري الزاهد. ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء المدينة من التابعين "مشاهير علماء الأمصار" 129 ترجمة 1009.
(2) - ترتيب المدارك 1/72.
(3) - نقله مسعود جموع في الروض الجامع في شرح الدرر اللوامع (محطوط سيأتي ذكره بين شروح الدرر اللوامع).
(4) - تحفة المنافع في أصل مقرأ الإمام نافع، أرجوزة طويلة سيأتي التعريف بها وبناظمها في المدرسة المغربية.
(5) - غاية النهاية 2/2 ترجمة 2534. ونحوه في ترتيب المدارك 3/114 ـ وتاريخ علماء الأندلس 2/578.
(1/191)
ثم لما مات الغازي بن قيس كانت رواية ورش قد وصلت إلى الأندلس مع بعض الرواة عنه ـ كما سيأتي ـ ثم وصلت روايات أصحابه تباعا مع أصحاب الرحلات العلمية، فكان من بينها رواية عبد الصمد عن ورش، وهو ولد عبد الرحمن بن القاسم العتقي صاحب مالك، فمال الأندلسيون إلى روايته تحقيقا لهذا التلاحم بين القراءة والمذهب، وبه علل الإمام الذهبي لانتشار طريقه هناك فقال: "ولمكان أبي الأزهر(1)اعتمد الأندلسيون قراءة ورش"(2).
وإنما يعني من جهة كونه من فقهاء المالكيين، ومن جهة ثانية مكانه من البنوة لمتبوعهم في الجانب المذهبي، إذ كانت الفتيا عليه كما قال أبو الوليد الباجي(3): "كان في قرطبة لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجد"(4)، وذكر المقري من رسالة إسماعيل بن محمد الشقندي في "فضل الأندلس" أنهم " كانوا لا يولون حاكما إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم"(5).
فهذه الحظوة التي نالها ابن القاسم في الجانب الفقهي والمذهبي، قد استتبعت تلقائيا في مجال القراءة اختيار رواية ابنه أبي الأزهر عبد الصمد، رعاية للألفة والالتحام بين القراءة والمذهب، لاسيما ان اعتبرنا رواية ابن القاسم نفسه عن نافع ـ كما سيأتي ـ، فقد تمثل في هذا البيت إذن تمام الالتحام بين الأمرين والرواية عن الإمامين.
__________
(1) - هي كنية عبد الصمد صاحب ورش ويقال له عند المغاربة "العتقي".
(2) - معرفة للقراء الكبار للذهبي 1/150-151. طبقة 6. وتبعه السيوطي في حسن المحاضرة 1/207.
(3) - هو سليمان بن خلف بن سعد الباجي الفقيه المالكي المشهور من أهل قرطبة، رحل إلى بغداد والموصل ورجع إلى الأندلس فولي القضاء، وألف كتبا عالية القدر في الفقه وأصوله (ت 474) ترجمته في الصلة لابن بشكوال 1/197-199 ترجمة 453 وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي 95.
(4) - نقله الونشريسي في المعيار المعرب 12/24.
(5) - نفح الطيب للمقري 4/202.
(1/192)
ويظهر هذا الحفاظ على وحدة القراءة والمذهب والسعي إلى تمام الانسجام بينهما في إشارات كثيرة نلتقطها من المظان، منها ما ساقه أبو الوليد بن رشد القرطي (ت 520هـ) في فتوى له جاء فيها قوله:
وأما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمقرئين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض، لكونها أظهر من جهة الاعراب، أو أصح في النقل، أو أيسر في اللفظ، فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا، فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها، لما فيها من تسهيل الهمزات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روى عن مالك من كراهة النبر(1)في القراءة في الصلاة(2).
وهكذا يبدو التأثر بأحكام المذهب واضح السمات في اختيارات الأندلسيين، فيتجاوز في تعليل أخذهم برواية ورش ما قيل من أن ذلك كان بفضل الجوار وقرب الدار كما قدمنا، إلى تعليل مذهبي يشير به ابن رشد إلى ما روي عن مالك من أنه "سئل عن النبر في قراءة القرآن في الصلاة، فأنكر ذلك، وكرهه كراهة شديدة وأنكر رفع الصوت به"(3).
__________
(1) - النبر عبارة عن شدة الهمز في القراءة ينظر التمهيد لابن الجزري 115.
(2) - مسائل ابن رشد 4/681 رسالة مكتوبة بالآلة الراقنة تقدم بها الطالب الأستاذ محمد الحبيب التجكاني لنيل دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث. ونصها أيضا في المعيار للونشريسي 1/226.
(3) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/10.
(1/193)
ومن أمثلة التلاحم بين القراءة والمذهب الفقهي في وعي القراء ما نجده عند بعض الأئمة من احتياط في تقرير مذهب نافع في البسملة في فاتحة الكتاب، وفي الفصل بين السور من بعض الروايات عنه، وهو أمر تتحكم فيه الرواية ولا مجال فيه للاجتهاد الشخصي، فحافظوا على ذلك في الأداء، ونبهوا على أن ذلك لا يشمل حال الصلاة المفروضة، لأن مذهب أهل المدينة ترك التسمية فيها، فقرر أبو عمرو في "الأرجوزة المنبهة" مذهب القراء في ذلك بإثبات البسملة، ثم قال محتاطا للحكم الفقهي موافقة لمذهب مالك.
أقول في الأداء أو في العرض ولا أقول في صلاة الفرض(1)
ويقول أبو الحسن الحصري في قصيدته في قراءة نافع:
وإن كنت في غير الفريضة قارئا فبسمل لقالون لدى السور الزهر(2)
ومعلوم أن كلا منهما إنما أراد المحافظة على الانسجام المألوف بين القراءة والمذهب، حتى لا يكون إطلاق الحكم الأدائي سبيلا إلى المس بحرمة المذهب الفقهي أو العكس، مما يدل على مدى حرص القراء المغاربة على استمرار التجاوب بين القراءة والمذهب المدنيين، انبثاقا من العلاقة الوثقى التي ربطت في الأذهان بين هذه وذاك، مما كان له أثره العميق في التمكين لهما معا دفعة واحدة، فنالت قراءة نافع رضا الفقهاء والعامة "ولذلك عظم ميل المغاربة المالكيين إليها، وعولوا في التلاوة عليها، وأكثر علمائهم من التصانيف، وألفوا في قواعدها وأحكامها أي تأليف"(3).
العامل الرابع: النقل المزدوج للقراءة والمذهب معا على أيدي الرواد الأولين.
__________
(1) - الأرجوزة المنبهة للإمام الداني تحقيق الدكتور الحسن وكاك 2/375-376 من النسخة المرقونة بالآلة ومنها نسخ محفوظة بخزانة دار الحديث الحسنية بالرباط. وقبل هذا قوله:
والفصل بالتسمية المختار ... إذ كثرت في ذلك الآثار.
(2) - ذكره في باب البسملة من قصيدته، وستأتي في ترجمته بنصها.
(3) - النجوم الطوالع 3.
(1/194)
ومن أهم العوامل التي مهدت لقراءة نافع ومكنت لها في المناطق المغربية عموما، أن الرعيل الأول من رواتها من الرواد كانوا يعودون إلى بلدانهم وقد جمعوا بين رواية القراءة والفقه معا، بالأخذ عن مالك ونافع أو عن الآخذين عنهم وهكذا كان لهذه الظاهرة أثرها البارز في نشر القراءة والمذهب دفعة واحدة، سواء في افريقية والمغرب أم في الأندلس، كما كان لها أثرها المكين في التشجيع على اعتماد القراءة المدنية التي كان نافع إمام الناس فيها باعتبارها قراءة إمام المذهب. وعلى غرار ما وقع في مصر حيث كان كبار فقهائها ـ كما سيأتي ـ تلامذة لمالك ونافع معا، كعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز وابن القاسم، وقع في الأندلس على أيدي حملة الرواية عن الإمامين معا ممن سمينا من رواد الرحلة العلمية آنفا، كالغازي بن قيس وأبي موسى الهواري ويحيى بن يحيى الليثي، ووقع نظير ذلك في افريقية والقيروان على أيدي أمثالهم من الرواد كما تقدم، ثم على أيدي الآخذين عنهم من أمثال محمد بن برغوث وسحنون وأصحابه، إذ كان لهم من الوفرة ونفاذ الأمر عند أولي الأمر ما وضعوا به ثقلهم في الميدان، فاستطاعوا أن يفرضوا "المدنية" في جميع الميادين، وأن يقاوموا آثار المدرسة العراقية هناك، ولعله يكفي في تقدير عددهم وسعة نفوذهم في حياة مالك نفسه، ما قاله مالك للمهدي العباسي لما طلب منه أن يضع له كتابا يحمل الأمة عليه، فقال له يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع فقد كفيتكه"(1).
العامل الخامس: تشجيع السلطة الحاكمة وتدخلها المباشر.
__________
(1) - الاكتفاء لابن عبد البر: 40. وهذا مبني على أن الآمر لمالك بتأليف الموطأ هو المهدي، وهناك رواية تنسب الأمر بذلك إلى أبي جعفر المنصور والد المهدي كما أسنده ابن عبد البر نفسه في جامع بيان العلم وفضله 1/132.
(1/195)
هذا العامل منبثق عن العامل السابق، وذلك أن أولئك الرواد العائدين من الرحلة كانوا في آن واحد في الغالب حملة للقراءة وفقهاء في المذهب المالكي، فكانت رحلاتهم تلك ومنزلتهم من العلم ترشحهم لاحتلال المناصب والوظائف الهامة في مناطقهم حين العودة، فكان طبيعيا أن يعملوا حين تولي هذه المهام على تشجيع القراءة والفقه معا على نحو ما قرأوا به على مشايخهم بالمدينة. وذلك ما نبه عليه في الجانب الفقهي أبو محمد بن حزم في ملاحظته القيمة المشهورة إذ يقول:
"مذهبان انتشرا عندنا في أول أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف(1)كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى عمل افريقية، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا والرياسة، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر بافريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما انتشر"(2).
__________
(1) - هو يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة (ت 182) ترجمته في تاريخ يغداد للخطيب 14/242-262.
(2) - مجموعة رسائل ابن حزم الملحق رقم 13 الجزء الثاني 229 ـ وجذوة المقتبس 383-384 ترجمة 309.
(1/196)
وإذا كان هذا التعليل صحيحا ومقبولا فيما يتعلق بانتشار المذهب الفقهي كما ذكر ابن حزم، فإنه صحيح أيضا وصالح فيما يتعلق بقراءة نافع للأسباب ذاتها، إذ كان النظر في شؤون القراءة وإمامة الصلاة وغيرهما من الوظائف الدينية موكولا إلى القضاة، فكان "من الوظائف التي للقاضي النظر فيها بقرطبة الإشراف على المساجد والميضأة ونظافة أفنيتها، وكان له تعيين مقرئ الجامع بقرطبة"(1).
__________
(1) - القضاء في قرطبة الإسلامية في القرن الخامس الهجري لمحمد عبد الوهاب خلاف، بحث نشر بمجلة عالم الفكر المجلد 16 العدد 4 يناير فبراير مارس 1986م الصفحة 1039-1040.
(1/197)
وكان أولئك القضاة لا يولون إلا أصحابهم ومن كان على مذهبهم، فسبب ذلك انتشار المذهب الفقهي وإلى جانبه القراءة، وكان ذلك مما حمل الناس على طلب ما يرجون بلوغ أغراضهم به، أي طلب علوم المذهب والقراءة على حسب ما ارتضته السلطة القضائية، ليبلغوا من ذلك ما يؤهلهم للاستفادة من تلك الوظائف، ثم نشأ الناس على ما انتشر وذاع، وأمسى الأمر ظاهرة سارية جارية، لا تحتاج إلى تدخل أو توجيه(1). وذلك ما نلاحظه تماما منذ العقود الأخيرة من المائة الثانية، سواء في الأندلس أم افريقية، ففي الوقت الذي كان فيه رواد القراءة والمذهب المدنيين بالأندلس يعملون على تأصيلهما بالبلاد وتوجيه أنظار الحكام إلى الأخذ بهما ورجحانهما على غيرهما، كان أمثالهم من علماء افريقية والقيروان في سعي حثيث أيضا لمثل هذه الغاية، ولقد تحقق من ذلك النصيب الأكبر وربما في وقت واحد، على يد يحيى بن يحيى الليثي بالنسبة للأندلس، وعلى يد سحنون بن سعيد التنوخي بالنسبة لافريقية والقيروان.
ولقد كان يحيى من آخر الرواة عن نافع ـ كما سيأتي ـ، إلا أنه فيما يبدو لم يكن متفرغا للقراءة، ولا ذكر له عرض عليه، وكان في الوقت نفسه من متأخري أصحاب مالك ورواة موطئه، ولقد قيل عنه انه: "لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطي يحيى من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر"(2).
__________
(1) - علل بعض الدارسين لضعف المذهب الحنبلي في الأمصار الإسلامية في القديم بالقياس إلى باقي المذاهب الثلاثة بأسباب منها أنه لم يكن منه قضاة وذكر أن القضاة إنما ينشرون المذهب الذي يتبعونه، ومثل لأثر القضاة بأبي يوسف في مذهب أبي حنيفة وسحنون في المغرب والحكم الأموي في الأندلس. (تاريخ المذاهب الإسلامية) للشيخ محمد أبو زهرة 2/344.
(2) - نفح الطيب 2/219.
(1/198)
وقيل عن مبلغ تأثيره في التوجيه: "انتهت إليه الرياسة في العلم بالأندلس، وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه"(1). فلا بد إذن أن يكون لاستقلال شخصيته العلمية وقوة نفوذه عند لسلطان والعامة أثر بارز في الأخذ بالمذاهب المدنية، لاسيما في القراءة والإقراء، إذ كانت هذه المهام داخلة فيما يكون للعلماء رأي فيه، والناس في هذا العهد تبع لما يقرره هؤلاء ويرتضونه، ولاسيما إذا اعتبرنا ما ذكره ابن حزم من تولي أصحاب يحيى للقضاء واستبدادهم به"إذا كان لا يولي قاض إلا بمشورته، ولا يشير إلا بأصحابه".
ولقد أوتى إلى جانب أولئك القضاة بطانة علمية رفيعة المقدار، كان لها أثرها في الرياسة العلمية وقيادة الحركة الفقهية والتوجيهية، من أمثال أبنائه الثلاثة: عبيد الله وإسحاق ويحيى، وتلامذته عبد الملك بن حبيب والعتبي وابن مزين وابن وضاح وبقي بن مخلد.
وإذا كان قد قيل عنه: "وبه وبعيسى بن دينار انتشر مذهب مالك بالأندلس"(2)، فإننا نعتبره أيضا ومعه رفاقه "المدنيون" وأصحابه الذين مارسوا القضاء والتوجيه وراء ترسيم قراءة نافع واعتمادها قراءة جامعة بالأندلس.
وبالمثل فقد كان لسحنون وأصحابه مثل ذلك في افريقية، فقد كان القضاة منهم متوزعين على المناطق، وكان سحنون منهم بمنزلة الرقيب أو النقيب الذي يسيرهم من القيروان بما يرسم لهم من توجيهات وتعليمات(3)،
__________
(1) - الديباج للمذهب 351.
(2) - شجرة النور الزكية 64 الطبقة 5.
(3) - ولي القضاء من أصحابه كثير فمنهم القاضي أبو الربيع سليمان بن عمران ولي قضاء باجة القيروان وولي قضاء افريقية بعد سحنون (183-270) ترجمته في شجرة النور الزكية 71 الطبقة 6. ومنهم صاحبه أبو خالد يحيى بن خالد السهمي ولي قضاء الزاب، وكتب له سحنون سيرة يعمل عليها ويطالعه بما كان". وله قصيدة في مدح المدينة وعلمائها ومدح سحنون "ويمكن الرجوع إليها في ترجمته بترتيب المدارك 4/405 ومن قصيدته قوله:
وعلم الحجازيين أهل مدينة الرسول فطالبه ولا تعده فترا
ومنهم عيسى بن مسيكن الافريقي الذي قيل كان يقتدي بسحنون في كل أموره. ترتيب المدارك 4/331-350. ومنهم سليمان القطان، ولي قضاء باجة ثم صقلية، وبه انتشر مذهب مالك هناك (282-) شجرة النور 71 طبقة 6. ومنهم علي بن سالم البكري وهو ابن سحنون من الرضاعة ولاه قضاء صفاقس والساحل. ترتيب المدارك 4/406.
(1/199)
ولقد رأينا قبل كيف دعا في رسالته التي دونها ابنه في "آداب المعلمين" إلى وجوب تعليم المعلم لتلامذته ما علم من القراءة الحسنة(1)، وهو مقرأ نافع"(2).
ورأينا أيضا كيف تقدم صاحبه عبد الله بن طالب إلى محمد بن برغوث المقرئ بجامع القيروان ألا يقرئ الناس إلا بحرف نافع"(3).
فهذا التدخل من السلطة القضائية إلى جانب الاتجاه العام التي اتجهته الدولة بفعل تأثير أولئك الفقهاء "المدنيين" كان من أهم العوامل في رأينا في اختيار قراءة نافع واعتمادها قراءة رسمية.
العامل السادس: الرغبة في الاستقلال السياسي والفكري عن السلطة في المشرق
__________
(1) - تقدم احتمال أن يكون اللفظ محرفا عن "السنية" وهو الوصف الذي وصف به مالك قراءة نافع.
(2) - رسالة آداب المعلمين 102.
(3) - ترتيب المدارك 4/313.
(1/200)
سبق أن رأينا كيف كانت كل من افريقية والأندلس تتبعان المشرق في المجال السياسي، وكيف كانتا تبعا لذلك تستقبلان التأثير المشرقي في الميدان الفقهي والفكري والمذهبي، ورأينا من خلال ذلك كيف تأثرت البلاد الافريقية والأندلس في مجال القراءات بما كان سائدا في الأمصار الإسلامية من قراءات أئمتها بحسب ما غلب عليها بفعل التبعية وميل الدولة، أو بفعل الاحتكاك وقرب الجوار، أو بسبب اتجاه الرحلات العلمية، وبهذا رأينا كيف عرفت افريقية قراءات عراقية من أهمها قراءة حمزة بن حبيب إمام الكوفة، وعرفت الأندلس قراءة ابن عامر وغيره من قراء الشام، وذلك قبل أن تتكامل لهما معا عناصر الاختيار، وتتمكنا من التخلص من تلك التبعية، ولقد بدأ التفكير في ذلك يسود ويأخذ طريقه إلى التنفيذ منذ أواسط المائة الثانية على تفاوت بين الجهات الأندلسية والافريقية فيه، إذ استطاعت الأولى أن تحقق الاستقلال السياسي عن دار الخلافة بالمشرق عقب دخول عبد الرحمن بن معاوية إليها سنة 138هـ، في حين تحقق مثل ذلك للإمارة الإدريسية بفاس على إثر دخول المولى إدريس بن عبد الله الحسني سنة 172هـ، وبقيت افريقية تراوح بين التبعية ومحاولة الاستقلال إلى قيام دولة بني عبيد بها وسقوط دولة بني الأغلب سنة 296هـ(1).
__________
(1) - هذا هو تاريخ هروب زيادة الله الأغلبي من مدينة رقادة في جمادى الأخيرة من السنة المذكورة، يمكن الرجوع في هذه الأحداث إلى البيان المغرب 1/146-147.
(1/201)
وكان من توابع هذا الاستقلال ونتائجه تحقيق استقلال آخر، في الجانب الفقهي والفكري والمذهبي شمل فيما شمله الأخذ بمذاهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وذلك ما سبق إلى ملاحظته الإمام أبو بكر ابن العربي في سياق تعليله لسيادة المذهب المالكي في قوله: "ولما ظهرت الأموية على المغرب، وأرادت الانفراد عن العباسية، وجدت المغرب على مذهب الأوزاعي، فأقامت في قولها رسم السنة، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش، فحملت روايته، وألزم الناس حرف نافع ومذهب مالك، فجروا عليه، وصاروا لا يتعدونه"(1).
ولا شك أن إشارته بقوله "وألزم الناس" إلى دور السلطة الحاكمة من سياسية وقضائية في اعتماد هذه القراءة وحدها إلى جانب المذهب المالكي. وقد كان مبدأ هذا الإلزام كما يقول عياض بالنسبة للمذهب ـ في عشرة السبعين ومائة من الهجرة في حياة مالك ـ رحمه الله ـ فالتزم الناس بها من يومئذ هذا المذهب وحموه بالسيف عن غيره جملة"(2).
ولقد ترجمت الدولة يومئذ هذه الحماية إلى واقع عملي، وذلك في جملة من المراسيم التي صدرت إلى مختلف الجهات بذلك، كما تجلت في نوع الشخصيات العلمية التي كان يعهد إليها بالمأموريات الرسمية كالقضاء والإمامة والإقراء وتأديب أبناء الأمراء ورجال الحاشية(3).
__________
(1) - العواصم من القواصم 2/199.
(2) - ترتيب المدارك 1/26-27.
(3) - قد تحدثنا في أول الباب عن صور من ذلك.
(1/202)
ومن أمثلة المراسيم والتعليمات الرسمية هذا الإنذار لوزير الحكم المستنصر (350-366هـ) وقائده الأعلى غالب بن عبد الرحمن إلى أهل فاس في أيام الصراع عليها بين العبيديين والأمويين، يطالبهم فيه "بأداء الطاعة، والدخول في الجماعة، واتباع السنة، والعمل بمذهب مالك بن أنس إمام أهل المدينة ـ رضي الله عنه ـ، وإقامة النوافل في شهر رمضان المعظم(1)، وتوقفهم عن العمل بما كانت ضلال الشيعة زرعته عندهم من البدع والتحريف"(2).
وقد أجاب أهل فاس عن هذا بالقبول، وكان تاريخ الجواب عقب رمضان سنة 363 هـ، وخط في أسفله خمسة وثلاثون رجلا أسماءهم(3).
ويذكر ابن خلدون أنه في هذا التاريخ استنزل "غالب" جميع الأدارسة عن معاقلهم، وسار إلى فاس فملكها"(4).
__________
(1) - كان العبيديون قد أمروا بإسقاط صلاة الأشفاع "التراويح" لأول دولتهم، فعندما نزل أبو عبد الله الشيعي على قبيلة كتامة وجاء رمضان أمرهم بتركها وقال نحن نطول صلاة العشاء بدلها يمكن الرجوع في ذلك إلى البيان المغرب 1/126-127. ثم أصدر قاضيهم على مدينة القيروان محمد بن عمر المروزي أمرا بإسقاطها رسميا، واحتج على الفقهاء، وأنكر عليهم الاقتداء بعمر بن الخطاب في القيام، وتركهم الاقتداء بعلي في زيادة "حي على خير العمل" في الآذان. ينظر في هذا البيان المغرب 1/151-152 ـ وينظر أمر عمر بإقامتها في الموطأ 1/136-137 بشرح تنوير الحوالك للسيوطي.
(2) - يعني زيادة حي على خير العمل، وإفتاءهم بما ادعوا أنه مذهب جعفر بن محمد، وفيه أشياء منكرة، منها سقوط الحنث عمن طلق البتة، وإحاطة البنات بالميراث، وأشياء كثيرة. ينظر البيان المغرب 1/159.
(3) - ينظر نص الكتاب وجوابه في القسم المطبوع من المقتبس في أخبار بلاد الأندلس لابن حيان 175.
(4) - تاريخ ابن خلدون 6/218.
(1/203)
ولا شك أن هذا الأمر باعتماد المذهب المالكي وحده باعتباره مذهب أهل المدينة يتضمن في الوقت نفسه الإشارة إلى اعتماد قراءة نافع أستاذه للاعتبار ذاته، ولاسيما وأن فيه الأمر بإقامة النوافل في شهر رمضان وذلك يقتضي الاجتماع على قراءة واحدة، وهي سنة عمرية راشدة كان العبيديون قد عملوا على إماتتها.
ويتجلى طابع القسر والإلزام في هذه الأوامر الرسمية التي كانت تصدر في هذا الصدد من الحكم، في المنشور الخلافي الآخر الذي بعث به الحكم المستنصر الأموي إلى الفقيه أبي إبراهيم(1)، ومما جاء فيه قوله: "وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رين على قلبه، وزين له سوء عمله، وقد نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف في أخبارهم إلى يومنا هذا، فلم نر مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه"(2).
وهكذا كان تدخل الدولة والقضاء أساسيا وعاملا بارزا من بين العوامل الأخرى التي مكنت لمذاهب أهل المدينة في الفقه والقراءة، حتى تحول عندهم الانحراف عن ذلك انحرافا عن الدولة نفسها، ورغبة عن الولاء لها، وسعيا إلى الإخلال باستقلالها العملي الذي وظفت له كل الجهود حتى توطدت أركانه على قواعد ثابتة في كل مجال.
العامل السابع: ميل المغاربة إلى الوحدة السياسية والفكرية والمذهبية
__________
(1) - هو إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي القرطبي يكنى أبا إبراهيم، كان حافظا للفقه على ذهب مالك ترجمته في تاريخ علماء الأندلس 1/143 ترجمة 223 ـ وشجرة النور الزكية 90 الطبقة 7 ترجمة 199.
(2) - نقله في المعيار للونشريسي 6/357 وكذا 12/26.
(1/204)
أما العامل الوجداني فهو ميل المغاربة بصفة عامة إلى تكوين كيان مغربي موحد متكامل سياسيا ومذهبيا وفكريا ولغويا وحضاريا، فأما الميل إلى الوحدة السياسية فقد نما عندهم الشعور بأهميته على عهد الولاة، بسبب ما عرفته المناطق المغربية والأندلسية من ألوان الصراع على الحكم والرياسة، خصوصا بين العناصر العربية فيما بينها من قيسية ومضرية ويمنية، وبين هذه العناصر وبين السكان المحليين من المغاربة وغيرهم، كما نما الشعور بأهمية الوحدة الفكرية على إثر الحركات التي ظهرت في بعض المناطق من افريقية والمغرب والأندلس على أيدي بعض المتنبئين مرة وبعض الخوارج أخرى والشيعة العبيديين وسواهم، مما كان يجر إلى حروب متواصلة لم تكد تهدأ من زمن الفتح الإسلامي للمنطقة إلى قرابة ثلاثة قرون بعده.
ولقد عمل المتأخرون من أمراء بني أمية ـ لاسيما عبد الرحمن الناصر (300-350) وابنه الحكم المستنصر (350-366) ـ على توحيد المناطق المغربية كلها تحت لواء دولة واحدة، ولعل هذه الفكرة هي التي راودت عبد الرحمن الناصر يوم أعلن نفسه خليفة سنة 317، حين أحس بتحول الخلافة في المشرق إلى خلافة صورية فحسب، لقلة ما بقي بيد الخليفة من مراسيم الخلافة، وعلم مقدار الحاجة إلى خلافة فعلية تتمتع بكامل الشرعية وتحظى بولاية الأمة، فكان من هذا المنطلق يسعى إلى إقامة خلافة في الجناح الغربي من البلاد الإسلامية تعوض ما نقص من ذلك في الجناح الشرقي منها، ولعل هذا ما حفزه على المبادرة بالاستيلاء على الشمال المغربي، فاستولى على سبتة سنة 319هـ وعلى أصيلا سنة 320هـ، وعلى نكور ومليلية وجراوة سنة 323هـ(1)، وكانت فاس تقع في يده مرة ومرة في يد قائد العبيديين في العهد الطويل الذي كانت فيه مسرحا للصراع بين الدولتين(2).
__________
(1) - البيان المغرب 1/199-200-304.
(2) - ينظر في ذلك البيان المغرب 1/212-214.
(1/205)
وأما بالنسبة إلى كل من القراءة والمذهب الفقهي فقد رأينا جانبا من التعليمات الرسمية التي كانت تصدر من القضاة والأمراء سعيا نحو توحيد جمهور الناس على أمر جامع يفيئون إليه، وهذا الحكم يصرح بذلك في منشور له جاء فيه: "ومن خالف مذهب مالك في الفتوى، وبلغنا خبره، أنزلنا به من النكال ما يستحقه، وجعلناه عبرة لغيره، فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا في من تقلد مذهبه غير معتقد للسنة والجماعة، فليتمسك الناس بهذا، ولينهوا الناس أشد النهي عن تركه، ففي العمل بمذهبه جميع النجاة"(1).
لقد كان كل من القراءة والمذهب في حاجة إلى إقرار نوع من الانضباط على أمر واحد يجتمع الناس عليه، بدلا من تعدد المشارب، وتشعب المذاهب، وإلى مثل هذا أشار الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات بقوله: "لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد، كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان، فانضبطت الأحكام بذلك، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط"(2).
وهكذا كان لاتحاد الوجهة في القراءة والمذهب أثره البليغ في حسم أسباب الصراع في المنطقة ابتداء من هذا العهد، وفي إنشاء جو من الثقة والولاء المتبادل بين الحكام والمحكومين حتى قبل قيام الوحدة السياسية فعلا على عهد المرابطين والموحدين، "وتجلت وحدة الفكر المذهبي المالكي، في مظاهر مختلفة كان أقلها الاستناد في قراءة القرآن منذ القرن الرابع إلى قراءة نافع "(3).
__________
(1) - نقله في المعيار المعرب 12/26.
(2) - ينظر في هذا مبحث "المذهب المالكي مذهب المغاربة المفضل" ندوة الإمام مالك 1/79.
(3) - ينظر بحث "الفقه المالكي والوحدة المذهبية" عبد العزيز بن عبد الله – ندوة الإمام مالك 1/113.
(1/206)
ويعزو بعض الباحثين هذا الإحساس بقيمة الوحدة المذهبية عند المغاربة، إلى تغلب نزعة أهل الحديث عليهم، لاسيما أهل الأندلس منهم، الذين درجوا على سياسة تشريعية هامة، وهي سياسة التمسك بالمذهب الواحد في قضاياه الدينية والدنيوية، ألا وهو المذهب المالكي، حتى قيل انهم لا يعرفون سوى كتاب الله وموطأ مالك بن أنس(1).
ولقد ترامى أثر هذه الوحدة المذهبية في الشؤون الدينية من الأقطار المغربية إلى داخل القارة الافريقية، ـ كما عبر عن ذلك بعض علماء نيجيريا حين قال مشيرا إلى هذا الامتداد: "فالعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي هما نفسهما هناك وهنا، كذلك القراءة أيضا هي رواية ورش عن نافع، حتى الخط، فالخط الافريقي هو نفس الخط المغربي مع تغيير بسيط"(2).
ولقد أدى هذا التمسك بالقراءة الواحدة وترسيمها في الإقراء والصلوات وغيرها إلى نفور العامة من كل قراءة أخرى تريد مزاحمتها في المحافل الرسمية، ولذلك ذكر ابن رشد (ت 520) ـ ما قدمناه ـ من اختيار الشيوخ المتقدمين لها بقرطبة، فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها"(3).
الحرص على توحيد القراءة وانعكاساته ودواعيه:
ولم يسد الشعور بالرغبة في الوحدة فيما يخص المذهب وحده، وإنما صاحبه شعور أعمق بوجوب التمسك بها في القراءة أيضا، وتدخل العامة في ذلك فأعطوا الأمر صفة الحتمية واللزوم فكانوا يستوحشون من كل قراءة خرجت عن قراءة نافع، ويقابلونها بالنقد والاعتراض.
__________
(1) - أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي 177 نشر ذي خوية ليرك 1906 م، وينظر أيضا مبحث عن :"الإسلام في أرض الأندلس" لأحمد مختار العبادي نشر في مجلة المختار من عالم الفكر ـ دراسات إسلامية الحلقة الأولى ـ الكويت 1984 ص 119.
(2) - عن محاضرة الشيخ إبراهيم صالح بن يونس الحسيني من نيجيريا ـ نشرت بـ"ندوة الإمام مالك بفاس" 1/145.
(3) - مسائل ابن رشد ج 4 ورقة 681 تحقيق محمد الحبيب التجكاني ـ والمعيار للونشريسي 1/226.
(1/207)
ـ حادثة القيروان واعتراض العامة على قارئ قرأ في التراويح بغير قراءة نافع:
ونسوق ههنا قصة حدثت بالقيروان وعرض أمرها على أبي الحسن علي بن خلف القابسي الإمام المقرئ المشهور (ت 403هـ) فقد سئل ـ رحمه الله ـ عن إمام صلى بقوم القيام، وقرأ فيه بقراءة أبي عمرو بن العلاء من رواية اليزيدي(1)ولما فرغ منه قال له رجل من خلفه:
"قد انساغت لك هذه القراءة، وإنها لحسنة، فقال له رجل آخر: ما هي مستوية، قراءة نافع أحسن منها استواء، وقراءة أبي عمرو لم تكن في أيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وإنما تفنن الناس وتطرفوا فقرءوا بها، فقال له الأول: لا تقل، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ روي عنه أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، وكل شاف كاف، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فقال الرجل الذي ذم قراءة أبي عمرو: لا من هذا شيء(2)، فقال مخاطبه: إنكار قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفر، فأفتنا بما يجب على كل واحد منهما"
__________
(1) - هو أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي البصري المعروف باليزيدي، نحوي مقرئ ثقة علامة كبير نزل بغداد، أخذ القراءة عرضا على أبي عمرو وهو الذي خلفه في القيام بها، وروايته عنه هي المشهورة إلى اليوم من طريقي أبي عمر الدوري وأبي شعيب السوسي. ترجمته في غاية النهاية 2/375.
(2) - ركاكة في التعبير في النص، ولعله حكاه كما سمعه من ألفاظ العامة.
(1/208)
فأجاب القابسي: "أما القصد إلى قراءة أبي عمرو بالذم" فهو خطأ غر جائز لأحد، ولعل المتكلم في هذا قصد غير الذم لقراءة أبي عمرو، ولكن ساءت عبارته عما أراد، وكأنه ـ فيما وصفتم ـ ظن أن القراءات إنما حدثت بعد عصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا قراءة نافع، وهذا منه جهل وتكلف بما لا يعنيه ... ثم ذكر القابسي أن النظر في أمر القائل إلى قاضي المسلمين ليناله من النكير عليه في رده للقراءات وطعنه فيها بما يستأهله"(1).
ومن دلالة هذا الحوار بين الرجلين نفهم ما فهمه القابسي من كون الذام لقراءة أبي عمرو، إنما ذم ما لا عهد له به في الاقراء والمحافل الرسمية، بينما كان محاوره عالما بأساس الاختلاف بين القراءتين وكونه عائدا إلى نزول القرآن على سبعة أخرى كلها شاف كاف، وقد وجه الفقيه الفتوى على اعتبار أن الذام لقراءة إمام أهل البصرة لم يقصد الذم، وإنما أنكر أن يقرأ الإمام في القيام بقراءة لا يعرفها ولا عهد له بسماع أحد يقرأ بها في مساجد الجماعات، وهو أكبر دليل على استحواذ قراءة نافع على المنطقة أواخر المائة الرابعة.
وتدلنا بعض الإشارات عند بعض قراء افريقية على مقدار تشبث قرائها لهذا العهد بقراءة نافع وإعطائها موضع الصدارة في مجال الاقراء والتعليم، حتى غدوا ينكرون على الطالب أن يطمح إلى قراءة غيرها قبل إتقان أحكامها وإجادة أدائها، ويعدون ذلك من قبيل التنطع، وفي هذا نجد أبا الحسن الحصري يقول في رائيته الآتية في قراءة نافع:
"ولم أرهم يدرون ورشا قراءة فكيف لهم أن يقرءوا لأبي عمرو ؟(2)
حادثة غرناطة وإنكار العامة على إمام قرأ بخلاف القراءة المعروفة.
__________
(1) - ذكر الفتوى وجوابها في المعيار للونشريسي 1/216-217.
(2) - ستأتي القصيدة المذكورة كاملة في ترجمة الحصري في فصل خاص.
(1/209)
وقد استمرت هذه النظرة عند المتأخرين حتى بعد أن أصبحت القراءات السبع واسعة الجمهور في مدارس الاقراء ففي واقعة أخرى جرت في مدينة غرناطة الأندلسية نجد الظاهرة نفسها ـ أعني إنكار العامة على من خرج عن القراءة الرسمية ـ وذلك "أن أحد المشفعين في الجامع الأعظم من غرناطة قرأ ليلة قول الله تعالى في سورة الأنعام". "ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب"(1). برفع "وجنات" فرد عليه الإمام بالمسجد، وهو الشيخ الأستاذ أبو سعيد بن لب(2)، وكان القارئ ثقيل السمع، فصار يلقنه مرة بعد أخرى "جنات" بالكسر، والقارئ لا يسمع، وتشجع بالأستاذ غيره فلقنه أيضا مثل ذلك، وأكثروا عليه حتى ضح بهم المسجد، فلما يئسوا من إسماعه تقدم بعضهم حتى دخل عليه المحراب فأسمعه، فأصبح الطلبة يتحدثون بذلك فقال لهم قائل: لو شاء الله لتركتموه وقراءته، لأنها وإن لم يقرأ بها أحد من السبعة من هذه الطرق المشهورة التي بأيدي الناس، فقد رويت من طرق صحيحة لا مطعن فيها لأحد، قد ذكرها ابن مجاهد وغيره من روايات متعددة عن عاصم، وهي قراءة الأعمش وغيره من كبار الأئمة(3)،
__________
(1) - لفظ الآية في سورة الأنعام ـ الآية رقم 99 "وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا، ومن النخل من طلعها قنوان دانية، وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه، إن في ذلك لآيات لقوم يومنون".
(2) - هو أبو سعيد فرج بن قاسم بن لب من أئمة الاقراء بغرناطة سيأتي.
(3) - لم يذكر ابن مجاهد هذه القراءة لأحد في كتاب السبعة في سورة الأنعام 263. وأما رواية الأعمش "وجنات" بالرفع فقد ذكرها له ابن خالويه في كتاب "مختصر من شواذ القراءات من كتاب البديع 39..
(1/210)
فقال بعض الشيوخ: إنما يقرأ في الصلاة بالقراءات السبع لأنها متواترة، ولا يجوز أن يقرأ بغيرها لأنه شاذ، والشاذ لا تجوز الصلاة به"(1).
ويهمنا من هذه الواقعة وأمثالها ما لها من دلالة على ما أسلفنا من أن كل خروج عن القراءة الرسمية المألوفة ـ أعني قراءة نافع ـ كان يثير زوبعة من الاستنكار والاحتجاج، حتى وإن كان القارئ قد قرأ بوجه سليم للسبعة أو لغيرهم، وربما وصل القارئ بذلك إلى حد الاجلاب عليه بسلطان العامة والسعي إلى إعناته في البحث عن مخرج مقبول للوجه الذي قرأ به قاصدا أو غير قاصد.
وذلك يدل على مقدار رسوخ القراءة الرسمية في الجهات المغربية، وتشبث الناس بها في القراءة العامة والمساجد الجامعة، وبذلك أصبحت هذه القراءة من أبرز سمات الشخصية المغربية، ومن أقوى ركائز الوحدة المذهبية واهم المقومات الحضارية التي صانتها عن التبعية الدائمة والذوبان في غيرها، على خلاف ما حدث في كثير من الأمصار والبلدان الإسلامية التي كانت لها قراآتها المحلية المنتسبة إلى قارئها من السبعة، فلم يمض عليها إلا يسير حتى تأثرت بقراءات أخرى وافدة عليها من خارج منطقتها، فأضاعت قراءتها الأصلية، وأخذت بالقراءة الجديدة عليها كما حدث مثلا في مكة دار قراءة ابن كثير وفي المدينة دار قراءة نافع بن أبي نعيم وفي مصر دار رواية ورش عن نافع حتى كأنها ما عرفت يوما قراءة أخرى تنسب إلى مصرها وقارئها.
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى النص في المعيار المعرب 12/68-69، وتراجع هناك الخصومة العلمية حول قضية تواتر القراءات السبع بين ابن لب وابن عرفة التونسي، وقد ألف أبو علي الرندي في ذلك كما ألف فيه القيجاطي.
(1/211)
ولقد تنبه غير واحد من الباحثين مؤخرا إلى هذه العوامل الحضارية وأمثالها،(1)باعتبارها مجسدة للمقومات التي يمكن من خلالها رصد الحركة التاريخية في منطقة من المناطق، فغياب هذه المقومات كثيرا ما كان من شأنه أن يؤدي إلى التفكك فيها، وإلى الوقوع فريسة الغزو والهيمنة، ووجود مثلها يعني وجود صمام للأمن الدائم الذي يحفظ كيان الأمة أو الجهة من التحلل والذوبان. ويمكن في هذا الصدد استثمار هذه النظرة في دراسة حضارية جادة للمناطق المغربية التي ندير هذا البحث حولها، في محاولة إعادة صياغة وحدتها صياغة معاصرة تساعد على إقامة كيان موحد يرتكز أول ما يرتكز على هذه المقومات الحضارية التي عرفتها وتعرفها إلى اليوم في غير ما مجال من المجالات الدينية والعلمية والاجتماعية والفكرية، وهي نظرة ليست في نظرنا وليدة العصر بل تغوص جذورها في أعماق تاريخ الغرب الإسلامي، وتتجلى ملامحها واضحة المعالم في الكتابات التاريخية التي تناولت هذه الجهات، وهي كتابات تتعامل معها على أنها كيان واحد، وعلى هذا الأساس تدرسه تارة تحت اسم "المغرب" وتارة تحت اسم "المغرب العربي" أو "الغرب الإسلامي" أو "الشمال الافريقي" حسب اختلاف المنازع والأغراض.
خاتمة:
وهكذا نكون بما رسمناه قد أتينا على ختام حديثنا عن العوامل المهمة التي كانت وراء اعتماد قراءة نافع في المنطقة واتخاذها شعارا للشخصية المغربية ومحورا للنشاط العلمي فيها.
__________
(1) - يمكن الرجوع في ذلك إلى الموسوعة المغربية (معلمة الصحراء ـ ملحق ـ) لعبد العزيز بنعبد الله 1396هـ.
(1/212)
ونحن لسنا هنا بصدد بيان الثمار التي جنتها هذه الجهات من وجود قراءة جامعة عليها مدار الاقراء هي قراءة إمام دار الهجرة، وإنما نبهنا على ذلك بعض التنبيه، لأن هذا المرمى كان من دواعي اختيارنا في الأساس للبحث في هذه القراءة وتاريخها وأهم مدارسها، إذا كانت في نظري إلى جانب المذهب المالكي في القه، ذلك الوعاء الكبير الذي استوعب أهم ما أعطته القريحة المغربية في ميدان العلوم الدينية من نتاج أصيل، كما شكلا أهم أسس الوحدة واستقلال الكيان خلال التاريخ المشترك لهذه الأقطار منذ أن رفرفت عليها راية الإسلام واستقرت فيها أقدام المسلمين الفاتحين بين سكانها المغاربة الأصليين فاندمجوا اندماجا كليا لم يعرف الانقطاع. وسوف نقف فيما نستقبله من هذا البحث على مظاهر من هذا التكامل بين تلك الأقطار المغربية في هذا المجال ونتتبع من خلال حركة الاقراء ورحلات القراء تلك الصور الزاهية من التمازج والتواشج التام بينها، بصورة كانت تجعل القارئ محل حفاوة بالغة حيثما حلت به الركاب، يتصدر في هذا البلد أو ذاك، لا تحول دونه اعتبارات جهوية أو إقليمية أو عرقية، وإنما كان المستوى العلمي والوزن الشخصي وحدهما اللذين كانا يمهدان للعالم مكانه، ويعليان مكانته حيثما حط الرحال واطمأن به المقام.
(1/213)
وقبل أن نتجه بالبحث إلى ارتياد هذه الآفاق الخصبة، وبعد أن تعرفنا على العوامل والأسباب التي مكنت لقراءة نافع في الغرب الإسلامي وكيف تم اعتمادها قراءة رسمية وحيدة في التعليم والتأديب والتلاوة وفي المكاتب والمحاضر والمحاريب، وفي كل مكان يقرأ فيه كتاب الله أو ترسم حروفه في لوح أو كتاب، نرى من المفيد أن نبدأ بالحديث عن شخصية هذا الإمام ورجال مشيخته وأساطين مدرسته، ومظاهر إمامته وريادته في هذا العلم، والآفاق التي ترامت إليها عنه، إلى أن أخذت طريقها في اتجاه الغرب الإسلامي لتستقر فيه وتستحوذ على ميدان الإقراء وجمهرة القراء بلا مزاحمة إلى اليوم. وذلك ما سوف نخصه ببحث مستقل في العدد التالي من هذه السلسلة بحول الله والله الموفق.
ذ. عبد الهادي بن عبد الله حميتو
فهرسة المصادر والمراجع المعتمدة في العدد الأول:
- آداب المعلمين ـ رسالة لمحمد بن سحنون الفقيه المالكي تحقيق حسن حسني عبد الوهاب ـ تونس 1392 هـ- 1972م.
- إبراز المعاني من حرز الأماني للإمام أبي شامة المقدسي تحقيق إبراهيم عطوة ـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر : 1402هـ 1982 م.
- الإبانة عن معاني القراءات لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني تحقيق الدكتور عبد الفتاح سلبي ـ دار نهضة مصرـ القاهرة.
- الإتقان ن في علوم القرآن للسيوطي ـ المكتبة الثقافية بيروت.
- أحسن لتقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي نشر ذي خوية ليرك: 1906م.
- أحكام القرآن للقاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري تحقيق علي البجاوي ط 1: دار إحياء الكتب العربية ـ لبنان: 1957م.
- إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر لأبي العباس أحمد البنا الدمياطي تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل ـ مكتبة الكليات الأزهرية ـ القاهرة ط 1: 1407 هـ-1987م.
(1/214)
- إتحاف القراء المتحزبين رسالة خطية للمسمى الحسن بن محمد البعقيلي السوسي كتبها لاتباعه من أتباع الطريقة التيجانية سنة 1964م ـ الدار البيضاء.
- الادب الأندلسي للدكتور مصطفى الشكعة. ط2: دار الملايين ـ بيروت 1974م.
- أزهار الرياض ي أخبار عياض لأبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني ـ مطبعة فضالة ـ الرباط: 1398هـ 1978م.
- أسد الغابة في معرفة أسماء الصحابة لابن الأثير ـ طهران: 1980م.
- أسباب انتشار المذهب المالكي للدكتور عباس الجراري ـ سلسلة الدروس الرمضانية الحسنية ـ نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الرباط. وانظر "ندوة القاضي عياض".
- الإسلام في أرض الأندلس ـ بحث للأستاذ أحمد مختار العبادي ـ مجلة المختار من عالم الفكر- دراسات إسلامية الحلقة الأولى ـ الكويت: 1984م.
- أسماء الخلفاء والولاة لابن حزم ـ انظر مجموعة رسائل ابن حزم.
- الأرجوزة المنبهة على اسماء القراء والرواة وأصول القراءات لأبي عمرو الداني مخطوطة الخزانة العامة رقم 975 الرباط.
- الإقناع في القراءات السبع لأبي جعفر أحمد بن علي بن الباذش الأنصاري تحقيق الدكتور عبد المجيد قطامش ـ طبعة دار الفكر ـ دمشق. ط1: 1403هـ-1986م.
- إعجاز القرآن لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني بهامش الإتقان للسيوطي ـ المكتبة الثقافية ـ بيروت.
- الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ احمد بن علي بن حجر العسقلاني مطبعة مصطفى محمد بمصر: 1358هـ - 1939م.
- إنباه الرواة على أنباه النحاة لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ طبعة دار الفكر ـ القاهرة. ط1: 1406هـ - 1986م.
- الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس لعلي بن أبي زرع الفاسي ـ نشر دار المنصور للطباعة ـ الرباط: 1973م.
(1/215)
- إيضاح الأسرار والبدائع وتهذيب الغرر والمنافع في شرح الدرر اللوامع لابن بري تأليف أبي عبد الله. محمد بن محمد بن المجراد الغنزاري السلاوي ـ (مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 1945).
- إيضاح الوقف والابتداء لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري ـ تحقيق محيي الدين رمضان ـ طبعة دمشق: 1391 هـ.
- إيضاح ما ينبهم على الورى من قراءة عالم أم القرى لأبي زيد عبد الرحمن بن القاضي شيخ الجماعة بفاس تحقيق محمد بلوالي ـ رسالة دبلوم مرقونة بالآلة ـ دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
- البرهان في علوم القرآن لبدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار إحياء الكتب العربية ـ لبنان ـ ط1: 1376هـ.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين السيوطي تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم ـ مطبعة عيسى البابي الحلبي والمكتبة العصرية بصيدا: 1384هـ 1964.
- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ لبنان.
- بلاد شنقيط ـ المنارة والرباط ـ تأليف الخليل النحوي ـ المنظمة العربية للتربية والثقافة – تونس: 1987م.
- تاريخ ابن خلدون ـ الطبعة المصرية: 1391هـ ـ1971م.
- تاريخ الإسلام للحافظ أبي عبد الله الذهبي.
- تاريخ بغداد لأبي بكر الخطيب البغدادي الحافظ ـ مكتبة الخانجي بمصر والمكتبة العربية ببغداد: 1930م.
- تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ـ تعريب الدكتور عبد الحليم النجار ـ دار المعرفة بمصر.
- تاريخ افتتاح الاندلس والنصوص الملحقة به لابن القوطية الأندلسي.
- تاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة: 1395 هـ ـ1975.
- تاريخ رواة العلم في الاندلس (تاريخ علماء الاندلس) لأبي الوليد ابن الفرضي القرطبي تحقيق إبراهيم الأبياري نشر دار الكتاب اللبناني.
(1/216)
- تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر الدمشقي ـ طبعة دمشق: 1954م-1964م تحقيق صلاح الدين المنجد ـ ومطبعة المجمع العلمي بدمشق ـ سوريا.
- تاريخ قضاة الأندلس لأبي الحسن عبد الله بن الحسن النباهي المالقي ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت: 1400 هـ.
- تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة النميري البصري تحقيق فهيم محمد شلتوت ـ نشر دار الإصبهاني بجدة ـ المملكة العربية السعودية ـ 1399هـ.
- تاريخ أبي زرعة الدمشقي لعبد الرحمن بن عمرو بن صفوان المصري ـ تحقيق شكر الله القوجاني.
- تاريخ الخط العربي في العصر الأموي للدكتور صلاح الدين المنجد ـ ط1 ـ بيروت ـ لبنان: 1972م.
- تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة ـ القاهرة.
- التبيان في آداب حملة القرآن للإمام أبي زكرياء يحيى بن شرف النووي ـ ط3 ـ 1394هـ-1974م.
- التبصرة في القراءات السبع لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني تحقيق الدكتور محيي الدين رمضان ـ ط1- الكويت 1405 هـ ـ1985م.
- التحرير والتنوير في التفسير للعلامة محمد الطاهر بن عاشور التونسي ـ الدار التونسية للنشر ـ تونس.
- التمهيد لما في الموطإ من المعاني والأسانيد للحافظ أبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي تحقيق جماعة من العلماء ـ طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الرباط.
- التمهيد في علم التجويد لابن الجزري تحقيق الدكتور علي حسين البواب ـ مكتبة المعارف ط1: 1405هـ ـ 1985م.
- تنوير الحوالك على موطإ الإمام مالك لجلال الدين السيوطي ـ طبعة دار الفكر ـ بدون تاريخ.
- تقييد وقف القرآن الكريم للشيخ محمد بن أبي جمعة الهبطي دراسة وتحقيق الدكتور الحسن بن أحمد وكاك ـ مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء ـ ط1: 1411 هـ ـ1991م.
- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي ـ طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الرباط.
(1/217)
- التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الأندلسي ـ المكتبة التجارية بمصر ـ ط1: 1355 هـ.
- التلخيص لوجوه التخليص لأبي محمد بن حزم ـ انظر مجموعة رسائل ابن حزم.
- تسع وثائق في شؤون الحسبة على المساجد في الأندلس عن مخطوط أحكام ابن سهل الأندلسي تحقيق الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف ـ حوليات كلية الآداب ـ الكويت: 1404 هـ ـ 1984م.
- تحفة المنافع في قراءة الإمام نافع أرجوزة لميمون بن مساعد المصمودي مولى أبي عبد الله الفخار السماتي (مخطوط خاص).
- تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني تحقيق أبو الأشبال الباكستاني ـ دار العاصمة للنشر والتوزيع ـ العربية السعودية: 1416 هـ.
- تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر.
- تهذيب تاريخ دشق لابن بدران.
- التفسير ورجاله لمحمد الفاضل بن عاشور التونسي ـ دار الكتب المشرقية ـ ط2: 1972م.
- التيسير في القراءات السبع للحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الداني ـ دار الكتاب العربي بيروت ـ ط2: 1404 هـ ـ 1984.
- الجامع لأحكام القرآن(تفسير القرطبي) دار الكتب المصرية ـ القاهرة 1351 ـ1933م.
- جامع الإمام الترمذي بشرح عارضة الاحوذي لأبي بكر بن العربي المعافري ـ مطبعة الصاوي: 1353 هـ.
- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس لمحمد بن فتوح الحميدي ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة: 1966م.
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ـ ط1: 1371هـ ـ 1952م.
- جمال القراء وكمال الإقراء لأبي الحسن علي بن محمد علم الدين السخاوي تحقيق الدكتور علي حسين البواب ـ مكتبة التراث بمكة المكرمة ـ ط1: 1408هـ ـ 1973م.
- حاشية الشيخ يوسف بن سعيد المالكي على الجواهر الزكية في شرح العشماوية في الفقه ـ دار الفكر ـ ط5: 1977م.
- حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة لجلال الدين السيوطي ـ المطبعة الشرقية لصاحبها حسين بري ـ مصر.
- حلية الاولياء لأبي نعيم الأصبهاني ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ ط2: 1387 هـ ـ1967م.
(1/218)
- حياة الصحابة لمحمد بن يوسف الكاندهلوي ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان.
- الحياة العلمية في الشام في القرنين الأول والثاني للهجرة لخليل داود الزرو ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ـ ط1: 1971م.
- الخطط الكبرى للمقريزي ـ طبعة القاهرة: 1270 هـ.
- الخوارج في بلاد المغرب للدكتور إسماعيل عبد الرزاق.
- دليل الحيران في شرح مورد الظمآن للشيخ إبراهيم بن أحمد المارغني التونسي ـ المطبعة التونسية ـ تونس: 1325 هـ.
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لإبراهم بن علي بن فرحون البعمري ـ دار الكتب العلمية ـ لبنان.
- الدروس الحسنية الرمضانية ـ المجلد الأول والثاني 1387 هـ ـ 1388 هـ ـ نشر وزارة الأوقاف المغربية ـ الرباط.
- ذكريات مشاهير رجال المغرب ـ عبد الله بن ياسين الجزولي ـ للشيخ عبد الله كنون الطنجي ـ دار الكتاب اللبناني عدد 37.
- الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي في تاريخ علماء الأندلس ـ تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد بن شريفة ـ دار الثقافة ـ بيروت ـ لبنان.
- الرحلة المغربية (رحلة العبدري) لمحمد بن محمد العبدري أبي البركات الحيحي تحقيق وتقديم محمد الفاسي ـ نشر وزارة الدولة المكلفة بشؤون الثقافة والتعليم الأصلي ـ الرباط.
- الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين والمعلمين لأبي الحسن علي بن خلف القابسي ـ نشر الدكتور محمد ناصر ضمن كتابه "الفكر التربوي العربي الإسلامي" ـ ط1 ـ1977 م ـ وكالة المطبوعات ـ الكويت.
- رسالة في جملة فتوح الإسلام ـ مجموعة رسائل ابن حزم ـ تحقيق الدكتور إحسان عباس.
- رسم المصحف ـ دراسة لغوية وتاريخية ـ للدكتور غانم قدوري الحمد ـ جامعة بغداد ـ ط1: 1402هـ ـ 1982م.
- الروض الأنف في السيرة النبوية للإمام أبي القاسم السهيلي الأندلسي.
- الروض الجامع في شرح الدرر اللوامع لأبي سرحان مسعود بن محمد جموع السجلماسي (مخطوط).
(1/219)
- رياض النفوس في طبقات علماء القيروان للمالكي تحقيق بشير الكوش ومحمد العروسي ـ دار الغرب الإسلامي 1403هـ ـ 1983م.
- الاستبصار في عجائب الأمصار لمؤرخ مراكشي من أهل المائة السادسة تحقيق الدكتور محمد زغلول عبد الحميد ـ دار النشر المغربية ـ الدار البيضاء ـ 1985م.
- الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للشيخ أحمد خالد الناصري تحقيق ولديه جعفر ومحمد ـ دار الكتاب ـ الدار البيضاء: 1956م.
- السبعة في القراءات لأبي بكر بن مجاهد البغدادي تحقيق الدكتور شوقي ضيف – دار المعارف، القاهرة ط2: 1400هـ ـ 1980.
- سراج القارئ وبهامشه غيث النفع للنوري ـ طبعة دار التوفيق ـ القاهرة : 1341هـ ـ وطبعة دار الفكر ـ لبنان ـ ط4: 1398هـ ـ 1978م.
- السيرة النبوية للحافظ ابن كثير الدمشقي.
- السياسة الشرعية لأبي العباس بن تيمية ـ نشر دار الكتاب العربي بمصر ـ القاهرة: ط4: 1969م.
- السير للشماخي ـ طبعة القاهرة: 1301هـ.
- السيرة النبوية ـ تهذيب عبد الملك بن هشام الأنصاري تحقيق مصطفى السقاو إبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي ـ ط2: 1375 هـ-1955م.
- سبتة ورجالها لمحمد العربي الخطابي ـ مجلة المناهل المغربية ـ وزارة الثقافة: العدد: 22: 1404 هـ ـ 1983م.
- سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.
- سنن سعيد بن منصور ـ المجلدان المطبوعان حتى الآن.
- سنن الإمام النسائي ـ المطبعة التجارية الكبرى ـ القاهرة.
- شجرة النور الزكية في طبقات السادة المالكية لمحمد بن مخلوف التونسي ـ دار الكتاب العربي ـ لبنان.
- شرح الإمام المنتوري على الدرر اللوامع ـ مخطوطة الخزانة العامة بالرباط رقم 519 والحسنية رقم 1096.
- شفشاون وآثارها المعمارية، عبر التاريخ - بحث لعبد العزيز بن عبد الله – مجلة المناهل المغربية ـ وزارة الثقافة العدد: 8 ـ السنة 10: 1404 هـ ـ 1983م.
(1/220)
- شيوخ العصر في الأندلس للدكتور حسين مؤنس-سلسلة المكتبة الثقافية – نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ العدد 146 ـ ديسمبر: 1965م.
- صفة جزيرة الأندلس ـ منتخبة من كتاب الروض المعطار للحميري ـ نشر لفي بروفنصال ـ جامعة الجزائر ـ الجزائر.
- صحيح الإمام البخاري بحاشية السندي.
- صحيح الإمام البخاري بشرح ابن حجر ـ فتح الباري. وصحيح الإمام مسلم بشرح النووي.
- الصلة لابن بشكوال ـ المكتبة الأندلسية ـ نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة: 1966م.
- صلة الصلة لأبي جعفر بن الزبير ـ الجزء السابع ـ القسم الأخير من كتاب الصلة ـ المطبعة الاقتصادية ـ الرباط: 1938م.
- صلة الصلة لابن الزبير ـ قسم الغرباء ـ بذيل الجزء الأخير من المجلد الثامن من الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي تحقيق الدكتور محمد بن شريفة ـ مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.
- طبقات علماء إفريقية لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم ـ دار الكتاب اللبناني ـ مكتبة المدرسة ـ بيروت.
- طبقات علماء إفريقية للخشني ـ دار الكتاب اللبناني ـ مكتبة المدرسة ـ بيروت.
- طبقات علماء تونس لأبي العرب ـ الثلاثة في مجلد واحد ـ دار الكتاب اللبناني ـ مكتبة المدرسة ـ بيروت.
- طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي تحقيق الدكتور إحسان عباس ـ دار الرائد العربي ـ بيروت 1970م.
- الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ـ القسم المتمم لتابعي أهل المدينة ـ نشر المجلس العلمي للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- تحقيق زياد محمد منصور ـ وكذا الطبعة القديمة ـ دار صادر ـ بيروت.
- طبقات المفسرين للداودي تحقيق علي محمد عمر ـ بمركز تحقيق التراث بدار الكتب الصرية ـ القاهرة.
- طبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي.
- العبر في خبر من غبر للحافظ الذهبي تحقيق فؤاد سيد ـ الكويت: 1961م.
- علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح.
- عيون الأخبار لابن قتيبة ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ لبنان.
(1/221)
- العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة لأبي بكر بن العربي المعافري (مجلدان) بتحقيق الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ مطبعة قسطنطينة ـ الجزائر: 1378هـ.
- غاية النهاية في طبقات القراء للحافظ ابن الجزري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط2/ 1980م.
- الغنية في شيوخ عياض تحقيق ماهر زهير جرار ـ دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ـ ط1: 1402هـ ـ1982م.
- غيث النفع في القراءات السبع لأبي الحسن الصفاقسي بهامش سراج القارئ على الشاطبية لابن القاصح ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ط2: 1402 هـ-1982م.
- فتوح مصر لابن عبد الحكم ـ طبعة ليدن: 1920م.
- الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي ـ نشر مؤسسة مآب ـ المجمع الملكي الأردني ـ الأردن.
- فهرسة الإمام المنتوري مخطوطة الخزانة الحسنية بالرباط.
- فهرسة ما رواه عن شيوخه أبو بكر محمد بن خير اللمتوني الاشبيلي ـ منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت.
- الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة لحسين بن علي بن طلحة الشوشاوي تحقيق عزوزي إدريس ـ نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الرباط: 1409 هـ ـ1989م.
- الفوائد المفهمة في شرح الجزرية المقدمة لمحمد بن علي بن يالوشة التونسي ـ دار الفرقان للنشر الحديث.
- القراءات بإفريقية لهند شلبي ـ نشر الدار العربية للكتاب ـ 1983م.
- القراء والقراءات بالمغرب لسعيد أعراب ـ دار الغرب الإسلامي ـ ط1: 1410 هـ ـ1990م.
- قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين لأبي العباس أحمد بن أبي عمر الأندرابي المقرئ تحقيق وتقديم الدكتور أحمد نصيف الجنابي ـ مؤسسة الرسالة ـ ط2: 1405هـ ـ 1985م.
- قصيدة الشاعر عمر أبو ريشة: دنيا وبين يديها تغرق الحقب ـ مجلة المناهل ـ وزارة الثقافة المغربية ـ العدد: 4 السنة 2 ـ نوفمبر: 1975م.
- القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس تحقيق الدكتور احمد خطاب العمر – مطبعة العاني ببغداد ـ ط1: 1398 هـ ـ 1978م.
(1/222)
- القضاء في قرطبة الإسلامية في القرن الخامس الهجري لمحمد عبد الوهاب خلاف بحث منشور بمجلة عالم الفكر المجلد 16 العدد: 4 مارس: 1986م.
- القرآن وعلومه في مصر للدكتور عبد الله خورشيد البري ـ دار المعارف بمصر: 1970م.
- قضاة قرطبة لمحمد بن حارث الخنشي تحقيق إبراهيم الأبياري ـ دار الكتاب اللبناني ط1: 1402هـ-1982م.
- القواعد والإشارات في أصول القراءات للقاضي أحمد بن عمر بن محمد بن أبي الرضا الحموي ـ تحقيق الدكتور عبد الكريم بن محمد الحسن بكاد ـ نشر دار القلم ـ دمشق ـ ط1: 1406هـ ـ 1986م.
- كتب برامج العلماء في الأندلس بحث للدكتور عبد العزيز الأهواني مجلة معهد المخطوطات ـ المجلد الأول.
- كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك.
- كنز المعاني في شرح حرز الأماني لأبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري ـ (مخطوط).
- لسان العرب لابن منظور ـ طبعة دار صادر ـ بيروت ـ لبنان.
- لسان الميزان للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ طبعة دار الفكر ـ لبنان.
- لطائف الإشارات لفنون القراءات لأبي العباس القسطلاني ـ الجزء الأول ـ تحقيق الشيخ عامر السيد عثمان وعبد الصبور شاهين ـ القاهرة: 1392 هـ ـ 1972م.
- مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد: 31 ـ الجزء الأول ـ الثاني ـ الكويت.
- مجلة المورد العراقية (الخاص بالخط العربي) العدد:4 ـ المجلد15 ـ1407هـ-1986م.
- مجموعة رسائل ابن حزم الأندلسي تحقيق الدكتور إحسان عباس (4 مجلدات) ـ نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ لبنان.
- المحكم في نقط المصاحف لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني تحقيق الدكتور عزة حسن ـ دار الفكر. ط2: 1407 هـ ـ 1986م.
- محاضرة عن المذهب المالكي في إفريقيا للشيخ إبراهيم صالح بن يونس الحسيني من نيجيريا (ندوة الإمام مالك) نشر وزارة الأوقاف المغربية ـ الرباط.
- مختصر في شواذ القراءات من كتاب البديع لابن خالويه ـ المطبعة الرحمانية بمصر: 1934م.
(1/223)
- المخطوطات العربية بالمغرب بحث للدكتور محمد عبد القادر أحمد ـ نشر في مجلة المورد العراقية العدد الأول مجلد 8 ـ 1399 هـ ـ 1979م.
- المدرسة القرآنية في المغرب لعبد السلام الكنوني ـ مكتبة المعارف ـ الرباط ط1: 1901هـ-1981م.
- مراتب النحويين لأبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة: ط2.
- مسائل ابن رشد الفقهية تحقيق محمد الحبيب التجكاني ـ رسالة دبلوم بدار الحديث الحسنية الرباط.
- مشاهير علماء الأمصار لمحمد بن حبان البستي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
- معالم الإيمان في طبقات علماء القيروان لعبد الرحمن بن محمد الدباغ ـ تونس: 1920.
- المعجب في تلخيص أخبار المغرب والأندلس لعبد الواحد المراكشي وتقديم ممدوح حقي ـ دار الكتاب ـ الدار البيضاء.
- معجم ما استعجم للبكري تحقيق مصطفى السقا ـ عالم الكتب ـ بيروت ـ ط3: 1403 هـ ـ 1983م.
- المعيار المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي ـ طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ الرباط.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للحافظ الذهبي تحقيق محمد سيد جاد الحق ـ دار الكتب الحديثة.
- معالم التنزيل للبغوي ـ شارع الجمهورية ـ عابدين: ط1 ـ مصر.
- معاني القرآن للأخفش سعيد بن مسعدة تحقيق الدكتور عبد الأمير محمد أمين الورد ـ عالم الكتب ـ ط1: 1405 هـ ـ 1985.
- منبهة الشيخ أبي عمرو الداني تحقيق الدكتور الحسن بن أحمد وكاك ـ أطروحة دكتوراه الدولة بدار الحديث الحسنية ـ الرباط.
- المقتبس من أخبار بلاد الأندلس لابن حيان القرطبي القسم المنشور بتحقيق عبد الرحمن علي الحجي ـ دار الثقافة ـ بيروت : 1985.
- مقدمة ابن خلدون ـ طبعة دار الفكر ـ توزيع دار الرشاد الحديثة ـ الدار البيضاء.
(1/224)
- المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة للشيخ عبد الباقي الأيوبي ـ دار إحياء علوم الدين ـ لبنان.
- مناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد عبد العظيم الزرقاني ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان.
- منجد المقرئين ومرشد الطالبين للحافظ ابن الجزري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان: 1400 هـ ـ 1980.
- مناقب الحضيكي (طبقات الحضيكي ـ مجلدان) المطبعة العربية برحبة الزرع القديمة ـ الدار البيضاء: 1357 هـ.
- الموسوعة المغربية للأعلام البشرية لعبد العزيز بن عبد الله وذيلها ـ مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية: 1395 هـ-1975م.
- الموسوعة المغربية - معلمة الصحراء ـ لعبد العزيز بن عبد الله ـ مطبوعات وزارة الأوقاف المغربية: 1395 هـ-1975م.
- الانتصار لواسطة عقد الأمصار لابن دقماق ـ طبعة القاهرة 1893م.
- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة لابن عبد البر النمري ـ دار الكتب العلمية ـ لبنان.
- النبوغ المغربي في الأدب العربي لعبد الله كنون ط2: دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ـ لبنان.
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب لأبي العباس أحمد بن محمد المقري.
- النشر في القراءات العشر للحافظ ابن الجزري تصحيح الشيخ علي بن محمد الضباع ـ مطبعة مصطفى محمد ـ القاهرة.
- نكتة المعلمين (أرجوزة) للقاضي محمد بن عزوز كرضيلو ـ مخطوطة بالخزانة الوقفية العتيقة بمدينة آسفي.
- النجوم الطوالع شرح الدرر اللوامع لابن بري تأليف الشيخ إبراهيم المارغني التونسي ـ دار الطباعة الحديثة ـ الدار البيضاء.
- نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي ـ صندوق الإحياء للتراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية.
- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
- نيل الابتهاج بتطريز الديباج بذيل الديباج لابن فرحون ـ لأحمد بابا السوداني ـ دار الكتب العلمية ـ لبنان.
(1/225)
فهرس المحتويات للعدد الأول:
صفحة
ورقة الإهداء
- تصدير للسلسلة
- مقدمة البحث وموضوعه
- أهدافه ومراميه
- مدخل في تحليل عنوان البحث وبيان مصطلحات يحتاج إلى معرفة معانيها كالقراءة والأداء والأخذ
- تمهيد
الفصل الأول: المدرسة القرآنية في الغرب الإسلامي ومؤسساتها ومقوماتها التعليمية
1- بعثات التوجيه والإقراء في زمن الصحابة والتابعين
2- في تأسيس الربط وتعميرها والإشراف والتعليم فيها في إقامة المساجد الجامعة والخاصة وتنصيب الأئمة والمقرئين بها
3- في إحداث مكاتب وملحقات لتعليم القرآن بأجنحة المساجد وغيرها
4-
? مذهب المغاربة في تعليم الناشئة وقول ابن خلدون في ذلك
5- في العناية بالمصاحف الشريفة استنساخا وتجويدا ونشر
? المصحف العقباني لعقبة بن نافع والمصحف العثماني الإمام بالمغرب
والقيروان ونسخ من مصاحف أخرى ...
الفصل الثاني: القراء والقراءات المأثورة المتداولة في المناطق المغربية
قبل دخول قراءة نافع
- نص لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) في قراء السلف
من كتاب القراءات له.
- الأطوار الأولى التي عرفتها القراءة في المناطق المغربية:
أ طور القراءة الفردية الحرة
ب طور الاختيار بين القراءات والروايات في ضوء المصحف الإمام
وأثر البعثة العمرية
- بعثة عمر بن عبد العزيز ومكانة إسماعيل بن عبيد الله بن أبي
المهاجر واليه على المنطقة
- ظهور القراءة الجماعية أو ما كان يعرف باسم "الدراسة في بلاد الشام"
- قراءة ابن عامر الشامي بإفريقية وصلة عامل عمر بن عبد العزيز
على المنطقة بها
- موقف العلماء من القراءة الجماعية في إفريقية ومتى ظهر الحزب
الراتب من القرآن؟
- باقي رجال البعثة العمرية: أبو ثمامة بكر بن سوادة الجذامي وجعثل بن عاهان الرعيني ومن معهما من أفراد البعثة العشرة
- الرواة عن الصحابة وعن التابعين الكبار من قراء المنطقة
ج ـ طور العمل على توحيد القراءة في المنطقة المغربية على قراءة جامعة
(1/226)
- طلائع الرحلات العلمية نحو المشرق
- أثر المدارس العراقية في إفريقية والقيروان ودخول قراءة حمزة وأبي عمرو وبن العلاء وغيرهما
- أثر علماء الكوفة وقرائهم في إفريقية والقيروان
- أثر المدرسة البصرية وقرائها في المنطقة
- ظاهرة تعدد مصادر الأخذ والسعي نحو توحيد القراءة أو حصرها في عدد معين
الفصل الثالث: دخول قراءة نافع إلى الأندلس وافريقية وروادها
أولا: دخول قراءة نافع إلى الأندلس والقراءة فيها منذ الفتح الإسلامي لها في أواخر القرن الأول.
- العناصر الشامية وغلبتها على الأندلس بعد الفتح
- رواد من فقهاء المنطقة وقرائها وصلتهم بالمذاهب الشامية في الفقه والقراءة
- الرواة عن أهل المدينة ورواد الرحلة العلمية لهذا العهد
ثانيا: دخول قراءة نافع إلى إفريقية والمغرب
- أهم الرواة الذين أخذوا الفقه والحديث عن الإمام مالك من أهل إفريقية
- الإمام سحنون بن سعيد التنوخي وأثره في ترسيم مذاهب أهل المدينة في الفقه والقراءة بالمنطقة
- قائمة بأهم علماء الأندلس الذين رحلوا إلى القيروان بإفريقية للأخذ عن سحنون وغيره
- نشر قراءة نافع وأهم روادها بإفريقية
? أبو يحيى الوقار وموضعه من الريادة في دخول قراءة نافع
? محمد بن برغوث القيرواني إمام مسجد القيروان ومقرئه وموضعه من الريادة
- ترسيم قراءة نافع وصدور الأمر القضائي الرسمي بالاقتصار عليها في التعليم والإقراء
? كردم بن خالد التونسي وروايته عن نافع
- الريادة في قراءة نافع في الجهات المغربية الداخلية
- النازحون من الأندلس والقيروان إلى المغرب لهذا العهد وأثرهم العام
- طلائع الرحلات العلمية من أبناء المغرب نحو الأندلس والقيروان
- مكانة مدينة سبتة في هذا الصدد
الفصل الرابع: عوامل اعتماد قراءة نافع قراءة رسمية
- العامل الأول: الرحلة إلى الحجاز
- العامل الثاني: إيثار مذاهب أهل المدينة على غيرها
(1/227)
- العامل الثالث: العلاقة الوثقى بين نافع ومالك أو بين القراءة والمذهب المدنيين
- العامل الرابع: النقل المزدوج للقراءة والمذهب على أيدي الرواد الأولين
- العامل الخامس: تشجيع السلطة الحاكمة وتدخلها المباشر
- العامل السادس: الرغبة في الاستقلال السياسي والفكري عن السلطة في المشرق ...
- العامل السابع: ميل المغاربة إلى الوحدة السياسية والفكرية والمذهبية
- الحرص على توحيد القراءة وانعكاساته ودواعيه
- حادثة القيروان في قراءة قارئ بغير قراءة نافع وإنكار العامة عليه وجواب الإمام القابسي
- حادثة غرناطة وإنكار العامة على إمام قرأ بخلاف القراءة المعروفة
- خاتمة:
سلسلة:
قراءة الإمام نافع عند المغاربة
من رواية أبي سعيد ورش
دراسة لمقوماتها البنائية ومدارسها الأدائية
إلى نهاية القرن العاشر الهجري
العدد الثاني :
نافع بن أبي نعيم إمام المدرسة المدنية في القراءة
د. عبد الهادي حميتو
مقدمة ومدخل:
تكفل الله سبحانه لكتابه بالحفظ فقال سبحانه: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"(1)، وأورث هذا الكتاب من اصطفاهم لحمله من خيار عباده، وجعلهم في تحمله والقيام به رتبا، "فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير"(2).
ولا يزال في كل عصر من عصور هذه الأمة خلف كريم يواصلون رسالة التحمل وأمانة التبليغ، ويعملون على تفاوت في المستويات على النهوض بذلك وأداء الواجب فيه على خير الوجوه.
__________
(1) - الآية من سورة الحجر رقم 9.
(2) - جزء من الآية 32 من سورة فاطر.
(1/228)
وكان من أزكى رجال هذا الخلف الطيب طائفة من المصطفين الأخيار من أهل المائة الأولى والثانية، اختارتهم العناية الإلهية للنهوض بهذه المأمورية تحملا ورواية، ودراسة ودراية، وتحريرا لوجوه القراءات، وتنقيحا للطرق والروايات، وإتقانا للأصول والفروع، وتجويدا للحروف، ومعرفة بالأداء والوقوف، فكانوا بذلك في زمانهم وبعده الحصن الحصين لكتاب الله، وصلة الوصل الأمينة بين المتلقين له من مشكاة النبوة، وبين الأجيال الخالفة من التابعين وتابعي التابعين، والسائرين على منهاجهم بإحسان في تلاوة هذا الكتاب إلى يوم الدين.
وما تزال أنفاس هذا الخلف الطيب سارية نابضة، مع كل حرف يقرأ به من حروف هذا الكتاب، وماثلة شاهدة، مع كل كيفية من كيفيات الأداء، على الوجوه التي حرروها وضبطوها، ولقنوها ووصفوها لمن أخذها عنهم، فصارت اختياراتهم في ذلك الوعاء الطاهر الذي انصبت فيه التلاوة الرسمية في أمصار الإسلام الكبرى: المدينة المنورة، ومكة المكرمة، ودمشق الشام، والبصرة والكوفة حاضرتي العراق.
وما لبث أن تبلور ذلك كله في اختيارات سبعة من أئمة القراء في تلك الأمصار، إذ كانوا فيها خيار ذلك الخيار، ممن اجتمعت الأمة على عدالتهم وضبطهم، والثقة بهم فيما نقلوا، والاقتداء بهم فيما قرءوا به وأخذوا.
وكان من لباب ذلك اللباب إمام دار الهجرة وقارئها نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الذي اختار المغاربة قراءته، وأدوا عن طريقها كتاب الله في التعليم والتلاوة والصلوات، خلال أزيد من اثني عشر قرنا من الزمان، على حسب ما انتهت إليهم من رواية ورش المصري.
ولقد رافقنا هذه القراءة في مسارها التاريخي في رحلة العبور نحو الجهات المغربية، وصحبناها في أول عهدها بالمنطقة وهي تتلمس طريقها لتغدو عن قريب القراءة الرسمية المعتمدة في عامة الجهات، وما صاحب ذلك من تطورات.
(1/229)
أما الآن فيقتضي منا التدرج بالبحث أن نعود بتلك القراءة إلى مهدها الأصلي الذي فيه درجت، ومنه انطلقت، لنقف وقفات متأنية مع إمامها في المدينة دار إقامته، ونرافقه في حياته المبكرة وأطوار تكوينه العلمي غلاما ويافعا، وطالبا في حلقات العلم بالمسجد النبوي، ثم قارئا تام الآلة، ثم شيخا متصدرا للإقراء، متهيئا للأخذ على القراء، ولنا وقفة معه بوجه خاص عند معالم اختياره في القراءة المدنية، ومظاهر إمامته وريادته في علوم القراءة، وما كان له من مكانة وعلو مقام، بين قراء عصره ومن جاء بعدهم من الأئمة الأعلام.
الفصل الأول:
نافع ورجال المدرسة المدنية
في علوم الرواية وأعلام مشيخته
نسبه ونشأته بالمدينة:
(1/230)
هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم(1)المدني المولد والنشأة، الأصبهاني الأصل روى ذلك عنه عبد الملك بن قريب الأصمعي الراوية المشهور(2). سبي جده أبو نعيم غداة الفتح لبلاده فارس، وكان فتح مدينة أصبهان التي ينتمي إليها على يد أبي موسى الأشعري في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ(3)، وكان لأهل هذه المدينة شفوف كبير على أهل فارس، ولذا كان الانتماء إلى أصبهان في الصدر الأول مبعث إحساس بالفخار والعز، حتى قال الأصمعي ـ فيما أخرج عنه الحافظ أبو طاهر السلفي في كتاب فضل الفرس ـ "عجم أصبهان قريش العجم"(4).
وروى السلفي أيضا بسنده عن سعيد بن المسيب قال: "لولا أني رجل من قريش، لتمنيت أن أكون من أهل أصبهان، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله ناس من فارس من أبناء العجم"(5)، أسعد الناس بها فارس وأصبهان"(6).
__________
(1) - يرد في بعض كتب التراجم منسوبا إلى جده فيقال "نافع بن أبي نعيم" كما نجد ذلك عند ابن سعد في طبقاته الكبرى 7/450 ترجمة 382 وفي تهذيب التهذيب لابن حجر 10/407، وحمل بعضهم ذلك على الخلاف في نسبه وكون: أبي نعيم كنية أبيه أو جده، كما في كنز المعاني للجعبري (مخطوط) وغيره.
(2) - المعارف لابن قتيبة 230 ـ والسبعة لابن مجاهد 53/54 وابن الباذش في الإقناع 1/55.
(3) - المعارف 248 ـ وتاريخ الطبري 4/249. وقال الهذلي في الكامل: "من محلة يقال لها سبلان".
(4) - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم لابن تيمية 163ـ164.
(5) - ينظر باب فضل فارس عند الإمام مسلم في صحيحه.
(6) - اقتضاء الصراط المستقيم 163-164.
(1/231)
وكان من نصيب أبي نعيم الأصبهاني جد نافع، أن ساقته الأقدار لينضم إلى أهل بيت من عرب بني ليث، "وهم بطن من كنانة أسلموا ودخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة"(1)، فأسلم على يد مولاه جعونة بن شعوب الليثي الشجعي(2)الذي قيل كان حليفا لحمزة بن عبد المطلب أو لأخيه العباس ـ رضي الله عنهما -(3)فارتبط بيت نافع ببني لبث برباط الولاء فنسب إليهم، على ما روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أسلم على يديه رجل فله ولاؤه"(4).
وبين ظهراني هذه العشيرة عاش أبو نعيم، وولد له ولده عبد الرحمن الذي عاصر فيما يظهر أواخر عهد الخلفاء الراشدين وصدر دولة بني أمية، وعاش إلى ما بعد عشرة السبعين حيث ولد له نافع، وكان ميلاد نافع بالمدينة المنورة في خلافة عبد الملك بن مروان سنة بضع وسبعين(5).
__________
(1) - حياة الصحابة للكاندهلوي 1/157.
(2) - نسبه ابن الباذش هكذا وقال: وبنو شجع من بني عامر بن ليث. ـ الإقناع في القراءات السبع 1/55.
(3) - السبعة لابن مجاهد 54 – ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان 141 – وسير أعلام النبلاء للذهبي 7/336 ترجمة 121 ـ ومعرفة القراء الكبار للذهبي 1/89 طبقة 4 – وغاية النهاية لابن الجزري 2/330ـ
(4) - سنن سعيد بن منصور 1/78.
(5) - سير أعلام النبلاء للذهبي 7/336 ترجمة 121. وقد حددها بعضهم بسنة سبعين.
(1/232)
وتشح المصادر التي بين أيدينا شحا لا مزيد عليه فيما يرجع إلى أخبار أهل بيت نافع، فلا نجد أدنى خبر يدلنا على تأثر أو تأثير في أحداث العصر يومئذ على كثرتها وأهميتها، ولا يطالعنا خبر ننتفع به في معرفة أحوال هذا البيت في مقامه الجديد بالمدينة، وما كان لأفراده من علاقات بأهلها، أو على الأقل بآل شعوب الليثيين في إطار هذا الولاء الذي يربطه بهم، وقد كان لبعض آل شعوب ذكر في حوادث السيرة(1)، ويظهر أنهم كانوا أول الأمر بحكم هذا الحلف القرشي داخلين في عداد المعارضة القرشية، ثم ما لبثوا أن دخلوا فيما دخلت فيه قريش عقب فتح مكة أو قبله بيسير. ولا نعرف لأحد من أهل هذا البيت بعد ذلك ذكرا يدلنا على مكانة رجاله في الإسلام، مما قد ننتفع به في تقدير مستوى هذه العشيرة العربية التي عاش بين ظهرانيها آل أبي نعيم.
__________
(1) - ورد أنه دافع عن أبي سفيان بن حرب في بدر، وفيه يقول أبو سفيان وقيل هو لغيره:
... ولو شئت نجتني كميت طمرة ولم أحمل النعماء لابن شعوب.
وابن أخبه شداد بن الأسود بن شعوب هو قاتل حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة في يوم أحد، ويمكن الرجوع في هذه الأخبار إلى السيرة النبوية لابن هشام 3/75-76 ـ والروض الأنف للسهيلي 3/190.
(1/233)
وأول ما يطالعنا من أخبار نافع هي الأخبار المتعلقة بصفاته الخلقية والخلقية، فقد حرصت كتب التراجم على أن تنقل إلينا ملامحه ولونه وشيئا من أخلافه وطيب نفسه، فوصفته بأنه كان اسود شديد السواد، لكنه مع ذلك كان جميل الخلقة فيه صباحة ووسامة ودعابة وطيب أخلاق(1)، وكان ربما سئل عن صباحة وجهه ودماثة خلقه فعزا ذلك إلى كرامة تحققت له عن طريق الرؤيا فقال: "كيف لا أكون كذلك، وقد صافحني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعني في النوم ـ وقرأت عليه القرآن؟(2).
ومرة أخرى كان يربط طيب نفسه بمنقبة نبوية، فقد حدثوا أنه "كان إذا تكلم يشم من فيه رائحة المسك فقيل له: يا أبا عبد الله، أو يا أبا رؤيم، أتتطيب كلما قعدت تقرئ؟ قال: ما أمس طيبا، ولكني رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ في في، فمن ذلك الوقت أشم من في هذه الرائحة"(3).
__________
(1) - يمكن استقراء هذه الصفات في مصادر ترجمته كالإقناع 1/56 ـ ومعرفة القراء 1/89 ـ غاية النهاية 2/332.
(2) - كنز المعاني للجعبري (مخطوط) وغاية النهاية 2/332 وترجمة 3718.
(3) - إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة 26 ـ وسراج القارئ لابن القاصح 11.
(1/234)
ونقل لنا إلى جانب صفاته وملامحه وطيب أنفاسه أمر آخر يتعلق بتعدد كناه، فقد كان يكنى بأبي رؤيم(1)، وهي أشهر كناه(2)، ويقال أبو الحسن، وأبو عبد الله وأبو عبد الرحمن(3)ويقال أبو نعيم(4)وأبو بكر(5)وأبو محمد(6)، وقد قيل انه كان بأيها دعي أجاب(7).
ومهما يكن فإن هذا الطفل الأسود الحالك السواد الطيب الأنفاس، سيكون له شأنه الكبير، وشأوة البعيد في المجتمع المدني، فيرى فيه مصداقا لتلك الشمائل والمنقبيات، من خلال العمر الطويل الذي سيمتد قرابة مائة عام، يصرفها كلها في خدمة كتاب الله وبثه في الناس، إذ كان اتصاله بهذا الكتاب الاتصال الذي لم تنفصم عراه منذ أن كان طفلا في ميعة الصبا إلى أن أمسى في عداد المعمرين(8). ولعل أهله كانوا يعدونه لهذه المهمة، ويتوسمون فيه ما كان يتوسمه الموالي في أبنائهم من شفوف القدر ونباهة الشأن كلما ظهر منهم نبوغ في علم من علوم الرواية، في زمن كان فيه لأهل التبريز لاسيما في علم كتاب الله المقام الذي لا يطال، والتقدير الذي لا يبخس في موازين الرجال.
__________
(1) - وهو تصغير رئم وهو الظبي، وقد جاء بحاشية مخطوطة للإقناع لابن الباذش أن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع كناه بأبي رؤيم ـ ينظر الإقناع هامش 1 الجزء الأول ص 56.
(2) - القصد النافع لأبي عبد الله الخراز (مخطوط).
(3) - هذه الكني الأربع متفق عليها في مصادر ترجمته.
(4) - اقتصر عليها الأهوازي في المفردات، وأنكرها الداني في رسالة التنبيه وعزاها إلى التصحيف، وأثبتها له ابن الباذش في الإقناع 1/56 ـ والذهبي في سير أعلام النبلاء 7/336.
(5) - ذكرها الأندرابي في كتاب "قراءة القراء المعروفين برواية الرواة المشهورين" 51.
(6) - ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء 7/336.
(7) - شرح المنتوري على الدرر اللوامع (مخطوط) والفجر الساطع لابن القاضي (مخطوط).
(8) - عاش إلى سنة 169 على المشهور فبلغ قرابة المائة، وسيأتي قول الهذلي فيه "كان معمرا".
(1/235)
أول شيوخه في مرحلة الكتاب:
وأول شيخ تعرف عليه نافع من هؤلاء المبرزين من هذا الطراز، كان هو أيضا مولى من موالي بني مخزوم القرشيين وهو أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وقد جاء عن نافع أنه قال: "كنت أقرأ عليه، وأنا ابن تسع، ولي ضفيرتان"(1).
وقال شيخه نفسه متحدثا عن ذكرياته معه بعد أن بلغ مبلغ المشايخ المعتبرين، موجها الحديث إلى بعض أصحابه ـ فيما رواه عنه سليمان بن مسلم بن جماز كما سيأتي ـ مشيرا إلى نافع وهو يضحك: "أترى هذا كان يأتيني، وهو غلام له ذؤابة، فيقرأ علي، ثم كفرني"(2).
نستفيد من هذا أنه كان حول سنة ثمانين من الهجرة تلميذا في حلقة أبي جعفر أو كتابه إن كان له كتاب، وبعدها لا ندري كيف كان يتردد على مشيخته، لكنا نفاجأ به قبل أن يستوفي الخامسة والعشرين يزاحم أساتذته أهل الاختصاص، فيقول الهذلي(3)في كتابه "الكامل "كان نافع معمرا، أخذ القرآن على الناس في سنة خمس وتسعين"(4).
ونحن وإن وجدنا الإمام الذهبي يرتاب في صحة هذا فيقول متعقبا عليه: "كذا قال الهذلي، وبالجهد أن يكون نافع في ذلك الحين يتلقن ويتردد إلى من يحفظه، وإنما تصدر للإقراء بعد ذلك بزمان طويل، ولعله أقرأ في حدود سنة عشرين ومائة"4.
__________
(1) - كنز المعاني للجعبري ورقة 11 (مخطوط).
(2) - وفيات الأعيان لابن خلكان 6/275 ترجمة 814.
(3) - هو أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهذلي صاحب الكامل في القراءات الخمسين وسيأتي.
(4) - نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/337.
(1/236)
فإن ارتياب الذهبي في ذلك لا يكفي لاستبعاد جلوس نافع لبعض المتعلمين عليه في مثل هذه السن، سن الخامسة والعشرين، لاسيما إذا صح ما ذكره بعض الباحثين في ترجمة الإمام مالك بن أنس متحدثا عن طفولته، حيث ذكر أن أسرته "انتقلت به من المروة(1)إلى العقيق(2)بقرب المدينة، فعاش مع أخ له من تجارة البز، حتى وجهته أمه إلى الكتاب، فحفظ القرآن على قارئ المدينة أول السبعة القراء(3)نافع بن أبي نعيم"(4).
فإذا كان مالك المولود سنة ثلاث وتسعين من الهجرة قد حفظ عليه القرآن، فمن الجائز أن يكون قد بدأ في ممارسة التعليم والتأديب مبكرا، وهو ما تفيده العبارة التي عبر بها بعضهم فنعته بـ"مؤدب مالك بن أنس"(5).
__________
(1) - لعل المراد ذو المروة وهو من أعمال المدينة قرى واسعة وهي لجهينة، وبينها وبين المدينة ثمانية برد، ينظر معجم ما استعجم للبكري 4/1218.
(2) - العقيق واد فسيح قرب المدينة في طريق مكة وردت فيه آثار كثيرة يرجع إلى بعضها في معجم البكري 3/952-953.
(3) - لعله يريد بأولهم ما درج عليه المؤلفون من تقديمه في الذكر اقتداء بابن مجاهد الذي بدأ به السبعة وقد تقدم لنا ذكر سبب تقديم ابن مجاهد وغيره له. وأما أقدم السبعة وفاة فهو عبد الله بن عامر (ت 118).
(4) - من محاضرة لإبراهيم صالح الحسيني من علماء نيجيريا، منشورة في محاضرات "ندوة الإمام مالك" 1/126.
(5) - شرف الطالب في أسنى المطالب لابن قنفذ ضمن كتاب (ألف سنة من الوفيات في ثلاثة كتب) ص 34.
(1/237)
وإذا صح لنا أن مالكا تأدب عليه في كتاب بالعقيق، أمكن لنا أن نحدد المنطقة التي كانت تقطنها عشيرته أو على الأقل كان يشتغل فيها في التعليم في باكورة شبابه، إما صاحب كتاب أو مساعدا لبعض أصحاب المكاتب المحترفين لهذه المهنة، وهي مهنة قديمة العهد بالمدينة ترجع أصولها إلى عهد النبوة، مع فارق واحد هو أنها لم تكن في عهدها لقاء أجرة(1).
ويذكر ياقوت الحموي في معجمه نقلا عن الحافظ ابن عساكر أن المدينة كان فيها زمن أبي بكر الصديق مكتب لتعليم القراءة والكتابة(2).
ويذكر الإمام الشوشاوي(3)أن أيام تعليم الصبيان قد تحددت في خلافة عمر بن الخطاب، "وذلك أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أمر عابد بن عبد الله الخزاعي أن يلازم الصبيان للتعليم بعد صلاة الصبح إلى الضحى الأعلى، ثم من الظهر إلى صلاة العصر، ويسرحون في بقية النهار".
وذكر قبل هذا أن الدراسة تختص بالأيام الخمسة: السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء قال:
"وأما وقت التسريح من الأيام فهو يومان: يوم الخميس ويوم الجمعة، أعني بعد كتبهم الألواح وتصحيحها وتجويدها يوم الخميس، ولا يرجعون إلى المكتب إلى صبيحة يوم السبت، بهذا أمر عمر بن الخطاب عابد بن عبد الله الخزاعي"(4).
الكتاتيب القرآنية بالمدينة في عهد نافع القارئ الناشئ
__________
(1) - وذلك لما في حديث عبادة بن الصامت أنه علم ناسا من أهل الصفة القراءة والكتابة، فأهدى له أحدهم قوسا، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قبولها، ينظر في سنن أبي داود 2/237.
(2) - معجم البلدان 2/217
(3) - هو حسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي وسيأتي ـ.
(4) - الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة للشوشاوي 285-286.
(1/238)
ويظهر أن تطور الأحوال ما لبثت أن اقتضت تحول هذه المكاتب إلى ما يشبه المدارس الابتدائية، وأصبح التغاضي عن أخذ الأجرة في التعليم مما يفتي به الفقهاء في مقابل الجهد الذي يبذله المعلم فيه أو مقابل التفرغ له، وقد قال الإمام الشعبي(1): "لا يشترط المعلم، إلا أن يعطي شيئا فليقبله"(2).
وقال مالك: "كل من أدركت من أهل العلم لا يرون بأجر معلمي القرآن بأسا"(3).
وقال ابن وهب: "كنت جالسا عند مالك ـ رحمه الله ـ فأقبل إليه معلم الكتاب، فقال يا أبا عبد الله إني رجل أعلم الصبيان، وانه بلغني شيء فكرهت أن أشارط، وقد امتنع الناس علي، وليسوا يعطونني كما كانوا يعطون، وقد أضررت بعيالي، وليس لي حيلة إلا التعليم، فقال مالك: اذهب فشارط، فانصرف الرجل، فقال له بعض جلسائه" يا أبا عبد الله، تأمره أن يشترط على التعليم، فقال له مالك: نعم فمن يحفظ لنا صبياننا ويؤدبهم لنا؟ لولا المعلمون أي شيء كنا نكون ؟ "(4).
ويظهر أن تلك الكتاتيب كانت تدر على العاملين فيها دخلا لا بأس به يرتفقون به في المعاش مما أدى إلى كثرتهم وانتشارها، كما أنها أيضا تفتح للقارئ موردا لكسب قوته وقوت عياله دون اعتماد على أحد، على ما أوصى به عمر في قوله: "يا معشر القراء، استبقوا الخيرات، وابتغوا من فضل الله، ولا تكونوا عيالا على الناس"(5).
__________
(1) - هو عامر بن شراحيل فقيه الكوفة في زمنه توفي سنة 105 هـ ترجمته في غاية النهاية 1/350 ترجمة 1500.
(2) - صحيح البخاري 2/36.
(3) - إيضاح الأسرار والبدائع لابن المجراد (مخطوط).
(4) - إيضاح الأسرار والبدائع.
(5) - جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر بن عبد البر 2/15.
(1/239)
وفي الصحيح ما يدل على أن هذه الكتاتيب كانت تدر على أصحابها مكاسب من أكثر من سبيل، وذلك عن طريق الانتفاع ببعض الخدمات التي يؤديها بعض الفتيان لصالح بعض الميسورين لقاء مكافآت مالية، ففي حديث أم سليم أنها بعثت إلى معلم الكتاب أن أبعث إلي غلمانا ينفشون صوفا، ولا تبعث إلي حرا"(1).
ويظهر أن بعض المعلمين كانوا يمزجون فيها بين تعليم القراءة والكتابة وبين تعليم الحساب وغير ذلك من العلوم، وفي ترجمة علقمة بن أبي علقمة ـ مولى لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ أنه كان له كتاب يعلم فيه العربية والنحو والعروض"(2).
__________
(1) - صحيح البخاري كتاب الديات 4/193.
(2) - وذكر أنه مات في أول خلفة المنصور سنة 137 هـ وقد روى عنه مالك بن أنس: طبقات ابن سعد المجلد الملحق الذي ذكر فيه أهل المدينة 342-343 ترجمة 251.
(1/240)
وقد تتبعت أسماء الكتاتيب التي ورد ذكرها في أقرب مصدر يؤرخ لعصر نافع، وهو كتاب تاريخ المدينة المنورة لأبي زيد عمر بن شبة، فإذا هو يذكر منها جملة كبيرة موزعة على المواقع التي فيها مساكن المهاجرين والأنصار بالمدينة(1)، مما يدل على أنها ظاهرة عامة، الأمر الذي يجعل اشتغال نافع في شبابه بالعمل في بعضها أمرا جائزا ومقبولا، إلا أن هذا الاشتغال لم يكن فيما يبدو يحول بينه وبين التردد على بعض أشياخه لاستكمال ثقافته في القراءة وعلوم الرواية، ولعله كان منذ أن بدأ في الاحتكاك بطبقة من القراء والمعلمين، يضع نصب عينيه أن يواصل التحصيل وارتياد حلقات الأكابر على أمل الوصول إلى مستوى علمي يكفل له النباهة في هذا الشأن والشفوف فيه على الأقران، على ما كان يأخذ به الموالي أنفسهم في غالب الأحيان من مثل هذه المطامح، وعلى ما هو ملاحظ بجلاء في إقبال كثير منهم على علوم الرواية خلال الصدر الأول، بصورة جعلتهم يبزون أبناء السادة الأماثل، بل بلغ بعضهم فيها إلى مستوى الإمامة.
__________
(1) - ذكر منها كتاب أبي ذبان 1/231، وكتاب عروة 1/245، وكتاب ابن زيان 1/249، وكتاب ابن الخصيب 1/251، وكتاب إسحاق الأعرج 1/253، وكتاب النصر 1/262 (تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة).
(1/241)
ولا يخفى أن ذلك كان يومئذ هو الكفيل وحده ببلوغ المولى ما يطمح إلى تحقيقه من مركز اجتماعي، وتقدير عام عند الناس، إن لم يصل به ذلك إلى مستوى السيادة على أهل المصر جميعا، على ما قاله الحجاج بن يوسف الثقفي في محاورة مع خالد بن صفوان(1)، إذ سأله من سيد أهل البصرة؟ فقال له: الحسن ـ يعني الحسن البصري ـ فقال: كيف ذلك وهو مولى؟ فقال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدا من أشراف البصرة إلا وهو يروم الوصول في حلقته، إليه ليستمع قوله ويكتب علمه، فقال الحجاج: هذا والله السؤدد(2).
__________
(1) - هو خالد بن صفوان بن عبد الله التميمي كان لسنا لبيبا خطيبا .. المعارف لابن قتيبة 177.
(2) - جامع بيان العلم وفضله 1/62.
(1/242)
إلى مثل هذا السؤدد يمكن أن يرنو نافع ببصره ونظراؤه من الموالي، في الإقبال على الدرس والتحصيل وارتياد مجالس الإقراء وحلقات أماثل العلماء، وقد كان كثير من شيوخه من أئمة القراء بالمدينة من الموالي، وقد رأى بعينه ما يحظون به عند الجمهور من شرف وتكريم واعتبار، جريا على ما أخذه الخلف عن السلف في إكرام أهل القرآن والتجلة الزائدة لهم، ولم يكن ليغض من شأن أحد منهم خمول في نسب أو ولاء، ومن خلال ذلك كان الموالي يحصلون على مزيد من الحظوة حيثما حلوا، وتوكل إليهم مهمات الأمور دون تمييز، وهذا عمر بن الخطاب ينوه بهذا المبدأ حين وجده عند عامله على مكة نافع بن عبد الحارث، فإنه لما ورد عليه المدينة "سأله: من استخلفت على أهل الوادي ـ يعني مكة ـ؟ قال: استخلفت ابن أبزى(1)، قال:من ابن أبزى ؟ قال: رجل من موالينا، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاص(2)قال عمر: أما إن نبيكم قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع آخرين"(3).
من هنا كان للموالي في المجتمع المدني في زمن نافع شأن وأي شأن، فبرز منهم في العلم طائفة كبيرة نذكر منهم عكرمة مولى ابن عباس ودرباسا مولاه أيضا ونافعا مولى ابن عمر وأبا جعفر المدني مولى عبد الله بن عياش وجماعة كبيرة من علية علماء الرواية بالمدينة.
__________
(1) - هو عبد الرحمن بن أبزى الكوفي الخز اعي مولاهم، أدرك النبي(ص) وصلى خلفه.- الإصابة لابن حجر 2/389.
(2) - تصحف اللفظ إلى قاضي بالضاد المعجمة في سنن ابن ماجة، والصحيح قاص، وهو الواعظ المفسر.
(3) - سنن ابن ماجة 1/78-79 رقم الحديث 218 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1975.
(1/243)
ومن الطريف ما يلاحظ بالنسبة لأولئك الموالي أنه كان لهم بالمدينة وجود قائم متميز في بعض الأحداث السياسية فكانوا في موقعة الحرة التي دارت بين أهل المدينة وجيش يزيد بن معاوية سنة 63هـ ـ يشكلون وحدة عسكرية متلاحمة لها قيادة خاصة، ومن الطريف أن قائدهم بها كان من موالي بني ليث ـ وهم موالي نافع ـ وهو يزيد ابن هرمز" وكان أمير الموالي يوم الحرة(1)، "وكان ثقة كثير الحديث، وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز".
ومهما يكن فسوف نرى نافعا الطالب النجيب بين حلقات العلم ومجالس الإقراء، إلى أن ينال طلبته من ذلك، وتترامى به الحال فيشارف مراكز الشفوف ومناصب العلية من الشيوخ، وذلك في حياة طائفة من أساتذته الأجلاء.
بيت نافع بالمدينة
ولعلة حين دلف إلى الثلاثين أو قبل ذلك أو بعده عمل على تأسيس بيته الخاص، لكن المعلومات عن هذا الطور من حياته مفقودة فيما بين أيدينا، فلم نستطع مع البحث الطويل الاهتداء إلى أي خبر أو أثر يفيدنا في هذا السبيل، وكل ما استطعنا الوقوف عليه من ذلك هو ما ذكرته مصادر ترجمته من أنه كان له أبناء سألوه لما حضرته الوفاة، فقالوا: أوصنا، فكانت وصيته إليهم قبسا من فواتح سورة الأنفال، فقال: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين"(2).
فقد كان إذن رب البيت، أنجب أولادا ذوي عدد، لكنا لا نعرف عنهم سوى أنهم كانوا أحياء عند وفاته في خاتمة العقد السابع من المائة الثانية من الهجرة النبوية.
ولربما كان لنا أن نتعرف على أسماء أولئك الأبناء، وأن نقدر عددهم بالرجوع إلى كناه العديدة التي تقدم أنه كان بأيها دعي أجاب، وقد رأيناها، أنها بلغت سبع كنى، فالغالب أنها مستمدة من أسماء أبنائه، على العادة المرعية يومئذ في تكريم الآباء بالكنية بأسماء الأبناء.
__________
(1) - الطبقات الكبرى لابن سعد 5/284.
(2) - السبعة لابن مجاهد 63.
(1/244)
إلا أننا ـ مع الأسف ـ لا نجد لأحد من أبنائه ذكرا في أسماء القراء ولا في رواة العلم في الجملة، على خلاف ما كان متوقعا، إلا أن سير العلماء من معاصريه تنأى بنا عن استغراب افتقادنا لأبنائه في الرواة عنه، فقد كان من القليل النادر قيام الرجل في العلم مقام والده، وقد جاء عن مالك بن انس ـ رحمه الله ـ أنه إذا رأى مقدار إقبال الغرباء وأبناء المهاجرين والأنصار على أخذ العلم والرواية عنه، ورأى ولده يحيى(1)يدخل ويخرج دون أن يأخذ فيما يأخذ فيه غيره، يقول لجلسائه في حسرة ظاهرة: "مما يهون علي أن هذا الشأن لا يورث، وأن أحدا لم يخلف أباه في مجلسه، إلا عبد الرحمن بن القاسم(2).
ولكن كان من نصيب نافع في هذا الشان أن كان الذي تولى خلافته على إمامة الإقراء بالمدينة من بعده هو تلميذ له نشأ في بيته، إذ كان كما قيل ربيبه ابن زوجته، وهو عيسى بن مينا المعروف بقالون(3)الذي ذكر أنه كان "يقرئه قراءة الفراش ـ يعني الدار"(4).
__________
(1) - أمسى ولده يحيى من الرواة المعدودين للموطأ فيما بعد، وله عنه نسخة من الموطأ كانت تروى باليمن – ينظر في ذلك كتاب الديباج المذهب لابن فرحون 18.
(2) - ترتيب المدارك لعياض 1/117 – والمراد عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
(3) - معرفة القراء الكبار للذهبي 1/128-129 – وغاية النهاية لابن الجزري 1/615 ترجمة 2500.
(4) - ذكره الداني في كتابه الاقتصاد في القراءات السبع، ونقله مسعود جموع في الروض الجامع (مخطوط).
(1/245)
وهذا يفيدنا أن نافعا قد تزوج بأكثر من امرأة، أو على الأقل كان له من أم قالون هذا أبناء إن لم تكن له زوجة ثانية، ولقد قيل عن قالون انه لزم نافعا خمسين سنة(1)ومعناه أنه لم يفارقه من سنة ولادته إلى وفاة نافع، وقد سئل أيضا كم قرأت على نافع؟ فقال: ما لا أحصيه كثرة، إلا أني جالسته بعد الفراغ عشرين سنة"(2).
ذلك جملة ما وفقنا عليه من أخبار وإشارات تتصل بحياته البيتية وسماته الخلقية والخلقية، وهي على قلتها ووجازتها تساعدنا على تمثل المستوى البسيط للمناخ الاجتماعي الذي درج فيه، والبيت المتواضع الذي تربى بين ظهرانيه، والمجال الطبيعي الذي عمل في ساحته في بواكير حياته، وذلك قبل أن يتألق نجمه، وأن يعلو به الجد في فنه الذي أخلص له كل جهده، حتى بلغ فيه الشأو الذي لا يطال، واستوى له معه مقام الإمامة ومنصب المشيخة لا ينازعه عليهما أحد في بلده، فكان في طليعة هذا الرعيل الطيب الذين تجردوا للقراءة وحدها من الطبقة الثالثة من التابعين.
وكما صحبناه في نشأته محاولين تبين معالم حياته في البيت وأحوال أسرته فيما أسلفنا، نريد الآن أن نرافقه، في المناخ العلمي بالمدينة المنورة، وهو يتردد على مشايخ المقرئين، وينهل من جالس الفقهاء والمحدثين والرواة النابهين، وذلك يستلزم منا وقفة متأنية نلقي فيها نظرات على الحركة العلمية في "المدرسة المدنية"، وخصوصا في مجال علوم الرواية في عهد الطلب من حياة نافع في الربع الأخير من المائة الأولى من الهجرة، لنترسم المسار الذي سارت فيه هذه الحركة، ونتعرف على أساطينها من أكابر المشيخة وأعيان علماء الأمة، وأصحاب الحلقات والمجالس العلمية في المسجد النبوي الشريف، في الحقبة التي أدركها نافع في زمن الطلب، وهي في أوج ازدهارها وقمة عطائها العلمي، فكان لها أثرها البعيد في تكوينه الرفيع وإمامته العالية.
__________
(1) - النجوم الطوالع للمارغني 16-17.
(2) - غاية النهاية 1/615 ترجمة 2509.
(1/246)
مدرسة القراءات بالمدينة، نشأة وتطورا:
لعل مكانة المدينة المنورة باعتبارها دار الهجرة ومنزل الوحي وقاعدة الإسلام الأولى لا تحتاج منا إلى إفاضة في البيان، إذ كتب لها أن تكون المجال الرحيب الذي تبلورت فيه دعوة القرآن، وتجسدت فيه العقيدة والشريعة المنزلة في الواقع العملي، وتنامي فيه المنهج الرباني في تربية الأمة الناشئة لترتفع إلى مستوى الخلافة في الأرض، ولا ريب أن القرآن الكريم كان سلاح الدعوة ووسيلتها العظمى في الجهاد اليومي، وعماد حركتها الراشدة في تألف الناس على دعوة الإسلام كما أمر الله به نبيه عليه الصلاة والسلام في قوله سبحانه: "فلا تطع الكافرين، وجاهدهم به جهادا كبيرا"(1)وكما في الخبر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرفوعا قالت: "فتحت المدائن بالسيف، وافتتحت المدينة بالقرآن"(2).
__________
(1) - سورة الفرقان الآية رقم 52.
(2) - ترتيب المدارك لعياض 1/36، وفي ثبوت الحديث مقال يراجع فيما كتبه محققه رحمه الله الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي بهامش رقم 2 من الصفحة المذكورة من ترتيب المدارك.
(1/247)
ومصداق ما في هذا الخبر ما تم على أيدي الطليعة الأولى من المهاجرين الكرام من أصحاب مصعب ابن عمير،(1)فقد أخرج البخاري بسنده عن البراء بن عازب(2)قال: "أول من قدم علينا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم(3)، فجعلا يعلماننا القرآن"(4).
وأخرج أبو نعيم بسنده عن ابن شهاب الزهري "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى الأنصار مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة(5)يحدثهم ويقص عليهم، فلم يزل يدعو، ويهدي الله على يديه، حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس، ورجع مصعب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان يدعى "المقرئ"(6).
__________
(1) - من بني عبد الدار القرشيين، كان حامل لواء بني هاشم يوم أحد فقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، وأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عند دفنه. طبقات ابن سعد 3/117 والاستيعاب لابن عبد البر 3/448 والإصابة لابن حجر 3/401 والمعارف لابن قتيبة 70.
(2) - صحابي أنصاري أوسي من المكثرين لرواية الحديث نزل الكوفة ومات بها سنة71-72 هـ ترجمته في طبقات ابن سعد 6/17 والإصابة 1/146 وتاريخ بغداد للخطيب 1/177 ومشاهير علماء الأمصار 44.
(3) - هو عبد الله وقيل عمرو بن أم مكتوم القرشي العامري كان أعمى، استشهد بوقعة القادسية في زمن عمر، ترجمته في المعارف 126 – ومشاهير علماء الأمصار 16 ترجمة 53 والاستيعاب 2/251.
(4) - صحيح البخاري بشرح فتح الباري لابن حجر 10/328.
(5) - هو أنصاري خزرجي أول من بايع ليلة العقبة، ومات قبل غزوة بدر. الإصابة لابن حجر 1/50.
(6) - حلية الأولياء لأبي نعيم 1/107.
(1/248)
كانت بعثة مصعب إذن طالعة "مدارس القراءات" في الإسلام، فقد أعطيتها هذه الصبغة فعلا منذ ذاك الوقت، فأطلق الناس على الدار التي كان يقيم فيها "دار القراء"(1)، وأطلق على أستاذها مصعب "المقرئ"، "وهو أول من سمي به"(2).
في هذه المدرسة أو "دار القراء" هذه تلقى الرعبل الأول من حفاظ الأنصار أول ما تلقوه من سور القرآن وآياته، وذلك قبل هجرة المهاجرين إلى المدينة، ولم تتم الهجرة حتى شاع القرآن وانتشرت قراءته في كل بيوتات الأنصار، وتسارع في حفظه الصغار والكبار، وفي حديث زيد بن ثابت أحد أساطين المدرسة المدنية في القراءة قال:
"قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، وقد حفظت سبع عشرة سورة، فقرأت عليه فأعجبه ذلك"(3).
__________
(1) - الاستيعاب لابن عبد البر 2/294 – والخطط الكبرى للمقريزي 2/362.
(2) - سيرة مغلطاي للحافظ علاء الدين مغلطاي بن دقليج 30 نشر مطبعة السعادة بمصر 1326 هـ ومثله نقله عنه في غاية النهاية 2/299.
(3) - المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/431 – وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/31.
(1/249)
ثم تعزز أثر هذه البعثة بالهجرة العامة التي أمدت دار القرآن بنفس جديد، يتولى الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه القيام عليه، ومعه القراء من المهاجرين، لاسيما بعد تأسيس المسجد النبوي الذي تحول إلى مدرسة دائمة آناء الليل وأطراف النهار، ولم يحل تأسيس هذا المسجد دون استمرار حركة الاقراء في البيوت، وخصوصا بعد عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار(1)، هذا الحدث الذي كان له أبعد الأثر في تغلغل القرآن بشكل واسع في عامة بيوت الأنصار والمهاجرين، فلم يمض غير يسير حتى أصبحت البيوت تعج بالحفاظ والقراء والمقرئين مشايخ وشبانا، على الرغم مما كانت تأخذه الوقائع أحيانا من خيرتهم، كما حدث في واقعة بئر معونة التي استشهد فيها سبعون من قراء الأنصار(2).
بل ان طائفة من شبيبة الأنصار ممن ضربوا في القراءة بسهم وافر أخذوا ينتصبون لاقراء المهاجرين الجدد الذين كانوا كل حين ينضوون إلى جماعة المسلمين من الجهات، فيحتاجون إلى من يعلمهم.
وفي الحلية عن أنس ما يفيد تكون مدرسة مختصة في هذا الميدان خارج المسجد النبوي، فقد "ذكر أنس سبعين رجلا كانوا إذا جنهم الليل أووا إلى معلم لهم بالمدينة، يبيتون يدرسون القرآن"(3).
__________
(1) - ينظر في عقد المؤاخاة صحيح البخاري 3402 – وعيون الاثر لابن سيد الناس 1/242-243.
(2) - كانت هذه الموقعة في شهر صفر من السنة الرابعة، ينظر في تفاصيلها صحيح البخاري بشرح الفتح 10/422 – ومرآة الجنان لليافعي 1/9.
(3) - حلية الأولياء لأبي نعيم 1/123.
(1/250)
أما المسجد النبوي فقد ظل يستقبل أفواج المهاجرين من الواردين على المدينة بعد عقد المؤاخاة، فكان أكثر مقامهم في جوانب المسجد من خارج، فسموا بأصحاب "الصفة"، وهي سقيفة أمام المسجد النبوي، وقد وصفوا بأنهم "كانوا قوما من المهاجرين لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، فنزلوا في صفة المسجد، وكانوا أربعمائة رجل، يلتمسون الرزق بالنهار، ويأوون إلى الصفة بالليل"(1).
وفي حديث عبادة بن الصامت(2)رضي الله عنه قال: "كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع للمسجد ضجة حتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا"(3).
وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه أنه "هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكل به رجلا من الأنصار ـ قال: ـ ففقهني في الدين ، وأقرأني القرآن، وكنت أغدو عليه فأجلس ببابه حتى يخرج متى يخرج، فإذا خرج ترددت معه في حوائجه، فأستقرئه القرآن وأسأله في الدين حتى يرجع إلى بيته، فإذا دخل إلى بيته انصرفت عنه"(4).
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتولى أحيانا تعليمهم بنفسه، كما في حديث أبي طلحة(5)ـ رضي الله عنه ـ أنه "أقبل يوما فإذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ قائم يقرئ أصحاب الصفة"(6).
__________
(1) - أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي القسم الثالث 1317.
(2) - هو أحد نقباء الأنصار الاثني عشر يوم بيعة العقبة، شهد بدرا والمشاهد كلها، وتوفي بالرملة من بلاد الشام شنة 34 – المعارف لابن فتيبة 111 – ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان 51 ترجمة 334.
(3) - مناهل العرفان للزرقاني 1/234.
(4) - تاريخ المدينة المنورة لابن شبة 2/487.
(5) - هو زيد بن سهل الأنصاري زوج أم سليم أم أنس بن مالك، ترجمته في الاستيعاب 4/113.
(6) - حلية الأولياء 1/322.
(1/251)
وفي الحديث أيضا أنه "لما قدم عامر بن الطفيل(1)على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما هذه العبدى حولك يا محمد، أراد فقراء أهل الصفة"(2).
وقد تخرج من "الصفة" عدد كبير من قراء الصحابة كانوا عماد "المدرسة المدنية" في النصف الأول من المائة الأولى، وقد ذكر أبو نعيم الحافظ قائمة طويلة بأسماء جماعة المشاهير منهم ممن عرف لهم وجود بالصفة المذكورة، لولا ضيق المقام لذكرنا منهم أسماء جماعة كان لهم فيما بعد المقام المحمود في مدارس القراءات بالأمصار(3)ولقد تبين لنا أنهم جميعا ينتظمون في إطار ما سميناه بـ"المدرسة المدنية"، لأن هذه البذور كانت الأصل الكبير الذي تفرعت عنه عامة المدارس في علوم القرآن، وآتى ثماره الزكية في الصدر الأول في صورة بعثات تعليمية وتوجيهية كان لها الفضل في نشوء المدارس الكبرى في مختلف البلاد الإسلامية المفتوحة.
مشيخة الاقراء بالمدينة في بداية النشأة:
__________
(1) - هو عامر بن الطفيل العامري من فرسان العرب في الجاهلية، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع في وفد قومه، وقد بيت مع أربد العامري اغتياله والغدر به، ففشلا في ذلك، ورماه الله بالطاعون في الطريق بعد أن توعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لأملأنها عليك خيلا ورجلا". ينظر في ذلك عيون الأثر 2/296.
(2) - النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/68.
(3) - يمكن الرجوع إلى قائمة أهل الصفة في حلية الأولياء 1/352-353.
(1/252)
وعلى كثرة أولئك الذين تلقوا القرآن الكريم كلا أو بعضا على النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، وتعدد من كان يقوم بمهمة الإقراء والتعليم في زمنه من الرجال والنساء، فإن منصب "المشيخة" في هذا الشأن قد تحددت سماته في زمن النبوة، واتجهت به الأنظار نحو نخبة خاصة محددة سلم لها الجميع بالرسوخ في العلم، وكانوا مرجعا للناس، فيما يعرض من أقضية، فحازوا بذلك شرف الرياسة على الناس في هذه المهام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه يهيئ النفوس للتسليم بمنصب المشيخة في العلم لأناس من ذوي الاختصاص، وذلك عن طريق التنويه بأقدارهم، وانتدابهم للتصدر بقوله:
"استقرئوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل"(1).
فكان هذا التنويه بهؤلاء الأربعة في عهد النبوة ترشيحا لهم لمقام مشيخة الإقراء، وانتدابا لهم لتلقين القراءة والجلوس للناس، وإرشادا للراغبين للأخذ عنهم والاعتماد عليهم في ذلك، وفيه أيضا اعتراف ضمني بكمال الأهلية لهم للقيام بذلك.
__________
(1) - صحيح البخاري 2/312-314 ـ وفضائل الصحابة للنسائي 47-52 وفضائل القرآن للنسائي 52.
(1/253)
ولقد ظلت المدينة المنورة في عهد الخلافة الراشدة مدرسة الوحي الكبرى التي ينهل منها الصادر والوارد كما غدت مرجعا لأهل الولايات الإسلامية في البلاد المفتوحة في تلقي كتاب الله وعرضه على مشيخة الإقراء بها، وكان بها جمهور من القراء الأئمة غير الأربعة الذين قدمنا يتصدرون لذلك، كالخلفاء الأربعة، والعبادلة الأربعة(1)، وأمهات المؤمنين، وزيد بن ثابت الأنصاري وأنس بن مالك وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وتميم الداري وصهيب بن سنان الرومي وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من قراء الصحابة، ممن كان يرجع إليهم الناس في هذا الشأن خلال خلافة الراشدين وصدرا من دولة الأمويين، تحقيقا لوعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله ـ فيما رواه أبو سعيد الخدري ـ "إن الناس لكم تبع، وإنهم سيأتونكم من أقطار الأرض، يتفقهون في الدين، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرا"(2).
وعلى الرغم من انتشار كثير من هذه الكفاآت العلمية في الأمصار الإسلامية بعد فتح الشام والعراق ومصر وفارس وغيرها، وتزايد الحاجة إلى الأطر التعليمية والتوجيهية في هذه الأصقاع، واضطرار الخلفاء إلى انتداب الجماعة بعد الجماعة إليها من أولئك الفقهاء والقراء، ولاسيما في حملات الجهاد كما قدمنا فإن "المدرسة المدنية" قد حاولت الاحتفاظ بمشيختها، لحاجة الناس إليها من جهة، ولأنهم كانوا في الوقت نفسه بمثابة الحاشية الرسمية للخليفة، و"الأطر العلمية والقضائية" التي لا يمكن الاستغناء عنها، وإلى هذا يشير حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ بقوله: "كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشورته، كهولا كانوا أو شبانا"(3).
__________
(1) - هم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
(2) - سنن ابن ماجة 1/91-92 رقم الحديث 249.
(3) - صحيح البخاري بحاشية السندي 4/258 وكذا 4/272.
(1/254)
ولقد كان عمر رضي الله عنه لا يأذن لأحد منهم في مغادرة البلد"لفضل إخلاصهم ولغزير علمهم، كأنه يضن بهم أن يقتلوا، وهم حملة العلم النبوي الشريف، فأبقاهم بجواره لهذا، ولينتفع برأيهم ولذلك بقي هؤلاء في المدينة، حتى تفرق بعضهم في الأمصار في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما"(1).
ويشهد لهذا ما أخرجه ابن سعد في الطبقات من طريق كعب بن مالك قال: "كان عمر بن الخطاب يقول: "خرج معاذ إلى الشام، ولقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر ـ رحمه الله ـ بأن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى علي، وقال: "رجل أراد وجها يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراش بيته عظيم الغناء عن مصره ـ قال كعب بن مالك ـ وكان معاذ بن جبل يفتي الناس بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم"(2).
__________
(1) - تاريخ المذاهب الإسلامية للأستاذ محمد أبو زهرة 2/183.
(2) - حياة الصحابة للكاندهلوي 1/435 نقلا عن كتاب كنز العمال 7/87.
(1/255)
ذلك كان موقف عمر من خروج هذه "الأطر" الرفيعة في زمن أبي بكر، لكنه في خلافته بدأ يضطر تحت إلحاح رجال الوفود إلى السماح لبعضهم بالخروج معهم، فقد كتب إليه مثلا عامله على الشام يزيد بن أبي سفيان يقول: "إن أهل الشام كثروا وربلوا"(1)وملأوا المدينة، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فدعا عمر معاذا وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبا أيوب الأنصاري وأبا الدرداء، فقال: "إن إخوانكم من أهل الشام استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فأعينوني رحكم الله بثلاثة منكم، فإن أحببتم فاستهموا، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير ـ لأبي أيوب ـ، وأما هذا فسقيم ـ لأبي ـ، فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء ... وقدموا حمص، فكانوا بها، حتى إذا رضوا من أهلها، أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين"(2).
ومثل ذلك فعله عمر أيضا حين استمده أبو موسى الأشعري حين ولاه عاملا على البصرة بالعراق، فقال: يا أمير المؤمنين، أعني بعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح، لا يصلح الطعام إلا به، قال: فاستعن بمن شئت منهم، فاستعان بسبعة وعشرين رجلا، منهم أنس بن مالك، وعمران بن حصين، وهشام بن عامر، ثم خرج أبو موسى حتى أناخ بالبصرة"(3).
وبعث عمر أيضا بعبد الله بن مسعود إلى الكوفة بعد عزله لسعد بن أبي وقاص سنة 21هـ وأرسل إلى أهلها قائلا:
__________
(1) - ربلوا: كثر عددهم ونموا ـ لسان العرب لابن منظور 11/264 ع 1 مادة ربل.
(2) - ذكروا أنه كان مصابا بالحمى، وأنه سأل أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا صلاة مكتوبة في جماعة" ـ الإصابة لابن حجر 1/19- 20.
(3) - الطبقات الكبرى لابن سعد 2/356-357.
(1/256)
"إني جعلت عليكم عمارا(1)أميرا، وعبد الله بن مسعود وزيرا، وآثرتكم بابن مسعود على نفسي، وانهما من نجباء أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(2).
فكانت هذه البعثات التعليمية المنطلقة من دار الخلافة بالمدينة ضرورية لسد حاجة هذه الجهات، ومع هذا فقد كان يعلم عمر ما يمكن أن يؤدي إليه التمادي فيها دون انضباط، من إفقار لمدرسة المدينة، بخروج هؤلاء العلماء منها وانسياحهم في البلدان، ولا أدل على ذلك من قوله لأهل الكوفة "آثرتكم بابن مسعود على نفسي"، ولذلك نراه يتوقف في شأن خروج بعض الصحابة كأبي بن كعب وزيد بن ثابت ، ويعتذر عن ذلك بمختلف المعاذير ضنانة بهما، وقد قال له أبي وهو يرى خيار أصحابه قد غادروا المدينة، وأسندت إليهم الولايات: "مالك لا تستعملني؟ فقال له عمر: أكره أن يدنس دينك"(3).
ولا يخفى أن مثل هذه الكراهية كان في الإمكان أن تحمل عمر على أن يصر على موقفه تجاه جميع من ظفروا بالولاية ممن قدمنا، ولكنها فيما يظهر إنما تمثل طرفا من الحقيقة، إذ كان لأبي عنده مكانة خاصة ليست لغيره، فقد قيل انه " كان يسأله في النوازل، ويتحاكم إليه في المعضلات"(4).
وكان له عند الناس من المنزلة أضعاف ذلك، حتى ان عمر "خرج من المسجد، فإذا جمع على رجل، فسأل ما هذا؟ فقالوا: هذا أبي بن كعب كان يحدث الناس في المسجد، فخرج الناس يسألونه، فأقبل عليه حردا(5)، فجعل يعلوه خفقا"(6)، وفي رواية أنه قال له: "هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع"(7).
__________
(1) - أحكام القرآن لابن العربي القسم 3/1326 ـ والأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري 118.
(2) - هو عمار بن ياسر من المهاجرين قتل بصفين سنة 37 هـ ترجمته في الطبقات لابن سعد 6/14 والمعارف 111.
(3) - الطبقات الكبرى لابن سعد 3/499.
(4) - الاصابة لابن حجر 1/32.
(5) - يعني غضبان كما في اللسان 3/144 مادة حرد
(6) - تاريخ المدينة لعمر بن شبة 2/691.
(7) - منهاج السنة لابن تيمية 3/129-193.
(1/257)
مدرسة أبي بن كعب في القراءة:
وكان لأبي مسجد بالمدينة يسمى باسمه، وقد روى عمر بن شبة بسنده عن يحيى بن سعيد قال: "كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يختلف إلى مسجد أبي، فيصلي فيه غير مرة ولا مرتين"، وفي خبر آخر "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصل في مسجد ما في جوبة(1)المدينة، إلا في مسجد أبي بن كعب في بني جديلة"(2).
فلعل هذا المسجد كان أساس مدرسة أبي التي لم تلبث أن استأثرت بعامة النشاط القرائي بالمدينة، ولعله قد انتقل بها على عهد عمر إلى رحاب المسجد النبوي حيث تنامى عدد غاشيتها من أبناء المهاجرين والأنصار وسواهم من الواردين على المدينة، فقرأ عليه صغار السن من الصحابة والتابعين، وأتم عليه الكبار ما فاتهم من القرآن على عهد النبوة، ورحل الناس إليه من الأقطار المفتوحة، وهم يتمثلون في القراءة عليه بصفة خاصة، استمرار ذلك النفس النبوي الذي ظل أبي يمثله في قراءته، باعتبارها القراءة الموثقة المزكاة بالعرض والسماع معا من لدن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد اختص بخاصية لم يشاركه فيها أحد من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي عرض الرسول للقرآن أو لبعضه عليه، وذلك ما تفيده جملة من الأحاديث، ومنها ما أخرجه الإمام النسائي وغيره عن الربيع بن أنس(3)قال:
__________
(1) - الجوبة الدارة أو المكان الوطيء من الأرض – مادة جوب اللسان 1/2286.
(2) - تاريخ المدينة المنورة 1/64.
(3) - هو الربيع بن أنس بن زياد البكري، يروي تفسير أبي وغيره، قال ابن حبان: سكن مرو، وكان راوية لأبي العالية، وكل ما في أخباره من المناكير إنما هي من جهة أبي جعفر الرازي. ـ مشاهير علماء الأمصار 126.
(1/258)
"قرأت القرآن على أبي العالية(1)، وقرأ أبو العالية على أبي، وقال أبي: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أمرت أن أقرئك القرآن، قال: أو ذكرت هناك؟ قال: نعم، فبكى أبي، قال: ولا أدري شوقا أو خوفا"(2).
ومن ذلك ما أخرجه أبو بكر بن مجاهد بسنده عن عبد الرحمن بن هرمز ـ أحد شيوخ نافع في القراءة ـ قال: "قرأت على أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ، وقال أبو هريرة: قرأت على أبي بن كعب، وقال أبي: عرض علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن، وقال: أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن"(3).
ولقد كان في هذا العرض النبوي ما وجه الأنظار بصفة خاصة إليه في هذا الشأن، إذ لم يزاحمه على مثله أحد ممن عرضوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ولذلك اهتم بعض علماء السلف بالبحث عن سر هذا الاختصاص، فروى ابن مجاهد بسنده عن عاصم بن بهدلة(4)قال: قلت للطفيل بن أبي بن كعب(5)إلى أي معنى ذهب أبوك في قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أمرت أن أقرأ القرآن عليك؟ فقال: ليقرأ علي فأحذو ألفاظه"(6).
قال ابن مجاهد: وقال أيضا محمد بن إسحاق الصنعاني عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال:
"معنى هذا الحديث أن يتعلم أبي قراءة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعلم قراءة أبي رضي الله تعالى عنه"(7).
__________
(1) - هو رفيع بن مهران الرياحي البصري تقدم.
(2) - فضائل الصحابة للنسائي 40-41.
(3) - كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد 55.
(4) - هو ابن أبي النجود الكوفي أحد القراء السبعة.
(5) - الطفيل بن أبي من التابعين ويقال له أبو بطن المدني وثقة ابن سعد ـ الخلاصة للخزرجي 179.
(6) - السبعة في القراءات لابن مجاهد 55.
(7) - نفس المصدر والصفحة.
(1/259)
ولقد كان لهذه الخاصية بلا شك أثرها في اجتماع أهل المدينة على قراءته، وكان من نتائج ذلك أن جاءت عامة القراءات المتواترة في الأمصار ـ بما فيها قراءات القراء السبعة ـ مسندة من طريق أبي كما سيأتي في أسانيد مشيخة نافع نفسه
ولا شك أن الصحابة الذين تحملوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد كبير، إلا أن منازلهم في العلم والفهم كانت متفاوتة، كما أن نبوغ النابغين من علمائهم إنما برز في ميدان دون غيره، واختص أبي من بينهم بالتبريز في ميدان القراءة، ويتجلى هذا التمايز بين علية الصحابة في ذلك فيما أخرجه أحمد والنسائي بالسند عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"(1).
وقد روى عن عمر من وجوه: "علي أقضانا، وأبي أقرأنا"(2)، وعن أبي سعيد الخدري ".. وأفرضهم زيد، وأقرؤهم لكتاب الله أبي"(3).
تلك كانت مكانة أبي في المدرسة المدنية منذ أيام النبوة، وذلك كان سر الاعتراف له دون منازع بإمامة الإقراء، من لدن عامة من عاشوا معه من خيار الصحابة بالمدينة المنورة، ولذلك ولاه الخلفاء وظيفة الإقراء، وعهدوا إليه بإمامة القراء، واستندوا إلى معرفته فيما كان من هذا القبيل، كالإسهام في جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم في زمن عثمان، على القول الصحيح بأنه عاش حتى شارك في الجمع الثاني للمصحف، وكان فيما صحت به الروايات ـ مرجعا في التوثيق والضبط فيما كان يعرض للجنة تدوين المصحف من مشكلات في وجوه القراءة والرسم.
__________
(1) - المسند لأحمد 3/184 ـ وفضائل الصحابة للنسائي41-55.
(2) - الاستيعاب لابن عبد البر 1/8.
(3) - نفس المصدر والصفحة.
(1/260)
ومن ذلك ما أخرجه الحافظ ابن حجر عن هانئ البربري مولى عثمان بن عفان قال: "لما كان عثمان يكتب المصاحف، شكوا في ثلاث آيات، فكتبوها في كتف شاة، وأرسلوني إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت، فدخلت عليهما، فناولتها أبي بن كعب، فقرأها..... قال: فنظر فيها زيد بن ثابت، ثم انطلقت إلى عثمان، فأثبتوها في المصاحف كذلك"(1).
ومن تمام الاعتراف لأبي بالإمامة في القراءة ما فعله عمر حين نصبه إماما للناس بالمسجد النبوي الشريف في صلاة التراويح، بعد أن كانوا يصلون أوزاعا متفرقين(2). ولا يخفى ما سيكون لجمع المصلين على قراءة إمام من هذا الطراز من أثر في توحيد القراءة على نمط واحد يشترك في سماعه منه عامة المتهجدين، وما فيه أيضا من تعريف الجماعة بالقراءة "الرسمية" المعتمدة الموثقة بالعرض والسماع، وما في ذلك ثالثا من ترشيح ضمني لهذا القارئ لمنصب المشيخة وإمامة هذا الشأن، فكان أبي بهذا إحدى مفاخر الأنصار الخزرجيين، مع من معه من قرائهم الثلاثة المشهورين من هذا الفرع، كما أشار إليهم الإمام أبو عبد الله بن غازي ـ رحمه الله ـ بقوله:
افتخر الخزرج بالقراء اما شفاها أو على الأكفاء
زيد أبو زيد(3)أبي ومعاذ وافتخر الأوس بسعد بن معاذ3
مدرسة زيد بن ثابت الأنصاري:
__________
(1) - المقاصد العالية في زوائد المسانيد الثمانية لابن حجر 3/286 – والإتقان للسيوطي 2/271.
(2) - الموطأ بشرح تنوير الحوالك للسيوطي 1/136-137.
(3) - إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب لابن غازي 166 ـ وأبو زيد المذكور اختلف في اسمه على أقوال ذكرها السيوطي في الإتقان والصحيح منها أنه قيس بن السكن من عمومة أنس بن مالك. الإتقان 1/71-72.
(1/261)
والتحق بأبي في إمامة الإقراء بالمدينة شاب ذكي من قومه، وهو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، وكان قد اشترك معه في كتابة الوحي بين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فـ"كان إذا غاب أبي كتب له زيد"(1)، كما كان أيضا أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأنصار بإجماع(2)، ثم كان عليه الاعتماد في المشروع الكبير الذي جرى تنفيذه على مراحل، أعني جمع القرآن الكريم في المصحف في زمن أبي بكر، ثم إعادة إخراجه إلى الناس في نسخه الرسمية المتضمنة لما تواتر من حروف القراءات في زمن عثمان، وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية الكبرى، ثم كان القائم بعد أبي على تلقين قراءة الجماعة، على وفاق المصحف المدني الإمام بقية عهد خلافة الراشدين وصدرا من دولة بني أمية.
ولقد رشحه للقيام بمثل هذه المأموريات عدد من المزايا أجملها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في كلمة واحدة حينما أراد أن يعهد إليه بجمع القرآن، فقال له: " إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(3).، هذا إلى ما امتاز به من فقه راسخ وفهم ثاقب، وعلم بالفرائض والأحكام، كل ذلك كان يرشحه لمنصب "الأستاذية" في مدرسة المدينة مع أبي أو بعده حين يضعف عن القيام بذلك، ثم حين يلتحق بدار البقاء، وهو الذي "خلفه في الصلاة بالناس في تراويح رمضان، وكان أبي قد أقامه عمر لذلك إلى أن مات"(4).
__________
(1) - السيرة النبوية لابن كثير 4/669-670.
(2) - ينظر حديث أنس عن الأربعة الذين جمعوا القرآن في صحيح البخاري 3/228.
(3) - المصدر نفسه 3/225.
(4) - مسالك الدلالة في شرح الرسالة للشيخ أحمد بن الصديق 116.
(1/262)
لهذه المناقب والمزايا كان عمر يدخره لنفسه بالمدينة ويرى فيه الرصيد العلمي الذي لا يفرط فيه، لهذا كان يضن به كما ضن بأبي قبله، وإن ألحف في طلبه السائلون، روى ابن سعد في طبقاته الكبرى قال: "كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر يسافره، وكان يفرق الناس في البلدان، ويوجههم في الأمور المهمة، ويطلب إليه الرجال المسمون، فيقال له: زيد بن ثابت، فيقول: لم يسقط علي مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد فيما يجدونه عنده(1)فيما يحدث لهم ما لا يجدونه عند غيره"(2). وإليه وإلى أبي يشير أبو عمرو الداني في أرجوزته "المنبهة على أسماء القراء والرواة" "بقوله:
وزيد ابن ثابت والقاري أبي ابن كعب الأنصاري
هما اللذان أقرآ بالدار بعد النبي المصطفى المختار
... ... وأقرآ خلافة الصديق وأقرآ خلافة الفاروق
وأقرآ الصحابة الكراما والتابعين لهم الأعلاما(3)
ومما ينبغي أن ننبه عليه، أنه لم تكن هنالك فروق جوهرية بين قراءة أبي وقراءة زيد تحول دون تعاونهما في تخريج طبقة واحدة من القراء كانت تأخذ عنهما معا، إذ لم يكن بينهما في القراءة من الخلاف في طريقة الأداء بعض ما كان ملحوظا بين المهاجرين والأنصار، مما ظهرت بوادره بشكل واضح قبل تدوين المصحف الإمام، وفي أثناء هذا التدوين، ولذلك قال عثمان للثلاثة القرشيين(4)الذين في اللجنة الرباعية: "إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم"(5).
__________
(1) - لعل الصواب فيجدون، ومثل هذا أيضا في كتاب نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني 371.
(2) - الطبقات الكبرى لابن سعد 2/359-360.
(3) - الأرجوزة المنبهة ستأتي في مؤلفات الداني.
(4) - هم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام: صحيح البخاري 3/225.
(5) - صحيح البخاري 2/224-225.
(1/263)
وذلك أن المشروع العثماني على الصورة التي أنجز بها، والذي شارك فيه على الصحيح كل من أبي وزيد، قد حسم الخلاف الذي كان حول القراءة ببعض الحروف الشاذة عن قراءة الجماعة أو المنسوخ من الآيات، مما كان عمر ينكره أحيانا على أبي ويقول: "أبي أقرؤنا، وانا لندع من لحن أبي"(1)، وفي رواية: "وانا لندع شيئا من قراءة أبي"(2).
__________
(1) - الصدر نفسه 3/228.
(2) - -فتح الباري 10/428 ـ ومسنده أحمد 5/113.
(1/264)
فبهذا المشروع في صورته النهائية تم تجاوز هذه العقبة، واكتمل اجتماع الأمة على قراءة واحدة لم يعد معها مجال للاختلاف في شيء من آيات القرآن، وإنما بقي ما بقي من مظاهر الخلاف الجزئي ما قد يكون بين قارئ وآخر مما هو راجع في الغالب إلى اللهجة واللحن الخاص، مما تمشيه صحة الرواية، وينتظم في الإطار العام للأحرف السبعة التي أذن في القراءة بها. وذلك معناه التقاء قراءة أبي وزيد والجماعة في جامع مشترك ناظم لتلك الأنماط من الأداء في سلك واحد، يجسمه الخط المرسوم في مصحف الجماعة، الذي كتب عن قصد خاليا من علامات الإعجام والشكل، ليتأتى من خلال رسومه الماثلة احتواء القراءات المتواترة، وبذلك أمكن جمع القراء جميعا على مصحف واحد، مع احتفاظ كل قارئ بحروف قراءته التي قرأ بها مما هو منسجم مع مصحف الجماعة، وهذا هو التعليل الصحيح لما هو شائع من اجتماع الناس على حرف زيد بن ثابت، فإن اجتماعهم عليه لا يعني إلغاء ما جاء على قراءة أبي من الحروف مما يحتمله الرسم وتواتر نقله عنه، واكبر دليل على ذلك ما نجده من "أن أسانيد نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء من السبعة كلها راجعة إلى أبي، وقراءة ابن عامر راجعة إلى عثمان(1)، وباقي السبعة إلى علي وعثمان وابن مسعود وغيرهم، ومع هذا فإن الخلاف بينهم في أمور جزئية لا تمس الصورة الماثلة في المصحف، مما يدل على أن الحرف الذي ينسب إلى زيد هو حرف للجماعة في الوقت نفسه، بل هو الإطار الذي انتظم حروف الجماعة جميعا، فلا يبقى أي إشكال في نسبته إليه أو إلى الجماعة، وإن كانت نسبته إليه هي الشائعة قال الحافظ ابن عبد البر:
"والأخبار بذلك متواترة المعنى وإن اختلفت ألفاظها"(2).
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي 1/328.
(2) - الاستيعاب لابن عبد البر بهامش الإصابة 1/532-534 – والإصابة 1/543.
(1/265)
وهذا هو تفسير سكوت أئمة القراءات عن إسناد قراءاتهم من طريق زيد وقلة ذكره في كتب الخلاف بين القراء، وإنما يهتمون بما خالف حرفه، وكأنهم في ذلك أجروه مجرى الأصل الذي يقارن غيره إليه.
وهذا المعنى هو المفهوم مما ساقه الإمام الباقلاني في كتاب الانتصار لنقل مصاحف الأمصار في قوله:
"كتب عثمان مصحفه بحرف زيد الذي تضمن جميع الأحرف التي أنزلها الله تعالى، وقرأ بها معاذ وأبي والجمع، وجميع قراءة الأمة بحرف زيد على هذا الجواب السديد ـ الذي هو حرف جميع الأمة، فأما أن يتميز أحد ببعض الحروف قبل كتب مصحف عثمان، فذلك جائز إذا واظب على القراءة به وحث عليه دون غيره، فأما بعد كتب مصحف عثمان فلا ينسب إلى زيد دون غيره، لأنه قد تضمن جميع الوجوه التي أنزلها الله عز وجل.... فأما أبي فقد تظاهرت الأخبار بأن حرفه هو حرف زيد والجماعة، وروى أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ لما نسخ القرآن في المصاحف أرسل إلى أبي بن كعب، فكان يملي على زيد وزيد يكتب، ومعه سعيد بن العاص، فهذا المصحف على قراءة أبي وزيد"(1).
ذلك شأن حرف زيد حينما نجد القول باجتماع العامة عليه، ويشهد لهذا الفهم ما جاء عن سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ـ من أنه سئل عن القراءة التي يقرأ بها أهل المدينة، فقال:
"اجتمع عليها ابن عمر وعثمان وأبي وزيد، وكان زيد أقرأهم عندنا"(2).
وذكر ابن شبة بسنده عن يوسف بن الماجشون قال: "سمعت أم سهل تقول: لو هلك عثمان بن عفان وزيد بن ثابت في بعض الزمان، لهلك علم الناس إلى يوم القيامة، لقد جاء على الناس زمان، وما يعلمهم غيرهما"(3).
وروى عن مالك بن أنس أنه قال: "كان إمام الناس عندنا بعد عمر بن الخطاب زيد بن ثابت ـ يعني بالمدينة"(4).
__________
(1) - نكت الانتصار 387-388.
(2) - المصدر نفسه 370.
(3) - تاريخ المدينة المنورة 3/1063.
(4) - الاستيعاب 1/534.
(1/266)
ولا شك أن مالكا هنا إنما يعني إمامة التصدر والتفرغ للناس، لتوجه الهمم إليه خصوصا بعد موت أبي وانشغال عثمان بأعباء الخلافة، فاستقل زيد بالميدان، وجمع فيه بين ما كان متفرقا في الصحابة بعد ذهاب أكثر المشيخة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالموت والاستشهاد في الوقائع، أو الخروج إلى الأمصار، أو الدخول في السن، فانفرد بإمامة الإقراء، وتخلى عن بعض المهام التي كانت تشغله عن ذلك، "وكان عمر قد عينه كاتبه الخاص"(1)فسلمت له الجماعة، واجتمع الناس بالمدينة على قراءته.
وهذا أبو عبد الرحمن السلمي ـ شيخ عاصم ـ يقول:
"قرأت القرآن على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، وكان عثمان والي أمر الأمة، فقال لي: إنك تشغلني عن النظر في أمور الناس، فأمض إلى زيد، فإنه فارغ لهذا الأمر يجلس فيه الناس، واقرأ عليه، فإن قراءتي وقراءته واحدة، ليس بيني وبينها خلاف، فمضيت إلى زيد فقرأت عليه، فكنت ألقى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فأسأله فيخبرني، ويقول لي: عليك بزيد بن ثابت، فأقمت على زيد ثلاث عشرة سنة، أقرأ عليه فيها القرآن، فعرفت بذلك فضيلة زيد في ضبط القرآن، وإقرار أمير المؤمنين عثمان له بذلك"(2).
رجال المدرسة المدنية في علوم الرواية من أصحاب أبي وزيد:
__________
(1) - المعارف لابن قتيبة 113.
(2) - كتاب المباني في نظم المعاني مجهول المؤلف، وهو منشور مع مقدمة تفسير ابن عطية الأندلسي بعنوان مقدمتان في التفسير 25.
(1/267)
كان تأثير القارئين الكبيرين في القراءة المدنية مشتركا ومتكافئا، واهتمامهما بعلوم القرآن من قراءة وتفسير وفقه متشابها، وقد اقتضى ذلك استئثارهما بالنخبة المهتمة بهذه العلوم على عهد الراشدين، فما من علماء المدينة أو الطراء عليها أحد كان يرى نفسه في غنى عن الأخذ عنهما، واستكمال حصيلته في المعرفة الدينية عليهما، وبذلك اشتركا معا في تكوين الجيل الثاني من الصحابة، والأول من التابعين ابتداء من زمن النبوة، وانتهاء إلى أواخر عهد الراشدين فما بعده بالنسبة لزيد، فكان من أهم رجالهما:
1- عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ وهو حبر الأمة في علم القرآن، المخصوص بدعوته عليه الصلاة والسلام له أن يعلمه الله الكتاب والحكمة، بدأ القراءة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل حفظ "المحكم"، وفي رواية أنه "جمع المفصل في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ(1)، وعرض القرآن على أبي وزيد، وقيل: قرأ على علي أيضا"(2).
وروى ابن أبي داوود بسنده عن ابن عباس قال: "قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود .."(3).
__________
(1) - معرفة القراء الكبار للذهبي 1/41 طبقة 1 ترجمة 2.
(2) - غاية النهاية 1/426 ترجمة 1791.
(3) - كتاب المصاحف لابن أبي داود 65 وجاء عن الضحاك بن مزاحم عنه أنه كان يأخذ ثمانية عشر حرفا من قراءة ابن مسعود ـ غاية النهاية 1/426.
(1/268)
وقرأ عليه القرآن مولاه درباس وسعيد بن جبير وسليمان بن قتة وعكرمة بن خالد وأبو جعفر يزيد بن القعقاع(1). وجمع عليه بين التفسير والقراءة جماعة منهم مولاه عكرمة ومجاهد بن جبر، وسمع منه جمهور كبير بمكة والمدينة، وقد نزل مكة زمانا بعد انتقال الخلافة إلى الشام، وفي أثناء مدة ابن الزبير، إلى أن أزعج عنها إلى الطائف فتوفي بها بعد أن كف بصره سنة 68هـ(2).
وتنتهي أسانيد قراءة نافع إليه من طريق أبي جعفر المدني وغيره ممن قرأ عليهم من التابعين.
2- أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، الصحابي الراوية المكثر، أسلم سنة سبع من الهجرة(3)، وسمع القرآن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال الحافظ الذهبي: "روى ما لا يوصف عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقرأ القرآن على أبي بن كعب، وقرأ عليه غير واحد، وروى عنه نحو من ثمانمائة نفس"(4)وذكر ابن الجزري أنه قرأ أيضا على زيد بن ثابت(5)، وقال في الغاية: المشهور أنه قرأ على أبي بن كعب، عرض عليه عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبو جعفر، قيل: وشبية بن نصاح، وقال الذهبي: انه لم يدرك أبا هريرة"(6).
وقد أسند ابن مجاهد في كتاب السبعة عن سليمان بن مسلم بن جماز ـ أحد أصحاب أبي جعفر ـ أنه سمع أبا جعفر يحكي لهم قراءة أبي هريرة في "إذا الشمس كورت" يحزنها شبه الرثاء"(7).
__________
(1) - غاية النهاية 1/426.
(2) - ترجمته في مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 9 وترجمة 17 ـ والاستيعاب 2/342-349 ومعرفة القراء الكبار 1/41 طبقة 2 ترجمة 2 ـ وطبقات المفسرين للداودي 1/322-333.- وغاية النهاية 1/425.
(3) - المعارف لابن قتيبة 120- ومشاهير علماء الأمصار 15 ترجمة 46.
(4) - معرفة القراء الكبار 1/40 ترجمة 1 طبقة 2.
(5) - تحبير التسيير لابن الجزري 19.
(6) - غاية النهاية 1/370 ومعرفة القراء الكبار للذهبي 1/64 طبقة 3 ترجمة 14.
(7) - السبعة لابن مجاهد 57.
(1/269)
" وإلى أبي هريرة تنتهي ـ فيما يقول ابن الجزري ـ قراءة أبي جعفر ونافع"(1).
توفي أبو هريرة وهو أمير على المدينة سنة 58هـ، وقيل سنة 59"(2).
3- عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، تابعي كبير(3)، وقيل صحابي رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحفظ عنه"(4). ولد بالحبشة، وكان أبواه قد هاجرا إليها مع المهاجرين الأولين(5)، وقتل أبوه عياش يوم اليرموك بالشام في خلافة عمر بن الخطاب(6).
قرأ القرآن على أبي بن كعب، وسمع من عمر وابن عباس وأبيه عياش وغيرهم"(7).
وروى القراءة عنه عرضا مولاه أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وشبية بن نصاح، وعبد الرحمن بن هرمز، ومسلم بن جندب، ويزيد بن رومان، قال ابن الجزري: "وهؤلاء الخمسة شيوخ نافع، ـ قال ـ وكان أقرأ أهل المدينة في زمنه"(8).
وبهذا يكون ابن عياش أهم قراء المدينة الآخذين عن أبي، وأكبر أستاذ مثل مشيخة الإقراء في القراءات خاصة إذ لا يعرف له اشتغال بغيرها، ولهذا جاءت عامة أسانيد المدنيين في القراءة من طريقه، وعاش إلى ما بعد السبعين، وقيل إلى سنة 78هـ(9).
__________
(1) - غاية النهاية 1/370 ترجمة 1574
(2) - الاستيعاب 4/220-202 – ومشاهير علماء الأمصار 15 ترجمة 46 – وغاية النهاية 1/370 ترجمة 1574.
(3) - غاية النهاية 1/439-440 ترجمة 1837.
(4) - الاستيعاب لابن عبد البر 2/355-356 – والإصابة 2/356 ترجمة 4876.
(5) - مشاهير علماء الأمصار 36 ترجمة 211.
(6) - نفس المصدر والصفحة.
(7) - معرفة القراء الكبار 1/49 طبقة 2 ترجمة 8 وغاية النهاية 1/440 ترجمة 1837.
(8) - غاية النهاية 1/440 ترجمة 1837.
(9) - نفس المصدر والصفحة.
(1/270)
4- أبو العالية رفيع ين مهران الرياحي من كبار التابعين، وعداده في علماء البصرة، وكان مولى، أسلم بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ودخل على أبي بكر، وصلى خلف عمر وروى عنه، وهاجر إلى المدينة في طلب العلم، وكان يقول: "كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن بالبصرة، فلم نرض حتى رحلنا إليهم، فسمعناها من أفواههم"(1).
وقد لزم أبي بن كعب لزوما طويلا، وروى عنه التفسير(2)، وأخذ القرآن عرضا عنه، وعن زيد بن ثابت وابن عباس، وقرأ القرآن على عمر ثلاث مرار أو أربعا، على ما رواه الدارقطني عنه بسنده"(3).
وكان في زمنه أجمع أهل البصرة لعلوم القرآن، وتتلمذ له كبار الأئمة، منهم سليمان بن مهران الأعمش وأبو عمرو بن العلاء، ومثل في البصرة الامتداد المدني للمدرسة المدنية، في مقابل امتدادات المدارس المحلية كمدرسة أبي موسى الأشعري ـ مبعوث عمر وعامله عليها ـ ومدرسة عامر بن عبد القيس ـ مبعوث عثمان إليها بالمصحف الإمام كما قدمنا ـ، وعاش إلى سنة 90هـ وقيل 96(4).
5- أبو عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب الضرير، مقرئ الكوفة في زمنه، وموطد قراءة الجماعة بها، ولد في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأبيه صحبة، وإليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا. أخذ القراءة عرضا عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي ابن كعب رضي الله عنهم"(5).
وتقدم أنه كان يقرأ على عثمان، فلما ولي الخلافة أرسله إلى زيد بن ثابت، فلازمه ثلاث عشرة سنة يأخذ عنه القرآن.
__________
(1) - الطبقات الكبرى لابن سعد 7/113.
(2) - وتفسيره من طريقه عن أبي كعب، رواه عنه الربيع بن أنس البكري، كما في طبقات المفسرين للداودي 1/172-173 ترجمة 169.
(3) - غاية النهاية 1/284-285 ترجمة 1272 ـ ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان 95 ترجمة 697.
(4) - غاية النهاية 1/284ـ285 ترجمة 1272.
(5) - غاية النهاية 1/413 ترجمة 1755.
(1/271)
وذكر ابن قتيبة أنه "من أصحاب علي ـ قال ـ وكان مقرئا، يحمل عنه الفقه"(1).
قال ابن مجاهد: "وأول من أقرأ بالكوفة القراءة التي جمع عثمان ـ رضي الله عنه ـ الناس عليها، أبو عبد الرحمن السلمي، واسمه عبد الله بن حبيب، فجلس في المسجد الأعظم، ونصب نفسه لتعليم الناس القرآن، ولم يزل يقرئ بها أربعين سنة ـ فيما ذكر أبو إسحاق السبيعي ـ(2)، إلى أن توفي في ولاية بشر بن مروان ... وكانت ولاية بشر بن مروان سنة ثلاث وسبعين"(3).
وقد مثل أبو عبد الرحمن من خلال ذلك الامتداد العلمي لمدرسة المدينة بالكوفة، وعليه قرأ أول السبعة بها: عاصم بن بهدلة أبي النجود الكوفي، وروايته عنه هي التي رواها عنه حفص بن سليمان(4).
وروى عنه حفص عن عاصم أنه قال له عن روايته ورواية صاحبه أبي بكر بن عياش:
"ما كان من القراءة التي أقرأتك بها، فهي القراءة التي قرأتها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي ـ رضي الله عنه ـ، وما كان من القراءة التي أقرأت بها أبا بكر بن عياش، فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش(5)عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ"(6).
__________
(1) - المعارف 230.
(2) - هو عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي، توفي سنة 132. – وقيل 128. غاية النهاية 1/602 ترجمة 2457.
(3) - كتاب السبعة 67-68.
(4) - تراجع ترجمة عاصم في غاية النهاية 1/346-349.
(5) - هو أبو مريم زر بن حبيش الأسدي الكوفي صاحب عبد الله بن مسعود، عرض عليه القرآن وعلى عثمان وعلي وعرض عليه عاصم والأعمش وأبو إسحاق السبيعي ويحيى بن وثاب مات سنة 82 هـ. غاية النهاية 1/294.
(6) - غاية النهاية 1/346-348 ترجمة 1496.
(1/272)
وقد نبه مكي بن أبي طالب على خصوصية رواية حفص في تمثيلها للقراءة المدنية فقال في التبصرة متحدثا عن عاصم: "كان أضبط الناس لقراءة زيد بن ثابت، وكان قد قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، وقرأ على زيد، وقرأ زيد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(1).
وقد استولت هذه الرواية التي يتحدث عنها، وهي رواية حفص ـ على الأمد الأقصى في الشهرة، وعليها جمهور الأمة اليوم، لا تنافسها في ذلك قراءة أخرى إلا قراءة نافع في الأقطار المغربية.
وقد استقطب زيد بن ثابت على العموم جمهور رواة العلم بالمدينة والوافدين عليها طوال أيام الراشدين واستأثر بالتفاف الناس عليه، والاقتداء به، ونشأت حوله في الفقه والقراءة مدرسة خاصة اشتملت على أقطاب العلم والرواية بالمدينة، فكانت مذاهبه وفتاويه واختياراته هي السائدة بها، قال على بن المديني(2): "وأصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه، ويفتون بفتواه، منهم من لقيه، ومنهم من لم يلقه، اثنا عشر رجلا: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبان بن عثمان وعبيد الله بن عبد الله والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة بن عبد الرحمن وطلحة بن عبد الله بن عوف ونافع بن جبير بن مطعم".
__________
(1) - التبصرة في القراءات لمكي بن أبي طالب 42 (الطبعة الهندية).
(2) - هو علي بن عبد الله بن جعفر السعدي المعروف بابن المديني (161- 234) من رفقاء أحمد بن حنبل في طلب العلم، دخل معه مكة واليمن والعراق. ترجمته في معرفة علوم الحديث للحاكم 71-72.
(1/273)
"فأما من لقيه منهم، وثبت عندنا لقاؤه فهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد وأبان بن عثمان وسليمان بن يسار، ولم يثبت عندنا عن الباقين سماع من زيد فيما ألقي إلينا، إلا أنهم كانوا يذهبون مذهبه في الفقه والعلم"(1).
ولا يخفى ما في قول ابن المديني "كانوا يذهبون مذهبه" من الإشارة إلى اجتماعهم على اختياراته، وانتظامهم في ملامح مشتركة هي المسماة في عرف الدارسين اليوم باسم "المدرسة".
__________
(1) - كتاب العلل لابن المديني 15.
(1/274)
قال ابن المديني: "وسمعت يحيى(1)يقول: "ممن روى عن زيد بن ثابت من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد الخدري وابن عباس وأنس بن مالك ـ قال ـ: وممن روى عن زيد ممن لقيه من أهل المدينة من التابعين: أبو أمامة بن سهل، ابن حنيف، ومحمود بن لبيد(2)، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، ونفيع مولى أم سلمة(3)، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع(4)، وحفص بن عاصم(5)، وأبان بن عثمان، وعتبة بن ...(6)وأبو صالح مولى السفاح(7)، وعطاء بن يسار، وسليمان بن يسار، وكثير مولى الصلت(8)، ونسطاس مولى كثير بن الصلت(9)،
__________
(1) - هو شيخه يحيى بن سعيد القطان أبو سعيد من رجال التعديل والتجريح توفي بالبصرة سنة 198 ترجمته في طبقات ابن سعد 7/239 – والمعارف لابن قتيبة 224 – والخلاصة للخزرجي 275.
(2) - عده ابن حبان من علماء المدينة وفقهائها وقال له صحبة مات سنة 93. مشاهير علماء الأمصار 23.
(3) - يروي عن عثمان وعنه ابن المسيب، وثقة ابن حبان، الخلاصة للخزرجي 404.
(4) - "من جلة قريش وسادات أهل مكة مات سنة 119 هـ مشاهير علماء الأمصار 86 ترجمة 629-.الأمصار 86 ترجمة 629.
(5) - هو حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عمر من أفاضل علماء المدينة من التابعين، - ترجمه ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار 73 ترجمة 506
(6) - كذا في الأصل المطبوع من العلل.
(7) - هكذا ورد اسمه في العلل، ولعله أبو صالح السمان من علماء المدينة من التابعين، واسمه ذكوان مات سنة 101. – ترجمته في علماء الأمصار لابن حبان 75 ترجمة 530.
(8) - لعله كثير بن الصلت الكندي من علماء التابعين بالمدينة، يقال انه ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم -، ومات بعد أن عمر – ترجمته في مشاهير علماء الأمصار 2 ط ترجمته 505.
(9) - لم أقف على ترجمته..
(1/275)
وخالد مولى عبيد بن السباق(1)، ومروان بن الحكم، والسائب بن جندب(2)، وكثير بن أفلح(3)، وأبو مرة عقيل بن أبي طالب(4)، ووهيب مولى زيد بن ثابت(5)، وعبد الله بن عامر بن ربيعة(6)، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان(7)"(8).
__________
(1) - لم اقف على ترجمة خالد، وأما عبيد بن السباق فهو تابعي ثقفي مدني يروي عن زيد بن ثابت وابن عباس وأم المؤمنين ميمونة وجويرة، وعنه ابنه سعيد والزهري وآخرون، وهو من شيوخ مالك في الموطأ، ذكره السيوطي في اسعاف المبطأ برجال الموطأ، المنشور بذيل تنوير الحوالك ص 28.
(2) - كذا في العلل، ولعله السائب بن خباب أبو عبد الرحمن ذكره ابن حبان في مشاهير علماء التابعين من أهل المدينة، وذكر مولده سنة 25، ومات سنة 97. مشاهير علماء الأمصار 77 ترجمة 554.
وذكر الخزرجي في خلاصة تهذيب التهذيب 132 السائب بن خباب من الصحابة، مات قبل ابن عمر، وذكر السائب بن يزيد الكندي من الصحابة أيضا، ومات بالمدينة سنة 86، وقيل 91، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
(3) - هو كثير بن أفلح المدني مولى أبي أيوب الأنصاري "من تابعي أهل المدينة، وأحد كتاب المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الأمصار، قتل يوم الحرة سنة 63 مشاهير علماء الأمصار 71 ترجمة 494 – وطبقات ابن سعد 5/298 ـ ومرآة الجنان لليافعي 1/138.
(4) - هوأبو مرة يزيد الهاشمي، يروي عن أبي الدرداء وعمرو بن العاص، - الخلاصة الخزرجي 435.
(5) - لم أقف عليه.
(6) - تابعي مات سنة 83هـ بالمدينة عده ابن حبان من مشاهير علماء التابعين ـ مشاهير علماء الأمصار 17.
(7) - تابعي من ثقات أهل المدينة ومتقنيهم ـ ترجمه ابن حبان في مشاهير علماء التابعين – مشاهير علماء الأمصار 17.
(8) - كتاب العلل لابن المديني 47-48.
(1/276)
فهؤلاء نحو أربعين رجلا ممن ينتمون إلى مدرسة زيد من أفذاذ علماء المدينة من التابعين، وفيهم عدد من الصحابة، كلهم نهل من هذه المدرسة، وفيهم جماعة جمعوا بين مدرسته ومدرسة أبي وغيرها.
ولا شك أن تفرغ زيد لهذه المهام، وطول تصدره للإقراء، قد أثمر نتاجا أكثر بكثير مما وصفنا، وانما كان اهتمام المؤرخين بذكر من اشتهروا برواية الفقه والحديث، فكان ذكرهم للمذكورين منهم منظورا فيه لهذا الاعتبار، ولا شك أن تصنيف علماء الصدر الأول على حسب الفن الذي اشتهروا فبه، كان كثيرا ما يجحف بالحقيقة العلمية، وذلك بوضع بعض أسماء القراء في قائمة الفقهاء أو المحدثين أو المفسرين أو حتى اللغويين والأدباء، بينما كان التكوين الموسوعي في هذه الميادين كلها أو أكثرها، هو الطابع السائد لدى شخصيات العصر، إذ كانت موضوعات الثقافة الإسلامية لم تتميز بعد، وكان التكوين الموسوعي هو المتحكم في التوجيه العام، ولذلك ربما كان يطلق على العالم يومئذ "الفقيه" أو "القارئ"، فيكون هذا الوصف أوسع دلالة وأعم من مجرد إتقان الفقه والقراءة والعلم بهما، إذ "كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء"(1)، باعتبار ما كان عليه التصور العام بأن الفقيه لا يكون إلا قارئا لكتاب الله بالدرجة الأولى، ماهرا فيه حفظا وأداء، عالما في الوقت نفسه بأحكامه وعلومه. وان كان العلامة ابن خلدون يعطي لوصف القارئ عندهم في هذا الطور تعليلا آخر يتصل ببساطة المعرفة، فيقول:
"والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين، وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله "القراء"، أي: الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين... فقيل لحملة القرآن يومئذ "قراء"، إشارة إلى هذا، فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن رسول الله"(2).
__________
(1) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/300.
(2) - مقدمة ابن خلدون 543.
(1/277)
وبهذا يكون جميع من ذكرنا أسماءهم وأمثالهم من أصحاب زيد وأبي وغيرهم ممن يذكرون في عداد الفقهاء والمحدثين ورواة العلم في الجملة، هم بالدرجة الأولى من القراء، إلا أن الواحد منهم كان ينسب بعد القراءة إلى ما غلب عليه، وقد يكون له في القراءة المكان الرفيع لو تفرغ للناس فيها.
ونخلص من هذا إلى النتيجة التي رمينا إليها من سوق تلك الأسماء باعتبارها تمثل طلائع رجال القراءات من التابعين في مدرسة المدينة، وذلك لأن أكثر المذكورين كانوا من المتصدرين في الحلقات العلمية ومجالس الإقراء في طور التكوين من حياة نافع، فيكون قد لقي الكثير منهم وجلس إليهم في القراءة وغيرها، مما يعطينا صورة عن المناخ العلمي الذي قضى فيه نافع هذا الطور من حياته، وكيف كان حافلا بهذه المستويات العالية التي تلقت تكوينها الصحيح في رحاب المسجد النبوي على أيدي أبي وزيد وغيرهما من الصحابة والآخذين عنهم من كبار التابعين.
يضاف هذا إلى إدراكه لبعض الصحابة الأحياء، وإن كان لم يرو عن أحد منهم، مع أنه أدرك منهم جماعة على قيد الحياة، ولذلك عده عامة المترجمين له في الطبقة الثالثة من التابعين(1).
حلقات الاقراء ومجالس العلم في المسجد النبوي في عهد الطلب من حياة نافع:
__________
(1) - قراءات القراء المعروفين للأندرابي 60 – والإقناع لابن الباذش 56 – وإيضاح الأسرار والبدائع (مخطوط).
(1/278)
لقد كان المسجد النبوي في عهد الطلب من حياة نافع، زاخرا بحلقات الدرس ومجالس العلم في مختلف علوم الرواية، وكان توافر ذلك في رحابه الفسيحة يغري الواردين عليه بالإسهام في هذه الحركة تعلما وتعليما، حرصا على شرف العلم، وطلبا لأشرف العلوم، ورغبة في الأجر العظيم الذي جاء في مثل ذلك، من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ"من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير بتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله"(1).
وما زالت حلق الإقراء ومجالس العلم تتزايد في هذا المسجد الشريف مع الزمن، لاسيما بعد أن انتهت الفتوحات الإسلامية، وبعد أن انتقلت قاعدة الخلافة إلى الشام، فتفرغ أبناء المهاجرين والأنصار لهذه الشؤون، بعد أن سئموا الفتنة التي شهدها العقد الرابع من هذه المائة والعقود الثلاثة بعده، فاستكانوا للدعة والأمن في ظلال الدولة الأموية القائمة. بعد أن عانوا الأمرين قبل هذا من القلاقل والفتن، وهكذا أمسى الحرمان في مكة والمدينة موئلا لكثير من علية أهل الفضل وصفوة الرجال الراغبين في الخير، فكان حرم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الخصوص، يستقبل في كل يوم فوجا جديدا من الطلاب والعلماء من جميع الأقطار والولايات الإسلامية.
الحركة العلمية في المسجد النبوي في عهد ولاية عمر بن عبد العزيز
وقد تعزز هذا النشاط بولاية عمر بن عبد العزيز على الحجاز وكان قد تخرج في هذا الأفق نفسه على مشيخة المدينة، فكان من شيوخه صالح بن كيسان مولى بني غفار "من فقهاء المدينة من ذوي المروءة والهيئة"(2)الذي عهد إليه أبوه بالإشراف عليه(3).
__________
(1) - كتاب العلم والعلماء لأبي بكر جابر الجزائري ط1 1403 دار الشروق بالمدينة.
(2) - مشاهير علماء الأمصار 135 ترجمة 1068.
(3) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي 13.
(1/279)
ومنهم مسلم بن جندب الهذلي أحد شيوخ نافع في القراءة ـ كما سيأتي ـ(1)، ومنهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي من أصحاب زيد، "وكان عمر يختلف إليه يسمع منه العلم"(2)، ومجاهد بن جبر ـ صاحب ابن عباس ـ، وميمون بن مهران(3)وسواهم من الأعلام.
وكان عمر بن عبد العزيز معدودا في قراء المدينة(4)، وله قراءة كانت معروفة نجد الإشارة إلى بعض حروفها في كتب التفسير وعلوم القرآن(5)، وقد ترجم له ابن الجزري في طبقات القراء وقال: "وردت الرواية عنه في حروف القرآن، ونقل عن معمر(6)وصفه لقراءة عمر قال:
"كان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت بالقرآن، فخرج ليلة فقرأ وجهر بصوته، فاستمع له الناس، فقال سعيد بن المسيب: فتنت الناس، فدخل"(7).
وكان من لطف الله بأهل الحرمين أن عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان بالولاية عليهما لعمر، فوليها له سبع سنين وخمسة أشهر(8)، "وكان في أيامه وولايته على المنطقة، يلجأ إلى مكة والمدينة كل من خاف من الحجاج فيأمن، وكان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجاج"(9).
__________
(1) - غاية النهاية 2/297 ترجمة 3600.
(2) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 13.
(3) - مشاهير علماء الأمصار 117 ترجمة 908.
(4) - تقدم ذكره في النص الذي اقتبسناه عن أبي عبيد من كتاب القراءات، ومثله في النشر 1/8.
(5) - يمكن الرجوع إلى البحر المحيط لأبي حيان والمحرر الوجيز لابن عطية والمحتسب لابن جني وسواها.
(6) - هو معمر بن راشد الأزدي من أتباع التابعين (ت 152) – مشاهير علماء الأمصار 192 ترجمة 1343.
(7) - غاية النهاية 1/593 ترجمة 2412.
(8) - المعارف لابن قتيبة 157.
(9) - تاريخ ابن خلدون 3/65.
(1/280)
وقد افتتح عمر ولايته على المدينة بتكوين مجلس شورى من خيرة العلماء، وتعيين قارئ من صفوتهم قال أبو الزناد(1): "ولي عمر بن عبد العزيز المدينة في ربيع الأول سنة سبع وثمانين(2)، وهو ابن خمس وعشرين سنة، ولاه إياها الوليد بن عبد الملك، فولى عمر قضاءها أبا بكر محمد(3)بن عمرو بن حزم، ودعا عشرة من فقهاء البلدة منهم عروة والقاسم وسالم، فقال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعوانا على الحق"(4).
وكان أولئك العشرة من أفاضل شيوخه "فجعلهم أهل مشورته، لا يقطع أمرا دونهم"(5).
وهكذا كانت ولايته إيذانا بنهضة علمية وفقهية رفيعة في عامة أنحاء ولايته، ولاسيما في المسجد النبوي الذي زوده عمر بوقود جديد أذكى فيه الحركة العلمية، ونفخ فيها روحا قويا.
وكان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله هوى خاص في أهل القرآن والمنتسبين إليه، عبر عنه بكل الوسائل في عهد ولايته، ثم في عهد خلافته، فمن ذلك أنه "كان لا يفرض العطاء إلا لمن قرأ القرآن"(6).
وكتب إلى عامله على الصدقات يقول: "فأما الصدقات .. فأولى الناس بها من تفقه في الدين وقرأ القرآن(7)وكانت لأهل القرآن في عهده التقدمة على من سواهم في كل أمر، لاسيما في الوظائف العامة، فقد جاء عن عبد الوهاب بن الورد قال: "بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: إياكم أن تستعملوا على شيء من أعمالنا إلا أهل القرآن"(8).
__________
(1) - هو عبد الله بن ذكوان المدني سيأتي في مشيخة نافع.
(2) - وذكر السيوطي انه وليها من سنة 86 هـ إلى سنة 93 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي 364.
(3) - سماه وجعل أبا بكر كنية له، وذكر ابن حبان أن اسمه كنبته ومات سنة 120هـ - مشاهير علماء الأمصار 76.
(4) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 41.
(5) - تاريخ ابن خلدون 3/60.
(6) - كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس 84.
(7) - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/216-217.
(8) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 120.
(1/281)
كما اختص أهل هذا الشأن بالدخول عليه، وحجب غيرهم "فلم يكن له في الشعراء رأي ولا أرب وإنما كان رأيه وبطانته القراء والفقهاء، ومن وسم عنده بورع"(1).
وقد عبر عن هذا شاعر العصر يومئذ جرير بن عطية ـ شاعر بني أمية (ت110) حين وفد عليه في أول خلافته مهنئا في زمرة من وفد عليه من الشعراء والكبراء، على العادة الجارية في تهنئة الخلفاء وانتجاعهم طلبا للجوائز والصلات، فإذا بعمر يأذن لمن جاءه من الفقهاء والقراء، ولا يأذن للشعراء، فكان جرير فيمن أطال المقام ببابه دون أن يأذن له بالدخل، فلما جاء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ـ أحد أجلة العلماء ـ أذن له في حينه، فتعلق به جرير وقال:
يا أيها القارئ المرخي عمامته(2) ... هذا زمانك إني قد مضى زمني(3)
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أني لدى الباب كالمصفود في قرن(4)
فقال له عون: من أنت؟ فقال: جرير قال: انه لا يحل لك عرضي، قال: فاذكرني للخليفة، قال: إن رأيت موضعا فعلت. ثم قال: هذا جرير بالباب، فأحرز لي عرضي منه، فأذن لجرير فدخل عليه، فقال:
لجت أمامة في أمري وما علمت عرض اليمامة روحاتي ولا بكري ...الأبيات(5)
ثم ذكر أن عمر ترقرقت عيناه تأثرا مما سمع من شكواه، ثم سأله أهو من المهاجرين أم الأنصار أم ممن يجاهد ويقاتل على الفيء؟ وفي كل ذلك يقول جرير: لا، فقال: فلا أرى لك في شيء من هذا الفيء حقا، ثم أعطاه عشرين دينارا فضلت من عطائه، فخرج على الشعراء يقول: ليلحق الرجل منكم بمطيته:
__________
(1) - المصدر نفسه 196.
(2) - في سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 198 رواية أخرى بلفظ "يأيها القارئ المزجي مطيته".
(3) - وورد أيضا منسوبا للفرزدق ببعض التغيير في اللفظ – سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 93.
(4) - المصدر نفسه 196.
(5) - تبلغ أبياتها اثني عشرة بيتا يمكن الرجوع إليها في الأغاني 7/57-58.
(1/282)
وجدت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا(1).
وعبر عن مثل هذه الحال أيضا شاعر المدينة عبد الله بن محمد الأنصاري المعروف بـ"الأحوص"(2)، فقد وفد عليه في جملة الشعراء فحجبه ولم يأذن له، وجاء زيد بن أسلم أبو أسامة المدني مولى عمر بن الخطاب ـ من أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي ـ فأذن له، فقال الأحوص في ذلك مخاطبا عمر:
خليلي أبا حفص، هل أنت مخبري أفي الحق أن أقصى ويدنى ابن أسلما؟
فقال عمر: ذلك الحق"(3).
وقد أفضت في عرض موقف عمر من الشعراء، لأنوه بهذا التحول الذي خالف فيه عمر سلفه من الخلفاء والأمراء والذي كان لصالح الحركة العلمية بالمدينة على الخصوص في زمن الطلب من حياة نافع الذي نترجم له، فكان ذلك مما يورث شعلة المعرفة بها، ويثري حلقاتها ومجالس العلم بها بالمستويات العالية من العلماء والقراء، إلى الحد الذي ضاقت معه رحاب المسجد النبوي عن استيعابها وتزايد الشعور بالحاجة إلى توسيعه، فكتب الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وبعث إليه بالمال والصناع، وولى القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان(4).
وقد كتب لنافع أن يشهد هذا التوسيع وهو في طور الفتوة، ثم عاش حتى أدرك توسيعه مرة أخرى وهو شيخ في أيام الخليفة المهدي بن أبي جعفر لمنصور سنة 162هـ(5).
أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي لهذا العهد:
__________
(1) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز ـ باختصار- ونحوها في الأغاني 4/40 وما بعدها.
(2) - شاعر مدني نفاه الوليد إلى اليمن مات سنة 105. أخباره في الأغاني 1/57-58.
(3) - الأغاني 4/49-50 وذكر بعد البيت سبعة أبيات.
(4) - عيون الأثر 1/237 ـ والمعارف 245.
(5) - عيون الأثر 1/237-238.
(1/283)
ولم يكن المسجد النبوي ـ فيما يظهر ـ مقصورا على علم دون آخر من علوم الرواية، ولكنه كان يستوعب العلوم الدينية من قراءة وتفسير وفقه وسيرة وحديث، ولذلك اتسع رواده، وتنامت وتنوعت حلقاته، ويمكن من خلال كتب التراجم معرفة كثير من أصحاب الحلقات به لهذا العهد، فكان منهم:
1- أبو جعفر المدني: يزيد بن القعقاع أكبر شيوخ نافع في القراءة، وكانت له حلقة لإقراء القرآن في الروضة الشريفة على مقربة من القبر النبوي، يدل على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع بن أبي نعيم قال:
"كان أبو جعفر يقوم الليل، فإذا أصبح جلس يقرئ الناس، فيقع عليه النوم، فيقول لهم: خذوا الحصى فضعوه بين أصابعي، ثم ضموها، فكانوا يفعلون ذلك، وكان النوم يغلبه، فقال: أراني أنام على هذا، فإذا رأيتموني قد نمت فخذوا خصلة من لحيتي فمدوها، قال: فيمر به عبد الله بن عياش مولاه، فيرى ما يفعلون به، فيقول: أيها الشيخ، ذهبت بك الغفلة، فيقول أبو جعفر: إن هذا الشيخ في خلقه شيء، دوروا بنا وراء القبر موضعا لا يرانا"(1).
__________
(1) - معرفة القراء الكبار للذهبي 1/59-60 طبقة ترجمة 11.
(1/284)
ومن طريف ما حكاه صاحب الأغاني عن حلقة أبي جعفر وخفة روحه مع صلاحه وتقواه، ما أخرجه بسنده عن جرير(1)قال: "أخذ بعض ولاة المدينة المغنين والمخنثين بلزوم مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان في المسجد رجل ناسك يكنى أبا جعفر مولى لابن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، يقرئ الناس القرآن وكان ابن عائشة(2)يلازمه، فخلا لابن عائشة يوما الموضع مع أبي جعفر، فقرأ له فطرب ورجع، فسمع الشيخ صوتا لم يسمع مثله قط، فقال له يا ابن أخي، أفسدت نفسك وضيعتها، لو أنك لزمت المسجد وتعلمت القرآن، لأممت الناس في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شهر رمضان، ولأصبت بذلك من الولاة خيرا، فوالله ما دخل أذني قط صوت أحسن من صوتك، فقال ابن عائشة: فكيف لو سمعت يا أبا جعفر صوتي في الأمر الذي صنع له؟ قال: وما هو؟ قال: انطلق معي حتى أسمعكه، فخرج معه إلى ميضأة ببقيع الغرقد عند دار المغيرة بن شعبة، وكان أبو جعفر يتوضأ عندها كل يوم، فاندفع ابن عائشة يغني:
الآن أبصرت الهدى وعلا المشيب مفارقي(3)
فبلغ ذلك من الشيخ كل مبلغ، وقال: يا ابن أخي، هذا حسن، وأنا أشتهي أن أسمعه، ولكن لا أطلبه ولا أمشي إليه، قال ابن عائشة: فانا أسمعكه، فكان يرصده، فإذا خرج أبو جعفر يتوضأ خرج ابن عائشة في أثره حتى يقف خلف جدار الميضأة بحيث يسمع غناءه، فيغنيه أصواتا حتى يفرغ أبو جعفر من وضوئه، فلم يزل يفعل ذلك حتى أطلقوا من لزوم المسجد"(4).
2- زيد بن أسلم أبو أسامة المدني مولى عمر بن الخطاب (ت 136)
__________
(1) - يسميه في بعض رواياته عنه جرير بن أبي الحصين كما في الأغاني 2/76.
(2) - وابن عائشة هومحمد بن عائشة أبو جعفر المدني المغني – أخباره في الأغاني 2/62 إلى 79.
(3) - البيت للوليد بن يزيد وبقال لابن رهيمة في جملة أبيات ستة ذكرها صاحب الأغاني 2/68.
(4) - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 2/67-68.
(1/285)
كان زيد من علماء القراءة والتفسير، وله في التفسير كتاب يرويه عنه ولده عبد الرحمن بن زيد(1)، وكان عمر بن عبد العزيز يدنيه وبقربه ويجالسه"(2)"وكانت له حلقة الفتوى والعلم بالمدينة"(3).
ويقول أحد تلامذته في وصف خلقته العلمية: "لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حبرا فقيها أدنى خصلة فيهم التواسي بما في أيديهم"(4).
وكان علي بن الحسين بن علي(5)ـ رضي الله عنهم ـ يتخطى الحلق إلى زيد بن أسلم، وكان نافع بن جبير(6)يثقل ذلك عليه، فرآه ذات يوم يتخطى إليه، فقال: أتتخطى مجالس قومك إلى عبد آل عمر ابن الخطاب؟ فقال علي بن الحسين: إنما يجالس الرجل من ينفعه في ذريته"(7).
وكان زيد معدودا أيضا من قراء المدينة من التابعين(8)، "وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وأخذ عنه القراءة شبية بن نصاح"(9)، وسيأتي أن نافعا أيضا قرأ عليه.
3- عطاء بن يسار أبو محمد الهلالي المدني القاص مولى ميمونة أم المؤمنين (ت103)
__________
(1) - من أقران نافع ورفاقه في القراءة علي أبي جعفر المدني وغيره كما سيأتي، له كتاب التفسير وكتاب الناسخ والمنسوخ، مات سنة 182. طبقات المفسرين للداودي 1/2565-266 ترجمة 255.
(2) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر 3/242.
(3) - مرآة الجنان لليافعي 1/284.
(4) - شجرة النور الزكية لابن مخلوف التونسي 48 الطبقة 3.
(5) - كان يدعى عليا الأصغر، تشبيها له بجده علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه - ، وليس للحسين بن علي عقب إلا منه ـ تراجع ترجمته وأسماء ولده في المعارف لابن قتيبة 94-95.
(6) - هو نافع بن جبير بن مطعم القرشي المكي من علماء مكة وقرائها، توفي في ولاية سليمان بن عبد الملك – المعارف لابن قتيبة 124- ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان 83 ترجمة 604.
(7) - التمهيد لابن عبد البر 3/242.
(8) - النشر لابن الجزري 1/8.
(9) - غاية النهاية 1/296.
(1/286)
أدرك عطاء زمن عثمان، وروى عن مولاته ميمونة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد تقدم ذكره في قراء المدينة من التابعين، "ووردت الرواية عنه في حروف القرآن"(1)، "وكان صاحب قصص وعبادة وفضل(2)، وكان من أول من اهتم بضبط عدد آي القرآن الكريم من التابعين(3).
4- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة بالمدينة (ت 102)
قال ابن حبان: "كان صموتا لا يتكلم، لازما للورع والنسك، مواظبا على الفقه والأدب، على ما كان يرجع إليه من العقل والعلم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء في خدرها أرادوا به القاسم بن محمد"(4).
وكان للقاسم مجلس علمي بإزاء الروضة الشريفة، وقد تقدم قول مالك عنه وعن ابنه "إن أحدا لم يخلف أباه في مجلسه، إلا عبد الرحمن بن القاسم، فإنه خلف أباه في مجلسه"(5).
وقد أدركه نافع في عهد الطلب، فلا يبعد أن يكون من رواد مجلسه، كما سيجلس إلى ولده من بعده.
5- محمد بن كعب القرظي:
كان من علماء التابعين بالمدينة، وأصله من بني قريظة، ولد في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقيل: رآه، نزل سنة أربعين إلى الكوفة ثم رجع إلى المدينة(6). وروى عن فضالة بن عبيد وعائشة وأبي هريرة وغيرهم، وروى عنه خلق كثير، قال عون بن عبد الله: "ما رأيت أعلم بتأويل القرآن من القرظي"(7).
__________
(1) - المصدر نفسه 1/296.
(2) - مشاهير علماء الأمصار 65 ترجمة 474. ـ والمعرف 202.
(3) - يمكن الرجوع في ذلك إلى رسالة التنبيه على الخطأ والجهل والتمويه لأبي عمرو الداني (مخطوطة).
(4) - مشاهير علماء الأمصار 63-64 ترجمة 427.
(5) - ترتيب المدارك لعياض 1/117.
(6) - غاية النهاية 2/233 ترجمة 3383.
(7) - تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/90 – وغاية النهاية 2/233.
(1/287)
وعده ابن الجزري في قراء المدينة من التابعين(1)، وقال: "وردت عنه الرواية في حروف القرآن"(2). وذكر ابن قتيبة أنه "سقط عليه وعلى أصحابه مسجده"(3)فماتوا سنة 108هـ، وقيل سنة 117، وقيل سنة 120"(4).
6- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي (ت 106هـ)
عده بعضهم من الفقهاء السبعة بالمدينة(5)، وكان مرجعا للناس في معرفة أقضية جده عمر رضي الله عنه، يروي كثيرا عن والده وطائفة من الصحابة، وكان يقود والده عبد الله لما كف بصره، وفيه يقول والده:
يلومونني في سالم وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم(6).
وعلى الرغم من غلبة الطابع الفقهي عليه، حتى قال تلميذه ربيعة بن أبي عبد الرحمن:
"كان الأمر إلى سعيد بن المسيب، فلما مات سعيد أفضى الأمر إلى القاسم وسالم"(7)، فإن ذلك لم يمنع من تبريزه في القراءة، فـ"وردت عنه الرواية في حروف القرآن"(8)، واعتبر من مشاهير قراء المدينة من التابعين(9).
7- أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج الزاهد الواعظ ( ت 135هـ)
"كان من عباد أهل المدينة وعلمائهم، وكان يقص في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ(10).
8- محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ الفقيه المدني الأنصاري (ت 121هـ)
قال ابن حبان: "كان من حفاظ أهل المدينة ومتقنيهم وقدماء مشايخهم"(11).
__________
(1) - النشر 1/8.
(2) - غاية النهاية 2/233 ترجمة 3383.
(3) - المعارف 202.
(4) - غاية النهاية 2/233 ومرآة الجنان لليافعي 1/229.
(5) - غاية النهاية 1/301 ترجمة 1315 والتمهيد لابن عبد البر 7/58.
(6) - المعارف 80، وورد البيت برواية أخرى بلفظ "يديرونني .. وأديرهم".
(7) - طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي 62.
(8) - غاية النهاية 1/256 ترجمة 1304.
(9) - النشر لابن الجزري 1/8.
(10) - مشاهير علماء الأمصار 79 ترجمة 575، وذكر في المعارف 210 تأخر وفاته إلى سنة 140.
(11) - مشاهير علماء الأمصار 136 ترجمة 1079.
(1/288)
وقال السيوطي: "كانت له حلقة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .. "(1).
وسيأتي ذكره فيمن روى عنهم الإمام نافع بعض الآثار.
9- العلاء بن عبد الرحمن الحرقي (ت 132هـ)
قال ابن قتيبة في سياق حديثه عن نافع بن جبير بن مطعم "وجلس في حلقة العلاء بن عبد الرحمن الحرقي وهو يقرئ الناس.."(2)، وقال في مكان آخر من كتاب المعارف، عند ذكر رجال القراءات:
"العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، هو من الحرقة، وكان يقرئ الناس، والأغلب عليه الحديث"(3). ولم يترجم له ابن الجزري في الغاية. أما ابن حبان فقد عده من مشاهير العلماء بالمدينة، وقال: "كان متقنا ربما وهم"(4).
إلى غير هؤلاء من مشايخ التابعين ممن ضمتهم رحاب المسجد النبوي في زمن الطلب من حياة نافع، وكلهم كانوا تحت سمعه وبصره، ومعهم أمثالهم ممن ذكرت له رواية مباشرة عنهم كما سيأتي، وحسبه أن تكون مصادره في القراءة ورواية العلم من هذا الطراز، وكفاه نبلا أن يزاحم بالمناكب رجالا من مشايخ العلم في الإسلام جلس كثير منهم في الحلقات نفسها التي جلس فيها إلى أولئك الشيوخ، من أمثال ربيعة الرأي وابن شهاب الزهري ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة ومالك بن أنس إمام المذهب، وهذا ابن شهاب الزهري يقول متحدثا إلى مالك عن مصادره في العلم: "جمعت هذا العلم من رجال في الروضة، منهم سعيد بن المسيب وأبو سلمة، وعروة، والقاسم، وسالم، وخارجة، وسليمان، ونافع"(5).
__________
(1) - إسعاف المبطأ برجال الموطأ للسيوطي 37-38.
(2) - المعارف 124 وكذا 231.
(3) - المعارف 231.
(4) - مشاهير علماء الأمصار 80 ترجم 585.
(5) - طبقات الفقهاء للشيرازي 63.
(1/289)
وكأن نافعا القارئ كان على موعد مع هذا المناخ العلمي الرفيع، لاسيما في امارة عمر بن عبد العزيز الذي وجه النداء في عهد ولايته إلى علماء المدينة، ثم عهد خلافته إلى كل مكان له عليه سلطان، فقد روى عكرمة بن عمار(1)قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول:
"أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة قد أميتت"(2).
وعن جعفر بن برقان(3)قال: "كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فأمر أهل الفقه والعلم من عندك فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم ومساجدهم والسلام"(4).
ولم يكتف عمر بذلك، بل نجده يحدث لأهل العلم منحا خاصة ووظائف راتبة في مقابل التفرغ لنشره، فعن سعيد بن أبي مريم(5)قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا، فأعط كل واحد منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وان خير الخير أعجله" ـ وفي رواية ـ "مر لأهل الصلاح من بيت المال بما يغنيهم، لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث"(6).
__________
(1) - هر أبو عمار الحنفي ا لعجلي اليمامي أحد الأئمة يروي عن عطاء وطاووس وعنه السفيانان وشعبة وجماعة مات سنة 159 ـ الخلاصة للخزرجي 270.
(2) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 113.
(3) - من فقهاء الجزيرة وقرائهم من تابعي التابعين بالشام مات سنة 154. –مشاهير علماء الأمصار 185.
(4) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/124.
(5) - سعيد بن أبي مريم الجمحي المصري الحافظ سيأتي في الرواة عن نافع.
(6) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز. 123. وكذا 115.
(1/290)
وعن يحيى بن أبي كثير(1)قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن أجروا على طلبة العلم الرزق وفرغوهم للطلب"(2).
وفيما يخص المدينة أصدر عمر مرسومه الخلافي في سنة 99هـ إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن حزم يقول:
"انظر ما كان من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ... ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا"(3).
وقد تضمن هذا المرسوم أمرين من الأهمية بمكان: أولهما تعميم التعليم وإجباريته" حتى يعلم من لا يعلم"، وحتى لا يبقى العلم حكرا على فئة من المحظوظين وأبناء الذوات.
وثانيهما الشروع في تدوين السنة النبوية خوفا عليها من الضياع بـ"دروس العلم وذهاب العلماء"، وقد بادر عمر بانتداب الكفاءات العلمية للقيام بهاتين المأموريتين، وجند لذلك كل إمكانيات دولته، فأخذ يوالي إرسال البعثات التعليمية والعلمية إلى مختلف البلدان حتى يحصل كل مصر من الأمصار على حاجته، وتعم الاستفادة كل الجهات حاضرة أو بادية، وقد روى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي غيلان قال "بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الأشعري الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقا، فأما يزيد فقبل العطاء، وأما الحارث فأبى أن يقبله، وأحب أن يتطوع إلى الله بعمله، فكتب العامل بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: انا لا نعلم بما صنع يزيد بأسا، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد"(4).
__________
(1) - هو يحيى بن أبي كثير اليمامي أبو نصر من أهل البصرة من تابعي التابعين، يسكن اليمامة، مات سنة 129 هـ - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 191 ترجمة 1537.
(2) - جامع بيان العلم وفضله 1/186.
(3) - صحيح البخاري 1/30.
(4) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 92.
(1/291)
ولقد مر بنا في الفصل الأول من العدد الأول كيف نالت الجهات المغربية في افريقية والقيروان نصيبها من هذه الرعاية العلمية في زمن عمر بن عبد العزيز وكيف خصها ببعثة إسماعيل بن أبي المهاجر التي تحدثتا آنفا عن رجالها وأهميتها وأثرها في تلك المناطق، حتى قيل ان "الخمر كانت حلالا بافريقية حتى ذلك العهد حتى وصل هؤلاء فبينوا للناس تحريمها"(1).
هذا هو المناخ العلمي الذي نشأ نافع وترعرع في كنفه يتردد على حلقات العلم ومجالسه التي يتبارى فيها رجالات العصر من خلفاء الصحابة في عرض علوم الإسلام والتفقه فيها في رحاب المسجد النبوي، وفي ظلال رعاية الخلفاء، ولا يأخذنا شك في أن نافعا قد جنى من هذه الرعاية العمرية على الخصوص أزكى الثمرات، بما يسرته من هذا التواصل الثقافي والمناخ العلمي، وما فجرته من الطاقات في رحاب هذا المسجد الذي لم يلبث نافع نفسه أن أخذ يطمح ببصره إلى محرابه ومجلسه المنتظر في أكنافه، لاسيما بعد أن تملأ من المعارف والعلوم، ونال في القراءة خاصة وسام الاعتراف من لدن كبار المشايخ وأعلام قراء العصر.
ولا نشك أيضا في أننا أتينا في ما عرضناه على أسماء كثير من مشايخه من أصحاب هذه الحلقات، ممن سمع منهم القراءة، أو روى عنهم الحروف، أو استفاد منهم في علوم الرواية في الجملة، وإن كنا لا نستطيع الجزم بذلك بالنسبة إلى كل فرد فرد منهم، وذلك بسبب غياب الوثائق والأدلة الشاهدة، وإنما قلبا ذلك استنادا إلى معاصرة نافع لأولئك المشايخ، وهو في طور الطلب من حياته العلمية، ولما جاء عن تلميذه أبي قرة موسى بن طارق من قوله:
"قرأت على نافع بن أبي نعيم بالمدينة، وقال نافع: حين قرأت عليه: انه قرأ على سبعين من التابعين"(2).
__________
(1) - البيان المغرب 1/48.
(2) - جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي 2/445 – وسير أعلام النبلاء للذهبي 7/336 ترجمة 121.
(1/292)
وقد آن لنا الآن أن نقف معه على أساتذته في القراءة، ثم نردفهم بمن وقفنا على نسبته إلى الرواية عنهم، ومن وقفنا له منهم على رواية حديث أو خبر يدل على سماع منه أو استفادة في الجملة، ولو كان ذلك يسيرا، لأنه على أي حال يمثل جانبا من التفاعل العلمي والمشاركة الفعلية من نافع في الثقافة العامة، على ما نشكوه من عوز في اهتمام المصادر التاريخية بذلك بالنسبة له، مع ما لبعض تلك الآثار عنه وبعض الروايات من أثر في معرفة اختياره في القراءات والأسس التي كان يبني عليها في اختيار بعض وجوه الأداء، إلى غير ذلك مما سيمر بنا.
ونقف معه فيما يلي على مشاهير مشايخه، ثم نتبعهم بالذين روى عنهم بعض الحروف أو روى عنهم في الجملة.
الفصل الثاني
نافع في حلقات العلماء
وشيوخه في القراءة وعلوم الرواية
إذا كان قد قيل: إن أول ما يذكر من المرء أستاذه، فإن كان جليلا جل قدره، وإنما خفض ذكر محمد بن مقاتل(1)عند أهل العراق أنه لم يعرف له أستاذ جليل القدر"(2).
فماذا سيقال عن نافع في هذا الشأن؟ وهل كان لنبل مشيخته وشهرة رجاله أثر في ذيوع صيته وانتشار قراءته؟ ذلك ما لا نرتاب فيه، إذ لو لم تكن له عن مثل هؤلاء الرجال رواية، لما زاد على أن يكون قارئا عاديا ككثير من قراء زمنه في بلده وغيره، ممن مروا على الساحة العلمية مرا رفيقا لم يكن له صدى في وقته، ولا خلف فيها أثرا من بعده.
وقد عاش نافع في زمن لم تكن لأهله عناية بكتابة الفهارس والمشيخات وبرامج الروايات، لهذا ضاعت أسماء شيوخه السبعين فلم يعرف منهم إلا قليل من المشاهير، وأهمهم خمسة، وهم الذين سماهم في أسانيد قراءته.
قال أبو بكر بن مجاهد في كتاب السبعة:
__________
(1) - لعل المراد محمد بن مقاتل المروزي أبو الحسن الكسائي يروي عن هشيم وخالد بن عبد الله وطائفة وعن البخاري. الخلاصة للخزرجي 360.
(2) - مفتاح السعادة لطاش كبري زادة 1/20.
(1/293)
"فهؤلاء الذين ذكر نافع أنه أدركهم بالمدينة من الأئمة في القراءة:
عبد الرحمن بن هرمز، وأبو جعفر بن يزيد بن القعقاع، وشبية بن نصاح، ومسلم بن جندب، ويزيد ابن رومان"(1).
ثم قال مضيفا إلى الخمسة بسنده "أن نافعا قرأ على صالح بن خوات(2).
وقد اقتصر عامة المؤلفين على الخمسة الأولين قال ابن الجزري: "وقد تواتر عندنا أنه قرأ على الخمسة الأول"(3)وعلى ذلك اقتصر الداني في التيسير(4)ومكي في التبصرة(5)، وابن شريح في الكافي(6)وقال أبو عبد الله بن آجروم في أرجوزته "البارع في قراءة نافع":
روى القراءة أبو رؤيم عن جلة وهم خيار قوم
يزيد للقعقاع جاء ينسب ... والهذلي مسلم بن جندب
وعابد الرحمن نجل هرمز وابن نصاح شبية فميز
وعن يزيد وهو المعزى إلى رومان عنهم أجمعين نقلا
رواهم الحبر أبو هريرة ... مع ابن عباس بخير سيرة
ونجل عياشك مع أبي ... سليل كعبهم عن النبي(7)
وقال العلامة محمد بن يوسف التملي(8)في نظمه لسند التعريف لأبي عمرو الداني:
ثم الإمام نافع ... أخذ عن كم تابع
كمسلم بن جندب ... الهذلي النسب
والأعرج ابن هرمز ... وابن نصاح ميز
وكابن رومان المجيد ونجل قعقاع يزيد
عن ابن عباس وعن ... أبي هريرة وعن
ابن لعياش عن أبي المؤتمن
عمن عليه انزلا مخترق السبع العلى(9)
__________
(1) - السبعة في القراءات 61.
(2) - نفسه.
(3) - غاية النهاية 2/330 ترجمة 3718.
(4) - التيسير في القراءات 8.
(5) - التبصرة في القراءات 44 الطبعة الأولى بالكويت.
(6) - الكافي في القراءات بهامش كتاب المكرر للأنصاري.
(7) - نقله ابن القاضي في شرحه على الدرر اللوامع (مخطوط)، ومسعود جموع أيضا في شرحه عليها (مخطوط).
(8) - من رجال مشيخة الإقراء بفاس في المائة الحادية عشرة من شيوخ ابن القاضي.
(9) - أرجوزة سند التعريف لمحمد بن يوسف التملي، ستأتي (مخطوط).
(1/294)
ولبيان مقام منزلة هؤلاء الشيوخ في القراءة وعلومها نرى من تمام الإفادة أن نقدم تعريفا بكل واحد منهم لنتعرف من خلال ذلك على شيوخه وتلامذته المشهورين وأثره في علوم القراءة، ومقدار استفادة نافع منه، ومبلغ تأثيره فيه، لما لكل ذلك من أهمية في اكتشاف المؤثرات في تكوين نافع في هذا المجال، وتبين الملامح التي خلفها كل شيخ من أولئك في تلميذه، مما انعكست آثاره في مذاهبه واختياراته في القراءة، وتضلعه في غير ما فرع من فروع علوم القراءة كما سنقف عليه بعون الله.
أولا: يزيد بن القعقاع أبو جعفر المدني شيخ قراءة المدينة في زمنه
هذا هو اسمه ونسبه على المشهور(1)، وكان مولى للقارئ الكبير عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ـ الآنف الذكر في مدرسة أبي بن كعب ـ. عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش وعبد الله ابن عباس وأبي هريرة وروى عنهم(2)، واختلف في قراءته على زيد بن ثابت، قال الأندرابي(3)"وقيل إن أبا جعفر قرأ على زيد بن ثابت، وسنه تحتمل ذلك"(4)، وذكر الذهبي مثله وقال: "ولم يصح"(5)، وقال الأندرابي:
__________
(1) - وقيل اسمه جندب بن فيروز ـ وفيات الأعيان لابن خلكان 6/274-275 ترجمة 814 – وقيل اسمه فيروز غاية النهاية 2/382 ترجمة 3881.
(2) - الطبقات الكبرى لابن سعد 151-152 – القسم التابع المتم لذكر تابعي أهل المدينة ترجمة 60. ومثل ذلك في غاية النهاة 2/282-معرفة القراء 1/58 – ووفيات الأعيان 6/274-275.
(3) - هو احمد بن أبي بن أبي عمر المعروف بالأندرابي صاحب الكتاب الآتي.
(4) - قراءات القراء المعروفين 46.
(5) - معرفة القراء الكبار 1/59.
(1/295)
"وقرأ أبو جعفر أيضا على خباب بن الأرث ـ معلم فاطمة أخت عمر بن الخطاب، من قبل أن يظهر الله الإسلام(1)ـ وكان خباب من المهاجرين الأولين ممن شهد بدرا ـ، لكن مدار قراءة أبي جعفر على الثلاثة الآخرين الذين مر ذكرهم"(2). قال:
"وكان أبو جعفر ممن لقي أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهو صغير السن، فمسحت رأسه، ودعت له بأن يعلمه الله القرآن، وقد لقي أبو جعفر عبد الله بن عمر(3)ـ رضي الله عنهما، ولا أدري أقرأ عليه أم لا؟ وعن سليمان بن مسلم بن جماز قال: أخبرني أبو جعفر أنه أتي به إلى أم سلمة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو صغير السن، فمسحت رأسه، ودعت بالبركة"(4).
ولعل أرسخ شيوخه أثرا في نفسه، وأكثرهم تأثيرا في مذاهبه في القراءة هو مولاه ابن عياش، وقد قدمنا أنه كان أول من مثل مشيخة الإقراء خاصة بعد الصحابة، وكان من أهم أصحاب أبي وزيد، وقد ذكر سليمان بن مسلم بن جماز كيف تلقى أبو جعفر عنه القراءة وتحقق من اختياراته فيها فقال:
"أخبرني أبو جعفر أنه كان يمسك على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي المصحف ـ وكان من أقرإ الناس ـ قال: ـ وكنت أرى كل يوم ما يقرأ(5)، وأخذت عنه قراءته"(6).
__________
(1) - يذكر ذلك في قصة إسلام عمر بن الخطاب في كتب الحديث.
(2) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين45.
(3) - ذكر الذهبي انه صلى بابن عمر – معرفة القراء الكبار 1/59. واصل الخبر في الموطأ – تنوير الحوالك 1/179.
(4) - قراءات القراء المعروفين للأندرابي 46.
(5) - في كتاب السبعة "فكنت أروي كما يقرأ" ولعله تحريف، والصواب ما في وفيات الأعيان 6/274-275 ترجمة 814. ـ ومعرفة القراء الكبار 1/59.
(6) - كتاب السبعة 58 ـ ووفيات الأعيان 6/274-275 – ومعرفة القراء 1/59.
(1/296)
أما زمن تصدره للإقراء فيظهر أنه قبل نهاية العقد السادس من المائة الأولى، وفي ذلك ما يدل على قدمه وإمكان إدراكه لزيد بن ثابت وأخذه عنه، لأن وفاة زيد إنما كانت على المشهور سنة 45هـ.
وقيل سنة 48 ـ قال ابن الجزري ـ: وأبعد من قال سنة 55هـ أو سنة 56، بل مات عن 56 سنة"(1).
قال الأندرابي مشيرا إلى قدم تصدره:
"وكان أبو جعفر ـ رحمه الله ـ أول من اختير بعد التابعين، وتصدر للإقراء قبل الحرة، وكان يوم الحرة سنة ثلاث وستين، فكان إمام دار الهجرة بلا منازع والصحابة في الأحياء، وانما صار في الطبقة الأولى من التابعين لأخذه القراءة ممن قرأ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ(2).
ونقل الذهبي عن سليمان بن عباد أنه قال: "سألت أبا جعفر متى علمت القرآن؟ قال: زمن معاوية"(3).
وقد نال أبو جعفر في زمنه وبعده منزلة عالية من تقدير الناس وشهادتهم له بالإمامة، كما تدل على ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في تزكيته والتنويه به وبقراءته. فقد قال مالك: "كان أبو جعفر رجلا صالحا يقرئ الناس بالمدينة"(4)، وقال أبو الزناد: "لم يكن أحد أقرأ للسنة من أبي جعفر، وكان يقدم في زمانه على عبد الرحمن بن هرمز"(5). وقال يعقوب بن جعفر بن أبي كثير(6): "كان إمام المسجد بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش.."(7).
__________
(1) - غاية النهاية 1/296 ترجمة 1305.
(2) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 46.
(3) - معرفة القراء الكبار 1/59.
(4) - في "معرفة القراء" " يفتي الناس" بدل يقرئ الناس" ولعله تحريف – معرفة القراء 1/60 – وغاية النهاية 2/283.
(5) - السبعة في القراءات لابن مجاهد 57- وقراءات القراء المعروفين 47 – ومعرفة القراء 1/59.
(6) - هو أخو إسماعيل بن جعفر الأنصاري، وكلاهما من أصحاب نافع كما سيأتي.
(7) - قراءات القراء المعروفين للأندرابي 46-47.
(1/297)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "كان أبو جعفر يصلي خلف القراء في رمضان يلقنهم، يؤمر بذلك، وكان بعده شبية جعلوه لذلك"(1).
وقال يحيى بن معين "كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي "القارئ" بذلك، وكان ثقة كثير الحديث"(2). وذكر مثل ذلك ابن سعد في الطبقات(3). وقال ابن حبان: "وكان قد عني بعلم القرآن، مع النسك والورع"(4). وقال أبو بكر بن مجاهد: "وكان أبو جعفر لا يتقدمه أحد في عصره"(5).
وقد حظيت قراءته بعده بمثل هذا التقدير، فكانت تدعى بالحرف المدني الأول، وقد روى الحسن بن الحباب عن أبي الحسن البزاز قال: حضرت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، وسأله رجل فقال له: يا أبا عبد الله، بأي حرف ترى لي أن أقرأ؟ قال: حرف "المدني الأول"، قال: فإن لم أجد؟ قال: حرف عاصم(6).
وعن قتيبة بن مهران قال: سألت سليمان بن مسلم بن جماز فقلت: أقرأت على أبي جعفر وشبية ونافع؟ قال: نعم، قد قرأت على أبي جعفر وشبية ونافع، وسألته فقلت له: أتقرأ بقراءة أبي جعفر أو نافع؟ فقال: أقرئ الناس بقراءة نافع، وإذا كنت وحدي فأحب إلي أن أقرأ بقراءة أبي جعفر"(7).
__________
(1) - معرفة القراء الكبار للذهبي 1/50.
(2) - غاية النهاية 2/383 ترجمة 3882.
(3) - الطبقات الكبرى لابن سعد– القسم المتم لتابعي أهل الدينة 151-152 ترجمة 60.
(4) - مشاهير علماء الامصار لابن حبان 76 ترجمة 541.
(5) - السبعة في القراءات 56.
(6) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 47.
(7) - المصدر نفسه 47-48.
(1/298)
أما رواة قراءته فلا يحيط بهم الحصر، لطول تصدره، واعتماد جمهور أهل بلده فيها عليه، وقد اقتصر المترجمون له على المشهورين منهم: وأهمهم نافع بن أبي نعيم، وسليمان بن مسلم بن جماز، وعيسى بن وردان، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإسماعيل بن جعفر الأنصاري، كما رواها أبناء أبي جعفر الثلاثة: إسماعيل ويعقوب وميمونة، وهي زوج شبية بن نصاح ـ كما سيأتي ـ(1).
واشتهرت في المدينة قبل قراءة نافع، وإنما ترك ابن مجاهد عدها مع القراءات السبع المشهورة، مع أنه صدر لما سيذكره في أول كتابه "السبعة في القراءات" بقوله: "ومخبر عن القراءة التي عليها الناس بالحجاز والعراق والشام"(2)، لما اعتذر به عنه أبو علي الأهوازي ونقله ابن الجزري بقوله:
"وأما أبو جعفر فلم تقع له روايته، وإلا فهو قد ذكر لأبي جعفر في كتابه "السبعة" من المناقب ما لم يذكره لغيره"(3).
ويكفي في الدلالة على شهرة قراءته واشتهارها من طريقه في العراق وغيرها.
قال ابن الجزري وقد أسند أبو عبد الله القصاع(4)قراءة أبي جعفر من رواية نافع عنه في كتابه "المغني" وروينا قراءته عنه في كتاب "الكامل" لأبي القاسم الهذلي، وكذلك أقرأ بها أبو عبد الرحمن قتيبة بن مهران، وقرأ بها على إسماعيل بن جعفر، وصحت عندنا من طريقه، والعجب ممن يطعن في هذه القراءة أو يجعلها من الشواذ، وهي لم يكن بينها وبين غيرها من السبع فرق، كما بيناه في كتابنا المنجد"(5).
__________
(1) - معرفة القراء الكبار 1/58 ـ غاية النهاية 2/382 ـ383 ترجمة 3882.
(2) - السبعة في القراءات 45.
(3) - منجد المقرئين لابن الجزري 72.
(4) - هو محمد بن إسرائيل الدمشقي إمام كبير، تفي سنة 671 هـ. ترجمته في غاية النهاية 2/100.
(5) - غاية النهاية 2/383.
(1/299)
ومن خلال ما تقدم يمكن أن ندرك أهمية أبي جعفر في المدرسة المدنية على العموم، وفي مشيخة نافع على الخصوص، ونشير بصفة خاصة فيما يفيدنا في دراستنا لقراءة نافع من خلال أبي جعفر إلى العناصر التالية:
1- أنه يسند قراءته من طريق أبي هريرة وابن عباس وابن عياش من قراءة الثلاثة على أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد لا غاية وراءه في القوة والصحة والثبوت، وهو أوثق أسانيد نافع من طرق شيوخه الخمسة جميعا.
2- أنه أول ممثل رسمي للقراءة المدنية الموافقة لخط المصحف الإمام، وذلك هو المراد بقولهم: "لم يكن أحد أقرا للسنة منه"(1).
3- أنه أقدم أستاذ لنافع في القراءة، وقد قدمنا قوله: "كنت أقرأ عليه، وأنا ابن تسع، ولي ضفيرتان"(2).
4- أن نافعا يعتبر بالنسبة إليه بمنزلة قالون وورش بالنسبة لنافع، بل ان ابن الجزري يذكر في ترجمة قالون أنه "أخذ القراءة عرضا عن نافع، قراءة نافع وقراءة أبي جعفر"(3).
وقال في منجد المقرئين: "أما أبو جعفر يزيد بن القعقاع فروى عنه قراءته أحد القراء السبعة، وهو نافع بن عبد الرحمن، وأقرأ بها القرآن، ورواها عنه جماعة منهم قالون"(4).
وقد قرأ الأندرابي بقراءة أبي جعفر من طرق عديدة، ومنها طريق العمري ـ وهو أبو عبد الرحمن الزبير ابن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ، ويعرف بسمنة، وقرأ سمنة على قالون، وقرأ قالون على نافع وعيسى بن وردان، وهما قرآ على أبي جعفر"(5).
فهكذا كان نافع من أهم الطرق المشهورة في قراءة أبي جعفر.
__________
(1) - قراءات القراء المعروفين 47.
(2) - كنز المعاني للجعبري (مخطوط).
(3) - غاية النهاية 1/615 ترجمة 2507.
(4) - منجد المقرئين 28. وقد أسندها أبو القاسم الهذلي في الكامل من طريق قالون عن نافع.
(5) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 43.
(1/300)
5- أن أبا جعفر كان من أول من عنوا من قراء أهل المدينة بضبط عدد الآي في السور القرآنية ومعرفة رؤوسها فيما يعرف عند القراء بـ"العدد المدني الأول"، وقد نسب إليه وإلى شيبة صهره.
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه "إيجاز البيان": "أما المدني الأول فهو الذي رواه نافع عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشبية بن نصاح، وبه كان يأخذ القدماء من المتمسكين بقراءة نافع"(1).
6- أن قراءة أبي جعفر ما تزال معروفة عند قراء "القراءات العشر" إلى اليوم، إلا أنها من غير طريق نافع، وإنما هي من طريق عيسى بن وردان وسليمان بن مسلم بن جماز، وقد ذكرها ابن الجزري في النشر من اثنتين وخمسين طريقا عنهما(2).
أما وفاة أبي جعفر فقد اختلفت المصادر فيها، فقال الأندرابي "توفي بالمدينة في خلافة مروان سنة ثمان وعشرين ومائة"(3)وقال ابن حبان "مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل انه مات في ولاية مروان ابن محمد"(4). وذكر ابن خلكان وغيره سنتي 133-130هـ(5)، وهي في الجملة سنوات متقاربة.
أسانيد نافع في القراءة على أبي جعفر المدني
أ- نافع ... ... ... ... ب- نافع ... ... ... ج- نافع
أبو جعفر ... ... ... أبو جعفر ... ... ... أبو جعفر
أبو هريرة ... ... ... أبو هريرة ... ... ... ابن عباس
النبي صلى الله عليه وسلم ... ... أبي بن كعب ... النبي صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم
د- نافع ... ... ... ... هـ- نافع ... ... ... و- نافع
أبو جعفر ... ... ... أبو جعفر ... ... ... أبو جعفر
ابن عباس ... ... عبد الله بن عياش ... ... عبد الله ابن عياش
أبي بن كعب ... ... ... أبي بن كعب ... ... عبد الله بن عباس
النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) - نقله الإمام ابن غازي في إنشاد الشريد عند حديثه عن فواصل سورة طه (مخطوط).
(2) - النشر في القراءات العشر 1/178.
(3) - قراءات القراء المعروفين 49.
(4) - مشاهير علماء الأمصار 76.
(5) - وفيات الأعيان 6/274-275 ترجمة 814 – ومعرفة القراء 1/59-62- وغاية النهاية 2/383-385. ترجمة 3882.
(1/301)
ز- نافع ... ... ... ... ح- نافع ... ... ... ط- نافع
أبو جعفر ... ... ... أبو جعفر ... ... ... أبو جعفر
عبد الله ابن عباس ... ... زيد بن ثابت ... ... خباب بن الأرث
زيد بن ثابت
النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم
هذه هي أهم أسانيده في القراءة من طريق أبي جعفر من طرقها المشهورة، وأوثقها باتفاق هي المسندة من طريق عبد الله بن عياش المخزومي، لطول لزوم أبي جعفر له وجمعه بين القراءة والعرض عليه.
ثانيا: شبية بن نصاح:
أما أهم شيخ له بعد أبي جعفر المدني فهو أبو ميمونة شبية بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المدني مولى أم سلمة رضي الله عنها.
"قرأ القرآن على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة باتفاق، وقيل قرأ أيضا على أبي هريرة وابن عباس قال الذهبي: "شبية بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المدني المقرئ الإمام، مولى أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وأحد شيوخ نافع في القراءة، وقاضي المدينة ومقرئها مع أبي جعفر، أدرك أم المؤمنين عائشة وأم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ، وقرأ
القرآن على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، ووهم من قال انه قرأ على أبي هريرة وابن عباس ـ رضي الله عنهماـ، فإنه لم يدرك ذلك"(1).
ووافق ابن الجزري في الغاية على ما ذكره الذهبي من تغليط من ذكر قراءته عليهما وعدم إدراكه لهما(2)ولكنه في "النشر" قال: "وسمع شبية القراءة من عمر بن الخطاب"(3).
__________
(1) - معرفة القراء الكبار 1/61 طبقة 3 ترجمة 14.
(2) - غاية النهاية 1/320-330 ترجمة 1430.
(3) - النشر في القراءات العشر 112.
(1/302)
وفي كتاب الأندرابي ما يوهم قراءته على أبي، فقد قال في سند نافع: "وقرأ نافع أيضا على شيبة بن نصاح مولى أم سلمة، وقرأ على ابن عباس، وعلى أبي وقرأ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(1)فإذا لم يكن في الطبعة سقط، فهي إضافة جديدة تجعل استبعاد الذهبي إدراكه لأبي هريرة المتوفى بين سنتي 57-59(2)وابن عباس المتوفى سنة 68(3)ـ أمرا غير وارد، لاسيما إذا صح سماعه من عمر بن الخطاب المتوفى سنة 23هـ.
قال الأندرابي: "وقيل قرأ شبية على أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ، والأصح أنه لقيها صغيرا، فمسحت على رأسه وبركت له"(4).
وقد اعترض الذهبي على ما رواه ابن مجاهد عن يعقوب بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري قال:
"كان شبية وأبو جعفر يقرئان في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الحرة"(5)فقال الذهبي: "بل قد نقل ذلك عن أبي جعفر وحده، وهو أسن من شيبة بكثير، وهو والد ميمونة زوج شبية"(6).
__________
(1) - قراءات القراء المعروفين برواية الرواة المشهورين 60.
(2) - غاية النهاية 1/370 ترجمة 1574.
(3) - غاية النهاية 1/426 ترجمة 1701.
(4) - قراءات القراء المعروفين 60-61. والأرجح سقوط لفظ "وقرأ" بين ابن عباس وقوله "وعلى أبي" فيكون ابن عباس هو الذي قرأ على أبي.
(5) - كتاب السبعة في القراءات 58-59.
(6) - معرفة القراء الكبار 1/85.
(1/303)
ونقل ابن الجزري عن الحافظ أبي العلاء الهمداني(1)ما يفيد إدراكه لغير واحد من الصحابة واحتمال إقرائه مع أبي جعفر صهره مبكرا، فقال: "هو من قراء التابعين الذين أدركوا أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأدرك أمي المؤمنين: عائشة وأم سلمة زوجي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ودعتا الله أن يعلمه القرآن، وكان ختن أبي جعفر على ابنته ميمونة"(2).
ومهما يكن فقد كان شبية متصدرا مع أبي جعفر للإقراء بالمدينة، ولعلهما كانا يتناوبان في حلقة واحدة، بدليل ما جاء من أخذ شبية لقراءة أبي جعفر ورجوعه إليها بعد وفاة أبي جعفر(3).
أما مجرد زواجه بابنة أبي جعفر فلا ينهض وحده دليلا على صغر سنه عن التصدر معه قبل الحرة أي سنة 63هـ، لاسيما إذا صحت قراءته على من تقدم، لأن تزويج أبي جعفر لابنته منه قد يكون مبعثه الإعجاب بشخصه وخلقه ومستواه العلمي، ولعل هذا ما تؤكده بعض أخباره، فقد ساق ابن مجاهد خبرا في ذلك بسنده عن محمد بن اسحاق المسيبي عن أبيه قال:
"زوج أبو جعفر ابنته من شبية بن نصاح، وكان مقلا، فقيل لأبي جعفر: زوجت ابنتك من شبية وهو مقل، وقد كان يرغب فيها سروات الموالي؟ قال: فقال: إن كان شبية مقلا فسيملأ بيتها قرآنا"(4).
ومن طرائف هذا الزواج الذي تم بين شبية القارئ، وبين ميمونة بنت أبي جعفر، وكانت تروي قراءة أبيها، ما حكاه ابن مجاهد بالسند السابق إلى المسيبي عن نافع قال:
__________
(1) - هو الحسن بن أحمد بن الحسن الهمداني أبو العلاء العطار صاحب كتاب غاية الاختصار في القراءات العشر، وكان شيخ همدان وإمام العراقيين، قال ابن الجزري: "وعندي أنه في المشارقة كأبي عمرو الداني في المغاربة، بل هذا أوسع رواية منه بكثير، توفي سنة 569. ترجمته في غاية النهاية 1/204-206 ترجمة 945.
(2) - غاية النهاية 1/330-331 ترجمة 1439.
(3) - معرفة القراء الكبار 1/65.
(4) - كتاب السبعة 59.
(1/304)
"لما تزوج شبية بنت أبي جعفر قال الناس: يولد بينهما مصحف"(1).
وهو خبر فيه إلى جانب خفة الروح، دلالة على مستوى القارئين في القراءة، وشهادة أهل البلد لهما بذلك، وفد شهد لشبية بهذا الشفوف غير واحد من المترجمين له، فقال ابن قتيبة:
"كان شبية إمام أهل المدينة في القراءة في دهره"(2).
وقال ابن حبان:
"شيبة بن نصاح قاص أهل المدينة(3)، ممن عني بالقرآن، وكان مواظبا على الورع والدين الصحيح"(4).
وقال إسماعيل بن جعفر: "قرأت على شبية بن نصاح مولى أم سلمة، وكان إمام أهل المدينة في القراءة"(5).
وقال الذهبي: "ثقة قليل الحديث، صدوق، بعيد الصيت في القراءة(6). "قرأ عليه نافع وإسماعيل بن جعفر وسليمان بن مسلم بن جماز(7)، وزوجه ميمونة(8).
وسواهم من الأعلام، وحدث عنه جماعة ذكرهم الذهبي في ترجمته.
ومن خلال ما جاء في أخباره في كتب التراجم وغيرها يمكن أن نسجل في شأن قراءة نافع عليه، وما كان له من أثر في تكوينه العلمي، العناصر والملاحظات التالية:
أ ـ أنه ثاني أهم أساتذته بعد أبي جعفر المدني.
ب ـ أن أسانيده تلتقي مع أسانيد أبي جعفر، ولا تكاد تختلف عنها.
ج ـ ما جاء في خبر عن قالون صاحب نافع، من أنه "كان أكثر اتباعا لشبية منه لأبي جعفر"(9).
__________
(1) - المصدر نفسه ونفس الصفحة.
(2) - المعا رف لابن قتيبة 60.
(3) - كذا بالصاد من القصص، وكان يراد به الوعظ والإرشاد، وفي بعض المصادر يأتي "قاضي" من القضاء، وكان شبية قد وليه بالمدينة.
(4) - مشاهير علماء الأمصار 130 ترجمة .1021
(5) - معرفة القراء الكبار 1/65.
(6) - نفس المصدر والصفحة.
(7) - سيأتي ذكر كل من إسماعيل وابن جماز في الرواة عن نافع.
(8) - روت القراءة عن ابيها أبي جعفر، ورى القراءة عنها ابنها احمد وثابت "غاية النهاية 2/325 ترجمة 3709 – وذكر ابن الجزري روايتها عن شبية في ترجمته 1/330 ترجمة 1439.
(9) - نقله الذهبي في معرفة القراء 1/65.
(1/305)
د- أن شبية معدود في جملة علماء السلف الذين عنوا بضبط عدد الآي، وإليه وإلى أبي جعفر ينسب العدد المدني الأول، وبينهما فيه اختلاف يسير ـ كما سيأتي ـ، وقد روى نافع عنهما هذا العدد، وتعرف على ما بينهما من وفاق وخلاف.
هـ- أنه أول من ألف في علم "الوقف"، قال ابن الجزري ـ "وكتابه مشهور"(1).
وسيأتي أنه مهد الطريق بذلك لصاحبه نافع الذي ألف في ذلك أيضا كتابا رواه عنه أصحابه.
وقد اختلف في سنة وفاة شبية، فقال خليفة بن خياط: سنة 130هـ(2)وعليه اقتصر الذهبي(3)وزاد ابن الجزري فقال: "وقيل سنة 138هـ في أيام المنصور"(4).
قلت: وهذا القول الأخير أقرب لما تقدم من القول برجوع شبية إلى قراءة أبي جعفر بعد وفاته، وقد رأينا الخلاف حول وفاة أبي جعفر ينحصر بين 128-133هـ، ويزيد في تأكيد تأخر وفاة شبية إلى سنة 138 إن لم يكن أكثر، ما جاء في ترجمة إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري من أخذه القراءة عرضا على شبية بن نصاح(5).
قال أبو عبيد في كتاب القراءات عند ذكر مصادره في الكتاب:
"وما كان منها من قراءة شبية ونافع، فإنه أخذ عنهما أنفسهما، وقرأ القرآن عليهما"(6).
وقال ابن الجزري في ترجمة إسماعيل المذكور: "ولد سنة ثلاثين ومائة، وقرأ على شبية بن نصاح"(7).
ثالثا: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج:
أما ثالث شيوخه في الأهمية فهو أبو داود عبد الرحمن بن داود بن هرمز بن أبي سعد الأعرج المدني المقرئ النحوي مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي.
__________
(1) - غاية النهاية 1/330 ترجمة 1439.
(2) - نقله الذهبي في معرفة القراء 1/65.
(3) - نفس المصدر والصفحة.
(4) - غاية النهاية 1/330.
(5) - غاية النهاية 1/163 ترجمة 758.
(6) - نقله الأندرابي في كتاب قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 44.
(7) - غاية النهاية 1/163 ترجمة 758.
(1/306)
وقيل في نسبه عبد الرحمن بن هرمز بن كيسان الأعرج، وهو تابعي جليل من خيار علماء المدينة وكبارهم أخذ القراءة عرضا عن أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عياش، وأكثر من رواية السنن عن أبي هريرة حتى عرف بصاحب أبي هريرة(1)، وروى عن عبد الله بن بحينة(2)، وأبي سعيد الخدري وعبد الرحمن ابن عبد القارئ(3)وجماعة، وكان ثقة كثير الحديث"(4).
وكان إلى جانب إمامته في الرواية راسخ القدم في علوم اللغة والنحو، حتى قال الزبيدي: "هو أول من وضع العربية، وكان من أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش"(5)، وقد نفى أبو البركات الأنباري أن يكون له السبق المطلق إلى وضع العربية، إلا أنه أثبت له إسهاما في الميدان يعتبر به في طليعة علمائه الأولين، إذ "كان أحد القراء، عالما بالعربية، وأعلم الناس بأنساب العرب"(6).
وذكر أنه أخذ العربية والنحو عن أبي الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم(7)، ولعل أحسن توجيه لما نسبه له الزبيدي من الأولية هو ما ذكره الذهبي حكاية عن غيره، أن ابن هرمز هو أول من وضع العربية بالمدينة، أخذا عن أبي الأسود"(8).
__________
(1) - المعارف لابن قتيبة 205.
(2) - هو عبد الله بن مالك بن بحينةالأسدي، صحابي له عن النبي صلى الله عليه وسلم – أحاديث يسيرة لإقباله على العبادة، مات بالمدينة.-مشاهير علماء الأمصار 15 ترجمة 47.
(3) - تابعي من بني قارة كان عاملا لعمر بن الخطاب على بيت المال ، مات سنة 88 – مشاهير علماء الأمصار 71 ترجمة 491.
(4) - الطبقات الكبرى لابن سعد 5/283-284.
(5) - طبقات النحويين واللغويين للزبيدي 20-.
(6) - نزهة الألباء في طبقات الأدباء 15.
(7) - هو المعروف بنصر الحروف.
(8) - معرفة القراء الكبار 1/63-64.
(1/307)
وقد أجمل أبو الحسن الفقطي جملة ذلك في ترجمته له بقوله: "قال أهل العلم: انه أول من وضع علم العربية، والسبب في هذا القول أنه أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأظهر هذا العلم بالمدينة، وهو أول من أظهره وتكلم فيه بالمدينة، وكان من أعلم الناس بالنحو وبأنساب قريش، وما أخذ أهل المدينة النحو إلا منه، ولا نقلوه إلا عنه.. ويروى أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة ـ رضي الله عنه ـ اختلف إلى عبد الرحمن بن هرمز عدة سنين في علم لم يبثه في الناس فمنهم من قال: تردد إليه لطلب النحو واللغة قبل إظهارهما، وقيل: كان ذلك من علم أصول الدين وما يرد به مقالة أهل الزيغ والضلالة، والله أعلم"(1).
وأيا كان العلم الذي تردد إليه فيه مالك وغيره، فإن هذا التردد يفيدنا في تقدير مكانته بين مشيخة أهل المدينة في زمنه وما كان له من خصوصية في هذا الشأن، استبد معها بالميدان، وجلس إليه فيه الكبار، ولا نستبعد أن يكون نافع فيمن انتفع به وجلس في حلقته لذلك، كما جلس مالك.
أما المشهورون بأخذ القراءة عنه، فلم تتوسع المصادر في ذكرهم، قال الذهبي: "قرأ عليه القرآن نافع بن أبي نعيم وغيره"(2).
وقال ابن الجزري: "روى القراءة عنه عرضا نافع بن أبي نعيم، وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد(3)"(4)، وحدث عنه نافع وأبو الزناد وابن شهاب الزهري وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن لهيعة وطائفة سواهم"(5).
__________
(1) - انباه الرواة على أنباه النحاة للفقطي 2/172 ترجمة 386.
(2) - معرفة القراء الكبار 1/63.
(3) - لم يترجم له ابن الجزري في القراء، ذكره الاندرابي في قراء المدينة – قراءة القراء المعروفين 63.
(4) - غاية النهاية 1/381 ترجمة 1622.
(5) - معرفة القراء الكبار 1/63.
(1/308)
وكل أولئك يمكن أن يكون سمع منه القراءة أيضا، إلا أن اشتهارهم كان برواية الحديث، وقد روى ابن مجاهد في السبعة من طريق ابن لهيعة عن الأعرج قال: "سمعت ابن عباس يقرأ "تثنون صدورهم"(1)مما يدل على جمعهم بين رواية الحديث عنه ورواية حروف القراءة.
ويهمنا كثيرا مما جاء في المصادر عنه بالنسبة لتأثيره في نافع العناصر التالية:
أ منزلته العالية في المعرفة بالعربية والأنساب.
ب إسناده للقراءة عن رجال أبي جعفر وشبية المتقدمين، وقد أسند نافع قراءته لبعض أصحابه من هذه الطريق خاصة، كما قال ابن مجاهد في السبعة: "حدثني أحمد بن محمد بن صدقة(2)قال: حدثنا إبراهيم محمد بن إسحاق المدني(3)قال: قال لي هارون بن المسيب: قراءة من تقرأ؟ قال: قلت: قراءة نافع بن أبي نعيم، قال: فعلى من قرأ نافع؟ قال: قلت:
"أخبرنا نافع أنه قرأ على الأعرج، وأن الأعرج قال: قرأت على أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وقال أبو هريرة: قرأت على أبي بن كعب، وقال أبي: عرض علي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القرآن، وقال: أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن"(4).
__________
(1) - السبعة في القراءات 56. وقراءة ابن عباس المذكورة في كتاب المحتسب لابن جني 1/318. وهي بسكون الواو وكسر النون الثانية.
(2) - هو أبو بكر محمد بن صدقة البغدادي من شيوخ ابن مجاهد. ترجمته في غاية النهاية 1/119 ترجمة 552.
(3) - السند في السبعة هكذا ""إبراهيم بن محمد بن إسحاق المدني بقورس قال حدثنا عبيد بن ميمون التبان قال: قال لي هارون بن المسيب .. إلخ.
(4) - كتاب السبعة 54-55.
(1/309)
ج- ما جاء من أن الأعرج كان يكتب المصاحف(1)، ومعناه أنه من أول من وطدوا كيفية ضبط المصحف بالمدينة، وربما كان أول من استعمل بها طريقة أبي الأسود الدؤلي التي تعتمد الشكل المدور الذي يكتفى فيه بوضع نقطة فوق الحرف أو تحته أو أمامه للإشارة إلى نوع حركته بالفتح أو الكسر أو الضم على التوالي(2)، ولعل ابن هرمز هو الذي تمت على يده النقلة من الأسلوب الذي ظهر بالمدينة قبل ذلك إذ كان لهم نمط خاص في استعمال الأصباغ في ضبط المصحف، فتركوه إلى نقط أهل البصرة، وربما كان ذلك على يد تلامذة أبي الأسود ونصر بن عاصم، على ما حكاه أبو عمرو الداني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني من قوله:
"والنقط لأهل البصرة أخذه الناس كلهم عنهم، حتى أهل المدينة، وكانوا ينقطون على غير هذا النقط، ونقطوا نقط أهل البصرة"(3).
وسوف نرى بعون الله كيف استفاد نافع من خطوات من تقدموه في هذا المجال، وكيف ضبط عنه بعض تلامذته مصاحفهم على وفاق ما كان يأخذ به في اختياره، مما توارتر به النقل إليه عن مشايخه المعتبرين.
رابعا: مسلم بن جندب الهذلي
ورابع أستاذ مهم لنافع بن أبي نعيم هو أبو عبد الله مسلم بن جندب الهذلي مولاهم المدني القاص، "قاص الجماعة بالمدينة(4)، قال ابن شبة: "كان قاص الجماعة، يقص فيحلق حلقة حول القاسم ولا يدخل معهم في قصصهم"(5).
وذكر عن مالك بن أنس قال: "عمر بن عبد العزيز رزق قاص الجماعة بالمدينة"(6).
__________
(1) - معرة القراء الكبار 1/63.
(2) - ينظر هذا في كتاب المحكم في نقط مصاحف الأمصار للداني 6-7.
(3) - المحكم 7.
(4) تصحف اللفظ إلى "قاضي" "في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 5/25.
(5) - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/14 – ويعني بالقاسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(6) - المصدر نفسه 1/16 – ومعنى رزقه جعل له رزقا معلوما في بيت مال المسلمين.
(1/310)
وعن عبد الرحمن بن حرملة(1)قال: "كان مسلم بن جندب قاصا لأهل المدينة، فقرأ سجدة بعد صلاة الصبح، فقال سعيد بن المسيب: لو كان لي على هذا الأعرابي سلطان لم أزل أصرفه حتى يخرج من المسجد"(2).
وقال أبو عثمان الجاحظ: "ومن كبار القصاص، ثم من هذيل، مسلم بن جندب، وكان قاص مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان إمامهم وقارئهم، وفيه يقول عمر بن عبد العزيز: من سره أن يسمع القرآن غضا، فليسمع قراءة مسلم بن جندب"(3).
أما مشيخته في القراءة فقال الذهبي: "قرأ القرآن على عبد الله بن عياش المخزومي مقرئ المدينة(4).
وقال في سير أعلام النبلاء: "وقيل ان مسلم بن جندب قرأ على حكيم بن حزام(5)وابن عمر"(6).
"وحدث عن أبي هريرة وحكيم بن حزام وابن عمر وابن الزبير ـ قال ابن الجزري ـ: ـ ولا تصح روايته عن ابن الزبير كما ذكره الداني، وقال الذهبي: ولا أحسب روايته عن حكيم وأبي هريرة إلا منقطعة(7).
وقد كان ممن اشتهر من أهل المدينة أيضا بالعربية، ترجم له الفقطي في الإنباه، فقال: تابعي مدني من الفصحاء القراء، ويعد من النحويين.. وهو أحد من أخذ نافع بن أبي نعيم القراءة عنه"(8).
__________
(1) - عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي تابعي من خيار أهل المدينة وعلمائهم توفي سنة 145. ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار 137 ترجمة 1081.
(2) - تاريخ المدينة المنورة 1/14.
(3) - البيان والتبيين للجاحظ 1/367-368.
(4) - معرفة القراء الكبار 1/65-66 طبقة 3 ترجمة 15.
(5) - هو حكيم بن حزام بن خويلد القرشي، عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام مثل ذلك، ومات سنة 54 بالمدينة – مشاهير علما الأمصار 12 ترجمة 30.
(6) - سير أعلام النبلاء 7/336 ترجمة 121.
(7) - غاية النهاية 2/297 ترجمة 3600.
(8) - انباه الرواة على أنباه المنحاة 3/261 ترجمة 745.
(1/311)
قال الذهبي: "قرأ عليه نافع الإمام، وتأدب عليه عمر بن عبد العزيز، وحدث عنه ابنه عبد الله بن مسلم، وزيد بن أسلم ومحمد بن عمرو بن حلحلة(1)ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي ذئب(2)وآخرون، وكان من فصحاء أهل زمانه، وكان يقص بالمدينة"(3).
ومن خلال ما تقدم إضافة إلى بعض الإشارات الأخرى في ترجمته في المصادر، نقف على العناصر التالية مما له علاقة بمجال تأثر نافع به فيه، واقتباسه عنه أو استفادته منه في الجملة:
أ عرض نافع عليه، فهو معدود في شيوخه الخمسة الكبار كما أسلفنا.
ب جمعه في حلقته بين القراءة والتفسير، ولعله المعبر عنه بالقصص، وكان معينا لذلك من جهة السلطان، ولذا سموه بقاص الجماعة، وقد استفاد نافع منه في هذا المجال، وخصوصا فيما يتعلق بتوجيه بعض القراءات، وكان يسأله عن ما يشكل عليه من ذلك، ومن أمثلة ما رواه ابن وهب قال:
"حدثني نافع قال: سألت مسلم بن جندب عن قوله تعالى "كأنهم إلى نصب يوفضون"(4). قال: إلى غاية، فسألته عن "ردءا يصدقني"(5)، فقال: الردء: الزيادة"(6).
__________
(1) - من تابعي التابعين بالمدينة، ترجم له ابن حبان في مشاهير العلماء 133 ترجمة 1048.
(2) - هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، من عباد أهل المدينة وفقهائهم وقرائهم (50-159) ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار 140 ترجمة 1107.
(3) - معرفة القراء الكبار 1/65-66.
(4) - سورة المعارج جزء من الآية ما قبل الأخيرة منها.
(5) - سورة القصص جزء من الآية رقم 34.
(6) - نقله الذهبي في معرفة القراء 1/66 وابن الجزري في غاية النهاية 2/297.
(1/312)
ج- أخذه في الاقراء بحصة ثابتة، فكان يقتصر على ثلاثين آية، وهو القدر الذي سيأخذ به نافع في تصدره للإقراء، وذلك ما اسنده أبو بكر بن مجاهد عن جعفر بن الزبير قال: "سمعت مسلم بن جندب يقرأ "ولا تيمموا الخبيث"(1)أي: توجهوا ـ قال ـ: وكان يعلمنا غدوة ثلاثين آية، وعشية ثلاثين آية"(2).
د- تأثيره العام في جمهور قراء المدينة، بحكم ما ذكر له من فصاحة عالية، وذلك ما يفيده ما أسنده ابن مجاهد عن عيسى بن مينا قالون صاحب نافع قال: "كان أهل المدينة لا يهمزون(3)حتى همز ابن جندب، فهمزوا "مستهزئون" و"يستهزئ"(4).
وقد أشار أبو عمرو الداني في الأرجوزة المنبهة إلى اقتداء أهل المدينة به في الهمز فقال:
... والقرشيون وأهل يثربا لا يهمزون، ما خلا ابن جندبا
فانه همز فاقتدى به ... قراؤهم، والجل من أصحابه
ذكر ذاك عنهم قالون ... عيسى بن مينا الثقة المأمون(5)
فاقتداء أهل المدينة به في مثل هذا، وهو هذلي، وتخليهم عن لغة قريش فيه، دليل على مقدار تأثيره في مجال الإقراء بوجه عام.
أما وفاة ابن جندب فذكر ابن حبان أنه "مات سنة 106هـ"(6)، وقال الذهبي:
__________
(1) - سورة البقرة أول الآية رقم 267.
(2) - كتاب السبعة في القراءات 50.
(3) - يعني يتجنبون المبالغة في تحقيق الهمز، لا تركه بالمرة في جميع المواضع، وإنما يميلون إلى تليين النطق به وإبداله غالبا، وذكر مكي في كتاب الرعاية عن حماد بن زيد أنه قال: رأيت رجلا يستعدي على رجل بالمدينة، فقلت: ما تريد منه؟ فقال: إنه يتهدد القرآن، قال: فإذا المطلوب رجل كان إذا قرأ يهمز، يعني انه كان يهمز متعسفا" – الرعاية 146.
(4) - السبعة في القراءات 60- والإشارة بالكلمتين إلى الآيتين 14-15 من سورة البقرة.
(5) - الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني تحقيق الدكتور الحسن وكاك – مرقونة بالآلة.
(6) - مشاهير علماء الأمصار 75 ترجمة 538.
(1/313)
"مات في خلافة هشام بن عبد الملك بعد سنة 110هـ تقريبا"(1). ولعل الأصح ما نقله ابن الجزري عن الأهوازي قال: "وأقام ابن جندب بالمدينة إلى أن مات بها سنة 130هـ، في أيام مروان بن محمد"(2).
خامسا يزيد بن رومان الأسدي
أما الشيخ الخامس من كبار مشيخة نافع، فهو أبو روح يزيد بن رومان الأسدي مولى آل الزبير بن العوام. قال ابن حبان: "من قراء أهل المدينة"(3).
وقال ابن مجاهد: "وكان يزيد من فقهاء أهل المدينة.. وكان الغالب عليه القرآن"(4).
أما شيوخه في القراءة فقال ابن مجاهد: "حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل(5)قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس(6)قال: حدثني أبي قال: أخبرني يزيد بن رومان مولى آل الزبير أنه أخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وقد روى أيضا عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما"(7).
وقال الأندرابي:
"وقرأ نافع أيضا على يزيد بن رومان مولى الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ، وقرأ على ابن عباس وأبي أمامة الباهلي(8)، وقرأ على أبي بن كعب"(9).
وقال ابن الجزري فيه: "ثقة ثبت فقيه قارئ محدث، عرض على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، روى القراءة عنه نافع وأبو عمرو، ولم تصح روايته عن أبي هريرة ولا ابن عباس، ولا قراءته على أحد من الصحابة"(10).
__________
(1) - معرفة القراء الكبار 1/67.
(2) - غاية النهاية 2/297 ترجمة 3600.
(3) - مشاهير علماء الأمصار 135 ترجمة 1067.
(4) - كتاب السبعة في القراءات 60-61.
(5) - هو إسماعيل القاضي وسيأتي في الرواة عن قالون.
(6) - سيأتي في أصحاب نافع من أهل المدينة.
(7) - كتاب السبعة 60-61.
(8) - هو أبو أمامة الصدى بن عجلان بن وهب الباهلي، من علماء التابعين بالشام، مات سنة 86 هـ وهو ابن إحدى وسبعين سنة. "مشاهير علماء الأمصار 50 ترجمة 327
(9) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 61.
(10) - غاية النهاية 2/381 ترجمة 3876 – ومعرفة القراء الكبار 1/63.
(1/314)
وهو من علماء المدينة الذين أخذ عنهم العدد المدني المتعلق بالآي، قال وهب بن جرير(1): رأيت محمد بن سيرين ويزيد بن رومان يعقدان الآي في الصلاة"(2).
ومات يزيد بن رومان في قول أبي عمرو الداني سنة 130هـ، وقال غيره سنة 129، وقيل سنة 120.(3)
سادسا: صالح بن خوات الأنصاري:
قال ابن مجاهد في السبعة: "فهؤلاء الذين ذكر نافع أنه أدركهم بالمدينة من الأئمة في القراءة: عبد الرحمن بن هرمز وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشبية بن نصاح ومسلم بن جندب ويزيد بن رومان، وقد حدثني محمد بن عبد الرحمن الأرزناني الأصبهاني قال: سمعت الحسين بن علي الصدفي(4)المقرئ بمصر قال: سمعت أبا القاسم مواسا(5)يقول: أخبرني يوسف بن عمرو(6)أن نافعا قرأ على صالح بن خوات، أخبره بذلك عبد الله بن مسلمة"(7)"(8).
والمراد به صالح بن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري المدني، قال ابن الجزري: تابعي جليل، روى القراءة عن أبي هريرة، أخذ عنه القراءة عرضا نافع بن أبي نعيم"(9). وزاد الأندرابي فقال:
__________
(1) - هو وهب بن جرير بن حازم يروي عن أبيه حازم الأزدي العتكي من أتباع التابعين بالبصرة، ويروي عنه أحمد بن جرير وابن معين مات سنة 206. ترجمته في خلاصة تهذيب التهذيب للخزرجي 418.
(2) - معرفة القراء الكبار 1/62.
(3) - المصدر نفسه، ومثله في غاية النهاية 2/381 ترجمة 3876.
(4) - مقرئ مصري متصدر، روى القراءة عن مواس بن سهل. ترجمته في غاية النهاية 1/247 ترجمة 1124.
(5) - هو مواس بن سهل أحد كبار أساتذة رواية ورش.
(6) - هو أبو يعقوب الأزرق صاحب ورش سيأتي.
(7) - هو القعنبي وسيأتي في الرواة عن نافع.
(8) - كتاب السبعة في القراءات 61.
(9) - غاية النهاية 1/332 ترجمة 1445.
(1/315)
"وقرأ نافع أيضا على صالح بن خوات، وقرأ على ابن عمر وابن الزبير، وقرآ على أبي"(1).وقد وهم فيه ابن سعد فذكر أنه قتل يوم الحرة في ذي الحجة سنة 63هـ(2)، وذلك لا يصح لثبوت عرض نافع عليه من رواية ابن مجاهد وغيره.
وقد زاده في شيوخه ابن الباذش في الإقناع(3)وأبو عمرو الداني في غير كتاب التيسير(4)وابن الجزري في الغاية(5)والنشر(6)وأكثر من ترجموا لنافع من شراح رجز ابن بري.
سابعا: ابن شهاب الزهري
هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام، ذكر البخاري من حفظه أنه "حفظ القرآن في ثمانين ليلة"(7).
وهذا ما لا غاية وراءه في قوة الحافظة وسيلان الذهن، لقي ثلاثة عشر صحابيا(8)، وقرأ القرآن على أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب(9)، وحدث عن جماعة كبيرة من الصحابة والتابعين.
قال ابن الجزري: "وردت عنه الرواية في حروف القرآن"(10).. وروى عنه الحروف عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي(11)، وعرض عليه نافع بن أبي نعيم فيما حكاه أحمد بن جبير(12)عن إسحاق المسيبي عن نافع(13).
ثامنا عبد الرحمن بن القاسم
__________
(1) - قراءات القراء المعروفين للاندرابي 61.
(2) - الطبقات الكبرى لابن سعد 5/258.
(3) - الإقناع في القراءات السبع 1/73-74.
(4) - نقله الذهبي في معرفة القراء 1/88.
(5) - غاية النهاية 2/330 وأشار إلى جامع البيان للداني ويرمز له بحرف "ج".
(6) - النشر في القراءات العشر 1/112.
(7) - التاريخ الكبير للإمام البخاري 1/220-221.
(8) - نشر البنود على مراقي السعود 2/61.
(9) - النشر في القراءات العشر 1/112.
(10) - غاية النهاية 2/262-263 ترجمة 3470.
(11) - هو عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني – الخلاصة للخزرجي 261.
(12) - إمام مقرئ من أهل أنطاكة سيأتي.
(13) - غاية النهاية 2/262-263 ومثله في مفتاح السعادة لطاش كبري زادة 2/17.
(1/316)
المراد عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تقدم ذكره في أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي "وكان من سادات أهل المدينة ومتقنيهم.. مات بالمدينة سنة 126هـ"(1). عده أبو عمر الداني في شيوخه في القراءة في كتابه جامع البيان، وتبعه على ذلك ابن الجزري(2)، ووفقت في جامع بيان العلم للحافظ ابن عبد البر على ما يدل على أخذه عنه، فقد أخرج بسنده عن عبد الله بن وهب عن نافع بن أبي نعيم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال:
"لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وانهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ رجلا بقول أحدهم كان في سعة"(3).
تاسعا: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري
هو أحد القراء والفقهاء السبعة المعتمدين بالمدينة، أخذ عن والده زيد وجماعة، وغلب عليه الفقه فلم يكن له ذكر واسع في القراءة ورواياتها فيما وصل إلينا من كتب القراءات والطبقات، ولكني وجدت الأندرابي في كتابه يسوقه في شيوخ نافع في القراءة فيقول:
"وقرأ نافع أيضا على خارجة بن زيد بن ثابت، وقرأ على أبيه، وعلى عثمان رضي الله عنهما، وقرآ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(4).
عاشرا: زيد بن أسلم أبو أسامة المدني مولى عمر بن الخطاب
تقدم ذكره في أصحاب الحلقات العلمية الكبرى بالمسجد النبوي، كما تقدم ذكره في قراء أهل المدينة من التابعين الذين وردت عنهم الرواية في حروف القرآن، ونضيف هنا ما وفقنا عليه في كتاب الأندرابي، إذ ذكره في شيوخ نافع في القراءة فقال: "وقرأ نافع أيضا على زيد بن أسلم، وقرأ على زيد بن ثابت"(5).
__________
(1) - مشاهير علماء الأمصار 12 ترجمة 999.
(2) -غاية النهاية 2/330 ترجمة 3718.
(3) -جامع بيان العلم وفضله 2/80.
(4) - قراءات القراء المعروفين للأندرابي 61.
(5) - قراءات القراء 61.
(1/317)
وذكره ابن حجر أيضا في شيوخه في رواية الحديث(1).
حادي عشر: رشد بن راشد
لم أقف على ذكره عند غير الاندرابي في كتابه، إذ ساقه ضمن شيوخ نافع في القراءة فقال:
"وقرأ نافع على رشد بن راشد، وقرأ على عبد الله بن مسعود، وقرأ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(2).
ثاني عشر الأصبغ بن عبد العزيز النحوي
لم أقف له على ذكر في كتب التراجم، إلا عند الحافظ ابن الجزري الذي ساق اسمه ونسبه في جملة شيوخ نافع في القراءة(3)، ثم ترجم له استقلالا فقال: "معدود في شيوخ نافع، لا أعرف على من قرأ، ذكر ذلك سبط الخياط(4)"(5).
ثالث عشر: نافع بن كاوس مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب
ذكرناه في أصحاب الحلقات العلمية بالمدينة، وكانت حلقته في عهد الطلب من حياة نافع من أزخر الحلقات، وكان نافع يفتخر بأنه جلس إليه قبل أن يعرفه خواص أصحابه الذين اشتهروا بالرواية عنه، أخرج الإمام أبو بكر بن الأنباري في كتاب "الإيضاح"بسنده عن الأصمعي قال: "حدثنا نافع قال: "جلست إلى نافع مولى عبد الله بن عمر، ومالك من الصبيان، قال: وقرأ نافع "لتخذت عليه أجرا(6)"(7).
__________
(1) -تهذيب التهذيب لابن حجر 407910.
(2) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 62.
(3) - غاية النهاية 2/330 ترجمة 3718.
(4) -سبط الخياط هو أبو محمد عبد الله بن أحمد البغدادي صاحب المؤلفات في القراءات (464-541 هـ) ترجمته في معرفة القراء 2/(403-406) وغاية النهاية 1/434-435 ترجمة 1817.
(5) - غاية النهاية 1/171 ترجمة 398 - وقد وقفت على ما يشبه أن يكون المراد، وهو الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي، ولعل وصف النحوي محرفة عن الأموي، وقد ذكره صاحب الأغاني في ترجمة سكينة بنت الحسين، وانه عقد عليها ومنع عبد الملك عمه من تمام الزواج.
(6) -سورة الكهف الآية رقم 76.
(7) -إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/111.
(1/318)
وفي هذا الخبر دلالة على أنه استفاد منه في رواية الحروف، وأما في رواية الحديث فقد روى عنه الكثير، وكان حريا أن يكون من خيرة الرواة عنه لو تفرغ لذلك، وقد ساق ابن سعد وغيره جملة من الآثار تدلنا على الصلة الوثيقة التي كانت لنافع به في هذا المجال، قال ابن سعد: "أخبرنا محمد بن عمر(1)قال: حدثني نافع بن أبي نعيم، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وأبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي فروة قالوا: كان كتاب نافع الذي سمع من عبد الله بن عمر في صحيفة، فكنا نقرؤها عليه، فنقول: يا أبا عبد الله، انا قد قرأنا عليك، فنقول: حدثنا نافع ؟ فقال: نعم"(2).
وقد جاء عن نافع القارئ عند ابن سعد بيان السبب الذي جعل نافعا مولى ابن عمر يكتفي بقراءة بعض أصحابه عليه من صحيفته، وذلك لعجمة لسانه المترتبة عن أصله الفارسي، قال ابن سعد:
"أخبرنا محمد بن عمر قال: سمعت نافع بن أبي نعيم يقول: إذا أخبرك أحد أن أحدا من أهل الدنيا قرأ عليه نافع، فلا تصدقه، كان ألحن من ذلك"(3).
وقد وقفت على جملة من الأحاديث والآثار رواها نافع بن أبي نعيم عنه، منها ما أخرجه الإمام إسماعيل ابن إسحاق القاضي قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة(4)قال: حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ عن نافع عن ابن عمر أنه "يكبر على الجنازة، ويصلي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم يقول: اللهم بارك فيه، واغفر له، وأورده حوض نبيك صلى الله عليه وسلم"(5).
__________
(1) - هو الواقدي.
(2) - الطبقات الكبرى – القسم المتمم لتابعي أهل المدينة 143.
(3) - المصدر نفسه 143.
(4) - هو القعنبي وسيأتي في الرواة عنه.
(5) - كتاب فضل الصلاة لاسماعيل بن إسحاق 79 وقد ضعف ابن القيم الحديث في كتابة "جلاء الأفهام" 264.
(1/319)
ومن حديثه عنه ما أخرجه الإمام الطبراني في معجمه الصغير بسنده عن عبد الله بن نافع الصائغ(1). عن نافع بن أبي نعيم عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة بالعقيق"(2). قال الطبراني: لم يروه عن نافع بن أبي نعيم إلا عبد الله بن نافع..".
ومن ذلك ما أخرجه الحافظ ابن عبد البر بسنده عن سعيد بن أبي مريم قال: "حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ عن نافع عن ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"(3).
وإلى جانب من ذكرنا من شيوخه في القراءة، نجد مجموعة أخرى جلس إلى رجالها، أو انتفع بها في الجملة وربما استعان بها في اختياره في القراءة في توجيه الحروف، أو بيان تأويلها، فمنهم:
رابع عشر: ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي، أحد فقهاء المدينة وحفاظها وعلمائها بالأنساب وأيام الناس، وأحد أكابر شيوخ مالك في الفقه والآثار، أدرك من الصحابة أنس بن مالك والسائب بن يزيد.. وكان يحضر مجلسه أربعون معتما"، وقد قدمنا ذكره في أصحاب الحلقات بالمسجد النبوي وكان نافع ممن انتفع بعلمه، وجلس إليه في جملة من جلس من أولئك المعتمين، وقد عده ابن حجر في مشيخته في الرواية(4).
__________
(1) - سيأتي في الرواة عن نافع.
(2) - المعجم الصغير للطبراني 27-28.
(3) - التمهيد لابن عبد البر 8/100-101. ورواه ابن ماجة بسنده عن غضيف بن الحارث عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله جعل .. الحديث ... إلا أنه قال: "يقل به" عوضا عن "وقبله" – سنن ابن ماجة 1/40 رقم الحديث 108.
(4) - تهذيب التهذيب 10/407.
(1/320)
وقد وقفت من حديثه عنه على ما أخرجه الحافظ أبو عمرو الداني بسنده عن عبد الله بن وهب عن نافع بن أبي نعيم قال: "سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن شكل القرآن في المصحف، فقال: لا بأس به"(1).
خامس عشر: مالك بن أنس إمام دار الهجرة في الفقه
تقدم لنا أنه تدبج مع نافع بتبادل المشيخة، فعرض مالك عليه القرآن، وسمع نافع منه الحديث، وروى "الموطأ"(2)، وربما كان جلوس نافع إليه في أواخر عمره بدليل سماعه منه "الموطأ" وقد ذكروا من تمام حذق مالك في علوم الرواية أنه "ما جلس إلى أحد من شيوخه في علم من العلوم، إلا عاد شيخه فجلس إليه فيه، إلا نافع بن أبي نعيم"(3).
وفي ذلك ما فيه من الدلالة على ما أحرزه نافع في ميدان القراءة، وما وصل إليه فيها من تبريز، حتى اعترف له مالك ـ كما سيأتي ـ أنه "إمام الناس في القراءة".
ومن الطريف ما نجده من محافظة المغاربة على رواية فقه المذهب المالكي من طريق الإمام نافع، مع وفرة أصحاب مالك المختصين في الرواية عنه، وقد أدرج ابن مخلوف التونسي هذا السند ضمن الأسانيد المعتمدة عند المالكية، من طريق إسماعيل القاضي عن قالون عن نافع المقرئ بسنده(4).
سادس عشر: عبد الله بن ذكوان أبو الزناد المدني الأموي مولاهم أحد الأئمة في السنن
__________
(1) -المحكم في نقط المصاحف 13- وكتب لنقط بذيل المقنع للداني 125.
(2) - ترتيب المدارك لعياض 1/81 وكذا 2/172 – والديباج لابن فرحون 29.
(3) - نقله السيوطي عن الدولقي – محاضرة الأستاذ إبراهيم صالح الحسيني من نيجيريا المنشورة في أبحاث "ندوة الإمام مالك" 1/127.
(4) - شجرة النور الزكية لابن مخلوف 473-474.
(1/321)
كان من فقهاء المدينة وعبادهم(1)، وولي لعمر بن عبد العزيز خراج العراق"(2)، وكان من أصحاب الحلقات العظيمة في المسجد النبوي الشريف، وقد وصف الليث بن سعد كثرة الملتفين عليه بقوله: "رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة طالب"(3)، وقد جلس إليه نافع فيمن كان يغشى مجلسه من أهل الحديث، وقد أثرت عن نافع عنه نسخة تشتمل على أكثر من مائة حديث كلها عن أبي الزناد عن الأعرج(4).
ولا يبعد أن يكون قد اخذ عنه شيئا من قراءته، فقد كان معدودا من أئمة القراءة بالمدينة(5).
سابع عشر: سعيد بن أبي سعيد المقبري المدني
عده ابن حبان في مشاهير علماء التابعين بالمدينة، وذكر وفاته سنة 123هـ(6).
ولنافع عنه رواية سيأتي بعضها في ترجمة ابن القاسم.
ثامن عشر: عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام
كان "من عباد أهل المدينة وفقهاء التابعين، مات سنة 121 هـ(7)، و"كان بيته من البيوت المجاورة للمسجد النبوي(8). ذكره أصحاب الطبقات في شيوخ نافع بن أبي نعيم(9).
تاسع عشر: ثبات بن ميمون المصري
راو من رواة الحديث قليل الشهرة، ذكره الخزرجي في الخلاصة وقال: "روى عن نافع، وروى عنه نافع القارئ"(10).
__________
(1) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 66 ترجمة 447.
(2) - المعارف لابن قتيبة 204.
(3) - طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي 65-66.
(4) - سيأتي ذكرها في جملة آثاره في الحديث.
(5) - قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين 62.
(6) - مشاهير علماء الأمصار 81 ترجمة 587.
(7) - نفس المصدر 66 ترجمة 447.
(8) - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/260
(9) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 8/456 ـ وسير أعلام النبلاء للذهبي 7/337 – ومعرفة القراء 1/89 – وتهذيب التهذيب لابن حجر 10/407.
(10) - خلاصة تهذيب تهذيب الكما ل في أسماء الرجال للخزرجي 58.
(1/322)
عشرون: فاطمة بنت علي بن أبي طالب، وتدعى بفاطمة الصغرى (ت 117)(1).
ذكرها ابن حجر في ترجمة نافع في جملة من روى عنهم(2)، ووفقت من روايته عنها على خبر في التفسير نقله السيوطي عن الإمام ابن ماجة في تفسيره بسنده عن نافع بن أبي نعيم القارئ عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنها سمعت علي بن أبي طالب يقول: "يا كهيعص، اغفر لي"(3).
واحد وعشرون: محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ الأنصاري
تقدم التنويه به بين أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي الشريف، ووصف ابن حبان له بأنه كان من حفاظ أهل المدينة ومتقنيهم وقدماء مشايخهم، وذكر وفاته سنة 121 هـ(4).
وقد ذكره ابن حجر في مشيخة نافع في رواية الحديث(5).
ثاني وعشرون : صفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف
ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار، وقال: "كان من عباد أهل المدينة وقرائهم"، وذكر وفاته سنة 132"(6). وعده ابن حجر في مشيخة نافع في الحديث(7).
__________
(1) - نفس المصدر 494 ويمكن الرجوع إلى أسماء ولد علي في كتاب المعارف لابن فتيبة 91-92.
(2) - تهذيب التهذيب 10/407.
(3) -الإتقان في علوم القرآن 2/10، ورواه الطبراني بسند آخر عن فاطمة المذكورة – جامع البيان للطبري 16/35.
(4) - مشاهير علماء الأمصار 136 ترجمة 1079.
(5) - تهذيب التهذيب 10/407.
(6) - مشاهير علماء الأمصار 135 ترجمة 1068.
(7) - تهذيب التهذيب 10/407.
(1/323)
هؤلاء هم الذين وفقت على أخذه عنهم، من بين شيوخه بين من قرأ عليه القرآن وعرض عليه، وبين من سمع منه القراءة دون عرض، أو من روى عنه حروف القراءة أو غيرها من السنن والآثار، ولا شك أن هذا العدد الذي وقفنا عليه لا يمثل كل الحقيقة، وقد تقدم ما جاء عنه من طريق بعض أصحابه أنه قرأ على سبعين من التابعين، هذا في القراءة، فكيف في غيرها من الفقه والسنن والمغازي والتفسير وغير ذلك مما كان يملأ رحاب المسجد النبوي، ويشكل الثقافة الموسوعية التي كانت يومئذ الطابع العام للعصر.
وقد ذكر الأندرابي أسماء جماعة من أئمة القراءة بالمدينة في عهد الطلب من حياة نافع لا يبعد أن يكون له أخذ عن بعضهم أو استفادة في الجملة، "فقد كان في المدينة في عصره جماعة لم يجتمع اهلها على قراءتهم كاجتماعهم على قراءته، منهم أبو الزناد(1)، وأبو وجزة السعدي(2)،
__________
(1) - هو عبد الله بن ذكوان تقدم في شيوخ نافع.
(2) - هو يزيد بن عبيد السعدي أبو وجزة المدني وردت عنه الرواية في حروف القرآن ت سنة 130. ترجم له ابن الجزري في غاية النهاية 2/382 ترجمة3878. وذكره أبو عمرو الداني في المنبهة عند ذكر قراء الشواذ فقال:
ومنهم من ساكني المدينة ... يزيد السعدي ذو السكينة
وهو أبو وجزة أروى الخلق ... لخبر مع عفة وصدق
(1/324)
وداود بن الحصين(1)، وعبد الرحمن بن أبي الزناد(2)، وخبيب بن عبد الله بن الزبير(3)، وأسيد بن أسيد(4)، وخالد بن إلياس(5)، ونحوهم، لأنهم لم يتجردوا للقراءة تجرده"(6).
وذكر نافع نفسه اسم رجل من أعلام عصره ربما كانت له استفادة منه أكثر مما ذكر في خبر ساقه عنه فيما حدث به عنه إسحاق المسيبي قال: "كنت أقرأ جالسا، فمر بي عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقال: يا ابن أخي، متى تقرأ قائما؟ إذا كبرت؟ إذا سقمت؟ قال: فما قرأت بعد ذلك قاعدا إلا خيل إلي أنه تمثل بين عيني"(7).
__________
(1) - لم يترجم له ابن الجزري في الغاية. وذكره ابن حبان في مشاهير علماء المدينة من أتباع التابعين وقال من أهل الحفظ والإتقان توفي سنة 135. مشاهير علماء المدينة الأمصار 77.
(2) - سيأتي في الرواة عن نافع.
(3) - من التابعين مات سنة 93 ـ علماء الأمصار 77.
(4) - من رواة الحروف عن عبد الرحمن بن هرمز وقد تقدم.
(5) - ترجمته في تهذيب التهذيب 3/30.
(6) - قراءات القراء المعروفين للاندرابي 62-63. والظاهر أن قوله "لأنهم" محرفة عن "إلا أنهم".
(7) - غاية النهاية 2/333 ترجمة 3718.
(1/325)
والآن وقد استكمل نافع دراسته وقراءته على الأكابر من شيوخ المدينة، وحصل هذا الرصيد الزاخر من الروايات، لم يبق إلا أن يأخذ مكانه بين علية المتصدرين من المشايخ، بالجلوس للناس لتلقين القراءة للواردين على الحرم النبوي، ولأبناء دار الهجرة الناشئين، الراغبين في الحصول على أجلى صورة لقراءة الجماعة، كما تلقاها نافع عن أكابر شيوخه السبعين من التابعين، يحدوه إلى ذلك طلب الأجر والمثوبة الحسنة، والرغبة في منافسة الأقران، وحماسة الشاب النشيط الطامح ببصره إلى مراكز المشايخ، وشهادة الأئمة المعتبرين له بتمام الأهلية للتصدر والانتصاب للإقراء، لاسيما بعد دخول كبار مشيخته في السن، وإحساسهم بالحاجة إلى من يخلفهم في الميدان، وذلك ما سنقوم بمرافقته فيه في الفصل التالي بعون الله، لنرى كيف تأتى له بعد التخرج أن يتصدى لهذا الشأن، وينتقل فيه بسرعة من طالب متلقن، إلى أستاذ ملقن، قبل أن تطير له في الآفاق تلك الشهرة التي جعلته قبلة القصاد، ومنهل الصادرين والوراد، من مختلف الأقطار والبلاد.
الفصل الثالث:
تصدره للإقراء، ومعالم اختياره
في القراءة، ومكانته بين أئمة الأمصار
(1/326)
بعد أن تعرفنا على نافع في طور النشأة والطلب من حياته، ورافقناه وهو ينهل من مجالس العلماء وحلقات المشايخ الجلة، على اختلاف مشاربهم، وتنوع اهتماماتهم العلمية، نريد الآن أن نسايره في هذا الطور الجديد الذي كان يهيئ له نفسه، أو تهيئه له الحياة العلمية في بلده، فلقد لاحظنا من خلال ما قدمنا وجوده الطويل في صحبة أساتذته الكبار، وأكثرهم كان من أصحاب الحلقات الرسمية في المسجد النبوي، هذا المسجد الذي ظل على ما أسلفنا مدرسة دائمة، أو جامعة إسلامية مفتوحة، تتلقى فيها علوم الشريعة بمختلف شعبها وفروعها، الأمر الذي كان يرشح نافعا الطالب الطموح للإحساس منذ باكورة الصبا، بروح المنافسة والطلب واختيار المشيخة، ويبث فيه مع الأيام المزيد من الرغبة في التفقه في علوم الرواية، ومنافسة العلماء في الدرس والبحث والتنقيب عن الآثار، إلى أن ترامت به الحال إلى طلب ما يطلبه أمثاله من المتخرجين من أهل هذا الشان، من أخذ حظوظهم من الثواب والأجر في الإفادة والتعليم، وشق طريق السعي نحو اقتعاد كرسي الإمامة في العلوم الخاصة بالقراءة والأداء، كما اقتعده أعلام المشايخ ممن تخرج عليهم من علية علماء دار الهجرة والوافدين عليها من المتصدرين.
ولا ريب أن الترشيح لمثل هذه المناصب إنما كان يجيء في الغالب بصورة تلقائية، بمبادرة شخصية من الطالب، بعد أن يكون قد أحس من نفسه باستيفاء آلته، واستجماع حصيلته العلمية في فنه، وتزكيه في هذا التطلع صور أخرى من الاعتراف من لدن المشايخ المعتبرين ببلوغه مبلغ التأهل، وجدارته بالتصدر، أو من لدن رفقائه في الدرس والتحصيل، الذين يشهدون لصاحبهم بمثل هذا الشفوف والتقدم، الأمر الذي يجعل المتخرج يطمح إلى تجاوز مستوى الأخذ والتلقي، إلى مستوى العطاء والإفادة.
(1/327)
ولقد مر بنا ما جاء في بعض النقول عن احتمال عمل نافع أول الأمر في كتاب بالعقيق، فإذا صح هذا كان أول تجربة له في الميدان يحتك فيها بالتعليم وأساليبه، ويتمرن على التمرس بالإقراء، وهو فن يحتاج إلى دربة وصبر، ولعله في أثناء ذلك كان يتابع حضور حلقات المشايخ كما قدمنا، ويسعى نحو استكمال رصيده من الروايات والآثار في حروف القراءة، مما سيكون في أمس الحاجة إليه عند حاجته إلى الاختيار في إطار ما تجمع لديه من هذه الذخيرة الرفيعة. لما تعارف عليه علماء الفقه والقراءة التفسير من ضرورة تعرف الساعي نحو الحذق فيها على ما بين أهلها من اختلاف، ولذا قالوا: "لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يده"(1)وقالوا في ضرورة الجمع بين التضلع في القرآن وعلومه: "لا يكون إماما في الفقه من لم يكن إماما في القرآن، والآثار، ولا يكون إماما في الآثار من لم يكن إماما في الفقه."(2)، وقالوا في مثل ذلك:
"من لم يعرف اختلاف القراء فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه"(3).
هي ثقافة علمية أساسية إذن كان لا بد منها لمن يشرئب بنظره نحو ما كان يشرئب إليه نافع من الوصول إلى إمامة هذا الشأن، أو كانت تسعى به العناية الإلهية نحوه، ليكون خير خلف لأساتذته الكبار أمثال أبي جعفر وشيبة وابن هرمز.
ولقد كان أبو جعفر فيما يبدو يرشحه لهذا المنصب، ويتوسم فيه خلفه البار في حلقته، ولعله أول من أحس بمظاهر التحول في حياة تلميذه لأول ما جلس للاقراء، فكان إذا مر بأبي جعفر في مجلس إقرائه، يقول أبو جعفر لأصحابه: "أترى هذا كان يأتيني وهو غلام له ذؤابة فيقرأ علي، ثم كفرني، وهو يضحك.."(4).
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/46.
(2) - المصدر نفسه 2/47.
(3) - نفسه 2/46.
(4) - وفيات الأعيان 6/275 ترجمة 814.
(1/328)
وهي إشارة فيها مداعبة منه لتلميذه القديم، وفيها إلى جانب ذلك إحساس غامر بالغبطة من لدن الشيخ، وهو يرى بعض ثمار عمله في هذا الشاب الذي أخذ طريقه للمنافسة في بث العلم، إن لم يكن فيها أيضا شعور خفي بالمزاحمة على المنصب والجاه، مما قد يشعر به قوله "ثم كفرني"، وإن كان قد ساقها مساق التمليح والمداعبة والإيناس.
وفي الخبر نفسه ما يدل على تصدره المبكر في حياة مشايخه في المسجد نفسه الذي تخرج في رحابه، وربما كان ذلك ولما يتجاوز العشرين إلا بقليل، وذلك مؤدى ما نقله الإمام الذهبي عن الهذلي في كامله ـ كما تقدم ـ في قوله: "كان نافع معمرا، أخذ القرآن على الناس في سنة خمس وتسعين"، وإن كان الذهبي لم يرتض هذا التحديد وقال: "كذا قال الهذلي، وبالجهد أن يكون نافع في ذلك الحين يتلقن ويتردد إلى من يحفظه، وانما تصدر للإقراء بعد ذلك بزمان طويل، ولعله أقرأ في حدود سنة عشرين ومائة، مع وجود أكبر مشايخه"(1).
ولا أرى موجبا لاستبعاد ما ذكره الهذلي لأنه هو الموافق للآثار الواردة في ذلك، ومنها:
ما ذكره الإمام الداني في الطبقات قال: "بلغنا أن أبا الطفيل عامر بن واثلة(2)وعبد الله بن أنيس(3)صاحبي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صليا خلف نافع"(4).
__________
(1) - سير أعلام النبلاء للذهبي 7/337.
(2) - هو عامر بن واثلة الكناني الليثي آخر من مات من الصحابة، توفي سنة 100 هـ وقيل سنة 110. الخلاصة للخزرجي 185.
(3) - في كتب الصحابة علمان بهذا الاسم واسم الأب، أحدهما عبد الله بن أنيس الجهني صحابي مشهور، ولعله ليس المقصود هنا لوفاته قبل سنة 80 كما في الخلاصة للخزرجي 191 ـ . وهناك عبد الله بن أنيس الأنصاري صحابي آخر روى عنه ابنه عيسى، غير مذكور الوفاة – الخلاصة 191. ولعله الذي صلى خلف نافع، أما الأول فلم يدركه أو لم يدرك إمامته بالناس.
(4) - نقله الجعبري في ترجمة نافع في كنز المعاني (مخطوط) .
(1/329)
ومنها ما أسنده ابن مجاهد عن الليث بن سعد قال: "حججت سنة عشر ومائة(1)، وإمام الناس بالمدينة في القراءة نافع بن أبي نعيم"(2).
وأسند عنه من رواية أخرى أنه قدم المدينة سنة عشر ومائة، فوجد نافعا إمام الناس في القراءة لا ينازع . قال المسيبي: يعني وشيبة يومئذ حي"(3).
وأسند ابن مجاهد أيضا عن الأصمعي عن رجل قال: "أدركت المدينة سنة مائة، ونافع رئيس القراء بها، وعاش عمرا طويلا"(4).
وذكر مثل ذلك مكي بن أبي طالب فقال: "أقرأ الناس في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل سنة مائة من الهجرة"(5). هذا إلى ما ذكره غير واحد من المؤلفين من كونه "صلى في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ستين سنة"(6).
__________
(1) - قال الذهبي: المحفوظ عن الليث انه قال في سنة ثلاث عشرة – معرفة القراء الكبار 1/30. ويشهد لما ذكره الذهبي ما جاء في كتاب "كرامات أولياء الله" وهو المجلد الخامس في كتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي" في سياق ذكره لكرامات أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين المعروف بالصادق حيث أسند خبرا بذلك من طريق عياض ابن أبي طيبة قال: حدثنا ابن وهب قال: سمعت الليث بن مسعد يقول: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة" شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ـ كرامات أولياء الله ـ 191.
(2) - السبعة 62.
(3) - السبعة 62.
(4) - السبعة لابن مجاهد 62-63.
(5) - التبصرة في القراءات لمكي 45-46.
(6) - قراءات القراء المعروفين للأندرابي 62 ـ وشرح المنتوري على الدر اللوامع (مخطوط).
(1/330)
فهذه الأخبار في مجملها توافق ما ذكره الهذلي أو تقاربه، فلا يكون ما استبعده الذهبي واردا، لأنه يصادم النقول المذكورة مع إلقائه له غفلا مجردا من الأدلة. على أن كثيرا ممن ترجموا له من القراء قد حرصوا على الإشارة إلى قراءته المبكرة واجتماع أهل بلده على قراءته في حياة مشايخه، فقال أبو عبيد: "وكان أقدم هؤلاء الثلاثة أبو جعفر، قد كان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرة، حدثنا بذلك إسماعيل بن جعفر عنه، ثم كان بعده شيبة على مثل منهاجه ومذهبه، ثم ثلثهما نافع بن أبي نعيم، وإليه صارت قراءة أهل المدينة، وبها تمسكوا إلى اليوم"(1).
وقال الأندرابي: "وكان رحمه الله قارئ أهل المدينة ومقرئهم في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياة أبي جعفر وشيبة وغيرهما من التابعين، وإمامهم الذي تمسكوا بقراءته، واقتدوا به فيها من وقته إلى وقتنا"(2).
وقال ابن عبد الوهاب(3)في كفاية الطالب: "سمعت الأهوازي يقول: ان نافعا كان قديم الرياسة في القراءة، عالما بوجوهها، متبعا لآثار سلفه الماضين ببلده"(4).
وقال الطبري(5)في الجامع: "وكان عارفا بالقراءات نحريرا، مقدما في زمانه، بصيرا، متبعا للأثر ولمن مضى من السلف، إماما لمن بقي من الخلف"(6).
__________
(1) - تقدم نقله من كتاب القراءات لأبي عبيد في العدد الأول.
(2) - قراءات القراء المعروفين 51.
(3) - هو صاحب المفتاح في القراءات، سيأتي في أقطاب القراءات بقرطبة.
(4) - نقله المنتوري في شرحه على الدرر اللوامع عند ذكر التعريف بنافع.
(5) - هو أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري صاحب كتاب الجامع في القراءات سيأتي.
(6) - نقله المنتوري في شرح الدرر اللوامع.
(1/331)
ومؤدى هذه الأخبار والشهادات أن جلوس نافع لطلبته، واستئثاره بالإمامة في القراءة في بلده كان مبكرا، وذلك بعد أن استوفى العقد الثالث من حياته أو كاد، أي أنه كان على موعد مع قرابة سبعين عاما أو نيف من المجد العلمي، برئاسة إمامة الإقراء بالمدينة وإمامة الصلاة بالمسجد النبوي، إلا انه كان على موعد أيضا مع العمل اليومي الدؤوب في استقبال غاشيته من أفواج القراء والعارضين من أهل الحجاز والشام والعراق والجهات القاصية كمصر وافريقية والأندلس وبلاد العجم وغيرها من الآفاق.
ومعنى ذلك أنه سيستقبل خلال هذه المدة أجيالا عديدة، منها ما ينتمي إلى جيله ممن استكملوا قراءتهم بالعرض عليه، ومنها ما ينتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث اللذين عاصراه في طور المشيخة والتصدر، الأمر الذي يقتضي منه أن يتفرغ تفرغا كليا لهذه الشؤون، وأن يسلك فيها قراءة وإقراء وتلقينا سبيل المشيخة المعتمدة في البلد، وهي سبيل تضبطها جملة من الأعراف والآداب لا سبيل إلى تجاوزها كما سنرى في حلقته، وسيقتضي ذلك منه أيضا مزيدا من الاحتياط والنباهة والتثبت من جملة ما يقرأ به أو يقرئ من حروف القراءة وأصول الأداء، لاسيما وفي العارضين عليه ـ كما سوف نرى ـ عدد كبير من أهل الأمصار المختلفة التي تقرأ على أنماط غير الأنماط المعهودة عند قراء المدينة.
وسنكون مضطرين لأن نقف معه على كل من النقطتين، أولا لنتعرف على أسلوبه في الإقراء وما كان يأخذ به في الأخذ على القراء، وثانيا لنتعرف على معالم اختياره في القراءة وخصائص قراءته في الجملة، قبل أن نتطرق لمجالي نبوغه في القراءة وإمامته في علومها وما كان له من الريادة والسبق في كثير من تلك المباحث.
أولا: نافع في حلقة التدريس والإقراء
(1/332)
لا شك أن نافعا لم يكن بناء على ما قدمنا ـ غداة تصدره للإقراء، قارئا عاديا من الفئة التي كانت تعمل في الكتاتيب من التي سبق ذكرها في صدر الفصل الأول من هذا العدد، وإنما كان قد استكمل صفات المقرئ الإمام، التام الآلة، الناضج الشخصية، الذي تمثل مذاهب القراء، وعرف لغات العرب العرباء، وتمرس بمختلف العلوم والفنون الفقهية والأدبية واللسانية التي تساعد على استيفاء مقومات الإمامة وشروط التصدر، ولا شك أنه من خلال هذا المستوى الرفيع قد أخذ يتعامل مع الواردين عليه، إنه إذن لم يجلس في حلقة تدريسه لعامة الناس، وإنما جلس لطبقة خاصة حاصلة على المكانة المرموقة التي تؤهلها للأخذ عن القارئ الإمام، من أولئك الذين مهروا في القراءة، وبلغوا مستوى العرض على المشايخ، لاختبار درجة إتقانهم في التحصيل، أو لتزكية قراءاتهم بعرضها على هذا القارئ الإمام.
وذلك ما سوف يمر بنا مصداقه عند استعراض أسماء من بلغت إلينا أسماؤهم من الرواة عنه. أما من كان لم يصل بعد من شداة القراء المبتدئين إلى مثل هذا المستوى من الحذق في القراءة والأداء، فلم يكن مأذونا لهم بعد أن يحضروا حلقة إقرائه، ولذلك كان لا يرى في حضورهم ما يحقق المطلوب، فكان يحيلهم على بعض أصحابه ليأخذ عليهم، ليتفرغ للمتأهلين، وذلك ما واجه به أحد صغار تلامذته من المصريين لأول وروده عليه، فقد حكى أشهب بن عبد العزيز ـ وسيأتي في الرواة عنه ـ أنه جاء إلى نافع ليقرأ عليه، فرآه صغيرا، ولمس فيه شيئا من التقصير، فقال:
"إن كنت تريد تعليم الصبيان، فأت سليمان بن مسلم، يعني ابن جماز صاحب أبي جعفر"(1).
قال أبو عمرو الداني تعليقا على هذا الخبر: "وكنت مقرأة سليمان بن مسلم الهمز وإتمام المدات مثل مقرأة أهل الأندلس"(2).
__________
(1) - غاية النهاية لابن الجزري 2/206 ترجمة 2598 نقلا عن أبي عمرو الداني.
(2) - نفس المصدر والصفحة.
(1/333)
وذلك عندي يعني أن نافعا أراد إحالته على هذا القارئ الذي يشتغل بتعليم الناشئة الصغار، ويصطنع لذلك أسلوب التحقيق ببيان الهمز، وإشباع المد، وتمكين الحركات، ونحو ذلك مما ينبه عليه القارئ على سبيل التلقين والتعليم، مع جواز القراءة بغيره لتدريب المتعلمين، ولعل نافعا كان متفرغا لأصحاب العرض خاصة من الذين مهروا في القراءة حفظا وأداء، وأما غيرهم فلا يتاح لهم في حلقته أن يأخذوا بحظهم منه، إلا في الآن بعد الآن، ولذلك كان يحيلهم على غيره، لأن أخذ الدور في قراءة العرض كان يتطلب طول صبر وانتظار لكثرة من كان يزدحم على حلقته من أبنائه المهاجرين والأنصار، فضلا عن غيرهم من الغرباء الوافدين من الأقطار، كما سيمر بنا في عرض ورش عليه.
أما مكان تصدره فهو المسجد النبوي الشريف، وكان ما يزال يومئذ على حاله زاخرا بالحلق العلمية، ولذا كان يحرص على أن لا يخل بالمحافظة على ما يقتضيه المقام من جلال، وما يستدعيه وجود حلق أخرى على مقربة منه من عدم تشويش عليها ورفع أصوات، وذلك ما يوحي به هذا الخبر الذي حكاه القاضي عياض عن أحد تلامذة نافع، وهو عبد الله بن نافع الزبيري قال: كنت أقرأ على نافع بن أبي نعيم بعد الصبح، فرفعت صوتي، فزجرني وقال: أو ما ترى مالكا؟، وهو أول ما عرفت به مالكا"(1).
وكان عبد الله بن نافع يومئذ يأخذ القراءة، ولم يجلس بعد إلى الفقهاء، ولذا لم يعرف مالك بن أنس، وسيكون آخر الأمر من جلة أصحابه(2).
__________
(1) - ترتيب المدارك 2/36.
(2) - ترجمة عبد الله بن نافع في أصحاب مالك عند ابن عبد البر في الانتقاء 57 وعياض في ترتيب المدارك 3/145.
(1/334)
وذلك أيضا مشعر بما عهد في نافع من سجاحة خلق اقتضت منه أن يراعي آداب الجوار مع مجاوريه من أصحاب المجالس الأخرى، وكانت سجاحة خلقه هذه بعض ما حببه للناس، وألفه منه الخاص والعام، ولذلك قيل عنه إنه "كان يباسط أصحابه"(1)، وربما قام لمن يستحق التكريم منهم ـ كما ذكر من حاله مع ابن جماز أنه "كان يقوم له، ويرفع قدره، ويجل منزلته، لأنه كان رفيقه في القراءة على أبي جعفر، ثم قرأ عليه"(2).
أما وقت جلوسه للإقراء والأخذ على القراء، فيدلنا الخبر الآنف الذكر عن عبد الله بن نافع أنه يبتدئ بعد صلاة الصبح، وذلك هو الوقت المعتاد الذي درج السلف على استعماله في التعليم والإقراء، لما جاء في حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: "إنما كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقا حلقا، يقرأون القرآن، ويتعلمون الفرائض والسنن"(3).
وسيأتي في أخبار رحلة ورش إليه أنه احتال له للحصول الدائم على فرصة العرض عليه، عن طريق إرشاده إلى المبيت في المسجد، حتى إذا افتتح نافع العرض عليه بعد صلاة الصبح، وأراد إعطاء الدور لمن جاء إلى مجلسه أولا على العادة المتبعة في ذلك، كان أولى من يأخذ الدور من بات بالمسجد، فكان اختيار نافع لهذا الوقت جاريا مع ما كان العمل عليه عند المشيخة، وذلك بعد أن تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة والاستجمام، ومن شأنها حينذاك أن تكون مقبلة غير كليلة، ولا يخفى أن الدرس عند إقبال النفس وإشرافها، أعمق أثرا، وأرسخ منه عند تراجعها وفتورها في آخر النهار.
ذلك مكان مجلسه وزمانه، أما أسلوب الأخذ على أولئك الرواد المزدحمين عليه، فقد كان أيضا خاضعا للتقليد والعرف الجاري في مثل ذلك، وربما كان الأخذ فيه بحصة معينة على كل قارئ مما أملاه واقع هذا الاكتظاظ.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء للذهبي 7/338 ترجمة 121.
(2) - منجد المقرئين لابن الجزري 8-9.
(3) - مجمع الزوائد للهيثمي 1/132.
(1/335)
لقد كان أسلوب العرض على الشيوخ هو المعتمد في الحصول على الاعتراف والإقرار للقراء بإحراز المستوى المطلوب في إجادة القراءة والتمكن من علوم الأداء التزاما وتطبيقا، إلا أن الحصة في ذلك كانت تتناسب مع الحال، فربما زاد عدد ما يسمح به للقارئ البارع عن ما يؤذن به للمبتدئ الشادي، وأكثر ما كان التلقيد الإقرائي، الاقتصار على خمس آيات لكل عارض، وربما زاد إلى عشر بحسب الحال، وتبعا لما جاء في الأثر من ذلك، فقد روى أبو العالية الرياحي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "تعلموا القرآن خمسا خمسا، فإن جبريل نزل به على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسا خمسا".
"وروى عبد الرحمن بن مهدي بسنده عن أبي رجاء(1)قال: "كان أبو موسى ـ يعني الأشعري ـ يعلمنا القرآن خمسا خمسا".
"وعن إسماعيل بن أبي خالد(2)قال: "كان أبو عبد الرحمن ـ يعني السلمي ـ يعلمنا القرآن خمس آيات خمس آيات، قال: "وكان يقرئنا عشرين بالغداة وعشرين بالعشي، ويعلمنا أين الخمس، وأين العشر"(3).
وكان بعض المقرئين يأخذ بنظام العشر، ائتساء بما جاء عن عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب ـ رضي الله عنهم ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه "كان يقرئهم العشر، فلا يجاوزونها إلى غيرها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل"(4).
__________
(1) - هو عمران بن ملحان أبو رجاء العطاردي البصري تابعي من أصحاب أبي موسى الأشعري، عمر عمرا طويلا قيل بلغ مائة وثلاثين. ترجمته في غاية النهاية 1/406 ترجمة 2460.
(2) - هو أبو عبد الله البجلي توفي سنة 145 وكان من تابعي أهل الشام ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار 111 ترجمة 845.
(3) - هذا النقل والنقلان قبله من "رسالة التنبيه على الجهل والخطأ والتمويه للداني (مخطوط).
(4) - الحديث في طبقات ابن سعد 5/172 ـ وجامع البيان للطبري 1/35 وتفسير القرطبي 1/34.
(1/336)
وعلى هذا الأسلوب درج غير واحد من شيوخ نافع، ولعله به أخذ القراءة، وقد جاء عن زميله في القراءة عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما يفيد ذلك من قوله: "كان أبي يقول لعيسى بن وردان: اقرأ على اخوتك كما كان أبو جعفر وشيبة بن نصاح يقرآن على كل رجل، عشر آيات عشر آيات"(1).
وبقي التسنن بنظام العشر شائعا بين القراء، لاسيما في القراءة المتأنية التي يراد بها التمرن على التحقيق وإتقان التجويد، وهذا أبو مزاحم الخاقاني(2)يقول في قصيدته في التجويد، وهو أول من نظم فيه:
وحكمك بالتحقيق إن كنت آخذا على أحد أن لا تزيد على عشر(3)
إلا أن من أئمة القراء من كانت تعرض له حالات خاصة تقتضيه أن يتسامح في الزيادة على هذه الحصة، ولذا قال بعض الأئمة: "إن المعتبر في ذلك حال القارئ من القوة والضعف، قال ابن الجزري: وفعله كثير من سلفنا، واعتمد عليه كثير ممن أدركناه"(4).
وكان في شيوخ نافع من كان يأخذ على أصحابه بحصة زائدة على العشر، فقد كان شيخه مسلم بن جندب مثلا "يأخذ على أصحابه ثلاثين آية صباحا، وثلاثين آية عشية، يقرؤها عليهم ثم يفسرها"(5).
ولعل هذا الذي كان يفعله ابن جندب إنما يدخل في باب السماع، ولا يدخل في العرض، وربما كان يمهد به فحسب ليجعل الجزء المقروء موضوع حديثه في التفسير في حلقته الصباحية والمسائية، ولكنه على أي حال أحد أساليب الإقراء المتبعة في التحمل كما سيأتي.
__________
(1) - غاية النهاية 1/616.
(2) - هو موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان البغدادي الإمام المجود، قال الداني: كان إماما في قراءة الكسائي وقال ابن الجزري "هو أول من صنف في التجويد فيما أعلم" توفي سنة 325. غاية النهاية 2/320.
(3) - هو من قصيدته في "القراء" المعروفة بالخاقانية، وستأتي بعون الله.
(4) - منجد المقرئين 9-10 وغيث النفع للنوري 32-33.
(5) - السبعة لابن مجاهد 59.
(1/337)
ولعل نافعا قد استهوته هذه الحصة التي كان يأخذ بها ابن جندب وأمثاله، فكان يأخذ على أصحابه ثلاثين آية، أي أنه يأذن لكل عارض عليه أن يقرأ ثلاثين آية، ثم يأذن لغيره، ولعله إنما أخذ بهذا النهج نزولا على رغبة العارضين عليه، أو رعاية لحالهم، إذ كانوا ـ كما تدل عليه وقائع العرض في بعض الأخبار ـ من الكثرة بحيث لا يتسع زمن الحصة ليعرض كل واحد منهم على الشيخ ما يشاء، كما لا يتسع أيضا الوقت المخصص ولا القدر المأذون به من القراءة لكل عارض، ليأخذ القرآن كله سماعا أو عرضا مقتصرا على خمس أو عشر حسب النهج القديم، إذ كان انتظار بلوغ الدور في حلقته يحتاج إلى انتظار طويل، فكان أولى إذن أن يخصص لكل عارض قدر معتبر يأخذه عليه الشيخ بمحضر الباقين، فيكون عرضا بالنسبة إليه وسماعا للآخرين، لا سيما مع اعتبار حال الغرباء العارضين عليه من أهل الآفاق، ممن لا تتيح لهم الإقامة المؤقتة بالمدينة أن يقتصروا في الأخذ على خمس أو عشر من الآيات، إذ لا يتاح لهم معه الحصول على العرض الكامل لتمام الرواية ونيل الإجازة بها، ولهذا كان الإمام نافع ربما جرى مع بعض القراء في العرض على نمط خاص لا يتقيد فيه بحصة الثلاثين، رعاية لحال العارض ـ كما سوف نقف عليه في خبر رحلة ورش والطريقة التي سلكها معه في الأخذ عليه.
ولعله رعاية لهذا الحشد الذي كان يلتف على نافع، ولا يدع له الخيار في إيثار من يشاء بالقراءة تجنبا لما قد يثيره من حساسيات بين أبناء المهاجرين والأنصار ممن كانوا يتنافسون في الأخذ عنه، كان بعض الفضلاء من الآخذين عنه من أهل المدينة يحتال للحصول لبعض الغرباء على عرض قدر أكبر ـ كما سوف يمر بنا مع ورش ـ، وذلك عن طريق التنازل للقارئ الضيف عن حصته أو عن جزء منها، ليضيفها إلى حصته حين يأتيه الدور.
(1/338)
وكان في الوافدين على نافع لأخذ القرآن عليه من يأتيه مصحوبا بوصية خاصة من بعض معارفه أو قدامى تلامذته، تسهيلا لمهمته في ذلك، كما في خبر معلى بن دحية المصري الآتي أنه قال:
"سافرت برسالة من الليث بن سعد إلى نافع لأقرأ عليه"(1).
وكان الليث ممن قرأ على نافع، ثم طارت له شهرة في بلده بالإمامة في الفقه والحديث، فكان في كتابه بهذه التوصية إلى نافع بتلميذه ما يشعر بمقدار الحاجة يومئذ في حلقة نافع بسبب هذا الازدحام، إلى وسيلة يتاح معها للوافد أن يحصل على حصص راتبة في العرض والأخذ تحقق غرضه، إذ ربما كان فقدانه لمثلها سببا في حرمانه من ذلك، إذا لم يستطع انتظار الدور في العرض، أو لم يقنع في حصته منه بمقدار الثلاثين آية، ولربما كان هذا هو السبب الحقيقي فيما جاء عن الأصمعي عن أبي حنيفة الإمام الكوفي المشهور (ت 150) أنه "قدم المدينة ليقرأ على نافع، فلم يأخذ عليه"(2).
إذ لم يكن نافع يستطيع أن يؤثر بعرضه من يشاء من أهل المقامات كما كان يفعل نظراؤه من أئمة القراء مثل ما جاء عن حمزة بن حبيب الزيات إمام أهل الكوفة في القراءة من أنه "كان يقدم الفقهاء أولا، فأول من يقرأ عليه سفيان الثوري"(3). ومثل ما كان يفعل أبو عبد الرحمن السلمي ثم تلميذه عاصم حيث "كانا يبدآن بأهل السوق حتى لا يحتبسوا عن معايشهم"(4).
عرض القراءات وأسلوب التلقي التحمل في حلقة نافع:
__________
(1) - نقله ابن الجزري في غاية النهاية 2/304 والونشريسي في المعيار المعرب 12-105.
(2) - غاية النهاية 1/379 ترجمة 1615.
(3) - منجد المقرئين 8.
(4) - المصدر نفسه 8.
(1/339)
أما نافع فقد رتب عملية العرض على سعي العارض بنفسه للحصول على الدور أول الناس، وذلك إما عن طريق التبكير إلى الحلقة، وإما عن طريق المبيت بالمسجد مع الغرباء، وقد اقتضى هذا الازدحام عليه من الراغبين في تحقيق القراءة وأخذها عنه سماعا وأداء، طول الصحبة له واللزوم لمجلسه، حتى كان فيهم على غرار ما سيأتي عن تلميذه وربيبه عيسى بن مينا المعروف بقالون من بلوغ مدة قراءته عليه خمسين سنة(1)حتى قيل له: كم قرأت على نافع؟ فقال: ما لا أحصيه كثرة، إلا أني جالسته بعد الفراغ عشرين سنة(2)ولذلك قال له مرة حين رأى لزومه الطويل له، وآنس منه التبريز في حذق القراءة والأداء، ورأى أن في بقائه على هذه الحال ما يخل بالغرض، واقترح عليه التصدر للتعليم، وإتاحة الفرصة لغيره من الغرباء في حلقة الشيوخ، وقال له: كم تقرأ علي؟ اجلس إلى أسطوانة ، حتى أرسل إليك من يقرأ عليك"(3).
ومعنى هذا انه يرشحه للتصدر، ويريده أن يخفف عنه من وطأة الازدحام، بإرسال بعض من يقرأ عليه إليه، وكانت هذه بداية قالون، ليهيئ نفسه لاقتعاد كرسي المشيخة في هذا الشأن خلفا لشيخه في مستقبل الأيام.
__________
(1) - النجوم الطوالع للمارغني 17.
(2) - غاية النهاية 1/615 ترجمة 2500.
(3) - معرفة القراء الكبار 1/120 ـ والنشر لابن الجزري 1/113.
(1/340)
تلك هي الطريقة التي كانت متبعة في العرض في حلقة نافع، أما طريقة التحمل التي كان يأخذ بها فالظاهر أنها كانت في مجملها مزيجا من السماع والعرض، إلا أن أكثر السماع فيها إنما يكون سماع قراءة بعض العارضين على الشيخ بمحضره، وأما سماع الشيخ نفسه، فيظهر أنه كان نادرا، إلا أن يكون تصحيحا أو توجيها، والأخبار الكثيرة التي تحكي حوادث مجلسه في الاقراء لا تكاد تذكر قراءة الشيخ إلا نادرا، كبعض الروايات التي نجدها عند الأصمعي أو قالون ـ كما سيأتي ـ مما يقول فيه: "سمعت نافعا يقرأ كذا" ولم أقف على خبر فيه قراءة الشيخ في حلقته، ولعل السماع المذكور إنما كان في إمامة الصلوات، إذ كان كما قدمنا إمام المسجد النبوي.
وأحوال التحمل عند أهل الرواية عديدة منها العرض، ومنها السماع، ومنها الإجازة وغيرها، إلا أن أئمة القراء قد اقتصروا منها على الأول، ونبهوا على أن صحة التحمل لا تكون إلا به، وفي هذا يقول الإمام أبو العباس القسطلاني في لطائف الإشارات:
"أعلم ان التحمل والأخذ عن المشايخ أنواع، منها السماع من لفظ الشيخ، ويحتمل أن يقال به هنا ـ يعني في تحمل القراءة ـ، لأن الصحابة إنما أخذوا القرآن من في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكن لم يأخذ به أحد من القراء، والمنع ظاهر، لأن المقصود هنا كيفية الأداء، وليس كل من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته، بخلاف الحديث، فإن المقصود به المعنى، أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القراءة... ومنها قراءة الطالب على الشيخ، وهو أثبت من الأول وأوكد"(1).
__________
(1) - لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1/181 ومثله في فتاوي ابن تيمية 18/28-31.
(1/341)
فاتباع نافع لأسلوب العرض لتمام التحمل، بعد أن يكون القارئ قد سمع القراءة من الشيخ وغيره بمحضره وتمرن في حلقته على حسن أدائها، هو الأسلوب المأخوذ به عند أئمة القراء خلفا عن سلف، للحصول على الاعتراف من الشيوخ، ولتمام الأهلية للتأدية عنهم فيما سبيله الرواية والنقل، وهذا النمط من التحمل أوثق وجوهه كما قدمنا، وفيه أيضا إبقاء الفسحة للقارئ في وجوه الأداء، ليقرأ منها بما مرن عليه لسانه، دون إلزام من الشيخ له ببعض تلك الوجوه، طالما أنها تدخل في إطار الضوابط المصححة للقراءة المتلقاة بالقبول عند أئمة القراء.
على أن من طالت صحبتهم لنافع كتلميذه قالون قد حرصوا على أن يأخذوا عنه القراءة بالطريقتين السماع والعرض، كما ضبطوها عنه أيضا بالتدوين والكتابة، وتحققوا من اختياراته فيها، فكانوا بحق الممثلين لمدرسته بالمدينة، والقائمين بها من بعده على أوفى ما كان قائما بها في زمنه.
وفي هذا يقول قالون ـ فيما أخرج ابن الأنباري في الإيضاح بسنده عنه ـ "قرأت على نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ هذه القراءة غير مرة، وأخذتها عنه"(1).
وفي لفظ عند ابن الجزري "قرأت على نافع قراءته غير مرة، وكتبتها في كتابي"(2). بل ان قالون قد أخذ عنه أيضا قراءة أبي جعفر كما قدمنا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بسماعها من نافع، وهذا من أوثق الأدلة على أنه أخذ عنه القراءة سماعا من لفظه، ثم زاد فعرضها عليه.
__________
(1) - إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/111.
(2) - غاية النهاية 1/615.
(1/342)
على أن هذا الذي تم لقالون لا يخرم القاعدة التي رأينا نافعا يأخذ بها، إذ كان عامة أهل العلم في زمنه يسلكون ذات الطريقة، لعدم قدرة المشايخ على القراءة لكل قارئ على حدة، بل أخذوا بطريقة المحدثين والفقهاء، الذين كانوا يستمعون إلى ما يقرأ أمامهم من الآثار في مؤلفاتهم، ثم يجيزون بها القارئ والسامع، إذا استثنينا ما ذكرناه من خصوصية اعتماد القراء على قراءة القارئ نفسه على الشيخ في أثناء العرض ـ، وقد روى الحافظ أبو عمر بن عبد البر بسنده عن ابن القاسم وابن وهب كلاهما عن مالك أنه قيل له: "أرأيت ما عرضنا عليك، أنقول فيه: حدثنا؟؟ قال: نعم، يقول الرجل إذا قرأ على الرجل أقرأني فلان، وانما قرأ عليه"(1).
وقال مالك أيضا حين سأله تلميذه وتلميذ نافع: إسماعيل بن أبي أويس المدني عن صحة التحمل بمثل ذلك:
"ألست أنت قرأت على نافع؟ وتقول: أقرأني نافع"(2).
فهذا كله يدل على أن طريقة التحمل عن القراء، إنما كانت في جملتها تعتمد العرض بعد أن يكون الطالب قد سمع قراءة الشيخ منه، أو من غيره بمحضره، وذلك ما يشهد له واقع الحال بالنظر إلى وفرة من كان ينتظر الدور في كل صباح ليأخذ بحظه من الشيخ، إذ لا يستطيع بغير ذلك أن يأخذ على كل قارئ كما لا يسوغ للقارئ أن يقول: هذه قراءة فلان إذا لم يكن قد أخذها بمحضره، ثم زكاها بعرضها عليه، وإقراره له عليها، ليكون ذلك بمثابة الشهادة له بإتقانها، وبه تحصل له الأهلية لروايتها ونسبة القراءة بها إليه.
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/178.
(2) - نفس المصدر والصفحة.
(1/343)
وسيأتي في خبر رحلة ورش إليه ما يصور مبلغ التنافس بين طلبته من المهاجرين والأنصار على أخذ الدور والحصول على فرصة العرض المبكر بعد الصبح، مما يدل على المستوى الرفيع من التعامل الذي كان يأخذ به الشيخ في حلقته، ولهذا كان ذيوع صيت هذه الحلقة في الأمصار الإسلامية كثيرا ما يهيج أشواق كبار القراء في عهده، ويحفزهم على التفكير في شد الرحال إليه للتشرف بمثل هذا العرض، لاسيما بعد أن تقدمت السن بالشيخ، وأصبحت روايته من أعلى الروايات في زمنه، وبعد أن ذاع صيت الإمام مالك أيضا لهذا العهد، فأصبح الوارد على المدينة يجمع بين الروايتين: رواية القراءة ورواية الفقه عن إمامي دار الهجرة فيهما، ولقد كان الألم يحز في نفوس بعض الطلاب الذين كانت تضيق أيديهم عن نفقة البلاغ إلى هذه الديار، كما نقرؤه عن راوية القراءات في زمنه أبي عمر حفص بن عمر الدوري ـ أول من جمع قراءات الأمصار الخمسة مشهورها وشاذها رواية وحفظا ـ(1)، إذ يعبر بمرارة عن ما فاته من الرحلة إلى نافع في حياته، فيقول: "قرأت على إسماعيل بن جعفر بقراءة أهل المدينة ختمة، وأدركت حياة نافع، ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت إليه"(2).
وهي شكوى تصور مبلغ الحسرة على ما فاته من الرواية المباشرة عن الشيخ في حياته(3).
__________
(1) - أبو عمر الدوري أحد راويي قراءة أبي عمرو بن العلاء، وهو أول من جمع القراءات السبع رواية وحفظا، ومن طريقه يرويها أبو بكر بن مجاهد في كتاب السبعة، وكان الدوري ضرير البصر، أعجوبة في الحفظ، توفي سنة 246 ببغداد. ترجماته في معرفة القراء الكبار 1/157-158 – وغاية النهاية 1/255-257.
(2) - معرفة القراء الكبار 1/158.
(3) - وهو دليل على أنه روى عن نافع بواسطة إسماعيل، وقد رأيت في كتاب "قراءات القراء المعروفين" للأندرابي ص 54-55 سقوط اسم إسماعيل بين الدوري ونافع، فيكون خطأ من الناسخ أو الطابع.
(1/344)
تلك حال حلقته العامرة التي كانت ـ كما سيأتي ـ ملتقى للطلاب من أطراف البلاد، فما الذي أعطى لقراءته كل هذا الاعتبار؟ وما الذي جعلها على الأخص تحظى بمثل هذا الإكبار؟ وما منزلة اختياراته فيها بين اختيارات أئمة الأمصار؟ وما عناصرها الأساسية ومعالمها الواضحة؟؟.
ذلك ما سنحاول التعريف به، مبتدئين ببيان العوامل والأسباب التي كانت تقتضي من أئمة القراء أن يلجأوا إلى "الاختيار" بين المأثور من القراءات.
ثانيا: دواعي الاختيار والمفاضلة بين الروايات:
نزل القرآن الكريم "بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء"(1)، ولكن أذن في قراءته للأمة بلغاتها العربية، تيسيرا عليها، لاختلاف ديارها وقبائلها وتباين لهجاتها وألسنتها، ولما في حملها على القراءة بما لا تطوع به ألسنتها من المشقة عليها "إذ لو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه ذلك إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه، أن يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين"(2)، فأذن بقراءة القرآن الكريم على سبعة أحرف كما ثبت بذلك الحديث المتواتر بنزول القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف(3).
__________
(1) - نقله أبو شامة عن بعض الشيوخ ونقله عنه السيوطي في الإتقان 1/47
(2) - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 30.
(3) - تقدم ذكر تواتر الحديث نقلا عن أبي عبيد.
(1/345)
والأحرف السبعة على المختار في تأويلها هي الصورة الإجمالية لأنماط التغاير التي يندرج فيها جميع ما يقع بين القراء من وجوه الاختلاف على تشعبها وكثرتها(1)، وهو اختلاف مشروع يرجع في حقيقته إلى التنوع في كيفية الأداء، ويدخل في باب إعجاز القرآن من حيث ورود اللفظ منه بصورة واحدة في الخط في الغالب، مع احتماله لكثير من الأوجه القرائية، فضلا عن الدلالات المعنوية التي قد تتنوع بتنوع الأداء والأحرف التي يقرأ بها(2). فالاختلاف في هذا ونحوه إنما هو اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، لأنه يقوم على الرخصة الشرعية في القراءة حسب الأحرف السبعة والأوجه المتواترة والمشهورة الجارية على ألسنة العرب الفصحاء.
وإلى أصل الاختلاف يشير ابن الجزري بقوله:
... وأصل الاختلاف أن ربنا أنزله بسبعة مهونا(3)
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى محاولات بعض الأمثلة لاستيعاب مظاهر الاختلاف بين القراءات في سبعة أنواع من التغاير منها محاولات ابن قتيبة – تأويل مشكل القرآن 28-29 –ومحاولة ابن عطية نقلا عن قاسم بن ثابت السرقسطي صاحب "الدلائل" – المحرر الوجيز 1/22. – ومحاولة الباقلاني – نكت الانتصار 120-123 – ومحاولة ابن الجزري – النشر 1/27-28 وينظر القرطبي 1/30 والبرهان للزركشي 1/214 والإتقان 1/132.
(2) - يمكن الرجوع في هذا إلى البرهان للزركشي 1/326 والنشر 1/29-30.
(3) - طيبة النشر لابن الجزري – مجموع إتحاف البررة بالمتون العشرة 169.
(1/346)
ومن المعلوم أن الأخذ بموجب هذا الترخيص في قراءة التنزيل بأكثر من حرف قد أدى ابتداء من العهد المدني في زمن النبوة، وفي أثناء خلافة الراشدين، إلى تيسير القراءة وتجاوز مشكل اللهجات المختلفة بين عرب الجزيرة العربية، إلا أنه من جهة أخرى قد عمل مع الزمن على اتساع شقة الخلاف بين قراء الأمصار الإسلامية عقب الفتح، ولاسيما بعد فتح الشام والعراق، وازدياد عمرانها، حتى تجاوز الأمر الحد المأذون فيه، وكاد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين القراء في معسكرات الجند في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ مما حفزه بدعوة من حذيفة بن اليمان إلى تدارك الموقف قبل استفحال الخطر، فجمع من عنده من الصحابة بالمدينة، وأمر بجمع الناس على قراءة واحدة، في مصحف واحد يكتب على لغة قريش وما وافقها في الخط، ويقرأ على حسب العرضة الأخيرة التي عرضها قراء الصحابة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقرأ بها الجماعة(1)مما لا نحتاج إلى الدخول في تفاصيله، لتكفل عامة كتب التفسير والقراءات ببيانه.
وقد قدمنا شيئا من الحديث عن الخطة التي نهجتها لجنة التدوين في هذا الجمع، وكيف كتبت المصحف بطريقة ذكية، يتأتى فيها جمع ما تواتر من أحرف القراءات أو اشتهر في صورة من الخط يتاح معها لكل قارئ أن يقرأ بقراءته، دون أن يخرج عن المرسوم في المصحف الذي جعلوه "إماما" للناس، فسمي بالمصحف العثماني كما سمي بالمصحف "الإمام". ولهذا جردوه من علامات الإعجام ليتأتى احتواؤه لجميع ما وافق خطه مما صح من وجوه القراءات، ووقائع هذا المشروع وتفاصيله مشهورة لا نطيل بعرضها، وقد روى عمر بن شبة خبرا مفيدا في هذا الباب رأيت أن أسوقه بتمامه لطرافته ودقة تفاصيله، فأخرج بسنده عن أبي محمد القرشي:
__________
(1) - يبطر في هذا مقدمة كتاب جامع البيان لأبي عمرو الداني تحت عنوان "الأحرف السبعة للقرآن" تحقيق عبد المهيمن طحان 46-47.
(1/347)
"أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى الأمصار: أما بعد فإن نفرا من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافا شديدا، فقال بعضهم: قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم: قرأت حرف عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم: قرأت حرف عبد الله بن قيس(1)فلما سمعت اختلافهم في القراءة، والعهد برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث، رأيت أمرا منكرا، فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين قرأوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى بن مريم، فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ أن ترسل إلي الأدم(2)الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه، وإذ القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفرا من كتاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طريف وعبد الله بن الوليد الخزاعي وعبد الرحمن بن أبي لبابة(3)، فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف، وأن يتحفظوا"(4).
__________
(1) - هو أبو موسى الأشعري عامل عمر وعثمان على البصرة.
(2) - الادم: جمع أديم وهو بفتحتين، والمراد به الجلد المكتوب فيه – المختار من صحاح اللغة 210.
(3) - نافع بن طريف ـ كذا ـ ولعل الاصح نافع بن ظريب، ذكره ابن دريد في كتاب الاشتقاق 69 وقال نافع ابن ظريب بن عمرو بن نوفل من بني نوفل بن عبد مناف، هو الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب". أما صاحباه فلم أقف عليهما، وهما على كل حال غير اللجنة الرباعية، التي عهد إليها عثمان برئاسة زيد.
(4) - تاريخ المدينة المنورة لابن شبة 3/997-998.
(1/348)
وقد قدمنا أن إنجاز المشروع العثماني انما جرى بعد اشتهار قراءات طائفة من الصحابة بالأمصار، ممن أرسلوا إليها في زمن عمر وغيره في إطار البعثات الرسمية ـ كما قدمنا ـ ومنهم الثلاثة الذين ذكر ابن شبة في خبره وغيرهم، وقد جمع أبو عمرو الداني مشاهيرهم في قوله في "الأرجوزة المنبهة":
وأقرأ الناس بغير الدار من المهاجرين والأنصار
جماعة بالشام والعراق لما توجهوا إلى الآفاق
فقام بالكوفة عبد الله ثم علي الرفيع الجاه
وقام بالبصرة الأشعري ... وهو أبو موسى الرضا الزكي
وقام بالشام أبو الدرداء عويمر ذو الفهم والذكاء
... وقبله فيها معاذ قاما مفقها ومقرئا أعواما
فهؤلاء المتصدرونا بهذه الأمصار والمفتونا(1)
كما قدمنا أن عثمان لما نسخ المصحف بعث منه إلى كل مصر من الأمصار المشهورة بنسخة، وأنه انتدب مع كل مصحف قارئا يقرئ الناس بمضمنه، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد قيس مع البصري"(2).
وبوصول المصاحف العثمانية إلى تلك الأمصار، أصبح القراء والمقرئون مدعوين رسميا إلى إعادة النظر في كثير مما كان متداولا بينهم من حروف القراءة، وأمسى على كل قارئ أن ينزل على مذهب الجماعة في حرفه الذي يقرأ به، "فلما ردوا إلى خط المصحف، التزموا ذلك فيما كان محفوظا، وقرأ كل واحد بما كان عنده ملفوظا مما لا يعارض خط المصحف"(3).
__________
(1) - الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات للداني (مرقونة بالآلة) تحقيق الدكتور وكاك.
(2) - الخبر في جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد للجعبري (مخطوط)، ومناهل العرفان للزرقاني 1/396-397.
(3) - العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي 2/203 طبعة الجزائر.
(1/349)
وهكذا كان عمل عثمان في أوانه حسما للمشكلة من أساسها، وقطعا للخلاف من أصله، وحفظا وصيانة لنص القرآن من الزيادة والنقصان.
ولما كانت قراءة قراء الصحابة المشهورين ممن قدمنا أسماء بعضهم قد انتشرت في عامة الأمصار الكبرى، واتسع جمهور الآخذين بها قبل أن يرسل عثمان بالمصاحف الرسمية إليها، كان لا بد من مواصلة الخلافة لرعاية هذا المشروع والسهر على تنفيذ خطته لتحقيق أهدافه في توحيد القراءة على النص المكتوب، ومن ثم كانت الخطوة الثانية بعد إرسال المصاحف ووضعها في المتناول بالمساجد الجامعة بالأمصار، العمل على مصادرة عامة المصاحف الأخرى السابقة عليها وخرقها أو إحراقها، والدعوة بكل وسيلة إلى الاقتصار على مصحف الجماعة أو "المصحف الامام"، ليكون عمدة للناس، ومرجعا لهم عند الاختلاف، وأخذ القراء بالتزام ذلك، والتخلي عن القراءة بغيره مما يخالف المرسوم فيه.
ولقد قام القراء المبعوثون بالمصاحف الرسمية بجهود كبيرة في الأمصار لتلقين قراءة الجماعة وحدها، وإحلالها محل الحروف التي كانت سائدة بها، وكان أكثر هذه الأمصار جمهورا في ميدان القراءة، مدينة الكوفة، إذ كانت قراءة ابن مسعود فيها من الشهرة والانتشار، بحيث لا تزاحمها قراءة أخرى، وكان أصحابه في الصدر الأول جمهورا واسعا كما قال فيهم سعيد بن جبير: "كان أصحاب عبد الله مصابيح هذه القرية"(1)، ولذلك لم يستسغ جمهور قرائها ما دعوا إليه من التخلي عن قراءة إمامهم ومصحفه، والرجوع إلى قراءة زيد والجماعة، على الرغم مما بذله قارئ المصر أبو عبد الرحمن السلمي مبعوث عثمان، الذي جلس للناس يقرئ القراءة العثمانية بالمسجد الجامع بالكوفة من عهد تدوين المصاحف في أول زمن عثمان، إلى زمن امارة الحجاج على العراق حتى توفي(2).
__________
(1) - الطبقات الكبرى لابن سعد 6/10.
(2) - ينظر السبعة لابن مجاهد 67-68 ومعرفة القراء الكبار 1/46.
(1/350)
فمع هذا الجهد ظل المقام الأول في هذه المدينة لقراءة ابن مسعود، وبقيت قراءة زيد والجماعة فيها محدودة تكاد تختص بالجهاز الرسمي، وقد قدمنا قول سليمان بن مهران الأعمش (ت 148هـ) : "أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد فيهم، إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرأ بها إلا الرجل والرجلان"(1).
ولقد أشرنا في صدر هذا البحث إلى بعض جهود الحجاج عامل الأمويين في تعميم المصحف العثماني، ونزيد هنا فيما يخص قراءة ابن مسعود ومصحفه، أنه تصدر لهما وعمل على استئصال شأفتهما بكل سبيل، حتى انه نعت في خطاب له ألقاه بالمسجد الجامع بالكوفة ـ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بـ"عبد هذيل" وقال: "يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله على نبيه عليه السلام(2).
ولا شك أن الحجاج كان يعالج الأمر من منطق سياسي محض، إذ كان يرى في الانحراف عن مصحف عثمان انحرافا عن الخليفة نفسه ثم عن أوليائه القائمين بعده من بني أمية، فالولاء للبيت الحاكم هو الذي أملى عليه هذا الحرص، ودفعه في هذا الطريق، وكان كما قيل عنه: "يتقرب إلى بني أمية، ويمت إليهم بكل حيلة"(3)، فمن هنا كان نيله من ابن مسعود وقراءته "وكان يعاقب عليها"(4)وكان ذلك مما اضطر بعض أصحاب عبد الله إلى إخفاء مصاحفهم ودفنها زمن الحجاج كما فعل الحارث بن سويد التيمي(5).
__________
(1) - السبعة في القراءات 67.
(2) - سنن أبي داود 2/514.
(3) - نكت الانتصار للباقلاني 398.
(4) - التمهيد لابن عبد البر8/298.
(5) - ذكره الزمخشري في تفسير سورة الفتح من الكشاف 3/540.
(1/351)
ويذكر المؤرخون أن الحجاج قد تمادى في تعقب المصاحف المخالفة لمصحف عثمان، لا في الكوفة وحدها قاعدة امارته، بل في كل مكان له عليه سلطان، ومن ذلك أنه أنشأ في البصرة لجنة خاصة من القراء، لمتابعة هذه القضية "فوكل عاصما الجحدري(1)وناجية بن رمح وعلي بن أصمع ـ عم أبي الأصمعي ـ(2)، بتتبع المصاحف، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحف وجدوه مخالفا لمصحف عثمان ـ رضي الله عنه وأن يعطوا صاحبه ستين درهما"(3).
ومهما تكن نية الحجاج والحوافز التي بعثته على عمله هذا، فإن المستقبل قد كشف عن سداد موقفه من المصاحف المخالفة، ووافقه على ذلك جمهور العلماء، يقول الإمام أبو بكر الباقلاني في تقويم موقفه هذا:
"وقد أصاب الحجاج، وتوعد من يقرأ بما ينسب إلى عبد الله مما لم يثبت ولم تقم به حجة، فيعترض به على مصحف عثمان الذي ثبت عليه الإجماع"(4).
القراءة المعتبرة والقراءة الشاذة، وظهور اختيارات الأئمة
وهكذا وبفعل الجهود الرسمية وغيرها كان لا بد أن تتغلب القراءة الجماعية، وأن تحظى بالنصيب الأوفر من القراء في عامة الأمصار، وأن يتقلص حجم القراءات المخالفة إلى أن تتوارى في نطاق ضيق جدا، حتى لا يقرأ بها إلا طبقة خاصة لها ولوعع بالغرائب، أو تروى على أنها "قراءات شاذة" يستعان بها في التفسير ويستشهد بها علماء النحو واللغة.
__________
(1) - هو أبو المجشر البصري قرأ على الحسن ونصر بن عاصم توفي سنة 128. ترجمته في طبقات ابن سعد 7/235 وغياية النهاية 1/349 ترجمة 1498.
(2) - كذا عند ابن قتيبة، وفي كتاب مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي 105 انه جد أبي الأصمعي.
(3) - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 37.
(4) - نكت الانتصار للباقلاني 382-383 – وينظر رأي أبي حيان فيما ينسب إلى ابن مسعود من الحروف في البحر المحيط 1/161.
(1/352)
إلا أن أئمة القراء بالأمصار سرعان ما عمدوا إلى قراءاتهم التي وقع الأمر بالتخلي عنها في الجملة فقرأوا بما يوافق خط المصحف الإمام من حروفها، وتركوا ما سواه، ونقل الرواة عنهم هذه الحروف، وقرأوا بها وكان للقراء السبعة في الأمصار الخمسة النصيب الأكبر من الفضل في تحرير الروايات، وتنقيح المشهور السائر من غيره، فقاموا في ذلك بتصحيح المسار العريض الذي سارت فيه قراءة الجماعة، ورسموا المعالم المعتبرة للقراءة المقبولة المستجمعة للشروط، وقد وجدوا أنفسهم إزاء رصيد كبير من الروايات الواردة في حروف القرآن، وهو رصيد ظل يتنامى مع الزمن بفعل التلاقح بين قراءات الأمصار، وتبادل الروايات، وكان تعدد مصادر الأخذ في المصر الواحد في مجال القراءة من شأنه أن يحدث بلبلة بين الرواة، فكيف يكون الأمر حين تتلاقى جميع الروايات الوافدة من باقي الأمصار؟ وهو شيء كان يغري طائفة من القراء المختصين بتتبع روايات حروف القراءة، ما اشتهر منها وما شذ، وما شاع منها وما ندر، وما له سند قوي وما ضعف، وكان من ثمرات هذا السعي في الجمع والتدوين، بروز طبقة من الرواة في زمن التابعين ممن تجردوا للقراءة خاصة، ورحلوا في تتبع حروفها والعناية بها، فلاحظوا مقدار الحاجة إلى إعادة النظر في المعايير التي تقبل بها الروايات في حروف القراءات، وتبينوا أن مجرد موافقة القراءة لرسم المصحف لم يعد وحده كافيا، ولا مغنيا عن الركن الركين فيها، وهو تواتر النقل بها، أو اشتهارها واستفاضتها عند أهل هذا الشأن، ولاسيما لما ظهرت في أوائل المائة الثانية الانتماءات الحزبية، وأرادت استغلال حروف القراءة لتأييد نظرياتها ومذاهبها الكلامية، فأدى ذلك إلى وضع ما لا يعرف عن أحد من أئمة السلف، "وكثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، فقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته وفاقا لبدعتهم"(1)
__________
(1) - لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1/766 نقلا عن مقدمة تفسير الإمام الكواشي.
(1/353)
وفي كتاب "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لأبي محمد عبد الله بن قتيبة ذكر لأمثلة حافلة لهذه القراءات المزورة على وفاق المذاهب الزائغة، وكلها مطابقة لرسم المصحف(1).
وهكذا ازدادت الحاجة إلى أهل الثقة والأمانة والصدق من أهل القرآن، ليقوموا بتهذيب القراءات، وتنقيح الروايات، ومن هنا توجهت الأنظار إلى فئة خاصة في كل مصر "تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل، وحسن الدراية وكمال العلم، أفنوا أعمارهم في القراءة والإقراء، واشتهر أمرهم، وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا، والثقة بهم فيما قرأوا، ولم تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم"(2).
__________
(1) - نشر بتحقيق محمد زاهد الكوثري – مطبعة السعادة بمصر 1349 هـ.
(2) - لطائف الإشارات 1/766 – ومنجد المقرئين 32.
(1/354)
وكان على أولئك الأئمة أن يبادروا إلى تدارك ما اتسع من شقة الخلاف فيما يحتمله الرسم، حتى لا يزداد الأمر تفاقما بمضي الزمن، وتدخل في القراءة حروف لا أصل لها، فأخذ كل إمام في مصره يجري على رواياته في حروف القراءة مزيدا من التنقيح والتمحيص، تحريرا لها من الزائف والضعيف، ولم يعد القارئ يكتفي في هذا الطور من أهل هذا الرعيل الطيب بأن يظل بمثابة الصدى لشيوخه الماضين يروي رواية كل شيخ منهم على حدة كما تلقاها عنه، ثم ينقلها نقلا أمينا إلى أهل زمنه، بل أصبح مدعوا إلى إجراء عملية استقراء لمحفوظاته منها، ودراستها دراسة متأنية، لاختيارأوثق وجوهها سندا، وأوسعها شهرة واستفاضة، وأفصحها لغة وأداء، وأقواها تأويلا واعتبارا، وأجراها على قراءة الجماعة ورسم مصحفها، وهكذا "تركوا من قراءاتهم التي كانوا عليها ما يخالف خط المصحف، فاختلفت قراءة أهل الأمصار لذلك،... وسقط من قراءتهم كل ما يخالف الخط، ونقل ذلك الآخر عن الأول في كل مصر، فاختلف النقل لذلك حتى وصل إلى هؤلاء السبعة، فاختلفوا فيما نقلوا، واختلفت أيضا رواية من نقلوا عنه لذلك، واحتاج كل واحد من هؤلاء القراء أن يأخذ مما قرأ وبترك"(1).
وهذا الأخذ والترك كان وفق معايير خاصة، وحسب أصول مجمع عليها بين السلف، وهو المراد عندهم في الاصطلاح باسم "الاختيار"، وعلى أساسه تقوم مادة القراءات، وعليه المدار في تلك الكيفيات من التلاوة والأداء التي تضاف إلى القراء وتمهر بأسمائهم، فيقال اختيار نافع واختيار ابن كثير وحرف حمزة إلخ، وكلها إنما تعني أمرا واحدا، هو هذا الذي ينتهي إليه الشيخ من استعراض رصيده من الروايات والآثار، وأخذه منها بما يختاره من الوجوه، وفي هذا المعنى يعطينا ابن الجزري هذا التحديد لطبيعة الاختيار حينما ينسب إلى قارئ من القراء، فيقول:
__________
(1) - الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب 14.
(1/355)
"معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة أو غيرهم، إنما هو من حيث أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم، المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسب ما قرأ به، فآثره على غيره، ودام عليه ولزمه حتى اشتهر به وعرف به وقصد فيه، وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد"(1).
أطوار ومراحل تكون القراءة قبل استقرارها على الوجوه الرسمية التي اختارها الأئمة:
وبهذا يتضح أن الأطوار التي مر منها علم القراءات هي الأطوار الثلاثة التي مر منها غيره من علوم الرواية كالتفسير والفقه والحديث، وأن ما انتهى إليه القراء من هذه الاختيارات التي تنسب إلى أئمة القراء بالأمصار، شبيهة في صورتها بالاختيارات التي تنسب إلى أئمة الفقه مثلا في صورة "مذاهب" فقهية تعزى إلى أئمة الأمصار، وباستقراء هذه المراحل يتبين أنها مراحل ثلاث:
أ مرحلة السمع، وتبتدئ بالسماع والتلقي مباشرة عن مشكاة النبوة من لدن رواة العلم الذين سمعوا القرآن غضا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم من لدن من سمع منهم من التابعين.
ب مرحلة الجمع، وهي المرحلة الموالية، وقد مثلها كبار رواة العلم من أئمة التابعين من القراء والفقها فكان عملهم منصبا على جمع الأحاديث والآثار الواردة في القراءة والتفسير ونحو ذلك عن مصادرها التي أخذت عن المصدر الأول.
__________
(1) - أصل هذا النص لأبي عمرو الداني في أول جامع البيان – ينظر في القسم المنشور منه تحت عنوان "الأحرف السبعة للقرآن" ص 61 تحقيق عبد المهيمن طحان. ونقله ابن الجزري في النشر1/52.
(1/356)
ج- مرحلة التحرير والتمحيص وتهذيب الروايات والآثار بالنظر في معانيها وتأويلها، ودرجة ثبوتها، ومعرفة صحيحها وسقيمها، واستنباط القواعد والأحكام منها، وتدوين الاختيارات الخاصة بكل إمام، وهي الاختيارات الكبرى التي تعزى إلى الأئمة المجتهدين في المجالين الفقهي والقرائي، وهي أيضا تمثل ثمرة مجهود كبير استفاد فيه الخلف من السلف، وزادوه تحريرا وضبطا وتهذيبا، وإلى هذه المراحل الثلاث أشار بعض الفقهاء بقوله:
فأول سمع والثاني جمع وثالث حرر فقها يتبع(1)
وكما أن علماء أصول الفقه قد استنبطوا للفقه قواعد نسجوا على منوالها، فقد استنبط علماء أصول القراءات أصولا للقراءات جعلوها معايير للقبول والرد، أشار إلى عناصرها الإمام مكي بن أبي طالب فقال:
"وهؤلاء الذين اختاروا إنما قرأوا لجماعة وبروايات، فاختار كل واحد مما قرأ وروى قراءة تنسب إليه بلفظ "الاختيار"، وقد اختار الطبري وغيره(2)، وأكثر اختيارهم إنما هو في الحرف إذا اجتمعت فيه ثلاثة أشياء:
أ قوة وجهه في العربية.
ب موافقة المصحف.
ج- اجتماع العامة عليه.
"والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك عندهم حجة توجب الاختيار، وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق عليه نافع وعاصم، فقراءة هذين الإمامين أولى القراءات وأصحها سندا، وأفصحها في العربية، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو بن العلاء والكسائي"(3).
__________
(1) - انتصار المجتهد لمحمد العربي بن البهلول 41.
(2) - ينظر أهل الاختيار للحروف في المنبهة للإمام الداني.
(3) - الإبانة لمكي 89 ومثله في البرهان للزركشي 1/331.
(1/357)
وهذا التقويم الذي ذكر مكي ـ رحمه الله ـ، وإن كان مستقى من مناهج أئمة القراء الذين كانت لهم اختيارات بعد زمن السبعة، بعد أن أصبحت قراءاتهم نماذج تحتذى في مجال الموازنة بين أوثق وجوه القراءات، فإنه مع ذلك يرسم لنا الإطار الذي اختار السبعة أنفسهم في ظلاله، "حيث قام كل فرد من القراء في تلكم الفترة بالنظر فيما روى من حروف قرائية مختلفة، واختار من بينها حروفه، على أساس من مقياس معين انتهجه في الموازنة والاختيار قد يرجع إلى مستوى وثاقة السند، وقد يرجع إلى قوة الوجه في العربية، وقد يرجع إلى مطابقة الرسم، وربما رجع إلى عوامل أخرى، ثم بعد اختياره يتبناه، فينسب إليه، ويسمى اختياره حرفه، وفي ضوئه نستطيع أن نعرف "الاختيار" بأنه: الحرف الذي اختاره القارئ من بين مروياته، مجتهدا في اختياره"(1).
فإذا كان هذا منهج عامة أصحاب الاختيارات، فما هي المعالم التي تحدد اختيارات الإمام نافع خاصة؟ وهل اكتفى بالمعايير الثلاثة التي حددها الإمام مكي بن أبي طالب، أم تجاوزها إلى اعتبار عوامل أخرى معها كما ذكر الفضيلي؟؟
عناصر الاختيار عند الإمام نافع كما تستقرأ من أخباره وأقوال الأئمة عن قراءته:
سلك الإمام نافع في اختياراته في القراءة ذلك المنهج نفسه الذي سلكه أئمة الاختيار من أهل الأمصار، وسار على الطريقة نفسها، إلا أن نافعا في شروطه في الاختيار كان أكثر صرامة من غيره من قراء الصدر الأول ـكما سنرى ـ، ولاسيما من جهة النظر في الأسانيد، فلذلك اعتبروا قراءته وقراءة عاصم أولى تلك القراءات وأصحها سندا كما قدمنا. ونجمل فيما يلي أهم عناصر الاختيار عنده في النقط التالية:
1- اعتماده على الرواية والنقل في اختياراته، لا على الاستحسان والقياس.
2- اشتراطه توافر عنصري الثقة والضبط في الرواة مع سلامة الذمة من الخوارم.
__________
(1) - القراءات القرآنية للدكتور عبد الهادي الفضيلي 105.
(1/358)
3- توافر الاستفاضة والشهرة في الحرف المختار وعدم شذوذه ومخالفة الجماعة.
4- موافقة الوجه المختار في القراءة والأداء للمرسوم في المصحف "الإمام".
5- أن يكون الوجه المختار فصيحا مأنوسا، بعيدا عن التقعر والتكلف والتأويل البعيد في معناه.
ولكي نتبين منهجه واضحا في تطبيق هذه العناصر، يجدر بنا أن نقف معه على كل عنصر منها، لنرى كيف استوفاه في اختياراته، حتى انتهى إلى جمع ما تواتر في حرفه من وجوه واختيارات في أصول الأداء وفرش الحروف.
أولا: ففيما يخص اعتماده في اختياره على الرواية والنقل عن المشايخ، لا على الاستحسان الشخصي، أو القياس اللغوي والنحوي، نحا نافع منحى سلفه من الأئمة الذين أخذوا القراءة عن الصحابة مباشرة، وسلك سبيل أمثاله من أئمة الأمصار في تحري الاستفاضة والنقل الصحيح السائر الذي عليه الناس، دون الغريب النادر الذي لا يثبت في الأثر والرواية، وهو المنهج العام الذي عبر عنه شيخ قراء بغداد في زمنه أبو بكر بن مجاهد في كتاب "جامع القراءات" بقوله: "ولم أر أحدا ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية، يرخصون لأحد في أن يقرأ بحرف لم يقرأ به أحد من الأئمة الماضين، وإن كان جائزا في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه أشد النهي، ويروون الكراهية له عمن تقدمهم من مشايخهم، لئلا يجسر على القول في القرآن بالرأي أهل الزيغ، وينسبون من فعله إلى البدعة والخروج عن الجماعة، ومفارقة أهل القبلة، ومخالفة الأمة"(1).
ويقرر مثل ذلك الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره في غير موضع حين يتعرض لذكر ما لم يصح عنده من القراءات فيقول: "وغير جائز في القرآن أن يقرأ بكل ما جاز في العربية، لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية، وجاء به السلف على النحو الذي أخذوه عمن قبلهم"(2).
__________
(1) - نقله الإمام الونشريسي في المعيار المغرب 12/162.
(2) - جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 2/146.
(1/359)
ولم يكن الإمام نافع في رفضه لاستعمال القياس فيما سبيله الرواية، بدعا في أئمة القراء المعتمدين، فالنقول المستفيضة عن نظرائه من باقي السبعة كلها تنعى على اعتماد القياس في كتاب الله، وهذا سفيان الثوري يقول عن شيخه حمزة بن حبيب: "ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر"(1).
وهذا شيخ أئمة اللغة وسيد القراء بالبصرة أبو عمرو بن العلاء يقول: "ما قرأت حرفا من القرآن إلا سماعا وإجماعا من الفقهاء، وما قلت فيه برأي، إلا حرفا واحدا، فوجدت الناس قد سبقوني إليه"(2).
وقال الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: "وبركنا عليه"(3)في موضع، "وتركنا عليه" في موضع أيعرف هذا ـ يعني بالقياس ـ؟ قال: ما يعرف، الا أن يسمع من المشايخ الأولين"(4).
وهذا أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي ـ سابع السبعة ـ يقول: "لو قرأت على قياس العربية، لقرأت "كبره"(5)برفع الكاف، لأنه أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر"(6).
فلا دخل إذن للقياس والاجتهاد الشخصي فيما طريقه الرواية، إلا في اختيار ما هو أوثق في الثبوت أم أفصح في الأداء، أو أكثر انسجاما مع التأويل المأثور، ولا أثر لغير ذلك من الرأي الذي قد يحتمله الرسم، أو يقبله اللفظ ويتضح به المعنى، ولذلك قرر علماء هذا الشأن امتناع القراءة بالقياس المحض وحده فقال أبو عمرو الداني في "المنبهة:
__________
(1) - معرفة القراء الكبار 1/95 طبقة 4 ترجمة 5. – وغاية النهاية 1/263 ترجمة 1190.
(2) - نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني 416.
(3) - يعني قوله تعالى "وباركنا عليه وعلى إسحاق" سورة اليقطين 113، وقبلها وبعدها" وتركنا عليه في الآخرين" الآيات 78-108-129.
(4) - السبعة في القراءات لابن مجاهد 48.
(5) - يعني قوله تعالى: "والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " سورة النور الآية 11.
(6) - جمال القراء للسخاوي 1/241.
(1/360)
... فلا طريق لقياس ونظر في ما أتى فيه أداء أو أثر(1)
وقال في جامع البيان: "وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت(2)لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها"(3).
وقد غاب هذا الملحظ عن طائفة من النحويين والمفسرين الذين تصدروا للطعن في بعض حروف القراءة مما قرأ به بعض القراء السبعة، متوهمين أن القراءة لما كان مرجعها إلى اختيار القارئ، كان لابد أن يكون فيها مجال للاجتهاد الشخصي، وإنما عكر عليهم في نظرنا أنهم لم يتبينوا جيدا الفارق بين ما هو اجتهاد في اختيار رواية من بين جملة من الروايات، وما هو اجتهاد من قبيل الرأي والوضع، دون أي سند من الرواية والنقل، إذ الأول محدود النطاق في دائرة المروي، أما الثاني فلا ضابط له، ومن ثم فلا سبيل إليه.
وهذا القصور في الفهم أيضا هو الذي أدى بجماعة منهم إلى إنكار تواتر قراءات السبعة، بدعوى أنها اختياراتهم، وأن كل واحد من السبعة قد ذكر أسانيد قراءته، حتى قال بدر الدين الزركشي:
"ان التحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواتوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه نظر"(4).
وقد غاب عن هؤلاء مثل ما غاب على من قبلهم، وهو أن اجتهاد القارئ في اختيار أحد وجوه القراءات من بين جملة وجوه كلها متواتر، لا يخرج قراءته في الجملة عن أن تكون متواترة.
__________
(1) - الأرجوزة المنبهة للداني – باب القول في المصنفين في الحروف".
(2) - في منجد المقرئين 65 "عنهم".
(3) - جامع البيان القراءات السبع (مخطوط) نقله عنه غانم فدوري في كتابه "رسم المصحف" 655.
(4) - البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/319.
(1/361)
فمن قرأ مثلا في سورة الفاتحة "ملك يوم الدين" مختارا حذف الألف، لا يختلف في شيء عمن اختار "مالك" بالألف، فالقراءتان معا متواتران، واختيار القارئ لهذه على تلك لا يمس منزلتهما في الصحة والثبوت.
قال الحافظ ابن الجزري: "والشبهة دخلت عليهم من انحصار أسانيدها في رجال معروفين، فظنوها كاجتهاد الآحاد.. ثم ذكر أنه سأل شيخه إمام الأئمة أبا المعالي ـ رحمه الله تعالى ـ(1)عن هذا الموضع، فقال: "انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم، فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائما، والتواتر حاصل لهم، ولكن الأئمة الذين تصدروا لضبط الحروف، وحفظوا شيوخهم فيها، وجاء السند من جهتهم...(2).
ولهذا الملحظ الذي نبه عليه ابن الجزري وشيخه أبو المعالي، حذر طائفة من العلماء من السقوط في خطأ المفاضلة بين الوجوه المتواترة في القراءة بصورة تؤدي إلى إنكار وجوه القراءات الأخرى، مع تساويها في التواتر والاستفاضة(3)، كما لوحظ ذلك على الإمام الطبري في تفسيره على جلالة قدره(4)، ولذلك يقول العلامة أبو جعفر النحاس ـ أحد رجال مدرسة ورش في مصر ـ: "السلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعا عن النبي صلى الله عليه وسلم"(5).
__________
(1) - المراد به شيخه محمد ابن أحمد بن علي بن اللبان الدمشقي (715-776 هـ) ترجم له في غاية النهاية 2/72-73 ترجمة 2755.
(2) - منجد المقرئين لابن الجزري 70.
(3) - يمكن الرجوع إلى إنكار بعض الأئمة الترجيح بينها في البرهان 1/340 والإتقان 1/83.
(4) - يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب "دفاعا عن القراءات المتواترة في مواجهة الطبري المفسر "للدكتور لبيب السعيد، وهو كتاب صغير في 150 صفحة.
(5) - نقله الزركشي في الإتقان 1/340 – والسيوطي في الإتقان 1/83.
(1/362)
ويقول أبو حيان الغرناطي في تفسيره: "ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلا منهما متواتر، فهما في الصحة على حد سواء"(1).
وقد نبه الإمام أبو سعيد بن لب على الخطأ والتعسف في الحكم الذي وقع فيه كثير ممن أنكروا تواتر القراءات السبع أو بعضها، لمجرد أنهم لا علم لهم أو لأهل بلدانهم بها، وذكر "أن تواتر القراءات السبع إنما هو خصوص في القراء والأقطار، وليس تواتر عموم كالعلم بالبلاد النائية والقرون الخالية، وإنما ذلك كتواتر أشياء من الصنائع عند أهل كل صناعة، فلا يعرف ذلك التواتر غيرهم... كذلك قراءة نافع تواترت بالمدينة وأحوازها عند قرائها، وعند من تنقل إليه كذلك في البلاد النائية، ان نقلت إليها، فربما سمع قراء بلد قراءة متواترة في غيرها ثم ينكرونها، لأنهم لم يبلغهم تواترها، ولا يقدح ذلك في تواترها"(2).
ومن سيطرة الأخذ بموجب القياس على مناهج أهل اللغة والنحو، مبادرة طائفة من الكتاب إلى الطعن في جملة من الاختيارات التي قرأ بها بعض السبعة، ونسبوهم فيها إلى الجهل والغباوة، على غرار ما فعله ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" حيث انتقد على نافع وغيره مواضع من القراءة خالف فيها مقتضى القياس اللغوي، فقال: "وقرأ نافع" "فبم تبشرون"(3)بكسر النون، ولو أريد بها الوجه الذي ذهب إليه الكاتب، لكانت "فبم تبشرونني" بنونين، لأنها في موضع رفع"(4).
وفعل مثله أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني فعاب على نافع كسر النون في هذا الحرف، وقال: "هذا يكون في الشعر اضطرارا"(5).
__________
(1) - البحر المحيط في التفسير لأبي حيان 1/199.
(2) - المعيار المعرب 12/103-104.
(3) - سورة الحجر خاتمة الآية 54.
(4) - تأويل مشكل القرآن 45 (الطبيعة61).
(5) - نقله أبو حيان في البحر المحيط 5/458.
(1/363)
ومثله انتقاد أبي عبيدة معمر بن المثنى على نافع قراءته: "ولولا دفاع الله الناس.."(1)، وأنكر أن يقال "دفاع" وقال: "لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد"(2).
قال مكي بن أبي طالب "وهذا وهم من أبي عبيدة، توهم فيه باب المفاعلة وليس به"(3).
وانتقد بعض أهل العربية على نافع قراءته في قوله تعالى في سورة الأنعام: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"(4)بإسكان ياء "محياي" وفتح "ومماتي" قالوا: "وكان الوجه أن يعكس فيفتح الأولى تجنبا لالتقاء الساكنين، ويسكن الثانية"(5).
ولا يخفى أن هذه الانتقادات إنما تقوم على الظن بأن نافعا ونظراءه من الأئمة إنما يرجعون في اختياراتهم إلى الاجتهاد الشخصي، مما ترتب عنه ـ في زعمهم ـ سوء تصرف في القراءة، أو سوء تصور للفصيح من الكلام، وحتى قال ابن قتيبة بعد أن عدد حروفا مماثلة قرأ بها السبعة وغيرهم، وبعد حملة عنيفة على قراءة حمزة خاصة، قال: "وما أقل من سلم من هذه الطبقة في حرفه من الغلط والوهم"(6).
ونحن نعتقد أن نافعا وأمثاله من خيار الأئمة ما كان ليخفى عليهم ما يوجبه القياس النحوي والمقتضى اللغوي لولا أنهم يستندون إلى ركن ركين من الرواية عن المشايخ، إذ القراءة ـ كما جاء عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وجماعة من التابعين ـ سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرأوا كما علمتموه ـ أو كما علمتم ـ"(7).
__________
(1) - البقرة الآية 251 والحج 40.
(2) - تفسير القرطبي 3/250.
(3) - نقله القرطبي في التفسير 3/259.
(4) - سورة الأنعام الآية 162.
(5) - حكاه أبو شامة في إبراز المعاني 300.
(6) - ينظر كتابه تأويل مشكل القرآن43-45.
(7) - ورد الحديث باللفظين على اختلاف الرواية. ينظر في كتاب السبعة لابن مجاهد 49-52 والإتقان 1/211.
(1/364)
ولهذا كان طائفة من أئمة القراء كنافع وأبي عمرو بن العلاء يقول: "لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قرأت"(1)لقرأت حرف كذا وكذا، وحرف كذا وكذا"(2).
وقد أشار الأندرابي في صدر كتابه في القراءة إلى منهج نافع في اختياره فقال:
"وكان مع علمه بقراءة القرآن ووجوه علومه يتبع النقل والأثر، ويتجنب القياس برأيه والنظر"(3).
ويحقق هذا أيضا ما ذكره عنه تلميذه الأصمعي قال:
"سمعت نافعا يقرأ "يقص الحق"(4)فقلت له: ان أبا عمرو يقرأ "يقض الحق"(5)وقال: القضاء مع الفصل، فقال نافع: وي يا أهل العراق، تقيسون في القرآن؟ "(6).
قال السخاوي تعليقا على هذا الخبر: "ومعنى قول أبي عمرو قضاء مع الفصل، أي أني اخترت هذه القراءة لهذا، ولم يرد القراءة الأخرى، ومعنى قول نافع: تقيسون في القرآن، لم يرد به أن قراءتهم أخذوها بالقياس، وإنما يريد أنهم اختاروا ذلك كذلك، والقراءتان فاشيتان عندهما، قال ابن أبي هاشم(7): يريد أنا لم نأخذ القراءة على قياس العربية، إنا أخذناها بالرواية"(8).
__________
(1) - النشر1/17 وورد قوله "إلا بما قرئ به" ينظر في السبعة 32 – ومعرفة القراء 1/65 وغاية النهاية 1/290.
(2) - النشر 1/17.
(3) - قراءات القراء المعروفين 52.
(4) - سورة الأنعام الآية 57
(5) - وافقه عليها حمزة وابن عامر والكسائي – ينظر كتاب السبعة 259.
(6) - نقله السخاوي في جمال القراء 1/240. وأصله في جامع البيان للداني وشرح الخاقانية له أيضا.
(7) - هو الإمام عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم أبو طاهر البغدادي من أكابر أصحاب ابن مجاهد سيأتي في مكانه من البحث. ترجمته في غاية النهاية 1/475-476 ترجمة 1983.
(8) - جمال القراء 1/240.
(1/365)
وانطلاقا من مبدأ الرواية عن الشيوخ المعتبرين، كان نافع لا يبالي أن توافق مقتضياتها مذاهب الفقهاء أو أن تخالفهم، وعلى مثل منهجه كان قراء المدينة في ذلك، كما حكى عنهم إسحاق المسيبي في شأن البسملة في الصلاة قال: "كنا نقرأ لسم الله الرحمن الرحيم أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة، وبين السورتين، في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة ـ قال ـ وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك"(1).
ولعل مرجع الخلاف بينهم إلى كون القراء كانوا يسيرون على سنن المشايخ قبلهم الذين تلقوا القراءة عن الصحابة، فكانوا أوفياء للرواية كما تلقوها، لا يفرقون بن حال وحال، في العرض أو الصلاة أو غير ذلك، بينما نظر الفقهاء ممن لا يبسمل في الصلاة، اما إلى اختلاف الآثار في المسألة ورجحان الترك عندهم على غيره(2)، واما إلى اعتبار عمل الناس بالمدينة، فأصبحت القضية موضع اجتهاد وترجيح ربما تتكافأ فيه الأدلة، ولا يبقى المخرج إلا بالرجوع في ذلك إلى المتواتر عند القراء، ولذا قيل ان مالكا ـ رحمه الله ـ لما سأل نافعا عن البسملة فقال: السنة الجهر بها، سلم إليه، وقال: كل علم يسأل عنه أهله"(3)، وفي رواية قال: سلوا عن كل علم أهله، ونافع إمام الناس في القراءة"(4).
ثانيا: اشتراطه توافر عنصري الثقة والضبط في الرواة مع السلامة من كافة الخوارم
__________
(1) - النشر 1/271.
(2) - يمكن الرجوع في اختلاف الآثار في ذلك إلى مصنف الحافظ عبد الرزاق 2/88-89 فقد أفاض في ذلك. وإلى كتاب الانصاف فيما بين العلماء في البسملة من الاختلاف لابن عبد البر النمري – الرسائل المنيرية 1/254.
(3) - النشر 1/271- ومنجد المقرئين – ولطائف الإشارات للقسطلاني 1/41.
(4) - سير أعلام النبلاء 7/377. ومعرفة القراء 1/90.
(1/366)
وإلى جانب اعتماده على الرواية الصحيحة، اشترط نافع توافر عنصري الثقة والضبط في عامة رواة الحروف مع السلامة من كل ما يخدش أمانة الراوي أو يمس سمعته وذمته، وهو أسلوب من التحري بالغ الدقة، لكنه ينسجم مع ما أخذ به علماء السلف من أئمة الحديث من حرص على التثبت من حال النقلة، والكشف عن مستوياتهم في أهلية التحمل والأداء عن صاحب الشرع، على ما جاء به الأثر من حديث أنس وأبي هريرة مرفوعا وموقوفا "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"(1).
وإذا كان هذا المستوى من التحري في اختيار المشايخ، والتوثق من الروايات مطلوبا في أحاديث الأحكام، فكيف به حين يتعلق الأمر بأخذ حروف القرآن، ولذا كانت المعرفة بأحوال النقلة ضرورية في تلقي رواياتهم بالقبول أو ردها، ذلك أن أحوال النقلة متفاوتة في الأمانة والصدق، كتفاوتها في الإتقان والضبط وإلى هذا المعنى يشير الإمام ابن مجاهد في مقدمة كتاب السبعة بقوله:
"وحملة القرآن متفاضلون في حمله، ولنقلة الحروف منازل في نقل حروفه"(2).
ولذلك كان من مقتضيات المنهج العلمي الأصيل الذي عرفه نافع وتشبع به في حلقات أكابر مشيخة العلم بالمدينة، أن لا يؤخذ العلم إلا عن أهله، وكان مطرف بن عبد الله من أصحاب مالك يقول:
__________
(1) - فهرسة ابن خير 18-والتمهيد لابن عبد البر 1/46-47- والانتقاء لابن عبد البر 16- والكفاية في علوم الرواية للخطيب 196-197- وترتيب المدارك 1/136.
(2) - السبعة 45.
(1/367)
"سمعت مالكا يقول: أدركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم شيئا من العلم، وانهم ليؤخذ عنهم العلم، وكانوا أصنافا، فمنهم من كان كذابا في أحاديث الناس(1)، ولا يكذب في علمه، فتركته لكذبه في غير علمه، ومنهم من كان جاهلا بما عنده، فلم يكن عندي أهلا للأخذ عنه، ومنهم من كان يرمى(2)برأي سوء، فتركتهم لذلك"(3).
بمثل هذا الأسلوب من التحري في قبول الروايات وتقويمها أخذ نافع، يشهد بذلك بعض ما وصل إلينا من أخباره، يوم كان بصدد تحرير اختياره في القراءة وتحديد حروفها، وذلك بعد أن استكمل حصيلته من الرواية عن مجموعته الكبيرة من الشيوخ، وبذلك حدث عنه زميله في القراءة على أبي جعفر عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم فقال: "كنا نقرأ على أبي جعفر القارئ، وكان نافع يأتيه فيقول: يا أبا جعفر، ممن أخذت حرف كذا وكذا؟ فيقول: من رجل قارئ من مروان بن الحكم، ثم يقول: ممن أخذت حرف كذا وكذا؟ فيقول: من رجل قارئ من الحجاج بن يوسف، فلما رأى ذلك نافع تتبع القراءة يطلبها"(4).
__________
(1) - في رواية "من كان يكذب" ترتيب المدارك 1/137.
(2) - في ترتيب المدارك "من كان يزن".
(3) - الانتقاء لابن عبد البر 15-16 وترتيب المدارك 1/137.
(4) - معرفة القراء الكبار للذهبي 1/91.
(1/368)
إن النظر في دلالة هذا الخبر ليصور لنا بجلاء مبلغ الجهد الذي بذله نافع في المراجعة والتحري والعكوف على تحقيق اختياراته بمثل هذا التمحيص للروايات، والنظر في حلقات رجال السند في هذا الطور من حياته العلمية، قبل أن يطمئن إلى تلك الاختيارات، ويجعلها مادة قراءته، لقد رأى أنه لا محيص له من العودة إلى مراجعة شيوخه، وهم مصادره الحية، وذلك بعد أن نخرج عليهم، ووعى ما وعى من روايات في الآثار وحروف القرآن، ليفاتحهم في مصادرهم التي اعتمدوها، للتأكد التام منها ومن مدى سلامة سلسلة السند فيها من التهمة وضعف الذمة أو من قلة الأمانة وخفة الضبط، ونحو ذلك مما قد ينزل بمستوى الرواية والراوي وقد أعطانا رفيقه في القراءة مثالين من جملة أمثلة لا ريب أن نافعا أحس فيها بنزول مستوى السند في بعض حلقاته عن المطلوب، إذ أدرك أن في طائفة من رواياته التي يستند إليها مثل أبي جعفر المدني في بعض حروف القراءة، من لا يطمئن إليه، ومن ليس عند أهل هذا الشأن بمرضي، وإن كانت الرواية عنه معروفة في الجملة، فلا بد إذن من طلبه القراءة كرة أخرى عودا على بدء، لتهذيب رواياته وتخريجها عن الثقات من أهل العدالة المقبولين، والقراء الضابطين.
أما مروان بن الحكم والحجاج الثقفي، فكلاهما وإن كان له مشاركة في هذا الشأن، وكان له ذكر في أخبار القراء في ولايته، فإنهما لم يكونا عند علماء القراءة من أهل الرواية فيه، ولا من أهل العلم به، وإن كان كل منهما قد أسهم وأثر من خلال نفوذه السياسي ومركزه في الولاية، في المسار الذي سارت فيه القراءات كما رأينا عند الحجاج في العراق في شأن المصحف العثماني.
وقد كانت لأبي جعفر شيخ نافع رواية عن كل منهما بحكم هذا المركز والنفوذ.
(1/369)
أما صلته بمروان فمن حيث طول مقامه بالمدينة على عهد خلافة الراشدين، ثم توليه منصب الامارة عليها مدة، فوليها لمعاوية سنة 42هـ، ثم عزله عنها سنة 49هـ، ثم رده إليها سنة 54هـ(1).
فلربما استطاع مروان من خلال هذا الوجود المتواصل في الولاية، أن يؤثر في القراءة المدنية، وأن يكون له ذكر فيها، ولهذا "وردت عنه الرواية في حروف القرآن"(2).
وكان من شأن الأمراء يومئذ أن يكونوا في الغالب أئمة في الصلوات، وفي بعض الروايات في كتب السنة ما يدل على ذلك بالنسبة لمروان، فقد أخرج البخاري في صحيحه بالسند عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار السور، وقد سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ بطولى الطوليين؟ "(3).
فهذا الاعتراض من زيد عليه يدل على أنه كان يؤم الناس، ولعله من خلال ذلك روى عنه بعض الرواة ما روى من حروف القرآن، وربما استطاع من خلال هذه الإمامة أن يرسخ الأخذ في القراءة ببعض ما كان يقرأ به ويواظب عليه، وإن كان غيره يقرأ بغيره، على نحو ما جاء عن ابن شهاب الزهري قال:
"كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر وعمر وعثمان يقرأون "مالك بوم الدين"، وأول من قرأها "ملك يوم الدين" مروان"(4)، وفي رواية "وأول من أحدث" ملك يوم الدين"مروان"(5).
__________
(1) - تاريخ ابن خلدون 3/5.
(2) - غاية النهاية 2/263 ترجمة 3470.
(3) - صحيح البخاري بحاشية السندي 1/139.
(4) - سنن أبي داود 2/361 ويمكن الرجوع إلى من اخرج الخبر من الأئمة في الدر المنثور للسيوطي 1/13.
(5) - غاية النهاية 2/263.
(1/370)
وواضح من خلال النظر إلى كون القراءتين المذكورتين متواترتين معا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند القراء السبعة وغيرهم، أن المراد بكون مروان أول من قرأها، أو "أحدثها" أنه أول من أعلن بها في قراءة الفاتحة في الصلاة الرسمية بالمسجد النبوي، مخالفا بذلك ما كان شائعا في العمل قبله من قراءة الأئمة منذ زمن النبوة، بلفظ "مالك"، كما أخرجه أبو داود في سننه قال: "سمعت أحمد ـ يعني ابن حنبل ـ يقول: "القراءة القديمة" مالك يوم الدين"(1).
وإلا فإن القراءة الأخرى معروفة مشهورة، وقد قرأ بها "من الصحابة زيد وأبو الدرداء وابن عمر والمسور وكثير من الصحابة والتابعين"(2).
ومهما يكن فإن مروان كان كما يقول عنه القاضي أبو بكر بن العربي "رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة وفقهاء المسلمين"(3)، إلا أن اقتران عهد ولايته بأحداث كبار كانت في زمن نافع ما تزال حية في الأذهان(4)، اقتضى من نافع تجنب بعض ما قد ينفرد به في الرواية لحروف القرآن، توثيقا للأمر، واحتياطا للقرآن، لا طعنا في مروان وعدالته(5)، وهو محمول على ما ذكرناه له من التحري في الرواية والتثبت فيها، لا من قبيل الغمز والتجريح، ودليل ذلك روايته لما ذكرناه في "ملك يوم الدين"، وهي موافقة لما كان يقرأ به مروان، إلا أنها كانت قد أصبحت قراءة سائرة في عامة الأمصار.
__________
(1) - سنن أبي داود 2/361.
(2) - البحر المحيط 1/19-20.
(3) - العواصم من القواصم لابن العربي 89. تحقيق محب الدين الخطيب.
(4) - من جملتها اقتران اسمه بالأحداث التي أدت إلى قتل عثمان بسبب مطالبة الثوار بتسليم مروان.
(5) - ولي مروان فيما بعد الخلافة بالشام سنة 65، وقد أخرج له في الحديث الستة غير مسلم كما ذكر الملا علي القارئ في شرح الشفاء لعياض 1/422.
(1/371)
وأما صلة أبي جعفر بالحجاج وأخذه بعض حروف القراءة عنه، فمن حيث كان هو أيضا واليا على الحجاز لمدة ثلاث سنوات(1)، وكان له هو أيضا اعتناء بالقراءة والقراء في الجملة، حتى جاء عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "ما حسدت الحجاج على شيء حسدي له على حبه القرآن وإعطائه أهله.."(2).
وجاء عن مالك بن دينار أنه قال: "لم يكن أحد من الأمراء اشد نظرا في المصاحف من الحجاج"(3).
وقد قيل انه بدأ حياته معلما في كتاب حتى عيرته بذلك الشعراء حين أمسى في عداد الولاة(4).
وقد قدمنا طرفا من عنايته بالمصحف الامام بالعراق ومصادرة ما خالفه من المصاحف بالرغب والرهب، ومن المعروف في تاريخ القرآن، أن الحجاج قد ولي مهام كثيرة في زمن ولايته تتصل بهذا الشأن بأمر من عبد الملك بن مروان، كما أشار إلى ذلك الإمام أبو جعفر بن عطية في أول تفسيره بقوله:
"وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله، فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه، وزاد تحزيبه، وأمر وهو والي العراق الحسن(5)ويحيى بن يعمر بذلك"(6). وإنما فعل الحجاج ما فعل ـ كما يقول أبو عمرو الداني ـ "ليرى تعظيم القرآن وتبجيله وتشريفه وشدة الاهتبال به، والاشتغال بالنظر فيه، والمنع والتحذير من الزيادة فيه والنقصان منه، إذ كان قد بلغه أن قوما يزيدون في التلاوة، ويغيرون أحرفا تخالف ما في مرسوم الإمام المجتمع على مرسومه، فأراد حسم ذلك وقطعه"(7).
__________
(1) - المعارف 173 والتمهيد لابن عبد البر 10/6.
(2) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز البن الجوزي 10.
(3) - رسالة التنبيه للداني (مخطوط).
(4) - من ذلك قول الشاعر له: أينسى كليب زمان الهزال وتعليمه سورة الكوثر – إلخ.
(5) - هو ابن سيار البصري – تقدم.
(6) - المحرر الوجيز لابن عطية 1/35.
(7) - رسالة التنبيه للداني (مخطوط) ورقة 5.
(1/372)
ذلك شأن الحجاج، فهو ليس غريبا عن الميدان حتى تستغرب رواية أبي جعفر المدني عنه في بعض حروف القراءة، ولكن الأمر يرجع عند نافع إلى ما هو معلوم من فساد ذمة الحجاج في باب الرواية، بسبب ما اقترن باسمه وزمنه من العظائم في التاريخ الإسلامي، مما لا يبقى له ولاء في قلب سليم ينبض بالإيمان، فكان نافع يتحرج أن يستند في حرف من قراءته إلى رواية مأخوذة عن رجل مثله ليس أهلا للثقة، ولا موضعا لحسن الظن، إذ كان الحجاج ـ كما يقول الحافظ ابن عبد البر ـ "أهلا أن لا يروى عنه، ولا يؤثر حديثه، ولا يذكر بخير، لسوء سريرته، وإفراطه في الظلم"(1).
بل ذهب غير واحد من رجال السلف إلى رميه في عقيدته، كما قال ميمون بن الأجلح:
"سألت عامر بن شراحيل الشعبي عن الحجاج فقلت: يزعم الناس أن الحجاج مومن؟ قال: مومن بالجبت والطاغوت(2)، كافر بالله"(3).
وقال فيه النسائي: "ليس بثقة ولا مأمون"(4).
وأقوال الأئمة فيه كثيرة مشهورة(5).
فمثل هذا إذن كان يحمل نافعا على سلوك منهجه في التحري في صفات القبول، والمضي في ذلك إلى أبعد الحدود، حتى اضطر إلى مساءلة قدامى شيوخه عن مصادرهم ورجالهم الذين إليهم يسندون، ولعل هذا ما دعاه إلى التخلي عن حروف كثيرة مما كان يقرأ به شيخه أبو جعفر، كما ذكر عنه الأصمعي قال:
"تركت من قراءة أبي جعفر سبعين حرفا"(6).
__________
(1) - التمهيد لابن عبد البر 10/6.
(2) - الكلمتان قرآنيتان، والإشارة إلى الآية 51 من سورة النساء، والجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان" الرجوع في معناها إلى النهاية لابن الأثير – مادة طغا" 3/44 – مفرات الراغب 83.
(3) - العقد الفريد لابن عبد ربه 5/50.
(4) - الخلاصة للخزرجي 73.
(5) - ينظر منها ما ذكره عنه عمر بن عبد العزيز في "مناقب عمر بن عبد العزيز" 108-109.
(6) - معرفة القراء الكبار 1/91.
(1/373)
فلعل أكبر الأسباب في هذا الترك يتعلق بالسند لا بغيره، ولعل ما لاحظه من هبوط مستواه في بعض الحروف، هو ما جعله يعدل عن قراءته في الجملة، ليؤلف اختياره الخاص الذي استقاه من رواياته عن باقي كبار مشيخته، وكان نصيب شيبة بن نصاح فيه أكبر من نصيب أبي جعفر، كما روى ذلك عن قالون قال: "كان نافع أكثر اتباعا لشيبة منه لأبي جعفر"(1).
ثالثا: اشتراطه توافر الاستفاضة والشهرة البالغة في الحرف المختار، وعدم شذوذه ومخالفته لقراءة الجماعة
وإلى جانب ما رأينا من تحريه في فحص الأسانيد، كان أيضا يشترط أن يكون الحرف المقروء به مما لا ينفرد به الراوي ولو كان ثقة ضابطا، مخافة الشذوذ عن قراءة العامة ومخالفة الجماعة، وبذلك حدث عنه ابن مجاهد وغيره بالسند عن محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع قال: "أدركت هؤلاء الخمسة وغيرهم ممن سمى فلم يحفظ أبي أسماءهم، ـ قال نافع ـ: "فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءة في هذه الحروف"(2).
__________
(1) - معرفة القراء 1/65 طبقة 3 ترجمة 14.
(2) - استفدنا من هذا الخبر على تقدير صحته، وقد أعله الحافظ أبو عمرو الداني بعلتي الإرسال والاضطراب فقال: "رواه هارون بن موسى الفروي عن قالون عن محمد بن إسحاق، سمع هذا الخبر من نافع، قال: وأحسب أن قالون روى هذا الخبر عن إسحاق بن محمد المسيبي عن نافع، فأخطأ الفروي وقال: عن محمد بن إسحاق. قال: ويحتمل أن يكون رواه عن محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع، فغلط الفروي فأرسله.
قال أبو سعيد بن لب: "وقال – الداني – في موضع آخر: ان هذا الخبر أخطأ فيه الفروي وان فيه علة، أن هذا الخبر مما انفرد بروايته إسحاق عن نافع، ولم يتابعه على روايته أحد من نظرائه" ذكر هذه النقول أبو سعيد بن لب الغرناطي في جواب له عن مسألة "تواتر القراءات السبع" وأورده الإمام الونشريسي في كتاب المعيار المعرب 12/128.
(1/374)
وقال الأندرابي: "كان نافع يقول: "أدركت سبعين رجلا من التابعين، وقرأت عليهم، فما اجتمع عليه شخصان منهم أخذت، وما شذ فيه واحد تركت، حتى جمعت الكتاب"(1).
ولا ريب أن هذا المستوى من التوثيق للروايات، بعد التوثيق لحال الرواة، زيادة منه في التثبت والاحتياط، ففي العنصر السابق كان نظره متوجها إلى رجال السند، أما ههنا فهو متجه إلى درجة القوة والاستفاضة، والرغبة في البعد عن الشذوذ والمخالفة، وهو منهج شاركه فيه نظراؤه من أئمة القراء، فكان يمثل المسلك العام المأخوذ به في قراءات السبعة عموما، وهذا خلاد بن يزيد الباهلي يقول في هذا المعنى: "قلت ليحيى بن عبد الله بن أبي مليكة: ان نافعا حدثني عن أبيك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقرأ "اذ تلقونه"(2)وتقول: انما هو من ولق الكذب، فقال يحيى: ما يضرك أن لا تكون سمعته من عائشة، نافع ثقة على أبي، وأبي ثقة على عائشة، وما يسرني أني قرأت هكذا ولي كذا وكذا، قلت: ولم، وأنت تزعم أنها قالت، قال: لأنه غير قراءة الناس، ونحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا وبينه إلا التوبة، أو تضرب عنقه، نجيء به عن الأمة، عن الأمة، ـ مرتين ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، عن جبريل، عن الله ـ عز وجل ـ وتقولون أنتم: حدثنا فلان الأعرج، عن فلان الأعمى، ما أدري ما هذا؟، ان ابن مسعود يقرأ غير ما بين اللوحين، إنما هو ـ والله ـ ضرب العنق، أو التوبة"(3).
وجاء الخبر بمثل ذلك عن أبي عمرو بن العلاء في قوله "اني لأتهم الواحد الشاذ، إذا كان على خلاف ما جاءت به الجماعة"(4).
__________
(1) - قراءات القراء المعروفين للأندرابي 62.
(2) - يعني في قوله تعالى في سورة النور – الآية "اذ تلقونه بألسنتكم".
(3) - نقله السخاوي في جمال القراء وكمال الإقراء 1/234-235.
(4) - المصدر نفسه 1/235.
(1/375)
وقد استفاد نافع هذا المنهج في البعد عن الشذوذ ومخالفة العامة، مما تلقاه عن شيوخه الأئمة في علم الرواية، فقد قال ابن قتيبة في عيون الأنباء: حدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألف عن ألف، خير من واحد عن واحد، ان فلانا عن فلان ينتزع السنة من أيديكم"(1).
وهو بهذا يشير إلى التواتر العملي، وما القراءة في المدينة إلا نوع منه، لأنها سنة يأخذها الآخر عن الأول كما تقدم في حديث عمر وزيد، ولهذا كان نافع يأخذ في اختياره "بما لا خلاف فيه، وبما اجتمع عليه رجلان من شيوخه المعتبرين، حتى جمع القراءة عن تحقيق"(2).
ومن ثم عرف له قراء المدينة هذا الجهد الذي بذله في البحث والاستقصاء، وتوظيف الوجوه الثابتة في القراءة والأداء وحدها دون غيرها مما لم يثبت أو ليس له عند أهل القراءة اشتهار واعتبار، وفي هذا يروي محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه أنه قال:
"قراءة نافع قراءتنا، ذلك أنه كفانا المؤونة، مما لو أدركنا من أدرك، ما عدونا ما فعل"(3).
رابعا: اشتراطه موافقة الوجه المختار في القراءة لرسم مصحف الجماعة تحقيقا أو تقديرا، بعد ثبوت استفاضته في الأداء
__________
(1) - عيون الأخبار لابن قتيبة 2/134.
(2) - تحصيل المنافع في شرح الدرر اللوامع ليحيى بن سعيد السملالي الكرامي (مخطوط).
(3) - السبعة لابن مجاهد 83.
(1/376)
وهذا المبدأ مبدأ عام مشترك بين عامة أئمة الأمصار، على تفاوت بينهم في درجة الاستمساك به، وهو عند جمهورهم أحد الأركان الثلاثة المعتبرة في القراءة المقبولة، فالالتزام بخط المصحف هو من السمات الأساسية في قراءة الجماعة، وفي طليعتها قراءات القراء السبعة، مع تسامحهم في القدر اليسير من المخالفة في الحرف بعد الحرف مما يحتمله الرسم تحقيقا أو تقديرا، وقد مثل لذلك ابن الجزري في كتاب النشر أمثلة وافية(1). وذكر أن المخالفة اليسيرة في ذلك مغتفرة، وأن الأمر فيها "قريب يرجع إلى معنى واحد، وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول، وذلك بخلاف زيادة كلمة أو نقصانها وتقديمها وتأخيرها، حتى لو كانت حرفا واحدا من حروف المعاني، فإن حكمه حكم الكلمة، لا يسوغ مخالفة الرسم فيه"(2).
يقول أبو عبيد مقررا لهذا المبدأ الذي التزمه جمهور الأئمة:
"وإنما نرى القراء عرضوا على أهل المعرفة بها، ثم تمسكوا بما علموا منها مخافة أن يرفعوا عن ما بين اللوحين بزيادة أو نقصان، وبهذا تركوا سائر القراءات التي تخالف الكتاب، ولم يلتفتوا إلى مذاهب العربية فيها إذا خالف ذلك خط المصحف، وإن كانت العربية فيه أظهر بيانا، ورأوا تتبع حروف المصاحف وحفظها عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها"(3).
وقد جاء عن الإمام الكسائي من رعايته لمبدأ الالتزام برسم المصحف الإمام قوله:
"السين في "الصراط" أسير في كلام العرب، ولكن أقرأ بالصاد، أتبع الكتاب، الكتاب بالصاد"(4).
__________
(1) - النشر في القراءات العشر 1/12-13.
(2) - النشر في القراءات العشر 1/12-13.
(3) - فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (مخطوط) ينقل عنه غانم قدوري في "رسم المصحف"632.
(4) - السبعة لابن مجاهد 107.
(1/377)
ولقد كانوا حتى في المخالفة اليسيرة للرسم بزيادة ألف أو واو أو ياء، مما تمشيه صحة الرواية، يتحرجون إذا كتبوا مصحفا أن يكتبوا تلك الزيادات بالسواد الذي تكتب به الحروف الأصلية، ومن أبرزها في قراءة نافع من رواية ورش وقالون طائفة من الياءات المتطرفة المسماة عند القراء بالزوائد، لأنها زائدة على خط المصحف في بعض الروايات(1)، ولذلك كان كتاب المصاحف قبل ظهور المطابع الحالية يلحقونها في الكتابة بلون مغاير، إشارة إلى زيادتها، وجملتها في رواية ورش من طريق الأزرق التي عليها القراءة عندنا بالمغرب سبعة وأربعون، وفيها يقول أبو الحسن الحصري في رائيته في قراءة نافع:
زوائد ورش أربعون وسبعة ... ووافقه قالون في أول الشطر(2).
وإنما سلك الكتاب في ترك رسمها مسلك سلفهم من الأئمة، فقد أثر عن نافع أنه كان يثبت هذه الزوائد في اللفظ، ويطرحها في الخط، تمشيا مع مذهب الجماعة. روى ابن مجاهد بسنده عن الأصمعي قال:
"سمعت نافعا يقرأ "والبادي"(3)بياء، فقلت لنافع: هكذا كتابها؟ فقال: لا(4).
وروى ابن الأنباري بسنده عن قالون عن نافع "أنه كان يقرأ في الكهف "فلا تسألني عن شيء"(5)ويقول: الياء مكتوبة، وفي هود "فلا تسألن" بنصب اللام وخفض النون بغير ياء"(6)أي لأنها مكتوبة كذلك في الإمام.
وهذه الياءات الزوائد إنما يأخذ بها نافع في حالة وصل القراءة لثبوتها عنده في الرواية، فإذا وقف طرح الياء ووقف على ما قبلها(7)، ولباقي السبعة مذاهب ثلاثة ذكرها الداني في المنبهة فقال:
__________
(1) - النشر 2/170 – والنجوم الطوالع 177.
(2) - رائية الحصري (مخطوطة) وستأتي.
(3) - يعني في الوصل، ويعني قوله تعالى "سواء العاكف فيه والبادي" من سورة الحج الآية رقم 25.
(4) - السبعة في القراءات 436.
(5) - الكهف الآية رقم 70.
(6) - إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/236. والكلمة في سورة هود الآية رقم 46.
(7) - إيضاح الوقف والابتداء 1/385.
(1/378)
... وللأئمة الرواة فيها ... مذاهب ثلاثة أحكيها
... إثباتها في الوصل والوقوف ... وذاك في البعض من الحروف
والحذف في الحالين والإثبات ... في الوصل، وهي كلها لغات
وكل ذا يضبط بالرواية ... عمن سما وبلغ النهاية(1)
ويتجلى من المقارنة بين قراءة نافع وقراءة شيخه أبي جعفر أن مخالفته له فيها يسيرة، فقد نظم بعضهم ما خالفه فيها من روايتي ورش وقالون فقال:
وكل ما يزيده الإمام ... نافع من ياءاته ترام
من الروايتين أو من واحدة ... فابن القعقاع مثله خذ فائدة
إلا وعيدي نذري نذيري ... وكالجوابي بالوادي نكيري
وأن يكذبوني قال ينقذون ... ولترديني ثم أن ترجمون
فاعتزلوني كمل المشهورة عدتها قل واحد وعشرة(2).
ومن أمثلة ما زاده نافع على خط المصحف من الياءات غير المتطرفة، لتواترها عنده في القراءة، ما رواه عنه ورش وقالون من بعض الطرق عنه(3)
__________
(1) - الأرجوزة المنبهة للداني (مخطوطة).
(2) - وقفت على القطة في مجموعة تصوير غير منسوبة لأحد. وهي من القطع المتداولة عند قراء العشر الكبرى
(3) - أعني من طريق أحمد بن يزيد الحلواني كما قال ابن بري:
... لأهب بالياء للحلواني ... ... ولأبي سعيد هم عثمان
(1/379)
في قراءة قوله تعالى "قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا"(1)فقد رسمت في المصحف الإمام "لاهب" على تقدير الهمزة فوق الألف بإسناد الهبة إلى الملك بأمر الله، وبذلك قرأ السبعة غير نافع وأبي عمرو(2)، وقرأها نافع وأبو عمرو "ليهب" بالياء ويمكن أن ترجع إلى القراءة الأولى بتقدير إبدال همزتها ياء لانكسار ما قبلها كما فعل في "لئلا يكون" حيث قرأ "ليلا"، بالياء، ويمكن أن تكون الهبة مسندة إلى الله عز وجل، والقراءة بالياء قراءة مستفيضة عن السلف كالقراءة بالهمزة، وقد جمع أهل الرسم بين القراءتين في المصحف، فكانوا يرسمونها لورش ومن وافقه ياء صغيرة تلحق بالحمراء في رأس الجانب الأيمن من لفظ "لا"، وذلك عندهم من المخالفة اليسيرة في القراءة بما يخالف الرسم.
__________
(1) - سورة مريم الآية رقم 19.
(2) - السبعة في القراءات لابن مجاهد 408 – والنشر 2/317.
(1/380)
ولعل هذا المستند في قراءتها بالياء قد غاب العلم به عن الفقيه القاضي يحيى بن أكثم(1)فذكر الإمام أبو عمرو الداني بسنده أن الخليفة المأمون قرأ على معلمه "ليهب لك" "بالياء"(2)، فقال له يحيى بن أكثم: "لا أحب لك يا أمير المؤمنين أن تقرأ بهذه الآية(3)، فقال له المأمون: ولم؟ قال: تخالف المصحف، فالتفت المأمون إلى إبراهيم بن يحيى بن المبارك اليزيدي(4)فقال: ما تقول يا إبراهيم؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه قراءة قرأ بها غير واحد من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أولهم أبوك عبد الله بن عباس، قال إبراهيم: فالتفت إلي أخي محمد بن يحيى(5)ـ وكان المعلم ثقيل السمع، فقال لي: ما أنتم فيه يا إبراهيم؟ فقلت: قرأ أمير المؤمنين "ليهب لك"، وأنكر عليه يحيى بن أكثم لمخالفته المصحف، فقال محمد للمأمون: ما ليحيى وهذا؟ حرف قرأ به من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جماعة، ومن التابعين، أو كل ما في المصحف يقرأ به؟ قال: فسكت يحيى ولم يتكلم"(6).
__________
(1) - كان عالما بالفقه بصيرا بالأحكام، ولي القضاء للمأمون ببغداد، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعا قال الخطيب: وكان ينتحل مذهب أهل السنة – ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب 14/197-200 ترجمة 7489.
(2) - معلمه هو يحيى بن المبارك اليزيدي أبو محمد راوية قراءة أبي و عمرو بن العلاء ترجمته في تاريخ بغداد 1/146-148 ترجمة 7465 – وغاية النهاية 2/375-377 ترجمة 3860.
(3) - يعني بهذه القراءة في الآية.
(4) - ولد يحيى الآنف الذكر، وهو نحوي لغوي كأبيه. – ترجمته في غاية النهاية 1/29 ترجمة 122.
(5) - مقرئ أخذ القراءة عن أبيه، وكان يقرئ المأمون. – ترجمته في غاية النهاية 2/277 ترجمة 3528.
(6) - نقله الونشريسي في المعيار المعرب 12/89.
(1/381)
بمثل هذا الحرص كان علماء السلف ينظرون إلى مطابقة المرسوم في مصحف الجماعة، وكان أئمة الإقراء يحافظون معه على القراءة بما تواتر عندهم من الحروف مما فيه مخالفة يسيرة يحاولون المواءمة بينها وبين المرسوم، وعلى هذا النهج سلك نافع نفسه في عنصر مطابقة القراءة للرسم، وسوف نرى أنه كان في طليعة علماء هذا الشأن الذين وصفوا مصاحف الأمصار، ودلوا على كيفية الجمع بين مقتضيات القراءة والأداء لما تواتر من الحروف، وبين مقتضى احترام مبدأ الرسم وما درج عليه السلف، دون مجاوزة أو إلغاء.
خامسا: اشتراطه أن يكون الوجه المختار في القراءة فصيحا ومأنوسا وبعيدا عن التقعر والتكلف والتأويل البعيد
لقد سَاعد نافعا في أخذه بهذا العنصر المناخ العلمي العام الذي نشأ فيه، حيث رأينا تخرجه على نوابغ علماء المدينة المنورة، وأتيح له أن يجلس إلى كبار فصحاء زمانه، من مشيخة قريش والأنصار وسواهم من أبناء الصحابة وبلغاء القبائل، الذين كان لهم في اللسن والبيان صيت ذائع، فلهذا كان لابد أن تجيء اختياراته في القراءة والأداء جارية على مذاهب الفصحاء من الحجازيين، سائرة على المشهور المألوف من أساليب العرب في الاستعمال، مما جعل حلقته في القراءة مقصدا لطائفة ممن عرفوا بالبراعة في الأدب والرواية والبحث اللغوي، وكان وجود أمثالهم في حلقته يقتضي منه بلا شك مزيدا من الأخذ بالحيطة والحذر في التزام أفصح الوجوه وأسيرها في اللغة، وأجدرها بالقبول في القراءة، وأيسرها في الأداء، فكان على وجه العموم لا يخالف المألوف المأنوس من لغات الحجازيين.
(1/382)
وقد كان صاحبه الراوية الأصمعي ـ وهو من هو في هذا الشأن ـ لا يكاد يمر به على منحى من مناحي اللغة في القراءة والأداء، إلا استوقفه في شأنه ليسأله، فكان الشيخ ربما يحيله على ما يعرفه من الاستعمالات الفاشية في العربية عند أهلها، ليتحرى منها ما هو ما أوجه وأفصح، وذلك فيما تكلمت به الفصحاء باكثر من وجه، وجرى القراء فيه على مثل ذلك، وفي مثله يقول الأصمعي:
"سألت نافعا عن "البئر"(1)و"الذئب"(2)، فقال:إن كانت العرب تهمزهما فاهمزهما"(3).
فنلاحظ انه لم يلزمه بالهمز ولا بتركه، وإنما أحاله على علمه بما تكلمت به العرب، وكأنه يشير إلى جواز الأمرين مع إشعار الكلام بأنه كان يميل إلى التخفيف(4)، وهو المذهب السائد في مثل ذلك عند الحجازيين كما جاء عن خلف بن هشام ـ فيما قدمنا في ترجمة ابن جندب ـ قال ـ:
"وقريش لا تهمز، ليس الهمز من لغتها، وإنما همزت بلغة القراء غير قريش من العرب"(5).
وقال أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء: "العرب لا تنطق بهمزة ساكنة، إلا بنو تميم، فإنهم يهمزون، فيقولون "الذئب" و"الكأس" و"الرأس" "(6).
__________
(1) - يعني قوله تعالى "وبير معطلة وقصر مشيد" في سورة الحج – ختام الآية رقم 45.
(2) - يعني في سورة يوسف الآيات 13-14-17.
(3) - نقله الذهبي في معرفة القراء 1/91.
(4) - وقد اختلفت الرواية عنه بالهمز والتخفيف – كما في السبعة لابن مجاهد 438-439.
(5) - نقله ابن الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء 1/293 وكذا 1/164.
(6) - نفسه 1/166. وقد أشار إلى هذه الخصيصة في قراءة نافع وأهل المدينة الشاعر الحكيم أبو العلاء المعري في رسالة "الاغريض" بقوله في خطاب الوزير أبي القاسم الحسين بن علي المغربي "لأمدن صوتي بتلك الآلاء، مد الكوفي صوته في هؤلاء، وأخفف عن حضرة سيدنا الوزير الرئيس الحبر، تخفيف المدني ما قدر عليه من "النبر" " (صبح الأعشى للقلقشندي 14/209).
(1/383)
وقد أثر عن نافع وبعض أصحابه، وبعض الأئمة الذين وصفوا قراءته بالقياس إلى غيرها، ما يشبه أن يكون دستورا عاما له في القراءة، أو يمكن تسميته "برنامجا" لاختياراته وسماتها ومعالمها ومذاهبه فيها أرى من المفيد أن نقف مع القارئ الكريم عليه فيما وصل إلينا من نقول الأئمة.
دستور نافع في القراءة كما حدده ووصفه بعض الأئمة لقراءته:
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتاب التحديد:
"جاء رجل إلى نافع فقال: خذ علي الحدر(1)، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: "حدرنا أن لا نسقط الإعراب، ولا نشدد مخففا، ولا نخفف مشددا ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سهل جزل، لا نمضغ ولا نلوك، نسهل ولا نشدد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها، ولا نلتفت إلى أقاويل الشعراء وأصحاب اللغات، أصاغر عن أكابر، ملي عن وفي، ديننا دين العجائز، وقراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل الرأي، ثم قرأ نافع ـ رحمه الله تعالى ـ:
"قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن، لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"(2)(3).
وصف قالون لمذهب شيخه في المد
ومن تمام ما جاء عن نافع مجملا ما جاء عن صاحبه قالون مفصلا في أصول روايته عنه، ومنها في باب المد فيما رواه أبو بكر بن مجاهد في السبعة من طريق أحمد بن يزيد الحلواني عن قالون عن نافع:
__________
(1) - تقدم أنه سرعة القراءة.
(2) - سورة الإسراء الآية 88.
(3) - التحديد لحقيقة الإتقان والتجويد للداني (مخطوط)، والنص منقول عند السخاوي في جمال القراء 2/530، وأشار محققه إلى ص 93 من النسخة المطبوعة بتحقيق الدكتور غانم قدوري حمد – مطبعة الخلود بغداد – 1407-1988.
(1/384)
"أنه كان لا يمد حرفا لحرف، وكان يمكن الياء الساكنة التي بعدها همزة وقبلها كسرة مثل: "وفي أنفسكم" والألف التي بعدها همزة مثل: "بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، والواو الساكنة التي بعدها همزة وقبلها ضمة، مثل: "قالوا آمنا"، "ولا تعتدوا إن الله"، حتى يتم الياء والواو والألف من غير مد(1)، فإذا كانت الهمزة من الكلمة مثل: "من السماء ماء"، و"جفاء"، و"غثاء"، و"سيئت" و"جيء بالنبيئين" و"لتنوء بالعصبة" و"تبوء باثمي"، و"السوأى أن"، و"أضاء لهم"، وما أشبه ذلك، مد الحروف مدا وسطا بين المد والقصر، ولا يهمز همزا شديدا، ولا يسكت على الياء والألف والواو التي قبل الهمزة، وإذا مدهن يصل المد بالهمز، ويمد ويحقق القراءة ولا يشدد، ويقرب بين الممدود وغير الممدود .."(2)
وصف صاحبه أبي بكر الأعشى لقراءته:
وقال الأعشى:
"كان نافع يسهل القراءة لمن قرأ عليه، إلا أن يقول له إنسان أريد قراءتك، فيأخذه بالنبر في مواضعه، واتمام الميمات(3)، وكانوا يقولون: قراءة نافع بز(4)القراءة "قال السخاوي: "قلت والله أعلم ـ "لما فيها من الأنواع"(5).
وصف صاحبه أبي سعيد ورش لقراءته:
روى محمد بن سلمة العثماني عن أبيه(6)قال:
"قلت لورش: كيف يقرأ نافع؟ فقال: كان لا مشددا ولا مرسلا، بينا حسنا"(7).
وصف بعض الأئمة لمذاهبه في القراءة:
من ذلك قول ابن مجاهد في كتاب السبعة عند ذكر الإدغام:
"كان نافع لا يكاد يدغم إلا ما كان إظهاره خروجا من كلام العرب، إلا حروفا يسيرة"(8).
__________
(1) - يعني من طريق الحلواني عن قالون عنه.
(2) - كتاب السبعة لابن مجاهد 134.
(3) - لعلها "واتمام المدات" لكن هكذا في المطبوع.
(4) - من فاخر أنواع الثياب – ينظر اللسان 5/311-312.
(5) - جمال القراء وكمال الإقراء 2/447.
(6) - هو راوي خبر رحلة ورش إلى نافع وسيأتي في ترجمة ورش.
(7) - نقله ابن الجزري في التمهيد في علم التجويد 63.
(8) - كتاب السبعة في القراءات 113.
(1/385)
وقال في باب الامالة:
"كان نافع يفتح ذوات الياء ولا يكسر، مثل قوله: "الهدى" و"الهوى" و"العمى"، وما أشبه ذلك، كانت قراءته وسطا في ذلك كله"(1).
وقال أبو بكر الشذائي: "أما صفة قراءة نافع فسلسة لها أدنى تمديد".
وصف المسيبي لقراءته في مجلس الخليفة هرون الرشيد ببغداد:
حكى أبو عبد الله محمد بن إسحاق المسيبي قال:
"سأل الكسائي أمير المؤمنين أن يجمع بينه وبين أبي، فسأله عن "ما لي لا أعبد"(2)و"مالي لا أرى الهدهد"، "ولي نعجة"، "ولي دين"، فنصب "مالي لا أعبد" "ولي دين". ووقف(3)على "مالي لا أرى الهدهد" "ولي نعجة"، فقال الكسائي:
__________
(1) - المصدر نفسه 145.
(2) - سورة يس أول الآية رقم 22 وما بعدها في سورة النمل الآية رقم 20. وقوله "ولي نعجة" في سورة ص:23.
(3) - يعني بالوقف الإسكان، وهو بمنزلة القطع، فلذلك جاز في آية النمل وجاز الفتح، ولم يجز في يس إلا الفتح.
(1/386)
"هذا مما لا أعلمه بعلمي، ولا يعلمه أحد إلا بالتعلم، ثم سأله عن حروف كيف كان أبو جعفر يقرؤها؟ وكيف كان شيبة يقرؤها؟ فقال له: "قراءة نافع فيها كذا وكذا، وهي قراءتنا، وإنه قد كفانا المؤونة، حتى لو أدركنا من أدرك ما عدونا ما فعل"(1)، إنه أخبرنا أنه أدرك هؤلاء القوم فنظر إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذه، وما شذ فيه واحد فتركه. قال: فإني على حال أحب أن تعلمني، فأبى، فكلم الكسائي الفضل(2)، وذكر أنه إنما سأل أمير المؤمنين هارون هذا المجلس لهذا المعنى، فقال له الفضل: أحب أن تجيبه إن خف عليك، فإن له من أمير المؤمنين ومنا مكانا(3)، فقال: "ما يثقل علي أن أكون أعلمه، إلا أنه شيء قد أمتناه بالمدينة، واجتمعوا على قراءة نافع" قال: فإني أحب أن تفعل، قال: سل عما بدا لك، فأخذ يسأله وهو يجيبه قال فيها أبو جعفر وشيبة وفلان"(4).
__________
(1) - في المطبوع "ما عدونا نافعا"، وهو تحريف لا يصح معه المعنى، والصواب ما في السبعة 63.
(2) - يعني الفضل بن الربيع وزير الرشيد.
(3) - يعني أنه كان مؤدب ولده ينظر في سبب اتصاله به انباه الرواة على أنباه النحاة للفقطي 2/255. قال الذهبي قي معرفة القراء 1/120 "وكان في الكسائي تيه وحشمة لما نال من الرياسة بإقراء محمد الأمين ولد الرشيد وتأديبه أيضا للرشيد".
(4) - جمال القراء وكمال الإقراء 2/443-444.
(1/387)
ومن خلال هذا التقويم على لسان صاحب القراءة نفسه، ثم على لسان أصحابه وغيرهم، ندرك السمات العامة لاختياره، ونتبين معالمه الكبرى، وهي في مجملها ـ كما يبدو ـ منبثقة عن العناصر الخمسة التي سبق الحديث عنها، مما يفصح تمام الإفصاح عن مقومات منهجه الصارم وأسلوبه في الانتقاء والاختيار، كما نفذ خطواته بكل إحكام وانسجام، فجاءت منه في النهاية هذه القراءة "السنية" التي صارت إليها أهل بلده العامة منهم والخاصة"(1)، وشهدوا له بمقتضى هذا الأخذ بالإمامة المطلقة فيها لا ينازعه فيها منازع.
وننتهي من هذا إلى نتيجة نسعى بالبحث إلى بلوغها، هي تمثلنا لأصول منهجه في الاختيار، وتعرفنا على مقوماته، وإدراكنا لمجالي إمامته في قراءة بلده، واستقلال شخصيته فيها فيما أخذ به من حروف واختيارات، بصورة رشحته عند علماء هذا الشأن ليوضع اسمه بين فحول أئمة القراء وأساتذة الإقراء، ومكنته من انتزاع الاعتراف له بذلك في مصره وعصره وفي غير مصره وعصره، كما أتاحت له أن يستقل بمنصب إمامة الإقراء في حياة أكابر شيوخه، وأن يستقل عنهم في كثير مما قرأ به من حروف، وربما خالف في كثير منها معهم نظراءه من السبعة أئمة الأمصار، وهذه أمثلة من تفرده نقتصر عليها للاختصار، مما تفرد به في سورة البقرة وحدها.
ـ نماذج من مخالفته للسبعة وغيرهم في سورة البقرة
ـ فمن ذلك قراءته لفظ "النبيء" "والنبوة" "والأنبياء" ومنه في البقرة "ويقتلون النبيئين" فهمزها وحده ولم يهمزها غيره من السبعة(2).
__________
(1) - تقدم لنا هذا في قول أبي عبيد القاسم بن سلام.
(2) - السبعة في القراءات 157 – والكشف لمكي 1/342-343 – والكافي لابن شريح 51. وتحبير التيسير 88.
(1/388)
ـ ومن ذلك مخالفته لباقي السبعة والعشرة في لفظ "الصابين" في البقرة والحج(1)ولفظ "الصابون" في المائدة(2)، فقرأها بغير همز بعد الباء ولا خلف للهمز، وهمزها الباقون(3).
ـ ومن ذلك مخالفته للسبعة في قوله تعالى وأحاطت به خطيئاته"(4)، فقرأ وحده" بالجمع، وقرأ غيره من السبعة "خطيئته بالتوحيد"(5).
ـ ومن ذلك قراءته "وميكائل"(6)بهمزة من غير ياء كقراءة أبي جعفر، وقرأ باقي السبعة بخلافه(7).
ـ ومن ذلك مخالفته لشيخه أبي جعفر ولباقي القراء السبعة في قوله تعالى "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم"(8)، فقرأ نافع وحده "ولا تسأل" مفتوحة التاء مجزومة اللام، وقرأ الباقون بضم التاء ورفع اللام"(9).
ـ ومن ذلك مخالفته لباقي السبعة غير ابن عامر في قراءة قوله تعالى "واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى"(10)قرأ نافع وابن عامر "واتخذوا" بفتح الخاء بلفظ الماضي، وقرأ باقي السبعة بكسر الخاء على الأمر"(11).
ـ ومن الطريف أنه في اختياره هذا خالف أيضا شيخيه أبا جعفر وشيبة معا(12)وقد قرآها كالسبعة.
__________
(1) - البقرة الآية رقم 62 – والحج اليآة رقم 17.
(2) - المائدة الآية رقم 6.
(3) - السبعة في القراءات 158 – والكشف 1/145 – والكافي 51 – وسراج القارئ - وتحبير التيسير 88.
(4) - البقرة الآية رقم 80.
(5) - السبعة 162 – والكشف 1/81 والتيسير للداني 74-والكافي- والنشر 1/81 – وتحبير التيسير 88.
(6) - سورة البقرة الآية رقم 97.
(7) - التيسير 75 – وتحبير التيسير 88.
(8) - البقرة الآية رقم 118.
(9) - السبعة 165 - التيسير 76 – وتحبير التيسير 90 – والنشر 2/221 –والبحر المحيط 1/368.
(10) - سورة البقرة الآية رقم 124.
(11) - السبعة 170 – التيسير 76 – والكشف 1/263-264 – والنشر 2/222- وتحبير التيسير 90.
(12) - قراءتهما عند أبي حيان في البحر المحيط 1/281.
(1/389)
ـ وخالف السبعة غير ابن عامر أيضا في قوله تعالى "وأوصى بها ابراهيم بنيه"(1)، فقرأها بهمزة قبل الواو وتخفيف الصاد، ووافقه ابن عامر، وقرأ باقي السبعة "ووصى" بالواو والتشديد"(2).
ـ وقرأ نافع "لئلا يكون للناس"(3)ولفظ "لئلا" حيث وقع، بإبدال الهمزة ياء، وقرأ باقي السبعة بالهمز(4).
ـ وقرأ نافع وحده في سورة البقرة "وزلزلوا حتى يقول الرسول.."(5)برفع يقول، وقرأ باقي السبعة "يقول" بالنصب"(6).
ـ وقرأ لفظ "عسيتم" في سورتي البقرة والقتال(7)بكسر السين، وقرأ غيره من السبعة
وغيرهم بفتحها(8).
ـ وقرأ في سورتي البقرة والحج "ولولا دفاع الله الناس.."(9)بكسر الدال وألف بعد الفاء، وقرأ باقي السبعة "ولولا دفع" بفتح الدال وإسكان الفاء(10)، وقد تقدم ذكر إنكار أبي عبيدة لصحة هذا الوجه وبيان فساد ما ذهب إليه من التأويل.
__________
(1) - سورة البقرة الآية رقم 131.
(2) - السبعة 171 – التيسير 77.
(3) - سوة البقرة الآية رقم 140.
(4) - الكافي لابن شريح 54.
(5) - سورة البقرة الآية رقم 212.
(6) - السبعة 181 – التيسير 81 – الكافي 57 – الكشف 1/289-290- تحبير التيسير 93
(7) - سورة البقرة الآية رقم 246 والقتال الآية رقم 22.
(8) - السبعة 186 – والتيسير 81 – والكافي 58 – والكشف 1/303 – وتحبير التيسير 34 والنشر 2/230.
(9) - سورة البقة الآية رقم 251 والحج الآية رقم 40.
(10) - السبعة 187 – التيسير 82 – وتفسير القرطبي 2/259.
(1/390)
ـ وخالف السبعة في إثبات ألف "أنا" في الأداء في قوله "قال أنا أحيي وأميت"(1)، قال ابن مجاهد "كلهم قرأ"أنا أحيي وأميت"، يطرحون الألف التي بعد النون من "أنا" إذا وصلوا في كل القرآن، غير نافع، فإن أبا بكر بن أبي أويس وقالون وورشا(2)رووا عنه "أنا أحيي" بإثبات الألف بعد النون في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن، مثل قوله "وأنا أول المسلمين"(3)، إلا في قوله "إن أنا إلا نذير مبين"(4)، فإنه يحذفها في هذا الموضع مثل سائر القراء"(5).
ـ وقرأ نافع وحده فنظرة إلى ميسرة"(6)بضم السين، وقرأ باقي السبعة بالفتح(7).
وبرجوعنا للمصادر نجده في هذه المرة أيضا خالف ثلاثة من شيوخه، بينما وافق قراء مكة غير ابن كثير، فقد قرأ "ميْسرة" بفتح السين علي بن أبي طالب وابن عمر والأعرج وأبو جعفر وابن جندب ـ والثلاثة من أكابر شيوخه ـ، وقرأ به من أهل البصرة الحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي".
وقرأ بالضم كنافع مجاهد بن جبر وابن محيصن وعطاء بن أبي رباح وحميد بن قيس والحسن، وهي لغة هذيل"(8).
ونكتفي بهذه النماذج لبيان درجة استقلاله في القراءة عن عامة القراء فيما أخذ به من اختيارات، وقد رأينا أنه كان في كثير من حروف القراءة يخالف عامة أئمة الأمصار الخمسة، حتى إنه أحيانا يخالف قراءة مشايخه المشهورين، مما يدل على سعة روايته.
__________
(1) - البقرة الآية رقم 257.
(2) - سيأتي تراجمهم في أصحابه.
(3) - سورة الأنعام الآية رقم 165.
(4) -كان ينبغي أن يقتصر على قوله "إن أنا إلا نذير" دون لفظ "مبين" إذ لا يوجد في آية سورة الأعراف ومواضعها في القرآن في الأعراف آية 188، والشعراء 115 والأحقاف آية 6.
(5) - السبعة 188 – والكافي 58.
(6) - سورة البقرة الآية رقم 279.
(7) - السبعة 192 - والتيسير 85 – والكافي 60 والكشف 1/310 – وتحبير التيسير 96.
(8) - الكشف 1/310.
(1/391)
ومن الطريف في هذا الصدد أن نجده في بعض اختياراته من حروف القراءة يخالف قراءة شيخي قراء بلده وعميدي مدرسة القراءات بها: أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وذلك في مثل قراءته لقوله تعالى: "وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحما"(1)، فقد قرأ "ننشرها" بالراء، وقرأ أبي وزيد معا "ننشزها" بالزاي"(2).
وأكثر من هذا طرافة وغرابة ما فعله نافع في اختياره في قراءة مادة "يحزن" حيث وقعت في القرآن، فقد خالف في قراءتها شيخه أبا جعفر مخالفة واضحة حتى تبدو وكأنه تعمدها وقصد إليها، فقد قرأ الشيخ "يحزن" بفتح الياء وضم الزاي في جميع القرآن، إلا في قوله "لا يحزنهم الفزع الأكبر" في سورة الأنبياء(3)فقرأها بضم الياء وكسر الزاي(4)، في حين قرأ تلميذه نافع بعكس ذلك فقرأ المادة كلها بضم الياء وكسر الزاي إلا في هذا الحرف من سورة الأنبياء، فقرأ بفتح الياء وضم الزأي(5).
ولم يخالف هنا شيخه وحده، وإنما خالف جمهور القراء ونظراءه من السبعة جميعا، قال ابن مجاهد:
"فكلهم قرأ "فلا يحزنك" و"ليحزن الذين آمنوا" و"اني ليحزنني" بفتح الياء وضم الزاي، وقرأ نافع بعكس ذلك، إلا في حرف سورة الأنبياء، فإنه فتح الياء وضم الزاي"(6).
وقد مثل الإمام السخاوي بصنيع نافع هذا لالتزام أيمة أئمة القراء للرواية فقال:
"ومما يوضح تمسك هؤلاء الأئمة بالنقل ما نراه في قراءتهم، من قراءة حرف في موضع على وجه، وقراءة ذلك الحرف في غير الموضع على خلاف ذلك، كما قرأ نافع "يحزن" في جميع القرآن، إلا في الأنبياء .."(7).
__________
(1) - سورة البقرة الآية رقم 258.
(2) - الكشف 1/310.
(3) - سورة الأنبياء الآية رقم 102.
(4) - النشر 2/244.
(5) - التيسير 91-92 – ومنجد المقرئين 61.
(6) - السبعة في القراءات 219.
(7) - جمال القراء وكمال الإقراء 2/645.
(1/392)
ونقل ابن الجزري مثله عن القاضي أبي بكر الباقلاني مستدلا لأصل هذا الاختلاف بجواز أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرأ واحدا بعض القرآن بحرف وبعضه بحرف آخر على ما قد يراه أيسر على القارئ ـ ثم قال ابن الجزري: "وظهر من هذا أن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع، قد أخذه الصحابي كذلك، إلى أن اتصل بالقراءة(1).. ثم ضرب أمثلة لذلك فذكر منها قراءة أبي جعفر "يحزن" بالضم وكسر الزاي في الأنبياء فقط، وفتح الياء وضم الزاي في باقي القرآن، وقراءة نافع عكسه في جميع القرآن بضم الياء وكسر الزاي، إلا في الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي"(2).
ـ تمثيل نافع لقراءة أهل بلده مما عرف بالقراءة السنية:
إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أن هذا الاستقلال الذي نوهنا به عند الإمام نافع بالنسبة للمشهورين من رجال مشيخته، وما ذكرنا من بروز شخصيته في اختياراته على العموم، لم يحل دون تمثيله لقراءة جمهور بلده تمثيلا جعلهم كما قدمنا يجتمعون على قراءته، ويجدون فيها الصيغة المثلى لما تحرر لديهم من القراءة السنية كما قرأ بها سلف الأمة وعلية الصحابة والتابعين.
وقد ساق العلامة ابن الباذش وغيره خبرا في هذا السياق يدلنا على مقدار تمثيل اختيارات نافع لقراءة أهل المدينة في زمنه، فذكر ابن الباذش بسنده عن سليم بن عيسى عن حمزة ـ رحمة الله عليه ـ قال:
__________
(1) - لعل الأقرب "إلى أن اتصل بالقراءة" جمع قارئ.
(2) - منجد المقرئين 61.
(1/393)
"قرأت على أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(1)ـ رضي الله عنهم ـ القرآن بالمدينة، فقال جعفر: ما قرأ علي أحد أقرأ منك، ثم قال: لست أخالفك في شيء من حروفك إلا في عشرة أحرف، فإني لست أقرأ بها، وهي جائزة في العربية".
"قال حمزة: فقلت: جعلت فداك، أخبرني بم تخالفني؟ قال: أنا أقرأ في النساء "والأرحام" نصبا، وأقرأ "يبشر"مشددا، و"حتى تفجر" مشددا، "وحرام على قرية "بالألف، و"سلام على آل ياسين "مقطوعا، و"مكر السبئ" بالخفض، "وما أنتم بمصرخي" بفتح الياء، "ويتناجون" بألف، وأظهر اللام عند التاء والثاء والسين، مثل: "بل تاتيهم"، "وهل تنقمون منا"، و"هل ثوب" و"بل سولت"، وأنا أفتح الواو من قوله "وولدا" في كل القرآن، هكذا قرأ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال حمزة: فهممت أن أرجع عنها وخيرت أصحابي"(2).
__________
(1) - هو المعروف بجعفر الصادق من سادات أهل البيت وعلماء المدينة، إلا أن الشيعة تزيدوا عليه، وهو من شيوخ مالك. توفي سنة 148 وهو ابن 68 سنة. ترجمته في مشاهير علماء الأمصار 127 ترجمة 997.
(2) - الإقناع لابن الباذش 1/592-593 – ومثله في غاية النهاية 1/196.
(1/394)
ومن المقارنة بين قراءة نافع في هذه الحروف العشرة وقراءة جعفر بن محمد، نجد المطابقة التامة بينهما فيها جميعا بدون استثناء، مما يدل على أن قراءتيهما واحدة أو متقاربة إلى أبعد الحدود، وربما كان سبب هذا التوافق أو التقارب راجعا إلى وحدة المصدر، على ما ذكره الإمام الأندرابي عن أبي جعفر محمد بن مسعود ـ وكان من قراء المدينة ـ قال: "قراءة أهل المدينة قراءة علي بن أبي طالب ـ رصي الله عنه ـ(1)فيستفاد من هذا توافق قراءة نافع مع قراءة جعفر بن محمد، لأنهما كانتا معا جاريتين في حروفهما على ما تواتر واستفاض عند أهل المدينة نقلا عن قراء الصحابة علي وعثمان وأبي وزيد وابن عباس وأمثالهم، بحيث لم يكن لنافع فيها إلا زيادة تحرير وتنقيح، واقتصار على الشائع والسائر المشهور.
ولعله من ههنا جاء وصف الواصفين لها خاصة بأنها سنة، فروى سعيد بن منصور أنه سمع مالكا يقول: قراءة نافع سنة"(2)، وقال عبد الله بن وهب: قراءة أهل المدينة سنة، فقيل له: قراءة نافع؟ قال: نعم(3).
وجاء عن الليث بن سعد أنه قال:"أدركت أهل المدينة وهم يقولون: قراءة نافع سنة"(4).
وللعلماء في بيان تأويل قول مالك وأهل المدينة هذا ووصف قراءة نافع بذلك بوجه خاص وجوه:
فقال الإمام مكي بن أبي طالب في أول كتاب التبصرة: "يعني بذلك سنة أهل المدينة"، ثم قال في دفع التوهم بأن سواها خارج عن السنة: "والقراءات الثابتة من السنة التي لا مدفع فيها لأحد"(5).
__________
(1) - قراءات القراء المعروفين 48.
(2) - السبعة لابن مجاهد 62 – وغاية النهاية 2/337.
(3) - جمال القراء 2/445.
(4) - نقله أبو شامة في إبراز المعاني 6.
(5) - التبصرة في القراءات لمكي – تحقيق د/محيي الدين رمضان 45.
(1/395)
أما الإمام القيجاطي فقد رأى أن مراد مالك ترجيحها على غيرها فقال: "وذلك أن مالكا ـ رحمه الله ـ أراد أن يرجح قراءة نافع على غيرها من القراءات، فعبر عن ذلك بأنها سنة، أي: هي الأولى بالاتباع من غيرها، لاجتهاد نافع، ولكون أهل المدينة اجتمعوا عليه"(1).
وذهب الإمام أبو بكر بن العربي المعافري إلى أن المراد تمثيل قراءة نافع لمقتضى الرخصة في القراءة بالأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن، فقال: "روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا:
"أخرج إلينا مالك مصحفا لجده زعم أنه كتبه في أيام عثمان حين كتب المصاحف، مما فيه" ولا يخاف عقباها"(2)بالواو، وهكذا قرأ أبو عمرو من القراءة السبعة وغيره(3). فإن قيل: لم يقرأ به نافع وقد قال مالك: "السنة قراءة نافع"؟ قلنا: ليس كل أحد من أصحابه، ولا كل سامع يفهم عنه، في قراءة نافع الهمز وحذفه، والمد وتركه، والتفخيم والترقيق، والإدغام والإظهار، في نظائر لها من الخلاف في القراءات، فدل على أنه أراد: "السنة في توسع الخلق في القراءة بهذه الوجوه، من غير ارتباط إلى شيء مخصوص منها"(4).
__________
(1) - نقله تلميذه المنتوري في شرحه على الدرر اللوامع لابن بري – في ترجمة نافع.
(2) - آخر آية من سورة "الشمس".
(3) - قال ابن مجاهد في السبعة: "قرأ نافع وابن عامر "فلا يخاف" بالفاء، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي "ولا يخاف" بالواو، وكذلك هي في مصاحفهم".
(4) - أحكام القرآن لابن العربي – القسم الرابع 1941.
(1/396)
وسواء حملنا قول مالك وأهل المدينة على ما ذهب إليه مكي أم القيجاطي أم ابن العربي، فإننا لا نعدو الحقيقة في شأن هذه القراءة، إلا أن ما ذهب إليه ابن العربي يستوقفنا هنا على وجه الخصوص لأهميته، إذ رب قائل يقول: إذا كانت قراءة نافع سنة أو "هي السنة" فمن أية رواية؟ وعلى أي وجه من أوجه الأداء؟ وكيف نفسر وقوع الخلاف بين أصحابه عنه مع ما ذكرناه له من أخذه في القراءة باختياره الخاص؟
يقتضي منا الجواب عن هذه الأسئلة وقفة خاصة لبيان ذلك، وتحديد الأسباب المشروعة لوجود الخلاف حتى عن القارئ الواحد في المصر الواحد، سواء تعلق الأمر بنافع أم بغيره من أئمة القراء.
اختلاف الرواة عنه وأسبابه:
كان زمن تصدر نافع للإقراء ممتدا جدا يبلغ أزيد من سبعة عقود، وقد التف عليه خلال هذا العهد الطويل من طلاب القراءة عدد لا يحصى، منهم من أتيح له معه طول الصحبة حتى دون عنه اختياراته وكانت له نسخة عنه، ومنهم من لم يتح له ذلك، فاكتفى بالسماع منه، أو بعرض قراءته عليه، فكان بين الرواة عنه بسبب ذلك وغيره وجوه واسعة ومنادح كثيرة من الاختلاف في أصول الأداء وحروف القراءة مما يتوارد عليه الخلاف بين القراء.
(1/397)
وكان نافع إلى جانب ذلك ـ كما قيل عنه ـ "عالما بوجوه القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين ببلده"(1)، وكان احتكاكه الدائم بالقراء، ومراسه الطويل للإقراء، قد وسع من مداركه مع الزمن، ونمى من معرفته، وأغنى من خبرته باللغات والأساليب التي تكلمت بها العرب الفصحاء في حواضرها وبواديها، وقرأت بها القراء في الأمصار، فكان يتعامل مع أصحابه والعارضين عليه من هذا الأفق الرفيع والمستوى الخصب، الذي يتقبل بصدر رحب لهجة الراوي وروايته، طالما أنها لا تجافي الفصاحة المطلوبة في القراءة، ولا تصادم النقل الصحيح، وانطلاقا من هذا المبدأ لم يكن يجترئ على رد قراءة لغيره، أو يتعصب لاختياره، بل كان "يسهل القرآن لمن قرأ عليه، إلا أن يقول له إنسان: أريد قراءتك"(2).
ولقد فوجئ به أحد تلامذته من المصريين يأخذ بهذا المنهج حينما رحل إليه، قال معلى بن دحية:
"سافرت بكتاب الليث(3)إلى نافع لأقرأ عليه، فوجدته يقرئ الناس بجميع القراءات، فقلت له: يا أبا رؤيم ما هذا؟ فقال لي: سبحان الله، أأحرم ثواب القرآن؟ أنا أقرئ الناس بجميع القراءات، حتى إذا كان من يريد حرفي أقرأته به"(4).
ومعنى هذا أنه كان يترك القارئ يقرأ عليه بما اعتاده من الوجوه تيسيرا عليه، فتكون قراءته عليه بذلك رواية على سبيل الإقرار، لا على سبيل الاختيار، وبذلك تختلف الروايات عنه باختلاف العارضين.
__________
(1) - السبعة لابن مجاهد 54.
(2) - معرفة القراء الكبار للذهبي 1/90-91.
(3) - هو الليث بن سعد الفهمي سيأتي في أصحاب نافع.
(4) - نقله الونشريسي في المعيار 12/105 عن الإمام أبي عمرو الداني، ومثله في معرفة القراء 1/132-133.
(1/398)
وقد شرح الإمام المجاصي هذا المعنى بقوله: "كان كل من قرأ على نافع لا يرد عليه شيئا فيما سمع، حتى يقول له الذي يقرأ عليه: أريد قراءتك التي تقرأ بها في خاصة نفسك، فيقرئه بها، ولهذا كثر الاختلاف عنه في القراءة"(1).
وقد سبق أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني إلى تقرير هذا المعنى في كتاب "الابانة"، وعلل به للخلاف الواسع الملحوظ بين ورش وباقي الرواة عن نافع، وبالأخص بينه وبين قالون عنه، الذي "اختلف معه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف، من قطع وهمز وتخفيف وإدغام وشبهه، ولم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه، ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش، وإنما ذلك لأن ورشا قرأ عليه بما تعلم في بلده، فوافق ذلك رواية قرأها نافع على بعض أئمته، فتركه على ذلك، وكذلك ما قرأ عليه قالون وغيره، وكذلك الجواب عن اختلاف الرواة عن جميع القراء"(2).
__________
(1) - شرح المجاصي على الدرر اللوامع (مخطوط) ورقة 7 مخطوط بخزانة ابن يوسف بمراكش رقم 105.
(2) - الإبانة عن معاني القراءات لمكي 84-85.
(1/399)
بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيرا لعادة القارئ في النطق بالكلمات في لهجته، فيما يتعلق بالهمز والتخفيف والفتح والإمالة والإظهار والإدغام ونحو ذلك، إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في الأداء، سيرا مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع في اللغة ووجوهها، والإبقاء على قدر من المرونة فبها، بشرط الابتعاد عن مظاهر التقعر والتكلف البعيد، فد حكى أبو الفتح بن جني من مذاهب العرب "أن الفصيح منهم قد يتكلم باللغة غيرها أقوى في القياس عنده منها.. قال: منها ما حدثنا به أبو علي(1)ـ رحمه الله ـ قال أبو بكر(2)عن أبي العباس(3)أن عمارة(4)كان يقرأ "ولا الليل سابق النهار"(5)بالنصب(6)قال أبو العباس: فقلت له ما أردت؟ فقال: أردت "سابق النهار"(7)قال: فقلت: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن"(8).
__________
(1) - هو شيخه أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي صاحب "الإيضاح في النحو" و"الحجة في علل القراءات السبع" توفي سنة 377. ترجمته في نزهة الألباء 315-317 رقم 124 – وغاية النهاية 1/206 رقم 951.
(2) - أبو بكر محمد بن السري البغدادي المعروف بابن السراج النحوي من أصحاب المبرد توفي سنة 316 هـ . ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب 5/319 رقم 2842.- ونزهة الألباء 249-250.
(3) - هو محمد بن يزيد المبرد.
(4) - هو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية التميمي الشاعر الأموي المعروف.
(5) - بترك تنوين "سابق" ونصب "النهار على المفعولية. ذكرها له ابن خالويه في "مختصر الشواذ" 125.
(6) - سورة يس الآية رقم 39.
(7) - يعني بتنوين "سابق" ونصب "النهار".
(8) - الخصائص لأبي الفتح بن جني 1/125 – وكذا 1/272-273 تحقيق محمد علي النجار ط 2 دار الهدى بيروت.
(1/400)
قال ابن جني تعقيبا عليه: "قوله أوزن أي: أقوى وأمكن في النفس، أفلا تراه كيف جنح إلى لغة وغيرها أقوى في نفسه منها"(1).
وعلى مثل هذا الصنيع درج أئمة القراء، فكانوا يفعلونه مع العارضين عليهم، فلا يلزمون القارئ في أصول الأداء بما يرونه الوجه المختار لقوته في اللغة والقياس، أو لشيوع استعماله في القراءة والأداء، ولهذا نجد الخلاف يتسع أحيانا في بعض حروف القرآن اتساعا كبيرا، بسبب قبول اللغة فيها للوجوه المتعددة، كالوجوه في "أف" و"هيت لك" و"عبد الطاغوت"(2)ونحوها.
ويدخل في هذا المنحى من التيسير على العارضين ما جاء عن نافع من قوله بالوجهين أو أكثر في أداء الحرف الواحد، وتخييره القارئ أحيانا في القراءة بأيها شاء، فقد روى عنه قالون مثلا قوله: "لا تبال كيف قرأت "بسطة"(3)و"يبسط"(4)بالصاد أو بالسين"(5).
وروى أبو قرة عنه(6)"ويبصط" و"بسطة" بالسين"(7)
وقرأ ورش رواية عن نافع الحرفين "وبيصط" في البقرة، و"بصطة" في الأعراف بالصاد(8)وقرأ غيرهما في سائر القرآن بالسين"(9).
__________
(1) - نفس المصدر والصفحات.
(2) - في هيت لك ست قراءات – الكشف مكي بن أبي طالب 2/8-9 وإملاء ما من به الرحمن للعكبري 2/28. – وفي "وعبد الطاغوت" اثنا عشرة قراءة – إملاء ما من به الرحمن 1/128.
(3) - يعني "وزاده بسطة في العلم والجسم" في سورة البقرة الآية 245.
(4) - يعني التي في سورة البقرة الآية 243، وقد ذكر ابن مجاهد هذا النقل عندها
(5) - السبعة 185-186.
(6) - هو موسى بن طارق وسيأتي في أصحابه.
(7) - السبعة 186.
(8) - الآية 68.
(9) - السبعة 185.
(1/401)
وانما يرجع ذلك بعد الرواية والنقل إلى اختلاف الأصوات، وتعدد اللغات، فلذلك رسم الصحابة بعضه بالصاد(1)وباقيه بالسين، وذلك مألوف في اللغة والاستعمال مما يسميه علماء اللسان بـ"تداخل اللغات"(2). وهذا تفسير كثير من الاختلاف في حروف القراءة وأصول الأداء، مثل الاختلاف في "الصراط" وصراط و"المصيطرون" و"يصدر الرعاء"(3)ونحوها، ومثل الاختلاف في أحوال الهمز وتخفيفه بالابدال أو التسهيل أو النقل أو الحذف، ومثل الفتح والتقليل والإمالة، تبعا لما اعتاده لسان القارئ ودرج عليه في قراءته، وفي القراء يومئذ من لا يستقيم لسانه البتة بالنطق بغير ما درب على استعماله في لسانه من الحروف واللغات.
وقد حكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: "قرأ أعرابي بالحرم "طيبي لهم وحسن مئاب"(4)فقلت: "طوبى" فقال: "طيبي"، فلما طال علي قلت: "طو، طو" فقال: "طي، طي" ولم يفارق الأعرابي لغته إلى متابعة أبي حاتم"(5).
وانتهاجا لهذا المهيع في القراءة نقل قالون عن نافع "أن نافعا لم يكن يعيب رفع ميم الجمع ـ يعني في مثل إليهم وعليهم كما يقرأ بذلك أهل مكة ـ(6)، قال ابن مجاهد: "فهذا يدل على أن قراءته كانت بالإسكان"(7).
__________
(1) - رسمت "وبيصط" في سورة البقرة بالصاد، وفي غيرها في سائر القرآن بالسين، وكذلك رسمها الصحابة في جميع مصاحف الأمصار. – المقنع لأبي عمرو الداني 84.
(2) - ينظر في أمثلة تداخل اللغات الاختلاف في لفظ "الصقر" بالصاد والسين والزاي – الخصائص لابن جني 1/374.
(3) - سورة القصص في الآية رقم 23.
(4) - سورة الرعد 30.
(5) - الخصائص 1/384.
(6) - يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب السبعة لابن مجاهد 108.
(7) - نفس المصدر والصفحة.
(1/402)
ويمكن الرجوع إلى مظاهر هذه المرونة في قراءة نافع واختلاف أصحابه عنه بالرجوع إلى ما ذكره عنه ابن مجاهد في كتاب السبعة في قراءة كلمات مثل "كفؤا"(1)و"هزؤا"(2)و"جزءا"(3)بأسكان أواسطها مع الهمز، أو تحريكها بالضم معه، أو اسكان بعضها وتحريك باقيها(4)، وفي قراءة ألفاظ مثل "البيوت" و"الغيوب" و"العيون" و"جيوبهن" بضم الأول أو كسره في الجميع، أو بعضها دون بعض(5)، ومثل ذلك في قراءة ما اجتمعت فيه همزتان من كلمة أو كلمتين(6).
ومن المعلوم أن مجيء هذا عن نافع وأمثاله من الأئمة، ليس مرده إلى ضعف ضبط الرواة، إنما مرده إلى سعة الرصيد المتداول بين القراء في وجوه القراءة وأحوال الأداء، مما صح في الرواية وقرأ به السلف في مختلف الأمصار، وقرأ به الأئمة أو قرئ عليهم به فأقروه، باعتباره مظهرا من مظاهر الترخص في القراءة "بلحون العرب وأصواتها"(7)، غير مفرقين بين حرف وحرف، طالما تحققت في القراءة به شرائط القبول الآنفة الذكر، فلم يكن نافع في ذلك إلا واحدا من أئمة المقرئين الذين اتسعت رواياتهم، ووقفوا على مختلف الحروف والروايات، فكانوا يقرأون منها بما يختارون، ويقبلون إلى جانب ذلك كل ما قرأ به غيرهم، على غرار ما جاء عن أبي عمرو بن العلاء إمام أهل البصرة في القراءة.
__________
(1) - سورة الإخلاص الآية الأخيرة.
(2) - كثيرة الورود في القرآن.
(3) - سورة الزخرف الآية 14.
(4) - السبعة لابن مجاهد 160.
(5) - السبعة لابن مجاهد 178-179.
(6) - ينظر في ذلك السبعة 138-140 – والتعريف للداني 240-242.
(7) - ينظر تمام حديث "اقرأوا بلحون العرب وأصواتها" الحديث أخرجه أبو داود في سننه.
(1/403)
روى أبو عمرو الداني بسنده إلى أبي زيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري البصري قال: "حملت نفسي على أن أذهب إلى أبي عمرو بن العلاء، فصليت خلفه في رمضان، فرأيته يقرأ ليلة بالإدغام(1)، وليلة بالإظهار، وليلة بقراءة، وليلة بأخرى، ومرة بهمزة، ومرة بغير همزة، فقلت: أحببت أ ن أكتب قراءتك، فصليت خلفك فلم أضبط، فكيف أصنع؟ فقال: اجمع الحروف، ثم اعرضها علي، فجمعت ومضيت فقرأت عليه، فما قال لي فيه: هذا اختياري أخذته، فقلت لأبي عمرو: أكل ما اخترته وقرأت به سمعته؟ قال: لو لم أسمعه من الثقات لم أقرأ به، لأن القراءة سنة"(2).
مستويات العرض والرواية عن نافع
ومن دلالة هذا الخبر وما تقدمه من صنيع نافع، وما ذكره مكي آنفا في توجيه الخلاف عنه بين ورش وقالون وغيره من أصحابه يمكننا أن نميز بالنسبة للعارضين على المشايخ بين مستويين اثنين لم أر من نبه عليهما:
1- مستوى الاختيار:، وهو ما وافق فيه الراوي الوجه المختار الذي يقرأ به شيخه، بدلالة اتفاق الرواة عن الشيخ في القراءة به، وذلك إنما يتحقق كثيرا في "فرش الحروف المفردة" التي لا يختلف الرواة فيها عن الشيخ إلا قليلا.
2- مستوى الإقرار، وهو ما لا يوافق الوجه المختار عند الشيخ في قراءته، ولكنه مما أذن فيه لصحته وثبوته، وعرض القارئ به فأقره عليه وأجازه به ولم يرده أو ينكره عليه.
__________
(1) - لعله يعني الإدغام الكبير، وهو مما اشتهر به بين القراء السبعة.
(2) - نقله الباقلاني في نكت الانتصار 417 – وأبو سعيد بن لب في جوابه عن تواتر القراءات السبع – ينظر في المعيار للونشريسي 12/105.
(1/404)
والذي يبدو أن هذا المستوى الثاني ـ وإن كان صحيحا ثابتا ـ فإنه ليس كالأول في قوة الانتساب إلى صاحب القراءة ـ كنافع أو غيره من الأئمة ـ، وإنما نسبته إلى الرواة أقوى وأوكد، والأمر فيه شبيه بالسنن الإقرارية التي ربما تكون في كثير من الأحيان من باب التيسير والرخصة، لا من باب الرغائب والعزائم المطلوبة.
وإنما أعني بانتسابها إلى الرواة أنها إما أن تكون اختيارات لهم أحرزت على تزكية الشيوخ لها بالعرض عليهم، وإما اختيارات عامة استجمعوها بالرواية وقرأوا بها وعرضوها على مشايخهم فأقروها كما سوف نرى ذلك عند أبي سعيد ورش في طريقة عرضه على نافع بعون الله.
هذا مع التنبيه على أمر مهم آخر ينبغي أن لا يفوتنا هنا، هو ما أشار إليه الإمام بدر الدين الزركشي نقلا عن بعض المتأخرين، وهو ما ذكره من أن "كل واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران وأكثر، وكل صحيح"(1).
ويشهد لصحة هذا بالنسبة لنافع ملاحظة الفروق الواضحة بين مشاهير الرواة عنه من أهل المدينة، كإسحاق المسيبي وإسماعيل بن جعفر الأنصاري وعيسى بن مينا قالون، وكلهم لزمه المدة المديدة، وسمع منه قراءته وعرضها عليه، إلا أن كل واحد منهم أخذ عنه على وفق اختيار معين فارق في كثير من جزئياته باقي أصحابه، ولعل جانبا من هذا التباين بين تلك الاختيارات يرجع إلى أخذ نافع بأكثر من اختيار مع الزمن، إلا أن كل واحد من العارضين عليه أخذ بما حضره أثناء القراءة عليه وهذا لا يعني انفصام كل العرى بين تلك الاختيارات والروايات المعزوة إليه، وإنما هو نوع من التنوع المميز لقراءته كما قدمنا، مما جعل بعض الأئمة يسمي قراءته "بز القراءات" لما فيها من التنوع.
__________
(1) - البرهان في علوم القرآن 1/227.
(1/405)
وسواء نظر الناظر في القراءة المعزوة إليه على مستوى الاختيار، أو المعزوة إليه على سبيل القبول والإقرار، فإنه لا يخطئه أن يتبين المعالم الواضحة والسمات الجامعة بينها، تلك التي يشترك الجميع في الأخذ بها رواية عن الشيخ، مما يشكل النسيج المحكم المميز لقراءته، ويبرز ملامح شخصيته ويبلور مظاهر استقلاله فيها عن نظرائه من أئمة الأمصار الكبرى، ولاسيما فيما تفرد به عن عامة السبعة غيره، أو خالف فيه بعض رجال مشيخته المشهورين، مما رأينا منه نماذج وأمثلة وافية.
على أن طائفة من الحروف التي قرأ بها بعض الرواة عنه مما انتقده بعض أهل العربية يمكن عزوه إلى الراوي الذي قرأ به على سبيل الاختيار، فأقره على القراءة به على سبيل المسامحة والتيسير، فيكون من المستوى الثاني الذي سميناه "مستوى الإقرار" ، ومن ثم فلا يكون نافع مسؤولا عن القراءة به، فضلا عن أن يتخذ ذريعة إلى النيل من مستواه في المعرفة بعلوم اللغة والنحو، ومن هنا يكون كثير مما انتقده عليه بعض أهل العربية غير وارد أصلا، وإنما الانتقاد فيه إذا توجه، كان متوجها إلى الرواة مما قرأوا به بمحضره، فأقرهم، لكنه يختار غيره فيما صح عنه من رواية أصحابه المختصين بالعرض والسماع وطول الصحبة له، ومن هنا فيمكن أن ترد طائفة كبيرة من الحروف التي تنسب إليه في كتب الشواذ عند أبي قرة وغيره إلى هذا القسم فيبطل بذلك مستند الذين توجهوا بالنقد إليه، واعتمدوا على ما نسب إليه من تلك الحروف في الطعن عليه وتظل تلك القراءات في تلك الأحرف متينة الصلة بأصحابها من الرواة عنه، وأما نسبتها إليه فإنما هي من حيث النظر إلى منهجه في قبول جميع ما صح في الرواية بقطع النظر عن كونه الوجه المختار أو غيره.
ومن هنا يمكن تفنيد طائفة من الاتهامات التي توجه بها بعض أهل العربية إلى نافع بالقصور في هذا العلم من مثل ما نقله القلقشندي عن ضياء الدين ابن الأثير عند ذكر "المعرفة بالتصريف" فقال:
(1/406)
"ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف، وهذا نافع بن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا، قد قال في "معايش" معائش بالهمز..... ثم ذكر وجه الخطأ في ذلك وقال: ومن جملة من عابه أبو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف: "إن نافعا لم يدر ما العربية"(1).
واستكمالا منا للصورة عن شخصية هذا الإمام، ولمزيد من التعريف بمنزلته ومكانته في القراءة وعلومها وما كان له من الريادة والسبق في كثير من مباحثها، نعقد الفصل الآتي بعون الله، ليقف القارئ معنا على صور أخرى من مجالي نبوغ نافع واجتهاده وارتفاعه في التعامل مع العلوم القرآنية من مستوى الرواية المجردة والنقل الأمين، إلى آفاق الدراية والبحث والتوجيه والتحرير.
الفصل الرابع:
شخصيته العلمية ومظاهر إمامته
في القراءة وريادته في علومها
ولقد كان من مقومات الإمامة في شخصية نافع، تلك المشاركة التي نجدها له في غير ما مجال من مجالات علوم الرواية ومباحث علوم القراءة، بل تلك الريادة التي سنقف على بعض مظاهرها فيما تناوله مع طلبته أو ألف فيه أو شارك، مما يعتبر في زمنه من الموضوعات الأبكار التي لم تروض بعد.
__________
(1) - صبح الأعشى للقلقشندي 1/216-217. وقراءة "معائش" بالهمز رواية خارجة عن نافع كما في السبعة 278.
(1/407)
فكما تجلى نبوغه وبلوغه درجة الاستقلال العلمي في اختياراته التي أخذ بها في القراءة، تجلى أيضا في غير علم من علومها، بسبقه إلى البحث فيه والتأليف والتدوين، أو بالتنبيه لأصحابه على بعض مبادئه العامة، انسجاما في ذلك مع معطيات العصر وثقافته، وإسهاما من جانبه في رقي العلم بهذا الشأن وتقدمه، إذ كانت القراءات في عهد تصدره للإقراء قد أخذت بالتدريج تتحول من فن قوامه النقل والسماع والحكاية الأمينة عن المشايخ، إلى علم خاص أصبح القارئ يخضع فيه لمجموعة من القواعد والأصول المتعارفة، يستفرغ الوسع في الانقياد لها والالتزام بها في القراءة والأداء، والعرض والإقراء، ويأخذ المتعلمين والعارضين عليه بالتزامها ورعايتها والنزول على أحكامها. وبعبارة العلامة عبد الرحمن بن خلدون بدأت القراءة تخرج من طور الرواية الشفوية إلى التدوين "فدونت وكتبت فيما كتب من العلوم، وصارت صناعة مخصوصة، وعلما منفردا"(1).
ولقد كانت الريادة في هذا التحول الخطير لطائفة من أئمة القراء، نهضوا بهذه المهمة بعد استيعاب ثقافة العصر وتمثلها تمثلا كافيا، مفيدين من عطاء من تقدمهم من مشيخة المائة الأولى من الصحابة والتابعين في جميع الميادين الشرعية واللغوية والأدبية، فاستطاعوا بهذا الجهد المكثف أن يظهروا على أهل المائة الثانية شيئا فشيئا، بأولى المحاولات في تحديد معالم الفن، وتدوين علومه، وتوجيه الأنظار إلى أهم قضاياه لتدارسها والتعمق في فهمها وبحثها، واتخاذ المواقف واستنباط الحلول لها.
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون 438.
(1/408)
وبمكن الاعتراف ههنا لعلماء البصرة وقرائهم في هذا المجال بالريادة والسبق المطلق في تسجيل اللمسات الأولى في معظم علوم القراءة، وخصوصا ما يتعلق منها بطريقة الكتابة وضبط المصحف ابتداء من أبي الأسود الدؤلي ـ رائد علم النحو ـ، ومرورا بنصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، وانتهاء إلى الخليل بن أحمد "أول من صنف في "النقط"(1)ورسمه في كتاب، وذكر علله"(2).
ولقد عملت الجهود الرسمية إلى جانب الجهود الفردية في هذا المجال، وكان من أبرز الخطوات في ذلك ما تم بالعراق في امارة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قدمنا أنه كانت له عناية خاصة وشغف زائد بهذا الشأن، حتى قيل عنه: "لم يكن أحد من الأمراء أشد نظرا في المصاحف منه"(3).
ولقد أعطينا آنفا نظرة موجزة عن سعيه في الحد من انتشار المصاحف الفردية بالعراق المخالفة لمصحف الجماعة، وقدمنا ذكر ما فعله بأمر الخليفة عبد الملك بن مروان من التجرد لخدمة المصحف وتحزيبه وأنه أمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك(4).
__________
(1) - يراد به شكل المصحف بواسطة النقط المدور الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي كما تقدم.
(2) - المحكم في نقل المصاحف للداني 9.
(3) - نكت الانتصار للباقلاني 300.
(4) - المحرر الوجيز لابن عطية 1/35.
(1/409)
وذكر الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني أن الحجاج "بعث إلى حفاظ البصرة وخطاطيها فجمعهم عنده، ثم أدخل عليه منهم خمسة، هم: أبو العالية(1)ونصر بن عاصم(2)وابن أصمع(3)ومالك ان دينار(4)، فقال: اكتبوا المصاحف واعرضوا، وصيروا فيما اختلفتم فيه إلى قول هذا الشيخ ـ يعني الحسن البصري ـ"(5).
وذكر الإمام القرطبي عن أبي محمد سلام الحماني أن الحجاج "جمع القراء والحفاظ والكتاب، فقال: أخبروني عن القرآن كله، كم حرف هو؟ قال: فحسبنا، فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا.. قال: فأخبروني عن نصفه، فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف "وليتلطف"، وهكذا حتى سألهم عن أثلاثه وأسباعه.. قال سلام أبو محمد: عملنا ذلك في أربعة أشهر"(6).
وذكر ابن الجوزي من عمل هذه اللجنة أيضا عد رؤوس الآي، وهو العدد المنسوب إلى أهل البصرة قال: "وأما البصري فمنسوب إلى عاصم بن ميمون الجحدري(7)وهو أحد التابعين الحفاظ الذين ندبهم الحجاج إلى عد حروف القرآن مع الحسن البصري ونصر بن عاصم الليثي، بالشعير وحسبوه"(8).
__________
(1) - هو رفيع بن مهران الرياحي – تقدم.
(2) - وهو الذي يقال له "نصر الحروف" لأنه أول من قام بالشكل المدور – ينظر في ذلك كتاب المحكم للداني 8.
(3) - هو علي بن أصمع عم أبي الأصمعي الراوية، تقدم ذكره في أفراد اللجنة التي كلفها الحجاج بتعقب المصاحف المخالفة لمصحف عثمان.
(4) - هو مولى لبني ناجية القرشيين من أهل البصرة وعباد التابعين، كان وراقا يكتب المصاحف ويعيش منها، مات سنة 123. وردت عنه الرواية في حروف القرآن. ترجمته في مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 90-91 ترجمة 658.- وغاية النهاية 2/36 ترجمة 2643.
(5) - نكت الانتصار 386.
(6) - الجامع لأحكام القرآن 1/64 طبعة 3- دار الكتب.
(7) - تقدم التعريف به.
(8) - عجائب علوم القرآن لابن الجوزي 128-129.
(1/410)
كان السبق إذن لعلماء البصرة في هذا المجال، سواء على الصعيد الرسمي أو الصعيد الفردي(1)ولكن هذا السبق الملحوظ لا ينبغي أن تلغى به جهود بعض الأمصار الأخرى التي كانت فيها محاولات مشابهة في غير مجال من علوم القراءة لهذا العهد، ومنها ما يرجع العهد به إلى بعض علماء الصحابة كعبد الله بن عباس الذي ينسب إليه كتاب في "عدد الآي"، وتوالت جهود التابعين في ذلك، فألف في العدد عطاء بن يسار من علماء المدينة من أصحاب زيد بن ثابت، وإسماعيل بن جعفر صاحب نافع، وشيبة بن نصاح شيخه، ومن أهل الشام خالد بن معدان(2)ومن البصرة الحسن وعاصم الجحدري(3)، وألف في اختلاف المصاحف أيضا جماعة منهم عبد الله بن عامر إمام أهل الشام(4).
وإلى جانب عطاء بن يسار وشيبة وإسماعيل فقد شارك علماء المدينة من مشيخة نافع في هذا المجال من علوم القرآن، بنصيب لا يبخس، حتى ان من المؤرخين من ذهب إلى إسناد السبق في وضع قواعد العربية إلى بعض علمائها، وهو عبد الرحمن بن هرمز شخ نافع، كما قدمنا في ترجمته(5).
__________
(1) - نسب إلى يحيى بن يعمر البصري كتاب في القراءة (ت 89) باسم "كتاب القراءة" وإلى عيسى بن عمر الثقفي ( ت 149) كتاب فيها بعنوان "الاختيار"، وإلى أبي عمرو بن العلاء رسالة في القراءة برواية يحيى بن المبارك اليزيدي، - ينظر في ذلك "معجم الدراسات القرآنية" للدكتورة ابتسام مرهون الصفار مجلة المورد العراقية مجلد 9 العدد الرابع السنة 1401-1981.
(2) - من قراء الشام وعلمائها من التابعين، أدرك سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر كتاب مشاهير علماء الأمصار لابن حيان 113.
(3) - ينظر في هذا الصدد كتاب الفهرست لابن النديم 59-61.
(4) - المصدر نفسه 60.
(5) - وينظر أيضا الفهرست لابن النديم 65.
(1/411)
وإذا كان بعضهم يذهب إلى أخذ ابن هرمز لذلك عن أبي الأسود الدؤلي الذي انعقد الإجماع أو كاد على تفرده بالسبق والريادة المطلقة في هذا المجال، فإن هذا لا ينفي عن ابن هرمز مثل ذلك السبق والريادة في تلك الدراسات في الحجاز، وبالمدينة على الأخص، ولا يستبعد أن يكون أهل المدينة قد أفادوا مبكرين من طريقة أهل البصرة في تيسير قواعد العربية، إلى جانب اقتباسهم لأسلوبهم في استعمال الألوان بكيفية خاصة للتمييز بين النقط والحركات والهمزات وغيرها، إذ كان لأهل المدينة ـ كما يفيد ما ذكره أبو عمرو الداني ـ نقط محلي، فتركوه ونقلوا بنقط أهل البصرة"(1)، وقد ساق في "المحكم" أدلة وافية كافية، لإثبات أخذ أهل المدينة لذلك عن أهل البصرة، منها ما رواه بسنده من طريق قالون صاحب نافع قال:
"في مصاحف أهل المدينة" بالسوء الا" بهمزتين في الكتاب ـ يعني نقطها ـ قال أبو عمرو:
"ألا ترى أن أهل المدينة لا يجمعون بين همزتين، بل قد كان بعضهم ـ وهو أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ ـ يسهلهما معا، وهي لغة قريش، فدل ما استعملوه في نقط مصاحفهم من تحقيقهما وإثباتهما معا بالصفرة التي جعلوها لنقط الهمز المحقق، خلافا لقراءة أئمتهم ومذهب سلفهم، على أنهم أخذوا ذلك عن غيرهم، وأنهم اتبعوا في ذلك أهل البصرة، إذ كانوا المبتدئين بالنقط والسابقين إليه"(2).
وقد قدمنا أيضا في ترجمة مسلم بن جندب الهذلي شيخ نافع، كيف أدخل الهمز في قراءة المدنيين بعد أن كانوا لا يعرفونه في قراءتهم ولا هو من لغتهم، حتى همز مثل "مستهزئون" "يستهزئ" ونحو ذلك فاقتدوا به(3).
__________
(1) - المحكم في نقط المصاحف 7-8.
(2) - نفس المصدر والصفحتين.
(3) - تقدم ذكر هذا في ترجمته في مشيخة نافع.
(1/412)
كل هذه الملامح والإشارات تعتبر شواهد واضحة على مدى مشاركة مشيخة نافع التي تخرج عليها في تنمية هذه المباحث الأبكار، وارتفاع مستوى الإقراء والتعامل مع المجال القرائي عندهم، والاتصال عن كثب بأهم المؤثرات الوافدة من المدارس العلمية بالأمصار، تلك التي كانت قد قطعت أشواطا متقدمة في الميدان، مع استثمار ذلك وتوظيفه عمليا في القراءة وكتابة المصاحف ونقطها وضبطها لهذا العهد.
ولا نستبعد أن تكون لأهل المدينة إسهامات أخرى في هذه المباحث لم يبق إلا قليل من الإشارات إليها، وربما كان ضياع كثير منها في الجملة عائدا إلى أن صناعة التأليف يومئذ كانت في بدايتها إن لم تكن في حكم المنعدمة، وذلك لما كانوا عليه من البداوة في الغالب، ولغلبة الرواية الشفوية عليهم، على ما نبه عليه العلامة ابن خلدون بقوله: "والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين"(1).
وقد رفض أبو عمرو الداني في "رسالة التنبيه": الرأي القائل بإسناد الريادة والسبق إلى الحجاج الثقفي في مجال الاهتمام بعلوم القرآن رسما وضبطا وتعداد آي، وأتى بطائفة من النقول تثبت السبق في ذلك لجماعة من تقدمي قراء الصحابة كأبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود وعثمان بن عفان ومعاذ بن جبل ومن التابعين الآخذين عنهم كمجاهد وعطاء بن يسار وسعيد بن جبير وحميد بن قيس الأعرج وراشد الحماني"(2).
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون543.
(2) - رسالة التنبيه على الخطأ والجهل والتمويه لأب عمرو الداني (مخطوطة)
(1/413)
ومهما يكن فإن التأثر والتأثير كان يومئذ متبادلا على أشده بن مدارس الأمصار، لاسيما فيما كان يجد في مجالات اللغة وتطوير وسائل الكتابة والضبط، الأمر الذي رأينا أبا عمرو الداني نفسه يلح فيه على إسناد السبق لعلماء البصرة. ولكن استفادة مدرسة المدينة من مثل هذا لا يغض من شأنها في شيء، ولا يسلبها أو ينازعها في كونها "المدرسة الأم" التي تفرعت عنها بقية المدارس الأخرى كما أسلفنا.
ولقد مر بنا من خلال التعريف بمشيخة نافع بعض التنبيه على ما كان لابن هرمز وابن جندب وغيرهما من سبق في مجالات عديدة من مجالات علوم القرآن، ولا شك أن نافعا قد استفاد مما كان يدور في حلقات أولئك المشايخ من مثل تلك المباحث التي كانت تمتاز يومئذ بالجدة والطرافة، ومن هنا كان لا بد أن تخلف أثرها في صياغة شخصيته العلمية، وأن يكون لها بعدها العميق في تكوين اختياراته في القراءة والأداء، وأن يكون خير من يمثل صلة الوصل بين ثقافة أهل المائة الأولى بالمدينة من الصحابة والتابعين في هذه العلوم، وبين أهل المائة الثانية، مما سيفتح به لمدرسة المدينة آفاقا أكثر رحابة في هذه المباحث، ويحقق به من خلال بعض تلامذته كعيسى بن مينا قالون خليفته من بعده، أهم امتداد لهذه المدرسة في المدينة وفي الآفاق التي استفادت منها، حتى عده الإمام أبو عمرو الداني في طليعة "من اشتهر من المتقدمين بالنقط واقتدي به فيه"(1)ووصفه الحافظ الذهبي بأنه "قارئ أهل المدينة ونحويّهم"(2).
مما لا شك عندنا أنه انما كان في مستواه المشهود له به ترجمة كاملة لشيخه وأستاذه نافع الذي قدمنا أنه لازمه خمسين سنة.
__________
(1) - المحكم في نقط المصاحف 9.
(2) - معرفة القراء الكبار /128 طبقة 5 ترجمة 10.
(1/414)
ونحن لكي يتأتى لنا رصد جهود نافع في هذه المباحث وأمثالها مما يتعلق بعلوم القرآن، وتتبع بصمات التأثير التي خلفها في الميدان من خلال آثاره المكتوبة والشفوية في المدرسة المدنية، نرى من المفيد أن نلم أولا بذكر العلوم الأساسية التي يستمد منها علم القراءات، ويستند إليها علماء القراءة في ضبط الرواية وتحقيق لفظ التلاوة وتوجيه معانيها وفقه أحكامها ورسم حروفها وضبطها وما إلى ذلك من لوازمها، وقد كفانا المؤونة في ذلك الإمام علي النوري الصفاقسي في كتابه "غيث النفع"، حيث تعرض لذلك بإيجاز محددا مقومات هذا العلم واستمداداته كما تمثلها من خلال ما قرره علماء هذا الشأن في ذلك من أمثال مكي بن أبي طالب في الرعاية، وأبي عمرو الداني في "الأرجوزة المنبهة" وأبي مزاحم الخاقاني في قصيدته المعروفة بـ"الخاقانية" في القراءة والقراء، فقال النوري:
مقومات التصدر للإقراء وأهم استمدادات علم القراءات ومدى التزامه بها ومستوى تعامله معها:
"لا يجوز لأحد أن يتصدر للاقراء حتى يتقن عقائده ويتعلمها على أكمل وجه.
ـ ويتعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، وما يحتاج إليه في معاملته.
وأهم شيء عليه بعد ذلك:
أولا: أن يتعلم من النحو والصرف جملة كافية يستعين بها على توجيه القراءات.
ـ ويتعلم من التفسير والغريب ما يستعين به على فهم القرآن، ولا تكون همته دنيئة فيقتصر على سماع لفظ القرآن دون فهم معانيه، وهذا ـ أعني علم العربية ـ أحد أهم العلوم السبعة التي هي وسائل علم القراءات".
الثاني: التجويد، وهو معرفة مخارج الحروف وصفاتها.
الثالث: الرسم.
الرابع: الوقف والابتداء
الخامس: الفواصل، وهو فن عدد الآيات.
السادس: علم الأسانيد، وهي الطرق الموصلة للقرآن، وهو من أعظم ما يحتاج إليه، لأن القراءة سنة متبعة ونقل محض، فلا بد من إثباتها وتواترها، ولا طريق لذلك إلا بهذا الفن".
(1/415)
السابع: علم الابتداء والختم، وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما"(1).
تلك أهم استمدادات هذا العلم، والآن فلنحاول متابعة الإمام نافع في تعامله مع هذه العلوم، وكيف وقف منها في حلقته في الإقراء، ولنرصد من خلال ذلك ما قد كان له في بعضها من ريادة وسبق، أو من شفوف وتبريز، وكيف كان في تدريسه يصطنع المنهج العلمي في قضايا العربية لتوجيه اختياراته في القراءة وإرشاد علية الآخذين عنه إلى بعض منازعه في تلك الاختيارات بناء على تلك المقتضيات، فلنقف معه عند جملة من تلك العناصر:
أولا: علم العربية:
لا شك أن نافعا بحكم نشأته بين القبائل العربية الفصيحة، وطول مناقشته للفصحاء والعلماء من رجال مشيخته، قد اكتسب في العربية وعلوم اللسان ملكة رفيعة المستوى، إلا أننا لن تسوقنا الحماسة له إلى الحديث عن نبوغ له في ذلك يتميز عن علماء القراءة في زمنه، أو يطاول به أو يزاحم عليه علماء اللغة واللسان، وإنما نريد إثبات مستوى بارز له في هذا المجال على مستوى المشاركة والمدارسة والاهتمام كما تدل عليه شواهد كثيرة من أهمها اختياراته في القراءة والأداء، مما أعطينا عنه نظرة في الفصل الماضي ورأينا أنها تقوم في كثير من الأحيان إلى جانب الرواية والنقل المتواتر، على منازع معنوية، واعتبارات لسانية من لغوية وبيانية، إذ لولا تحقق مثل هذا المستوى لديه في تلك الاختيارات ما كان ليحظى في تلك الاختيارات بتنويه أهل هذا الشأن وثنائهم عليها حتى وصفها بعضهم بكونها "بز القراءات"(2).
ويدلنا على اهتمام نافع بالعربية كثرة ما نجده من نقوله عن شيوخه، وكثرة نقول تلامذته عنه في توجيه حروف القراءة بالإشارة إلى معانيها، واختلاف منازع القراء فيها.
__________
(1) - غيث النفع بهامش سراج القارئ لابن القاصح ص 21-22.
(2) - تقدم، وهو من قول الأعشى صاحب نافع الآتي – ذكره أبو الحسن السخاوي في "جمال القراء" 2/448.
(1/416)
فمن ذلك ما حدث به في اختلاف القراءة في قوله تعالى "ثم اتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة.."(1).
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره: حدثنا يونس(2)قال: أخبرنا ابن وهب قال: "حدثني نافع بن أبي نعيم قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج(3)يقول: كان ابن عباس يقول: "في عين حمئة"(4)، ثم فسرها: ذات حمأة. قال نافع: وسئل عنها
كعب(5)فقال: "أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب(6)تغيب في طينة سوداء"(7).
__________
(1) - سورة الكهف الآية رقم 84.
(2) - هو ابن عبد الأعلي الصدفي المصري وسيأتي في أصحاب ورش.
(3) - هو ابن هرمز تقدم في شيوخ نافع.
(4) - جاءت الرواية على قراءة نافع وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم، وقرأ باقي السبعة ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بن عياش "حامية"بألف وبغير همز – ينظر السبعة في القراءات لابن مجاهد 398 – وقد وافق نافع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وأبي بن أبي كعب وابن عباس كما في الكشف لمكي بن أبي طالب 2/74.
(5) - هو كعب بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار، تابعي أسلم زمن عمر، ونزل الشام، مات سنة 34 – ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الشام – مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 118 ترجمة 911.
(6) - يعني التوراة، لأنه كان من أحبار اليهود اليمنيين.
(7) - تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" 16/10. وقد أنكر أبو بكر بن العربي قصة مماثلة سأل فيها بعض الصحابة كعبا عن معنى الآية لاختلافهم فيها في مجلس معاوية أهي "حمئة" أم هي "حامية"- ينظر في ذلك ما ذكره ي عارضة الأحوذي على شرح جامع الترمذي 11/56.
(1/417)
ومن هذا القبيل ما نقله ابن أبي حاتم عنه أيضا في تفسير لفظة "الفوم" من قوله تعالى في سورة البقرة "فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها..."(1). إذ جاءت القراءة فيها بلفظ "وثومها" منسوبة إلى مصحف ابن مسعود(2)، وتروى قراءة عن ابن عباس أيضا(3)، وفسرت قراءة الجمهور "وفومها" بالفاء: بالخبز وبالحبوب، كما فسرت بالثوم بإبدال الثاء فاء، على طريقة العرب في بعض الأمثلة من ذلك، فتتحد القراءتان في المعنى مرة، وتختلفان أخرى(4)، وعلى تأويلها بالمعنى الأول جاء الخبر من طريق نافع، قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، قال: أنبأنا ابن وهب قراءة، حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس(5)سئل عن قول الله "وفومها"، ما فومها؟ قال: الحنطة، قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح(6)
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم(7)
ومن ذلك ما حدث به نافع أيضا عن بعض شيوخه في بيان تأويل كلمتين من القرآن اختلفت القراءة فيهما، فاختلف التأويل باختلاف القراءتين، وذلك في قوله تعالى
__________
(1) - سورة البقرة الآية رقم 60.
(2) -المصاحف لابن أبي داود 65.
(3) - المصاحف 65 ومختصر شواذ القراءات لابن خالويه 6.
(4) - غريب القرآن لابن قتيبة 51 – وتفسير القرطبي 1/362-363.
(5) - في هذا الخبر انقطاع لأن نافعا لم يدرك ابن عباس، إذ مات سنة 68 هـ، وولد نافع حول سنة 70 هـ لكنه مسند من وجوه أخرى صحيحة كما سيأتي.
(6) - هو أحيحة بن الجلاح بن الحريش نسبه إلى الأوس من اليمن – ينظر الأغاني لأبي الفرج 13/110.
(7) - نقله ابن كثير في تفسيره 1/176 – والبيت المذكور منسوب إلى أحيحة بن الجلاح بهذا اللفظ أيضا عند القرطبي في تفسيره 1/362، وساقه السيوطي في الإتقان 1/122 في المسائل المعروفة بمسائل ابن الأزرق، فنسبه لأبي محجن الثقفي وقال: "قد كنت أحسبني كأغنى واحد قدم المدينة عن زراعة فوم.
(1/418)
في سورة المعارج: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون(1). وقوله في سورة القصص: "فأرسله معي ردا يصدقني"(2).
قال عبد الله بن وهب: حدثني نافع قال: سألت مسلم بن جندب عن قوله تعالى: "كأنهم إلى نصب يوفضون" فقال: إلى غاية، فسألته عن "ردا يصدقني"، فقال: الردء: الزيادة"(3).
وهكذا نلاحظ في الأمثلة الثلاثة أن الأسئلة توجهت إلى المعاني لا إلى كيفية القراءة، وكأن القراءة إنما هي تابعة للتفسير على خلاف ما هو متعارف، ولكننا بتأمل تلك الأمثلة واعتبار صحة ما ذكر فيها من أوجه القراءات، ندرك أن الأسئلة كانت غالبا منصبة على وجه التأويل لأنه يساعد على اختيار أمثل الوجوه في المعني، فتكون القراءة بحسب ذلك على سبيل الاختيار، دون إنكار وجه القراءة الأخرى أو باقي الأوجه. ويظهر ذلك في المثال الأخير في قراءة "إلى نصب" فقد قرأها بضم النون والصاد معا عبد الله بن عامر الشامي، وعاصم من رواية حفص عنه، وقرأ نافع وباقي السبعة والعشرة "نصب" بفتح النون وإسكان الصاد(4)وقرأ أبو العالية الرياحي "إلى نصب" بضم النون وإسكان الصاد(5)، ففيها إذن ثلاث قراءات يتنوع المعنى ويختلف باختلافها. وقد جاء التفسير عن الحسن البصري في قوله: "إلى نصب يوفضون" قال: يعني: إلى أنصابهم أيهم يستلمها أولا؟ قال الزجاج: وهذا على قراءة من قرأ "نصب" بضمتين، كقوله: "وما ذبح على النصب" قال: ومعناه: أصنام لهم"(6).
__________
(1) - سورة المعارج الآية ما قبل الأخيرة.
(2) - سورة القصص الآية رقم 34.
(3) - نقله الذهبي في معرفة القراء الكبار 1/66.
(4) - السبعة لابن مجاهد 651 والكشف لمكي 2/336 والنشر 2/391.
(5) - مختصر الشواذ لابن خالويه 161.
(6) - المائدة الآية رقم 4 والنص في إغاثة اللهفان لابن القيم 1/208.
(1/419)
وقال ابن خالويه في توجيه قراءتي السبعة: "الحجة لمن قرأ بضمتين، أنه جمع نصب ونصب كرهن ورهن، والحجة لمن فتح وأسكن أنه جعله ما نصب لهم كالعلم أو الغاية المطلوبة، ومعنى يوفضون: يسرعون"(1).
ولا يخفى أن المعنى على التأويل الأخير هو الموافق لاختيار نافع وما ذهب إليه شيخه ابن جندب فيما حكاه عنه في تفسير اللفظ، مما يدل على مقدار استفادته من مثل هذه الروايات في تكوين اختياره في القراءة والاحتجاج له، واعتماده أيضا مع بعض مشايخه على الدراسة اللغوية "المقارنة" للحصول على معرفة الوجوه المختارة في القراءة والأداء.
وما ذكرناه عنه في هذا الحرف نذكره أيضا عنه في الحرف الثاني الذي سأل عنه ابن جندب، وهو لفظ "الردء" في الآية، فقد قرأ نافع "ردا" بإسقاط الهمز، فقيل: نقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، وقرأ غيره من السبعة "ردءا" بإسكان الدال وهمزة مفتوحة منونة"(2).
وقد وجهت القراءتان على وجوههما إلى معنى واحد، حملا على ما روي عن نافع من رواية ورش في نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها مع حذفها في مثل "قد افلح" و"من آمن" و"ذواتي أكل" ونحوها، وبه قرأ ورش وقالون معا عنه في "ردا يصدقني"، وبه قرأ جميع الرواة عن نافع(3).
إلا أن ما روي عن نافع في توجيهه لقراءة الهمز ينفي أن يكون أراد المعنى نفسه الذي تدل عليه لكنه نقل حركة الهمز إلى الساكن قبله وحذفه، وإنما قراءته على التوجيه الآتي بترك الهمز ابتداء دون اعتبار نقل ولا غيره، مع إشارته إلى مدلول القراءة الأخرى بالهمز، وذلك ما نقله العلامة ابن الأنباري بسنده عن نافع أنه قال: "من قرأ" ردءا بالهمز أراد: عونا، ومن قرأ "ردا" بلا همز أراد: زيادة، واحتج للمعنى الأخير بقول الشاعر:
__________
(1) - الحجة في القراءات السبع 353.
(2) - السبعة لابن مجاهد 494 والكشف 1/84 والحجة لابن خالويه 278.
(3) - السبعة 494.
(1/420)
وأسمر خطيا كأن كعوبه نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر(1)
قال ابن الأنباري: فمعناه: قد زاد على العشر"(2).
وهذا يدل على تفريق نافع بين مقتضى القراءتين، وأن قراءته التي اختارها بالتخفيف ولم يرو عنه غيرها من الطرق المعروفة، ليست جارية على أحكام نقل الهمزة كما تكلف لتخريجها على ذلك طائفة من المؤلفين في الاحتجاج للقراءات وتوجيهها(3)، وإنما هي جارية على رعايتها لهذا التأوبل الموافق لما تأوله عليه شيخه ابن جندب فيما أسلفنا، مع تعزيز نافع له بهذا الشاهد من الشعر العربي، وهذا ونحوه منه سبق فريد إلى الدراسة المقارنة لوجوه القراءات والاحتجاج لها بما تكلمت به العرب في أشعارها، هذا إلى جانب استثماره للثقافة الأدبية والتراث الأدبي على الخصوص في تنقيح الوجوه المختارة والنظر فيها باعتبار ما تؤول إليه من معان واعتبارات.
وهكذا ارتفع نافع في اختياراته من صعيد الرواية المجردة إلى آفاق الدراية الواعية، كما ارتفع بمستوى التدريس إلى مثل ذلك شعورا منه بحاجة المهرة من أصحابه إلى تعزيز ما يأخذونه من اختيارات بما يدعمه من الشواهد والاعتبارات.
ويدل مجيء الرواية في هذا وأمثاله عن الأصمعي وابن وهب وقالون وأضرابهم، على أنه إنما كان يطارح هذه المسائل والروايات من بلغوا مستوى التبريز، وأخذوا معه في فقه القراءة وتحقيق معانيها. وذلك جانب من استعمال نافع لثقافته اللغوية في توجيه اختياراته في القراءة والأداء.
__________
(1) - البيت لحاتم الطائي كما ذكره الجاحظ في البيان والتبيين 3/63.
(2) - إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري: 1/405-406.
(3) - ينظر الحجة لابن خالويه 278 – والكشف لمكي 2/84.
(1/421)
وأما معرفته بوجوه الإعراب وأساليب البيان، فيشهد لها ما يلاحظ في كثير من اختياراته من وجوه إعرابية خاصة، كما يلاحظ ذلك أيضا في بعض ما اختاره في مواقع الوقف والابتداء ـ كما سيأتي ـ فإن التحقق من ذلك لا يتفق ولا يتاح للقارئ دون أن يكون له رسوخ في هذه الصناعة، ولهذا عبر علماء القراءة في مختلف العصور عن مقدار حاجة القارئ إلى احكام قواعد العربية، فنجد أبا الحسن الكسائي ينعي على الذين يقرأون القرآن دون أن يكونوا على علم بتوجيه ما يقرأون فقال في أبيات:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع
وإذا لم يبصر النحو الفتى ... هاب أن ينطق جبنا فانقطع
فتراه ينصب الرفع وما ... كان من نصب ومن خفض رفع
يقرأ القرآن لا يعرف ما ... صرف الإعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرؤه ... وإذا ما شك في حرف رجع(1)
ويقول أبو عمرو الداني في مثل لك من أرجوزته:
... ... ولا تقف إلا على التمام أو حسن كاف من الكلام
وكل هذا قطبه الاعراب تاركه ليس له صواب
فألزم الأشياء للقراء ... معرفة الاعراب للأداء
وفهم ما يجيء في القرآن من غامض يدرك بالبيان(2)
ويقول أبو الحسن الحصري القيرواني في هذا المعنى:
وأحسن كلام العرب إن كنت مقرئا ... وإلا فتخطي حين تقرأ أو تقري
لقد يدعي علم القراءات معشر ... وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قبل: ما إعراب هذا ووزنه ... رأيت طويل الباع يقصر عن فتر(3)
ومن هنا جاء اهتمام نافع وأمثاله بهذا الفن، وقد مر بنا ما توافر لبعض شيوخه من مستوى في هذا الشأن، لاسيما عبد الرحمن بن هرمز الذي قدمنا أنه كان أول من فتق النحو لأهل المدينة، فغير بدع إذن أن يرث التلميذ عن شيخه نصيبا من هذا الاهتمام وإن لم يصل إلى مستوى النبوغ. حتى قيل عنه:
__________
(1) - انباه الرواة للقفطي 2/267 ترجمة 456.
(2) - الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني.
(3) - القصيدة الحصرية في قراءة نافع وستأتي.
(1/422)
"كان إماما في علم القرآن وعلم العربية"(1). ودليل ذلك ما قدمناه من مطارحاته لأصحابه في هذه القضايا في توجيه الاختيارات، وقوله في وصف قراءته ـ كما قدمنا ـ "نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها".
وقد ذكر ابن منظور في لسان العرب في مادة طمر ما يشهد على أن نافعا قد بلغ في العربية إلى مستوى فصحاء أهلها حتى كان كلامه فيها مما يحتج به، قال ابن منظور حاكيا عنه:
"وقال نافع بن أبي نعيم: كنت أقول لابن دأب(2)إذا حدث: أقم المطمر أي: قوم الحديث ونقح ألفاظه واصدق فيه، وهو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية: الخيط الذي يقوم عليه البناء".
ثانيا: علم التجويد
أما العنصر الثاني وهو علم التجويد، فيعتبر الإمام نافع من قدامى رواده، وأحد من عرف من القراء السبعة بمباحثة أصحابه فيه، وربما كان هو وحمزة بن حبيب أكثر القراء المشهورين حفاوة بمباحثه، انسجاما منهما مع ما كانا يأخذان به في الغالب من اختيار طريقة "التحقيق" في القراءة والأداء، وهي طريقة تمتاز بالتمهل والترسيل، واستيفاء مخارج الحروف وصفاتها، وذلك ـ كما وصفه الحافظ ابن الجزري ـ يكون "بإعطاء كل حرف حقه، من إشباع المد، وتحقيق الهمز، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار التشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف ببيانها وإخراج بعضها من بعض، بالسكت والترتيل واليسر والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف"(3).
وقد كان القائمون على صناعة التعليم من كبار الأئمة يأخذون شداة المتعلمين بمراعاة هذه الأحكام ليتمرنوا على أدائها، وربما بالغ بعضهم في تحريها طلبا لرسوخها في أداء القراء، وتحولها مع الممارسة من المحاولة إلى الملكة والصدور التلقائي دون تكلف أو جهد، على نحو ما ذكر عن حمزة في أخذه بذلك المبتدئين(4).
__________
(1) - دليل الحيران للمارغني 25.
(2) - لسان العرب: 4/503. ترجمة ابن دأب.
(3) - النشر لابن الجزري 1/205.
(4) - ينظر في ذلك جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي 2/527-528.
(1/423)
وقد فرق ابن قتيبة في ذلك بين مقامين: مقام الأداء العادي في التلاوة، ومقام التلقين، فنوه بالمقام الأول في موضعه وذكر أنه قراءة السلف، وأنها "كانت سهلة رسلة ـ قال ـ: وهكذا نختار للقراء في أورادهم". ثم قال عن المقام الثاني: "فأما الغلام الريض والمستأنف للتعلم، فنختار له أن يؤخذ بالتحقيق عليه من غير افحاش في مد أو همز أو إدغام، لأن في ذلك تذليلا للسان، وإطلاقا من الحبسة، وحلا للعقدة"(1).
ومن هذا المنطلق أخذ الإمام نافع يعنى بالأخذ بقراءة التحقيق حتى اشتهر بها، ورواها عنه بعض أصحابه وأخذوا بها، ومنهم أبو سعيد ورش الذي ندير هذا البحث حول روايته، وسوف نرى عند دراسة أصول هذه الرواية أنه كان يسند قراءة "التحقيق" خاصة من قراءته بها على نافع من طرق شيوخه الخمسة عن عبد الله بن عياش عن أبي بن كعب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ(2).
و"التحقيق" المذكور هو نوع من الترتيل، والفرق بينهما ـ كما يقول أبو عمرو الداني ـ أن الترتيل يكون بالهمز وتركه، والقصر لحروف المد، والتخفيف والاختلاس(3)، وليس ذلك في التحقيق"(4).
ومعنى ذلك أن "التحقيق" أقصى ما يكون من الترتيل، أو هو القدر الزائد عليه.
وبقيت لنا إشارات قليلة مما كان يأخذ به نافع على أصحابه في تلقين هذه القواعد عند الأداء، ففيما حدث به عنه القارئ المصري سقلاب بن شيبة قال: قال لي نافع:
"بين النون في هذه الأحرف إذا لقيتها: عند الحاء والخاء والعين والغين والألف والهاء"(5).
__________
(1) - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 61.
(2) - أسنده أبو عمرو الداني في كتاب "التجريد بسند مسلسل بالقراءة بالتحقيق ونقله ابن الجزري في النشر 1/206-207 بسنده من طريق أبي عمرو الداني، وذكر أنه ذكره في جامع البيان.
(3) - هو الإسراع بالنطق بالحركة حتى يظن أن الحرف ساكن.
(4) - نقله ابن الجزري في التمهيد 62.
(5) - غاية النهاية 1/308-309 ترجمة 1359.
(1/424)
وهذه الأحرف الستة هي المعروفة في علم التجويد بحروف الحلق، لأن مخرجها منه، وقد نبهه نافع على إظهارها وبيانها في حالة الإسكان، وعدم إخفائها عند هذه الأحرف كما تخفى عند غيرها من باقي الحروف. وذلك في مثل "أنعمت" و"ينهى" و"من خير" و"ينئون"(1)، وكذلك عند النون المنقلبة عن التنوين نحو "عليم حكيم" و"جرف هار".
وقد نبه الواضعون لعلامات الضبط على كيفية التفريق فيه بين النون المخفاة والمظهرة عند الحروف الحلقية وغيرها، وذلك بتعربة المخفاة من السكون دون المظهرة، كما فرقوا في مثل ذلك من المنون، فوضعوا حركتي التنوين متتابعتين في ما هو مخفى، ومتراكبتين في المظهر، مساعدة للقارئ على التفريق بينهما في الأداء، وهذا العمل في هذا التمييز من وضع المتقدمين من النقاط، وربما كان لعلماء المدينة نصيب فيه.
وقد وصف أبو عمرو الداني ذلك في "المحكم" ثم قال: "وهذا الذي ذكرناه من تراكب التنوين عند حروف الحلق وتتابعه عند غيرها من سائر حروف المعجم، إجماع من السلف الذين ابتدأوا النقط وابتدعوه، وجرى عليه استعمال الخلف"(2).
ولعل شيوع أخذ نافع بقراءة التحقيق جعله يستغرب قراءة "الحدر" أو يتظاهر بذلك عند من قال له من العارضين عليه: "خذ علي الحدر، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا، قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: "حدرنا أن لا نسقط الإعراب، ولا نشدد مخففا، ولا نخفف مشددا، ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا..."(3).
ولعل تنويه نافع ببعض المجيدين للأداء من أصحابه كان نابعا من تحقيقهم لهذا المستوى من الانسجام في القراءة مع مقتضيات الإجادة والتحقيق، فقد قال عنه صاحبه قالون:
__________
(1) - الهمزة التي تظهر عندها النون هي التي عبر عنا نافع بالألف اعتبارا لحملها لها في مثل "قد أفلح".
(2) - المحكم 72.
(3) - نقله علم الدين السخاوي في جمال القراء 2/530. وقد تقدمت الاستفادة من النص.
(1/425)
"كنت إذا قرأت على نافع عقد الثلاثين(1)، ويقول: "قالون" ـ يعني جيد"(2).
ثالثا: علم الرسم
أما العلم الثالث الذي لا يسع الجهل به قارئ القرآن، وهو من وسائل علم القراءة، فهو رسم المصحف، وهو ـ كما عرفه ابن خلدون ـ "أوضاع حروف القرآن في المصحف، ورسومه الخطية، لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط.."(3).
ولما كانت تلك الأوضاع الخطية لم تكن عند كتاب المصحف "كيف اتفق، بل على أمر عندهم قد تحقق، وجب الاعتناء به، والوقوف على سببه"(4). فمن هنا جاء اهتمام السلف منذ الصدر الأول بالمحافظة على تلك الأوضاع، والالتزام بها عند الكتابة القرآنية، ولم يسوغوا لأحد تجاوزها والتصرف فيها لحال، كما هو مشهور من فتاوى كبار الأئمة في ذلك، فقد قال أشهب: سئل مالك ـ رحمه الله ـ هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى"(5).
وقال الإمام أحمد ابن حنبل: "تحرم مخالفة خط المصحف في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك"(6).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "اتباع حروف المصحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها"(7).
ومن هنا كان أئمة الإقراء من قراء الجماعة بالأمصار لا يعترفون بقراءة القارئ، إلا إذ استوفت العناصر الثلاثة الأساسية ـ الآنفة الذكر ـ ومن أهمها موافقتها للمرسوم في المصحف الإمام.
__________
(1) - يعني أشار بيده عاقدا أصبعيه السبابة والإبهام وباسطا سواهما على هيئة عدد ثلاثين، كنابة عن الإعجاب.
(2) - نقله الجعبري في كنز المعاني عند التعريف بقالون، وقال: خاطبه بلسان الروم، لأنه من سبي الروم".
(3) - مقدمة ابن خلدون 438.
(4) - نفس المصدر والصفحة.
(5) - المحكم 11 والمقنع 10.
(6) - البرهان للزركشي 1/380.
(7) - نفس المصدر والصفحة.
(1/426)
وقد قدمنا مذهب نافع في ذلك، وأنه كان من أشدهم التزاما بملاءمة القراءة لمصحف الجماعة بتحقق الموافقة التامة له في الوصل والوقف، فكان بذلك يجمع بين مقتضى الروية الثابتة، ومقتضى هذه الرعاية الواجبة، فإذا زاد في الرواية الصحيحة حرف على خط المصحف، لم يأذن بكتابته بالسواد، واحتفظ به في الأداء فحسب، وقد قدمنا طريقته في ذلك في بعض ما يزيد عنده من ياءات، ولهذا جاء عنه أنه كان "يقف على الكتاب"(1)، وإذا وقف على حرف لم يدع الهمز فيه"(2).
وانما كان اهتمام نافع وغيره من الأئمة بالتمييز بين خط المصحف، وبين ما تقتضيه الرواية في بعض الحروف، نوعا من الاحتياط والوفاء لمذهب الجماعة في أن لا يزاد في المصحف ما لم يكن فيه، ومحاولة للملاءمة بين الرواية والرسم حتى فيما زاد عليه، إذ أن هناك حروفا كثيرة إنما احتملها رسم المصحف في القراءة بنوع من التسامح، إلا أنها ثابتة في الرواية ولا سبيل إلى ردها، ككثير من الكلمات التي تواترت القراءة فيها بالجمع والإفراد معا، ورسمت في المصاحف موافقة لإحدى القراءتين، ومحتملة للأخرى بنوع من التقدير، وكطائفة من الكلمات التي تقرأ باختلاف في الصيغة والوزن، مما يقتضي تقدير بعض الحروف في الرسم.
__________
(1) - أي المكتوب والمرسوم في المصحف الإمام.
(2) - الإيضاح في الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/385.
(1/427)
فمثال النوع الأول: الكلمات التي رسمت بالتاء المبسوطة، وجاءت القراءة فيها عن السبعة وغيرهم بالجمع والإفراد، مثل قوله تعالى: "وكذلك حقت كلمت ربك"(1)، "وتمت كلمت ربك"(2)، ومثل "في غيبت الجب"(3)حيث رسمت هذه الكلمات بتاء مبسوطة في المصحف، فاحتملت أن تكون رسمت على إرادة الجمع مع حذف الألفات اختصارا أو إشارة إلى القراءة الأخرى، واحتملت أن تكون رسمت على قراءة الإفراد مع بسط التاء لتحتمل القراءة الأخرى، وهما معا قراءتان متواترتان عن السبعة وغيرهم(4).
ومثال النوع الثاني: الكلمات التي تختلف صيغها وأوزانها الصرفية واللغوية باختلاف القراءة، مع قبول الرسم فيها لأكثر من وجه، باعتبار تقدير بعض الألفات أو الواوات أو الياءات محذوفة، وذلك في مثل قوله تعالى: "وإن ياتوكم أسرى تفدوهم.."(5)حيث قرئت "أسارى" ككسالى، وقرئت "أسرى" كمرضى(6)، وكذلك قرئ "تفدوهم" من "فدى" الثلاثي ومن "فادى" الرباعي(7)، والرسم محتمل لكل ذلك تحقيقا أو تقديرا مع التسامح في الخلاف اليسير المتعلق بحذف بعض الألفات، وهو نوع من الحذف يسميه القراء "حذف الإشارة" يريدون به الإشارة إلى اختلاف القراء في قراءة الكلمة بالحذف والإثبات(8).
__________
(1) - سورة يونس الآية 33 وغافر الآية 6.
(2) - سورة الأنعام الآية رقم 116.
(3) - سورة يوسف الآيتان 10-15.
(4) - قال في النشر عند ذكر "كلمت" : "قرأ الكوفيون ويعقوب بغير ألف على التوحيد في الثلاثة، وافقه ابن كثير وأبو عمرو في يونس وغافر، وقرأ الباقون بألف على الجمع فيهن" –النشر 2/293.
(5) - البقرة 85.
(6) - قرأ حمزة أسرى بغير ألف، وقرأ باقي العشرة بالفاء بعد السين – النشر 2/218.
(7) - قرأ نافع وأبو جعفر وعاصم والنسائي ويعقوب الحضرمي "تفادوهم" بألف بعد الفاء" – النشر 2/218.
(8) - قسموا الحذف إلى حذف اختصار واقتصار وإشارة ـ ينظر في ذلك "الدرة الصقيلة لأبي محمد اللبيب (مخطوط).
(1/428)
ومثل هذا النوع كثير في قراءة نافع نحو "ولولا دفع الله الناس"(1)، و"ان الله يدفع عن الذين آمنوا"(2)"ولولا ألقي عليه أسورة من ذهب"(3)، "وأن يصلحا بينهما صلحا"(4).
ولهذه العلة من اختلاف الرواية عن الرسم في طائفة من حروف القرآن، كان لا بد من أن يقوم صاحب القراءة بالتنصيص على قراءته في تلك الحروف وتحديد كيفية التأتي لرسمها، دون خروج كبير أو تام عن مصحف الجماعة، وقد مر بنا كيف عاب يحيى بن أكثم قراءة "ليهب لك" في سورة مريم يالياء، ذهابا منه إلى مخالفتها في ظاهرها لخط المصحف لأنها مرسومة هكذا "لأهب" وظاهرها مخالف للقراءة الأخرى.
وقد ظهر في كل مصر من الأمصار إمام روى ما ورد في مصحف بلده، إذ أن أئمة القراءة كانوا يروون رسم الكلمات إلى جانب روايتهم للقراءة.
وكما كانت مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دارا للسنة، كانت قبل ذلك ومعه دارا للقرآن قراءته ورسمه، فكان ممن روي عنهم الرسم من أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (ت 117- أو 119) نزيل الأسكندرية(5)، إلا أن إمام المدينة في الرسم هو نافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم أبو رؤيم أحد القراء السبعة الأعلام"(6).
لقد كان نافع من أوائل من دونوا هذا الاختلاف بين مقتضيات الرواية والرسم المصحفي الإمام، ووصفوه لتلامذتهم، ووقفوهم على ما هنالك من خصوصيات ينبغي معرفتها والتنبيه على أي خلاف ملحوظ بينها وبين مقتضى الرواية المتواترة في القراءة، ويمثل في هذا الصدد الريادة المطلقة أو على الأقل يمثلها في المدينة المنورة، إذ كان أول من حدد رسم المصحف المدني، ووصفه ونعت ما امتاز به من خصوصيات.
__________
(1) - الحج 38 والبقرة 240.
(2) - سورة الحج الآية 36.
(3) - سورة الزخرف الآية 53.
(4) - النساء الآية 127 – قرأ نافع "دفاع" و"يدافع" و"أساورة" و"يصالحا" كل ذلك بالألف.
(5) - أشار إلى المقنع للداني ص 40.
(6) - كتاب رسم المصحف لغانم قدوري الحمد 164.
(1/429)
وبمثل هذا العمل قام بعده القاسم بن سلام أبو عبيد (ت 224) فيما يخص مصاحف أهل العراق. وقد لاحظ أئمة هذا الشأن وجود اختلافات جوهرية بين النمطين المدني والعراقي، وتتبعوها بالإحصاء والمقارنة، وعمدتهم في ذلك على عمل كل من نافع وأبي عبيد، وإلى هذا يشير الإمام الشاطبي في أول عقيلة أتراب القصائد بقوله:
" وبين نافعهم في رسمهم وأبي ... ... عبيد الخلف في بعض الذي أثرا
ولا تعارض مع حسن الظنون فطب ... صدرا رحيبا بما عن كلهم صدرا(1).
قال أبو محمد اللبيب في الدرة الصقيلة في شرح البيتين:
"يريد أن نافعا ـ رحمه الله ـ وقع بينه وبين أبي عبيد اختلاف في الرسم، وذلك أن أبا عبيد لم يخالف نافعا إلا في مواضع يسيرة أدركه فيها إيهام، كقوله: "رأيت في الإمام" ولات حين مناص"(2)متصلة التاء بالحاء، وقد أنكر عليه ذلك وغيره مما سنذكره في مواضعه إن شاء الله"(3).
ثم قال اللبيب في بيان منزلة نافع في هذا الشأن: "وذلك أن نافعا ولد بالمدينة، وقرأ بالمدينة، وأقرأ الناس بها بجميع القراءات، وعاش عمرا طويلا، ومات بالمدينة سنة تسع وستين ومائة، فكان المصحف الذي أعطى عثمان أهل المدينة لا يزال عنده، فيكثر مطالعته ومواظبته إياه حتى تصور في خلده، فلم تؤخذ حقيقة الرسم إلا عن نافع، وعنه أخذ الغازي بن قيس وعطاء ...(4)وحكم الناقط(5)وغيرهم، وأبو عبيد إنما رأى المصحف مرة واحدة، ولكنه ذكر في كتابه المعروف بفضائل القرآن أنه تصفحه كله ورقة ورقة، فمن بقي ينظر عمره في مصحف كمن رآه في يوم أو يومين؟ فكان أبو عبيد ربما توهم في النقل"
__________
(1) - عقيلة الأتراب للشاطبي – مجموع اتحاف البررة بالمتون العشرة 320.
(2) - سورة ص الآية رقم 2.
(3) - يعني في شرحه للعقيلة.
(4) - في المخطوطة "عطاء بن يسار" والصحيح عطاء الخراساني كما سيأتي في أبيات مورد الظمآن للخراز
(5) - سيأتي في أصحاب الغازي بن قيس القرطبي صاحب نافع.
(1/430)
"فهذا سبب الاختلاف بينهما" ثم قال:" فنقل نافع أصح من نقل أبي عبيد لما ذكرته، وبالله التوفيق"(1).
ومهما يكن فقد كان نافع بهذه المثابة التي ذكرها له أبو محمد اللبيب في إطلاعه ومعرفته الراسخة بالمرسوم في المصحف المدني، سواء اطلع عليه في النسخة الأم التي أودعها عثمان المسجد النبوي(2)، أم في النسخ المأخوذة منه المعتمدة بالمدينة عند أئمة الإقراء المتصدرين، وقد تلقى عنه تلامذته هذا الرسم كاملا، وأطلقوا عليه "هجاء السنة"(3).
ويشهد لما ذكره اللبيب أيضا عن مواظبة نافع على النظر في إمام أهل المدينة وتمكنه من ذلك، ما ذكره عمر ابن شبة بسنده عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة قال: "ان أول من جمع القرآن في مصحفه وكتبه، عثمان بن عفان، ثم وضعه في المسجد، فأمر به يقرأ في كل غداة"(4).
إلا أن ابن شبة قد ساق بعده خبرا آخر يدل على ضياع هذا المصحف، وأن الحجاج في زمنه كتب المصاحف من جديد، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمان، فقيل لهم: "أخرجوا مصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ فقيل: " أصيب المصحف يوم قتل ... قال: فلما استخلف المهدي بعث بمصحف إلى المدينة، فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج فهو في الصندوق الذي دون المنبر"(5).
__________
(1) - الدرة الصقيلة في شرح العقيلة ( مخطوطة) وستأتي.
(2) - سيأتي الخلاف في شأن بقائها في المسجد أو ضياعها.
(3) - سيأتي ذكر أخذ الغازي بن قيس عنه لهذا الهجاء.
(4) - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/7.
(5) - المصدر نفسه 1/7-8.
(1/431)
والذي يظهر أن في الروايتين خلطا بين المصحف الرسمي الذي كتبه عثمان لأهل المدينة وأمر زيد بن ثابت ـ كما قدمنا ـ أن يقرئ الناس بما فيه، وأمر أن يوضع في المسجد ويقرأ به في كل غداة كما تقدم، وبين مصحفه الشخصي الذي أمسكه لنفسه، وقتل وهو يقرأ فيه(1).
وسواء كان هذا أو ذاك، فإن نافعا كان مهيئا لأن يطلع على كل ما هو بالمسجد النبوي، سواء كان الموجود النسخة الأم أو كان غيرها، مما قد كتبه زيد بن ثابت أو سواه تعزيزا للمصحف الإمام، ويدل على هذا تعبير الإمام مالك بلفظ الجمع حين سئل عن إدخال بعض العلامات التي يستعان بها في الضبط ونحوه فقال: "أما الأمهات فلا أراه"(2). ولا شك أنه يعني بها المصاحف الأصول المعتمدة بأيدي أهل المدينة.
على أن نافعا قد صح عنه انه نظر أيضا في مصحف عثمان الشخصي، وذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم قال:
"قرأ علي يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، اخبرنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نعيم قال: أرسل إلي بعض الخلفاء مصحف عثمان ليصلحه، قال زياد: فقلت له: ان الناس ليقولون ان مصحفه كان في حجره حين قتل، فوقع الدم على "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم"، فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قدم"(3).
فيستفاد من هذا وقوف نافع على مصحف عثمان، سواء في نسخته المدنية التي كانت مودعة بالمسجد النبوي أم في النسخة الخاصة به، أو في غيرهما مما أخذ منهما، مما جعله مرجعا لأهل الأمصار في زمنه في معرفة هذا الشان والعلم به.
__________
(1) - هناك خلاف في عدد المصاحف التي كتبها عثمان وبعث بها إلى الأمصار فقيل أربعة وقيل سبعة – كما في كتاب المقنع للداني 9. – وذكر ابن أبي داود في المصاحف 46-47 ما يدل على أن مصحفه الخاص كان غير مصحف أهل المدينة، وساق حروفا كثيرة يخالفه فيها.
(2) - المحكم 11.
(3) - نقله ابن كثير في تفسيره 1/330.
(1/432)
ومن متممات هذا العلم الأوضاع الملحقة به التي اصطنعها العلماء لضبط حروف القراءة في المصحف، باستعمال علامات دالة على كيفية النطق والأداء، وتمييز الحركات والسكنات، وأحوال التنوين والهمز والإظهار والإدغام والإمالة وغير ذلك من الأحكام الضبطية والأدائية.
وقد أثر عن نافع الجمع في طريقته في "هجاء السنة" بين مرسوم الخط وكيفية نقطه وضبطه.
وسيأتي أخذ الغازي بن قيس القرطبي في رحلته إليه لهذا الرسم والضبط، وكيف جمع ذلك كله في كتاب سماه هجاء السنة"، "وصحح مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة، وتلقى عنه اختياره"(1).
وذلك معناه أنه حدد رسم مصحفه على الطريقة المدنية بالرواية عن نافع، كما حدد كيفية القراءة حسب اختيار نافع، وذلك عن طريق علامات النقط والشكل التي كان أهل المدينة قد اخذوا بها، مستعملين في ذلك مجموعة من الأصباغ الخاصة للتمييز بين مختلف علامات الضبط، ولئلا تلتبس بالرسم الأصلي المرسوم في المصحف الإمام، الذي حافظوا على كتابته بالسواد، وهكذا كانوا "يكتبون الحركات نقطا"(2)بالحمرة، والهمزات بالصفرة، وألفات الوصل المبتدأ بهن بالخضرة، والصلات والسكون والتشديد بقلم دقيق بالحمرة"(3).
وقد شهد نافع هذا الطور من أطوار تحقيق الرسم وتحرير أساليب الضبط، وكان في المدينة من رواد هذه الطريقة التي اقتبست معالمها ـ كما قدمنا ـ عن متقدمي علماء البصرة، إذ كانوا المبتدئين بالنقط والسابقين إليه.
ويدل على شهود نافع لهذا الطور، إسهامه هو أيضا مع المتسائلين عن مدى مشروعية إدخاله في المصحف وقد أسند أبو عمرو الداني من طريق سحنون عن عبد الله بن وهب قال: حدثني نافع بن أبي نعيم قال:
__________
(1) - غاية النهاية 2/2 ترجمة 3534.
(2) - كانوا يستعملون الشكل المدور بدل الحركات كما قدمنا.
(3) - هذا وصف مصحف حكم بن عمران صاحب الغازي بن قيس ناقط أهل الأندلس كما وصفه الداني في المحكم 87.
(1/433)
"سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن شكل القرآن في المصحف، فقال: لا بأس به"(1).
ولربما كان هذا السؤال منه في طور التلقي قبل أن يتوسع مع رواد حلقته في الأخذ به وضبط اختياره عليه، وقد تبين لطائفة من الفقهاء يومئذ، وأكثرهم من القراء ـ رجحان المصلحة في السماح بإدخال نظام الشكل في ضبط القراءات في المصاحف، والمساعدة على النطق السليم بحروف القرآن مجودة ومعربة، لما في ذلك من التيسير على المتعلمين من جهة، ولما فيه من تحديد للرواية المقروء بها، مع التحرز عن الخطأ واللحن، وكان الإمام مالك بن أنس يسأل عن ذلك كثيرا، وربما كان يضيق من كثرة ما ظل يسأل عن هذا فيقول:
"لا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن، فأقول له: "أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، فأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بأسا"(2).
وقد احتفظت بعض المصنفات المختصة بقائمة طويلة من الروايات عن بعض أصحاب نافع في رسم المصحف رواية عن نافع نكتفي منها هنا بذكر أمثلة مع الإشارة إلى مظانها لمن أحب المزيد.
فمن ذلك ما أسنده الداني في كتاب المقنع من طريق عيسى بن مينا قالون عن نافع بن أبي نعيم القارئ قال:
"الألف غير مكتوبة ـ يعني في المصاحف ـ في قوله في البقرة: "وما يخدعون"(3)"وإذا وعدنا"(4)"ووعدنا موسى"(5)"ووعدنكم"(6)حيث وقعن، و"فأخذكم الصعقة"(7)"وتشبه علينا"(8)..... وساق عددا كبيرا من أول القرآن إلى آخره مرتبا على السور(9).
__________
(1) - المحكم 13.
(2) - المحكم: 11.
(3) - سورة البقرة رقم الآية 8.
(4) - البقرة الآية رقم 50.
(5) - سورة الأعراف الآية رقم 142.
(6) - سورة طه الآية رقم 78.
(7) - سورة البقرة الآية رقم 54.
(8) - سورة البقرة الآية رقم 69.
(9) - المقنع في معرفة مرسوم أهل الأمصار 10-15.
(1/434)
وقال أبو عمر الطلمنكي(1)"إثبات الألف بعد السين من "سحر" و"السحر"(2)
أولى لقول نافع: "انه في مصاحف أهل المدينة بألف بعد السين"(3).
وقال الطلمنكي أيضا: "وكتبوا في جميع مصاحف أهل الأمصار في سورة الرعد "وسيعلم الكفر"(4)بغير ألف قبل الفاء ولا بعدها(5)، وكذلك رواه قالون عن نافع"(6).
وقال أبو داود سليمان بن نجاح ـ صاحب أبي عمرو الداني ـ في كتاب "التبيين": "قال نافع: "حاش لله"(7)من غير ألف بعد الحاء والشين إجماعا من كتاب المصاحف"(8).
وقال أبو داوود في التبيين أيضا: "قال نافع المدني: "هما في الكتاب بنون واحدة ـ يعني "فننجي من نشاء"(9)وننجي المومنين"(10)في الأنبياء"(11).
وقال في التبيين أيضا: "قال نافع بن أبي نعيم: "يسئلون عن أنبائكم"(12)هي في الامام بغير ألف بعد السين"(13).
__________
(1) - سيأتي في أئمة القراءات في قرطبة (ت 429 هـ).
(2) - رسم لفظ "ساحر" "والساحر" بلا ألف هكذا ذكر أبو عمرو الداني في المقنع 20 واستثنى في "والذريات" "الا قالوا ساحر". والعمل الآن على إثبات الألف في هذا الموضع وفي "ولا يفلح الساحر" في طه الآية رقم 68 وفي "يا أيه الساحر" في سورة الزخرف 48.
(3) - الدرة الصقيلة للبيب (مخطوط).
(4) - سورة الرعد الآية ما قبل الأخيرة من السورة.
(5) - قرأها بألف بعد الكاف بصيغة المفرد نافع وابن كثير وأبو عمرو، وقرأ باقي السبعة "الكفار" بألف بعد الفاء بصيغة الجمع. – ينظر كتاب السبعة لابن مجاهد 359 – والتيسير لأبي عمرو 134.
(6) - نقله اللبيب في الدرة الصقيلة (مخطوط).
(7) - سورة يوسف الآية رقم 31.
(8) - نقله اللبيب في الدرة الصقيلة (مخطوط).
(9) - سورة يوسف الآية ما قبل الأخيرة من السورة.
(10) - سورة الأنبياء الآية رقم 87.
(11) - نقله في الدرة الصقيلة (مخطوط).
(12) - سورة الأحزاب الآية رقم 20.
(13) - نقله في الدرة الصقيلة (مخطوط).
(1/435)
وقال أبو عبد الله بن أشتة في كتاب المصاحف: "قال نافع بن أبي نعيم: "في مصاحف أهل المدينة "يضعفه له أضعفا"(1)و"يضعف" و"مضعفة" حيث وقعن، بحذف الألف في جميعهن(2).
وقال أبو محمد عبد الله بن سهل ـ صاحب مكي وأبي عمرو الداني ـ في كتاب "الدرر المنظوم":
"روى قالون عن نافع "طئف" بغير ألف في الخط إذا قرئت هذه الكلمة لنافع(3).
ومن هذه النقول المتنوعة عند الأئمة المهتمين بدراسة رسم المصاحف واختلاف النقلة فيه، يتبين مقدار اهتمام نافع ببيان الرسم وتحديده، ووصفه ما في مصحف المدينة، ويتبين أيضا من هذه النقول أن منها ما يصف عن كثب خصوصيات هذا المصحف، كقوله "طيف" بغير ألف، و"حش من غير ألف بعد الحاء والشين، و"الكفر" بغير ألف إلى غير ذلك مما ذكره، مع أن هذه الكلمات في قراءته بألف بإجماع الرواة عنه بعد الطاء من "طيف" والحاء من "حش" والكاف من الكفر". وكقوله "يسئلون" هي في الإمام بغير ألف بعد السين.
ومثل ذلك في قوله: "وما يخدعون إلا أنفسهم" حيث قرأها بألف بعد الخاء، وقوله "وعدنا" ونظائرها، في كثير من الكلمات المحذوفة الألف التي ساقها أبو عمرو في أول المقنع في قائمة طويلة.
__________
(1) - سورة البقرة الآية رقم 243.
(2) - نقله في الدرة الصقيلة عند قول الشاطبي في العقيلة:
يضعف الخلف فيه كيف جاء وكتبه ونافع بالتحريم ذاك أرى.
(3) - نقله في الدرة الصقيلة (مخطوط)، والإشارة إلى قوله تعالى: "ان الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطن تذكروا فإذا هم مبصرون" الآية 201، قرأ نافع "طائف" بألف بعده همزة، ووافقه ابن عامر وعاصم وحمزة، وقرأ باقي السبعة "طيف" بغير همز ولا ألف بوزن "غيث" – ينظر التيسير 115.
(1/436)
وقد عني بعض أصحابه بنقل هذه الجزئيات عنه، كالنقول المستفيضة عنه عند قالون في المقنع، وما جاء عن إسحاق المسيبي عنه بخصوص الوقف على أواخر الكلم من أنه "كان يقف على الكتاب" يعني حسب المرسوم(1). وفي ذلك يقول الداني في إيجاز البيان: اعلم أن الرواية عنه معدومة من طريق ورش وغيره من الناقلين عنه، غير أن إسحاق المسيبي، فإنه روى ذلك عنه منصوصا، فوجب استعمال ما رواه، إذ المصير إلى خلاف ذلك بغير دليل من رواية لا يسع أحدا"(2).
__________
(1) - ينظر المقنع 60.
(2) - نقله ابن القاضي في باب الوقف على مرسوم الخط من الفجر الساطع (مخطوط).
(1/437)
ومن هنا جاء اهتمام المغاربة بوجه خاص بتتبع قضايا الرسم على مذهب نافع، وعنوا به عناية خاصة، انطلاقا من أخذهم لاختياره في القراءة، واعتمادهم لمذهبه في الجملة، فظهر فيهم من أئمة هذا الشأن من برز فيه تبريزا منقطع النظير كأبي عمرو الداني وسليمان بن نجاح تلميذه من المتقدمين، وأبي عبد الله الخراز من المتأخرين حتى أضحوا عمدة أهل القرآن في تحقيق مسائل هذا الفن رسما وضبطا، وظلوا كذلك مرجعا إلى الآن(1).
وبلغ من حرصهم على تحديد مذهب نافع في ذلك أن قاموا بإحصاء لما تتطرق إليه الزيادة والنقصان حسب نوع القراءة، فأحصوا الأحرف التي تمثل تلك الزيادات في قراءة نافع، فقال الإمام الشوشاوي:
"وأما عدد ألفات القرآن على مذهب نافع، فهي ثمانية وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون ألفا ..." وذكر نحوا من ذلك في عدد الياءات والواوات(2).
__________
(1) - ما تزال مؤلفات المغاربة والأندلسيين عمدة في هذا الشأن في تصحيح قضايا الرسم وتحرير مسائل الخلاف، ودليل ذلك اعتماد مختلف اللجان التي تتولى طبع المصاحف في مختلف البلدان الإسلامية على كتبهم، سواء التي طبعت برواية ورش أم التي طبعت برواية حفص عن عاصم، وقد نصت لجن طبع المصحف الشريف التي قامت بطبعه بموافقة إدارة الإفتاء العام في الجمهورية العربية السورية بتاريخ جمادى الثانية عام 1398 –15 أيار 1978 – في تعريفها بمصادرها في طبع المصحف برواية حفص على أنه "أخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها سيدنا عثمان بن عفان ... على حسب ما رواه الشيخان أبو عمرو الداني وأبو داود سليمان بن نجاح مع ترجيح الثاني عند الاختلاف، والعمدة في بيان كل ذلك على ما حققه الأستاذ محمد بن محمد الأموي، الشريشي المشهور بالخراز في منظومته مورد الظمآن ... الغ
(2) - الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة للشوشاوي 353.
(1/438)
وهكذا نالت مدرسة نافع في المدينة ثم في امتداداتها في الجهات المغربية منزلة الإمامة في هذا العلم ومتمماته، فأشبعوه بحثا، واستفرغوا غاية الجهد في مسائله وقضاياه نظما ونثرا، كما سوف يمر بنا من خلال جهود أئمتهم ومصنفاتهم وقصائدهم السائرة في ذلك بعون الله فيما نستقبله من هذا البحث.
رابعا : معرفة الوقف والابتداء
ومن الموضوعات التي لا غنى للقارئ عن معرفتها، موضوع الوقف والابتداء، وهو فرع من علوم القراءة يحتاج إلى حس دقيق وثقافة عالية في أساليب البيان العربي وطرائق الخطاب، إلى جانب المعرفة الصحيحة بمواضع رؤوس الآي أو ما يسمى بعلم العدد كما سيأتي-، كما يقتضي أيضا تضلعا في التفسير ومعرفة التأويل، وذلك لما يترتب على الوقف والابتداء من معان، يجيء منها المقبول المراد من الآية، ويجيء المتعسف المردود.
وقد نص علماء هذا الشأن على صعوبة هذا العلم، وافتقاره إلى ثقافة علمية مكينة، إذ أن مواقع الوقف في القرآن ليست كلها بدرجة واحدة من الوضوح، "فمن الوقف ما هو واضح مفهوم معناه، ومنه مشكل لا يدرى إلا بسماع وعلم بالتأويل، ومنه ما يعلمه أهل العلم بالعربية واللغة، فيدري أين يقطع؟ وكيف يأتنف؟"(1).
ولهذه الصعوبة واكتناف الخفاء والغموض لبعض مواقع الوقف كان أبو بكر بن مجاهد يقول: "لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص وتخليص(2)بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن"(3).
__________
(1) - كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس 97-98.
(2) - لعله الصواب كما في الإتقان للسيوطي 1/87، وليس تلخيص "كما في القطع والائتناف 94 والبرهان – للزركشي 1/343.
(3) - القطع والائتناف 94.
(1/439)
ومعنى قوله "وتخليص بعضها: "امتلاكه القدرة على تمييز دقائق الفروق بين المعاني، وذلك لا يختص بمعرفة رؤوس الآي وحدها، بل يشمل المعرفة بفواصل الكلام، ولذا نبه العلماء على الفرق بينهما، فقال أبو عمرو الداني: "الفاصلة هي الكلام المنفصل عما بعده، والكلام المنفصل قد يكون رأس آية، وغير رأس، وكذلك الفواصل يكن رأس آية وغيرها، وكل رأس آية فاصلة، وليس كل فاصلة رأس آية"(1).
لهذه الدقائق كان أئمة الإقراء من السلف يعنون بهذا العلم، ولا يعترفون للطالب بتحصيل القراءة على وجهها، ولا يجيزونه بها، إلا إذا تمكن من قواعده كل التمكن(2). إذ لا سبيل إلى القراءة الصحيحة إلا به، ولذلك وصف بأنه "حلية التلاوة، وزينة القارئ، وبلاغ التالي، وفهم للمستمع، وفخر للعالم، وبه يعرف الفرق بين المعنيين المختلفين، والنقيضين المتباينين، والحكمين المتغايرين، وقال أبو حاتم:
"من لم يعرف الوقف لم يعرف القرآن"(3).
وقد كان علماء الصدر الأول يجعلون العلم بهذا الشأن من أوليات ما ينبغي أن يؤخذ به الطالب، فقد جاء فيما روى عياض بسنده عن عبيد الله بن جناد قال:
__________
(1) - نقله في الإتقان 2/97 ونحوه في النشر 1/226-227.
(2) - ينظر في ذلك النشر 1/225 ولطائف الإشارات للقسطلاني 1/245.
(3) - لطائف الإشارات 1/249.
(1/440)
"عرضت لابن المبارك فقلت: أمل علي ـ يعني الحديث ـ فقال: أقرأت القرآن؟ فقلت: نعم، فقرأت عشرا، فقال: هل علمت ما اختلف الناس فيه من الوقف والابتداء؟ قلت: أبصر الناس بالوقف والابتداء، فقال: مدهامتان"(1)؟ فقلت له: آية(2)قال: فالحديث سمعته من أحد غيري؟ قلت: نعم، قال: فحدثني، فحدثته بأحاديث في المناسك، فقال: أحسنت، هات ألواحك ..."(3).
ذلك كان شأنهم في البداية بالأولويات، وكان العلم بقواعد الوقف والابتداء مما يولونه مزيدا من العناية، قال ابن الجزري ": "وصح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح، كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم، وأبي عمرو بن العلاء، ويعقوب الخضرمي، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم من الأئمة، وكلامهم في ذلك معروف، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب"(4).
ولم يقتصر كل من يعقوب الحضرمي ونافع بن أبي نعيم على العناية بالجانب الوظيفي من هذا العلم بتصحيح قراءتهما، وأخذ المتعلمين عليهما به عند التعلم والعرض عليهما، وإنما تجاوزا هذا المستوى إلى تحديد لمواقع الوقف في جميع القرآن، والنص على مواضع الوقف التام منها، والتأليف في ذلك.
وإلى ريادة نافع ويعقوب الحضرمي ( 205هـ) في التأليف فيه يشير العلامة أبو جعفر النحاس بقوله:
__________
(1) - سورة الرحمن الآية رقم 64.
(2) - هي آية بإجماع، بل قال أبو عمرو الداني: "لا أعلم كلمة هي وحدها آية، إلا قوله "مدهامتان" ذكره السيوطي في الإتقان 1/66 وتعقبه بكلمات هي أيضا آيات نحو والفجر، والعصر، والضحى، ولعل الداني يقصد الكلمة بالمفهوم النحوي، أما ما استدركه السيوطي ففيه الواو كلمة وهو من حروف المعاني، ثم بعده الكلمة المقسم بها.
(3) - نقله عياض في الغنية 103-104.
(4) - النشر 1/225 ونقله السيوطي في الإتقان 1/83.
(1/441)
لست أعلم أحدا من الأئمة الذين أخذت عنهم القراءة له كتاب مفرد في "التمام"، إلا نافعا ويعقوب، فإني وجدت لكل واحد منهما كتابا في "التمام"، ثم قال:
"وإذا كان غير نافع ويعقوب قد ذكر في التمام شيئا، فليس يخلو أمره من أحد وجهين: إما أن يكون لبس له شهرتهما، وإما أن يكون ليس مثلهما"(1).
ولا يخفى أن قول النحاس هذا تنويه صريح بمقام الريادة الذي مثله في هذا الفن كل من نافع في الحجاز، ويعقوب في العراق، مع تقدم نافع في الزمن، ولعله حين يضع بين أيدينا الاحتمالين اللذين ذكرهما، يجيب عن افتراض متوقع، يريد أن يضع بعض البدايات الساذجة أو غير الناضجة في مقام السبق، مع أنها ليست لها مزية الشهرة التي حظي بها كتاب نافع ويعقوب في وقف "التمام"، أو ليست لها منزلتها من الناحية العلمية.
ولست أدري هل غاب عن النحاس كتاب شيبة بن نصاح شيخ نافع في موضوع الوقف، وهو كتاب يمثل به الريادة المطلقة، إذ يقول عنه الحافظ ابن الجزري: "هو أول من ألف في الوقوف، وكتابه مشهور"؟(2)
أم أن النحاس على علم به، ولكنه يعتده من أحد القسمين اللذين ذكرهما ضمن الاحتمالين؟.
وقد ذكر ابن النديم أيضا جملة من المؤلفات في الوقف يرجع تاريخها إلى هذا العهد وما قبله(3)، إلا أنها في الجملة قد لا تخرج عن الاحتمالين السابقين: ضعف مستواها، أو قلة شهرتها.
وكيفما كان الحال فإن الذي يهمنا هو إثبات الريادة لنافع في هذا العلم بالمدينة بعد شيخه شيبة أو معه، بتأليفه في هذا الموضوع الجديد، وهو تأليف سارت به الركبان رواية عنه في حياة مؤلفه، وتلقاه عنه الجم الغفير، وحمله الرواة عنه إلى مصر وغيرها. وقد أطلق عليه الحافظ ابن الجزري اسم "كتاب التمام" وقال: رواه عنه سقلاب بن شيبة"(4).
__________
(1) - القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس 75.
(2) - غاية النهاية 1/330 ترجمة 1439.
(3) - الفهرست لابن النديم 60.
(4) - غاية النهاية 1/308 ترجمة 1359.
(1/442)
وذكر السيوطي في البغية في ترجمة أشعث بن سهل التجيبي المصري النحوي أبي المنصور، نقلا عن أبي عمرو الداني أن أشعث هذا " روى كتاب "التمام" لنافع بن أبي نعيم القارئ عن أحمد بن محمد المديني عن ابن شيبة عن نافع ..."(1).
وهذه الرواية من هذه الطريق مبسوطة عند أبي جعفر النحاس في كتابه "القطع والائتناف"، وعليها اعتمد في عرض مذهب نافع في ذلك في كتابه، وأشار إلى ذلك في مقدمته بقوله:
"كل ما قلنا فيه" قال نافع"، فانا كتبناه عن أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن محمد بن هلال المقرئ(2)، يرويه عن إسماعيل بن عبد الله المقرئ(3)وأشعث بن سهل(4)عن أحمد بن محمد(5)عن سقلاب عن نافع بن أبي نعيم"(6).
ويعتبر كتاب القطع والائتناف الآنف الذكر سجلا يكاد يكون كاملا بمذهب نافع في وقف التمام، اذ عني النحاس فيه بالمقارنة بين أقوال علماء الوقف الذين تقدموه والموازنة بينها، وعني بإيراد المواقف التي قال عنها نافع انها من الوقف التام، فكان يقره أحيانا، وينتقده أحيانا أخرى، أو يورد كلام من انتقده من علماء الفن.
وسيأتي لنا أن طائفة من الوقفات التي ينتقدها المتأخرون عادة على الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي جمعة الهبطي ـ واضع الوقف المغربي المقروء به في الوقت الحاضر بالمغرب والشمال الافريقي ـ هي في الواقع من اختيارات نافع في كتاب التمام، وأولها الوقف على "ذلك الكتاب لا ريب" في أول سورة البقرة(7).
__________
(1) - بغية الوعاة 1/458 ترجمة 938.
(2) --سيأتي في أصحاب الأزرق صاحب ورش.
(3) - هو أبو الحسن النحاس صاحب الأزرق وسيأتي.
(4) - كذا، ولعل الأصح "عن أشعث" لأن إسماعيل النحاس يروي عنه كما في بغية الوعاة 1/458.
(5) - هو المديني الآنف الذكر
(6) - القطع والائتناف 99.
(7) - ينظر الوقف عليها لنافع في القطع والائتناف 113 وفي المكتفى للداني 158.
(1/443)
ولعل مذهب نافع في اختياراته في هذا الموضوع قد استفاده العلماء من كتابه في الجملة، فقال أبو علي الأهوازي مبينا لمذهبه ومقارنا بينه وبين باقي السبعة:
"الوقف عند نافع وابن كثير وابن عامر حيث يتم، وعند أبي عمرو وعاصم حيث يحسن، وعند حمزة حيث يتفق"(1).
ولا شك أن هذا التقويم للإمام الأهوازي صادر عن علم بحال قراءة كل إمام من أولئك السبعة وخصوصياتها في الأداء، من حدر أو تدوير أو تحقيق، لما بين هذه المراتب في الأداء وبين الوقف والابتداء من ارتباط(2).
وقد ذكر الإمام ابن الجزري بخصوص قراءة نافع واختياراته في أدائها، انه "كان يراعي محاسن الوقف والابتداء بحسب المعنى، كما ورد عنه النص بذلك"(3).
وهذه منه إشارة إلى اختياره في ذلك نمطا خاصا، حاول رسم معالمه من خلال تأليفه المذكور.
خامسا: معرفة العدد ومواضع رؤوس الآي
ومن العلوم الفرعية التي اهتم بها نافع وكان من روادها، علم عدد الآي ومعرفة الفواصل، وذلك لما له من مزية في التمييز بين المعاني، ولما ينبني عليه من احكام أخرى تعود إلى احكام القراءة وإتقان التجويد، ورعاية مواقع الوقف التام والكافي والحسن، وقد دافع الإمام أبو القاسم الهذلي في كتابه "الكامل في القراءات" عن هذا العلم ومنافعه فقال:
__________
(1) - نقله ابن القاضي في كتاب "القول الفصل في اختلاف السبعة في الوقف والوصل" (مخطوط).
(2) - يراجع ما بينهما من ارتباط في النشر 1/238-
(3) - النشر 1/238.
(1/444)
"اعلم أن قوما جهلوا العدد وما فيه من الفوائد، حتى قال الزعفراني(1): ان العدد ليس بعلم وإنما اشتغل به بعضهم ليروج سوقه، قال: وليس كذلك، ففيه من الفوائد معرفة الوقف، ولأن الإجماع انعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية(2)، وقال جمع من العلماء: تجزئ بآية، وآخرون بثلاث آيات، وآخرون لا بد من سبع، والإعجاز لا يقع بدون آية"(3).
وأضاف الإمام أبو العباس القسطلاني إلى هذه الفوائد ما يقدمه للقارئ من معونة على حسن الأداء، ومساعدة على معرفة موضع الوقف وكيفيته، قال: لأن بعض القراء زاد على رسم الخط ستين ياء في رؤوس الآي"(4)، وبعضهم امال رؤوس الآي من بعض السور(5)، وبعض أصحاب الأزرق(6)رقق ما غلظ من اللامات الواقعة في رؤوس الآي الممالة(7)، فمن ثم احتيج إلى تمييز الفواصل من غيرها(8).
وقبل أن نتحدث عن ريادة نافع في هذا العلم، نرى من المفيد أن نقدم نظرة موجزة عن "العدد" واختلاف مدارس الأمصار فيه نقلا عن الإمام أبي الفرج بن الجوزي، لمعرفة جهود علماء الصدر الأول فيه، قال في فنون الأفنان:
__________
(1) - هو أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني صاحب الإمام الشافعي مات سنة 260 هـ - ترجمته في طبقات الفقهاء للشيرازي 100- وطبقات الشافعية للسبكي 1/205 ووفيات الأعيان 356.
(2) - ينظر نقل الإجماع على ذلك أيضا عند السيوطي في الإتقان 1/69 نقلا عن الهذلي.
(3) - الإتقان 1/69 – ومناهل العرفان للزرقاني 1/339. ونص الهذلي في الكامل (لوحة 48) وفيه "فقالوا ليس بعلم".
(4) - وذكر ابن الجزري أن عدد الياءات الزوائد في رؤوس الآي 86 ياء – النشر 2/281.
(5) - ومن أهمهم ورش عن نافع وحمزة والكسائي.
(6) - هو أبو يعقوب يوسف بن عمرو بن يسار صاحب ورش.
(7) - المراد قوله "فلا صدق ولا صلى" في سورة القيامة" وذكر اسم ربه فصلى "في الأعلى" "وعبدا إذا صلى" في العلق.
(8) - لطائف الإشارات للقسطلاني 1/264-265.
(1/445)
"وأما عدد آي القرآن فمختلف فيه أيضا على حسب اختلاف العادين، والعد منسوب إلى خمسة بلدان: مكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام".
"فالعدد المكي منسوب إلى مجاهد بن جبر وعبد الله بن كثير".
والمدني الأول منسوب إلى نقل أهل الكوفة إياه عن أهل المدينة مرسلا، لم يسموا فيه أحدا.
والمدني الآخر منسوب إلى أبي جعفر يزيد بن القعقاع وصهره شيبة بن نصاح، وبينهما خلاف في ست مسائل وهي قوله: "مما تحبون"(1)"وان كانوا ليقولون"(2)"وقد جاءنا نذير"(3)و"إلى طعامه"(4)و"فأين تذهبون"، ترك هذه الخمس آيات(5)أبو جعفر، وعدهن شبة، وعد أبو جعفر "مقام ابراهيم"(6)وتركها شيبة".
قال ابن المنادي(7): أما المدني الأول فلا يدرى على الحقيقة في أي زمن هو، وكأنه عدد صحابي متوافق عليه، فلكثرة أهله لم يعز إلى أحد مسمى، فإن كان قبل كتاب المصحف فهو مأخوذ من أفواه الرجال، وإن كان عن مصحف، فهو مأخوذ قبل استنساخه كتبا، فلما نشأ أبو جعفر وشيبة اختارا من عد الماضين كما من الحروف"(8).
وقد كان لنافع أخذ بالعددين معا، إلا أنه فيما يظهر كان يأخذ بالأول، ثم انتقل إلى الآخر، وذلك ما يفيده ما ذكره الإمام الداني وغيره، قال في البيان عن عدد آي القرآن:
__________
(1) - "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" سورة آل عمران الآية رقم 92.
(2) - سورة اليقطين الآية رقم 151.
(3) - سورة الملك الآية رقم 9.
(4) - سورة عبس الآية رقم 24. وقوله "فأين تذهبون" من سورة التكوير من الآية رقم 26.
(5) - كذا والصواب "الخمس الآيات" بتعريفهما.
(6) - سورة آل عمران الآية رقم 97.
(7) - هو أحمد بن جعفر بن محمد أبو الحسين البغدادي المعروف بابن المنادي من كبار أئمة القراءات، توفي سنة 336هـ. ترجمته في غاية النهاية 1/44 ترجمة 183.
(8) - فنون الأفنان في عيون علوم القرآن لابن الجوزي 39.
(1/446)
"فالمدني الأول رواه نافع بن أبي نعيم ـ رحمه الله ـ عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح وبه أخذ القدماء من أصحاب نافع".
"والمدني الأخير فهو الذي رواه اسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري عن سليمان بن مسلم بن جماز عن شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب مولى أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي جعفر بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وعليه الآخذون لقراءة نافع اليوم، وبه ترسم الأخماس والأعشار وفواتح السور في مصاحف أهل المغرب"(1).
وقال أبو عمرو في إيجاز البيان: "أما المدني الأول فهو الذي رواه نافع عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، وبه كان يأخذ القدماء من المتمسكين بقراءة نافع".
"والمدني الأخير به يعد التالون لقراءة نافع اليوم، وبه تخمس المصاحف عندنا وتعشر، وترسم فواتح السور"(2).
ولعل تنقل نافع بين الأخذ بالأول والآخر هو مصدر الخلاف بين المتأخرين عن ورش أيأخذ بالأول أو الثاني؟
قال النوري في غيث النفع:
__________
(1) - البيان عن عد آي القرآن (مخطوط) ونقله السخاوي في جمال القراء 1/189.
(2) - نقله الإمام أبو عبد الله بن غازي في ذكر فواصل طه من كتابه "إنشاد الشريد من ضوال القصيد" (مخطوط).
(1/447)
"واختلف فيما يعتبره ورش والبصري، فذهب صاحب "الدر النثير"(1)إلى أن ورشا يعتبر المدني الأخير، والبصري يعتبر عدد بلده(2)، وعلى هذا اقتصر المحقق(3)واحتج على ما لورش بأنه عدد نافع وأصحابه، وعليه مدار قراءة أصحابه المميلين رؤوس الآي.
وذهب الداني ومعه الجعبري وغيره إلى أنهما يعتبران المدني الاول، قال الداني، لأن عامة المصريين رووه عن ورش عن نافع، وعرضه البصري على أبي جعفر"(4).
ومهما يكن فالمشهور عن نافع أنه كان يأخذ بالمدني الأول، وربما كان يفضله أولا لتواتره عمن روي عنه من الصحابة، وقد تلقاه رواية عن شيخيه الكبيرين: أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح، ونقله عنه كثير من الآخذين عنه من أصحابه، واعتمدوه في رواياتهم، وإلى إلى هذا أشار الإمام القاسم بن فيره الشاطبي في قصيدته ناظمة الزهر" بقوله:
"ولما رأى الحفاظ أسلافهم عنوا ... بها دونوها عن أولي الفضل والبر
فعن نافع عن شيبة ويزيد أو ل المدني، إذ كل كوف به يقري
وحمزة مع سفيان قد أسنداه عن علي عن أشياخ ثقات ذوي خبر
والآخر إسماعيل يرويه عنهما ... بنقل ابن جماز سليمان ذي النشر
بأن رسول الله عد عليهما ... له الآي توسيعا على الخلق في اليسر(5)
أما عدد آي القرآن في المدني الأخير فقال ابن الجوزي:
__________
(1) - هو أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي شارح "التيسير في القراءات السبع" للداني، وسيأتي.
(2) - يعني العدد البصري، وهو مروي عن عاصم الجحدري من التابعين – فنون الأفنان 39-40.
(3) - يعني ابن الجزري في النشر 2/80، وقد جاء فيه قوله: "والمحتاج إلى معرفته من ذلك عدد المدني الأخير، لأنه عدد نافع وأصحابه المميلين رؤوس الآي، وعدد البصري ليعرف به قراءة أبي عمرو في رواية الإمالة".
(4) - غيث النفع بهامش سراج القارئ لابن القاصح 288.
(5) - تنظر قصيدة الشاطبي في إتحاف البررة بالمتون العشرة 343.
(1/448)
"وقد وقع إجماع العادين على أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية، ثم اختلفوا في الكسر الزائد على ذلك، فروى المنهال بن عمرو(1)عن ابن مسعود أنه قال: القرآن ستة آلاف ومائتا آية وسبع عشرة آية، وهذا مبلغه في المدني الأول، وبه قال نافع، وأما المدني الآخر فأربع عشرة آية"(2).
وقد اعتبر ابن الجوزي نافعا من أهل المدني الآخر، وساق ذكر الخلاف بين علماء العدد في سور القرآن من الفاتحة إلى آخره، نذكر كذلك من أهل هذا العدد، فمن ذلك قوله في سورة المزمل:
"ثمان عشرة آية في عد رجلين من المدني الأخير، وهما أبو جعفر وشيبة، وتسعة عشر في عد البصري، وعطاء وأهل حمص، وفي عد المكي والكوفي والمدني الأول ورجل واحد من المدني الأخير وهو نافع" ثم قال: "اختلافها ثلاث آيات: عد الشامي والكوفي والمدني الأول "يا أيها المزمل" آية، وعد الكوفي ونافع وحده من المدني الأخير "إنا أرسلنا إليكم رسولا"(3)آية، وعد الشامي والكوفي والمدني الأول والمدني الأخير نافع وحده والبصري" يوما يجعل الولدان شيبا"(4)آية"(5).
وقال في سورة الشمس:
"خمس عشرة آية، في عد الشامي والكوفي والمكي ورجلين من المدني الأخير، وهما أبو جعفر وشيبة، والبصري وعطاء بن يسار وست عشرة آية في عد المدني الأول ورجل من المدني الأخير، وهو نافع"(6).
__________
(1) - هو المنهال بن عمرو الأنصاري ويقال الأسدي الكوفي ثقة مشهور. – ترجمته في غاية النهاية 2/315.
(2) - فنون الأفنان 39-40.
(3) - سورة المزمل الآية 15.
(4) - نفس السورة الآية 17.
(5) - فنون الأفنان 67.
(6) - فنون الأفنان 70.
(1/449)
فهكذا اعتبر ابن الجوزي أبا جعفر وشيبة ونافعا جميعا من أهل المدني الأخير، إلا أنه مع ذلك يذكر مخالفة نافع لهما في بعض المواضع، كالمثالين اللذين ذكرنا، وهذا يدل على وقوع الخلاف بين الثلاثة المدنيين سواء في العد الأول أو الثاني، إذ الأمر في مثل هذا الخلاف كالأمر في اختلاف القراءات سواء بسواء(1)
ومهما يكن فالذي يعنينا هنا بصفة خاصة بيان مستوى الريادة أو المشاركة فيها على الأقل بالنسبة لنافع في دراسة هذا الفن والاهتمام به ضمن اهتماماته الأخرى بعلوم القراءة واستمداداتها المختلفة. بل انه لم يكتف في هذا العلم بالرواية والنقل الشفوي، وانما زاد على ذلك بتدوينه وتحديد معالمه في كتاب كان يروى عنه سماه العلامة ابن النديم "العدد المثاني"(2).
ولعل هذا الكتاب هو المتضمن لما انتهى إليه في دراسته للعدد، والذي ذكر أبو عمرو الداني أن عامة المصريين رووه عن ورش عن نافع"(3). وقد ضمنه ما انتهى إليه من العدد بعد الدرس والتحرير، ومن هنا جاءت مخالفته في بعض المواضع لشيخيه ـ كما أسلفنا ـ سواء في العد المدني الأول أم في العد الأخير.
إلا أن الخلاف بينهم في الجملة كان يسيرا جدا، حيث اتفقوا على الجملة الكبرى، وهي ستة آلاف ومائتا آية ثم اختلفوا في الزيادة "ففي المدني الأول سبع عشرة، وبه قال نافع، وفي عدد المدني الأخير أربع عشرة عند شيبة، وعشر عند أبي جعفر"(4)وقد لخص أبو عمرو الداني هذا في المنبهة بقوله:
"وجملة الآيات في التجميل ... ستة آلاف على التحصيل
ومائتان، ثم زاد المكي ... عشرا وتسعا ذاك دون شك
ثمت زاد المدني الأولي ... على حساب المجمل المفصل
__________
(1) - ينظر في سبب وقوع الخلاف في العدد فنون الأفنان 39-40 وجمال القراء للسخاوي 1/231-232.
(2) - الفهرست 61.
(3) - النص تقدم من نقل النوري في غيث النفع 288.
(4) - نقله الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن 1/336.
(1/450)
عشرا وسبعا، ثم زاد الآخر ... عشرا وأربعا، وذاك ظاهر(1)
ولعل نافعا قد أدرج داخل تأليفه: "العدد المثاني" فنا آخر يتعلق بمعرفة المكي والمدني، وهو من متممات علم العدد، فكان من متقدمي علماء السلف الذين اهتموا بذلك، وقد وصل إلينا طرف من النقول عنه يدل على اهتمام فعلي بهذا الفن، كما يدل على اعتداد العلماء بأقواله فيه، وذلك فيما نقله العلامة علم الدين السخاوي في كتابه جمال القراء عند حديثه عن الخلاف في السور المكية والمدنية.
ومن أمثلة ذلك قوله في سورة الرحمن"
"فمنها اختلافهم في تنزيل سورة الرحمن، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وابن عباس والحسن وعكرمة وعطاء بن يسار وقتادة: هي مكية، وقال عطاء بن أبي مسلم عن ابن عباس ونافع بن أبي نعيم وكريب: هي مدنية"(2).
وقال في سورة الإخلاص:
"ومنها اختلافهم في سورة الإخلاص، فقال عطاء بن أبي مسلم: انها مكية، وكذلك قال كريب ونافع بن أبي نعيم"(3).
سادسا: علم الأسانيد الموصلة للقرآن
أما العلم السادس الذي لا يسع القارئ فضلا عن المقرئ جهله، فهو علم الأسانيد والطرق الموصلة للقرآن، لمعرفة المتواتر في النقل من غيره من المشهور والآحاد والشاذ، ومعرفة منازل الرواة ودرجاتهم في العدالة والثقة والضبط، ومراتب التحمل والأداء، وما إلى ذلك من جزئيات هذا العلم.
وقد مر بنا الحديث عن مدى اهتمام نافع بمعرفة هذا الشأن ومراجعته لبعض مشايخه الأحياء بعد اكتمال نضجه العلمي، للوقوف على مستنداتهم ومصادرهم في رواية حروف القراءة قصد التثبت منها، كما رأينا فيما حكاه زميله في القراءة على أبي جعفر: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أن نافعا كان يأتي أبا جعفر فيقول: يا أبا جعفر، ممن أخذت حرف كذا؟ فيقول: من رجل قارئ، من مروان بن الحكم .. إلى آخر الخبر..".
__________
(1) - الأرجوزة المنبهة للداني.
(2) - جمال القراء وكمال الإقراء 1/17-18.
(3) - نفسه 1/19.
(1/451)
فكان هذا الصنيع من نافع دالا أبلغ دلالة على مقدار الحاجة إلى معرفة القارئ بمصادره قبل أن يقدم على الاطمئنان إليها فيما يأخذ به من اختيار، كما كان ينم عن نضج كبير في شخصيته العلمية ومقدار تشبعه بمنهج أهل الحديث في انتقاد الأسانيد، والعناية بمعرفة أحوال النقلة، وإخضاعهم للفحص والنظر، باستعمال معايير التعديل والتجريح المعتبرة عند أهل هذا الشأن، لتمييز الصحيح السائر، من الغريب النادر، والضعيف الشاذ والواهي الساقط.
ويدل على ما ذكرنا لنافع من اهتمام بالفحص عن حال حلقات السند عند رجال مشيخته، ما قدمناه من تنبيهه على عجمة لسان شيخه نافع مولى ابن عمر وغلبة اللحن عليه، فهذا التنبيه مفيد بالنسبة لمعرفة مرتبة التحمل والرواية عنه، باعتبار اللحن في الحديث مما ينزل بدرجة الراوي في القدرة على ضبط الرواية لا سيما حين يتعلق الأمر بحروف القرآن. لأن اللحن من الشيخ مؤذن بوقوع الخلل في الأداء، وداع إلى ضعف الطمأنينة لدى الآخذ عنه على صحة ما ينقله ويرويه.
وقد ساق الذهبي خبرا يشبه أن يكون المعني به نافعا هذا، ويتعلق بعدم معرفته بالعربية، عن الأصمعي قال: حدثنا نافع، حدثنا الأعرج(1)أنه(2)قرأ "لتخذت عليه أجرا"(3)قال: لا تأخذها عنه، فإنه لم يكن عالما بالعربية"(4).
__________
(1) - يعني عبد الرحمن بن هرمز
(2) - لعل المراد نافع مولى ابن عمر كما سيأتي، ولا يصح أن يرجع الضمير إلى الأعرج لما تقدم من كونه أول من وضع العربية بالمدينة
(3) - سورة الكهف الآية رقم 77، ورسمها في المصحف "لتخذت" ولعل نافعا قرأ بكسر الخاء مع تخفيف ما قبلها، وبه قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وقرأ نافع وباقي السبعة وغيرهم بتشديد التاء وفتح الخاء "لاتخذت. ينظر في ذلك: السبعة لابن مجاهد 396 – والتيسير للداني 145.
(4) - معرفة القراء للذهبي 1/63.
(1/452)
فالظاهر أن الحديث كان عن نافع مولى ابن عمر، وأن الأعرج ابن هرمز حكى قراءته بهذا الحرف لينبه على الاحتياط في الأخذ عن مولى ابن عمر فيما يخص حروف القراءة، ويدل على أنه المراد خبر آخر قدمناه في أول هذا الباب عن نافع بن أبي نعيم قال: "قرأت على نافع مولى عبد الله بن عمر، ومالك من الصبيان – قال: وقرأ نافع "لتخذت عليه أجرا"(1).
وقد تقدم لنا من نظر نافع في الأسانيد ما حكاه إسحاق المسيبي عنه من قوله: "قرأت على هؤلاء ـ يعني شيوخه الخمسة وغيرهم ـ فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد فتركته حتى ألفت هذه القراءة"(2).
على أن في شهادة أئمة الإقراء لنافع في بلده وغيره، بمعرفته بالقراءات، وفي إقرائه وقبوله في العرض لأكثر من قراءة ـ كما قدمنا ـ، ما يدل ضمنيا على سعة مجاله في الرواية، وعمق معرفته بأسانيدها وطرقها في الأمصار، إذ لا يصلح أن يظن به الإقراء أو الإقرار على ما لا يعلم من قرأ به من السلف.
سابعا: علم البدء والختم، وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما
أما العلم السابع الذي يلزم القارئ والمقرئ به، ولا يليق به جهله، فهو علم الابتداء بالسور والأجزاء من القرآن الكريم، وبمتعلقات ذلك من التعوذ في مواضعه والتسمية والتكبير وغير ذلك، وكيفية الختم عند الفراغ من الختمة ونحو ذلك من الفروع. وقد جرت عادة المصنفين في القراءات أن يدرجوه ضمن أبواب أصول القراء، فيذكروا باب التعوذ مثلا فيذكرون مذهب كل قارئ من السبعة في الجهر أو الإسرار، ثم يردفونه بباب البسملة، وهو أيضا من مباحث هذا العلم، فيذكرون مذهب كل قارئ في البسملة في فاتحة الكتاب، والتسمية في أول السور، والفصل بها أو تركه بين السور، والتسمية أو تركها في أول الأجزاء إلى غير ذلك من الفروع الاخرى.
__________
(1) - إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/111.
(2) - معرفة القراء للذهبي 1/91.
(1/453)
وقد كان لنافع في ذلك كله اختيارات سنأتي عليها – بحول الله – آخر هذا البحث عند الحديث عن أصول قراءته من رواية ورش التي كسرنا هذا البحث على دراستها وتاريخها عند المغاربة. ولذا فسنرجئ الكلام على ذلك إلى موضعه هناك.
وهكذا يتبين لنا من خلال ما استعرضنا من نبوغه وريادته، أو إسهامه ومشاركته في هذه العلوم السبعة، مقدار تضلعه في المعارف المتصلة بفنه، مما يشهد أعدل شهادة على تبريزه وإمامته، وتفرده في بلده بالمستوى الرفيع الذي لم يتقدمه إلى مثله أحد، ولا لحقه فيه في فنه.
ولقد عزز هذا المستوى بمشاركة أخرى معتبرة في رواية الحديث والآثار، والعناية بالروايات والأخبار التاريخية والأدبية، كما تشهد بذلك النقول الكثيرة عنه في المتفرقات التي يمكن الوقوف عليها هنا وهناك.
ـ من حديثه الأدبي"
فمن حديثه المتصل بتاريخ الأدب مما يدل على إلمامه بالرواية الأدبية واحتفائه بأخبار الرجال:
ما حدث به عنه الأصمعي في أخبار الشاعر العربي المشهور: كثير بن عبد الرحمن، والمفسر التابعي المشهور عكرمة مولى ابن عباس، قال ابن قتيبة:
"حدثني الرياشي(1)عن الأصمعي عن نافع المدني قال: "مات كثير الشاعر، وعكرمة في يوم واحد"(2).
وقد أكد ابن حبان صحة هذه الرواية، فقال في ترجمة عكرمة: "مات سنة سبع ومائة هو وكثير عزة(3)في يوم واحد، فأخرجت جنازتهما، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس"(4).
- ومنه ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في مناقب عمر بن عبد العزيز، قال:
__________
(1) - هو أبو الفضل عباس بن الفضل الرياشي، من كبار أهل اللغة والرواية الأدبية أخذ عن الأصمعي، وكان يحفظ كتبه وكتب أبي زيد الأنصاري كلها، توفي سنة 257 هـ - نزهة الألباء للأنباري 199 ترجمة 66.
(2) - المعارف 201.
(3) - اشتهر بإضافته إليها لصرفه جملة أشعاره في التشبيب والتغزل بها، وكان منافسا لجميل بثينة في ذلك.
(4) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 82 ترجمة 593.
(1/454)
"وعن نافع بن أبي نعيم قال: رثى رجل(1)من موالي أهل المدينة عمر بن عبد العزيز فقال:
قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان(2)حرثان الموازين
من لم يكن همه عينا يفجرها ... ولا النخيل ولا ركض البرادين"(3).."(4)
ومن حديثه في تاريخ الأدب أيضا ما أخرجه أبو الفرج الأصفهاني قال:
"أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: حدثني ابن أخي الأصمعي عن عمه عن نافع بن أبي نعيم أن عبد الرحمن بن عوف هو الذي استرضى عمر بن الخطاب، وكلمه في أمر الحطيئة(5)
__________
(1) - هو الشاعر المدني المشهور بابن عائشة، كما سماه ابن الجوزي في رواية أخرى ذكرها عقب هذه ، سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 336.
(2) - مات عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – بدير سمعان من أرض حمص الشام لأربع بقين من رجب سنة 101 هـ وصلى عليه يزيد بن عبد الملك – سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 328.
(3) - في بعض الروايات "قسطا س الموازين" – سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 336 وفي بعضها "جربان" بالجيم والباء الموحدة، قال المقري الرواية هكذا:
أقول لما نعى الناعون لي عمرا ... لا يبعدن قوام الحق والدين
قد غيب الرامسون اليوم ... إذ رمسوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
(أزهار الرياض 3/63.)
(4) - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 336.
(5) - هو الشاعر المشهور، واسمه جرول بن أوس العبسي، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان سبب سجن عمر له هجاؤه للزبرقان بن بدر التميمي، فاستعدى عليه عمر فسجنه، حتى استعطفه بالأبيات المشهورة التي منها قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فرق له عمر وأطلقه، وأخذ عليه المواثيق أن لا يعود إلى هجاء ما عاش عمر، وأعطاه في مقابل ذلك ثلاثة آلاف درهم اشترى منه بها أعراض المسلمين " – ينظر في ذلك كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 2/56-57.
(1/455)
حتى أخرجه من السجن"(1).
ومن حديثه في مناقب الرجال وأهل البيوتات:
أخرج الحافظ أبو عمر بن عبد البر في التمهيد بسنده عن سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا نافع بن أبي نعيم القارئ عن نافع عن ابن عمر، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ــ قال: ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"(2).
ومثل ذلك في خبر مقتل عمر ـ رضي الله عنه ـ قال أبو زيد عمر بن شبة البصري في تاريخ المدينة: "حدثنا عبد الملك بن قريب قال: حدثنا نافع بن أبي نعيم قال: قال ابن الزبير: كنت أمشي مع عمر ـ رضي الله عنه ـ فنظر إليه العلج(3)نظرة ظننت أنه لولا مكاني لسطا به"(4).
ومن حديثه في مناقب بعض بيوتات الأنصار بالمدينة، وهو بيت سعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج ـ رضي الله عنه ـ قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي بسنده إلى الأصمعي قال: أخبرني نافع بن أبي نعيم قال: قال رجل(5)ممن قد أدرك الجاهلية: "قدمت المدينة، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليات دار دليم ـ وهو جد سعد بن عبادة بن دليم سيد الخزرج ـ ثم ضرب الزمان من ضربه، فقدمتها، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليات دار سعد"(6).
__________
(1) - الأغاني 2/52.
(2) - التمهيد لابن عبد البر8/10-110 – وذكر فيه روايات بأسانيد أخرى، وأخرجه ابن ماجة في السنن عن غضيف بن الحارث عن أبي ذر ... وذكر الحديث إلا أن فيه "يقول به" بدل "وقبله" – سنن ابن ماجة 1/40 الحديث رقم 108 – وأخرجه اين شبة بلفظ "وقبله" – تاريخ المدينة 2/662. تاريخ المدينة المنورة لابن شبة 3/893.
(3) - يعني أبا لؤلؤة الفارسي.
(4) - تاريخ المدينة المنورة 3/893.
6- ورد الخبر في الطبقات. 3/142 بسنده عن عروة بن الزبير قال: أدركت سعد بن عبادة وهو ينادي على أطمه: من أحب شحما أو لحما فليأت...".
(6) - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لأبي حاتم 259.
(1/456)
ومن حديثه في مناقب شيخه أبي جعفر المدني يزيد بن القعقاع ما أخرجه أبو بكر بن مجاهد في كتاب السبعة عن محمد بن منصور المدني قال: حدثني محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثني أبي عن نافع ابن أبي نعيم قال: غسل أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ بعد وفاته، فنظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك أحد ممن حضر أنه نور القرآن"(1).
ـ ومن ذلك ما أخرجه صاحب الأغاني أيضا قال: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال:
"حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي عن نافع بن أبي نعيم قال: قدم عبد الله بن الحسن بن الحسن(2)على عمر بن عبد العزيز، فقال: انك لا تغنم أهلك شيئا خيرا من نفسك، فارجع، وأتبعه حوائجه"(3).
ذلك جانب من ثقافته الأدبية والتاريخية.
روايته للسنة ومكانته في الحديث:
__________
(1) - كتاب السبعة لابن مجاهد 58 – ووفيات الأعيان لابن خلكان 6/275 ترجمة 814.
(2) - هو عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة رضي الله عنهما، وهو والد محمد المعروف بالنفس الزكية الذي خرج على أبي جعفر المنصور العباسي بالمدينة المنورة سنة 145هـ فقتل.
(3) - الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 8/155.
(1/457)
فأما في مجال رواية السنن والآثار، فقد أتيح له أن يتحمل عن كبار مشايخ العصر وفحول حفاظ السنة وأوعية الآثار النبوية، من أمثال ابن هرمز الأعرج صاحب أبي هريرة، وابن شهاب الزهري ونافع مولى ابن عمر وعبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد، بل كان مؤهلا من حيث السن والإدراك لأن يروي عن بعض معمري الصحابة لو كان موجها إلى ذلك، لما تقدم من إدراكه لطائفة منهم، وفيهم من صلى خلفه ـ كما تقدم من قول أبي عمرو الداني، كأبي الطفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن أنيس وغيرهما، علاوة على فقهاء التابعين ورواة السنن والمغازي من الفقهاء السبعة وغيرهم من أمثالهم من أصحاب زيد بن ثابت وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وسواهم من التابعين، ولعله لو أتيح له توجيه خاص إلى الحديث، ما كان ليفوته من شفوف القدر وسامي المنزلة، ما تهيأ لطائفة من أقرانه وأكفائه فيه من أمثال أبي الزناد ومحمد بن اسحاق المطلبي ـ صاحب السيرة ـ ويحيى بن سعيد الأنصاري وسواهم.
ولعل قلة ما جاء عنه في رواية الحديث بالقياس إلى غيره ممن أدرك ما أدرك، لا يعود بالأساس إلى كونه من أهل البضاعة المزجاة في هذا العلم، وإنما يعود إلى إنصرافه إلى القراءة وعلومها، كما يعود من جهة أخرى إلى رعاية التخصص من لدن المتحملين للرواية، فكانوا لا يقصدونه في غير فنه الذي برز فيه، ولهذا كان كما قدمنا من قول الليث بن سعد "إمام الناس في القراءة لا ينازع"(1)ولم يكن ـ كما قال الحافظ الذهبي ـ من فرسان الحديث"(2).
__________
(1) - السبعة لابن مجاهد 62.
(2) - سير أعلام النبلاء للذهبي 7/337 ترجمة 121.
(1/458)
وقد وقفت على هذا هنا بصفة خاصة لآتي على قضية في منتهى الأهمية، وهي أنه لا يلزم من ضعف الراوي في علم ما كعلم الحديث أن يكون ضعيفا في روايته للعلم الذي اختص به، وبهذا أجاب عدد من العلماء عن بعض الأئمة الذين ضعفهم بعض علماء الجرح والتعديل في رواية الحديث مع جلالة أقدارهم في ضبط العلوم التي اختصوا بروايتها وحملها.
وقد قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي عمر حفص بن عمر الدوري 11/543 مجيبا على قول الإمام الدارقطني في صاحب الترجمة المذكور "ضعيف" فقال أعني الذهبي:
" يريد في ضبط الآثار، أما في القراءات فثبت إمام قال:
وكذلك جماعة من القراء أثبات في القراءة دون الحديث كنافع والكسائي وحفص فإنهم نهضوا بأعباء الحروف فحرروها ولم يصنعوا ذلك في الحديث، كما أن طائفة من الحفاظ أتقنوا الحديث ولم يحكموا القراءة، وكذا شأن كل من برز في فن ولم يعتن بما عداه".
ومهما يكن فيمكن تصنيفه في قائمة المحدثين من الطبقة الثالثة من التابعين، استنادا إلى المجموعة الحديثية التي صحت عنه، وإلى ما قاله عنه علماء التعديل والترجيح من أقوال تفاوتت بعض التفاوت في تقدير منزلته في الحديث، اعتبر بالنظر إلى مجموعها مقبول الرواية غير مضعف، ولا مدفوع عن الثقة بنقله .
فترجم له في الثقات الإمام أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي (182-261هـ)(1).
والإمام عمر بن أحمد بن عثمان المعروف بابن شاهين(2)، ذكره ابن حبان أيضا في الثقات(3)، وقال أبو عمرو الداني في الطبقات: "قال أبو عبد الرحمان النسائي: نافع بن أبي نعيم ليس به بأس"(4).
__________
(1) - كتاب تاريخ الثقات للعجلي 447 ترجمة 1678.
(2) - كتاب تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم لابن شاهين 322 ترجمة 1404.
(3) - تهذيب التهذيب لابن حجر 10/407.
(4) - نقله المنتوري في شرح الدرر اللوامع (مخطوط)
(1/459)
وقال الذهبي: "وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، ولينه أحمد بن حنبل ـ أعني في الحديث ـ أما في الحروف، بالاتفاق ... ثم قال:
قال ابن عدي في الكامل: له نسخة عن الأعرج نحو من مائة حديث، وله نسخة أخرى عن أبي الزناد وله في التفاريق قدر خمسين حديثا، ولم أر له شيئا منكرا". ثم قال الذهبي:
"ينبغي أن يعد حديثه حسنا.."(1).
وقال ابن سعد: كان ثبتا، وقال الساجي: اختلف فيه أحمد ويحيى(2)، فقال أحمد: منكر الحديث، وقال يحيى: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق، صالح الحديث"(3).
وقال ابن الجزري: "هو قليل الحديث، مع أنه روى عن نافع عن ابن عمر، وعن الأعرج عن أبي هريرة وجماعة، ولكنه تصدى للإقراء، ولم يخرج له شيء في الكتب الستة"(4).
وقد جمع أحاديث نافع بن أبي نعيم في جزء خاص بعض الأئمة وهو أبو بكر محمد بن إبراهيم المقرئ (ت 381هـ) ونشر أخيرا في كتاب خاص(5).
وهكذا فباستثناء الإمام أحمد، الذي اختلفت العبارة المنقولة عنه في حقه، فجاءت بلفظ "منكر الحديث" كما عبر الساجي فيما تقدم، وجاءت بلفظ "لينه أحمد عند الذهبي، وجاءت عند ابن القيم وابن حجر نقلا عن أحمد بلفظ: "يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشيء"(6).
باستثناء أحمد، فالاتفاق على قبوله وثقته وصدقه، بل ذهب طائفة من الأئمة إلى تصحيح حديثه، قال ابن حجر في كتابه تلخيص الحبير:
__________
(1) - سير أعلام النبلاء للذهبي 7/337 ترجمة 121.
(2) - يحني بن معين.
(3) - تهذيب التهذيب لابن حجر 10/407-408.
(4) - غاية النهاية 2/333 ترجمة 3718 – ونحوه عند الذهبي في معرفة القراء الكبار 1/92.
(5) - طبع ونشر بتحقيق أبو الفضل الجويني الأثرى ـ طنطا ـ دار الصحابة 1411هـ في 84 صفحة.
(6) - جلاء الأفهام لابن القيم 264.
(1/460)
"حديث ـ إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب ولا ستر، فقد وجب عله الوضوء، - ابن حبان في صحيحه من طريق نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك(1)جميعا عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بهذا". وقال ـ يعني ابن حبان ـ "احتجاجنا في هذا بنافع دون يزيد بن عبد الملك" ـ وقال في كتاب الصلاة له: "هذا حديث صحيح متنده، عدول نقلته"، وصححه الحاكم من هذا الوجه، وابن عبد البر، وأخرجه البيهقي والطبراني في الصغير(2)، وقال: لم يروه عن نافع بن أبي نعيم إلا عبد الرحمن بن القاسم، تفرد به أصبغ". وقال ابن السكن: "هو أجود ما روي في هذا الباب". وقال ابن عبد البر:
"كان هذا الحديث لا يعرف إلا من رواية يزيد حتى رواه أصبغ عن ابن القاسم عن نافع بن أبي نعيم ويزيد جميعا عن المقبري، فصح الحديث، إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم في الحديث، ويرضاه في القراءة، وخالفه ابن معين فوثقه"(3).
__________
(1) - هو زد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي أبو المغيرة المدني، قال الخزرجي في الخلاصة: 433: عن أبي سلمة، وعنه ابن القاسم، قال النسائي: متروك".
(2) - حديثه عند الطبراني في المعجم الصغير 1/42-43. بسنده عن أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم عن نافع بن أبي نعيم ويزيد ن عبد الملك النوفلي، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء" قال الطبراني: "لم يروه عن نافع إلا عبد الرحمن بن القاسم الفقيه المصري.
(3) - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر 1/1/125-126.
(1/461)
وذكر ابن القيم كلام ابن عبد البر هذا ثم قال: - يعني ابن عبد البر -: "فصح الحديث بنقل العدل عن العدل على ما قال ابن السكن، إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم، وخالفه ابن معين فقال: هو ثقة"(1).
ذلك شأنه عند أئمة الحديث، أما عند أصحابه وغيرهم من علماء المدينة وقرائها، فقد كان في أعلى المستويات، وعلى الأخص في فنه الذي اختص به، وهو علم القراءات وما يتصل به، ولقد كان فيما يتصل بهذه العلوم من المنزلة بمكان، لاسيما في المسائل الخلافية كقضية الجهر بالبسملة في الصلاة وغيرها ولأهمية هذه القضية نسوقها هنا لبيان منزلته عند علماء المدينة في هذا الشأن.
مذهب نافع في الجهر بالبسملة وموقف فقهاء المدينة من ذلك:
قال الحافظ ابن الجزري: "قد صح نصا أن إسحاق بن محمد المسيبي أوثق أصحاب نافع وأجلهم قال: سألت نافعا عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم"، فأمرني بها، وقال: أشهد أنها آية من السبع المثاني، وأن الله أنزلها". روى ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بإسناد صحيح، وكذلك رواه أبو بكر بن مجاهد عن شيخه موسى بن إسحاق القاضي(2)عن محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه.
__________
(1) - تهذيب سنن أبي داود لابن القيم – منشور بحاشية مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري ومعالم السنن للخطابي 134.
(2) - ترجمته في غاية النهاية 2/317 ترجمة 3673.
(1/462)
وروينا أيضا عن ابن المسيبي قال: كنا نقرأ لسم الله الرحمن الرحيم" أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة، وبين السورتين، في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة، قال: وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك. قال ابن الجزري: وحكى أبو القاسم الهذلي(1)عن مالك أنه سأل نافعا عن البسملة، فقال: "السنة الجهر بها، فسلم إليه، وقال: كل علم يسأل عنه أهله(2).
والذي يبدو أن تسليم مالك لنافع في هذا الجواب كان تسليما مؤقتا أو كان في حياته، ثم بدا لمالك ترجيح مذهب الفقهاء معتبرا للقضية من المسائل الخلافية التي يدخلها الاجتهاد(3)، وهذا ما يدل عليه تصديه مرة أخرى لإثارة المسألة والاعتراض فيها كما حكى ذلك المسيبي فيما رواه علم الدين السخاوي.
قال في جمال القراء:
__________
(1) - هو أبو بكر يوسف بن علي بن جبارة البسكري صاحب الكامل في القراءات- سيأتي -.
(2) - النشر في القراءات العشر 1/271. والخبر في الكامل لوحة 16 (مخطوط).
(3) - يمكن الرجوع في تحقيق مذهب مالك وأصحابه في البسملة إلى رسالة "الإنصاف في ما بين العلماء من الاختلاف للحافظ ابن عبد البر – الرسائل المنيرية 1/156 وما بعدها.
(1/463)
"وقال محمد بن إسحاق: أخبرني أبي نه لما صلى بالناس بالمدينة جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: فأتاني الأعشى أبو بكر(1)ابن أخت مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ فقال: إن أبا عبد الله يقرأ عليك السلام ورحمة الله، ويقول لك: من خفته على خلاف أهل المدينة، فإنك ممن لم أخف، وقد كان منك شيء، قلت: وما هو؟ قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: فأبلغه عني السلام كما أبلغتني، وقل له: اني كثيرا ما سمعتك تقول: "لا تأخذوا عن أهل العراق، فاني لم أدرك أحدا من أصحابنا يأخذ عنهم، وانما جئت في تركها عن حميد الطويل(2)، فإن أحببت أخذنا عن أهل العراق أخذنا هذا وغيره من قولهم، وإلا تركنا حميدا مع غيره، فلم يكن علي به حجة، وقد سمعتك كثيرا ما تقول: خذوا كل علم عن أهله، وعلم القرآن بالمدينة عن نافع، فسألته عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فأقرأني بها، وقال: أشهد أنها من السبع المثاني، وأن الله عز وجل أنزلها"(3).
"وحدثني عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه كان يبتدئ بها ويفتتح كل سورة"، وحدثني ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال: مضت السنة بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم"(4).
__________
(1) - هو عبد الحميد بن أبي أويس، وسيأتي في الرواة عن نافع.
(2) - هو حميد بن أبي حميد يعرف بالطويل، من رواة الحديث بالبصرة، يروي عن أنس بن مالك الأنصاري والحسن وعكرمة، وعنه شعبة ومالك والسفيانان والحمادان وخلق، قال شعبة: لم يسمع من أنس إلا أربعة وعشرين حديثا، قال الهيثم: مات سنة 142 هـ" – الخلاصة للخزرجي 94.
(3) - جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي 2/444.
(4) - نفس المصدر والصفحة.
(1/464)
هكذا قرع المسيبي الحجة بالحجة، واستند إلى مذهب نافع في القضية وروايته، وناقش مالك بن أنس منهجيا في نهيه عن الأخذ عن هل العراق، ثم هو في النهاية يستند في المسألة على رواية حميد عن أنس فيها. مع أن مذهب المسيبي في الجهر بالبسملة هو الثابت عن نافع من روايته وقراءته، ولذلك لم يرجع المسيبي إلى ما دعاه إليه مالك، لفوة مستنده في ذلك ولمكانة نافع في نفسه باعتبار هذه المسألة من العلم الذي يسأل عنه أهله، وكأنه يريد إلزام مالك بلازم قوله: " خذوا كل علم عن أهله"، لأن أهلية نافع لهذا العلم بين أهل المدينة أمر مسلم لا ينازع فيه مالك ولا غيره. ولاسيما مع اعتبار مشيخته له وتقديره له بشهادته ـ الآنفة الذكرـ أن قراءته سنة.(1)
وهكذا حظي الإمام نافع بهذا المقام المحمود، وتبوأ في زمنه هذا المنصب الرفيع "حتى صار علما يرجع إليه في فنه، ومركزا يدار عليه فيه"(2)، وتنافس الكبراء من أهل العلم وغيرهم في الزلفى إليه، وقد زاده وقار الشيخوخة، وجمال السيرة، وطول العهد في إمامة الإقراء، والصلاة بالناس في المسجد النبوي الشريف ستين سنة(3)، - جلالة قدر، وسيرورة ذكر، ومحبة في القلوب لا تشترى بمال، حتى كان الخلفاء يتوددون إليه، وربما اتخذوا الوسائط للحصول على بغيتهم منه.
زهده ومنزلته عند الخلفاء وامتناعه من الصلاة في التراويح إماما في المسجد النبوي بمحضر الخليفة لقاء مكافأة مالية:
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى ما كتبناه في البحث الأول في شأن العلاقة المكينة التي ربطت بين نافع ومالك، وقد عددناها من العوامل والأسباب التي مكنت لقراءته في الأقطار المغربية، ومهدت لاعتمادها قراءة رسمية.
(2) - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 141.
(3) - كتاب قراءات القراء المعروفين للأندرابي 62-والنجوم الطوالع للمارغني 12.
(1/465)
وقد ذكر عياض أن الخليفة المهدي العباسي حين زار المدينة "شاور مالكا في ثلاثة أشياء: "في الكعبة أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه(1)، فأشار عليه أن لا يفعل، وفي المنبر أن ينقضه ويرده على ما كان عليه(2)، وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارئ أن يقدمه للصلاة، فأشار عليه أن لا يفعل، وقال: هو إمام، أخاف أن يكون منه شيء في الغفلة فيحكى عنه"(3)
__________
(1) - في رواية ابن عبد البر في التمهيد 10/49-50 أن صاحب القضية مع مالك هو هارون الرشيد، وأنه قال لمالك: "أريد أن أهدم ما بنى الحجاج بن يوسف من الكعبة، وأن أرده إلى بناء ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير الممنين أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس".
والظاهر أن ما ذكره عياض أليق بالتاريخ وأقرب، إذ أن الرشيد إنما ولي الخلافة سنة 170 أي بعد وفاة نافع، كما أنه لم يذكر قبل توليه الخلافة فيمن حج بالناس نيابة عن الخليفة كالعادة، كما يتبين من قائمة أسماء الذين تولوا الحج بالناس بأمر الخلفاء من عهد النبوة إلى عصر المؤرخ المسعودي (ت 346 هـ) ويمكن الرجوع إلى هذه القائمة في كتابه مروج الذهب 4/402.
وأما الخليفة المهدي فله رحلة مشهورة إلى الحجاز دخل فيها المدينة، وقصة التماسه من مالك أن يقرأ الموطأ على ولد يه موسى الهادي – وهارون – الرشيد – مشهورة، ويمكن الرجوع إليها في كتاب الانتفاء لابن عبد البر 42 – وترتيب المدارك لعياض 2/19-20 وكذا في 2/98-102.
وقد ذكر ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة 1/18 أن المهدي قدم حاجا سنة 161، وذكر قصة تجديد المنبر.
(2) - كان معاوية رضي الله عنه قد زاد في منبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر في ذلك:
ترتيب المدارك 2/105. – وتاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/18.
(3) - ترتيب المدارك 2/105-106.
(1/466)
وروى عبد الله بن وهب عن مالك خبر هذه الاستشارة، لكنه جعل المستشير له نافعا نفسه، فروى عن مالك قال: استشارني نافع بن أبي نعيم في الإمامة، فأشرت عليه أن لا يفعل، وقلت له: أنت امام، وتحمل زلتك في الآفاق"(1).
وذكر الإمام أبو القاسم الهذلي في كتاب "الكامل" هذا الترشيح لنافع للإمامة بصورة أخرى فيها إغراء مادي للشيخ ليتولى هذا الأمر، وإن كان قد جعل القصة تتعلق بالرشيد بن المهدي لا بوالده معه، فجاء في هذه الرواية ان الرشيد سأل نافعا أن يصلي به لما قدم المدينة التراويح، وله بكل ليلة مائة دينار، فشاور مالكا ـ رحمة الله عليهما ـ فقال له: "ان الله تعالى يعطيك المائة من فضله، وأنت إمام، فربما يجري على لسانك شيء، لأن القرآن معجز، وأنت محترم فلا تعاود في ذلك، لاعتماد الناس عليك، فتسير به الركبان فتسقط"(2).
وذكر أبو عبد الله المجاصي أن مالكا قال لنافع: "يا أبا عبد الله لا تفعل، فإنك مصدق في قولك، وربما يقع منك السهو فيقتدي بك الناس"(3).
__________
(1) - نقله السخاوي في جمال القراء 2/445.
(2) - لطائف الإشارات للقسطلاني 1/93 نقلا عن الهذلي.
(3) - شرخ المجاصي على الدرر اللوامع (مخطوط).
(1/467)
ومهما يكن الذي طلب منه أن يتقدم لإمامة التراويح بالخليفة، أهو الخليفة نفسه أم ابنه؟ وأيهما الذي استشار مالكا، أهو الخليفة أم غيره، أم نافع نفسه؟ فإن دلالة الخبر على منزلة نافع عند الخليفة لا تخفى، لاسيما حينما توضع في مقابل المشروعين اللذين استشار فيهما مالكا، كما لا يخفى في جواب مالك وما علل به مقدار احتياطه لهذا الإمام المراد انتدابه لمثل هذه المهمة، إلى جانب ما فيها قبل ذلك ومعه من الاحتياط لكتاب الله، إذ ليس مما يستبعد في رأي مالك أن يزل لسان الشيخ بما لا يريده في قراءته ولا يفطن إليه، فيحمله عامة الناس على السداد في ذلك لجلالة قدره عندهم، فيتحملون عنه الخطأ الذي لم يقصد إليه على انه وجه في القراءة قرأ به نافع على رؤوس الملأ، ويحمله غيرهم من علماء هذا الشأن على محمله الصحيح، فيغض ذلك من قدره، وربما كان في العارفين من يذكره ويتندر بحكايته عنه في المجالس، فيسقط بذلك شأنه، لاسيما مع اعتبار العادة الجارية في عدم الرد على الأئمة ـ فيما حكاه الإمام محمد بن الطيب الباقلاني ـ فقال: "وقد اتفقت الأمة على قبح الرد على الأئمة في المحاريب لغلط يقع منهم، وكذلك سبيل الرد على الأستاذين، لموضع إجلالهم، وجمال عشرتهم"(1).
ولعل ذلك ما يفيد قول مالك له: "فلا تعاود في ذلك، لاعتماد الناس عليك"
__________
(1) - نكت الانتصار للباقلاني 327.
(1/468)
فمثل هذا الزلل في اللسان خاف مالك على شيخه،لأنه أولا يشينه عند العلماء بالقراءة "فتسير به الركبان فيسقط"، وفي ذلك ما فيه من التزهيد في الشيخ بعد ذلك وفي الأخذ عنه، ولما فيه ثانيا من إمكان تلقي غير العارفين به بالقبول "فيقتدي به الناس فيه"، وفي كلا الأمرين محذور ومحظور يربأ مالك بالشيخ أن يعرض نفسه لهما، ولو في مقابل هذا الإغراء المادي الذي ربما كان في أمس الحاجة إليه، ولا أدل من هذا العرض وتلك الاستشارة وهذا التحليل السليم للموقف من طرف الإمام مالك، على مقدار ما أحرزه نافع من التقدير والتبجيل والرعاية المنقطعة النظير عند الخواص والعوام، ولكن لا عجب بعد الجهاد والجهد الطويل الذي بذله هذا الإمام في العكوف على كتاب الله، وتلقين قراءته السنية للأجيال من أطراف البلاد الإسلامية، أن يحظى بهذا التشريف والتكريم، وأن ينال كل هذا التوقير والتعظيم.
وفاته:
والآن وقد أوفى على الغاية، وأشرف على الأمد، فلم يبق إلا أن يحط الرحال، وأن يسلم الروح إلى بارئها بعد هذه الرحلة الميمونة الطويلة، فيتلمس منه ابناه(1)ما قد يجود به لأهله من وصاياه الأبوية يروي محمد بن اسحاق المسيبي عن أبيه قال: "لما حضرت الوفاة نافعا قال له ابناه أوصنا، قال:
"فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين"(2).
وكانت وفاته في قول ابن مجاهد سنة 169 هـ(3)وقد أسند الخبر بذلك عن إسحاق المسيبي.
وقال ابن الباذش: توفي بالمدينة سنة 169 في خلافة الهادي، قاله اسحاق المسيبي وغيره، وقيل سنة 159 في خلافة المهدي، وقيل غير ذلك، والأصح ما بدأت به"(4).
والأقوال الأخرى التي ذكرت في تاريخ وفاته ساقها ابن الجزري مبتدئا بالأرجح فقال:
__________
(1) - هكذا في السبعة لابن مجاهد 63 – وفي معرفة القراء 1/92 وغاية النهاية 2/333 "أبناؤه" بالجمع.
(2) - السعة 63 والمصادر نفسها.
(3) - السبعة 63
(4) - الإقناع 1/56.
(1/469)
مات سنة 169، وقيل 70، قيل 57"(1)يعني بعد المائة.
وأقتصر الذهبي على الأول في معرفة القراء(2)، وزاد في سير النبلاء فقال: "قبل مالك بعشر سنين"(3).
ودفن رحمه الله بالبقيع المقبرة الشهيرة بالمدينة، ويظهر أن مدفنه هنالك قد ظل معروفا، وأنه كان معلمة من المعالم المشهورة بالبقيع، ومن المزارات المذكورة التي كان يحرص المغاربة على زيارتها عند زيارة المدينة، ولهذا جاء التنويه بزيارته في بعض القصائد "الحجازية"، ومنها قصيدة همزية للأستاذ أبي عبد الله محمد بن الحاج العامري التلمساني ـ التازي الدارـ وصف فيها رحلته إلى الديار الحجازية، والمنازل التي يقطعها الحاج من خروجه من تازة إلى وصوله إلى الحرمين الشريفين، ونبه في ذلك على المشاهد التي تزار بالبقيع وغيره للصحابة والتابعين، فكان مما قال منتدبا إلى زيارتها:
... ثم سر للبقيع عثمان والعباس وفيه وسادة كبراء
... منهم مالك الإمام ومنهم ... نافع من به اقتدى القراء(4)
خاتمة:
أما نحن فنطوي ههنا صفحة نافع الإمام، الذي صحبناه في مدرسته الكبرى بالمدينة، فرأيناه ملء السمع والبصر، لنصاحب أنفاسه الكريمة الباقية المتمثلة في اختياره في القراءة، ونتتبع آثارها في امتدادات مدرسته من خلال الرواة عنه في المدينة وباقي الآفاق ثم في اتجاه الجهات المغربية بعد أن نتوقف وقفة متأنية معها في مصر عند مدرية الإمام أبي سعيد ورش، قبل أن تعبر حدودها إلى الأقطار المغربية، لنرى كيف اطمأن بها المقام، وتأثلت لها أسباب البقاء والدوام.
فهرسة المصادر والمراجع
__________
(1) - غاية النهاية 2/33-334.
(2) - معرفة القراء 1/92.
(3) - سير النبلاء 7/338.
(4) - ينظر في خبر الرحلة بحث الأستاذ محمد بن أحمد الأمراني المنشور في مجلة الاحياء التي يصدرها المجلس العلمي بتازة – المجلد 6 العدد 2 الصفحة 73.
(1/470)
- الإبانة عن معاني القراءات لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي تحقيق الدكتور عبد الفتاح شلبي نشر دار نهضة مصر – القاهرة.
- إبراز المعاني من حرز الأماني (شرح الشاطبية) لأبي شامة المقدسي تحقيق إبراهيم عطوة – مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1402-1982م.
- إتحاف البررة بالمتون العشرة جمع الشيخ علي الضياع (عشر منظومات): 1354 هـ-1935م.
- إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للشيخ أحمد البنا الدمياطي تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل نشر مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة. ط1: 1407هـ-1987م.
- الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي نشر المكتبة الثقافية بيروت.
- الأحرف السبعة للقرآن لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني تحقيق عبد المهيمن طحان. مكتبة المنارة-بمكة المكرمة: 1408هـ.
- أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري تحقيق علي البجاوي – دار إحياء الكتب العربية ط1: 1975 لبنان.
- الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري تحقيق عبد المنعم عامر والدكتور جمال الدين الشيال-دار إحياء الكتب العربية. الطبعة الأولى.
- أرجوزة سند التعريف لمحمد بن يوسف التملي (مخطوط خاص).
- الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات لأبي عمرو الداني (مخطوطة).
- الأرجوزة المنبهة (منبهة الشيخ أبي عمرو الداني) تحقيق الدكتور الحسن بن أحمد وكاك-رسالة دكتوراه بدار الحديث بالرباط مرقونة بالآلة.
- إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب للشيخ أبي عبد الله بن غازي المكناسي تحقيق عبد الله التمسماني – تطوان – طبعة الأوقاف المغربية: 1409هـ-1989م.
- أزهار الرياض في أخبار عياض لأبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني – الرباط: 1398هـ-1978م.
- إسعاف المببطإ برجال الموطأ للسيوطي بذيل تنوير الحوالك له – طبعة دار الفكر – بيروت.
- الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر العسقلاني - مطبعة مصطفى محمد بمصر: 1359هـ-1939م.
(1/471)
- إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان لابن القيم.
- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني – دار الشرق. ط3: 1972م.
- الإقناع لأبي جعفر أحمد بن علي بن الباذش الأنصاري تحقيق الدكتور عبد المجيد قطامش – دار الفكر بدمشق ط1: 1403هـ-1983م.
- إملاء ما من به عبد الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن للعكبرى-المطبعة الميمنيه بمصر: 1321هـ.
- إنباه الرواة عن أنباه النحاة لأبي الحسن على بن يوسف القفطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – نشر دار الفكر بالقاهرة ط1: 1406هـ-1986م.
- إنشاد الشريد من ضوال القصيد (حاشية على الشاطبية) لأبي عبد الله بن غازي المكناسي مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 1303.
- الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف في البسملة لأبي عمر بن عبد البر النمري (مجموعة الرسائل المنيرية).
- إيضاح الأسرار والبدائع وتهذيب الغرر والمنافع لأبي عبد الله محمد بن محمد بن المجراد الفنزاري السلاوي (شرح الدرر اللوامع لأبي الحسن بن بري التازي) مخطوط.
- إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل لابن الأنباري تحقيق محي الدين رمضان طبعة دمشق 1971.
- البحر المحيط لأبي حيان محمد بن يوسف *** الغرناطي- السعادة بمصر.
- البرهان في علوم القرآن للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار إحياء الكتب العربية. ط1: 1376هـ.
- بغية الوعاة للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – مطبعة المكتبة العصرية – صيدا – لبنان: 1384هـ-964م.
- البيان عن عد آي القرآن لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط رقم 11336 ز.
- البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ تحقيق محمد عبد السلام هارون ط4 لجنة التأليف والنشر بمصر.
- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي دار الثقافة – بيروت.
(1/472)
- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري تحقيق السيد أحمد صقر-دار إحياء الكتب العربية بيروت: 1373هـ-1954م.
- تاريخ ابن خلدون – الطبعة المصرية-القاهرة: 1391هـ-1971م.
- تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة النميري البصري تحقيق فهيم محمد شلتوت - دار الأصبهاني بجدة: 1399هـ.
- تاريخ الخلفاء للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم-دار نهضة مصر-القاهرة: 1395هـ-1975م.
- تاريخ الثقات للعجلي.
- تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم لابن شاهين.
- تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر بن جرير الطبري- دار التراث العربي –بيروت-لبنان.
- تاريخ الأدب العربي لبروكمان – تعريب الدكتور عبد الحليم النجار-دار المعرفة بمصر-القاهرة.
- تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة – القاهرة.
- التاريخ الكبير للإمام أبي عبد الله البخاري-طبعة دار الفكر-القاهرة.
- التبصرة في القراءات السبع لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي-الطبعة الهندية.
- التبصرة في القراءات السبع لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي-تحقيق الدكتور محي الدين رمضان ـ الكويت: 1405هـ-1985م.
- تحبير التيسير في القراءات العشر لابن الجزري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان:1404هـ-1983م.
- التحديد لحقيقة الإتقان والتجويد لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني تحقيق الدكتور غانم قدوري حمد-مطبعة الخلود-بغداد:1407هـ-1988م.
- تحصيل المنافع في شرح الدرر اللوامع لأبي زكرياء يحيى بن سعيد الكرامي السملالي الجزولي (مخطوط).
- تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي-ط4-دار إحياء التراث العربي-لبنان.
- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض تحقيق جماعة من الأساتذة – نشر وزارة الأوقاف المغربية-الرباط.
(1/473)
- التعريف في اختلاف الرواة عن نافع لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني تحقيق الدكتور التهامي الراجي الهاشمي نشر اللجنة المشتركة بين المغرب ودولة الإمارات لنشر التراث الإسلامي – مطبعة فضالة: 1403هـ-1982م.
- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير ط2-دار الفكر-بيروت: 1389هـ1970م.
- تفسير الإمام القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن) ط1-دار الكتب المصرية بالقاهرة: 1351هـ-1933م.
- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر العسقلاني- تصحيح عبد الله هاشم اليماني المدني-المدينة المنورة: 1384هـ-1964م.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ أبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي تحقيق جماعة من الأساتذة-نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية –الرباط.
- التمهيد في علم التجويد للحافظ ابن الجزري تحقيق الدكتور علي حسين البواب-مكتبة المعارف ط1: 1405هـ-1985م.
- تنوير الحوالك على موطأ الإمام مالك للسيوطي-طبعة دار الفكر.
- تفسير غريب القرآن لابن قتيبة تحقق السيد أحمد صقر- دار إحياء الكتب العربية: 1378هـ-1958م.
- تهذيب الأسماء واللغات لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي.
- تهذيب سنن أبي داود لابن القيم تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد الفقي –دار المعرفة- لبنان 1980م.
- التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني-دار الكتاب العربي ط2- بيروت: 1404هـ-1984م.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ط2: مطبعة البابي الحلبي بمصر: 1373هـ-1954م.
- جامع بيان العلم وفضله وما جاء في روايته وحمله للحافظ ابن عبد البر-دار الكتب العلمية-بيروت.
- جامع الترمذي بشرح عارضة الأحوذي لأبي بكر بن العربي المعافري-مطبعة الصاوي: 1353هـ بالقاهرة.
- جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني (مصورة عن مخطوط) دار الكتب المصرية.
(1/474)
- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام لابن القيم – دار القلم-بيروت-ط1: 1977م.
- جمال القراء وكمال الإقراء لأبي الحسن على بن محمد السخاوي تحقيق الدكتور علي حسين البواب-مكتبة التراث بمكة المكرمة-ط1: 1408هـ-1987م.
- جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد لأبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري (مصورة مخطوط).
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1: 1371 هـ-1952م.
- جزء فيه أحاديث نافع بن أبي نعيم تأليف لأبي بكر محمد بن إبراهيم المقرئ (ت 381هـ) تحقيق الشيخ أبو الفضل الجويني الأثري طنطا- دار الصحابة: 1411هـ.
- الحجة في القراءات السبع لابن خالويه تحقيق الدكتور سالم عبد العال مكرم.ط2: دار الشروق: 1977م.
- حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني – دار الكتاب العربي – بيروت. ط2: 1387هـ-1967م.
- حياة الصحابة لمحمد بن يوسف الكاندهلوي-دار المعرفة-بيروت-لبنان.
- الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني تحقيق محمد علي النجار-عالم الكتب-بيروت. ط1: 1403هـ-1984م.
- الخطط الكبرى للمقريزي – طبعة القاهرة: 1270هـ.
- خلاصة تهذيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للخزرجي-مكتب المطبوعات الإسلامية. ط3: 1399 هـ-1979م.
- الدر النثير والعذب النمير في شرح كتاب التيسير في القراءات الشبع لأبي محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي المالقي مخطوطة الخزانة الحسنية بالرباط رقم 1592.
- الدرة الصقيلة في شرح العقيلة (شرح عقيلة الأتراب للشاطبي) لأبي بكر بن عبد الغني اللبيب مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط رقم 3893.
- الدرر اللوامع في أصل مقرإ الإمام نافع (أرجوزة) لأبي الحسن علي بن بري التازي –انظر النجوم الطوالع.
- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي- المطبعة الإسلامية بطهران: 1377هـ-إيران.
- دفاع عن القراءات المتواترة في مواجهة الطبري المفسر للدكتور لبيب السعيد-دار المعارف-بمصر-القاهرة.
(1/475)
- دليل الحيران في شرح مورد الظمآن في رسم القرآن للشيخ إبراهيم بن أحمد المارغني التونسي-المطبعة التونسية: 1325 هـ.
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب المالكي لابن فرحون اليعمري-دار الكتب العلمية-لبنان.
- رائية الإمام أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري في قراءة الإمام نافع (مخطوطة).
- رحلة الوزير الإسحاقي أبي محمد الشرقي وزير المولى إسماعيل العلوي (رحلة حجازية) مخطوطة الخزانة الحسنية بالرباط رقم 11867.
- رسالة التنبيه على الخطإ والجهل والتمويه لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني مخطوطة خزانة تطوان رقم 881.
- رسم المصحف –دراسة لغوية وتاريخية للدكتور غانم قدوري الحمد – ط1-جامعة بغداد: 1402 هـ-1982م.
- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لأبي حاتم محمد بن حبان البستي تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد وعبد الرزاق حمزة ومحمد حامد الفقي-دار الكتب العلمية –بيروت-لبنان: 1379 هـ-1977م.
- الروض الأنف في السيرة النبوية للإمام أبي القاسم عبد الرحمن السهيلي الأندلسي.
- الروض الجامع في شرح الدرر اللوامع لمسعود بن محمد جموع السجلماسي (مخطوط).
- السبعة في القراءات لأبي بكر بن مجاهد البغدادي تحقيق الدكتور شوقي ضيق-دار المعارف-القاهرة ط2: 1400 هـ-1980م.
- الاستبصار في عجائب الأمصار لمؤلف مراكشي من القرن السادس تحقيق الدكتور محمد زغلول عبد الحميد-دار النشر المغربية-الدار البيضاء: 1985م.
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي – بهامش الإصابة لابن حجر.
- سراج القارئ المبتدئ وتذكرة المقرئ المنتهي لابن القاصح في شرح الشاطبية –دار الفكر ط4: 1398 هـ-1978م.
- سنن ابن ماجة تحقيق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي: 1975م – دار إحياء التراث العربي- القاهرة
- سنن سعيد بن منصور –جزءان.
- سنن أبي داود السجستاني مطبعة البابي الحلبي ط1: 1371 هـ-1952م.
(1/476)
- سيرة الحافظ علاء الدين مغلطاي بن قلج-مطبعة السعادة بمصر: 1326 هـ.
- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي تحقيق نعيم زرزور –دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان ط1: 1404 هـ-1984م.
- السيرة النبوية لابن هشام تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي ط2: 1375 هـ-1955.
- السيرة النبوية للحافظ ابن كثير الدمشقي.
- سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي.
- شجرة النور الزكية في طبقات السادة المالكية لمحمد بن مخلوف التونسي- دار الكتاب العربي –بيروت-لبنان.
- شرح الدرر اللوامع للإمام محمد بن عبد الملك القيسي المنتوري الأندلسي –مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 518.
- شرح الدرر اللوامع "الفجر الساطع" لابن القاضي مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 989.
- شرح الدرر اللوامع لمحمد بن شعيب اليصليتي المجاصي – مخطوط خزانة ابن يوسف بمراكش رقم 105.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم للشيخ الإمام أبي القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان – دار طيبة – الرياض: 1402 هـ.
- شرح القصيدة الخاقانية في التجويد والقراء لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني – مصورة عن خزانة الجامعة الإسلامية بالمدينة.
- شرح الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض تأليف الملا علي القاري.
- شرف الطالب في أسنى المطالب لابن قنفذ، ضمن كتاب (ألف سنة من الوفيات) تحقيق محمد حجي – دار المغرب – الرباط: 1396 هـ-1976م.
- الاشتقاق لأبي بكر بن دريد تحقيق عبد السلام هارون –مؤسسة الخانجي: 1378 هـ-1958م.
- صبح الأعشى في صناعة الإنشا لأحمد بن علي القلقشندي – شرح وتعليق محمد حسين شمس الدين – طبعة دار الفكر. ط1: 1397 هـ-1978م.
- صحيح الإمام البخاري بحاشية السندي.
(1/477)
- صحيح الإمام البخاري بشرح فتح الباري لابن حجر العسقلاني.
- صحيح الإمام مسلم بشرح الإمام النووي.
- الطبقات الكبرى لابن سعد – نشر المجلس العلمي للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحقيق زياد محمد منصور (القيم المتمم لتابعي أهل المدينة).
- الطبقات الكبرى لابن سعد- نشر دار صادر- بيروت – لبنان.
- طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي تحقيق الدكتور إحسان عباس – دار الرائد العربي بيروت لبنان: 1970م.
- طبقات المفسرين للداودي تحقيق علي محمد عمر – مراكز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية- القاهرة.
- طبقات النحويين واللغويين لمحمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي.
- طبقات الشافعية للسبكي.
- طبقات الحضيكي (مناقب الحضيكي) المطبعة العربية برحبة الزرع القديمة – الدار البيضاء: 1357 هـ.
- عجائب علوم القرآن لابن الجوزي وسمي أيضا (فنون الأفنان في عيون علوم القرآن) تحقيق أحمد الشرقاوي إقبال – مطبعة النجاح – الدار البيضاء. ط1: 1970م.
- العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي – دار إحياء التراث العربي. ط1: 1409هـ-1989م.
- عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد: قصيدة رائية في رسم المصاحف لأبي القاسم الشاطبي – ضمن مجموع إتحاف البررة.
- العلل للإمام علي بن المديني تحقيق محمد مصطفى الأعظمي – نشر المكتب الإسلامي – الطبعة: 2.
- العلم والعلماء لأبي بكر جابر الجزائري – دار الشروق بالمدينة المنورة. ط1: 1403 هـ.
- العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي تحقيق عبد الحميد بن باديس – مطبعة قسطنطينة: 1378 هـ.
- العواصم من القواصم تحقيق محب الدين الخطيب.
- عيون الأثر في فنون المغازي والسير لابن سيد الناس – دار الجيل – لبنان. ط2: 1974م.
- غاية النهاية في طبقات القراء للحافظ ابن الجزري – دار الكتب العلمية – بيروت لبنان. ط2: 1400هـ-1980م.
- الغنية في شيوخ عياض تحقيق ماهر زهير جرار- دار الغرب الإسلامي –بيروت –لبنان. ط1: 1402هـ-1982م.
(1/478)
- غيث النفع في القراءات السبع لأبي الحسن علي النوي الصفاقسي – بهامش سراج القارئ على الشاطبية لابن القاصح العذري.
- فضل الصلاة على النبي صلى الله ليه وسلم لإسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط3.
- فضائل الصحابة للإمام النسائي، تحقيق الدكتور فاروق حمادة-الرباط.
- فضائل القرآن للإمام النسائي.
- فهرسة ما رواه عن شيوخه أبو بكر بن خير اللمتوني الاشبيلي – دار الآفاق الجديدة – بيروت-لبنان.
- الفهرست لابن النديم – مطبعة الاستقامة – القاهرة.
- الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة لحسين بن علي بن طلحة الشوشاوي تحقيق عزوزي إدريس – نشر وزارة الأوقاف المغربية – الرباط: 1409 هـ-1989م.
- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية- نشر مطابع المجد التجارية.
- القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس تحقيق الدكتور أحمد خطاب العمر – مطبعة العاني – بغداد – ط1: 1398 هـ-1978م.
- القراءات القرآنية (تاريخ وتعريف) للدكتور عبد الهادي الفضيلي –دار القلم – لبنان. ط2: 1980م.
- القصد النافع في شرح الدرر اللوامع لأبي عبد الله الخراز الشريشي الأندلسي (مخطوط).
- قصيدتان للخاقاني والسخاوي في التجويد والقراء تحقيق وشرح الشيخ عبد العزيز عبد الفتاح القاري – المدينة المنورة. ط1: 1402 هـ.
- قراات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين لأحمد بن أبي عمر المقرئ الأندرابي تحقيق وتقديم الدكتور أحمد نصيف الجنابي مؤسسة الرسالة. ط2: 1405 هـ-1983م.
- القول الفصل في اختلاف السبعة في الوقف والوصل لأبي زيد بن القاضي شيخ الجماعة بفاس (مصورة عن مخطوط).
- الكافي في القراءات السبع لأبي عبد الله محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي بهامش كتاب المكرر في القراءات للأنصاري.
(1/479)
- الكشف عن وجوه القراءات لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي تحقيق الدكتور محي الدين رمضان – مؤسسة الرسالة. ط2: 1402 هـ-1981.
- الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1387 هـ-1968م.
- الكفاية في علوم الرواية لأبي بكر الخطيب البغدادي – مطبعة السعادة – مصر – ط1.
- كنز المعاني في شرح حرز الأماني لأبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري – (مصورة عن مخطوط).
- لطائف الإشارات لفنون القراءات لأبي العباس القسطلاني – تحقيق الشيخ عامر السيد عثمان وعبد الصبور شاهين – القاهرة: 1392 هـ-1972م.
- لسان العرب لابن منظور – طبعة دار صادر – بيروت – لبنان.
- لسان الميزان لابن حجر – طبعة دار الفكر – بدون تاريخ.
- محاضرة عن المذهب المالكي في إفريقيا للشيخ إبراهيم صالح بن يونس الحسيني من نيجيريا – نشرت ضمن منشورات "ندوة الإمام مالك" وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الرباط.
- المحكم في نقط المصاحف لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني تحقيق ادكتور عزة حسن – دار الفكر – دمشق. ط2: 1407 هـ-1986م.
- المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز لأبي جعفر بن عطية الأندلسي تحقيق المجلس العلمي بفاس: 1397 هـ-1977م.
- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لأبي الفتح عثمان بن جني تحقيق علي النجدي ناصف والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي إعداد محمد بشير الأدلبي – دار سيزكين للطباعة والنشر: 1406 هـ-1986م.
- مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي عبد الواحد بن علي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار نهضة مصر. ط2. القاهرة.
- مشاهير علماء الأمصار لمحمد بن حبان البستني – نشر دار الكتب العلمية – بيروت.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي – نشر دار الريان ودار الكتاب العربي: 1407 هـ-1987م.
- مجموعة فتاوى ابن تيمية – مجلد 18.
- مرآة الجنان لليافعي – مؤسسة الأعظمي – لبنان. ط2: 1390 هـ-1970م.
(1/480)
- مسالك الدلالة في شرح الرسالة لأبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري – دار الفكر للطباعة والنشر – لبنان.
- المصاحف لابن أبي داود السجستاني – دار الكتب العلمية. ط1: 1405 هـ-1985م.
- المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري.
- مسائل ابن الأزرق من كتاب الإتقان للسيوطي كتاب التفسير البياني للقرآن للدكتورة عائشة عبد الرحمن.
- المصنف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني.
- مختصر شواذ القراءات من كتاب البديع لابن خالويه – المطبعة الرحمانية بمصر: 1934م.
- معجم الدراسات القرآنية في خمسة عشر قرنا للدكتور مصطفى الصاوي.
- معجم البلدان لياقوت الحموي – طبعة صادر – بيروت.
- معجم ما استعجم لعبد الله البكري تحقيق مصطفى السقا. عالم الكتب" ط3: 1403 هـ-1983م.
- معجم الدراسات القرآنية المطبوعة والمخطوطة للدكتورة ابتسام مرهون الصفار – مجلة المورد العراقية مجلد 10 – عدد 3-4- بتاريخ 1402 هـ-1981.
- المعجم الصغير للطبراني مراجعة عبد الرحمن محمد عثمان ـ دار الفكر ـ لبنان ـ ط2: 1401 هـ-1981.
- معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري.
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للحافظ الذهبي. تحقيق محمد سيد جاد الحق – دار الكتب الحديثة شارع الجمهورية – عابدين – مصر. ط1.
- المعارف لأبي محمد بن قتيبة تحقيق الدكتور ثروت عكاشة – دار المعارف بمصر. ط2: 1969م.
- مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني – دار إحياء التراث العربي بيروت – لبنان.
- منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
- منجد المقرئي ومرشد الطالبين لابن الجزري – دار الكتب العلمية – بيروت: 1400 هـ-1980.
- مفردات القرآن للراغب الأصفهاني (معجم مفردات ألفاظ القرآن) تحقيق نديم مرعشلي – دار الكتاب العربي.
- مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة في موضوعات العلوم مراجعة كامل بكري.
(1/481)
- المقاصد العلية في زوائد المسانيد الثمانية لابن حجر تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.
- مقدمة ابن خلدون – طبعة دار الفكر- توزيع دار الرشاد الحديثة – الدار البيضاء.
- المقنع في معرفة مرسوم أهل الامصار وبذيله كتاب النقط كلاهما لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني – تحقيق محمد أحمد دهمان – دار الفكر – دمشق: 1403 هـ- 1983م.
- المعيار المعرب للإمام الونشريسي – المجلد 12 – وزارة الأوقاف المغربية – الرباط.
- المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن مرعشلي نشر مؤسسة الرسالة – بروت. ط1: 1404 هـ-1984م.
- مورد الظمآن بشرح دليل الحيران للمارغني.
- الموطإ للإمام مالك بن أنس بشرح تنوير الحوالك للسيوطي.
- النجوم الطوالع في شرح الدرر اللوامع للشيخ إبراهيم المارغني – دار الطباعة الحديثة – الدار البيضاء.
- الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة للحافظ ابن عبد البر النمري – دار الكتب العلمية – لبنان.
- النشر في القراءات العشر للحافظ ابن الجزري تصحيح الشيخ علي الضباع –مطبعة مصطفى محمد بمصر.
- نشر البنود على مراقي السعود عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي – نشر صندوق الإحياء للتراث الإسلامي المشترك بين المغرب ودولة الإمارات العربية.
- انتصار المجتهد لمحمد العربي بن البهلول الرحالي السرغيني تقديم الشيخ الرحالي الفاروقي.
- نكت الانتصار لنقل القرآن لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني تحقيق الدكتور محمد زغلول سلام- منشأة المعارف – الأسكندرية – مصر.
- نزهة الألباء في طبقات الأدباء للأنباري.
- نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا السوداني بهامش الديباج المذهب لابن فرحون.
- وفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس – دار الثقافة – بيروت – لبنان.
فهرس المحتويات للعدد الثاني
صفحة
- مقدمة ومدخل: ...
الفصل الأول:
نافع ورجال المدرسة المدنية في علوم الرواية وأعلام مشيخته ...
(1/482)
- نسبه ونشأته بالمدينة ...
- أول شيوخه في مرحلة الكتاب ...
- الكتاتيب القرآنية بالمدينة في عهد نافع القارئ الناشئ. ...
- بيت نافع بالمدينة ...
- مدرسة القراءات بالمدينة نشأة وتطورا ...
- مشيخة الإقراء بالمدينة في بداية النشأة ...
- مدرسة أبي بن كعب في القراءة ...
- مدرسة زيد بن ثابت الانصاري ...
- رجال المدرسة المدنية في علوم الرواية من أصحاب أبي بن كعب وزيد بن ثابت ...
- حلقات الإقراء ومجالس العلم في المسجد النبوي في عهد الطلب من حياة نافع ...
- الحركة العلمية في المسجد النبوي في عهد ولاية عمر بن عبد العزيز ...
- أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي لهذا العهد ...
الفصل الثاني: نافع في حلقات العلماء وشيوخه في القراءة وعلوم الرواية ...
1- يزيد بن القعقاع أبو جعفر المدني شيخ قراء المدينة في زمنه ...
... ... - أسانيد نافع في القراءة من طريق أبي جعفر المدني ...
2- شيبة بن نصاح ...
3- عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ...
4- مسلم بن جندب الهذلي ...
5- يزيد بن رومان الأسدي ...
6- صالح بن خوات الأنصاري ...
7- محمد بن شهاب الزهري ...
8- عبد الرحمن بن القاسم بن محمد وطائفة من شيوخ الرواية ...
9- مالك بن أنس إمام دار الهجرة في الفقه ...
الفصل الثالث: تصدره للإقراء ومعالم اختياره في القراءة ومكانته بين أئمة الأمصار ... ...
- نافع في حلقة التدريس والإقراء ...
- عرض القراءات وأسلوب التلقي والتحمل ي حلقة نافع ...
- دواعي الاختيار والمفاضلة بين الروايات ...
- أطوار ومراحل تكون القراءة قبل استقرارها على الوجوه الرسمية التي اختارها الأئمة ...
- عناصر الاختيار عند الإمام نافع كما نستقرأ من أخباره ...
وأقوال الأئمة عن قراءته. ...
- دستور نافع في القراءة كما حدده ووصف بعض الأئمة لقراءته ...
- نماذج من مخالفته للسبعة وغيرهم في سورة البقرة. ...
- تمثيل نافع لقراءة أهل بلده مما عرف بالقراءة السنية ...
- اختلاف الرواة عن نافع وأسبابه ...
- مستويات العرض والرواية عن نافع ...
(1/483)
الفصل الرابع: شخصيته العلمية ومظاهر إمامته في القراءة وريادته في علومها: ...
ـ مقومات التصدر للإقراء وأهم استمدادات علم القراءات ومدى التزام نافع بها ومستوى تعامله معها: ...
أولا : علم العربية ...
ثانيا: علم التجويد ...
ثالثا: علم الرسم ...
رابعا: علم الوقف والابتداء ...
خامسا: معرفة العد ومواقع رؤوس الآي ...
سادسا: علم الأسانيد والطرق الموصلة للقرآن ...
سابعا: علم البدء والختم ...
- ثقافته العامة: ...
- من حديثه الأدبي ...
- من حديثه في مناقب الرجال وأهل البيوتات ...
- روايته للسنة ومكانته في الحديث ...
- مذهبه في الجهر بالبسملة وموقف فقهاء المدينة من ذلك ...
- زهده ومنزلته عند الخلفاء وامتناعه من صلاة التراويح إماما في المسجد النبوي
بمحضر الخليفة لقاء مكافأة مالية ...
- وفاته ...
- خاتمة ...
- فهرسة المصادر والمراجع ...
- فهرسة المحتويات للعدد الثاني ...
(1/484)
الأعداد : 13 ـ 14 ـ 15 ـ 16 ـ 17
قراءة الإمام نافع عند المغاربة
من رواية أبي سعيد ورش
الاتجاهات الفنية وامتداداتها في مدارس الأقطاب من خلال المدارس الأدائية الخاصة والقصائد التعليمية المعتمدة في عهد الوحدة بين الأقطار المغربية :
? العدد : 13 معالم الاتجاه القيرواني في الأداء من خلال مدرسة أبي الحسن الحصري وقصيدته الرائية في قراءة نافع. (النص الكامل)
? العدد : 14 الاتجاه الرسمي في أصول الأداء وزعيم المدرسة الاتباعية شيخ قراء المغرب والمشرق أبو القاسم الشاطبي، ودراسة قصيدته "حرز الأماني في القراءات" وتعريف بشروحها وإشعاعها.
? العدد : 15 معالم الاتجاه التوفيقي في أصول الأداء وامتداداته من خلال أبي الحسن القيجاطي وقصيدته "التكملة المفيدة". (النص الكامل)
? العدد: 16 المدارس المغربية المختصة في قراءة نافع وأصولها (الطور الأول)
? مدرسة أبي عبد الله القصاب الأنصاري وأبي عبد الله آجور
? العدد:17 مدرسة أبي عبد الله الخراز وقصيدته مورد الضمئان
بسم الله الرحمن الرحيم
العدد الثالث عشر :
الإمام أبو الحسن الحصري
رائد الاتجاه القيرواني في الأداء في المغرب
وقصيدته الرائة في قراءة نافع
تصدير:
حمدا لله على ما وفق إليه وهدى، وصلى الله وسلم على نبي الهدى وسيد الأنبياء المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أهل البر والتقى ومن تبعهم بإحسان على الصراط السوي ومن اهتدى.
(1/1)
أما بعد فيقول مؤلفه عبد الهادي بن عبد الله حميتو: هذا هو الإصدار الموالي في هذه السلسلة في موضوع "قراءة الإمام نافع عند المغاربة" خصصناه لإبراز معلم من معالم المدرسة المغربية القيروانية في أواخر عصر التأصيل والنضج لهذه المدرسة الأدائية، ويدور البحث فيه عن شخصية فذة تعتبر نموذجا رائدا في جهتها وزمنها ثم في الواجهة الشمالية من بلاد المغرب ومدينة سبتة حيث لمع نجمها، والتأم بأهل هذا الشأن شملها، وانتظم في سمط البراعة عقدها، تلكم هي شخصية الإمام القارئ المتمكن والشاعر الأديب المتألق أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري الفهري القيرواني رحمه الله.
ولقد اعتاد أهل الآداب المتمرسون بمعرفة أعلام الإجادة فيه وخاصة منهم الباحثين في فن الموشحات، والدارسين أيضا لتاريخ الأدب العربي بالأندلس في القرن الخامس الهجري على عهد ما يعرف بملوك الطوائف، أن يجدوا للشاعر الأديب أبي الحسن الحصري مكانا مرموقا بين شخصيات هذا العصر، وصيتا ذائعا في المؤلفات التي تناولت التأريخ لأدبائه وآدابه كذخيرة ابن بسام ومطرب ابن دحية ونفح الطيب للمقري وغيرها؛ إلا أن كثيرا منهم إن لم يكن الأكثر لا يعرف عن أبي الحسن الشاعر إلا أنه شاعر متكسب أو شاعر وشاح أو أديب من أدباء عصر الطوائف دون أن يكون له اطلاع على الجانب الأصيل فيه الذي برع فيه وأبدع براعة وإبداعا هما في الميزان العلمي عند العلماء بعلوم القراءة والتجويد أسمى من كل ما طار به ذكره بين الأدباء، ولمع به نجمه بين زمرة الشعراء.
(1/2)
فالرجل كان ـ كما سوف نتعرف عليه ـ أحد النابغين من حفاظ الذكر الحكيم بقراءاته السبع المشهورة وأحد أعلام المدرسة القيروانية في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون، ثم هو إلى جانب ذلك رائد كبير في مجال النظم التعليمي في قراءة نافع، إذ لا أعلم أحدا تقدمه إلى نظم أصول أدائها ومسائل الوفاق والخلاف فيها قبله، وإن شئت فقل، ولا بعده أيضا أحد نظم مثل ذلك فأجاد فيه إجادته، وأفاد بتلخيص قواعدها وتقريب شواردها إفادته.
وأترك للقارئ الكريم أن يقف بنفسه على مصداق ما نبهته إليه من خلال ما حاولت التنويه به في هذه الفصول مما يساعده على الوقوف على جلية الأمر فيه، وموضع الإنافة فيما حبره من نظم، وخاصة في رائيته العصماء التي قال عنها: "على كل خاقانية قبلها تزري".
والله سبحانه ولي العون على ما قصدناه، والتوفيق إلى ما توخيناه، وهو نعم المولى، ونعم النصير.
مقدمة:
الاتجاهات الفنية وامتداداتها في مدارس الأقطاب من خلال المدارس الأدائية الخاصة وقصائد النظم التعليمية في عهد الوحدة بين الأقطار المغربية.
رأى معنا القارئ الكريم من خلال الأبواب والفصول التي تناولنا فيها مدارس الأقطاب وامتداداتها في الحواضر والجهات، كيف بلغت المدرسة القرآنية في المغرب بصفة عامة وفي قراءة نافع بصفة خاصة، أوج ازدهارها وغاية كمالها، وكيف انبثقت عنها ابتداء من الربع الآخر من المائة الرابعة، مدارس أدائية وفنية متمايزة اصطلحنا على تسميتها بـ"مدارس الأقطاب" إشارة منا إلى ما توافر عند أصحابها من أعلام الأئمة في عهد التأصيل والنضج من نبوغ خاص في الفن، وتكامل في الشخصية العلمية، وسعة أفق في التعامل مع مذاهب الأئمة وتوجيه مسائل الخلاف وحذق خاص في إدارة مباحثها ومعرفة منازع أهل الأداء في اختياراتهم فيها، والتأليف، في أحكامها وقضاياها.
(1/3)
ورأينا مع القارئ الكريم أيضا من خلال ذلك كيف انصب هذا النشاط القرائي الرفيع وتبلور داخل ثلاثة أنماط في القراءة والأداء والتأليف تمثل ثلاث مدارس كبرى لكل منها طبيعتها ومنهجها وأصولها الفنية ومقوماتها الأدائية، وهي المدرسة التي اصطلحنا على وصفها بـ"القياسية" أو "التنظيرية"وتشمل أبا عبد الله بن سفيان ومكي بن أبي طالب وأبا العباس المهدوي وباقي الأقطاب تمام الستة من القيروانيين(1).
والمدرسة الاتباعية "الأثرية" ونعني بها مدرسة أبي عمرو الداني وامتداداتها في شرق الأندلس، ثم المدرسة "التوفيقية" التي جاءت في منهجها وسطا بين المدرستين، وهي مدرسة الإمام أبي عبد الله بن شريح وامتداداتها في غرب الأندلس.
ثم رأينا بعد كيف كان التنافس بينها في ساحة الإقراء بالغا مداه في عامة حواضر المغرب والأندلس، وكل منها تسعى إلى بسط مذاهبها في الأداء قراءة وإقراء وتأليفا وتوجيها، مما كان يفتح لطلبة هذا الشأن مجالات أفسح في فقه القراءة وتتبع مدارك الأئمة ومنازعهم في تلك المذاهب والاختيارات، كما كان يغذي الميدان بسيل لا ينقطع من المؤلفات رأينا طرفا مهما منه عند خلفاء الأئمة وأصحابهم والآخذين باتجاهاتهم.
__________
(1) - أعني بتمام الستة أبا القاسم الهذلي وأبا علي بن بليمة وأبا القاسم بن الفحام.
(1/4)
ونريد الآن في الحلقة التالية أن نقف مع إحدى واجهات ثلاث تبلور من خلالها أهم مظاهر هذا النشاط التأليفي والعلمي في تلك المدارس الفنية الثلاث، لدى ثلاثة من الأئمة يعتبرون من خيار هذا الرعيل إمامة في مذاهب الأقطاب، وحذقا في فقه منازعهم فيها، وقياما تاما عليها، إلى ما تأتى لهم من الحذق والتبريز في ملكة "النظم التعليمي" الذي اتخذوه مطية ذلولا لنقل أصول الأئمة في القراءة واختياراتهم في الأداء وأبدعوا فيه قصائد عصماء سائرة كانت منذ ظهورها وما تزال أمثلة عالية في ذلك تجمع بين استيعاب المادة وبين حسن التلخيص والتقديم لها، وجمال الصياغة والحذق فيها، وإخراجها في حلل قشيبة زادت في تحبيبها وتقريبها من القراء لما للنفوس من تعلق زائد بالشعر وما نظم في قوالبه(1).
ولقد كان لأهل هذا الشأن من التعلق المكين بهذه القصائد ـ كما سوف نرى ـ والتشبث بمذاهب الأقطاب فيها ما كاد ينسي أصولها التي اغترفت منها ـ أعني كتب الأئمة ـ إن لم يكن قد غطى عليها أو أغنى عند جمهور الأئمة عنها حتى كادت تنسى، ثم زاد في رجحان قدرها إقدام عدد كبير من الأئمة في كل عصر منذ ظهورها إلى الآن على وضع شروح وإضافات وحواش تبين مقاصدها وتصلها بأصولها، معيدين بتلك الشروح والأوضاع حل ما أبرم ناظموها وتفننوا في ذلك، وزاد عكوفهم على بعضها إلى الحد الذي خرجت معه عن أن تكون لغير معصوم(2).
__________
(1) - عبر عن ذلك الحصري في أول قصيدته التالية.
(2) - ذكره ابن الجزري عن الشاطبية كما سيأتي.
(1/5)
وسوف نرى من خلال قصيدة الإمام أبي الحسن الحصري الذي أفردنا له هذه الحلقة في هذه السلسلة مستوى بديعا من الحذق والنبوغ سواء في التمكن من الفن ورسوخ القدم فيه، أم في القدرة على تقديمه إلى القراء والطلاب في حلة جميلة بديعة من النظم الذي من شأنه أن تتعلق به النفوس، وأن يعين طالب القراءة وقواعد التجويد على استيعاب القواعد وضبط أصول الأداء وحفظ أدلتها والقدرة على استحضارها عند الحاجة والاستدلال.
والله عز وجل يعين على بلوغ الأمل، والمسؤول أن يجود بحسن القبول والتوفيق إلى خلوص القصد والنية والعمل.
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول :
معالم الاتجاه القيرواني في الأداء في الأندلس والمغرب من خلال مدرسة الإمام الحصري وقصيدته الرائية في قراءة نافع.
رأينا فيما قدمنا كيف تأسست المدرسة القيروانية في قراءة نافع بأفريقية، وكيف تألقت فيها مدرسة رائدها أبي عبد الله بن خيرون، ثم رأينا كيف تفرعت إلى اتجاهات عديدة تتفق فيما بينها في الخصائص العامة للمدرسة "الأم"، ويستقل بعد ذلك كل إمام فيها بطائفة من الاختيارات الأدائية التي تعزى إليه كما وقفنا على أمثلة ذلك في كتب الأقطاب القيروانيين، الستة ابتداء من صاحب "الهادي أبي عبد الله محمد بن سفيان، وانتهاء إلى أبي القاسم بن الفحام من أصحاب المصنفات الأمهات في القراءة والأداء.
ولقد رأينا كيف اتسعت آفاق هذه المدرسة فيما بعد حتى عمت أفريقية والأندلس والمغرب عن طريق هجرة طائفة من أئمتها من المنطقة إلى الأندلس، ثم تجاوزت ذلك فيما بعد في اتجاه أقطار المشرق فبلغ بها أبو القاسم الهذلي ـ صاحب الكامل في القراءات ـ أقصى ما بلغه قارئ في طلب هذا الشأن على الإطلاق، وتوقف بها كل من أبي علي بن بليمة ـ صاحب تلخيص العبارات ـ وأبي القاسم بن الفحام ـ صاحب التجريد ـ على بوابة المشرق: مدينة الاسكندرية بمصر فظلا يرسخان أصول هذه المدرسة، ويمكنان لها في هذه الجهات.
(1/6)
وبذلك بلغ المذهب القيرواني في القراءة لهذا العهد على أيدي هؤلاء الرواد أقصى ما أمكن لمذهب في الأداء ـ وخصوصا في رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق ـ أن يبلغه من الشهرة والذيوع والانتشار.
ولقد مر بنا ذكر الانتكاسة التي تعرضت لها هذه المدرسة الفنية في عقر دارها بالقيروان نتيجة الغزو الهمجي الذي تعرضت له من لدن عرب سليم وهلال في منتصف المائة الخامسة، هذا الغزو الذي قضى على المجد الباذخ لهذه المدينة، وأباد خضراءها، وطوح بمن قدر له البقاء في كل اتجاه.
وكان بدء ذلك لما قطع المعز بن باديس الصنهاجي الدعوة للعبيديين الذين كانوا يعتبرونه نائبا عنهم في إدارة البلاد بعد أن حولوا قاعدة الملك من أفريقية إلى القاهرة، "وبايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس سنة 437، وبعث بالبيعة إلى بغداد وقلده الخليفة من قبله، وقرئ كتابه بجامع القيروان، وانتشرت الرايات السود، وهدمت دور الإسماعيلية، وبلغ الخبر إلى المستنصر ـ العبيدي ـ فأرسل عرب بني هلال على أفريقية، تأديبيا للمعتز وانتقاما منه، وكان في نص الإنذار الذي بعث به إلى المعز على لسان وزير المستنصر أبي محمد الحسن بن علي الباروزي:
"أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا، وأرسلنا عليها رجالا كهولا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا"(1).
وهكذا وصل الزحف الهلالي الرهيب إلى أفريقية سنة 443، فهزموا المعز الصنهاجي وحاصروه في قاعدة ملكه، وفر أهل القيروان إلى تونس، "واقتسمت الحرب الهلالية بلاد أفريقية سنة 446 وخربوا القيروان"(2).
__________
(1) - تاريخ ابن خلدون 6/14ـ16.
(2) - المصدر نفسه 16.
(1/7)
وكانت القيروان يومئذ ـ كما يقول صاحب المعجب "منذ الفتح إلى أن خربتها الأعراب ـ دار العلم بالمغرب إليها ينسب أكابر علمائه، وإليها رحلة أهله في طلب العلم، فلما استولى عليها الخراب ـ كما ذكرنا ـ تفرق أهلها في كل وجه، فمنهم من قصد بلاد مصر، ومنهم من قصد صقلية والأندلس، وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب، فنزلوا مدينة فاس، فعقبهم بها إلى اليوم"(1).
وكان من خيرة أئمة القيروان ممن شهد هذه المحنة وصلي نارها الشاعر الأديب والإمام المقرئ الذائع الصيت أبو الحسن الحصري الضريررائد هذه المدرسة في زمنه، وحامل لوائها في الأندلس والشمال المغربي الذي سنحاول في هذا البحث التعريف بشخصيته العلمية قارئا ومقرئا بعد أن عرفه أكثر من عرفوه من المثقفين شاعرا وأديبا، ثم نقوم بالتعريف بما كان له من أثر في هذا الشأن، ونقدم للقراء قصيدته الرائية في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون كاملة محققة باعتبارها أقدم أثر في هاتين الروايتين اصطنع النظم التعليمي في تحديد أصولها وتفصيل أحكامها الأدائية، مما مثل به هذا الإمام مقام الريادة في هذا الشأن، وكان طليعة لأعلام الأئمة الذين نظموا في هذه القراءة في القرون التالية كما سنقف عليه بعون الله.
ترجمته وشخصيته العلمية
هو علي بن عبد الغني أبو الحسن الفهري القيرواني المعروف بالحصري ـ بضم الحاء وسكون الصاد المهملة وبعدها راء مهملة نسبة إلى الحصر أو بيعها(2)، قال ابن القاضي: وضبطه الأستاذ أبو الحسن بن بري بضم الصاد"(3).
__________
(1) - المعجب في تلخيص أخبار المغرب للمراكشي 501ـ502.
(2) - هكذا ضبط نسبته ابن خلكان في الوفيات 2/332، وذكر الدكتور زكي مبارك في كتابه "الموازنة بين الشعراء" ص 110 أن السيد حسني عبد الوهاب حدثه أنه منسوب إلى "الحصر" وهي قرية قديمة بالقرب من القيروان".
(3) - نقله ابن القاضي في الفجر الساطع عند ذكر لغز الحصري في "سوءات" من باب المد.
(1/8)
ولد ـ رحمه الله ـ في حدود 415هـ بمدينة القيروان(1)، ونشأ بها، وقرأ القرآن بالروايات في مسجدها، وكان ابن خالة الأديب الشهير أبي إسحاق الحصري صاحب "زهر الآداب" وربما التبس به على بعض المشارقة وغيرهم فظنوه اياه(2).
وقد اشتهر اسمه عند الأدباء باعتباره شاعرا وشاحا، ولم يشتهر أستاذا مقرئا، وقد سارت في الناس قطعته الشعرية الدالية الجميلة التي مطلعها:
"يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده؟"
... وعارضه فيها كثير من الشعراء في القديم والحديث(3) قال ابن خلكان: "وهي مشهورة فلا حاجة إلى إيرادها"(4).
أما بين القراء فقد اشتهر مقرئا وأستاذا ماهرا وأديبا حاذقا"(5)، وممثلا للاتجاه القيرواني في أصول الأداء، كما اشتهر بينهم بقصيدته السائرة في قراءة نافع، وبلغزه المشهور في مسألة "سوءات" ويأتي بيان ذلك في موضعه من هذا البحث بعون الله.
__________
(1) - ينظر في ذلك مقال الأستاذ عثمان الكعاك نشره في مجلة المناهل المغربية عدد 6 ص 120.
(2) - ممن التبس عليه أمرهما بروكلمان فترجم لصاحب زهر الآداب أبي إسحاق إبراهيم بن علي فأضاف إليه طائفة من آثار الحصري الشاعر أبي الحسن ومنها "المعشرات" وقصيدة "يا ليل الصب" ـ تاريخ الأدب العربي 5/106. كما التبس أمره على الدكتور أحمد أمين في ظهر الإسلام 3/182 حيث عرف بالحصري الشاعر فقال: صاحب زهر الآداب ثم عاب عليه موقفه من استجداء ابن عباد في منفاه". وهذا خلط بين الحصريين ابني الخالة.
(3) - بعض تلك المعارضات في مقدمة تحقيق زهر الآداب للدكتور زكي مبارك 8 ـ 10.
(4) - وفيات الأعيان: 3/332ـ334.
(5) - سيأتي تفصيل ما يدل على ذلك.
(1/9)
وإذا كان الحصري الشاعر الأديب قد نال حظا كبيرا، من عناية الأدباء والدارسين قديما وحديثا(1)، فإن الحصري المقرئ حامل راية المذهب القيرواني في الأداء لم ينل من تلك العناية إلا يسيرا لا يزيد على بعض الأسطر هنا وهناك ضمن طائفة من الدراسات أو المقالات مما لا يتناسب مع المنزلة الرفيعة التي احتلها في الميدان والريادة العلمية التي نبهنا عليها سابقا بالنسبة للمدرسة المغربية في سبقه إلى حصر أصول روايتي ورش وقالون في إطار من النظم التعليمي الرفيع، وفي تخليده لمذاهب مدرسته في قصيدته السائرة الآتية.
رجال مشيخته في القراءات
تولى الإمام أبو الحسن الحصري بنفسه التعريف بأسماء أساتذته في القراءات السبع في قصيدته في قراءة نافع فقال:- ...
أعلم في شعري قراءة نافع ... رواية ورش ثم قالون في الاثر
وأذكر أشياخي الذين قرأتها ... عليهم فأبدا بلامام أبي بكر
قرأت عليه السبع تسعين ختمة ... بدأت ابن عشر ثم أتممت في عشر
ولم يكفني حتى قرأت على أبي ... علي بن حمدون جلو لينا الحبر
وعبد العزيز المقرئ بن محمد ... أثير ابن سفيان وتلميذه البكري
أئمة مصر كنت أقرأ مدة ... عليهم ولكني اقتصرت على القصري
فأجلسني في جامع القيروان عن ... شهادته لي بالتقدم في عصري
وكم لي من شيخ جليل وانما ... ذكرت دراريا تضيء لمن يسري
ولمزيد من البيان نسوق أسماء أساتذته المذكورين مع مزيد من التفصيل حسب ترتيبهم في الذكر، فأولهم:
__________
(1) - من ذلك الدراسة "علي الحصري ـ دراسة ومختارات" للأستاذين التونسيين محمد المرزوقي والجيلالي يحيى ـ نشر الشركة التونسية للتوزيع ط2: 1974. ومنه البحث المعقود عن "رائية" الحصري ومنظومات معارضة لرائية الخاقاني لمحمد محفوظ (نشر مجلة الفكر التونسية ص1 عدد 10 ـ حوليات الجامعة التونسية: العدد 1 السنة: 1964.
(1/10)
1- أبو بكر عتيق بن أحمد بن إسحاق التميمي القصري(1)
مقرئ امام من أعلام أصحاب أبي عبد الله بن سفيان ـ صاحب الهادي ـ(2)، ترجم له الدباغ في معالم الايمان، وذكر انه كان اماما بجامع القيروان، وانه قرأ على ابن سفيان المذكور، وأنه كان يقرئ القرآن من سدس الليل الآخر إلى وقت الضحى، ومن العصر إلى الليل، توفي بالقيروان سنة 447"(3).
وقد اشترك الحصري في الأخذ عن القصري المذكور مع أحد أقطاب المدرسة القيروانية وهو أبو علي بن بليمة صاحب "تلخيص العبارات" فقرأ عليه عن قراءته على محمد بن سفيان"(4).
ويستفاد من قوله الآنف الذكر في الرائية أنه قرأ عليه القراءات السبع، وختم عليه بها تسعين ختمة فكلما ختم ختمة قرأ غيرها، حتى أكمل ذلك في مدة عشر سنين"(5).
وبذلك يعتبر القصري أهم أساتذته وأعظمهم أثرا في حياته، لأنه إلى جانب شهادته له بتمام الأهلية في الفن والتقدم فيه على أهل عصره، أقعده مقعد المشيخة ورشحه لتولي كرسي الإقراء بالمسجد الجامع بالقيروان، وتلك مزية للتلميذ وحفاوة من شيخه به من شأنها أن تنبه على جليل قدره، وأن تصله بطلبة هذا الشأن من أهل المنطقة والواردين عليها.
2- أبو علي الجلولي حسن بن حسن بن حمدون الجلولي نسبة إلى جلولاء(6)
هكذا جاء نسبه في المعالم(7).
__________
(1) - تحرفت "القصري" إلى "المصري" بالميم في شجرة النور 118 طبقة 10 ترجمة 330 كما سقط فيه لفظ "بكر".
(2) - تقدم ذكره في أصحابه.
(3) - معالم الايمان للدباغ 3/180.
(4) - غاية النهاية 2/185 ت 858.
(5) - النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/194.
(6) - نسبة إلى مدينة تبعد عن القيروان بأربعة وعشرين ميلا كانت مشهورة بكثرة الورود يضرب بها المثل في ذلك ـ المؤنس في أخبار أفريقية وتونس لأبي عبد الله محمد بن أبي القاسم الرعيني المعروف بابن أبي دينار: 28 تحقيق محمد شمام نشر المكتبة العتيقة بتونس الطبعة 2/1967م.
(7) - 3/186.
(1/11)
وقال ابن الجزري: الحسن بن علي أبو علي الجلولي القيرواني، قرأ عليه ابن بليمة عن قراءته على محمد ن سفيان"(1).
3- عبد العزيز بن محمد البكري المقرئ المعروف بابن أخي عبد الحميد
إمام جليل جمع بين الفقه والقراءة وبرزفيهما جميعا، وكان قد قرأ على أبي عبد الله بن سفيان ـ كما تقدم ـ معدودا في كبار أصحابه، أثنى عليه الدباغ وذكر أنه فاق جميع أقرانه في فن القراءات وقرأ الناس عليه، وذكر فيمن قرأ عليه أبا الحسن الحصري(2). كما سماه ابن الجزري في مشيخته وإن كان لم يفرد له ترجمة(3).
4- وأما قوله:
وكم لي من شيخ جليل وانما ذكرت دراريا تضيء لمن يسري.
فإشارة إلى لجوئه إلى الاقتصار على الثلاثة المشهورين من جملة رجال مشيخته، وقد ساق في إجازته لأبي عيسى بن عبد الرحمن بن عقاب أسماء غيرهم ممن لم يسمهم في الرائية فقال:
أجزت لعيسى السبع في ختمة قرا ... علي بها فليرو ذلك وليقر
بما شاء منها أو بها فهو أهله ... بإتقانه مع ضبطه أحرف الذكر
وقوة حفظ ثم صحة نقله ... فما مثله من طالب لا ولا مقري
وأذكر صحبي كلهم في إجازتي ... له بالذي أروي فمنهم أبو بشر
سليل المعلى جاء من قيروانه ... وعبد الإله بن الحميد أخو البر
ومنهم أبو العباس يحيى بن خالد ... وصاحبه الحبر التقي أبو عمرو
سليل ابن يحيى، ثم أذكر بعده ... أبا القاسم البرقي، ثم أبا بكر
محمد ابن الخازن بن محمد ... وزير عماد الدولة السامي القدر
ومنهم أبو الخطاب نجل ابن يوسف ... سليل ابن يمن جل ذلك من وزر
وصاحبنا السبتي علي بن يخلف ... وسائر صحبي ناثر العلم كالدر(4)
__________
(1) - غاية النهاية 1/226 ترجمة 1027.
(2) - معالم الايمان 3/186ـ3/202.
(3) -غاية النهاية 1/550ـ551 ترجمة 2250.
(4) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/498ـ499 وسيأتي تمام هذه الإجازة في ترجمة عيسى بن عقاب.
(1/12)
وعلى العموم فقد نال الحصري في عاصمة افريقية منزلة الأفذاذ من العلماء، وأمسى مؤهلا لاقتعاد مجالس كبار المشيخة في أكثر من فن، وعلى الخصوص في فن القراءات الذي يظهر أنه كان قد حقق فيه مستوى الإمامة وحصل على مستوى قل من بلغ إليه من أقرانه من طلاب هذا الشأن بالقيروان، ولعله كان يتهيأ ليحل محل المشايخ الكبار في عاصمة البلاد، إلا أن الرياح تجري بقضاء الله بما لا تشتهي السفن، فلم يجد بدا من الهجرة عن المنطقة والضرب في أرجاء المغرب والأندلس انتجاعا للأمن وطلبا للاستقرار.
ظروف هجرته ونزوحه عن افريقية ومجالات تحركه ونشاطه الأدبي والعلمي
لا يحتفظ التاريخ العلمي والأدبي لأبي الحسن الحصري في هذا الطور من حياته الحافلة بالكثير من التفاصيل، فالمعلومات عنه شحيحة جدا، إذ لا نجد اهتماما في المصادر بذكر تقلبات الأحوال به أثناء النكبة الهلالية العظمى التي كانت بالنسبة لعاصمة أفريقية شبيهة بالفتنة البربرية قبلها في عاصمة الأندلس في نتائجها الخطيرة على الأقل، إذ كانت فاجعة القيروان قاصمة الظهر التي لم تقم لها بعدها قائمة.
وقد أجمعت المصادر التي تعرضت لنزوحه عن القيروان على أنه غادرها واتجه نحو الأندلس بعد سنة 450(1)، إلا أنها لا تضع بين أيدينا ما يشفي في تتبع حركاته لأول حلوله بها، فلا ندري إلى أي جهة توجه أولا؟ وفي كنف من من ملوك الطوائف يومئذ نزل؟ وإن كان الظاهر أنه توجه إلى أقرب أفق إلى القيروان من الأندلس وهو الجانب الشرقي حيث امارة أبي الحسن علي بن مجاهد العامري، ولكنه ربما كان مروره به مرورا عابرا، وربما تخطى امارات كثيرة في شرق الأندلس في اتجاه الغرب أو في اتجاه المغرب كما سنرى.
وقد درج عامة من تحدثوا عن دخوله الأندلس على ربط الصلة بين هذا الدخول وبين عمله شاعرا متكسبا بشعره.
__________
(1) - جذوة المقتبس 314 ترجمة 716 والذخيرة 4/ القسم الأول/ 192 وبغية الوعاة 2/176.
(1/13)
فيقول الحميدي في الجذوة متحدثا عنه: "شاعر أديب رخيم الشعر، حديد الهجو، دخل الأندلس وانتجع ملوكها، وشعره كثير، وأدبه موفور"(1).
ويربطه ابن بسام أيضا في "الذخيرة" بمثل ذلك فيقول: "وكان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك الطوائف تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار بالأنس المقيم"(2).
وتصل بعض الروايات الأدبية بين خروجه من القيروان وبين استدعاء بعث به إليه أمير أشبيلية المعتمد ابن عباد، وإن كانت تصوره زاهدا أو كالزاهد في هذه الوفادة، بل عازفا عنها وساخرا أيضا من الأمير.
ومؤدى هذه الرواية أن المعتمد "بعث إلى أبي العرب االصقلي(3) خمسمائة دينار، وأمره أن يتجهز بها ويتوجه إليه، وكان بجزيرة صقلية وهو من أهلها، وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان، فكتب أبو العرب :
لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى ... واعجب لأسود عيني كيف لم يشب
البحر للروم لا يجري السفين به ... إلا على غرر، والبر للعرب(4)
وكتب له الحصري :
أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري لك الخير فأخصصه بذا الراء
ما أنت نوح فتنجيني سفينته ... ولا المسيح أنا أمشي على الماء(5)
__________
(1) - جذوة المقتبس 314 ترجمة 716.
(2) - الذخيرة 4/1/192.
(3) - هو أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات بن مصعب بن زرارة القرشي العبدري الصقلي، كان حافظا للغات والآداب شاعرا مفلقا حظي عند ابن عباد حظوة عظيمة مات سنة 506 هـ (التكملة لابن الأبار : 2/189، رقم الترجمة، 494).
(4) - يريد استيلاء النورمنديين من الروم على البحر واستيلاء الهلاليين على بر افريقية.
(5) - القصة في وفيات الأعيان 3/334.
(1/14)
والقارئ العجلان ربما اطمأن إلى الحكاية وأعجبته من خلالها عزة النفس واستشعار خطورة السفر عند كل من أبي العرب وأبي الحسن، وربما تمثل الشاعر الحصري ما يزال إلى زمن المعتمد الذي ولي الإمارة بعد موت أبيه في جمادي الآخرة سنة 464(1) رافضا التعرض لهذا الخطر المذكور في البيتين، وهو أمر غير وارد ولا واقع في نظري لأنه يقتضي تأخر وفادة الحصري على المعتمد إلى عهد ولايته، وهذا أمر نجد ما يرده من رواية الحصري نفسه إذ يقول فيما نقله كل من صاحب الذخيرة والمطرب:
"دخلت على السلطان المعتمد على الله أبي القاسم محمد بن المعتضد بالله حين مات أبوه فأنشدته ارتجالا:
مات عباد ولكن ... بقي الفرع الكريم
فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم(2)
فهذا الخبر يفيد أن الحصري كان بحضرة اشبيلة أو قريبا منها على الأقل عند وفاة المعتضد.
ويقوي هذا ويدحض ارتباط وفادة الحصري بالبيتين الآنفي الذكر ورود القصة نفسها عند أبي الطاهر السلفي في "معجم السفر" وغيره مسندة، وفيها أن ابن الأغلب صاحب ميورقة كتب إلى ابن رشيق القيرواني(3) يستدعيه في البحر، فأجابه بهذين البيتين، وذكرهما مع بعض الاختلاف في اللفظ(4).
وذكر ابن دحية في "المطرب" نحوا من ذلك(5) وذكرهما أيضا لابن رشيق جامع ديوانه(6).
__________
(1) - البيان المغرب لابن عذاري 3/204 ـ والمعجب 149.
(2) - المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية 13-ـ14.
(3) - هو أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني المتوفى بمازرين من صقلية (390ـ456) وهو صاحب العمدة والأنموذج وقراضة الذهب في نقد أشعار العرب وغير ذلك ـ ترجمته في انباه الرواة 1/333ـ339 ترجمة 191.
(4) - كتاب "أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر" 98 تحقيق إحسان عباس الطبعة 1 السنة 1963.
(5) - المطرب 65.
(6) - ديوان ابن رشيق 24.
(1/15)
ونستنتج من هذا أن دخول الحصري الأندلس كان عقب الأحداث الأليمة التي حلت بافريقية والقيروان في حدود منتصف المائة الخامسة كما أسلفنا، ولعله دخل شرق الأندلس، وتنقل هنالك بين دانية وبلنسية ومرسية وغيرها كما تدل على ذلك إشارات كثيرة في شعره وتراجم أصحابه، ثم نزل اشبيلية وتردد على اشبيلية وغيرها ثم عبر البحر فنزل سبتة حيث اطمأن به المقام زمانا في كنف أميرها سقوط البرغواطي.
الحصري في سبتة المغربية وصلته بالأمير البرغواطي :
كانت سبتة كما قدمنا مطمحا لملوك الأندلس باعتبارها بوابة العدوة المغربية، ولقد كان المعتضد بن عباد ـ والد المعتمد ـ لا يدخر جهدا في ضمها إلى مملكته، وكان بها بقية الحموديين من آل إدريس الحسنيين ملوك فاس، وكانوا قد استولوا أيضا على الجزيرة الخضراء من الأندلس وملكوها، إلا أن النزاع بين أهل هذا البيت من الحموديين وتزايد نفوذ بعض مواليهم من البرغواطيين قد أدى إلى خروج الأمر من أيديهم جملة.
ففي سنة 453 "هجم سواجات(1) البرغواطي على رزق الله مستخلف الحموديين على سبتة فقتله، وتسمى بـ"المنصور" واستبد بالامر بعده، وهو والد العز بن سقوت، وعلى العز بن سقوت دخلها المرابطون، وكان سواجات مولى ليحيى بن علي بن حمود اشتراه من رجل حداد من سبي برغواطة، وهو دون البلوغ، فحظي عنده فلما سار يحيى إلى الاندلس وخلف سواجات مولاه بسبتة وجعل معه ناصرا عليه مولاه رزق الله، فكان منه معه ما تقدم، قتله واستبد بملك سبتة ثائرا دون مولاه، واورثها ابنه "الحاجب" بعده"(2).
__________
(1) - هكذا في هذا النص بهذا اللفظ، وتكتب أيضا "سكوت" و"سقوت" و"سقوط".
(2) - البيان المغرب لابن عذاري 3/250 ـ والذخيرة القسم الثاني المجلد الثاني 656ـ664.
(1/16)
في كنف هذا الأمير "سواجات" أو "سقوت" البرغواطي ثم في كنف ابنه العز بن سقوت الملقب بالحاجب نزل الحصري بموضع عال من الحفاوة والرعاية كما عبر عن ذلك ابن بسام في "الذخيرة" في سياق حديثه عن استيلاء المرابطين على مدينة سبتة بعد أن تحدث عن تملك الحموديين لها فقال:
"ثم غلظ أمر سقوت حتى أخاف القريب والنازح، واقتاد الحرون والجامح، وانبثت سراياه في البحر والبر، لإدرك المطلوب والطالب، وتصيد الطافي والراسب... ثم ذكر ما آل إليه أمره من القتل بعد محن جرت عليه على أيدي المرابطين وقال:
"وأفضت الدولة البرغواطية إلى الحاجب العز ابنه: شهاب أفلاكها، وخيرة أملاكها، أهب للأدب ريحا، ونفخت دولته في اهله روحا، أعرض به الشعراء واطالوا، ووجدوا السبيل إلى المقال فقالوا".
وممن خيم في ذراه، ونال الحظ الجسيم من دنياه، الحصري الضرير، فإن له ما أذهل الناظر عن الرقاد، وأغنى المسافر عن الزاد، والحاجب يكحل عينيه بزينة دنياه، ويفتق لهاته بمواهبه ولهاه، وكان سهل الجانب للقصاد، طلق اليد بالمواهب الأفراد"(1).
ونحن وإن كنا لا ندري مقدار ما أصاب الحصري من هذا الحظ الجسيم الذي ذكره ابن بسام نقدر له في زمن هذه الدولة ظفره بالملاذ الآمن والعطاء الجزيل، وربما كان لنا ان نعتبره أحد المحظوظين من العلماء والأدباء الذين استدعوا رسميا ـ كما يقال ـ للكون في الحاشية، ورتب لهم على ذلك عطاء قار(2).
__________
(1) - الذخيرة القسم 2 المجلد 2/657ـ664.
(2) - ينظر عن العلماء الذين استقدمهم سقوت أو عاشوا تحت رعايته كتاب "الحركة العلمية في سبتة" لإسماعيل الخطيب 25ـ27.
(1/17)
ولقد اجتمع في الحصري من المؤهلات ما تفرق في غيره، فكان أديبا شاعرا وكاتبا بليغا(1) ومقرئا متمكنا، وبعض هذه المزايا كاف لأن يبوئه عند رجال هذه الدولة المنزلة العالية استكثارا به وازديانا ومنافسة لباقي الامارات.
ولقد قدمنا من حال كبير هذه الدولة "سقوط" تلك المفارقة العظيمة التي فطن إليها أبو الوليد بن جهور حينما وصلته في يوم واحد ثلاثة كتب من أمراء الطوائف: كتاب من ابن صمادح ـ صاحب المرية ـ يطلب جارية عوادة، وكتاب من ابن عباد يطلب جارية زامرة، وكتاب من "سواجات" ـ صاحب سبتة ـ يطلب قارئا يقرأ القرآن، فوجه إليه من طلبة قرطبة رجلا يعرف بعون الله بن نوح، وعجب أبو الوليد من ذلك وقال:
"جاهل يطلب قارئا، وعلماء يطلبون الأباطيل"(2).
فدولة هذا شأن أمرائها لا بد أن يجد فيها مثل الإمام الحصري أعلى ما يتصور من مظاهر الحفاوة والتقدير، ولهذا نراه وقد اختار المقام هناك، وعرف حياة مستقره مع أهله وولده، لولا انه مني هنالك بموت بعضهم فكانت له فيهم مراث باكية خصها بديوان خاص(3).
إلا أن الحياة فيما يبدو لم تصف له بهذه الجهة فظل من حين لآخر يغشى بعض الجهات بالأندلس مادحا لبعض أمرائها، ومنتجعا لبعض الآفاق التي ربما خلا له الجو فيها من الخصوم والمتربصين، ويظهر أنهم كانوا في نظره كثيرا، وأنهم كانوا لا يفتأون يكيدون له بكل سبيل بغية الإيقاع به كما عبر عن ذلك في قوله:
أصيب قصيد فيه كفر فنيط بي ... وكم شاعر قيلت على فيه أشعار
ومن كل كف قد رميت بصخرة ... وفي راحتي لو أمكن الرأي أحجار(4)
__________
(1) - أورد له ابن بسام نماذج كثيرة من القصائد الشعرية والقطع النثرية وهو من أمهر الشعراء والكتاب في اصطياد المحسنات البديعية والبيانية ـ وينظر ذلك في الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول.
(2) - البيان المغرب 3/250.
(3) - سماه اقتراح القريح واجتراح الجريح (مخطوط). ـ الاعلام للزركلي 5/114.
(4) - الذخيرة القسم 4 المجلد 1/261.
(1/18)
ولا نعفي الحصري الشاعر من نصيب من الملامة في إثارة الخصوم ضده، فقد كان ذا طبع محرور عبر عنه ابن بسام بقوله: "على أنه فيما بلغني كان ضيق العطن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء، تلفت الظمآن إلى الماء"(1).
ومن هنا كان لا بد أن يغمزه خصومه ومنافسوه، وأن يستخرجوا من ضيق عطنه ما ينفث به تنفيسا عن نفسه وذودا عنها، فكانت له مع ابن الطراوة المالقي أحد أعلام العربية "منافرة ومناقرة"(2) ومع الشاعر أحمد بن الصندير العراقي الوارد على الأندلس "مناقضات"(3). وكان له اعتداد بالنفس جعله يلغز لغزه المشهور ـ الآتي ـ في لفظ "سوءات" فيعرض فيه بقراء الغرب كلهم بأسلوب فيه نوع من الإفحاش.
وقد قدر له أن يعيش حتى يشهد مصرع عامة ممدوحيه من ملوك الطوائف وزوال ممالكهم، بما فيهم من أولياء نعمته السالفين من برغواطة على يد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين المرابطي.
__________
(1) - الذخيرة القسم 4 المجلد الأول 246.
(2) - هي عبارة الحافظ السلفي في معجم السفر "كما في المقتطفات المنشورة منه في كتاب "أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر" 63.
(3) - عبر بذلك ابن بشكوال في ترجمة ابن الصندير في الصلة 1/187 ترجمة 191.
(1/19)
ويظهر أن صلته بقيت قائمة ببعض هؤلاء المخلوعين إلى آخر المطاف، فلقد دخل على المعتمد بن عباد ممدوحه القديم وهو في طريقه إلى منفاه بأغمات حينما حل بطنجة، وكان قد جمع له ديوان مدائحه فيه وسماه "المستحسن من الأشعار" فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحال(1) .
وقد ذكر صاحب المطرب له بعض الأبيات الغزلية رواها عنه أبو القاسم خلف بن محمد بن صواب ـ الآتي ـ قال: أنشدنا إياها "المقرئ اللغوي النحوي الأديب أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري لنفسه بمدينة مرسية سنة 481 في جارية بيضاء(2) . فدل ذلك على أنه كان ما يزال يتردد على هذه الجهات.
وكان سقوط أشبيلية في أيدي المرابطين في يوم الأحد الثاني والعشرين لرجب من سنة 484(3). وعاش الحصري بعد هذا التاريخ نحو أربع سنوات مقيما بطنجة عاكفا على إقراء القرآن، وقد تراجع طبعه، وانقبض عن الناس، وهو ما عبر عنه ابن بسام حين قال: "ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا، اشتملت عليه مدينة طنجة وقد ضاق ذرعه، وتراجع طبعه"(4) .
__________
(1) - نفح الطيب 5/379، وقد أنصف الحصري فساق خبر لقائه للمعتمد مساقا حسنا ليس فيه تجن عليه على خلاف ما فعل المراكشي في المعجب 211 وابن بسام في الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول 272 حيث اتهمه الأول بكونه "جرى معه على سوء عادته من قبيح الكدية وإفراط الإلحاف، فرفع إليه أشعارا قديمة كان مدحه بها.." وقال الثاني: "ومن قبيح استجداء الحصري ما فعله بالمعتمد بن عباد، تصدى له في طريقه إلى العدوة على حاله من اعتقاله، ولم يلقه باكيا على خلعه من ملكه، ولا تأدبا معه في وصف ما انتثر من سلكه".
(2) - الأبيات في المطرب من أشعار أهل المغرب لأبي الخطاب بن دحية 79 واولها قوله:
خضبت يديها لون فاحمها فما ... ... نقص البياض ملاحة بل زادا
وهي أيضا في الذخيرة القسم الرابع 1/269.
(3) - الأنيس المطرب بروض القرطاس لابن أبي زرع 155.
(4) - الذخيرة القسم الرابع المجلد 1/246.
(1/20)
وكان قد تقدمت به السن، فاجتمعت عليه الضرارة والكبر، فلا بدع في أن تتطامن إليه نفسه، وان يقنع من العيش بالكفاف أو ما دونه في انتظار حلول الأجل، إلى أن أجاب داعي ربه بطنجة سنة 488"(1).
منزلته أديبا وقارئا:
كان الحصري أديبا كبيرا ناظما وناثرا، شهد له بالبراعة والتبريز في ذلك فرسان الأدب وحملة الأقلام في البلاد الأندلسية، وأثنوا عليه بتمام الاقتدار وقوة العارضة في البيان، وهذا أديب زمانه العالم الناثر الناظم، أبو محمد غانم بن وليد المخزومي ـ صاحب أبي العباس المهدوي وراوية كتبه ـ يخاطبه معترفا له بالتقدم في ذلك فيقول: "ما أفصح لسانك ! وأفسح ميدانك، وأوضح بيانك، وأرجح ميزانك، وأنور صباحك، وأزهر مصباحك، أيها السابق المتمهل في ميدان النبل، والسامق المتطول بفضائل الذكاء والفضل..."(2).
ويصفه أبو الحسن بن بسام فيقول: "وأبو الحسن هذا ممن لحقته أيضا بعمري، وأنشدني شعره غير واحد من أهل عصري، وكان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة..."(3).
وقال الحميدي: "شاعر أديب رخيم الشعر، حديد الهجو... وشعره كثير، وأدبه موفور"(4).
ذلك مكانه في الأدب، وتلك مكانته عند أهله، أما منزلته في القراءة وعلومها فقد شهد له بها أهل هذا الشان، فقال في الصلة والجذوة: "كان عالما بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن بسبتة وغيرها"(5).
__________
(1) - ذلك تاريخ وفاته باتفاق كما ذكره الحميدي وابن بشكوال والضبي وابن خلكان والمقري والسيوطي وغيرهم، وفي غاية النهاية 1/551 سنة ثمان وستين وأربعمائة وهو تحريف واضح من الناسخ لاشتباه لفظ "ستين" بثمانين" وتقاربهما في الصورة في الخط.
(2) - الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني856.
(3) - المصدر نفسه القسم الرابع المجلد الأول 246ـ247.
(4) - جذوة المقتبس 314 ترجمة 716.
(5) - الصلة 2/432ـ433 ترجمة 926ـ والجذوة 314 ترجمة 716.
(1/21)
وقال فيه ابن الجزري: "أستاذ ماهر أديب حاذق، صاحب القصيدة الرائية في قراءة نافع.." (1).
وقال السيوطي في البغية: "كان من أهل العلم بالقراءات والنحو، شاعرا مشهورا ضريرا.." (2).
وقد أفادنا ابن الأبار في التكملة: 3/151 ترجمة 379 أن الحصري كان يحفظ كتاب "الهادي في القراءات" لأبي عبد الله بن سفيان، وأن بعض أصحابه من أهل دانية رواه عنه.
أما هو فقد قدم إلينا نفسه من خلال مقدمته النثرية التي صدر بها قصيدته الرائية في قراءة نافع ـ كما قدمها لنا من خلال قصيدته المذكورة مقرئا جليلا حافظا للسبع بارعا في الأصول الأدائية على مذهب القيروانيين، بل انه يقدم إلى الناس نفسه في مقدمته المذكورة مقرئا متصدرا اختاره أمير سبتة ثم ابنه للقيام بهذا الشأن واختارا له العمل في هذا الوجه بعد أن وفد عليهما شاعرا في جملة من كان يفد على امارتهما من الشعراء، وفي ذلك يقول:
"ومن الحق الواجب، أن يدعو للمنصور و"الحاجب"(3)، فهما فجرا هذا النهر من بحري، واستخرجا هذه الدرر من نحري، بصفحهما الجميل، وإحسانهما الجزيل، جزاهما الله حسن ثوابه، كما أجلساني لإقراء كتابه، وأخرجاني من ظلمة الشعراء، إلى نور القراء"(4).
وهكذا نجد هذه الازدواجية العجيبة في شخصية هذا الإمام، وهي ازدواجية أفاد منها الجانب الأدبي كما أفاد منها الجانب القرائي(5)،
__________
(1) - غاية النهاية 1/550 ترجمة 2250.
(2) - بغية الوعاة 2/176 ترجمة 1731.
(3) - لقب سقوت نفسه من ألقاب الخلافة بـ"المنصور المعان" كما في الذخيرة القسم 2 المجلد 2/658.
(4) - ستأتي هذه المقدمة عن قريب.
(5) - تتمثل إفادة الجانب الأدبي من ثقافته القرآنية في طائفة من محاسن الاقتباس ولطائف من التوريات مستمدة من علوم القراءة، كقوله مثلا في بعض ممدوحيه:
محبتي تقتضي ودادي ... ... وحالتي تقتضي الرحيلا
"هذان خصمان" لست أقضي ... ... بينهما خف أو أميلا
نقله في بغية الوعاة 2/176. فقوله: "هذان خصمان "مأخوذ من قوله تعالى في سورة الحج: "هذان خصمان اختصموا في ربهم". وكقوله في ندب وطنه القيروان :
"ولم يزل قابض الدنيا وباسطها ... ... "فيما يشاء له محو وإثبات".
فقوله في الشطر الأخير مأخوذ من قوله تعالى في آخر سورة الرعد: "يمحو الله ما يشاء ويثبت".
ومن تأثير حذقه في علوم القراءة في نثره ما جاء في قطعة طويلة خاطب بها أبا الحسين بن الطراوة متندرا به: "يا مهموس، أنا الطاء وأنت الهواء، فلست من طباقي، كم بين همسك وإطباقي..." ـ الذخيرة القسم 4 المجلد 1.
ومن تأثير رسوخ قدمه في القراءات وتاريخها قوله في رثاء ولده:
كأنك في السبع القراءات "طاهر" ... وفي الشعر "غيلان" وفي الفقه "أصبغ"
وقوله فيه:
أعزي وصوتي بالنعي أمده ... ... كما مد بالتحقيق حمزة أو ورش
ينظر ديوان: اقتراح القريح واجتراح الجريح.
(1/22)
وأقل ما أفاده منها الجانب القرائي هو هذا النفس الشعري الرفيع الذي يقدم لنا في قالبه الرائق قواعد الفن وأصول الأداء، جامعا في الوقت ذاته بين صحة القاعدة وحسن الديباجة في تناغم رائع بينهما كما سوف نقف عليه في رائيته الفريدة التي مثل بها في هذه القراءة مقام الريادة الفذة.
تصدره للإقراء وأهم المذكورين بالرواية عنه من الأدباء والقراء
لا نجد في كتب التراجم اهتماما كافيا بذكر أصحاب أبي الحسن الحصري الذين أخذوا عنه الرواية أو سمعوا منه قصيدته العصماء في قراءة نافع، وقد حاولت أن أستجمع أسماء جملة ممن وقفت على ذكرهم بالرواية عنه في كتب التراجم، وفيهم عدد معتبر من أكابر القراء ورواة العلم في الأندلس والمغرب سأقوم بترتيبهم على الهجاء وهم:
1- آدم بن الخير السرقسطي:
ذكر ابن الأبار أيضا أنه "سمع بدانية من أبي الحسن الحصري في سنة 469، وله رواية عن أبي داود وغيره"(1).
2- أبو إسحاق الأديب:
ذكره ابن الأبار أيضا بكنيته وتحليته وقال: لقي أبا الحسن الحصري وسمع منه"(2).
3- الحسن بن خلف بن بليمة أبو علي الهواري صاحب "تلخيص العبارات بلطيف الإشارات في القراءات السبع":
جاء ذكره بالرواية عنه في مقدمة شرح العبدري الآتي للقصيدة الحصرية وفيها يقول: "إذ كانت روايتي لها عن أبي الحسن بن بليمة الاسكندري(3)، حدثني بها بالاسكندرية عن مؤلفها إجازة"(4) .
4- خلف بن محمد بن صواب أبو القاسم بن صواب(5) المقرئ:
__________
(1) - التكملة 1/212 ترجمة 567.
(2) - التكملة 1/194 ترجمة 516.
(3) - نسبة إلى مكان تصدره.
(4) - منح الفريدة الحمصية لابن الطفيل العبدري وسيأتي في شروح الحصرية.
(5) - في غاية النهاية "الصواف"، وفي النشر كما أثبته.
(1/23)
من أهم أصحابه، روى عنه ولازمه مدة كما تدل على ذلك روايته لمجموعة أشعاره(1)، وقد أسند عنه جماعة من الأئمة قصيدة الحصري في القراءة، قال ابن بشكوال في ترجمة الحصري:
"أخبرنا عنه أبو القاسم بن صواب بقصيدته التي نظمها في قراءة نافع... قال: لقيته بمرسية سنة 481"(2).
كما أسند القصيدة من طريقه عنه القاسم التجيبي في برنامجه(3) وابن الجزري في النشر(4) والمنتوري في فهرسته(5) وابن غازي في فهرسته(6).
5- سليمان بن يحيى بن سعيد القرطبي المعافري المعروف بأبي داود الصغير(7):
ذكره ابن الجزري فيمن قرأ عليه القراءات(8)، وروى عنه العلامة أبو بكر بن خير الاشبيلي قصيدة الحصري في قراءة نافع(9) وجميع كلام الحصري المنثور والمنظوم وجميع ما رواه عن شيوخه(10).
قال ابن عبد الملك: "أقرأ القرآن ودرس العربية بمسجد ابن السقاء من قرطبة، وهو مسجد العطارين زمانا، وأسن فعلت روايته، وقصده الناس للأخذ عنه، وانفرد في وقته بروايته عن الحصري"(11).
6- عبد الرحمن بن محمد بن الصقر الأنصاري البلسي نزيل مراكش:
تقدم التعريف به في مشيخة الإقراء بمراكش، امام كثير الشيوخ، روى بسبتة عن أبي الحسن الحصري وغيره(12).
7- عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع أبو الحسن الأندلسي من أهل المرية وأقرأ الناس بجامعها (ت 514):
__________
(1) - ساق منها ابن دحية نماذج كثيرة من روايته في المطرب ص 13ـ14ـ94.
(2) - الصلة 2/432ـ433 ترجمة 926.
(3) - برنامج التجيبي 42ـ43.
(4) - النشر 1/96.
(5) - فهرسة المنتوري لوحة 17ـ18.
(6) - فهرست ابن غازي 97.
(7) - تقدم في أصحاب أبي داود بن نجاح.
(8) - غاية النهاية 1/551 ترجمة 2250 وكذا في 1/317 ترجمة 1395.
(9) - فهرسة ابن خير 74.
(10) - فهرسة ابن خير 450.
(11) - الذيل والتكملة السفر الرابع القسم الأخير 96ـ97.
(12) - يمكن الرجوع إلى ذكر روايته عن الحصري في الاعلام للمراكشي الجزء 8/55 ترجمة 1078.
(1/24)
أخذ القراءات عن ابي محمد بن سهل(1) وأحمد بن أبي عمرو الداني(2).
ورأيت الحافظ السلفي قد أسند عن أبي عبد الله محمد بن الحسين بن غلام الفرس عنه عن الحصري الأبيات الدالية الثلاثة في لغزه بمسألة "سوءات"(3)، ولا يبعد أن يكون قد روى عنه قصيدته في قراءة نافع أيضا.
8- عبد الله بن يوسف بن عبد الرحمن أبو محمد يعرف بابن سمجون سكن بلنسية (ت 535):
قال ابن الأبار: "رحل حاجا إلى المشرق فأدى الفريضة، ولقي أبا الحسن الحصري الكفيف بطنجة في سنة 460هـ(4) فأخذ عنه قصيدته في قراءة نافع، وقد أخذها عنه أبو الحسن بن هذيل وسمع منه فتدبجا"(5).
وقد أسند القاسم التجيبي هذه القصيدة من طريق ابن هذيل بسماعه من أبي محمد بن سمجون السرقسطي بحق قراءته على ناظمها"(6).
9- عبد المنعم بن عبد الله بن علوش المخزومي أبو محمد الطنجي منها:
__________
(1) - من أكابر أصحاب أبي عمرو الداني، وقد كناه في الغاية 1/421ـ422 بأبي مجاهد ويبدو أن الصواب ما أثبتناه، وقد ترجمنا له في أصحاب الداني.
(2) - غاية النهاية 1/394 ترجمة 1678.
(3) - ينظر ذلك في كتاب "أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر "للحافظ السلفي 111ـ112.
(4) - وقع في طبعة دار المعرفة من التكملة لابن الأبار بتحقيق الدكور عبد السلام الهراس: ج2 ص 256 ترجمة رقم 742 في ترجمة عبد الله بن يوسف المذكور أنه "لقي أبا الحسن الحصري الكفيف بطنجة سنة 490هـ". هكذا أثبت التاريخ بالارقام المعروفة بالهندية ـ يعني سنة تسعين وأربعمائة.
والصواب هو ما اتفقت عليه مصادر ترجمته كما أثبتناه، ويشهد له ان الحصري توفي قبل هذا التاريخ بسنتين كما قدمناه أي سنة 488هـ.
(5) - التكملة 2/823 ترجمة 2011.
(6) - برنامج التجيبي 42.
(1/25)
له رواية عن أبي عبد الملك مروان بن عبد الملك بن سمجون القاضي وأبي الحسن الحصري المقرئ وغيرهما، وولي القضاء بغير موضع من الأندلس، وتوفي بالمرية سنة 524"(1).
10- عبد المنعم بن عبد العزيز أبو الحسن بن طنيز(2) الأنصاري الميورقي الأندلسي الفقيه اللغوي:
روى عن أبي الحسن الحصري وأبي عمر بن عبد البر وأبي محمد غانم بن وليد المخزومي، وله رحلة إلى المشرق روى فيها عن الخطيب البغدادي وغيره، وكان محدثا مكثرا عدلا ثقة حافظا للغة ضابطا لها، توفي ببغداد سنة 477"(3).
11- عمر بن الحسن بن عبد الرزاق البيراني النفزي:
حدث عنه الحافظ السلفي بثغر الاسكندرية فقال: "سمعت أبا حفص عمر بن الحسن بن عبد الرزاق البيراني النفزي(4) ـ قدم الثغر حاجا ـ قال: "رأيت أبا الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني بدانية من مدن الأندلس وبطنجة من مدن العدوة جميعها، ومات بطنجة، وسمعته وقد بعث من يشتري له لحما فقال:
الشحم واللحم لا العظاما ... إياك إياك أن تضاما(5)
12- عمر بن أبي الفتح بن سعيد بن أحمد القيسي أبو حفص من أهل دانية:
قال ابن عبد الملك: "تلا بحرف نافع على أبي إسحاق الشلوني، وبالسبع على أبي العباس بن أبي عمرو المقرئ وبها إلا خمسة أحزاب أولها سورة الجمعة على أبي الحسن الحصري".
__________
(1) - الصلة 2/393 ترجمة 844 ـ والذيل والتكملة السفر 8/ القسم 2/545 ـ وصلة الصلة القسم الأخير 23 ترجمة 31.
(2) - كذا في انباه الرواة 2/230 ترجمة 433 وضبطه محققه بصيغة التصغير، وفي الذيل والتكملة 5/164 ابن طير ولعل الصواب الأول.
(3) - المصدران الآنفا الذكر.
(4) - وذكر السلفي عن النفزي المذكور أنه مضى وحج، وتوفي بعد رجوعه بالصعيد الأعلى سنة 529 ـ أخبار وتراجم أندلسية 64ـ65.
(5) - نفسه 64ـ65.
(1/26)
"تلا عليه أبو الحسن بن أبي غالب الداني، وكان مقرئا مجودا، وصنف في القراءات كتابا حسنا سماه بـ"العنوان"(1). وذكر ابن الأبار نحوا من ذلك وقال: روى عن الحصري كتاب "الهادي لابن سفيان" التكملة 3/151 ترجمة 379.
13- عيسى بن عبد الرحمن بن عقاب الغافقي أبو الأصبغ القرطبي:
ذكره أيضا في الذيل والتكملة وقال: تلا بالسبع على أبي الحسن الحصري، وأجاز له ونظم إجازته له في قصيدة وهي:
أجزت لعيسى السبع في ختمة قرا ... علي بها فليرو ذلك وليقر
بما شاء منها أو بها فهو أهله ... بإتقانه مع ضبطه أحرف الذكر
ثم ذكرها كما تقدم(2) إلى أن قال:
وصاحبنا السبتي علي بن يخلف ... وسائر صحبي ناثر العلم كالدر
نظمت له شعرا تضمن ما قرا ... لخمس ليال قد خلون من الشهر
لشعبان في ست وسبعين حقبة ... وزد مائتين في اثنتين من الدهر
بذلكم يزهو أبو الأصبغ الذي ... أجزت، ويدعو الله بالحمد والشكر
علي علا عليا علي علا علا ... فجل عن الأشباه والشرك والوزر
فيا من تعالى في علو سمائه ... ويا عالم النجوى ويا كاشف الضر
عيسى بن عقاب من عقابك أنجه ... وعطفا على أستاذه الحصري الفهري
قال ابن عبد الملك: أنشدتها على شيخنا أبي الحسن الرعيني قال: حدثنا بها أبو القاسم بن الطيلسان قال: أنشدنيها أبو الأصبغ عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن بن عقاب بمسجد أم معاوية من قرطبة، قال: أنشدني أبي محمد بن عيسى قال: أنشدني أبي عيسى قال: كتب لي بهذه الإجازة المنظومة عند إكمالي عليه القرآن بالقراءات السبع في ختمة وأنشدنيها المقرئ الإمام أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري رحمه الله"(3).
14- محمد بن إبراهيم بن سعيد بن موسى بن نعم الخلف الرعيني من أهل تطيلة:
__________
(1) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/443 ـ ترجمة 758.
(2) - تقدم ذكرها في الحديث عن شيوخ الحصري ص : 12.
(3) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/498ـ500 ترجمة 913ـ.
(1/27)
مقرئ يروي القراءات عن أبي العباس أحمد بن أبي عمرو الداني وأبي علي بن المبشر وأبي الحسن الحصري وله رحلة إلى الحج لقي فيها بمكة أبا معشر الطبري صاحب الجامع في القراءات، توفي سنة 521(1).
15-
محمد بن أحمد الأموي أبو عبد الله المقرئ:
من شيوخ عياض ترجم له في الغنية وقال: "الشيخ العدل أبو عبد الله، أخبرني بكتاب "الهداية" للمهدوي في القراءات عن الشيخ أبي محمد عبد العزيز القروي المؤدب(2) عنه.. كان قرأ أبو عبد الله المذكور على أبي الحسن الحصري الأديب وأحمد بن الجابرية.. توفي سنة 512"(3).
16- محمد ابن أحمد بن مطرف البكري أبو عبد الله بن بقورنيه من أهل تطيلة سكن المرية:
ذكره ابن بشكوال وقال: "يروي عن أبي العباس أحمد بن أبي عمرو المقرئ وأبي الوليد الباجي وأبي علي ابن مبشر والحصري وغيرهم، كان مقرئا، أخذ عنه بعض أصحابنا، وتوفي بالمرية سنة 521"(4).
وقال ابن عبد الملك بعد ذكر مشيخته ومنهم الحصري: "وكان من جلة المقرئين المجودين، وعلية الأدباء المبرزين"(5).
17- محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي أبو عبد الله من أهل دانية:
ذكره ابن عبد الملك وقال: "سمع ببلده أبا داود الهشامي وأبا الحسن الحصري، ثم رحل حاجا، وقدم دمشق سنة 504 ودرس بها، وخرج إلى بغداد، فأقام بها إلى أن توفي سنة 519"(6).
18- محمد بن عبد الرحمن القيسي القيرواني أبو عبد الله بن الشواذكي نزيل سبتة ثم يابسة:
__________
(1) - ترجمته في الحلل السندسية 2/170.
(2) - هو أبو محمد البكري ابن أخي عبد الحميد تقدم في شيوخ الحصري ـ ورقة 1101.
(3) - الغنية (فهرسة شيوخ القاضي عياض) 91 ترجمة 27.
(4) - الصلة 2/578 ترجمة 1272.
(5) - الذيل والتكملة السفر 6/68 ترجمة 150.
(6) - الذيل والتكملة 6/233ـ234 ترجمة 677 والحلل السندسية لأرسلان 3/317ـ318.
(1/28)
مقرئ "روى عن أبوي الحسن بن عبد الجليل بن محمد والحصري وأبي الحسين سليمان بن محمد بن الطراوة وأبي داود سليمان بن يحيى وجماعة. قال ابن عبد الملك:
"وكان مقرئا مجودا معتنيا بالعلم صالحا خطيبا فاضلا.. توفي بسبتة"(1).
وقد أسند المنتوري قصيدة الحصري في قراءة نافع من طريقي أبي القاسم خلف بن محمد بن صواب، والخطيب أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن القيسي القيرواني عن ناظمها"(2).
19- محمد بن عبد العزيز اليعمري أبو عبد الله الأندلسي:
قال ابن عبد الملك: "روى عن أبي الحسن الحصري وأبي عمر بن عبد البر، روى عنه أبو العباس بن الصقر(3)، وكان مقرئا مجودا ماهرا في النحو، ذاكرا للآداب، شاعرا محسنا"(4).
20- محمد بن أبي سعيد فرج بن عبد الله أبو عبد الله البزاز السرقسطي الأندلسي المعروف بابن أبي سعيد:
قال في التكملة: "لقي بدانية أبا الحسن الحصري وسمع منه بعض منظومه"(5).
وقال الحافظ السلفي في معجمه: "توفي صديقنا أبو عبد الله محمد بن فرج بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن أبي سعيد في شهر رمضان سنة 538، وكان من أهل الحديث، سمع ببغداد على نفر من شيوخنا.. ومولده بدانية من مدن الأندلس، قال لي: قرأت بها على أبي الحسن الحصري وآخرين، ومن جملة ما أرويه عن الحصري "المعشرات" التي له، وأنشدني من أولها أبياتا من حفظه"(6).
21- محمد بن مروان بن زهر أبو بكر الاشبيلي:
__________
(1) - الذيل والتكملة السفر 8 القسم 1/313 ترجمة 113.
(2) - فهرسة المنتوري لوحة 18.
(3) - تقدم في مشيخة الإقراء بمراكش.
(4) - الذيل والتكملة 6/392 ترجمة 1051.
(5) - التكملة 1/433ـ434 ترجمة 1240.
(6) - أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر" 110ـ وله ذكر في نفح الطيب 2/354.
(1/29)
هو والد بني زهر النجباء منهم ابنه عبد الملك وحفيده أبو العلاء بن زهر، ترجم له عياض في ترتيب المدارك وذكر أنه سمع من ابن القوطية والحصري وجماعة(1).
-22أبو محمد عبد الله بن خلف بن بقي القيسي ويقال البياسي:
أحد أعلام رواية ورش من طريق القيروانيين إمام جليل من أصحاب أبي محمد بن العرجاء، قرأ عليه وعلى أبي القاسم بن الفحام وأبي علي بن بليمة، وقرأ بقرطبة على أبي الحسن بن الدوش وبمرسية على أبي الحسين بن البياز، وأخذ عن الحصري قصيدته.
قال أبو حيان: "وكتب إلي الشريف أبو جعفر أحمد بن يوسف الشروطي ـ أي صاحب الأحكام ـ عن أبي محمد ابن بقي عن الحصري"(2) يعني بإجازته له بقصيدته في قراءة نافع.
-23نجدة بن سليم بن نجدة الفهري أبو سهل الضرير من أهل قلعة رباح(3): سكن طليطلة
ذكره ابن الأبار وقال: "روى عن أبي عمرو المقرئ(4) وأبي محمد الشنتجالي، وتصدر لإقراء القرآن بطليطلة، وجمع شعر أبي الحسن الحصري، حدث عنه أبو الحسن بن دري وغيره، وتوفي بعد سنة 475"(5).
-24أبو عامر التياري:
ذكره المقري في "النفح" ووصفه بالفقيه المقرئ، ثم قال: لقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز، وأديبها الحصري"(6).
__________
(1) - ترتيب المدارك 8/28 وله ترجمة في الصلة 2/487 وجذوة المقتبس 156.
(2) - نقله ابن الجزري في النشر 1/96.
(3) - مدينة بالاندلس من عمل جيان وهي بين قرطبة وطليطلة عمرت في بني أمية سنة 241، ثم احتلها النصارى، وبقيت في أيديهم حتى استردها يعقوب المنصور الموحدي.
يمكن الرجوع في ذلك إلى القسم المنتخب من "الروض المعطار" باسم "صفة جزيرة الأندلس 163".
(4) - هو أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني الحافظ، وقد ترجمنا له في أصحابه في عدد خاص.
(5) - التكملة 2/757ـ758 ترجمة 1877.
(6) - نفح الطيب 2/312.
(1/30)
هؤلاء هم أصحابه الذين وقفت على ذكرهم بالرواية عنه، وأكثرهم ممن روى عنه القراءة أو سمع منه وأجازه بقصيدته "الحصرية" في قراءة نافع. ولا يخفى أن هذا العدد لا يمثل الحقيقية كاملة، وإنما يعطينا فحسب صورة تقريبية عن هذا الجانب من شخصيته المتعددة الجوانب، كما يبين لنا مقدار حرص طلاب العلم في زمنه على الأخذ عنه، وكيف شغفوا برواية قصيدته الفذة مع اختلاف آفاقهم وتنوع مواضع لقائهم له.
ولعلنا قد أعطينا للقارئ الكريم من خلال هذه التراجم إطلالة على جانب من النشاط القرائي الذي قاده هذا الإمام في هذه الجهة من شمال العدوة المغربية حتى عده من عده من خلالها "مقرئ المغرب"(1) .
ونريد أن نصحبه الآن في بعض آثاره في القراءة لنرى كيف استطاع أن يكون في زمنه زعيم المذهب الأصولي القيرواني في الأداء، وكيف حمل رايته عالية في هذا العصر الذي كانت فيه مدارس الأقطاب في الأندلس في أوج قوتها ونشاطها العلمي، ولاسيما منها مدرسة أبي عمرو الداني في شرق الأندلس ومدرسة أبي عبد الله بن شريح في غربها، فكان ظهور أبي الحسن في هذه الجهات بعثا جديدا للحيوية والنشاط في هذا الاتجاه، و"توظيفا رسميا" له في ميدان الإقراء بإعطائه نفحة شعرية رفيعة المستوى مكنته من منافسة باقي الاتجاهات التي تمثل اختيارات المدارس الأخرى، فكان عمله آخر اللبنات في الهيكل الفني لهذه المدرسة ومسك الختام لمدرسة أبي عبد الله بن سفيان في هذه الجهات.
الفصل الثاني:
آثاره في القراءات ومذهبه الفني في الأداء من خلالها.
__________
(1) - "الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع " لإسماعيل الخطيب 112.
(1/31)
خلف أبو الحسن الحصري في المجال الأدبي آثارا كثيرة شهيرة لقيت من عناية المؤرخين والادباء ما جعل أكثر من يعرفونه انما عرفوه من خلالها، ومنها بعض قصائده السائرة(1) وديوان شعره(2) و"المعشرات"(3) و"اقتراح القريح واجتراح الجريح"(4) و"المستحسن من الأشعار"(5).
أما آثاره في مجال علوم القراءة فقلت العناية بها إلا عند أهل هذا الاختصاص قديما، ولم تعره الدراسات الحديثة حسب علمي في هذا الجانب من نشاطه ما يستحقه من اهتمام وتقدير حتى الآن.
وسأحاول في هذا الفصل أن أقدمه إلى القراء من خلال هذا الجانب الذي لا يقل إبداعه فيه عن الجانب الأدبي إن لم يزد عليه، وذلك بالتعريف الكافي بأهم آثاره الباقية في القراءة مما يمثل اتجاه مدرسته ويرسم المعالم الفنية التي تكون النسيج المتلاحم للطراز القيرواني المغربي في أصول القراءة والأداء كما استقر عليه الأخذ عند فحول القراء وأئمة الإقراء بافريقية والقيروان في عهد التأصيل والنضج من المائة الخامسة.
كما سنحاول من خلال هذه الآثار أن نتتبع ما كان لها من إشعاع وما قاده من نشاط علمي كانت المحرك له والباعث عليه في عهود متلاحقة طويلة جعلت أئمة هذا الشأن يلفتون إليها، ويهتمون بمناقشته فيها، حتى قل من المؤلفين امام ألف في قراءة نافع منذ زمن الحصري لم ينبه على بعض مذاهبه أو يشر إلى آثاره. وهذه نبذ من التعريف بهذه الآثار وما قام حولها من نشاط علمي.
1-
__________
(1) - ومنها قصيدته الدالية المشهورة التي عارضه فيها كثير من الشعراء: "يا ليل الصب متى غده".
(2) - ذكر الزركلي في الأعلام أن بعضه ما يزال مخطوطا إلى اليوم ـ الأعلام 5/114ـ15.
(3) - ما تزال مخطوطة في بعض الخزائن ـ الأعلام 114ـ115.
(4) - وهو ديوان شعري في رثاء بعض ولده ـ إيضاح المكنون 1/110 والاعلام للزركلي 5/114ـ115
(5) - نفح الطيب 5/379.
(1/32)
قصيدته العصماء في قراءة نافع من روايتي ورش وقالون، وتعرف غالبا "بالقصيدة الحصرية" وبـ"الرائية":
وسنسوق نصها المحقق كاملا لأهميتها وقلتها في أيدي القراء، مع ذكر طرف من العناية بها منذ ظهورها.
2- كتاب في أصول الأداء لا أدري أجعله في قراءات السبعة، أم خصه بقراءة نافع؟
وقد أشار إليه بنفسه في باب اللامات بقوله في "الرائية":
"وفي "اختلط" و"اغلظ عليهم" و"أخلصوا" وفي "خلطوا" خلف شرحناه في السفر.
3- منظومة في الرسم: محفوظة بالخزانة الناصرية بتمكروت(1).
4- لغزه السائر المشهور في لفظ "سوءات":
ونقف معه بصفة خاصة عند لغزه هذا لنرى من خلاله مذهبه الفني في المد، وما أثاره في هذه القضية من أخذ ورد، إذ قل من المؤلفين في القراءات منذ زمنه من تحدث عن المد دون أن يعرض للغزه هذا ويناقش مذهبه فيه شرقا وغربا.
فأما نص هذا اللغز فقد أسنده الحافظ السلفي نزيل الاسكندرية فقال:
"سمعت أبا عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد المقرئ الداني(2) ـ قدم علينا الثغر ـ قال: سمعت عبد العزيز بن عبد الملك المقرئ(3) بالأندلس يقول: أملى أبو الحسن الحصري القروي سائلا قراء الأندلس والغرب:
سألتكم يا مقرئي الغرب كله ... وما لسؤال الحبر عن علمه بد
بحرفين مدوا ذا وما المد أصله ... وذا لم يمدوه ومن أصله المد
وقد جمعا في كلمة مستبينة ... على مثلكم تخفى ومن مثلكم تبدو"(4)
__________
(1) - ذكرها له أستاذنا الباحث محمد المنوني وذكر أنها في مجموع تحت رقم 3148 بخط مغربي ـ ) دليل مخطوطات دار الكتب الناصرية بتمكروت 214) لمحمد المنوني.
(2) - هو ابن غلام الفرس تقدم ذكره في أصحاب أبي داود.
(3) - هو عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع أبو الحسن المريي الأندلسي ـ تقدم ذكره في أصحابه.
(4) - ورد الشطر الأخير في كنز المعاني للجعبري "على بعضكم تخفى ومن بعضكم تبدو".
(1/33)
قال السلفي: قال أبو عبد الله ـ يعني ابن غلام الفرس ـ: هما قوله ـ عز وجل ـ: "سوءاتهما" و"سوءاتكم"(1).
قال السخاوي مفسرا لغزه: "الحرف الذي مد ولا أصل له في المد في قوله الألف، والذي لم يمد ومن أصله المد الواو، وأشار إلى "سوءاتكم" بقوله: "على بعضكم تخفى ومن بعضكم تبدو"(2).
ويعني السخاوي أنه استعمل ههنا التورية باللفظ المقصود الذي هو "سوءات"، إلا أنه عرض بهذه التورية بعامة قراء الغرب تعريضا غير محمود تعرض فيه للائمة من قبل عدد من الأئمة الذين أجابوه.
فلقد أثارت مسألته سيلا من التحديات، وتبارى الأئمة في حلها وبيان علة ما ذكره مع مجاراته فيما ذهب إليه بناء على مذهب مدرسته، وإلا فإن مد الواو من سوءات وقصره موضع خلاف، وكذلك مد الهمزة منها، وقد بسط الإمام أبو عبد الله الفاسي في "اللآلئ الفريدة" منشأ الخلاف في مد الواو وقصره فقال:
"واختلف أهل الأداء في "سوءات" المجموع، فمنهم من لم يفرق في قراءة ورش بينه وبين "سوءة"(3) ونحوه، ومنهم من استثناه فقصره، فمن لم يفرق عامل اللفظ، ومن استثناه اعتل بأن أصل واوه الحركة، لأنه جمع سوءة، وسوءة اسم غير صفة، و"فعلة" إذا كانت اسما غير صفة جمع على فعلات بفتح العين.
وإذا كان صفة جمع على "فعلات" بسكون العين، كبيضات وجولات، لأن تحريكه يؤدي إلى إعلاله(4)،
__________
(1) - كتاب "أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر للحافظ السلفي" 112. والأبيات بهذا اللفظ في عامة شروح الدرر اللوامع وفي الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557 في ترجمة الشاطبي رقم 1088.
(2) - فتح الوصيد في شرح القصيد للإمام علم الدين السخاوي لوحة 86 (مخطوط خاص).
(3) - يعني "فأواري سوأة أخي" في سورة العقود.
(4) - يمكن الرجوع إلى أحكام جمع "فعلة" "في شروح الخلاصة لابن مالك عند قوله:
والسالم العين الثلاثي اسما أنل ... أتباع عين فأه بما شكل.. الخ.
(1/34)
وهذيل تجمعه كالصحيح ولا تعله"(1).
وقد حكى الحصري نفسه الخلاف في لفظ "سوءة" واختار افراط المد يعني الإشباع، وفي ذلك يقول في رائيته:
وفي مد "عين" ثم "شيء" و"سوءة" ... خلاف جرى بين الأئمة في مصر
فقال أناس: مده متوسط ... وقال أناس: مفرط، وبه أقري
ثم عاد فاستثنى ما كان منها بصيغة الجمع فقال:
وخالف في "الموؤدة" الأصل عنده ... وفي واو "سوءات" وفي "موئلا" فادر
فقوله في لغزه بها ان ورشا مد الألف، وليس من أصله المد، وقصر الواو، ومن أصله فيها المد هو مبني على مذهب مدرسته واختيارات أكثر أئمتها ومن وافقهم، ولهذا ذكرها أبو القسم الشاطبي فذكر فيها الخلاف في قوله:
وفي واو "سوءات" خلاف لورشهم ... وعن كل "الموؤدة" اقصر و"موئلا"(2)
وقد وافق الحصري في مذهبه الشيخ أبا محمد مكي وذلك في قوله في "التبصرة":
"فإن أتى بعد الهمزة في هذا الباب حرف مد ولين استغني بمده عن مد حرف اللين نحو "سوءاتهما" و"الموؤدة" وشبهه، مد الثانية ولا يمد الأولى"(3) .
وقد أجابه عن لغزه المذكور أولا جماعة من الأئمة، فمنهم من اقتصر على استخراج المطلوب وذكر علة ما وصفه فيه، ومنهم من أغلظ له في القول بسبب ما فهموه من قوله "على مثلكم تخفى ومن مثلكم تبدو" من تعريض، قال ابن عبد الملك متعقبا لبعض تلك الاعتراضات:
"ثم ان هذه مآخذ ينزه عن الخوض فيها اهل العلم والورع، ولا أدري ما حمل هؤلاء الأفاضل على تاويل ذلك على الحصري حتى جرأهم على الافحاش، تعريضا كتصريح، وتمريضا في مساق تصحيح، إلا قوله: "ومن بعضكم تبدو"، وليس فيه ما تالوه عليه، إلا عند من نظره بعين السخط(4) قال:
__________
(1) - اللآلئ الفريدة (مخطوط خاص).
(2) - يمكن الرجوع إلى باب المد من الشاطبية. وقد توسع ابن الجزري في النشر 1/347 في ذكر مذاهب الأئمة فيها.
(3) - التبصرة 63.
(4) - يشير إلى البيت الجاري مجرى الأمثال:
"وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
(1/35)
"وأعدل من ذلك في الحكم، وأجرى على ما يناسب أهل الدين ويليق بأولي العلم ابتداء وجوابا، ما كتب به بعضهم إلى المقرئ أبي الحسن شريح(1) :
أيا راكبا قاصدا أرض حمص(2)
فإما بلغت فسائل شريحا فذاك الذي في العلا ما نكص
بحرف يمد على غير أصل ... وقد جاء في قصره أصل نص
وما حركت قبله أحرف ... ولا جاء بدءا وبالمد خص
ولا قبله حرف مد يرى ... فصيدك للعلم أغلى قنص
قال: فأجابه شريح وأبدى علة ذلك، وحضر مجلسه الأديبان: أبو جعفر أحمد بن عبيد الله بن هريرة القيسي التطيلي الأعمى وأبو بكر محمد بن حزم المدحجي، فأجاباه نظما باقتراح الخطيب المقرئ أبي الحسن شريح رحمهم الله أجمعين.
أما جواب أبي بكر بن حزم فقوله:
أتأني رسولك يقفو الصواب ... فإما يعم وإما يخص
بعثت إلي به خاتما ... فركبت فيه من العلم فص
تسائل عن مد "سوءاتكم" ... وقد جاء في قصره أصل نص
ولكن ورشا رعى أصلها ... فلم يتحيف ولم ينتقص
وصح له فتحها عن هذيل ... فلم يستعن بجناح أحص
وأما جواب أبي بكر بن حزم فقوله:
أيا موجفا في طلاب العلا ... ليوضح من سبلها ما انغمص
ويا سائلا عن دقيق العلوم إليك فقد أمكنتك الفرص
بـ"سوءاتكم"لم ير القصر فيها على أصل ورش لأمر ينص
لأن كان ساكنها عارضا ... وبالفتح من حقه أن يخص
أتاك الجواب فقم فاقتنصه فقيمة كل امرئ ما اقتنص(3)
جواب الإمام أبي القاسم الشاطبي:
__________
(1) - تقدمت الإشارة إلى هذا في ترجمة أبي الحسن شريح بن محمد الرعيني.
(2) - يريد أهل الأندلس بحمص مدينة أشبيلية لنزول أهل حمص الشامية بها بعد الفتح لما وزعت القبائل على نواحي الأندلس كما قدمنا في صدر هذا البحث. وإلى حمص هذه يشير أبو الحسن الحصري مخاطبا المعتمد بن عباد: ... لسرد النظوم ودرس القصص
... حمص الجنة قالت ... ... لغلامي لا رجوعا
... رحم الله غلامي ... ... مات في الجنة جوعا (وفيات الأعيان 3/333).
(3) - يمكن الرجوع إلى ما ذكرنا في ترجمة الشاطبي من الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557 ترجمة 1088.
(1/36)
وأجابه الإمام الشاطبي وبين وفاة الحصري وميلاد الشاطبي خمسون سنة كما ذكره ابن القاضي(1).
قال الشاطبي في جوابه:
عجبت لأهل القيروان وما حدوا ... لدى قصر سوءات وفي همزها مدوا(2)
لورش ومد اللين للهمز أصله ... سوى مشرع الثنيا(3) إذا عذب الورد
وما بعد همز حرف مد يمده ... سوى ما سكون قبله ما له مد(4)
وفي همز "سوءات" يمد وقبله ... سكون بلا مد، فمن أين ذا المد؟
وهذا طرح لسؤال الحصري وبسط لوجه الاستشكال فيه، ثم أجاب الشاطبي عنه فقال:
يقولون عين الجمع فرع سكونها ... فذو القصر بالتحريك الأصلي يعتد
ويوجب مد الهمز هذا بعينه ... لأن الذي بعد المحرك ممتد
ولولا لزوم الواو قلبا لحركت ... بجمع لفعلات في الاسما له عقد
وتحريكها واليا هذيل وان فشا ... فليس له فيما روى قارئ عد
ثم قال عاتبا على الحصري وضع السؤال غير مشفوع بما يبين مراده على خلاف ما يقتضيه النصح في التعليم:
وللحصري نظم السؤال بها وكم ... عليه اعتراض حين فارقه الجد
ومن يعن وجه الله بالعلم فليعن ... عليه، وإن عنى به خانه الجد(5)
جواب الشاعر المقرئ أبي إسحاق إبراهيم بن طلحة البياتي المعروف بابن الحداد:
ألا أيها الأستاذ والله راحم ... وغافر لهو ظلتم دهركم تشدو:
"أسائلكم يا مقرئ الغرب كله ... وما لسؤال الحبر عن علمه بد
بحرفين مدو ذا وما المد أصله ... وذا لم يمدوه ومن أصله المد على
__________
(1) - ذكره عند ذكر سوءا ت في باب المد من الفجر الساطع.
(2) - في بعض نسخ الفجر الساطع وفي وواوها مدواـ والصحيح ما أثبته عن فتح الوصيد والذيل والتكملة والجعبري.
(3) - قال الجعبري في الكنز: "سوى موضع الاستثناء "يعني ما استثني لورش من ذلك باتفاق وهما موئلا والموءودة".
(4) - في الذيل والتكملة "ما له بد" وهو تحريف.
(5) - جواب الشاطبي في فتح الوصيد والذيل والتكملة وكنز المعاني وشرح المنتوري على الدرر اللوامع وإيضاح الأسرار والبدائع لابن المجراد والفجر الساطع لابن القاضي وغيرها.
(1/37)
وقد جمعا(1) في لفظة مستبينة ... مثلكم تخفى ومن مثلكم تبدو(2)
وها أنذا حل الزمان أجيبكم ... فاسمع ما أسمعت قبلي من بعد(3)
بلفظة سوءات لغزت وواوها ... وذا الألف التالي لها الزائد الفرد
فقلت عن المدات: ما المد أصلها ... وقلت لواو أصلها فتحها المد
وهذا مقال منكر لا محرر ... وحكم بجور حقه الفسخ والرد(4)
فليتك إذ لم تعط ذا الحق حقه ... سكت ولم تهجر، وليتك لم تعد
فقلت وبعض القول عي وعلة(5)" على بعضكم تخفى ومن بعضكم تبدو(6)"
فيا ليت شعري ما دهاك وما الذي ... عدا بك عن نهج هو الرشد والقصد؟؟
وهل مد إلا في ثلاثة أحرف ... هي الأصل يدريها ويعرفها زيد(7)
لها أمهات هن ولدن مد ها ... وهن لها أصل، وهن لها ولد
وهل مد حرف اللين إلا لكونه ... يضارعها في اللين(8) إن مد يمتد؟
__________
(1) - في فتح الوصيد "وقد أتيا".
(2) - هذا لفظ الرواية عند السخاوي، وفي الذيل والتكملة "على بعضكم".
(3) - في الذيل والتكملة "قلبي" وهو تحريف، وفيه وفي فتح الوصيد "من بعد" دون واو ورأيته "ومن بعد" بالواو عند كل من المنتوري وابن القاضي في شرحيهما على الدرر اللوامع.
(4) - في فتح الوصيد والذيل والتكملة: "وهذا مقال منك غير محرر"، وما أثبته عن الفجر الساطع.
(5) - كذا في نسختين من الفجر الساطع، وفي نسخة من فتح الوصيد "وعلية" وفي الذيل والتكملة "وغيبة".
(6) - جرى على إحدى الروايتين لهذا الشطر، وقد تقدم في رواية السلفي "على مثلكم تخفى ومن مثلكم تبدو".
(7) - قال السخاوي في فتح الوصيد: لو قال يدري حكمها الحر والعبد "لأجاد" ـ وكتبها ابن القاضي بهذا اللفظ.
(8) - في الذيل والتكملة "يضارعها في المد" ولا يصح في المعنى لأنه يقتضي أن حرف اللين مد لأنه ممدود.
(1/38)
وإن لم يمد استغنى في الدهر كله ... عن المد فيه واستوى الوجد والفقد(1)
وما أصل حرف اللين في جمع بيضة ... وسوءاتكم الا التحرك لا الضد(2)
وذلك راعى من رواه لورشنا ... بقصر ومدوا سائر الحرف واعتدوا
لكونه الأولى والأحق بمده ... لما قد ذكرنا، والاله له الحمد(3)
جواب أبي الحسن بن بري التازي (ت 730)
وممن أجاب الحصري عن لغزه أبو الحسن علي بن محمد بن بري متوجها إلى الغرض بإيجاز فقال:
نعم لم يمدوا الواو في جمع سوءة ... وفي ألف من بعد همزته مدوا
لأن هذيلا تفتح العين مطلقا ... فليس اذن له في الواو ان فتحت مد
ومن قال في المعتل تسكين عينه ... فما ان له عن مدها وسطا بد(4)
هكذا جارى الحصري في مذهبه وبين وجه تركهم المد فيما حقه المد وهو حرف اللين قبل الهمزة، ومدهم ما ليس حقه المد وهو الالف بعد الهمزة، والا فإن ابن بري على مذهب الحافظ أبي عمرو الداني الآتي في المسألة، وإليه أشار أولا في "الدرر اللوامع" ثم عطف عليه بذكر الخلاف في قوله:
والواو والياء متى سكنتا ... ما بين فتحة وهمز مدتا
له توسطا وفي "سوءات" ... خلف لما في العين من فعلات
__________
(1) - ذكر ابن عبد الملك البيت بلفظ "وان لم يمد استغنأ... وقال معلقا: " همز "استغنأ" خطأ لا عذر عنه ونظير روايته أيضا عند السخاوي في فتح الوصيد دون لفظ "في" بعدها، ولعل زيادة في مما استدرك عليه على سبيل الإيضاح لهذه الضرورة القبيحة التي ارتكبها بهمز المقصور، وزيادة "في "قبل"الدهر" من الفجر الساطع.
(2) - في البيت تورية مقصودة كال فيها للحصري بالمكيال الذي كال به، وقد علق السخاوي عليه بقله، وهذا كما قال: "فنجهل فوق جهل الجاهلينا"ـ يريد بيت الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا.
(3) - القطعة في فتح الوصيد والذيل والتكملة في ترجمة الشاطبي السفر 5 القسم 2/548ـ557 والفجر الساطع وغيرهما.
(4) - نقله في الفجر الساطع في باب المد.
(1/39)
وقد ذكر ابن القاضي في الفجر الساطع أن ابن بري زاد بعد البيت الأخير في رواية أبي زيد الجادري عن أبي زكرياء بن أحمد السراج عن القاضي أبي محمد بن مسلم عن الناظم قوله مشيرا ـ فيما يظهر ـ إلى جوابه للحصري:
وقد ذكرت سبب الخلاف ... في غير هذا بكلام شاف
جواب الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري صاحب كنز المعاني على الشاطبية (ت 732)
وأجاب الحصري من المشارقة أبو إسحاق الجعبري فقال في الكنز بعد ذكر لغزه وبعض أجوبة من تقدمه عليه: وقد أجبت بقولي:
لنعم سؤال القيرواني ملغزا ... بكلمة "سوءات" بها الواو ما مدوا
لورش وبعد الهمزة الألف انجلى ... بمد ولا قصر فكيف أتى المد؟
نعم فتح عين جمع الاسماء أصلوا ... ليمتاز عن وصف لاسكانه جدوا
وقد سكنوا المعتل خشية قلبه ... وخوف ظهور المد ما عينه شدوا
والاجوف وافى عن هذيل محركا ... وإذ قصدوا التحريك اعلاله ردوا
فصار سكون العين في الجمع عارضا ... لذا قدروا فيه التحرك واعتدوا
فمن مد راعى اللفظ طردا لأصله ... وذو القصر مستثن وبالأصل يعتد
وقد سوغوا مد الذوائب بعدها ... لأن الذي من بعد ذينك ممتد
وهذا جواب الجعبري أعم من ... سؤال عن الحصري في ضمنه رشد
قال الجعبري: "وجه عمومه أنه فرض الكلام على وجه قصر الواو، وأجبت على وجهي القصر والمد، ويجوز هذا على وجه التعليم"(1).
ذلك لغز الحصري وما أثاره من ردود وأجوبة، وهو مبني كما رأينا على مذهب مدرسته الذي عبر عنه مكي فيما نقلناه عنه من "التبصرة"، وقد أقام سؤاله على مذهبه ولم يلتفت إلى ما في الكلمة الملغز بها من خلاف بين الأئمة.
__________
(1) - كنز المعاني: باب المد (مخطوط). ويريد بجوازه على وجه التعليم التنظير بما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أنتوضأ بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، فأجاب عن سؤال السائلين بأكثر مما طلب على وجه الإرشاد والتعليم.
(1/40)
وقد لخص أبو الفضل بن المجراد السلوي الخلاف المذكور في شرح قول ابن بري المتقدم فقال: "وفي سوءات خلف"، أخبر أن عن ورش خلافا في واو "سوءات" جمعا، هل هو مستثنى من هذا الباب فلا يمد له أصلا، أو هو داخل في هذا الباب فيمد بوجهين: التوسط والإشباع كما في "شيء" و"سوءة"؟؟
فمذهب الحافظ اجراؤها مجرى نظائرها، اما بالاشباع كما يظهر من "إيجاز البيان"، وهو الذي قرأ به علي ابن خاقان وفارس بن أحمد، واما بالتوسط وهو الظاهر من "التلخيص" و"المفردة".
"مذهب مكي وابن شريح والمهدوي استثناؤه من حرفي اللين" وهذا على رواية أبي يعقوب عن رش، وأما على رواية عبد الصمد فليس عنه إلا القصر في حرفي اللين مطلقا كما قدمنا وقد نص على ذلك الحافظ، قال ابن المجراد:
فإذا جمع ما لورش في ألف "سوءات" وواوها من الخلاف، تصور للقارئ من ذلك تسعة أوجه: مدهما معا، وقصرهما معا، وتوسيطهما معا، والمخالفة بينهما، وقد نظمت ذلك في أبيات ثلاثة فقلت:
وسوءات فاقصر واوها ثم وسطن ... ومكن كهاويها(1) لورش بلا وهم
فتحصل في "سوءات تسعة أوجه ... إذا تليت وصلا فحققه عن فهم
فأشبعهما واقصر ووسط وخالفن ... تجد تسعة لا شك فيها لذي العلم(2)
__________
(1) - يعني بالهاوي: الألف.
(2) - إيضاح الأسرار والبدائع لأبي الفضل محمد بن المجراد (مخطوط).
(1/41)
وقد توقفت عند هذه القضية وتتبعت بعض ما قام عليها من نشاط علمي لإعطاء صورة عن ألوان من المطارحات العلمية التي كان علماء القراءات يتطارحونها في مسائل الخلاف، وكان للحصري فضل السبق إلى تطويع النظم لها ولفت الأنظار إليها، وستاتي لنا نماذج من هذه المطارحات عند أبي وكيل ميمون مولى الفخار في محاورته لأستاذه القيسي وفي مسائله التي طرحها على أهل مالقة وغير ذلك؛ وقد توسع أبو زيد بن القاضي في نظم طائفة من المسائل والألغاز في كتبه مع الإجابة عنها كما نجد ذلك في الفجر الساطع وغيره(1).
الفصل الثالث:
قصيدته في قراءة نافع المعروفة بـ"القصيدة الحصرية" أو "رائية الحصري".
أما أهم آثار الإمام الحصري وأسيرها في الآفاق، وأوعبها لمذاهب مدرسته واختياراتها فهي قصيدته في قراءة نافع المعروفة بـ"الحصرية" وبـ"الرائية"، وقد نظم فيها روايتي ورش وقالون عن نافع أصولا وفرشا، فكان له مقام الريادة في هذا الباب، أعني في تطويع النظم التعليمي وتذليله لاحتواء قواعد الفن وأحكام الأداء.
وقد نظم هذه القصيدة على وزن القصيدة الخاقانية ورويها لأبي مزاحم موسى بن عبيد الله بن خاقان البغدادي التي تقدم نصها(2) بل أراد بها معارضتها ومعارضة القصائد الأخرى التي نظمت في التجويد على منوالها وإن كان هو قد عدل بها عن قواعد التجويد العامة إلى الأصول الخاصة بهاتين الروايتين عن نافع، وهما رواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق، ورواية قالون المدني من طريق أبي نشيط المروزي، وفي معارضته لقصيدة الخاقاني يقول في أول قصيدته:
... فجئت بهافهرية حصرية ... على كل خاقانية قبلها تزري
__________
(1) - ينظر بعض ذلك في باب الامالة من الفجر الساطع وكذا باب الوقف على مرسوم الخط وباب الياءات.
(2) - يمكن الرجوع إليها كاملة من رواية أبي الحسن علي بن محمد بن بشر الانطاكي العدد الرابع من هذه السلسلة.
(1/42)
وأما نظمه لها فقد رجح بعض من تعرضوا لتحديد مكانه أنه كان بسبتة أو طنجة(1)، إلا أنه لم يتعرض لتحديد الزمان، وقد وقفت في هذا الصدد على إشارتين تساعدان على معرفة التاريخ على وجه التقريب، أما أولاهما ففي المقدمة النثرية التي مهد بها للقصيدة، إذ نجده دعا فيها ـ كما تقدم ـ للمنصور والحاجب يريد بالمنصور "سقوت" أو "سواجات" "البرغواطي، وبالحاجب ابنه العز بن سقوت، وذكر أنهما أجلساه لإقراء كتاب الله وأخرجاه من ظلمة الشعراء إلى نور القراء"، وهذا يقتضي أنه وفد عليهما بعد أن تمهد لهما حكم المنطقة، وقد قدمنا أن استيلاء سقوت على الحكم بها كان سنة 453هـ، فيكون نظم القصيدة بعد هذا التاريخ أو في أثنائه، وربما كان ذلك باقتراحهما كما يتبادر من قوله: "فهما فجرا هذا النهر من بحري"، وإن كان لم يصرح به، مكتفيا بقوله " بصفحهما الجميل، وإحسانهما الجزيل".
أما الإشارة الثانية فهي تفيدنا في حصر الأعوام التي يتردد احتمال نظمه بينها، وهي الأعوام السبعة التالية لاستيلاء سقوت على الحكم، فقد جاء في تكملة ابن الأبار في ترجمة أبي محمد عبد الله بن يوسف بن سمجون انه "لقي أبا الحسن الحصري الكفيف بطنجة في سنة 460 فأخذ عنه قصيدته في قراءة نافع"(2) .
فتاريخ نظمها إذن هو قبل لقاء ابن سمجون له في هذا التاريخ، والراجح أنه كان بطنجة حيث لقيه. أما عدد أبياتها فقد أشار إليه بقوله:
على مائتي بيت تنيف تسعة ... وقد نظمت نظم الجمان على النحر"
__________
(1) - "الحركة العلمية في سبتة لإسماعيل الخطيب 112.
(2) - التكملة لابن الأبار 2/823 ترجمة 2011.
(1/43)
ومع هذا التحديد فقد وقع فيها تفاوت واختلاف بين النسخ وفي كتابات بعض الباحثين(1).
ولا يبعد أن يكون قد زاد فيها بعض الأبيات على سبيل الاستدراك، كما لا يبعد أن يكون بعض ذلك من زيادات بعض القراء، فقد ذكر أبو عبد الله بن الأبار مثلا في ترجمة المقرئ صاف بن خلف بن سعيد بن مسعود الأنصاري من أهل أريولة أن "له زيادة في قصيدة أبي الحسن الحصري المنظومة في القراءات مستدركا عليه(2) وهو قوله:
سواكن لا تحريك عند اتصالها ... ولا صورة في الرسم والخط بالحبر
خلا قوله "أتاني الله" إنها ... محركة بالفتح في الوصل والمر(3)
فهذا الاستدراك ونحوه مما قد يتسامح بعض النساخ فيلحقه بالأصل، وسوف أنبه على ما وقفت عليه من أمثلة ذلك في باب الراءات بعون الله، كما أشير إلى أن البيت الأخير في أكثر النسخ التي اطلعت عليها في أيدي الطلبة هو قوله:
نفعت بها قبل الممات وبعده ... يحط بها الأوزار ربي عن ظهري
بينما وفقت في نسخ عديدة على زيادة بيت بعده يظهر أن الناظم استدركه بعد تمامها وهو قوله:
وقد بقيت علاتها في مسائل ... وهل هي إلا قطرة من ندى عمري
نسخ القصيدة الخطية:
__________
(1) - ذكر بروكلمان في تاريخ الأدب 5/106 في مؤلفات الحصري قصيدة رائية في 212 (215) بيتا من الطويل ـ كذا ذكر مشيرا إلى بعض نسخها ببرلين تحت رقم 641. وذكر الزركلي في الأعلام 5/114ـ115 أيضا أن عدد أبياتها 212 وذكر هذا العدد صاحب الحركة العلمية في سبتة ص 112 بالهامش رقم 3. ولعل هذه الزيادات مما زاده بعض الرواة عليها كما في التكملة 2/767.
(2) - هذا الاستدراك واقع في آخر باب الزوائد من آخر قصيدة الحصري، ويناسب أن يكون بعد آخر بيت من أحكام زوائد ورش وقالون، وهي الياءات المحذوفة من الرسم الزائدة في اللفظ وصلا، أي عند قول الحصري:
... علامتهن الحذف في وقف قارئ ... ... عليهن والإثبات في وصل ذي حدر
(3) - التكملة 2/767 ترجمة 1894.
(1/44)
نظرا لاشتهار القصيدة وسعة استعمالها بين القراء ومشايخ الإقراء في الحواضر والبوادي، فإن نسخها الخطية كانت واسعة الانتشار، وما تزال كذلك إلى الآن، إلا أن عامة ما هو متداول بأيدي طلبة القرآن اليوم كثير التحريف والتصحيف إلى الحد الذي تعسر معه الاستفادة منه أحيانا، مع انتشار الجهل باللغة والنحو، وقد اطلعت منها على ما ينيف على عشر نسخ أهمها النسخة التي أدرجها شارحها أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الطفيل العبدري المعروف بابن عظيمة الاشبيلي ضمن شرحه الآتي عليها، ومخطوطة هذا الشرح محفوظة بخزانة ابن يوسف بمراكش(1)، وهي مؤرخة بيوم الثلاثاء 15 ذي القعدة عام 728 حسب ما كتبه الناسخ في آخر ورقة منها.
ومن النسخ التي وفقت عليها وسأعتمدها في تحقيقها بعون الله نسخة خزانة أوقاف آسفي وهي مؤرخة ـ كما في آخرها ـ بعشية يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر عام 1122 كاتبها أحمد بن عمر البلوي وتقع في 207 أبيات(2).
وسأقارن إلى نسخ أخرى إذا استلزم الأمر منها نسخة شيخنا المقرئ السيد محمد بن إبراهيم الزغاري إمام مسجد البير الفايض بالكريمات من بادية الصويرة، ونسخة السيد محمد الرسموكي أبي يحيى إمام مسجد أزرو قرب مدينة أكادير، وكلتاهما نسختان كتبتا في أول القرن الماضي (الرابع عشر الهجري).
وتمتاز كل من النسخة المراكشية والأسفية بوجود المقدمة النثرية التي صدر بها الناظم للقصيدة، وهي نادرة في أيدي القراء مع أهميتها البالغة في إلقاء بعض الضوء على ظروف نظمها والباعث عليه وذكر الغرض منها والمباحث التي سيتناولها فيها، وهذه هي القصيدة نرجو أن نوفق إلى تقديمها كاملة مع مقدمتها النثرية:
القصيدة الحصرية ومقدمتها النثرية:
__________
(1) - التكملة 2/767 ترجمة 1894.
(2) - رقمها بالخزانة المذكورة 298.
(1/45)
قال الشيخ الجليل النحوي المقرئ قدوة أهل زمانه ووحيد عصره أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري رحمه الله(1).
الحمد لله ذي العزة والطول، والقوة والحول، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيئين(2) مرسلا(3) وأكرمهم عند الله منزلا، وسلم تسليما(4) آخرا وأولا.
وبعد فإني لما رأيت قصيدة أبي مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقاني المقرئ ـ رحمه الله ـ تقصر عن كثير من معاني أصول القراءة وغيرها، إذ لا يقدر شاعر غيري على نظم جميعها، صنعت هذه القصيدة غير مفاخر له بها ولا مستعجز عنه، وكيف وقد اعتذر من التقصير فقال:
وقد بقيت أشياء بعد لطيفة ... يلقنها باغي التعلم بالصبر(5)
ولكن قصدت إلى ما لم يقصد إليه، ونبهت على ما ينبه عليه، من ذكر التعوذ والبسملة وميم الجمع وهاء الإضمار والمد والقصر وتحقيق الهمز الساكن والمتحرك وتسهيله في مجاريه كلها، ونقل الحركة إلى الساكن قبلها، وترتيب الهمزة الساكنة، والإظهار والإدغام، والروم والاشمام، والفتح والإمالة، وتفخيم الراءات واللامات وترقيقها، وفرش الحروف، والزوائد، واستقصيت ذلك كله.
واتبعت أصل ورش وأصل قالون في روايتيهما، وما تفرد به قالون دون ورش، فحافظ قصيدتي هذه يحصل على ثلاث روايات، ولا يحتاج إلى درس كتاب، ولا يعجز ـ إن شاء الله ـ عن جواب.
__________
(1) - اخترت هذه الديباجة من نسخة شيخي سيدي محمد بن إبراهيم مد الله في عمره ونفع به. وفي أكثر النسخ المخطوطة "قال الشيخ علي بن عبد الغني الحصري رحمه الله". وفي نسخة آسفي "قال الشيخ الفقيه أبو الحسن.." وفي نسخة مراكش "قال أبو الحسن"، وفي نسخة الرسموكي "قال الإمام الأستاذ".
(2) - في نسخة ابن الطفيل "خاتم" وفي باقي النسخ "خير النبيئين".
(3) - في بعض النسخ "رسولا".
(4) - سقط لفظ "تسليما" من نسخة ابن الطفيل.
(5) - هذا البيت من قصيدة الخاقاني في التجويد وهو البيت الثالث قبل الأخير.
(1/46)
فليدع الله لي بالتوبة، والعصمة من الحوبة، ومن الحق الواجب، أن يدعو للمنصور والحاجب فهما فجرا هذا النهر من بحري، واستخرجا هذا الدرر(1) من نحري(2)، بصفحهما الجميل، وإحسانهما الجزيل، جزاهما الله حسن ثوابه، كما أجلساني لإقراء كتابه، وأخرجاني من ظلمة(3) الشعراء، إلى نور القراء".
قلت ـ مستعينا بالله ـ: هذا آخر صدر كتابي الذي أعجز جميع اترابه، وميز صدق متابه:
إذا قلت أبياتا حسانا من الشعر ... فلا قلتها في وصف وصل ولا هجر
ولا مدح سلطان ولا ذم مسلم ... ولا وصف خل بالوفاء أو الغدر
ولكنني في ذم نفسي أقولها ... كما فرطت فيما تقدم من عمري
ولابد من نظمي قوافي تحتوي ... فوائد تغني القارئين عن المقري(4)
رأيت الورى في درس علم تزهدوا ... فقلت: لعل النظم أحظى من النثر
ولم أرهم يدرون ورشا قراءة ... فكيف لهم أن يقرأوا لأبي عمرو
فألزمت نفسي أن أقول قصيدة ... أبث بها علمي وأجري إلى الأجر
فيا رب عذر للبخيل بماله ... وما للبخيل بالمسائل من عذر(5)
فجئت بها فهرية حصرية ... على كل خاقانية قبلها تزري
على مائتي بيت تنيف تسعة ... وقد نظمت نظم الجمان على النحر
وما أعطيت بين القصائد حقها ... ولو كتبت بالمسك عظما عن الحبر(6)
تنوب عن الكتب الضخام لقارئ ... وتسهل حفظا للمقيمين والسفر
وفيها من الذكر المطهر جملة ... فلا تقرها إلا وأنت على طهر
وأحسن كلام العرب أن كنت مقرئا(7) ... وإلا فتخطي حين تقرأ أو تقري
__________
(1) - هكذا "الدرر" بالجمع في نسخة ابن الطفيل، وفي غيرها "الدرة" بالإفراد.
(2) - هذا لفظ نسخة ابن الطفيل وآسفي، وفي نسخة الشيخ أبو درار من قبيلة آيت داود بحاحة "فهما فجرا هذا النهر من صدري، واستخرجا هذه الدرة من بحري".
(3) - سقط لفظ "ظلمة" من نسخة ابن الطفيل، وثبت في نسخة آسفي "ظلمة" وفي غيرها "ظلم" بالجمع.
(4) - سقط هذا البيت في نسخة آسفي.
(5) - في نسخة آسفي "وما لبخيل".
(6) - في آسفي: "على الحبر".
(7) - في آسفي "قارئا".
(1/47)
لقد يدعي علم القراءة معشر ... وباعهم في النحو أقصر من شبر
فإن قيل ما إعراب هذا ووزنه؟ ... رأيت طويل الباع يقصر عن فتر
ثلاث لغات في "الصراط" ولم يكن ... ليحسنها من لم يقسه على سقر(1)
أعلم في شعري قراءة نافع ... رواية ورش ثم قالون في الاثر
وأذكر أشياخي الذين قرأتها ... عليهم فأبدا بالإمام أبي بكر
قرأت عليه السبع تسعين ختمة ... بدأت ابن عشر ثم أتممت في عشر
ولم يكفني حتى قرأت على أبي ... علي بن حمدون جلولينا الحبر
وعبد العزيز المقرئ بن محمد ... أثير(2) ابن سفيان وتلميذه البكري
أئمة مصر كنت أقرأ مدة ... عليهم، ولكني اقتصرت على القصري
فأجلسني في جامع القيروان عن ... شهادته لي بالتقدم في عصري
وكم لي من شيخ جلبل وانما ... ذكرت دراريا تضيء لمن يسري
خذوا عن فمي علم الكتاب بقوة ... ولا تصلوني عن أيادي بالشكر
ولكن بإخلاص الدعاء فربما ... جبرت بكم اني فقير إلى الجبر
ذكر التعوذ والبسملة
جرى الخلف في وصف التعوذ بينهم ... ونص الكتاب اختير في غالب الأمر
ولم أقر بين السورتين مبسملا ... سوى أنني بسملت في الأربع الغر
وحجتهم فيهن عندي ضعيفة(3) ولكن يقوون الرواية بالنصر(4)
وان تفتتح والحزب أول سورة ... فعوذ وبسمل أنت من ذاك في يسر
__________
(1) - بالسين في جميع النسخ، والمراد اللغات الثلاث التي في "الصقر" بالسين والصاد واشمام الصاد صوت الزاي
(2) - في نسخة ابن الطفيل "أثين" وكذا في نسخة شيخي وفي غيرها "أثير".
(3) - في الاصل (شرح ابن الطفيل) "لطيفة" وفي باقي النسخ ما أثبته.
(4) - انتقد عليه ابن الطفيل قوله "الرواية" فقال: "والعجب من الناظم كيف يقول: ولكن يقوون الرواية بالنصر "وهي لم يروها أحد، ولو قال المقالة أو ما شابهها لكان أخلص له.. "(شرح الحصرية). وقد ذكر الحلفاوي في شرحه على الدرر اللوامع دفاع الإمام القيسي شيخه عن الحصري فيها، وذكر أن أبا عمرو الداني ذكر هذه الرواية في جامعه وكذلك أبو العاص في كشفه، وسيأتي ذكر هذا.
(1/48)
وان كنت في غير الفريضة قارئا ... فبسمل لقالون لدى السور الزهر
مدى الدهر الا في ابتداء براءة ... لتنزيلها بالسيف من مرسل النذر
ذكر فاتحة الكتاب وذكر ميم الجمع
إذا لقيت ميم الجماعة همزة ... فأشبع لورش ضمة الميم في المر
وأسكن لقالون، وان تلق ساكنا ... فضم لقالون وورش على قدر
وفيما عدا هذا هما يسكنانها ... كذا رويا عن نافع عن ذوي الحجر
وعندي لقالون رواية ضمها ... وقد نشر التخيير عنه ذوو العشر(1)
ولم أر من يقرا بإشباع أحمد(2) ... فأذكر في "إياك نعبد" ما أدري
وفي "ملك يوم الدين" ثم أنص ما ... يخالف فيه الأصل من علل تجري
ذكر هاء الإضمار
صل الهاء مع ضم بواو إذا أتت ... على أثر تحريك، وكن غير مغتر
ومع كسرها صلها بياء إذا أتت ... كذلك، واسمعني فلست بذي هجر
ولا تصلنها عند إتيان ساكن ... ولا بعده، والق الفوائد بالبشر
وأشمم ورم ما لم تقف بعد ضمة ... ولا كسرة أو بعد أميهما فادر
وان تتصل هاء بفعل جزمته ... فمختلس قالون في غير ما كثر
لدى آل عمران، وفي سورة النسا ... وفي النور والشورى وفي النمل عن خبر
وفي سورة الأعراف والشعراء قد ... دللتك فاعلم لست في مجهل قفر
ووافقه ورش على يرضه لكم ... لدى كلمات الله في الشكر والكفر
ذكر المد والقصر
إذا الألف المفتوح ما قبلها أتت ... أو الواو عن ضم، أو الياء عن كسر
ومن بعد إحداهن همز فمدها ... ممكنة دون الخروج عن القدر
ومد لحرف ساكن جاء بعدها ... وكن من تلاقي الساكنين على حذر
وان يتطرف عند وقفك ساكن ... فقف دون مد ذاك رأيي بلا فخر
فجمعك بين الساكنين يجوز ان ... وقفت، وهذا من كلامهم الحر
وان تتقدم همزة نحو ءامنوا ... وأوحى فامدد ليس مدك بالنكر
__________
(1) - كذا في الأصل والمراد الطرق العشر المروية عن نافع، وفي باقي النسخ "ذوو النشر".
(2) - هو أحمد بن صالح أبو جعفر المصري صاحب ورش، وقد تقدم ذكر ما تفرد به عنه في إشباع كسرة ملك يوم وضمة نعبد وإياك وما شابههما في ترجمته في أصحاب ورش، وفي ترجمة ابن سفيان. صاحب الهادي.
(1/49)
ولو سهلت، إلا مواضع أهملت ... لهم علل فيها حوى علمها صدري
"يؤاخذكم" ءالن "مستفهما به ... وقولك "الاولى" وصف عاد(1) ذي الخسر
وان كان قبل الهمزة الحرف ساكنا ... وليس بحرف المد فاقرأه بالقصر
كقولك "قرءانا" وما كان مثله ... سوى حرف "سوءات" فقد مد عن عذر
وفي مد عين ثم "شيء" و"سوءة" ... خلاف جرى بين الأئمة في مصر
فقال أناس مده متوسط ... وقال أناس مفرط، وبه أقري
وخالف في "الموءودة" الأصل عندهم ... وفي واو "سوءات" وفي "موئلا" قادر
تفرد بالأصلين ورش كليهما ... ووافقه قالون في مبتدا ذكري
وان تنفصل من أحرف المد همزة ... فدع لفتى حلوان مدك واستجر
باب ذكر الهمزتين المفتوحتن والمختلفتين من كلمة أو كلمتين
وفي الهمز علم غامض إن أردته ... فزرني وذق حلوي من الحلق أو مري
إذا التقت المفتوحتان بكلمة ... فسلني عن الأخرى وثق بي وخذ أصري(2)
حكى، ورش الابدال فيها، وقد حكوا ... خلافا، ولكنا كما نشتري(3) نشري
وسهل قالون وحال بمده ... وتسهيلها ما بين بين بلا نبر
وخالف فيما قال فرعون أصله(4) وفي الزخرف(5) استدلل بحس القطا الكدري
فسهل أخرى(6) الهمزتين ولم يحل ... ووافقه ورش، وما الأمر بالإمر
وان تنكسر أخرى اللتين بكلمة ... أو تنضم فاسألني وكن آمنا مكري
يسهلها ورش وقالون فانتفع ... بعلمي وميز بين نفعك والضر
ولكن قالونا يحول بمده ... على الأصل فاتل الذكر وأمن من الزجر(7)
ولا خلف في الأولى من الأصل كله ... لئن ضفتني علما لقد ضفت من يقري
ولم اقر إلا مثل ورش "أأشهدوا" ... لقالون، شد الله لي بالتقي أزري
__________
(1) - يعني "وانه أهلك عادا الاولى " في سورة النجم.
(2) - الصواب: إصري كما ذكر ابن الطفيل في شرحه وفسره بالعهد.
(3) - في نسخة آسفي "لما نشتري".
(4) - يعني في "قال فرعون ءأمنتم".
(5) - يعني "وقالوا ءآلهتنا خير أم هو".
(6) - في نسخة آسفي "احدى" وهو تحريف .
(7) - كذا في بعض النسخ، وفي بعضها "وأمن من الذعر". الذعر: وهو الصواب كما في نسخة ابن الطفيل وشرحه عليها فقال: الذعر: الخوف.
(1/50)
ولا بد من إبدالها في "أئمة" ... فصحوك إن الجاهلين لفي سكر
وان كانتا من كلمتين وجاءتا ... بكسرك أو بالضم والامر كالامر
فابدالك الاخرى لورش قياسه ... وتحقيقك الاولى له أبد الدهر
وتسهيلك الاولى لقالون أصله ... وتحقيقك الأخرى لقد فهت بالدر(1)
وان جاءتا بالفتح فالامر واحد ... سوى حذفك الاولى لقالون كالبصري
وفي الهمزة الأولى التي الواو قبلها(2) أو الياء(3) سر عندنا(4) غير ذي السر
تسهل ابدالا وتدغم في التي ... تقدمها فيها، وذلك في المر
ولم تات إلا في ثلاثة أحرف ... فلله في الدر الذي قلته دري
فمنهن حرف وسط سورة يوسف ... وحرفان في الأحزاب فاربح بلا تجر
وأصلهما فيما عدا ذاك واحد ... وفيه وجوه فاعتبرهن بالفكر
إذا انضمت الأخرى أو انكسرت فقل ... مسهلة، وانطق ولو كنت في طمر
وان تنفتح تبدل على كل حالة ... وقد حقق الأولى، وطاب جنا شعري
وان تنفتح في موضع الفاء همزة ... ومن قبلها ضم وحد الحجى يفري
فأبدل لورش، ثم حقق لغيره ... وألمم بقربي تغرف العلم من نهري
ذكر نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها
وان تتحرك همزة بعد ساكن ... وليس بحرف المد من كلمتي ذكر
فدعها وحركه بتحريكها وزد ... من الشكر للمولى يزدك من البر(5)
وان لام تعريف أتت قبلها جرت ... على الأصل والتنوين حرف فقس وادر
لورشك والوجهان في هاء سكته ... نصحتك عن ود ولا نصح عن غمر
وحكمك في "الان" نقل وفي "ردا" ... وفي "عاد الأولى" لقالون كالمصري(6)
ولكن قرا قالون "الأولى" بهمزة ... مسكنة، والعلم يكنز كالتبر
__________
(1) - هذا البيت ساقط في نسخة آسفي. وهو ثابت عند ابن الطفيل (96 تحقيق الشرح : توفيق عبقري).
(2) - يعني "بالسوء الا ما رحم ربي" في يوسف.
(3) - يعني "للنبيء الا أن يوذن لكم" في سورة الأحزاب.
(4) - في بعض النسخ "عندها" وفي بعضها "عنده".
(5) - في بعض النسخ يزدك من السر وفي بعضها من الصبر وفي بعضها من البشر. وشرحها ابن الطفيل بلفظ "من السبر" وقال: السبر: التجربة والحزر.
(6) - يعني كورش المصري.
(1/51)
ذكر ترتيب الهمزة الساكنة(1)
إذا وقعت فاء من الفعل همزة ... فأبدل لورش دون قالون عن امري
وان وقعت عينا ولاما همزتها ... لورش وقالون بعضب فم(2) يبري
ولكن روى في البير والذيب(3) ورشنا ... وفي بيس ترك الهمز عن صادق بر
وبيس فلم يقرأه بالهمز نافع ... إذا كان نعتا، وهو في موضع وتر(4)
وشدد "رءيا" بعد إبدال همزه ... فتاه ابن مينا، وهو قالون ذو الذكر
وحقق ورش ما تصرف من "أوى" ... رأى فيه ترك الهمز يثقل كالوزر
ولا خلف في إبدال همزة "ءادم" ... وأمثالها، فاسمع ولا تك ذا وقر
ولا تهمزن ما كانت الواو أصله ... كقولك في الإنسان "يوفون بالنذر"
فهاذي مجاري(5) كل ساكنة جرت ... فخذ حكمتي واستغن إن كنت ذا فقر
ذكر إدغام دال "قد" وإظهارها(6)
ودال "قد" أظهرها(7) لستة أحرف ... كما أظهرت سر الدجي طلعة البدر
بجيم ودال ثم سين وبعدها ... ثلاث الصفيريات(8) فافهم عن الفهري
وكن مدغما في الظاء والضاد دال قد ... لورش، وقالون على أصله يجري
ذكر إظهار ذال "اذ"
وعند الصفيريات تظهر ذال "إذ" ... وأحرف "جدت" ضاع من في كالعطر
ذكر إظهار لام "هل" و"بل"
وتظهر لاما "هل" و"بل" عند أحرف ثمانية تملى بمثل الظبى الحمر
فتاء وثاء ثم طاء وضادها ... وظاء وزاي يشبه الطاء في الجهر
ونون وسين تم عدي فأحصه ... وما تم في يومين فادرسه في شهر
ذكر إظهار تاء التأنيث
وإن سكنت في الوصل تاء مؤنث ... كقوله قامت زينب ربة الخدر
__________
(1) - في كثير من النسخ "باب" بدل "ذكر" في جميع ما يلي.
(2) - في نسخة آسفي "بعضو فم".
(3) - في بعض النسخ تقديم "الذيب" على "البير".
(4) - يعني في موضع واحد، وهو "بعذاب بيس بما كانوا يفسقون" في سورة الأعراف.
(5) - في كثير من النسخ "ما جرى" وهو تحريف.
(6) - في نسخة شيخي "ذكر الإظهار والإدغام في دال "قد".
(7) - في أكثر النسخ "أظهرت".
(8) - يعني الأحرف الثلاثة السين والصاد والزاي.
(1/52)
فقل أظهراها(1) عند أول ثابت ... وجمل وسعد ثم زيد وصنبر
وأظهر عند الظاء قالون وحده ... لقد ضحكت أزهار علمي بلا ثغر
ذكر حروف قربت مخارجها
وتظهر عند الثاء دال "ومن يرد" ... فشم من فمي برقا يشير ويستشري
وأما "لبثتم" أو "لبثت" فمظهر ... و"أورثتموها" فادر وافهم عن المدري
وأما أخذتم واتخذتم" وشبهه ... فمدغمة لا خلف قل فيهما فادر(2)
و"عذت بربي مظهر و"نبذتها" ... فزد وانتفع لا مسك الله بالضر
وأظهر ورش تاء "يلهث" وأدغمت ... لقالون، وارتع في حدائقي الخضر
وأظهر باء "اركب" وقالون مدغم ... وباء "يعذب من يشاء" فمح غمري
وان تات فاء بعد باء جزمتها ... فقل أظهراها(3)، واتل في الصوم والفطر
كما أظهرا(4) "نخسف بهم "حبذا السرى(5) إلى العلم من طلابه الشعث الغبر
ذكر النون الساكنة والتنوين
وفي النون والتنوين عندي مسائل ... بها تعتلي فوق السماكين والنسر
إذا لقيتها أحرف الحلق أظهرت ... كقولك "من غل" وقولك "من خير"
وفي الميم ثم الواو والياء أدغمت ... بغنتها فاستغن عن غنة العفر(6)
وفي اللام ثم الراء من غير غنة ... كذا سطروا لكن في خلدي سطري
وما يتغير لإدغام بناؤه ... فلا بد من إظهارها فيه للعذر
وتقلب عند الباء ميما لعلة ... كقولك أنبأت العشيرة عن بكر
__________
(1) - في جميع النسخ "أظهرها" بدون ألف، ولا يصح، لأنه يختل به الوزن والمعنى، إذ بدأ بذكر ما اتفق على إظهاره ورش وقالون، ثم سيعطف عليه بذكر ما انفرد به قالون وحده عن نافع.
(2) - هذا البيت ساقط من نسخة آسفي، وساقط أيضا من نسخة ابن الطفيل إلا أنه تعرض لذكر اتخذتم وأخذتم في الشرح في موضع البيت مما يدل على وجوده في أصل النظم.
(3) - يعني اتفق ورش وقالون على إظهارها، وقد اتفقت النسخ على كتابتها هكذا "اظهارها".
(4) - سقط ألف "أظهرا" في كثير من النسخ التي وقفت عليها، والصواب إظهارهما معا لها.
(5) - في نسخة آسفي "جيد السرى" وفي نسخة الرسموكي "حب ذا" منفصلة.
(6) -أي عن غنة الظباء العفر: جمع أعفر.
(1/53)
وتخفى لدى باقي الحروف بغنة ... فرد واستمح عذبا ولو كان من صخر
وحكمك في التنوين والنون واحد ... نعمت بريا الردف مهضومة الخصر
ذكر الروم والاشمام
يرى رومنا والعمي(1) تسمع صوته ... وإشمامنا مثل الإشارة بالشفر
لورش وقد يقرا لقالون مثله ... حكى ذاك بعض المقرئين ذوو الستر
وأشمم ورم فيما تحرك لازما ... وليس بمفتوح، وقف غير مضطر(2)
فإياك أن يغريك بالجهل من يغري
باب الامالة والفتح(3)
إمالة ورش كلها غير محضة ... سوى الهاء من "طه"، وللفتح أستجري
قرا بين لفظيه "أرى" و"ترى" معا ... و"تترا" و"ما أدراك ما ليلة القدر"
و"ذكرى" و"بشرى" و"النصارى" ونحوه ... وفخم في الانفال، فاعرفه بالحزر(4)
وان يلق حرف الراء في الوصل ساكن ... ففخم، وكن من حلبة العلم في الصدر
وان نونت راء كقولك في "قرى" ... محصنة "ناهيك من سورة الحشر
فتفخيمها في موضع النصب رأينا ... وترقيقها في موضع الرفع والجر
وقد ذكر(5) التفخيم في الكل والذي ... بدأت به المختار في نحونا البصري
وان كسر (6) راء قبلها ألف جرى ... أمال ولم يستثن حرفا من الذكر
كهار وجبارين والنار واجتهد ... قياسا فاني جئت من ذاك بالنزر
__________
(1) - في أكثر النسخ "والاعمى يسمع صوته"، وأكثر طلبة القرآن ينشدونه كذلك.
(2) - بعد هذا البيت في نسخة السيد محمد الرسموكي بيتان وهما:
ومن ضم ميم الجمع أسكن واقفا ... ... ففعلهما في الضم والكسر لازم ... ورومك مخصوص بالجر وبالكسر
... ولاحظ فيه للضرير لأنه ... كما قلت مرئي بالابصار كالبدر
... وأشمم ورم..." والبيت الثاني منهما ذكره ابن القاضي في الفجر لغير الحصري.
(3) - في نسخة آسفي ذكر بدل باب.
(4) - يعني "ولو أراكهم كثيرا" كما ذكره شارحه ابن الطفيل. وفي بعض النسخ "بالحذر" وهو تحريف.
(5) - في بعض النسخ ومنها نسخة الشيخ الرسموكي "وقد ذكروا" بالجمع.
(6) - في بعض النسخ وإن حرف راء "ولا يصح، لأن روشا لا يميل الألف إلا مع الراء المكسورة مثل في النار وكالفخار.
(1/54)
وكان يميل "الكافرين" إذا أتوا ... بياء ويغزو جيشهم دامي الظفر
وأما رؤوس الأي في مثل والضحى ... فإنا أملناهن من طرق المصري(1)
وحاميم ثم الهاء والياء بعدها ... قرات له بالفتح في أكثر العمر
وقالون يقرا الباب بالفتح لم يمل ... سوى حرف هار فك ربي غدا أسري
قرأت لعمري بالإمالة محضة ... فدونك علمي بالقبول وبالبشر(2)
ووافق في التورية ورشا فخذ وزد ... ولا تجهلن فالجهل بالمرء قد يزري
باب الراءات
وفي الراء أصل بعد ذلك غامض ... تدق معانيه عن الكهل والغر
فقل أصلها تفخيمها غير أنها ... يرققها ورش مع الياء والكسر
إذا كسرت أو أمها قبلها أتت ... قرأت بترقيق وأنت على البر
وإن حال بين الراء والكسر ساكن ... وليس بمستعل فرقق بلا فتر
كذكر وبكر غير(3) كبر فإنهم ... حكوا علة في مخرج الباء من كبر
وعشرون أيضا فخموه لعلة ... فسلني أجب واخطب عروسا بلا مهر
وذا حكمها مفتوحة غير احرف ... أدل عليها أو أنص ولا أكري
إذا لقيت مستعليا أو تكررت ... ففخم كذاك الأمر فيها بلا عسر
وفي "حصرت" حًلْف لدى الوصل بينهم ... وفي "إرم" التفخيم في نص والفجر
وحكمك في "حيران" تفخيمها وفي ... "عشيرتكم" في قصة الغزو والنفر(4)
وإن حرف إطباق تقدم ساكنا ... ومن قبله كسر ففخم مدى الدهر(5)
__________
(1) - يعني ورشا، وفي بعض النسخ "المهري" بالهاء، وهو تحريف.
(2) - سقط هذا البيت من نسخة آسفي.
(3) - في نسخة الرسموكي "ثم كبر" ولا يصح، لأن عامة القيروانيين ابن سفيان وغيره استثنوه لورش.
(4) - أي في سورة الأنفال.
(5) - زاد في نسخة الشيخ الرسموكي البيت التالي:
... كمصر واصرهم وفطرت مثلهم ... على مذهب الجمهور يا طالب الوفر
ورأيته بها في نسخ شيخنا هنا بلفظ: كمصر واصرهم واصرا ومع اصري فكن فطنا للنص واصحب ذوي النشر. ولا يخفى أن كل ذلك من الإضافات لظهور الركاكة في نظم الأول في قوله "مثلهم" بدل "مثلها" وأما الثاني فقد أدخل في الأمثلة "إصري" وهي مكسورة الراء، ولا مكان للراء المكسورة في التفخيم عند أحد.
(1/55)
وإن كان من "زد سوف تذنب ثم"(1) والذي قبله(2) من أحرف الحلق في كسر
أو الكاف فالتفخيم عندي حكمها ... فكن يقظا أذكى ذكاء من الجمر
وفخم أيضا وزر أخرى لعلة ... و"ذكرك" أن الآي في نسق تجري
ورقق إسرافا "وإسرافنا" معا ... وفي راء "إجرامي" خلاف فخذ وفري
وإن وقع التنوين في الراء فخمت ... كذكرا فزد علما لعلك أن تثري
ولكن "صهرا" رققوه لهائه ... ولولا اختصار القول عللت ما ادري
ومهما تقع بالكسر أو تك أولا ... فلا خلف فيها بين زيد ولا عمرو
وإن لم تكن ياء ولا الكسر قبلها ... ففخم سوى ما قبل قولك "كالقصر"(3)
وإن سكنت والياء بعد كمريم ... فرقق، وخطئ من يفخم بالقهر
ومن ذكر التفخيم في مثل "شرعة" ... فجاهده، إن الشر يدفع بالشر
وإن لقيت مستعليا نحو "فرقة" ... ففخم ورقق راء "فرق" بلا زجر
ولا تقر راء "المرء" إلا رقيقة ... لدى سورة الأنفال أو قصة السحر(4)
وما لم أصفه بعد فهو مفخم ... تأمل فقد سهلت من أصلها الوعر
وما أنت بالترقيق واصله فقف ... عليه به لا حكم للطاء في "القطر"(5)
__________
(1) - تقدم ذكر هذا الرمز عند ابن الفحام الصقلي نقلا عن كتابه "التجريد".
(2) - سقط لفظ "ثم" في سائر النسخ إلا في واحدة، ولفظ البيت فيها "وإن كان من زد سوف تذنب والذي أتى قبله من أحرف الحلق في كسر" ـ والصحيح ما أثبته وهو الموافق لما في التجريد.
(3) - يعني "بشرر كالقصر" في سورة المرسلات.
(4) - يعني قصة هاروت وماروت في سورة البقرة.
(5) - هذا لفظ البيت في جميع النسخ التي اعتمدتها، وفي الفجر الساطع وغيره:
ووفقك بالاشمام والروم عندنا ... ... وما أنت بالترقيق واصله فقف ... عليه به، إذ لست فيه بمضطر
وقد شرح مراد الحصري بهذا اللفظ على هذه الرواية، ثم ذكر الرواية التي أثبتناها وقال: "كذا لفظ البيت عند ابن آجروم وعند الجعبري كما تقدم". يعني أن رواية ابن آجروم في شرحه للشاطبية فيه "عليه به لا حكم للطاء في القطر"
(1/56)
كوصلك، هذا قول من ليس بالغمر(1)
ذكر اللامات
إذا جاء حرف ساكن مطبق معا ... وقد فتحت أو ضمت اللام في الاثر
ففخم ومهما تفتح الطاء قبلها ... أو الصاد فالتفخيم فيها بلا حظر
ولكن مع التشديد والضم رققت ... وفيها مع الفتح اختلاف كذا أدري
وإن سكنت ما بين صادين فخمت ... لدى سورة الرحمن أو سورة الحجر(2)
وفي "اختلط" و"اغلظ عليهم "وأخلصوا" ... وفي "خلطوا"(3) خلف شرحناه في السفر
وفي "ظلموا"(4) أيضا كما في ثلاثة ولكن بترقيق قرأت على الحبر(5)
وإن وقع اسم الله والفتح قبله ... أو الضم فخمناه سبحن ذي الغفر
لورش وقالون وغيرهما معا ... وهذا جني العلم فاقطفه كالزهر
ومهما تقع مفتوحة طرفا فقف ... عليها بترقيق سقيت حيا القطر
ذكر فرش الحروف
ودونك من فرش الحروف مسائلا ... تبويك دار الخلد مخضودة السدر
قرا وهو قالون وفهو مسكنا ... ولهو وثم هو اقرأ وارق إلى الغفر
وقس هي إسكانا على هو بالحجا ... فإن الحجا أمضى من البيض والسمر
ويقرا من الياءات تسعا سواكنا ... سأحسبها مستغفرا حاسب الذر(6)
فياءان "لي وليومنوا بي" و"اخوتي" ... "ومحياي" والوجهان فيها عن المصري
__________
(1) - هذا آخر بيت في باب الراءات في سائر النسخ، إلا في نسخة الرسموكي فتزيد بقوله:
وقف في مكان النصب أيضا مفخما وقف مضجعا في موضع الرفع والجر.
(2) - المراد كلمة "صلصال" في السورتين.
(3) - في بعض النسخ وفي خلصوا" بالصاد، واللفظ في سورة يوسف، وبالطاء في التوبة.
(4) - في بعض النسخ "خلطوا" وهو تحريف، لأن بعض أئمة المدرسة القيروانية يستثني الظاء من الأحرف التي تفخم لها اللام إذا كانت اللام مفتوحة والظاء مفتوحة كما تقدم.
(5) -يعني شيخه عتيق بن أحمد أبا بكر القصري الذي قرأ عليه تسعين ختمة كما تقدم.
(6) - في أكثر النسخ "حاسب الذكر" وفي بعضها "الدهر"، والصحيح ما أثبته ومعناه محصي دقيق الأعمال حتى مثاقيل الذر، كما في قوله تعالى "وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة..".
(1/57)
وأخرى"ولي فيها""وأخرى" "ومن معي" ... وثنتان "أوزعني" لدى طلب الشكر
وأخرى"وإن تومنوا لي"وقبلها ... "رجعت إلى ربي "سقى رحمة قبري
وفي ياء "ربي" عنه خلف رويته ... عن المقرئ المروي بقطر الحجا قطري(1)
ويقرا "ليلا" حيث كان بهمزة ... وباء "البيوت" الدهر يقرأ بالكسر
ويقرا حروفا خمسة باختلاسها ... فطر نحو حيي عن فراخك والوكر
"نعما" جميعا في المكانين ثم لا ... تعدوا "وأمن لا يهدي لهما بحري
وأخرى لدى(2) ياسين في قوله يخصمون، فياسقيا لروض الحجا النضر
ويقرأ "هأنتم " بوزن "أأنتم" ... ويدخل مدا فاحصد العلم من بذري
وورش مضى فيها على أصله معا ... فسم واشتر العلياء غالية السعر
ويقرأ بالهمز(3) "النسيء " "وقربة" ... يخفف فيها الراء كالذال في النذر(4)
ويقرا بإخبار عن الروح واهبا ... لمريم من نادى وليدا من الحجر(5)
و "ثم ليقطعثم "وليتمتعوا" ... و"ثم ليقضوا" يسكن اللام للأمر
ويقرا بهمز اللاء فافهم وإن يكن ... عياؤك داء فاسأل الله أن يبري
ويقرأ أو ءاباؤنا الأولون في المكانين(6) بالإسكان سلني يطب نشري
ويظهر عند واو ياسين(7) نونها ... ويدغمها ورش فديتك من حر
ذكر الزوائد
زوائد ورش أربعون وسبعة ... ووافقه قالون في أكثر الشطر(8)
ثمان وعشر ثم أفرد نفسه ... بثنتين صان الله فاك من العفر
__________
(1) - في سائر النسخ "بقطر الحجا"، وفي إحداها "بقصر الحجا" والمراد الشيخ أبو بكر القصري وأضاف القطر إلى الحجا وهو العقل والفطنة تفخيما لشأنه.
(2) - في أكثر النسخ "وآخر في ياسين". وما أثبته عن بعض النسخ هو الموافق لنظائره فيما تقدم.
(3) - في نسخة الشيخ الرسموكي "ويهمز النسي .
(4) - في نسخة ابن الطفيل وشرحه: يخفف فيها العين كالعين من حجر.
(5) - يعني قوله "لأهب لك".
(6) - يعني في الصافات والواقعة.
(7) - في أكثر النسخ "عند الواو"، والمراد "يس والقرآن".
(8) - في بعض النسخ في أول الشطر.
(1/58)
فواحدة في غافر قبل "أهدكم"(1) وثانية في الكهف في قصة الثمر(2)
ووافقه في "ءال عمران(3) ثم في أواخر هود(4) حيث يوعد بالحشر
وفي سورة الإسراء والكهف بعدها ... وفي طه والشورى وفي النمل عن خبر
وفي قاف في الوسطى، وفي اقتربت لدى ... ثمان، وفي والفجر في قوله "يسري"
و"أكرمني" سبحانه و"أهانني" ... وما زاده ورش فإنك قد تدري
علامتهن الحذف في وقف قارئ ... عليهن والإثبات في وصل ذي حدر
نفعت بها قبل الممات وبعده ... يحط(5) بها الأوزار ربي عن ظهري
وقد بقيت علاتها في مسائل ... وهل هي إلا قطرة من ندى عمري(6)
__________
(1) - يعني "اتبعون أهدكم سبيل الرشاد".
(2) - يعني قوله تعالى "إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا".
(3) - يعني في قوله "ومن اتبعني".
(4) - يعني في قوله "يوم ياتي لا تكلم نفس إلا بإذنه".
(5) - في بعض النسخ "وحط بها" على الدعاء.
(6) - هذا البيت لا وجود له في نسخة شيخي ونسخ أخرى، وهو موجود في نسخ خزانة أوقاف آسفي، والشيخ الرسموكي من مسجد آزرو بنواحي أكادير، ونسخة المرحوم السيد إبراهيم أبو درار من سوق آيت داود بحاحة نواحي الصويرة. وبه يبلغ عدد أبياتها 212 وهو العدد الموافق لما ذكره بروكلمان في بعض النسخ.، وما ذكره الزركلي في الأعلام كما تقدم.
(1/59)
هذا هو النص الذي تأتى لي الحصول عليه من مقابلتي بين عدد من نسخ القصيدة مقابلة كلية أو جزئية، ولم تتيسر لي حاليا المقابلة الكاملة على النسخة التي اعتمدها ابن الطفيل في شرحه عليها، وهي أحق النسخ في نظري بالاعتماد، نظرا لقرب زمان الشارح من زمن الناظم(1)، ولاقتران أبياتها ببيان المعاني مما يسهل معه حل بعض الإشكالات كثيرا ما يضطر المحقق فيها إلى الترجيح بناء على المقابلة بين النسخ والاجتهاد الشخصي، هذا بالإضافة إلى قدم تاريخ نسخها أيضا كما قدمنا، وهذه الأمور كلها مجتمعة تجعل النص المثبت فيها أجدر النصوص بالاعتماد، ومن شأن المقابلة عليه أن تعين بعض الأبيات التي جرت إضافتها إليها من لدن الشراح أو النساخ، ولعل الله ـ عز وجل ـ ييسر الفرصة للقيام بهذا العمل المفيد(2).
الفصل الرابع:
أهمية القصيدة وانتشارها وعوامل شهرتها وما قام حولها من نشاط علمي، وأثرها في دعم المدرسة القيروانية.
__________
(1) - أعني به أبا الحسن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الطفيل العبدري الاشبيلي صاحب المصنفات العديدة في القراءات وقد تقدم في أصحاب أبي داود، توفي سنة 543 فبين وفاته ووفاة الحصري 55 سنة، أي أنه ربما ولد في حياته.
(2) - قام بهذا العمل قبل مثول هذا البحث للطبع صديقنا الدكتور توفيق العبقري من مراكش حفظه الله وأهدى إلى مؤخرا نسخة من عمله.
(1/60)
لا شك أن ظهور الإمام الحصري في المدرسة الأدائية القيروانية في رواية ورش قد كان وهي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، وذلك بسبب الأحداث والفواجع التي منيت بها بغزو أعراب بني هلال للمنطقة وخراب القيروان، وتفرق قرائها وعلمائها أيدي سبأ في أطراف المشرق والمغرب والأندلس، مما ضاع معه مجد المدرسة أو تداعى إلى الضياع، على الرغم من بقاء آثاره المكتوبة في أيدي الرواة، وبقاء بعض الأئمة الذين واصلوا حمل راية اتجاهاتها في المشرق والمغرب كالحصري والهذلي وابن بليمة وابن الفحام وغيرهم من متاخري فحول القيروان.
إلا أن الحصري قد أسدى إلى هده المدرسة خدمة كانت بالنسبة إلى هذا الطور من تاريخها لا تقدر، ولا يغني عنها ما تقدم عليها من جهود أقطاب هذه المدرسة وما بذلوا وأثلوا من جهد ونشاط علمين وذلك بإنشائه لهذه القصيدة التي تمتاز عن جميع مؤلفات القيروانيين والأندلسيين لهذا العهد بإخراجه لها في هذا القالب الشعري البديع، حتى عده بها بعض من كتبوا عن التراث القرائي في المغرب صاحب أول مدرسة للقراءات ظهرت في المغرب(1).
دواعي الاهتمام بها:
ولعل أجلى ما لفت الأنظار إليها لهذا العهد ثم في باقي العهود ما يلي:
1- نفسها الشعري العالي وقيمتها الأدبية التي استمدت طرفا منها من مكانة صاحبها الشاعر الأديب.
2- إيجازها النسبي واستيعابها لعامة ما يحتاج القارئ إلى معرفته من الأحكام الأدائية العامة أصولا وفرشا في الروايتين: رواية ورش ورواية قالون وعن نافع إمام أهل المدينة النبوية.
3- اختصاصها بتلخيص قواعد القراءة التي عليها المغاربة وعلى الأخص في إفريقية والقيروان والمغرب
__________
(1) - يمكن الرجوع في ذلك إلى بحث للأستاذ سعيد اعراب بعنوان "نظرة عن التراث القرآني حول مقرأ نافع "نشر بمجلة دعوة الحق العدد 273 السنة 1989.
(1/61)
4- تمثيلها الصحيح لمذاهب المدرسة القيروانية في الأداء وفي مسائل الخلاف، في مقابل المدارس الأندلسية "مدارس الأقطاب" التي تمثلها بعض المنظومات التي ظهرت بعدها كالشاطبية والبرية وغيرهما.
5- قيمتها التعليمية المتمثلة في اشتمالها في الغالب على القاعدة معززة بأمثلتها مع خفة الروح في عرضها.
6- يسرها وإمكانية حفظها من طرف المتعلمين، إما دفعة واحدة في الألواح، وإما بإدراجها في ألواح المتعلمين كلما كان في اللوح ما يتطلب معرفة حكم من أحكام الأداء، على النحو المعمول به إلى الآن(1).
ولقد انعكست العناية بها في مظاهر عديدة يمكن إجمالها فيما يلي:
1) في روايتها بالإسناد بالعرض أو السماع المتصل إلى ناظمها.
2) في حفظ متنها وتحفيظها للناشئة مع شرح مقاصد الناظم فيها.
3) في وضع الشروح عليها ومناقشة أحكامها.
4) في الاستدلال بها في المصنفات المؤلفة في أحكام الأداء وأصول روايتي ورش وقالون.
5) في معارضتها والنظم على منوالها.
ولا يتسع المجال لتفصيل الحديث عن جميع هذه النقط، ولذلك نكتفي ببعض الإشارات المفيدة في كل نقطة.
روايتها وأهم أسانيدها
فأما روايتها بالإسناد فقد رأينا في أصحابه أسماء عدد ممن سمعها منه مباشرة، وقد بقيت لنا في فهارس جماعة من العلماء وكتبهم طائفة من سلاسل الإسناد التي كانت تروى بها إلى أواخر المائة العاشرة.
__________
(1) - ما يزال العمل على هذا عند المقرئين في الجنوب المغربي عامة حيث تكون النصوص (الأنصاص) المتعلقة بالعدد أو الرسم والضبط أو بأحكام الأداء أو التجويد أو باختلاف القراءات مناسبة لما في اللوح من القرآن.
(1/62)
فقد أسندها العلامة أبو بكر بن خير قال: حدثني بها الشيخ الإمام أبو داود سليمان بن يحيى بن سعيد المعافري المقرئ ـ رحمه الله ـ قراءة مني عليه في قرطبة(1) في المحرم سنة 539، وحدثني بها عن ناظمها أبي الحسن الحصري المذكور قراءة منه عليه بمدينة طنجة حرسها الله"(2).
وأسندها العلامة القاسم بن يوسف التجيبي السبتي (ت 730) قال:
"عرضتها على ظهر قلب بالمكتب على سيدي الخطيب الصالح أبي زيد بن صاب رزقه ـ رحمه الله ـ مرات ذوات عدد، وهي مائتا بيت وتسعة أبيات، وأجازها لنا في الجملة الخطيب أبو عبد الله بن صالح بحق قراءته لها على الخطيب أبي القاسم بن الوالي بقراءةه لها على ابن سعادة المعمر وعلى أبي عيسى بن الخصم بفراءتها على ابن هذيل بسماعه من أبي محمد بن سمجون السرقسطي بحق قراءته على ناظمها.
"ويحملها أيضا ابن سعادة وابن الخصم عن أبي الحسن بن النعمة عن أبي القاسم خلف بن محمد بن صواب عن الحصري رحمهم الله أجمعين"(3).
وأسندها من أهل الاندلس أيضا الإمام أبو عبد الله المنتوري ت (834) قال في فهرسته:
"قرات جميعها على الراوية أبي زكرياء يحيى بن أحمد بن السراج، وحدثني بها عن الشيخ الحاج الرحال أبي يعقوب يوسف بن الحسين بن أبي بكر التسولي قراءة، عن الراوية شمس الدين ابي عبد الله محمد بن جابر الوادي آشي سماعا، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن احمد بن حيان الاوسي قراءة بتونس، عن الخطيب أبي محمد بن برطلة عن أبي محمد غلبون بن محمد بن غلبون الأنصاري قراءة بمرسية، عن أبي الحسن علي بن محمد بن النعمة قراءة، عن أبي القاسم خلف بن محمد بن صواب، عن ناظمها قراءة"(4)
__________
(1) - تقدم أنه كان يقرئ القرآن ويدرس العربية بمسجد ابن السقاء من قرطبة وهو مسجد العطارين.
(2) - فهرسة ابن خير 74.
(3) - برنامج التجيبي 42ـ43.
(4) - فهرسة المنتوري لوحة 18.
(1/63)
ثم أسندها من طريق القاضي أبي بكر أحمد بن محمد بن جزي بسنده إلى الخطيب أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن القيسي القيرواني عن ناظمها"(1).
وأسندها من المشارقة من أهم طرقها الأندلسية الحافظ ابن الجزري فقال في النشر:
"أخبرنا بها شيخنا أبو المعالي محمد بن أحمد بن اللبان سماعا لبعضها وتلاوة لجميع القرآن، قال: أخبرنا أبو حيان تلاوة، أخبرنا أبو علي بن أبي الأحوص سماعا، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن علي بن الفحام، أخبرنا أبو علي بن زلال الضرير، أخبرنا ابن هذيل، أخبرنا أبو محمد السرقسطي".
وقال أبو حيان: "قرات على أبي الحسين بن اليسر، أخبرنا أبو عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو جعفر بن حكم وأبو خالد بن رفاعة، قالا: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن علي بن الباذش، أخبرنا أبو القاسم خلف بن صواب، قالا أعني ابن صواب والسرقسطي: أخبرنا الحصري".
قال ابن أبي الأحوص: وأخبرنا به مشافهة الحاكم أبو عبد الله محمد بن الزبير القضاعي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن النعمة، أخبرنا ابن صواب، أخبرنا الحصري".
"قال أبو حيان: وعرضتها عن ظهر قلب على معلمي عبد الحق بن علي الوادي آشي، وكتب إلي الشريف أبو جعفر أحمد بن يوسف الشروطي ـ أي صاحب الاحكام ـ عن أبي محمد بن بقي، عن الحصري"(2).
__________
(1) - المصدر نفسه.
(2) - النشر في القراءات العشر 1/96.
(1/64)
وأسندها من المغاربة في أواخر المائة التاسعة أبو عبد الله بن غازي (ت 919) فقال في سياق حديثه عن مروياته عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن يحيى بن أحمد بن السراج المذكور في إسناد الإمام المنتوري: "أخبرني بها عن أبيه عن جده عن القاضي ابن مسلم(1) عن ابن سليمان(2) عن أبي علي بن الناظر(3) عن أبي عبد الله بن علي بن الزبير القاضي الخطيب القضاعي عن أبي الحسن بن عبد الله بن النعمة البلنسي، عن أبي القاسم بن صواب(4) عن ناظمها"(5).
ولعل في هذه الامثلة المتنوعة ما يكفي في الدلالة على مبلغ حرص الأئمة على روايتها والمحافظة على اتصال السند بها في جملة ما كانوا يحرصون على إسناده من علوم وآثار.
ـ وأما عنايتهم بحفظها وتحفيظها للناشئة وشرح مقاصد الناظم فيها لهم فهي متضمنة في استمرار الحرص على روايتها، ولقد كانت منذ ظهورها من المصادر الأساسية في تلقين أصول الاداء، ولذلك كانت تحفظ للناشئة في الكتاتيب كما رأينا في قول القاسم التجيبي بالنسبة لسيتة وأبي حيان بالنسبة لغرناطة، ثم أخذت مكانها بين مصادر الدراسة المعتبرة فيما عرف فيما بعد بـ"الكراريس" وهي المتون المعتمدة في تدريس مختلف الفنون(6).
__________
(1) - هو أبو محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن مسلم سيأتي ي أصحاب أبي الحسن بن سليمان القرطبي.
(2) - هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سليمان القرطبي شيخ الجماعة بفاس سيأتي.
(3) - هو أبو علي بن أبي الأحوص الآنف الذكر.
(4) - تحرف إلى "ابن"صواف" بالفاء وعلق المحقق بأنها مصوبة بهامش إحدى السخ "صواف" بالفاء.
(5) - فهرسة ابن غازي 97.
(6) - يمكن الرجوع في موضوع الكراريس التي كانت تدرس بالقرويين والأوقال المرتبطة بها إلى بحث للأستاذ محمد المنوني في حلقات بعنوان "أوقاف بدون كرسي على مواضع معينة بجامعي القرويين والأندلس ـ الحلقة الثالثة المنشورة بمجلة دعوة الحق المغربية العدد 6 السنة 1966.
(1/65)
وقد ذكر أبو زيد بن القاضي في أول باب الراءات من شرحه على ابن بري أن الناس كانوا بفاس يقرأون حرف نافع من "الحصرية" قبل قدوم الناظم ـ يعني أبا الحسن بن بري ـ إليها وقبل قدوم تأليفه ـ يعني "الدرر اللوامع ـ "حتى باب الراءات فيقرأونها من الحرز".
ولا يخفى أن عدولهم عن الحصرية إلى "حرز الأماني" للشاطبي في باب الراءات إنما سببه التزام الحصري في هذا الباب بالأصول الأدائية التي أخذت بها مدرسته كترقيق راء قرية ومريم وبين المرء وتفخيم وزر أخرى ووزرك وحذركم ونحو ذلك مما يخالف المذهب الرسمي الذي اعتمدته المدرسة المغربية واخذت فيه باختيارات أبي عمرو الداني وأصول مدرسته كما سياتي عند الشاطبي وابن بري بعون الله.
وأما وضع الشروح عليها وتبيين مقاصدها ومناقشة الناظم في كثير من قضاياها فقد نالت كلها من العناية نصيبا وافيا يتناسب ومكانتها وشغف أهل هذا الشان بها، إلى أن زاحمتها في الميدان منظومات أخرى استأثرت بالاهتمام الأكبر، وعلى الأخص منظومتا الشاطبي وابن بري اللتان استحوذتا على السواد الاعظم من القراء، واستنفذنا معظم الجهود التي كان يبذلها مشايخ العلم وأئمة الإقراء كما سنقف عليه فيما نستقبله من هذا البحث بعون الله.
أما الشروح التي وضعت عليها فهي عديدة، إلا انها ـ فيما عدا يسيرا منها ـ تعتبر في حكم المفقودة، وهذه أسماء بعض شروحها وشراحها مما وقفت على ذكر أو النقل عنه :
شروح القصيدة الحصرية:
1- شرح أبي جعفر أحمد بن علي بن الباذش صاحب "الإقناع " (ت 540)
تقدم ذكره في آثاره نقلا عن بعض شراح الدرر اللوامع كالمنتوري وابن القاضي وغيرهما، وهو مفقود فيما أعلم.
2- شرح أبي الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطفيل العبدي (العبدري) الاشبيلي يعرف بابن عظيمة (543)
(1/66)
واسم هذا الشرح "منح الفريدة الحمصية في شرح القصيدة الحصرية"، بهذا العنوان ذكره ابن خير الاشبيلي وقال: "حدثني به إجازة في جملة رواياته وتواليفه رحمه الله"(1)، وبه سماه ابن عبد الملك(2) وسقط عند ابن الأبار والمقري لفظ "منح"(3)، ونقل عنه المنتوري أو أشار إليه في أماكن كثيرة من شرح الدرر اللوامع.
وقد أشرت في أول هذا البحث إلى وصول هذا الشرح إلينا مخطوطا في نسخة فريدة لا أعلم لها ثانية وهي بخزانة ابن يوسف بمراكش(4)، واوله قوله:
"قال أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الطفيل العبدري قرن الله التوفيق بقوله، ولا وكله ساعة إلى قوته وحوله: الحمد لله الذي علمنا كتابه، وفهمنا خطابه، ووعدنا بفضله ثوابه، وحذرنا بكرمه عقابه، وسوغنا عميم أفضاله وانعامه، ووسمنا بسيما حاملي كلامه، وإياه أسأل أن يجعلنا ممن قرأه فتدبر، وعمل بما فيه وتبصر، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله...
"ولما رأيت بهاء الذكر في التأليف، رغبت أن يتهيأ لي غرض يخرج(5) التصنيف، وقد كان رغب إلي من الأتراب، من قد واريناه في التراب، في شرح قصيدة أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري ـ رحمه الله ـ إذ كانت في روايتي عن أبي الحسن بن بليمة الاسكندري، حدثني بها بالاسكندرية عن مؤلفها إجازة".
__________
(1) - فهرسة ابن خير 74.
(2) - الذيل والتكملة 6/359ـ361 ترجمة 952.
(3) - التكملة 1/445ـ446 ترجمة 1281 ونفح الطيب 2/355 ومثله في إيضاح المكنون للبغدادي 1/189.
(4) - رقم المخطوطة 298، وتقع في صفحة 240 من القطع المتوسط بخط مغربي جيد مقروء في الجملة والخروم نادرة فيه مع عتاقة النسخة، وتاريخ نسخها يوم الثلاثاء 15 ذي القعدة عام 728، وليس فيها ذكر لاسم الناسخ ولا لعنوان التأليف وقد قام بتحقيق هذا الشرح بعد كتابتي لهذه الدراسة الأستاذ توفيق عبقري من مراكش وحصل به على دبلوم الدرسات العليا وأهداني نسخة منه شكر الله له.
(5) - كذا، ولعل في العبارة سقطا.
(1/67)
وحين تأملتها رأيت ناظمها قد أودع القصيدة جملا لم يحتج إلى بسطها لفهمه، وقياسات لم يستوف حدها في كلمه، فاستخرت الله تعالى واستعنته، وسألته الإنجاد(1) فيما رغب إلي فيه ورغبته، فعسى دعوة من تائب يحظى بها حيا وميتا".
"ونثلت القصيدة في كتابي هذا بيتا بيتا، ليكون جامعا لكلامه وكلامنا، مفيدا لمن رغب في نظمه أو نظامنا، ومن كره كلامنا لحسد عرض في النفس، وكان له في تلك القصيدة غرض وانس، نفقت سلعتها ببيان تلك، وكانت كخرزة في سلك(2).
ثم ذكر المؤلف ضرورة المعرفة بمخارج الحروف لفهم ما سيأتي في القصيدة، فبدأ بعقد باب لها فقال: "باب نذكر فيه مخارج حروف المعجم"، ثم ذكرها واتبعها بباب آخر بعنوان "باب صفات الحروف" ثم بعد البابين بدأ بعرض المقدمة النثرية التي استهل بها الحصري قصيدته دون تعرض لها بشرح أو تعليق ثم ذكر الأبيات الأولى من القصيدة إلى قوله "فوائد تغني القارئين عن المقرئ" فقال:
"قلت ـ معتصما بالله ـ: "قول أبي الحسن" من الشعر ".... فشرح معاني الأبيات ثم انتقل إلى قوله:
وأذكر أشياخي الذين قرأتها ... عليهم فأبدا بالإمام أبي بكر
فقال: "حروف القراءة لم تترك سدى، بل نقلتها أئمة هدى، فحق على من روى ان ينشر قراءته وأسانيده، ويظهر روايته وتقييده، ففي الرجال الثقة المحسن، وفيهم الضعيف الوهن، وما ضره أن ذكر مدة قراءته على من اختلف إليه، كما نفعه أن شكر نعمة من أنعم عليه، كذا كان الناس المقصر في أوصافهم، "ذهب الذين يعاش في أكنافهم"(3)، .. ثم أخذ في التعريف بمشايخ الحصري الثلاثة المذكورين في القصيدة.
وهكذا تابع حل أبيات القصيدة مبينا أحيانا ما قرأ به كقوله في باب البسملة عند ذكر السكت والوصل:
__________
(1) - في الأصل "الاستنجاد".
(2) - ورقة 1ـ2.
(3) - هو شطر بيت مشهور ينسب إلى أمير المومنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والبيت بتمامه:
... ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب.
(1/68)
"فاما ورش من طريق أبي يعقوب فلم يرو عنه الفصل ما بين السورتين ـ يعني بالبسملة ـ ورواها عنه أحمد بن صالح، وبعض القراء يفصل بها بين السورتين في رواية أبي يعقوب لفضلها وبعض يتركها فيه، وبهما قرأت له(1).
وقال عند ذكر التسمية وتركها في أول الأجزاء: "ولم أقرأ في افتتاح الأجزاء ببسملة، وقد نص عليها بعض شيوخنا، ووجهه عندي أنه جعل البسملة شرطها الابتداء للفضل، لا أنه أتى به بين السورتين للفصل، وعلى الوجه الاول الغالب من المؤلفين"(2).
وهكذا تابع شرحه بابا بابا إلى ان انتهى من القصيدة فقال: قال ابو الحسن وفقه الله وتاب عليه: رايت أن أضيف إلى هذا الباب يعني الياءات الزائدة ـ ما اتفق القراء على إثبات الياء فيه في الوصل والوقف، البقرة و"اخشوني ولأتم"، وإن الله ياتي بالشمس.... ثم قال بعد تمامها واتفق القراء على حذف الياء في الوصل والوقف في كلمات، وجملتها سبعون كلمة، في البقرة "وإياي فارهبون" "وإياي فاتقون"... ثم قال في تمامها، فهذه جملتها، قرأ القراء السبعة بحذفها في الحالين اتباعا لخط المصحف، فاعلم ذلك وبالله التوفيق... قال الناسخ: تم الكتاب والحمد لله رب العالمين، وذكر تاريخ النسخ.
3- شرح الحصرية لمحمد بن أحمد بن محمد الانصاري القرطبي
ترجم ابن عبد الملك وقال: روى عن أبي القاسم خلف بن عبد الله(3) بن صواب وأبي مروان إسماعيل بن محمد بن سفيان(4)، وكان مقرئا مجودا عارفا بالقراءات، قال:
"وله شرح على قصيدة أبي الحسن الحصري في قراءة نافع لا بأس به"(5).
__________
(1) - ورقة 2.
(2) - ورقة 13.
(3) - كذا ولعل الصواب كما تقدم خلف بن محمد بن صواب.
(4) - هو إسماعيل بن محمد بن سفيان السلمي أبو علي من ناحية دانية، من أصحاب أبي العباس أحمد بن أبي عمرو الداني، أخذ بدانية القراءات عنه، وأقرأ بها ـ ترجمته في التكملة 1/81 ترجمة 479.
(5) - الذيل والتكملة 6/59 ترجمة 127.
(1/69)
ولا أعلم لهذا الشرح وجودا الآن، ولا رايت من نقل عنه، إلا ان قول ابن عبد الملك الأخير يدل على أنه وقف عليه في زمنه.
4- شرح الحصرية لأبي عمرو مرجى بن يونس بن سليمان بن عمر بن يحيى الغافقي المرجيقي نسبة إلى "مرجيق"
بغرب الأندلس، ترجم له ابن الأبار وقال: "كان من أهل المعرفة بالقراءات والعربية، وله شرح في قصيدة الحصري في القراءات أخذ عنه وسمع منه، وقد أقرأ بسبتة وطنجة، وبها كان ساكنا"(1).
وقال أبو جعفر بن الزبير: "أقرا القرآن والعربية والأدب، وكان ممن أخذ عن ابن خير وابن عياض الشلبي، وعمر وقرأ عليه الآباء، والأبناء، أخذ عنه أبو الحسن الغافقي(2) وأبو الخطاب بن خيل، وكان فاضلا من أهل الخير، وفيه دعابة مستحسنة، شرح قصيدة الحصري في قراءة نافع، ومات في حدود 600(3).
أكثر من النقل عنه المنتوري في شرحه على ابن بري، ومن نقوله عنه قوله مثلا في باب الإدغام:
"وقال المرجيقي في شرح الحصرية: وعلة قلب النون الساكنة والتنوين ميما إذا لقيتهما باء، أن الميم مواخية للباء لأنها من مخرجها، مشاركة لها في الجهر، والميم أيضا مواخية للنون في الغنة وفي الجهر، فلما وقعت النون قبل الباء ولم يمكن إدغامها في الباء لبعد ما بين مخرجيهما، وبعد إظهارها لما بين النون واخت الباء من الشبه، وهي الميم، أبدلت منها حرفا مواخيا لها في الغنة، ومواخيا للباء في المخرج وهو الميم، ألا ترى أنهم لم يدغموا الميم في الباء مع قرب المخرجين والمشاركة في الجهر، نحو قول الله تعالى "وهم بربهم"(4).
ونقل عنه أبو الفضل بن المجراد السلوي وابن القاضي في شرحيهما على الدرر في مواضع منها قول أبي الفضل ـ أعني ابن المجراد ـ عند قول ابن بري:
والخلف في المد لما تغيرا ولسكون الوقف والمد أرى
__________
(1) - التكملة 2/725 ترجمة 1837.
(2) - تقدم ذكره في مشيخة الإقراء بسبتة.
(3) - نقله السيوطي في بغية الوعاة 2/284 ترجمة 1988.
(4) - شرح المنتوري لوحة 112ـ213.
(1/70)
"قال الأستاذ أبو عمرو بن يونس في شرحه لقصيدة الحصري ـ رحمه الله تعالىـ:
"والمد عندي مع التسهيل أقوى وأقيس منه مع الحذف، لأن التسهيل بين بين يبى معه بعض الهمزة، بخلاف الحذف فإنه لم يبق منها معه بقية"(1).
5- شرح الحصرية لأبي عبد الله محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان المعافري الشاطبي يعرف بابن أبي الربيع نزيل الاسكندرية (585ـ672)
ومؤلفه مقرئ جليل، ترجم له ابن عبد الملك وقال: أفتى بالاسكندرية ودرس وصنف فيما كان يتولاه من العلوم"(2).
قال ابن الجزري:
"قرأ الروايات على محمد بن عبد العزيز بن سعادة، وقدم الاسكندرية فسمع من السلفي، وقرأ بها.." (3).
ومن مؤلفاته "شرف المراتب والمنازل، في معرفة العالي من القراءات والنازل"(4) ومنها: "المباحث السنية في شرح الحصرية"(5)
6- شرح القصيدة الحصرية لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن داود بن مطروح السريني من أهل المائة السابعة واسمه: "إبداء الدرة الخفية في شرح القصيدة الحصرية".
ولا اعلم لهذا الشرح وجودا في الوقت الحاضر، وإنما يوجد منه تقييد في بعض الخزائن المغربية(6). وقد كان من الشروح المعتمدة في مسائل الخلاف بين الأئمة في قراءة نافع، وقد انفرد في توجيه أصول الأداء بآراء حكيت عنه، منها قوله عن الراءات " أصلها الترقيق، وإنما فخمت لشبهها بحروف الاستعلاء"(7).
__________
(1) - إيضاح الأسرار والبدائع لأبي الفضل بن المجراد (مخطوط) والفجر الساطع لأبي زيد بن القاضي (مخطوط).
(2) - الذيل والتكملة 6/220 ترجمة 647.
(3) - غاية النهاية 2/149 ترجمة 3044.
(4) - إيضاح المكنون 2/47ـ48.
(5) - نفح الطيب 2/340ـ341 وهدية العارفين 2/129 وإيضاح المكنون 2/422 والحلل السندسية 3/387.
(6) - يوجد بالخزانة الناصرية بتمكروت في مجموع برقم 1465.(دليل دار الكتب الناصرية 105 لمحمد المنوني).
(7) - ذكره ابن القاضي في أول باب الراءات من الفجر الساطع.
(1/71)
وقد أشار أبو كيل ميمون إلى مذهبه فقال: وبعضهم عكس هذا النقلا ... واتخذ الترقيق في الرا أصلا
لشبه حرف الراء بالمستعلي ... ... عن ابن مطروح أتى في النقل(1)
وقد نقل عنه شراح الدرر بعض آرائه وفوائده، وبسط الكثير منها بلفظه الشيخ عبد الرحمن بن محمد الثعالبي في شرح الدرر اللوامع المسمى بـ"المختار من الجوامع، في محاذاة الدرر اللوامع "فنقل عنه في مواضع كثيرة أكتفي منها بما قاله في باب الهمز بعد أن ذكر قول الحصري:
"ولا تهمزن ما كانت الواو أصله كقولك في "الإنسان" يوفون بالنذر".
قال الثعالبي: قال شارحه محمد بن داود بن مطروح: يريد لا تهمز لقالون من الأفعال المستقبلة إلا ما كان أصله الهمز، يريد في الماضي، ولا تهمزن له منها ما كان أصله واوا أو ياء، وذلك أنه متى أشكل ذلك عليك ولم تدر ما أصل الفعل من ذلك رددته إلى ماضيه، فإن وجدت فاء الفعل منه همزة همزت مستقبله، وذلك نحو "ءامن يؤمن"، و"آتى يؤتي" و"آثر يؤثر"، وكذلك "أكل يأكل"، و"أخذ يأخذ"، وكذلك "استأجر يستأجر" وأشباه ذلك، وإن اختبرت ماضي الفعل فوجدت فاء الفعل منه ياء أو واوا فلا سبيل إلى همز مستقبله بوجه، نحو "يوفون" و"يوفضون" و"يوقنون" و"موسعون" و"يوعدون" وشبه ذلك، ألا ترى أنك تقول في الماضي من ذلك أوفى وأوفض وأوسع وأوعد وأيقن، وكذلك ما أشبهه، وإن كانت الكلمة اسما لم يخل ذلك الاسم أن يكون جاريا على فعل أو غير جار، فإن كان جاريا نظرت إلى الفعل الذي يجري عليه واعتبرته بما تقدم، مثل "موجلا" و"المولفة" وشبه ذلك، وإن كان غير جار على فعل نظرت اشتقاقه، فإن لم تعرف اشتقاقه وقفت عند السماع والرواية، على هذا الأصل تقيس جميع ما خفي عليك من كل ساكن يعرض لك فأشكل أمره ـ انتهى كلام ابن مطروح ـ"(2).
__________
(1) - تحفة المنافع لميمون الفخار (مخطوط) وسيأتي.
(2) - المختار من الجوامع 49ـ50.
(1/72)
ونقل ابن القاضي في الفجر الساطع عنه في باب المد ما يفيدنا في تقدير الزمن الذي عاش فيه، إذ جاء في خبر عنه انه التقى في رحلته إلى الحج بالمقرئ الكبير الذي ترجمنا له في المتصدرين بسبتة أبي الحسن على بن محمد بن عبد الله الكتامي الضرير (591ـ676) قال ابن مطروح:
"ولقد لقيت في رحلتي إلى المشرق مقرئا أعمى في جامع تلمسان يأخذ بالتمطيط الزائد والتفكيك(1) المفرط، وكان مده في "ألم" بقدر ما يبلغ نفسه، لا يزيد على ذلك إلا الذال من "ذلك" ليبتدئ بها ثم انتقل إلى سبتة وأقرأ بها، كان يعرف ـ فيما ذكر لي ـ بابن الخضار، قال ـ يعني ابن مطروح ـ:
"وهذا هو الذي أنكره أئمة القراء، إلا أن يكون على وجه الرياضة، فقد روي أن سفيان الثوري مر على حمزة وهو يأخذ بالتمطيط الزائد والتفكيك(2) المفرط فقال: ما هذا يا أبا عمارة؟ فقال: إنها رياضة للمتعلم فقال: صدقت(3)، فكان بعض السلف يأخذ بذلك على سبيل الرياضة، لا على سبيل الحقيقة"(4).
7- شرح الحصرية للجوهري
ويظهر أن الشارح من أهل الأندلس من أهل الثامنة، ولم اهتد إلى معرفته، ينقل عنه المنتوري وابن القاضي في شرحيهما على ابن بري.
ومن فوائده التي نقلها عنه المنتوري قوله في باب البسملة عند ذكر كتابة سورة "براءة" دون بسملة: قال الجوهري في شرح الحصرية: "إن من سيرة العرب في الجاهلية إذا كان بينهم وبين أحد عهد، وأرادوا نقضه، كتبوا إليهم كتابا دون بسملة، قال ـ فكذلك كتب إليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابا فقراه عليهم علي بن أبي طالب دون بسملة في الموسم، على حال ما جرت به عادتهم في الجاهلية"(5).
8- شرح الحصرية لابن وهب الله
__________
(1) - كذا ولعله "التمكين" أي زيادة المد.
(2) - نفسه.
(3) - انظر قول حمزة في جمال القراء لعلم الدين السخاوي 1/471.
(4) - نقله في الفجر الساطع لوحة 20.
(5) - ذكره المنتوري في آخر باب البسملة.
(1/73)
ويظهر أيضا أنه من اهل الثامنة، ينقل عنه المنثوري معطوفا على الجوهري المذكور قبله، ويفرده بالذكر قليلا كقوله في باب الراءات: قال ابن وهب في شرح الحصرية:... ثم ذكر الخلاف في "ولو أراكهم" في سورة الانفال(1).
وذكره ابن القاضي في باب الإمالة عند ذكر إمالة الاسم المقصور المنون نحو "قرى" و"هدى" في حالة الوقف فقال: "وذكر ابن الطفيل والمرجيقي وابن وهب الله في شروحات الحصرية، وابن القصاب في تقريب المنافع الفتح مطلقا، والإمالة مطلقا"(2).
9- شرح الحصرية لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الاموي الشهير بالخراز صاحب مورد الظمآن (718)
ذكره للمؤلف عامة من ترجموا له من شراح المورد، وقال شارحه الاول أبو محمد بن أجطا: "وله شرح على الحصرية أخبرني به رحمه الله"(3).
10- الحصرية لابن الأشيري:
وهو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الصنهاجي يكنى أبا محمد ويعرف بابن الأشيري سمع من أبي بكر بن العربي وغيره بالأندلس. قال ابن الأبار: وكان كاتبا لصاحب المغرب.. ثم قال:
وله شرح في قصيدة الحصري . وتوفي في شهر رمضان سنة 561(4).
هذه هي الشروح التي وقفت على ذكرها أو النقل عنها.
إشعاعها في مؤلفات الأئمة ومعارضتها:
وأما الاستدلال بها في المؤلفات واعتماد مذاهبها وعلى الأخص عند شراح الدرر اللوامع وحرز الأماني، فأمر عام يصعب تتبعه واستقصاؤه، إذ نجد جماعة منهم قد التزموا ذلك في عامة الأبواب الأصولية كما نجده عند المنتوري وابن القاضي ومسعود جموع وجماعة، كما استدل به أو ناقش بعض مذاهبه عامة من نظموا في أصول رواية ورش كقول أبي العباس التازي في أرجوزته "الدرة السنية":
"فرق لحصري بترقيق أتى ... وعنه في حيران عكس ذا أتى
وكقول الإمام القيسي في "الأجوبة المحققة":
__________
(1) - شرح المنتوري لوحة 227.
(2) - الفجر الساطع (باب الإمالة).
(3) - التبيان في شرح مورد الظمآن (مخطوط).
(4) - التكملة: 2/304ـ305 ترجمة 878.
(1/74)
وتفخيم راء "القطر" باق لطائه ... وللحصري الأسنى النبيل مضى الضد(1)
وقول الإمام أبي العلاء إدريس بن عبد الله الودغيري المعروف بالبكراوي في قصيدة له جوابية:
فأولها را "المرء" مريم "قرية" ... فلا تجهلن فهي كالأنجم الزهر
وللحصري فيها كلام بعيد ذا ... سأذكره، وذاك بيتان من شعر:
"وإن سكنت والياء بعد كمريم ... فرقق، وخطئ من يفخم عن قهر
ولا تقر راء المرء إلا رقيقة ... لدى سورة الأنفال أو قصة السحر"
ولكن أخذنا بتفخيمها جرى ... كما نصه الشيخ الإمام أبو عمرو(2)
وأما معارضتها أو النظم على منوالها فيمكن الوقوف على بعض الأمثلة منه عند طائفة من الأئمة منهم الإمام الأشيري(3)، وقد نقل الإمام المنتوري من قصيدته أبياتا متفرقة في شرحه على الدرر اللوامع وتبعه ابن القاضي كقوله في باب الراءات:
ولكن ذكرى الدار مع شبه لها ... بدا رققت للضعف في الكاف والكسو (4)
وكقوله عند ذكر الاشمام:
وقد قرا القراء طرا ونافع ... باشمام "تامنا" أمنت من الشر(5)
__________
(1) - سيأتي ذكر هذه الأبيات في جملة النماذج التي نذكرها من آثار القيسي بعون الله.
(2) - من جملة قصيدة للناظم المذكور ذكرها في كتابه "التوضيح والبيان في مقرأ الإمام نافع بن عبد الرحمن" ص 66.
(3) - لعل المراد به عبد الله بن محمد ن عبد الله بن علي الأشيري أبو محمد المغربي نسبة إلى أشير مدينة قبالة بجباية بالجزائر كان يخدم في بعض الأمور بدولة عبد المومن الموحدي ثم هاجر إلى المشرق ونزل حلب وحظي هناك توفي سنة 561 ـ ترجمته في انباه الرواة للفقطي 2/137ـ141 ترجمة 355.
(4) - شرح المنتوري 251.
(5) - الفجر الساطع 145 (مخطوط).
(1/75)
ومنهم صاحب "القصيدة الحسنية، المتضمنة لقراءة نافع السنية"(1)، وقد نقل عنها ابن القاضي في باب المد قوله:
"وأما "تواخذنا" والن" مكرر ... بيونس في التقدير منها وفي القدر
والاولى لدى والنجم فاقرأ لنافع ... بها دون تمكين سقيت حيا القطر
ومن معارضاتها قصيدة الوقف المسماة أيضا بالأجوبة المحققة للإمام القيسي الآتية التي أولها قوله:
أيا طالبا في الوقف حكما ممهدا ... على كل حرف حين يتلى من الذكر(2)
ومنها القصيدة المسماة "بستانة المبتدي "لمحمد بن إبراهيم البوجرفاوي المعروف بأنجار، وأولها قوله:
بدأت باسم الله ثم صلاته ... على أحمد المبعوث للعبد والحر(3)
إلى غير ذلك مما نجده عند المغاربة من النظم على منوالها أو في موضوعها على وزنها ورويها.
أما العناية بالقصيدة عند المشارقة فتتجلى في كتبهم، وقد تمثل بعضها فيما هو متداول منها كإبراز المعاني لأبي شامة(4) والنشر لابن الجزري ومنجد المقرئين له(5) ولطائف الإشارات للقسطلاني(6) وغيرها.
خاتمة:
وهكذا كان للإمام الحصري من خلال هذه القصيدة عظيم الفضل في التعريف بمذاهب مدرسته وتخليد اختياراتها الادائية في ساحة الإقراء وفي مؤلفات القراء، كما كان له عظيم الفضل في ترسيخ المعرفة بأصول قراءة نافع من روايتيها المشهورتين، على النحو السائر الذي كان عليه أهل المغرب في زمنه قبل أن تستحوذ على الميدان مدرسة أبي عمرو الداني وأصحابه عن طريق التيسير والشاطبية وأرجوزة ابن بري وغيرها.
__________
(1) - لم يذكر ابن القاضي مؤلفها وإنما قال: "وقال في القصيدة الحسنية.. إلخ، وقد رجحت آنفا أنها من نظم أبي العباس أحمد بن محمد الحسني صاحب كتاب "نظم الفريد، في أحكام التجويد" توفي سنة 737 له ترجمة في درة الحجال 1/28 ترجمة 30.
(2) - ستاتي كاملة في ترجمته.
(3) - مخطوطة خاصة .
(4) - براز المعاني 53ـ87ـ88ـ92 .
(5) - النشر 1/96ـ335ـ346ـ 2/102ـ110ـ124ـ194، منجد المقرئين 4.
(6) - لطائف الإشارات 1/335.
(1/76)
وبهذا استطاع الحصري بهذه المأثرة الفنية الباقية التي خلفها من بعده أن يتدارك هذه المدرسة بما حفظ أصولها ومقوماتها التي خلدت ذكرها في الأنفس والآفاق، وان يمثل في آخر هذا الطور من أطوار القراءة في المنطقة ـ وهو طور التأصيل والنضج ـ أوثق الصلات بين مدارس الأقطاب في هذه الجهة وبين طور التلاقح أو التنظير والموازنة بين المدارس والاتجاهات، سعيا نحو تحقيق وحدة قرائية عامة ظلت المناطق المغربية تطمح إليها وتسعى نحوها، وذلك باعتماد هيئة متحدة أو متقاربة في الأداء يأخذ بها التالون لكتاب الله في جميع أطراف البلاد، ويتبلور من خلالها الطراز المغربي المتميز بحدوده الواضحة ومعالمه البارزة.
وسوف نرى في الحلقات التالية نماذج من هؤلاء الأئمة الذين كان الحصري في مقدمتهم، ممن تمت على أيديهم هذه النقلة الهائلة نحو توحيد طرق الأداء على أنماط معينة، واختصوا من بين تلاميذ الأقطاب بالقيام التام على مذاهبهم، والبناء العتيد على أصولهم، والتبريز المكين في حمل علومهم وتلقينها لمن جاء بعدهم، والبراعة في إبرازها وعرضها في قوالب ملائمة تحقق لها السيرورة والاستمرار، وتيسرها للحفظ والانتفاع.
ولعلنا قد قدمنا للقارئ الكريم من خلال شخصية الإمام الحصري وقصيدته الغراء صورة ناصعة عن جهود رجالات المدرسة القرآنية في المغرب في هذا الطور، وسوف تتلوها إن شاء ربنا صور أخرى فيها الدلالة كل الدلالة على ما توهنا به مما استطاعت هذه المدرسة أن تحققه في هذا الميدان من شفوف قدر وتألق علمي ونبوغ منقطع النظير، وإضافات علمية ملأت الساحة بكل جيد ونفيس. والله عز وجل ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل.
فهرسة المصادر والمراجع المعتمدة في العدد: 13
ـ إبراز المعاني من حرز الأماني (شرح الشاطبية) للحافظ أبي شامة المقدسي تحقيق إبراهيم عطوة طبعة مصطفى البابي بمصر: 1402هـ ـ1982م.
(1/77)
ـ أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر للحافظ السلفي تحقيق إحسان عباس الطبعة 1: 1963م.
ـ الأعلام للزركلي طبعة دار العلم للملايين.
ـ إنباه الرواة على أنباه النحاة لأبي الحسن علي بن يوسف القفطي تحقيق أبو الفضل إبراهيم ـ دار الفكر ـ القاهرة: 1406ـ986.
ـ الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس لعلي بن أبي زرع الفاسي نشر دار المنصور للطباعة ـ الرباط: 1973م.
ـ أوقاف بدون كراسي على مواضع معينة بجامعي القرويين والأندلس بفاس لمحمد المنوني (دعوة الحق، العدد 6: 1966م.
ـ إيضاح الأسرار والبدائع في شرح الدرر اللوامع لمحمد بن محمد بن المجراد السلوي (مخطوط مصور).
ـ إيضاح المكنون في أسامي الكتب والفنون (ذيل كشف الظنون) إسماعيل باشا البغدادي نشر مكتبة الخانجي والمثنى ببغداد.
ـ برنامج القاسم بن يوسف التجيبي تحقيق عبد الحفيظ منصور ـ الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ـ تونس: 1981م.
ـ بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لأحمد بن يحيى الضبي ـ دار الكتاب العربي: 1967م.
ـ بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ بيروت المكتبة العصرية 1384هـ1964م.
ـ البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي ـ تحقيق ليفي بروفنصال ـ دار الثقافة ـ بيروت لبنان.
ـ تاريخ ابن خلدون ـ الطبعة المصرية: 1391هـ ـ1971م.
ـ تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان تعريب الدكتور عبد الحليم النجار ـ دار المعرفة بمصر.
ـ التبصرة في القراءات السبع لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي القيرواني تحقيق الدكتور محي الدين رمضان ط1 الكويت 1405هـ ـ1985م.0
ـ التبيان في شرح مورد الظمآن لأبي محمد بن أجطا (مخطوط خاص).
ـ تحفة المنافع في نظم مقرإ الإمام نافع لأبي وكيل ميمون الفخار (مخطوط خاص).
(1/78)
ـ ترتيب المدارك في معرفة أعلام مذهب الإمام مالك للقاضي عياض بن موسى اليحصبي طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب تحقيق جماعة من الأساتذة.
ـ التكملة لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الأبار القضاعي الأندلسي ـ مكتبة الخانجي بمصر والمثنى ببغداد: 1375هـ ـ1955م.
ـ تلخيص العبارات بلطيف الإشارات في القراءات السبع لأبي علي الحسن بن خلف بن بليمة الهواري القيرواني ـ نشر دار القبلة للثقافة الإسلامية ـ جدة ـ السعودية ط1: 1409هـ ـ1988م.
ـ التجريد لبغية المريد في القراءات السبع لأبي القاسم عبد الرحمن بن أبي بكر بن الفحام الصقلي (مصورة عن مخطوط).
ـ التوضيح والبيان في مقرإ الإمام نافع بن عبد الرحمن المدني لأبي العلاء إدريس بن عبد الله الودغيري البكراوي طبعة فاسية.
ـ التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ط2: 1404هـ ـ1984م.
ـ جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس لمحمد بن فتوح الحميدي ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة: 1966م.
ـ جمال القراء وكمال الإقراء لعلم الدين السخاوي تحقيق الدكتور علي حسين البواب ـ مكتبة التراث بمكة المكرمة: 1408هـ.
ـ الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع لإسماعيل الخطيب ـ منشورات جمعية البعث الإسلامي ـ تطوان: 1406هـ.
ـ الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية لشكيب أرسلان الطبعة الأولى: 1358هـ ـ1939م.
ـ درة الحجال في أسماء الرجال لأبي العباس أحمد بن محمد بن القاضي المكناسي تحقيق محمد الاحمدي أبو النور نشر دار التراث بالقاهرة والمكتبة العتيقة بتونس: 1390هـ ـ 1970م.
ت دليل مخطوطات دار الكتب الناصرية بتمكروت لمحمد المنوني طبعة وزارة الأوقاف المغربية: 1405هـ ـ1985م.
ـ ديوان ابن رشيق القيرواني.
(1/79)
ـ الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لأبي الحسن علي بن بسام الشنتريني الأندلسي تحقيق الدكتور إحسان عباس ـ دار الثقافة بيروت: 1399هـ ـ1979م.
ـ الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد بن شريفة.
ـ رائية الحصري ومنظومات معارضة لرائية الخاقاني لمحمد محفوظ نشر مجلة الفكر التونسية ضمن حوليات الجامعة التونسية ـ العدد1: 1964م.
ـ زهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري تحقيق الدكتور زكي مبارك ـ دار الجيل: ط4 ـ 1972م.
ـ شجرة النور الزكية في طبقات السادة المالكية لابن مخلوف التونسي نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.
ـ شرف الطالب في أسنى المطالب لابن قنفذ (ألف سنة من الوفيات) تحقيق محمد حجي ـ دار المغرب ـ الرباط" 1396هـ ـ1976م.
ـ شرح المنتوري على الدرر اللوامع لمحمد بن عبد الملك المنتوري الأندلسي (مخطوط مصور).
ـ شرح القصيدة الحصرية "منح الفريدةالحصرية" لمحمد بن عبد الرحمن بن الطفيل (مخطوط مصور عن أصل محفوظ بخزانة ابن يوسف بمراكش تحت رقم 298).
ـ الصلة في تاريخ رجال الأندلس لابن بشكوال ـ المكتبة الأندلسية ـ نشر الدار المصرية للتأليف والترجمة: 1966م.
ـ صفة جزيرة الأندلس (منتخبة من كتاب الروض المعطار للحميري) نشر بروفنصال ـ جامعة الجزائر.
ـ ضحى الإسلام للدكتور أحمد أمين ـ مكتبة النهضة المصرية ـ الطبعة 6: 1956م.
ـ علي الحصري ـ دراسة ومختارات لمحمد المرزوقي والجيلالي يحيى ـ الشركة التونسية للتوزيع ط2: 1974م.
ـ غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري ـ دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان: 1400هـ ـ1980م.
ـ الغنية في شيوخ عياض للقاضي عياض تحقيق ماهر زهير جرار نشر دار الغرب الإسلامي ـ لبنان: 1402هـ ـ1982.
ـ فتح الوصيد في شرح القصيد (شرح الشاطبية) لعلم الدين السخاوي (مخطوط).
(1/80)
ـ فهرسة ما رواه أبو بكر بن خير عن شيوخه ـ منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ـ لبنان.
ـ فهرسة ابن غازي تحقيق محمد الزاهي مطبوعات دار المغرب ـ الدار البيضاء: 1399هـ ـ1979م.
ـ فهرسة الإمام المنتوري مخطوطة الخزانة الحسنية بالرباط رقم 1578.
ـفهرسة أبي زكرياء السراج مخطوطة الخزانة الحسنية ـ المجلد الأول ـ رقم 10929.
ـ فرائد المعاني في شرح حرز الأماني لأبي عبد الله بن آجروم الصنهاجي مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 146 ق.
ـ القصيدة الخاقانية في التجويد والقراء لأبي مزاحم الخاقاني رواية أبي الحسن الأنطاكي (مخطوط خاص).
ـ القصيدة الحصرية في قراءة نافع وشرحها للإمام المقرئ محمد بن عبد الرحمن بن الطفيل ابن عظيمة الاشبيلي تحقيق وتقديم توفيق عبقري (بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا في الدراسات الإسلامية ـ السنة الجامعية 1414هـ ت1994). وقد أهداني نسخة من بحثه مشكور ا بعد أن فرغت من البحث في الموضوع وتحريره.
ـ اقتراح القريح واجتراح الجريح لأبي الحسن الحصري مجموعة قصائد في رثاء ولده (انظر الإعلام للزركلي 5/114ـ115).
ـ قصيدة يا ليل الصب متى غده للحصري ومعارضاتها لمحمد المرزوقي والجلالي بن الحاج يحيى نشر الدار العربية للكتاب ط.2: 1986م.
ـ كنز المعاني في شرح الأماني لأبي إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري (مصورة عن مخطوط خاص).
ـ اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة الشاطبية لأبي عبد الله محمد بن الحسن الفاسي مخطوط الخزانة العامة بالرباط رقم 530.
ـ لطائف الإشارات لفنون القراءات (المجلد الأول) لأبي العباس القسطلاني تحقيق الشيخ عامر السيد عثمان وعبد الصبور شاهين ـ القاهرة: 1392هـ ـ1972م.
ـ معالم الإيمان لعبد الرحمن بن محمد الدباغ طبعة تونس: 1920م.
ـ المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي تقديم ممدوح حقي نشر دار الكتاب ـ الدار البيضاء.
(1/81)
ـ معجم أصحاب الإمام أبي علي الصدفي لابن الأبار القضاعي ـ دار الكتاب العربي ـ القاهري: 1389هـ ت1967م.
ـ معرفة القراء الكبار للذهبي تحقيق محمد سيد جاد الحق الطبعة 1: دار الكتب الحديثة بمصر.
ـ منجد المقرئين لابن الجزري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان: 1400ـ1980م.
ـ المطرب من أشعار أهل المغرب لأبي الخطاب بن دحية تحقيق إبراهيم الابياري ومن معه نشر دار العلم للجميع ـ لبنان.
ـ المختار من الجوامع في شرح الدرر اللوامع لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ـ المطبعة الثعالبية بالجزائر 1324هـ.
ـ نظرة عن التراث القرائي حول مقرإ نافع لسعيد أعراب (مجلة دعوة الحق العدد: 273 السنة 1989م).
ـ النشر في القراءات العشر لابن الجزري تصحيح علي محمد الضباع مطبعة مصطفى محمد بمصر.
ـ النجوم الطوالع شرح الدرر اللوامع لإبراهيم المارغني نشر دار الطباعة الحديثة ـ الدار البيضاء.
ـ نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب لأبي العباس المقري التلمساني.
ـ هدية العارفين في أسماء المؤلفين لإسماعيل باشا البغدادي بذيل كتاب كشف الظنون لحاجي خليفة.
ـ وفيات الأعيان لشمس الدين ابن خلكان تحقيق الدكتور إحسان عباس ـ دار الثقافة بيروت لبنان.
فهرس المحتويات
تصدير ... ... ... ... ...
مقدمة : الاتجاهات الفنية وامتداداتها في مدارس الأقطاب من خلال المدارس الأدائية وقصائد النظم التعليمية في عهد الوحدة بين الأقطار المغربية ... ...
الفصل الأول: معالم الاتجاه القيرواني في الأداء في الأندلس والمغرب من خلال مدرسة أبي الحسن الحصري ...
ـ أبو الحسن الحصري: ترجمته وشخصيته العلمية ... ... ... ...
ـ ظروف هجرته ونزوحه عن إفريقية ومجالات تحركه ونشاطه الادبي والعلمي ...
ـ الحصري في مدينة سبتة المغربية وصلته بأميرها البرغواطي ... ...
ـ منزلة الحصري أديبا وقارئا ... ...
ـ تصدره للإقراء واهم المذكورين بالرواية عنه من الأدباء والقراء ... ...
(1/82)
الفصل الثاني: آثاره في القراءات ومذهبه الفني في الأداء من خلالها ... ... ...
ـ لغزه السائر المشهور في واو "سوءات" وأجوبة أئمة الإقراء عليه ...
ـ جواب شريح الرعيني ومن معه على سؤال الحصري ...
ـ جواب الإمام أبي القاسم الشاطبي ...
ـ جواب أبي إسحاق بن الحداد البياتي ...
ـ جواب أبي الحسن علي بن بري التازي ...
ـ جواب الإمام أبي إسحاق الجعبري صاحب كنز المعاني ...
الفصل الثالث: قصيدته في قراءة نافع المعروفة بالقصيدة الحصرية أو الرائية ...
ـ نسخ القصيدة الخطية ...
ـ نص القصيدة الحصرية ومقدمتها النثرية ...
ـ نص القصيدة محققا على عدد من النسخ الخطية ...
الفصل الرابع: أهمية القصيدة الحصرية وانتشارها وعوامل شهرتها وما قام حولها من نشاط علمي ...
ـ دواعي الاهتمام بها ...
ـ روايتها واهم أسانيدها في الأندلس والمغرب والمشرق ...
ـ شروح القصيدة: ...
ـ شرح أبي الحسن بن الطفيل: "منح الفريدة الحمصية" (عرض وتعريف) ...
ـ شرح أبي عمرو بن يونس المرجيقي وما وصل غلينا منه من نقول ...
ـ شرح أبي عبد الله بم مطروح: "إبداء الدرة الخفية" والنقول عنه ...
ـ شرح الجوهري وشرح ابن وهب الله وشرح الخراز ...
ـ إشعاعها في مؤلفات الأئمة ومعارضاتها ...
خاتمة ...
فهرسة المصادر والمراجع ...
سلسلة:
قراءة الإمام نافع عند المغاربة
من رواية ورش
العدد : 14
معالم الاتجاه الأثري في عهد الوحدة
بين الأقطار المغربية من خلال مدرسة الإمام الشاطبي،
وأثره في "ترسيم" الطراز المغربي في القراءة والرسم
حسب اختيارات الحافظ أبي عمرو الداني
تقديم:
(1/83)
شهدت المناطق المغربية في افريقية والأندلس والجهات التابعة لها خلال المائتي عام التي تمثل من تاريخ القراءات بهذه الجهات طور التأصيل والنضج، والتي تمتد ما بين سنتي (350ـ550) هـ تلاقحا واسع المدي بين مختلف المدارس والاتجاهات الفنية في القراءة والأداء كما بسطنا ذلك وتتبعنا امتداداته في الأندلس والمغرب في الفصول المتقدمة، حيث رأينا كيف انطلق من القيروان التيار الأصولي في الأداء من مدارس الأقطاب الستة أبي عبد الله بن سفيان وأبي محمد مكي بن أبي طالب وأبي العباس المهدوي وأبي القاسم الهذلي وأبي علي بن بليمة وأبي القاسم بن الفحام، كما رأينا كيف انطلق في مقابله التيار الأصولي الأندلسي المتنوع على أيدي الأقطاب الستة أيضا، وهم أبو عمر الطلمنكي وأبو عمرو الداني وأبو الطاهر العمراني وأبو القاسم الخزرجي وأبو القاسم بن عبد الوهاب وأبو عبد الله بن شريح.
ورأينا أيضا كيف تلاقى وتساوق هذا الرصيد الضخم من الروايات مع الجديد الوافد الذي ظل يتدفق على هذه الجهات عن طريق الرحلات المشرقية، وظل يزودها بالمزيد من المعرفة والرسوخ في هذه العلوم.
ولقد أدى تنامي هذا السيل العارم من الروايات والطرق عن القراء السبعة وغيرهم، وتنوع المدارس في الجهات الافريقية والأندلسية والمناطق التابعة لها ثقافيا، إلى غنى واسع في الروايات وطرق الأداء تجاوز بكثير حد الكفاية، وأصبح ينذر بالخطر، ويتطلب الانبراء لضبطه ومحاولة التحكم في تياره الجارف.
ولقد أوحت محاولة التحكم فيه إلى طائفة من الأئمة الرواة بوجوب تحرير أسانيدهم وفهرسة رواياتهم ومروياتهم، وتسمية من لقوه من مشايخهم، حرصا منهم على الضبط واحتياطا للقرآن ورواياته وحروفه.
ومن أمثلة المصنفات التي عكف الأئمة على تحريرها وتحرير طرقهم فيها المصنفات التالية:
(1/84)
ـ كتاب التبصرة والتذكار، لحفظ مذاهب القراء السبعة بالأمصار، من رواياتهم وطرقهم المشهورة بالآثار لمحمد بن مفرج البطليوسي المعروف بالربوبلة (ت 494) من أصحاب مكي وأبي عمرو الداني.
ـ وكتاب النبذ النامية، في أسانيد القرآن العالية "لأبي الحسين يحيى بن إبراهيم المرسي المعروف بابن البياز (ت 496) من أصحاب الطلمنكي ومكي والداني والخزرجي والطرسوسي بمصر.
ـ وكتاب الناهج للقراءات بأشهر الروايات لمحمد بن يحيى بن مزاحم الطليطلي (ت 502) من أصحاب ابن نفيس وأبي عمرو الداني.
ـ وكتاب الطرق المتداولة في القراءات لأبي جعفر أحمد بن علي بن الباذش (ت 540).
ـ وكتاب شرف المراتب والمنازل، في العالي من القراءات والنازل لمحمد بن سليمان المعافري (ت 672).
ـ وكتاب الحلل الحالية، بأسانيد القرآن العالية، "لمحمد بن يوسف بن حيان أبي حيان الغرناطي (ت 745).
إلى غيرها من الكتب التي عمل خلفاء الأقطاب من بعدهم على تأليفها لضبط مروياتهم وأسانيدهم وطرق رواياتهم.
وكان هذا الاهتمام ولا شك وليد الإحساس بالحاجة إلى مزيد من الضبط والتوثيق لأوجه التحمل في الرواية، وذلك لأن القراءة على إمام من الأئمة المتصدرين بمضمن كتاب من كتبهم المعتمدة أمست تقتضي من القارئ حفظ طرق إمامه في ذلك الكتاب حتى لا يخرج عنها، وكان في أئمة الإقراء من بلغت طرقه عدة مئات.
فهذا أبوعمرو الداني تقدم أن كتابه "جامع البيان في القراءات السبع" قد اشتمل على نيف وخمسمائة رواية وطريق عن الأئمة السبعة.
(1/85)
وهذا أبو القاسم بن عبد الوهاب قد أسند في كتاب واحد من قراءته على أبي علي الأهوازي شيخ قراء الشام اثنتين وسبعين رواية عن اثنين وسبعين راويا عن القراء العشرة من مائتي طريق وسبعة وثمانين طريقا(1). وتقدم أن أبا القاسم الهذلي ضمن كتابه "الكامل" خمسين قراءة عن الأئمة، وألفا وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقا"(2).
ثم هذا كتاب الإقناع لأبي جعفر بن الباذش على صغر حجمه قد تضمن القراءة ـ كما تقدم ـ من ثلاثمائة طريق.
فإذا اعتبرنا مع هذه الطرق والروايات ما تضمنه الهادي لابن سفيان و"الهداية" للمهدوي والتبصرة لمكي وتلخيص العبارات لابن بليمة، والعنوان "لأبي الطاهر العمراني، والروضة للطلمنكي والتجريد لابن الفحام، والقاصد لأبي القاسم الأستاذ والمفتاح لأبي القاسم بن عبد الوهاب وسوى هذه الكتب مما قرأ به المتأخرون ممن رحل إلى المشرق من أصحاب الأئمة كأبي محمد بن سهل وابن المفرج وابن البياز ويحيى بن الخلوف الغرناطي وأبي الربيع بن سليمان الطنجي واليسع بن حزم الغافقي، إذ ضممنا هذا إلى بعضه أدركنا إلى أي حد بلغ الثراء بل الترف في المدرسة المغربية في حقل الرواية عن السبعة أو العشرة، الأمر الذي أمسى يشكل عند القراء المختصين ثقافة خاصة وعلما قائما بذاته أحوج إلى التأليف فيه، كما احوج إلى الاستعانة عليه برواية فهارس الأئمة التي اهتموا فيها بضبط مشايخهم ورواياتهم عنهم وأسانيدهم فيها طلبا للضبط واحتياطا لوجوه التحمل من قراءة وسماع وعرض وإجازة ومناولة وغير ذلك.
إلا أن هذه الثقافة الزائدة قد أصبحت من جهة ثانية تشكل عقبة كؤودا في وجوه العاملين على ضبط التلاوة العامة على نمط واحد وهيئة أدائية ثابتة، لاسيما في القراءة "الرسمية" المعتمدة أعني قراءة نافع من رواية ورش وطريق أبي يعقوب الأزرق التي عليها الناس في الغرب الإسلامي تلاوة وتعليما وتعبدا.
__________
(1) - فهرسة ابن خير 37ـ38.
(2) - ينظر النشر لابن الجزري 1/35.
(1/86)
كثرة الروايات وخطورتها في رأي الفقيه أبي بكر بن العربي:
ولقد تنبه إلى خطورة هذا الوضع على القراءة نفسها وعلى مستقبل علوم القرآن الأخرى بعض علماء العصر، ورأى أن صرف الاهتمام الكامل في هذا الوجه كان يتم على حساب الجوهر واللباب، بحيث اشتغل سواد القراء بحروف القرآن عن معرفة حدوده والتفقه في أحكامه، وتمادى ذلك بهم حتى كادوا يجعلونه الوكد من حياتهم، وهو ما عبر عنه فقيه العصر يومئذ القاضي أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي في قوله:
"ولما ظهرت الأموية على المغرب، وأرادت الانفراد عن العباسية وجدت المغرب على مذهب الاوزاعي فأقامت في قولها رسم السنة، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش فحملت روايته، وألزم الناس بالمغرب حرف نافع ومذهب مالك فجروا عليه وصاروا لا يتعدونه، وحمل حرف قالون إلى العراق فهو فيه أشهر من ورش... ودخلت بعد ذلك الكتب، وتوطدت الدولة فأذن في سائر العلوم، وترامت الحال إلى أن كثرت الروايات في هذه القراءات، وعظم الاختلاف حتى انتهى في السبع إلى 1500 رواية، وفي شاذ السبع إلى نحو 500 رواية، وأكب الخلق على الحروف ليضبطوها فأهملوها، وليحصروها فأرسلوها إلى غير غاية، وأراد بعضهم أن يردها إلى الأصل، فقرأ بكل لغة وقال: لغة بني فلان، وهذه لغة بني فلان".
قال القاضي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ"(1) : "وبعد أن ضبط الله الحروف والسور فلا تبالوا بهذه التكليفات، فإنها زيادات في التشغيب، وخالية من الأجر، بل ربما دخلت في الوزر" قال:
__________
(1) - يعني نفسه، وهذه العبارة كثيرة الورود في كتبه، والغالب أنه كان يملي كتبه على أصحابه كما يشعر بذلك السياق.
(1/87)
"ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة، رفرفوا عليها، وناضلوا عنها، وأفنوا أعمارهم من غير حاجة إليهم فيها، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقيم القدح لفظا، وكسر معانيه كسر الإناء فلم يلتئم عليه منها معنى"(1) .
ذلك رأي القاضي أبي بكر بن العربي قاضي اشبيلية (ت 543) ووصفه للحال التي آلت إليها الاختلافات في الروايات والطرق، ووصفه أيضا للشغف الزائد المفرط الذي تحولت معه القراءة إلى صناعة بعد أن كانت رواية ونقلا محضا، وهذا التحليل منه لهذا الموقف لا يتهم فيه بالعداء للقراء لحساب الفقهاء، لأنه كان هو أيضا من أهل الفن فإنه "تأدب ببلده وقرأ القراءات"(2)، وألف فيها كتابا سماه "المقتبس من القراءات"(3) بل كان له أكثر من ذلك اختيار خاص في القراءات حلل عناصره في كتاب "العواصم" فكان مما قال:
__________
(1) - العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي 1/199ـ201.
(2) - الغنية لعياض 66.
(3) - ذكره له في كشف الظنون 2/1792.
(1/88)
"والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكثر الحروف المنسوبة إلى قالون، إلا الهمز، فإني أتركه أصلا، إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه مع غيره، أو يسقط المعنى بإسقاطه، ولا أكسر باء "بيوت" ولا عين "عيون" فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه، ولا أكسر ميم "مت"(1)، وما كنت لأمد مد حمزة، ولا أقف على الساكن وقفته، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ولو رواه في تسعين(2) ألف قراءة، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف؟ ولا أمد ميم ابن كثير(3)، ولا أضم هاء "عليهم" و"إليهم"(4) وذلك أخف، وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات لاقراءات، لأنها لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإذا تأملتها رأيتها اختيارات مبنية على معان ولغات"(5).
__________
(1) - يعني "أئذا ما مت" في مريم"، و"أفاين مت" في الانبياء.
(2) - كذا ولعلها "سبعين" لأن استعمال السبع والسبعين والسبعمائة هو المألوف الشائع في إرادة الكثرة.
(3) - يعني ميم الجمع كمنهم وإليهم.
(4) - يعني لحمزة كما في السبعة لابن مجاهد 111.
(5) - العواصم من القواصم 1/203ـ204.
(1/89)
فالرجل إذن خبير بالفن ومن أهل الجهة ـ كما يقال ـ فلا يتهم في مقاله بالخوض فيما لا يعلم، ومهما يكن رأي بعض المتأخرين من علماء القراءة فيما ذهب إليه(1) فإنه مع ذلك قد نبه في زمنه على خطورة الاستمرار على ما كان سيؤول إليه الحال من اتساع الشقة في مسائل الخلاف، ولهذا نرى من جهتنا إنصافا له أن وراء اختياره لما اختاره من القراءات إلا ما استثناه منها، ودعوته إلى التقليل من الروايات والطرق والوجوه اشعارا بمقدار حرصه على الانضباط والاجتماع إلى أمر جامع في أصول القراءة والأداء يقتصر فيه على السائر المشهور من جهة، وعلى ما هو أسلس في المنطق وأيسر من جهة أخرى.
__________
(1) - حذر الشيخ أبوعبد الله بن غازي وغيره من الأخذ بمذهب ابن العربي في الموضوع، فقال في "إرشاد اللبيب" 283: "لعلك تقف على كلام القاضي أبي بكر بن العربي في كتاب القواصم والعواصم" (كذا) حيث طعن في بعض المقارئ السبعة، فأعطه الأذن الصماء، فإن يد الله مع الجماعة، وقد حدثنا الأستاذ أبو عبد الله الصغير عن شيخه الأستاذ أبي العباس بن أبي موسى الفيلالي أنه كان يحذر من ذلك كثيرا".
(1/90)
ونحن إذا وجهنا دعوة ابن العربي هذه الوجهة وعلى هذا التاويل وجدناه في حقيقته يلتقي مع المنحى الأثري الذي انتهجه قبله حافظ القراءات وقطب المدرسة الاتباعية بالمغرب أبو عمرو الداني، فلقد رأينا من منهجه في إيراد الخلاف أنه يذكر جملة ما قرأ به من وجوه فيقول مثلا: أقرأني أبو الفتح بكذا وأقرأني أبو الحسن بكذا، وقرأت على الخاقاني بكذا، ثم يقول: واختياري كذا، وربما عرض أوجه الخلاف أو سكت عنها، ثم يقول عن الوجه الذي ذكره: وبه قرأت وبه آخذ، وهو إعلام منه بوجود وجوه أخرى لم يقرأ بها ولم يأخذ. وبذلك كان أبو عمرو مدرسة خاصة تقوم على الاختيار في دائرة المروي كما قدمنا بناء على مقومات الاختيار التي وصفناها في سياق حديثنا عن منهجه، كما كان ـ لاسيما في كتاب "التيسير" ـ يرسم المنهاج السليم لعرض مسائل الخلاف، مما ييسر به على القارئ الشادي معرفة المأخوذ به في الأداء، وذلك معناه رسم المعالم الواضحة للقراءة "الرسمية" التي ينبغي اعتمادها دون دخول في كثرة الخلاف وفي تشعبات الطرق والروايات.
ولعله لهذه الرغبة الملحاح في الانضباط على قراءة جامعة تلتقي على وجوه ثابتة متفق على القراءة بها للسبعة اقتصر رجال مدرسة أبي عمرو من كتبه في القراءة على كتاب "التيسير" لاختصاره ووفائه بالغرض في هذا الشان، فجعلوه محور نشاطهم في الإقراء، وعكفوا عليه في الجهات التي بلغها إشعاع مدرسته، وعلى الأخص في شرق البلاد الأندلسية حيث تصدر أصحابه الكبار في دانية وبلنسية ومرسية وشاطبة كما أسلفنا.
(1/91)
إلا أن التقدم بهذا المنهج وانطلاقا من هذا الكتاب بقي في حاجة إلى جهود أقوى وأفسح تخرج به من هذا المحيط المحدود، إلى الفضاء الواسع والمجال الرحب في كافة أطراف الأرض لتعميم مذاهبه، و"ترسيم" اختياراته بعد إعادة إبرازها وتجليتها في قالب رائق جديد من النظم التعليمي على النحو الذي فعله قبله أبو الحسن الحصري بالنسبة لأصول مدرسته، فكان الإمام القاسم بن فيره الشاطبي هو الذي تحقق على يده هذا الإنجاز الكبير.
ترجمة الإمام الشاطبي :
هو القاسم بن فيره(1) بن خلف بن أحمد أبو القاسم(2) ويقال أيضا أبو محمد الرعيني الشاطبي الأندلسي الضرير، ولد ـ رحمه الله ـ أعمى مكفوف البصر أواخر سنة 538(3) بمدينة شاطبة وهي مدينة كبيرة في شرق الأندلس من ثغورها لا تبعد كثيرا عن مدينة بلنسية قاعدة هذه الجهة.
وكانت مدينة شاطبة يومئذ من أهم مراكز القراءات في شرق الأندلس، وقد بسط عليها الموحدون سيادتهم في شباب الشاطبي بعد موت أميرها محمد بن سعد بن مردنيش ـ صاحب بلاد شرق الأندلس في سنة 567(4).
__________
(1) - اللفظ بكسر الفاء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم راء مشددة مضمومة بعدها هاء، ومعناها بلغة عجم الأندلس الحديد.ـ غاية النهاية 2/20 ترجمة 2600.
(2) - وقيل اسمه كنيته وقيل غير ذلك كما وقف عليه ابن خلكان وذكره في الوفيات 4/73، وذكر العبدري في رحلته 27ـ28 انه كان يكنى بالأندلس بأبي محمد قال: وبه كناه جميع شيوخه الأندلسيين الذين قرأ عليهم فيما كتبوا له.
(3) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557.
(4) - روض القرطاس 211.
(1/92)
نشأ بهذه المدينة، وقرأ القرآن وأتقن القراءت على بعض مشايخه بها ـ كما سيأتي ـ، ثم رحل إلى بلنسية فقرأ بها القراءات وعرضها، وعرض "التيسير" من حفظه على أستاذ المدرسة الأثرية وعميدها في زمنه أبي الحسن علي بن محمد بن هذيل، وسمع بها الحديث والققه، ودرس العربية والآداب وغير ذلك من علوم الرواية على جماعة من المشايخ سيأتي ذكرهم، ثم رجع إلى شاطبه فبدأ صيته ينتشر، وجلس إليه لهذا العهد بعض أصحابه بها فقرأوا عليه القراءات، وخطب ببلده على فتاء سنه(1).
ويظهر أن لولايته الخطابة ببلده علاقة قوية بهجرته من الأندلس إلى المشرق بعد انتقال الحكم إلى الموحدين الذين كانوا يدعون لإمامهم "المهدي" ويصفونه بالهداية والعصمة وغير ذلك ويترضون عليه على المنابر.
وقد ذكر الحافظ أبو شامة نقلا عن شيخه أبي الحسن السخاوي تلميذ الشاطبي أن الحامل له على مغادرة البلد أنه "أريد على أن يتولى الخطابة ببلده، فاعتذر بعزمه على الحج تورعا مما كانوا يلزمون به الخطيب من ذكر الأمراء على المنبر بأوصاف لم يرها سائغة شرعا"(2).
ومهما يكن فإنه قد غادر الأندلس إلى غير رجعة، ووصل إلى مصر فنزل أولا بالاسكندرية، ولقي شيخها ومسندها الحافظ أبا طاهر السلفي وغيره من شيوخ الرواية.
ولما دخل مصر وحل بالفسطاط أكرمه القاضي عبد الرحيم بن علي البيساني المعروف بالقاضي الفاضل(3) وعرف مقداره، وكان قد تصدر أولا في جامع عمرو بن العاص، للإقراء والإفادة، فنقله القاضي المذكور إلى مدرسته التي أنشأها بـ"المعزية القاهرة"، وأفرد له فيها حجرة لطيفة مرخمة على يسار الداخل من الباب، وأفرد لأهله دارا أخرى خارج المدرسة، ولم يزل على ذلك إلى وفاته"(4).
__________
(1) - نفح الطيب 2/230 والحلل السندسية 3/278.
(2) - الذيل على الروضتين لأبي شامة 7.
(3) - كان وزيرا لصلاح الدين الايوبي ترجمته في وفيات الاعيان 3/158ـ163.
(4) - انباه الرواة 4/160 ترجمة 942.
(1/93)
وهكذا لقي من الحفاوة العظيمة ما شجعه على المقام، فلزم تلك المدرسة "وجلس للإقراء، فقصده الخلائق من الأقطار"(1).
وهنالك نظم قصيدته الرائية واللامية، والظاهر أن ذلك كان لأول حلوله بمصر، ثم حج بيت الله الحرام ودعا لقصيدته "حرز الأماني" ـ كما سيأتي ـ أن ينفع الله بها كل من قرأها.
ثم لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أبوب بيت المقدس توجه فزاره سنة 589(2) وقال أبو شامة: قبل موته بثلاث سنينن فصام به رمضان واعتكف"(3).
وقد تزوج على إثر دخوله مصر ـ كما ذكر الفقطي ـ إلى قوم يعرفون ببني الحميري، وكان ذلك قبل أن ينتقل إلى المدرسة الفاضلية(4) ثم ولد له بعد نحو ثلاث سنوات من استقراره بمصر ولده أبو عبد الله محمد بن القاسم وبقي بعده إلى سنة 655 وكان في الرواة عنه كما سيأتي، كما ولدت له بنت يظهر أنها أصغر من أخيها تزوج بها بعد وفاته صاحبه أبو الحسن علي بن شجاع المعروف بالكمال الضرير "وجاءه منها الأولاد"(5).
وفاته: ذلك ملخص تنقلاته إلى أن مات ـ رحمه الله ـ بمصر عن اثنتين وخمسين سنة سنة 590هـ، ودفن بالقرافة وكانت وفاته يوم الأحد بعد صلاة العصر الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن يوم الإثنين بالقرافة بين مصر والقاهرة بمقبرة القاضي الفاضل، ذكره أبو شامة في حوادث سنة 590 وقال: "وقد زرت قبره"(6).
__________
(1) - غاية النهاية 2/20ـ21.
(2) - المصدر نفسه.
(3) - الذيل على الروضتين: 7.
(4) - انباه الرواة للقفطي 4/160 ترجمة 942.
(5) - غاية النهاية 1/546 ترجمة 2231.
(6) - الذيل على الروضتين: 7.
(1/94)
وقال ابن الجزري: "وقبره مشهور معروف يقصد للزيارة، وقد زرته مرارا، وعرض علي بعض أصحابي الشاطبية عند قبره.." (1)، قال ابن عبد الملك: وكانت جنازته مشهودة لم يتخلف عنها كبير أحد، وأسف الناس لفقده(2).
مشايخه في القراءات وعلوم الرواية ومروياته
1- محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي أبو عبد الله بن اللايه(3) الشاطبي الضرير
قال ابن الأبار: "أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد(4) بدانية، وتصدر ببلده للإقراء، ومنه أخذ شيخنا أبوعبد الله بن سعادة المعمر، وأبو القاسم بن فيره، وقال فيه القاضي أبو بكر بن مفوز: هو من شيوخي في القرآن، وكان من أهل الدين والفضل والمعرفة في القراءات، أخذ عنه في سنة 555"(5).
وذكر ابن عبد الملك نحوا من هذا وقال: "وكان من أهل المعرفة بالقراءات وطرقها.." (6).
وذكره في النفح في شيوخ الشاطبي فقال: "قرأ القراءات بشاطبة وأتقنها على النفزي، ثم انتقل إلى بلنسية فقرأ بها "التيسير" من حفظه على ابن هذيل"(7).
وقد لاحظ ابن الأبار في تاريخه ـ فيما نقل الذهبي ـ أن الشاطبي أسند القراءات في بعض إجازاته من طريقه وحدها ـ قال ـ: وقفت على نسخة من إجازته حدث فيها بالقراءات عن أبي عبد الله بن اللايه عن أبي عبد الله بن سعيد، ولم يحدث فيها عن ابن هذيل"(8).
__________
(1) - غاية النهاية 2/23 ترجمة 2600 ـ وقد زاره اخيرا المرحوم شكيب ارسلان كما ذكر في الحلل السندسية 3/278.
(2) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/557 ترجمة 1088.
(3) - ضبطها بضم الياء المثناة من تحت وسكون الهاء كما في غاية النهاية 2/204 ترجمة 3263.
(4) - هو محمد بن الحسن المعروف بابن غلام الفرس من كبار أصحاب أبي داود من اهل دانية.
(5) - التكملة 1/450 ترجمة 1286.
(6) - الذيل والتكملة 6/483 ترجمة 1243.
(7) - نفح الطيب 2/230.
(8) - معرفة القراء الكبار للذهبي 2/458 طبقة 14.
(1/95)
قلت: لعل الشاطبي فعل ذلك اختصارا، أو أنه اختار الإجازة من هذه الطريق لأهميتها وعلوها كما سيأتي في إجازة النفزي له، وهذا نصها كما أثبته علم الدين السخاوي في "فتح الوصيد" نقتصر منه على مقدار الحاجة:
إجازة أبي عبد الله بن أبي العاص النفزي لأبي محمد القاسم بن فيره
ونورد فيما يلي القسم الأول من إجازة النفزي للشاطبي، وهو القسم المتعلق برواية ورش، نقلا عن نص الإجازة الكامل كما أثبته في كتابه "فتح الوصيد" في شرح الشاطبية للشاطبي صاحبه أبو الحسن علي بن محمد السخاوي ونثبت القدر المحتاج منه خاصة باعتباره نموذجا للإجازات العلمية التي كان يكتبها أو يمليها كبار المشايخ اعترافا للعارضين عليهم بتمام التأهل بعد فراغهم من إتمام القراءة عليهم، كما نعتبرها أيضا أقدم إجازة وقفنا عليها بنصها تشتمل على تفصيل أسانيد النفزي بالقراءات السبع في المائة السادسة(1).
أول الإجازة:
"الحمد لله الواحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، هو الله الذي خلق الأنام بحكمته، وفطر السموات والأرض بقدرته، الأول بلا عديل، والآخر بلا مثيل، والأحد بلا نصير، والقاهر بلا ظهير، ذو العظمة والملكوت، والعزة والجبروت، الحي الذي لا يموت....
يقول محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي المقرئ وفقه الله:
__________
(1) - الإجازة في "فتح الوصيد" للسخاوي ومنه نقلت عن مصورة عن مخطوطة بالمدينة المنورة.
(1/96)
"ان صاحبنا أبا محمد قاسم بن فيره بن أبي القاسم الرعيني ـ حفظه الله وأكرمه ـ قرأ علي القرآن كله مكررا ومرددا، مفردا لمذاهب القراءة السبعة أئمة الأمصار ـ رحمهم الله ـ من رواياتهم المشهورة، وطرقهم المعروفة التي تضمنها "كتاب التيسير" و"الاقتصاد" للحافظ أبي عمرو المقرئ وغيرهما، وهم: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وعبد الله بن عامر الشامي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الزيات الكوفي، وعلي بن حمزة الكسائي الكوفي".
"فأما قراءة نافع من رواية ورش عنه، فقرأت بها القرآن كله وبغيرها من الروايات والطرق المضمنة في الكتابين المذكورين على الفقيه الأجل الشيخ المقرئ الإمام الأوحد أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد رحمه الله ـ قال: قرأت بها القرآن كله أيضا على الفقهاء الجلة الشيوخ المقرئين الأئمة أبي الحسن علي بن عبد الرحمن الأنصاري المعروف بابن الدوش، وأبي داود سليمان بن أبي القاسم الأموي(1) وأبي الحسين يحيى بن إبراهيم بن أبي زيد(2) رحمة الله عليهم ـ قال: أخبروني بها عن الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقرئ مؤلف الكتابين المذكورين، تلاوة منهم عليه ـ رضي الله عنه ـ بالأسانيد المذكورة فيهما للأئمة السبعة الموصولة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأغنى ذلك عن ذكرها ههنا".
وقال لي: قرأت أنا أيضا برواية ورش على الشيخ أبي الحسين يحيى بن أبي زيد المذكور وعلى الفقيه الفاضل الإمام المقرئ أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيع ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال أبو الحسن(3):
__________
(1) - المراد أبو داود سليمان بن نجاح صاحب أبي عمرو الداني.
(2) - هو ابن البياز المرسي صاحب كل من مكي والطلمنكي وأبي عمرو.
(3) - كذا والصحيح أبو الحسين وهو ابن البياز المذكور.
(1/97)
حدثنا بها الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب المقرئ عن أبي عدي عبد العزيز بن علي".
وقال أبو الحسن: قرأت بها على الشيخ أبي محمد عبد الله بن سهل المقرئ، وأخذ علي التحقيق، وأخبرني أنه قرأ بها على أبي القاسم عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي بمصر، وتلقاها أبو القاسم عن أبي عدي المذكور، وتلقاها أبو عدي عن أبي بكر عبد الله بن سيف، وتلقاها أبو بكر عن أبي يعقوب يوسف بن عمرو الأزرق، وتلقاها أبو يعقوب عن ورش، وقرأها ورش على نافع "ثم ساق رواية قالون ثم قراءة ابن كثير من روايتيها ثم باقي القراءات السبع وقال: "فليرو أبو محمد قاسم المذكور ذلك كله عني وجميع ما صح عنده من روايتي، وليقل في ذلك كله كيف شاء من "حدثنا" وأخبرنا" و"أنبأنا"... ثم ذكر تاريخ الإجازة في شهر ربيع الآخر عام 555هـ والحمد لله حق حمده، وصلى الله على محمد نبيه وعبده وسلم تسليما".
2- أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي أبو جعفر ويعرف بابن اللايه ولد أبي عبد الله السابق
ذكره ابن الأبار وقال: "أخذ القراءات عن أبيه أبي عبد الله بشاطبة، وعن أبي عبد الله بن سعيد بدانية، وخلف أباه بعد وفاته في الإقراء، وأخذ عنه جماعة، منهم ابن فيره الضرير المقرئ نزيل مصر وغيره، وكان متقدما في صناعته، معروفا بالضبط والتجويد، وكان أبوه أيضا كذلك"(1).
وترجمه بنحو ذلك ابن عبد الملك المراكشي وقال: "أخذ عنه القراءات أبو محمد قاسم بن فيره الضرير وغيره، وكان مقرئا متقدما في المعرفة بالتجويد والإتقان للأداء وجودة الضبط على القراء.."
3- علي بن محمد بن علي بن هذيل أبو الحسن البلنسي صاحب أبي داود سليمان بن نجاح وربيبه وعميد مدرسة أبي عمرو الداني وراويتها في زمنه (471ـ564).
__________
(1) - التكملة 1/75 ترجمة 198.
(1/98)
تقدم التعريف به بما فيه الكفاية في فصل خاص، وكان ـ كما قال فيه ابن عبد الملك ـ صدر المقرئين وإمام المجودين، عمر فانتهت إليه رياسة الإقراء بشرق الأندلس في عصره، متقنا ضابطا مجودا حسن الأخذ على القراء"(1).
وقد تقدم أن الشاطبي رحل إليه إلى بلنسية فعرض عليه "التيسير" من حفظه، وقرأ عليه القراءات وسمع منه الحديث(2) ، وقد أسند عنه القراءة بالتحقيق في رواية ورش بإسناده المتصل بها قراءة إلى نافع بسنده إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ(3).
وأجازه في مروياته عنه وكتب له بذلك نص إجازة ذكرها له صاحب فتح الوصيد نقتصر على المقصود منها أيضا باعتبارها نموذجا ثانيا بعد إجازة النفزي له، وهذا ملخصها:
ملخص إجازة أبي الحسن بن هذيل للشاطبي
مقدمة الإجازة: "الحمد لله بارئ الأنام بحكمته، وفاطر السموات والأرض بقدرته، الأول بلا عديل، الآخر بلا مثيل، والواحد بلا نظير، والقاهر بلا ظهير، ذي العظمة والملكوت، والعزة والجبروت...
يقول علي بن محمد بن علي بن هذيل:
"ان المقرئ أبا محمد قاسم بن فيرة بن أبي القاسم الرعيني ـ أيده الله بطاعته، وأمده بتوفيقه ومعونته ـ قرأ علي القرآن من فاتحته إلى خاتمته ختمة واحدة بمذاهب الأئمة السبعة رحمهم الله..
__________
(1) - الذيل والتكملة السفر الخامس القسم الأول 369ـ371 ترجمة 638.
(2) - وطريقه عنه في الصحيح من الطرق المشهورة، وقد أسند منها صحيح الإمام كل من أبي عبد الله بن رشيد في "ملء العيبة" 5/181ـ182 وأبي عبد الله بن غازي في فهرسته 50ـ51.
(3) - يمكن الرجوع إلى إسناده بها في النشر لابن الجزري 1/206.
(1/99)
ثم سمى الأئمة السبعة مبتدئا بنافع بن أبي نعيم ومنتهيا بأبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، ثم انتقل إلى ذكر رواياتهم فقال: "فأما قراءة نافع فقرأها من رواية أبي عمرو(1) عثمان بن سعيد المعروف بورش من طريق أبي يعقوب يوسف بن عمرو بن يسار الأزرق، ومن رواية أبي موسى عيسى بن مينا المعروف بقالون من طريق أبي نشيط محمد بن هارون... ثم تابع باقي الرواة عن السبعة وقال:
"وقد أجزت له ـ وفقه الله ـ جميع القراءات السبع من الروايات والطرق المنصوصة على سبيل الإجازة والرواية وأذنت له أن يقرأ ويقرئ بها على حسب ما قرأها علي وأخذها عني وسمعها مني، وعلى حسب ما نص عليه الإمام الحافظ المقرئ اللغوي أبو عمرو في مصنفاته التي سمع بعضها علي، ولا يخالف ذلك ولا يتعداه إلى غيره، فهو الطريق الواضح والسبيل الناجح إن شاء الله تعالى".
"وقد قرأت القرآن بهذه القراءات من الطرق المذكورة على الإمام المقرئ الزاهد أبي داود ـ رضي الله عنه ـ حدثني بها عن شيخه الحافظ أبي عمرو عن شيوخه المذكورة أسانيد قراءتهم في "التيسير" وغيره من مؤلفاته رحمه الله، وكذلك أجزت له جميع ما أحمله من الشيخ الإمام المقرئ المذكور عن شيوخه من القراءات والتفسير والناسخ والمنسوخ والمعاني والاعراب والغريب والمشكل والأحكام وعدد الآي والسجدات والرقائق وسائر المصنفات في الحديث والفقه من الجامعات والمختصرات وغير ذلك... ثم أخذ في تسمية شيوخ أبي داود مبتدئا بأبي عمر يوسف بن عبد البر وأبي الوليد الباجي... ثم قال:
__________
(1) - هذه إحدى كنى ورش، وقد اختار ابن بري منها كنيته الأخرى فقال: على الذي روى أبو سعيد.." وهي المستعملة في كتب المغاربة، ولهذا اخترتها في عنوان هذا البحث.
(1/100)
"فليرو ذلك كله عني أو ما شاء منه عن الإمام المقرئ أبي داود، وليرو من أحب، وليقل فيه أو ما شاء منه إذا صح عنده وعارض بكتبي، أو ما ثبت عنده عني، حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا... ثم ذكر رواية عيسى بن مسكين المشهورة في صحة الإجازة(1) وقال: "نفعني الله وإياه بما علمنا، وشرح صدورنا للعلم وجعلنا من أهله، وممن يريد به وجهه خالصا، وسلك بنا طريق أسلافنا، ومنهاج أئمتنا، وما كان عليه أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتابعوهم بإحسان، وخالفوهم من أئمة الدين، وفقهاء المسلمين، وعصمنا من البدع المضلة، والأهواء المهلكة، آمين يا رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيئين، وأصحابه المنتخبين، وأزواجه الطاهرات أمهات المومنين، وسلم تسليما"(2).
4- علي بن عبد الله بن خلف بن النعمة أبو الحسن الأنصاري البلنسي (491ـ567)
إمام كبير كثير الشيوخ من أعلام أئمة شرق الأندلس من طبقة أبي الحسن بن هذيل، قال فيه أبو عمر ابن عات: "إمام بلنسية وفقيهها المشاور، وأستاذها الذي لا يبارز، وخطيبها الذي لا يجاوز، مقرئ فائق، ونحوي حاذق... وأخذ عنه عالم كثير، منهم ابن عات المذكور، وأبو عبد الله بن نوح، وأبو بكر عتيق بن خلف الأمي، وألف تفسير الكتاب العزيز(3).
__________
(1) - هذه الرواية مسندة أيضا عند أبي بكر بن خير في فهرسته: قال: وقد حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن هذيل إذنا في ما كتب به إلي قال أخبرنا أبو داود سليمان بن أبي القاسم المقرئ قال أخبرنا أبو عمرو عثمان بن سعيد المقرئ قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الربعي بالقيروان، قال: أخبرنا زياد بن يونس السدري قال: قال عيسى بن مسكين: الإجازة قوية، وهي رأس مال كبير، وجائز أن يقول حدثني فلان، وأخبرني فلان".
(2) - النص بتمامه في فتح الوصيد ـ لوحة 12ـ15، ولم يذكر تاريخ إجازة ابن هذيل له كما فعل بسابقتها.
(3) - يسمى تفسيره "ري الظمآن في علوم القرآن".
(1/101)
وذكره ابن الجزري نقلا عن أبي عبد الله بن رشيد السبتي في جملة من أخذ الشاطبي عنهم القراءات،(1)، وذكر الذهبي والمقري وغيرهما، أنه "رحل إليه إلى بلنسية وسمع منه الحديث(2).
وقال ابن الجزري في ترجمته: "وروى عنه الشاطبي شرح الهداية للمهدوي عن ابن عتاب عن غانم ابن الوليد عن المصنف"(3).
5- محمد بن يوسف بن مفرج بن سعادة أبو بكر وأبو عبد الله الاشبيلي نزيل تلمسان (ت 600)
قرأ على شريح بن محمد بن شريح وأحمد بن محمد بن حرب المسيلي صاحب "التقريب في القراءات السبع ـ من أصحاب أبي داود الهشامي، قال ابن الأبار: "كان مقرئا فاضلا، ومحدثا ضابطا، أخذ عنه الناس وعمر وأسن"(4).
ذكره ابن عبد الملك وغيره في شيوخه في القراءات(5)، وقال ابن الجزري: "روى عنه الشاطبي شرح الهداية للمهدوي في حياته، ومات ـ أي الشاطبي ـ قبله بعشر سنين"(6).
6- محمد بن أحمد بن مسعود أبو عبد الله الأزدي الشاطبي المعروف بابن صاحب الصلاة (542ـ625)
تقدم ذكره في أصحاب أبي الحسن بن هذيل، قرأ عليه برواية نافع، وسمع منه أكثر تصانيف الداني سنة 563 أي قبل وفاة شيخه ابن هذيل بسنة(7).
__________
(1) - غاية النهاية 2/22.
(2) - معرفة القراء الكبار 2/457 طبقة 14ـ ونفح الطيب 2/230 ونحو ذلك في الذيل والتكملة السفر 5 القسم 1/226ـ231 ترجمة 455ـ والصلة القسم الأخير 104ـ105ـ ترجمة 211.
(3) - غاية النهاية 1/553 ترجمة 2256.
(4) - التكملة 2/569 ترجمة 1523.
(5) - التكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557 ترجمة 1088.
(6) - غاية النهاية 2/288 ترجمة 3562.
(7) - الذيل والتكملة السفر 6/67 ترجمة 145.
(1/102)
ونقل ابن الجزري عن أبي بكر بن مسدي أنه ذكر أنه ـ أي ابن صاحب الصلاة ـ هو الذي لقن ابن فيره الرعيني القرآن بحضرة والده ـ قال ابن الجزري: وهذا من تسمحه ـ أي ابن مسدي ـ فإن الشاطبي ولد سنة ثمان وثلاثين، فهو أكبر من ابن صاحب الصلاة بأربع سنين، وكان الشاطبي من أذكى الناس في صغره، فما كان ابن صاحب الصلاة ليسبقه فيحفظ قبله ثم يلقنه، والله أعلم"(1).
قلت: ما ذكره ابن مسدي جائز الوقوع بالنظر إلى احتياج الشاطبي بحكم ضرارته إلى من يساعده في الحفظ والتلقين، فلعل أخذه عن ابن صاحب الصلاة يجري هذا المجرى، فيكون من مشايخه المبكرين.
7- محمد بن عبد الله بن محمد بن خليل القيسي الاشبيلي أبو عبد الله، سكن فاس كثيرا، ثم مراكش بأخرة (570)
ذكره ابن عبد الملك في الرواة عنه في ترجمة ابن خليل وقال: "كان محدثا عالي الرواية متفننا في جملة معارف ماهرا في كل ما ينتحل منها"(2).
8- محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد أبو عبد الله بن حميد ـ بفتح الحاء مكبرا ـ البلنسي
من كبار أصحاب أبي الحسن شريح قرا عليه بالسبع وسمع منه وأجاز له، وقرأ بغرناطة على أبي الحسن بن ثابت الخطيب، وببلنسية على أبي الحسن بن هذيل وتلا عليه بالسبع.." (3).
قال ابن الجزري: "روى عنه الحروف أبو القاسم الشاطبي سماعا من "كتاب الكافي"... وكان بارعا في علم النحو، مات في جمادى الأولى 586، وله 73 سنة"(4).
وذكر في ترجمة الشاطبي أنه أخذ عنه "كتابه سيبويه" و"الكامل" للمبرد" و"أدب الكاتب" لابن قتيبة وغيرها "(5).
9- محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن فرج بن خلف أبو عبد الله بن الفرس الأنصاري الغرناطي (501ـ567)
__________
(1) - غاية النهاية 2/88 ترجمة 2805.
(2) - الذيل والتكملة السفر 6/305ـ306 ترجمة 796.
(3) - ترجمته في الذيل والتكملة 6/149ـ151 ترجمة 394.
(4) - غاية النهاية 2/108 ترجمة 2889.
(5) - غاية النهاية 2/20 ترجمة 2600.
(1/103)
إمام مشهور، كان مقرئا متقنا في التجويد، محدثا متسع الرواية.. سمع منه الحديث أبو القاسم الشاطبي(1).
10- عاشر بن محمد بن عاشر أبو محمد اليناشتي سكن شاطبة (486ـ567)
إمام مقرئ قرا على أبي جعفر أحمد بن محمد بن ذروة المرادي الطليطلي(2) وغيره، تفقه عليه الشاطبي(3).
11- عليم بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبو الحسن وأبو محمد الشاطبي (ت 564) (4)
12- الحسن بن محمد أبو علي الأنصاري يعرف بابن الرهبيل من أهل المرية، ذكره ابن مخلوف في ترجمة الشاطبي وقال: أخذ عنه القراءات(5). وذكر في ترجمته هو أنه "إمام فقيه راوية حافظ مقرئ، سمع ابن النعمة وابن هذيل وأبا طاهر السلفي، وعنه أخذ جماعة منهم الإمام الشاطبي، توفي في رمضان سنة أربع أو (585) (6).
__________
(1) - تقدم التعريف به، ويمكن الرجوع إلى ترجمته في الذيل والتكملة 6/372ـ375 ترجمة 995.
(2) - من أصحاب أبي عبد الله محمد بن عيسى المغامي صاحب أبي عمرو الداني ترجمته في الذيل والتكملة ـ السفر الاول القسم 2/424 ترجمة 623.
(3) - ترجمته في الذيل والتكملة السفر 5 القسم 1/99ـ101 ترجمة 182 ومعرفة القراء الكبار 2/457 طبقة 14ـ وغاية النهاية 2/20.
(4) - ترجمته في الذيل والتكملة السفر 5 القسم 1/429ـ430 ترجمة 740 ـ وذكرأحذ الشاطبي عنه في ترجمته في السفر 5- القسم 2/548ـ557 ترجمة 1088.
(5) - شجرة النور الزكية 158ـ159 ترجمة 491 طبقة 12.
(6) - نفسه ترجمة 483.
(1/104)
وللشاطبي شيوخ آخرون في الحديث وغيره ذكرهم المترجمون له، ومما ذكرناه يتبين أنه أخذ القراءات عن أهم رجال المدرسة الأثرية في شرق الاندلس في زمنه، كما روى تراث الأئمة في القراءات وقد رأينا أنه روى كتاب شرح الهداية للمهدوي في توجيه ما في "الهداية" من قراءات للسبعة، كما سمع الحروف من كتاب "الكافي" لابن شريح، بالإضافة إلى ما عرضه من تراث أبي عمرو على أبي الحسن بن هذيل وغيره، ومنه كتاب "التيسير" الذي عرضه عليه من حفظه لأول وروده عليه، و"كتاب الاقتصاد في القراءات السبع" الذي يعتبر "التيسير" ـ كما قدمنا ـ مختصرا له، ومعنى هذا أنه استوعب أهم مصنفات المدارس الثلاث الكبرى السائدة في الأندلس على عهده أعني تراث المدرسة "التنظيرية (القياسية) القيروانية، والمدرسة الأثرية الدانية والمدرسة التوفيقية الشريحية.
إلا أن الغالب على تكوينه ـ كما رأينا ـ بحكم نشأته والمجال الذي تلقى القراءة فيه ـ هو الأخذ بمذاهب المدرسة الأثرية، ولذلك سيكون له منذ الآن شأن وأي شأن في تاريخ القراءة وعلومها تبعا واستجابة لهذا التكوين، وعلى الأخص في زعامة الاتجاه الأثري على مذاهب أبي عمرو، وفي تفرغه لتراث مدرسته في القراءة ورسم المصحف وعدد آيه وما يتعلق بذلك من علوم، مما كفل لهذا الاتجاه الانتشار الواسع في أقطار الأرض، والهيمنة الكاملة على ميدان الإقراء منذ زمنه إلى اليوم.
مكانة العلمية وثناء أصحابه وجماعة من العلماء عليه وما ألف في مناقبه
وصفه صاحبه علم الدين السخاوي في صدر شرحه على قصيدته بقوله:
(1/105)
"كان عالما بكتاب الله بقراءاته وتفسيره، عالما بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه البخاري ومسلم والموطأ تصحح عليه النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إلى ذلك فيها، وأخبرني أنه نظم "كتاب التمهيد"(1) لابن عبد البر ـ رحمه الله ـ قصيدة دالية في خمسمائة بيت من حفظها أحاط بالكتاب علما، وكان مبرزا في علم النحو والعربية، عالما بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل.. وكان يجتنب فضول القول ولا يتكلم في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه الضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة، في هيئة حسنة وخضوع واستكانة، ويمنع جلساءه من الخوض والحديث في شيء، إلا في العلم والقرآن، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: "العافية"، لا يزيد على ذلك"(2).
وقال السخاوي أيضا في كتابه "جمال القراء" بعد أن ساق كثيرا من الآثار تحت عنوان "آداب حملة القرآن" وذكر من شمائلهم وأخلاقهم فأطال: "وقد كان شيخنا أبو القاسم الشاطبي ـ رحمه الله ـ صاحب هذه الأوصاف جميعها، وبما زاد عليها"(3).
__________
(1) - يعني كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد "لأبي عمر بن عبد البر القرطبي (مطبوع).
(2) - فتح الوصيد في شرح القصيد للسخاوي (لوحة 3ـ4) . ونقل كلامه ابن خلكان في الوفيات 4/71ـ72 ترجمة 537. والفقطي في انباه الرواة 4/161 ترجمة 942.
(3) - جمال القراء 1/113ـ119.
(1/106)
وقال ابن عبد الملك المراكشي: "وكان من جلة أئمة المقرئين، كثير المحفوظات، جامعا لفنون العلم بالتفسير، محدثا راوية ثقة، فقيها مستبحرا، متحققا بالعربية، مبرزا فيها، بارع الأدب، شاعرا مجيدا، عارفا بالرؤيا وعبارتها دينا فاضلا صالحا، مراقبا لأحواله، حسن المقاصد، مخلصا في أقواله وأفعاله، جرت مسألة فقهية بمحضره، فذكر فيها نصا، واستحضر كتابا فقال لهم: اطلبوها منه في مقدار كذا وكذا، ومازال يعين لهم موضعها حتى وجدوها حيث ذكر، فقالوا: أتحفظ الفقه؟ فقال لهم: إني أحفظ وقر جمل من كتب، فقيل له: هلا درستها؟ فقال: ليس للعميان إلا القرآن.. ثم قال بعد كلام:
"وظهرت عليه كثير من كرامات الأولياء، وأثرت عنه، كسماع الأذان مرارا لا تحصى بجامع مصر وقت الزوال من غير المؤذنين"(1).
وقال الحافظ ابن الجزري: "وكان إماما كبيرا، أعجوبة في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظا للحديث، بصيرا بالعربية، إماما في اللغة، رأسا في الأدب، مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع والكشف، شافعي المذهب، مواظبا على السنة، بلغنا أنه ولد أعمى، ولقد حكى عنه أصحابه ومن كان يجتمع به عجائب، وعظموه تعظيما بالغا، حتى أنشد الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي(2) ـ رحمه الله ـ من نظمه في ذلك:
رأيت جماعة فضلاء فازوا ... برؤية شيخ مصر الشاطبي
وكلهم يعظمه ويثني ... كتعظيم الصحابة للنبي(3)
__________
(1) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557 ترجمة 1088. وقد حدث عنه السخاوي مباشرة بقصة سماعه الآذان عند الزوال من غير المؤذنين المعهودين في المسجد (فتح الوصيد ـ لوحة 4).
(2) - سيأتي في شراح قصيدة الشاطبي في القراءات.
(3) - غاية النهاية 2/21 اترجمة 2600.
(1/107)
قال ابن الجزري: وأخبرني بعض شيوخنا الثقات عن شيوخهم أن الشاطبي كان يصلي الصبح بغلس بالفاضلية، ثم يجلس للإقراء، فكان الناس يتسابقون السرى إليه ليلا، وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أولا فليقرأ، ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق، فاتفق في بعض الأيام أن بعض أصحابه سبق أولا، فلما استوى الشيخ قاعدا قال: من جاء ثانيا فليقرأ، فشرع الثاني في القراءة، وبقي الأول لا يدري حاله، وأخذ يتفكر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له، ففطن أنه أجنب في تلك الليلة، ولشدة حرصه على النوبة نسي ذلك لما انتبه، فبادر إلى الشيخ، فاطلع الشيخ على ذلك، فأشار للثاني بالقراءة، ثم ان ذلك الرجل بادر إلى حمام جوار المدرسة فاغتسل به، ثم رجع قبل فراغ الثاني، والشيخ فاعد أعمى على حاله، فلما فرغ الثاني قال الشيخ:
من جاء أولا فليقرأ، فقرأ، قال ابن الجزري:
"وهذا من أحسن ما نعلمه وقع لشيوخ هذه الطائفة، بل لا أعلم مثله وقع في الدنيا"(1).
وقد أثنى على الشاطبي ـ رحمه الله ـ كل من شرح قصائده السائرة، وألف غير واحد من الأئمة ونظموا في مناقبه وسني أحواله، منهم أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري نزيل الاسكندرية يعرف بابن أبي الربيع وقد سمى كتابه "زهر المضي في مناقب الشاطبي"(2).
ـ وألف فيه الإمام أبو العباس أحمد بن محمد القسطلاني (ت 923) كتابا أو
أكثر باسم "الفتح المواهبي في مناقب الإمام الشاطبي"(3) و"منحة من منح المواهبي تنبئ عن لمحة من سيرة أبي القاسم الشاطبي"(4).
__________
(1) - غاية النهاية 2/2/21ـ22 ترجمة 2600.
(2) - لعله "الزهر" وقد ذكره له كما أثبته إسماعيل باشا البغدادي في إيضاح المكنون 1/619.
(3) - ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 2/1235 وقال أوله: "الحمد لله الذي فضل بفضله من اختاره " وذكره البغدادي في هدية العارفين 1/139.
(4) - ذكره البغدادي في هدية العارفين 1 ع/139.
(1/108)
ومما قال الإمام برهان الدين الجعبري في الثناء عليه رغم فارق الزمان بينه وبينه قوله:
سقت سحب الرضوان طلا ووابلا ... ثرى ضم شخص الشاطبي المسدد
إمام فريد بارع متورع ... صبور طهور ذي عفاف مؤيد
زكا علمه فاختاره الناس قدوة ... فكم عالم من دره متقلد
هنيئا ولي الله بالخلد ثاويا ... بعيش رغيد في ظلال مؤبد
عليك سلام الله حيا وميتا ... وحييت بالاكرام يا خير مرشد(1)
وعلى العموم فإن مقدار هذا الإمام لا تفي به الكلمات، ويكفي في إدراك عظيم مكانه ومكانته في علوم الرواية وغيرها، أننا نجده مترجما في عامة الطبقات، فهو عند الفقطي والسيوطي وغيرهما في علماء اللغة والنحو(2) وعند الذهبي وابن الجزري في طبقات القراء(3)، وعند الداودي وغيره في طبقات المفسرين(4)، وعند ياقوت في معجم الأدباء(5)، وعند السبكي في طبقات الشافعية(6)، وعند ابن فرحون وابن مخلوف في طبقات المالكية(7)، وعند جميع من صنفوا في الأعلام كابن الأبار وابن خلكان وابن عبد الملك والمقري وابن العماد وسواهم(8).
__________
(1) - ذكرها الجعبري لنفسه في ترجمة الشاطبي في كنز المعاني (مخطوط).
(2) - أنباه الرواة 4/160ـ162 ترجمة 942ـ وبغية الوعاة 2/260 ترجمة 1929.
(3) - معرفة القراء الكبار: 2/457 طبقة 14ـ وغاية النهاية 2/20 ترجمة 2600.
(4) - طبقات الداودي 2/39ـ42 ترجمة 413.
(5) - معجم الادباء 16/293.
(6) - طبقات الشافعية 4/297.
(7) - الديباج المذهب لابن فرحون 224 وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية لابن مخلوف 159 طبقة 12 ترجمة 491.
(8) - الذيل والتكملة 5 القسم الثاني 548ـ557 ترجمة 1088ـ ونفح الطيب 2/230ـ232 ووفيات الأعيان 4/71ـ72 ترجمة 557 ـ وشذرات الذهب 4/301.
(1/109)
وسوف نرى من خلال تقريظ العلماء والقراء لآثاره وتقديرهم لها مزيدا من التنويه بشخصيته والاعتراف له من لدن أهل هذا العلم بالنبوغ البعيد المدى والبراعة المنفطعة النظير في مجال النظم التعليمي والإحاطة والحذق في الفن، والقبول الذي لقيته آثاره بوجه عام. وهذه أهم آثاره العلمية وما قام عليها من نشاط.
آثاره:
على الرغم من ضرارة الشاطبي ـ رحمه الله ـ بفقدانه لحاسة البصر التي هي من أهم عمد المبصرين في الاشتغال بطائفة من الفنون المتصلة بالقراءة كالرسم والضبط واستقراء القواعد فإنه مع ذلك قد أسهم في إغناء المكتبة القرآنية بإنتاج أصيل ومتنوع يتناسب مع الطور الذي عاش فيه، قام عليه إنتاج علمي غني في مختلف العصور اللاحقة.
وقد استخدم أسلوب النظم التعليمي استخداما عجيبا في تقريب طائفة من علوم القراءة على المتعلمين وتيسيرها للحفظ، فجاءت آثاره كلها على هذا النسق مصوغة في قوالب رائعة استهوت معارضتها عددا كبيرا من أئمة هذا الشأن في مختلف العصور، كما قامت على بيان مقاصده فيها ووصلها بأصولها التي أخذها منها حركة زاهية لم تفتر ولم يتوقف سيرها واستمرارها منذ زمنه إلى اليوم.
ولئن كنا قد نوهنا بمقام الريادة في أسلوب النظم التعليمي عند مثل الإمام أبي عمرو الداني في الأرجوزة المنبهة التي ضمنها كثيرا من تاريخ القراءة وأحكامها وأصولها الأدائية، ومثل الإمام أبي الحسن الحصري الرائد في النظم في أصول قراءة نافع خاصة، فإننا نعتبر الإمام الشاطبي رائدا بصفة خاصة في استيعاب أحكام القراءات السبع ومسائل الخلاف فيها أصولا وفرشا مع اصطناع الرموز بكيفية بارعة لضبط هذه المسائل ونسبة كل حرف إلى من قرأ به من القراء والرواة عنهم. وهذه آثاره المعروفة مع تقديم تعريف بها وما قام حولها من نشاط:
(1/110)
1- قصيدته "حرز الأماني ووجه التهاني" وتسمى أيضا بـ"القصيدة" وبـ"اللامية" أو "الشاطبية الكبرى". وموضوعها القراءات السبع المشهورة، وسيأتي الحديث عنها في آخر هذه القائمة.
2- قصيدته الرائية "عقيلة أتراب القصائد، في أسنى المقاصد" وتسمى أيضا بـ"الرائية" و"العقيلة" أو الشاطبية الصغرى"، وموضوعها رسم المصحف العثماني، وسيأتي الحديث عنها أيضا.
3- القصيدة الرائية أيضا في عدد الآي "ناظمة الزهر"، وجاء اسمها في بعض الفهارس: ناظمة الزهر في الاعتداد، واختلاف أهل البلاد"(1). وسياتي التعريف بها.
4- قصيدته الدالية في نظم "التمهيد"لأبي عمر بن عبد البر في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس.
يظهر أن الشاطبي قد لخص فيها أبواب الكتاب، وبين منهج مؤلفه في مباحثه بحيث تيسر على قارئها الانتفاع به، وجملتها كما ذكر صاحبه أبو الحسن السخاوي 500 بيت "من حفظها أحاط علما بكتاب التمهيد"(2).
ولم أقف للقصيدة على ذكر عند أحد من الرواة عنه ولا غيرهم، ولعلها استعملت استعمالا محدودا ثم نسيت، بل إن السخاوي نفسه الذي هو أنبل أصحابه لا يذكر أنه سمعها أو علم عنها أكثر مما أخبره الناظم نفسه(3).
5- قطعته في جذور "الظاءات القرآنية" وقد ذكرناها في ترجمة أبي العباس المهدوي وأبي عمرو الداني لنظمهما في ذلك كما قدمنا. وهذه أبيات الشاطبي:
__________
(1) - توجد مخطوطة بهذا العنوان بمكتبة معهد الأبحاث الإسلامية بباكستان (الموسوعة المغربية لعبد العزيز بن عبد الله 2/85).
(2) - فتح الوصيد للسخاوي لوحة 3ـ4.
(3) - قال في فتح الوصيد:"واخبرني أنه كتاب التمهيد... الخ" ولم يذكر أنه سمع منه القصيدة أو وقف على شيء منها، ولعل الشاطبي قد عدل عن جميع أنشطته المختلفة واقتصر على الأخذ بالمبذأ الذي قدمناه وهو قوله: "ليس للعميان إلا القراء" وقوله لصاحبه وصهره أبي الحسن بن شجاع: "من الفضول أعمى يقرأ الأصول" كما ذكره في الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557.
(1/111)
رب حظ لكظم غيظ عظيم ... أظفر الظفر بالغليظ الظلوم
وحظار يظل ظل حفيظ ... ظامئ الظهر في الظلام كظيم
يقظ الظن واعظ كل فظ ... لفظه كاللظى شواظ جحيم
مظهر لانتظار ظعن ظهير ... ناظر ذا لعظم ظهر كريم
وقد نقل أبياته هذه عدد ممن ترجموا له من شراح الشاطبية، ونشرت أخيرا ضمن الدراسات الخاصة بالظاءات في القرآن(1). وقد عني بشرحها صاحبه أبو الحسن السخاوي شرحا مختصرا ما تزال بعض نسخه محفوظة في بعض الخزائن(2).
6- قطعته الدالية الجوابية التي فسر فيها لغز أبي الحسن الحصري في لفظ "سوءات"(3)
7- متفرقات أخرى في موضوعات مختلفة، أشار إليها الفقطي بقوله: "وله أشعار مأثورة عنه في ظاءات القرآن، وفي موانع الصرف(4) وفي نقط المصحف وخطه، وفي أنواع من المواعظ رحمه الله"(5).
__________
(1) - من هذه الدراسات دراسة بعنوان "كتب الضاد والظاء" عند الدارسين العرب" للدكتور محمد جبار المعيبد نشرت بمجلة معهد المخطوطات العربية بالكويت المجلد 30 الجزء الثاني عدد ذي القعدة 1406 ـ ربيع الآخر 1407هـ ـ ومنها دراسة للدكتور طه محسن عبد الرحمن نشر المديرية العامة للمناهج وزارة التربية ببغداد ص 635ـ648.
(2) - توجد منها نسخة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة برقم 59 علوم القرآن ـ مجاميع (مجلة معهد المخطوطات العربية بالكويت ـ المجلد 30 الجزء الثاني ص 601).
(3) - تفقدم ذكرها في ترجمة الحصري وهي عشرة أبيات أولها قوله: "عجبت لأهل القيروان وما حدوا".
(4) - في انباه الرواة "مواضع" بالضاد، وهو تحريف، والأبيات المذكورة أربعة ذكرها كل من السخاوي في فتح الوصيد والجعبري في كنز المعاني، وأولها قوله: "دعوا صرف جمع ليس بالفرد أشكلا وفعلان فعلى....
(5) - انباه الرواة 4/162.
(1/112)
وقد ساق السخاوي في فتح الوصيد وأبو شامة في إبراز المعاني والجعبري في الكنز وغيرهم قطعا من تلك الأشعار يمكن الرجوع إليها في ترجمته بها. وسنقف معه في نهاية هذه القائمة مع ثلاث قصائد هي أهم ما خلفه من تراثه، وأحفلها بإبراز مظاهر حذقه وإمامته في الفن، وقوة عارضته في تطويع النظم لاستيعاب قضايا القراءة وعلومها، ونبتدئ الحديث عنها برائيته في العدد، وهي قصيدته المسماة:
1ـ ناظمة الزهر في عدد الآي في السور:
وهي إحدى قصائده الثلاث التي سارت بها الركبان، وإن كانت أقلها شهرة عند المتأخرين لذهاب العناية بعلم العدد، وتراجع الاهتمام بمعرفته منذ أزمان، وهي قصيدة رائية على منوال قصيدة الحصري في قراءة نافع ـ الآنفة الذكر ـ وعلى وزنها ورويها، ولم نعدها ضمن معارضاتها نظرا لاختلاف موضوعها عنها.
وعدد أبياتها مائتان وسبعة وتسعون بيتا، أما موضوعها فهو علم عدد الآي واختلاف النقلة فيه.
وقد بناها على عادته على بعض مصنفات أبي عمرو الداني وهو "كتاب البيان في عد آي القرآن"(1)، إلا أنه ذكر فيها أنه استعان بما جمعه أيضا أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي كما سيأتي في إشارة له.
وهذا عرض موجز لأهم أجزاء القصيدة ومحتوياتها:
بدأت بحمد الله ناظمة الزهر ... لتجني بعون الله عينا من الزهر(2)
وعذت بربي من شرور قضائه ... ولذت به في السر والجهر من أمري
إلى أن يقول في بيان غرض التأليف:
واني استخرت الله ثم استعنته ... على جمع آي الذكر في مشرع الشعر
وأنبطت في أسراره سر عذ بها ... فسر محياه بمثل حيا القطر
__________
(1) - ذكرناه في مؤلفات أبي عمرو، وقد ذكر الشيخ عبد الفتاح القاضي أنه "اختصر فيها كتاب البيان في عد آي القرآن "للإمام الداني" ـ ذكره في كتابه "الوافي في شرح الشاطبية ص4".
(2) - ناظمة الزهر "بضم الزاي بمعنى النجوم الزهر جمع زهراء وهي الشديدة الاشراق. والزهر في آخر البيت بفتح الزاي النور والورد المعروف.
(1/113)
ستحيي معانيه مغاني قبولها ... لإقبالها بين الطلاقة والبشر
وتطلع آيات الكتاب أياتها ... فتبسم عن ثغر وما غاب من ثغر
وتنظم أزواجا تثير معادنا ... تخيرها خير القرون على التبر
إلى أن يقول في تسمية علماء السلف المهتمين بنقل العدد:
ولما رأى الحفاظ أسلافهم عنوا ... بها دونوها عن أولي الفضل والبر
فعن نافع عن شيبة ويزيد أو ... ل المدني، إذ كل كوف به يقري
وحمزة مع سفيان قد أسنداه عن ... علي عن أشياخ ثقات ذوي خبر
والآخر إسماعيل(1) يرويه عنهما(2) بنقل ابن جماز سليمان(3) ذي النشر
بأن رسول الله عد عليهما ... له الآي توسيعا على الخلق في اليسر
وعد عطاء بن اليسار كعاصم ... هو الجحدري في كل ما عد للبصري
ويحيى الذماري للشآمي وغيره ... وذو العدد المكي أبي بلا نكر
وأكده أشباه آي كثيرة ... وليس لها في عزمة العد من ذكر
وسوف يوافي بين الأعداد عدها ... فيوفي على نظم اليواقيت والشذر
إلى أن يقول عن المصادر التي اهتمت بذكر الخلاف وما اعتمده منها:
وقد ألفت في الآي كتب، وانني ... لما ألف الفضل بن شاذان مستقر(4)
روى عن أبي والذماري وعاصم ... مع ابن يسار ما اجتبوه(5) على يسر
وما لابن عيسى(6) ساقه في كتابه ... وعنه روى الكوفي، وفي الكل أستبري
__________
(1) - هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير تقدم في أصحاب نافع.
(2) - يعني عن كل من شيبة بن نصاح ويزيد بن القعقاع شيخي نافع.
(3) - تقدم في الرواة عن أبي جعفر ونافع.
(4) - هو الفضل بن شاذان بن عيسى أبو العباس الرازي صاحب كتاب "عدد آي القرآن" وقد أسند كتابه المذكور الإمام المنتوري وسمع بعضه تفقها على شيخه القيجاطي كما ذكر في فهرسته، توفي في حدود 290. ترجم له ابن الجزري في غاية النهاية 2/10 ترجمة 2562.
(5) - في الأصل "احتبوه" بالحاء. وابن عيسى هو الاصبهاني محمد بن عيسى ـ تقددم ـ مترجم في الغاية 2/223.
(6) - نفسه.
(1/114)
ولكنني لم أسر إلا مظاهرا ... بجمع "ابن عمار"(1) وجمع أبي عمرو(2)
عسى جمعه في الله يصفو ونفعه ... يعم برحماه، فيشفي من الضر
على الله فيه عمدتي وتوكلي ... ومنه غياثي، وهو حسي مدى الدهر
ثم قال: باب علم الفواصل والاصطلاحات في الأسماء وغيرها
وليست رِؤوس الآي خافية على ... ذكي بها يهتم في غالب الأمر
وما هن إلا في الطوال طوالها ... وفي السور القصرى القصار على قدر
وكل توال في الجميع قياسه ... بآخر حرف أو بما قبله فادر
وجاء بحرف المد الأكثر منهما ... ولا فرق بين الياء والواو في السير
وها أنا بالتمثيل أرخي زمامه ... لعلك تمطوها ذلولا بلا وعر
كما"العالميبن" "الدين" بعد "الرحيم" "نستعين" عظيم" "يومنون" "بلا كدر"(3)
"سجى"والضحى""ترضى""فآوى"وماولد""كبد" و"البلد""يولد"مع"الصمد" "البر"
ثم قال بعد إيراد أنواع الفواصل متحدثا عن الاصطلاح الذي سيأخذ به في الرمز:
وخذ بعلامات في الأسماء علمهم ... لمك بـ"حجر" والمديني بـ"القطر"
وقل فيهما "صدر" و"نحر" سواهما ... وخذ فيهما مع صحبة الشام بـ"الكثر"
ومك مع الكوفي "مثر" وكيفما ... جرين فهن القصد عن عرف أو نكر
وعد "أبي جاد" به بعد الاسم من ... أوائل حذ والواو تفصل في الاثر
وما قبل أخرى الذكر أو بعده لمن ... تركت اسمه في البضع، فأبضع بما ييري
وسميت آي العد في آي خلفهم ... بستتها الأولى ورتبت ما أجري
جعلت المديني أولا ثم آخرا ... ومك إلى شام وكوف إلى بصري
ثم بدأ في ذكر غرضه من النظم بـ"سورة أم القرآن" فقال:
__________
(1) - المراد أحمد بن عمار المهدوي كما تقدم. وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمته.
(2) - هو أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني الحافظ.
(3) - هذه الامثلة من سورة الفاتحة وأول سورة البقرة لرؤوس الآي المتفق عليها.
(1/115)
وأم القران الكل سبعا يعدها ... ولكن عليهم أولا يسقط "المثر(1)
ويعتاض "لسم الله" و"المستقيم" قل ... لكل، وما عدوا "الذين"على ذكر
ثم انتقل إلى ذكر سورة البقرة وما بين أهل العدد فيها من خلاف في تعيين رؤوس الآي فقال:
وفي البقرة في العد بصرية (ر)ضا ... (ز)كا (ف)يه وصفا، وهي خمس عن "الكثر"(2)
"أليم" (د)نا و"مصلحون" فدع له ... وثاني "أولي الألباب" دع(ج)انب (ا)لوفر
وهكذا تابع المواضع المختلف في عدها بين أهل العدد في باقي السورة ثم في سائر السور إلى أن بلغ آخرها فقال:
وفي "الناس" ست، والشآمي ومكة ... (ز)كا لهما "الوسواس عد وكن مدري
وتمت بحمد الله حسنى مفيدة ... فلله رب العرش حمدي مع الشكر
وأبياتها تسعون مع مائتين قل ... وزد سبعة تحكي اللجين مع الدر
وأهدي صلاة الله ثم سلامه ... على المصطفى والآل مع صحبه الغر
والاتباع أهل العلم والزهد والتقى ... مع الفضل والإحسان والعفو والصبر
__________
(1) - هذا اول رمز استعمله للإشارة إلى المتفقين، ويريد بهم أهل مكة واهل الكوفة، وهم الذين يسقطون من عدد آي الفاتحة "انعمت عليهم"، ويعدون بدلها "لسم الله الرحمن الرحيم" في أولها، ينظر في ذلك "البيان عن عد آي القرآن" للداني (مخطوط) وجمال القراء 1/190ـ191.
(2) - يعني المكي والمدني والشامي. والراء تعني قيمتها العددية وهي 200 وكذلك الزاي 7 والفاء 80 ومجموع ذلك 287 وهو عدد آي سورة البقرة حسب العد البصري، والدال بعدها في "دنا" للشامي وهو الذي عد "عذاب أليم بما كانوا يكذبون "وأسقط" مصلحون" ـ ينظر جمال القراء 1/200.
(1/116)
تلك هي قصيدته "ناظمة الزهر، وهي منشورة بعناية الشيخ علي بن محمد الضباع المصري ـ رحمه الله ـ في مجموع "إتحاف البررة بالمتون العشرة"(1).
شروحها والاهتمام بها:
ولقد لقيت القصيدة من العناية ما يناسب موضوعها المختص، وعني بها غير واحد من المتاخرين شرحا وبسطا، ونظم بعضهم على منوالها محتذيا أو معارضا.
ـ فممن نظم على منوالها الإمام برهان الدين الجعبري، وذلك في قصيدته "حديقة الزهر في عدد آي السور"(2)، وهي قصيدة دالية أولها:
بدأت بحمد الله أول مقصدي ... وصليت بعده على الطهر أحمد(3)
أما شراحها فمنهم:
1- أبوعبيد رضوان بن محمد، وعنوان كتابه "الوجيز، في فواصل الكتاب العزيز" (محطوط) (4).
2- والحاج عبد الله بن صالح الإمام بجامع أبي أيوب الأنصاري، والمتوفى سنة 1252هـ، وعنوان كتابه "لوامع البدر، في بستان ناظمة الزهر"(5).
__________
(1) - مجموع يحتوي على حرز الأماني وعقيلة الأتراب وناظمة الزهر للشاطبي وطيبة النشر وغيرها لابن الجزري وبعض المنظومات في التجويد جمعها ورتبها وصححها الشيخ علي محمد الضباع، وتقع المنظومة "ناظمة الزهر" فيما بين 342ـ372 من المجموع المذكور.
(2) - ذكرها لهالشيخ محمد بن جابر الوادي آشي في برنامج 47ـ48 في جملة مؤلفاته وقال: أجازني إجازة عامة بشروطها عند أهلها".
(3) - وقفت على قصيدته مخطوطة في مجموع عتيق غير مرقم بخزانة أوقاف آسفي.
(4) - توجد نسخة مخطوطة من الشرح المذكور في مجلد كتب سنة 1213هـ، وهي محفوظة بمكتبة بلدية الاسكندرية بمصر تحت رقم 5255 ج حسب كتاب (أعلام الدراسات القرآنية في خمسة عشر قرنا "للدكتور مصطفى الصاوي الجويني، 203 الرقم الترتيبي 69. وطبع اخيرا بتحقيق الشيخ عبد الرازق بكلية القرآن السعودية.
(5) - ذكره البغدادي في إيضاح المكنون (ذيل كشف الظنون) 2/عمود 414.
(1/117)
3ـ والشيخ علي بن محمد بن حسن بن إبراهيم المصري المعروف بالضباع رئيس مشيخة عموم المقارئ والإقراء بمصر وعنوان شرحه "قطف الزهر، من ناظمة الزهر، في علم الفواصل" (مخطوط) (1).
4- والشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي المصري، وعنوان شرحه "بشير اليسر، في شرح ناظمة الزهر، في علم الفواصل"(2).
5- والشيخ عبد الفتاح القاضي رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر ومدرس علم القراءات، وصاحب "الوافي في شرح الشاطبية ـ كما سيأتي ـ، وقد ذكر فيه أن له علة ناظمة الزهر شرحا وجيزا نافعا"(3)، ولم يذكر له عنوانا، كما لم يشر إلى أنه طبع.
هذه هي الشروح التي وفقت على ذكرها، وجميعها كما هو ملاحظ مشرقية، ولم أقف على شرح لها لأحد من المغاربة.
2- -قصيدته الرائية: "عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد":
وهي ثاني قصائده شهرة بعد قصيدة الحرز، وتعرف أيضا بـ"الشاطبية الصغرى" تمييزا لها عن الكبرى. وأبياتها مائتان وثمانية وتشعون بيتا من بحر "البسيط"، وتزيد على ناظمة الزهر ببيت واحد.
ولعلها نظمت بعد حرز الاماني وناظمة الزهر، وقد علل أبو بكر بن عبد الغني اللبيب لوجه تسميتها بـ"عقيلة الأتراب" بقوله: "وكان الشاطبي ـ رحمه الله ـ تظم جملة قصائد في فنون كثيرة، فجعل هذه القصيدة عقيلتهن، لأجل أنها تضمنت رسم الكتاب العزيز"(4).
وقد نظم فيها كتاب "المفنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار" للحافظ أبي عمرو الداني، وزاد عليه زيادات يسيرة من كتبه وكتب غيره(5).
__________
(1) - مخطوط ذكره له الشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي في كتابه "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" ص 290.
(2) - ذكره المؤلف لنفسه في قائمة كتبه في آخر "هداية القارئ" ص 670.
(3) - مقدمة كتاب الوافي ص4.
(4) - الدرة الصقيلة في شرح العقيلة للبيب وستأتي في شروحها.
(5) - ستأتي الإشارة إلى ذلك من كلام الناظم.
(1/118)
ولقد أشار العلامة ابن خلدون إلى عمله هذا في سياق حديثه عن تطور التأليف في علوم القراءة باعتباره معلمة بارزة في تاريخها، فقال بعد ذكر كتاب "المقنع" المذكور: "أخذ به الناس وعولوا عليه، ونظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء، وولع الناس بحفظها"(1).
ثم جاء أبو عبد الله الخراز ـ كما سيأتي ـ فجمع بينها وبين أصلها وغيره في أرجوزة "مورد الظمآن" فكان الشاطبي بعمله هذا قد مهد الطريق ونهجها له ولمن سلك هذه السبيل من العلماء والمؤلفين.
وهذا عرض موجز لمحتويات القصيدة: قال رحمه الله:
الحمد لله موصولا كما امرا ... مباركا طيبا يستنزل الدررا
ذو الفضل والمن والإحسان خالقنا ... رب العباد هو الله الذي قهرا
إلى ان قال بعد خمسة أبيات مبينا لموضوع القصيدة:
وبعد فالمستعان الله في سبب ... يهدي إلى سنن المرسوم مختصرا
علق علائقه أولى العلائق إذ ... خير القرون أقاموا أصله وزرا
وكل ما فيه مشهور بسنته ... ولم يصب من أضاف الوهم والغيرا
ثم تحدث في مقدمة القصيدة عن معلومات عامة عن رسم المصحف والأصل فيه، لأنه من تعليم الصحابة الكرام، وربطه بإعجاز القرآن، ورد على القائلين بتعليل إعجازه بـ"الصرفة"، ثم ساق قصة اليمامة وظهور مسيلمة الكذاب متنبئ بني حنيفة في زمن الصديق رضي الله عنه، وما ترتب عليها من موت طائفة من القراء فيها، مما حدا إلى التفكير في جمع القرآن في مصحف مخافة ذهاب شيء منه بموت الحفاظ، ثم تطرق إلى قضية الاختلاف في حروف القراءة في زمن عثمان وكيف انتهت بتدوين المصحف الإمام وانتساخ نسخ منه بأمر من عثمان بن عفان فقال على لسانه:
على لسان قريش فاكتبوه كما ... على الرسول به انزاله انتشرا
فجردوه كما يهوى كتابته ... ما فيه شكل ولا نقط فيحتجرا
وسار في نسخ منها مع المدني ... كوف وشام وبصر تملأ البصرا
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون 438.
(1/119)
وقيل مكة والبحرين مع يمن ... ضاعت بها نسخ في نشرها قطرا(1)
ثم انتقل بعد أبيات إلى بيان مصدر الحلاف في مباحث الرسم فقال:
وبين نافعهم في رسمهم وأبي ... عبيد(2) الخلف في بعض الذي أثرا
ولا تعارض مع حسن الظنون فطب ... صدرا رحيبا بما عن كلهم صدرا
وهاك نظم الذي في مقنع عن أبي ... عمرو وفيه زيادات فطب عمرا
ثم قال شارعا في الغرض ... :"ّباب الإثبات والحذف وغيرهما مرتبا على السور، من البقرة إلى الأعراف":
بالصاد كل صراط والصراط وقل ... بالحذف مالك يوم الدين مقتصرا
واحذفهما بعد في ادارأتم ومسا ... كين هنا ومعا يخادعون جرى
وقاتلوهم وأفعال القتال بها ... ثلاثة قبله تبدو لمن نظرا
هنا، ويبصط مع مصيطر وكذا المصيطرون بصاد مبدل سطرا
وفي الامام "اهبطوا مصرا" به ألف ... وقل "وميكال" فيها حذفها ظهرا
ونافع حيث "واعدنا"خطيئته" ... و"الصعقة" "الريح" تفدوهم" هنا اعتبرا
معا "دفاع"رهان" مع "مضاعفة" ... و"عاهدوا" وهنا "تشابه" اختصرا
وهكذا ساق الحذف في جميع القرآن سواء كان المحذوف ألفا أو واوا أو ياء أو نونا أو غير ذلك(3) وربما وقف على بعض المستثنيات من ذلك ونبه على بعض الخلاف كقوله:
والأعجمي ذو الاستعمال خص وقل ... طالوت جالوت بالإثبات مغتفرا
ياجوج ماجوج في هاروت تثبت مع ... ماروت قارون مع هامان مشتهرا
وكل جمع كثير الدور كالكلمات البينات، ونحو الصالحين ذرا
سوى المشدد والمهموز فاختلفا ... عند العراق، وفي التأنيث قد كثرا
وما به ألفان عنهم حذفا ... كالصالحات وعن جل الرسوم سرى
ثم بعد تمام أمثلة الحذف والإثبات انتقل إلى الحديث عن بعض ما زيد في الرسم، ومن ذلك قوله:
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى أصل هذا في المقنع لأبي عمرو الداني ص9.
(2) - هو القاسم بن سلام المروزي ثم البغدادي (ت 224) تقدم.
(3) - مثل حذف النون في "فننجي من نشاء" و"ننجي المومنين". وحذف الهاء في بعض المصاحف من "وما عملته أيديهم" وكذلك "ما تشتهيه الأنفس".
(1/120)
في الكهف شين "لشيء" بعده ألف ... وقول في كل شيء ليس معتبرا
وزاد في "مائتين الكل مع "مائة" ... وفي "ابن" إثباتها وصفا وقل خبرا
وهكذا سار في نظمه حتى أتى على الألفات المرسومة واوا نحو "الصلوة" و"الزكوة" والموصول والمفصول، وما اختلف في رسمه بالإفراد أو الجمع وهو آخر الفصول فيها، وقد ختمها بها رسم بتاء مبسوطة من الأسماء فقال:
وذات مع يا أبت ولات حين وقل ... بالها "مناة" نصير عنهم نصرا
تمت عقيلة أتراب القصائد في ... أسنى المقاصد للرسم الذي بهرا
تسعون مع مائتين مع ثمانية ... أبياتها ينتظمن الدر والدررا
وما لها غير عون الله فاخرة ... وحمده أبدا وشكره ذكرا
ترجو بأرجاء رحماه ونعمته ... ونشر إفضاله وجوده وزرا
ما شان شان مراميها مسددة ... فقدان ناظمها في عصره عصرا
غريبة ما لها مرآة منبهة ... فلا يلم ناظر من بدرها سررا
فقيرة حين لم تعني مطالعة ... إلى طلائع للإغضاء معتذرا
كالوصل بين صلات المحسنين بها ... ظنا، وكالهجر بين المهجرين سرى
من عاب عيبا له عذر فلا وزر ... ينجيه من عزبات اللوم متئرا
وإنما هي اعمال بنيتها ... خذ ما صفا واحتمل بالعفو ما كدرا
وهكذا ساق ختام القصيدة(1) ثم أردف بالدعاء بالمغفرة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم الصلاة على المختار سيدنا ... محمد علم الهادين والسفرا
تندى عبيرا ومسكا سحبها ديما ... تمنى بها للمنى غاياتها شكرا
وتنثني فتعم الآل والشيع المهاجرين ومن آوى ومن نصرا
تضاحك الزهر مسرورا أسرتها ... معرفا عرفها الآصال والبكرا
__________
(1) - القصيدة بتمامها في مجموع "اتحاف البررة بالمتون العشرة" من ص 317 إلى 341.
(1/121)
تلك صورة موجزة عن العقلية أو "الشاطبية الصغرى" إحدى الفرائد الثلاث التي حلى بها الإمام الشاطبي أجياد المصنفات في هذا العلم، وأبدعها مثالا جهدت الأجيال المتعاقبة بعده على احتذائه ومحاولة فهم مقاصده وبيانها، وقد جاء بها في زمنه فسد بها فراغا هائلا، وعلى الأخص في المدارس المشرقية التي كانت حتى هذا العهد تتخبط في خلافيات الرسم ولا تكاد تجد من كثير من مشكلاته مخرجا مقنعا ولا بيانا شافيا، ولقد أسدى الإمام الشاطبي من خلالها إلى المدرسة الأثرية خاصة والمدرسة المغربية عامة أيادي بيضاء جديرة بكل تقدير، كما أسدى مثل ذلك إلى مسائل هذا العلم خاصة لما امتازت به قصيدته من الاختصار وحسن العرض وجمال الصياغة مع تلخيص أهم قواعد الرسم وجزئياته والتنبيه على أمهات المسائل فيه، بالإضافة إلى ما لها من قيمة فنية وتعليمية بحكم نظمها الميسر للحفظ والاستظهار، ولهذا نجدها سرعان ما دخلت ضمن المتون المعتمدة أو "الكراريس" التي كان المتعلمون ملزمين بعرضها على مشايخهم عن ظهر فلب قبل أن يأخذوا معهم في مباحثها وبسط قواعدها.
صور مما قام حول العقيلة من نشاط علمي خلال العصور:
ولقد حظيت العقيلة بقريب من العناية التي حظيت بها قرينتها "الشاطبية الكبرى" كما سيمر بنا ـ بل كانتا عند أكثر الرواة منذ ظهورهما كالتوأمين أو العدلين لا تكاد تجد راويا يروي هذه دون أختها بل نجد الغالب الأعم في تراجم الرواة عبارة "سمع الشاطبيتين" وقرأ الشاطبيتين".
(1/122)
وكانت العناية بها عند المشارقة أكثر نظرا لما ذكرناه من شدة الحاجة إليها، ولاهتمام بعض أصحاب الشاطبي بروايتها ونشرها وشرح مقاصده فيها، ثم بدأت الشروح عليها تزداد مع الزمن، كما نظم بعض العلماء على منوالها كما فعلوا مع غيرها، مما يمثل جانبا من الإشعاع العلمي الرفيع الذي كانت أعمال هذا الإمام محورا له، على الرغم من مزاحمة طائفة من الأعمال النظمية لها في هذا المجال وخصوصا في المدرسة المغربية منذ أول المائة الثامنة كما سوف نرى عند أمثال الخراز والقيسي والفخار وغيرهم من العلماء.
ولقد عني بمعارضته فيها أو النظم على منواله على الأقل شارح كتبه القيم على تراثه بين أئمة المشرق في المائة الثامنة أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري، وذلك بقصيدته المسماة "رسم البرهان في هجاء القرآن"، وهي قصيدة رائية على وزن قصيدة الشاطبي ورويها ذكرها له في "كشف الظنون" وقال: "معارضة للرائية للجعبري"(1).
ـ وعارضها أيضا العلامة محمد بن خليل بن عمر القشسيري الأربلي في قصيدة في الرسم سماها "واضحة الفهوم في في علم المرسوم"(2)، عدد أبياتها 332 بيتا، وأشار في أولها إلى ما زاد به على العقيلة بقوله:
"زادت رسوما على ما في "عقيلة أتراب" بها لم ينل فضلا لها الكبرا(3)
ـ ولبرهان الدين الجعبري أيضا على منوالها قصيدة "روضة الطرائف في رسم المصاحف"(4) وعدد أبياتها 217، وهي لامية من بحر البسيط أيضا، وقد أشار فيها إلى أنه نظم فيها مسائل "العقيلة" وزاد عليها فقال:
__________
(1) - كشف الظنون 1/572. وسيأتي ذكر قصيدة أخرى له على وزن العقيلة ورويها شرحها بها باسم "النزهة".
(2) - توجد منها نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية (تيمور 447 تفسير).
(3) - ذكره غانم قدوري في كتابه "رسم المصحف" 179.
(4) - ذكرها له الوادي آشي في برنامجه 47 والبغدادي في إيضاح المكنون 1/977.
(1/123)
"لامية عذبت في عقدها نظمت ... "رائية"، وربت مسائلا مثلا(1)
وقد استدرك عليه فيها بعض الشراح ببعض الزيادات التي رأوها لازمة(2)، ولذلك اختلف عدد أبياتها اختلافا يسيرا، ففي شرحها المطبوع الآتي لابن القاصح 299 بيتا، وقد أتم علم الدين السخاوي العدد فكان عدد أبياتها في شرحه عليها 300 بيت كما في نسختي دار الكتب المصرية (قراءات 29)، و(قراءات 30) ق(3).
شراحها وشروحها:
وقد عني العلماء إلى جانب روايتها والنظم على منوالها بوضع الشروح عليها لتقريب مسائلها، فمن شروحها المعروفة التي وقفت عليها أو على ذكرها:
1- شرح العلامة علم الدين علي بن محمد السخاوي (ت 643)، وهو من رواتها عن ناظمها، وشرحه بعنوان "الوسيلة إلى كشف العقيلة" او "الوسيلة إلى شرح العقيلة" كما ذكره ابن الجزري وعامة من ترجموا له(4)، وهو في مجلد متوسط، ونسخه الخطية متوافرة في خزائن، المشرق والمغرب(5). وبلغني انه طبع اخيرا محققا ولم أقف عليه بعد.
وأول الشرح قوله: "الحمد لله الذي أبدأ المنن وأعادها، وأسبغ النعم وأفادها،... وبعد فإن الله جعل الكتابة من اجل صنائع البشر وأعلاها...
وآخره قوله: "وقال علي بن الجهم:
"لم يضحك الورد إلا حين أعجبه ... حسن الرياض وصوت الطائر الغرد"
وهذا كثير في الشعر، والله سبحانه وتعالى أعلم".
__________
(1) - رسم المصحف لغانم قدوري 179.
(2) - من تلك الزيادات بيت زاده اللبيب في شرحه عليها وهو قوله:
"يخادعون الاله وهو خادعهم فاحذفهما فهما في مقنع ذكرا".
(3) - يراجع في ذلك الشرحان المذكوران، وقد نبه على ذلك غانم قدوري في "رسم المصحف" له ص 178.
(4) - غاية النهاية 1/570 ترجمة 2318 ـ والجعبري في آخر الكنز.
(5) - منه مخطوطة بالخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم 8008 ونسخة بمكتبة الأزهر (84) 4895 ونسخ أخرى. منها بدار الكتب برقم 66 (قراءات) وبمعهد المخطوطات برقم 500 تفسير، وبدار التربية الإسلامية ببغداد رقم 7.
(1/124)
وقد اعتمد هذا الشرح عامة شراح العقيلة منذ ظهوره، ومن أقدم من اعتمده من المغاربة أبو عبد الله الخراز صاحب "مورد الظمآن (ت 718)، وقد أشار شارح قصيدته "مورد الظمآن" أبو محمد بن أجطا إليه في أول شرحه حيث ذكر كتاب "المقنع" لأبي عمرو الداني وقال: "سمعت الناظم رحمه الله مرارا يقول انهما مقنعان لأبي عمرو ـ رحمه الله ـ أحدهما أعظم جرما من الآخر، وأظن هذا الذي في أيدي الناس هو الكبير... وكان رحمه الله يذكر لنا ذلك ويقوله في مواضع من "العقيلة" في وقت إقرائه ـ رحمه الله ـ لأن أبا الحسن السخاوي ـ رحمه الله ـ يقول في عدد من أبياتها: "هذا من زيادة العقيلة على ما في المقنع"، وهو في المقنع مذكور، فكان يعتذر للسخاوي بذلك ويقول: لعله لم يطالع إلا المقنع الصغير"(1).
2- شرح العقيلة للشيخ أبي بكر بن عبد الغني اللبيب المعروف بـ"الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة"
يعتبر هذا الشرح من أهم شروحها المعروفة إن لم يكن أهمها، كما يعتبر أوسعها مادة وأوفرها نقولا عن المصادر وعلى الأخص المصادر المغربية المفقودة، وقد وقفت على عدد وافر من نسخه في الخزائن العامة والخاصة(2).
ومؤلفه الشيخ أبو بكر بن أبي محمد عبد الغني الشهير باللبيب(3)، وهو "من أبناء تونس وبها قرأ على جماعة، منهم الحاج يوسف القادسي الأندلسي، والشيخ أبو محمد اللقي، وبرع في العربية وعلوم القرآن".
__________
(1) - التبيان في شرح مورد الظمآن لأبي محمد بن أجطا عند قول الخراز: أجلها فاعلم كتاب المقنع".
(2) - توجد منه نسختان بالخزانة العامة بالرباط برقم 399ق ــ2226د وبالخزانة الحسنية نسخة برقم 3893.
(3) - هذا هو المعتمد في اسمه ونسبه ويظهر أن اسمه أبو بكر وأما أبو محمد فكنية أبيه، وقد رأيت في بعض النسخ "لأبي بكر بن أبي محمد عبد الله"، وفي بعضها" لأبي محمد عبد الغني، وما أثبتناه هو الأكثر والموجود في النسخ العتيقة.
(1/125)
قال مؤلف كتاب العمر بعد أن ذكر ما تقدم: "لم نقف على ترجمته، وإنما استفدنا شيئا من أخباره في نفس تأليفه الآتي ـ يعني الدرة الصقيلة ـ نعلم أنه سافر إلى مصر والشام، وتعرف بأعيان من العلماء، حكى عن نفسه قال: دخلت في جامع بني امية بدمشق موضعا يقال له "مسجد علي بن أبي طالب فرأيت فيه مصحفا بخط كوفي يقال إنه بخط يد علي رضي الله عنه، والذي يظهر لي أنه كان يعيش في آخر القرن الثامن إلى أوائل التاسع"(1).
قلت: ما ذكره كاتب الترجمة كله مستفاد من كتابه "الدرة الصقيلة"، وقد رأيته اغفل إشارة مهمة فيه ذكرها اللبيب تساعد على تحديد زمن حياته، فقد قال في معرض الحديث عن حذف بعض الألفات من الرسم عند ذكر حذف "وله المنشآت": "ورأيت في تلمسان عند شيخي أبي عبد الله بن خميس ـ رحمه الله ـ كتاب الدر النظيم في رسم حروف القرآن العظيم... وذكر رسم "يحيى من حيي عن بينة" الخ.
فهذا القول يفيدنا أنه درس غالبا أيضا بتلمسان، كما يفيدنا انه قرأ على هذا الشيخ، ونستفيد مما جاء في ترجمة الشيخ المذكور وهو أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد الحجري الرعيني التلمساني (625ـ708) (2) ومن قوله عنه ـ"رحمه الله"ـ انه كتب شرحه بعد وفاة هذا الشيخ، ولما كان قد كتبه وهو ـ كما سيأتي ـ شيخ كبير، فالراجح أنه كتبه حول سنة 720 أو بعدها، ونستفيد أيضا من اعتماد أبي محمد بن أجطا عليه في بعض النقول ـ أعني في بيان عدد كتب أبي عمرو الداني فيما نقلناه عنه آنفا في ترجمته ـ على أنه عند فراغ ابن أجطا من كتابه سنة 744 كان كتابه من الشهرة بحيث وصل إليه وكان من مصادره(3).
__________
(1) - كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين 1/169 مراجعة محمد العروسي المطوي وبشير البكوش.
(2) - مصادر ترجمته في معجم أعلام الجزائر لعادل نويهض 170ـ171.
(3) - ذكر ابن أجطا هذا التحديد في آخر شرحه.
(1/126)
ويزكي هذا كما يزيد في بيان المدة التي يمكن أن يكون قد فرغ فيها من تأليفه ما جاء في إحدى نسخه الخطية المحفوظة بدار الكتب الوطنية بتونس"(1) وفي ديباجتها ما يلي "الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة تأليف الأستاذ المقرئ المقدس المرحوم أبي بكر بن أبي محمد عبد الغني"، وتاريخ نسخها السابع من شوال المبارك عام 736(2).
فقوله في الديباجة "المقدس المرحوم" وتاريخ نسخه المذكور يدلان على ان مؤلفه كان في هذا التاريخ قد مات رحمه الله.
ولعل شرحه هذا هو ثاني شرح كتب على العقيلة بعد شرح السخاوي عليها ـ كما سيذكره ـ وهذا تعريف موجز به حسب إحدى نسخه الخطية التي وفقت عليها في خزانة خاصة(3) وقد كتب عليها العنوان هكذا: "الدرة الصقيلة في إثبات شرح العقيلة" تأليف الشيخ المقرئ الضابط المتقن أبي بكر بن الشيخ المرحوم أبي محمد عبد الغني المشتهر باللبيب ـ رحمة الله عليه ـ ورضوانه لديه:
"الحمد لله العظيم السلطان، العميم الإحسان، الواسع الغفران... أما بعد فإن جملة من الطلبة نبضت إلى حفظ العقيلة عروقهم، واومضت إلى تفهم معانيها بروقهم، سألوني شرح مشكلها، وفتح مقفلها، فاعتذرت لهم بقصر باعي، وجمود طباعي، فأرهقوني من أمري عسرا، ولم يوسعوني في شرحها عذرا فأنشدتهم بيتي أبي الحسن القابسي ـ رحمه الله ـ(4):
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعي الهشيم
__________
(1) - رقمها 3653 كما في كتاب العمر 1/169.
(2) - كتاب العمر 1/169ـ170.
(3) - أعني خزانة السيد اعوينات أحمد باليوسفية بالرباط جزاه الله خيرا.
(4) - البيتان كما تقدم لأبي علي البصير (الأعمى) كما في عيون الأخبار لابن قتيبة 1/36 والأمالي لأبي علي القالي 2/287 وليسا للقابسي (ت 403).
(1/127)
ثم قلت لهم ـ: "قد شرحها الفقيه علم الدين السخاوي ـ رحمه الله ـ وكان قد قرأها على ناظمها الشيخ أبي القاسم الشاطبي، وسمعها منه مرارا، وليس الخبر كالعيان، مع أن السخاوي ـ رحمه الله ـ كان حافظا، فأين أنا منه؟:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس(1).
ثم إني ضربت صفحا عن رغبتهم، وأعرضت دهرا عن طلبتهم، مخافة مما قال بعض الحكماء: "من ألف فقد استهدف... ثم انتقل إلى ذكر مصادره فقال:
"واعلم أني طالعت على هذا الشرح ثلاثين تأليفا، منها عشرة في الرسم: المقنع والمحكم والتحبير لأبي عمرو الداني، والتبيين لأبي داود، والمحبر لابن أشته وكتاب علم المصاحف له وبعض هجاء السنة للغازي بن قيس الأندلسي، والدر المنظوم في معرفة المرسوم لعطاء بن يسار الأندلسي(2) ودرة اللاقط لحكم الناقط(3)، وسبل المعارف في رسم المصاحف لأبي محمد عبد الله بن سهل(4).
__________
(1) - تقدم البيت في ترجمة المهدوي.
(2) - كذا والمعروف في مباحث الرسم ـ كما تقدم ـ عطاء الخراساني.
(3) - تقدم ذكره في ترجمته وقد انفرد بالنقل عنه فيما أعلم.
(4) - انفرد به عنه أيضا.
(1/128)
ومن كتب اللغة إصلاح المنطق، والألفاظ كلاهما ليعقوب بن السكيت... وساق باقي المصادر في اللغة والتاريخ وأصول الاعتقاد، ثم عقد فصلا لذكر فضل الخط والكتابة تطرق منه إلى الحديث عن رسم المصحف الكريم وخصوصياته والمؤلفات فيه، ثم أخذ في شرح معاني الأبيات معززا لكلامه غالبا بالنقول عن المصادر المذكورة للغازي بن قيس وحكم بن عمران الناقط وأبي محمد بن سهل وأبي داود وابن أشته وغيرهم، وهي نقول كثيرة في الاستدلال لرسوم المصحف وتعليل أوضاعه الخطية لا نجدها في كتاب غيره، بل إنه ينقل عن بعض الكتب التي لم يذكرها ضمن مصادره العشرة في الرسم، ومنها "كتاب الدر النظيم في رسم حروف القرآن العظيم" ولم يذكر مؤلفه، وكتاب اللطائف في رسم المصاحف وقد نسبه نقلا عن أبي عمر الطلمنكي إلى عطاء بن يسار، ومنها كتاب الرد والانتصار لأبي عمر الطلمنكي المذكور وقد تقدم في ترجمته.
وقد استفدت من نقوله تلك كثيرا في هذه الدراسة، وما أحوجه إلى من ينفض عنه الغبار بتحقيقه وإخراجه للناس.
3- شرح أبي عبد الله محمد بن القفال الشاطبي تلميذ السخاوي:
ذكره صاحب كشف الظنون له دون مزيد من المعلومات(1).
4- شرح العقيلة لأبي إسحاق التجيبي: انفرد بذكره الشيخ حسين بن علي بن طلحة الشوشاوي في كتابه حلة الأعيان على عمدة البيان للخراز عند ذكر مواضع الحركات من الحروف فقال في وضع الضمة: " وأما القول بجعلها فوق الحرف فهو شاذ ذكره أبو عمرو في المحكم، وذكره أيضا أبو إسحاق التجيبي في شرح العقيلة ونسبه إلى المبرد (حلة الاعيان: لوحة 21).
5- شرح أبي عبد الله محمد بن محمد بن إبراهيم الخراز الشريشي نزيل فاس وصاحب "مورد الظمآن" (ت 718) ذكره له ابن عاشر في فتح المنان مستدركا له على أبي محمد بن أجطا في شرحه على المورد قال وقد رأيت لبعض الشيوخ النقل عنه، لكن لم أعثر عليه(2).
__________
(1) - كشف الظنون لحاجي خليفة 2/1159.
(2) - مقدمة فتح المنان (مخطوط).
(1/129)
وذكره له مسعود جموع السجلماسي في مقدمة "المنهاج"(1).
وقد نقل عنه الإمام ابن غازي في جواب له ذكره أبو عبد الله بن مجبر من تلاميذه في "الطرر على مورد الظمآن" عند ذكر حذف الألف من "وله المنشاأت" في سورة الرحمن فقال: "وقد كتبنا لشيخنا أبي عبد الله بن غازي في ذلك وأجاب بقوله: "اتفقت المصاحف على كتبه بألف واحدة، وقد نص أبو عبد الله الحراز في شرحه للعقيلة وكذا الجعبري في شرحها أيضا على احتمال كون الألف الموجودة صورة الهمزة، زاد الخراز، وتلحق ألف الجمع بالحمراء بعد حذفها على قاعدة الجمع واحتمال كونها ألف الجمع وحذفت صورة الهمزة"(2).
6- شرح أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد الولي بن جبارة المقدسي (ت 728)
ذكره له الذهبي(3) والسيوطي(4) والقسطلاني(5) وحاجي خليفة(6) والبغدادي(7) وقال ابن الجزري: "وشرح القصيدتين اللامية والرائية ولكنه للرائية أحسن، وكلاهما حسن مفيد، ولكنه أكثر من الاحتمالات البعيدة"(8).
7- شرح العلامة المقرئ الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري (ت 732)
__________
(1) - منهاج رسم القرآن لمسعود جموع (مخطوط).
(2) - الطرر المذكورة وقفت عليها في مجموع عتيق في بعض زوايا آسفي، ومنها نسخة بالخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم 6511 (فهرس الخزانة الحسنية 6/74).
(3) - معرفة القراء الكبار 2/593 ترجمة 18.
(4) - ذكره له في بغية الوعاة 1/364 ترجمة 706 ونقل عنه في الإتقان في علوم القرآن 1/184.
(5) - لطائف الإشارات 1/89.
(6) - كشف الظنون2/1159.
(7) - هدية العارفين للبغدادي 1/107.
(8) - غاية النهاية 1/122 ترجمة 565.
(1/130)
وهو من شروحها المشهورة، وقد تنوعت أسماؤه في المصادر والفهارس تنوعا يوهم أنه كتب على العقيلة شروحا متعددة، فقد اشتهر في كثير من نسخه الخطية باسم "جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد"، وورد في بعضها "خميلة" بالخاء(1)، وورد في بعضها باسم "تغريد الجميلة لمنادمة العقيلة"(2)، وذكره ابن جابر الوادي آشي في برنامجه باسم "الأبحاث الجميلة في شرح العقيلة ـ قال ـ: وتسمى أيضا "جميلة أرباب المراصد، في شرح عقيلة أتراب القصائد"(3).
وبالخزانة الحسنية نسخة منه باسم "الابحاث الجميلة في شرح العقيلة"(4).
__________
(1) - نسخها الخطية بالخزانة الحسنية بالرباط تحت الأرقام: 4134 ـ 8010 ـ 4702 ـ 5827 ـ وبخزانة تطوان 739 ـ 855 وبالخزائن المشرقية نسخ كثيرة لا تحصى من أهمها نسخة مكتبة بلدية الاسكندرية المذيلة بإجازة بخط الحافظ ابن الجزري (أعلام الدراسات القرآنية للدكتور مصطفى الصاوي الجويني 245ـ246).
(2) - منها نسخ بهذا العنوان في مكتبة الأزهر تحت أرقام 4854 (82) ـ 16215 (177) (ومعجم الدراسات القرآنية للدكتورة مرهون الصفار مجلة المورد العراقية مجلد 10 عدد 3ـ4 ابتداء من ص 391.
(3) - برنامج الوادي آشي 48.
وبالعنوان الأخير يجري تحقيق بعض طلبة الدراسات الإسلامية العليا لها حاليا وهو الأخ البويحياوي مصطفى من مراكش تحت إشراف الدكتور التهامي الراجي الهاشمي لنيل دبلوم الدراسات العليا.
(4) - مسجلة بها تحت رقم 1096 تاريخ نسخها ربيع الاول عام 1101هـ في ورقة (فهرسة الخزانة الحسنية 6/9).
(1/131)
وأوله قوله: " الحمد لله الذي ألهمنا وضع الكلام دليلا على معاني الخطاب، وأرشدنا إلى جعل الكتابة وسيلة إلى حفظه في بطون أوراق الكتاب، تذكرة يرجع إليها، وذخيرة يعول عليها، فصارت صناعة الخطب فضيلة يشرف لها العالمون... وبعد فلما يسر الله تعالى إكمال "كنز المعاني في شرح حرز الاماني" مختصر "التيسير" وكنت أجملت فيه مسائل من الرسم إحالة لتفصيلها إلى تكميل تحصيلها، شفعت وترة التوحيد(1) وآنست ربعه الفريد، بكتاب "جميلة أرباب المراصد"...
وكان فراغ المؤلف من تأليفه كما ذكر في ربيع الأول سنة 700.
وقد دخل هذا الشرح المغرب والاندلس وعني العلماء بروايته، فدخل به الإمام أبو عبد الله بن جابر الوادي آشي مع "كنز المعاني" قال: "وكلاهما من تأليف شيخنا رضي الدين الجعبري، أجاز لي الأول منها معينا، وناولني الثاني في أصله"(2).
وأسنده الإمام المنتوري في فهرسته قراءة على الراوية أبي زكرياء يحيى بن أحمد بن السراج وأجازني جميعه، وحدثه به عن الشيخ الحاج الحافظ أبي عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الحفيد السجلماسي(3) عن الشيخ المسند الرحلة عفيف الدين أبي محمد عبد الله بن محمد المصري عنه"(4).
8- شرح ثان لأبي إسحاق الجعبري سماه لنفسه في أول "كنز المعاني" باسم "النزهة في شرح العقيلة"
وهو قصيدة رائية في وزن العقيلة ورويها شرحها بها، وقد نقل عنها في الكنز قوله:
"وفي الخبر المأثور أنزل ذكرنا ... على سبع أحرف فكل شفا يرى
فقيل معان والصحيح بأنها ... لغات فما فيها التواتر مفترى
ويحتمل المرسوم مع عربية ... فمنها وفي الفرض اقرأنه حبر(5)
__________
(1) - كذا ولعلها "وتره الوحيد".
(2) - برنامج الوادي آشي 186.
(3) - لقيه السراج كما في فهرسته 1/316ـ317 بعد قفوله من الحج عام 764 وناوله شرح عقيلة الأتراب للجعبري.
(4) - فهرسة المتنوري لوحة 29.
(5) - كنز المعاني (فصل في معرفة منشأ الخلاف...).
(1/132)
9- شرح العقيلة لأحمد بن محمد بن أبي بكر بن محمد الشيرازي الكارزوني، قال في كشف الظنون:
"شرحها شرحا مختصرا بين فيه الاعراب واللغات، أخذه من شرح السخاوي وغيره، أوله: الحمد لله الذي خلق الإنسان...الخ. أتمه في يوم الخميس الثاني عشر من شهر محرم سنة 768 بشيراز"(1).
10- شرح العقيلة لأبي البقاء علي بن عثمان العذري المعروف بابن القاصح واسمه "تلخيص الفوائد، وتقريب المتباعد في شرح عقيلة أتراب القصائد" لابن القاصح (ت 801).
هو من شروحها الواسعة الانتشار، وقد طبع بمصر سنة 1949(2)، وأوله قوله:
"الحمد لله حمدا كثيرا ينجي من عذابه، والصلاة والسلام على النبي محمد وآله وأصحابه... أما بعد فإن القصيدة الرائية التي نظمها الإمام أبو محمد القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ في معرفة رسم المصاحف، قد سألني بعض أصحابي أن أشرح ألفاظها من غير تطويل كما شرحت القصيدة اللامية المعنونة "حرز الاماني"(3)، فأجبت سؤاله، وآثرت الاختصار على كثرة النقول والتكرار، ولم أتعرض للخلاف الواقع في القراءات فإن له كتبا تختص به، وليس المراد من هذه القصيدة إلا معرفة الرسوم.." (4).
وقال في آخر هذا الشرح: "قال مؤلفه ـ رحمه الله ـ أبو البقاء علي بن عثمان بن محمد بن احمد بن القاصح: فرغت من شرحها بعد عصر الجمعة التاسع من شهر الله المحرم سنة 791هـ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
11- شرح عقيلة الأتراب لأبي بكر محمد بن محمد بن وضاح اللخمي الاندلسي الشقري (ت 634هـ)
__________
(1) - كشف الظنون 2/1159.
(2) - طبع طبعته الاولى بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمراجعة الشيخ عبد الفتاح القاضي ويقع في 105 من الصفحات العادية.
(3) - يعني شرحه المسمى "سراج القارئ" وهو مطبوع ومعروف.
(4) - تلخيص الفوائد 1ـ2.
(1/133)
وسيأتي مزيد من التعريف بمؤلفه في أصحاب الشاطبي عن قريب، وكان حق شرحه هذا أن يذكر عقب شرح أبي الحسن السخاوي أو قبله، لأنهما معا ممن أخذ القصيدة عن ناظمها، والذي دعا إلى تأخيره أني لم أقف عليه قبل أن أهيئ هذا البحث للطبع، مما جعلني أدرجه هنا في اواخر هذه القائمة من شروح العقيلة، ولم أقف على من ذكر لابن وضاح شرحا على العقيلة، إلا أني وقفت على ذكره منسوبا إليه في مصورة عن خزانة الشيخ المقرئ عبد العزيز القاري بالمدينة المنورة حفظه الله(1).
12- شرح العقيلة لمحمد بن عمر بن حسين زين الدين الكردي (ت 628)
ومؤلفه من أصحاب الشاطبي ـ كما سيأتي عن قريب ـ، ولم يذكر له ابن الجزري شرحا على العقيلة، إلا أني وقفت في مصورة عن مخطوطة خزانة الشيخ عبد العزيز القاري المذكور على نسخة من هذا الشرح مصورة عن أصل.
13- شرح العقيلة المسمى بـ"الكشف"، ذكره حاجي خليفة ولم يسم مؤلفه أو يذكر مزيدا من التعريف به(2).
14- شرح العقيلة للملا نور الدين علي بن سلطان محمد الهروي القاري (ت 1014هـ)، ويسمى بـ"الهبات السنيه العلية، على أبيات الشاطبية الرائية في الرسم"، ذكره في كشف الظنون(3)، ويوجد مخطوطا(4).
15- شرح العقيلة لمحمد بن عبد الرحمن الخليجي الإسكندري وكيل مشيخة المقارئ والإقراء بها
ذكره الشيح المقرئ عبد الفتاح المرصفي المصري في كتابه "هداية القاري" قال: "مؤلفه علم أزهري حصل على شهادة الاهلية من الازهر سنة 1906م، ودرس القراءات على الشيخ عبد العزيز كحيل، ثم قال: "من تآليفه "شرح عقلية أتراب القصائد" مخطوط"(5).
16- شرح العقيلة للعلامة الروسي المسلم موسى جار الله رستوفندوني (ت 1368هـ ـ1949م)
__________
(1) - بعث إلي بصورة من قائمة محتوياتها من المخطوطات ولدي حسن أصلحه الله.
(2) - كشف الظنون 2/1159.
(3) - كشف الظنون 2/1159.
(4) - منه مخطوطة بالمكتبة التيمورية بمصر برقم 236.
(5) - هداية القارئ 720.
(1/134)
ذكره له بعض الباحثين العراقيين، وقال: "ابتدأ شرحها، ويظهر أنه لم يتمه"(1).
17- تحقيقات على شرح العقيلة للعلامة ابن القاصح للشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي
ذكره مؤلفه نفسه في كتابه "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري" عند ذكر قائمة مؤلفاته(2).
18-19- شرحان وقفت عليهما لا ذكر لمؤلفهما، أحدهما مسجل بخزانة ابن يوسف بمراكش تحت رقم 554، ووقفت على ثانيهما في مجموع يشتمل على شرح لتحفة المنافع للفخار وشرح للدرة الجليلة له وكلاهما لسعيد بن سليمان السملالي الكرامي السوسي (ت 882)، فالراجح أن يكون الشرح من تأليفه أيضا(3).
فهذه شروح "عقيلة الأتراب" أولا الشاطبية الصغرى" إحدى مفاخر الإمام الشاطبي رحمه الله.
3ـ قصيدته السائرة "حرز الأماني ووجه التهاني" أو اللامية أو "القصيدة" او "الشاطبية الكبرى"(4)
تعتبر هذه القصيدة أهم أعماله العلمية في "الشعر التعليمي" بل أهم قصيدة في علم القراءات على الإطلاق، إذ لم يظهر فيه قبلها ولا بعدها ما يعادلها أو يقاربها هلى كثرة ما ظهر معها في الميدان من قصائد وأراجيز في هذا اللون من النظم.
__________
(1) - كتاب رسم المصحف لغانم قدوري الحمد 178 الهامش رقم 93.
(2) - هداية القاري 670ـ671.
(3) - وقفت عليه في خزانة السيد أحمد اعوينات بقرية اليوسفية بالرباط حفظه الله.
(4) - وسماها في كشف الظنون" "حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني".
(1/135)
ولسنا نجازف إذا قلنا ان شهرة الشاطبي في المشرق والمغرب تقوم عليها، وقد استطاع من خلالها أن يبسط سلطانه في ميدان القراءات السبع شرقا وغربا، وأن يستحوذ بها على المقام الأول بين علماء هذا الشان، بعد استقرار المذاهب وتأصيل القواعد والاصول، كما أنه استطاع أن يمكن في ساحة الإقراء للمدرسة الأثرية لا في المشرق حيث استقر وحده، بل في المغرب أيضا، وأن يحقق لها وجودا متواصلا منقطع النظير سوف نرى بعد الفراغ من تقديمها مظاهر استحكامه واستمراره وقوته.
قيمتها التعليمية:
وإن إبراز ما ينبغي التنبيه عليه في شأن قصيدة الشاطبي هي هذه القيمة التعليمية الرفيعة القدر التي استطاع أن يكفلها لها بما أوتي من حذق وبراعة في النظم وإحاطة وخبرة بهذا العلم.
وقد توخى فيها من حيث الموضوع عرض المشهور والسائر المقروء به من الروايات والطرق عن القراء السبعة أئمة الامصار الخمسة، وتحديد مظاهر الاختلاف بينهم في القراءة وأصول الاداء، ولذلك جعل كتاب "التيسير في القراءات السبع" للحافظ أبي عمرو الداني مصدره الأساسي فيها ومحوره الذي أدار القواعد والاحكام عليه فنظم مادته في الجملة، وأضاف إليها لتمام الفائدة إضافات مفيدة في مواضع وأبواب من القصيدة أحوجت الرغبة في التحقيق والبيان إلى ذكرها، فجاءت قصيدته مستوعبة كأصلها للمشهور والسائر المستفيض في القراءة عن السبعة من أشهر الطرق التي ضمنها أبو عمرو كتابه المذكور، كما قرأ بها الشاطبي على أصحاب أصحاب أبي عمرو متشبعا بمقومات مدرسته، ومؤسسا على قواعدها واختياراتها.
(1/136)
ولقد نبهنا قبل على النص القيم الذي تتبع فيه العلامة ابن خلدون تاريخ تطور القراءات في المغرب، وكيف جعل ظهور الإمام الحافظ أبي عمرو الداني معلمة بارزة ومنعرجا عظيم الأهمية في هذا التطور حيث ذكر أنه "بلغ الغاية فيها، ووقفت عليه معرفتها، وانتهت إلى روايته أسانيدها، وتعددت تآليفه فيها، وعول الناس عليها، وعدلوا عن غيرها، واعتمدوا من بينها "كتاب التيسير" له" قال:
"ثم ظهر بعد ذلك فيما يليه من العصور والاجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة، فعمد إلى تهذيب ما دونه أبو عمرو وتلخيصه، فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحرف (أ ب ج د) ترتيبا أحكمه ليتيسر عليه ما قصده من الاختصار، وليكون أسهل للحفظ، لأنه نظمها فاستوعب فيها الفن استيعابا حسنا، وعني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين، وجرى العمل على ذلك في امصار المغرب والأندلس"(1).
فهكذا جعل ابن خلدون ظهور الإمام الشاطبي في تاريخ هذا العلم مكافئا لظهور الحافظ أبي عمرو فيه مشيرا إلى أهم ما امتاز به وامتازت به المدرسة المغربية من خلاله، وهو اصطناع الرمز لضبط اختلاف القراء.
وقد كان فيه الشاطبي رائدا غير مزاحم، إذ نراه في قصيدته قد عمد إلى الحروف المعروفة بـ"أبي جاد" فطابق بينها وبين أسماء القراء السبعة المشهورين والرواة عنهم، جاعلا كل رمز ثلاثي الحروف للقارئ وراويي قراءته على التوالي، فبدأ بنافع وجعل الرمز "أبج" دالا بألفه عليه، والباء على قالون، والجيم على ورش، وجعل "دهز" دالا على عبد الله بن كثير المكي وراوييه قنبل والبزي، و"حطي" دالا على أبي عمرو وراوييه الدوري والسوسي، و"كلم" دالا على ابن عامر الشامي وراويي قراءته و"نصع" لعاصم وصاحبيه، و"فضق" لحمزة وراوييه، ثم "رست" للكسائي وصاحبيه، وجعل الواو فاصلا بين مسائل الخلاف فلم يرمز به لأحد.
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون 438.
(1/137)
ثم زاد على ذلك فأشار بباقي الحروف إلى ما توافق فيه بعض الأئمة، فرمز بالثاء المثلثة لاتفاق الثلاثة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي، ورمز بالخاء لاتفاق الستة المذكورين بعد نافع، والذال المعجمة لاتفاق الكوفيين والشامي، والظاء المشالة لاتفاق الكوفيين والمكي، والغين لاتفاقهم مع البصري، والشين لما اتفق فيه حمزة والكسائي(1).
ثم ركب رموزا أخرى هي عبارة عن كلمات مثل "صحبة" للكسائي وحمزة وشعبة بن عياش أحد راويي قراءة عاصم، و"صحاب" لحمزة والكسائي وحفص الراوي الثاني عن عاصم، و"عم" فيما اتفق فيه نافع والشامي و"سما" فيما اتفق فيه مع البصري، و"حق" لما توافق فيه المكي والبصري، و"نفر" لما توافق فيه المكي والبصري والشامي و"حرمي" لما توافق فيه نافع والمكي، و"حصن" لما توافق فيه نافع والكوفيون الثلاثة.
هذه هي رموزه التي أدار مسائل الخلاف عليها في "حرز الأماني" ببراعة بديعة زواج فيها بين صحة معاني الأبيات وأداء الرموز لوظيفتها في البيان.
__________
(1) - رأيت عند عدد من مشايخ القراءة هذا النظم الذي فيه بيان اصطلاح الشاطبي في الحرز، وعليه يعتمدون في تقسيمه في ألواح الطلبة وهو للشيخ يعقوب بن بدران، وهو من شراح الحرز كما سيأتي. وهذه أبياته:
... وهاك بيان الرمز عن سبعة أتت ... ... على الوزن وهو الفرد فاحفظ ليسهلا
... "أبج" ألف عن نافع ثم باؤها ... لقالون ثم الجيم ورش به انجلى
... "دهز" دال مك ثم هاء لأحمد ... وحيث أتاك الزاي فاجعله قنبلا
... "حطي" فحرف الحاء بصر وطاؤها ... لدوريهم واليا لصالح أقبلا
... "كلم" كاف للشامي ولام هشامهم ... أتى وابن ذكوان له الميم مثلا
... "نصع" نونها عن عاصم ثم صادها ... لشعبة ثم العين حفص تقبلا
... "فضق" فاؤها عن حمزة ثم ضادها ... لها خلف والقاف خلاد اعقلا
... "رست" راعي ثم سين لليثهم ... وتا حفص الدوري وفي الذكر قد خلا
وناظمها يرجو نجاة ورحمة ... من الله يعقوب بن بدران ذي العلا
(1/138)
وقد نهج فيها نهج صاحب التيسير في نقسيم المباحث إلى قسمين: قسم الأصول، وقسم الفرش، وزاد عليه بباب عقده في ختامها هو "باب مخارج الحروف وصفاتها".
أما عدد أبياتها فقد تولى بيانه في آخرها، وهو 1173، بقطع النظر عن بعض ما انفرد به بعض أصحابه عنه كما سيأتي في ترجمة محمد بن عمر القرطبي، وكذلك ما استدركه بعض الأئمة عليه كما سيأتي بعون الله.
ونظرا لوفرة القصيدة في أيدي القراء حتى لا يكاد يخلو بيت قارئ معتبر منها فإني سأكتفي من عرضها ببعض المقاطع يقول رحمه الله في أولها:
بدأت ببسم الله في النظم أولا ... تبارك رحمانا رحيما وموئلا
وثنيت صلى الله ربي على الرضا ... محمد المهدى إلى الناس مرسلا
وعترته ثم الصحابة ثم من ... تلاهم على الإحسان بالخير وبلا
إلى أن يقول:
جزى الله بالخيرات عنا أئمة ... لنا نقلوا القرآن عذبا وسلسلا
فمنهم بدور سبعة قد توسطت ... سماء العلا والعدل زهرا وكملا
لها شهب عنها استنارت فنورت ... سواد الدجى حتى تفرق وانجلى
وسوف تراهم واحدا بعد واحد ... مع اثنين من أصحابه متمثلا
تخيرهم نقادهم كل بارع ... وليس على قرآنه متاكلا
ثم أخذ في تسميتهم فقال:
لهم طرق يهدى بها كل طارق ... ولا طارق يخشى بها متمحلا
وهن اللواتي للمواتي نصبتها ... مناصب فانصب في نصابك مفضلا
وها أنذا أسعى لعل حروفهم ... يطوع بها نظم القوافي مسهلا
جعلت "أبا جاد" على كل قارئ ... دليلا على المنظوم أول أولا
ومن بعد ذكري الحرف أسمي رجاله ... متى تنقضي آتيك بالواو فيصّلا
إلى أن يقول في بيان موضوعها وتسمينها:
أهلت فلبتها المعاني لبابها ... وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا
وفي يسرها "التيسير" رمت اختصاره ... فأجنت بعون الله منه مؤملا
وألفاظها زادت بنشر فوائد ... فلفت حياء وجهها أن تفضلا
وسميتها "حرز الاماني" تيمنا ... و"وجه التهاني" فاهنه متقبلا
وبعد أبيات بديعة في هضم النفس والاعتذار عن التقصير والاستعاذة من التسميع في القول والعمل بدأ في أول باب فيها بقوله:
(1/139)
إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ ... جهارا من الشيطان بالله مسجلا
على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد ... لربك تنزيها فلست مجها
وهكذا تنقل في أبواب الأصول بابا فبابا على نسق ما ذكره أبو عمرو في كتاب التيسير حتى بلغ فرش الحروف، ونكتفي مثالا على طريقته في ذلك بما ذكره في "باب مذاهبهم في الراءات" لأنه يعتبر معترك الانظار بين هذه المدرسة والمدرستين القيروانية والتوفيقية وذلك في تحديدهما لأصول ورش فيها، وفي ذلك نجده يقول:
ورقق ورش كل راء وقبلها ... مسكنة ياء أو الكسر موصلا
ولم ير فصلا ساكنا بعد كسرة ... سوى حرف الاستعلا سوى الخا فكملا
وفخمها في الاعجمي وفي إرم ... وتكريرها حتى يرى متعدلا
وتفخيمه ذكرا وسترا وبابه ... لدى جلة الأصحاب أعمر أرحلا
وفي شرر عنه يرقق كلهم ... وحيران بالتفخيم بعض تقبلا
وفي الراء عن ورش سوى ما ذكرته ... مذاهب شذت في الأداء توقلا
ولا بد من ترقيقها بعد كسرة ... إذا سكنت يا صاح للسبعة الملا
وما حرف الاستعلاء بعد فراؤه ... لكلهم التفخيم فيها تذللا
ويجمعها "قظ خص ضغط" وخلفهم بفرق جرى بين المشايخ سلسلا
وما بعد كسر عارض أو مفصل ... ففخم فهذا حكمه متبذلا
وما بعده كسر أو اليا فما لهم ... بترقيقه نص وثيق فيمثلا
وما لقياس في القراءة مدخل ... فدونك ما فيه الرضا متكفلا
وترقيقها مكسورة عند وصلهم ... وتفخيمها في الوقف أجمع أشملا
ولكنها في وفقهم مع غيرها ... ترقق بعد الكسر أو ما تميلا
أو الياء تاتي بالسكون، ورومهم ... كما وصلهم فابل الذكاء مصقلا
وفيما عدا هذا الذي قد وصفته ... على الأصل بالتفخيم كن متعملا(1)
وهذا مثال نسوقه من فرش الحروف من أول سورة مريم:
وحرفا يرث بالجزم (حـ)لو (ر)ضا وقل خلقت خلقنا (شـ)اع وجها مجملا
وضم بكيا كسره عنهما وقل عتيا صليا مع جثيا (شـ)ذى (عـ)ـلا
وهمز أهب باليا (جـ)ـرى (حـ)لو (بـ)ـحره بخلف، ونسيا فتحه (فـ)ـائز (عـ)ـلا
__________
(1) - يمكن الرجوع إلى هذا الباب في نصها المنشور في إتحاف البررة بالمتون العشرة ص 29ـ31.
(1/140)
وقال في آخر فرش الحروف:
و"صحبة" الضمين في عمد وعوا ... لايلاف باليا غير شاميهم تلا
وإيلاف كل وهو في الخط ساقط ... ولي دين قل في الكافرين تحصلا
وهاء أبي لهب بالإسكان (د)ونوا ... وحمالة المرفوع بالنصب (نـ)ــزلا
ثم ذكر باب التكبير، وختم بباب مخارج الحروف وصفاتها إلى أن أتى على قوله فيها:
وقد وفق الله الكريم بمنه ... لإكمالها حسناء ميمونة الجلا
وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ... ومع مائة سبعين زهرا وكملا
وقد كسيت منها المعاني عناية ... كما عريت عن كل عوراء مفصلا
وتمت بحمد الله في الخلق سهلة ... منزهة عن منطق الهجر مقولا
ولكنها تبغي من الناس كفؤها ... أخا ثقة يعفو ويغضي تجملا
وليس لها إلا ذنوب وليها ... فيا طيب الانفاس احسن تأولا
وقل رحم الرحمن حيا وميتا ... فتى كان للإنصاف والحلم معقلا
عسى الله يدني سعيه بجوازه ... وإن كان زيفا غير خاف مزللا
فيا خير غفار ويا خير راحم ... ويا خير مأمول جدا وتفضلا
أقل عثرتي وانفع بها وبقصدها ... حنانيك يا الله يا رافع العلا
ثم ختم بقوله:
وآخر دعوانا بتوفيق ربنا ... أن الحمد لله الذي وحده علا
وبعد صلاة الله ثم سلامه ... على سيد الخلق الرضا متنخلا
محمد المختار للمجد كعبة ... صلاة تباري الريح مسكا ومندلا
وتبدي على أصحابه نفحاتها ... بغير تناه زرنبا وقرنفلا(1)
نظمكه لها وما صاحبه من تحريات:
كانت فكرة هذا النظم قد اختمرت عند الإمام الشاطبي وهو ما يزال في بلاد الاندلس، كما نقل ذلك الحافظ ابن الجزري عن أبي عبد الله بن رشيد الفهري السبتي ـ صاحب الرحلة الآنف الذكر ـ فقد نقل عنه في سياق حديثه عن ترجمته قوله: "ورحل فاستوطن قاهرة مصر، وأقرأ بها القرآن، وبها ألف قصيدته ـ يعني الشاطبية ـ وذكر انه ابتدا أولها بالأندلس إلى قوله: "جعلت أبا جاد"(2) ثم أكملها بالقاهرة"(3).
__________
(1) - إتحاف البررة :111.
(2) - يعني إلى البيت الخامس والأربعين منها.
(3) - غاية النهاية 2/22 ترجمة 2600.
(1/141)
وقد اقترن ظهور القصيدة عند عامة من ترجموا للشاطبي بطائفة من النقول عنه تدل على موقعها من ناظمها ومن الناس، منها ما نقله السخاوي عنه من قوله عنها:
لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل بها، لأني نظمتها لله سبحانه"(1).
ونقل القرطبي ـ وهو من تلاميذه أيضا ـ أن الشاطبي ـ رحمه الله ـ لما فرغ من تصنيفها طاف بها حول الكعبة الشريفة اثني عشر ألف أسبوع(2) كلما جاء في أماكن الدعاء قال: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب هذا البيت العظيم، انفع بها كل من قراها"(3).
وذكر بعضهم من مناقبه المقترنة بها انه "رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام، فقام بين يديه وسلم عليه، وقدم له القصيدة، فتناولها بيده المباركة وقال: هي مباركة من حفظها دخل الجنة ـ زاد القرطبي ـ بل من مات وهي في بيته دخل الجنة"(4).
ذلك بعض الرصيد العاطفي والشعوري الذي للقصيدة عند أصحاب الشاطبي ومريديه سوف نرى مقدار ما أثمر من شغف وتقدير لها، وما نشأ عنه من تعلق وتمسك بها، وذلك بعد ان نقف على أسماء رواتها الذين تشرفوا بالأخذ عن ناظمها وكان لهم إسهام في حمل مذاهبه ورواية آثاره.
أصحابه ورواة قصيدته:
__________
(1) - فتح الوصيد (مخطوط)0.
(2) - يعني جملة الأشواط السبعة التي تلزم الطائف بالكعبة فيكون قد طاف بها اثني عشر ألف طواف في كل طواف سبعة أشواط، وهو عدد عظيم يصل في مجموعه إلى 84000 شوطا، فلا أدري كم قضى الشاطبي بمكة من الزمن ليتمكن من الطواف.
(3) - المنح الفكرية في شرح المقدمة الجزرية للملا علي بن سلطان 82ـ83.
(4) - ذكره الشيخ علي بن محمد الضباع في مقدمة نشره للشاطبية 103.
(1/142)
قضى الشاطبي في بلاد الاندلس بعد تخرجه في القراءة زمانا فكان له بالأندلس أصحاب انتفعوا به، كما دخل الاسكندرية سنة 572(1) ولم يلبث أن انتقل عنها إلى القاهرة، "فانتفع به خلق كثير لا يحصون كثرة"(2)، إلا أن التاريخ العلمي قد فاته أن يتحفنا بمعجم لهؤلاء الأصحاب على غرار ما فعل بيعض اللأعلام، ولهذا لم يعد بإمكاننا الآن إلا أن نلتقط أسماء المشهورين بالحمل عنه فقط من تراجمهم في الطبقات، وقد تجمعت لدي منها ومن بعض الإشارات في المظان الاسماء التالية:
1- عبد الرجمن بن إسماعيل بن الحداد وبه عرف أبو القاسم الازدي التونسي
تقدم ذكره في مشيخة الإقراء بسبتة ومراكش، قال ابن الأبار: سكن اشبيلية وقتا، وتصدر لإقراء العربية ومات بمراكش في حدود الأربعين وستمائة"(3).
وذكر ابن الجزري أنه "ولد بعد الخمسين وخمسمائة، ورحل فقرأ على الشاطبي وسمع من ابن بري النحوي وتحول في آخر عمره إلى الغرب فسكن مراكش، وعمل شرحا للشاطبية، ويجتمل أن يكون هو أول من شرحها.. ومات بمراكش في حدود سنة 625"(4).
2- عبد الرجمن بن سعيد الشافعي أبو القاسم المصري القليوبي
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير مجلد 7 الجزء 13 حوادث سنة 590.
(2) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ،557 ترجمة 1088.
(3) - نقله السيوطي في البغية 2/78 ترجمة 1482.
(4) - غاية النهاية 1/366.
(1/143)
ذكره ابن عبد الملك في جملة أصحابه(1)، وتبعه ابن الجزري(2) ولم يترجم له استقلالا، إلا انه في ترجمة أبي عبد الله محمد بن الحسن الفاسي ـ صاحب اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة " ذكر انه "قرأ على أبي القاسم عبد الرحمن بن سعيد الشافعي وأبي موسى عيسى بن يوسف المقدسي عن قراءتهما على الشاطبي(3). وذكره قبله الإمام الذهبي وذكر قراءة الفاسي المذكور عليه (4).
3- عبد الرحمن بن عبد الله بن مطرف بن أبي سهل بن ياسين أبو زيد النفزي يظهر انه من تلامذته المبكرين بالأندلس، قال ابن الأبار: "أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن عبادة الجياني (5) وأبي محمد قاسم بن فيره الضرير وغيرهما، وتصدر للإقراء بشاطبة، واخذ عنه ابنه أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن.." (6).
4- عبد الصمد بن سعيد أبو القاسم الشافعي: لعله هو عبد الرحمن بن سعيد الىنف الذكر، ذكره الذهبي في ترجمة أبي عبد الله الفاسي في شيوخه بهذا الاسم، وهو خلاف ما عند ابن الجزري (7)
5- عبد الله بن محمد بن عبد الوارث معين الدين أبو الفضل بن أبي المعالي المصري الانصاري المعروف بابن الأزرق وبابن فار اللبن وبقارئ مصحف الذهب
__________
(1) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم الثاني /548ـ557 ترجمة 1088.
(2) - غاية النهاية 2/23 ترجمة 2600.
(3) - غاية النهاية 2/122 ترجمة 2942.
(4) - معرفة القراء الكبار 2/458 طبقة 14.
(5) - هو محمد بن عبد الرحمن بن عبادة من أصحاب أبي القاسم النخاس وأبي الحسن شريح تقدم التعريف به.
(6) - نقله شكيب أرسلان في الحلل السندسية 3/277.
(7) - معرفة القراء 2/532 طبقة 16. ويقارن بما في غاية النهاية 2/122 ترجمة 2942.
(1/144)
قال الذهبي: "سمع الشاطبية على مؤلفها الإمام أبي القاسم، وطال عمره، وكان آخر من روى عن أبي القاسم في الدنيا، رواها عنه الشيخ حسن بن عبد الله الراشدي وبدر الدين محمد بن أيوب التادفي وفخر الدين عثمان التوزري (1)وبقي إلى سنة 664".
6- عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس أبو عمرو بن الحاجب جمال الدين الكردي المالكي الاصولي النحوي المشهور (571ـ646)
ولد بأسنا من صعيد مصر، ودخل به أبوه القاهرة فحفظ القرآن وقراه ببعض الروايات على الشاطبي وسمع منه التيسير والشاطبية وتأدب عليه واشتغل في صغره، ثم قرأ جميع القراءات على أبي الفضل الغزنوي وأبي الجود وأقرأ القراءات مدة بالفاضلية موضع الشاطبي، وقصده الطلبة، ثم توجه إلى الاسكندرية ليقيم بها، وبهامات(2).
7- علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة أبو الحسن البلنسي خطيب بلنسية ومقرئها
__________
(1) - مقرئ تونسي روى الشاطبية عن خمسة من أصحاب الشاطبي توفي بمكة سنة 713ـ غاية النهاية 1/510 ترجمة 2107.
(2) - ترجمته في معرفة القراء 2/516 طبقة 15 وغاية النهاية 1/508ـ509 ترجمة 2104 وشجرة النور 485.
(1/145)
إمام عارف قرأ برواية ورش على طارق بن موسى ـ من أصحاب ابن هذيل ـ ولنافع على أبي جعفر بن طارق، واخذ القراءات على أبي جعفر أحمد بن عون الله الحصار وابن نوح ـ وهما من كبار أصحاب ابن هذيل شيخ الشاطبي ـ وحج سنة 578 فسمع ببجاية من عبد الحق(1)، وقرأ القراءات بمصر على الشاطبي، ولفي أيضا أبا محمد عبد المنعم بن أبي بكر بن النفيس المعروف بابن الخلوف الغرناطي، أخذ عنه بالاسكندرية، ورجع فتصدر للإقراء ببلنسية بلده، وخطب بها، وأخذ عنه الناس(2).
قرأ عليه أبو عبد الله بن الأبار وأبو العباس بن الغماز، وهو آخر أصحابه، توفي سنة 634(3). وقد أسند العلامة التجيبي السبتي القصيدة من طريقه فقال: "وكتب إلينا أيضا بها وأثبت لنا إسناده فيها بخطه الشيخ الفقيه القاضي أبو الحجاج يوسف بن أحمد بن حكيم التجيبي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: وحدثني بالقصيدة المعروفة بحرز الأماني الشيخ الفقيه المقرئ صاحب الصلاة والخطبة بجامع بلنسية أبو الحسن علي بن عبد الله بن خيرة ـ رحمه الله ـ عن ناظمها"(4).
8- علي بن شجاع بن سالم بن علي بن موسى العباسي كمال الدين المعروف بالكمال الضرير وبصهر الشاطبي
كان شيخ القراء بالديار المصرية في زمانه (572ـ661).
__________
(1) - هو عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله أبو محمد الأزدي الاشبيلي صاحب كتاب الأحكام المشهور الذي ألف عليه ابن القطان كتابه "بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام" رحل إلى بجاية وولي خطبتها وقضاءها في أيام بني غانية اللمتونيين، ولد سنة 510 سنة وتوقي 581. له ترجمة حافلة في عنوان الدراية للغبريني 41ـ44 ترجمة 3.
(2) - معرفة القراء الكبار 2/458 وغاية النهاية 1/520 ترجمة 2149 وصلة الصلة القسم الأخير 134ـ135 ترجمة 273.
(3) - المصدر أعلاه.
(4) - برنامج التجيبي 41ـ42.
(1/146)
قرأ القراءات السبع سوى رواية أبي الحارث في تسع عشرة ختمة على الشاطبي، ثم قرأ عليه بالجمع للسبعة ورواتهم الأربعة عشر حتى إذا انتهى إلى سورة الأحقاف توفي الشاطبي ـ رحمه الله ـ وسمع التيسير منه، وقرأ عليه الشاطبية دروسا وسمعها عليه"(1).
وله ترجمة حافلة عند الذهبي وابن الجزري تحدثا فيها عن باقي شيوخه ومروياته من كتب الأئمة، وذكرا من أصحابه عددا كبيرا(2).
وطريقه عن الشاطبيي من أهم طرق الشاطبية عند المغاربة وأعلاها، وعلى الاخص عند مشيخة الإقراء بغرناطة وفاس وسبتة وما إليها، فقد أسندها أبو جعفر بن الزبير (ت 708) عن الكمال الضرير عن الناظم، ومن طريق ابن الزبير انتشرت عند الآخذين عنه كما سوف نراها عند أئمة الإقراء بالمدارس الأصولية بفاس.
وأسندها أيضا الرحالة الإمام أبو عبد الله بن رشيد السبتي (721) من طريق شيخه أبي جعفر اللبلي(3) بسماعه لها بمصر على كمال الدين الضرير عن ناظمها سماعا"(4).
9- علي بن صالح القليني
ذكره أبو شامة في حوادث سنة 627 في ذيل "الروضتين" فقال: "وجاءنا الخبر من مصر بوفاة أبي الحسن علي بن صالح القليني من قرية بمصر يقال لها قلين، وكان من أصحاب الشيخ الشاطبي، وحج مع شيخنا أبي الحسن السخاوي"(5).
10- علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين أبو الحسن السخاوي الهمداني المقرئ المفسر النحوي
__________
(1) - ملء العيبة 2/215.
(2) - غاية النهاية 1/544ـ546 ترجمة 2232.
(3) - معرفة القراء 2/524ـ525 طبقة 15 وغاية النهاية 1/544ـ546 ترجمة 2232.
(4) - هو أبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي أحد مشاهير أصحاب أبي علي الشلوبين في علم العربية، لقيه ابن رشيد في رحلته بتونس في رحلة الذهاب وأجاز له في 27 ربيع الأول عام 684 ـ ترجم له في "ملء العيبة ترجمة حافلة وذكر شيوخه ومروياته وما أجاز به من المصنفات في القراءات وغيرها 2/209ـ250 ترجمة 8.
(5) - ذيل الروضتين لأبي شامة 158.
(1/147)
شيخ القراء في دمشق في زمانه (558ـ643). ولد بسنا إحدى قرى الناحية الشمالية من مصر، وسمع بالاسكندرية من الحافظ السلفي وجماعة، وقرأ القراءات بمصر على أبي القاسم الشاطبي ولازمه مدة وبه انتفع، ورحل إلى دمشق فقرأ بها القراءات الكثيرة على أبي اليمن الكندي(1) وأخذ عنه النحو واللغة والادب، وقرأ على جماعة من الأئمة.
قال القفطي ـ وهو من معاصريه ـ: "وخرج من مصر واستوطن دمشق، وتصدر بجامعها للإقراء والإفادة فاستفاد الناس منه واخذوا عنه، وصنف في القراءات، وهو مقيم على حالته في الإفادة بدمشق في زماننا هذا وهو سنة 632"(2).
قال الذهبي في تاريخ الإسلام: "قرأ عليه خلق كثير إلى الغاية، ولا أعلم أحدا من القراء في الدنيا أكثر أصحابا منه"(3).
وعلى العموم فترجمته حافلة، ويمكن الرجوع إليها في المظان، وهو شارح قصيدتي الشاطبي الرائية واللامية بل هو أول من شرحهما، وقد قيل انه المراد بما نسب إلى الشاطبي من قوله عن "اللامية": "يقيض الله لها فتى يشرحها"(4). وسيأتي ذكر شرحه عليها وهو المسمى بـ"فتح الوصيد"، وتقدم ذكر شرحه للرائية (العقيلة).
__________
(1) - هو زيد بن الحسن بن زيد تاج الدين أبو اليمن الكندي البغدادي نزيل دمشق (520ـ613)، تلقن القرآن على سبط الخياط وله سبع سنين أونحوها، قال ابن الجزري: وهذا عجيب، وأعجب من ذلك انه قرأ القراءات العشر وهو ابن عشر، وهذا لا يعرف لأحد قبله، وأعجب من ذلك طول عمره وانفراده في الدنيا بعلو الإسناد في القراءات والحديث فعاش بعد ان قرأ القراءات ثلاثا وثمانين سنة، وهذا ما نعلمه وقع في الإسلام. يمكن الرجوع إلى باقي ترجمته في غاية النهاية 1/297ـ298 ترجمة 1307.
(2) - انباه الرواة لأبي الحسن القفطي 2/312 ترجمة 494.
(3) - نقله ابن الجزري في غاية النهاية 1/569. ترجمة 2318.
(4) - غاية النهاية 1/570.
(1/148)
ومن أهم روايات المغاربة عنه لقصيدة الشاطبي روايتها من طريق أبي اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب الكندي الدمشقي المعروف بابن عساكر نزيل مكة المكرمة، فقد أسندها من طريقه أبو عبد الله بن رشيد من سماع صاحبه الوزير محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم رفيقه في رحلته من شيخه أبي اليمن المذكور عن الإمام السخاوي، وكان أخذه لها عن أبي اليمن بتاريخ الثاني من ذي الحجة من سنة 684 تجاه الكعبة المعظمة(1).
11- علي بن محمد بن موسى بن أحمد الجمال أبو الحسن بن أبي بكر التجيبي الشاطبي
قال الحافظ أبو شامة: "كان قد اشتغل بالقراءات والنحو بالمغرب، ثم صحب بمصر الشيخ الإمام الحافظ أبا القاسم بن فيره الشاطبي صاحب "القصيدة"، وكان يكرمه لأجل أنه من بلده"(2).
وقال الحافظ ابن الجزري: "إمام مقرئ كامل، عرض السبع على أبي القاسم الشاطبي إفرادا وجمعا، وسمع منه وإجازته منه، بخط السخاوي في سنة 588، ثم قدم دمشق فسكنها وأسمع بها سنة 601، وتصدر للإقراء بها فكان شيخ حلقة ابن طاوس.
قرأ عليه أبو عبد الله الفاسي القراءات، قال أبو شامة: مات في رمضان سنة 626، وكان كثير التغفل"(3).
12- علي بن هبة الله بن سلامة اللخمي أبو الحسن المصري الشافعي المعروف بابن الجميزي (557ـ649)
مقرئ كبير حفظ القرآن سنة سبع وستين وخمسمائة، فرحل به أبوه إلى الشام فسمع بها وقرأ ودخل بغداد فقرأ بها العشر، ورجع إلى مصر فقرأ على الشاطبي جميع الشاطبية وعدة ختمات، ولكنه لم يكمل القراءات، قال الذهبي: وأنا أتعجب من القراء كيف لم يزدحموا عليه، لأنه كان أعلى أهل زمانه إسنادا في القراءات، فلعله كان المانع من جهته "قال ابن الجزري:
__________
(1) - ملء العيبة لابن رشيد 5/183.
(2) - ذيل الروضتين 157.
(3) - غاية النهاية 1/516 ترجمة 2318. وابن طاوس هو هبة الله بن أحمد إمام الجامع الاموي ـ غاية النهاية 2/349. ترجمة 3767.
(1/149)
"روى عنه الشاطبية الفخر التوزري(1) ودرس وأفتى وانتهت إليه رياسة العلم بالديار المصرية، وانقطع بموته إسناد عال، توفي في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة 649 وقد جاوز التسعين"(2).
13- أبو العباس العزفي أحمد بن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي عزفة السبتي الآنف الذكر في مشيخة الإقراء بسبتة (557ـ633)
ذكره ابن عبد الملك فيمن حدث عن أبي القاسم الشاطبي بالإجازة(3).
14- عيسى بن مكي بن حسين بن يقظان أبو القاسم المعروف بالسديد المصري الشافعي إمام الجامع الحاكمي
ولد قبل السبعين وخمسمائة، وقرأ القراءات والشاطبية على الشاطبي، قال ابن الجزري:
"قرأ عليه يعقوب بن بدران الجرائدي وعلي بن ظهير الكتفي والموفق محمد بن أبي العلاء النصيبي، وروى عنه الشاطبية الفخر التوزري، وأخذ عنه الحروف جماعة، توفي سنة 649"(4).
وكان صهرا للشاطبي كما جاء في ترجمته عند ابن عبد الملك(5)، وقال في ترجمة سعد بن خالص بن مهدي اللوشي أبي عمرو الجروي: "فممن سمع أبو عمرو عليه أو قرأ عيسى بن مكي بن حسين، عرض عليه عن ظهر قلب القصيدة الشاطبية في القراءات، وحدثه بها عن صهره ناظمها"(6).
ولم اهتد إلى وجه هذه المصاهرة، لأنه عاش بعد الشاطبي نحوا من ستين سنة، فلعلها كانت من جهة بعض بناته، فيكون ثاني صهر له بعد الكمال الضرير.
__________
(1) - هو عثمان بن محمد التوزري المالكي توفي بمكة سنة 713 ـ ترجمته في غاية النهاية 1/510 ترجمة 2107.
(2) - ترجمته في معرفة القراء الكبار 2/518ـ520 طبقة 15 ـ وغاية النهاية 1/583 ترجمة 2366.
(3) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم الثاني 546ـ557 ترجمة 1088.
(4) - معرفة القراء 2/520 ترجمة 15 وغاية النهاية 1/614 ترجمة 2505.
(5) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ549 ترجمة 1088.
(6) - المصدر نفسه السفر 4 القسم الأخير 10ـ11 ترجمة 27.
(1/150)
15- سراقة الشاطبي: أحد الرواة عنه حكى أبو الحسن القفطي في ترجمة الشاطبي عن ابنه فقال: "اخبرني المحبي بن سراقة الشاطبي قال: قال لي إبي: إنني قرأت القرآن على أبي القاسم بن فيره بشاطبة.. ثم ساق خبر رحلة الشاطبي.." (1). 16- عيسى بن يوسف بن إسماعيل أبو موسى المقدسي الشافعي مستوطن بلبيس
ذكره ابن عبد الملك في أصحابه في ترجمته(2)، وذكره الذهبي وابن الجزري في شيوخ أبي عبد الله محمد بن الحسن الفاسي ـ صاحب اللآلئ الفريدة ـ وذكرا قراءته على اثنين من أصحاب الشاطبي فعداه فيهما وذكرا أنه عرض عليهما حرز الاماني(3).
17- محمد بن سعدون بن تمام أبو عبد الله الازدي الانصاري القرطبي، قال ابن الجزري: ذكر أنه قرأ على أبي القاسم الشاطبي.." (4).
18- محمد بن عبد الرحمن بن محمد الرعيني أبو عبد الله السرقسطي
ذكره ابن عبد الملك وقال: رحل إلى المشرق فلقب ثم بركن الدين، وأخذ هناك عن أبي محمد قاسم بن فيره الشاطبي وجماعة، ورجع إلى المغرب، وولي القضاء بمعدن "عوام"(5) بمقربة من مدينة فاس فشكرت أحواله، توفي به قاضيا سنة 598"(6).
19- محمد عبد الرحمن أبو الطاهر الجابري
ذكره الحافظ أبو شامة في حوادث سنة 633 فقال: "وفيها في ذي القعدة وصل إلينا خبر موت خطيب مصر الشيخ الفقيه الدين أبي الطاهر محمد بن عبد الرحمن الجابري ـ من ولد جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله هنه ـ واشتهرت نسبته بالمحلي، وكان من أصحاب الشيخين الشاطبي والقرشي، وكنت اجتمعت به في مصر غير مرة رحمة الله عليه، ولد سنة 554"(7).
__________
(1) - انباه الرواة على أنباه النحاة 16094 ترجمة 942.
(2) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/48ـ557 ترجمة 1088.
(3) - معرفة القراء 2/533 وغاية النهاية 2/122.
(4) - غاية النهاية 2/142 ترجمة 3016.
(5) - يخرج إليه من فاس من باب الجديد كما في القرطاس 42.
(6) - الذيل والتكملة 6/364 ترجمة 964.
(7) - ذيل الروضتين لأبي شامة 163ـ164.
(1/151)
20- محمد بن عمر بن حسين زين الدين أبو عبد الله الكردي
قال ابن الجزري: "مقرئ عالم متصدر للإقراء بجامع دمشق في زمن السخاوي، قرأ القراءات والقصيد على الشاطبي، قرأ عليه الرشيد بن أبي الدر(1) قال أبو شامة: توفي سنة 628(2) وتصدر مكانه بجامع دمشق للإقراء الشيخ أبو عمرو بن الحاجب"(3)، وقد تقدم ذكرنا لشرحه على "عقيلة أتراب القصائد" للشاطبي.
21- محمد بن عمر بن يوسف أبو عبد الله الأنصاري القرطبي المالكي الزاهد ويعرف بابن مغايظ
قال ابن الأبار: انتقل أبوه إلى مدينة فاس فسكنها وعرف فيها بالقرطبي هو وابنه محمد هذا... ثم رحل إلى المشرق ولم يعد إلى المغرب فسمع هنالك عن جماعة منهم أبو محمد قاسم بن فيره الشاطبي الضرير المقرئ.. ونزل قاهرة مصر وحدث بها وأخذ عنه القرآن والحديث والعربية، توفي بمصر سنة 621"(4).
وقال ابن الجزري: "إمام عالم فقيه مفسر نحوي مقرئ، ولد بعد الخمسين وخمسمائة، قرأ القراءات على أبي القاسم الشاطبي، زقرأ عليه القصيدتين اللامية والرائية، وعلى أبي محمد بن عبيد الله الحجري(5) ويحيى بن محمد الهوزني(6) وعبد الرحمن بن علي بن الخزاز وعلي بن موسى بن النقرات(7) وسمع من جماعة، قال:
__________
(1) - هو أبو بكر بن أبي الدر المعروف بالرشيد المكيني من أصحاب السخاوي ـ ترجمته في غاية النهاية 1/181.
(2) - الذي رأيته لأبي شامة في ذيل الروضتين 160 انه توفي سنة 629.
(3) - غاية النهاية 2/216 ترجمة 3312.
(4) - التكملة 2/617ـ618 ترجمة 1614.
(5) - تقدم في المبرزين من أئمة الإقراء بسبتة.
(6) - هو أبو زكرياء الهوزني تقدم أيضا في المبرزين بسبتة.
(7) - نزيل فاس تقدم في المتصدرين بفاس.
(1/152)
"ولم يسمع أحد من الشاطبي الرائية كاملة فيما نعلم سواه وسوى التجيبي(1)، وله فيها أبيات انفرد بروايتها عنه، وكذلك في الشاطبية بيتان أحدهما في البقرة والآخر في الرعد"(2).
22- محمد بن أحمد بن الحسين أبو عبد الله السجزي ذكره ابن عبد الملك في أصحابه في ترجمته(3).
23- محمد بن يوسف بن عمر : ذكره ابن الجزري في ترجمة عبد الصمد بن أحمد بن أبي الجيش البغدادي وذكر أنه روى الشاطبية عنه سماعا من الشاطبي قال: أحسب أنه لقيه بالمدينة"(4).
24- محمد بن القاسم بن فيرة الجمال أبو عبد الله بن أبي القاسم الشاطبي
قال ابن الجزري: "روى حرز الاماني عن أبيه سماعا إلى سورة ص والباقي إجازة، هذا الذي رأيناه مثبتا عند الحفاظ وإن كان وقع في بعض الإجازات إطلاق روايته لها عن أبيه والله أعلم، رواها عنه محمد بن عبد الله بن عبد المنعم بن الصواف(5) ومحمد بن يعقوب الجرائدي بقي إلى سنة 655 وعاش نحو الثمانين سنة رحمه الله"(6).
25- محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسي أبو عبد الله
__________
(1) - المراد به علي بن محمد بن موسى الجمال الآنف الذكر في أصحابه (رقم 11).
(2) - غاية النهاية 2/219ـ220 ترجمة 3324، وله ترجمة في معرفة القراء الكبار 2/510ـ511 طبقة 15.
(3) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557 ترجمة 1088.
(4) - غاية النهاية : 1/387، ترجمة 1653.
(5) - هو أبو بكر الكناني المصري يعرف بابن الصواف تلا بالسبع على الكمال الضرير وروى الشاطبيي عنه وعن جماعة من أصحاب الشاطبية ـ ترجمته في غاية النهاية 2/181 ترجمة 1364.
(6) - غاية النهاية : 2/230، ترجمة 3371.
(1/153)
فقيه علامة من أصحاب ابن حنين نزيل فاس، له رحلة إلى المشرق أقام فيها خمس عشرة سنة، ولقي من المشايخ فيها الحافظ السلفي وأبا القاسم الشاطبي وغيرهما، وله برنامج ضمنه مشيخته سماه "النجوم المشرقة في ذكر من أخذت عنه من كل ثبت وثقة"، وله مؤلفات أخرى(1).
26- محمد بن محمد بن وضاح أبو بكر اللخمي الاندلسي الشقري بضم المعجمة وسكون القاف خطيب شقر :
تقدم في أصحاب أبي الحسن بن هذيل ـ شيخ الشاطبي ـ أجازه أبو الحسن المذكور وسمع منه التيسير، وحج سنة 580 فقرأ الشاطبية على ناظمها أبي القاسم، ثم رجع فكان هو الذي أدخل الشاطبية إلى بلاد الغرب والاندلس ورواها لهم، رواها عنه محمد بن صالح بن أحمد الكناني والحسين بن عبد العزيز بن أبي الاحوص، والحافظ أبو بكر بن مسدي، قال ابن مسدي فيه:
"خلف أباه في الخطابة والإقراء، وحج فتلا بالروايات على الشاطبي وسمع بإجازة أبيه من ابن هذيل وأجاز له، وتوفي في صفر سنة 634 وله خمس وسبعون سنة"(2).
وقد تقدم ذكره في شراح "عقيلة الاتراب".
27- محمد بن يحيى بن علي بن بقاء أبو عبد الله اللخمي من اهل شاطبة يعرف بالجنجالي ويكنى أبا عبد الله
قال في التكملة: "أخذ القراءات عن أبي محمد قاسم بن فيره الشاطبي، قبل رحلته إلى الشرق... توفي في 29 ذي القعدة سنة 607(3).
28- مرتضى بن العفبف جماعة بن عباد بن جابر أبو الذكر المالكي الضرير يعرف بابن الخشاب
كان متصدرا بالجامع العتيق بمصر، أخذ القراءات والشاطبية، عن الشاطبي قرأ عليه محمد بن عبد المنعم الصواف، وروى عنه الشاطبية سماعا الفخر عثمان بن محمد التوزري"(4).
__________
(1) - ترجمته في سلوة الأنفاس للكتاني، 3/262-263.
(2) - غاية النهاية : 2/257 ترجمة 3450..
(3) - التكملة 2/581ـ582 ترجمة 1554.
(4) - غاية النهاية 2/293 ترجمة 3585.
(1/154)
29- هبة الله بن محمد بن عبد الوارث أبو جعفر الأنصاري المعروف بابن الأزرق قارئ مصحف الذهب، وهو "اخو أبي الفضل عبد الله المتقدم وأسن منه، وهو قديم الوفاة، روى الشاطبية عن الشاطبي، رواها عنه الفخر عثمان بن محمد التوزري، مات حدود 640 فيما أظن"(1).
30- يحيى بن أبي علي أبو زكرياء المعروف بالزواوي من بجاية، وسماه ابن مخلوف يحيى بن علي
قرأ بقلعة حماد بالجزائر على الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعافري القلعي المقرئ المعروف بابن الخراط وغيره، ثم ارتحل إلى المشرق فقرأ وروى عن جماعة كأبي طاهر السلفي وأبي القاسم الشاطبي وسواهم من الاعلام، توفي سنة 611(2)
31- يوسف بن أبي جعفر بن عبد الرزاق مكين الدين أبو الحجاج الأنصاري البغدادي
ذكره ابن عبد الملك في أصحاب الشاطبي(3).
وقال ابن الجزري:
"ذكر أنه سمع الشاطبية من لفظ ناظمها وأسمعها في سنة 638 ببغداد بقراءة سعد بن أحمد الجذامي النحوي، فسمعها منه جابر بن محمد الوادي آشي وعبد الله بن محمد الغساني وكتب الطبقة بخطه، وقال فيها: إن الشيخ ثقة ثبت، وروى عنه الشاطبية أيضا الرضي حسين بن قتادة العلوي"(4).
هؤلاء هم أهم أصحابه الذين لهم ذكر في كتب الطبقات وأسانيد الشاطبية في فهارس العلماء.وقد تتبعت أسانيد الشاطبية في عدد من البرامج والفهارس وكتب القراءات فوجدتها لا تخرج عن هذه الطرق، بل أكثرها يشترك في مجموعة يسيرة من الاسماء نجد عليها المدار في رواية الشاطبية طوال العصوره.
وهذه أمثلة من طرق الشاطبية في البرامج والفهارس وكتب القراءات:
__________
(1) - قاله ابن الجزري في غاية النهاية 2/352 ترجمة 3776.
(2) - عنوان الدراية للغبريني 127ـ132 ترجمة 27 وشجرة النور لابن مخلوف 184ـ185 ترجمة 609.
(3) - الذيل والتكملة السفر 5 القسم 2/548ـ557 ترجمة 1088.
(4) - غاية النهاية 2/395 ترجمة 3917.
(1/155)
1- إسناد أبي عبد الله محمد بن محمد العبدري صاحب الرحلة مما قرأ به في بجاية سنة 688:
تقدم ذكره في مشيخة الإقراء بمراكش، قرأ الشاطبية على أبي عبد الله بن صالح الكناني ببجاية من طريق أبي بكر بن وضاح عن الشاطبي، وبتونس على أبي جعفر أحمد بن يوسف اللبلي عن الكمال الضرير صهر الشاطبي، وبها أيضا على أبي محمد جابر بن محمد الوادي آشي عن علم الدين السخاوي عن الشاطبي(1).
2- إسناد القاسم بن يوسف التجيبي السبتي (ت 730) مما قرأ به على أبي عبد الله بن صالح المذكور ببجاية
قد تقدم ذكره في مشيخة الإقراء بسبتة، وقد أسند الشاطبية عن شيخه المذكور من طريق ابن وضاح، وعن أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الجذامي عن ابن وضاح أيضا، عن جابر بن محمد الوادي آشي مكاتبة عن السخاوي، وعن أبي الحجاج يوسف بن أحمد بن حكيم مكاتبة أيضا عن أبي الحسن بن خيرة، كلهم عن الشاطبي(2).
3- إسناد الشيخ خالد البلوي في رحلته "تاج المفرق" مما قرأ به بتونس سنة 767
يروي الشيخ خالد الشاطبية فيما أسنده في رحلته المدونة عن السديد عيسى بن مكي وعن السخاوي وكمال الدين علي بن شجاع صهر الشاطبي بسماع الثلاثة لها من الشاطبي(3).
4- إسناد الإمام أبي إسحاق الجعبري في كتابه "كنز المعاني في شرح حرز الاماني"
قال الجعبري (ت 732) في الكنز: "سمعت هذه القصيدة على الشيخ القدوة أبي أحمد عبد الصمد بن عبد القادر البغدادي، وسمعها من الشيخ أبي عبد الله محمد بن يوسف بن عمر القرطبي وسمعها على ناظمها.
ـ وانبأه بها أيضا الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي وقرأها على ناظمها.
__________
(1) - رحلة العبدري 7ـ27ـ28ـ43ـ205.
(2) - برنامج التجيبي 39ـ40ـ41ـ42.
(3) - تاج المفرق 1/172ـ173.
(1/156)
ـ وأنبأني بها الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن محمد الجزري، وقرأها على أبي القاسم بن أبي الحزم(1) إمام الجامع الانور قال: قرات على الناظم"(2).
5- إسناد أبي عبد الله المنتوري في فهرسته (ت 834) :
ذكر في فهرسته أنه عرض القصيدة من حفظه على جماعة سماهم، ثم رفع الأسانيد من طرق عن أبي بكر بن وضاح وأبي الحسن علي بن شجاع، فذكر منها سبع طرق بالقراءة والسماع وطرقا عديدة أخرى بالإجازة والكتابة(3).
6- إسناد أبي عبد الله محمدبن محمد المجاري الاندلسي (ت 862) في برنامجه :
أسند أبو عبد الله المجاري الشاطبية عن ثلاثة من أعلام مشيخته بأسانيدهم بها من عدة طرق إلى أبي الحسن بن شجاع وهبة الله بن الأزرق بقراءتهما على الشاطبي(4).
7- إسناد الحافظ ابن الجزري (ت 833) في كتاب النشر في القراءات العشر
أسند الحافظ ابن الجزري قصيدة الشاطبي بعد تلاوته القرآن بمضمنها في أواخر سنة 769 من طريق أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي، وأسندها من طريق أبي الحسن السخاوي، وطريق أبي الحسن علي بن شجاع صهر الشاطبي، ومن طريق السديد عيسى بن مكي، ومن طريق محمد بن قاسم الجمال ابن ناظمها(5).
إسناد أبي عبد الله بن غازي المكناسي نزيل فاس (ت 919) في فهرسته"التعلل برسوم الإسناد"
أسند أبو عبد الله بن غازي قصيدة الشاطبية من طرق عديدة قرأ بها، منها عن شيخه أبي عبد الله الصغير من طريق الكمال الضرير، ومن طريق هبة الله بن الأزرق، ورواها عن شيخه أبي عبد الله بن السراج من طريق أبي بكر بن وضاح، وعلي بن شجاع الكمال الضرير من طرق، وكلهم عن الشاطبي(6).
__________
(1) - هو عيسى بن مكي المعروف بالسديد.
(2) - كنز المعاني في أوله عند ذكر الأسانيد.
(3) - فهرسة المنتوري لوحة 6ـ7.
(4) - برنامج المجاري 95ـ96ـ114ـ120ـ122.
(5) - النشر 1/61ـ62ـ63.
(6) - فهرسة ابن غازي 38ـ39ـ40ـ97ـ157ـ188 (الملحق).
(1/157)
ويتلخص لنا من هده النماذج من أسانيد الأئمة أن اهم طرق الشاطبية في المشرق والمغرب تمر عبر هؤلاء الرواة ـ أبي بكر بن وضاح ـ والكمال الضرير علي بن شجاع ـ ومحمد بن عمر بن يوسف القرطبي ـ وأبي الحسن السخاوي ـ وهبة الله بن الأزرق ـ والسديد عيسى بن مكي ـ ومحمد بن القاسم الجمال ـ وأبي الحسين بن خيرة.
وبالمقارنة بينها يتبين أن أكثرها انتشارا طريق الكمال الضرير لأنها مشتركة بين المشارقة والمغاربة ثم طريق أبي الحسن السخاوي وأبي عبد الله محمد بن عمر القرطبي لأنها مشتركة أيضا، وأوسعها انتشارا في المغرب والأندلس طريق ابن وضاح الاندلسي لأنه دخل بها إلى الاندلس فأخد عنه الناس.
العناية بالقصيدة وأثرها في القراءة والإقراء ونبذ من آراء العلماء في تقويمها وبيان آثارها
ولعلنا من خلال ما قدمنا من عناية الأئمة بروايتها وإسنادها من الطرق المشهورة قد لمسنا جانبا من شغف الناس بها وإقبالهم عليها، إلا أننا نحب أن ننقل للقارئ الكريم نبذا من أحكام العلماء عليها وآرائهم فيها من المغاربة والمشارقة تنبيها منا على ما حظيت به منذ ظهورها قديما وحديثا من تقدير واعتبار، وها هي آراء عدد من علماء هذا الشأن تعبر عن حكمهم عليها نسوقها مبتدئين بآراء المغاربة:
آراء المغاربة في تقويم القصيدة وأثرها:
1- رأي ناظمها أبي القاسم الشاطبي:
رأينا في سياق التقديم للقصيدة كيف وصف الشاطبي عمله فيها وكيف عبر عن اعتماده فيها على كتاب التيسير، إلا أننا من خلال تدبرنا لمعاني ما ذكره نستشف من ورائه مقدار النشوة والاغتباط الذي كان يحسه نحو هذا العمل ومقدار ارتياحه له، مع ما حاول أن يظهر به من مظاهر التواضع وهضم النفس، وذلك في قوله:
"أهت فلبتها المعاني لبابها ... وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره ... فأجنت بعون الله منه مؤملا
وألفاظها زادت بنشر فوائد ... فلفت حياء وجهها أن تفضلا
(1/158)
هو إذن يحس بقيمة قصيدته ويرى ان ألفاظها قد زادت على التيسير بنشر فوائد، وإن كان ذلك لا يعني أنه يرى لها أفضلية عليه.
ولعل هذه الألفاف وما تضمنته من معان وإضافات هي التي أملت على كثير من الشراح أن يجتهدوا في تتبع ما زاد به على التيسير، وان يستخرجوا من إشاراته وألفاف قصيدته ما أعطى لها من المكانة والاهمية أضعاف ما كان لأصلها.
ولقد عبر أبو الحسن السخاوي فيما حكاه عنه تلميذه أبو شامة ـ عن مقدار إدراك ناظمها لما تزخر به القصيدة من معان تحتاج إلى البسط والإيضاح، قال أبو شامة: "وكنت سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن محمد ـ السخاوي ـ يجكي عن ناظمها شيخه الشاطبي ـ رحمهما الله ـ مرارا، أنه قال كلاما معناه: "لو كان في أصحابي خير أو بركة لاستنبطوا من هذه القصيدة معاني لم تخطر لي ـ قال ـ: ثم اني رأيت الشاطبي ـ رحمه الله ـ في المنام وقلت له: حكى لنا عنك الشيخ أبو الحسن السخاوي أنك قلت كيت وكيت، فقال: صدق"(1).
2- رأي أبي القاسم التجيبي السبتي (ت 730)
قال في برنامجه: "وقد استعمل الناس كثيرا هذه القصيدة على اعواز فيها، ونفع الله بها جملة من القراء، لحسن نية ناظمها، نقل عنه ـ رحمه الله ـ أنه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله ـ عز وجل ـ بها لأني نظمتها لله سبحانه"(2).
3- رأي العلامة ابن خلدون (ت 808)
تقدم ذكر ابن خلدون لقصيدة الشاطبي واعتباره لظهور ناظمها معلمة من معالم تاريخ تطور علم القراءات، وقد ذكر من ذلك في معرض التنويه بالقصيدة قوله: "استوعب فيها الفن استيعابا حسنا، وعني الناس بحفظها وتلقينها للولدان المتعلمين، وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والاندلس"(3).
__________
(1) - إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة 8.
(2) - برنامج التجيبي 42
(3) - مقدمة ابن خلدون 438.
(1/159)
ومن أطرف ما حكى ابن خلدون في شان أثر هذه القصيدة على الذوق الادبي فيما يخص تكوينه الشخصي ما قاله في بعض فصول مقدمته من ملاحظاته القيمة قال:
"ذاكرت يوما صاجبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالاندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة، فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلا، وإنما اتيت ـ والله اعلم ـ من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية، فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات.... فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها، فنظر إلي ساعة متعجبا ثم قال: لله أنت !وهل يقول هذا إلا مثلك"(1).
4- رأي أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي المعروف بابن آجروم (ت 723)
لأبي عبد الله بن آجروم حفاوة زائدة بالشاطبية يدل عليها شرحه النفيس المسمى بفرائد المعاني(2) وقد عبر في مقدمة هذا الشرح عن رأيه في هذه القصيدة فقال في معرض الحديث عن فضل كتاب الله وقراءته:
"وإن من أحسن ما فيه صنف، وفي قراءته ألف، قصيدة أبي القاسم الشاطبي ـ رحمه الله ـ وهي المسماة بحرز الاماني ووجه التهاني"، هذب فيها العبارات، وأوضح الإشارات، وأبان مشكلات المسائل، وبرز على الاواخر والاوائل"(3).
ولولد ابن آجروم المدعو بمنديل(4) قطعة فخرية يذكر فيها قيام أهل بيته بجملة من العلوم فيقول:
نحن الألي فرعوا للمجد ذروته ... وفي ظلال تلاع العز قد نزلوا
__________
(1) - المصدر نفسه 579.
(2) - يسميه بعضهم "فوائد المعاني" بالواو، وسياتي في جملة شروحها.
(3) - مقدمة شرحه. (مخطوط).
(4) - سيأتي في الآخذين عن أبيه في أصحاب أبي عبد الله بن القصاب بفاس.
(1/160)
إن كان ذو نهل للعلم أو علل ... فعن أبي كان ذاك النهل والعلل
إلى أن قال:
بسيبويه سبينا كل فائدة ... في صنعة النحو لا الكراس والجمل
وفي مسائل إيضاح لنا وضحت ... من التصرف شمس بيتها الحمل
وعند حرز الاماني شاهد فطن ... إذ أحرزت بحمانا تلكم السبل
وكم لنا في عروض الشعر من نكت ... يدري بذلك عنا الردف والعلل(1)
5- رأي ابن فرحون صاحب الديباج المذهب
قال بعد التعريف بمؤلفها: "ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء أهل هذا الزمان في نقلهم، فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم على حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة، وإشارات خفيفة لطيفة وما أظنه سبق إلى أسلوبها.." (2).
6- رأي عم الإمام أبي العباس المقري صاحب نفح الطيب :
قال في كتابه "أزهار الرياض" سمعت غير ما مرة شيخنا الإمام علم الاعلام المفتي عمنا سيدي سعيد بن أحمد المقري ـ رجمه الله ـ يقول:
"ما ألف في الملة المحمدية مثل كتاب الشفاء للقاضي عياض، وحرز الأماني للشيخ أبي القاسم الشاطبي"(3)
7- رأي أبي القاسم بن درى المكناسي(4)
عبر عنه في أول كتابه :حفظ الأماني" الذي وضعه على كنز المعاني للجعبري على الشاطبية فقال:
طلائع نشر الحرز قامت بمغرب ... فصالت وجالت تجمع الحمد للشكر
تعامل كل الناس بالبذل والعطا ... فلم يبق وفد زارها عرض الفقر
فقرت عيون الطالبين لنيلها ... وسرت قلوب الواصين بلا هجر
رموز لها كالورد أصبح راويا ... وأسماؤها فجر أضاء بلا ستر
وانهلها "كنز المعاني" بوبله ... فأصبحت الوراد تغرف من بحر
فلم يبق ظمآن على وجه أرضنا ... ولا فيها محتاج يعاين للغير
فرحماك يا ربي على علمائنا ... ومن بها فضلا على كل من يقري(5)
__________
(1) - القطعة بتمامها في كتاب النبوغ المغربي لكنون 3/39ـ41.
(2) - الديباج 224. وهو في الحقيقة كلام ابن خلكان في وفيات الأعيان 4/71 ترجمة 537.
(3) - أزهار الرياض للمقري 4/271.
(4) - سيأتي في شراح الشاطبية.
(5) - نقلها ابن زيدان في ترجمته في الاتحاف 5/536ـ541.
(1/161)
8- رأي الفقيه محمد بن الحسن الحجوي صاحب الفكر السامي (ت 1376هـ)
قال في سياق حديثه عن الشاطبي: "كان آية في القراءات والحديث واللغة.. وله نظم حرز الأماني في القراءات ألف بيت ومائة(1) وثلاثة وسبعون بيتا، أبدع فيها كل الإبداع، سواء من جهة الفن، أو من جهة الأسلوب والرموز التي لم يسبق إليها، وهي عمدة القراء في مشارق الأرض ومغاربها، حتى أصبح حغظها قرينا لحفظ القرآن العظيم في مكاتب الإسلام، ومن حفظها وفهم رموزها حصل القراءات السبع من زمنه إلى الآن"(2).
9- رأي العلامة عبد الله كنون (ت 1410هـ)
قال في كتابه "أدب الفقهاء" في معرض الحديث عن الشاطبي باعتباره أحد الأئمة الذين برعوا في اختصار بعض المتون العلمية والكتب المطولة في قصائد فقال: "ومن أمثلته قصيدته "حرز الاماني في القراءات السبع" المعروفة بالشاطبية... فإنها على اختصارها في الجملة، إذ تبلغ 1300(3) بيت جمعت زبدة القراءات، واحتوت من ذلك على علم غزير، ولذلك نجد الكثير من أهل العلم يحفظونها، وقد خضع لها كبار الشعراء والبلغاء وحذاق أهل الرواية والقراء"(4).
آراء المشارقة في تقويمها وبيان آثارها ومبلغ العناية بها.
1- رأي شارحها الأول أبي الحسن علي بن محمد السخاوي (ت 643).
__________
(1) - سقط لفظ مائة من الكتاب، فلعله خطأ في الطباعة، والصحيح ما أثبتناه كما تقدم.
(2) - الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي 2/228.
(3) - كذا والصحيح ان عدد أبياتها 1173 كما ذكر مؤلفها: وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ومع مائة سبعين زهرا وكملا.
(4) - أدب الفقهاء لعبد الله كنون 200
(1/162)
قال في معرض عن حديثه عن القصيدة: "وما علمت كتابا في هذا الفن منها أنفع، وأجل قدرا وأرفع، إذ ضمنها كتاب التيسير، في أوجز لفظ وأقربه، واجزل نظم وأغربه، والتيسير كتاب معدوم النظير، للتحقيق الذي اختص به والتحرير، فحقائقه لائحة كفلق الصباح، وجواده متضحة غاية الاتضاح، وقد أربت هذه القصيدة عليه فزادت، ومنحت الطالبين أمانيهم وأفادت،"(1) .
وقد نقل الحافظ أبو شامة في تقريظ القصيدة قوله من جملة أبيات:
هذه القصيدة بالمراد وفية ... من أجل ذلك لقبت حرز المنى(2)
2- رأي الحافظ عبد الرحمن بن إسماعيل أبي شامة الدمشقي (ت 665).
قال في أول شرحه عليها: "ثم إن الله تعالى سهل هذا العلم على طالبيه، بما نظمه الشيخ العالم الزاهد أبو القاسم الشاطبي – رحمه الله – في قصيدته المشهورة المنعوتة بحرز الأماني، التي نبغت آخر الدهر، أعجوبة لأهل العصر، فنبذ الناس سواها من مصنفات القراءات، وأقبلوا عليها، لما حوت من ضبط المشكلات، وتقييد المهملات، مع صغر الحجم، وكثرة العلم"(3).
وقال عند قوله: أخي أيها المجتاز نظمي ببابه ينادى عليه كاسد السوق أجملا:
"لم يكسد سوقه – والحمد لله – بل نفقت قصيدته نفاقا، واشتهرت شهرة لم تحصل لغيرها من مصنفات هذا الفن"(4).
3- رأي الإمام أبي إسحاق ابراهيم بن عمر الجعبري (ت 732)
قال أول شرحه "كنز المعاني" متحدثا عن الحرز: "إذ كان مخترع الأساليب، مبتدع الأعاجيب، قليل حجمه، جليل علمه، طالما امتدت إليه أعناق المحصلين، واحتدت فيه أحداق المبرزين، من نظر بعين الإنصاف، علم أنه أحسن كتب الخلاف .. ثم قال بعد كلام مقرظا:
إذا ما رمت نقل السبعة انظر ... لتظفر بالمنى حرز الأماني
جزى الله المصنف كل خير ... بما أبداه في وجه التهاني
بألفاظ حكت درا نضيدا ... وقد نادت فلبتها المعاني
__________
(1) - فتح الوصيد لأبي الحسن السخاوي (مخطوط).
(2) - إبراز المعاني 51.
(3) - إبراز المعاني
(4) - إبراز المعاني
(1/163)
طما آذيه عذبا وأروت ... جداوله فكل عنه ثان
حلا فيه "الطويل" ولذ سمعا ... فعد عن المثالث والمثاني
وقل في روضة فاحت عبيرا ... وحل بمنزل خير المغاني(1)
4- رأى الحافظ أبي عبد الله الذهبي (ت 748).
قال في معرض التنويه بإمامته في الفن: وقد سارت الركبان بقصيدتيه "حزر الأماني" و"عقيلة الأتراب" اللتين في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لايحصون، وخضع لهما فحول الشعراء، وكبار البلغاء، وحذاق القراء، ولقد أودع(2) وأوجز وسهل الصعب"(3).
5- رأي أحد أشياخ أبي محمد عبد الوهاب بن يوسف بن السلار الدمشقي قال:
أنشدني بعض الأشياخ لنفسه في مدح قصيدة الامام أبي القاسم بن فيره الرعيني الشاطبي هذين البيتين:
جلا الرعيني لنا مبدعا ... عروسه البكر ويا ما جلا
لو رامها مبتكر غيره ... قالت قوافيها له الكل: لا(4)
6- رأي الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت 774)
قال في ترجمته:"مصنف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يسبق إليها، ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل "ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير"(5).
7- رأي الحافظ أبي الخير ابن الجزري صاحب النشر (ت 833):
__________
(1) - مقدمة كنز المعاني (مخطوط).
(2) - كذا ولعلها أبدع.
(3) - معرفة القراء: 2/457 – 458 طبقة 14.
(4) - نقله المنتوري في فهرسته لوحة 6 – 7 (مخطوطة الخزانة الحسنية رقم 1578).
(5) - البداية والنهاية لابن كشير المجلد 7 الجزء 13. طبعة دار الفكر – بيروت 1398هـ - 1978م.
(1/164)
قال في ترجمته في الغاية: "ومن وقف على قصيدته علم مقدار ما آتاه الله في ذلك، خصوصا اللامية، التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها، فإنه لا يعرف قدرها إلا من نظم على منوالها(1) أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقتها، ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، فإني لا أحسب أن بلدا من بلاد الإسلام يخلو منه، بل أن بيت طالب علم يخلو من نسخة منه.
ولقد تنافس الناس فيها، ورغبوا في اقتناء النسخ الصحاح بها إلى غاية، حتى انه كانت عندي نسخة باللامية والرائية بخط الحجيج صاحب السخاوي مجلدة، فأعطيت بوزنها فضة فلم أقبل".
"ولقد بالغ الناس في التغالي فيها، وأخذ أقوالها مسلمة، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعض الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات السبع، وان ما عدا ذلك شاذ لا تجوز القراءة به".
__________
(1) - كأنه يعني نفسه, فقد نظم على منوالها قصيدته" الدرة المضيئة" في القراءات الثلاث المتممة للعشر وهي منشورة معها في مجموع " أتحاف البررة بالمتون العشرة" للشيخ علي بن محمد الضباع.
(1/165)
"ومن أعجب ما اتفق للشاطبية في عصرنا هذا أن به من بينه وبين الشاطبي باتصال التلاوة والقراءة رجلين، مع أن للشاطبي يوم تبييض هذه الترجمة مائتي سنة، وهذا لا أعلم أنه اتفق في عصر من الأعصار للقراءات السبع، وان كان اتفق في بعض القراءات وقتا ما، وما ذلك إلا لشدة اعتناء الناس بها، ومن الجائز أن تبقى الشاطبية باتصال السماع بهذا السند إلى رأس الثمانمائة، فإن من أصحاب القاضي بدر الدين ابن جماعة(1) اليوم جماعة، ولا أعلم كتابا حفظ وعرض في مجلس واحد، وتسلسل بالعرض إلى مصنفه كذلك إلا هو ... إلى أن قال: وقد بارك الله له في تصنيفه وأصحابه، فلا نعلم أحدا أخذ عنه إلا قد أنجب(2).
ومن طريف ما ذكره ابن الجزري في الغاية في ترجمة بعضهم أنه "اجتمع عنده نحو ألف شاطبية"(3).
وهذا أقصى ما يكون من الشغف والتعلق بكتاب.
8- رأي ولد ابن الجزري شارح طيبة النشر(ت 859).
قال عند قوله أبيه في الطيبة:
ولا أقول إنها قد فضلت ... حرز الأماني بل بها قد كملت
"ووجه كمالها بحرز الأماني أن ناظمها هو المتقدم، والفضل للمتقدم، وأنه الفاتح لهذا الباب، والآخذ من كل فضل بأسباب، ومقترح ذلك المصطلح، وما وصل صاحب هذه الأرجوزة إلى ما وصل إليه إلا ببركة ذلك الكتاب وحفظه له حالة الصغر منذ كان في الكتاب، ولولاه لم يصل إلى هذه الرتبة، ولم يكن له من هذا العلم نصيب ولاحبة، فالله تعالى يتغمده بالرحمة والغفران، ويبوئه في الدار الآخرة أعلى الجنان"(4).
9- رأي بعض المعاصرين من أهل المشرق:
__________
(1) - هو بدر الدين أبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن جماعة الكناني قاضي القضاة الشافعي.
(2) - غاية النهاية 2/22-23 ترجمة 2600.
(3) - ذكره ابن الجزري في ترجمة محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن البغدادي يعرف بالمطرز الكتبي (ت 740).
غاية النهاية 2/179-180 ترجمة 3161.
(4) - شرح طيبة النشر 25-26.
(1/166)
يقول الدكتور أحمد أمين في معرض حديثه عن علوم القراءات في الأندلس: "فالشاطبي الذي ألف رسالته المسماة "حرز الأماني" والتي تسمى بـ "الشاطبية" نسبة إليه، قد اشتهرت في الشرق والغرب جميعا،وأخذت عمادا للقراءات في مختلف العصور والأقطار"(1).
ويقول الأستاذ محمود محمد الطناجي في معرض التقويم للتراث العربي في المغرب متحدثا عن الحرز:
"وقد صار نظمه هذا العمدة في ذلك الفن، وتعاقب عليه الشراح من المشرق والمغرب، ولايزال يتصدر برامج الدراسة في معهد القراءات بالأزهر الشريف"(2).
وتقول الدكتور عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ):"ورزقت لاميته "حرز الأماني" وهي الشاطبية من الشهرة والقبول ما لا يعلم لكتاب غيرها في القراءات، وتنافس الناس في اقتناء النسخ الصحاح منها في حياته وبعد وفاته"(3).
تلك صور ونماذج من مختلف العصور تمثل آراء العلماء والقراء في القصيدة.
العناية العملية بها في التحفيظ والتدريس.
أما على مستوى اعتمادها وسيلة علمية عملية في التدريس، فتتمثل العناية بها في أكثر من مظهر:
أ ـ تحفيظها للناشئة والمتعلمين. ب ـ اعتمادها وحدها في القراءة والأداء. ج ـ الاهتمام بشرحها وبسط مقاصد الناظم فيها، وهذه النقط تتطلب منا بعض التوقف لبيان ما تحقق لها من خلالها في المشرق والمغرب على السواء.
__________
(1) - ظهر الإسلام للدكتور أحمد أمين 3/53.
(2) - الدكتور الطناجي في بحث " التراث العربي في المغرب وقضية التواصل بين المشرق والمغرب" ص 95 (نشر بمجلة دعوة الحق المغربية العدد 9 السنة 17 ذي القعدة 1396هـ نوفمبر 1976.)
(3) - الدكتورة عائشة عبد الرحمن في بحث " التواصل بين المغرب ومصر"(نشر بدعوة الحق العدد 256 رمضان 1406 – أبريل 1986 ص34).
(1/167)
أ- فأما على مستوى الحفظ والتحفيظ فقد تقدم لنا من خلال آراء طائفة من العلماء مقدار العناية بذلك، كقول القاسم التجيبي السبتي: "استعمل الناس كثيرا هذه القصيدة"، وقول ابن خلدون: "وعني الناس: بحفظها وتلقينها للولدان"، وقال ابن آجروم في مقدمة شرحه عليها: "ولم أزل منذ حفظي لها مولعا بالنظر في معانيها، مغرى بتأمل مقاصدها ومناحيها". وقال العلامة ابن خلدون: "فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات"(1)، وقال أبو عبد الله المجاري في ترجمة شيخه محمد بن علي الحفار:"عرضت عليه جميعها عن ظهر قلب"(2)، وقال ابن غازي في ترجمة شيخه أبي عبد الله الصغير:"عرضته عليه عرضا جيدا من صدري في مجلس واحد"(3)، وذكر المنتوري عرضه لها من حفظه على جماعة منهم أبو سعيد فرج ابن قاسم بن لب وأبو عبد الله محمد بن محمد القيجاطي..(4)، وقال أبو العباس المنجور في ترجمة شيخه أبي الحسن علي بن هارون المضغري – من أصحاب ابن غازي -: "عرضتها عليه في مجلس واحد من صدري"(5)، وفي أسانيد الشيخ خالد البلوي(6) في معرض حديثه عن شيخه محمد بن يحيى الحسني بتونس:"وحدثني أنه عرضها من حفظه في مجلس واحد على الأستاذ أبي العباس البطرني"(7)، وفي أسانيد الإمام ابن مرزوق الحفيد أنه لقي أبا العباس أحمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن علي بن محمد اللجائي الفاسي بتلمسان مجتازا إلى الحج فقرأ عليه بعض القرآن بمضمن التيسير وحرز الأماني .. وعرض عليه من حفظه حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد والدرر اللوامع وضبط الحراز..."(8)،
__________
(1) - المقدمة 759
(2) - برنامجه 114.
(3) - فهرسة ابن غلزي 38.
(4) - فهرسة المنتوري لوحة 6.
(5) - فهرس المنجور 42.
(6) - هو الشيخ خالد بن عيسى البلوي صاحب الرحلة " تاج المفرق" في مجلدين.
(7) - تاج المفرق 2/108 – 109.
(8) - ثبت أبي جعفر البلوي 306-307..
(1/168)
وفي ترجمة القارئة المغربية خديجة بنت هارون بن عبد الله الدكالية أنها "قرأت القرآن بالروايات السبع، وحفظت الشاطبية، توفيت سنة 695"(1).
وقد بلغ الاهتمام بحفظها مداه في المدرسة الفاسية عند بعض الأئمة حتى كانوا يحفظون معها شروحها، وقد عني الامام أبو العباس المنجور (929-995) بتتبع هذا النشاط في فهرسته، فكان مما ذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد بن مجبر المساري قوله: "كان يحفظ السبع حفظا بالغا يفوق فيه أقرانه، يستحضر نصوص "حرز الأماني" ولا يحتاج إلى أن ينظر "التيسير"(2) و"وإنشاد الشريد"(3) أو غيرهما"(4) . ويقول فيما قرأ عليه "ومن الشاطبية الكبرى بلفظي إلى سورة الأنعام كنت أقرؤها عليه بين المغرب والعشاء بجامع القرويين، ينقل عليها من "الجعبري"(5).
ولو ذهبنا نتتبع مثل هذه العناية بتحفيظها في المشرق لطال بنا المدى، ولعل أبلغ عبارة وأجمعها هي ما عبر به عن ذلك الإمام أبو العباس القسطلاني في قوله: "إن أهل مصر كثيرا ما كانوا يحفظون "العنوان"(6) حتى ظهرت الشاطبية"(7).
__________
(1) - معجم المحدثين والمفسرين والقراء بالمغرب الأقصى لعبد العزيز بن عبدالله و نقلا عن تحفة الأحباب للسخاوي
(2) - في فهرس المنجور " التفسير" وهو تحريف لا يناسب السياق.
(3) - هو إنشاد الشريد من ضوال القصيد لأبي عبد الله بن غازي وسيأتي في شروح الشاطبية وما في معناها.
(4) - فهرسة أحمد المنجور 64.
(5) - فهرسة المنجور 65, ويعني بالنقل من الجعبري كتابه " كنز المعاني" على الشاطبية وسيأتي.
(6) - لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني 1/89 وقد تقدمه ابن الجزري إلى ذلك في منجد المقرئين ص 53.
(7) - يريد بالعنوان كتاب " العنوان في القراءات السبع " لأبي الطاهر إسماعيل بن خلف الأندلسي وقد تقدم التعريف به في مدارس الأقطاب.
(1/169)
ب – واما على مستوى اعتمادها في القراءة والأداء فقد حظيت الشاطبية كما حظي أصلها قبلها وهو "التيسير" بما لم يحظ به في هذا العلم كتاب، وذلك سر توافر نسخها حتى اجتمع عند بعضهم منها نحو ألف نسخة، وسر تنافس الناس فيها ورغبتهم في اقتناء النسخ الصحاح منها، وعلى الأخص منها ما كان بخطوط بعض الأعلام.
فأما في المشرق فقد سيطرت سيطرة مطلقة في ساحة الأقراء، وكان أسبق البلدان إلى هيمنتها فيه مصر والشام فقد كان أهل مصر – كما قدمنا – يقرأون السبع ويحفظون كتاب العنوان لأبي الطاهر مع مخالفته لكثير مما تضمنته الشاطبية(1) ، فلما ظهرت انصرفوا إليها وأغناهم ما فيها عن غيره فتشبثوا بها، ثم سرى ذلك إلى جيرانهم فانتشر الأخذ بها في الشام والعراق وما وراءها بسرعة متناهية، ومن مظاهر ذلك ما حكاه ابن الجزري في ترجمة محمد بن محمود الطوسي الذي دخل الشام بعد أن طرقها التتار فتوجه نحو دمشق "واجتمع بأئمتها وذلك في حدود 620هـ، وعاب عليهم كونهم لم يعرفوا سوى الشاطبية وطرقها"(2).
ومعنى هذا أن الشاطبية قد هيمنت على الميدان بالشام ولم يمض على وفاة ناظمها أكثر من ثلاثين سنة.
وذكر ابن الجزري أيضا بالنسبة للعراق وما وراءها أن فتنة التتار هذه كانت من أسباب ترك أهل العراق لما كان معروفا عندهم من قراءات – قال – وكذلك شأن غيرهم من بلاد العجم وما وراء النهر، فإن فتنة "الجنكزخانيين" قد أودت بحياة الكثير من أهل القراءات، "ولولا ما وقع من ذلك لما اشتهر فيها الشاطبية ولا التيسير كما هو معلوم عند المحققين"(3).
وكان من مظاهر الحذق عند علماء القراءة بالشام والعراق التمكن من معرفة مقاصد الشاطبي في بعض الأبواب التي تتضمن مسائل دقيقة، وكانوا يمتحنون الواردين عليهم في ذلك.
__________
(1) - منجد المقرئين لابن الجزري 53.
(2) - غاية النهاية 2/259 ترجمة 3457.
(3) - منجد المقرئين 53.
(1/170)
ومن الأمثلة التي ساقها ابن الجزري في بعض التراجم ما جرى من امتحان في دمشق لشغل منصب كرسي الإقراء الذي خلا يومئذ بموت متوليه بها أبي الحسن السخاوي ـ صاحب الشاطبي ـ ثم موت خلفه الفخر ابن المالكي عن قريب من ولايته "فوقعت المنافسة على هذا الكرسي بين أبي الفتح محمد بن علي الأنصاري الدمشقي أجل أصحاب السخاوي، والعلامة أبي شامة المقدسي صاحب السخاوي أيضا، إذ كان من شرط هذا المنصب أن يكون متوليه أعلم أهل البلد بالقراءات، فحضر الشيخان عند ولي الأمر، فقيل من ينصف بينهما؟ فوقع التعيين على الشيخ الامام علم الدين القاسم اللورقي ـ من شراح الشاطبية كما سيأتي ـ فحضر وقال: أنا أسألكما شيئا، فليكتب كل منكما عليه، فسألهما عن قول الشاطبي ـ رحمه الله ـ في باب وقف حمزة وهشام:
وفي غير هذا بين بين ومثله ... يقول هشام ما تطرف مسهلا
قال: فكتب عليه الشيخ أبو شامة ما يتعلق بالهمز في أصله وتقسيمه ومذاهب النحاة فيه وتعليل ذلك، ثم ما يتعلق بالبيت المذكور من اللغة والإعراب والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي وغير ذلك.
وكتب عليه أبو الفتح ما يتعلق بالوقف على الهمز فقط، قال: فلما وقف الشيخ علم الدين القاسم اللورقي على كلاميهما قال عن أبي شامة: هذا امام من أئمة المسلمين، وقال عن أبي الفتح: هذا مقرئ. قال:
وكان لولي الأمر ميل إلى أبي الفتح، فقال: ما المقصود إلا المقرئ، ثم رسم بها لأبي الفتح، قال: فلما خرجوا خرج أبو شامة وهو ينفخ، وقال للشيخ علم الدين: ياشيخ
ذبحتني، فقال، والله ما قصدت لك إلا خيرا، وما علمت أنهم إلى هذا الحد من الجهل في فهم كلامي"(1).
__________
(1) - غاية النهاية 2/211 ترجمة 3287.
(1/171)
وقد أدى الأمر بسبب هذه السيطرة المطلقة من لدن الشاطبية على ميدان الاقراء إلى أن ساد عند عامة الناس الاعتقاد بكونها مع أصلها "التيسير" قد اشتملا اشتمالا كليا على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وأن ما عداهما شاذ لا تجوز القراءة به لخروجه عن الأحرف السبعة المأذون في القراءة بها.
ويتجلى هذا الاعتقاد واضحا في السؤال الذي وجه إلى أثير الدين أبي حيان محمد بن يوسف الغرناطي في مصر في هذا الشأن والذي جاء فيه: "ما يقول الشيخ العالم العلامة شخ وقته وفريد دهره ... فيما تضمنه "التيسير" و"الشاطبية"، هل حويا القراءات السبع التي أشار إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم هي بعض من السبعة؟ ؟ وقد بسط ابن الجزري جواب أبي حيان في كتابه منجد المقرئين"(1).
ولقد كان هذا الاعتقاد السائد عند عامة أهل عصر ابن الجزري ومن تقدمهم هو الذي حدا به إلى تأليف كتابه القيم "النشر في القراءات العشر" إذ جاء في تقديمه له قوله:
"وإنما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير، وأنها هي المشار إليها بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، حتى إن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ وربما كان كثير مما لم يكن في الشاطبية والتيسير وعن غير هؤلاء السبعة أصح من كثير مما فيهما"(2).
__________
(1) - منجد المقرئين 25-29.
(2) - النشر 1/36.
(1/172)
ويقول أيضا في مقدمته المذكورة: وإني لما رأيت الهمم قد قصرت، ومعالم هذا العلم قد دثرت، وخلت من أئمته الآفاق، وأقوت من موفق يوقف على صحيح الاختلاف والاتفاق، وترك لذلك أكثر القراءات المشهورة، ونسي غالب الروايات الصحيحة المذكورة، حتى كاد الناس لم يثبتوا قراءنا إلا ما في الشاطبية والتيسير، ولم يعلموا قراءات سوى ما فيهما من النزر اليسير ..." (1).
ولقد كان لهذا الاعتقاد الخاطئ بسبب شهرة الشاطبية والتيسير، ما يقابله أيضا في الجهات المغربية فهذا إمام جليل القدر في المجال الفقهي يتورط في نفي التواتر عن القراءات السبع بدعوى أنها تنتهي أسانيدها إلى أبي عمرو الداني(2)، وهذا ينافي عنده تواترها لمجئ أسانيدها في عامة الجهات المغربية غالبا من طرق أبي عمرو، غافلا عن أثر كتابه "التيسير و"اختصاره" "الشاطبية" وما كان لهما في الاستحواذ على الساحة استحواذا كليا حتى غلب على الناس في الغرب الإسلامي أيضا ان القراءة الصحيحة هي ما جاء من طريق أبي عمرو الداني، ومن ثم كان الإقبال على كتابه المذكور، ثم جاءت الشاطبية فزادت في دعم هذا الاتجاه إلى أن كان ما كان من هجر جمهور القراء شيئا فشيئا لباقي الطرق والروايات.
__________
(1) - النشر 1/54.
(2) - هذا القول من عثرات الإمام أبي عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي الذي جمع بين الإمامة في الفقه والرسوخ في كثير من العلوم وقرأ القرءان بالقراءات الثمان على أبي عبد الله محمد بن محمد بن حسن بن سلامة الأنصاري وغيره (ترجمته في الديباج 337-340). وأما رأيه الفائل في عدم تواتر القراءات فقد أدلى به على إثر حادثة غرناطة التي أشرنا إليها في العدد الأول (ص 160) ويمكن الروع في الخصومة العلمية التي قامت حول موضوع تواتر القراءات السبع لهذا العهد إلى المعيار المعرب للونشريسي 12/68 – 72 وما بعدها.
(1/173)
ولقد انتهى الأمر في عامة الجهات المغربية إلى أن هيمنت الشاطبية هيمنة مطلقة على الميدان، فلم يعد أحد يعرف القراءات السبع إلا من طرقها، بل أوجب المرتبون منهم لطريقة "جمع القراءات فيما يعرف بصناعة الارداف على الآخذ للسبعة مراعاة الترتيب الذي سلكه الشاطبي في الحرز دون إخلال به(1).
ثم ازداد الأمر تمكنا حين أنشئت للشاطبية أوقاف خاصة في بعض المدارس يعود ريعها لمدرسيها، وقد بدأ ذلك في أثناء المائة العاشرة بمدينة فاس، وفي ذلك يقول أبو العباس المنجور في سياق تعريفه بشيخه علي بن عيسى الراشدي: "كان يحسن علوم القرآن أداء ورسما وضبطا، ويلقي "الكراريس"(2) وألفية ابن مالك إلقاء حسنا، ونفذ له تدريس الشاطبية الكبرى الذي أنشأ تحبيسه الشيخ الفقيه الفرضي الصالح أبو القاسم الكوش الدرعي(3) لنظر الشيخ الإمام أبي الحسن بن هارون(4)، ولم يكن لها وقف قبله، فأقرأها وأعاد، محضرا بالمجلس لكثير من شراحها كالسخاوي وأبي شامة والفاسي والجعبري(5) حتى تفقه فيها، وكنت أنا وبعض الطلبة قرأناها عليه قبل ذلك الوقف"(6).
__________
(1) - وهذا ما قرره صاحب القطعة الآتية في قوله:
وصنعة أرداف لأشياخ مغرب ... تقدم شيخا كان في الحرز أولا
وإن يك في تقديمه طول ردفة ... فقدم عليه آخرا كان أسفلا..إلخ
(2) - المراد بها المنظومات المعتمدة في القراءة كما تقدم كالدرر اللوامع والحصرية ومورد الظمآن وغيرها.
(3) - سيأتي في أصحاب ابن غازي.
(4) - هو علي بن هارون المطغري من أصحاب ابن غازي وسيأتي.
(5) - ستأتي هذه الشروح.
(6) - فهرس المنجور 67.
(1/174)
ويقول المنجور في ترجمة شيخه الآخر إبراهيم اللمطي الذي خلف ابن عيسى المذكور في كرسي الشاطبية: "وولي تدريس الشاطبية الكبرى والبردة بعد موت ابن عيسى، فعالجهما وقام وقعد نحوا من خمس وعشرين سنة حتى نفذ فيهما ونجب، وكان ملازما لتعليم كتاب الله العزيز نحوا من خمس وأربعين سنة ما عرض له فتور ولاكسل".(1)
وذكر العلامة عبد الله الجراري أن كرسي الشاطبية المذكور كان بمسجد الشرفاء بفاس(2).
ولم يكن الأمر في الجهات المغربية دون ما كان بفاس، بل كان تدريس الشاطبية عاما في الحواضر والبوادي، وقد حكى الأستاذ محمد المعاشي شيخ المرحوم الأستاذ المكي بربيش عن إحدى قبائل المغرب وانتشار تدريس الشاطبية بها، وهي قبيلة دكالة، فقال: "كان بدكالة ثمانية عشر أستاذا يدرسون الجعبري"(3).
ولقد كان من آخر من درس الشاطبية دروسا منتظمة تلميذ الأستاذ المعاشي المذكور الشيخ المحدث أبو شعيب الدكالي الذي كان يلقي دروسا موضوعية حول لامية الشاطبي بشرح الأستاذ ابن القاصح بالزاوية الناصرية بالرباط"(4).
__________
(1) - فهرس المنجور 73.
(2) - عبد الله الجراري – دعوة الحق العدد 4 السنة 11 ذو القعدة 1387 فبراير 1968. ص 87.
(3) - المرجع نفسه ص 87.
(4) - متعة المقرئين في تجويد القرءان المبين للجراري 93.
(1/175)
وما تزال للشاطبية مكانتها النسبية إلى الآن عند البقية الباقية من مشايخ القراءة في البوادي خاصة وفي بعض الحواضر، إذ نجد حفظها شائعا وخصوصا في الجنوب المغربي، وما يزال بعض المشايخ إلى اليوم يعتمد عليها في تصحيح الألواح ويكتب أبياتها المتعلقة بالأحكام الأدائية وفرش الحروف في أسفلها ليتمكن بذلك الطالب من أخذ القراءة معززة بأدلتها، كما أنها ما تزال معتمدة في التدريس في المشرق أيضا وعلى الأخص في بلاد مصر، بل إن القراءة بمضمنها عندهم ما تزال متصلة الأسانيد عند طائفة ممن درسوا بها على الشيخ عبد الفتاح القاضي والشيخ عبد الفتاح السيد عجمي المرصفي المصري(1) وعند عدد ممن أخذوها عن الشيخ أحمد بن عبد العزيز بن أحمد بن محمد الزيات المقرئ بالقاهرة شيخ شيوخ الإقراء وأعلى أهل مصر إسنادا فيها، وسوف نرى في ختام هذا البحث بعض النمادج من أسانيد العصر في مصر من طريق الشاطبية بعون الله.
ومن أدل الأدلة على ما للشاطبية من مكانة وشيوع استعمال في كافة البلاد الإسلامية أنها كانت من أقدم من طبع في كتب التراث، فقد طبعت لأول مرة بالهند سنة 1278هـ، ثم طبعت بمصر سنة 1302هـ(2)، ثم طبعت مرات متوالية مع بعض متون القراءة والرسم والتجويد وضمن بعض الشروح(3) .
__________
(1) - وصل إلي سنده في القراءة عن طريق بعض طلبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ضمن إجازته برواية ورش للأخ ادريس الحنفي من فاس بعد أن عرضها عليه بالمدينة المنورة بتاريخ 11 رجب عام 1407هـ.
(2) - الدكتور التهامي الراجي في مقدمة تحقيق كتاب التعريف في اختلاف أصحاب نافع "للداني" ص 42.
(3) - من طبعاتها المعروفة طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر بإشراف الشيخ علي بن محمد الضباع شيخ المقارئ المصرية السنة 1354هـ - 1935م ضمن مجموع "أتحاف البررة بالمتون العشرة".
وطبعت أيضا بالمطبعة نفسها مع مورد الظمآن للخراز بإشراف الضباع أيضا سنة 1355-1937 وقد وقفت على الطبعتين في بعض الخزائن الخاصة وأما مجموع "أتحاف البررة" فقد طبع مرارا.
(1/176)
ومن أعظم الأدلة على ما كان لها من مقام عند العلماء, وما استقطبته من مظاهر النشاط العلمي في العالم الإسلامي ما نلاحظه من تعاقب الأئمة على شرحها وتبيين مقاصدها والنظم على منوالها ووضع الهوامش والطرر عليها والتأليف في زوائدها على التيسير وما إلى ذلك مما كتب عليها أو على بعض شروحها من مصنفات نحاول في هذه العجالة أن نعطي للقارئ نظرة عنها يتأتى له من خلالها تمثل المكانة المثلى التي تبوأتها في مختلف العصور, وهي المظهر الثالث الذي تبلورت فيه مظاهر العناية بها منذ ظهورها إلى اليوم.
ج- الاهتمام بشرحها وبسط مقاصد الناظم فيها وما اقترن بذلك من مظاهر العناية بها والنظم على منوالها.
أولا : شروح الشاطبية: (1)
سأحاول فيما يلي تعريفا موجزا بشروحها المشهورة وجمع أسماء الشروح التي وردت في المصادر والفهارس, مع محاولة ترتيبها على وفيات أصحابها حسب الإمكان كلما تأتى ذلك, وأكتفي فيما لم أقف عليه بالإحالة على من ذكره, وغرضي بذلك أن نتتبع الأثر العلمي الذي كان للقصيدة وما خلفته في الميدان من آثار ما تزال ملء سمع الدنيا وبصرها, مما تسعى بعض الدراسات الجامعية إلى إبرازه من خلال بعض هذه الشروح وتحقيقها .
وقبل أن أتابع ذكر هذه الشروح أشير إلى أن عمل الأئمة على شرحها قد تسلسل في الزمن منذ ظهورها دون توقف, وقد حاول بعض الباحثين أن يجد تعليلا مقبولا لهذه الظاهرة دون أن يضع في حسبانه ما كان لها وما يزال في القلوب من تعلق مكين, فرجع ذلك بعضهم إلى طبيعة القصيدة في نفسها وزعم أنها "لا تخلو من صعوبة وتعقيد, لذلك كثر شراحها"(2).
__________
(1) - يجري العمل الآن على تحقيق مجموعة من شروحها كلا أو جزءا فقد علمت أن بعض طلبة الدراسات يعمل حاليا في تحقيق شرح السخاوي وبعضهم في تحقيق شرح الجعبري وبعضهم في قسم الأصول من شرح الفاسي.
(2) - هذا الرأي هو رأي الأنسيكلوبيدية الإسلامية نقله الأمير شكيب أرسلان في الحلل السندسية 3/280.
(1/177)
وعلل ذلك بعضهم بالضعف العام الذي أصاب عامة العلوم, إذ "مال القراء في العصور المتأخرة كغيرهم من أصحاب العلوم الأخرى حين طغى المنهج التعليمي على المنهج العلمي ـ إلى نظم مسائل هذا العلم ـ القراءات ـ وقواعده في منظومات تلخيصية مركزة قصد حفظها واستظهارها صارت بعد ذلك موضوعا لشروح وحواش متعددة, قال: " ومن أشهر هذه المنظومات التي نالت أوفر حظ من الشرح والتداول منظومة ابن فيره الشاطبي الأندلسي المتوفى سنة 590 في القراءات السبع وهي المسماة بحرز الأماني"(1).
ومهما يكن السبب فإننا لا ينبغي أن نغفل من حسابنا الصدى الطيب والأثر العميق الذي خلفه ناظم القصيدة في أصحابه الذين قاموا أول الأمر بروايتها والتنويه بها وبصاحبها بقطع النظر عن قيمتها العلمية وما اختص به فيها من براعة وحذق أعجزت البلغاء وفرسان هذا العلم.
وسأحاول فيما يلي متابعة هذا التسلسل في ظهور المؤلفات حولها عصرا بعد عصر, وأنبه على أني ربما قدمت بعض الشروح على ما قد يكون كتب قبلها استنادا إلى تاريخ وفاة مؤلفها سواء كان محددا أو مقدرا, ولذلك لم أبدأ بشرح السخاوي الذي قيل عنه " أول شرحها" كما سيأتي, وهذه قائمة بشروحها وأسماء مؤلفيها ونبذ يسيرة عنها:
1- شرح الشاطبية لعبد الرحمن بن إسماعيل أبي القاسم التونسي المعروف بابن الحداد (ت في حدود 625), وقد تقدم التعريف به في أصحاب الشاطبي, قال ابن الجزري: "وعمل شرحا للشاطبية ويحتمل أن يكون أول من شرحها"(2).
__________
(1) - عبر عن هذا الرأي كما نقلناه الأستاذ عبد العلي الودغيري في بحث له بعنوان " لمحة عن المصادر العربية القديمة لدراسة الصوت " نشر في مجلة المناهل المغربية العدد 28 السنة 10 ربيع الأول 1404 – دجنبر 1981 ص 92-93.
(2) - غاية النهاية 1/366 ترجمة 1559 وقد ترجمنا له في القراء الذين أخذوا وأخذ عنهم بسبتة ومراكش.
(1/178)
2- شرح الشاطبية لأبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن سكن (1) من أهل مربيطر عمل بلنسية، نزيل مصر (ت في نحو 640).
ذكره له ابن الأبار كما ذكر اختصاره لكتاب "التيسير" الذي سماه "التذكير"(2).
وقال ابن عبد الملك :" كان مقرئا مجودا ذا عناية تامة بالقرءان العظيم وضبط أدائه وإتقان تلاوته, متحققا بعلم العربية, تصدرلاقراء القرءان وتدريس العربية بالفيوم من صعيد مصر واستوطن به, وله اختصار نبيل في "التيسير" لأبي عمرو سماه " التذكير", وشرح القصيدة المسماة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع نظم أبي القاسم ويقال أبو محمد قاسم بن فيره الشاطبي شرحا جيدا أفاد به"(3).
وقد سمى شرحه في كشف الظنون وغيره "المهند القاضبي, شرح قصيدة الشاطبي"(4).
وما تزال مخطوطة من هذا الشرح محفوظة في بعض الخزائن بتركيا(5).
3- شرح الشاطبية لمحمد بن محمود شمس الدين السمرقندي المتوفى بعد (600هـ)(6).
سماه بعض الباحثين في التراث بـ"المبسوط" وذكر وجود نسخة منه في بعض الخزائن(7).
__________
(1) - هذا اسمه في أكثر المصادر, وفي بعضها "شكر" بالشين والراء.
(2) - التكملة 1/122 – 123 ترجمة 306 وذكر وفاته في نحو 640, وذكر بعض المفهرسين وفاته سنة 640.
(3) - الذيل والتكملة السفر 1 القسم 1/320 – 321 ترجمة 421 ويمكن الرجوع إلى معرفة القراء 1/545 وغاية النهاية 1/87 وبغية الوعاة 1/345 ترجمة 658 ونفح الطيب 2/337.
(4) - كشف الظنون 1/647 وهدية العارفين 1/ع 93.
(5) - توجد منه نسخة بمكتبة ولي الدين جار الله / استامبول تحت رقم 26 أوراقها 890 (الفهرس الشامل للتراث العربي الاسلامي المخطوط – علوم القرآن – القراءات – 1/1967.
(6) - ترجمته في غاية النهاية 2/260 ترجمة 3460 ولم يذكر سنة وفاته، وحددها بعضهم بما ذكرت.
(7) - النسخة مخطوطة بخزانة جاريت / برنستون برقم 1204 حسب بروكلمان 1/521 (الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط 1/190.
(1/179)
4- شرح الشاطبية لعلي بن محمد بن عبدالصمد أبي الحسن السخاوي صاحب الشاطبي (ت643).
وشرحه عليها مشهور, وعنوانه " فتح الوصيد, في شرح القصيد", وإليه يشير الحافظ أبو شامة بقوله: " وإنما شهرها بين الناس وشرحها وبين معانيها وأوضحها ونبه على قدر ناظمها, وعرف بحال عالمها, شيخنا الإمام العلامة علم الدين, بقية مشايخ المسلمين أبو الحسن علي بن محمد ـ يعني السخاوي ـ"(1).
وفيه يقول أبو إسحاق الجعبري مشيرا إلى تقدمه:" وكل كل على فاتح وصيدها, وماتح نضيدها, الشيخ العلامة تاج القراء سراج الأدباء علم الدين أبي الحسن السخاوي جزاه الله عنا خير الجزاء"(2).
وقال ابن الجزري:" وألف من الكتب شرح الشاطبية, وسماه "فتح الوصيد", فهو أول من شرحها (3) بل هو ـ والله أعلم ـ سبب شهرتها في الآفاق, وإليه أشار الشاطبي بقوله:" يقيض الله لها فتى يشرحها"(4).
وقال في منجد المقرئين :"كان مشغوفا بالشاطبية, معنيا بشهرتها, معتقدا في شأن مؤلفها وناظمها ـ رحمه الله تعالى ـ ولهذا اعتنى بشرحها فكان أول من شرحها, وهو الذي قام بشرحها بدمشق, وطال عمره, واشتهرت فضائله, فقصده الناس من الأقطار, فاشتهرت " الشاطبية" بسببه, وإلا فما كان قبله تعرف الشاطبية ولا تحفظها، وكان أهل مصر كثيرا ما يحفظون " العنوان: لأبي الطاهر, مع مخالفته لكثير مما تضمنته الشاطبية"(5).
__________
(1) - إبراز المعاني.
(2) - كنز المعاني وقوله: "وكُلٌّ كُلٌّ" الأولى بضم الكاف والثانية بفتحها.
(3) - يقارن بما قاله في ترجمة عبد الرحمن بن الحداد التونسي آنفا من كونه "يحتمل أن يكون أول من شرحها".
(4) - غاية النهاية 2/570 ترجمة 2318 وبعض ذلك في إبراز المعاني لأبي شامة8.
(5) - منجد المقرئين 53.
(1/180)
ويظهر أن شرحه هذا قد وضعه بعد موت الشاطبي بيسير فأخذه عنه عامة من قرؤوا عليه, والظاهر أنه هو المراد عند الوزير أبي الحسن القفطي في قوله في ترجمة الشاطبي:" وعليها أكثر القراء إلى اليوم, وقد شرحت في مجلدين شرحها بعض تلاميذه"(1), هذا مع أن القفطي توفي سنة 624 أي قبل أبي الحسن السخاوي بنحو عشرين سنة, فيكون قد ألف شرحه المذكور قبل هذا التاريخ.
وتدل بعض النسخ المخطوطة من هذا الشرح على أنه كان متداولا قبل هذا, ومنها نسخة كتبت سنة 612 وعليها إجازة بخطه أشار إليها بعض الباحثين(2).
ونسخه الخطية على العموم كثيرة في الخزائن شرقا وغربا,وبعضها كتب في حياته وعليه خط إجازته(3), وقد بلغني أخيرا أنه طبع ببعض البلدان العربية إلا أن نسخه لم تصل بعد.
وأشير هنا إلى أمر مهم لم أر من نبه عليه, وهو أن لأبي الحسن السخاوي شرحين على الشاطبية أحدهما "الصغير" والآخر الكبير, والظاهر أن الذي في الأيدي هو الكبير لأنه في مجلدين كبيرين(4).
__________
(1) - انباه الرواة للقفطي 4/161 ترجمة 942.
(2) - ذكرها الدكتور علي حسين البواب ي مقدمة تحقيقه لجمال القراء وكمال الاقراء لأبي الحسن السخاوي 6-7. وأشار بالهامش إلى وجود النسخة المذكورة حسب (فهرس المصاحف والتجويد – جامعة الامام 130-131) يعني بالعربية السعودية - الرياض.
(3) - يوجد خط اجازته برواية الشرح المذكور على الجزء الثاني منه مؤرخا بسنة 640 وهو من محفوظات الخزانة التيمورية بمصر تحت رقم 255 تفسير ويقع في 413 صفحة (أعلام الدراسات القرآنية للدكتور مصطفى الصاوي الجويني 223).
ومن النسخ الخطية بالمغرب نسخة بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 920 ق وأخرى تحت رقم 2005 ك وبالخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم 8008 وأخرى برقم 8313 وبخزانة ابن يوسف بمراكش برقم 528.
(4) - وقفت منه على مصورة عن نسخة بالمدينة المنورة في مجلدين في 420 لوحة وعليها اعتمدت في التعريف به.
(1/181)
وقد أسند المنتوري في فهرسته ما سماه " كتاب الشرح الصغير لحرز الأماني" وقال" تأليف الشيخ علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي, قرأت بعضه على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن محمد بن عمر (1) وناولني جميعه, وحدثني به عن الأستاذ أبي الحسن علي بن سليمان القرطبي عن القاضي تقي الدين أبي عبد الله محمد ابن الحسين بن رزين الحموي عنه"(2).
ومع أن المنتوري لم يسند في فهرسته إلا "الشرح الصغير"، فإنه ينقل في شرحه على الدرر اللوامع لابن بري عن "الشرح الكبير" فيقول مثلا في باب المد عند قول الشاطبي: "فإن ينفصل فالقصر بادره طالبا"" قال السخاوي في "الشرح الكبير": "أشار بقوله: "بادره طالبا"إلى استحسانه الفرق بين ما يلزم فيه المد..(3).
ونقل عنه بهذا الوصف أيضا عند ذكر إدغام النون في الراء واللام، وفي باب الإمالة عند ذكر الخلاف فيما فيه "ها" كناية عن المؤنث من رؤوس الآي"(4).
ونقل أبو زيد بن القاضي عن المنتوري ما ذكره في شرحه على الدرر اللوامع أيضا ولم يتعرض لقوله "الشرح الكبير" ببيان، كما أن الجعبري والذهبي وابن الجزري كلهم ذكر للسخاوي "فتح الوصيد" والوسيلة في شرح العقيلة وغير ذلك، ولم يذكر له أحد منهم على الشاطبية غير ما ذكر.
__________
(1) - راوية مقرئ كان مؤقتا بجامع القرويين وسيأتي في مدرسة أبي الحسن بن سليمان القرطبي بفاس.
(2) - فهرسة المنتوري لوحة 7.
(3) - شرح المنتوري على الدرر اللوامع لوحة 78.
(4) - المصدر نفسه في باب الإدغام وباب الإمالة.
(1/182)
ويبتدئ السخاوي كتابه "فتح الوصيد" بقوله: "الحمد لله الذي جعل كتابه العزيز نورا يهتدى به إذا أظلمت الأمور، وسورا يتحصن فيه عند نزول المحذور، وضياء تستمده البصائر فلا تحيد عن الحق ولا تجور، وشفاء لما في الصدور، وشفيعا إذا بعث من في القبور، أحمده على ما خصنا به من حمله، وأسأله أن يجعلنا من أهله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة سليمة من الأهواء، بريئة ممن ألحد في الأسماء..
وبعد فإني ذاكر في هذا الكتاب ـ بحول الله وقوته ـ شرح قصيدة الشيخ الإمام شرف الحفاظ والقراء، علم الزهاد والكبراء، أبي القاسم بن فيره بن أبي القاسم الرعيني الشاطبي رحمه الله الملقبة بـ"حرز الأماني ووجه التهاني" لما جمعته من الفوائد، وحوته من حسن المقاصد، وأسميه "فتح الوصيد، في شرح القصيد".
ثم ذكر ما نقلنا عنه في رأيه في القصيدة فقال: "وما علمت كتابا في هذا الفن منها أنفع...
ثم قال: "ذكر نبذ من فضائل أبي القاسم ومولده ووفاته وشيوخه رضي الله عنهم بمنه" وساق ما ذكرناه في ترجمة شيخه، ثم ذكر نبذا من نظمه ثم قال: والآن أبدأ بشرح حرز الأماني مستعينا بالله وهو خير معين، قال رحمه الله وقرأتها عليه غير مرة عارضا ومقيدا.
بدأت بلسم الله في النظم أولا.. وأخذ في الشرح بيتا بيتا إلى آخره.
وقد أطلت في التعريف بهذا الشرح لأنه عمدة عامة الشروح التي ظهرت بعده، ولأنه كان واسع الاستعمال في مدارس الإقراء كما تقدمت الإشارة إليه عند مشيخة الإقراء في المائة العاشرة بفاس.
5- شرح الشاطبية أو "الدرة الفريدة في شرح القصيدة" لمنتجب الدين حسين بن أبي العز الهمداني (ت 643)
ذكره الحافظ أبو شامة في ذيله على "الروضتين" وقال: "كان مقرئا مجودا، وانتفع بشيخنا السخاوي في معرفة قصيد الشاطبي، ثم تعاطى شرح القصيد، فخاض بحرا عجز عن سباحته، وجحد حق تعليم شيخنا له وإفادته، فالله يعفو عنا وعنه"(1).
__________
(1) - ذيل الروضتين في تاريخ الدولتين 175.
(1/183)
ذلك رأي أبي شامة في شرحه المذكور.
أما ابن الجزري فقد قال: "وشرح الشاطبية شرحا لا بأس به"، إلا أنه استدرك آخر الترجمة فقال: "وفي شرحه القصيد مواضع بعيدة عن التحقيق، وذلك انه لم يقرأ بها على الناظم ولا على من قرأ عليه"(1).
أما السيوطي فقد أثنى على شرحه فقال: "له شرح على الشاطبية مطول مفيد"(2).
وذكر شرحه في كشف الظنون وقال: هو شرح كبير، وذكر أن أوله "الحمد لله بارئ الأنام.. (3).
ويدل على أهمية هذا الشرح على ما وجه إليه من مآخذ ـ توافر نسخه الخطية
في الخزائن المشرقية في مصر والعراق وتركيا وغيرها(4).
6- شرح الشاطبية أو "اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة" لأبي عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن يوسف الفاسي نزيل حلب بالشام (ت 656) بها(5)
__________
(1) - غاية النهاية 2/310ـ311 ترجمة 3646.
(2) - بغية الوعاة 2/300 ترجمة 2022.
(3) - كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/648.
(4) - منه نسخة بمعهد المخطوطات بمصر رقم 33ـ وبالأوقاف العراقية برقم 3279 وبمكتبة الأزهر بمصر رقم 1344 وبمكتبة بلدية الاسكندرية برقم 1191ب (أعلام الدراسات القرآنية للدكتور مصطفى الصاوي الجويني 222). وتسع خطية أخرى ذكرت في (الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي 1/200ـ201).
(5) - هذا الصحيح في تاريخ وفاته كما في معرفة القراء 2/534 وغاية النهاية 2/123 وذيل الروضتين لأبي شامة 199.ووقع في كشف الظنون 1/647 انه توفي سنة 672، وفرغ من تأليفه في صفر سنة 672 أيضا وهو خطأ واضح.
(1/184)
تقدم ذكره في المتخرجين على مشيخة الإقراء بفاس في المائة السابعة، قدم مصر بعد أن درس بفاس على من بها، وقرأ على أبي القاسم عبد الرحمن بن سعيد الشافعي وأبي موسى عيسى بن يوسف المقدسي عن قراءتهما على الشاطبي، وعرض عليهما حرز الأماني، وعرض الرائية على الجمال علي بن أبي بكر الشاطبي بسماعه من الناظم، وقرأ على غير من ذكر، وكان واسع العلم كثير المحفوظ بصيرا بالقراءات وعللها مشهورها وشاذها خبيرا باللغة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بمدينة حلب، وأخذ عنه خلق كثير سمى منهم الحافظان الذهبي وابن الجزري وقالا:
"وشرحه للشاطبية في غاية الحسن"(1)، وأسنده ابن الجزري ضمن شروحها الستة التي أسندها في النشر(2).
وعنوانه عند عامة من ذكره وفي نسخه المخطوطة كما أثبتناه، إلا أني وجدت الجعبري يذكره في آخر الكنز معرفا به فيقول "مؤلف الجلية في شرح الشاطبية"، كما رأيت صاحب كشف الظنون يقول: "له شرح سماه الفريدة البارزية في حل القصيدة الشاطبية" أوله: "الحمد لله ذي الصفات العلية. "فاشتبه عليه بشرح هبة الله البارزي الآتي، وتبعه على ذلك البغدادي في هدية العارفين(3).
والصحيح في اسمه ما أثبتناه وكما ذكره بنفسه في مقدمة شرحه، وما يزال هذا الشرح على أهميته لم يأخذ طريقه إلى المطبعة مع وفرة نسخه الخطية في الخزائن العامة والخاصة شرقا وغربا(4).
وقد وقفت على عدد منها، وأوله بعد الديباجة قوله:
__________
(1) - معرفة القراء 2/534 وغاية النهاية 2/123.
(2) - النشر 1/63ـ64.
(3) - كشف الظنون 1/648ـ649 وهدية العارفين 2/126.
(4) - منها بالخزانة العامة بالرباط نسخ تحت الأرقام 530 ق ــ227ق ـ 228ق وبالخزانة الحسنية بأرقام 2130ـ1243ـ6973 (فهرس الخزانة الحسنية 6/144ـ145).
(1/185)
"الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب(1)، ووعد من تلاه وعمل به جزيل الثواب، أحمده حمد مومن موقن... أما بعد فإن جماعة من القراء المشتغلين بقصيدة الشيخ الإمام أبي القاسم الشاطبي ـ رحمه الله ـ سألوني أن أشرحها لهم شرحا يعينهم على نظمها، ويوفقهم على فهمها وعلمها، فوقفت عن ذلك زمانا لاختلاف أغراضهم في التكثير والتقليل، إذ الجمع بينهما في شرح واحد مستحيل، ثم استخرت الله تعالى في جمع شرح وسط لا أميل فيه إلى الاستكثار، ولا أخل فيه بالمقصور بقصد الاختصار، فجمعته على ما رأيت من الترتيب، وآثرت من التلخيص والتقريب، وسميته بـ"اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة...
ويقع الشرح مع هذا الاختصار الذي التزم به في مجلدين كبيرين، وطريقته أنه يحل معنى البيت ثم يعرب بعض ما يشكل فيه، ثم يأخذ في النقول وأكثرها من كتب الداني وهو في الغالب لا يسميها وإنما يقول قال الحافظ أبو عمرو، ومن الأمثلة الوافية في ذلك نقوله في باب الراءات، ويعزز الأقوال أحيانا بالنقل عن مكي والمهدوي والحصري في قصيدته، ويحتج لوجوه القراءات بالنقل عن أبي علي الفارسي في الحجة ومكي في الكشف، وربما نقل عن الزمخشري أيضا في الكشاف، وهو في الجملة من مفاخر ما كتبه المغاربة المتصدرون بالمشرق.
__________
(1) - اعتمدت في تعريفي به على نسختين إحداهما نسخة الشيخ المقرئ السيد أحمد بن الكونطري بالصويرة، والأخرى نسخة الخزانة العامة بالرباط وهي المسجلة تحت رقم ق 350 وهي نسخة جيدة ضاعت سطور يسيرة من آخرها تتعلق بتمام شرح آخر بيت من الشاطبية، وتستغرق من المجموع الذي هي فيه 777 صفحة في ورق كبير بمعدل 16 كلمة في السطر وعدد السطور 26 في كل صفحة وليس فيها ذكر لاسم الناسخ ولا تاريخ النسخ.
(1/186)
ونسخه الخطية الكثيرة الموزعة على مكتبات العالم الإسلامي خير دليل على مقدار رواج الكتاب واهتمام أهل هذا الشأن به(1).
وقد كان من الشروح المعتمدة عند المغاربة في التدريس ـ كما تقدم ـ كما دخل الأندلس أيضا وكان من أهم مصادر الإمام المنتوري في شرح الدرر(2).
7- مختصره: وقد اختصره بعض المشارقة وهو الحسين بن أحمد بن علي بن حجاج في كتاب سماه "منتقى اللآلي للفاسي"، وما تزال بعض نسخ هذا المختصر باقية بمكتبة الأوقاف ببغداد(3).
8- شرح الشاطبية أو "كنز المعاني" لمحمد بن أحمد بن محمد الموصلي المعروف بـ"شعلة" (ت 656)
وقد توافق في اسم هذا الشرح مع الإمام الجعبري، إلا انه متقدم في الزمن والتأليف عليه، وقد اعتذر اعني الجعبري في آخر شرحه بأنه لم يكن قد سمع به"(4).
وهو من الشروح المهمة الواسعة الانتشار أيضا كما تدل عليه نسخه الخطية الموزعة على عامة البلدان الإسلامية(5)، وقد طبع طبعة قديمة بالقاهرة بدار التأليف بدون تاريخ(6) إلا أنها في حكم المفقودة.
__________
(1) - ذكر من نسخه الخطية في الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط 1/214ـ221 أربعا وأربعين نسخة موزعة بين القرويين بفاس والزيتونة بتونس وبلدية الاسكندرية وظاهرية دمشق ومكتبات تركيا وغيرها.
(2) - يمكن الرجوع إلى بعض ما نقل عنه في باب الراءات من شرحه.
(3) - رقمها 2453 وهي مصورة عن أصل مخطوط.
(4) - ذكره في آخر الكنز وذكره ابن الجزري في غاية النهاية 2/81 ترجمة 2780.
(5) - منها م خ ع الرباط برقم 1012ـ وبالخزانة الحسنية بأرقام: 378ـ427ـ8448ـ7963ـ5032ـ5500 الخ (فهرسة خ ح 6/135ـ137).
(6) - ينظر في ذلك معجم الدراسات القرآنية المطبوعة والمخطوطة لابتسام الصفار ـ المورد العراقية المجلد 10 عدد 3ـ4.
(1/187)
يقول في أول شرحه: "أحمد الله الذي أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف، وخص أهله الذين هم خاصته بخوالص المنح وخواص الألطاف، أظهر فيه لنبيه النبيه أظهر شواهد الإعجاز، حتى تبين من فيه لما بين من معانيه ما حرم في الشرع وما جاز.. ثم قال بعد تمام الثناء على الله بما هو أهله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فضل القرآن على سائر الكلام، ومزية العلم باختلاف القراءات فيه:
"ومما صنف في هذه الصناعة الشريفة... التأليف المنيف الموسوم بحرز الأماني، ووجه التهاني، للشيخ المتبحر النحرير، الولي أبي القاسم الضرير... ثم أثنى على نظمه المذكور وقال:
"لكنه لغزارة رموزه المرموزة مع الوجازة، قد يبقى من معاضله، وانغلاق مسائله، في القلوب حزازة، وشروحه وان كثرت وقعت في طرفي الإيجاز المخل، والإطناب الممل، يتقاعد بعض الخواطر عن بعضها بالإفراط في البسط، وينتهي الآخر عن الآخر للتفريط في الربط... إلى أن انتهى من حديثه عن دواعي التأليف بذكر منهجه فقال: "مؤسسا مبنى تأليفي على ثلاث قواعد: مبادئ ولواحق ومقاصد فالأولى في المعنى اللغوي وما ينتسب إليه، والثانية في الاعراب.. والثالثة في المقصود من الكلام... وسميته "كنز المعاني في شرح حرز الأماني، والمرجو من الله والمسؤول، أن يلحظ من يلاحظه بعين القبول، انه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، فأقول وبالله التوفيق، وهو لتحقيق الآمال حقيق: قال الشيخ أبو القاسم الشاطبي رحمة الله عليه، وأجلسه في مقعد صدق لديه: بدأت بلسم الله في المنظم أولا....(1).
9- شرح الشاطبية أو المفيد في شرح القصيد.لعلم الدين القاسم بن أحمد بن الموفق اللورقي الأندلسي
__________
(1) - اعتمدت في التعريف بهذا الشرح على مصورة عن نسخة خزانة خاصة. في خطها غموض.
(1/188)
أبو محمد المرسي المقرئ(575- 661- وصاحب الشرح إمام جليل من أعلام المدرسة الأثرية بالأندلس، قرأ بالتيسير على أبي جعفر أحمد بن علي الحصار صاحب أبي الحسن بن هذيل، وعلي محمد بن سعيد المرادي ومحمد بن نوح الغافقي وغيرهم من أعلام هذه المدرسة، وكان ذلك قبل الستمائة، ثم قدم مصر فقرأ بها وقرأ بدمشق وبغداد وغيرها والف في العربية وشرح الشاطبية (1).
ذكره الجعبري في آخر الكنز في مصادره التي اعتمد عليها كما اعتمده المنتوري في شرحه ونقل عنه في باب الراءات قوله:"الترقيق تقريب الفتحة من الكسرة، فهو نوع من الإصالة"(2). وذكره صاحب الكشف(3) وما تزال بعض نسخه الخطية محفوظة في بعض الخزائن(4)
10- شرح الشاطبية لأبي الفتح شمس الدين محمد بن علي بن موسى الأنصاري الدمشقي(ت 657)
تقدم أنه كان أجل أصحاب السخاوي، وهو صاحب القصة مع أبي شامة في شأن تنافسهما على تولي كرسي الاقراء ـ كما تقدم ـ ترجم له الذهبي وقال:"وله معرفة تامة، وقد شرح الشاطبية شرحا متوسطا(5).
11- شرح الشاطبية أو ابراز المعاني من حرز الأماني" للحافظ شهاب الدين أبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي(ت 665).
__________
(1) - يمكن الرجوع في هذا إلى ترجمته في معرفة القراء 2/526- 527 طبقة 15 – وغاية النهاية 2/15 ت 2583. وبغية الوعاة 2/250 ترجمة 1912- ونفح الطيب 2/337-338- والأعلام للزركلي 6/6.
(2) - شرح المنتوري لوحة 264.
(3) - كشف الظنون 1/648.
(4) - منه نسخة بظاهرية دمشق برقم 7187:تاريخها786- ونسخة بمكتبة حسن حسني السليمانية باستامبول برقم 72( الفهرس الشمل للتراث 1/222).
(5) - معرفة القراء 2/535 طبقة 16.
(1/189)