فَنُّ التَّوجيهِ عند المفسِّرين
(الجزء الأوَّل)
( د. عبد السلام بن مقبل المجيدي (1)
مُقَدِّمَة:
الحمد لله رب العالمين، عدد ما ذكره الذَّاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، وصلَّى الله وسلَّم على الحبيب المصطفى، والشَّفيع المرتجى، والخليل المجتبى، وعلى آله وصحبه، صلاة وسلاماً يجعلني ربي بهما من أقرب أوليائه يوم القيامة. وبعد،،،
فقد نشأ علم أصول التَّفسير ليكون المدخل لكيفية عمل المفسِّر في بيان التَّفسير الصحيح المبيِّن لمراد الله تعالى، أو التَّفسير الأقرب لبيان مراد الله تعالى.
وإذا كان التَّفسير علماً باحثاً عن معنى نظم القرآن بحسب الطَّاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية (2) ؛ فإنَّ علم أصول التَّفسير يبيِّن الضوابط والقواعد التي تساعد المفسِّر على بلوغ تلك الغاية، كما يهيئ أصولاً تعصم من الخطأ في تفسير الكلام المعجز بقدر الوسع الإنساني.
ومن هذه الأصول الضابطة لعمل المفسِّر، والمبيِّنة ـ في الوقت ذاته ـ لاصطلاحات المفسِّرين: أصل التوجيه التَّفسيري، الذي أدَّى إلى فنٍ مستقل جديرٍ بالبحث، هو (فن التوجيه)؛ فقد عُرِف هذا المصطلح عند المفسِّرين، واستعملوه.
وهذه كلماتٌ في بيان تعريفه، وقانونه، وأقسامه، ومظاهره، واستعماله عند المفسِّرين.
وحتى تتحقَّق غاية الاستيعاب لبيان (فن التوجيه) عند المفسِّرين؛ فقد انقسم البحث إلى الفصول التالية:
الفصل الأول: المقدمات التعريفيّة.
الفصل الثاني: أسس في فن التوجيه.
الفصل الثالث: أنواع المسائل التي تحتاج إلى التوجيه.
الفصل الرابع: ظهور ما يوهم التناقض (التعارض) بين الآيتين.
__________
(1) (() أستاذ مساعد بقسم القراءات والتَّفسير وعلوم القرآن بكلية التربية ـ جامعة ذمار (اليمن).
(2) حاجي خليفة؛ مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي (ت 1067هـ): كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ، 1992م، 1/427.(1/1)
ولأنَّ المقصود استعمال المفسِّرين للتوجيه؛ فقد التزم الكاتب بذكر الأمثلة التي صرَّح فيها المفسِّر باستخدامه لهذا اللفظ أو مشتقاته غالباً. وإلى البحث بعون الله وتوفيقه.
الفصل الأول
المقدمات التعريفية
التعريف:
هو مصدر توجَّه إلى ناحية كذا؛ إذا استقبلها وسعى نحوها (1) ، وعند الزركشي فإنَّ التوجيه هو "ما احتمل معنيين، ويؤتى به عند فطنة المخاطب" (2) ، زاد تقي الدِّين الحموي: "احتمالاً مطلقاً من غير تقييد بمدح أو غيره، وهذا تعريفه عند البلاغيين" (3) . وانتقد سعيد أحمد البالنبوري صاحب "العون الكبير شرح الفوز الكبير" هذا التعريف، قائلاً: "ما ذكره الزركشي في معنى التوجيه ليس بسديدٍ، بل هو قريب من معنى التورية"، وارتضى تعريف الدهلوي، وهو: "بيان وجه الكلام" (4) .
__________
(1) الأزراري؛ تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي: خزانة الأدب وغاية الأرب، تحقيق عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال، بيروت، ط/1، 1987م، 1/302.
(2) الزركشي؛ بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي (ت 794هـ): البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط/1، 1957م، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 2/314.
(3) انظر: خزانة الأدب1/ 302، القزويني؛ جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سعد الدين بن عمر: الإيضاح في علوم البلاغة، دار إحياء العلوم-بيروت، ط1، 1998م .ص350، وانظر: الجرجاني؛ علي بن محمد ابن علي : التعريفات، حقّقه وقدّم له ووضع فهارسه إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط/1، 1405هـ، 1985م، ص212.
(4) انظر: البالنبوري؛ سعيد أحمد بن محمد يوسف: العون الكبير شرح الفوز الكبير في أصول التَّفسير، المكتبة الوحيدية بديوبند، الهند، ص198.(1/2)
وعلى هذا فالتوجيه عند المفسِّرين أخص من التوجيه عند البلاغيين؛ إذ هو عند المفسِّرين "بيان وجه الكلام الخفي المشكل"، أمَّا عند البلاغيين فهو "احتمال الكلام لوجهين مختلفين"، وهو ما استقر عليه استعمال المفسِّرين في كتبهم، وهو التعريف الذي يعتمده الكاتب هنا.
ويمكن تحديد تعريفه الاصطلاحي بأنَّه يُراد به أحد معنيين في استعمال المفسِّرين:
الأول: بيان وجه الكلام الظاهر، أي معناه المباشر.
الثاني: التماس وجه الكلام الخفي، أو التعليل لما يظهر فيه من إشكال.
فالعلاقة بين التعريف اللُّغوي، والاصطلاحي: التماس وجهة الكلام ببيان معناه، وحيثية هذا المعنى دون غيره مع احتماله له.
فأمَّا المعنى الأول فهو مرادفٌ للتفسير كقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: [القصص: 35]: "أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله، كما قال تعالى: [المائدة: 67]، وقال تعالى: [الأحزاب: 39] ... ولهذا أخبرهما أنَّ العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: [القصص: 35]، كما قال تعالى: [المجادلة: 21]، وقال تعالى: [غافر: 51].
ووجَّه ابن جرير على أنَّ المعنى: ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما، ثم يبتدىء فيقول: [القصص: 35]، تقديره: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا. ولا شَكَّ أنَّ هذا المعنى صحيح، وهو حاصلٌ من التوجيه الأول فلا حاجة إلى هذا" (1) .
__________
(1) ابن كثير؛ عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي أبو الفداء (ت 774هـ): تفسير القرآن العظيم، تقديم محمد عبد الرحمن المرعشلي، إعداد مكتب تحقيق دار إحياء التراث العربي، أعدَّ فهارسها رياض عبد الله عبد الهادي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/1، 1417هـ، 1997م، 3/516.(1/3)
وأمَّا المعنى الثاني: فهو المقصود بالتوجيه عند الإطلاق، والمقصود منه البحث عن مغزى الكلام الذي أثار إشكالاً في ذهن السامع، "فإذا حلَّ المفسِّر هذا الإشكال، سمى ذلك الحل: توجيهاً" (1) .
وحال المفسِّر عندما يوجّه الآية كحال الخضر عندما قال لموسى ـ عليهما السلام ـ: [الكهف: 70]، وإحداث الذكر معناه "بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض" (2) .
ومنه علم توجيه القراءات، أي البحث عن وجهها اللُّغوي أو المعنوي. ولأنَّ التوجيه يُطلق على المعنى الثاني غالباً أي التماس وجه الكلام عند وجود ما فيه إشكال، فقد جعل السكاكي من هذا القسم مشكلات القرآن (3) ، بحسبان احتمالها لوجهين مختلفين (4) .
والبحث يتحدث عن التوجيه بالمعنى الاصطلاحي الثاني؛ إذ الأول يعم التَّفسير جميعاً.
بين التوجيه ومقاربه من المصطلحات
أولاً: بين التوجيه والإبهام:
__________
(1) انظر: الدهلوي؛ ولي الله قطب الدين أحمد بن عبد الرحيم العمري (114هـ ـ 1176هـ): الفوز الكبير في أصول التَّفسير، ص 198.
(2) ابن عاشور؛ محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ، بيروت، لبنان، ط/1، 1420هـ، 2000م، 15/110.
(3) البرهان في علوم القرآن، 2/314، الإيضاح في علوم البلاغة، ص 350.
(4) التفتازاني؛ مسعود بن القاضي فخر الدين عمر بن برهان الدين الشهير بسعد الدين التفتازاني (ت 791 هـ): شرح العلامة سعد الدين التفتازاني على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني، مؤسسة دار البيان العربي، ط/4، 1412هـ، 1992م، 4/400.(1/4)
رأى الحموي أنَّ التوجيه هو الإبهام عند المتقدّمين، وأنَّ تسميته بـ "الإبهام" أوْلَى، وهذا مذهب ابن أبي الأصبع؛ فإنَّه هو الذي تخيَّر الإبهام ونزَّل عليه هذه الشواهد، واختصر التوجيه من كتابه، وقد أجمع الناس على أنَّ كتابه المسمى بـ "تحبير التحرير" أصحّ كتابٍ أُلِّفَ في البلاغة؛ لأنَّه لم يتكل فيه على النَّقل دون النَّقد. والسكاكي ومن تبعه سمّوا هذا النوع "التوجيه"، ونسج الناس على منوالهم إلى أنَّ تخيَّر ابن أبي الأصبع نوع الإبهام، وقرَّر له الشواهد التي هي أليق به من التوجيه (1) . والظاهر أنَّ الإبهام أعم من التوجيه، والتورية والمشترك بينها خفاء المراد (2) .
ثانياً: بين التوجيه والتورية:
والفرق بين التوجيه والتورية من وجهين:
أحدهما: أنَّ التورية أنْ يُطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد، ويراد البعيد، أمَّا التوجيه؛ فهو بيان وجه الكلام الذي أثار إشكالاً.
والثاني: أنَّ التورية تكون باللفظة الواحدة، والتوجيه لا يصح إلاَّ بعدة ألفاظ متلائمة كقولهم:
من أم بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والأذن عن حسن
أمَّا قرة؛ فهو قرة بن خالد السدوسي، وأمَّا صلة؛ فهو صلة بن أشيم العدوي، كان من كبار التابعين، وأمَّا جابر فهو جابر بن عبد الله صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمَّا الحسن فهو الحسن البصري، كان تابعياً كبيراً.
وتوجيه بيته يصدق على أسماء الأعلام من رواة الحديث، والمعنى الآخر في حسن مناسبته بين القرة، والعين، والصَّلة، والكف، والجبر، والقلب، والكسر، والسمع، والحسن ظاهر (3) .
وقد حاول الكاتب بيان الفرق من ناحية تفسيرية، وإن اشتركت مع الناحية البلاغية.
__________
(1) خزانة الأدب، 1/302.
(2) المغربي؛ ابن يعقوب المغربي: مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح، مؤسسة دار البيان العربي، ط/4، 1412هـ، 1992م، 4/322.
(3) خزانة الأدب، 1/304.(1/5)
ثالثاً: بين التوجيه والتأويل:
التأويل عند المفسِّرين يستعمل بأحد معنيين إجمالاً:
[1] بمعنى التَّفسير للآية أو للكلمة، وهو ما اشتهر عن الطبري استعماله في تفسيره فالنَّسبة بينهما التماثل.
[2] والمعنى الآخر: التغاير بينهما، واختلف أهل العلم بالتَّفسير في ذلك على ستة أقوال، وارتضى كثير من المحقِّقين على أنَّ التَّفسير ما كان راجعاً إلى الرواية، والتأويل ما كان راجعاً إلى الدِّراية (1) .
وهذا اصطلاح، وإلاَّ فالتأويل أوسع من ذلك. وعلى هذا الترجيح فإنَّ التأويل أعم من التوجيه، فإنَّ التوجيه يرجع إلى حل الغوامض، والكشف عن المشكلات، أمَّا التأويل فهو إعمال الرَّأي في الآية أو الجملة القرآنية سواء كانت غامضة أم لا، سواء احتاج القارئ لها إلى إزالة ما أشكل في ذهنه أم لا.
الفصل الثاني
أسس في فن التوجيه
مجمل المشكلات التي تحتاج إلى التوجيه:
التوجيه "فن كثير الشعب يستعمله الشراح في شرح المتون، ويحصل به امتحان ذكائهم، ويظهر به تباين مراتبهم" (2) ، بل لو نظر الباحث في الدائرة التي تحتاج إلى التوجيه لوجدها تتسع لجميع المسائل التي تحتاج إلى حل، فدخل في هذه الدَّائرة: مشكلات القرآن العامة، والتضمين، والحذف، والإبدال، والمتشابه. ولكن ذلك يختلف بحسب ذهن الباحث أو الموجّه "فالتوجيه بالنسبة إلى المبتدئين غير التوجيه بالنسبة إلى المنتهين؛ فإنَّ المنتهي ربما يخطر بباله صعوبة فهم، فيحتاج إلى حلها، والمبتدئ غافلٌ عنها؛ بل لا يقدر أن يحيط بذلك، وكثيرٌ من الكلام يستصعبه المبتدئ، ولا يحصل في ذهن المنتهي شيءٌ من الصعوبة هنالك، فأمَّا من أحاط بجوانب الأذهان فينزل إلى حال الجمهور، ويتكلم بحسب أذهانهم" (3) .
__________
(1) انظر في العلاقة بينهما: التَّفسير والمفسرون، 1/15، التنوير مقدمة في أصول التَّفسير، ص 30.
(2) العون الكبير في أصول التَّفسير، ص 299.
(3) العون الكبير في أصول التَّفسير، ص 299.(1/6)
ومن الأمثلة الدقيقة التي توضح أنَّ التوجيه يختلف بحسب الأفهام:
قوله تعالى: [الحج: 13]، فقد ذكر البغوي أنَّ قوله: "من مشكلات القرآن" (1) ، وذكر فيها عدة إشكالات تحتاج إلى توجيه، وقد لا تخطر على ذهن المبتدئ جميعاً؛ بل بعضها دون بعض، وهذه الإشكالات هي:
الأول: قال الله في الآية الأولى [الحج: 12]، وقال ها هنا: [الحج: 13] فكيف التوفيق بينهما؟
وقيل في توجيها الآتي:
[1] أنَّ قوله في الآية الأولى [الحج: 12]، أي : لا يضره ترك عبادته، وقوله: أي: ضرّ عبادته.
[2] ووجَّه الزمخشري ذلك بأنَّ الآية الثانية تحدثت عن حال الكافر يوم القيامة، حيث يتضرَّر الكافر بعبادته للصنم، فقال: "الضَّرر والنَّفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض؟ قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم، وذلك أنَّ الله تعالى سفَّه الكافر بأنَّه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً، وهو يعتقد فيه ـ بجهله وضلاله ـ أنَّه يستنفع به حين يستشفع به، ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام، ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادّعاها لها أو كرَّر يدعو كأنَّه قال: يدعو من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضرّه بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً لبئس المولى..." (2) .
ونحو ذلك عن السُّدي قال: قال: لا يضره إن عصاه،
قال: ولا ينفعه الصنم إن أطاعه،
قال: ضرّه في الآخرة من أجل عبادته إيّاه في الدُّنيا (3) .
__________
(1) البغوي؛ أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء: تفسير البغوي معالم التنزيل، ص 369.
(2) الزمخشري؛ جار الله محمود بن عمر الخوارزمي أبو القاسم (ت 538 هـ): الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، بيروت، 3/27.
(3) السيوطي؛ عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين: الدر المنثور، دار الفكر، بيروت، 1993م، 6/15.(1/7)
[3] ووجَّه ابن تيمية ذلك بأنَّ الإضرار المثبت المضاف إلى المعبود الباطل غير الإضرار المنفي عنه، فالإضرار المنفي هو فعل الضرر وإحداثه بالعابد، أمَّا المثبت فهو تسبُّب عبادة المعبود في وقوع الضرر بالعابد في الدنيا والآخرة، فقول الله تعالى: [الحج: 12] هو نفيٌ لكون المدعو المعبود من دون الله لا يملك نفعاً أو ضراً، وهذا يتناول كل ما سوى الله من الملائكة، والبشر، والجن، والكواكب، والأوثان كلها، فإنَّ ما سوى الله لا يملك لا لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً، كما قال تعالى في سياق نهيه عن عبادة المسيح: [المائدة: 72-76].
وقوله: [الحج: 12] نفيٌ عام، فهو لا يقدر أنْ يضر أحداً سواء عبده أو لم يعبده، ولا ينفع أحداً سواء عبده أو لم يعبده... وإذا كان كذلك فنقول المنفى بقوله: هو قدرة من سواه على الضّر والنَّفع.
وأمَّا المثبت بقوله هو تسبُّب المعبود الباطل في إحداث الضرر بعابده؛ إذ إنَّ قوله: اسم مضاف إليه، فإنَّه لم يقل: يضر أعظم مما ينفع؛ بل قال: ، والشيء يضاف إلى الشيء بأدنى ملابسة، فلا يجب أن يكون الضّر والنَّفع المُضافانِ من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، بل قد يضاف المصدر من جهة كونه اسماً، كما تضاف سائر الأسماء، وقد يضاف إلى محله، وزمانه، ومكانه، وسبب حدوثه، وإن لم يكن فاعلاً، كقوله: [سبأ: 23]، ولا ريب أنَّ بين المعبود من دون الله وبين ضرر عابديه تعلُّق يقتضى الإضافة كأنَّه قيل لمن شره أقرب من خيره، وخسارته أقرب من ربحه، فتدبَّر هذا، فأضيف الضّر إلى المعبود الباطل؛ لأنَّه سبب فيه، لا لأنَّه هو الذي فعل الضّرر، وهذا كقول الخليل عن الأصنام: [إبراهيم: 36]، فنسب الإضلال إليهن، والإضلال هو ضرر لمن أضللنه... وهذا كما يقال: أهلك النَّاس الدَّرهم والدِّينار، وأهلك النَّساء الأحمران (الذهب والحرير).(1/8)
وفى الصحيحين عن عمرو بن عوف عن النَّبى - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أنْ تبسط عليكم الدُّنيا كما بسطت على مَنْ كان قبلكم، فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها، وتهلككم كما أهلكتهم)) (1) ، فجعل الدُّنيا المبسوطة هي المهلكة لهم، وذلك بسبب حبها، والحرص عليها، والمنافسة فيها، وإن كانت مفعولاً بها لا اختيار لها، فهكذا المدعو المعبود من دون الله، الذي لم يأمر بعبادة نفسه إمَّا لكونه جماداً، وإمَّا لكونه عبداً مطيعاً لله من الملائكة، والأنبياء، والصالحين من الإنس والجن، فما يدعى من دون الله هو لا ينفع ولا يضر، لكن هو السبب في دعاء الدَّاعي له وعبادته إيَّاه، وعبادة ذاك ودعاؤه هو الذي ضره، فهذا الضّر المضاف إليه غير الضّر المنفى عنه، فضرر العابد له بعبادته يحصل في الدُّنيا والآخرة، وإن كان عذاب الآخرة أشدّ.
فالمشركون الذين عبدوا غير الله حصل لهم بسبب شركهم بهؤلاء من عذاب الله في الدُّنيا ما جعله الله عبرة لأولى الأبصار، قال الله تعالى [هود: 100-101] فبيَّن أنهم لم تنفعهم بل ما زادتهم إلاَّ شراً" (2) .
__________
(1) الحديث رواه البخاري؛ محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن المغيرة الجعفي أبو عبد الله،
(194هـ ـ ت 256هـ) : صحيح البخاري، مراجعة د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، 1407هـ، 1987م، 4/ 1473، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261 هـ): صحيح مسلم، مراجعة محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1374هـ، 1954م، 4/2273.
(2) ابن تيمية؛ أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ت728هـ: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، دار عالم الكتب، الرياض، 1421هـ، 1991م، 15/269، وانظر: تفسير البغوي، ص 369.(1/9)
وزاد محمد الطاهر بن عاشور من مظاهر الضَّرر المضاف إلى المعبودات الباطلة في الدُّنيا: "ضرره بالتوجُّه عند الاضطرار إليها، فيضيع زمنه في تطلب ما لا يحصل" (1) .
ولخص الألوسي ذلك بعبارة رشيقة فقال: "الضّر المنفي ما يكون بطريق المباشرة، والمثبت ما يكون بطريق التسبُّب، والنَّفع المنفي هو الواقعي، والمثبت هو التوقُّعي، قيل: ولهذا الإثبات عبَّر بـ (من)، فإنَّ الضّر والنَّفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء" (2) .
الإشكال الثاني: قوله: [الحج: 13] فكأنَّ هناك نفعاً لعبادة المعبود الباطل، مع أنَّه لا نفع في عبادة الصنم أصلاً؟
الجواب: هذا على عادة العرب، فإنَّهم يقولون لما لا يكون أصلاً: بعيد، كقوله تعالى: [ق: 3] أي: لا رجع أصلاً. فلما كان نفع الصنم بعيداً على معنى أنَّه لا نفع فيه أصلاً؛ قيل: ضره أقرب؛ لأنَّ الضَّرر كائنٌ للعابد بسبب هذه العبادة الباطلة، والنَّفع أبعد؛ لأنَّه لا نفع فيه أصلاً على طريقة الكلام العربي الفصيح.
الإشكال الثالث: ـ ولا يخطر غالباً إلاَّ على ذهن مفسِّرٍ لغويٍ متبحرٍ ـ وهو: قوله [الحج: 13] ما وجه هذه اللام؛ إذ الأصل: (يدعو من ضره)؟
اختلفوا فيه على عدة أجوبة منها الأربعة التالية:
[1] اللام في قوله (لمن) لام الابتداء، وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة الواقعة بعدها، فلام الابتداء تفيد مفاد (إن) من التأكيد، وقدمت من تأخير، إذ حقها أن تدخل على صلة من الموصولة، والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه.
[2] قال ابن هشام: بمعنى: يقول، والخبر محذوف، أي يقول لمن ضره أقرب من نفعه: هو إله.
__________
(1) التحرير والتنوير، 17/157.
(2) الآلوسي؛ محمود شكري البغدادي (ت 1275 هـ): روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، قرأه وصحّحه محمد حسين العرب، دار الفكر، بيروت، 1417هـ، 1997م، 17/125، تفسير البغوي، ص 369.(1/10)
[3] وقيل: هي لام الابتداء، و مبتدأ، و مبتدأ وخبر، والجملة صلة له، وقوله تعالى: جواب قَسَم مقدر، واللام فيه جوابية، وجملة القَسَم وجوابه خبر ، أي يقوم الكافر يوم القيامة برفع صوت وصراخ حين يرى تضرُّره بمعبوده، ودخوله النار بسببه، ولا يرى منه أثراً مما كان يتوقَّعه منه من النَّفع، لمن ضره أقرب تحقُّقاً من نفعه: والله لبئس الذي يتخذ ناصراً، ولبئس الذي يعاشر، ويخالط، فكيف بما هو ضرر محض عار النَّفع بالكلية؟
وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى، وهو سرّ إيثار على (ما)، وإيراد صيغة التفضيل.
وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي، والمعنى عليه مما لا إشكال فيه.
[4] وقيل هي على التوكيد، معناه: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه (1) .
أول من بدأ فن التوجيه:
أول من بدأ هذا الفن، والبحث عن وجهة الكلام هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كما في توجيهه لآية الظلم التي أثارت إشكالاً لدى الصحابة - رضي الله عنهم - (2) ، وقد تكلَّم الصحابة - رضي الله عنهم - من بعده في توجيه القرآن، مع عدم تنقيح قوانين "التوجيه" في ذلك العصر، وأكثروا الكلام فيه (3) .
__________
(1) روح المعاني، 17/125، تفسير البغوي، ص 369، التحرير والتنوير، 17/158.
(2) البخاري، 1/21، ومسلم، 1/114.
(3) العون الكبير في أصول التَّفسير، ص 299.(1/11)
وقد يعترض معترضٌ على هذا الفن بأنَّه قد ورد عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ما يشبه النَّهي عن البحث في تتبُّع مشكلات القرآن، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - قال: "لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أنَّ لي به حمر النّعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بابٍ من أبوابه، فكرهنا أن نفرِّق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها [وهم يختصمون في القدر] حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضباً، حتّى احمرَّ وجهه [فكأنَّما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب] يرميهم بالتراب، ويقول: (مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، اختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إنَّ القرآن لم ينزل يكذِّب بعضه بعضاً، إنَّما نزل يصدِّق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالم)، فقال عبد الله بن عمرو: "ما غبطتُ نفسي بمجلس تخلَّفت فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غبطتُ نفسي بذلك المجلس
وتخلُّفي" (1) .
والجواب: المنهي عنه هو التنازع، وعدم الجمع بين الآيات، وضرب بعضها ببعض. أمَّا الجمع بينها، وسؤال العالِمين بها؛ فهو مطلوب في الحديث، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: (إنَّما نزل يصدِّق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه) .
__________
(1) الشيباني؛ أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ): مسند الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر، 2/181، ابن ماجة؛ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ): سنن ابن ماجه، مراجعة محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، 1/ 33، وصحَّحه المحققان.(1/12)
وقد يستدلُّ بما ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - مما يشبه النهي عن البحث في مشكلات القرآن، كما جاء عن الشعبي قال: أدركتُ أصحاب عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ وأصحاب علي - رضي الله عنهم - وليس هم لشيء من العلم أكره منهم لتفسير القرآن، قال: وكان أبو بكر ـ أي الصِّدِّيق ـ يقول: أي سماء تظلُّني وأي أرض تقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ (1) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخبره أنَّه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول:
[عبس: 27-31]قال: فكل هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم نقض عصا كانت في يده فقال: هذا لَعَمْرُ الله التكلُّف.. اتبعوا ما تبيَّن لكم من هذا الكتاب (2) .
__________
(1) ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي أبو بكر (ت 235 هـ): الكتاب المصنَّف في الأحاديث والآثار، تحقيق كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، ط/1، 1409هـ، 6/136، وأثر أبي بكر رواه أيضاً الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ): جامع البيان في تأويل القرآن، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط/3، 1388هـ، 1968م، 1/58، وقال الهيثمي، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ): مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي، القاهرة، بيروت، 1407هـ، 9/384: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح".
(2) البيهقي؛ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (ت 458 هـ): شعب الإيمان، تحقيق محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1410هـ، 2/424، الحاكم؛ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري (ت 405 هـ): المستدرك على الصحيحين، مراجعة مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة لم تذكر، 1411هـ، 1990م، 2/559، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وقال الذهبي في "التلخيص": "على شرط البخاري ومسلم".(1/13)
والجواب على ذلك ما قاله الزمخشري: "لم يذهب إلى ذلك ـ أي المنع ـ ولكن القوم كانت أكبر همّتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلُّفاً عندهم؛ فأراد أنَّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنَّ الأبَّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لأنعامه ؛ فعليك بما هو أهم من النُّهوض بالشكر لله ـ على ما تبيَّن لك ولم يشكل ـ مما عدَّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى (الأبّ)، ومعرفة النَّبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجميلة إلى أنْ يتبيَّن لك في غير هذا الوقت، ثم وصّى النَّاس بأن يجروا على هذا السُّنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن" (1) .
فالتوجيه داخل ضمن التدبُّر المأمور به، أمَّا المنهي عنه هنا فهو التكلُّف، أو التشاغل بمعرفة زائدة عن المحتاج إليه عن العمل، أو القول بلا علم كما هو بيِّن من الألفاظ السابقة.
من المؤلَّفات في فن التوجيه:
يشير المفسِّرون غالباً إلى المواضع التي تحتاج إلى توجيه بعبارة، وتوجيه ذلك، أو هذه من مشكلات القرآن ثم يبيِّنون توجيهها. ومن أكثر التفاسير اهتماماً بذلك:
[1] تفسير البغوي، والزَّمخشري ومقلديه (البيضاوي، والنَّسفي، وأبي السعود)، والرَّازي، والألوسي، ومحمد الطاهر بن عاشور.
كما نجد ذلك مبثوثاً في كلام الجويني، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، وأبي إسحاق الشاطبي في كتبهم.
__________
(1) الكشّاف، 4/187، وراجع كتاب: التنوير مقدمة في أصول التَّفسير للكاتب، ص 214.(1/14)
[2] ومن المؤلَّفات المستقلة في هذا النَّوع: "تأويل مشكل القرآن" لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قُتَيْبَة الدّينوري (ت 276 هـ)، وفي هذا الكتاب يشير ابن قتيبة إلى ما يحتاج إلى التوجيه باسم: مشكل القرآن أو متشابه القرآن. ويقول عن تعريف المتشابه: "وأصل التشابه أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر والمعنيان مختلفان، ومنه يقال: اشتبه عليَّ الأمر، إذا أشبه غيره، فلم تكد تفرِّق بينهما، وشبّهت عليَّ إذا لبست الحق بالباطل.
وبيَّن سبب تعميم مصطلح المتشابه لكل ما احتاج إلى توجيه بقوله: "ثم يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه وغيره"، ووضَّح أنَّ المشكل كالمتشابه في العموم، إذ المشكل سُمِّيَ مشكلاً؛ لأنَّه أشكل أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله، ثم يقال لما غمض ـ وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة ـ: مشكل (1) .
[3] "مشكلات القرآن" لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي
(ت 437 هـ).
[4] كتاب: "البرهان في مشكلات القرآن" لأبي المعالي عزيزي بن عبد الملك، المعروف بشيذلة (ت 494 هـ).
[5] وشرحه جمال الدين محمد بن محمد الآقسرائي الرومي الشافعي، من أحفاد فخر الدين الرَّازي (ت 771 هـ) (2) .
[6] كما أشار محمود بن حمزة الكرماني (ت 505 هـ) إلى شيء من ذلك في كتابه: "غرائب التَّفسير، وعجائب التأويل".
[7] وقد أشار الدّهلوي في كتابه القيّم: "الفوز الكبير في أصول التَّفسير" إلى فن التوجيه في أكثر من موضع، وجعله من المهمات التي يجب على المفسِّر معرفتها .
[8] ومن الكتب النَّافعة في هذا المجال: "يتيمة البيان في شيء من علوم القرآن" لمحمد يوسف البنوري، وهي في مشكلات القرآن.
__________
(1) ابن قتيبة؛ أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ): تأويل مشكل القرآن، شرحه السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، ص 74.
(2) هداية العارفين، ص 538.(1/15)
[9] ومن الكتب المؤلَّفة في هذا الفن: ما سيرد في تفاصيل المسائل التي تنضوي تحت فن التوجيه.
قانون التوجيه:
حتى يستطيع المفسِّر أن يوجِّه الكلام؛ لا بُدَّ أن يلتزم قانون التوجيه، وهو ينحصر في النقاط التالية:
[1] أنْ يبيِّن وجه الصعوبة التي تضمنها الكلام مفصّلاً.
[2] ثم يتكلَّم في حلّ تلك الصعوبة بالتفصيل، ذاكراً الأقوال الوجيهة الواردة في توجيه ذلك الكلام.
[3] ثم يزن تلك الأقوال، ويرجِّح ما بدا له أنَّه أنفع الأجوبة.
[4] التوجيه أمرٌ استنباطي اجتهادي، ولذا فقد يجمع فيه بين عدة استنباطات عند ظهور وجاهتها، كما في قول الشوكاني عند ذكره وجهين للتكرار في قوله: [البقرة: 38] بعد قوله: [البقرة: 36] "ولا تزاحم بين المقتضيات، فقد يكون التكرير للأمرين معا" (1) .
أقسام التوجيه:
ينقسم التوجيه إلى:
[1] توجيه وجيه.
[2] وتوجيه غير وجيه.
وقد شاع لذلك في أقوال المفسِّرين وغيرهم عبارة: "وجه غير وجيه" (2) ، كما شاع تعبير الفقهاء فيما يشبه ذلك: "تعليل عليل، مبني على رأي كليل" (3) ، أو قولهم: "فتعليل عليل، وكلام قليل التحصيل" (4) أو نحوها.
__________
(1) الشوكاني؛ محمد بن علي بن محمد (ت 1255هـ): فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التَّفسير، دار الفكر، بيروت، 1/108.
(2) انظر مثلاً: روح المعاني، 11/183، 13/196، التحرير والتنوير، 18/82، عند قوله تعالى: [المؤمنون: 76].
(3) الشوكاني؛ محمد بن علي بن محمد (ت 1255هـ): السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، تحقيق محمود إبراهيم زايد "وآخرون"، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/4، 1405هـ، 3/48.
(4) السيل الجرار، 4/230.(1/16)
فالمفسِّر قد يذكر في التوجيه الاستدراكات على ما قدّمه من توجيه، أو ما قدّمه غيره ويناقشها، ومن أمثلة ذلك أنَّ ابن كثير ذكر أنَّ الرَّازي في تفسيره حكى عن بعضهم في توجيه وصف الله تعالى للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية في المقامات الشريفة: إنَّ مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة؛ لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق، والرسالة من الحق إلى الخلق، قال: ولأنَّ الله يتولى مصالح عبده، والرسول يتولى مصالح أُمَّته، وعقَّب ابن كثير على ذلك فقال: "وهذا القول خطأ، والتوجيه أيضاً ضعيف لا حاصل له" (1) .
وعلى الرغم من تخطئته لهذا القول إلاَّ أنَّه لم يبيِّن الوجه السديد فيه، والظاهر أنَّه يريد أن يقول: إنَّه لا تنافي بين المقامين حتى يقدم وصف العبودية على الرسالة، فإذا كانت الرسالة وصفاً أخص من العبودية؛ إذ العبد قد يكون رسولاً وقد لا يكون؛ فإنَّ غاية الرسول أن يصبح أعظم النَّاس عبوديةً لله تعالى... فيمدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتلقيبه بهذا الوصف الشريف بعد أن عُلِمَ أنَّ الرسالة قد ثبتت له. كما أنَّ من التوجيهات لذلك عدم الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حتى ينزل في غير منزلته، كما قال القرطبي في سرّ وصفه بالعبودية في أول سورة الإسراء: "قال العلماء: لو كان للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - اسم أشرف منه لسمَّاه به في تلك الحالة العلية، وفي معناه أنشدوا :
يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلاَّ بيا عبدها ... فإنَّه أشرف أسمائي
وقال القشيري: "لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعاً للأُمَّة" (2) .
__________
(1) تفسير ابن كثير، 1/48.
(2) القرطبي؛ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن، 1405 هـ، 1985م، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 10/180، وعزاه القرطبي للقشيري، ونحوه في فتح القدير، 3/295.(1/17)
الفصل الثالث
أنواع المسائل التي تحتاج إلى التوجيه
يذكر الباحث ها هنا أبرز الأمثلة التي ذكر أهل العلم بالتَّفسير أنَّها تحتاج إلى توجيه، وإلاَّ فإنَّ الأمر يستحق دراسة مستقلة ضمن أبحاث الدَّراسات العليا:
الأول: أن يذكر الله تعالى وصفاً دون غيره في مقامٍ شريف، أو يقدّمه على غيره:
فتلتمس علة ذلك، أو يبحث عن وجهه، ففي قوله تعالى:
[الفاتحة: 5]، ذكر أهل العلم بالتَّفسير إشكالين يحتاجان إلى توجيه:
فأول الإشكالات: لماذا بدأ بوصف التعبُّد؟
ومن الوجوه التي ذكرت في بيان علة ذلك:
[1] ذكر ابن كثير أنَّ ذلك بسبب كون العبودية أشرف الأوصاف التي يهفو إليها الخلق، ولذا وصف الله تعالى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية في أشرف المقامات، فقال: [الإسراء: 1]، وقال تعالى [الكهف: 1]، وقال تعالى [الجن: 19]، "فسمَّاه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه في الدَّعوة، وإسرائه به، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين، حيث يقول: [الحجر: 97-99]" (1) .
وفي ترجمة أحمد بن محمد الغزالي (ت 520 هـ)، وهو أخٌ لحُجَّة الإسلام الغزالي (ت 505 هـ): لّما قرأ المقرئ في بعض مجالس وعظه قوله تعالى
[الزمر: 53] قال: شرَّفهم بياء الإضافة إلى نفسه بقوله: ، ثم أنشد:
وهان عليَّ اللّوم في جنب حبّها ... وقول الأعادي: إنَّه لخليع
أصم إذا نوديت باسمي وإنّني ... إذا قيل لي: يا عبدها، لسميع (2)
__________
(1) ابن كثير، 1/48.
(2) الصفدي؛ صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ): الوافي بالوفيات، 1061.(1/18)
وقد قال أبو العباس المرسي (ت 686 هـ) في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) (1) : "أي لا أفتخر بالسيادة؛ وإنَّما الفخر لي بالعبودية لله" (2) .
[2] ومن أسباب ذلك أنَّ العبادة له هي المقصودة، والاستعانة المذكورة بعدها وسيلةٌ إليها، والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم (3) .
وعند الزمخشري توجيه آخر: فالعبادة وسيلة ليلبي حاجاتهم، فقدَّم العبادة؛ لأنَّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها (4) .
وثاني الإشكالات في هذا الوصف: مجيئه بالنُّون في قوله تعالى: [الفاتحة: 5]، فإن كانت للجمع فالدَّاعي واحدٌ، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟
ومما ذكره ابن كثير في جواب ذلك: إنَّ المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فردٌ منهم، ولا سيما إن كان في جماعة (5) .
الثاني: وجود قيد سبق تضمنه:
__________
(1) الترمذي؛ أبو عيسى محمد بن سؤرة السلمي (ت 279 هـ): الجامع الصحيح سنن الترمذي، مراجعة أحمد محمد شاكر "وآخرون"، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 5/308، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصحَّحه المحقِّق، وأصله في مسلم، 4/1782.
(2) التلمساني؛ أحمد بن محمد المقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م، 2/192، العجلوني؛ إسماعيل بن محمد الجراحي: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، دار إحياء التراث العربي، 1/15.
(3) ابن كثير، 1/48.
(4) الكشَّاف، 1/8.
(5) تفسير ابن كثير، 1/48.(1/19)
فقوله تعالى [آل عمران: 117] اختلف في الصّر: فقيل برد شديد، وقيل: الصّر: صوت لهيب النَّار، وقد كانت في تلك الريح، وقيل : أصل الصّر كالصَّرصر: الريح الباردة، وعليه يكون معنى النَّظم: كمثل ريحٍ فيها ريحٌ باردة "وهو كما ترى محتاجٌ إلى التوجيه" (1) ، إذ كيف يقال: ريحٌ فيها ريحٌ باردة؟
فذكروا في توجيهه الأقوال التالية:
[1] الصِّر في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرة، بمعنى فيها قرة صر، كما تقول: برد بارد على المبالغة .
[2] أن يكون الصّر مصدراً في الأصل بمعنى البرد، فجيء به على أصله.
[3] أنَّه واردٌ على التجريد (2) ، والتجريد "أنْ ينتزع من أمرٍ موصوف بصفة أمر آخر مثله في تلك الصَّفة للمبالغة في كمال تلك الصَّفة في ذلك الأمر المنتزع عنه، نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم" (3) ، وحال الآية هنا كما في قوله تعالى: [الأحزاب: 21]، إذ أصلها لقد كان لكم رسول الله أسوة حسنة. وكقولهم: إنَّ ضيَّعني فلان ففي الله كاف وكافل، فيكون معنى الآية: كمثل ريح فيها ريح باردة لشدة ظهور الريح في شدّتها.
ويشبه هذا المثال ما ورد في القرآن من الإطناب الذي تضمَّن كلاماً قد تُظَنُّ بداهته كقوله تعالى: [الكهف: 17]: إذ قد يقال: ما الفائدة من ذلك؟
والجواب ـ كما قال ابن قُتَيْبة في توجيه ذلك ـ: وأيُّ شيء بأن يكون أوْلَى فائدة من هذا الخبر؟ وأيُّ معنى ألطف مما أودع الله هذا الكلام؟ وإنَّما أراد الله عزَّ وجلَّ أن يعرفنا لطفه للفتية، وحفظه إياهم في المهجع، واختياره لهم أصلح المواضع للرقود..." (4) .
__________
(1) روح المعاني، 4/36. وقد وجّهها الآلوسي، والزمخشري إذا فهم منها هذا المعنى، مع أنَّ الطاهر بن عاشور، 3/198، أشار إلى انتقاد هذا المعنى حيث لم يورده الزمخشري في "الأساس"، ولا الراغب في "المفردات".
(2) الكشَّاف، 1/201، روح المعاني، 4/36.
(3) التعريفات، ص 73.
(4) تأويل مشكل القرآن، ص 10.(1/20)
الثالث: أن يظهر من وضع الآية في المصحف التأخُّر مع تقدُّم السبب بفترة طويلة:
فقوله تعالى: [التوبة: 113]، ورد في سبب نزولها ما رواه المسيّب بن حزن قال: إنَّ أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل، فقال: (أي عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله). فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيءٍ كلَّمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - : (لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنه). فنزلت الآية المذكورة، ونزلت [القصص: 56] (1) .
فقد يستبعد بعضهم ذلك بأنَّ موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وهذه السُّورة (التوبة) من أواخر ما نزل بالمدينة.
وتوجيه ذلك بالتالي:
[1] ما قاله الواحدي: هذا الاستبعاد مستبعد، فأيّ بأس أن يقال: كان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية؛ فإنَّ التشديد مع الكفار إنَّما ظهر في هذه السورة، وعليه لا يُراد بقوله: فنزلت في الخبر بأنَّ النزول كان عقيب القول؛ بل يراد أنَّ ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. وهو توجيهٌ وجيه.
[2] إنَّ كون هذه السُّورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب ـ كما تقدَّم ـ فلا ينافي نزول شيء منها في مكة (2) ، ونقل ابن عاشور عن بعضهم في أول سورة التوبة استثناء بعض آياتها من النزول المدني، منها هذه الآية (3) .
__________
(1) صحيح البخاري، 3/1409، مسلم، 1/54.
(2) الجوابان في روح المعاني، 11/33 "بتصرُّف".
(3) التحرير التنوير، 1804.(1/21)
على أنَّه عند تفسير الآية وَهَّى مثل الحديث المذكور أعلاه لما ذكره من البعد الزمني بين وضع الآية وموعد نزولها (1) ، وما وهَّاه مجدِّد التَّفسير في عصره (ابن عاشور) هو الواهي، إذ الحديث في المتفق عليه...ولكن يوجّه توجيهاً لائقاً.
الرابع: أن يظهر إشكالٌ في الترتيب:
ففي قوله تعالى: [هود: 3]: عطف قوله سبحانه [هود: 3] على وفي هذا الترتيب إشكالٌ، إذ تمَّ توسيط بينهما، مع أنَّ الاستغفار علامة التوبة، فكيف يتوب بعد الاستغفار؟
وَوُجِّهَ ذلك بالتالي:
[1] قال الجبَّائي: إنَّ المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب، وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه، أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها، ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة على ظاهرها من التراخي في الزمان.
[2] وقال الفرَّاء: إنَّ بمعنى الواو، والعطف تفسيري.
[3] وقيل: استغفروه من سالف ذنوبكم، وتوبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم، كما قال بعض الصلحاء: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذّابين (2) .
وهذا التوجيه وجيه، وحقيقته أمران:
الأول: الاستغفار العام عن السوالف، والتوبة الخاصة عما يقع بعد.
والثاني: الاستغفار العام عن السوالف، والتوبة بالإقلاع عن مقارفة الذَّنب.
[4] وقيل: إنَّما قدم ذكر الاستغفار؛ لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أولٌ في المطلوب وآخر في السبب (3) .
[5] ويحتمل أن يكون المعنى: استغفروه من الصغائر، وتوبوا إليه من الكبائر (4) .
[6] وقيل: لا نسلم أنَّ الاستغفار هو التوبة؛ بل هو ترك المعصية، والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة.
__________
(1) التحرير التنوير، 10/215.
(2) تفسير القرطبي، 9/7.
(3) تفسير القرطبي، 9/7.
(4) تفسير القرطبي، 9/7.(1/22)
ورجَّح ذلك الطبري فقال: " : وأن اعملوا أيها النَّاس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم، فيستر عليكم عظيم ذنوبكم التي ركبتموها، بعبادتكم الأوثان والأصنام، وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته، وقوله: يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد، وبراءتكم من عبادتها، ولذلك قيل: ، ولم يقل: (وتوبوا إليه)؛ لأنَّ (التوبة) معناها: الرجوع إلى العمل بطاعة الله، و(الاستغفار) استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين، والعمل لله لا يكون عملاً له إلاَّ بعد ترك الشِّرك به" (1) .
[7] وقيل: للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة: الإخلاص فيها، والاستمرار عليها.
[8] وَرَجَّحَ الألوسي أنَّ أصل معنى الاستغفار: طلب الغفر، أي الستر، ومعنى التوبة: الرجوع، ويُطلق الأول على طلب ستر الذَّنب من الله تعالى والعفو عنه، والثاني على النَّدم عليه مع العزم على عدم العود، فلا اتحاد بينهما ... وجاء أيضاً استعمال الأول في الثاني...والتراخي عليه يجوز أنْ يكون رتبياً، وأنْ يكون زمانياً (2) .
[9] ويمكن أنْ يقال: الاستغفار عما وقع من ذنب، والتوبة بعد أداء الطاعة، حيث كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمر بالتوبة بعد الطاعة، كما قال تعالى: [النصر: 1-3]، والمثال القرآني التطبيقي لهذا هو ما ورد في غزوة تبوك؛ إذ قال الله عن المجاهدين:
__________
(1) تفسير الطبري، 6/622.
(2) روح المعاني، 11/207.(1/23)
[التوبة: 117]، والتوبة جاءت وصفاً عاماً للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وليست قاصرة على الذين تردّدوا في الغزو، ولذا كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر الله ويتوب إليه بعد الصلاة، فعن ثوبان قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: (اللهم أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)، قال الوليد: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله أستغفر الله (1) ، وصار ذلك دأبه - صلى الله عليه وسلم - حتى قال أبو هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (2) .
الخامس: تغاير الأسلوب القرآني في آيات متتابعة يظن القارئ لها أنَّ الأصل تماثل الأسلوب فيها:
فإنَّ أول الفاتحة التي تُعَدُّ كالدّيباجة للقرآن الكريم إخبار، وآخرها طلب. وهذا التغاير يحتاج إلى توجيه.
__________
(1) صحيح مسلم، 1/414.
(2) صحيح البخاري، 5/2324.(1/24)
وقد وجَّهه ابن عاشور بقوله: "تهيّأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية، بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة، ثم أتبعوا ذلك بقولهم [الفاتحة: 5] الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى، وبين إظهار العبودية، وهي حظ العبد بأنَّه عابد ومستعين، وأنَّه قاصر ذلك على الله تعالى، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم، ورجوا من فضله؛ أفضوا إلى سؤال حظهم فقالوا: [الفاتحة: 6]، فهو حظ الطالبين خاصّة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للنَّاس ورحمة، فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة، أو الموضوع من الخطبة، أو التخلُّص من القصيدة، ولاختلاف الجمل المتقدّمة معها بالخبرية والإنشائية فصلت هذه عنهن، وهذا أولى في التوجيه من جعلها جواباً لسؤال مقدّر على ما ذهب إليه صاحب "الكشَّاف" (1) .
وتوجيه الزَّمخشري في هذا الموضع: "ويكون قوله: بياناً للمطلوب من المعونة كأنَّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: ، وإنَّما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجز بعض" (2) .
السادس: تكرير الجملة في مكان متقارب:
ففي قوله تعالى: [البقرة: 38] تكرَّرت هذه الجملة في قصة آدم - عليه السلام - في سورة البقرة في موضعين، فاحتاج المفسِّر إلى البحث عن وجه ذلك.
وقد ذُكِرَ في توجيه ذلك ما يلي:
__________
(1) التحرير والتنوير، 1/108.
(2) الكشَّاف، 1/8.(1/25)
[1] قيل: كرَّر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده كما تقول لرجل: قم قم (1) . والتكرير لأجل التغليظ ليس بتوجيهٍ وجيه؛ فقد ذكر الله تعالى أنَّه تاب على آدم - عليه السلام - قبل الآية الثانية التي فيها جملة: ، ولا يوجد دليل على أنَّ هذا التوبة كانت بعد إنزاله إلى الأرض؛ بل ظاهر القرآن أنَّها كانت وهو ما زال في الجنة، فكيف يغلِّظ عليه بعد أنْ تاب عليه؟
[2] التكرير لأجل الربط في نظم الكلام، فهو قولٌ واحدٌ له مدلولٌ واحدٌ تكرّر لربط الكلام لا لأمر معنوي، فكرَّر "الأمر لما علَّق بكل أمرٍ منهما حكماً غير حكم الآخر، فعلَّق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى" (2) ، "فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلَّق بمدلول [البقرة: 36]، وذلك قوله [البقرة: 36]، وقوله [البقرة: 38] إذ قد فصل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله
[البقرة: 37]، فإنَّه لو عقب ذلك بقوله [البقرة: 38] لم يرتبط كمال الارتباط، ولتوهَّم السامع أنَّه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن (3) ، فلدفع ذلك أعيد قوله [البقرة: 38].
__________
(1) تفسير القرطبي، 1/368، فتح القدير، 1/108.
(2) تفسير القرطبي، 1/368.
(3) عادات القرآن: هي أساليبه التي تميَّز بها، وجرت في نظمه وكلمه مجرى العادة. وتعرض لها بعض المفسرين كالزمخشري، وهي مبثوثة في تفسيره، وأشار إليها ابن عاشور في المقدمة. انظر: التحرير والتنوير، 1/59.(1/26)
فهو قولٌ واحد كُرِّرَ مرتين لربط الكلام، ولذلك لم يعطف (قلنا)؛ لأنَّ بينهما شبه كمال اتصال (1) ، لتنزل قوله [البقرة: 38] من قوله [البقرة: 36] منزلة التوكيد اللفظي، ثم بني عليه قوله الآية، وهو مغاير لما بني على قوله [البقرة: 36] ليحصل شيءٌ من تجدُّد فائدة في الكلام؛ لكي لا يكون إعادة (اهبطوا) مجرد توكيد. ويُسَمَّى هذا الأسلوب في علم البديع بـ (الترديد)، نحو قوله تعالى
[آل عمران: 188]، وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ" (2) .
__________
(1) كمال الاتصال: هو التلازم بين الأمرين كأنهما شيء واحد، فلذا قد يعبَّر عن أحدهما بالآخر، وقد يأتي أمران فلا يكون بينهما حرف عطف لكمال الاتصال بينهما. انظر: أبو السعود؛ محمد بن محمد العمادي (ت 951هـ): تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2/21، حيث عبَّر عن جزاء الكسب بالكسب في قوله تعالى: [آل عمران: 25]، وانظره في 7/228، في قصة أيوب - عليه السلام - من سورة ص، حيث قال: [ص: 41] فعطف على اذكر عبدنا داود، وعدم تصدير قصة سليمان - عليه السلام - بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود ـ عليهما السلام ـ، ومثله في روح المعاني، 13/189، في قوله تعالى: [البقرة: 49] فحيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال... وصرَّح العلائي؛ صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيلكلدي بن عبدالله العلائي الدمشقي الشافعي بأنَّ الكلمتين أو الجملتين إذا كان بينهما كمال اتصال فلا يعطف بينهما بالواو في كتابه المفيد: الفصول المفيدة في الواو المزيدة، تحقيق د. حسن موسى الشاعر، دار البشير، عمان، ط/1، 1990م، ص 135.
(2) التحرير والتنوير، 1/251.(1/27)
[3] وقيل: بل له مدلول معنوي: فالهبوط الأول من الجنَّة إلى السماء، والثانية من السماء إلى الأرض (1) ، فتكون إعادة للتنبيه على اختلاف زمن القولين ومكان الهبوط، ويكون مرجع الضميرين في مختلفين: فالأول للجنة، والثاني للسماء الدنيا.
وضَعَّفَ ابن عاشور هذا التوجيه؛ لأنَّ ضمير منها المتعين للعود إلى الجنَّة لتنسيق الضمائر في قوله [البقرة: 35]، وقوله [البقرة: 36] مانعٌ من أنْ يكون المراد اهبطوا من السماء جميعاً، إذ لم يسبق ذكر للسماء (2) ، على أنَّ ذلك يحتاج إلى نقل بعدم وضوح الإشارة القرآنية إليه.
[4] ارتضى ابن عاشور أنْ يكون الوجه المعنوي في التكرير: لحكاية أمرٍ ثانٍ لآدم - عليه السلام - بالهبوط، كي لا يظن أنَّ توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنَّة، فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته ليعلم أنَّ ذلك كائنٌ لا محالة؛ لأنَّه مراد الله تعالى، وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض، وهو ما أخبر به الملائكة.
وفيه إشارة أخرى وهي أنَّ العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات، وأمَّا تحقيق آثار المخالفة ـ وهو العقوبة التأديبية ـ فإنَّ العفو عنها فسادٌ في العالم؛ لأنَّ الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل، فالتسامح معه في ذلك تفويتٌ لمقتضى الحكمة؛ فإنَّ الصبي إذا لوَّث موضعاً وغضب عليه مربيه، ثم تاب فعفا عنه؛ فالعفو يتعلَّق بالعقاب، وأمَّا تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوَّث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه.
هكذا ينبغي أنْ يكون التوجيه إذا كان المراد من الثاني حكاية أمرٍ ثانٍ بالهبوط خوطب به آدم - عليه السلام - (3) .
السابع: استخدام تعبير مستغرب:
__________
(1) تفسير البغوي، 1/86، تفسير القرطبي، 1/368.
(2) التحرير والتنوير، 1/251.
(3) التحرير والتنوير، 1/251.(1/28)
والغرابة هنا من قبل القارئ لا من قبل التعبير ذاته، فالقرآن مبين، والخلل في أفهام المستمعين، فالغرابة متفاوتة عندهم.
والتعبير المستغرب ثلاثة أنواع:
النوع الأول: استغراب استعمال الكلمة لاحتمالها معنى آخر:
ففي قوله تعالى: [يوسف: 2]، ضمير
يجوز أنْ يعود إلى اسم الجلالة، ويكون بمعنى خالقي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرَّمه، ويجوز أنْ يعود إلى معلوم من المقام، وهو زوجها الذي لا يرضى بأنْ يمسَّها غيره، فهو معلوم بدلالة العرف ويكون
بمعنى سيدي ومالكي، أي سيدي الذي ربّاني وأحسن مثواي حيث أمركِ بقوله : [يوسف: 21]، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟ (1) .
وعلى التأويل الثاني استُغرِبَ أنْ يكون يوسف - عليه السلام - ينعت سيده بهذا الوصف (الرب)، فاحتاج الأمر إلى البحث عن وجه ذلك:
[1] فقيل: هذا من بلاغة يوسف - عليه السلام - ، لأنَّه أتى بمثل هذا التركيب في لغة القبط تعظيماً لحق السيّد.
[2] وإمَّا لأنَّه أتى بعذريْن لامتناعه، فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه.
وأيَّاً ما كان فالكلام تعليل لامتناعه، وتعريضٌ بها في خيانة عهدها، وذكر وصف الرب ليس مستغرباً على التأويل الثاني؛ إذ المراد بهذا التعبير أمران:
[1] تفخيم أمر سيّد البيت من قبل الخادم، فهو تعريضٌ بها بأنَّها أوْلَى أنْ تفعل ذلك، بأنْ تطيعه ولا تخون عهده.
[2] تعليلٌ للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز (2) ، وأكَّد ذلك بوصفه بجملة أي: جعل آخرتي حسنى، إذ أنقذني من الهلاك أو أكرم كفالتي (3) .
ومثل ذلك قوله تعالى: [النساء: 46] فهذا قول ذو وجهين: يحتمل الذمّ كما يحتمل المدح.
أمَّا احتماله الذمّ فعلى نحوين:
__________
(1) التحرير والتنوير، 12/47، فتح القدير، 3/23.
(2) فتح القدير، 3/23.
(3) التحرير والتنوير، 12/47.(1/29)
الأول: أنْ يكون معناه: اسمع منّا مدعواً عليك ـ بلا سمعت ـ؛ لأنَّه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع، فكان أصم غير مسمَعٍ.
والثاني: المعنى: اسمع غير مجابٍ إلى ما تدعو إليه، ومعناه: غير مسمع جواباً يوافقك، فكأنَّك لم تسمع شيئاً، أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه، فسمعك عنه ناب.
وأمَّا احتماله المدح فعلى نحوين أيضاً:
الأول: اسمع غير مسمَع مكروهاً من قولك: اسمع فلان فلاناً إذا سبّه، ومنه قول النَّبي - صلى الله عليه وسلم - : (من سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن يرائي يرائي الله به) (1) ، أي "من عَمِلَ عملاً على غير إخلاص، وإنَّما يريد أنْ يراه النَّاس ويسمعوه جوزي على ذلك، بأنْ يشهره الله ويفضحه، ويظهر ما كان يبطنه" (2) فاستخدم التسميع في الحديث في الموضع الأول لمدح النَّفس، وفي الثاني لذمّ الفاعل بالفضيحة له.
والثاني: أي غير مأمورٍ بأنْ تسمع، فاحترسوا بذلك لئلا يفهم من الأمر أنَّه أمر ملزم من جهتهم، كما تقول العرب: "افعل غير مأمور"، وهو ما يُسمَّى عند المفسِّرين والبلاغيين بـ (الاحتراس)، وهو "أنْ يكون الكلام محتملاً لشيء بعيد، فيؤتى بما يدفع ذلك الاحتمال"، ومنه: قوله تعالى: [القصص: 32]، فاحترس سبحانه بقوله من غير سوء عن إمكان أنْ يدخل في ذلك البهق والبرص (3) .
__________
(1) صحيح البخاري، 5/2383، مسلم، 4/2289.
(2) ابن حجر، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ): فتح الباري شرح صحيح البخاري، حقَّق أصولها عبد العزيز بن باز، رقَّم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، 1410 هـ، 1989م، 11/336.
(3) البرهان في علوم القرآن، 3/64، السيوطي؛ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر
(ت 911 هـ): الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت، 2/199، خزانة الأدب، 2/486، التعريفات، ص 25.(1/30)
فهذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطُّف إطلاقاً متعارفاً، ولكنهم لما قالوها للرسول - صلى الله عليه وسلم - أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمح به تركيبها الوضعي (1) .
ومثل ذلك قوله تعالى عنهم: [النساء: 46]يحتمل أربعة أوجه: اثنين لا مانع منهما، واثنين ممنوعين:
الأول: راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا.
والثاني: راعنا أي ارفق بنا. والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل؛ ذلك لأنَّ الرعي من لوازمه الرفق بالمرعي، وطلب الخصب له، ودفع العادية عنه.
فهذان المعنيان مقبولان، ولكن اليهود الذين قالوا ذلك أتوا بلفظٍ ظاهره طلب المراعاة، أي الانتظار أو الرفق، وأرادوا أحد المعنيين الآخرين المذمومين، وهما:
الأول: يحتمل أنْ تكون شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابُّون بها، تدلُّ على ما تدلُّ عليه كلمة الرعونة في العربية.
والثاني: وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين (راعينا) ويعنون ـ لعنهم الله تعالى ـ أنَّه بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم ـ وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - ـ.
__________
(1) انظر: الكشَّاف، 1/257، تفسير أبي السعود، 2/183، الراغب؛ أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني (ت 502 هـ): المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت 716، روح المعاني، 5/47، التحرير والتنوير، 4/146.(1/31)
فكانوا ـ سخرية بالدِّين وهزؤاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ يكلّمونه بكلامٍ محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة، ويظهرون به التوقير والإكرام، فإنْ قلت: كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرَّحوا وقالوا: سمعنا وعصينا؟ قلت: جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، وليس كلهم كانوا يواجهونه بالسبِّ ودعاء السُّوء، ويجوز أنْ يقولوه فيما بينهم، ويجوز أنَّهم لم ينطقوا بقولهم: سمعنا وعصينا، ولكنهم لما لم يؤمنوا ويستجيبوا لِمَا دعاهم جعلوا كأنَّهم نطقوا به (1) .
وهذا القول فيه مخالفة لظاهر النَّص دون قرينة .
النوع الثاني: استغراب الاستعمال من النَّاحية النَّحوية الدَّلالية؛ لمجيئها على خلاف الوضع اللُّغوي:
مثل قوله تعالى: [البقرة: 71]، فإنَّ الوضع اللُّغوي يقتضي نفي مدلول كاد؛ إذ مدلولها المقاربة، ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأوْلَى، كما يقال: ما كتب، فنفى الكتابة، فإذا قال: ما كاد يكتب؛ نفي مقاربة الكتابة، فهو أوْلَى من نفي الكتابة.
فيقال: أنَّى يجتمع نفي مقاربة الذبح مع وقوع ذبحها بقوله [البقرة: 71]، فاحتاج التعبير إلى التوجيه.
وقد ذكر في توجيهها أقاويل، أهمها:
[1] التعبير جاء على قياس الوضع اللُّغوي فلا غرابة فيه، إذ ذهب قوم منهم الزّجاجي إلى أنَّ نفيها يدلُّ على نفي مقاربة الفعل، وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأوْلَى. فيكون معنى: ما كدت أفعل، بمعنى ما فعلت ولا قاربت. وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنَّه باعتبار وقتين، فيكون بمنزلة كلامين، ومنه قوله تعالى [البقرة: 71] في هذه الآية، أي فذبحوها الآن، وما كادوا يفعلون قبل ذلك، ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين، وإلى هذا ذهب ابن مالك في "الكافية" إذ قال:
__________
(1) انظر: الكشَّاف، 1/257، تفسير أبي السعود، 2/183، مفردات القرآن، 716، روح المعاني، 5/47، التحرير والتنوير، 4/146.(1/32)
وبثبوت كاد ينفى الخبر ... وحين ينفى كاد ذاك أجدر
وغير ذا على كلامين يرد ... كولدت هند ولم تكد تلد
وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع، كما في قوله تعالى: [إبراهيم: 17]، أي يبتلعه. يقال: ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً: إذا كان سهلاً، والمعنى: ولا يقارب إساغته فكيف تكون الإساغة؟؛ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة، ويشربه على هذه الحال أخرى (1) .
ورجَّح ذلك من محقِّقي اللُّغويين: ابن هشام، قال: واستدلَّ بقوله تعالى:
[النور: 40]، أي لم يرها ولم يكد. ولهذا كان أبلغ من أنْ يقال: لم يرها؛ لأنَّ من لم ير قد يقارب (2) .
ورجَّح ذلك من المفسِّرين الآلوسي، فقال: "والحق أنَّها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال، فَمُثْبَتُها لإثبات القرب، ومَنْفِيُّها لنفيه، والنَّفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين، أو الاعتبارين فلا تناقض؛ إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار، والمعنى أنَّهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعلُّلاتهم، فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتماراً، وما كادوا خوفاً من الفضيحة أو استثقالاً لغلو ثمنها" (3) .
وفائدة هذا التوجيه اختزال التعبير لموقفين: موقف ظهرت فيه استجابتهم لأمر الله تعالى بالذَّبح، وموقف قبله ظهر فيه طول المماطلة التي جعلتهم يتركون الذَّبح.
[2] التعبير جاء على نقيض الوضع اللُّغوي، فإثبات (كاد) يستلزم نفي الخبر، وأنَّ نفيها يصير إثباتاً على خلاف القياس، وقد اشتهر هذا بين أهل الإعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله:
__________
(1) التحرير والتنوير، 1/320، تفسير القرطبي، 11/166، فتح القدير، 3/144، روح المعاني، 1/292.
(2) ابن هشام؛ عبد الله بن يوسف الأنصاري النحوي الأنصاري (ت 761 هـ): مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، طبعة بدون، 1407هـ، 1987م، 1/868.
(3) روح المعاني، 1/292.(1/33)
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ... أتت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى [البقرة: 71]، وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللُّغوي (1) .
وكذا الأمر في قوله تعالى: [إبراهيم: 17]، أي ـ على التَّفسير الثاني ـ إنَّه يسيغه بعد شدة وإبطاء، كقوله: [البقرة: 71] أي يفعلون بعد إبطاء، كما يدلُّ عليه قوله تعالى في آية أخرى [الحج: 20].
ولكنَّ الآلوسي ضعَّف هذا الرَّأي قائلاً: "قيل: هي في الإثبات نفيٌ، وفي النَّفي إثبات، فمعنى: كاد زيد يخرج، قارب ولم يخرج، وهو فاسد؛ لأنَّ معناها مقاربة الخروج، وأمَّا عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول" (2) .
ويظهر من كلام الراغب ترجيحه لهذا الرَّأي إذ يقول: "ووضع (كاد) لمقاربة الفعل، يقال: كاد يفعل، إذا لم يكن قد فعل، وإذا كان معه حرف نفي يكون لِمَا قد وقع، ويكون قريباً من أن لا يكون، نحو قوله تعالى: [الإسراء: 74] [الإسراء: 73]، [مريم: 90]، [البقرة: 20]،
[الحج: 72]، [الصافات: 56]، ولا فرق بين أنْ يكون حرف النَّفي متقدّماً عليه أو متأخراً عنه، نحو: [البقرة: 71]، [النساء: 78]" (3) .
__________
(1) التحرير والتنوير، 1/320.
(2) التحرير والتنوير، 1/320، تفسير القرطبي، 11/166، فتح القدير، 3/144، روح المعاني، 1/292.
(3) مفردات القرآن، 1274.(1/34)
ورجَّح هذا التوجيه الطاهر بن عاشور؛ وذلك لأنَّهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النَّفي؛ جعلوا نفيها بالعكس، كما فعلوا في (لو) (ولولا)، ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها، فإنَّك تجد جميعها بمعنى مقاربة النَّفي لا نفي المقاربة، ولعلَّ ذلك من قبيل القلب المطرّد، فيكون قولهم: ما كاد يفعل، ولم يكد يفعل، بمعنى كاد ما يفعل، ولا يبعد أنْ يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النَّفي الذي حقَّه التَّأخير مقدّماً، ولعلَّ هذا الذي أشار إليه المعري بقوله:
............................................... ... جرت في لساني جرهم وثمود
ومنه قوله تعالى [الزخرف: 52] (1) .
[3] وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني، وعبد القاهر، وابن مالك، في "التَّسهيل" إلى أنَّ أصل (كاد) أنْ يكون نفيُّها لنفي الفعل بالأوْلَى كما قال الجمهور، إلاَّ أنَّها قد يستعمل نفيّها للدَّلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد، وبعد أنْ كان بعيدا في الظَّنِّ أنْ يقع. قال اللُّغويون: "كدت أفعل"، معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، و"ما كدت أفعل" معناه : فعلت بعد إبطاء (2) .
[4] وذهب قوم إلى أنَّ (كاد) إنْ نفيّت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة، وإنْ نفيّت بصيغة الماضي فهي للإثبات، وشبهته أنْ جاءت كذلك في الآيتين
[النور: 40]، [البقرة: 71]، وأنَّ نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال، بخلاف نفي المضارع (3) .
النوع الثالث: استغراب الإعراب:
ومن أمثلته قوله تعالى: (4) [طه: 63]، ففيها أربع قراءات:
__________
(1) التحرير والتنوير، 1/321.
(2) التحرير والتنوير، 1/320، تفسير القرطبي، 11/166، فتح القدير، 3/144، روح المعاني، 1/292.
(3) التحرير والتنوير، 1/320.
(4) لابن تيمية رسالة مستقلة في مسألة ، وهي ضمن مجموع فتاواه، 15/248.(1/35)
الأولى: قراءة الجمهور ـ وهم نافع وابن عامر وحمزة والكسائى وأبى بكر عن عاصم ـ: { إنَّ هذان لساحران } بتشديد نون ، وبالألف في
، وكذلك في ، والذي في الرسم العثماني: هذان رسمت بحذف الألف، وضبطت بإلحاق ألف صغرى بحسب تلقي القراءة المشهورة.
والثانية: قراءة ابن كثيرٍ: (إنْ) مخففة، وتشديد نون (هذانَّ).
والثالثة: قراءة حفص عن عاصم: (إنْ) مخففة، وتخفيف نون (هذان).
والرابعة: قراءة أبي عمرو: (إنَّ) بالتشديد، و(هذين) بالياء (1) .
والإشكال من جهة العربية على القراءة المشهورة وهى قراءة جمهور القُرَّاء "وهى أصح القراءات لفظاً ومعنى، فإنَّ منشأ الإشكال أنَّ الاسم المثنى يعرب في حال النَّصب والخفض بالياء، وفى حال الرفع بالألف، وهذا متواتر من لغة العرب" (2) .
والقرآن جاء بهذه اللُّغة في الكلمات المثناة كقوله تعالى: [النساء: 11]، وكقوله تعالى: [يس: 14]، بينما القراءة المشهورة جاء فيها لفظ بالألف، وحقُّها النَّصب فتكون بالياء، فاستحق أنْ يقول فيه ابن زنجلة: "وهذا الحرف في كتاب الله مشكلٌ على أهل اللُّغة، وقد كثر اختلافهم في تفسيره" (3) .
__________
(1) انظر: الشاطبي؛ أبو القاسم أو أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني (ت 590 هـ): حرز الأماني ووجه التهاني (متن الشاطبية)، ط/1، 1412هـ، 1992م، المكتبة الثقافية، بيروت، ص 117، ابن الجزري؛ أبو الخير شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي (ت 833 هـ): النَّشر في القراءات العشر، أشرف على تصحيحه ومراجعته علي محمد الضباع، دار الكتاب العربي، 2/321، ابن الجزري، طيبة النَّشر في القراءات العشر، ضبطه وصحَّحه وراجعه محمد تميم الزعبي، توزيع مكتبة دار الهدى، المدينة المنورة، ص 85.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 15/248.
(3) ابن زنجلة؛ أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد: حُجَّة القراءات، تحقيق سعيد الأفغاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/2، 1402 هـ، 1982م، ص 454.(1/36)
فاحتاج الإعراب للتوجيه، وللمفسِّرين في توجيهها آراء بلغت السَّتة، وأظهرها ثلاثة توجيهات:
[1] من رفع حمله على لغةٍ لبني الحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، ومن وليهم من قبائل اليمن، ونقل ابن عساكر أنَّها لغة مشهورة يمانية (1) ، يأتون بالمثنى بالألف على كل حال؛ بل قال النَّووي: إنَّها "لغة من يجعل المثنى بالألف سواء كان مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً، وهي لغة أربع قبائل من العرب وقد كثرت في كلام العرب" (2) .
وإنَّما ورد ذلك في القرآن الكريم لما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنَّه قال: (الله أنزل القرآن بلغة كل حي من أحياء العرب) (3) ، قال الخليل: "فنزلت هذه الآية بلغة بني الحارث بن كعب، لأنَّهم يجعلون المثنى بالألف في كل وجه. وإنَّما صار كذلك؛ لأنَّ الألف أخف بنات المدّ واللين، قال الشاعر:
إنَّ لسلمى عندنا ديوانا ... أخزى فلاناً وابنه فلانا
كانت عجوزاً غبرت زمانا ... وهي ترى سيئها إحسانا
نصرانة قد ولدت نصرانا ... أعرف منها الجيد والعينانا
ومقلتان أشبها ظبيانا (4)
وقال الآخر:
واها لريا ثم واها واها ... هي المنى لو أنَّنا نلقاها
يَا لَيْتَ عَيْنَاهَا لَنَا وَفَاهَا ... بِثَمَنٍ نُرْضِي بهِ أبَاهَا
__________
(1) تاريخ دمشق، 48/286.
(2) شرح النووي صحيح مسلم، 3/1368.
(3) الدر المنثور، 3/30.
(4) الفراهيدي؛ أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد: كتاب الجمل في النحو، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط/5، 1995م، ص157، وانظر: ابن خالويه؛ أبو عبد الله الحسين بن أحمد (ت 370 هـ): الحُجَّة في القراءات السبع، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، ط/4، 1401هـ، ص 242، وشواهد هذه اللُّغة كثيرة، وانظر: ظاهرة التأويل في إعراب القرآن الكريم، ص 34.(1/37)
إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها (1)
[2] أنْ تكون حرف جواب مثل: نعم وأجل، وهو استعمال من استعمالات ، كقول عبد الله بن قيس الرقيات:
ويقلن: شيب قد علاك ... وقد كبرت، فقلت: إنَّه
أي أجل أو نعم، والهاء في البيت هاء السكت، وقول عبد الله بن الزبير لأعرابي استجداه فلم يعطه، فقال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك، قال ابن الزبير: "إن وراكبها" (2) .
قال ابن عاشور: "وهذا التوجيه من مبتكرات أبي إسحاق الزّجاج ذكره في تفسيره". وقال: "عرضته على عالمينا وشيخينا وأستاذينا محمد بن يزيد ـ يعني المبرد ـ وإسماعيل بن إسحاق بن حماد ـ يعني القاضي الشهير ـ فقبلاه، وذكرا أنَّه أجود ما سمعاه في هذا، وقلت: لقد صدقا وحقّقا..." (3) .
__________
(1) انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف، 1/18، ابن جني؛ أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 هـ): سرّ صناعة الإعراب، تحقيق مصطفى السقا، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1954م، 2/705، مغني اللبيب، 1/58.
(2) القصة في: ابن حجر العسقلاني؛ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي (ت 852 هـ): الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط/1، 1412 هـ، 1992م، 5/389، والفراهيدي: كتاب العين، تحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، 8/398. وفي تاريخ دمشق، 28/261، كاملة عن أعرابي آخر.
(3) التحرير والتنوير، 16/2652، وانظر: القيسي؛ أبو محمد مكي بن أبي طالب: مشكل إعراب القرآن، تحقيق د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/2، 1405هـ، 2/466، الحُجَّة في القراءات السبع، ص 242، سرّ صناعة الإعراب، 1/380، وكذلك في 2/706.(1/38)
ولكنَّ ادّعاء كونه من مبتكرات الزّجاج فيه نظر، فإنَّ أبا إسحاق محمد بن السّري الزّجاج توفى عام 310 هـ، وهو التاريخ الذي توفى فيه أبو جعفر محمد ابن جرير الطَّبري، وقد ذكر في تفسيره "جامع البيان" هذا التوجيه كأحد توجيهات الإعراب في الآية (1) ، فلا يستطاع الجزم بالابتكار للزّجاج.
[3] التوجيه الثالث، وهو أقوى التوجيهات، أنْ هذه هي اللُّغة العامة الفصيحة في الأسماء المبهمة، فيستبعد بذلك الخطأ اللُّغوي لهذه القراءة، والضَّعف فيها. وقد ذهب ابن تيمية إلى هذا، فكلمة وكل اسم مبهم بالألف هو اللُّغة الفصيحة العامة، وليس لغة القبائل الأربع المذكورة، إذ تلك تثبت المثنى مبهماً أو غير مبهم بالألف مطلقاً، أمَّا المبهم فإثباته بالألف هي اللُّغة العامة عند العرب. ويستدلُّ ابن تيمية على ذلك بالترتيب المنطقي التالي: الصحابة - رضي الله عنهم - قرأوا هذا الحرف بالألف، كما كتبوها في الصلاة وخارج الصلاة.
هذا قول ابن تيمية، والصواب: لم تكتب بالألف؛ بل لم يشر فيها إلى ألف أو ياء.
من الممتنع أنْ يكونوا كلهم قرأوه بالياء كأبي عمرو، فإنَّه لو كان كذلك لم يقرأها أحدٌ إلاَّ بالياء، ولم تكتب إلاَّ بالياء. ولإكمال هذا التَّقرير يقال: كتبت: (هذن)، بلا ألف ولا ياء، لتحتمل قراءتي الألف والياء .
سمع التَّابعون ذلك منهم، ومن التَّابعين سمعها تابعوهم، إلى القُرَّاء المشهورين، كما سمعوا القراءات الثابتة الأخرى، فالاستدلال هنا للقراءتين لا لقراءة الألف وحدها.
والصحابة - رضي الله عنهم - إنَّما قرأوا كما علَّمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكما هو لغة للعرب، ثم لغة قريش، فعلم أنَّ هذه اللُّغة الفصيحة المعروفة عندهم في الأسماء المبهمة تقول: (إنَّ هذان)، ومررتُ بهذان، تقولها في الرفع والنَّصب والخفض بالألف، ومن قال: إنَّ لغتهم إثبات الألف في الرفع فقط؛ طولب بالشاهد.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري، 8/429.(1/39)
يدلُّ على ذلك: النَّقل والسَّماع في القرآن الكريم في هذا الموضع، كما يدلُّ عليه العقل والقياس، فقد تفطن للفرق بين الأسماء المبهمة وغيرها غير واحدٍ من حذاق النحاة، فحكى ابن الأنبارى وغيره عن الفرَّاء قال: ألف التثنية في هي ألف هذا، والنُّون فرَّقت بين الواحد والاثنين، كما فرَّقت بين الواحد والجمع نون (الذين)، وحكاه المهدوي وغيره عن الفرَّاء.
وقيل: لما كان (ذا) اسماً على حرفين، أحدهما حرف مد ولين، وهو كالحركة؛ وجب حذف إحدى الألفين في التثنية، ولم يحسن حذف الأولى لئلا يبقى الاسم على حرفٍ واحدٍ، فحذف عَلَم التثنية، وكان النُّون يدلُّ على التثنية.
ومن القياس: أنَّ المفرد والجمع في أسماء الإشارة لا يظهر فيها إعراب، فكذلك المثنى، كما أنَّ الأسماء المعربة ألحق مثناها بمفردها ومجموعها؛ فكذلك الأسماء المبهمة. ولذا قال المهدوي: وسأل إسماعيل القاضى ابن كيسان عن هذه المسألة! فقال: لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع؛ جرت التثنية على ذلك مجرى الواحد؛ إذ التثنية يجب أن لا تغيّر، فقال إسماعيل: ما أحسن ما قلت، لو تقدَّمك أحدٌ بالقول فيه حتى يؤنس به. فقال له ابن كيسان: فليقل القاضي حتى يؤنس به فتبسّم. وقد تقدّمه الفرّاء وغيره (1) .
__________
(1) انظر تفصيل ذلك مع الاعتراضات الواردة فيها في: مجموع فتاوى ابن تيمية، 15/256، وراجع أيضاً: مغني اللبيب، 1/57، ومعلوم ثناء أبي حيان الأندلسي صاحب "البحر المحيط" على ابن تيمية في النَّحو وغيره من العلوم.(1/40)