إهداء من المؤلف جزاه الله خيراً
لمكتبة شبكة التفسير والدراسات القرآنية
... www.tafsir.net
التَّقْدُمَة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضِلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، { يَأَيُّهَا ا؟لَّذِينَ ءَامَنُوا ا؟تَّقُوا ا؟للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ÷ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ = 102 } [ آل عمران : 102 ] ، { يَأَيُّهَا النَّاسُ ا؟تَّقُوا رَبَّكُمُ ا؟لَّذِي خَلَقَكُـ مِّن نَّفْسٍ وَ !حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً" وَا؟تَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ÷ وَالأَرْحَامَ" إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا = 1 } [ النساء : 1 ] ، { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا = 70 يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ!ـلَكُـ×ْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وَمَـ، يُطِعِ ا؟للَّهَ وَرَسُولَهُ , فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا = 71 } [ الأحزاب : 70 ، 71 ] ، أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النَّار .
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالمَ الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك ؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
اللهم علمني ما ينفعني ، وانفعني بما علمتني ، وزدني علماً يارب العالمين .(1/1)
إن أعظم نعم الله التي لاتُعدّ ولاتحصى ، وأجلَّها نعمةُ الهداية للإيمان ، ونعمةُ التوفيق لسلوك الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، { ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } [ النساء : 70 ] .
ومن أعظم النعم التي يُفْرَحُ بها ، ويُغبطُ صاحبها عليها نعمة حفظ القرآن وتفهمه والعمل بما فيه : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] { بفضل الله } الإسلام { وبرحمته } القرآن (1) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا حسد إلاَّ في اثنتين : رجلٌ علّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جارٌ له فقال : ليتني أُوتيتُ مثل ما أوتي فلانٌ ، فعملت مثل ما يعمل ، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق ، فقال رجل : ليتني أوتيت مثل ما أُوتي فلانٌ ، فعملت مثل ما يعملُ } (2) .
ومن المعلوم أنه لايستطيع أحدٌ أن يعمل بالقرآن إلاَّ إذا فهم معانيه ، ولاتُفهم معانيه إلاَّ بمعرفة تفسيره ، ولايستطيع أحدٌ أن يخوض غمار التفسير إلاَّ إذا تسلّح بسلاح علوم القرآن ؛ فعلم علوم القرآن إذن هو مفتاح الدخول إلى تفسير القرآن الكريم ، وتفسيرُ القرآن الكريم هو الطريق الموصل في النهاية إلى العمل بالقرآن العظيم ، ولا ريب أن العمل بالقرآن هو المقصود الأعظم الذي نزل القرآن من أجله .
__________
(1) تفسير الجلالين ص 215 .
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : اغتباط صاحب القرآن رقم [5026] ص 998 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/2)
ولَمَّا كان علم علوم القرآن بهذه المكانة العالية والمنزلة الرفيعة ؛ اهتم به العلماء قديماً وحديثاً ، فمنهم من أفرده بالتصنيف ، ومنهم من أفرد بعض مباحثه بالتصنيف ، ومنهم من تطرّق إلى بعض مباحثه في مصنفات في علوم أخرى .
ولَمَّا كان القسم الأخير - وهو الموضوعات والمباحث المتعلقة بعلوم القرآن في مصنفاتٍ في علوم أخرى - يخفى على كثيرٍ ممن يدرس علوم القرآن ويهتم به ، أَرَدْتُ أن يكون بحثي في موضوع يُمكن من خلاله أن أستخرجَ الموضوعات والمباحث المتعلقة بعلوم القرآن من مصنّفات وكتب لها قيمتها ومكانتها عند العلماء وطلبة العلم - فإنه لايعرف قيمة الشيء إلاَّ أهله العارفون به - .
وعندما كنتُ أقرأ في كتب التفسير وعلوم القرآن كنت أقف على أقوال مهمة لعالم كبير من علماء المسلمين ، وهو إمام أهل المغرب ابن عبد البر القرطبي الأندلسي ، الذي قال الإمام الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء ما ملخصه : ابن عبدالبر ، الإمام العلاّمة ، حافظ المغرب ، شيخ الإسلام ، كان إماماً ديناً ، ثقة ، متقناً ، علاّمة متبحراً ، صاحب سنة واتباع ، جمع وصنّف ووثق وضعف ، وسارت بتصانيفه الركبان ، وخضع لعلمه علماء الزمان (1) .
ولَمَّا رجعتُ إلى كتب هذا الإمام الكبير رأيتُ عجباً ، فقد كانت كتبه بحق كنوزاً من كنوز العلم والمعرفة ، مجوّدة محررة ، جامعة بين ضبط المحدثين واستنباط الفقهاء المجتهدين ، غنية بالأحاديث والآثار والأقوال ، شاملة لكثير من الفنون والعلوم .
ومع ذلك لم أجد له كتاباً مستقلاً في علوم القرآن مع كثرة أقواله وآرائه في هذا الفن من فنون العلم .
فعقدت العزم على خوض غمار كتبه ، واستخراج ما فيها من أقوال وآراء في علوم القرآن ، ثُمَّ قمتُ بجمعها وتصنيفها حسب موضوعات علوم القرآن ، ثُمَّ بذلتُ وسعي في دراستها وموازنتها بأقوال غيره من العلماء فكان هذا البحث :
__________
(1) باختصار من سير أعلام النبلاء 18/153 ، 154 ، 157 .(1/3)
جهود ابن عبد البر في علوم القرآن - دراسة وموازنة
الذي أقدمه للحصول على درجة الماجستير في القرآن وعلومه .
ومِمَّا سبق يتضح أن أسباب اختياري لهذا الموضوع هي :
1 - أهمية علم علوم القرآن ، إذ هو من أهم العلوم التي تعين على فهم القرآن الكريم والعمل به .
2 - الحرص على استخراج الموضوعات المتعلقة بعلوم القرآن مـ، المصنفات الأخرى ، التي لايخلو كثير منها من أقوال مهمة ومباحث مفيدة وموضوعات كثيرة لها صلة قوية بعلوم القرآن ، مع غفلة كثير من الباحثين والدارسين عنها لعدم ظهورها واشتهارها .
3 - مكانة ابن عبد البر السامية ، وشهرته الواسعة ، وقيمة أقواله وآرائه عند العلماء - رحم الله الجميع - .
4 - كثرةُ كتب هذا الإمام ، وانتشارها ، إضافة إلى قيمتها العلمية ، فكتب ابن عبد البر قل أن تخلو منها مكتبة طالب علم فضلاً عن العالم .
ومن أهم كتبه التي اعتنى بها العلماء وحرصوا عليها :
أ ) - كتاب { التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد } .
ب) - كتاب { الاستذكار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار } .
وهذان الكتابان يعتبران من الموسوعات العلمية التي تزخر بها المكتبة الإسلاميَّة .
جـ) - كتاب { جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته وحمله } .
ولما لهذا العالم من المكانة العلمية ، ولما لمصنفاته من الأهمية ؛ فقد اتجه كثير من الباحثين إلى دراسة شخصية هذا العالم ، واستخراج أقواله وآرائه من خلال مصنفاته ، وخاصة في علم الحديث ورجاله ، وعلم الفقه وأصوله ، وكذلك في علم العقيدة والتفسير ، والسيرة والتاريخ .
وكان بحثي هذا متعلقاً بعلم علوم القرآن ، إذ لم يسبق أن قام أحد بدراسة آرائه وأقواله فيه - حسب علمي - .(1/4)
5 - ومن أسباب اختياري لهذا الموضوع بالذات رغبتي في الإفادة من علم هذا العالم ، وحرصي على قراءة كتبه ، ولاشك أن هذا من أهم الأسباب ، إذ هو مِمَّا يعين على تكوين شخصية الطالب الباحث وإثراء معلوماته ، وزيادة ثقافته العلمية ، بالإضافة إلى إعطائه القدرة على البحث الجاد ، والنقد الهادف البناء .
6 - الرغبة في نشر العلم عن طريق الكتابة والتأليف ، كما قال ابن عبد البر - رحمه الله - : ( ولو أغفل العلماء جمع الأخبار ، وتمييز الآثار ، وتركوا ضم كل نوع إلى بابه ، وكل شكل من العلم إلى شكله لبطلت الحكمة ، وضاع العلم ودرس ، وإن كان لعمري قد درس منه الكثير بعدم العناية ، وقلة الوعاية ، والاشتغال بالدنيا والكَلَبِ عليها ، ولكن الله عزوجل يبقي لهذا العلم قوماً - وإن قلوا - يحفظون على الأمة أصوله ، ويميزون فروعه ، فضلاً من الله ونعمة ، ولايزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم منه الآخِر ) ا هـ .
خطة البحث :
وقد كانت خطة هذا البحث مكونة من قسمين كبيرين ، وتحت القسم الأول فصلان ، وتحت القسم الثاني ثمانية موضوعات من موضوعات علوم القرآن ، وتفصيلها كالتالي :
المقدمة ، وفيها :
1 - أهمية الموضوع .
2 - أسباب اختيار الموضوع .
3 - خطة البحث .
3 - منهج كتابة البحث .
القسم الأول
ابن عبد البر ومنهجه في علوم القرآن
وفيه فصلان :
الفصل الأول : ترجمة ابن عبد البر من خلال المباحث العشرة التالية :
المبحث الأول : نسبه ومولده .
المبحث الثاني : نشأته .
المبحث الثالث : الحالة السياسية في عصره .
المبحث الرابع : الحالة الاجتماعية في عصره .
المبحث الخامس : الحالة العلمية والثقافية في عصره .
المبحث السادس : طلبه للعلم .
المبحث السابع : شيوخُه وتلاميذه .
المبحث الثامن : مكانته العلمية وثناء العلماء عليه .
المبحث التاسع : مؤلفاته وآثاره .
المبحث العاشر : وفاته - رحمه الله - .(1/5)
الفصل الثاني : منهج ابن عبد البر في علوم القرآن .
القسم الثاني
جهود ابن عبد البر في علوم القرآن - دراسة وموازنة
من خلال الموضوعات التالية :
الموضوع الأول : الوحي ونزول القرآن
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : كيفية نزول الوحي وأنواعه .
المبحث الثاني : كيفية نزول القرآن .
الموضوع الثاني : نزول القرآن على سبعة أحرف .
وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : معنى الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن .
المبحث الثاني : صلة المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة .
المبحث الثالث : لغة القرآن الكريم .
المبحث الرابع : حكم القراءة بالشواذ .
الموضوع الثالث : النسخ في القرآن الكريم .
وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : ثبوت النسخ في أحكام الله في القرآن .
المبحث الثاني : أوجه النسخ في القرآن .
المبحث الثالث : حكم نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن .
المبحث الرابع : قواعد وضوابط في النسخ في القرآن .
الموضوع الرابع : الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم .
الموضوع الخامس : المحكم والمتشابه في القرآن الكريم .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : معنى المحكم والمتشابه .
المبحث الثاني : طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه .
الموضوع السادس : آداب القرآن الكريم .
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : آداب متعلقة بالقرآن الكريم .
المبحث الثاني : آداب متعلقة بالمصحف .
المبحث الثالث : آداب متعلقة بقراءة القرآن .
الموضوع السابع : سجدات القرآن الكريم .
وفيه خمسة مباحث :
المبحث الأول : حكم سجود التلاوة .
المبحث الثاني : عدد سجدات القرآن .
المبحث الثالث : الطهارة لسجود التلاوة .
المبحث الرابع : صفة سجود التلاوة .
المبحث الخامس : قراءة السجدة في الصلاة .
الموضوع الثامن : فضائل القرآن الكريم .
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : هل في القرآن شيء أفضل من شيء .
المبحث الثاني : ما جاء في فضائل بعض السور .(1/6)
الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث ، وبعض وصايا الباحث
قائمة المراجع .
فهارس البحث : وله ستة فهارس :
1 - فهرس الآيات القرآنية .
2 - فهرس الأحاديث النبوية .
3 - فهرس الآثار .
4 - فهرس الأعلام .
5 - فهرس المصطلحات المعرّفة .
6 - فهرس المحتويات .
وقد كان منهجي في كتابة هذا البحث - حسب الخطة السابقة - كالتالي :
أولاً : أبدأ كل فصل وموضوع ومبحث بتعريف مختصر بمفرداته ، مع الحرص على ذكر أفضل وأرجح تعريف لكل مصطلح أعرفه .
ثانياً : أذكر بعد ذلك ما وجدته من كلام لابن عبدالبر له تعلق بالموضوع أو المبحث الذي أبحثه .
وكلام ابن عبدالبر أذكره غالباً بنصه ، وقد أختصره أحياناً حسب الحاجة بدون تصرف ، وغالباً ما يكون الاختصار بحذف الأسانيد لكثرتها وطولها .
وكلام ابن عبدالبر المذكور في البحث جعلتُه بخط مميّز .
ثالثاً : بعد ذكر كلام ابن عبدالبر المتعلق بأي موضوع أو مبحث أقوم بدراسته وتقسيمه وترتيبه ، مع الاهتمام بذكر رأي ابن عبدالبر في الموضوعات والمباحث التي فيها خلاف - إن وجد - وموازنته ومقارنته بترجيحات غيره من العلماء المعتبرين .
وأهتمُّ كثيراً بذكر آراء العلماء المجتهدين المعروفين بالفضل والاطلاع وسعة العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
رابعاً : أحرصُ على ذكر الرأي الذي أرجحه أو أميل إليه عندما يكون هناك خلاف في أي مسألة ، مع ذكر السبب الذي دعاني لهذا .
خامساً : أذكر غالباً في نهاية كل موضوع أو مبحث بعض التنبيهات المهمة التي لها صلة بالموضوع ، وأركّز في هذه التنبيهات على ذكر خطأ شائع ، أو الردّ على مُؤلفٍ أخطأ في مسألة ما ، وما شابه ذلك من تنبيهات لاتخلو من فائدة وأهمية .
سادساً : عزوتُ الآيات القرآنية التي أذكرها إلى سورها مع ذكر أرقامها عقب ذكرها مباشرة حتى لاتكثر الهوامش .
سابعاً : خرجتُ الأحاديث التي أوردتها في البحث حسب الطريقة التالية :(1/7)
إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيتُ بتخريجه منهما مع ذكر الكتاب والباب ، ورقم الحديث ، إضافة إلى رقم الجزء والصفحة ، فإذا كان هناك اختلاف في الطبعات فإني أبينه إذا لزم الأمر ، وقد اعتمدت في تخريج أكثر أحاديث الصحيحين على طبعة جديدة وهي طبعة بيت الأفكار الدولية لسهولة التخريج منها ودقته حيث إنها تقع في مجلد واحد .
وإذا كان الحديث في غير الصحيحين ذكرتُ ما تيسّر ذكره من الكتب التي أخرجت هذا الحديث ، ذاكراً اسم الكتاب والباب ورقم الحديث مع رقم الجزء والصفحة ، وقد أكتفي بذكر الجزء والصفحة بدون ذكر الرقم ، أو العكس ، ثُمَّ أبيّن حكم الحديث من حيث الصحة أو الضعف بناءً على كلام أهل العلم البارعين في هذا الشأن من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ، فإن لم أجد من تكلم عليه أو لم يتيسر لي ذلك ذكرتُ حكم محقق الكتاب الذي نقلتُ منه ، فإن لم أجد كلاماً لأحد ممن حكم على الحديث أذكره هكذا ، وقد أذكر ما قاله أهل الجرح والتعديل في حال بعض رجال سنده - وهذا نادر - .
وأمَّا الآثار التي أوردتها في البحث فقد أخرجها إذا كانت مشهورة ويسهل تخريجها ، وأمَّا إذا لم تكن مشهورة ، ويصعب تخريجها إلاَّ بعد بحث طويل فإني لا أخرجها ، نظراً لضيق الوقت ؛ ولأن كتب ابن عبد البر تعتبر من المراجع التي تُخرّج الآثار منها ، فذكر ابن عبد البر لهذا الأثر يعتبر تخريجاً له .
سابعاً : ترجمتُ للأعلام الذين لهم أقوال أو آراء في البحث ترجمة مختصرة من كتب التراجم المعتبرة ، إلاَّ الصحابة - رضي الله عنهم - فلم أترجم لأحد منهم .
وأمَّا الأعلام المذكورين في البحث وليس لهم قول ، وإنَّما جاء ذكرهم في أحد الأسانيد فلا أترجم لهم لكثرتهم ؛ ولأن في ترجمة كل رجل من رجال الأسانيد خروجاً عن المراد ، وليس البحث بحثَ تخريجٍ وحكمٍ على الرجال .(1/8)
ثامناً : أبيّن أحياناً معاني بعض الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى بيان ، وقد أعلق في الحاشية على بعض ما يحتاج إلى تعليق من حديث أو أثر أو قول أو إعراب .
تاسعاً : تخريج الأحاديث وترجمة الأعلام ، يكون عند أول ورود للحديث أو العلم في الغالب ، إلاَّ في الفصل الثاني من القسم الأول - وهو منهج ابن عبد البر في دراسة علوم القرآن - وذلك لتأخر كتابته .
عاشراً : عند النقل أو الاستفادة من كتب أخرى أبيّن ذلك ، فإن كان النقل بالنص وضعتُ ذلك بين قوسين هلاليين هكذا : ( ... ) ، وإذا كان باختصار جعلته كسابقه ولكن أذكر في الحاشية ، باختصار ، فإذا تصرفت فكذلك ، وأبيّن مقدار التصرف فإن كان كثيراً قلتُ : بتصرف كثير ، وإن كان يسيراً قلتُ : بتصرف يسير .
وأمَّا إذا كان الكلام مستفاداً من كتاب آخر ، وذكرته بالمعنى فإني أبين ذلك في الحاشية بقولي : انظر كذا .
وأمَّا الأحاديث النبوية المرفوعة فإني أذكرها بين علامتين هكذا : { ... } .
وأمَّا الآثار والأقوال فلا أجعلها بين معكوفين ، وإنَّما أذكرها هكذا : قال فلان : ... . ثُمَّ أبين موضع نهاية كلامه . إلاَّ إذا كان منقولاً من كتاب له ، فإنه يأخذ حكم النقل من كتاب .
هذا هو المنهج الذي سرتُ عليه في كتابة هذا البحث الذي بذلتُ فيه وسعي ، واجتهدت فيه قدر طاقتي ، وبينت فيه مبلغَ علمي .
وقد واجهتني في كتابة الكثر من موضوعاته صعوبة بالغة في اختيار القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية ، وتؤيده القواعد العلمية ، حتى إني كنت أقرأ الكتب الكثيرة في الموضوع الواحد قبل كتابته لأتمكن من استيعاب ومعرفة أقوال العلماء فيه حتى أخرج بنتيجة أرضاها ، وأرى أنها الصحيحة أو الراجحة .
وكثيراً ما كنت أكتب الموضوع ثُمَّ أطّلع على قولٍ أو رأي قد يخالف ما رأيت وذكرتُ فأعيد كتابته من جديد لأضيف إليه ما أرى وأعتقد أنه لابُدّ من إضافته .(1/9)
ومع ذلك كله فإني أعترف بالتقصير ، وأشكو إلى الله ضعفي وقلة حيلتي ، وأستغفره جل وعلا من كل خطأ وزلل وقعت فيه بسبب جهلي وقلة علمي ، ولكن حسبي أني بذلتُ وسعي ، واجتهدت رأيي ، فإن كان صواباً فمن الله وحده وله الفضل والمنة ، وإن كان غير ذلك فأستغفر الله وأتوب إليه ، وأسأله ألا يحرمني أجر المجتهد المخطيء .
ثُمَّ إني أكرر الحمد والشكر لله ، فهو أهل الحمد والثناء ، وهو المنعم أولاً وآخراً وقديماً وحديثاً ، فله الحمد دائماً وأبداً وعلى كل حال .
ثُمَّ أشكر كل من ساهم في كتابة هذا البحث وإتمامه وإنجازه ، أو أعان على كتابته أو كان سبباً في ذلك .
مبتدئاً بكلية الشريعة وأصول الدين في الجنوب ، التي تلقيت فيها دراستي الجامعية ثُمَّ كلية أصول الدين في الرياض ممثلة في قسم القرآن وعلومه التي واصلت فيها الدراسة في قسم الدراسات العليا ، ثُمَّ سجلت فيها هذا البحث .
وأخصّ بالشكر فضيلة الشيخ الدكتور / الحسن بن خلوي الموكلي رئيس قسم القرآن وعلومه في كلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب ، والمشرف على هذا البحث ، أشكره شكراً جزيلاً على ما بذله من نصح وإرشاد وتوجيه ، إضافة إلى ما كنتُ أجد منه من صبر وتحمل عندما أتأخر أو أقصر ، وأمَّا الذي لفت انتباهي فهو تواضعه الجم وخُلُقُه الحسن ، فله من اسمه أكبر الحظ والنصيب ، فجزاه الله خيراً ونفعه بعلمه ونفع به .
ثُمَّ أختم هذه المقدمة بالتضرع والدعاء والابتهال إلى الله أن يَمُنّ عليّ برضاه فهو غاية ما أرجو ، فاللهم إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي ، غير أن رحمتك وعافيتك أوسع لي .
... ... ... إذا صحّ منك الود فالكل هين
... ... ... ... ... ... وكل الذي فوق التراب تراب
واجعل يا ربنا هذا العلمَ حجةً لنا يوم نلقاك ، ولاتجعله حجةً علينا ، وسبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت أستغفرك وأتوب إليك .
... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الباحث
... ... ... ... ... ... محمد بن عبد الله بن جابر القحطاني(1/10)
... ... ... ... ... ... المعيد بقسم القرآن وعلومه بكلية الشريعة وأصول الدين بالجنوب
... ... ... ... ... ... ... ضحى يوم الأحد الموافق 17/8/1419 هـ
القسم الأول
ابن عبد البر ومنهجه في علوم القرآن
وفيه فصلان :
الفصل الأول : ترجمة ابن عبد البر من خلال المباحث العشرة التالية :
الفصل الثاني : منهج ابن عبد البر في علوم القرآن .
ترجمة ابن عبدالبر
وفيه عشرة مباحث :
المبحث الأول : نسبه ومولده رحمه الله
المبحث الثاني : نشأته رحمه الله
المبحث الثالث : الحالة السياسية في عصر ابن عبدالبر
المبحث الرابع : الحالة الاجتماعية في عصر ابن عبدالبر
المبحث الخامس : الحالة العلمية والثقافية في عصر ابن عبدالبر
المبحث السادس : طلبه للعلم رحمه الله
المبحث السابع : شيوخه وتلاميذه
المبحث الثامن : مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
المبحث التاسع : مؤلفاته وآثاره
المبحث العاشر : وفاته رحمه الله
تمهيد :
يعتبر الحافظ أبو عمر بن عبدالبر عَلَماً من أعلام الحديث ، وقمة من القمم الشامخة ، وإماماً من الأئمة المجتهدين ، ورائداً من روّاد البحث والتصنيف - وخاصة في الحديث وعلومه ورجاله ، والفقه وأصوله - فقد كان حافظ المغرب بلا منازع ، وقف حياته الطويلة على خدمة الحديث وجمعه وتحقيقه ، واستنباط الأحكام منه ، وجمع أقوال العلماء ، ودراسة مذاهب الفقهاء ، وتصنيف المصنفات التي حوت ما وصل إليه علمه ، وما بلغه اجتهاده .
وسوف أخصص هذا الفصل لدراسة حياة ابن عبدالبر بإيجاز (1) ،
__________
(1) للتوسع في ترجمة ابن عبدالبر يُمكن الرجوع إلى الكتب التالية :
... 1 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس : لأبي عبدالله محمد بن نصير الحميدي ص 367 .
... 2 - ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك : للقاضي عياض اليحصبي 8/127 - 130 .
... 3 - الصلة : لأبي القاسم خلف بن عبدالملك بن بشكوال 2/677 .
... 4 - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس : لأحمد بن يحيى الضبي ص 489 .
... 5 - الأنساب : لأبي سعد عبدالكريم السمعاني 10/374 .
... 6 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان : لأحمد بن محمد بن خلكان 7/66 .
... 7 - تذكرة الحفاظ : للذهبي 3/1128 .
... 8 - سير أعلام النبلاء : للذهبي 18/153 .
... 9 - البداية والنهاية : لابن كثير 12/111 .
... 10 - طبقات الحفاظ : للسيوطي ص 431 .
... 11 - شذرات الذهب : لابن العماد 3/314 .
... وممن ترجم له ترجمة موسعة ليث سعود جاسم في كتابه : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ، والأستاذ محمد بن يعيش في كتابه : مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه وآثارها في تدعيم المذهب المالكي بالمغرب ، وقد استفدت من هذين الكتابين في كتابة مباحث هذا الفصل .
... ولمعرفة مزيد من المراجع والمصادر التي عرّفت بابن عبدالبر يُرجع إلى مقدمة كتاب : الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } في فاتحة الكتاب من الاختلاف لابن عبدالبر ، دراسة وتحقيق : عبداللطيف بن محمد الجيلاني المغربي ، فقد عقد فصلاً في المقدمة بعنوان : ابن عبدالبر بين المصادر القديمة والمراجع والدراسات الحديثة ص 15 ومابعدها .(1/11)
وذلك من خلال المباحث التالية :
المبحث الأول
نسبه ومولده رحمه الله
أولاً : نسبه رحمه الله :
هو الحافظ يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر بن عاصم ، أبو عمر النَّمَري القرطبي الأندلسي .
والنَّمَري - بفتح النون والميم - نسبة إلى النَّمِر - بفتح النون وكسر الميم - ابن قاسط بن هِنْب بن أقصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، فهو عربي أصيل ، ينتمي إلى قبيلة كبيرة مشهورة من قبائل العرب (1) .
ثانياً : مولده رحمه الله :
ولد ابن عبدالبر بقرطبة في ربيع الآخر ، سنة ثمان وستين وثلاثمائة من الهجرة المباركة ، وبالتحديد في يوم الجمعة - والإمام يخطب - لخمس بقين من ربيع الآخر ، كما قال عن نفسه ، فقد نقل ابن بشكوال (2) عن أبي علي الغساني (3) أنه قال : ( سمعتُ طاهر بن مفوز(3) يقول : سمعتُ أبا عمر يقول : ولدت يوم الجمعة ، والإمام يخطب لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة ، وهو اليوم التاسع والعشرون من نونبر ، قال طاهر : أرانيه بخط أبيه عبدالله بن محمد - رحمه الله - ) (4) .
* * *
المبحث الثاني
نشأته رحمه الله
__________
(1) انظر : جذوة المقتبس للحميدي ص 367 ، والصلة لابن بشكوال 2/677 ، وبغية الملتمس للضبي ص 489 ، وسير أعلام النبلاء للذهبي 18/157 .
(2) هو : الإمام الحافظ المتقن ، أبو القاسم ، خلف بن عبدالملك بن مسعود ابن بشكوال الأندلسي القرطبي محدِّث الأندلس ومؤرخها ، ولد سنة 494 هـ ، له تصانيف كثيرة ، منها : صلة تاريخ ابن الفرضي في مجلدين ، توفي سنة 578 هـ .
... انظر : طبقات علماء الحديث 4/116 - 118 ، وسير أعلام النبلاء 21/139 - 143 .
(3) ستأتي ترجمتهما في مبحث تلاميذ ابن عبدالبر - إن شاء الله - .
(4) الصلة لابن بشكول 2/679 .(1/12)
نشأ ابن عبدالبر في أسرة علمية ، وفي مدينة معروفة بالعلم والحضارة ، فأمَّا أسرته فكانت معروفة بالعلم والصلاح ، فقد كان والده عبدالله بن محمد محدثاً رفيع المكانة ، فقيهاً ، عابداً ، مجتهداً ، ذا أدب وبلاغة ، وله رسائل وشعر (1) .
وهذه الصفات التي اتصف بها والده كان لها أثر في توجيه ابن عبدالبر وتنشئته تنشئة طيبة ، وخاصة في طفولته ؛ لأن أباه توفي سنة ثمانين وثلاثمائة من الهجرة ، وعمرُ ابنه يوسف بن عبدالبر اثنتا عشرة سنة .
وقد ترك له أبوه كتبه ومسموعاته فاستفاد منها ، وأخذ عنها ، ونقل ما فيها ، فكان يحدث عنه كثيراً فيقول : وجدت في سماع أبي بخطه .
وأمَّا جده محمد بن عبدالله فكان من العلماء الصالحين ، وكان ملازماً للعباد المعروفين بالزهد ، عُني بعلوم القرآن والقراءات والتفسير ، إلاَّ أن العبادة كانت أغلب عليه ، وقد عُمّرَ حتى بلغ الثمانين ، وتوفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة من الهجرة قبل ابنه عبد الله بسبعة أشهر (2) .
ولعل ابن عبدالبر قد تأثر بسلوك جده ، فزهد في الدنيا واتجه إلى العلم والعبادة ، وليس ذلك ببعيد ؛ لأن الإنسان ابن بيئته .
وقد شَبَّ ابن عبدالبر يتيماً بعد وفاة والده ، فتحملت والدته العبء الأكبر في تربيته ورعايته .
__________
(1) ينظر في ترجمة والد ابن عبدالبر : جذوة المقتبس ص 256 ، 257 ، والصلة 1/242 - 243 ، وسير أعلام النبلاء 18/154 . وانظر : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 110 - 112 ، وكتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر بن عبدالبر في الحديث والفقه 1/146 - 147 .
(2) يُنظر في ترجمة جد ابن عبدالبر : تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/190 ، 191 ، وكتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر بن عبدالبر في الحديث والفقه 1/147 .(1/13)
وبعد هذا العرض الموجز عن أسرة ابن عبدالبر يتضح لنا أن المكانة العلمية والاجتماعية التي تمتعت بها هذه الأسرة كان لها أثر كبير في بناء شخصيته ، وتحديد وجهته وهو يشق طريقه في البيئة التي عاش فيها ، فزهدُ جده محمد ، وعلم والده عبدالله ، وتضحية والدته ومكابدتها في تربيته بعد وفاة أبيه مؤثرات ساهمت في بنائه الأخلاقي والعلمي ، وساعدت على شحذ ذهنه وتفتح مداركه (1) .
وأمَّا المدينة التي نشأ ابن عبدالبر فيها فهي مدينة قرطبة ، التي كانت يومئذٍ عاصمة الخلافة بالأندلس ، ومدينة العلم والحضارة ، ومستقر أهل السنة والجماعة ، نزلها جملة من التابعين وتابعيهم ، وسطعت في أفقها نجوم المعرفة في كل فن ، فازدهرت فنون الآداب والعلوم ، وأصبحت مركز الحضارة الإسلاميَّة في المغرب ، وقبلة الأنام فيه .
ولكثرة علمائها ، واشتهار أهلها بالتمسك بالسنة صار عملها حجة في بلاد المغرب ، فكانوا يحتجون بما جرى عليه العمل في قرطبة (2) .
وكان الناس يشدون الرحال إليها لرواية الحديث ، ودراسة الأدب والفقه والفلسفة ومختلف العلوم كالطب والهندسة والفلك وغيرها .
وقد امتاز الأندلسيون جميعاً - وخاصة أهل قرطبة - بالحرص على طلب العلم والتفاني في اقتناء الكتب ، ومن ثَمَّ انتشرت المكتبات في أكثر الأنحاء وسائر الأوساط ، وكثر الوراقون والنساخ ، وتنافس الناس في اقتناء نوادر المخطوطات .
وأصبح العلماء عند أهل قرطبة أهلَ التبجيل والتعظيم والتوقير والاحترام ، ويكال لهم الثناء باللسان ، ويُحال عليهم عند أخذ الرأي ، وهم المرجع عند أهل الحل والعقد .
__________
(1) انظر : كتاب ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ للبث سعود جاسم ص 113 .
(2) انظر : نفح الطيب للمقري 2/93 ، فقد ذكر أنه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب حتى أنهم يقولون في الأحكام : هذا ما جرى عليه عمل قرطبة .(1/14)
ففي هذا الوسط العلمي شبّ ونشأ وترعرع ابن عبدالبر ، وفيه تفقه وأخذ العلم عن كثير من كبار العلماء ، وكتب بين أيديهم ، ولازمهم ، ودأب في طلب العلم (1) .
المبحث الثالث
الحالة السياسية في عصر ابن عبدالبر (2)
عاش ابن عبدالبر حياته في بلاد الأندلس التي فتحها المسلمون سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بقيادة طارق بن زياد ، تحت إمرة عامل إفريقية وصاحب المغرب موسى بن نصير في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك .
وكانت الأندلس منذ فتحها بالإسلام تابعة للخلافة المركزية في دمشق ثُمَّ في بغداد ، إلى أن دخلها عبدالرحمن بن معاوية الأموي الملقب بـ ( صقر قريش ) والمعروف بـ عبدالرحمن الداخل ، وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائة هجرية .
ومن هذا التاريخ والأمويون يبذلون قصارى جهدهم ، وغاية طاقتهم في تمدينها وتعميرها والنهضة بها ثقافياً ودينياً ، إلى أن صارت تلك البلاد جنة من جنان الأرض ودولة من أقوى الدول وأكثرها حضارة وازدهاراً .
__________
(1) انظر : المقدمة التي كتبها محققو كتاب التمهيد لابن عبدالبر 1/ب ، ج .
(2) لمعرفة الحالة السياسية في الأندلس - وخاصة في عصر ابن عبدالبر - يُمكن الرجوع إلى :
... 1 - جذوة المقتبس : للحميدي ص 4 - 34 .
... 2 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب : للمقرّي التلمساني 1/327 - 454 .
... 3 - التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة : للدكتور عبدالرحمن الحجي .
... ويُمكن الرجوع أيضاً إلى ما كتبه كل من :
... 1 - ليث سعود جاسم في كتابه ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ من ص 17 - 75 .
... 2 - الدكتور صالح أحمد رضا في رسالته للدكتوراه : مدرسة الحديث في الأندلس وإمامها ابن عبدالبر
... ص 11 - 46 .
... 3 - الأستاذ محمد بن يعيش في كتابه : مدرسة الحافظ أبي عمر بن عبدالبر في الحديث والفقه 1/107 - 116 .(1/15)
ولقد ظلت الدولة الأموية في الأندلس مستقلة عن خلافة المشرق ، يحكمها أمراء من بني أمية إلى أن حولها عبدالرحمن الناصر سنة ست عشرة وثلاثمائة هجرية إلى خلافة ، استمرت إلى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة ، حيث انهارت الخلافة الأموية بصفة نهائية .
وكانت هذه الدولة قوية ، يهابها الأعداء ، ويخطبون ودها ، وظلت كذلك إلى أن توفي الحكم بن عبدالرحمن الناصر سنة ست وستين وثلاثمائة هجرية ، وكان قبل وفاته بنحو سنة قد أوصى بولاية العهد لابنه الطفل هشام ، غير متفطن لما تجره هذه الخطوة من تكالب على السلطة واضطراب في شؤون الدولة .
ومن ذلك الحين بدأ الضعف والانحلال السياسي يتسرب إلى جسم الدولة الأموية العربيَّة الإسلاميَّة ، المخلصة للإسلام وشريعته ولغته وحضارته ؛ وذلك بسبب الصراع بين رجال الدولة المقربين على السلطة بعد وفاة الحكم ابن عبدالرحمن الناصر الملقب بالمستنصر ، الذي خلفه ابنه هشام وهو لايزال صغيراً في الثانية عشرة من عمره ، فأدار شؤون البلاد جعفر بن عثمان المصحفي حاجب الحكم المستنصر ، وكان بجانب الحاجب شخصيتان بارزتان ، يتنازعانه السلطة ، هما : محمد بن أبي عامر صاحب الشرطة ، وأم الخليفة صبح .
ولم يكن هذا الثالوث الحاكم منسجماً ومتفقاً ، فراح كل واحد منهم يكيد للآخر ويعمل مـ، وراء الستار لإزاحة الآخرين عن سدة الحكم ليستأثر هو وحده بالسلطة والنفوذ .
وكان محمد بن أبي عامر أقوى هؤلاء شخصية ، الأمر الذي جعله يحتل المنزلة الرفيعة في قلب السيدة صبح حيث أعطته الضوء الأخضر لاحتلال منصب الوزارة الذي يعتبر بمثابة النيابة عن الخليفة .
وقد تمكن ابن أبي عامر من الاستيلاء على السلطة نتيجة لقوة شخصيته ، وجهوده الكبيرة في محاربة الأعداء ، وانتصاراته المتعددة في المعارك التي كان يقودها بنفسه ، فأيده الجميع ، ونصره العلماء والوجهاء والأعيان .(1/16)
واستطاع ابن أبي عامر أن يقضي على جميع المناوئين له ، فرست الأمور واستقرت بيده دون منازع ، ولقب نفسه بالمنصور ، وقرن بين اسمه واسم الخليفة في الدعاء له على المنابر ، وكانت الكتب تختم باسمه ، وقعد على سرير الملك ، وأمر أن يحيا بتحية الملوك .
واتجه المنصور بن أبي عامر إلى جهاد النصارى في عقر دارهم ، فكسب بذلك محبة الناس ، حيث فاض المال بين أيديهم ، وامتلأت الأندلس بالغنائم حتى أطلق على المنصور لقب الجلاّب ، لكثرة ما جلب من الغنائم والسبي .
وعمل المنصور على توطيد دعائم الاستقرار الداخلي بالضرب على أيدي من ثار عليه ، وبذلك استطاع أن يبسط سيطرته على الأندلس ، ويتحكم في سير الأمور ، ويتفرغ لإنماء الأندلس عمرانياً واقتصادياً وثقافياً ، وقد عم الرخاء بلاد الأندلس ، وتحسنت الأحوال المعيشية لكل طبقات المجتمع .
وبالرغم من صرامة المنصور بن أبي عامر وحزمه ، بل وتنكيله بمن يقف أمامه ، فقد كان يتصف بصفات حميدة كثيرة ؛ ولذلك فقد أجمع المؤرخون على الثناء عليه - مسلمون وغيرهم - .
ولكن الشدة والحزم مع خصوم المنصور قد تركت آثاراً دفينة في نفوسهم جعلتهم يتطلعون إلى زوال المنصور ، ومن هؤلاء الخصوم رجالات العرب الذين خضد شوكتهم ، والأمويون الذين رأوا تغلبه على الخلافة واستلابها منهم جريمة ، والمتطلعون للسلطة الذين أوغر صدورهم الحسد لما بلغه المنصور من المجد .(1/17)
وكانت هذه مراجل تغلي متحينة الفرصة للانقضاض عليه ، وقد تفجرت بعد موت المنصور ؛ لأن أبناءه الذين جاءوا بعده لم يكونوا بمقدرته وحنكته في تدبير الأمور ، إذ لما توفي المنصور سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة تولى ابنه عبدالملك - الملقب بالمظفر - الحجابة بعد أبيه ، وسار على نهجه ، واستمرت ولايته حتى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، إذ توفي في تلك السنة ، وخلفه أخوه عبدالرحمن الملقب بـ شنجول ، فأساء السيرة ، واستهزأ بأمور الدين ، واشتغل بالملذات ، فأبغضه الشعب ، بل وزاد الطين بِلَّةً ما فعله شنجول هذا من تصرفات زادت الحقد عليه ، حيث أمر رجال الدولة أن يلبسوا لبس البربر الذين كانوا حاشيته وندماءه ، وولَّى ابنه عبدالعزيز الحجابة وهو لايزال طفلاً ، وأضاف إلى ذلك إسرافاً وعبثاً في أموال الدولة .
فثارت ثائرة الشعب ، وتطلع المخلصون إلى استعادة قوة الخلافة الأموية ، خاصة وأن الحاجب المنصور وأبناءه انحازوا إلى البربر ، فهاجت الجماهير وهاجمت هشاماً في قصر الخلافة ، وأرغموه على التنازل عن الخلافة ، واختاروا لها محمد بن هشام بن عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر ، وبايعوه بالخلافة ، وتلقب بالمهدي ، ولكنه كان أحمق طائشاً ، فنتج عن ذلك فتنٌ واضطرابات وثورات كثيرة ، كان أعظمها وأشدها خطراً على البلاد الفتنة البربرية الكبرى التي قامت عندما أراد ابن عبدالجبار المهدي أن يتخلص من العامريين - الذين كانوا قد تولوا زمام السلطة في الأندلس - واضطهد البربر .
وفعلاً تحقق للمهدي ما أراد فقضى على العامريين سنة تسع وتسعين وثلاثمائة هجرية عندما قتل عبدالرحمن شنجول الذي لم يبق أكثر من ثلاثة أشهر بعد وفاة أخيه عبدالملك المظفر ، وتوليه الأمر بعده .
وبدأت صراعات الأندلسيين من أهل قرطبة مع البربر ، فكان أهل قرطبة يستخفون بالبربر ويهينونهم ؛ مِمَّا أجج الكراهية لدى البربر .(1/18)
فاجتمع البربر حول هشام بن سليمان بن عبدالناصر - الذي لقبوه بالرشيد - ومدوا أيديهم إلى النصارى واستعانوا بهم ، وهجموا على قرطبة بعد محاولات وصولات ، كانت نهايتها أن استولوا على قرطبة وقتلوا آلافاً مؤلفة من البشر في موقعة ( قُنْتِشْ ) ، ودخل البربر والنصارى قرطبة أزيد من ثلاثين ألفاً ، وهلك من أخيار الناس وأئمة المساجد ومؤذنيها جم غفير ، ونتج عن هذا انحطاط سياسي كبير ؛ مِمَّا دفع كثيراً من العلماء إلى الهجرة والرحيل عن قرطبة إلى غيرها من المدن الأندلسية .
ومن الذين غادروا قرطبة الإمام ابن عبدالبر ، وأبو محمد ابن حزم وغيرهما بعد أن رأوا بأعينهم ما فعله البربر والنصارى بشيوخهم أمثال أبي الوليد ابن الفرضي الذي قتل وبقي في داره ثلاثة أيام .
وكان ابتداء هذه الفتن سنة أربعمائة من الهجرة في شهر ربيع الأول ، وكان من نتائج هذه الفتنة أن عمّ الخوف واليأس ، فاتجه العلماء إلى الاشتغال بالعلم ، والابتعاد عن السياسة ورجالها وانكبوا على الكتب يدرسونها ، فازدهر العلم ، وتفتحت العقول ورحل الطلبة إلى هؤلاء العلماء الذين رأوا فيهم الصدق والصلاح ، ووجدوا عندهم العلاج والبلسم للأمراض الاجتماعية التي كانت سبباً في ضياع البلاد والعباد ، فراح الناس يسمعون منهم ويأخذون العلم عنهم بعد أن أتوهم إلى مدنهم وقراهم ، إذ كان تفرق هؤلاء العلماء عاملاً مهماً في نشر العلم ، ووسيلة من وسائل الاتصال بهم بعد أن كانوا مجتمعين في قرطبة .
كما كان من نتائج هذه الفتنة قيام ملوك الطوائف بعد انخراط عقد الدولة الأموية حيث كانوا يتنافسون على اجتذاب العلماء إليهم ، وتشجيع العلم والعلماء ؛ ليفخر بعضهم على الآخر بذلك ، وللظهور أمام الجمهور بمظهر الصلاح ، فكان ذلك أيضاً عاملاً من عوامل ازدهار الثقافة ، وخاصة الثقافة الإسلاميَّة كالحديث والفقه والتفسير .(1/19)
وكان آخر الثورات التي حدثت في تلك الفترات ثورة أهل قرطبة ضد الخليفة المعتمد بالله ، وإسقاطهم الخلافة الأموية لأخر مرة ، ونفيهم آخر خلفائهم المعتمد بالله ونفيهم أخاه الذي أراد أن يخلفه ويتمسك لأسرته بالخلافة ، وذلك سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة هجرية .
وانتهت بذلك الخلافة الأموية ، فتمزقت الأندلس ، ونتج عن ذلك قيام دويلات صغيرة متفرقة في أنحاء الأندلس سميت في التاريخ الإسلامي بملوك الطوائف ، إذ بعد تلك الفتن والثورات والاضطرابات افترق شمل الجماعة بالأندلس ، وصار لعدة طوائف ، وسأقتصر هنا على ذكر الممالك التي كان لها دور بارز في الحياة الثقافية في الأندلس ، وأهم هذه الممالك والدويلات (1) :
1 - مملكة سرقسطة ( الثغر الأعلى ) : أسسها سليمان بن هود ، واستمرت من سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسمائة هجرية .
2 - إمارة قرطبة ( وسط الأندلس ) : أسسها أبو الحزم جهور في قرطبة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة هجرية واستمرت إلى سنة إحدى وستين وأربعمائة هجرية .
3 - مملكة طليطلة ( الثغر الأوسط ) : وتسمى دولة بني ذي النون ، أسسها ذو النون ، وهي دولة بربرية استمرت إلى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة هجرية .
4 - مملكة بطليوس ( الثغر الأدنى ) : وتسمى دولة بني الأفطس ، أسسها أبو محمد عبدالله بن محمد بن مسلمة - المعروف بابن الأفطس - سنة إحدى وعشرين وأربعمائة ، واستمرت إلى سنة سبع وثمانين وأربعمائة هجرية ، وكان ابن عبدالبر من العلماء الذين تولوا القضاء على شنترين ولشبونة التابعة لبني الأفطس .
__________
(1) لمعرفة تاريخ ملوك الطوائف يُنظر :
... 1 - نفح الطيب 1/438 - 442 .
... 2 - التاريخ الأندلسي : للدكتور عبدالرحمن الحجي ص 321 - 409 .(1/20)
5 - مملكة أشبيلية ( غربي الأندلس ) : وقد حكم بنو عباد هذه المملكة ، وتسمى الدولة العبادية ، أسسها أبو عمرو عباد بن إسماعيل الملقب بالمعتمد بالله ، واستمرت من سنة أربعة عشر وأربعمائة إلى سنة أربع وثمانين وأربعمائة هجرية .
6 - مملكة بَلَنْسِية ( شرقي الأندلس ) : وتسمى الدولة العامرية ، أسسها أبو الجيش مجاهد بن عبدالله العامري سنة اثنتي عشرة وأربعمائة واستمرت حتى سنة ثمان وسبعين وأربعمائة هجرية .
ومِمَّا سبق نعلم أن الدولة الإسلاميَّة في الأندلس مرت بعد الفتح الإسلامي بالعهود التالية (1) :
1 - عهد الفتح : الذي استمر حوالي أربع سنوات ( 92 - 95 هـ ) .
2 - عهد الولاة : ( 95 - 138 هـ ) وينتهي هذا العهد بدخول عبدالرحمن الداخل إلى الأندلس ، وقد حكم الأندلس في هذا العهد الذي استمر قرابة اثنتين وأربعين سنة عشرون والياً تقريباً ، كانوا تابعين للخلافة في دمشق مباشرة ، أو بواسطة ولاية الشمال الإفريقي ( إفريقية والمغرب ) .
3 - عهد الإمارة : ( 138 - 316 هـ ) ويبدأ بدخول عبدالرحمن الداخل الأندلس ، وينتهي بإعلان الخلافة من قبل عبدالرحمن الناصر سنة 316 هـ ، وكانت هذه الإمارة التي أسسها عبدالرحمن الداخل مستقلة عن الخلافة العباسية .
4 - عهد الخلافة : ( 316 - 400 هـ ) ويبدأ منذ إعلان الخلافة حتى وفاة الحكم المستنصر سنة ست وستين وثلاثمائة من الهجرة ، أو حتى نهاية الدولة العامرية نهاية القرن الرابع الهجري ، فكان عمر الخلافة حوالي خمسة وثمانين عاماً .
5 - عهد الطوائف : ( 400 - 484 هـ ) وهو عهد دول أو ملوك الطوائف الذي سبقته أعوام من الفوضى ، وقد استمر هذا العهد حتى دخول الأندلس تحت سلطان المرابطين .
وقد عاش ابن عبدالبر - رحمه الله - خلال العهدين الرابع والخامس من هذه العهود .
__________
(1) انظر : التاريخ الأندلسي للدكتور عبدالرحمن الحجي ص 39 ، 40 .(1/21)
وبقي من العهود التي مرت بها بلاد الأندلس في تاريخها الإسلامي :
6 - عهد المرابطين والموحدين : ( 484 - 620 هـ ) .
7 - مملكة غرناطة : ( 620 - 897 هـ ) حيث كانت دولة بني الأحمر واستمرت ما يزيد على قرنين ونصف ، وسقطت في نهاية القرن التاسع الهجري ، وبسقوطها انتهى الحكم الإسلامي في الأندلس ، وبقي ملايين عديدة من المسلمين عشرات السنوات الذين أتت عليهم عمليات اضطهاد وتعذيب وإفناء قتلاً وتشريداً وإذابة (1) .
* * *
المبحث الرابع
الحالة الاجتماعية في عصر ابن عبدالبر
( المقصود بالحالة الاجتماعية ذكر طبقات المجتمع من حيث الجنس والدين وعلاقة هذه الطبقات ببعضها ، ثُمَّ بحث نظام الأسرة ، وما يتمتع به كل فرد من أفراد هذا المجتمع ، ثُمَّ وصف مظاهر الحياة في المجتمع ) (2) .
وكان المجتمع الأندلسي يموج بعناصر مختلفة من البشر ، إذ كان يتألف من طبقات متعددة ومختلفة ، تتنافس فيما بينها على العلم والجاه والسلطان .
وهذه الطبقات هي :
1 - العرب : وهم الذين فتحوا البلاد بالإسلام ، وقاموا بدور مهم في تاريخ هذه البلاد ، فنشروا سلطانهم عليها ، وكانت ثقافتهم ولغتهم هي السائدة في البلاد ، وكانوا سادة البلاد وقادتها ، وعلماءها وأدباءها ، إلاَّ أن قيام العصبية ووجودها فيما بينهم قد أتاح الفرصة لمسيحيي الشمال لاسترداد الأندلس ، وأخذها منهم عام 897 هـ .
2 - البربر : وقد كانوا بجانب العرب في فتح الأندلس ، والاستيلاء عليها ، مشاركين لهم في أعباء الفتح ، ولكنهم نظراً لما لاقوه من سوء المعاملة خرجوا على أمرائهم ، وأحدثوا فتناً وثورات ، واستعانوا بالنصارى ، فكان ذلك عاملاً من عوامل انهيار الدولة الإسلاميَّة في الأندلس .
__________
(1) انظر : كتاب سقوط الأندلس للدكتور ناصر العمر .
(2) من مقدمة محقق كتاب الكافي في فقه أهل المدينة : للحافظ ابن عبدالبر ، محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني 1/30 .(1/22)
3 - أهل البلاد : وهم السكان الأصليون ، الذين دخل عليهم المسلمون البلاد واستولوا عليها ، وهؤلاء قد انقسموا إلى فريقين : فريق تمسك بديانته القديمة ، وفريق أسلم فتمتع بقسط وافر من المكانة والحرية الاجتماعية .
4 - اليهود والنصارى ( أهل الذمة ) : وقد كان لهم دور كبير في الأندلس ، إذ كانوا يتمتعون بحرية اجتماعية ، وتسامح ديني وسياسي أدى إلى توليهم الكثير من المناصب المهمة في الدولة ، واشتغال كثير منهم بالعلوم المختلفة ، وخاصة الآداب والطب والفلسفة .
5 - الصقالبة : وهم أناس جلبوا من أسرى الحرب ، ومن القرصنة البرية والبحرية ، وقد اعتنقوا الإسلام ، وأصبحوا من سكان الأندلس ، وساهموا مساهمة كبيرة في الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية .
هذا بالإضافة إلى الكثير من الرقيق والجواري ، الذين كانوا يوجدون بكثرة في المجتمع الأندلسي ، وكان لهم دور في الحياة الاجتماعية في بلاد الأندلس (1) .
وأمَّا علاقة هذه الطبقات ببعضها ، فإن العرب هم الذين كانوا يحكمون البلاد ، وكانوا يعتمدون إلى حد بعيد على الموالي والبربر والصقالبة ، وهي سياسة بدأت في عهد الإمارة منذ عهد عبدالرحمن الداخل ، ووصلت إلى ذروتها في عهد الناصر .
وأمَّا أهل الذمة فقد كانوا يتمتعون بحرية دينية واجتماعية ، فكانوا يقيمون شعائرهم الدينية في أمن ودعة ، وبالرغم من التسامح وحسن المعاملة التي كانوا يجدونها في بلاد الأندلس تحت حكم المسلمين ؛ إلاَّ أنهم كانوا يدبرون ضد الحكومة الإسلاميَّة كثيراً من الدسائس والمؤامرات ، بل كانوا إذا سنحت لهم فرصة يقتلون مَن استطاعوا قتله من المسلمين .
__________
(1) انظر : كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه للأستاذ محمد بن يعيش 1/117 - 118 .(1/23)
ومِمَّا سبق يتبين أن البيئة الاجتماعية تكونت من أخلاط من العرب والشعوب الأخرى الموجودة في الأندلس ، وقد تأثر الأندلسيون بأخلاق العرب وعاداتهم وطرق معيشتهم ، فنشأ من ذلك مجتمع جديد له لباسه الخاص ، وطعامه وشرابه ، وأسلوب تفكيره .
وقد عاش المجتمع الأندلسي في بحبوحة من الترف والنعيم ، وذلك لما تتمتع به بلاد الأندلس من جمال في الطبيعة ، ووفرة في المصادر الغذائية والمالية ، فتمتع الأندلسيون بجميع أنواع التسلية ، حتى تساهلوا في بعض الأمور التي نهى عنها الشرع كالغناء والمعازف ، وكان هذا واضحاً في آراء بعض علمائهم كابن حزم حيث كان يرى جواز الغناء .
وكان للمرأة نفوذ واسع ، وتأثير كبير ، ولعل المكانة التي بلغتها المرأة في الأندلس هي التي جعلت فقهاء قرطبة يجادلون في نبوة المرأة ، حتى قال بعضهم بجواز نبوة المرأة ومنهم ابن حزم (1) .
ومِمَّا يميز الحياة الاجتماعية في بلاد الأندلس - وهو ما يهمنا هنا - نفوذ العلماء والفقهاء ، واستيلاؤهم على دواليب الدولة في الأندلس ، الأمر الذي شجع كثيراً من الناس على التأدب والتفقه والتعلم ؛ حتى يلتحقوا بهؤلاء الفقهاء ، ويحتلوا مناصبهم ، فازدهر العلم والأدب والفقه ، مِمَّا زاد في قوة العقول ، وحدة الذكاء ، وجمع العلوم والكتب (2) .
* * *
المبحث الخامس
الحالة العلمية والثقافية في عصر ابن عبدالبر
عاش ابن عبدالبر ما يقارب قرناً من الزمان ، حيث عاش في الفترة ما بين عامي 368 هـ و 463 هـ ، وقد كانت هذه الفترة من أكثر الفترات ازدهاراً في الجانب العلمي والثقافي في بلاد الأندلس ، وخاصة في مدينة قرطبة التي نشأ فيها ابن عبدالبر .
__________
(1) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري 5/119 .
(2) انظر : كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه : للدكتور محمد بن يعيش 1/117 - 121 فقد استفدت منه كثيراً في كتابة هذا البحث .(1/24)
ففي بداية القرن الرابع الهجري تولَّى إدارة الحكم في الأندلس عبدالرحمن الناصر وكان هذا الرجل قائداً شجاعاً ، وسياسياً ذكياً ، وطَّدَ أركان دولته ووحّدها بعد أن قضى على الفتن ومثيريها ، فعمَّ بذلك الاستقرار السياسي ، وهو الدعامة الأساسية للنمو الحضاري والثقافي .
ثُمَّ أقبل الناصر يشجع العلماء ويرعاهم ، بل ويستجلب المشهور منهم من أقطار العالم الإسلامي الأخرى ، فأمَّ الأندلس في زمانه علماء كبار في مختلف العلوم والاختصاصات ، فازدهرت الحياة العلمية والثقافية في عصره وفي فترة خلافته التي استمرت من سنة 300 إلى 350 هـ .
ثُمَّ جاء بعده ابنه الحكم المستنصر ، وكان خليفة عالماً ، دَيْدَنُه الاهتمام بالعلم وإعلاء شأن أهله ، والتمكين لهم من أداء دورهم في بناء المجتمع ، وكان حريصاً على جمع الكتب ، فكانت مكتبته مضرب المثل بما ضمت من آلاف المجلدات في العلوم المختلفة .
هذه الشخصية العلمية كانت عامل دفع وتشجيع للنهضة الثقافية الأندلسية ، فأقبل العلماء من كل حدب وصوب ، وانتشرت حلقات الدروس ، وأقبل الناس على تعليم أولادهم وتأديبهم ، فكثر عدد المعلمين والمؤدبين ، بل إن الحكم أنشأ المدارس الأولية لتعليم أبناء المسلمين الذين لايملكون نفقات التعليم ، وأوقف عليها الأوقاف للصرف على المدرسين والطلاب ، وكان ذلك في قرطبة وضواحيها ، وكانت خلافة المستنصر في الفترة ما بين 350 و 366 هـ .(1/25)
وقد استمر الازدهار العلمي والثقافي بعد وفاة المستنصر لقوة الدفعة الحضارية التي كانت في زمانه ، ولوجود شخصية فذة كانت تدبر الأمور في ظل هشام المؤيد - الخليفة بعد المستنصر - ، وتلك الشخصية هي الحاجب المنصور بن أبي عامر (1) الذي استطاع أن يجمع في يده مقاليد الحكم بحنكة وقوة ، وعندما تمّ له ذلك أخذ يهتم بنشاطات المجتمع الأخرى ، ونالت الحركة العلمية الثقافية اهتماماً كبيراً ؛ لأنه كان نفسه من العلماء الفقهاء ، وكان متذوقاً للشعر ، مهتماً بأهله وبأهل الأدب عامة ، وكان قريباً من علماء عصره بمختلف اختصاصاتهم ، يتولاهم برعايته ، ويسمع نصح الفقهاء ، ويكرمهم ويحسن وفادتهم .
وقد سار عبدالملك المظفر بن المنصور بن أبي عامر على خطى والده المنصور في الاهتمام بالعلم والعلماء وتشجيع حلقات الإقراء في مساجد قرطبة ولكن ليس بدرجة والده .
وكانت الثقافة الأندلسية قد رسخ قدمها ، وأثمر عطاؤها ، فلم يكن النشاط الثقافي متوقفاً على اهتمام أمير أو خليفة ، فكانت حركة العلماء أنفسهم هي المحرك الأساسي للنشاط الثقافي .
وقد استمرت ولاية عبدالملك المظفر حتى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وكانت هذه هي الفترة التي بدأ فيها ابن عبدالبر في طلبه للعلم حيث إنه بدأ في طلب العلم بعد التسعين وثلاثمائة كما قال الحافظ الذهبي (2) في السير (3) .
__________
(1) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/15 - 16 .
(2) هو : الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، أبو عبدالله ، مؤرخ الإسلام وإمام الجرح والتعديل ، ولد سنة 673 هـ ، رحل في طلب العلم حتى تبحر في العلم وكَثُرَ شيوخه ، له مصنفات كثيرة وخاصة في السير والتاريخ ، توفي رحمه الله سنة 748 هـ .
... انظر : طبقات الشافعية الكبرى 9/100 - 123 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 18/154 .(1/26)
وبعد وفاة عبدالملك المظفر جاءت أعصار الفتنة في بلاد الأندلس والتي استمرت حتى سنة 422 هـ ( بداية القرن الخامس ) ، حيث حلت ببلاد الأندلس ظروف مدلهمّة وفوضى شديدة ضاع فيها الاستقرار ، واضطرمت الفتنة بالأندلس ، وعصفت بقرطبة رياح التغيير - كما مرّ في الحالة السياسية - ، وقد قتل في هذه الفترة الكثير من العلماء ، وهاجر كثير منهم من قرطبة ، واتجهوا إلى مدن الأندلس الأخرى هرباً من الفتنة ونجاة بأنفسهم .
فعاشت الحركة العلمية فترة عدم استقرار من سنة 399 إلى 422 هـ ، ثُمَّ جاء بعد ذلك عهد الطوائف ، الذي أصبحت فيه الأندلس مجموعة من الدويلات المتفرقة في أنحاء البلاد ولم يعد هناك دولة واحدة تحكم البلاد ، فانعكس ذلك على الحالة العلمية ، واتسمت بسمات كثيرة :
منها : التنقل والارتحال ، حيث كان العلماء ينتقلون من مدينة إلى أخرى طلباً للاستقرار ، فأثر ذلك على المستوى الثقافي والعلمي في البلاد ، حيث قلّ إنتاج العلماء نوعاً ما بسبب عدم استقرارهم .
ومن سمات ذلك العهد أيضاً فيما يتعلق بالحياة العلمية : تعدد المراكز الثقافية ، بعد أن كانت قرطبة هي المركز الثقافي الرئيسي ؛ وذلك يعود إلى انتشار ملوك الطوائف في مدن الأندلس المختلفة واتخاذ كل دولة من هذه الدول إحدى المدن لتكون عاصمة لها ، فتعددت المراكز الثقافية في ذلك العهد .
وكان ملوك الطوائف يتنافسون فيما بينهم في الاستحواذ على العلماء والاهتمام بهم ليكسبوا بذلك الشهرة والزعامة .(1/27)
ثُمَّ إنّ هذه المراكز الثقافية كانت تصطبغ بصبغة اتجاهات أمراء وملوك الطوائف الثقافية ، فمثلاً كان مجاهد العامري (1) ( ت 436 هـ ) يغلب عليه الاهتمام بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث واللغة والقراءات ، وكان مولعاً بعلم القراءات على الخصوص ؛ لذلك كان كبار قراء الأندلس يحلّون دانية أمثال أبي عمرو الداني المقريء ( ت 444 هـ ) وغيره من علماء الحديث والفقه واللغة ، كابن عبدالبر ، وابن سيده اللغوي ( ت 458 هـ ) ، ولم يكن للشعراء في إمارته رواج ؛ بل كان لايقربهم في مجالسه .
وأمَّا بنو عباد فكان جلّ اهتمامهم بالأدب والشعر وكان أمراؤهم كلهم شعراء يتذوقون الشعر ويهتمون به ، فحلّ إشبيلية كبار الشعراء أمثال ابن زيدون ( ت 463 هـ ) وابن عمّار ( ت 477 هـ ) وغيرهما .
وقد أدى التنافس الثقافي بين عواصم دول الطوائف إلى تنشيط الثقافة الأندلسية فكانت في أوج ازدهارها في ذلك العصر على الرغم من التفكك السياسي الذي كان سمة هذا العصر .
وكانت هناك بعض العوامل الأخرى التي كان لها تأثير على الحياة العلمية في بلاد الأندلس ، ومنها :
1 - رحلة العلماء المشارقة وغيرهم إلى الأندلس .
2 - الرحلة من الأندلس إلى المشرق ثُمَّ الرجوع بعلم المشرق إلى الأندلس .
3 - حرية الحياة العلمية والثقافية .
4 - تشجيع الخلفاء والأمراء والملوك لأهل العلم (2) .
وقد أنتجت هذه العوامل مجتمعة بعض الظواهر الثقافية البنّاءة في المجتمع الأندلسي ولعل أهمها :
( ظاهرة الاهتمام بجمع الكتب ، وانتشار المكتبات .
__________
(1) هو : مجاهد بن يوسف ( أو عبدالله ) بن علي العامري ، مؤسس الدولة العامرية ، كان حازماً يقظاً شجاعاً عارفاً بالآداب وعلوم القرآن ، توفي سنة 446 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 5/278 .
(2) انظر : كتاب ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ لليث سعود جاسم ص 82 - 86 .(1/28)
( ظاهرة الأسر العلمية التي شاركت في تنشيط الحركة العلمية في الأندلس ، وعلى سبيل المثال أسرة ابن عبدالبر - صاحب الترجمة - التي تعتبر مثالاً لهذه الظاهرة ، وغيرها أُسَرٌ كثيرة (1) .
وقد اهتم أهل الأندلس بمختلف العلوم ، وخاصة علوم الدين من حديث وتفسير وفقه وأصوله ، إضافة إلى الاهتمام باللغة العربيَّة التي كانت لغة البلاد الرسمية ، والتي ازدهرت في بلاد الأندلس أيُّما ازدهار .
وأمَّا المذهب السائد في بلاد الأندلس فهو المذهب المالكي ، حيث كان المذهب الذي استقر عليه الأمر في تلك البلاد ، وكان المذهب الرسمي للدولة الأموية في الأندلس .
ومع هذا فإن الأندلس لم تخل من بعض الأئمة والعلماء الذين ارتضوا مذهباً يغاير ما ارتضاه العامة ، فكان فيها علماء من كافة المذاهب الأخرى عَدَا مذهب الإمام أحمد .
وكان هناك أيضاً أهل الحديث الذين يعملون بحسب ما يترجح عندهم معتمدين على الأحاديث النبوية ، ولايقلدون أحداً ، ولاينقادون إلاَّ للراجح الذي تدل عليه أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ومِمَّا يذكر هنا في مذهب أهل الأندلس { عمل أهل قرطبة } فقد ذكر المقري التلمساني (2) أنه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب ، حتى إنهم يقولون في الأحكام { هذا ما جرى به عمل قرطبة } (3) .
وقال أيضاً : ( وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية ) (4) .
__________
(1) المرجع السابق ص 86 - 89 .
(2) هو : أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى ، أبو العباس ، المقري التلمساني ، المؤرخ الأديب الحافظ ، تنقل في الديار المصرية والشامية والحجازية ، له كتاب : { نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب } ، وله كتب أخرى ، توفي سنة 1041 هـ .
... انظر : الأعلام للزركلي 1/237 .
(3) نفح الطيب 2/93 .
(4) المرجع السابق 4/202 .(1/29)
هذه هي أهم مظاهر الحياة العلمية والثقافية في الأندلس في عصر ابن عبدالبر - رحمه الله - وقد كان لها بلا شك أثر كبير على شخصيته العلمية وتكوينه الثقافي (1) .
المبحث السادس
طلبه للعلم رحمه الله
أولاً : نشأته العلمية :
اتضح لنا من خلال ما سبق أن ابن عبدالبر نشأ في أسرة علمية ، حيث كان جده وأبوه من العلماء ، وكذلك كانت نشأته في مدينة قرطبة التي كانت عاصمة الخلافة في بلاد الأندلس ، ومدينة العلم والحضارة .
ففي هذا الجو العلمي أقبل الحافظ ابن عبدالبر يرشف العلم ، ويعب من معارفه ، ويكرع من فنونه على كبار علماء قرطبة وجهابذتها من القاطنين فيها والوافدين عليها ، يأخذ عنهم كل ما تصل إليه يده ، وكل ما يلائم اتجاهه وميوله من العلوم والفنون ، وخاصة القراءات والحديث والفقه والأخبار والأنساب ، حتى نبغ فيها ، وأصبح من شيوخها البارزين ، الأمر الذي هيأه لاحتلال مكانة علمية عالية بالأندلس (2) .
وقد سمع ابن عبدالبر من كثير من علماء الأندلس ، وأخذ عنهم ، ودرس عليهم الفقه والنحو والحديث واللغة والتاريخ والأدب ، وقرأ عليهم الكثير من الكتب والمصنفات في شتى العلوم والفنون .
__________
(1) لمعرفة تفاصيل ماجاء في هذا المبحث يرجع إلى ما كتبه ليث سعود جاسم في كتابه ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ، فقد استفدت منه كثيراً في هذا المبحث ، وإلى ما كتبه أيضاً الدكتور صالح أحمد رضا في رسالته مدرسة الحديث في الأندلس وإمامها ابن عبدالبر ص 54 - 58 .
(2) انظر : كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه 1/151 .(1/30)
ولقد صبر ابن عبدالبر على طلب العلم ، ودأب في تحصيله ، ولم يكتف بالأخذ عن علماء الأندلس بل أخذ عن العلماء الوافدين إليها ، وكتب إليه من أهل المشرق جماعة من العلماء كما ذكر صاحب الصلة (1) .
واستمر - رحمه الله - في طلب العلم وجمعه بشتى الوسائل حتى بلغ فيه درجة عالية ومكانة رفيعة .
ثانياً : رحلاته :
الرحلة في طلب العلم - ولاسيما الحديث - عادة متبعة عند العلماء منذ عصر الصحابة والتابعين ، لما لها من فوائد عظيمة ، كارتياد مراكز العلم ، واللقاء بكبار الشيوخ والحفاظ والأخذ عنهم ، واستجازتهم والرواية عنهم ، والتثبت من الحديث ، وطلب السند العالي ، وغيرها من الفوائد التي قد لايتمكن المحدث من الحصول عليها في حالة عدم خروجه من بلده .
وقد اقتصرت رحلات ابن عبدالبر على شبه الجزيرة الأندلسية ، إذ أجمعت المصادر التي ترجمت له أنه لم يخرج من بلاد الأندلس ، ولكنه تنقل في أرجائها شرقاً وغرباً .
وكانت أغلب رحلاته التي قام بها بين مدن الأندلس اضطرارية ، وكان العامل السياسي هو السبب - غالباً - في عدم استقرار ابن عبدالبر في مكان واحد (2) .
وأمَّا تفصيل رحلاته في بلاد الأندلس فهو كالتالي (3) :
__________
(1) انظر : الصلة لابن بشكوال 2/640 - 641 ، وللتوسع في معرفة أسماء شيوخه والكتب التي سمعها منهم يُنظر كتاب سير أعلام النبلاء 18/154 ، 155 ، وكذلك كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه 1/152 - 157 ، وسيأتي - إن شاء الله - بيان أسماء شيوخه في مبحث مستقل .
(2) انظر : كتاب ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ لليث سعود جاسم ص 168 .
(3) انظر : كتاب مدرسة الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه لمحمد بن يعيش 1/158 - 160 ولمعرفة تفاصيل رحلاته ينظر إلى ما كتبه ليث سعود جاسم في كتابه السابق من ص 168 إلى ص 177 .(1/31)
لما حدثت الفتنة الكبرى في قرطبة ، واختل النظام والأمن ، رحل عنها فاراً بنفسه كما فرّ كثير من العلماء ، واتجه نحو غرب الأندلس فأقام بإشبيلية مدة ، ولكنه لم يجد فيها ما كان يؤمله حيث جفاه من كان يظن فيه الخير ، فرحل عنها ، وأنشد حين الرحيل :
وقائلة مالي أراك مرحلاً ... فقلت لها : صه واسمعي القول مجملا
تنكر من كنا نسر بقربه ... وعاد زعافاً بعدما كان سلسلا
وحق لجار لَمْ يوافقه جاره ... ولا لاءمته الدار أن يترحلا
إذا هان حرٌّ عند قومٍ أتاهم ... ولم ينأ عنه كان أعمى وأجهلا
ولم تُضرب الأمثال إلاَّ لعالم ... ولا عوتب الإنسان إلاَّ ليعقلا (1)
وبعد أن رحل عن إشبيلية ، ذهب إلى دانية ، حيث كان مجاهد ابن عبدالله العامري الذي كانت له عناية بالعلم والعلماء ، وخاصة القراءات ، والتقى هناك بأبي عمرو الداني المقريء وأخذ عنه .
وفي دانية أحسّ ابن عبدالبر بالسعادة ، وبادله أهلها حباً بحب ، وألّف عدة كتب في القراءات ، منها :
1 - البيان عن تلاوة القرآن .
2 - الاكتفاء في القراءات .
3 - التجويد ، والمدخل إلى علم القراءات بالتحديد .
4 - الإنصاف فيما في بسم الله الرحمن الرحيم من الخلاف (2) .
وبعد أن تغيّرت الأمور بدانية ، إذ مات مجاهد العامري ، وخلفه ابنه الذي لم يكن يعتني بالعلم كأبيه ، تحوّل إلى غرب الأندلس قاصداً بطليوس عاصمة الدولة الأفطسية ، فاستقبل فيها استقبالاً حاراً من طرف الأمير المظفر بن الأفطس ، فولاه القضاء على لشبونة ، وشنترين ، وهما من أكبر المدن بالأندلس .
__________
(1) في بعض كلمات هذه الأبيات اختلاف بين المصادر التي ذكرتها ، وقد نقلتها من كتابه بهجة المجالس 1/243 ، بتحقيق محمد مرسي الخولي ، حيث قال ابن عبدالبر : ( ولى حين رحلت من إشبيلية ... ) فذكر الأبيات المذكورة أعلاه .
(2) سيأتي - إن شاء الله - ذكر هذه الكتب وضبط أسمائها في مبحث مؤلفاته .(1/32)
وظل في غرب الأندلس ، يزاول التدريس والتحديث بجانب منصب القضاء ، إلى أن توفي المظفر بن الأفطس سنة ستين وأربعمائة هجرية .
ولما توفي المظفر بن الأفطس قفل ابن عبدالبر راجعاً إلى شرق الأندلس فسكن دانية ، وبلنسية ، وشاطبة ، حيث قضى ما بقي من عمره هناك متردداً بين دانية وبلنسية وشاطبة ، وفي هذه الأخيرة وافاه الأجل المحتوم .
وقد كانت هذه التنقلات عاملاً مهماً ومؤثراً في كثرة علمه بسبب اتصاله بالعلماء ، وكذلك ساهمت في كثرة تلاميذه وانتشار علمه .
وقد كان - رحمه الله - يرى أنه لابد من الاجتهاد في طلب العلم واستدامته ، والصبر فيه على اللأواء والنصب ، فقد عقد باباً في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) بعنوان ( باب : الحض على استدامة الطلب ، والصبر فيه على اللأواء والنصب ) ، وذكر فيه أحاديث وآثاراً تدل على هذا ، ثُمَّ قال في آخر هذا الباب : ( ويقال : إن قول علي بن أبي طالب : { قيمة كل امرئ مايحسن } لم يسبقه إليه أحد ، وقالوا : ليس كلمة أحض على العلم منها . قالوا : ولا كلمة أضر بالعلم وبالعلماء والمتعلمين من قول القائل : { ما ترك الأول للآخر شيئاً } .
قال أبو عمر : قول علي رضي الله عنه : { قيمة كل امرئ - أو قدر كل امرئ - ما يحسن } من الكلام العجيب الخطير ، وقد طار الناس به كل مطير ، ونظمه جماعة من الشعراء إعجاباً به وكلفاً بحسنه ) (1) .
ثُمَّ ذكر أثراً صحيحاً عن أيوب (2)
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر 1/416 ، 417 .
(2) هو : الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي تميمة كيسان العنزي مولاهم البصري المعروف بأيوب السختياني ، من صغار التابعين ، سئل أبو حاتم عنه فقال : ثقة لايسأل عن مثله . مات سنة 131 هـ بالبصرة .
... انظر : سير أعلام النبلاء 6/15 - 26 .(1/33)
قال : { إنك لاتعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره } (1) .
وقال قتادة (2) : لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى عليه السلام ولكنه قال : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى% أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } [ الكهف : 66 ] (3) ، فكان - رحمه الله - يعلم أن العلم لايُنال إلاَّ بالتعب والنصب ، وأنه لابد من استدامة الطلب ، والتنقل من بلد إلى بلد ، للوصول إلى أعلى الرتب ، وقد كان - رحمه الله - كذلك ولا عجب .
المبحث السابع
شيوخه و تلاميذه
أولاً : شيوخه :
( ولد ابن عبدالبر في قرطبة التي كانت موئل أهل الأندلس والمغرب في العلم والأدب والسياسة ، وترعرع في تلك المدينة التي زخرت بالعلماء ، فاستقر بها لايغادرها ولايفارقها ، فقد كان العلم مطمحة ، وقد حوت أجل علماء أهل الأندلس ، واستُودعت أهم الكتب والمصنفات العلمية ، فكفى هذا ابن عبدالبر عن التطواف والترحل ، ومكث ملازماً لأشياخه ينهل من علومهم ومعارفهم وما يتحلون به من الفضائل والمذاهب ، مثابراً على التردد على كثير من الشيوخ ، الذين تجاوزوا المئة عداً ) (4) ، حتى حصل على علم غزير ، فكان من الراسخين في العلم الذين وصلوا إلى درجة الاجتهاد والإمامة لكثرة شيوخه وإصراره على التفوق وبلوغ أعلى الرتب .
__________
(1) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله وإسناده صحيح كما قال ذلك محقق الكتاب 1/418 .
(2) هو : قتادة بن دعامة بن قتادة ، أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه ، حافظ العصر ، قدوة المفسرين والمحدثين ، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ ، وكان يرى القدر ، قال له سعيد بن المسيب : ما كنتُ أظن الله خلق مثلك . مات سنة 118 هـ .
... انظر : السير 5/269 - 283 .
(3) انظر : جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر 1/419 .
(4) من مقدمة محقق كتاب الاستذكار لابن عبدالبر 1/21 بتصرف يسير .(1/34)
وعلى الرغم من كون ابن عبدالبر لم يرحل إلى المشرق في طلب العلم - كعادة العلماء الأندلسيين - إلاَّ أنه قد عوّض هذا بالحرص على مقابلة من رحل إلى المشرق من العلماء ، والتلقي عنهم ليأخذ ما استمعوا إليه من علم ، وتلك ظاهرة واضحة تمام الوضوح تكفي نظرة عاجلة إلى كتاب جذوة المقتبس للحميدي لإثبات صحتها ؛ فقد ذكر الحميدي عدداً كبيراً من تراجم العلماء الذي رحلوا إلى المشرق .
والشاهد من ذلك أنه لاتكاد تخلو ترجمة منها من ذكر أن أبا عمر استمع إلى صاحبها ، وقرأ عليه كتاب كذا وكذا من المؤلفات المشرقية ، إضافة إلى أنه قد راسل علماء آخرين في بلدان كثيرة .
وفيما يلي ذكر أسماء أشهر شيوخه ، مع ترجمة موجزة لكل واحد منهم (1) :
__________
(1) بعد الرجوع إلى عدة مراجع ، وجدت أن الشيخ سليمان الغصن في كتابه : { عقيدة ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان } قد أحسن في اختيار شيوخ ابن عبدالبر مع الترجمة الموجزة لكل واحد منهم ، فاستفدت منه في اختيار أسماء الشيوخ . انظر : كتابه ص 30 - 36 .
... وللتوسع في معرفة شيوخ ابن عبدالبر يُرجع إلى ما كتبه كل من :
... 1 - ليث سعود جاسم في كتابه ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 127 - 139 .
... 2 - الأستاذ محمد بن يعيش في كتابه : مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر عبدالبر في الحديث والفقه ... 1/161 - 169 .
... 3 - الدكتور صالح أحمد رضا في رسالته : مدرسة الحديث في الأندلس وإمامها ابن عبدالبر - مطبوعة
... بالآلة الكاتبة - ص 253 - 265 .
... 4 - محمد مرسي الخولي في مقدمته لكتاب بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبدالبر 1/18 - 23 .
... 5 - عبدالمعطى أمين قلعجي في مقدمته لكتاب الاستذكار لابن عبدالبر 1/21 - 42 .(1/35)
1 - أحمد بن عبدالله بن محمد الباجي : يكنّى أبا عمر ، كان من أهل العلم ، متقدماً في الفهم ، عارفاً بالحديث ووجوهه ، وكان ذا سمت ووقار ، وكان واسع الثقافة رحل إلى المشرق لأداء الحج ، والتقى في تلك الرحلة بعلماء عصره ممن وافقه في رحلته تلك ، وفي طريق رجوعه مكث في مصر مدة ، وأخذ عن الحافظ عبدالغني بن سعيد (1) ، وكتب عنه ، وكان أضبط الناس لكتبه وأعلمهم بما فيها .
وقد وصفه ابن عبدالبر بقوله : ( كان أبو عمر الباجي إمام عصره ، وفقيه زمانه ، جمع الحديث والرأي والسمت الحسن والهدى والفضل ، ولم أرَ بقرطبة ولا بغيرها من كُورِ (2) الأندلس رجلاً يقاس به في علمه بأصول الدين وفروعه ، ... ) (3) .
وقد تتلمذ ابن عبدالبر على يديه ، وروى عنه كثيراً من المصنفات ، منها ما كان من تأليفه ومنها ما كان من تأليف غيره .
وقد توفي أبو عمر الباجي في قرطبة سنة 396 هـ (4) .
2 - أحمد بن عبدالملك بن هاشم الإشبيلي : المعروف بابن المكوى ، يكنى أبا عمر ، عالم الأندلس ، وشيخ المالكية ، وكبير المفتين بقرطبة ، كان حافظاً للفقه ، انتهت إليه معرفة المذهب وغوامضه ، مع الصلابة في الدين ، والبعد عن الهوى ، والإنصاف في النظر .
__________
(1) هو : عبدالغني بن سعيد بن علي ، أبو محمد الأزدي المصري ، الإمام الحافظ محدث الديار المصرية ، صاحب كتاب { المؤتلف والمختلف } روى عنه خلق كثير ، ومنهم أبو عمر بن عبدالبر - حيث روى عنه بالإجازة - توفي سنة 409 هـ .
... انظر : سير أعلام النبلاء 17/268 - 273 .
(2) كُور : جمع كُورَة - على وزن صُورة - وهي المدينة والصقع . مختار الصحاح مادة ( ك و ر ) .
(3) انظر : كلام ابن عبدالبر هذا في جذوة المقتبس للحميدي ص 120 .
(4) للتوسع في ترجمة أبي عمر الباجي . يُنظر : جذوة المقتبس ص 120 ، 121 ، ترتيب المدارك 4/684 وسير أعلام النبلاء 17/74 - 75 .(1/36)
صنّف هو والعلامة المُعَيطي (1) معاً كتاب { الاستيعاب } في المذهب في مائة جزء ، تفقه عليه ابن عبدالبر ، وأخذ عنه المدونة .
مات فجأة في جمادى الأولى سنة 401 هـ عن سبع وسبعين سنة (2) .
3 - أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد بن الحباب : أبو عمر المعروف بابن الجسور الأموي مولاهم ، من أهل قرطبة ، إمام ، محدث ، ثقة ، أديب ، كان خيِّراً صالحاً شاعراً ، عالي الإسناد ، واسع الرواية ، صدوقاً .
ذكر ابن عبدالبر أنه قرأ عليه { المدونة } وتفسير ابن عيينة ، والموطأ ، مات سنة 401 هـ ، وله نيّف وثمانون سنة (3) .
4 - أحمد بن محمد بن عبدالله بن أبي عيسى المعافري الأندلسي الطَّلَمَنْكي : أبو عمر الإمام المقرئ ، المحقق المحدث ، الحافظ الأثري ، كان من بحور العلم ، عجباً في حفظ علوم القرآن : قراءاته ولغته وإعرابه وأحكامه ومنسوخه ومعانيه ، صنّف كتباً كثيرة في السنة يظهر فيها فضله وحفظه وإمامته واتباعه للأثر .
حدّث بالأندلس وانتفع به كثير من الناس ، منهم ابن عبدالبر الذي أخذ عنه كثيراً من علمه وأخلاقه ، كما قرأ عليه القراءات ، وروى عنه الحديث .
__________
(1) هو : أبو بكر محمد بن عبدالله بن الوليد القرشي المعيطي ، الإمام الفقيه العالم المتفنن ، توفي سنة 367 هـ . انظر : تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/78 ، وترتيب المدارك 4/633 - 635 .
(2) للتوسع في ترجمته يُنظر : جذوة المقتبس ص 123 - 124 ، وترتيب المدارك 8/127 ، وسير أعلام النبلاء 17/206 - 207 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 17/148 ، 149 ، وللتوسع في ترجمته يُنظر جذوة المقتبس ص 99 - 100 والعبر في تاريخ من عبر للذهبي 3/75 ، وشذرات الذهب 3/161 .(1/37)
قال ابن بشكوال : كان سيفاً مجرداً على أهل الأهواء والبدع ، قامعاً لهم غيوراً على الشريعة ، توفي - رحمه الله - سنة 429 هـ بعد أن عاش تسعين عاماً سوى أشهر (1) .
5 - خلف بن قاسم بن سهل : أبو القاسم ابن الدبَّاغ الأزدي الأندلسي القرطبي ، الحافظ الإمام المتقن المجوّد ، ولد في قرطبة ودرس وتعلم على كثير من شيوخها وعلمائها الأجلاء ، ثُمَّ رحل إلى المشرق ، وسمع من علماء مكة ودمشق ومصر ، ووصل عدد شيوخه من المشارقة ستة وثلاثين وثلاثمائة شيخاً كما قال ابن عبدالبر .
ولما رجع إلى الأندلس ، حمل معه علماً كثيراً في صفحات ذاكرته ، وعلى صفحات الكتب ، فنصب نفسه للتدريس والتحديث ، فتهافت عليه الطلاب من كل حدب وصوب ، فروى عنه وسمع منه كثير من علماء الأندلس منهم أبو عمر ابن عبدالبر الذي أكثر عنه ، وكان لايقدم عليه أحداً من شيوخه ، وبالغ في وصفه فقال : ( أمَّا خلف بن القاسم بن سهل الحافظ فشيخ لنا ، وشيخ لشيوخنا أبي الوليد ابن الفرضي وغيره ، كتب بالمشرق عن نحو ثلاثمائة رجل ، وكان من أعلم الناس برجال الحديث ... وهو محدث الأندلس في وقته ) (2) .
وكان - رحمه الله - بالإضافة إلى علمه الغزير الجم من أهل الصلاح والتقوى والزهد والعفاف ، توفي هذا العالم الجليل سنة 393 هـ (3) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 17/566 - 569 ، وللتوسع ينظر جذوة المقتبس ص 106 ، والصلة لابن بشكوال 1/44 - 45 ، وترتيب المدارك 4/749 - 751 ، وطبقات المفسرين للداوودي 1/79 ، 80 .
(2) انظر : جذوة المقتبس للحميدي ص 197 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 17/113 - 114 . وانظر للتوسع : جذوة المقتبس ص 195 - 198 ، وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرض ص 136 - 138 ، وشذرات الذهب 3/144 .(1/38)
6 - عبدالرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس : أبو المطرِّف القرطبي المالكي ، الإمام العلامة الحافظ ، كان حافظاً ناقداً جهبذاً ، مجوداً محققاً ، بصيراً بالعلل والرجال ، مع قوته في الفقه وكان يملي من حفظه .
صنّف كتاب { القصص } وهو ثلاثة مجلدات ، وكتاب { أسباب النزول } في مائة جزء ، وكتاب { فضائل الصحابة } في مائة جزء ، وكتاب { فضائل التابعين } في سبعة مجلدات ، وكتاب { الناسخ والمنسوخ } ثلاثون جزءاً ، وغير ذلك من المؤلفات .
وكان قد ولي الوزارة للمظفر بن أبي عامر ، فلما أن ولي القضاء ترك زي الوزراء ، وكان عادلاً شديداً في الأحكام ، بحراً من بحور العلم ، عظيم الخطر .
حدّث عنه ابن عبدالبر ، كما ذكر ذلك الذهبي في السير .
عاش خمساً وخمسين سنة وتوفي سنة 402 هـ (1) .
7 - عبدالله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي : يُعرف بابن الفرضي ، ويُكنى أبا الوليد ، من أهل قرطبة ، روى فيها عن جماعة كثيرين ، ورحل إلى المشرق ، ثُمَّ رجع إلى قرطبة وقد جمع علماً كثيراً .
كان حافظاً متقناً عالماً ، ذا حظ وافر من الأدب ، ولم يُر مثله بقرطبة في سعة الرواية وحفظ الحديث ومعرفة الرجال .
وقد لزمه ابن عبدالبر وأخذ عنه علماً كثيراً من علم الرجال والحديث وقال عنه : ( كان فقيهاً عالماً في جميع فنون العلم في الحديث ، وعلم الرجال ، وله تواليف حسان ، وكان صاحبي ونظيري ، أخذت معه عن أكثر شيوخه ، وأدرك من الشيوخ ما لم أدركه أنا ... صحبته قديماً وحديثاً ، وكان حسن الصحبة والمعاشرة ، حسن اللقاء ، قتلته البربر في سنة الفتنة ، وبقي في داره ثلاثة أيام مقتولاً وحضرت جنازته ، عفا الله عنه ) ا هـ .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 17/210 - 212 ، وللتوسع في ترجمته يُنظر : الصلة لابن بشكوال 1/309 - 313 ، ترتيب المدارك 4/671 ، 672 .(1/39)
من مؤلفاته : { تاريخ علماء الأندلس } و { أخبار شعراء الأندلس } ، وكانت وفاته - رحمه الله - سنة 403 هـ (1) .
8 - عبدالوارث بن سفيان بن جبرون : الحافظ ، يعرب بالحبيب ، ويكنى أبا القاسم ، ولد بقرطبة سنة سبع عشرة وثلاثمائة هجرية ، ونشأ بها ، ودرس العلم والفقه على كبار المحدثين والفقهاء بها ، وعلى رأسهم أبو محمد قاسم بن أصبغ البياني (2) فقد سمع أكثر رواياته ، وكان من ألزم الناس به ، وأوثقهم في روايته .
أخذ عنه ابن عبدالبر كثيراً من رواياته ، فكُتُبُه قلما تخلو صفحة من صفحاتها من قوله : حدثنا عبدالوارث بن سفيان ، أو أخبرنا ، أو قرأت عليه ، وكان عبدالوارث فقيهاً ، ومحدثاً كبيراً ، ومن أهل الصلاح والعفاف .
توفي - رحمه الله - سنة 395 هـ (3) .
9 - يعيش بن سعيد بن محمد بن الوراق : أبو عثمان ، ويكنى أبا القاسم أيضاً ولد بقرطبة ، ونشأ بها ، وروى عن أشهر شيوخها من علماء الحديث ، وروى عنه كثير من أكابر علماء الأندلس ، منهم أبو عمر ابن عبدالبر ، حيث روى عنه في التمهيد والاستذكار وغيرهما من كتبه أحاديث كثيرة ، وهو من أهم شيوخه الذين تأثر بهم ، واقتفى منهجهم في الحديث .
__________
(1) انظر ترجمته في : جذوة المقتبس ص 237 - 239 ، وترتيب المدارك 8/127 - 128 ، والصلة 1/251 - 256 ، وسير أعلام النبلاء 17/177 - 180 .
(2) هو : قاسم بن أصبغ بن محمد البياني ، إمام من أئمة الحديث ، حافظ مكثر مصنف ، قال عنه ابن عبدالبر : ( كان شيخاً صدوقاً ماجداً حليماً طاهراً صحيح الكتاب ) سكن قرطبة ومات بها سنة 340 هـ .
... انظر ترجمته في تاريخ علماء الأندلس 1/364 - 367 ، وجذوة المقتبس ص 311 - 312 ، وترتيب المدارك 5/180 - 183 ، وشذرات الذهب 2/357 .
(3) تُنظر ترجمته في : جذوة المقتبس ص 276 - 277 ، وشذرات الذهب 3/145 - 146 ، وسير أعلام النبلاء 17/84 - 85 .(1/40)
توفي - رحمه الله - سنة 394 هـ (1) .
10 - يونس بن عبدالله بن محمد بن مغيث : المعروف بابن الصفار القرطبي ، يكنى أبا الوليد ، الإمام الفقيه المحدث ، شيخ الأندلس ، قاضي القضاة ، بقية الأعيان ، كان بليغ الموعظة ، وافر العلم ، ذا زهد وفضل وخشوع ، قد أثر البكاء في عينيه ، وعلى وجهه النور ، وكان حُفَظةً لأخيار الصالحين .
حدث عنه أبو عمر ابن عبدالبر كما ذكر ذلك الذهبي في السير .
توفي - رحمه الله - سنة 429 هـ (2) .
( هؤلاء هم من نستطيع أن نقول : إنهم شيوخ ابن عبدالبر الذين تلقى عنهم في مطلع حياته ، ولازمهم مدة طويلة حتى تأثر بهم في منهج تفكيره ، واكتسب منهم ثقافته العلمية ، والملاحظ أنهم جميعاً من رجال الحديث والفقه والتاريخ والقراءات ، وهي العلوم التي قامت عليها أساساً مؤلفات ابن عبدالبر ، وعليها انبنت شهرته ... .
والواقع أن حصر شيوخ ابن عبدالبر مِمَّا لايتيسر ، إذ هو كما يقول الحميدي : قديم السماع كثير الشيوخ ، ولعل في كثرتهم دليلاً كافياً على اجتهاد أبي عمر ودأبه في طلب العلم ، وعلى أنه من ناحية أخرى لم يستحق لقب حافظ الأندلس ، وغيره من ألقاب التشريف التي خلعها عليه المؤرخون عبثاً ، إذ إننا في الحقيقة لانرى مثله في الحرص على العلم والاستذكار منه في كل من ترجم لهم الحميدي من العلماء سوى عالم واحد هو ابن حزم (3) ، الذي يفخر هو نفسه بأنه عاصر أبا عمر ابن عبدالبر ) (4) .
ثانياً : تلاميذه :
__________
(1) تُنظر ترجمته في : جذوة المقتبس ص 364 ، وتاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي 2/199 .
(2) تُنظر ترجمته في : جذوة المقتبس ص 362 ، وترتيب المدارك 8/15 - 19 ، والصلة 2/646 - 647 وسير أعلام النبلاء 17/569 - 510 .
(3) سيأتي ذكره قريباً - إن شاء الله - في تلاميذ ابن عبدالبر .
(4) بتصرف واختصار من مقدمة محقق كتاب بهجة المجالس لابن عبدالبر 1/21 - 23 ، محمد مرسي الخولي .(1/41)
( لاشك أن ما اتصف به ابن عبدالبر من سعة الاطلاع ، وقوة الحفظ ، والهمة في التأليف ، فضلاً عن حيازته لمؤلفات شيوخه ، والمؤلفات التي رواها عن علماء الأندلس السابقين - جعله محط أنظار طلاب العلم في مختلف الأصقاع ، فأقبلوا يتتلمذون عليه ، أو يتبادلون معه الرواية إن كانوا من أقرانه وطبقته ) (1) .
وكان لطول عُمُرِ ابن عبدالبر ، بالإضافة إلى تنقلاته بين شرق الأندلس وغربها أثرٌ في زيادة عدد تلامذته والآخذين عنه .
ولذا ، فإن إحصاء عدد من تتلمذ على يديه ، وأخذ عنه العلم ، قد لايتيسر ؛ لأن هناك أعداداً كثيرة أخذوا عنه ، ولم تذكرهم كتب التراجم ؛ لأن كتب التراجم لاتذكر في الغالب إلاَّ مَن عرف بالعلم وتحصيله (2) .
وسوف أقتصر في هذا المبحث على ذكر بعض أشهر تلاميذه الذين أخذوا عنه مباشرة ، فمنهم :
1 - أحمد بن محمد بن رزق الأموي القرطبي : الإمام شيخ المالكية ، يكنى أبا جعفر ، كان من العلماء العاملين ، ديناً ، صالحاً ، حليماً ، خاشعاً ، يتوقد ذكاءً ، روى عن ابن عبدالبر وسمع منه ، توفي سنة 477 هـ (3) .
__________
(1) من كتاب ابن عبدالبر وجهوده في التاريخ ص 140 .
(2) قام ليث سعود جاسم بتتبع تلاميذ ابن عبدالبر من خلال كتب التراجم فتحصل لديه أكثر من تسعين تلميذاً ، فسرد أسماءهم حسب حروف المعجم مع ذكر تاريخ وفاتهم ومواطن تراجمهم في ملحق [4] من كتابه ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 508 - 519 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 18/563 - 564 .(1/42)
2 - حسين بن محمد بن أحمد الغساني الجيَّاني : يكنى أبا علي ، كان من جهابذة المحدثين ، وكبار العلماء المسندين ، لم يكن في عصره أضبط منه ، وكان العمدة في الحديث في الأندلس ، مع معرفته برجاله وصحيحه ، وسقيمه ، ولغته ، وإتقانه وضبطه ، وكان له بصر باللغة والإعراب ، ومعرفة بالغريب والشعر والأنساب ، وجمع في ذلك كله ما لم يجمعه أحد في وقته ، حتى رُحل إليه ، وعولوا في الرواية عليه .
وقد كانت صلة أبي علي الغساني بشيخه ابن عبدالبر وثيقة جداً ، فكان يؤم بيت ابن عبدالبر ليقرأ عليه ، ويسمع منه عن قرب ، وقد أكثر النقل عن شيخه ابن عبدالبر رواية وإجازة .
ولأبي علي الغساني مؤلفات قيّمة ، من أهمها كتاب : { تقييد المهمل وتمييز المشكل من الأسماء والكنى والأنساب مِمَّا ذكر في الصحيحين } ، وله كتب أخرى تدل على علمه وفضله .
توفي - رحمه الله - سنة 498 هـ (1) .
3 - سفيان بن العاصي بن أحمد بن العاصي بن سفيان الأسدي : يكنى أبا بحر ، الإمام المتقن النحوي ، نزيل قرطبة ، كان من جلة العلماء ، وكبار الأدباء ، ضابطاً لكتبه ، صدوقاً ، سمع الناس منه كثيراً .
روى عن ابن عبدالبر ، فسمع منه الموطأ ، وكتابه في الفرائض ، وبهجة المجالس .
توفي - رحمه الله - سنة 520 هـ (2) .
4 - طاهر بن مفوّز بن أحمد المعافري الشاطبي : يكنى أبا الحسن ، الإمام الحافظ الناقد المجوّد ، تلميذ أبي عمر ابن عبدالبر ، وخصيصه ، أكثر عنه وجوّد ، وكان فهماً ذكياً ، إماماً ، من أوعية العلم وفرسان الحديث ، وأهل الإتقان والتحرير ، مع الفضل والورع والتقوى والوقار والسمت .
__________
(1) تُنظر ترجمته في : الصلة 1/142 - 144 ، وترتيب المدارك 8/191 - 192 . وانظر ترجمة مفصلة له في كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه ، للأستاذ محمد بن يعيش 1/283 - 315 .
(2) انظر : الصلة 1/230 - 231 ، وسير أعلام النبلاء 19/515 - 516 .(1/43)
توفي - رحمه الله - سنة 484 هـ (1) .
5 - عبدالرحمن بن محمد بن عتاب بن محسن : من أهل قرطبة ، يكنى أبا محمد ، الشيخ العلامة ، المحدث الصدوق ، مسند الأندلس .
قال ابن بشكوال : ( هو آخر الشيوخ الجلة الأكابر بالأندلس في علو الإسناد وسعة الرواية ، سمع معظم ما عند أبيه ، وكان عارفاً بالطرق ، واقفاً على كثير من التفسير والغريب والمعاني ، مع حظ وافر من اللغة العربيَّة ... ، وكانت الرحلة إليه في وقته ، وكان صابراً للطلبة ، مواظباً على الإسماع ، يجلس لهم النهار كله ، وبين العشاءين ، جمع كتاباً حفيلاً في الزهد والرقائق سماه { شفاء الصدور } (2) .
كان ملازماً لابن عبدالبر ، وقد أجازه كل مروياته ومؤلفاته مِمَّا يدل على اعتزازه به ، توفي - رحمه الله - سنة 520 هـ (3) .
6 - علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل : ثُمَّ الأندلسي القرطبي ، يكنى أبا محمد ، ويعرف بابن حزم ، الإمام الأوحد ، البحر ، ذو الفنون والمعارف ، نشأ في تنعم ورفاهية ورُزق ذكاءً مفرطاً ، وذهناً سيّالاً ، وكتباً نفيسة كثيرة .
وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر ، وفي المنطق والفلسفة ومع ذلك فقد كان رأساً في علوم الإسلام ، متبحراً في النقل ، عديم النظر ، على يبسٍ فيه ، وفرط ظاهرية في الفروع لا الأصول .
قال أبو عبدالله الحميدي : كان ابن حزم حافظاً للحديث وفقهه ، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة ، متفنناً في علوم جمة ، عاملاً بعلمه ، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء ، وسرعة الحفظ ، وكرم النفس ، والتدين ، وكان له في الأدب والشعر نفسٌ واسع ، وباع طويل ، وما رأيت مَن يقول الشعر على البديهة أسرع منه . ا هـ .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 19/88 ، وانظر : الصلة 1/240 - 241 .
(2) الصلة لابن بشكوال 2/349 .
(3) انظر : الصلة لابن بشكوال 2/348 - 350 ، وسير أعلام النبلاء 19/514 - 515 .(1/44)
وكان في بداية أمره شافعياً ، ثُمَّ انتقل إلى القول بالظاهر ونفى القول بالقياس ، ومن أشهر كتبه : { المحلى } و { الإحكام لأصول الأحكام } و { الفصل في الملل والأهواء والنحل } ، وله كتب أخرى كثيرة .
وكانت العلاقة بين ابن حزم وابن عبدالبر علاقة صداقة وتلمذة ، فقد تلقى ابن حزم عن ابن عبدالبر علم الحديث ، وصاحبه في الأخذ عن شيوخه كذلك أمثال : ابن الفرضي وابن الجسور ، وقد روى عن ابن عبدالبر في مواضع عدة من كتبه بلفظ السماع مرة ، وبلفظ الإجازة مرة أخرى ، وكان ابن حزم يذكر عبدالبر في رسائله ، ويضفي عليه صفة الإمامة والاجتهاد (1) .
كانت ولادة ابن حزم سنة 384 هـ ، وتوفي سنة 456 هـ (2) .
7 - محمد بن أبي نصر فتوح بن عبدالله الأزدي الحميدي : يُكنى أبا عبدالله ، رحل إلى المشرق وسمع في بلدان كثيرة ، وكان موصوفاً بالنباهة والمعرفة والإتقان ، والدين والورع .
__________
(1) انظر : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ لليث سعود جاسم ص 148 - 149 .
(2) انظر : ترجمته في جذوة المقتبس ص 290 ، 291 ، والصلة 2/415 - 417 ، وتذكرة الحفاظ 3/1146 - 1155 . وانظر ترجمة قيمة نفيسة له في سير أعلام النبلاء 18/184 - 212 .(1/45)
وكان - رحمه الله - عالماً فقيهاً ، ومحدثاً حافظاً إماماً متقدماً في الحفظ والإتقان ، عارفاً بعلل الحديث ورواته ، حريصاً على نشر العلم ، فصيح العبارة ، متبحراً في علم الأدب والعربيَّة ، وله كتب كثيرة تشهد لجلالة قدرة وعظيم علمه ، منها كتابه المشهور { الجمع بين الصحيحين } وكتاب { جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس وأسماء رواة الحديث وأهل الفقه والأدب وذوي النباهة والشعر } (1) .
وكان ابن عبدالبر قد أجازه بأغلب مروياته ومؤلفاته ومسموعاته في مختلف العلوم ، توفي - رحمه الله - سنة 488 هـ ببغداد (2) .
8 - موسى بن عبدالرحمن بن خلف بن موسى بن أبي تليد الشاطبي : يُكنى أبا عمران ، مكثر عن أبي عمر ابن عبدالبر ، حيث روى عنه كثيراً ، ورحل إليه الناس لسماع كتب ابن عبدالبر ورواياته .
وكان فقيهاً ، أديباً شاعراً ، ديناً فاضلاً ، توفي سنة 517 هـ (3) .
__________
(1) ألف هذا الكتاب في بغداد ، وذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه ، افتتحه بمقدمة تاريخية ضافية عن ولاة الأندلس منذ الفتح الإسلامي لها ، ثُمَّ أورد ما يحضره من أسماء رواة الحديث بالأندلس ، وأهل الفقه والأدب ، وذوي النباهة والشعر ، ومن له ذكر منهم ، أو ممن دخل إليهم أو خرج عنهم من أهل الفضل والعلم مُرَتِّباً ذلك كله على حروف المعجم .
... وقد ذيّل عليه أحمد بن يحيى الضبي ( ت 599 هـ ) وسماه : بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس .
(2) تُنظر ترجمته في : الصلة 2/560 ، 561 ، وسير أعلام النبلاء 19/120 ، 127 ، وانظر ترجمة موسعة له ، مع بيان صلته بابن عبدالبر في كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه ، للأستاذ محمد بن يعيش 1/255 - 280 .
(3) انظر ترجمته في : الصلة 2/610 - 611 ، وسير أعلام النبلاء 19/516 - 517 .(1/46)
9 - يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن عديس الأنصاري : يُكنى أبا الحجاج أخذ عن ابن عبدالبر كثيراً ، وسمع بطليطلة ، وسكنها مدة ، وتفقه بها ، وكان من أهل العلم والمعرفة والفهم ، حافظاً ذكياً متفنناً ، وله كلام على معاني الحديث .
توفي سنة 505 هـ (1) .
هؤلاء هم أشهر تلاميذ ابن عبدالبر ، الذين التقوا به ، وأخذوا عنه مباشرة ، وله تلاميذ كثيرون غيرهم ، من الصعب حصرهم وإحصاؤهم وخاصة في الحديث ، فقد كان - رحمه الله - إمام مدرسة الأندلس في الحديث .
كما أن هناك كثيراً من العلماء تأثروا بابن عبدالبر واستفادوا من كتبه ومروياته ، وإن لم يلقوه ويأخذوا عنه مباشرة ، فهم في الحقيقة يعتبرون من تلاميذه (2) .
* * *
المبحث الثامن
مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
( لقد قضى الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو عمر ابن عبدالبر حياته الطويلة في طلب العلم ونشره وتعليمه ، حتى وصل الذروَة في العلوم الدينية والدراسات الإسلاميَّة وخاصة الحديث وعلومه ، والفقه وأصوله ، والقراءات ورواياتها ، والتاريخ والأنساب والآداب ، ساعده على ذلك صبره وتحمله ، وحبُّه للعلم والدين ، كما ساعده طول عمره الذي وصل إلى ما يقارب خمسة وتسعين عاماً ، قضاها كلها في خدمة الحديث وفقهه ونشره كتابةً وتدريساً بين أبناء المسلمين .
__________
(1) انظر ترجمته في : الصلة 2/681 - 682 ، وبغية الملتمس ص 491 .
(2) انظر : كتاب { مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه وآثارها في تدعيم المذهب المالكي بالمغرب } للأستاذ محمد بن يعيش 1/170 - 172 ، ورسالة { مدرسة الحديث في الأندلس وإمامها ابن عبدالبر } رسالة دكتوراه للشيخ صالح أحمد رضا ، وكتاب { عقيدة الإمام ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان } للشيخ سليمان الغصن ص 37 - 42 .(1/47)
ففي الحديث يعتبر الحافظ ابن عبدالبر من المحدثين الكبار الذين وصلوا إلى مرتبة أئمة الحديث جمعاً وتحقيقاً ونقداً واستنباطاً .
كما يعتبر من واضعي القواعد في علوم الحديث ومصطلحاته ، ومن المؤسسين لمدرسة الحديث المغربية في القرن الخامس الهجري ، حتى غدا المحدثون وعلماء الجرح والتعديل في المغرب والمشرق عالة عليه وعلى كتبه ، إذ قلما تجد كتاباً في علوم الحديث وشرحه وفقهه خالياً من آراء ابن عبدالبر وأقواله ، والناظر في كلام العلماء الحفاظ المجتهدين كابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن حجر والسيوطي والشوكاني وغيرهم ، يجد أنهم قد أكثروا من ذكر أقواله وآرائه ، والاستشهاد بها معترفين بفضله وإمامته .
وفي الفقه أتى بالعجب العجيب ، حيث استنبط من القرآن والحديث فقهاً قل من يصل إليه ، ودعا إلى الاجتهاد ونبذ التقليد ، وكان قد بلغ رتبة المجتهدين ، مع اطلاع واسع على أقوال العلماء واختلافات الفقهاء في مختلف الأمصار .
وفي التاريخ والأنساب ومعرفة الرجال احتل منزلة عالية ، فكان مَن بعده يستفيدون من كتبه في ذلك ، بل ويعولون عليها في كثير من الأحيان ) (1) .
وكان - رحمه الله - في العقيدة على مذهب السلف ، ملتزماً بالكتاب والسنة ، معرضاً عن الطرق الكلامية ، والتأويلات الباطلة ، قال الذهبي : ( وكان في أصول الديانة على مذهب السلف ، لم يدخل في علم الكلام ، بل قفا آثار مشايخه - رحمهم الله - ) (2) .
__________
(1) بتصرف واختصار من كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه 1/186 - 187 .
(2) سير أعلام النبلاء 18/161 ، وانظر لمعرفة عقيدة ابن عبدالبر كتاب عقيدة ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان للشيخ سليمان الغصن ص 65 ومابعدها ، ومقدمة كتاب الإنصاف فيما في قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } في الفاتحة من الاختلاف ، للمحقق عبداللطيف المغربي ص 53 - 56 .(1/48)
وبالإضافة إلى ذلك كان - رحمه الله - عالماً بالقراءات ، له مؤلفات فيها ، وله اطلاع واسع على أقوال العلماء في التفسير ، يشهد لذلك ويدل عليه أقواله الكثيرة في تفسير كثير من الآيات المبثوثة في كتبه المختلفة .
وبالجملة فابن عبدالبر له مكانة علمية عالية في كثير من العلوم الإسلاميَّة حتى إنه يعتبر إماماً في أكثرها ، وكأنه متخصص فيها .
ومع ذلك كله ، كان - رحمه الله - لانشغاله بالعلم - منصرفاً عن الدنيا وملذاتها متصفاً بمحاسن الأخلاق ، محترماً للعلم غير مستهين به ولا مفرطٍ في كرامته من أجل الوصول إلى حظوظ الدنيا عن طريق العلم الذي يراد به وجه الله والدار الآخرة .
وقد عرف العلماء قديماً وحديثاً قدر هذا العالم الكبير ، وأثنوا عليه الثناء الذي يليق به ، ومن أقوالهم في الثناء ما يلي :
قال عنه تلميذه الحميدي : ( أبو عمر فقيه حافظ ، مكثر ، عالم بالقراءات وبالخلاف في الفقه ، وبعلوم الحديث والرجال ، قديم السماع كثير الشيوخ ) (1) .
وقال عنه شيخ المالكية أبو الوليد الباجي (2) : ( لم يكن في الأندلس مثل أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث ) (3) ، وقال أيضاً : ( أبو عمر أحفظ أهل المغرب )(4) .
ووصفه الحافظ المؤرخ ابن بشكوال بقوله : ( ابن عبدالبر إمامُ عصره ، وواحد دهره ) (4) .
__________
(1) جذوة المقتبس ص 344 .
(2) هو : أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الأندلسي القرطبي الباجي ، الإمام العلامة الحافظ ، ذو الفنون ، القاضي ، صاحب التصانيف ، برز في الحديث والفقه والكلام والأصول والأدب ، ولد سنة 403 هـ ومات سنة 474 هـ .
... انظر : سير أعلام النبلاء 18/535 - 545 .
(3) الصلة ص 641 ، وسير أعلام النبلاء 18/535 - 545 .
(4) الصلة ص 640 .(1/49)
وقال فيه القاضي عياض (1) : ( ... الحافظ ، شيخ علماء الأندلس ، وكبير محدثيها في وقته ، وأحفظ من كان فيها لسنة مشهورة ، وكان سنده مما يتنافس فيه ) (2) .
وقد مدحه وأثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية (3) وقال إنه : ( من أعلم الناس بالآثار والتمييز بين صحيحها وسقيمها ) (4) .
__________
(1) هو : القاضي عياض بن موسى بن عياض ، أبو الفضل ، اليحصبي ، السبتي ، الحافظ العلامة ، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة مثل { الشفا بتعريف حقوق المصطفى } و { ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك } وكتاب { الإكمال في شرح مسلم } ، ولد سنة 476 هـ ، ومات سنة 544 هـ .
... انظر : طبقات علماء الحديث للإمام أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عبدالهادي الدمشقي الصالحي 4/78 - 81 ، وسير أعلام النبلاء 20/212 - 218 .
(2) ترتيب المدارك 8/128 - 129 .
(3) هو : أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام الحرّاني ، أبو العباس ، المعروف بابن تيمية ، الإمام الرباني ، إمام الأئمة ، ومفتي الأمة ، وبحر العلوم ، وسيد الحفاظ ، وفارس المعاني والألفاظ ، فريد العصر ، شيخ الإسلام ، انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل والزهد والورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والجلالة والمهابة ، كان - رحمه الله - سيفاً مسلولاً على المخالفين ، وشجاً في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين ، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين . قال فيه الحافظ المزي : ( ما رأيت مثله ، ولا رأى هو مثل نفسه ، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه ) ، صاحب تصانيف كثيرة لم يسبق إليها ، وغالب من جاء بعده عالة عليها ، ولد سنة 661 هـ ، ومات سنة 728 هـ .
... انظر ترجمته مفصلة له بعنوان : العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، لابن عبدالهادي وانظر : طبقات علماء الحديث له أيضاً 4/279 - 296 .
(4) درء تعارض العقل والنقل 7/157 .(1/50)
كما وصفه بأنه : ( إمام أهل المغرب ) (1) .
ووصفه ابن القيم (2) - رحمه الله - بأنه : ( إمام السنة في زمانه ) (3) .
وقال عنه الذهبي - رحمه الله - : ( الإمام العلامة ، حافظ المغرب ، شيخ الإسلام أبو عمر ... صاحب التصانيف الفائقة ... كان إماماً ديناً ، ثقة ، متقناً علامة ، متبحراً ، صاحب سنة واتباع ، وكان أولاً أثريًّا ظاهرياً فيما قيل ، ثُمَّ تحوّل مالكياً مع ميل بين إلى فقه الشافعي في مسائل ، ولايُنكر له ذلك ، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين (4) ، ومَن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم ، وقوة الفهم ، وسيلان الذهن ) (5) .
وقال عنه أيضاً في كتاب آخر : ( ... أحد الأعلام ، وصاحب التصانيف ... وليس لأهل المغرب أحفظ منه ، مع الثقة والدين والنزاهة ، والتبحر في الفقه والعربيَّة والأخبار ) (6) .
__________
(1) المرجع السابق 5/86 - 87 .
(2) هو : محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، أبو عبدالله ، المعروف بابن قيم الجوزية ، الإمام المحقق الحافظ الأصولي النحوي صاحب الذهن الوقاد والقلم السيال والتصانيف الكثيرة المانعة ، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية ولازمه ملازمة تامة فتأثر به واستفاد من علمه الغزير ، ولد سنة 691 هـ ومات سنة 751 هـ .
... انظر ترجمته في : ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/447 ، 452 ، وقد ترجم له العلامة بكر أبو زيد ترجمة موسعة في كتابه التقريب لفقه ابن قيم الجوزية ، القسم الأول من ص 17 إلى ص 252 .
(3) اجتماع الجيوش الإسلاميَّة لابن القيم ص 76 .
(4) لمعرفة مذهبه الفقهي يُمكن الرجوع إلى ما كتبه عبداللطيف المغربي في مقدمة كتاب الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } من الاختلاف لابن عبدالبر ص 43 - 46 .
(5) سير أعلام النبلاء 18/153 ، 157 ، 158 .
(6) العبر في تاريخ من غبر 2/316 .(1/51)
وأكتفي بهذه الأقوال ، ففيها كفاية في بيان فضله وعلمه ومكانته - رحمه الله - .
* * *
المبحث التاسع
مؤلفاته وآثاره رحمه الله
أثرى الحافظ ابن عبدالبر المكتبة الإسلاميَّة بالعديد من المصنفات النافعة الحافلة في شتى أنواع العلوم والفنون ، وقد نوّه العلماء بكتبه ، ورفعوا من شأنها .
قال ابن بشكوال : ( كان موفقاً في التأليف معاناً عليه ، ونفع الله بتآليفه ) (1) .
وقال الذهبي : ( ومَن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن ) (2) .
وقال ابن كثير (3) وهو يعرف بابن عبدالبر : ( صاحب التصانيف المليحة الهائلة ) (4) .
وفي هذا المبحث أذكر - إن شاء الله - أسماء الكتب التي ألفها ابن عبدالبر مرتبةً حسب موضوعاتها ، مع تعريف موجز بأشهرها ، وبيان المطبوع منها والمخطوط والمفقود (5) ، وبالله التوفيق .
أولاً : مؤلفاته في القراءات وعلوم القرآن :
__________
(1) الصلة 2/679 .
(2) سير أعلام النبلاء 18/157 .
(3) هو : إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي ، أبو الفداء ، الإمام الحافظ الحجة المحدث المؤرخ ، صاحب التصانيف الرائعة المشهورة ومنها : { تفسير القرآن العظيم } الذي يعد من أشهر كتب التفسير إن لم يكن أشهرها و { البداية والنهاية } وغيرها ، تأثر بشيخه ابن تيمية واستفاد منه كثيراً ، ولد سنة 701 هـ ، وتوفي سنة 774 هـ .
... انظر : طبقات المفسرين للداوودي 1/111 .
(4) البداية والنهاية لابن كثير 12/111 .
(5) اعتمدتُ في هذا المبحث على ما كتبه كل من :
... 1 - عبداللطيف بن محمد الجيلاني المغربي في مقدمته لكتاب الإنصاف لابن عبدالبر ص 63 - 72 .
... 2 - ليث سعود جاسم في كتابه ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 199 - 234 .
... وممن توسع في ذكر مصنفات ابن عبدالبر الدكتور عبدالمعطي القلعجي في مقدمته لكتاب الاستذكار
... لابن عبدالبر 1/43 - 72 .(1/52)
1 - البيان عن تلاوة القرآن : منه نسخة خطية (1) .
2 - التجويد والمدخل إلى علم القرآن بالتحديد .
3 - الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو بن العلاء بتوجيه ما اختلفا فيه .
4 - المدخل في القراءات .
5 - اختصار أحكام القرآن لإسماعيل القاضي .
وكل هذه المؤلفات في حكم المفقود (2) .
ثانياً : مؤلفاته في الحديث والفقه :
1 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد :
وهو أشهر مؤلفات ابن عبدالبر وأجودها ، وبه اشتهر ، وقد شرح فيه أحاديث موطأ الإمام مالك ، ورتبها على أسماء شيوخ مالك حسب حروف المعجم (3) ، فيورد اسم الشيخ الذي روى عنه مالك وعدد الأحاديث التي رواها عنه ، ثُمَّ يشرع في شرحها ، ولايذكر من الأحاديث إلاَّ ما ورد متصلاً أو منقطعاً أو موقوفاً أو مرسلاً ، فلايذكر ما في الموطأ من أقوال مالك وغيره .
واعتمد فيه رواية يحيى بن يحيى الليثي (4) ( ت 233 هـ ) ، وقام بوصل كل مقطوع وكل مرسل جاء مسنداً من غير رواية يحيى .
__________
(1) منه نسخة خطية بـ ( يعقوب سركيس ) بغداد 11 [2] ، كما في الفهرس الشامل للتراث - علوم قرآن 1/101 .
(2) انظر : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ لليث سعود جاسم ص 203 .
(3) رتبهم حسب ترتيب حروف المعجم المغربي وهو كالتالي : أ - ب - ت - ث - ج - ح - خ - د - ذ - ر - ز - ط - ظ - ك - ل - م - ، - ص - ض - ع - غ - ف - ق - س - ش - هـ - و - ي .
(4) هو : يحيى بن يحيى بن كثير الليثي ، أبو محمد ، رحل إلى المشرق ، وسمع من مالك وغيره ، وكان من أكابر أصحابه ، وكان مالك بسميه عاقل الأندلس ، وإليه انتهت رئاسة الفقه في الأندلس ، توفي سنة 234 هـ .
... انظر ترجمته في : تاريخ علماء الأندلس 2/179 - 181 ، والانتقاء لابن عبدالبر ص 105 - 109 .(1/53)
وطريقته في التمهيد عندما يشرح الحديث هي أن يقدم له بترجمة موجزة لرجال السند الذين روى عنهم مالك ، ثُمَّ يورد أقوال العلماء في ذكر معنى الحديث ، ويفسر الألفاظ الغريبة مستنداً إلى أقوال أهل اللغة مستشهداً بالشواهد من الشعر العربي ، كما يقوم باستنباط الأحكام الفقهية ، مع عناية بإيراد أقوال العلماء على اختلاف مذاهبهم (1) .
وقد أمضى ابن عبدالبر ثلاثين عاماً في تأليف هذا الكتاب ، ويبدو أنه ابتدأ تأليفه مبكراً لكثرة ما يحيل عليه في كتبه الأخرى .
وبلغ من اعتزاز ابن عبدالبر بالتمهيد أنه نظم فيه أبياتاً من الشعر ، فقال :
سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة ... (وصاقل) (2) ذهني والمفرج عن همي
بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... لما في معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآداب ما يهتدي به ... إلى البر والتقوى وينهى عن الظلم (3)
والكتاب مطبوع متداول (4) .
2 - الاستذكار لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار :
شرح فيه الموطأ على نسق ترتيب مالك له ، وتناول فيه بالشرح الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين ، مع إيراد أقوال مالك التي بنى عليها مذهبه ، وعمل أهل المدينة (5) .
والكتاب مطبوع أيضاً (6) .
3 - التقصي لحديث الموطأ وشيوخ مالك ، أو تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد :
__________
(1) انظر : مقدمة كتاب التمهيد .
(2) في بعض المصادر ( وصيقل ) .
(3) انظر : التمهيد 24/448 ، وانظر : السير 18/163 .
(4) طبع بكامله في ستة وعشرين مجلداً مع الفهارس تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة بالمغرب .
(5) انظر : المقارنة بينه وبين التمهيد في مقدمة محققه عبدالمعطي قلعجي 1/118 - 127 .
(6) طبع كاملاً في ثلاثين مجلداً مع الفهارس بتحقيق الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي .(1/54)
وهو عبارة عن مدخل مختصر لكتاب التمهيد ، حذف فيه ابن عبدالبر أقوال العلماء ومذاهبهم مقتصراً على ما ورد من الحديث في الموطأ فقط ؛ ولذلك سمى بتجريد التمهيد .
وقد ألحق ابن عبدالبر في آخره باباً فيه ما لم يرد في رواية يحيى بن يحيى من حديث مالك .
والكتاب مطبوع (1) .
4 - الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة في كتاب البخاري :
وقد أشار إلى هذا الكتاب في كتابه التمهيد (2) ، كما أنه يحيل إليه أحياناً في كتاب الاستذكار ، وهذا الكتاب عبارة عن أجوبة على أسئلة وجهها إليه أحد الطلبة ، تدور حول عدد من الأحاديث في صحيح البخاري التي استغلقت على ذلك الطالب معانيها ولم يتضح له شرحها (3) .
والكتاب مخطوط (4) .
5 - اختلاف أقوال مالك وأصحابه : مخطوط (5) .
6 - الإشراف على ما في أصول الفرائض من الاختلاف : وهو في حكم المفقود (6) .
7 - الكافي في فقه أهل المدينة : اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه ، وهو من كتب ابن عبدالبر الجليلة في فروع المذهب المالكي .
والكتاب مطبوع متداول (7) .
8 - الشواهد في إثبات خبر الواحد .
__________
(1) انظر كتاب : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 209 - 211 .
(2) التمهيد 18/115 .
(3) انظر : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 213 - 214 .
(4) توجد من الكتاب نسخة خطية بتركيا تقع في 53 ورقة ، ومنها صورة في قسم المخطوطات بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة النبوية برقم 5092 ( ف ) . مقدمة الإنصاف ص 67 .
(5) منه نسخة محفوظة بالخزانة العامة بالرباط ، وتوجد صورة منها بقسم المخطوطات بالجامعة الإسلاميَّة برقم 923 ، ولكنها ناقصة . الإنصاف - مقدمة المحقق ص 68 .
(6) انظر : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 221 .
(7) طبع الكتاب بتحقيق محمد محمد أحيد ماديك الموريتاني عام 1398 هـ في مجلدين ، كما أنه مطبوع بدون تحقيق .(1/55)
9 - الاستظهار في طرق حديث عمّار : أحال عليه في كتابه الاستيعاب (1) .
10 - اختصار كتاب التمييز للإمام مسلم .
11 - أحكام المنافقين .
12 - عوالي ابن عبدالبر في الحديث : وهذه الكتب الخمسة في حكم المفقود (2) .
13 - الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } في فاتحة الكتاب من الاختلاف : مطبوع (3) .
14 - الرد على مَن عابه بأكل طعام السلاطين وقبول جوائزهم : ذكر في نفح الطيب مقتطفات منه (4) ، وهو في حكم المفقود (5) .
15 - اختصار كتاب التمييز للإمام مسلم .
16 - اختصار غريب الحديث لعبدالملك بن حبيب .
17 - وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل .
18 - منظومة في السنة .
19 - مسند ابن عبدالبر : وهذه الخمسة الأخيرة في حكم المفقود (6) .
ثالثاً : مؤلفاته في السيرة والتاريخ والتراجم والأنساب :
1 - الدرر في اختصار المغازي والسير : مطبوع (7) .
__________
(1) الاستيعاب 3/230 والمراد بحديث عمار حديث : { تقتلك الفئة الباغية } وهو في صحيح مسلم برقم 2916 .
(2) انظر : ابن عبدالبر وجهوده في التاريخ لليث سعود جاسم ص 214 ، ومقدمة كتاب الإنصاف ص 68 .
(3) طبع طبعة محققة صدرت حديثاً بتحقيق ودراسة عبداللطيف بن محمد الجيلاني المغربي عن دار أضواء السلف عام 1417 هـ .
(4) انظر : نفح الطيب 3/239 .
(5) انظر : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ لليث سعود الجاسم ص 222 ذكره بعنوان جوائز السلطان .
(6) المرجع السابق ص 214 ، 215 ، ومقدمة كتاب الإنصاف ص 68 ، 69 .
(7) نشره المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميَّة بمصر ، بتحقيق د / شوقي ضيف سنة 1386 هـ ، كما أنه مطبوع بدون تحقيق .(1/56)
2 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ذكر فيه أسماء المذكورين في الروايات والسير والمصنفات من الصحابة - رضي الله عنهم - وعرّف بهم ، وذكر أحوالهم ومنازلهم وعيون أخبارهم ، وقد رتبهم على حروف المعجم ، وهو كتاب جليل حافل ، وقد طبع أكثر من طبعة (1) .
3 - الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء : يشتمل على ذكر فضائل وأخبار مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وهو مطبوع (2) .
4 - الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى : مطبوع (3) .
5 - الإنباه على قبائل الرواة : مطبوع (4) .
6 - القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم : مطبوع(6) .
7 - ترجمة الإمام مالك بن أنس : مخطوط (5) .
8 - التعريف بجماعة فقهاء المالكية : وهو موجود ضمن كتاب الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ، فكأن ابن عبدالبر رأى إلحاقه به بعد أن كان مفرداً .
وأمَّا الكتب التي في حكم المفقود في هذا الفن فمنها :
9 - أخبار أئمة الأمصار .
10 - أخبار القاضي منذر بن سعيد البلوطي ( ت 355 هـ ) .
11 - أخبار القضاة .
12 - أعلام النبوة .
13 - فضائل علي .
14 - الذب عن عكرمة ( عكرمة مولى ابن عباس ) .
15 - محن العلماء .
16 - المغازي (6) .
__________
(1) منها طبعة بتحقيق علي محمد البجاوي عن دار نهضة مصر عام 1380 هـ .
(2) طبع أخيراً بتحقيق عبدالفتاح أبو غدة ، عن مكتب المطبوعات الإسلاميَّة بحلب سنة 1417 هـ .
(3) طبع في ثلاثة مجلدات عام 1405 هـ بتحقيق عبدالله مرحول السوالمة .
(4) طبعا بتحقيق إبراهيم الأبياري سنة 1985 م .
(5) ذكر ليث سعود جاسم في كتابه : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 225 أن من هذا الكتاب صورة في اليونسكو .
(6) انظر ذكر هذه الكتب في كتاب : { ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ } لليث سعود جاسم ص 225 - 227 ، فقد ذكرها وذكر المواضع التي ذكرت فيها أو أحالت عليها .(1/57)
رابعاً : مؤلفاته في الأدب والأخلاق والرقائق :
1 - جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله : وهذا الكتاب من الكتب المهمة في بابه ، وينبغي لكل طالب علم مطالعته لما اشتمل عليه من الأبواب والمباحث المهمة .
والكتاب مطبوع متداول (1) .
2 - بهجة المَجَالس وأُنس المُجَالس وشحذ الذاهن والهاجس : ألف ابن عبدالبر هذا الكتاب للمظفر بن الأفطس ، جمعَ فيه أشياء مستحسنة تصلح للمذاكرة والمحاضرة ، وهو مطبوع محقق (2) .
3 - الجامع : وهو رسالة صغيرة في الأخلاق الإسلاميَّة والآداب الشرعية ألحقها بكتابه الكافي في فقه المدينة ، وقد طبع في رسالة صغيرة مستقلة (3) .
4 - أبو العتاهية ، أشعاره وأخباره : جمع فيه ابن عبدالبر أخبار أبي العتاهية وأشعاره التي تضمنت حكماً وأمثالاً ، والكتاب مطبوع (4) .
5 - البستان في اختصار كتاب الإخوان لابن الأعرابي : وهو في حكم المفقود (5) .
6 - نزهة المستمعين وروضة الخائفين : مخطوط(3) .
7 - العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم عن الحكماء والعلماء : وهو في حكم المفقود(3) .
8 - الرقائق : وهو كتاب في الأخلاق والزهد ، وهو أيضاً في حكم المفقود(3) .
خامساً : مؤلفات في علوم أخرى :
1 - أصول الفقه (6) .
__________
(1) طبع عدة طبعات ، أجودها وأكثرها تحقيقاً الطبعة التي صدرت بتحقيق أبي الأشبال الزهيري في مجلدين كبار عن دار ابن الجوزي سنة 1414 هـ .
(2) طبع بتحقيق محمد مرسي الخولي سنة 1967 م في ثلاثة مجلدات .
(3) صدرت عام 1414 هـ بتحقيق إبراهيم الحازمي عن دار الشريف للنشر والتوزيع .
(4) طبع بتحقيق شكري فيصل بدمشق سنة 1384 هـ .
(5) انظر كتاب : ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ ص 233 ، وانظر كذلك مقدمة كتاب الإنصاف لابن عبدالبر للمحقق عبداللطيف المغربي ص 71 - 72 .
(6) ذكره في كتابه الاستذكار 6/253 .(1/58)
2 - الإنصاف في أسماء الله (1) .
* * *
المبحث العاشر
وفاته رحمه الله
تذكر معظم المصادر التي ترجمت لابن عبدالبر أنه توفي يوم الجمعة سلخ (2) ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة من الهجرة بمدينة شاطبة في شرق الأندلس ، ودفن عصر ذلك اليوم ، وصلى عليه تلميذه أبو الحسن طاهر بن مفوز المعافري ، وذلك بعد استكماله خمساً وتسعين سنة وخمسة أيام (3) .
وتوفي في هذه السنة حافظ المشرق أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي ، وبذلك ردد الناس : مات حافظ المشرق وحافظ المغرب في سنة واحدة (4) .
فرحم الله الحافظ ابن عبدالبر رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
* * *
منهج ابن عبد البر في علوم القرآن
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث :
المبحث الأول : مسلك ابن عبدالبر في دراسة موضوعات علوم القرآن
المبحث الثاني : الطريقة التي سار عليها ابن عبد البر في دراسة موضوعات علوم القرآن
المبحث الثالث : الأصول والقواعد والضوابط التي اعتمد عليها ابن عبدالبر وانطلق منها في كتابه موضوعات علوم القرآن
تمهيد :
لعل من المناسب والمفيد أن أعرف بمفردات هذا العنوان قبل الخوض في تفصيلاته وذلك بتعريف كل من المنهج ، وعلوم القرآن .
أولاً : تعريف المنهج :
__________
(1) نسبه إليه الذهبي في سير أعلام النبلاء 18/159 .
(2) سَلْخُ الشهر أي منسلخه ، وهو آخر يوم فيه . انظر : لسان العرب لابن منظور 6/324 .
(3) انظر : الصلة 2/679 ، وسير أعلام النبلاء 18/159 .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 18/159 .(1/59)
المنهج في اللغة : الطريق ، قال ابن فارس (1) - رحمه الله - : ( النهج : الطريق ، ونَهَجَ ليَ الأمرَ : أوضحه ، وهو مستقيم المنهاج .
والمنهج : الطريق أيضاً ، والجمع مناهج ) (2) ا هـ .
وقال الراغب (3) في مفردات ألفاظ القرآن : ( النهج : الطريق الواضح ، ونهجَ الأمرُ وأنهج : وضح ، ومنهج الطريق ومنهاجُهُ ، قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" } [ المائدة : 48 ] ) (4) .
وعلى هذا فالنهج والمنهج والمنهاج : الطريق الواضح والمذهب حسياً ومعنوياً ، والمنهاج في الآية السابقة : المذهب أو الطريقة أو الدين فهو معنوي (5) .
__________
(1) هو : الإمام العلاّمة ، اللغوي المحدث ، أبو الحسين ، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني ، المعروف بالرازي ، المالكي اللغوي ، صاحب كتاب { المُجْمَل } و { معجم مقاييس اللغة } ، كان رأساً في الأدب ، مناظراً متكلماً على طريقة أهل الحق ، ومذهبه في النحو مذهب الكوفيّين ، مات بالريّ سنة 395 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 17/103 - 106 .
(2) معجم مقاييس اللغة 5/361 .
(3) هو : العلاّمة الماهر ، المحقق الباهر ، المشهور بالراغب الأصفهاني ( أو الأصبهاني ) مختلف في اسمه ، قال في السير : أبو القاسم ، الحسين بن محمد بن المفضل الأصبهاني . وذكره صاحب طبقات المفسرين فيمن اسمه المفضل ، فقال : المفضل بن محمد الأصبهاني ، أبو القاسم الراغب . كان من الحكماء العلماء ، توفي سنة 502 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 18/120 - 121 ، وطبقات المفسرين للداودي 2/329 ، والأعلام للزركلي 2/255 .
(4) مفردات ألفاظ القرآن ص 825 .
(5) انظر : القاموس القويم للقرآن الكريم للأستاذ إبراهيم عبدالفتاح 2/289 .(1/60)
والمراد بالمنهج هنا - في هذا الفصل - : المسلكُ الذي يسلكه المؤلف أو الباحث في تناول الموضوعات التي يدرسها ، والطريقةُ التي سار عليها في كتابةِ ودراسة هذه الموضوعات ، والقواعد والأصول والضوابط التي يعتمد عليها وينطلق منها في كتابته .
ثانياً : تعريف علوم القرآن :
علوم القرآن مركب إضافي ، يتضح معناه ببيان معنى جزأيه ، وهما : { علوم } و { قرآن } .
فـ { علوم } جمع { علم } ، والعلم في اللغة : مصدر بمعنى الفهم والمعرفة ، يُقال : ( عَلِمتُ الشيء أعلمه علماً عرفته ) (1) ، والعلم ضد الجهل .
وأمَّا في الاصطلاح ؛ فقد اختلفت في تعريفه عبارات العلماء باختلاف الاعتبارات .
فعلماء الشريعة يعرفونه بتعريف ، وعلماء الكلام يعرفونه بتعريف آخر ، وله عند الفلاسفة والحكماء تعريف ثالث (2) .
وليس شيء من تعريفات هؤلاء بمراد هنا ، وإنَّما المراد : العلم في اصطلاح أهل التدوين ، فهم يطلقونه على مجموعة مسائل وأصول كلية تجمعها جهة واحدة ، كعلم الكلام ، وعلم النحو ، وعلم التفسير ، وعلم الفقه ، وعلم الطب ... ، وهكذا ، وجمعه علوم ، فعلوم العربيَّة : العلوم المتعلقة باللغة العربيَّة ، كالنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والشعر والخطابة وغيرها (3) ، هذا ما يتعلق بلفظ { علوم } .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 9/371 .
(2) انظر : كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم للدكتور محمد محمد أبو شهبة ص 18 .
(3) انظر : مذكرة علوم القرآن لطلاب الدراسات العليا بقسم القرآن وعلومه كلية أصول الدين في الرياض للشيخ مناع القطان - مخطوطة مصورة - ص 3 .(1/61)
أمَّا لفظ { القرآن } فقد اختلفوا فيه ، فقيل : إنه اسم غير مشتق ، وقيل : إنه مشتق ، والقائلون باشتقاقه اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَن قال : إنه مهموز مشتق من { قَرَأ } ومنهم مَن قال : إنه غير مهموز مشتق من القَرْى ، أو مِن { قَرَنَ } على خلافٍ بينهم (1) .
ولعل أرجح الأقوال وأقواها في معنى القرآن في اللغة : أنه مصدر مشتق مهموز من قرأ يقرأ قراءةً وقرآناً ، فهو مصدر من قول القائل : قرأت ، كالغُفْران من { غَفَر الله لك } ، والكُفْرَان من { كَفَرْتُك } ، والفُرْقان من { فَرَّقَ الله بين الحق والباطل } (2) .
وأمَّا تعريف القرآن في الاصطلاح فهو : كلام الله تعالى المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المتعبدُ بتلاوته (3) .
وأمَّا { علوم القرآن } كمركب إضافي ، فله معنيان :
أحدهما : لغوي يُفهم من هذا التركيب الإضافي بين { علوم } و { القرآن } وهو أنها العلوم والمعارف المتصلة بالقرآن الكريم ، سواء كانت خادمةً للقرآن بمسائلها أو أحكامها أو مفرداتها ، أو أن القرآن دلّ على مسائلها ، أو أرشد إلى أحكامها .
__________
(1) انظر تفصيل هذه الأقوال في : المرجع السابق ص 4 - 7 ، وكتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم للدكتور محمد أبو شهبة ص 18 - 20 ، وكتاب لمحات في علوم القرآن للدكتور محمد لطفي الصباغ = =
= = ص 37 - 39 ، وكتاب دراسات في علوم القرآن للدكتور فهد الرومي ص 18 - 20 ، وكتاب القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد عمر بازمول 1/23 - 25 .
(2) انظر : تفسير الطبري 1/94 ، 95 ، تحقيق : أحمد شاكر ، وانظر : القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1/2 ، وانظر : كتاب علوم القرآن للدكتور نور الدين عتر ص 10 .
(3) انظر : كتاب دراسات في علوم القرآن الكريم للدكتور فهد الرومي ص 21 ، وهناك تعريفات كثيرة للقرآن ، ولكن هذا - في نظري - أوضحها وأيسرها وأكثرها اختصاراً .(1/62)
فالمعنى اللغوي لعلوم القرآن يشمل كل علم خدم القرآن ، أو أُخذ من القرآن ، كعلم التفسير وعلم التجويد وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم الفقه وعلم التوحيد وعلم الفرائض وعلم اللغة ، وغير ذلك .
والثاني : اصطلاحي خاص بعلم مدون ؛ ويُعرّف { علوم القرآن } عَلَماً على علم مدون بأنه : عِلْمٌ يضم أبحاثاً كلية هامة ، تتصل بالقرآن العظيم من نواحٍ شتى ، يُمكن اعتبار كل منها علماً متميزاً (1) .
فهذا ما يتعلق بتعريف علوم القرآن .
وبناءً على ما سبق من تعريف كل من المنهج ، وعلوم القرآن ؛ يتضح لنا أن منهج ابن عبدالبر في علوم القرآن يراد به : بيان المسلك الذي سلكه في دراسة موضوعات علوم القرآن ومباحثه الكلية ، وإيضاح الطريقة التي سار عليها في دراسة هذه الموضوعات ، واستخراج القواعد والأصول والضوابط التي اعتمد عليها وانطلق منها في كتابة هذه الموضوعات والمباحث الكلية المتعددة .
وحيث إن ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - لم يؤلف كتاباً مستقلاً في علوم القرآن (2) وإنَّما تكلم عن بعض موضوعاته في مؤلفاتٍ أخرى - كالتمهيد والاستذكار - فإن الكتابة في منهجه في علوم القرآن فيها شيء من الصعوبة ؛ لعدم وجود معالم بارزة يُمكن من خلالها استقراء منهجه والتحدث عنه والكتابة فيه .
__________
(1) هذا التعريف يعتبر أجود تعريف لعلوم القرآن من بين التعاريف الأخرى التي ذكرها العلماء . انظر : مقدمة محقق فنون الأفنان لابن الجوزي الدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 71 ، وكتاب مناهل العرفان للزرقاني دراسة وتقويم لخالد بن عثمان السبت 1/17 - 19 .
(2) باستثناء بعض كتبه التي ذكر العلماء أنه ألفها في موضوعات لها صلة بعلوم القرآن - كما سيأتي بيان ذلك عند ذكر جهوده في علوم القرآن - وهذه الكتب مفقودة لا وجود لها حسب علمي .(1/63)
والغالب أن الباحث لايستيطع الكتابة في منهج مؤلف أو عالم بالطريقة الصحيحة وعلى الوجه المطلوب - إلاَّ إذا كان هناك مؤلف مستقل مخصص في الفن الذي يريد بيان منهجه فيه .
وهذا الأمر غير موجود في هذا البحث ؛ فأنا في هذا الفصل أريد الكتابة في منهج عالم متبحر موسوعي في فن لم أطّلع له فيه على كتاب مستقل .
ولهذا فقد اعتمدت في كتابة هذا الفصل على استقراء ما جمعته له من معلومات متعلقة بموضوعات علوم القرآن ، فنظرت فيها وتأملتها ، وقمت بدراستها ، ثُمَّ حاولت استخراج بعض المعالم البارزة التي يُمكن أن يستفاد منها في معرفة منهجه ، ثُمَّ الكتابة فيه .
وقد يكون في بعض الأمور التي سأشير إليها وأتحدث عنها - إن شاء الله - في هذا الفصل - شيء من عدم الترابط ، وشيء من العمومية أحياناً بحيث تكون شاملة لعلوم القرآن وغيره من العلوم .
وعذري في ذلك أن صاحب البحث أصلاً عنده شيء من هذه الأشياء ، فتناوله لموضوعات علوم القرآن فيه نوع من عدم الترابط ، كما أن فيه عمومية من حيث إنه تكلم عنها من خلال موضوعات أخرى متعلقة بفنون مختلفة من العلم .
وانطلاقاً من التعريف السابق لمعنى منهج ابن عبد البر في علوم القرآن - وهو : بيان المسلك الذي سلكه في دراسة موضوعات علوم القرآن ومباحثه الكلية ، وإيضاح الطريقة التي سار عليها في دراسة هذه الموضوعات ، واستخراج القواعد والأصول والضوابط التي اعتمد عليها وانطلق منها في كتابة هذه الموضوعات والمباحث الكلية المتعددة - فإن الدراسة لمنهجه في هذا الفصل ستكون من المباحث التالية :
المبحث الأول : مسلك ابن عبدالبر في دراسة موضوعات علوم القرآن .
المبحث الثاني : الطريقة التي سار عليها في دراسة موضوعات علوم القرآن .
المبحث الثالث : الأصول والقواعد والضوابط التي اعتمد عليها وانطلق منها في
... ... ... كتابة موضوعات علوم القرآن .
* * *
المبحث الأول
مسلك ابن عبدالبر في دراسة
موضوعات علوم القرآن(1/64)
لابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - في دراسة موضوعات علوم القرآن والمباحث المتعلقة به مسلكان :
المسلك الأول : دراسة بعض هذه الموضوعات دراسة مستقلة في تأليف خاص بها .
وقد سلك هذا المسلك في الموضوعات التالية :
[1] - كيفية تلاوة القرآن وآدابها :
فقد ألف في هذا الموضوع كتاباً مستقلاً بعنوان : البيان عن تلاوة القرآن . استوعب فيه القول والآثار في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيّن معنى الهذّ والترتيل والحدر ، وأي ذلك أفضل ، وفصَّل فيه القول في قراءة القرآن بالألحان ، ومَن كره ذلك ومَن أجازه ، وذكر فيه ما روى في صوت داود عليه السلام .
[2] - القراءات وتوجيهها :
فقد ألّف كتابين لهما صلة بموضوع القراءات وتوجيهها ، وهما :
أ ) - كتاب { الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء ، بتوجيه ما اختلفا فيه ، والحجة لكل منهما } وموضوع هذا الكتاب واضحٌ من عنوانه .
ب) - { المدخل في القراءات } ، ولعله - كما يظهر من عنوانه - يتكلم عن بعض الأصول المهمة التي لابُدّ من معرفتها لمن أراد معرفة القراءات ودراستها .
[3] - التجويد :
حيث ألّف كتاباً بعنوان : { التجويد والمدخل إلى علم القرآن بالتحديد } ويبدو أنه ألّفه لبيان مسائل متعلقة بتجويد القرآن يحتاج إليها مـ، أراد حفظ القرآن وتلاوته - والله أعلم - .
وجميع هذه المؤلفات مفقودة أو في حكم المفقودة كما سيأتي بيان ذلك - إن شاء الله - عند الكلام عن جهوده في علوم القرآن في القسم الثاني من هذا البحث .
المسلك الثاني : دراسة بعض موضوعات علوم القرآن في مؤلفات وكتب ليست خاصة بعلوم القرآن ، وإنَّما ألفها في علوم أخرى ، كعلم الحديث ، وعلم الفقه ، وعلم الآداب ، وغيرها من الفنون والعلوم .(1/65)
وأكثر موضوعات علوم القرآن التي تناولها ابن عبدالبر بالدراسة جاء ذكرها في كتابيه المشهورين : التمهيد ، والاستذكار ، وهذان الكتابان يعتبران من كتب شروح الحديث - كما سبق بيانه في الفصل الأول عند ذكر مصنفاته - .
وأشار إلى بعض الموضوعات والمسائل المتعلقة بعلوم القرآن في كتاب جامع بيان العلم وفضله ، وكتاب الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ، وكتاب الدرر في اختصار المغازي والسير .
ويُمكن حصر الموضوعات التي درسها في هذه الكتب وبيان المواضع التي ذكرت فيها في الفقرات التالية :
أولاً : موضوع الوحي ونزول القرآن :
تطرّق ابن عبد البر لموضوع الوحي وأنواعه وكيفية نزوله في المواضع التالية :
1 - التمهيد (22/112 - 115) ، (1/284) ، (23/240 ، 241) ، (9/78) (24/27) .
2 - الاستذكار (4/10) ، (8/62 - 66) ، (27/120) .
3 - كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير ص 7 - 10 .
وأمَّا موضوع نزول القرآن فقد تكلم ابن عبد البر عن أحد المباحث المتعلقة به ، وهو كيفية نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك في المواضع التالية :
1 - التمهيد (17/46 - 51) ، (6/191) ، (3/266) .
2 - الاستذكار (7/201 - 202) .
ثانياً : موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف :
تكلم عن هذا الموضوع ، وذكر أقوال العلماء في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف بالتفصيل مع المناقشة والتحليل ، بالإضافة إلى مسائل أخرى لها صلة بهذا الموضوع في :
1 - التمهيد (8/272 - 301) .
2 - الاستذكار (8/27 - 48) .
ثالثاً : موضوع النسخ في القرآن الكريم :
تعرّض ابن عبد البر لبعض المسائل المهمة المتعلقة بموضوع النسخ في القرآن ، في المواضع التالية :
1 - التمهيد (17/47 ، 48) ، (3/215) ، (4/273 - 277) ، (9/77) ، (14/391 ، 392 ، 396) ، (17/276) ، (8/384) ، (1/307) ، (12/278) .
2 - الاستذكار (7/203) ، (1/367) ، (17/176) ، (23/12 ، 13) ، (16/271) ، (24/15 ، 16) .(1/66)
3 - جامع بيان العلم وفضله (1/767) ، (2/1194 ، 1195) .
رابعاً : موضوع الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم :
تكلم ابن عبدالبر عن هذا الموضوع في المواضع التالية :
1 - التمهيد : (5/11 - 16) ، (7/131 ، 145) ، (11/115) ، (18/345) .
2 - الاستذكار : (1/349 - 353) ، (1/345) ، (14/217 ، 221) ، (26/34 ، 254) .
خامساً : موضوع المحكم والمتشابه في القرآن الكريم :
تطرق ابن عبدالبر إلى تعريف المحكم والمتشابه ، وإلى بعض المسائل المتعلقة بهما في المواضع التالية :
1 - التمهيد : (1/147) ، (19/231 ، 232) .
2 - الاستذكار : (16/15) ، (18/158) ، (24/12 ، 13) .
سادساً : موضوع آداب القرآن :
مسائل هذا الموضوع متعددة ، وقد تكلم ابن عبد البر عن كثير منها ، وأشار إلى بعضها ، وذلك في المواضع التالية :
1 - التمهيد : (6/222 ، 223) ، (14/131 - 136) ، (15/253 - 256) (21/112 ، 113) ، (13/206 ، 207) ، (17/396 - 400) .
2 - الاستذكار : (14/50) ، (16/81) ، (8/9 - 26 ، 55 - 59) .
3 - جامع بيان العلم وفضله : (2/928 ، 929) ، (1/57 ، 58) ، (2/1129 ، 1130 ) .
سابعاً : موضوع سجدات القرآن :
تكلم ابن عبد البر عن هذا الموضوع ، وفصّل القول في مسائله ، وذكر أقوال العلماء فيها في المواضع التالية :
1 - التمهيد : (19/118 - 134) .
2 - الاستذكار : (8/92 - 112) .
3 - الكافي في فقه أهل المدينة : ص 37، 76 ، 77 .
ثامناً : موضوع فضائل القرآن :
ذكر - رحمه الله - ماجاء في فضل بعض سور القرآن ، وبيّن رأيه في مسألة تفضيل بعض القرآن على بعض ، في المواضع التالية :
1 - التمهيد : (7/252 - 263) ، (20/217 - 221) .
2 - الاستذكار : (8/113 - 125) .
فهذه هي الموضوعات التي وَجَدْتُ لابن عبدالبر كلاماً متعلقاً بها ، وكانت تلك مواضعها التي تعرض لدراستها والكلام عنها فيها - والله المستعان - .
* * *
المبحث الثاني
الطريقة التي سار عليها ابن عبدالبر(1/67)
في دراسة موضوعات علوم القرآن
من الصعب تحديد طريقة موحدة يُمكن اعتبارها الطريقة التي سار عليها ابن عبدالبر في دراسته لموضوعات علوم القرآن ؛ وذلك لأن تناوله لموضوعات علوم القرآن بالدراسة يختلف من موضوع لآخر ، فكل موضوع - في الغالب - له طريقة تخصه .
وبما أن غالب الموضوعات التي تناولها ابن عبد البر بالدراسة جاءت في كتابي التمهيد والاستذكار وهما كتابان حديثيان ، تناول ابن عبدالبر فيهما أحاديث موطأ الإمام مالك بالشرح على طريقة المحدثين - فقد بدت هذه الطريقة واضحةً في تناوله للعديد من موضوعات علوم القرآن بالدراسة ، فهو يتناول أكثر الموضوعات بالدراسة على طريقة المحدثين الجامعة بين دراسة الأسانيد والروايات وبين ذكر ما يستفاد من هذه الأحاديث ، وما يؤخذ منها من الأحكام والفوائد ، مع ذكر أقوال العلماء واختلافاتهم بشيء من التفصيل .
ويُمكن تقسيم موضوعات علوم القرآن التي تناولها ابن عبدالبر بالدراسة إلى قسمين - حتى نستطيع وضع خطوط بارزة لمعرفة الطريقة التي سار عليها ابن عبد البر في تناوله لهذه الموضوعات بالدراسة :
القسم الأول : موضوعات وردت في شأنها أحاديث أو آثار خاصة بها .
وبتعبير آخر : أن ترد أحاديث أو آثار في موضوع من موضوعات علوم القرآن ، كحديث نزول القرآن على سبعة أحرف مثلاً (1) ، وحديث الحارث بن هشام ، عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي ؟ الحديث ... (2) وغير ذلك .
فهذا القسم ، تكون طريقة دراسة ابن عبدالبر له كالتالي :
1 - يذكر الحديث كاملاً بإسناده .
__________
(1) سيأتي - إن شاء الله - في موضوع : نزول القرآن على سبعة أحرف .
(2) سيأتي - إن شاء الله - في الموضوع الأول من موضوعات الدراسة وهو الوحي ونزول القرآن .(1/68)
2 - يتكلم عن إسناده ومتنه ، ويذكر طرقه ورواياته ، ويذكره معه ما يدل عليه ويشهد له ويعضده ويقويه من أحاديث أخرى ، وآثار عن الصحابة والتابعين ، وأقوال الأئمة المجتهدين .
وهو في هذا إمام كبير ، وحافظ قدير ، وناقد بصير ، يجمع ويوفق بين ما ظاهره الاختلاف والتعارض ، ويرجح الرواية الثابتة التي اتفق عليها الحفاظ المحدثون ، ويوهن الضعيف ويرده ، ويبيّن حال الرواة مستأنساً بأقوال أئمة الجرح والتعديل .
ولا غرابة في هذا ، فهذا ميدانه الذي برع فيه وظهر ، وهذا تخصصه الذي فيه اشتهر ، فهو من كبار المحدثين ، وإمام أهل المغرب في الحديث وعلومه .
3 - يشرح ألفاظ الحديث ، ويبيّن معنى ما يحتاج إلى بيان ، مع ذكر الشواهد على ذلك من كلام العرب وأشعارهم .
4 - يذكر ما يدل عليه الحديث ، وما يستنبط منه من أحكام ، وما يستفاد منه من فوائد .
5 - إذا كان في الحديث مسائل وقع فيها الاختلاف ، فإنه يذكر ذلك مبتدئاً بذكر اختلاف أصحاب مالك - رحمة الله عليه وعليهم - في هذه المسألة ، ثُمَّ يستعرض أقوال بقية فقهاء الأمصار ، وعلماء الأقطار في المسألة المختلف فيها ، ثُمَّ يقارن ، ويناقش أدلة وحجج كل فريق ، وينبه على الضعيف والشاذّ منها ناقداً ، ومرجحاً ، ومستشهداً بأحاديث أخرى ، وبما عليه العمل (1) .
ثُمَّ يذكر في الغالب القول الذي يرجّحه ويميل إليه ، وقد لايذكر ذلك مكتفياً بما يفهم من مناقشته وعرضه لأقوال العلماء واختلافاتهم .
وطريقة ابن عبد البر في حكاية الخلاف هي أحسن الطرق وأفضلها في حكاية الخلاف ، ( فأحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام ، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل ، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع فيما لا فائدة تحته ، فيُشتغل به عن الأهم .
__________
(1) انظر : مقدمة محقق كتاب الاستذكار الدكتور عبدالمعطي قلعجي 1/89 ، 90 .(1/69)
فأمَّا من يحكي خلافاً في مسألة ، ولايستوعب أقوال الناس فيها ، فهو ناقص ، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه ، أو يحكي الخلاف ، ويطلقه ولاينبه على الصحيح من الأقوال ، فهو ناقص أيضاً . فإن صحّحَ غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب ، أو جاهلاً ، فقد أخطأ .
كذلك مَن نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته ، أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ، ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى ! فقد ضيّع الزمان ، وتكثر بما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور ، والله الموفق للصواب ) (1) .
فهذه طريقة دراسة ابن عبدالبر لموضوعات علوم القرآن التي وردت وثبتت فيها أحاديث أو آثار خاصة بها .
والقسم الثاني : موضوعات وردت أحاديث أو آثار تدل عليها أو تشير إليها .
وبتعبير آخر : أن يرد حديث في موضوعٍ ما ، ويرد في هذا الحديث ما يكون فيه دلالة على موضوع من موضوعات علوم القرآن ، أو إشارة إلى مسألة من المسائل المتعلقة بموضوعات علوم القرآن .
فهذا القسم ليس لابن عبدالبر طريقةٌ ثابتة في تناوله لموضوعاته ، وإنَّما يشير إليها عند ذكره للفوائد المستنبطة والمأخوذة من هذا الحديث .
ومثال ذلك : حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها أملت مولاها أبا يونس : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وصلاة العصر - وقوموا لله قانتين } ثُمَّ قالت : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
فبعد أن أورد ابن عبدالبر هذا الحديث ، بدأ بذكر الفوائد التي تؤخذ منه ، ومنها قوله : ( وفيه ما يدل على مذهب من قال : إن القرآن نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم ، ومن قال بهذا يقول : إن النسخ على ثلاثة أوجه في القرآن ... ) (3) إلخ ، ثُمَّ استطرد في بيان هذه المسألة ، ثُمَّ عاد إلى ذكر فوائد أخرى يدل عليها هذا الحديث .
__________
(1) من مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 92 ، 93 .
(2) سيأتي ذكره وتخريجه - إن شاء الله - في موضوع النسخ .
(3) انظر : التمهيد 4/273 - 277 .(1/70)
وقد تكون المسألة المتعلقة بعلوم القرآن جزئية فيذكرها ولايطيل في تفصيلها .
ومثال ذلك : حديث نزول سورة الفتح على النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يسير في بعض أسفاره ... إلخ (1) ، ذكره في التمهيد ، والاستذكار واستنبط منه فوائد كثيرة ، ومنها قوله في التمهيد : ( وفيه أن نزول القرآن كان حيث شاء الله من حضر وسفر ، وليل ، ونهار ) (2) ا هـ .
وفي الاستذكار ، قال : ( وفي إدخال مالكٍ - رحمه الله - هذا الحديث في باب ماجاء في القرآن دليلٌ على أنه أراد التعريف بأن القرآن كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم على قدر الحاجة وما يعرض له مع أصحابه ، وقد أخبر الله تعالى أنه لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة ) (3) ا هـ .
هذا ما يُمكن أن يذكر في إيضاح طريقة ابن عبدالبر في دراسة موضوعات علوم القرآن ، وهي - كما تبيّن لنا - تشبه طريقة المحدثين - عندما يقومون بشرح أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حد كبير ، كما أن فيها الشيء الكثير من الشبه بطريقة المؤلفين في الفقه المقارن ، عندما يذكرون أقوال العلماء والفقهاء في مسألةٍ ما ، ويذكرون أدلة كل قول ، ويناقشون ويرجحون بناءً على ما يدل عليه الدليل ، وما يتناسب مع القواعد العلمية الأصولية التي يسيرون عليها في النظر في الأدلة والأقوال .
وسيأتي في المبحث التالي - إن شاء الله - ذكر بعض القواعد العلمية ، والأصول والضوابط الشرعيّة التي اعتمد عليها ابن عبدالبر وانطلق منها في دراسته لجميع الموضوعات التي تناولها ، ومن بينها موضوعات علوم القرآن ، والله المستعان .
* * *
المبحث الثالث
الأصول والقواعد والضوابط التي اعتمد عليها
ابن عبد البر وانطلق منها في كتابة موضوعات علوم القرآن
__________
(1) سيأتي ذكره - إن شاء الله - بتمامه وتخريجه في موضوع فضائل القرآن .
(2) التمهيد 3/266 .
(3) الاستذكار 8/78 .(1/71)
من المفيد قبل البداية في هذا المبحث أن أوضح المقصود بكل من { الأصول } و { القواعد } و { الضوابط } .
أمَّا الأصول فهي جمع أصل ، والأصل في اللغة : الأساس ، وما يُبنى عليه ، وذلك نحو قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ ا؟للَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ا؟لسَّمَآءِ = 24 } [ إبراهيم : 24 ] (1) .
وأمَّا في الاصطلاح ، فله عدة معان أشهرها الدليل ، فالأصل في الاصطلاح يطلق غالباً على الدليل ، كقولهم : ( أصل هذه المسألة الكتاب والسنة ) أي دليلها (2) .
وهذا الاصطلاح هو المراد بالأصول هنا في هذا المبحث ، فمرادي بالأصول هنا : الأصول التي جعلها ابن عبد البر أساساً وأصلاً للعلم ، وهي الكتاب والسنة والإجماع - كما سيأتي بيانه - .
وأمَّا القواعد ، فجمع قاعدة ، والقاعدة في اللغة : أساس الشيء ، سواء كان هذا الشيء حسياً ، كقواعد البيت ، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَ !هِيـ-ُ ا؟لْقَوَاعِدَ مِنَ ا؟لْبَيْتِ وَإِسْمَـ!ـــعِيلُ } [ البقرة : 127] ، أو معنوياً ، كقولنا : قواعد الدين ، أي دعائمه التي يقوم عليها (3) .
وتعرف القاعدة في الاصطلاح بأنها قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها (4) .
__________
(1) انظر : التأسيس في أصول الفقه على ضوء الكتاب والسنة ، تأليف : أبي إسلام مصطفى بن محمد بن سلامة ص 13 . وانظر : معجم مقاييس اللغة لابن فارس 1/109 .
(2) انظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة ، تأليف : محمد بن حسين الجيزاني ص 22 .
(3) انظر : كتاب عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 3/383 ، ومختار الصحاح للرازي ص 479 مادة ( ف ع د ) ، وانظر : كتاب القواعد الفقهية ، تأليف : علي أحمد الندوي ص 39 .
(4) التعريفات للجرجاني ص 185 .(1/72)
وهي بهذا الاصطلاح بمعنى الضابط عند النحاة ، فهم يعرفون الضابط بأنه : الحكم المنطبق على جميع جزئياته ، كقولهم : الفاعل مرفوع ، والمفعول به منصوب .
وأمَّا الفقهاء فالقاعدة في اصطلاحهم : حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته ، وذلك كقولهم : ( الأمور بمقاصدها ) ، ( اليقين لايزول بالشك ) وغير ذلك (1) .
ويفرقون بينها وبين الضابط : بأن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى ، والضابط يجمعها من باب واحد .
ومنهم من ذهب إلى عدم التفريق بين القاعدة والضابط ، وقالوا : القاعدة في الاصطلاح بمعنى الضابط ، وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته (2) .
وعلى كلٍّ ، فالخلاف يسير والأمر في ذلك واسع ، ولا مشاحة في الاصطلاح .
وبناءً على ما سبق فسوف يكون الكلام في هذا المبحث في مطلبين :
الأول : الأصول التي اعتمد عليها ابن عبد البر في كتابة ودراسة موضوعات علوم القرآن .
والثاني : القواعد والضوابط التي قررها ، وانطلق منها في كتابة هذه الموضوعات .
* * *
المطلب الأول
الأصول التي اعتمد عليها ابن عبدالبر في
كتابة ودراسة موضوعات علوم القرآن
الأصول التي اعتمد عليها ابن عبدالبر في كتابة ودراسة موضوعات علوم القرآن هي الكتاب والسنة والإجماع .
وقد ذكر - رحمه الله - أن مصادر العلم التي لابُدّ من الرجوع إليها والاعتماد عليها هي هذه الأصول الثلاثة .
__________
(1) انظر : كتاب شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد بن محمد الزرقا ص 33 ( والكلام السابق مأخوذ من كلام ابنه مصطفى أحمد الزرقا في مقدمة الكتاب ) .
(2) انظر : كتاب القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي ص 46 - 47 .(1/73)
وقد عقد - رحمه الله - في كتابه القيّم : جامع بيان العلم وفضله باباً بعنوان : معرفة أصول العلم وحقيقته ، وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقاً (1) ، وذكر فيه الكثير من الأحاديث والآثار التي تدل على أن مصادر العلم التي لابُدّ من الرجوع إليها هي تلك الأصول .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا أصول العلم : فالكتاب والسنة ، وتنقسم السنة قسمين :
أحدهما : تنقله الكافة عن الكافة ، فهذا من الحجج القاطعة للأعذار إذا لم يوجد هنالك خلاف ، ومَن رد إجماعهم فقد رد نصاً من نصوص الله ، يجب استتابته عليه وإراقة دمه إن لم يتب ، لخروجه عمّا أجمع عليه المسلمون العدول ، وسلوكه غير سبيل جميعهم .
والضرب الثاني من السنة : أخبار الآحاد الثقات الأثبات العدول ، والخبرُ الصحيح الإسناد المتصل منها يوجب العمل عند جماعة الأمة الذين هم الحجة والقدوة ) (2) ا هـ .
وهذا الذي ذكره دلت عليه الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة ، قال - رحمه الله - : ( قال أبو عمر : أمَّا كتاب الله فيغني عن الاستشهاد عليه ، ويكفي من ذلك قول الله تعالى : { ا؟تَّبِعُوا مَآ أُنْزِلَ إِلَيكُم مِن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 3 ] ، وكذلك السنة يكفي فيها قوله تعالى : { أَطِيعُوا ا؟للَّهَ وَأَطِيعُوا ا؟لرَّسُولَ } [ النساء : 59 ] ، وقوله : { وَمَآ ءَاتَـ[ــ!ــكُمُ ا؟لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ[ــ!ــكُمْ عَنْهُ فَا؟نْتَهُوا" } [ الحشر : 7 ] ، وأمَّا الإجماع فمأخوذ من قول الله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا؟لْمُؤْمِنِينَ } الآية [ النساء : 115 ] لأن الاختلاف لايصح معه هذا الظاهر .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/751 .
(2) المرجع السابق 1/779 ، 780 .(1/74)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { لاتجتمع أمتي على ضلالة } (1) .
وعندي أن إجماع الصحابة لايجوز خلافهم فيه ، لأنه لايجوز على جميعه جهل التأويل ، وفي قول الله تعالى : { وَكَذَ! لِكَ جَعَلْنَـ!ــكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَي ا؟لنَّاسِ } [ البقرة : 143 ] دليل على أن جماعتهم إذا اجتمعوا حجة على من خالفهم ، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على جميعهم ، ودلائل الإجماع من الكتاب والسنة كثيرة ، ليس كتابنا هذا موضعاً لتقصيها ، وبالله التوفيق ) (2) ا هـ .
ومِمَّا سبق نعلم أن أصول العلم حقيقة هي الكتاب والسنة الصحيحة ، والإجماع وإن كان أصلاً من أصول العلم إلاَّ أنه في الحقيقة يرجع إلى الأصلين السابقين الأساسين ، إذ لا إجماع بدون نص يستند إليه .
وكذلك القياس الذي يعتبر أصلاً من أصول العلم لايكون قياساً صحيحاً إلاَّ إذا كان معتمداً على هذه الأصول المتفق عليها الكتاب والسنة والإجماع .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 6/396 ، والطبراني في الكبير 2/2171/280 ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/756 رقم [1395] بلفظ : { سألت ربي ألاّ تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها } .
... وقال محقق جامع بيان العلم وفضله أبو الأشبال الزهيري : إسناده ضعيف والحديث صحيح .
... وذكره السخاوي في المقاسد الحسنة رقم [1288] ص 454 ، 455 ، وذكر من خرجه ثُمَّ قال : ( وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ، ذو أسانيد كثيرة ، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره ) .
(2) جامع بيان العلم وفضله 1/759 ، 760 .(1/75)
قال ابن عبدالبر : ( وأمَّا القياس على الأصول ، والحكم للشيء بحكم نظيره فهذا ما لم يخالف فيه أحد من السلف ، بل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً ، لايدفع هذا إلاَّ جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام ) (1) ا هـ .
وأمَّا القياس على غير أصل فهو فاسد مذموم .
وقد عقد ابن عبد البر باباً أوضح فيه أن القياس على غير أصل مذموم ، وهو قرين القول على الله بالرأي والظن ، فقال : باب ماجاء في ذم القول في دين الله تعالى بالرأي والظن والقياس على غير أصل ... (2) .
فالقياس الصحيح يجب أن يكون على الأصول ، من كتاب وسنة وإجماع ، ولايكون القياس الصحيح إلاَّ من عالم بالأصول (3) ، ( ومن جهل الأصل لم يصب الفرع أبداً ) (4) .
ويتفرع من معرفة ما سبق أمران :
أحدهما : وجوب الاعتناء والاهتمام بأصول العلم ، وذلك بتعلمها وتَفَهُّمِهِما وطلبِ ما يعين على فهمها .
وهذا ما أكّد عليه ابن عبدالبر ، وبيّنه وفصّله في كتابه جامع بيان العلم وفضله .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/895 ، وقد عقد باباً كاملاً في إثبات المقايسة وآخر في نفي الالتباس في الفرق بين الدليل والقياس ، وذكر من ذم القياس على غير أصل . انظر : كتابه جامع بيان العلم وفضله 2/869 ، 887 .
(2) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2/1037 .
(3) انظر : كتاب مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه للأستاذ : محمد بن يعيش 2/146 .
(4) من كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر 2/1140 .(1/76)
فقد عقد باباً مهماً (1) بيّن فيه رُتَبَ طلب العلم ، والدرجات التي لايجوز تعديها عند طلبه ، فقال - رحمه الله - : ( قال أبو عمر - رحمه الله - : طلب العلم درجات ومناقل ورتب لاينبغي تعديها ، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف - رحمهم الله - ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل ، ومن تعداه مجتهداً زل .
فأول العلم حفظ كتاب الله عزوجل وتفهمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ، ولا أقول إن حفظه كله فرض ، ولكني أقول إن ذلك شرط لازم على من أحب أن يكون عالماً فقيهاً ناصباً نفسه للعلم ، ليس من باب الفرض ) (2) ا هـ .
ومِمَّا قال في الباب نفسه أيضاً : ( قال أبو عمر : القرآن أصل العلم ، فمن حفظه قبل بلوغه ، ثُمَّ فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه ، ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثُمَّ ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه ، ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك ، وهو أمر قريب على من قربه الله عزوجل عليه ، ثُمَّ ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزوجل في كتابه ، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً ) (3) .
ثُمَّ بيّن - رحمه الله - أن أهل زمانه قد حادوا عن طريق السلف الصالح في طلب العلم ، وسلكوا في طلبه ما لم يعرفه الأئمة المهديّون .
__________
(1) هو باب رتب الطلب ، وكشف المذهب . جامع بيان العلم 2/1129 .
(2) جامع بيان العلم وفضله 2/1129 .
(3) جامع بيان العلم وفضله 2/1130 .(1/77)
وذكر صوراً من انحرافاتهم في ذلك ، ومنها أنهم أهملوا أصل العلم وهو القرآن الكريم ، فلم يعتنوا بحفظه ، ولا بفهم معانيه ، ولا وقفوا على أحكامه ، ولاتفقهوا في حلاله وحرامه ، واطرحوا كذلك علم السنن والآثار ، وزهدوا فيها ، وأضربوا عنها ، فلم يعرفوا الإجماع من الاختلاف ، ولا فرقوا بين التنازع والائتلاف ، بل عوّلوا على حفظ ما دوّن لهم من الرأي والاستحسان الذي كان عند العلماء آخِرَ العلم والبيان .
ثُمَّ حذّر من الإفراط في حفظ المولّدات والفروع من غير اهتمام بضبط أصولها ، وحذّر أيضاً من الإفراط في حفظ طرق الآثار دون الوقوف على معانيها وما قاله العلماء فيها .
ثُمَّ قال - رحمه الله - : ( واعلم يا أخي أن الفروع لا حدّ لها تنتهي إليه أبداً ، فلذلك تشعبت ، فلذلك من أراد أن يحيط بآراء الرجال فقد رام ما لا سبيل له ولا لغيره إليه ؛ لأنه لايزال يرد عليه ما لم يسمع ، ولعله أن ينسى أول ذلك بآخره لكثرته فيحتاج أن يرجع إلى الاستنباط الذي كان يفزع منه ويجبن عنه تورعاً بزعمه أن غيره كان أدرى بطريق الاستنباط منه ، فلذلك عوّل على حفظ قوله ، ثُمَّ إن الأيام تضطره إلى الاستنباط مع جهله بالأصول ، فجعل الرأي أصلاً واستنبط عليه ) (1) .
__________
(1) المرجع السابق 2/1137 .(1/78)
ثُمَّ ذكر كلاماً جميلاً صورّ فيه ما عليه أهل بلده ومن سلك مسلكهم من أهل المغرب وغيره ممن يتعصب لقول إمامه ، ويرد من أجله ما ثبت من نصوص الكتاب والسنة ، ويزعمون أن هذه النصوص تخالف أصل إمامهم ، فكأن المذهب وقول الإمام هو الأصل ، ونصوص الكتاب والسنة هي الفرع ، ثُمَّ ذكر أن ما عند هؤلاء مِمَّا يظنونه علماً ما هو إلاَّ { كَسَرَابِ+ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ا؟لظَّمْـ:ــَانُ مَآءً حَتَّى% إِذَا جَآءَهُ , لَمْ يَجِدْهُ شَيْـ:ـــًا } [ النور : 39 ] ، وأن ما هم عليه ما هو إلاَّ كما قال منصور الفقيه (1) - رحمه الله - :
خالفوني وأنكروا ما أقول ... ... قلت لاتعجلوا فإني سؤول
ما تقولون في الكتاب ؟ فقالوا ... ... هو نور على الصواب دليل
وكذا سنة الرسول وقد ... ... أفلح من قال ما يقول الرسول
واتفاق الجميع أصلٌ وما ... ... ينكر هذا وذا وذاك العَقُولُ
وكذا الحكم بالقياس فقلنا ... ... من جميل الرجال يأتي الجميل
فتعالوا نَرُدُّ من كل قول ... ... ما نفى الأصل أو نفته الأصول
فأجابوا فنوظروا فإذا ... ... العلم لديهم هو اليسير القليل (2)
__________
(1) هو : منصور بن إسماعيل التميمي ، فقيه شافعي ضرير ، أغلب شعره في الحكم والأمثال ، توفي بمصر سنة 306 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 14/238 .
(2) جامع بيان العلم وفضله 2/1139 .(1/79)
ثُمَّ قال - رحمه الله - : ( فعليك يا أخي بحفظ الأصول والعناية بها ، واعلم أن من عنى بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ونظر في أقاويل الفقهاء فجعله عوناً له على اجتهاده ومفتاحاً لطرائق النظر ، وتفسير الجمل المحتملة للمعاني ، ولم يقلّد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ، ولم يرح نفسه مِمَّا أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها ، [ واقتدى بهم ] في البحث والتفهم والنظر ، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه ، وحَمِدَهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ، ولم يُبرِّئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه - فهذا هو الطالبُ المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيبُ لحظه ، والمعاين لرشده ، والمتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم وعمّن اتبع بإحسان آثارهم .
ومن أعفى نفسه من النظر ، وأضرب عمّا ذكرنا وعارض السنن برأيه ، ورام أن يردَّها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضل ، ومن جهل ذلك كله أيضاً وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشدُّ عمى وأضل سبيلاً ) .
إلى أن قال : ( واعلم يا أخي أن السنن والقرآن هما أصل الرأي والعيار عليه ، وليس الرأي بالعيار على السنة ، بل السنة عيارٌ عليه ، ومن جهل الأصل لم يصب الفرع أبداً ) (1) ا هـ .
وأمَّا السنة فقد اهتم ابن عبدالبر بها ، وأكَّد على أهميتها ، وحذّر من مخالفتها ، وبيّن موضعها من الكتاب ، وقرّر أنَّ من تأوّل القرآن وتدبره وهو جاهل بالسنة فقد ضلّ وأضل .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/1139 ، 1140 .(1/80)
وقد ذكر في كتابه جامع بيان العلم وفضله أربعة أبواب متتالية لتقرير ما سبق ، وهي : باب الحض على لزوم السنة والاقتصار عليها (1) ، وباب موضع السنة من الكتاب وبيانها له (2) ، وباب فيمن تأول القرآن وتدبره وهو جاهل بالسنة (3) ، وباب فضل السنة ومباينتها لسائر أقوال علماء الأمة (4) .
وذكر في هذه الأبواب الكثير من الآيات والأحاديث والآثار التي تدل عليها وعلّق على ما ذكر بتعليقات نافعة رائعة ، ولولا خشية الإطالة لذكرت ما أورد من العبارات المهمة ، المتعلقة بأهمية السنة .
ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه ( جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ) .
والذي أودُّ التأكيد عليه هنا - ونحن نبيّن أصول العلم - أن علم علوم القرآن مِمَّا ينبغي الحرص عليه والاهتمام به ؛ لارتباطه الوثيق بالأصل الأول من أصول العلم - الذي هو القرآن الكريم - .
فعلوم القرآن علمٌ يعين على فهم القرآن ، ولاشك أن فهم القرآن مِمَّا يتعين على كل مسلم يريد العلم بما في القرآن ، فكيف بطالب العلم الذي يريد أن يكون عالماً فقيهاً مُعَلِّماً ناصباً نفسه للعلم .
وأودُّ التأكيد هنا أيضاً على أهمية تأصيل مباحث وموضوعات علوم القرآن ، وذلك بالرجوع إلى أصول العلم بدلاً من الرجوع إلى آراء الرجال وما كتبوه من مؤلفات ، وقبولِ أقوالهم وأخذها على أنها من المسلّمات .
ولو أننا نظرنا نظرة فاحصة في مؤلفات علوم القرآن - وخاصة المتأخرة - لوجدنا أنّ غالبها إن لم تكن كلها - ترجع في الغالب إلى ما كتبه كل من الزركشي في ( البرهان في علوم القرآن ) والسيوطي في ( الإتقان في علوم القرآن ) دون الرجوع إلى المصادر التي اعتمدوا عليها ورجعوا إليها .
__________
(1) المرجع السابق 2/1161 - 1180 .
(2) المرجع السابق 2/1181 - 1198 .
(3) المرجع السابق 2/1199 - 1204 .
(4) المرجع السابق 2/1205 - 1216 .(1/81)
ومن أهم الأصول التي لابُدّ من الرجوع إليها ونحن نبحث في موضوعات علوم القرآن ، كتب السنة ، ولو أن العلماء وطلبة العلم جَرَدُوا كتب السنة واستخرجوا ما فيها من أحاديث تتعلق بموضوعات ومباحث ومسائل علوم القرآن لوجدوا علماً طيباً مباركاً ، يغنيهم عن كثير من الأقوال والآراء التي لا مستند لها من نقل صحيح ، وقد تخالف في كثير من الأحيان ما تدل عليه النصوص الصحيحة الثابتة .
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الأمر الثاني الذي يتفرع عن أهمية الاعتماد والرجوع إلى أصول العلم المعتبرة وهو : وجوب ردّ الأقوال المخالفة لهذه الأصول ، فإذا ورد قول في مسألة من مسائل علوم القرآن أو في أي علم آخر ، وهذا القول يخالف مخالفة صريحة كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه سلف هذه الأمة الصالح من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان من الأئمة المهديين - فإنه يجب رده ، ولايُلتفت إليه ؛ بل لايُعدُّ قولاً من الأقوال - ولا كرامة - .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( قال أبو عمر : ماجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل الثقات ، وجاء عن الصحابة ، وصح عنهم فهو علمٌ يدان به ، وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فبدعة وضلالة ) (1) .
ومن أمثلة الأقوال التي ذكرت في كتب علوم القرآن واشتهرت مع مخالفتها لنصوص القرآن الكريم الصريحة ، قولهم : إن القرآن له نزولان :
الأول : نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا .
الثاني : نزوله من السماء الدنيا على النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/946 .
(2) هكذا قال مؤلف كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم الدكتور محمد أبو شهبة ص 46 .(1/82)
فهذا القول بعضه صحيح وبعضه ضعيف مردود ، فالصحيح هو أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ؛ لثبوت ذلك في آثار صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ، كما سيأتي - إن شاء الله - ، والضعيف المردود هو قولهم : إن القرآن نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من السماء الدنيا .
فهذا قول يخالف مخالفة صريحة ماجاء في آيات كثيرة من أن القرآن نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله مباشرة بواسطة جبريل عليه السلام ، كما قال سبحانه وتعالى : { وَإِنَّهُ , لَتَنْزِيلُ رَبِّ ا؟لْعَـ!ـــلَمِينَ = 192 نَزَلَ بِهِ ا؟لرُّوحُ ا؟لأَمِينُ = 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ا؟لْمُنذِرِينَ = 194 } [ الشعراء : 192 - 194 ] ، وقوله جلَّ وعلا : { وَا؟لَّذِينَ ءَاتَيْنَـ!ــهُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ , مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِا؟لْحَقِّ( } [ الأنعام : 114 ] ، وقوله تعالى : { يَـ!ـــ%ــأَيُّهَا ا؟لرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ( } [ المائدة : 67 ] .
فهذه الآيات - وغيرها كثير - تدل بوضوح أن القرآن نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه جلّ وعلا ، لا من السماء الدنيا ولا من اللوح المحفوظ ولا من غير ذلك .
وسوف يأتي تقرير ذلك - إن شاء الله - في مبحث نزول القرآن من الموضوع الأول من موضوعات هذا البحث .
ثُمَّ إن ذكر مثل هذه الأقوال المخالفة للأصول المعتبرة فيه تكثير للأقوال ، وتسويدٌ للصفحات بدون فائدة تذكر ، وأقرب مثال على ذلك ما ورد من أقوال في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف حتى أوصلها بعضهم إلى أكثر من خمسة وثلاثين قولاً ، وأكثرها أقوال مبنية على اجتهادات عقلية لايدلّ عليها دليل ، بل كثير منها يخالف مخالفةً صريحة دلالة الأحاديث الصحيحة كقول من قال : إن العدد { سبعة } لا مفهوم له وإنَّما يراد به التكثير والمبالغة من غير حصر .(1/83)
فهذا قول ضعيف مردود - وإن كان له مستند في اللغة - لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة التي دلت على أن العدد سبعة الذي بعد الستة وقبل الثمانية هو المراد ، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في موضوع نزول القرآن على سبعة أحرف .
وانطلاقاً من هذا الأصل المهم من أصول العلم نجد الإمام ابن عبد البر يرجح القول الذي رجحه ؛ لأنه هو القول الموافق للأحاديث الصحيحة التي تعتبر من أصول العلم التي ينبغي الرجوع إليها والاعتماد عليها .
وسيأتي بيان ذلك أيضاً - إن شاء الله - .
وهنا أمرٌ آخر مهم في التعامل مع القول المخالف للأصول الصحيحة المعتبرة عند أهل العلم ، وهو أنه لاينبغي اعتماد هذه الأقوال أصلاً ، ولا ذكرها على أنها أقوال في المسألة إلاَّ في أضيق الحدود وعند الحاجة إلى ذلك .
ومن باب أولى لاينبغي الاشتغال بالرد عليها ؛ لأنها لاتستحق ذلك .
وقد أشار ابن عبد البر - رحمه الله - إلى أن القول المخالف لما جاء في القرآن ، ولما ثبت في السنة ، ولما أجمع عليه علماء الأمة لاينبغي الاشتغال به وبالرد عليه .
قال - رحمه الله - وهو يقرر ثبوت النسخ في أحكام الله : ( وفيه أيضاً دليلٌ على أن في أحكام الله - عزوجل - ناسخاً ومنسوخاً على حسب ما ذكر الله في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، واجتمعت على ذلك أمته - صلى الله عليه وسلم - فلا وجه للقول في ذلك ) (1) ا هـ .
وقال في موضع آخر : ( وفي ذلك دليلٌ على أن في أحكام الله تعالى ناسخاً ومنسوخاً وهو ما لا اختلاف فيه بين العلماء الذين هم الحجة على مَن خالفهم ) (2) ا هـ .
فقوله هذا يدل على أن المسائل الواضحة الثبوت ، الظاهرة الاستدلال لاتحتاج إلى إطالة القول فيها ، ولا إلى كثرة الاستدلال على تقريرها .
__________
(1) التمهيد 17/47 ، 48 .
(2) الاستذكار 7/204 .(1/84)
ومِن هنا نعلم أن الذين ألفوا في علوم القرآن وأكثروا من إيراد الشبه المخالفة للصواب وتوسعوا في الرد عليها لم يوفقوا للمنهج السديد الذي كان ينبغي أن يسلكوه ويسيروا عليه ، وهو عدم التعرض لهذه الشبه أصلاً وعدم إيرادها فضلاً عن الاشتغال بالرد عليها .
وهل من الحكمة أن نشتغل بالرد على كل قولٍ فاسدٍ معلومِ البطلان ؟ ! .
لو فعلنا ذلك لضاعت أوقاتنا في الرد على هذه الأباطيل ولتركنا ما أوجب الله علينا من الاشتغال بما ينفعنا في ديننا ودنيانا ، بل إن في إيراد بعض الشبه تعريفاً للجاهل بها ، ونشراً لها ، واهتماماً بها .
ويزداد الأمر سوءاً عندما يذكر من أورد هذه الشبه حجج القائلين بها ، ويكثر من ذلك ثُمَّ إذا وصل إلى الرد عليها وإذا بها قد تقررت ورسخت في قلوب بعض من لا علم عنده ولا بصيرة ، فيقع فيما كان يفر منه ويحذر من الوقوع فيه .
وينبغي أن نعلم أن عرض الشبه والأقوال الباطلة المخالفة لنصوص الكتاب والسنة منهجٌ مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة ، الذين كانوا ينهون عن عرض الشبه ، وعن سماعها ، ويمنعون من مناظرة أصحابها والرد عليهم إلاَّ في بعض الحالات القليلة (1) .
وقد قرّر ذلك صاحبُ بحثنا الإمام ابن عبد البر - رحمه الله تعالى - في كتابه جامع بيان العلم وفضله ، وذكر أحاديث وآثاراً تدل على كراهة الخوض والجدال والمراء في الشبه التي يوردها أهل الزيغ والضلال (2) .
__________
(1) انظر : تقرير ذلك وضرب الأمثلة عليه في كتاب مناهل العرفان للزرقاني ، دراسة وتقويم لخالد السبت 1/138 - 148 ، ثُمَّ ذكر الكيفية الصحيحة لمعالجة الشبه . ... ... ... ... ... = =
= = ولمعرفة المنهج الصحيح في معالجة الشبه ينظر للفائدة : ما كتبه محمد قطب - وفقه الله - في كتابه واقعنا المعاصر ص 510 - 516 .
(2) انظر : جامع بيان العلم وفضله ، باب : ما تكره فيه المناظرة والجدال والمراء 2/928 - 952 .(1/85)
ولايعني هذا أن نترك إقامة الحجة على أهل الباطل ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن وتوضيح ما اشتبه عليهم من أمور الدين .
بل إقامة الحجة على أهل الباطل مِمَّا أوجبه الله عزوجل على أهل العلم ، وإيضاح الحق لهم عند الحاجة أمرٌ متعين ، ولايجوز لمن كان عنده علم أن يكتمه إذا وجدت الحاجة إليه .
وهذا ما قرّره ابن عبد البر أيضاً في باب خاص به ، وهو باب : إتيان المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة (1) .
* * *
المطلب الثاني
قواعد وضوابط في دراسة ابن عبدالبر
لموضوعات علوم القرآن
من خلال قراءتي لكتب ابن عبدالبر - رحمه الله - استخرجتُ منها بعض أقواله التي تصلح أن تكون قاعدة عامة في دراسة أي علم من العلوم - وخاصة علوم القرآن - أو تصلح أن تكون ضابطاً مهماً يستفاد منه في الكتابة في أي فن من الفنون .
وأحياناً أفهم من كلامه فهماً يصلح أن يكون قاعدة أو ضابطاً في دراسة علوم القرآن ، فجمعتُ هذه القواعد والضوابط ، وجعلتها أساساً ومادةً لهذا المطلب .
وإليك ما تيسر جمعه من قواعد وضوابط :
[1] - ( خير العلوم ما ضبط أصله ، واستذكر فرعه ، وقاد إلى الله تعالى ، ودلّ على ما يرضاه ) (2) .
هذه العبارة قالها ابن عبد البر في سياق كلام له يذكرُ فيه ما يؤخذ من حديث : { إنَّما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعلقة ، إن عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت } (3) .
قال - رحمه الله - : ( وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه ، ذهب عنه أيّ علم كان ؛ لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير ، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد ، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة ، وخير العلوم ما ضبط أصله ، واستذكر فرعه ، وقاد إلى الله تعالى ، ودلّ على ما يرضاه ) (4) ا هـ .
__________
(1) المرجع السابق 2/953 - 974 .
(2) التمهيد 14/134 .
(3) سيأتي تخريجه - إن شاء الله - في موضوع آداب القرآن .
(4) المرجع السابق 14/133 - 134 .(1/86)
ويؤخذ من هذه القاعدة فوائد :
أ ) - علوم القرآن خير العلوم بقيود أربعة :
القيد الأول : أن يضبط أصله ، وهو القرآن الكريم ، وضبطه يكون بحفظه وإتقان تلاوته .
القيد الثاني : أن يستذكر فرعه ، وفرعه هو مباحثه وموضوعاته ومسائله التي لابُدّ منها لتوقف فهم القرآن عليها .
القيد الثالث : أن يقود إلى الله تعالى ، ويكون ذلك بإخلاص النية في طلبه لله تعالى .
القيد الرابع : أن يدل على ما يرضاه الله جل وعلا ، والذي يرضاه الله عزوجل لنا طاعته والعمل الصالح الذي يقربنا إليه وشكره على نعمه كما قال سبحانه : { وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) } [ الزمر : 7 ] ، فإذا كان علم علوم القرآن يدل على العمل الصالح الذي يرضي الله كان دالاً على ما يرضاه .
وبهذه القيود مجتمعة يكون علم علوم القرآن خير العلوم ؛ كما أن غيره من العلوم كذلك .
ب) - أهمية ضبط أصول العلوم ، وقد قالوا قديماً : مَن لم يتقن الأصول حرم الوصول ، فلابُدّ من التأصيل والتأسيس لكل فن تطلبه بِضَبط أصله ومختصره على شيخ متقن لا بالتحصيل الذاتي (1) .
وطريقة ضبط أصول أي علم : ( أن يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه ، فإن تعذّر أو تعسّر عليه حفظه لفظاً ، فليكرره كثيراً ، متدبراً لمعانيه ، حتى ترسخ معانيه في قلبه .
ثُمَّ تكون باقي كتب هذا الفن كالتفسير والتوضيح والتفريع لذلك الأصل الذي عرفه وأدركه ، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها ، صغارها وكبارها .
ومن ضيع الأصول حرم الوصول .
فمن حرص على هذا الذي ذكرناه ، واستعان بالله أعانه الله ، وبارك في علمه ، وطريقه الذي سلكه .
ومَن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة فاتت عليه الأوقات ، ولم يدرك إلاَّ العناء ، كما هو معروف بالتجربة ، والواقع يشهد به .
__________
(1) انظر : كتاب حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد ص 18 .(1/87)
فإن يسّر الله له معلماً يحسن طريقة التعليم ، ومسالك التفهيم تم له السبب الموصل إلى العلم ) (1) .
جـ) - لابُدّ من استذكار العلم وإلاَّ ضاع وتفلّت ، مهما كان ذلك العلم .
والاستذكار يكون بكثرة التكرار ، ولن يدوم الحفظ أبداً إذا أُهمل المحفوظ ولم يستذكر ويُتعاهد من وقت لآخر .
وقد حذّر العلماء - رحمهم الله - من إهمال المذاكرة حتى يُنسى العلم ، ونبّهوا على أن من أشدِّ غوائل العلم النسيان ، تحذيراً منه وتنبيهاً عليه .
وقد بيّن هذا ابن عبد البر أتم بيان وأكمله في باب مستقل عقده في كتابه جامع بيان العلم وفضله بعنوان : باب : آفة العلم وغائلته وإضاعته ، وكراهية وضعه عند من ليس بأهله (2) ، فمن أراد المزيد فليرجع إلى هذا الكتاب المفيد .
د ) - لايكون العلم نافعاً في الآخرة إلاَّ إذا قاد صاحبه إلى الله ودلّه على ما يُرضي الله ، مهما كان ذلك العلم ، ولو كان علم القرآن الذي هو أشرف العلوم .
ولايقود العلم صاحبه إلى الله إلاَّ إذا كان طلبُه لوجه الله .
ومع كون هذا الأمر من العلم الضروري الذي لايخفى على أحد من المسلمين إلاَّ أن أكثر الناس في غفلة عنه ؛ ولذلك فقد ابتلوا بأعظم آفة من آفات العلم وهي طلبه لغير وجه الله ، وأكثر ما يُطلب العلم له في هذه الأزمان الدنيا والحصول على الجاه والشرف ، و { ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } (3)
__________
(1) من كتاب : بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ص 55 .
(2) جامع بيان العلم وفضله 1/442 - 454 . وانظر : كتاب آفاق العلم لمحمد بن سعيد بن رسلان ص 113 - 119 .
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ، باب : 43 حديث رقم [2376] 4/508 ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . وهو في صحيح سنن الترمذي للألباني رقم [1935] 2/280 .
... وانظر شرحاً نفيساً لهذا الحديث للحافظ بن رجب الحنبلي في رسالة مستقلة بعنوان : شرح حديث ما ذئبان جائعان ، وانظر كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر ، باب : ذم الفاجر من العلماء وذم طلب العلم للمباهاة والدنيا 1/648 - 678 .(1/88)
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
ولايكون العلم محموداً إلاَّ إذا كان قائداً ودليلاً للعمل الصالح الذي يرضي الله جلّ وعلا ، ومَن لم يزده العلم تقوى وخشية وقرباً إلى الله فلا خير في علمه .
وعلامة العلم النافع الدال على رضوان الله أن صاحبه كلما ازداد منه زاد عمله الصالح ، وكان أشد خشية مِمَّا كان عليه قبل .
وليس هذا مقام تفصيل هذه المسائل المهمة ، التي هي لبُّ العلم وخلاصته وثمرته ولكن لابُدّ من التذكير بها والتنبيه عليها ومحاسبة النفس من أجلها .
وقد ذكر ابن عبدالبر الكثير من الأحاديث والآثار والأقوال والأشعار في هذه المعاني المهمة في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، فمن شاء أن يرجع إليه فهو جدير بذلك ، والله المستعان .
[2] - علم علوم القرآن علمٌ حسن ، يَحسُن جمعه ، والعناية به :
وهذا المعنى هو الذي جعل ابن عبد البر يهتم بعلوم القرآن ويوليه العناية بالكتابة في كثير من موضوعاته .(1/89)
قال ابن عبد البر - رحمه الله - في تعليقه على الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه ، أنه قال : أنزلت { عَبَسَ وَتَوَلَّى = 1 } [ عبس : 1 ] في عبد الله بن أم مكتوم ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول : يا محمد ، اسْتَدنيني (1) ، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من عظماء المشركين ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : { يا أبا فلان ، هل ترى بما أقول بأساً ؟ } فيقول : لا ، والدماء (2) . ما أرى بما تقول بأساً ، فأنزلت { عَبَسَ وَتَوَلَّى = 1 أَن جَآءَهُ ا؟لأَعْمَى = 2 } [ عبس : 1 - 2 ] (3) .
قال : ( ففي هذا الحديث دليل على أن علم السيرة ، وما ارتبط بها من علم نزول القرآن ، متى نزل وفيمن نزل ، والمكي منه والمدني ، وما أشبه ذلك من جنس التاريخ في مثل ذلك علمٌ حسنٌ ينبغي الوقوف عليه والعناية به والميلُ بالهمة إليه ) (4) ا هـ .
ويُمكن تقسيم موضوعات علوم القرآن إلى قسمين :
أحدهما : موضوعات لابُدّ من تعلّمها وإتقانها لمن أراد دراسة القرآن الكريم ومعرفة أحكامه .
__________
(1) أي أشر إلى موضع قريب منك أجلس فيه .
(2) رويت بكسر الدال ، ورويت بضمها ، فعلى الكسر يراد بها دماء الهدايا التي كانوا يذبحونها لآلهتهم وعلى الضم - تكون جمع دُمية - والمراد الأصنام التي كانوا يعبدون ويعظمون . الاستذكار لابن عبدالبر 8/72 .
(3) أخرجه مالك مرسلاً في الموطأ كتاب القرآن ، باب : ماجاء في القرآن ص 18 ، ووصله الترمذي في سننه عن عائشة في كتاب التفسير ، باب : ومن سورة عبس رقم [3331] 5/402 . وقال : هذا حديث غريب .
... وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم [2651] وقال : صحيح الإسناد 3/126 .
... وانظر : الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل الوادعي ص 267 ، 268 .
(4) الاستذكار 8/70 .(1/90)
ومن هذه الموضوعات علم الناسخ والمنسوخ ، وقد ذكر ابن عبد البر في باب ( معرفة أصول العلم وحقيقته ، وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقاً ) قولاً ليحيى ابن أكثم ، قال فيه : ليس من المعلوم كلها علم هو أوجب على العلماء ، وعلى المتعلمين ، وكافة المسلمين على العلماء وعلى المتعلمين ، وكافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً ، والعلم به لازم ديانة ، والمنسوخ لايُعمل به ، ولاينتهي إليه ، فالواجب على كل عالم علمُ ذلك لئلا يوجب على نفسه أو على عباد الله أمراً لم يوجبه الله عزوجل ، أو يضع عنه فرضاً أوجبه الله عزوجل ) (1) ا هـ .
فهذا يبيّن أن علم الناسخ والمنسوخ لابُدّ من تعلمه ومعرفته وإتقانه ، لأهميته في فهم القرآن الكريم ، والعمل بأحكامه .
ومِمَّا يعين على معرفة الناسخ والمنسوخ معرفة زمن النزول ، وأين نزل ، وفيمن نزل ، ومعرفة المكي والمدني ، ومعرفة السيرة والتاريخ ، ولذلك كانت هذه من العلوم التي ينبغي الوقوف عليها والعناية بها والميل بالهمة إليها كما قال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - .
والقسم الثاني : موضوعات يحسن تعلمها ومعرفتها ، لما لها من أثر محمود على مَن علمها وأتقنها .
ومن ذلك معرفة فضائل الآيات والسور وأي ذلك أفضل وأعظم عند الله .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/767 ، وسيأتي - إن شاء الله - في موضوع النسخ .(1/91)
أخرج مسلم في صحيحه ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا المنذر ! أتدري أيّ آية في كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم ، قال : { يا أبا المنذر ! أتدري أيّ آية في كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : { ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ـهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لْحَيُّ ا؟لْقَيُّومُ" } [ البقرة : 255 ] قال : فضرب في صدري ، وقال : { والله ! ليَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر } (1) .
ذكر ابن عبد البر هذا الحديث في كتابه جامع بيان العلم وفضله ، باب : معرفة أصول العلم وحقيقته ... مستدلاً به على أن معرفة فضائل الآيات مِمَّا يطلق عليه اسم العلم ، ومهما يُهنّأ مَن علمه على علمه به ، ويستحق المدح والثناء على هذا العلم (2) .
[3] - ضياع العلم ودرسه يكون بإهماله وترك كتابته وجمعه :
من الأسباب التي جعلت ابن عبد البر يؤلف الكتب الرغبة في جمع الأخبار المتعلقة بكل فن من الفنون ، والحرص على جمع كل نوع من الأخبار والآثار إلى بابه ، وكل شكل من العلم إلى شكله .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب : فضل سورة الكهف ، وآية الكرسي رقم [810] ص 316 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) انظر : جامع بيان العلم وفضله 1/763 .(1/92)
قال ابن عبدالبر وهو يذكر سبب تأليف كتابه : جامع بيان العلم وفضله : ( وقد جمع أقوامٌ في مثل ما سئلنا عنه وذكرناه في كتابنا هذا أبواباً لو رأيتها كافية دللت عليها ، ولكني رأيت كل واحد منهم جمع ما حضره وحفظه وما خشي التفلت عليه وأحب أن ينظر المسترشد إليه ، ولو أغفل العلماء جمع الأخبار ، وتمييز الآثار ، وتركوا ضمّ كل نوع إلى بابه ، وكل شكل من العلم إلى شكله ؛ لبطلت الحكمة ، وضاع العلم ودَرَسَ ، وإن كان لعمري قد درس منه الكثير بعدم العناية ، وقلة الوعاية ، والاشتغال بالدنيا والكَلَبِ عليها ، ولكن الله عزوجل يبقي لهذا العلم قوماً - وإن قلُّوا - يحفظون على الأمة أصوله ، ويميزون فروعه ، فضلاً من الله ونعمة ، ولايزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم منه الآخر ، فإن ذهاب العلم بذهاب العلماء كما قال رسول الله (1) .
وسترى هذا المعنى وشبهه في كتابنا هذا إن شاء الله بحوله وقوته ، فالحول والقوة لله وهو حسبي ونعم الوكيل ) (2) ا هـ .
وكلام ابن عبد البر هذا يؤخذ منه فوائد مهمة في التأليف والكتابة :
منها : أن من أراد الكتابة والتأليف والبحث في موضوع ما ، أو مسألة من مسائل العلم فعليه أن ينظر قبل ذلك هل سبقه أحد إلى ذلك أو لا ؟ .
__________
(1) هذا معنى حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب العلم ، باب : رفع العلم وقبضه ... رقم [2673] عن عبد الله بن عمرو بلفظ : { إن الله لايقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا بغير علم فضلوا وأضلوا } ص 1072 ، 1073 .
... والحديث في البخاري أيضاً في كتاب العلم ، باب : كيف يقبض العلم رقم [100] ص 45 .
(2) جامع بيان العلم وفضله 1/21 ، 22 .(1/93)
فإذا كان هناك من سبقه إلى التأليف فيما أراد التأليف والكتابة فيه فلينظر ، هل أحسن السابق التأليف ، واستوعب القول في الموضوع الذي ألف فيه وكتبه أو لا ؟ .
فإذا كان قد أحسن واستوعب وأتى بما لا مجال للزيادة عليه ، فالواجب الإحالة على تأليفه وعدم الكتابة في ذلك الموضوع مرة أخرى ، إذا لم يكن هناك زيادة على ما جاء به .
وليس من الحكمة أن يَشْتَغِلَ أحدٌ بالتأليف أو الكتابة أو البحث فيما فُرِغَ منه وقتل بحثاً ، بل هذا يعتبر من إضاعة الأوقات ، وإهدار الطاقات فيما لا داعي له . بل قد يكون لإعادة الكتابة والتأليف أضرارٌ وآفات يعلمها من كان عنده نظر ثاقب بعيد ينظر من خلاله إلى مدى ما حصل من إعراض من الناس وإغفالٍ للكتب القديمة الأصلية بسبب الاشتغال بكتب متأخرة لا همّ لأصحابها إلاَّ الكتابة والجمع من غير تحقيق ولا تمييز ولا إتقان - والله المستعان - .
وأمَّا إذا كان ما يراد بحثه - وإن كُتب فيه سابقاً - بحاجة إلى بحثِ وكتابة وإضافة وتحقيق ، فالحكمة تقتضي التأليف فيه ، والبحث في جوانبه ومسائله حتى تتم الفائدة وينتشر العلم بين الناس .
ومن فوائد كلام ابن عبدالبر السابق : الحرص عند التأليف والكتابة على جمع الأخبار وتمييز الآثار وضم كل نوع إلى بابه وكل شكل من العلم إلى شكله ، حتى لايضيع العلم ويدرس .
وهذا في الحقيقة من أهم واجبات المتأخرين الذين يريدون المساهمة في إحياء العلم ونشره بين الناس .
فجمع أقوال العلماء السابقين المتفرقة ، وبيان الصحيح منها والضعيف وضم كل نوع إلى بابه الذي يدخل تحته ، وكل شكل إلى شكله ، باب واسع كبير من أبواب البحث والتأليف ، وهو بحاجة إلى اهتمام وعناية من الباحثين وهو مجالٌ خصبٌ للكتابة والبحث وخاصة في الرسائل العلمية في الجامعات ، وما هذا البحث الذي أكتب فيه إلاَّ من هذا الباب .(1/94)
ومن فوائد كلام ابن عبدالبر السابق : الاهتمام بحفظ الأصول وإتقانها ؛ لأن حفظ الأصول يؤدي إلى ضبط الفروع ومعرفتها بكل سهولة ويسر .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - بعد أن ذكر بعض المسائل المتعلقة بسجود التلاوة : ( فهذه أصول مسائل السجود ، وبقيت فروع تضبطها هذه الأصول ، كرهنا ذكرها خشية الإطالة ، على شرطنا في الاعتماد على الأصول والأمهات ، وما في الأحاديث المذكورة من المعاني المضمنات ، والله المعين ، لاشريك له ) (1) .
[4] - ( من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله ) (2) :
ذكر هذه القاعدة ابن عبد البر - رحمه الله - بعد أن نقل قولاً طويلاً لأحد العلماء ، ثُمَّ ذكر أنه ذكر هذا القول وأضافه إلى قائله ، لأنه يقال : إن من بركة العلم أن تضيف الشيء إلى قائله .
وقد سار ابن عبد البر في مؤلفاته على هذه القاعدة ، فكان إذا نقل عن أحدٍ ، أو ذكر قولاً لأحد فإنه يضيفه إلى قائله وينسبه إليه .
ومِمَّا لاشك فيه أن من أهم ضوابط الأمانة العلمية في الكتابة والبحث نسبة كل قول إلى قائله ، وإحالة كل كلام إلى مرجعه .
ومَن أخل بهذا فقد ضيعَ أمانة النقل ، وسلكَ سبيل التعالم الممقوت ، إذ في ترك نسبة القول إلى قائله ، وإحالة الكلام إلى مرجعه ، ما يوهم القارئ أو المستمع أن هذا من كلام الناقل ، أو من قول القائل ، ومَن كان كذلك فقد تشبّع بما لم يعط ، وكان كلابس ثوبي زور (3) .
__________
(1) التمهيد 19/134 .
(2) جاءمع بيان العلم وفضله 2/922 .
(3) ثبت في صحيح البخاري في كتاب النكاح ، باب : المتشبع بما لم ينل ... عن أسماء أن امرأة قالت : يارسول الله ، إن لي ضرةً ، فهل عليّ جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني ؟ فقال رسول الله e : { المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور } رقم [5219] ص 1023 .
... وأخرجه مسلم أيضاً في كتاب اللباس والزينة ، باب : النهي عن التزوير وغيره والتشبع بما لم يعط رقم [2129] عن عائشة ورقم [2130] عن أسماء .(1/95)
[5] - العلم النافع ما كان يترتب عليه عمل ، وما لايترتب عليه عمل فالكلام فيه مذموم :
وهذه قاعدة مهمة ينبغي الاهتمام بها ، ومراعاتها عند الكلام في مسائل العلم عموماً ، والكتاب فيها ، فما ليس تحته عمل ولايترتب على معرفته فائدةٌ دينية ولا دنيوية ، وما لاينفع العلم به ، ولايضر الجهل به فينبغي الإعراض عنه ، وعدم الكلام فيه .
وقد ذكر ابن عبدالبر آثاراً تدل على هذا المعنى المهم (1) .
ومن ذلك ما ذكره بقوله : ( وذكر ابن وهب في جامعه ، قال : سمعتُ سليمان بن بلال يقول : سمعت ربيعة (2) يُسأل : لِمَ قُدِّمت البقرة وآل عمران ، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة ، وإنَّما نزلتا بالمدينة ؟ .
فقال ربيعة : قد قُدّمتا ، وأُلِّف القرآن علم علم من أَلّفه ، وقد اجتمعوا على العمل بذلك ، فهذا مِمَّا ننتهي إليه ولانَسأَلُ عنه (3) .
فالكلام في هذه الأشياء ، وما كان في معناها ليس من طريقة العلماء العاملين الربانيين ، الذين يميزون بين نافع العلم وضاره ، وبين ما يُحتاج إليه منه ، وما لايحتاج إليه ، وإنَّما البحث في مثل هذه الأشياء من طريقة أهل الكلام والجدل الذين ذمّهم السلف وحذروا منهم .
وقد قال الإمام الشافعي - عليه رحمة الله - : إذا سمعت الرجل يقول : الاسم غير المسمى أو الاسم المسمى فاشهد عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له (4) .
__________
(1) انظر : باب ما تكره فيه المناظرة والجدل في جامع بيان العلم وفضله 2/938 - 494 .
(2) هو : ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ ، الإمام أبو عثمان التميمي المدني الفقيه ، كان إماماً فقيهاً عالماً حافظاً للفقه والحديث ، وكان صاحب الفتوى بالمدينة ، وعليه تفقه الإمام مالك ، توفي سنة 136 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/245 ، 246 ، وسير أعلام النبلاء 6/89 - 96 .
(3) جامع بيان العلم وفضله 2/949 .
(4) جامع بيان العلم وفضله 2/941 .(1/96)
ورحم الله ابن جرير الطبري ، إذ قال : ( وأمَّا القول في الاسم أهو المسمى أو غير المسمى فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع ولا قول من إمام فيستمع ، والخوض فيه شين ، والصمت عنه زين ، وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الصادق عزوجل : { قُلِ ا؟دْعُوا ا؟للَّهَ أَوِ ا؟دْعُوا الرَّحْمَـ!ــنَ( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ ا؟لأَسْمَآءُ الْحُسْنَى" } [ الإسراء : 110 ] ، وقوله : { وَلِلَّهِ ا؟لأَسْمَآءُ ا؟لْحُسْنَى فَا؟دْعُوهُ بِهَا( } [ الأعراف : 180 ] ) (1) ا هـ .
فأيّ مسألة من المسائل ليس فيها أثر يتبع أو قول من إمام معتبر ، وليس في العلم بها فائدة تذكر ، ولايترتب على جهلها أي ضرر فَلِمَ الخوض فيها وتضييع العمر ؟ ! ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
* * *
القسم الثاني
جهود ابن عبدالبر في علوم القرآن
دراسة وموازنة
وتحته تمهيد وكذا موضوعات :
الموضوع الأول : الوحي ونزول القرآن
الموضوع الثاني :
تمهيد :
يُمكن تقسيم جهود ابن عبدالبر في علوم القرآن إلى قسمين :
أحدهما : الكتب التي ألّفها في علوم القرآن .
والثاني : ما كتبه من مباحث متعلقة بعلوم القرآن في كتبه الأخرى .
فأمَّا القسم الأول ، وهو الكتب التي ألَّفَها - رحمه الله - في علوم القرآن فقد ذكر العلماء الذين ترجموا له أن له في علوم القرآن مؤلفات ، كما أنه أشار إلى بعضها في كتبه الأخرى .
وهذه المؤلفات هي :
1 - البيان عن تلاوة القرآن (2) :
__________
(1) من كتاب صريح السنة لابن جرير الطبري نقلاً عن كتاب المفسرون بين النفي والإثبات في آيات الصفات لمحمد بن عبدالرحمن المفراوي 1/127 .
(2) ورد ذكر هذا الكتاب منسوباً إليه في : جذوة المقتبس ص 368 ، والبغية ص 490 ، وترتيب المدارك 2/810 ، وسير أعلام النبلاء 18/159 .
... كما ورد ذكره في : الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط ( علوم قرآن ) 1/101 الذي يصدره المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلاميَّة بالأردن ، وجاء فيه بعنوان البيان بدليل القرآن ، ومنه نسخة خطية بيعقوب سركيس ( بغداد ) 11 [2] - 86 ( وناقص الأول ) - 696 هـ .(1/97)
وهذا الكتاب كما يظهر من اسمه يتعلق بتلاوة القرآن وأحكامها وآدابها ، وقد أشار إليه ابن عبدالبر في كتاب الاستذكار فقال في باب ماجاء في تحزيب القرآن : ( وقد أفردنا لهذا المعنى كتاباً أسميناه { كتاب البيان عن تلاوة القرآن } واستوعبنا فيه القول والآثار في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعنى الهذّ والترتيل والحدر وأيُّ ذلك أفضل ، والقول في قراءة القرآن بالألحان ، ومن كره ذلك ومن أجازه ، وما روي في صوت داود صلى الله عليه وسلم وماجاء من هذه المعاني فيه شفاء في معناه ، والحمد لله ) (1) .
2 - كتاب { الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو بن العلاء ، بتوجيه ما اختلفا فيه ، والحجة لكل منهما } : جزء واحد ، ذكره الحميدي ، والضبي ، والقاضي عياض ، والذهبي (2) ، وغيرهم .
ويُعد هذا الكتاب من الكتب المفقودة .
3 - التجويد والمدخل إلى علم القرآن بالتحديد : جزءان ، ذكره الحميدي والضبي (3) .
4 - المدخل في القراءات : ذكره صاحب كشف الظنون (4) ، وصاحب هدية العارفين (5) ، وهو أيضاً في حكم المفقود .
5 - { الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } في فاتحة الكتاب من الاختلاف } : وهذا الكتاب تعرض فيه ابن عبدالبر لمسألتين تتعلقان بموضوع البسملة ، كل منهما متعلقة بالأخرى :
إحداهما : مسألة قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } في فاتحة الكتاب ، هل تقرأ سرّاً أو جهراً أو لاتقرأ البتة ؟ .
__________
(1) الاستذكار 8/24 ، 25 .
(2) الحميدي في جذوة المقتبس ص 368 ، والضبي في بغية الملتمس ص 490 ، والقاضي عياض في ترتيب المدارك 2/810 ، والذهبي في السير 18/159 .
(3) جذوة المقتبس ص 368 ، بغية الملتمس ص 490 .
(4) 2/1644 .
(5) 2/55 .(1/98)
والثانية : قرآنية البسملة ، وهل هي آية من سورة الفاتحة أو لا ؟ ، وهذه المسألة تنبني عليها المسألة الأولى (1) .
وهذا الكتاب طبع أكثر من مرة ، وأجود طبعاته الطبعة التي صدرت مؤخراً بتحقيق عبداللطيف بن محمد الجيلاني المغربي (2) .
وهذه المؤلفات ليست محل البحث هنا ؛ لأن أكثرها في حكم المفقود ، وما طبع منها - وهو كتاب الإنصاف - دُرس فلا حاجة لدراسته مرة أخرى ، وأيضاً هو كتاب مؤلف على طريقة المحدثين والفقهاء ، ولم يتطرق فيه إلى شيء من مباحث علوم القرآن التي هي محل البحث .
وأمَّا القسم الثاني - وهو ما كتبه ابن عبدالبر - رحمه الله - من مباحث متعلقة بعلوم القرآن في مؤلفاته وكتبه الأخرى - فهو ما سأجمعه وأقوم بدراسته في هذا القسم من البحث .
وطريقتي في دراسة المباحث التي تكلم عنها ابن عبدالبر سوف تكون كالتالي :
أذكر عنوان البحث الذي وجدت لابن عبدالبر كلاماً حوله ، ثُمَّ أمهّد له بتمهيد أعرف فيه بمصطلحات المبحث ، ثُمَّ أذكر كلام ابن عبدالبر في هذا المبحث ، ثُمَّ أتناوله بالدراسة والشرح حسب الحاجة ، مبيناً رأي ابن عبدالبر في هذه المباحث مع المقارنة بآراء العلماء وأقوالهم - إن وجدت - ثُمَّ أبين الرأي الذي أراه راجحاً .
ويُمكن حصر المضوعات التي وجدت لابن عبدالبر كلاماً حولها أو آراء في بعض مسائلها فيما يلي :
1 - الوحي ونزول القرآن .
2 - نزول القرآن على سبعة أحرف .
3 - النسخ .
4 - الحقيقة والمجاز .
5 - المحكم والمتشابه .
6 - آداب القرآن .
7 - سجدات القرآن .
8 - فضائل القرآن .
__________
(1) للتوسع في معرفة موضوع هذا الكتاب ومنهج المؤلف وطريقته فيه يُمكن الرجوع إلى الدراسة الواسعة التي كتبها محقق الكتاب عبداللطيف محمد المغربي ، حيث خصص الباب الثاني من قسم الدراسة لدراسة هذا الكتاب من ص 73 - 138 .
(2) صدرت هذه الطبعة عام 1417 هـ عن مكتبة أضواء السلف - الرياض .(1/99)
وقد يطول كلام ابن عبدالبر في بعض تلك الموضوعات ، كما أنه قد يكون قليلاً في بعضها ؛ ولذلك فلايستغرب وجود تفاوت بين الموضوعات في الطول والقصر .
وإلى تفصيل دراسة هذه الموضوعات في صفحات البحث التالية ، وبالله التوفيق .
* * *
الموضوع الأول
الوحي ونزول القرآن
وتحته تمهيد ومبحثان :
المبحث الأول : كيفية نزول الوحي وأنواعه
المبحث الثاني : كيفية نزول القرآن
تمهيد :
أولاً : معنى الوحي :
الوحي في اللغة : الإشارة ، والكتابة ، والإلهام ، والكلام الخفي ، وكل ما ألقيته إلى غيرك (1) .
وأصل الوحي : الإشارة السريعة (2) ، وقال بعضهم : أصله في اللغة إعلامٌ في خفاء (3) ؛ ( ولذا قيل في معناه : الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره ، وهذا معنى المصدر ، ويُطلق ويراد به الموحَى ، أي بمعنى اسم المفعول .
والوحي بمعناه اللغوي يتناول :
1 - الإلهام الفطري للإنسان : كالوحي إلى أم موسى في قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى% أُمِّ مُوسَى% أَنْ أَرْضِعِيهِ( } [ القصص : 7 ] .
2 - الإلهام الغريزي للحيوان : كالوحي إلى النحل في قوله تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى ا؟لنَّحْلِ أَنِ ا؟تَّخِذِي مِنَ ا؟لْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ا؟لشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ = 68 } [ النحل : 68 ] .
3 - الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيحاء : كإيحاء زكريا فيما حكاه القرآن عنه في قوله تعالى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ÷ مِـ،َ ا؟لْمِحْرَابِ فَأَوْحَى% إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا = 11 } [ مريم : 11 ] .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 15/239 - 240 ، مادة ( وحي ) .
(2) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 858 .
(3) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 4/335 .(1/100)
4 - وسوسة الشيطان وتزيينه الشر في نفس الإنسان : كما في قوله تعالى : { وَإِنَّ ا؟لشَّيَـ!ـــطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى% أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـ!ــدِلُوكُمْ( } [ الأنعام : 112 ] .
5 - ما يلقيه الله إلى ملائكته من أمر ليفعلوه : كما في قول الله تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ا؟لْمَلَـ!ـــئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا ا؟لَّذِينَ ءَامَنُوا } [ الأنفال : 12 ] ) (1) .
وأمَّا تعريف الوحي في الاصطلاح الشرعي ، فقد اختلفت عبارات العلماء في تعريفه ، فمنهم من أوجز فقال : ( هو الإعلام بالشرع ، وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه ، أي الموحى ، وهو كلام الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ) (2) .
ومنهم من أسهب فقال : ( الوحي معناه في الشرع أن يُعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كلّ ما أراد إطلاعه إليه من ألوان الهداية والعلم ، ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر ) (3) .
__________
(1) من كتاب مباحث في علوم القرآن ، لمناع القطان ص 32 ، 33 بتصرف يسير . ... ... = =
= = وللتوسع في معرفة معاني الوحي وإطلاقاته يُنظر : تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 289 ، 290 ، ونزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر لابن الجوزي ص 621 ، 622 ، والوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 43 ، 44 ، وكتاب القرآن المبين وكيف نزل به الروح الأمين لمحمد بحيرى إبراهيم ص 24 - 27 .
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 1/14 - 15 .
(3) مناهل العرفان لمحمد عبدالعظيم الزرقاني 1/64 .(1/101)
ومنهم من أراد أن يأتي بما لم يأت به السابقون فقال : ( وقد عرفوه شرعاً : بأنه إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه ، أمَّا نحن فنعرفه على شرطنا بأنه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغيرصوت ، ويفرق بينه وبين الإلهام بأن الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى ، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور ) (1) .
وكل التعريفات السابقة لم تخل من مقال ونقد .
ولعل الأقرب في بيان معنى الوحي في الشرع أن يقال : هو إعلام الله تعالى لمن اصطفاه من عباده بطريق خفية سريعة (2) .
وهذا التعريف عندما يطلق الوحي ويراد به المصدر .
وأمَّا إذا أطلق وأريد به اسم المفعول ( الموحَى ) فإنه يقال في تعريفه : هو ما أنزله الله على أنبيائه وعرّفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم (3) .
ولمزيد من الإيضاح والبيان لمعنى الوحي الاصطلاحي الشرعي يُقال : ( ينقسم الوحي بمعناه الاصطلاحي إلى قسمين أساسين :
1 - وحي الله إلى ملائكته .
2 - وحي الله إلى رسوله من البشر .
__________
(1) هذا تعريف محمد عبده للوحي في رسالة التوحيد كما نقله عنه تلميذه محمد رشيد رضا في كتاب الوحي المحمدي ص 44 ، 45 ، ونقله غيره من العلماء الذين ألّفوا في علوم القرآن .
... وانظر نقد هذا التعريف وبيان المآخذ عليه كتاب منهج المدرسة العقليَّة الحديثة في التفسير للدكتور فهد ابن عبدالرحمن الرومي 2/486 ومابعدها .
(2) من كتاب علوم القرآن الكريم للدكتور نور الدين عتر ص 15 .
(3) من كتاب الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 44 .(1/102)
وبيان ذلك : أنه قد جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يبين أن الله يكلم الملائكة ويوحي إليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ!ـــ%ـئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ا؟لأَرْضِ خَلِيفَةً ( ... } الآيات [ البقرة : 30 ] ، وقال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ا؟لْمَلَـ!ـــ%ـئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا ا؟لَّذِينَ ءَامَنُوا" } الآية [ الأنفال : 12 ] .
والمذهب الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة في كيفية وحي الله إلى جبريل بالقرآن أن جبريل - عليه السلام - قد سمع القرآن الكريم من الله تعالى بكلامه المخصوص وبالكيفية التي يعلمها الله تعالى وحده .
ويؤيد هذا ويدل عليه ماجاء في الحديث الشريف عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة ، أو قال : رعدة شديدة خوفاً من الله عزوجل ، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخرّوا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل - عليه السلام - فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثُمَّ يمر جبريل على الملائكة كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : ( قال الحق وهو العلي الكبير ) فيقولون كلهم مثلما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزوجل } (1) .
__________
(1) هذا الحديث أخرجه الطبري في تفسيره 10/373 ، والبيهقي في الأسماء والصفات 1/511 - 512 رقم [435] وقال محققه : إسناده ضعيف . وأخرجه أيضاً البغوي في تفسيره 6/398 ، وذكره ابن كثير = =
= = في تفسيره 3/516 وعزاه لابن أبي حاتم ثُمَّ قال : ( وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم - رحمه الله - ) .
... والحديث ضعفه الألباني في ظلال الجَنَّة 1/227 .
... والحديث ثابت بلفظ قريب من هذا ، وهو : ( إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرس السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، فلايزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ، حتى إذا جاءهم جبريل فزّع عن قلوبهم ، قال : فيقولون : يا جبريل ! ماذا قال ربك ؟ فيقول : الحق ، فيقولون : الحق الحق ) . فقد ذكره الألباني بهذا اللفظ في الصحيحة برقم [1293] ثُمَّ قال : ( أخرجه أبو داود 2/536 - 537 الحلبي ) وابن خزيمة في التوحيد ص 95 - 96 ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص 200 عن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبدالله قال : قال رسول الله e فذكره .
... قلتُ : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ... ) السلسلة الصحيحة 3/282 - 283 .
... وانظر أيضاً في تخريجه : كتاب شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد بن عثيمين ، بتحقيق أشرف بن عبدالمقصود ص 76 ، 77 - حاشية ) .(1/103)
وأمَّا وحي الله إلى رسله من البشر فهو على نوعين :
النوع الأول : الوحي بغير واسطة وهو قسمان :
أولهما : الرؤيا الصالحة في النوم .
ثانيهما : الكلام الإلهي من وراء حجاب بدون واسطة في اليقظة لا في المنام .
النوع الثاني : الوحي إلى الرسل بواسطة الملك ، وهو الذي نزل به القرآن ، وله كيفيات متنوعة ، وآثار كثيرة سيأتي بيانها - إن شاء الله - ) (1) .
ثانياً : معنى النزول :
النزول في اللغة : النزول في الأصل هو انحطاط مـ، علو ، ويطلق ويراد به الحلول ، كقوله تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِـ-ْ } [ الصافات : 177 ] أي : حل . يُقال : نزل فلان بالمدينة : أي حل بها (2) .
وكلمة { نزل } كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه (3) .
وأمَّا معنى نزول القرآن في الشرع فإني لم أجد تعريفاً مناسباً له سالماً من النقص أو الخطأ أو الاعتراض بعد طول بحث في كتب علوم القرآن وغيرها مِمَّا وقع تحت يدي واطلعت عليه .
والذي أحسبه وأراه مناسباً في بيان معنى نزول القرآن في الشرع أن يقال : إن المراد الشرعي بكلمة { نزول } هو حقيقتها اللغوية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( ليس في القرآن ولا في السنة لفظ : { نزول } إلاَّ وفيه معنى النزول المعروف ، وهذا هو اللائق ، فإنه نزل بلغة العرب ، ولاتعرف العرب نزولاً إلاَّ بهذا المعنى ، ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطاباً بغير لغتها ثُمَّ هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان ، وهذا لايجوز ...
__________
(1) ما بين القوسين مأخوذ باختصار شديد وبتصرف يسير من كتابي : مباحث في علوم القرآن للقطان ص 34 - 39 ، وبحوث منهجية في علوم القرآن الكريم لموسى إبراهيم الإبراهيم ص 17 - 19 .
(2) انظر : عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 4/188 ، 189 .
(3) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/417 .(1/104)
وبهذا يحصل مقصود القرآن واللغة الذي أخبر الله تعالى أنه بينه وجعله هدى للناس ) (1) ا هـ .
وإذا تقرر هذا تبيّن لنا خطأ من قال : إن المعنيين اللغويين للنزول لايليقان بنزول القرآن على وجه الحقيقة لاقتضائهما الجسمية والمكانية والانتقال ، فلابد من حمل نزول القرآن على معنى مجازي ، وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو الإعلام في جميع إطلاقاته ، إلى آخر ما ذكروه في هذا المعنى (2) .
فهذا الكلام مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة ، ولا حاجة لتفسير النزول بمعاني مجازية غير معروفة في كلام العرب .
فنزول القرآن نزول حقيقي ليس بمجاز ، ويدل على هذا بوضوح الآيات التي جاء فيها تأكيد لفظ النزول بالمصدر ، كما في قوله تعالى : { وَنَزَّلْنَـ!ــهُ تَنزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] ، وقوله سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ا؟لْقُرْءَانَ تَنزِيلاً = 23 } [ الإنسان : 23 ] ، قال النحاس (3) :
__________
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية 12/257 ، وانظر : كتاب القراءات وأثرها في التفسير والأحكام ، لمحمد عمر با زمول 1/29 ، 30 .
(2) ذكر معنى هذا الكلام كثير ممن ألف في علوم القرآن وتكلم عن نزوله ، ومن أشهرهم : محمد عبدالعظيم الزرقاني في كتابه مناهل العرفان 1/42 - 44 ، والشيخ محمد أبو شهبة في كتابه المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 44 ، 45 .
... وانظر في الرد على صاحب مناهل العرفان : كتاب مناهل العرفان للزرقاني دراسة وتقويم لخالد عثمان السبت 1/246 - 260 ، وانظر : كتاب الحقيقة الشرعية في تفسير القرآن العظيم والسنة النبوية لمحمد عمر بازمول ص 61 .
(3) النحّاس : أحمد بن محمد بن إسماعيل ، أبو جعفر المصري النحوي ، المعروف بالنحّاس ، العلامة ، إمام العربيَّة ، من كتبه : إعراب القرآن ، ومعاني القرآن ، والناسخ والمنسوخ ، مات سنة 338 هـ .
... انظر : سير أعلام النبلاء 15/401 ، 402 .(1/105)
( وأجمع النحويون على أنك إذا أكّدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً ) (1) .
فهذا ما يتعلق ببيان معنى الوحي والنزول في اللغة والشرع ، وأنتقل بعد هذا إلى ما ذكره الإمام ابن عبدالبر في هذا الموضوع ، وقد رأيت بعد جمع المادة المتعلقة بهذا الموضوع أن أجعله في مبحثين :
المبحث الأول : في كيفية نزول الوحي وأنواعه .
المبحث الثاني : في كيفية نزول القرآن .
فإلى كلام ابن عبدالبر مع دراسته بالتفصيل من خلال الصفحات التالية :
المبحث الأول
كيفية نزول الوحي وأنواعه
تكلم ابن عبدالبر - رحمه الله - عن كيفية نزول الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبيّن أنواع نزول الوحي في غير موضع ، وذكر الآثار الواردة في ذلك .
فعند شرحه لحديث عائشة - رضي الله عنها - أن الحارث بـ، هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده عليّ ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما أقول } قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً (2) .
قال في التمهيد : ( وفي هذا الحديث نوعان أو ثلاثة من صفة نزول الوحي عليه وكيفية ذلك ، وقد ورد في غير ما أثر ضروب من صفة الوحي حتى الرؤيا فرؤيا الأنبياء وحي أيضاً ، [ ولكن المقصد بهذا الحديث إلى نزول القرآن - والله أعلم - ] (3) ...
__________
(1) إعراب القرآن للنحاس 1/507 ، وقد نقل كلامه كل من القرطبي في تفسيره 6/18 ، والشوكاني في فتح القدير 1/806 ، وانظر الكلام حول هذه القاعدة : تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 111 .
(2) أخرجه البخاري في بدء الوحي رقم [2] 1/4 ، وأخرجه مسلم في الفضائل رقم [2333] .
(3) هذه عبارته في التمهيد وعبارته في الاستذكار : ( ولكن أراد بهذا الحديث نزول ما يتلى ، والله أعلم ) الاستذكار 8/61 .(1/106)
وأمَّا قوله : صلصلة الجرس فإنه أراد في مثل صوت الجرس ، والصلصلة الصوت يقال : صلصلة الطست ، وصلصلة الجرس ، وصلصلة الفخار .
وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : كان الوحي إذا نزل ، سمعت الملائكة صوت مرار أو إمرار السلسلة على الصفا (1) .
وفي حديث حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديث على الطست الجديد .
وروي عن مجاهد (2) في قول الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ا؟للَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] قال : موسى حين كلمه الله { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } قال : جبريل إلى محمد - صلى الله عليهما وسلم - وأشباهه من الرسل (3) .
__________
(1) روى ابن جرير نحوه عن ابن عباس بلفظ : ( إن الله لما أراد أن يوحي إلى محمد دعا جبريل ، فلما تكلم ربنا بالوحي كان صوته كصوت الحديد على الصفا ... ) أخرجه ابن جرير في تفسيره 10/373 .
(2) هو : مجاهد بن جبر ، الإمام ، شيخ القراء والمفسرين ، أبو الحجاج المكي ، روى عن ابن عباس ، فأكثر عنه الرواية ، وأخذ عنه القرآن والتفسير والفقه ، قال : عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس ، أقفه عند كل آية أسأله فيمَ نزلت وكيف كانت . مات مجاهد وهو ساجد سنة ثنتين ومائة .
... انظر : سير أعلام النبلاء 4/449 - 457 .
(3) في تفسير الطبري 11/162 نحوه ولكنه عن السدي ، وقال النحاس في معاني القرآن 6/326 ، 327 : ( فالذي عليه أهل التفسير ماقاله مجاهد ، قال : { إِلاَّ وَحْياً } أن ينفث في قلبه { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } كما كلّم موسى e { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } كما أرسل جبريل عليه السلام إلى النبي e وإلى أشباهه ) ا هـ .(1/107)
وروى ابن وهب عن يونس ، عن ابن شهاب (1) أنه سئل عن هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ا؟للَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ÷ مَا يَشَآءُ" إِنَّهُ , عَلِيٌّ حَكِيمٌ = 51 } [ الشورى : 51 ] قال : نرى هذه الآية تعد من أوحى الله إليه من البشر ، فالكلام : ما كلّم الله به موسى من وراء حجاب ، والوحي : ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه فيثبت الله ما أراد من وحيه في قلب النبي فيتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم ويكتبه فهو كلام الله ووحيه ، ومنه ما يكون بين الله وبين رسله لايكلم به أحد من الأنبياء أحداً من الناس ، ولكنه يكون سر غيب بين الله وبين رسله ، ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولايكتبونه ولكنهم يحدثون به الناس ويأمرونهم ببيانه ، ويبينون لهم أن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويعلموهم إياه .
ومن الوحي ما يرسل الله به مَن يشاء من ملائكته فيوحيه وحياً في قلوب مَن يشاء من رسله ، وقد بيّن لنا في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد - عليهما السلام - فقال في كتابه : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ , نَزَّلَهُ , عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ ا؟للَّهِ } [ البقرة : 97 ] .
__________
(1) هو : أبو بكر ، محمد بن مسلم بن عبيدالله ، ابن شهاب الزهري المدني ، الإمام ، عَلَمُ الحفاظ ، ولد سنة خمسين ، حدّث عن جماعة من الصحابة ، قال الليث : ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري . وقال مالك : بقي الزهري وماله في الدنيا نظير . قال - رحمه الله - : ما عُبد الله بشيء أفضل من العلم . ومناقبه وأخباره كثيرة جداً ، توفي سنة أربع وعشرين ومائة .
... انظر : طبقات علماء الحديث 1/181 - 183 ، وسير أعلام النبلاء 5/326 - 350 .(1/108)
وقال عزوجل : { وَإِنَّهُ , لَتَنْزِيلُ رَبِّ ا؟لْعَـ!ـــلَمِينَ = 192 نَزَلَ بِهِ ا؟لرُّوحُ ا؟لأَمِينُ = 193 عَلَى قَلْبِكَ ... } إلى قوله : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ = 195 } [ الشعراء : 192 - 195 ] (1) ) (2) .
وذكر في الاستذكار نحو ما ذكره في التمهيد وزاد عليه : ( وقالت عائشة : كان أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، كان يرى الرؤيا فتأتي كأنها فلق الصبح (3) .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يُبدى له جبريل بين السماء والأرض ، وذلك بيّن في حديث جابر بن عبدالله (4) .
__________
(1) هذا الأثر عن الزهري رواه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات 1/497 رقم [425] . وانظر : كلام المحقق على إسناده ، وعزاه ابن تيمية في مجموع الفتاوى إلى كتاب الإبانة لأبي نصر السجزي وإلى البيهقي فقال : ( فروّينا في كتاب الإبانة لأبي نصر السجزي ) ثُمَّ ذكر هذا الأثر إلى قول ابن شهاب فيه : في قلوب من يشاء من رسله . مجموع الفتاوى 12/397 .
(2) التمهيد 22/112 - 115 .
(3) أخرجه البخاري في بدء الوحي 1/4 ، 5 رقم [3] ، وأخرجه مسلم في الإيمان ، باب : بدء الوحي إلى رسول الله e رقم [160] .
(4) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : بدء الوحي إلى رسول الله e رقم [161] وفيه : ( حدثنا رسول الله e قال : جاورت بحراء شهراً ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت ، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرَ أحداً ، ثُمَّ نوديت فنظرت فلم أر أحداً ، ثُمَّ نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل عليه السلام - ... ) وفي رواية له : ( فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض ... ) .
... والحديث أخرجه البخاري أيضاً في بدء الوحي 1/5 ، 6 رقم [4] وفي مواضع أخرى من صحيحه .(1/109)
وأحياناً يأتيه جبريل في هيئة إنسان فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء أخاه ، وذلك بيّن في حديث عمر بن الخطاب (1) ، وعبدالله بن عمر(2) في الإيمان والإسلام وحديثه حين جاءه جبريل في صفة دحية الكلبي (2) .
وفي حديث عمر بن الخطاب ويعلى بن أمية : إذا نزل عليه الوحي يحمّر وجهه ويغط غطيط البَكر وينفخ (3) . إلى ضروب كثيرة لست أحصيها ) (4) ا هـ .
__________
(1) يريد حديث عبدالله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في مجيء جبريل - عليه السلام - في صورة رجل حسن المنظر ، وسؤاله النبي e عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة وأماراتها ، وهو حديث مشهور أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ، باب : بيان الإيمان والإسلام والإحسان رقم [8] .
(2) في رواية لحديث عمر السابق عند الإمام أحمد في المسند عن ابن عمر قال : وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي e في صورة دحية الكلبي . مسند الإمام أحمد 8/132 رقم [5857] بتحقيق أحمد شاكر وقال : إسناده صحيح .
... وفي صحيح البخاري ما يدل على مجيئه في صورة دحية الكلبي وسيأتي - إن شاء الله - .
... ودحية هذا هو : دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ، كان من كبار الصحابة ، لم يشهد بدراً ، وشهدا أُحداً وما بعدها من المشاهد ، وبقي إلى خلافة معاوية ، قال الذهبي في السير : ( ولاريب أن دحية كان أجمل الصحابة الموجودين بالمدينة ، وهو معروف ، ولذا كان جبريل رُبَّمَا نزل في صورته ) السير 2/554 . وانظر : الاستيعاب لابن عبدالبر 2/44 ، 45 .
(3) سيأتي ذكر الحديث وتخريجه - إن شاء الله - .
(4) الاستذكار 8/62 - 66 .(1/110)
وعند شرحه لحديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة } (1) .
قال في التمهيد : ( حدثنا محمد بن عبدالله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي ، قال : حدثنا هشام ابن عمّار ، قال : حدثنا خالد بن عبدالرحمن ، قال : حدثنا إبراهيم بن عثمان ، عن الحكم بن عيينة ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كان من الأنبياء من يسمع الصوت فيكون نبياً ، وكان منهم من يرى في المنام ، فيكون بذلك نبياً ، وكان منهم من ينفث في أذنه وقلبه ، فيكون بذلك نبياً ، وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه } (2) .
قال أبو عمر : هذا على أنه يكلمه جبريل كثيراً بالوحي في الأغلب من أمره ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : { إن روح القدس نفث في روعي أنه لم تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، خذوا ما حلّ ودعوا ما حرم } (3) .
وفي حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : كيف يأتيك الوحي ؟ قال : { يأتيني الوحي أحياناً في مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال } (4) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الرؤيا ، باب : ماجاء في الرؤيا ص 728 ، وأخرجه البخاري في كتاب التعبير ، باب : رؤيا الصالحين رقم [6983] مع الفتح 12/378 .
(2) لم أجده وفي سنده إبراهيم بن عثمان متروك الحديث كما في التقريب ص 112 .
(3) الحديث أخرجه الشافعي في الرسالة فقرة [306] ص 93 بتحقيق أحمد شاكر ، وقد تكلم عليه المحقق ودرس إسناده دراسة مطولة من ص 93 - 103 حيث ذكر رواياته وطرقه ومن خرّجه ، وخلاصة بحثه أن الحديث صحيح متصل الإسناد .
(4) سبق تخريجه ص 115 .(1/111)
وقد كان يتراءى له جبريل من السحاب (1) ، وكان أول ما ابتدئ من النبوة أنه كان يرى الرؤيا فتأتي كأنها فلق الصبح (2) ، ورُبَّما جاء جبريل في صفة إنسان حسن الصورة فيكلمه (3) ، ورُبَّما اشتدّ عليه حتى يغط غطيط البكر ويئن ويحمر وجهه (4) إلى ضروب كثيرة يطول ذكرها ) (5) ا هـ .
وقال في الاستذكار في شرحه للحديث نفسه : ( ولا خلاف بين العلماء أن رؤيا الأنبياء وحي ، بدليل قوله عزوجل حاكياً عن إبراهيم وابنه صلوات الله عليهما : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ا؟لسَّعْيَ قَالَ يَـ!ــــبُنَيَّ إِنِّي% أَرَى فِي ا؟لْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَا؟نظُرْ مَاذَا تَرَى" قَالَ يَـ!ـــ%ـــأَبَتِ ا؟فْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ( } [ الصافات : 102 ] يعني ما أمرك الله به في منامك وهذا واضح ، والحمد لله كثيراً ) (6) ا هـ .
__________
(1) سبق تخريجه ص 117 .
(2) سبق تخريجه ص 117 .
(3) سبق تخريجه ص 118 .
(4) سيأتي ذكره وتخريجه - إن شاء الله - .
(5) التمهيد 1/284 .
(6) الاستذكار 27/120 .(1/112)
وقال - رحمه الله - في شرح حديث الرؤيا في الأذان (1) : ( وفي ذلك أوضح الدلائل على أن الرؤيا من الوحي والنبوة ، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً ، ولولم تكن من الوحي ما جعلها عليه السلام شرعةً ومنهاجاً لدينه ، والله أعلم ) (2) .
__________
(1) لفظ حديث الرؤيا كما في الموطأ للإمام مالك : ( عن يحيى بن سعيد أنه قال : كان رسول الله e قد أراد أن يتخذ خشبتين ، يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة ، فأُرِي عبدالله بن زيد الأنصاري ، ثُمَّ من بني الحارث بن الخزرج ، خشبتين في النوم ، فقال : إن هاتين لنحو مِمَّا يريد رسول الله e ، فقيل : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله e حين استيقظ ، فذكر له ذلك ، فأمر رسول الله e بالأذان ) كتاب الصلاة ، باب : ماجاء في النداء للصلاة ص 81 ، وأخرجه أبو داود مطولاً في كتاب الصلاة ، باب : كيف الأذان رقم [499] 1/337 ، 338 ، والترمذي في أبواب الصلاة ، باب : ماجاء في بدء الأذان رقم [189] مختصراً ، وقال : ( حديث عبدالله بن زيد حديث حسن صحيح ) 1/359 .
(2) الاستذكار 4/10 .(1/113)
ومِمَّا قاله في هذا الباب أيضاً : ( وفي قوله - عليه السلام - : { كذلك قال لي جبريل } (1) دليلٌ على أن من الوحي ما يُتلى وما لايُتلى ، وما هو قرآن وما ليس بقرآن . وقالت طائفة من أهل العلم بالقرآن في قوله تعالى : { وَا؟ذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـ!ـــتِ ا؟للَّهِ وَا؟لْحِكْمَةِ" } [ الأحزاب : 34 ] قالوا : القرآن آيات الله ، والحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لاينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ) (2) ا هـ .
فهذا مجموع ما وجدته لابن عبدالبر من كلام في هذا الباب ، وفيما يلي دراسة ما تضمنه من مسائل وفوائد وبالله التوفيق ، ومنه نستمد العون والسداد :
الدراسة
يُمكن دراسة كلام ابن عبدالبر السابق من خلال المطالب التالية :
المطلب الأول
صور وكيفيات نزول الوحي
أشار ابن عبدالبر - رحمه الله - إلى أن لنزول الوحي صوراً وضروباً كثيرة ، وقد ذكر منها الصور التالية :
1 - أن يأتي الوحي في مثل صلصلة الجرس - أي في مثل صوت الجرس - ، وقد كان الوحي يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصورة فيفصم عنه وقد وعى ما قال .
__________
(1) الحديث كما في الموطأ عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله e فقال : يارسول الله ، إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي ؟ فقال رسول الله e : { نعم } ، فلما أدبر الرجل ، ناداه رسول الله e ، أو أمر به فنودي له ، فقال له رسول الله e : { كيف قلت } ؟ فأعاد عليه قوله ، فقال له النبي e : { نعم ، إلاَّ الدين ، كذلك قال لي جبريل } . كتاب الجهاد ، باب : الشهداء في سبيل الله 2/368 ، وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب : من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلاَّ الدين رقم [1885] .
(2) التمهيد 23/240 ، 241 .(1/114)
وهذه الصورة أشد الصور على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيها يأتيه جبريل على صورته الملكية ولكنه لايراه ، ويعرف مجيئه بهذا الصوت الذي يشبه صوت الجرس ، أو يكون له دوي كدوي النحل كما في بعض الأحاديث .
وقد دلّ على هذه الصورة حديث عائشة الذي سأل الحارث ابن هشام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف يأتيك الوحي ؟ قال : { أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده عليّ ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ... } الحديث (1) .
وعن عبدالرحمن بن عبدٍ القاريِّ (2) قال : سمعتُ عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي نسمع عند وجهه كدويّ النحل (3) ، فمكثنا ساعة ، فاستقبل ورفع يديه ، فقال : { اللهم زدنا ولاتنقصنا ، وأكرمنا ولاتهنّا ، وأعطنا ولاتحرمنا ، وآثرنا ولاتؤثر علينا ، وارضنا وارض عنا ، ثُمَّ قال : { أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة } ثُمَّ قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ ا؟لْمُؤْمِنُونَ = 1 } [ المؤمنون : 1 ] حتى ختم عشر آيات (4) .
__________
(1) سبق تخريجه ص 115 .
(2) هو : عبدالرحمن بن عبدٍ القارىّ المدني ، ولد في أيام النبوة ، وهو من جلة تابعي المدينة وعلمائها ، توفي إحدى وثمانين ، وقيل : ثمانين وله ثمان وسبعون سنة . انظر : الاستيعاب لابن عبدالبر 2/381 ، 382 .
(3) دوي النحل هو ما يُسمع منه إذا تجمع . انظر : معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/309 .
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/255 ، 256 رقم [223] بتحقيق أحمد شاكر وقال : إسناده صحيح ، ورواه الترمذي في تفسير القرآن ، باب : ومن سورة المؤمنين 5/305 رقم [3073] ، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه البغوي في شرح السنة وقال : هذا حديث حسن 5/177 ، وفي صحة الحديث اختلاف بين المحدثين ذكره أحمد شاكر في تحقيقه على المسند 1/255 ، 256 ، وانظر : ضعيف الجامع الصغير وزيادته للألباني رقم [1208] .(1/115)
ولاتعارض بين كون الوحي يأتيه على مثل صلصلة الجرس ، وكونه يُسمع له صوت كدوي النحل ؛ لأن سماع الدوي بالنسبة للحاضرين - كما في حديث عمر - حيث قال : يُسمع عند وجهه كدوي النحل ، والصلصلة بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين ، وشبهه هو - صلى الله عليه وسلم - بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه ، أفاد ذلك ابن حجر (1) .
2 - أن يتمثل الملك رجلاً ، فيكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعي ما يقول : وهذه الصورة أهون الصور على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء ، ذلك في رواية عند أبي عوانة في صحيحه ، حيث زاد في آخر حديث عائشة السابق { وهو أهونه عليّ } (2) .
وقد أشار ابن عبدالبر إلى هذه الصورة بقوله : ( وأحياناً يأتيه جبريل في هيئة إنسان فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء أخاه ، وذلك بيّن في حديث عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمر في الإيمان والإسلام ، وحديثه حين جاءه جبريل في صفة دحية الكلبي ) (3) ا هـ .
فهذه الصورة يأتي فيها جبريل في صورة رجل ، يراه الحاضرون ويسمعون قوله ولايعرفون حقيقته ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم علم اليقين أنه جبريل ، ويعي ما يقول .
وهي أخف من سابقتها ، حيث يكون التناسب بين المتكلم والسامع ويأنس رسول النبوة عند سماعه من رسول الوحي ، ويطمئن إليه اطمئنان الإنسان لأخيه الإنسان (4) .
وقد دلّ على هذه الصورة أحاديث كثيرة :
منها حديث عائشة السابق ، وفي آخره : { وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعى ما يقول } (5) .
__________
(1) انظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/27 .
(2) أشار إلى هذه الرواية ابن حجر في الفتح 1/29 .
(3) الاستذكار 8/65 ، 66 .
(4) انظر : مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 39 .
(5) سبق تخريجه ص 115 .(1/116)
ومنها حديث عمر بن الخطاب الذي رواه عنه ابنه عبدالله ، حيث قال عمر في أول الحديث : بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لايُرى عليه أثر السفر ، ولايعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ... الحديث وفيه سؤال ذلك السائل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان ، وسؤاله عن الساعة وأماراتها ، وفي آخره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر : { يا عمر ، أتدري من السائل ؟ } قلتُ : الله ورسوله أعلم ، قال : { فإنه جبريل آتاكم يعلمكم دينكم } أخرجه مسلم (1) .
وفي رواية للإمام أحمد عن ابن عمر قال : وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي (2) .
وفي صحيح البخاري عن أبي عثمان (3) قال : أنبئت أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أم سلمة ، فجعل يتحدث ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة : مَن هذا ؟ أو كمال قال ، قالت : هذا دحية ، فلما قام قالت : والله ما حسبته إلاَّ إياه ، حتى سمعت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر خبر جبريل ، أو كما قال (4) .
__________
(1) سبق تخريجه ص 118 .
(2) سبق تخريجه ص 118 .
(3) هو : أبو عثمان النهدي ، الإمام الحجة ، عبدالرحمن بن مُِلّ - وقيل : ابن مَلي - البصري ، مخضرم معمر ، أدرك الجاهليَّة والإسلام ، وغزا في خلافة عمر ، روى عن كبار الصحابة وهو أكبر من صغارهم ، كان كثير الصلاة والعبادة ، يقوم الليل ويصوم النهار ، ويصلي حتى يُغشى عليه ، مات سنة مائة . انظر : السير 4/175 - 178 .
(4) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن ، باب : كيف نزل الوحي وأول ما نزل رقم [4980] 8/619 مع الفتح .(1/117)
قال ابن حجر (1) : ( وكان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - غالباً على صورته ) (2) .
3 - أن يأتي جبريل في صورته التي خلقه الله عليها : وهذه الصورة نادرة ، وقد ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ جبريل على هذه الحالة إلاَّ مرتين ، مرة في الأرض وهو نازل من غار حراء ، ومرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى ليلة المعراج - كما سيأتي في كلام ابن القيم - رحمه الله - .
وهذه الصورة أشار إليها ابن عبدالبر بقوله : ( وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يُبَدّى له جبريل بين السماء والأرض ، وذلك بيّن في حديث جابر بن عبدالله ) ا هـ .
__________
(1) هو : أحمد بن عليّ بن محمد الكناني العسقلاني ، أبو الفضل ، شهاب الدين ، من أئمة العلم والتاريخ ، وأمير المؤمنين في الحديث ، علت شهرته فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره ، قال السخاوي : انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر ، تصانيفه كثيرة جداً ، وهي مشهورة متداولة بين أهل العلم ، ولد سنة 773 هـ ، ومات سنة 852 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 1/178 ، 179 .
(2) فتح الباري 8/621 .(1/118)
وحديث جابر هذا رواه البخاري في كتاب بدء الوحي ، ولفظه : ( قال ابن شهاب : وأخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن (1) أن جابر بن عبدالله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه : { بينا أنا أمشي ، إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض ، فرُعبت منه ، فرجعت فقلت : زملوني ، فأنزل الله تعالى : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ } إلى قوله :{ وَا؟لرُّجْزَ فَا؟هْجُرْ } [ المدثر : 1 - 5 ] فحمي الوحي وتتابع } ) (2) .
وأمَّا المرة الثانية التي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها جبريل على صورته فكانت في السماء ، عند سدرة المنتهى ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى .عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } [ النجم : 13 ، 14 ] .
قال البغوي (3) - رحمه الله - في تفسيره : ( { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى } يعني : رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء نزلة أخرى ، وذلك أنه رآه في صورته مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة في السماء ) (4) .
__________
(1) هو : أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ، الحافظ ، أحد الأعلام بالمدينة ، كان طلاّبة للعلم فقيهاً ، مجتهداً كبير القدر ، حجة ، كثير الحديث ، توفي سنة 94 بالمدينة وهو ابن 72 سنة . انظر : السير 4/287 - 292 .
(2) سبق تخريجه ص 117 وهو عند مسلم أيضاً .
(3) هو : الشيخ الإمام ، العلامة القدوة الحافظ ، محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن الفراء ، البغوي الشافعي ، المفسّر المحدث ، صاحب التصانيف النافعة كشرح السنة ، ومعالم التنزيل والمصابيح وغيرها ، وقد بورك له فيها ، ورزق فيها القبول ، كان زاهداً قانعاً باليسير ، توفي سنة 516 هـ بمرو . انظر : السير 19/439 - 443 .
(4) تفسير البغوي 7/404 .(1/119)
قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن المراد بقوله تعالى : { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى .عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } [ النجم : 13 ، 14 ] جبريل عليه الصلاة والسلام ، رآه على صورته التي خلق عليها مرتين ... في صحيح مسلم عن أبي هريرة { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى = 13 } قال : رأى جبريل عليه السلام (1) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : معنى قول الله عزوجل : { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى = 13 } وهل رأى النبي e ربّه ليلة الإسراء رقم [175] .(1/120)
وفي صحيحه أيضاً عن مسروق (1) قال : كنت متكئاً عند عائشة فقالت : ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، قلتُ : ما هنّ ؟ قالت : من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية . قال : وكنت متكئاً فجلست ، فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولاتعجليني ؛ ألم يقل الله عزوجل : { وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [ التكوير : 23 ] { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [ النجم : 13 ] ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : { إنَّما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء سادّاً عظم خلقه ما بين السماء والأرض } فقالت : أولم تسمع أن الله عزوجل يقول : { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الأنعام : 103 ] أولم تسمع أن الله عزوجل يقول : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ" إِنَّهُ , عَلِيٌّ حَكِيمٌ = 51 } [ الشورى : 51 ] الحديث (2) .
__________
(1) هو : مسروق بن الأجدع ، أبو عائشة الهمداني ، الكوفي ، الفقيه ، أحد الأعلام ، من أصحاب عبدالله بن مسعود ، قال ابن المديني : ما أقدم على مسروق أحداً من أصحاب عبدالله ، وقد صلى خلف أبي بكر الصديق ، توفي سنة 63 - رحمه الله - . انظر : طبقات علماء الحديث 1/102 ، 103 ، سير أعلام النبلاء 4/63 ، 69 .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب : معنى قول الله عزوجل : { وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى = 13 } وهل رأى النبي e ربه ليلة الإسراء رقم [177] ص 97 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/121)
والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل ) (1) ا هـ .
4 - الرؤيا الصادقة في المنام : وكانت مبدأ الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لايرى رؤيا إلاَّ جاءت مثل فلق الصبح ... (2) .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ولا خلاف بين العلماء أن رؤيا الأنبياء وحي بدليل قوله عزوجل حاكياً عن إبراهيم وابنه صلوات الله عليها : { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } [ الصافات : 102 ] يعني ما أمرك الله به في منامك . وهذا واضح ، والحمد لله كثيراً ) (3) ا هـ .
فرؤيا الأنبياء وحيٌ بلاشك ، ومِمَّا يدل على ذلك أيضاً ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : رؤيا الأنبياء وحي (4) .
__________
(1) بتصرف واختصار من كتاب بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية 4/282 - 284 .
(2) سبق تخريجه ص 117 .
(3) الاستذكار 27/120 .
(4) المعجم الكبير للطبراني 12/6 رقم [12302] وأخرجه الطبري في تفسيره بلفظ : { كانت رؤيا الأنبياء وحياً } 15/554 بتحقيق أحمد شاكر ، وذكره ابن كثير عن ابن عباس بلفظ : { رؤيا الأنبياء في المنام وحي } وقال بعده : ليس هو في شيء من الكتب التسعة من هذا الوجه .
... وفي صحيح البخاري في كتاب الوضوء ، باب : التخفيف في الوضوء عن عبيد بن عمير قال : رؤيا الأنبياء وحي ، ثُمَّ قرأ { إِنِّي% أَرَى فِي ا؟لْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } ص 52 ، 53 حديث رقم [138] ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/122)
وأمَّا رؤيا غير الأنبياء فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزاءً من النبوة (1) .
ووجه كون الرؤيا الحسنة جزءاً من النبوة محتمل لأمور ذكرها ابن حجر - رحمه الله - وهي باختصار :
الأول : أن الرؤيا إن وقعت من نبي فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة ، وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز .
الثاني : أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة .
الثالث : أنها جزء من عِلْمِ النبوة ؛ لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق (2) .
وأمَّا ابن عبدالبر فقال في وجه كون الرؤيا الحسنة جزءاً من النبوة : ( وقد يحتمل أن تكون الرؤيا جزءاً من النبوة لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران ، وقلب الأعيان ، ولها التأويل الحسن ، ورُبَّما أغنى بعضها عن التأويل ) (3) .
__________
(1) الحديث أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الرؤيا ، باب : ماجاء في الرؤيا عن أنس بن مالك أن رسول الله e قال : { الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة } ص 278 ، وأخرجه البخاري في التعبير ، باب : رؤيا الصالحين رقم [6582] .
... وللحديث روايات أخرى كثيرة فيها غير هذا العدد ، ففي رواية أخرجها مسلم في صحيحه رقم [2263] من حديث أبي هريرة : { ... جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة } وفي أخرى عند مسلم أيضاً رقم [2265] من حديث ابن عمر : { جزء من سبعين جزءاً من النبوة } . وانظر في التوفيق بين هذه الروايات : التمهيد لابن عبدالبر 1/283 ، وفتح الباري لابن حجر 12/380 - 385 .
(2) انظر : فتح الباري لابن حجر 12/380 .
(3) التمهيد 1/285 .(1/123)
وهذه الأقوال كلها محتملة ، ولا تعارض بينها ، فهي متوافقة غير متدافعة ولا متعارضة . ولايلزم منها أن تكون النبوة باقية لبقاء جزء منها ، وذلك لأن جزء الشيء إذا ثبت فلايلزم من ذلك كون الشيء ثابتاً موجوداً ، كمن قال : أشهد أن لا إله إلاَّ الله رافعاً صوته لايسمى مؤذناً ، ولايُقال إنه أذن ، وإن كانت جزءاً من الأذان ، وكذا لو قرأ شيئاً من القرآن وهو قائم لايسمى مصلياً وإن كانت القراءة جزءاً من الصلاة (1) .
وإذا كانت الرؤيا الحسنة الصادقة من الرجل الصالح الصادق جزءاً من النبوة ، فهل تعتبر وحياً يترتب عليه ما يترتب على وحي الأنبياء من تشريع الأحكام ، والعمل بمقتضاها كما في رؤيا إبراهيم عندما رأى أنه يذبح ابنه إسماعيل ؟ .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - عند شرحه لحديث عبدالله بن زيد ، الذي رأى فيه أنه رأى رجلاً في المنام فعلمه صفة الأذان ، فلما أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنها لرؤيا حق - إن شاء الله (2) - ، قال : ( وفي ذلك أوضح الدلائل على أن الرؤيا من الوحي والنبوة ، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً ، ولولم تكن من الوحي ما جعلها عليه السلام شرعة ومنهاجاً لدينه ، والله أعلم ) (3) ا هـ .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر يُفهم منه أن مشروعية الأذان كانت بناءً على هذه الرؤيا ، وهذا المفهوم مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة من الإجماع على أنه لايترتب على رؤيا غير الأنبياء تشريع حكم شرعي ، وإنَّما تكون تأنيساً للرائي أو تبشيراً له أو إنذاراً (4) .
__________
(1) انظر : فتح الباري لابن حجر 12/392 .
(2) سبق تخريجه ص 120 .
(3) الاستذكار 4/10 ومثله في التمهيد 24/27 .
(4) انظر : كتاب الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية لأسامة الريّس ص 210 .(1/124)
قال المحقق الشاطبي (1) في كتاب الاعتصام وهو يبين مآخذ أهل البدع : ( وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات وأقبلوا وأعرضوا بسببها ، فيقولون : رأينا فلاناً الرجل الصالح ، فقال لنا : اتركوا هذا ، واعملوا كذا ، ويتفق مثل هذا كثيراً للمتمرسين برسم التصوف ، ورُبَّما قال بعضهم : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم ، فقال لي كذا ، وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة ، وهو خطأ ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لايحكم بها شرعاً على حال إلاَّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلاَّ وجب تركها والإعراض عنها ، وإنَّما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة ، وأمَّا استفادة الأحكام فلا ...
ولايُقال : إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلاينبغي أن تهمل ، وأيضاً : إن المخبِر في المنام قد يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قد قال : { من رآني في النوم فقد رآني حقاً ، فإن الشيطان لايتمثل بي } (2)
__________
(1) هو : إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي ، الشهير بالشاطبي ، أصولي حافظ ، صاحب : { الموافقات في أصول الشريعة } و { الاعتصام } ، توفي سنة 790 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 1/75 .
(2) في صحيح البخاري في كتاب التعبير ، باب : من رآى النبي e في المنام يمن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي e : { من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لايتمثل بي ، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة } 12/399 - 400 مع الفتح .
... وقال أبو قتادة : قال رسول الله e : { من رآني فقد رأى الحق } 12/400 . وانظر : شرح السنة للبغوي 12/225 - 228 .(1/125)
وإذا كان كذلك فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة ؛ لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة ، فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جزء من أجزائه ، والجزء لايقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنَّما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كفاية .
وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشرط مِمَّا يُنظر فيه ، فقد تتوفر وقد لاتتوفر .
وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم ، وهو من الشيطان وإلى حديث النفس ، وقد تكون [ سبب ] (1) هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة التي يحكم بها وتترك غير الصالحة ؟ .
ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحي يحكم به بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو منهي عنه بالإجماع ... .
وأمَّا الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرائي بالحكم فلابد من النظر فيها أيضاً ، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر ، وإن أخبر بمخالف فمحال ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لاينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ؛ لأن الدين لايتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية ؛ لأن ذلك باطل بالإجماع ، فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة ، إذ لو رآه حقاً لم يخبره بما يخالف الشرع ) (2) ا هـ .
__________
(1) لعله : بسبب .
(2) من كتاب الاعتصام للشاطبي ص 189 ، 191 باختصار وتصرف يسير .(1/126)
وعلى هذا فما ذكره ابن عبدالبر في شرحه لحديث عبدالله بن زيد من كون الرؤيا هي الأصل في مشروعية الأذان غير مسلّم ، وإنَّما الذي يؤخذ من الحديث ومن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه : { إنها لرؤيا حق - إن شاء الله - فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت } (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رضى هذه الرؤيا واستبشر بها ، وأقره على ماجاء فيها (2) .
قال النووي (3) - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم : ( رأى عبدالله بن زيد الأذان فشرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إمَّا بوحي وإمَّا باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - . وليس هو عملاً بمجرد المنام ، هذا ما لايشك فيه بلا خلاف ) (4) .
5 - أن يأتي الملَكُ فيلقي في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلبه من غير أن يراه ، مع تيقنه أن ما ألقى إليه من قبل الله ، وهذا النوع قليل ، ومنه ماجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولايحملنكم استبطاء الرزق على أن تبطلوه بمعصية الله ، فإن ما عند الله لاينال إلاَّ بطاعته } (5) .
__________
(1) سبق تخريجه ص
(2) انظر : كتاب الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية لأسامة الريّس ص 78 .
(3) هو : الإمام الفقيه الحافظ ، محيي الدين ، أبو زكريا ، يحيى بن شرف النووي أو النواوي ، الشافعي ، صاحب التصانيف المشهورة ، مثل : رياض الصالحين ، والمجموع شرح المهذب ، وكتاب الأذكار ، والأربعون النووية ، وغير ذلك من المصنفات الحافلة النافعة ، وكان شديد الورع والزهد ، معرضاً عن الدنيا وملاذها ، مات سنة 676 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 4/254 - 275 .
(4) شرح صحيح مسلم للنووي 4/318 ، وانظر : فتح الباري لابن حجر 2/98 .
(5) سبق تخريجه ص 119 .(1/127)
هذه هي الصور التي ذكرها ابن عبدالبر ، ولم يرد بها الحصر ؛ لأنه ذكر أن هناك ضروباً كثيرة غيرها ، ولكنه ذكر هذه الصور والأنواع لأنها هي المشهورة ، ودلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة .
ولم يبق من الصور المشهورة إلاَّ صورة واحدة ، وهي :
الكلام من وراء حجاب : أي كلام الله للرسول مباشرة بغير واسطة من وراء حجاب ، وهذه الصورة ثابتة لموسى عليه السلام كما قال الله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [ النساء : 164 ] ، وقال تعالى :{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ , رَبُّهُ , قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ... } [ الأعراف : 143 ] .
وهذه الصورة أو المرتبة ثابتة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ، وذلك ليلة الإسراء والمعراج كما صحت بذلك الأحاديث (1) .
وبعد هذا العرض السريع لصور ومراتب الوحي ، أرى أنه من المفيد التنبيه على مسألتين :
المسألة الأولى : ألا يتعارض ما ذُكر من كثرة صور ومراتب الوحي مع ما ورد في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] حيث حصرت الآية أنواع الوحي وصوره في ثلاثة أنواع ؟ .
__________
(1) انظر : مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 38 ، وانظر ذكر هذه الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم . انظر : صحيح البخاري كتاب الصلاة ، باب : كيف فرضت الصلاة في الإسراء رقم [349] ص 90 ، 91 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) . ... ... ... ... ... ... = =
= = وانظر : صحيح مسلم كتاب الإيمان ، باب : الإسراء بالرسول e إلى السماوات وفرض الصلوات رقم [163] ص 91 ، 92 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/128)
وقبل الإجابة عن هذه المسألة أرى أنّ من المفيد أن أذكر بعض ما ورد في تفسير هذه الآية الكريمة حتى يتبين لنا معناها ، والمراد منها بوضوح وجلاء .
قال ابن جرير الطبري (1) - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : ( يقول تعالى : وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله { إِلاَّ وَحْيًا } يوحي الله إليه كيف شاء أو إلهاماً ، وإمَّا غيره { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } يقول : أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولايراه ، كما كلم موسى نبيه - صلى الله عليه وسلم - { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } يقول : أو يرسل الله من ملائكته رسولاً ، إمَّا جبرائيل وإمَّا غيره { فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ" } يقول : فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه مايشاء ، يعني : مايشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي ، وغير ذلك من الرسالة والوحي ) (2) ا هـ .
__________
(1) هو : محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، الإمام أبو جعفر ، رأس المفسرين على الإطلاق ، أحد الأئمة ، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وله التصانف العظيمة ، منها : جامع البيان في تأويل آي القرآن ، وهو أجل التفاسير ، ومنها تهذيب الآثار ، وتاريخ الأمم والملوك ، وكتاب القراءات ، ولد سنة 224 ، ومات سنة 310 ، طبقات المفسرين للسيوطي ص 82 ، 83 .
(2) تفسير الطبري 11/162 .(1/129)
وأمَّا الحافظ ابن كثير فقال عند تفسيره لهذه الآية : ( هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عزوجل ، وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً لايتمارى أنه من الله عزوجل كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : { إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب } (1) ، وقوله تعالى : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكلم فحجب عنها ، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -:{ماكلّم الله أحداً إلاَّمن وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحاً } (2) كذا جاء الحديث وكان قد قتل يوم أُحُد ولكن هذا في عالم البرزخ والآية إنَّما هي في الدار الدنيا ،وقوله عزوجل:{ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ) (3) اهـ .
ونعود إلى ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - فيما يتعلق بهذه الآية ، حيث لم يرد فيما ذكره ما يدل على أنه فهم من الآية فهماً يخالف ما تدل عليه الأحاديث من كثرة ضروب وأنواع الوحي ، ولم يتكلم بنفسه عنها وإنَّما ذكر أثرين وردا في تفسيرها .
__________
(1) سبق تخريجه ص 119 .
(2) هذا الحديث رواه الترمذي رقم [3010] وحسنه ، وابن ماجه [190] بإسناد حسن أيضاً . انظر : الترغيب والترهيب للمنذري 2/287 ، وقول ابن كثير : ( في الصحيح ) يوهم أنه في أحد الصحيحين ، وليس كذلك . انظر : فتح القدير تهذيب تفسير ابن كثير لمحمد أحمد كنعان 5/1375 .
(3) تفسير ابن كثير 4/123 ، 124 .(1/130)
أمَّا الأثر الأول فهو ما ذكره بقوله : ( وروي عن مجاهد في قول الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ا؟للَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } قال : موسى حين كلمه الله ، { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } قال : جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وأشباهه من الرسل ) (1) .
والأثر الثاني عن الزهري ، ونصه كما ذكره ابن عبدالبر : ( عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] قال : نرى هذه الآية تعد من أوحى الله إليه من البشر ، فالكلام : ما كلم به موسى من وراء حجاب ، والوحي : ما يوحي الله إلى النبي من أنبيائه فيثبت الله ما أراد من وحيه في قلب النبي ، فيتكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكتبه ، فهو كلام الله ووحيه ، ومنه ما يكون بين الله وبين رسله لايكلم به أحد من الأنبياء أحداً من الناس ، ولكنه يكون سر غيب بين الله وبين رسله ،ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولايكتبونه ولكنهم يحدثون به الناس ، ويأمرونهم ببيانه ، ويبينون لهم أن الله أمرهم أن يبينوه للناس ويعلموهم إياه ، ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من ملائكته فيوحيه وحياً في قلوب من يشاء من رسله ) (2) .
__________
(1) سبق ذكره ص 116 .
(2) سبق ذكره ص 116 .(1/131)
قال البيهقي (1) بعد ذكره لهذا الأثر : ( فذهب في الوحي الأول إلى أنه ما يوحي الله به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيثبت ما أراد من وحيه في قلبه فيتكلم به النبي ، وهذا يجمع حال اليقظة والنوم .
وذهب فيما يوحي الله تعالى إلى النبي بإرسال الملك إليه إلى أنه يكون على نوعين : ( أحدهما ) : أن يأتيه الملك فيكلمه بأمر الله تكليماً ، ( والآخر ) : أن يأتيه فيلقي في روعه ما أمره الله عزوجل ، وكل ذلك بين في الأخبار .
ثُمَّ ذهب الزهري في الوحي إلى أن منه ما كان سراً فلم يحدث به النبي أحداً ، ومنه ما لم يكن سراً فحدث به الناس ، غير أنه لم يكن مأموراً بكتبه قرآناً ، فلم يكتب فيما كتب من القرآن .
قلتُ : ومنه ما كان مأموراً بكتبه قرآناً فكتب فيما كتب من القرآن ) (2) ا هـ .
وقد فصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أنواع التكليم الواردة في الآية ، وذكر - بعد أن أورد أثر الزهري السابق - أن الله جعل التكليم في هذه الآية درجات وأقساماً :
فالأول : هو الوحي وهو الإعلام السريع الخفي إمَّا في اليقظة وإمَّا في المنام ، فإن رؤيا الأنبياء وحي ، ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء ، ويكون يقظة ومناماً ، وقد يكون بصوت هاتف ، يكون الصوت في نفس الإنسان ، ليس خارجاً عن نفسه يقظة ومناماً .
فهذه الدرجة من الوحي التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملك في أدنى المراتب وآخرها ، وهي أولها باعتبار السالك .
__________
(1) هو : الإمام ، الحافظ ، شيخ خراسان ، أبو بكر ، أحمد بن الحسين بن علي الشافعي ، صاحب التصانيف التي لم يُسبق إلى مثلها ، منها : السنن الكبرى ، وشعب الإيمان ، ودلائل النبوة ، والأسماء والصفات ، مات سنة 458 هـ بنيسابور . انظر : طبقات علماء الحديث 3/329 - 331 .
(2) باختصار من كتاب الأسماء والصفات للبيهقي 1/497 - 500 .(1/132)
وقد يكون الصوت الذي يسمعه خارجاً عن نفسه من جهة الحق تعالى على لسان ملك من ملائكته أو غير ملك ، وهو القسم الثاني ، حيث قال تعالى:{ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } فهذا إيحاء الرسول ، وهو غير الوحي الأول من الله الذي هو أحد أقسام التكليم العام .
وإيحاء الرسول أيضاً أنواع دلت عليها الأحاديث كما في الصحيحين من حديث عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يأتيك الوحي ؟ قال : { أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليَّ ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول } .
قالت عائشة - رضي الله عنها - : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليفصد عرقاً (1) .
وقد سمّى الله كلا النوعين إلقاء الملك ، وخطابه وحياً ؛ لما في ذلك من الخفاء ، فإنه إذا رآه يحتاج أن يعلم أنه ملك ، وإذا جاء في مثل صلصلة الجرس يحتاج إلى فهم ما في الصوت .
والقسم الثالث : التكليم من وراء حجاب ، كما كلم موسى عليه السلام ، وهذا التكليم مختص ببعض الرسل كما قال تعالى : { مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } [ البقرة : 253 ] وقال : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [ الأعراف : 143 ] وقال بعد ذكر إيحائه إلى الأنبياء :{ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [ النساء : 164 ] ، فمن جعل هذا من جنس الوحي الأول فضلاله ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع ، بل وصريح المعقول من أبين الأمور .
__________
(1) سبق تخريجه ص 115 .(1/133)
وقد دلّ كتاب الله على أن اسم الوحي والكلام في كتاب الله فيهما عموم وخصوص ، فإذا كان أحدهما عاماً اندرج فيه الآخر كما اندرج الوحي في التكليم العام في هذه الآية ، واندرج التكليم في الوحي العام حيث قال تعالى : { فَا؟سْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [ طه : 13 ] وأمَّا التكليم الخاص الكامل فلايدخل فيه الوحي الخاص الخفي الذي يشترك فيه الأنبياء وغيرهم ، كما أن الوحي المشترك الخاص لايدخل فيه التكليم الخاص الكامل .
فالتكليم في آية الشورى في قوله : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ } [ الشورى : 51 ] هو التكليم العام ، وكلام الله لموسى هو التكليم الخاص (1) .
وإذا تبين لنا معنى الآية على ضوء ما ذكره المفسرون ؛ فإنه يتضح لنا أنه لاتعارض بين ما ذكر من كثرة صور ومراتب الوحي ، وما جاء من حصر لها في أنواع ثلاثة في الآية الكريمة ؛ لأن قوله في الآية { إِلاَّ وَحْيًا } يدخل فيه الرؤيا في المنام ، وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } يعني تكليم الله من وراء حجاب بدون واسطة يقظة ، وقوله : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ÷ مَا يَشَآءُ" } يعني إرسال الملك ، وهو جبريل في الغالب ، وقد يكون غيره ، ويدخل في هذا الكيفيات المختلفة لنزول جبريل - عليه السلام - التي وردت في الأحاديث المذكورة سابقاً .
وأمَّا النفث في الروع ، فمن العلماء من أدخله في قسم الوحي ، وجعله مثل الرؤيا في المنام والإلهام ، وهذا واضح في كلام ابن كثير - رحمه الله - ، ومنهم من جعله في قسم إرسال الرسول ؛ لأن الحديث جاء بلفظ : { إن روح القدس نفث في روعي ... } فالنفث في الروع واقع من روح القدس فيدخل تحت قوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ÷ مَا يَشَآءُ" } [ الشورى : 51 ] .
__________
(1) انظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/397 - 400 .(1/134)
قال الشيخ مناع القطان (1) :( أمَّا النفث في الروع أي القلب ، فقد ذكر في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب } (2) والحديث لايدل على أنه حالة مستقلة ، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين المذكورتين في حديث عائشة ، فيأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس وينفث في روعه ، أو يتمثل له رجلاً وينفث في روعه ، ورُبَّما كانت حالة النفث فيما سوى القرآن الكريم ) (3) .
المسألة الثانية : بأي صورة من صور الوحي نزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
إن الناظر في الأدلة الواردة في بيان صور ومراتب الوحي ، وفي كيفية نزول القرآن يدرك من خلالها أن القرآن الكريم إنَّما نزل بواسطة جبريل عليه السلام ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [ الشعراء : 192 - 194 ] فالروح الأمين هنا هو جبريل بإجماع (4) .
وظاهر الآيات يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - (5) .
__________
(1) مناع القطان : من خريجي الأزهر ، ودَرَّسَ في كليات جامعة الإمام ، وعُيِّن مشرفاً على الدراسات العليا فيها ، وله مؤلفات في علوم القرآن وتاريخ التشريع ( معاصر ) .
(2) سبق تخريجه ص 119 .
(3) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 40 ، وانظر : الإتقان للسيوطي 1/142 .
(4) انظر : تفسير ابن عطية 12/79 .
(5) انظر : تفسير روح المعاني للألوسي 10/124 .(1/135)
وهذا لاينافي ماجاء في صحيح مسلم عن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه ، فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلاَّ اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلاَّ اليوم ، فسلّم وقال : أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلاَّ أعطيته (1) .
لأن الحديث لايدل على أن هذا الملك هو الذي نزل بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، وإنَّما فيه ما يدل على أنه بشّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها ، وهو قد أوتيها ونزل بها جبريل عليه السلام من قبل .
ولاينافي كذلك ما ثبت في صحيح مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى ... الحديث .
وفيه : فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً : أعطى الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المُقْحِمَات (2) ؛ لأن هذا ليس فيه تصريح بأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها ، فيجوز أن يكون جبريل نزل بها تأكيداً وتقريراً ، أو نحو ذلك ، وقد ثبت نزوله عليه السلام بالآية الواحدة مرتين (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافر وقصرها ، باب : فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة 6/339 رقم [806] .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب ذكر سدرة المنتهى 3/5 النووي رقم [173] .
... والمُقْحِمَات : الذنوب العظام التي تقحم أصحابها النَّار : أي تلقيهم فيها . انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/19 ، مادة ( قحم ) .
(3) انظر : روح المعاني للألوسي 10/124 ، وانظر : النوع الحادي عشر في الإتقان للسيوطي وهو ما تكرر نزوله 1/113 ، وانظر : تهذيب وترتيب الإتقان في علوم القرآن لمحمد عمر بازمول ص 147 .(1/136)
وأمَّا كيف كان جبريل ينزل بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
فالجواب ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما قال في حديث عائشة : { أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول } (1) .
وبهذا يتضح لنا معنى قول ابن عبدالبر في شرحه لهذا الحديث : ( ... ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يُتلى - والله أعلم - ) وقوله : ( ولكن المقصد بهذا الحديث إلى نزول القرآن - والله أعلم - ) .
ولعل ما ذكره ابن عبدالبر هنا أولى من قول الحافظ ابن حجر : ( وأُورد على ما اقتضاه الحديث - وهو أن الوحي منحصر في الحالتين - حالات أخرى : إمَّا في صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل ، والنفث في الروع ، والإلهام ، والرؤيا الصالحة ، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة ، وإمَّا في صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سدّ الأفق .
والجواب : منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما ، وحملهما على الغالب ، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال ، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلاَّ مرتين ، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي ، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس فإنه بيّن بها صفة الوحي لا صفة حامله ) (2) ا هـ .
فحملُ الحالتين المذكورتين في الحديث على نزول القرآن خاصة ، وحمل بقية الحالات التي وردت بها الأحاديث والآثار الأخرى على ما سوى القرآن يزيل الإشكال ، ويرد على الإيراد الذي أورده ابن حجر وذكر وجوهاً متعددة في الجواب عليه .
__________
(1) سبق تخريجه ص 115 .
(2) فتح الباري لابن حجر 1/27 .(1/137)
ولايعني هذا أن غير القرآن لاينزل بالحالات المذكورة في حديث عائشة ، بل هو ينزل بها وبغيرها ، قال الحافظ ابن حجر : ( والظاهر أن نزول الوحي بهذه الكيفية لايختص بالقرآن كما يدل على ذلك حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج ، فإن فيه أنه رآه - صلى الله عليه وسلم - حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط ) (1) ا هـ .
ومِمَّا يقوي ما ذهب إليه ابن عبدالبر - من حمل حديث عائشة على نزول القرآن - ويرجحه أنه لم يرد في الأحاديث والآثار التي ذكر فيها حالات أخرى غير الحالتين المذكورتين في الحديث السابق - ما يدل على أن شيئاً من القرآن نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بها ، وإنَّما غاية ما تدل عليه أن الوحي نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ومعلومٌ أن من الوحي ما هو قرآن ومنه ما ليس بقرآن كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في مطلب أقسام الوحي .
وبهذا نعلم ( أن وحي القرآن الكريم من قبيل الوحي الجليّ - وهو ما كان عن طريق إرسال أمين الوحي جبريل عليه السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ليوحي إليه قرآناً عربياً في اليقظة لا في المنام ، بالكلام لا بالإلهام - .
وهذا النوع هو أشهر أنواع الوحي وأكثرها وقوعاً كما قال تعالى :{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين ُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ا؟لْمُنذِرِينَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] .
__________
(1) من فتح الباري لابن حجر 1/28 بتصرف واختصار ، وسيأتي بيان ذلك في مطلب آثار الوحي على النبي e .(1/138)
وقد نفى كثير من العلماء الأجلاء أن يكون في القرآن الكريم شيء من غير هذا الطريق ( طريق الوحي الجلي ) (1) كالوحي عن طريق الإلهام أو المنام ، أو التكليم المباشر .
ومن هؤلاء العلماء الإمام السيوطي (2) ، فعند حديثه عن الكيفية الخامسة للوحي وهي أن يكلمه الله إمَّا في اليقظة ، كما في ليلة الإسراء أو في المنام كما في حديث معاذ { أتاني ربي فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى ... } (3) الحديث قال : ( وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم ) (4) . ) (5) ا هـ .
والذي تدل عليه الأدلة أيضاً أن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأولى وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته ، ويأتي الوحي فيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل صلصلة الجرس .
__________
(1) أنواع الوحي ترجع إلى نوعين : وحي جليّ ووحي خفي ، والوحي الجليّ : هو ما كان بواسطة جبريل ، ينزل بالقرآن على النبي e ، ويلقى القرآن في قلبه فيعيه بفؤاده وبصيرته ، ويعلم علماً يقينياً أن ما يأتيه هو كلام الله ، فإذا سُرّي عنه الوحي أخذ عليه الصلاة والسلام يتلو ما أوحى به إليه من القرآن الكريم .
... انظر : أصول التفسير وقواعده للشيخ خالد العك ص 38 .
(2) هو : عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد ، جلال الدين : إمام حافظ ، مؤرخ أديب ، له نحو 600 مصنف بين كتاب كبير ورسالة صغيرة ، لم يتر فناً من الفنون إلاَّ وصنّف فيه ، مات سنة 911 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 3/301 ، 302 .
(3) حديث اختصام الملأ الأعلى أخرجه الترمذي رقم [3233] في تفسير سورة ص% ، وأحمد في المسند 5/243 ، من حديث معاذ بن جبل ، وقال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال : حسن صحيح .
(4) انظر : الإتقان 1/142 ، 143 .
(5) من كتاب القرآن المبين وكيف نزل به الروح الأمين للدكتور محمد بحيرى إبراهيم ص 40 ، 41 بتصرف .(1/139)
وهذا ما رجحه الشيخ المحقق محمد أبو شهبة (1) - رحمه الله - حيث قال : ( والذي نقطع به - والله أعلم - أن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأولى ، وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته ، وتحول النبي - صلى الله عليه وسلم - من البشرية إلى الملائكية ، وهذا هو الذي يليق بالقرآن الكريم ، ونفى أي احتمال أو تلبيس في تلقيه .
ولم أقف على رواية تفيد نزول شيء من القرآن عن طريق جبريل وهو في صورة رجل ، وكل ما جاء من ذلك في الأحاديث الصحاح كحديث جبريل المشهور وسؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأشراطها ، فإنَّما هو في وحي السنة لا في وحي القرآن ... .
وأيضاً فلو أنزل شيء من القرآن في الحالة الثانية وهي مجيء جبريل في صورة رجل لكان هذا مثاراً للشك والتلبيس على ضعفاء الإيمان ، ولكان فيه مستند للمشركين في قولهم :{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [ النحل : 103 ] ) (2) .
المطلب الثاني
آثار الوحي ومظاهره على النبي صلى الله عليه وسلم
الوحي في أي مرتبة من مراتبه أمر عظيم ، يقتضي من الإنسان أن يتجاوز حدود المادة وعالم الشهادة ليتصل بالملائكة وعالم الغيب ، ولاشكّ أن هذا التجاوز شاق على النفس البشرية ، لايستطيعه كل أحد إلاَّ من هيأه الله لتحمل تلك المشقة من أولئك الأخيار الذين اصطفاهم الله عزوجل ، وهيأهم لتلك المنزلة - منزلة النبوة والرسالة - .
__________
(1) هو : محمد بن محمد بن أبي شهبة : من علماء الأزهر الأجلاء ، ألف كتباً في السيرة وعلوم القرآن وعلوم الحديث ، توفي سنة 1403 هـ . انظر : ذيل الأعلام ص 198 ، 199 .
(2) المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبي شهبة ص 60 - 61 باختصار .(1/140)
وكثيراً ما كان يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة في التلقي من الملك ، روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ÷ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ÷% = 16 } [ القيامة : 16 ] قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعالج من التنزيل شدة ... } الحديث (1) .
وقد ذكر ابن عبدالبر بعض الآثار والمظاهر التي تحدث للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه ، وهي :
1) - ما ذكرته عائشة - رضي الله عنها - في آخر حديث الحارث بن هشام السابق ذكره ، حيث قالت : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإنّ جبينه ليفصد عرقاً .
قال ابن حجر - رحمه الله - : ( وفي قولها : { في اليوم الشديد البرد } دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي ، لما فيه من مخالفة العادة ، وهو كثرة العرق في شدة البرد ، فإنه يُشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية ) (2) ا هـ .
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي رقم [5] وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب : الاستماع للقراءة رقم [448] .
(2) فتح الباري 1/29 ، 30 .(1/141)
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهده عائشة ووالدها - رضي الله عنهما - وقد تنزل عليه الوحي في شأن حادثة الإفك ، فتصور عائشة ذلك المشهد بقولها : ( فوالله ما رام (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء (2) ، حتى إنه لتحدر مثل الجُمان (3) من العرق وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي ينزل عليه ... ) (4) .
2) - ومن آثار الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغط كغطيط البَكر ويحمر وجهه . قال ابن عبدالبر : ( وفي حديث عمر بن الخطاب ويعلى بن أمية : إذا نزل عليه الوحي يحمر وجهه ويغط غطيط البكر وينفخ ) ا هـ .
__________
(1) ما رام : أي فارق ، ومصدره الريم بالتحتانية ، بخلاف رام بمعنى طلب فمصدره الروم ، ويفترقان في المضارع ، يقال : رام يروم روماً ، ورام يريم ريماً . فتح الباري 8/333 .
(2) البُرَحاء : بضم الموحدة وفتح الراء ثُمَّ مهملة ثُمَّ مد ، هي شدة الحمى ، وقيل : شدة الكرب ، وقيل : شدة الحر ، ومنه برح بي الهم إذا بلغ مني غايته . فتح الباري 8/334 .
(3) الجُمَان : بضم الجيم وتخفيف الميم : اللؤلؤ ، وقيل : حب يعمل من الفضة كاللؤلؤ ، والأول أولى ، فشبهت قطرات عرقه e بالجمان لمشابهتها له في الصفاء والحسن . فتح الباري 8/334 .
(4) الحديث رواه البخاري في كتاب التفسير في سورة النور ، باب : { لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ا؟لْمُؤْمِنُونَ وَا؟لْمُؤْمِنَـ!ــتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـ!ـــذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ = 12 لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ" فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِا؟لشُّهَدَآءِ فَأُولَـ!ــ%ـئِكَ عِندَ ا؟للَّهِ هُمُ ا؟لْكَـ!ــذِبُونَ = 13 } [ النور : 12 ، 13 ] فتح الباري 8/306 - 309 .(1/142)
ولفظ حديث عمر هذا كما في صحيح البخاري : عن يعلى بن أمية أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جُبّة وعليه أثر الخلوق - أو قال صفرة - فقال : كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسُتر بثوب ، وَوَدِدْتُ أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي ، فقال عمر : تعال ، أيسُرُّك أن تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي ؟ قلتُ : نعم ، فرفع طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط - وأحسبه قال : كغطيط البَكر - فلما سُرِّي عنه قال : أين السائل عن العمرة ؟ اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق عنك ، وانق الصفرة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك } (1) .
وفي رواية لمسلم : فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمرّ الوجه يغط ساعة (2) .
ويضاف إلى ما ذكره ابن عبدالبر من آثار الوحي :
3) - أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي سُمع عند وجهه دويّ كدوي النحل - وهو الصوت الذي يسمع منه إذا تجمع - ، وقد سبق ذكر الحديث الذي يدل على ذلك وبيان معناه .
__________
(1) أخرجه البخاري في أبواب العمرة ، باب : يفعل في العمرة في الحج رقم [1697] . والخلوق : نوع من الطيب ، وغطيط صوت فيه بحوحة كشخير النائم . والبَكر : الفتي من الإبل .
(2) أخرجه مسلم في الحج ، باب : ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لايباح رقم [1180] .(1/143)
4) - أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي ثَقُل جسمه حتى يكاد يرضُّ فخذُه فخذَ الجالس إلى جنبه إذا كان تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه : { لايستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } قال زيد : فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُملّها عليّ ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى - فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي ، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي ، ثُمَّ سُرّي عنه فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي ا؟لضَّرَرِ } (1) [ النساء : 95 ] .
5) - أنه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي وهو على راحلته فإنها تبرك به إلى الأرض ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فلم تستطع أن تتحرك } (2) ، والجِرَان : باطن عنق الناقة .
فهذه بعض الآثار التي كانت تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه ، وهي من شدة الوحي وهوله وثقله كما قال الله تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً = 5 } [ المزمل : 5 ] .
* * *
المطلب الثالث
أقسام الوحي
الوحي - بمعنى اسم المفعول - وهو ما أنزله الله على أنبيائه وعرّفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم - ينقسم إلى قسمين كما يفهم ذلك من كلام ابن عبدالبر :
أحدهما : ما يُتلى ، وهو القرآن .
والثاني : ما لايُتلى ، وهو السنة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير / النساء ، باب : لايستوي القاعدون من المؤمنين ... والمجاهدون في سبيل الله } رقم [4316] ، ومسلم في الإمارة ، باب : سقوط فرض الجهاد عن المعذورين رقم [1898] وقوله : { ترض } من الرضّ وهو الدق والجرش .
(2) أخرجه الإمام أحمد 6/118 .(1/144)
قال - رحمه الله - : ( وفي قوله - عليه السلام - : { كذلك قال لي جبريل } دليلٌ على أن من الوحي ما يُتلى وما لايُتلى ، وما هو قرآن ، وما ليس بقرآن ) .
ومن هنا نعلم أن الذين عرّفوا الوحي - عندما يطلق ويراد به الموحَى - بأنه كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه (1) ، قد قصروا الوحي على أحد القسمين ، وهو كلام الله الذي يُتلى ، وهذا نقص في التعريف ؛ ولذلك فإن التعريف المختار للوحي في الشرع - عندما يطلق ويراد به اسم المفعول ( الموحى ) - هو أنه ما أنزله على أنبيائه وعرّفهم به من أنباء الغيب والشرائع والحكم (2) .
وهذا التعريف بلا شك يشمل القسمين ما يُتلى ، وما لايتلى .
وأوضح دليل على أن ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّا ليس بقرآن يعتبر وحياً قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ا؟لْهَوَى% = 3 إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى = 4 } [ النجم : 3 ، 4 ] .
قال القرطبي (3) : ( وفيها أيضاً دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل ، وقد تقدّم في مقدمة الكتاب حديث المقداد بن معدي كرب في ذلك والحمد لله ) (4) .
__________
(1) انظر : مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 33 .
(2) المدخل لدراسة القرآن الكريم للشيخ محمد أبو شهبة ص 79 .
(3) هو : محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري المالكي ، أبو عبدالله القرطبي ، صاحب تفسير القرطبي المشهور { الجامع لأحكام القرآن } الذي سارت به الركبان ، وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعاً ، وله مؤلفات أخرى كثيرة ، وكان من عباد الله الصالحين ، والعلماء الورعين الزاهدين ، توفي بمصر سنة 671 هـ . انظر : طبقات المفسر للداوودي 2/69 ، 70 .
(4) تفسير القرطبي 17/15 .(1/145)
وحديث المقداد هذا ذكره في مقدمة تفسيره تحت باب : تبيين الكتاب بالسنة وما جاء في ذلك ، فقال : ( وروى أبو داود عن المقداد بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لايحل لكم الحمار الأهليّ ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلاَّ أن يستغني عنها صاحبها ومَن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه } (1) .
قال الخطابي (2) : قوله : { أوتيت القرآن ومثله معه } يحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما : أن معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو ، مثل ما أعطى من الظاهر المتلو .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السنة ، بابٌ في لزوم السنة 5/10 - 12 رقم [4604] ، وأخرجه الترمذي في العلم حديث [2666] باب : ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي e ، وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، وقال الألباني : صحيح كما في صحيح سنن أبي داود 3/871 رقم [3848] .
(2) الخطابي : الإمام العلامة ، أبو سليمان ، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي ، صاحب التصانيف ، كان من أوعية العلم ، وكان صاحب فقه وحديث ومعانٍ وغريب ، توفي سنة 388 هـ بِبُست . انظر : طبقات علماء الحديث 3/214 ، 215 .(1/146)
والثاني : أنه أوتي الكتاب وحياً يُتلى ، وأوتي من البيان مثله ، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص [ ويزيد عليه ويشرع ما في الكتاب ، فيكون وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن ] (1) ) (2) ا هـ .
وقال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير آيتي سورة النجم : ( ثُمَّ قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى = 4 } [ النجم : 4 ] فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل ، أي ما نطقه إلاَّ وحي يوحى ، وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن (3) ، فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة وأن كليهما وحي يوحى ، وقد احتج الشافعي (4)
__________
(1) كذا في تفسير القرطبي ، وعبارة الخطابي في معالم السنن : ( وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر ، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به ، كالظاهر المتلو من القرآن ) ا هـ من معالم السنن للخطابي بحاشية سنن أبي داود 5/10 .
(2) تفسير القرطبي 1/37 ، 38 .
(3) وهو القول الذي ذكره ابن جرير في تفسيره ولم يذكر غيره 11/504 ، وذكره القاسمي وقال : إنه الصواب . انظر : تفسيره 15/223 .
(4) الشافعي : محمد بن إدريس بن العباس الهاشمي القرشي ، أبو عبدالله الشافعي ، الإمام الكبير ، المشهور ، أحد الأئمة الأربعة ، بَرَع في الشعر واللغة وأيام العرب ، ثُمَّ أقبل على التفقه والتحديث ، مناقبه كثيرة جداً ، توفي سنة 204 هـ بمصر - رحمه الله تعالى - . انظر : طبقات علماء الحديث 1/516 - 519 ، وانظر ترجمة موسعة له في كتاب الانتقاء لابن عبدالبر ص 115 - 162 .
... وقول الشافعي هذا في كتاب الأم 5/11 ومابعدها نقلاً من تعليق الشيخ أحمد شاكر على كتاب الرسالة للشافعي ص 150 - 157 .(1/147)
لذلك فقال : لعل من حجة من قال بهذا قوله : { وَأَنزَلَ ا؟للَّهُ عَلَيْكَ ا؟لْكِتَـ!ــبَ وَا؟لْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] قال : ولعل من حجته أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم : { والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الغنم والخادم ردٌّ عليك ... } الحديث (1) .
وقد صح عنه أنه قال : { ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه } (2) .
وهذا هو السنة بلاشك ، وقد قال تعالى : { وَأَنزَلَ ا؟للَّهُ عَلَيْكَ ا؟لْكِتَـ!ــبَ وَا؟لْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] وهما القرآن والسنة ، وبالله التوفيق ) (3) ا هـ .
وماجاء في الكلام السابق من الاستدلال بحديث { لأقضين بينكما بكتاب الله } قد أشار إليه ابن عبدالبر - رحمه الله - عندما شرح هذا الحديث فقال : ( والقول الآخر أن معنى قوله عليه السلام : { لأقضين بينكما بكتاب الله عزوجل } أي لأحكمن بينكما بحكم الله ، ولأقضين بينكما بقضاء الله ، وهذا جائز في اللغة ، قال الله عزوجل : { كِتَـ!ــبَ ا؟للَّهِ عَلَيْكُمْ" } [ النساء : 24 ] أي حكمه فيكم وقضاؤه عليكم . على أن كل ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حكم الله ، قال الله عزوجل : { مَن يُطِعِ ا؟لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ا؟للَّهَ( } [ النساء : 80 ] وقال : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ا؟لْهَوَى% = 3 إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى = 4 } [ النجم : 3 ، 4 ] وقد ذكرنا قبل أن من الوحي قرآناً وغير قرآن ) (4) ا هـ .
__________
(1) الحديث رواه البخاري في كتاب المحاربين ، باب : الاعتراف بالزنا 6/2502 رقم [6440] ورواه مسلم أيضاً في الحدود رقم [1697 ، 1698] ورواه أيضاً غيرهما .
(2) سبق تخريجه قريباً ص 146 .
(3) من كتاب بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية جمع يسرى السيد محمد 4/276 - 278 باختصار .
(4) التمهيد 9/78 .(1/148)
وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - عند تفسيره لقوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ا؟لْهَوَى% = 3 إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى = 4 } ما رواه أحمد عن عبدالله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلاَّ الحق } ورواه أبو داود (1) .
وذكر أيضاً ما رواه أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا أقول إلاَّ حقاً } قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال : { إني لا أقول إلاَّ حقاً } (2) .
وقد استدل ابن عبدالبر أيضاً على أن السنة وحي بما قاله طائفة من أهل العلم بالقرآن في قوله تعالى : { وَا؟ذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـ!ـــتِ ا؟للَّهِ وَا؟لْحِكْمَةِ" } [ الأحزاب : 34 ] قالوا : القرآن : آيات الله ، والحكمة : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لاينطق عن الهوى .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب العلم ، باب : في كتاب العلم 4/60 رقم [3646] ورواه أيضاً الإمام أحمد 2/162 ، 192 ، والحاكم 1/105 - 106 ، وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع رقم [1196] وانظر : السلسلة الصحيحة للألباني [1532] 4/45 ، 46 .
(2) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة ، باب : ماجاء في المزاح 4/314 رقم [1990] وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وأخرجه أحمد 2/340 و 360 وسنده حسن . وانظر : شرح السنة للبغوي 13/179 .(1/149)
وممن قال بهذا قتادة - رحمه الله - كما رواه ابن جرير في تفسيره حيث قال : ( ويعني بالحكمة : ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله ، ولم ينزل به قرآن ، وذلك السنة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) (1) .
ثُمَّ ذكر بسنده عن قتادة في قوله : { وَا؟ذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـ!ـــتِ ا؟للَّهِ وَا؟لْحِكْمَةِ" } أي السنة ، قال : يمتن عليهم بذلك (2) . ا هـ .
( واعلم أن الحكمة في القرآن نوعان :
مفردة ، ومقترنة بالكتاب ، فالمفردة فسرت بالنبوة ، وفسرت بعلم القرآن ، وأمَّا الحكمة المقرونة بالكتاب فهي السنة ، كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة . وقيل : هي القضاء بالوحي ، وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر ) (3) .
* * *
المبحث الثاني
كيفية نزول القرآن
نزول القرآن باب مهم من أبواب علوم القرآن ، ويتفرع عنه كثير من الفصول والمباحث ، كنزول القرآن منجماً ، وأول وآخر ما نزل ، وأسباب النزول ، ونزول القرآن على سبعة أحرف ، وغير ذلك من المباحث .
وقد تكلم ابن عبدالبر - رحمه الله - عن أحد المباحث المتعلقة بهذا الباب وهو : كيفية نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر أنه كان ينزل عليه شيئاً بعد شيء ، وفي حال بعد حال على حسب الحاجة إليه ، حتى أكمل الله دينه ، وقبض رسوله صلى الله عليه وسلم .
وذكر في معرض حديثه عن كيفية نزول القرآن تفسير بعض الآيات التي ورد فيها ذكر إنزال القرآن ، وذكر بعض الآثار الواردة عن ابن عباس وغيره في هذا الموضوع .
وأذكرُ فيما يلي ما وجدت من أقواله المتعلقة بنزول القرآن :
__________
(1) تفسير الطبري 10/299 .
(2) المرجع السابق 10/299 .
(3) من كتاب بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم 2/76 ، 77 باختصار .(1/150)
عند شرحه لحديث تحويل القبلة الذي قال فيه عبدالله بن عمر : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة (1) .
قال : ( وفيه أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء ، وفي حال بعد حال ، على حسب الحاجة إليه حتى أكمل الله دينه وقبض رسوله صلى الله عليه وسلم .
وإنَّما أنزل القرآن جملة واحدة ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، ثُمَّ كان ينزل به جبريل - عليه السلام - نجماً بعد نجم ، وحيناً بعد حين ، قال الله عزوجل : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } [ القدر : 1 ] يعني القرآن ، قالوا : إلى سماء الدنيا ، وقال الله عزوجل : { وَقَالَ ا؟لَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ا؟لْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَ !حِدَةً" كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ÷ فُؤَادَكَ( وَرَتَّلْنَـ!ــهُ تَرْتِيلاً = 32 } [ الفرقان : 32 ] .
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في كتاب القبلة ، باب : ما جاء في القبلة 1/173 - 174 ، وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب : ماجاء في القبلة رقم [395] ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب : تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة رقم [526] .(1/151)
أخبرنا أحمد بن عبدالله بن محمد ، قال : أخبرنا الحسن بن إسماعيل قال : حدثنا عبدالملك بن بحر ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال : حدثنا سنيد بن داود قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس وسئل عن قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } [ القدر : 1 ] وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ ا؟لَّذِي% أُنزِلَ فِيهِ ا؟لْقُرْءَانُ } [ البقرة : 185 ] وهو ينزل في غيره ، فقال : نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة ، ثُمَّ كان ينزل منه في الشهور (1) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير 3/448 بتحقيق أحمد شاكر ولفظه عند ابن جرير : ( عن ابن عباس ، قال له رجل : إنه وقع في قلبي الشك من قوله : { شَهْرُ رَمَضَا؛َ ا؟لَّذِي% أُنزِلَ فِيهِ ا؟لْقُرْءَانُ } وقوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ" } [ الدخان : 3 ] وقوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } وقد أنزل في شوال وذي القعدة وغيره ! قال : إنَّما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدة ثُمَّ أنزل على مواقع النجوم رَسَلاً في الشهور والأيام ) .
... وذكر ابن كثير في تفسيره 1/205 هذا الأثر بلفظ مقارب ، وفيه أن السائل عطية بن الأسود ، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه .(1/152)
وأخبرنا عبدالله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن قدامة ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، فكان الله تبارك وتعالى ينزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعضه قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ا؟لْقُرْءَا؛ُ جُمْلَةً وَ !حِدَةً" كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ÷ فُؤَادَكَ( وَرَتَّلْنَـ!ــهُ تَرْتِيلاً = 32 } (1) .
قال أبو عمر : وروي عن عكرمة (2) في قول الله عزوجل : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ا؟لنُّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] قال : القرآن نزل جملة واحدة موضع مواقع النجوم ، فجعل جبريل - عليه السلام - ينزل بالآية والآيتين (3) .
__________
(1) هذا الأثر أخرجه ابن جرير 12/652 والحاكم في المستدرك 3/385 رقم [4011] ، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم [495] 1/569 ، 570 وقال محققه : إسناده صحيح ، وصححه السيوطي في = =
= = الإتقان ، وانظر : تخريجه بالتفصيل في كتاب : القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد عمر بازمول 1/35 حاشية ، وقد ذكر أن إسناده صحيح .
(2) عكرمة : عكرمة بن عبدالله ، الحبر العالم ، أبو عبدالله البربري ثُمَّ المدني الهاشمي ، مولى ابن عباس ، وهو ثقة ثبت ، عالم بالتفسير ، روى له الجماعة ، مات رحمه الله سنة 104 هـ بالمدينة . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 1/386 ، 387 .
(3) أخرج ابن جرير عن عكرمة أن القرآن نزل جميعاً فوضع بمواقع النجوم ، فجعل جبريل يأتي بالسورة ، وإنَّما نزل جميعاً في ليلة القدر . انظر : تفسير ابن جرير 11/658 .(1/153)
وقال غيره : { بمواقع النجوم } بمساقط نجوم القرآن كلها ، أوله وآخره ، ومن الحجة لهذا القول قوله عزوجل : { وَإِنَّهُ , لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ = 76 إِنَّهُ , لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ = 77 } الآيات [ الواقعة : 76 - 77 ] .
أخبرنا عبدالله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : أخبرنا المعتمر بن سليمان ، عن أبي عوانة ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزل القرآن جميعاً في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، ثُمَّ فصل فنزل في السنين ، وذلك قوله عزوجل : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ا؟لنُّجُومِ } (1) ) (2) .
وعند شرحه لحديث عويمر العجلاني في اللعان (3) ،
__________
(1) أخرجه ابن جرير عنه بلفظ قريب من هذا من حديث حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر نحوه 11/657 ، وحكيم بن جبير ضعيف كما في التقريب ص 265 ، وقال في مجمع الزوائد 7/120 : ( وفيه حكيم بن جبير وهو متروك ) ا هـ .
(2) التمهيد 17/46 - 51 باختصار وانظر : الاستذكار 7/201 ، 202 .
(3) حديث عويمر العجلاني في اللعان لفظه كما أخرجه الإمام مالك في كتاب الطلاق ، باب : ماجاء في اللعان 2/444 : ( ... عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمراً العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري ، فقال له : يا عاصم ، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً ، أيقتله فتقتلونه ؟ أم كيف يفعل ؟ = =
= = سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله e ، فسأل عاصم رسول الله e عن ذلك ، فكره رسول الله e المسائل وعابها ، حتى كبُر على عاصم ما سمع من رسول الله e ، فلما رجع عاصم إلى أهله ، جاءه عويمر ، فقال : يا عاصم ، ماذا قال لك رسول الله e ؟ فقال عاصم لعويمر : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله e المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله e وسط الناس ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه ؟ ! أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله e : { قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك ، فاذهب ، فأت بها ... } الحديث .
... وأخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب : من أجاز طلاق الثلاث رقم [4959] ، ومسلم في كتاب اللعان رقم [1492] .(1/154)
قال : ( وفيه أن القرآن لم ينزل جملة واحدة إلى الأرض ، وإنَّما كان ينزل به جبريل - عليه السلام - سورة سورة ، وآية آية على حسب حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إليه .
وأمَّا نزول القرآن إلى سماء الدنيا فنزل كله جملة واحدة على ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير قول الله عزوجل : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ" } [ الدخان : 3 ] قالوا : ليلة القدر ، ونزل فيها القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ) (1) ا هـ .
الدراسة :
من خلال ما سبق يتضح لنا أن ابن عبدالبر - رحمه الله - يرى أن القرآن الكريم نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثُمَّ نزل بعد ذلك بواسطة جبريل - عليه السلام - نجماً بعد نجم ، وحيناً بعد حين .
وهذا القول الذي قال به - رحمه الله - هو أشهر الأقوال في كيفية نزول القرآن ، وقد ذكر - رحمه الله - ثلاثة آثار عن ابن عباس في ذلك ، وهي آثار صحيحة الأسانيد كما قال السيوطي (2) .
وصح أيضاً عن عكرمة أنه قال : إن القرآن نزل جميعاً ، فوضع بمواقع النجوم ، فجعل جبريل يأتي بالسورة ، وإنَّما نزل جميعاً في ليلة القدر (3) ، وقد ذكره ابن عبدالبر بلفظ قريب من هذا .
وصح أيضاً عن سعيد بن جبير (4) أنه قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان ، فجعل في سماء الدنيا (5) .
__________
(1) التمهيد 6/191 .
(2) الإتقان للسيوطي 1/129 ، 130 .
(3) سبق تخريجه ص 152 .
(4) سعيد بن جبير الوالبي مولاهم ، الكوفي ، المقرئ الفقيه ، أحد الأعلام ، سمع ابن عباس وقرأ عليه ، وكان من سادات التابعين ، علماً ، وفضلاً ، وصدقاً وعبادة ، قتله الحجاج بن يوسف سنة خمس وتسعين . انظر : سير أعلام النبلاء 4/321 - 343 .
(5) أخرجه ابن جرير في تفسيره 3/445 بتحقيق أحمد شاكر .(1/155)
وصح أيضاً عن الشعبي (1) أنه قال : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا (2) .
وهذه الآثار ذكرها كثير من المفسرين في الجمع بين الآيات التي جاء فيها ذكر النزول مقيداً بزمن محدد ، وهي ثلاث آيات :
أولها : قوله تعالى في سورة البقرة : وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ ا؟لَّذِي% أُنزِلَ فِيهِ ا؟لْقُرْءَانُ } [ البقرة : 185 ] .
والثانية : قوله تعالى في سورة الدخان : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ" } [ الدخان : 3 ] .
والثالثة : قوله تعالى في سورة القدر : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } [ القدر : 1 ] فقالوا : إن الله أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر التي هي الليلة المباركة ، وهي من شهر رمضان (3) .
والقول الثاني في المراد بنزول القرآن في هذه الآيات الثلاث أن ابتداء نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في ليلة القدر التي هي الليلة المباركة من شهر رمضان ، ثُمَّ تتابع نزوله بعد ذلك متدرجاً مع الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة .
وعلى هذا القول فليس للقرآن سوى نزول واحد ، وهو نزوله منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) الشعبي : عامر بن شراحيل ، أبو عمرو الهمداني ثُمَّ الشعبي ، الإمام ، علامة العصر ، من كبار التابعين ، كان إماماً حافظاً فقيهاً متفنناً ، ثبتاً ، متقناً ، قال ابن عيينة : العلماء ثلاثة : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والثوري في زمانه ، مات سنة 104 هـ على المشهور . انظر : طبقات علماء الحديث 1/154 - 156 .
(2) أخرجه ابن جرير 12/652 .
(3) انظر : تفسير ابن جرير الطبري 3/445 بتحقيق أحمد شاكر ، وتفسير ابن كثير 1/204 ، 205 .(1/156)
وهذا القول منسوب للشعبي ، كما في البرهان (1) والإتقان (2) وغيرهما من كتب علوم القرآن .
قال ابن جرير : ( قال [ يعني ابن المثنى ] : ثنا عمرو بن عاصم الكلابي قال : ثنا المعتمر بن سليمان التيمي ، قال : ثنا عمران أبو العوّام ، قال : ثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي أنه قال في قول الله : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } قال : نزل أول القرآن في ليلة القدر ) (3) .
وهناك قول ثالث في كيفية نزول القرآن ، وهو أن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر ، في كل ليلة منها ما يقدر الله إنزاله في كل سنة ، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك منجماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع السنة .
__________
(1) البرهان للزركشي 1/322 .
(2) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/131 .
(3) تفسير ابن جرير الطبري 12/651 ، وهذا لايعارض الأثر السابق عنه وهو قوله : ( بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ) كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - .(1/157)
وهذا القول نسبه الزركشي (1) في البرهان (2) لمقاتل (3) والحليمي (4) والماوردي (5) .
قال السيوطي : ( وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي (6)
__________
(1) الزركشي : الإمام العلامة ، بدر الدين محمد بن عبدالله ، الزركشي ، التركي الأصل ، المصري ، الشافعي ، أحد العلماء الأثبات ، وعَلَمٌ من أعلام القرآن والحديث وأصول الفقه في القرن الثامن الهجري ، وله تصانيف كثيرة تدل على سعة علمه ، توفي سنة 794 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 2/162 .
(2) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/322 ، وانظر : أيضاً المرشد الوجيز لأبي شامة ص 120 ، 121 .
(3) هو : مقاتل بن سليمان بن كثير الأزدي الخرساني ، المفسّر ، وهو متروك الحديث متهم بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم بحراً في التفسير ، توفي سنة نيف وخمسين ومائة . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 2/330 - 331 .
(4) الحليمي : العلامة البارع ، القاضي ، أبو عبدالله ، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم ، الشافعي ، صاحب التصانيف ، كان من أذكياء زمانه ، وله يد طولى في العلم والأدب ، روى عنه الحاكم ، وآخرون ، مات سنة 403 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 3/229 ، 230 .
(5) الماوردي : علي بن محمد بن حبيب ، القاضي أبو الحسن الماوردي البصري ، كان عالماً عظيم القدر ، له تصانيف حسان في فنون كثيرة ، ومنها : { الحاوي } في الفقه ، وله تفسير { النكت والعيون } وكتاب { أدب الدنيا والدين } ، مات سنة 450 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 1/427 - 429 .
(6) فخر الدين الرازي : العلامة الكبير ، ذو الفنون ، محمد بن عمر بن الحسين ، المشهور بالفخر الرازي ، الأصولي ، المفسر ، كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين ، في مؤلفاته انحرافات كثيرة ، ومنها : تفسيره الكبير { مفاتيح الغيب } إلاَّ أنه مات على طريقة حميدة ، مات سنة 606 هـ .
... انظر : سير أعلام النبلاء 21/500 - 501 .(1/158)
بحثاً ، فقال : يحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثلها من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثُمَّ توقف ، هل هذا أولى أو الأول ! ) (1) .
وهذا القول الثالث اجتهاد من بعض العلماء ، لا دليل عليه كما قال الشيخ مناع القطان (2) .
وأمَّا القولان الأول والثاني ، فقد اختلفت أقوال العلماء في الترجيح بينهما ، فمنهم من رجح القول الأول ، كالزركشي حيث قال : ( والقول الأول أشهر وأصح ، وإليه ذهب الأكثرون ) (3) ، وكذلك ابن حجر ، حيث ذكر أنه الصحيح المعتمد (4) ، ومن المتأخرين الزرقاني (5) في مناهل العرفان (6) ، ومحمد أبو شهبة في كتابه المدخل لدراسة القرآن الكريم (7) ، وغيرهما .
وحجة هؤلاء في ترجيح هذا القول هي الآثار الثابتة عن ابن عباس - رضي الله عنهما (8) - وأشهرها ما ذكره السيوطي في الإتقان ، وقال : أسانيدها كلها صحيحة (9) .
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/131 .
(2) في كتابه مباحث في علوم القرآن ص 103 .
(3) البرهان في علوم القرآن 1/321 .
(4) فتح الباري 8/620 .
(5) الزرقاني : محمد بن عبدالعظيم الزرقاني ، من علماء الأزهر بمصر ، صاحب كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن ، وهو من أشهر كتب علوم القرآن الذي يمتاز برد الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام حول القرآن الكريم ، مات سنة 1367 هـ بالقاهرة . انظر : الأعلام للزركلي 6/210 .
(6) مناهل العرفان للزرقاني 1/46 .
(7) المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 50 ، قال : ( فالقول الأول هو الراجح والصحيح الذي تشهد له الآيات والآثار ) .
(8) ذكر هذه الآثار وخرجها وحكم عليها محمد بن عمر بازمول في كتابه القراءات وأثرها في التفسير والأحكام 1/34 - 38 .
(9) الإتقان للسيوطي 1/129 ، 130 .(1/159)
وحاصلها : أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثُمَّ أنزل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً بعضه في إثر بعض بواسطة جبريل - عليه السلام - ، قالوا : ( فهذه الآثار الثابتة عن ابن عباس - وإن كانت موقوفة عليه - لها حكم الرفع ؛ لما هو مقرر في علم مصطلح الحديث من أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه ، ولم يكن معروفاً بالأخذ عن الإسرائيليات حكمه حكم المرفوع ، ولاريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أمور الغيب التي لا مجال للرأي فيها ، وابن عباس لم يُعرف بالأخذ عن الإسرائيليات ، فثبت الاحتجاج بهذه الآثار ) (1) .
ومن العلماء من رجح القول الثاني ، ومنهم محمد عبده (2) في تفسير جزء { عَمَّ } فقد نقل كلام الشعبي وقوّاه ، وقال : إن ماجاء من الآثار الدالة على نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، مِمَّا لايصح الاعتماد عليه ؛ لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لايجوز الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه ، وإلاَّ كان اتباعاً للظن (3) .
__________
(1) بتصرف من كتاب مناهل العرفان للزرقاني 1/47 .
(2) محمد بن عبده بن حسن بن خير الله ، من كبار مؤسسي المدرسة العقليَّة الحديثة ، وكان من أهدافه تنقية تفسير القرآن من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة وغير ذلك مِمَّا لا صلة له بالتفسير ، عليه مآخذ كثيرة ومتهمٌ بالاشتراك في المحافل الماسونية وبالدعوة إلى القومية والوطنية .
... انظر ترجمته وآرءه والمآخذ عليه في كتاب : منهج المدرسة العقليَّة الحديثة في التفسير للدكتور فهد الرومي ص 124 - 149 .
(3) انظر : تفسير جزء { عَمَّ } للشيخ محمد عبده ص 132 ، وانظر : تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 2/161 ، 162 ، فقد وافق شيخه في هذا القول .(1/160)
ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم (1) - رحمه الله - مفتي الديار السعودية سابقاً ، فقد ألف - رحمه الله - رسالة لبيان بطلان القول بأن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، وأن جبريل نجمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة ، وبيّن أن هذا القول دسيسة اعتزالية لإنكار أن يكون الله تبارك وتعالى تكلم بالقرآن ؛ لأن المعتزلة عن الحق ينكرون إثبات صفة الكلام لله عزوجل (2) .
ومنهم أيضاً الدكتور صبحي الصالح (3) في كتابه : مباحث في علوم القرآن ، حيث قال : ( ولسنا نميل إلى الرأي القائل : إنّ للقرآن تنزلات ثلاثة ، الأول إلى اللوح المحفوظ ، والثاني إلى بيت العزة ، والثالث تفريقه منجماً بحسب الحوادث ، وإن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة ؛ لأن هذه التنزلات المذكورة من عالم الغيب الذي لايؤخذ فيه إلاَّ بما تواتر يقيناً في الكتاب والسنة ، فصحة الأسانيد في هذا القول لاتكفي وحدها لوجوب اعتقاده ، فكيف وقد نطق القرآن بخلافه ؟! ) (4) .
__________
(1) محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ ، كان المفتي الأول للبلاد السعودية ، ورئيس القضاة ، ورئيس الجامعة الإسلاميَّة ، جلس للتدريس من عام 1339 إلى عام 1380 هـ ، وتتلمذ عليه أكثر علماء هذه البلاد ، توفي سنة 1389 هـ بالرياض . انظر : الأعلام للزركلي 5/306 307 .
(2) أشار إلى ذلك الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد في كتابه : تهذيب التفسير وتجريد التأويل مِمَّا ألحق به من الأباطيل وردئ الأقاويل 1/409 ، 410 .
(3) هو : صبحي بن إبراهيم الصالح ، أستاذ الإسلاميات وفقه اللغة في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية ، صاحب كتاب مباحث في علوم القرآن ، عالم ومفكر لبناني ، من عائلة تركية الأصل ، اغتيل سنة 1407 هـ . انظر : ذيل الأعلام ص 103 .
(4) مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح ص 51 .(1/161)
ومنهم كذلك فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين (1) - وفقه الله - حيث سأله سائل فقال : ينسب إليكم أنكم ضعفتم قول ابن عباس - رضي الله عنهما - بأن القرآن أنزله الله في رمضان جملة واحدة إلى السماء الدنيا ، فهل هذا صحيح ؟ وهل من دليل على خلافه ؟ .
فأجاب بقوله : ( نعم ، الأدلة على خلافه أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم ، والدليل على أنه يتكلم به حين إنزاله أنه يتكلم سبحانه وتعالى عن حوادث وقعت مثل قوله تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ ا؟لْمُؤْمِنِينَ مَقَـ!ــعِدَ لِلْقِتَالِ) } [ آل عمران : 121 ] و { إذ } ظرف لما مضى يتحدث الله عزوجل عن شيء مضى من الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقوله : { قَدْ سَمِعَ ا؟للَّهُ قَوْلَ ا؟لَّتِي تُجَـ!ــدِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [ المجادلة : 1 ] هل يصح أن يقال : قد سمع بشيء لم يخلق صاحبه بعد ؟ لايكون سمعٌ إلاَّ بعد صوت ، وهذا يدل على أن الله تكلم بهذه الآية بعد أن تكلمت التي تجادل .
{ لَقَدْ سَمِعَ ا؟للَّهُ قَوْلَ ا؟لَّذِينَ قَالُو%ا إِنَّ ا؟للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ/ } [ آل عمران : 181 ] لقد سمع ، واللام مؤكدة ، وقد مؤكدة ، والقسم المحذوف مؤكد أنه سمع قول الذين قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء ، فتكون هذه الآية نزلت بعد قولهم ، وأمثال ذلك من السياقات الدالة على أن الله تعالى تكلم بالقرآن حين إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) محمد بن صالح بن عثيمين من كبار علماء البلاد السعودية ، وأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة ، له مؤلفات كثيرة مطبوعة متداولة ( معاصر ) . انظر ترجمته في رسالة صغيرة بعنوان { علماؤنا } ص 42 - 48 ، إعداد : فهد البدراني وفهد البراك .(1/162)
فهذا هو الذي يجعلني أشك في صحة الحديث المروي عن ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في بيت العزة ، وهذا يحتاج إلى أحاديث صحيحة لانشك فيها حتى نضطر إلى تأويل الآيات التي تدل على أن القرآن نزل بعد حدوث الحوادث التي يتكلم الله عنها ) (1) .
وهناك من العلماء فريق ثالث ، أرادوا أن يجمعوا بين هذين القولين وبينوا أنه لا تعارض بينهما ، ومنهم الشيخ مناع القطان حيث قال : ( أمَّا المذهب الثاني الذي روي عن الشعبي فأدلته - مع صحتها والتسليم بها - لاتتعارض مع المذهب الأول الذي روي عن ابن عباس ) (2) .
ومفهوم كلامه أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر وكذلك ابتدأ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر ، فلا تعارض بين القولين (3) .
وهذا مسلّم لو أن القائلين بالقول الثالث لاينفون نزوله جملة إلى السماء الدنيا ، أمَّا وهم ينفون ذلك فإن الجمع بين القولين - بجعل أدلة القول الثاني لاتتعارض مع القول الأول - غيرُ ممكن .
__________
(1) من كتاب اللقاء الشهري مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رقم [3] ص 30 ، 31 .
(2) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 103 .
(3) وهذا الجمع عزاه صاحب تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن الشيخ عطية بن محمد سالم إلى كل من شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن حجر ، فقال في تتمته 9/381 : ( وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قول يجمع بين القولين الأخيرين وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويُمكن الجمع بينهما بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله { اقرأ باسم ربك } في ليلة القدر ) ا هـ .(1/163)
والذي تبيّن لي - والله أعلم - بعد طول تأملٍ في أقوال العلماء في هذه المسألة ، وبعد النظر في أدلة كل فريق - أن للقرآن الكريم نزولين (1) :
نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وكان هذا النزول في ليلة القدر من شهر رمضان ، كما تدل على ذلك الآثار الواردة عن ابن عباس - رضي الله عنهما (2) - وهي صحيحة لا غبار عليها ، ولايُمكن إبطالها ودفعها .
ونزول مباشر من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل - عليه السلام - ، حيث تكلم الله بالقرآن ، وتلقاه منه جبريل ، ثُمَّ نزل به على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتلقاه منه ، كما دلت على ذلك الآيات التي فيها التصريح بأن القرآن نزل من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومنها قوله تعالى : { يَـ!ـــ%ــأَيُّهَا ا؟لرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ( } [ المائدة : 67 ] وقوله عزوجل : { وَا؟لَّذِينَ ءَاتَيْنَـ!ــهُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ , مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِا؟لْحَقِّ( } [ الأنعام : 114 ] وقوله : { تَنزِيلُ ا؟لْكِتَـ!ــبِ مِنَ ا؟للَّهِ ا؟لْعَزِيزِ ا؟لْحَكِيمِ = 1 } [ الزمر : 1 ] وغير ذلك من الآيات .
__________
(1) ما ذكره صاحب مناهل العرفان من أن للقرآن تنزلات ثلاثة ليس عليه دليل فلم يرد دليل يدل على أن القرآن نزل إلى اللوح المحفوظ ، وإنَّما الذي يدل عليه القرآن أن القرآن موجود في اللوح المحفوظ ، فللقرآن وجودٌ ونزولان . انظر : المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبي شيبة ص 45 ، والقراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد عمر بازمول 1/39 .
(2) انظر هذه الآثار برواياتها المختلفة في كتاب المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز ، لأبي شامة ص 109 - 126 .(1/164)
قال شيخ الإسلام - عليه من الله الرحمة والرضوان - : ( ... وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه ، وأنه نزل به جبريل منه ... قال تعالى : { أَفَغَيْرَ ا؟للَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ ا؟لَّذِي% أَنزَلَ إِلَيْكُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ مُفَصَّلاً" وَا؟لَّذِينَ ءَاتَيْنَـ!ــهُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ , مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِا؟لْحَقِّ( } [ الأنعام : 114 ] ، وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ , رُوحُ ا؟لْقُدُسِ مِّن رَبِّكَ بِا؟لْحَقِّ } [ النحل : 102 ] وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى : { نَزَلَ بِهِ ا؟لرُّوحُ ا؟لأَمِينُ = 193 عَلَى قَلْبِكَ ... } [ الشعراء : 193 - 194 ] وقال : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ , نَزَّلَهُ , عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ ا؟للَّهِ } [ البقرة : 97 ] ، فبيّن أن جبريل نزله من الله لا من هواء ، ولا من لوح ، ولا غير ذلك ، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله : { تَنزِيلُ ا؟لْكِتَـ!ــبِ مِنَ ا؟للَّهِ ا؟لْعَزِيزِ ا؟لْحَكِيمِ = 1 } [ الزمر : 1 ] وقوله : { حم% = 1 تَنزِيلُ ا؟لْكِتَـ!ــبِ مِنَ ا؟للَّهِ ا؟لْعَزِيزِ ا؟لْعَلِيمِ = 2 } [ غافر : 1 ، 2 ] وقوله : { حم% = 1 تَنزِيلٌ مِّنَ ا؟لرَّحْمَـــنِ ا؟لرَّحِيمِ = 2 } [ فصلت : 1 ، 2 ] ، وقوله : { الـ%ــ×% = 1 تَنزِيلُ ا؟لْكِتَـ!ــبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ ا؟لْعَـ!ـــلَمِينَ = 2 } [ السجدة : 1 ، 2 ] ، وقوله : { يَـ!ـــ%ــأَيُّهَا ا؟لرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ( } [ المائدة : 67 ] .(1/165)
فقد بيّن الله في غير موضع أنه منزل من الله ، فمن قال : إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله ، مكذب لكتاب الله ، متبع لغير سبيل المؤمنين ) (1) ا هـ .
والذي يتأمل وينظر برويّة وتثبت في الآثار الواردة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يتبين له أنها بمجموعها لاتدل على أن جبريل أنزل القرآن من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنَّما تدل على أن جبريل نزل به من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثُمَّ إذا أراد الله أن يوحي منه شيئاً أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل .
وهذه بعض ألفاظ هذه الروايات عن ابن عباس :
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } قال : أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا فكان بموقع النجوم ، فكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض ، ثُمَّ قرأ : { وَقَالَ ا؟لَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ا؟لْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَ !حِدَةً" كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ÷ فُؤَادَكَ( وَرَتَّلْنَـ!ــهُ تَرْتِيلاً = 32 } [ الفرقان : 32 ] (2) .
وعن داود بن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئاً أوحاه ، أو أن يحدث منه في الأرض شيئاً أحدثه (3) .
__________
(1) من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/519 ، 520 ، باختصار يسير ، ويُنظر بقية كلامه - رحمه الله - في هذا فإنه نفيس مفيد .
(2) سبق تخريجه ص 151 .
(3) أخرجه ابن جرير 3/447 بتحقيق أحمد شاكر ، وسنده صحيح .(1/166)
وعن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، وكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئاً أوحاه ، فهو قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَـ!ــهُ فِي لَيْلَةِ ا؟لْقَدْرِ = 1 } وكان بين أوله وآخره عشرون سنة (1) .
وهذا ما فهمه سعيد بن جبير عن شيخه ابن عباس ، حيث قال سعيد : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان ، فجعل في سماء الدنيا (2) .
بل الشعبي الذي نُسب إليه القول الثاني ، قال فيما صح عنه : بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا (3) .
فهذا الذي ينبغي أن تحمل عليه أقوال ابن عباس ، أمَّا أن يفهم منها أن جبريل لم ينزل به من الله ، وإنَّما نزل به من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم (4) ، ثُمَّ بعد ذلك يوصل هذا الفهم إلى القول بضعف هذه الآثار ، بل إلى إبطالها لمخالفتها القرآن كما ظنُّوا ، فهذا تشدد لاينبغي ، والذي أدّى إليه هو عدم فهم هذه الآثار على وجهها الصحيح .
وجميلٌ مفيدٌ ما قاله الشيخ عطية محمد سالم (5) في تتمته لأضواء البيان ، حيث قال : ( والواقع أنه لاتعارض كما تقدم بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً ؛ لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح المحفوظ فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) أخرجه ابن جرير 3/446 ، 447 .
(2) سبق تخريجه ص 154 .
(3) سبق تخريجه ص 154 .
(4) كما فهم ذلك الشيخ محمد أبو شهبة حيث قال في كتابه المدخل ص 46 : ( للقرآن الكريم نزولان : الأول : نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا . الثاني : نزوله من السماء الدنيا على النبي e ) ا هـ .
(5) عطية محمد سالم .. مدرس في المسجد النبوي ، من تلامذة الشيخ محمد الشنقيطي صاحب أضواء البيان ( معاصر ) .(1/167)
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مِمَّا في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجوداً في كل من اللوح المحفوظ كغيره مِمَّا هو فيه ، وموجوداً في سماء الدنيا ، ثُمَّ ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً .
ومعلومٌ أنه الآن هو أيضاً موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ... وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير } الحديث في صحيح البخاري (1) .
وفي أبي داود وغيره : { إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان } (2) .
وعلى هذا يكون القرآن موجوداً في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثُمَّ جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثُمَّ نزل منجماً في عشرين سنة ، وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه جبريل - عليه السلام - عن الله تعالى ، ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث ، والله تعالى أعلم ) (3) ا هـ .
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير ، باب : { حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } رقم [4522] .
(2) سبق تخريجه ص 111 .
(3) تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ عطية محمد سالم 9/382 ، 383 باختصار .(1/168)
والذي بَدَا لي - والله أعلم - أن سبب هذا الخلاف في كيفية نزول القرآن هو أن بعض العلماء فهم من اختلاف تعبيرات السلف عن نزول القرآن وكيفيته أنها أقوال مختلفة متغايرة ، فمن ثَمّ جعلوها أقوالاً في المسألة ، ونسبوا كل قول إلى مَن قال به ، ثُمَّ رجحوا بين هذه الأقوال ، فقوّوا بعضها ، وضعفوا البعض الآخر ، ثُمَّ جاء العلماء الذين ألفوا وكتبوا في علوم القرآن ، ونقلوا هذه الأقوال ، كلٌّ ينقل عمّن سبقه من غير تأمل ولا بحث في حقيقة المسألة .
ولو أنهم رجعوا إلى الآيات القرآنية التي تكلمت عن نزول القرآن ، وعرفوا تفسيرها ، ثُمَّ نظروا في الآثار التي وردت عن السلف ؛ لعلموا أنها متفقة غير مختلفة ، ولكن كلٌّ عبّر عن فهمه بأسلوبه ، فكان في أساليبهم في التعبير عمّا فهموه بعض التغاير والاختلاف ، فظن من جاء بعده أنه اختلاف تضاد ، وهو في الحقيقة اختلاف تنوع ، والله أعلم بالصواب .
ويَبْقى بعد هذا تنبيهات سريعة تتعلق بنزول القرآن :
التنبيه الأول : حول قول ابن عبدالبر : ( وإنَّما كان ينزل به جبريل - عليه السلام - سورة سورة ، وآية آية على حسب حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إليه ) .
حول هذا المعنى قال السيوطي في الإتقان : ( الذي استُقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها : أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة : خمس آيات وعشراً وأكثر وأقل ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة (1) ، وصح نزول عشر آيات من أول ( المؤمنون ) جملة(1) ، وصح نزول { غَيْرُ أُوْلِي ا؟لضَّرَرِ } [ النساء : 95 ] وحدها(1) ، وهي بعض آية ، وكذا قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ... } إلى آخر الآية [ التوبة : 28 ] نزلت بعد نزول أول الآية كما حررناه في أسباب النزول ، وذلك بعض آية (2) ) (3) ا هـ .
__________
(1) سبق تخريجه الأحاديث الدالة على ذلك في مبحث آثار الوحي .
(2) انظر : أسباب النزول للسيوطي ص 224 ، 225 .
(3) الإتقان للسيوطي 1/137 .(1/169)
وقد صحت الأحاديث أيضاً بنزول بعض السور جملة واحدة ، ومن هذه السور سورة الكوثر ، وسورة المرسلات .
ففي صحيح مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا ، إذ أغفى إغفاءة ثُمَّ رفع رأسه متبسماً ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ : { إِنَّآ أَعْطَيْنَـــكَ ا؟لْكَوْثَرَ = 1 فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَا؟نْحَرْ = 2 إِنَّ شَانِـ[ـ:ــــَكَ هُوَ ا؟لأَبْتَرُ = 3 } الحديث (1) .
وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن مسعود قال : بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار ، إذ نزلت عليه : { والمرسلات } فتلقيناها من فيه ، وإن فاه لرطبٌ بها ، إذ خرجت حيّةٌ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عليكم اقتلوها } قال : فابتدرناها فسبقتنا ، قال : فقال : { وُقِيَتْ شركم ، كما وُقيتُم شرّها } (2) .
التنبيه الثاني : قال ابن عبدالبر عند شرحه لحديث نزول سورة الفتح عليه صلى الله عليه وسلم : ( وفيه أن نزول القرآن كان حيث شاء الله من حضر ، وسفر ، وليل ونهار ، والسفر المذكور في هذا الحديث الذي نزلت فيه سورة الفتح منصرفه من الحديبية لا أعلم بين أهل العلم في ذلك خلافاً ) (3) .
وهذا الإجمال الذي ذكره ابن عبدالبر فصله السيوطي في كتابيه الإتقان في علوم القرآن ، والتحبير في علم التفسير ، فعقد نوعاً في معرفة الحضري والسفري ، وآخر في معرفة الليلي والنهاري .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب : حجة من قال : البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة رقم [400] .
(2) صحيح البخاري كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة المرسلات رقم [4647] .
(3) التمهيد 3/266 .(1/170)
وعند ذكره لأمثلة السفري قال : ( الثاني والعشرون : سورة الفتح بجملتها ، كذا قال البلقيني (1) ، وتمسك بظاهر ما رواه البخاري من حديث عمر ، بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحب إليّ مِمَّا طلعت عليه الشمس ، فقرأ { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا = 1 لِيَغْفِرَ لَكَ ا؟للَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَ+نبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ... } [ الفتح : 1 - 2 ] (2) ، ولا دليل فيه على نزولها كلها تلك الليلة ، بل النازل فيها أو كلها ، فقد وردت أحاديث بنزول آيات مفرقة منها ، نعم كلها نازلة في سفر الحديبية ، ففي المستدرك (3) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها } (4) ا هـ .
وذكر أيضاً في نوع معرفة النهاري والليلي أن مِمَّا نزل بالليل أول سورة الفتح (5) .
التنبيه الثالث : القرآن نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً مفرقاً حسب الوقائع والأحداث وحسب الحاجة إليه كما يفهم ذلك من كلام ابن عبدالبر - رحمه الله - .
وهذه إحدى الحِكَم الكثيرة لنزول القرآن منجماً .
__________
(1) البلقيني : عبدالرحمن بن عمر بن رسلان ، العسقلاني الأصل ، ثُمَّ البُلْقِيني المصري ، أبو الفضل جلال الدين ، من علماء الحديث بمصر ، له كتب في التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه ، مات سنة 824 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 3/320 .
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير ، باب : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا = 1 } رقم [4553] .
(3) المستدرك كتاب التفسير ، باب : تفسير سورة الفتح 3/258 رقم [3762] .
(4) التحبير في علم التفسير ص 71 ، 72 ، وانظر : الإتقان 1/62 .
(5) الإتقان 1/67 ، والتحبير ص 77 .(1/171)
وقد أثار هذا التنجيم للقرآن أعداء القرآن من المشركين واليهود وغيرهم ، فتساءلوا : لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة ؟ وهذا السؤال تولّى الله الإجابة عليه في موضعين من كتابه ، فقال تعالى في سورة الفرقان : { وَقَالَ ا؟لَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ا؟لْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَ !حِدَةً" كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ÷ فُؤَادَكَ( وَرَتَّلْنَـ!ــهُ تَرْتِيلاً = 32 وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِـ[ـ:ـــْنَـ!ــكَ بِا؟لْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا = 33 } [ الفرقان : 32 ، 33 ] ، وقال في سورة الإسراء : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـ!ــهُ لِتَقْرَأَهُ , عَلَى ا؟لنَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـ!ــهُ تَنزِيلاً = 106 } [ الإسراء : 106 ] .
ومن هذه الآيات يُمكن أن نأخذ أربع حكم أساسية لنزول القرآن منجماً ، وهي :
1 - تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه ، كما قال تعالى : { كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ÷ فُؤَادَكَ( } .
2 - مواجهة ما يطرأ من أمور وأحداث تمس الدعوة ، وهو ما عبّر عنه ابن عبدالبر بقوله : ( حسب حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إليه ) قال تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِـ[ـ:ـــْنَـ!ــكَ بِا؟لْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا = 33 } .
3 - تعهد هذه الأمة التي أُنزل عليها القرآن ، وتعليمها ما تحتاج إليه بتدرج ، كما قال الحكيم الخبير : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـ!ــهُ لِتَقْرَأَهُ , عَلَى ا؟لنَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } .
4 - التنبيه على وجه من وجوه إعجاز القرآن ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { كَذَ! لِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ÷ فُؤَادَكَ( } وقوله : { وَنَزَّلْنَـ!ــهُ تَنزِيلاً } .(1/172)
وبيان ذلك : أننا إذا لاحظنا أن القرآن نزل مفرقاً على حسب أحداث ووقائع لم تكن على ترتيب أو نسق معين ، ثُمَّ قد وُضعت كل آية أو مجموعة آيات نزلت في مكان خاص بها من سورة من سور القرآن التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حسب أمر الوحي له بوضع الآية أو الآيات فيها ، حتى إن سورة البقرة كانت أول ما نزل من القرآن في المدينة واستمر نزولها بتتابع فكان فيها آخر ما نزل من القرآن قاطبة ، وهي أطول سورة في القرآن ، ثُمَّ يقرأ القارئ المتدبر هذا القرآن بعد ذلك فيجد الترابط المحكم ، والانسياق العجيب ، وكأن السورة الطويلة بناءٌ محكم الترابط ، تام التكوين ، مِمَّا يدل دلالة قاطعة على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم عليم ، أحاط علمه بما هو كائن كما قال تعالى : { قُلْ أَنزَلَهُ ا؟لَّذِي يَعْلَمُ ا؟لسِّرَّ فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَا؟لأَرْضِ" إِنَّهُ , كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا = 6 } [ الفرقان : 6 ] .
فهذه أظهر الحِكَم لنزول القرآن منجماً (1) .
وهناك حِكَمٌ أخرى كثيرة ، بعضها يرجع إلى القرآن نفسه ، وبعضها يرجع إلى يرجع إلى المتلفتين لهذا القرآن من المؤمنين وغيرهم ، والبعض الآخر يرجع إلى الظروف والملابسات التي لابست نزول الوحي .
ومَنْ أراد الوقوف بالتفصيل على هذه الحكم فليرجع إلى ما كتبه المؤلفون في علوم القرآن ، وخاصة المتأخرون منهم (2) .
* * *
الموضوع الثاني
__________
(1) هذه الحكم الأربع نقلتها من كتاب علوم القرآن الكريم للدكتور نور الدين عتر ص 28 - 34 بتصرف واختصار .
(2) وممن توسع في ذكر هذه الحكم :
... ( صاحب كتاب القرآن المبين وكيف نزل به الروح الأمين : محمد بحيرى إبراهيم .
... ( صاحب كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن : عبدالعظيم الزرقاني .
... ( صاحب كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم : محمد محمد أبي شيبة .
... ( صاحب كتاب مباحث في علوم القرآن صبحي الصالح .
... ( صاحب كتاب مباحث في علوم القرآن مناع القطان .(1/173)
نزول القرآن على سبعة أحرف
وتحته تمهيد وأربعة مباحث :
المبحث الأول : معنى الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن
المبحث الثاني : صلة المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة
المبحث الثالث : لغة القرآن الكريم
المبحث الرابع : حكم القراءة بالشواذ
تمهيد :
لابد قبل الخوض في تفصيلات هذا الموضوع المهم من موضوعات علوم القرآن من التعريف بمفردات عنوانه ، وهي : نزول ، وقرآن ، وسبعة ، وأحرف .
وقد سبق التعريف بكلمتي نزول ، وقرآن ، وذكر معنى كل كلمة في اللغة وفي الشرع ، وأمَّا ما يتعلق بتعريف كلمتي : سبعة ، وأحرف ، فهذا ما أريد توضيحه - إن شاء الله - في السطور التالية :
فسبعة وسبع : العدد المعروف بين الستة والثمانية ، تقول : سبع نسوة ، وسبعة رجال ، وقد تكرر ذكر السبعة والسبع والسبعين والسبعمائة في القرآن ، وفي الحديث .
والعرب تضعها موضع التضعيف والتكثير ، كقوله تعالى : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ا؟للَّهُ لَهُمْ" } [ التوبة : 80 ] فهذا من باب التكثير والتضعيف ، لا من باب حصر العدد ، ولم يرد الله جل ثناؤه أنه عليه الصلاة والسلام إن زاد على السبعين غفر لهم ، ولكن المعنى إن استكثرت من الدعاء والاستغفار لم يغفر الله لهم (1) .
وأمَّا المراد بسبعة في حديث { أنزل القرآن على سبعة أحرف } (2) فهو حقيقة العدد على الصحيح الذي لاينبغي التعويل على خلافه كما سيتضح ذلك - إن شاء الله - عند سياق الأحاديث في هذا الباب .
__________
(1) انظر : تهذيب اللغة للأزهري 2/115 - 119 ، ولسان العرب لابن منظور 6/156 ، وانظر : عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 2/192 .
(2) سيأتي تخريجه مفصلاً - إن شاء الله - .(1/174)
وأمَّا أحرف : فهي جمع حرف ، وهو في الأصل : الطرف والجانب والحدّ ، فحرف الشيء طرفه ، ومنه حرف الجبل ، والسيف والسفينة لأطرافها ، وحروف الهجاء : أطراف الكلمة ، والحروف العوامل في النحو : أطراف الكلمات الرابطة لبعضها ببعض (1) .
وأمَّا كلمة حرف في الاصطلاح فلها عدة إطلاقات :
فهي تطلق على حرف الهجاء في اصطلاح الكاتبين والقارئين ، وتطلق على الكلمة غير المستقلة بالمعنى التي تربط بين الاسم والفعل أو بين الاسم والاسم في اصطلاح النحويين ، مثل على وعن ونحوهما ، وتطلق على كل كلمة تقرأ على وجوه متعددة من القرآن في اصطلاح علماء القراءات ، تقول : هذا في حرف ابن مسعود أي في قراءة ابن مسعود (2) .
وأمَّا معنى الحرف في اصطلاح الشارع فهو الكلمة لا حرف الهجاء ، ولذلك فإن لفظة { حرف } من الألفاظ التي شاع لها معنى غير المعنى المراد بها شرعاً (3) .
__________
(1) انظر : تهذيب اللغة للأزهري 5/12 ، 13 ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/42 ، ولسان العرب لابن منظور 3/127 ، 128 ، وانظر كذلك : مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 228 ، وعمدة الحفاظ للسمين الحلبي 1/453 .
(2) انظر : تهذيب اللغة ولسان العرب في المواضع السابقة ، وانظر : كتاب الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 120 .
(3) انظر : كتاب الحقيقة الشرعية في تفسير القرآن العظيم والسنة النبوية لمحمد عمر بازمول ص 78 .(1/175)
فالمشهور الشائع عند أكثر الناس عندما يسمعون - مثلاً - حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : { من قرأ القرآن ، فله بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول ( الم ) حرف ، لكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف } (1) أن معنى الحرف هنا حرف الهجاء ، ويبنون على هذا الفهم أن قراءة كلمة ( الحمد ) مثلاً يحصل القارئ لها على خمسين حسنة لأن له بكل حرف عشر حسنات ، وهذا فهم خاطيء وإن كان هو المشهور عند أكثر الناس .
والصحيح أن معنى { الحرف } في هذا الحديث هو { الكلمة } .
قال ابن الجزري (2) - رحمه الله - : ( وقد سألت شيخنا شيخ الإسلام ابن كثير - رحمه الله تعالى - : ما المراد بالحرف في الحديث ؟ فقال : الكلمة ، لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : { من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ، لا أقول ( الم ) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف } .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن ، باب : ماجاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر رقم [2910] 5/161 من حديث عبدالله بن مسعود ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم [2327] 3/9 : صحيح .
(2) هو : محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف ، أبو الخير ، شمس الدين الدمشقي ، المشهور بابن الجزري شيخ الإقراء في زمانه ، ومن حفاظ الحديث ، من كتبه : النشر في القراءات العشر ، ومنجد المقرئين ، وطيبة النشر في القراءات العشر ، وغيرها كثير ، توفي سنة 833 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 7/45 ، 46 .(1/176)
وهذا الذي ذكره هو الصحيح ، إذ لو كان المراد بالحرف حرف الهجاء لكان ألف بثلاثة أحرف ، ولام بثلاثة ، وميم بثلاثة ، وقد يَعْسُر على فهم بعض الناس فينبغي أن يتفطن له ، فكثير من الناس لايعرفه ) (1) ا هـ .
وأمَّا معنى نزول القرآن على سبعة أحرف فسوف يأتي تفصيله - إن شاء الله - في المبحث الأول من هذا الموضوع ؛ حيث إني رأيت أن أقسمه إلى مباحث ؛ لطول كلام ابن عبدالبر فيه وتداخله وتشعبه ، وسأذكر في كل مبحث كلام ابن عبدالبر المتعلق به ثُمَّ أقوم بدراسته وتوضيحه ، والله أسأل أن يمدني بعون منه وتوفيق ، وأن يوفقني في دراسة هذا الموضوع للوصول إلى الرأي السديد ، إنه على كل شيء قدير .
* * *
المبحث الأول
معنى الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن
__________
(1) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/453 - 454 ، وانظر : تقرير ذلك في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 12/103 - 113 .(1/177)
روى الإمام مالك - رحمه الله - في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عبدالرحمن ابن عبدٍ القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها ، فكدت أن أعجل عليه ، ثُمَّ أمهلته حتى انصرف ، ثُمَّ لببته بردائه فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اقرأ } فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هكذا أنزلت } ثُمَّ قال لي : { اقرأ } فقرأت ، فقال : { هكذا أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرؤا ما تيسر منه } (1) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب القرآن ، باب : ماجاء في القرآن 1/178 ، 179 ، وأخرجه البخاري في كتاب الخصومات ، باب : كلام الخصوم بعضهم في بعض رقم [2419] ص 453 ، وفي فضائل القرآن ، باب : أنزل القرآن على سبعة أحرف رقم [4992] ص 993 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب : بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناه رقم [818] ص 318 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/178)
هذا الحديث الصحيح ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في كتابه التمهيد (1) في باب ابن شهاب عن عروة ، ثُمَّ تكلم عن إسناده ومتنه ، ثُمَّ ذكر أن معنى هذا الحديث قد حصل فيه اختلاف كبير ، وذكر ستة من أقوال العلماء في معنى الحديث فقال : ( وقد اختلف الناس في معنى هذا الحديث اختلافاً كبيراً ، فقال الخليل بن أحمد (2) : معنى قوله : { سبعة أحرف } سبع قراءات ، والحرف هاهنا القراءة .
وقال غيره : هي سبعة أنحاء ، كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن ، خلاف للأنحاء غيره .
وذهبوا إلى أن كل حرف منها هو صنف من الأصناف ، نحو قول الله عزوجل : { وَمِنَ ا؟لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ا؟للَّهَ عَلَى حَرْفٍ( } [ الحج : 11 ] ، وكأن معنى الحرف الذي يعبدالله عليه هو صنف من الأصناف ونوع من الأنواع التي يعبد الله عليها ، فمنها ما هو محمود عنده تبارك اسمه ، ومنها ما هو بخلاف ذلك .
فذهب هؤلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف ، فمنها زاجر ، ومنها آمر ، ومنها حلال ، ومنها حرام ، ومنها محكم ، ومنها متشابه ، ومنها أمثال .
__________
(1) التمهيد 8/272 .
(2) هو : الخليل بن أحمد الفراهيدي ، أبو عبدالرحمن البصري ، أحد الأعلام ، الإمام ، صاحب العربيَّة ، ومنشيء علم العروض ، أخذ عنه سيبويه النحو ، وكان رأساً في لسان العرب ، ديناً ورعاً ، قانعاً ، متواضعاً كبير الشأن ، له كتاب { العين } في اللغة ، كان - رحمه الله - مفرط الذكاء ، ولد سنة مائة سنة بضع وستين ومائة . انظر : سير أعلام النبلاء 7/429 - 431 .(1/179)
واحتجوا بحديث يرويه سلمة ابن أبي سلمة بن عبدالرحمن ، عن أبيه ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أوجه : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، واعتبروا بأمثاله ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا ءامنا به كل من عند ربنا } (1) .
وهذا حديث عند أهل العلم لايثبت ؛ لأنه يرويه حيوة ويرويه الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب عن سلمة بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود ، وابنه سلمة ليس ممن يحتج به .
وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده ، وقد رده قوم من أهل النظر ، منهم أحمد بن أبي عمران (2) ، قال : مَن قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد ، محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ماسواه ، أو يكون حلالاً لا ما سواه ؛ لأنه لايجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أو حرام كله ، أو أمثال كله .
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير 1/68 مرفوعاً ، ورواه موقوفاً على ابن مسعود 1/69 .
... قال الحافظ في الفتح : ( وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود ، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلاً ، وقال : هذا مرسل جيد ) . الفتح 8/646 .
... والحديث أورده ابن كثير في فضائل القرآن ص 120 ، 121 وقال : إن الأشبه أن يكون من كلام ابن مسعود .
(2) هو : أحمد بن أبي عمران بن عيسى ، أبو جعفر البغدادي ، قاضي الديار المصرية ، من أكابر الحنفية تفقه على ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد ، وهو أستاذ الطحاوي ، مات سنة 280 هـ . انظر : شذرات الذهب لابن العماد 3/329 .(1/180)
ذكره الطحاوي (1) عن أحمد بن أبي عمران سمعه منه ، وقال : وهو كما قال ابن أبي عمران ، قال : واحتج ابن أبي عمران بحديث أبيّ بن كعب أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ القرآن على حرف ، فاستزاده حتى بلغ سبعة أحرف (2) .
وقال قومٌ : هي سبع لغات في القرآن مفترقات على لغات العرب كلها يمنها ونزارها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئاً منها ، وكان قد أوتي جوامع الكلم .
__________
(1) هو : أحمد بن محمد بن سلامة ، أبو جعفر الطحاوي المصري الحنفي ، الإمام الحافظ العلامة ، صاحب التصانيف ، صاحب العقيدة الطحاوية ، ومشكل الآثار وغيرها من المصنفات ، توفي - رحمه الله - سنة 321 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 15/27 - 33 .
(2) سيأتي ذكره بنصه وتخريجه - إن شاء الله - .(1/181)
وإلى هذا ذهب أبو عبيد (1) في تأويل هذا الحديث ، قال : ليس معناه أن يقرأ القرآن على سبعة أوجه ، هذا شيء غير موجود ، ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات مفترقة في جميع القرآن من لغات العرب ، فيكون الحرف منها بلغة قبيلة ، والثاني بلغة قبيلة أخرى سوى الأولى ، والثالث بلغةٍ أخرى سواهما ، كذلك إلى السبعة ، قال : وبعض الأحياء أسعد بها وأكثر حظاً فيها من بعض وذكر حديث ابن شهاب عن أنس أن عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف : ما اختلفتم أنتم وزيد وفيه فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه نزل بلسانهم (2) .
وذكر حديث ابن عباس أنه قال : نزل القرآن بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأن الدار واحدة (3) .
قال أبو عبيد : يعني أن خزاعة جيران قريش ، فأخذوا بلغتهم ، وذكر أخباراً قد ذكرنا أكثرها في هذا الكتاب ، والحمد لله .
__________
(1) هو : الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون ، أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبدالله البغدادي ، صاحب التصانيف التي سارت بها الركبان ، كـ { الناسخ والمنسوخ } و { فضائل القرآن } كان حافظاً للحديث وعلله ، عارفاً بالفقه والاختلاف ، رأساً في اللغة ، إماماً في القراءات له فيها مصنف ، مات بمكة سنة 224 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/62 - 64 ، وسير أعلام النبلاء 490 - 509 .
(2) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ، باب : نزل القرآن بلسان قريش والعرب قرآناً عربياً بلسان عربي مبين رقم [498] ص 991 ( ط / بيت الأفكار الدولية ) .
(3) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 308 رقم [724] .
... والكعبان : كعب بن لؤي من قريش ، وكعب بن عمرو من خزاعة . المرشد الوجيز ص 246 .(1/182)
وقال آخرون : هذه اللغات السبع كلها إنَّما تكون في مضر (1) ، واحتجوا بقول عثمان : نزل القران بلسان مضر (2) .
وقالوا : جائز أن يكون منها لقريش ، ومنها لكنانة ومنها لأسد ، ومنها لهذيل ، ومنها لتميم ، ومنها لضبة ، ومنها لقيس . فهذه قبائل مضر ، تستوعب سبع لغات على هذه المراتب .
وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر .
وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر ، وقالوا : في مضر شواذ لايجوز أن يقرأ القرآن عليها ، مثل كشكشة قيس ، عنعنة تميم .
فأمَّا كشكشة قيس فإنهم يجعلون كاف المؤنث شيناً ، فيقولون في { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } [ مريم : 24 ] : جعل ربش تحتش سرياً .
وأمَّا عنعنة تميم فيقولون في { أن } عن ، فيقولون : { عسى الله عن يأتي بالفتح } [ المائدة : 52 ] وبعضهم يبدل السين تاءً ، فيقول في الناس : النات ، وفي أكيات : أكياث ، وهذه لغات يرغب بالقرآن عنها ، ولايحفظ عن السلف فيه شيء منها .
__________
(1) مضر بن نزار قبيلة عظيمة من العدنانية ، وكانوا أهل الكثرة والغلبة بالحجاز من سائر بني عدنان . معجم قبائل العرب 3/1107 .
(2) ذكره ابن عبدالبر ولم أجد من ذكره غيره ، والذين ذكروه من بعده إنَّما نقلوه منه ، وقد ذكر ابن عبدالبر أن الثابت عن عثمان أنه قال : إن القرآن نزل بلسان قريش كما سيأتي في أثناء كلامه - رحمه الله - .(1/183)
وقال آخرون : أمَّا بدل الهمزة عيناً ، وبدل حروف الحلق بعضها من بعض فمشهور عن الفصحاء ، وقد قرأ به الجلة ، وقد احتجوا بقراءة ابن مسعود : { ليسجننه عتى حين } [ يوسف : 35 ] ، وبقول ذي الرمة (1) :
وعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ... ولونك إلاَّ عنها غير باطل (2)
يريد : إلاَّ أنها غير .
أخبرنا عبدالله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي الواسطي ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن كعب الأنصاري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه كان عند عمر بن الخطاب ، فقرأ رجل : { من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه عتى حين } [ يوسف : 35 ] فقال عمر : من أقرأكها ؟ قال : أقرأنيها ابن مسعود . فقال له عمر : { حتى حين } ، وكتب إلى ابن مسعود : أمَّا بعد : فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فاقرئ الناس بلغة قريش ، ولاتقرئهم بلغة هذيل ، والسلام (3) .
ويحتمل أن يكون هذا مِن عمر على سبيل الاختيار ، لا أن ما قرأ به ابن مسعود لايجوز ، وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل ، فجائز الاختيار فيما أنزل عندي ، والله أعلم .
__________
(1) هو : غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي ، من مضر ، أبو الحارث ، ذو الرمة ، شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره ، قال أبو عمرو بن العلاء : ( فتح الشعر بامرئ القيس ، وختم بذي الرمة ) كان شديد القصر ، دميماً ، يقترب لونه إلى السواد ، أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال ، يذهب في ذلك مذهب الجاهليين ، توفي سنة 117 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 5/124 .
(2) ديوان ذي الرمة 2/1341 مع شرح أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي ، بتحقيق : الدكتور عبدالقدوس أبو صالح ، مؤسسة الإيمان - بيروت ، الطبعة الأولى 1402 هـ .
(3) لم أجده .(1/184)
وقد روى عن عثمان بن عفان مثل قول عمر هذا أن القرآن نزل بلغة قريش ، بخلاف الرواية الأولى ، وهذا أثبت عنه ؛ لأنه من رواية ثقات أهل المدينة .
أخبرنا عبدالله بن أحمد بن أسد ، قال : أخبرنا حمزة بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا هشيم بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال ابن شهاب : وأخبرني أنس بن مالك أن حذيفة قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام مع أهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى . فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلى بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثُمَّ نردها إليك . فأرسلت بها إليه ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبدالله ابن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن اكتبوا الصحف في المصاحف ، وإن اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش فإن القرآن أنزل بلسانهم . ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق مصحفاً (1) .
قال أبو عمر : قول من قال : إن القرآن نزل بلغة قريش ، معناه عندي : في الأغلب - والله أعلم - لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها ، وقريش لاتهمز .
وقد روى الأعمش ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، صار في عجز هوازن منها خمسة (2) . عجز هوازن : ثقيف وبنو سعد بن بكر ، وبنو جشم ، وبنو نصر بن معاوية .
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن ، باب : جمع القرآن رقم [4987] ص 992 ( ط / بيت الأفكار الدولية ) .
(2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 309 رقم [725] .(1/185)
قال أبو حاتم (1) : خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنزل الوحي ، وإنَّما ربيعة ومضر أخوان ، قال : وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن يقرأ بها لغات قريش ، ثُمَّ أدناهم من بطون مضر .
وقال الكلبي (2) في قوله : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } قال : خمسة منها لهوازن وحرفان لسائر الناس .
وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } سبع لغات . وقالوا : هذا لا معنى له ، لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم في أول الأمر بعضهم على بعض ؛ لأنه من كانت لغته شيئاً قد جبل وطبع عليه وفطر به ، لم ينكر عليه .
وفي حديث مالك المذكور في هذا الباب رد قول من قال : سبع لغات ؛ لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي ، وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي ، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته ، كما محال أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً منهما بغير ما يعرفه من لغته .
والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا .
وقالوا : إنَّما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة ، نحو أقبل ، وتعال ، وهلم ، وعلى هذا الكثير من أهل العلم .
__________
(1) هو : سهل بن محمد بن عثمان ، أبو حاتم ، السجستاني النموي البصري ، روى عن الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى ، وروى عنه أبو داود والنسائي والمبرد وغيره ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : وهو الذي صنّف في القراءات ، توفي سنة 255 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 2/1260 .
(2) هو : محمد بن السائب بن بشر الكلبي ، أبو النضر الكوفي ، النسابة المفسر ، متهم بالكذب ، ورمي بالرفض ، مات سنة 146 هـ . انظر : تقريب التهذيب ص 847 ، وطبقات المفسرين 2/149 .(1/186)
فأمَّا الآثار المرفوعة ، فمنها ما حدثناه عبدالرحمن بن عبدالله بن خالد : حدثنا أبو العباس تميم ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يزيد بن خصيفة ، عن بشر بن سعيد أن أبا جهيم الأنصاري أخبره أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ، فقال أحدهما : تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : { إن القرآن نزل على سبعة أحرف فلاتماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر } (1) .
وروى جرير بن عبدالحميد عن مغيرة ، عن واصل بن حيان ، عن عبدالله بن أبي الهذيل ، عن أبي الأحوص ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف ، لكل آية منها ظهر وبطن ، ولكل حد مُطَّلَع } (2) .
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 202 ، وابن جرير في مقدمة تفسيره 1/43 ، 44 ، والحديث أخرجه أحمد أيضاً في المسند 4/169 - 170 حلبي ، وأخرجه البغوي في شرح السنة 4/505 - 506 ، وذكره ابن كثير في فضائل القرآن وقال بعد ذكره لرواية الإمام أحمد : وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه ص 118 ، وانظر : السلسلة الصحيحة رقم [1522] .
(2) أخرجه ابن جرير 1/22 ، 23 رقم [10 ، 11] بإسنادين ضعيفين كما قال أحمد شاكر في تعليقه عليهما ، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ونسبه للطبراني في المعجم ورمز له بعلامة الحسن ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم [1338] ص 193 ، وهو في السلسلة الضعيفة رقم [2989] .(1/187)
وروى حماد بن سلمة قال : أخبرني حميد عن أنس ، عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } (1) .
وروى همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن يحيى بن يعمر ، عن سليمان ابن صرد عن أبي بن كعب ، قال : قرا أبيّ آية ، وقرأ ابن مسعود آية خلافها ، وقرأ رجل آخر خلافهما ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ : ألم تقرأ آية كذا وكذا ، كذا وكذا ؟ وقال ابن مسعود : ألم تقرأ آية كذا وكذا ، كذا وكذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلكم محسن مجمل ، قال : قلتُ : ما كلنا أحسن ولا أجمل ، قال : فضرب صدري ، وقال : يا أبي ، إني أقرئت القرآن ، فقلت : { على حرف أو حرفين } فقال لي الملك الذي عندي : على حرفين ، فقلت : { على حرفين أو ثلاثة } فقال الملك الذي معي : على ثلاثة ، فقلت : { على ثلاثة هكذا حتى بلغ سبعة أحرف ، ليس منها إلاَّ شاف كاف ، قلتُ : غفوراً رحيماً أو قلت : سميعاً حكيماً ، أو قلتُ : عليماً حكيماً ، أو عزيزاً حكيماً أي ذلك قلت فإنه كما قلت } ، وزاد بعضهم في هذا الحديث : { ما لم تختم عذاباً برحمة ، أو رحمة بعذاب } (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/114 حلبي ، وابن جرير في مقدمة تفسيره 1/34 ، 35 رقم [28] وقال أحمد شاكر : هذا إسناد صحيح .
(2) حديث سليمان بن صرد عن أبي بن كعب أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة في تفريع أبواب الوتر ، باب : أنزل القرآن على سبعة أحرف 2/160 بدون ذكر القصة في أوله ، وذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم [1310] 1/277 ، وللحديث طرق وروايات كثيرة أوردها ابن كثير في فضائل القرآن ص 107 - 111 .(1/188)
قال أبو عمر : أمَّا قوله في هذا الحديث : { قلت سميعاً عليماً ، وغفوراً رحيماً ، وعليماً حكيماً } ونحو ذلك ، فإنَّما أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها ، أنها معان متفق مفهومها ، مختلف مسموعها ، لايكون في شيء منها معنى وضده ، لا وجه يخالف وجهاً خلافاً ينفيه أو يضاده ، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده ، وما أشبه ذلك .
وهذا كله يعضد قول من قال : إن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه ، المختلف لفظه ، نحو : هلم ، وتعال ، وعجل ، وأسرع ، وانظر ، وأخر ، ونحو ذلك .
وسنورد من الآثار ، وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أن ما اخترناه هو الصواب فيه - إن شاء الله - ، فإنه أصح من قول من قال : سبع لغات مفترقات ، لما قدمنا ذكره ، ولما هو موجود في القرآن بإجماع من كثرة اللغات المفترقات فيه ، حتى لو تقصيت لكثر عددها ، وللعلماء في لغات القرآن مؤلفات تشهد لما قلنا ، وبالله توفيقنا .
حدثنا عبدالله بن محمد بن عبدالمؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا محمد بن بشر ، عن محمد ابن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أنزل القرآن على سبعة أحرف : غفوراً رحيماً ، عزيزاً حكيماً ، عليماً حكيماً } ورُبَّما قال : { سميعاً بصيراً } (1) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير 1/22 رقم [8] بلفظ : { أنزل القرآن على سبعة أحرف : عليم حكيم ، غفور رحيم } . وقال محققه أحمد شاكر : ( رواه أحمد في المسند ) [8372] جـ2 ص 332 حلبي ، عن محمد بن بشر ، و [9676] جـ 2 ص 440 عن ابن نمير كلاهما عن محمد بن عمرو ... عن أبي سلمة ... وقال الهيثمي في المجمع 7/151 : رواه أحمد بإسنادين ، ورجاله أحدهما رجال الصحيح ، ورواه البزار بنحوه ) ا هـ .(1/189)
وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا أحمد بن سليمان ، قال : حدثنا عبيد الله ابن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن شقير العبدي ، عن سليمان بن صرد ، عن أبيّ بن كعب قال : سمعت رجلاً يقرأ ، فقلت : من أقراك ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلتُ : انطلق إليه ، فانطلقنا إليه ، فقلت : استقرئه يا رسول الله ! قال : { اقرأ } فقرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أحسنت } ، فقلت : أولم تقرئني كذا وكذا ؟ قال : { بلى ، وأنت قد أحسنت } فقلت بيدي : قد أحسنت ؟! قد أحسنت ؟! قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في صدري ، وقال : { اللهم أذهب عن أبيّ الشك } قال : ففضت عرقاً ، وامتلأ جوفي فرقاً ، قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { يا أبيّ ، إن ملكين أتياني ، فقال أحدهما : اقرأ على حرف ، قال الآخر : زده ، قلت : زدني ، قال : اقرأ على حرفين ، قال الآخر : زده ، قلت : زدني ، قال : اقرأ على أربعة أحرف ، قال الآخر : زده ، قلت : زدني ، قال : اقرأ على على ستة أحرف ، قال الآخر : زده ، قلت : زدني ، قال : اقرأ على سبعة أحرف ، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف } (1) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير 1/32 رقم [25] وذكره ابن كثير في فضائل القرآن ص 110 - 111 ثُمَّ قال بعد ذكر من رواه : ( فهذا الحديث محفوظ من حيث الجملة عن أبي بن كعب ، والظاهر أن سليمان بن صرد الخزاعي شَاهَدَ ذلك ، والله أعلم ) .(1/190)
وقرأت على أبي القاسم خلف بن القاسم أن أبا الطاهر محمد بن أحمد بن عبدالله بن بحير القاضي بمصر أملى عليهم قال : حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي القاضي ، قال : أخبرنا أبو جعفر النفيلي ، قال : قرأت على معقل بن عبيد الله ، عن عكرمة بن خالد ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ، فبينما أنا في المسجد إذ سمعتُ رجلاً يقرأها بخلاف قراءتي فقلت : من أقرأك هذه السورة ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ : لاتفارقني حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه ، فقلت : يا رسول الله ، إن هذا قد خالف قراءتي في هذه السورة التي علمتني ، قال : اقرأ يا أبيّ ، فقرأت ، فقال : { أحسنت } فقال للآخر : { اقرأ } فقرأ بخلاف قراءتي ، فقال له : { أحسنت } ، ثُمَّ قال : { يا أبيّ إنه أنزل على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف } ، قال : فما اختلج في صدري شيء من القرآن بعد (1) .
__________
(1) حديث ابن عباس عن أبيّ أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح ، باب : جامع ماجاء في القرآن 2/153 ، 154 ، ثُمَّ قال النسائي : ( قال أبو عبدالرحمن : معقل بن عبيد الله ليس بذلك القوي ) ا هـ .
... وتقدم الحديث بلفظ قريب من هذا عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب ، والحديث ثابت وقد قال عنه الألباني في صحيح سنن النسائي : حسن صحيح . انظر : صحيح سنن النسائي 1/205 رقم [901] .(1/191)
وحدثنا عبدالوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، قال : حدثنا أبو معمر ، قال : حدثنا عبدالوارث ، قال : حدثنا محمد بن جحاده ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مجاهد ، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيّ بن كعب قال : أتى جبريلُ النبيَّ - عليهما السلام - وهو بأضاة بني غفار ، فقال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرئ أمتك على حرف واحد ، قال : فقال : { أسأل الله مغفرته ومعافاته ، أو قال : معافاته ومغفرته ، سل لهم التخفيف ، فإنهم لايطيقون ذلك } فانطلق ثُمَّ رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين ، قال : { أسأل الله مغفرته ومعافاته ، أو قال : معافاته ومغفرته إنهم لايطيقون ذلك ، فاسأل لهم التخفيف } فانطلق ثُمَّ رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف ، قال : { اسأل الله مغفرته ومعافاته ، أو معافاته ومغفرته ، إنهم لايطيقون ذلك ، فسل لهم التخفيف } ، فانطلق ثُمَّ رجع ، فقال : { إن الله يأمرك أن تقرئ القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرا منها حرفاً فهو كما قرأ } (1) .
وروي حديث أبي بن كعب هذا من وجوه (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب : بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه رقم [1821] ص 319 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) وفيه في آخر الحديث : { فأيُّما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا } بدل { فمن قرأ منها حرفاً فهو كما قرأ } .
... والحديث أخرجه أيضاً ابن جرير في تفسيره 1/40 رقم [35] بلفظ مسلم .
(2) انظرها في مقدمة تفسير ابن جرير الطبري ، وفي كتاب فضائل القرآن لابن كثير ص 95 - 104 .(1/192)
والسورة التي أنكر فيها أبيّ القراءة سورة النحل ، ذكر ذلك الليث بن سعد عن هشام بن سعد ، عن عبدالله بن عمر ، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيّ بن كعب ، وساق الحديث (1) ، وروى ذلك من وجوه .
وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبدالوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي أويس ، قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ولا حرج ، ولكن لاتختموا ذكر آية رحمة بعذاب ، ولا ذكر عذاب برحمة } (2) .
وهذه الآثار كلها تدل على أنه لم يعن به سبع لغات - والله أعلم - على ما تقدم ذكرنا له ، وإنَّما هي أوجه تتفق معانيها ، وتتسع ضروب الألفاظ فيها ، إلاَّ أنه ليس منها ما يحيل معنى إلى ضده ، كالرحمة بالعذاب وشبهه ، ...
وقال أبو جعفر الطحاوي في حديث عمر وهشام بن حكيم المذكور في هذا الباب : قد علمنا أن كل واحد منهما إنَّما أنكر على صاحبه ألفاظاً قرأ بها الآخر ، ليس في ذلك حلال ، ولا حرام ، ولا زجر ، ولا أمر ، وعلمنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هكذا أنزلت } أن السبعة الأحرف التي نزل القرآن بها لاتختلف في أمر ، ولا نهي ، ولا حلال ، ولا حرام ، وإنَّما هي كمثل قول الرجل للرجل : أقبل ، وتعال ، وهلم ، وادن ، ونحوها (3) .
وذكر أحاديث هذا الباب حجة لهذا المذهب .
__________
(1) انظره في مقدمة تفسير ابن جرير الطبري 1/41 رقم [38] .
(2) أخرجه ابن جرير 1/45 - 46 رقم [45] وقال محققه : ( وهذا الحديث بهذا الإسناد واللفظ لم أجده في موضع آخر ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين ) 1/46 .
(3) انظر : كتاب الطحاوي شرح مشكل الآثار 8/116 - 121 .(1/193)
وأبين ما ذكر في ذلك أن قال : حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا عفان ابن مسلم ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا علي بن زيد ، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة ، عن أبي بكرة ، قال : جاء جبريل إلى النبي - عليهما السلام - فقال : اقرأ على حرف ، قال ميكائيل : استزده ، فقال : اقرأ على حرفين ، فقال ميكائيل : استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف ، فقال : اقرأه فكل شاف كاف ، إلاَّ أن تخلط آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة ، على نحو هلم ، وتعالى ، وأقبل ، واذهب ، وأسرع ، وعجل (1) .
حدثنا عبدالله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن عبدالرزاق ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، قال : حدثنا عبدالرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الزهري : إنَّما هذه الأحرف في الأمر الواحد ، ليس تختلف في حلال ولا حرام (2) .
وذكر أبو عبيد عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن عقيل ويونس ، عن ابن شهاب في الأحرف السبعة : هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه .
وروى الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، قال : إني سمعت القرأة فرأيتهم متقاربين ، فاقرأوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع والاختلاف ، فإنَّما هو كقول أحدكم : هل ، وتعال (3) .
__________
(1) هذه الرواية رواها أحمد في المسند 5/51 حلبي ، والحديث أخرجه ابن جرير 1/43 رقم [40] وفي آخره : كقولك : هلم وتعال .
... وأورده الهيثمي في المجمع 7/151 ، وزاد نسبته للطبراني وقال : وفيه على ابن زيد بن جدعان ، وهو سيء الحفظ ، وقد توبع ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح . وانظر : شرح مشكل الآثار للطحاوي 8/126 - 127 .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه بعد ذكره لحديث ابن عباس رقم [819] ص 318 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(3) أخرجه ابن جرير الطبري 1/50 رقم [48] وقال محققه : ( وهذا الأثر عن ابن مسعود لم نجده في غير هذا الكتاب ، إلاَّ ما ذكره صاحب اللسان بغير إسناد ) ا هـ .(1/194)
وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبيّ ابن كعب أنه كان يقرأ : { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ا؟نظُرُونَا } [ الحديد : 13 ] : للذين ءامنوا امهلونا ، للذين ءامنوا أخرونا ، للذين ءامنوا ارقبونا .
وبهذا الإسناد عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : { كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ } [ البقرة : 20 ] : مروا فيه ، سعوا فيه . كل هذه الأحرف كان يقرؤها أبي بن كعب .
فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث - والله أعلم - إلاَّ أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد ، وعلى هذا أهل العلم فاعلم .
وذكر ابن وهب (1) في كتاب الترغيب من جامعه ، قال : قيل لمالك : أترى أن يُقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب : فامضوا إلى ذكر الله ؟ فقال : ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف ، فاقرأوا منه ما تيسر } ، ومثل : ما تعلمون ويعلمون .
وقال مالك : لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأساً ، قال : وقد كان الناس ولهم مصاحف ، والستة الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - كانت لهم مصاحف .
قال ابن وهب : وسألت مالكاً عن مصحف عثمان بن عفان ، قال لي : ذهب .
قال : وأخبرني مالك بن أنس قال : أقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً : { إِنَّ شَجَرَتَ ا؟لزَّقُّومِ = 43 طَعَامُ ا؟لأَثِيمِ = 44 } [ الدخان : 43 ، 44 ] فجعل الرجل يقول : طعام اليتيم . فقال له ابن مسعود : طعام الفاجر . فقلت لمالك : أترى أن يقرأ كذلك ؟ قال : نعم ؛ أرى ذلك واسعاً .
__________
(1) هو : إمام مصر ، المحدث الفقيه المالكي عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي ، أبو محمد المصري ، قال ابن عيينة : ( هذا عبدالله بن وهب شيخ أهل مصر ) ، وروى عن مالك والليث بن سعد وغيرهما من شيوخ مصر والحجاز والعراق ، توفي بمصر سنة 197 هـ . انظر : الانتقاء لابن عبدالبر ص 92 - 94 ، وتهذيب التهذيب لابن حجر 2/453 - 455 .(1/195)
قال أبو عمر : معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة ، وإنَّما ذكرنا ذلك عن مالك تفسيراً لمعنى الحديث ، وإنَّما لم تجز القراءة به في الصلاة ؛ لأن ما عدا مصحف عثمان فلايقطع عليه ، وإنَّما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد ، لكن لايقدم أحد على القطع في رده .
وقد روى عيسى ، عن ابن القاسم (1) ، في المصاحف بقراءة ابن مسعود قال : أرى أن يمنع الإمام من بيعه ، ويضرب من قرأ به ، ويمنع ذلك .
وقد قال مالك : من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مِمَّا يخالف المصحف لم يصل وراءه .
وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلاَّ قوم شذوا لايعرج عليهم ، منهم الأعمش سليمان بن مهران (2) .
وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها إلاَّ حرف زيد بن ثابت ، الذي جمع عليه عثمان المصحف .
__________
(1) هو : عبدالرحمن بن القاسم بن خالد ، أبو عبدالله المصري ، الفقيه ، أحد رواة الموطأ عن مالك ، وروايته عن مالك رواية صحيحة قليلة الخطأ ، وكان فقيهاً قد غلب عليه الرأي ، وكان ثقة صالحاً ، توفي بمصر سنة 191 هـ . انظر : الانتقاء لابن عبدالبر ص 94 - 96 ، وتهذيب التهذيب لابن حجر 2/544 .
(2) هو : سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم ، أبو محمد ، الأعمش ، قال يحيى بن سعيد القطان : كان من النساك ، وهو علامة الإسلام ، ومناقبه وفضائله كثيرة ، وكان رأساً في العلم والعمل ، مات - رحمه الله - سنة 148 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/240 - 240 ، وتهذيب التهذيب 2/109 - 111 .(1/196)
حدثنا عبدالله بن محمد بن أسد ، وخلف بن القاسم بن سهل ، قالا : أنبأنا محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ ، قال : حدثنا أبو علي الحسين ابن صافي الصفار ، أن عبدالله بن سليمان حدثهم ، قال : حدثنا أبو الطاهر قال : سألت سفيان بن عيينة (1) عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين ، هل تدخل في السبعة الأحرف ؟ فقال : لا ، وإنَّما السبعة الأحرف كقولهم : هلم ، أقبل ، تعال ، أيّ ذلك قلت أجزأك ، قال أبو الطاهر : وقاله ابن وهب .
قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ (2) : ومعنى قول سفيان هذا ، أن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة ، وبه قال محمد بن جرير الطبري .
__________
(1) هو : سفيان بن عيينة بن ميمون ، الإمام العلامة ، الحافظ ، شيخ الإسلام ، أبو محمد الهلالي الكوفي ، محدث الحرم ، كان المحدثون يحجون ويقصدون لقاء ابن عيينة ويزدحمون عليه أيام الحج ، كان إماماً ، حجة ، = =
= = حافظاً ، واسع العلم ، كبير القدر ، وكان من أعلم الناس بالتفسير والسنن ، حج - رحمه الله - سبعين حجة ومات سنة 198 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/384 - 386 .
(2) هو : محمد بن عبدالله بن أشته ، أبو بكر الأصبهاني ، أستاذ كبير ، وإمام شهير ، ونحوي محقق ثقة ، كان مشهوراً بالضبط والإتقان وحسن التصنيف ، ذكره ابن الجزري في طبقات القراء ، مات بمصر سنة 360 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 2/161 .(1/197)
وقال أبو جعفر الطحاوي : كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها ، لأنهم كانوا أميين لايكتبون إلاَّ القليل منهم ، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات ، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلاَّ بمشقة عظيمة ، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً ، فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم ، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأوا بذلك على تحفظ ألفاظه ، فلم يسعهم حينئذٍ أن يقرأوا بخلافها .
وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنَّما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ، ثُمَّ ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف ، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد .
واحتج بحديث أبي بن كعب المذكور في هذا الباب من رواية ابن أبي يعلى عنه ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : { إن أمتي لاتطيق ذلك } في الحرف والحرفين والثلاثة ، حتى بلغ السبعة .
واحتج بحديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم .
واحتج بجمع أبي بكر الصديق للقرآن في جماعة الصحابة ، ثُمَّ كتاب عثمان كذلك ، وكلاهما عول فيه على زيد بن ثابت .
فأمَّا أبو بكر فأمر زيداً بالنظر فيما جمع منه ، وأمَّا عثمان فأمره بإملائه من تلك الصحف التي كتبها أبو بكر ، وكانت عند حفصة .
وقال بعض المتأخرين من أهل العلم بالقرآن (1) : تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة ، منها ما تتغير حركته ولايزول معناه ولا صورته ، مثل : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ( } و { أطهرَ لكم } [ هود : 78 ] { وَيَضِيقُ صَدْرِي } و { يضيقَ } [ الشعراء : 13 ] ونحو هذا .
ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ، ولاتتغير صورته ، مثل قوله : { رَبَّنَا بَـ!ــعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] و { باعَدَ بين أسفارنا } .
__________
(1) هو ابن قتيبة وسيأتي قوله في تأويل مشكل القرآن عند الدراسة .(1/198)
ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها بالإعراب ، ولاتتغير صورته ، مثل قوله : { إِلَى ا؟لْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا } و { ننشرها } [ البقرة : 259 ] .
ومنها ما تتغير صورته ولايتغير معناه ، كقوله : { كَالْعِهْنِ ا؟لْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] و { الصوف المنفوش } .
ومنها ما تتغير صورته ومعناه ، مثل قوله : { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ = 29 } و { طلع منضود } [ الواقعة : 29 ] .
ومنها بالتقديم والتأخير ، مثل : { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ا؟لْمَوْتِ بِا؟لْحَقِّ( } [ ق : 19 ] و { وجاءت سكرة الحق بالموت } .
ومنها الزيادة والنقصان ، مثل : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر } [ البقرة : 238 ] .
ومنها قراءة ابن مسعود : { له تسع وتسعون نعجة أنثى } [ ص : 23 ] .
قال أبو عمر : هذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث ، وفي كل وجه منها حروف كثيرة لاتحصى عدداً ، فمثل قوله : { كَالْعِهْنِ ا؟لْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] و { الصوف المنفوش } قراءة عمر بن الخطاب : { فامضوا إلى ذكر الله } وهو كثير .
ومثل قوله : نعجة أنثى ، قراءة ابن مسعود وغيره : { فلاجناح عليه أن لايطوف بهما } وقراءة أبي بن كعب : { فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلاَّ بذنوب أهلها } وهذا كثير أيضاً .
وهذا يدلك على قول العلماء : أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلاَّ حرف واحد ، وهو صورة مصحف عثمان ، وما دخل فيه مِمَّا يوافق صورته - من الحركات واختلاف النقط - من سائر الحروف ) (1) ا هـ .
الدراسة :
__________
(1) التمهيد 8/274 - 296 بتصرف يسير جداً .(1/199)
معنى الأحرف السبعة مسألة كبيرة ، وقع فيها اختلاف كثير بين العلماء حيث تعددت الأقوال فيها حتى أوصلها بعضهم إلى خمسة وثلاثين قولاً (1) ، وذكر السيوطي أنه اختُلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً ، ذكر منها خمسة وثلاثين قولاً ، ثُمَّ قال : ( قال ابن حبان (2) : فهذه خمسة وثلاثون قولاً لأهل العلم واللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف ، وهي أقاويل يشبه بعضها بعضاً ، وكلها محتملة ، ويحتمل غيرها ) (3) .
وكثرة الأقاويل في هذه المسألة يدل على اهتمام العلماء بها ، وهذا الاهتمام له أسباب ، أهمها :
1 - صلة هذه المسألة بالقرآن الكريم ، الذي هو أساس الدين ومصدر التشريع ، وكلام الله الذي { لاَ يَأْتِيهِ ا؟لْبَـ!ــطِلُ مِن+ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ÷( تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ = 42 } [ فصلت : 42 ] .
2 - أن الأحاديث الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف - مع كثرتها ، وتعدد رواياتها - جاءت مجملة ، لاتكشف عن حقيقة المراد بهذه الأحرف ، ولم يأت نص صحيح صريح يبينها ، فكان الاجتهاد في تحديد المراد بها مدعاة للاختلاف .
__________
(1) هو ابن حبان كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان 1/156 .
(2) هو : محمد بن حبان بن أحمد بن حبان ، أبو حاتم البُستي ، الحافظ ، العلامة ، صاحب التصانيف ، قال الحاكم : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ، ومن عقلاء الرجال ، صنّف { المسند الصحيح } المشهور بصحيح ابن حبان ، وله { كتاب الضعفاء } و { كتاب الثقات } ، مات - رحمه الله - سنة 354 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 3/113 - 115 .
(3) انظر : المرجع السابق ( الإتقان ) 1/145 ، 156 .(1/200)
3 - أن تخاصم الصحابة في هذا الأمر ، وتحاكمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الجواب عنه برد كل واحد منهم إلى ما قرأ ، وتصويبه . ولم تبين الأحاديث حقيقة الاختلاف الذي كان بين كل قراءة وأخرى ، وهذا يدل على أن الأمر صار معروفاً لدى الصحابة - رضي الله عنهم - فلم يحتاجوا إلى بيان ، ولو خفي عليهم لسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يبين لهم ، فينبغي البحث لمعرفة ذلك .
وهذا الذي حدا العلماء على التعمق في دراسة أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، رغبةً في إدراك المراد بهذه الأحرف (1) .
كما أن الروايات الواردة في مجموعها يشوبها بعض الغموض والإبهام فليس فيها ما يبين بجلاء نص الآية أو الكلمة التي وقع الاختلاف في قراءتها ، ولا نوع الخلاف في تلك القراءات ، أكان خلافاً صوتياً يُمكن أن يعزى إلى تباين اللهجات في النطق وطريقة الأداء مع وحدة اللفظ ، أم كان اختلافاً في اللفظ مع وحدة المعنى (2) ؟! .
__________
(1) صدر قبل سنوات بحث بعنوان : ( حديث الأحرف السبعة دراسة لإسناده ومتنه ، واختلاف العلماء في معناه ، وصلته بالقراءات القرآنية ) للدكتور عبدالعزيز بن عبدالفتاح القارئ ، الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنورة .
... وممن سرد الأحاديث الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف أبو شامة المقدسي ، حيث عقد فصلاً كاملاً عند كلامه عن معنى قول النبي e : { نزل القرآن على سبعة أحرف } سرد فيه الأحاديث من ص 219 - 239 .
... وأمَّا المرجع الذي اعتمد عليه أكثر من اهتم بجمع أحاديث هذا الباب فهو تفسير ابن جرير الطبري ، حيث سرد الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب بأسانيدها في مقدمة تفسيره في باب : القول في اللغة التي نزل بها القرآن من لغات العرب من ص 21 - 67 .
(2) هذه الأسباب مأخوذة بشيء من التصرف من كتاب : نزول القرآن على سبعة أحرف للشيخ مناع القطان ص 33 ، 34 .(1/201)
وبسبب هذا الغموض والإبهام الذي شاب الروايات الواردة في هذه المسالة - وهي نزول القرآن على سبعة أحرف - فقد كثرت أقوال العلماء في معنى هذه الأحرف .
والذي يمعن النظر في تلك الأقوال والآراء التي وردت في كتب العلماء يجد أن بعضها غير معزو لقائله ، وبعضها الآخر استنباطاً بعيد المأخذ ، ومنها آراء كثيرة ذات مضمون واحد أو متقارب وإن اختلف التعبير ؛ ولذلك فإن حاصل هذه الأقوال والآراء ، وما له بال منها يرجع إلى ستة أقوال ، هي التي ذكرها ابن عبدالبر - رحمه الله - في كلامه السابق ، وهي :
القول الأول : أن معنى { سبعة أحرف } سبع قراءات ، والحرف ههنا القراءة ، وهو قول الخليل بن أحمد .
القول الثاني : أنها سبعة أنحاء ، كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلافاً للأنحاء الأخرى .
ومعنى الحرف عند أصحاب هذا القول : صنف من الأصناف ، نحو قول الله عزوجل : { وَمِنَ ا؟لنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ا؟للَّهَ عَلَى حَرْفٍ( ... } [ الحج : 11 ] فذهب هؤلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف ، فمنها زاجر ، ومنها آمر ، ومنها حلال ، ومنها حرام ، ومنها محكم ، ومنها متشابه ، ومنها أمثال .
القول الثالث : أنها سبع لغات ، في القرآن مفترقات ، على لغات العرب كلها يمنها ونزارها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئاً منها ، وكان قد أوتي جوامع الكلم .
القول الرابع : مثل الثالث ، ولكن اللغات السبع كلها إنَّما تكون في مضر فجائز أن يكون منها لقريش ، ومنها لكنانة ، ومنها لأسد ، ومنها لهذيل ، ومنها لتميم ، ومنها لقبة ، ومنها لقيس ، فهذه قبائل مضر ، تستوعب سبع لغات على هذه المراتب .
القول الخامس : أن معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة ، نحو : أقبل ، وتعال ، وهلم ، وعلى هذا أكثر أهل العلم .(1/202)
القول السادس : أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير السبعة التي وقع فيها الاختلاف ، والتي هي :
1 - ما يتغير حركته ولايزول معناه ولا صورته .
2 - ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولاتتغير صورته .
3 - ما يتغير معناه بالحروف واختلافها بالإعراب ولاتتغير صورته .
4 - ما تتغير صورته ، ولايتغير معناه .
5 - ما تتغير صورته ومعناه .
6 - التقديم والتأخير .
7 - الزيادة والنقصان .
وسبق ذكر أمثلة على كل وجه ، وسيأتي - إن شاء الله - زيادة توضيح لهذه الأوجه عند مناقشة هذه الأقوال .
وأمَّا القول الذي اختاره ابن عبدالبر فهو القول الخامس من الأقوال السابقة ، وهو أن معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة ، نحو : أقبل ، وتعال ، وهلم .
وهذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر ، ورجحه على الأقوال الأخرى ، وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كما قال - رحمه الله - ، وإليه ذهب سفيان بن عيينة ، وعبدالله بن وهب ، وابن جرير الطبري والطحاوي ، وغيرهم من أهل العلم .
فالأحرف السبعة على هذا القول سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد ، نحو : أقبل ، وتعال ، وهلم ، وعجل ، وأسرع ، فهي ألفاظ مختلفة لمعنى واحد .
وقد بين ابن عبدالبر - رحمه الله - سبب اختياره لهذا القول ، حيث ذكر أن هذا القول هو أولى الأقوال بالصواب لأمور منها :
[1] - دلالة الأحاديث المرفوعة على ذلك ، ومن الأحاديث التي ذكرها ، وذكر أنها تدل على صحة هذا القول :
أ ) - حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ على حرف ، قال : فقال ميكائيل : استزده ، فقال : اقرأ على حرفين ، فقال ميكائيل : استزده ، حتى بلغ إلى سبعة أحرف ، فقال : اقرأه فكل شاف كاف ، إلاَّ أن تخلط آية رحمة بآية عذاب ، أو آية عذاب بآية رحمة ، على نحو هلم وتعال وأقبل واذهب وأسرع وعجل (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص 186 .(1/203)
ب) - حديث سليمان بن صرد ، قال : قرأ أبيٌّ آية ، وقرأ ابن مسعود آية خلافها ، وقرأ رجل آخر خلافهما ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبيّ : ألم تقرأ آية كذا وكذا كذا وكذا ؟ وقال ابن مسعود : ألم تقرأ آية كذا وكذا كذا وكذا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { كلكم محسن مجمل } . قال - أي أبيّ - قلتُ : ما كلنا أحسن ولا أجمل . قال : فضرب صدري ، وقال : { يا أبيّ ، إني أُقرئت القرآن ، فقلتُ : على حرف أو حرفين ، فقال لي الملك الذي عندي : على حرفين ، فقلتُ : على حرفين أو ثلاثة ، فقال الملك الذي معي : على ثلاثة ، فقلتُ : على ثلاثة ، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف ، ليس منها إلاَّ شاف كاف ، قلتُ : غفوراً رحيماً أو قلتُ : سميعاً حكيماً ، أو قلتُ : عليماً حكيماً ، أو عزيزاً حكيماً ، أي ذلك قلت فإنه كما قلت . وزاد بعضهم في هذا الحديث : ما لم تختم عذاباً برحمة ، أو رحمة بعذاب } (1) .
قال ابن عبدالبر بعد هذا الحديث : ( قال أبو عمر : أمَّا قوله في هذا الحديث : قلتُ : سميعاً عليماً ، وغفوراً رحيماً ، وعليماً حكيماً ، ونحو ذلك ، فإنَّما أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها ، أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها لايكون في شيء منها معنى وضده ، ولا وجه يخالف وجهاً خلافاً ينفيه أو يضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده ، وما أشبه ذلك .
وهذا كله يعضد قول من قال : إن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث : سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه المختلف لفظه نحو : هلم ، وتعال ، وعجل ، وأسرع ، وانظر ، وأخر ، ونحو ذلك ) ا هـ .
__________
(1) سبق تخريجه ص 181 .(1/204)
جـ) - عن أبيّ بن كعب قال : أتى جبريلُ النبيَّ - عليهما السلام - وهو بأضاة بني غفار ، فقال : { إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرئ أمتك على حرف واحد ، قال : اسأل الله مغفرته ومعافاته ، أو قال : معافاته ومغفرته سل لهم التخفيف فإنهم لايطيقون ذلك ، فانطلق ثُمَّ رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين ، قال : اسأل الله مغفرته ومعافاته ، أو قال : معافاته ومغفرته ، إنهم لايطيقون ذلك ، فاسأل لهم التخفيف ، فانطلق ثُمَّ رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف ، قال : اسأل الله مغفرته ومعافاته ، أو معافاته ومغفرته ، إنهم لايطيقون ذلك ، فسل لهم التخفيف ، فانطلق ثُمَّ رجع ، فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ القرآن على سبعة أحرف ، فمن قرأ منها حرفاً فهو كما قرأ } (1) .
د ) - حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { هذا القرآن انزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ولا حرج ، ولكن لاتختموا ذكر آية رحمة بعذاب ، ولا ذكر عذاب برحمة } (2) .
فهذه الأحاديث التي ذكرها ابن عبدالبر ، وغيرها تدل على أن القول الذي اختاره هو الصواب - إن شاء الله - .
[2] - دلالة الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب على أن هذا القول هو الصواب ، وأنه أصح وأقوى من الأقوال الأخرى .
ومن هذه الآثار :
أ - ما رواه الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : إني سمعت القراءة فرأيتهم متقاربين ، فاقرأوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع والاختلاف ، فإنَّما هو كقول أحدكم : هلم ، وتعال (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص 184 .
(2) سبق تخريجه ص 185 .
(3) سبق تخريجه ص 186 .(1/205)
ب - وعن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ : { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا ا؟نظُرُونَا } [ الحديد : 13 ] : للذين ءامنوا امهلونا ، للذين ءامنوا أخرونا ، للذين ءامنوا ارقبونا (1) .
وكذلك روى عنه أنه كان يقرأ : { كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ } [ البقرة : 20 ] : مروا فيه ، سعوا فيه (2) .
قال ابن عبدالبر بعد هذا الأثر عن أبيّ بن كعب : ( كل هذه الأحرف كان يقرؤها أبيّ بن كعب ، فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث - والله أعلم - ) (3) .
جـ) - قال ابن شهاب الزهري : إنَّما هذه الأحرف في الأمر الواحد ليس تختلف في حلال ولا حرام (4) .
وقال أيضاً في الأحرف السبعة : هي في الأمر الواحد الذي لا اختلاف فيه (5) .
د ) - وسئل سفيان بن عيينة عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل تدخل في السبعة الأحرف ؟ فقال : لا ، وإنَّما السبعة الأحرف كقولهم : هلم ، أقبل ، تعال ، أي ذلك قلت : أجزأك قال أبو بكر محمد بن عبدالله الأصبهاني المقرئ : ومعنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة .
__________
(1) ذكره ابن عبدالبر وابن كثير في فضائل القرآن ص 133 ، 134 .
(2) ذكره ابن عبدالبر وابن كثير في فضائل القرآن ص 133 ، 134 ، وعنه أبو شامة في المرشد الوجيز ص 265 .
(3) التمهيد 8/291 .
(4) سبق تخريجه ص 186 .
(5) أخرجه بهذا اللفظ ، أبو عبيد في فضائل القرآن رقم [713] وأورده أبو عمر الداني في كتابه : جامع البيان في القراءات السبع ، في باب ذكر الخبر الوارد عن النبي e بأن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان ما ينطوي عليه من المعاني ويشتمل عليه من الوجوه ، وقد طبع هذا الباب بمفرده بعنوان : الأحرف السبعة للقرآن بتحقيق الدكتور عبدالمهيمن الطحان ، وذكر هذا الأثر ص 22 ، 23 رقم [10] .(1/206)
وهذا الذي ذكره الأصبهاني هو ما ذهب إليه ابن جرير الطبري وأبو جعفر الطحاوي ، كما سيأتي - إن شاء الله - .
وأمَّا الأقوال الأخرى التي ذكرها ابن عبدالبر في معنى الأحرف السبعة فقد بيّن موقفه من كل قول منها .
فالقول الأول : وهو أن معنى { سبعة أحرف } سبع قراءات ، والحرف بمعنى القراءة ، وهو قول الخليل بن أحمد ، فاكتفى بذكره ولم يعقب عليه بشيء .
ولعل السبب في ذلك أن ضعف هذا القول وعدم صحته عند العلماء يغني عن الاشتغال بالرد عليه .
قال الزركشي في أثناء ذكره لأقوال العلماء في بيان معنى الأحرف السبعة : ( الثاني - وهو أضعفها - أن المراد سبع قراءات ، وحكى عن الخليل بن أحمد ، والحرف هاهنا القراءة ) (1) .
__________
(1) البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/305 .(1/207)
وقال ابن الجزري في النشر في أثناء كلام له عن أول من جمع القراءات في كتاب ، وعن عدد القراء الذين تنسب إليهم القراءات ، قال : ( وإنَّما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة ، أو أن الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي قراءة هؤلاء السبعة ، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير ، وأنها هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } ... وإنَّما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا { أنزل القرآن على سبعة أحرف } وسمعوا قراءات السبعة ، فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها ؛ ولذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد (1) على سبعة من القراء ، وخطّأوه في ذلك ، وقالوا : ألا اقتصر على دون هذا العدد ، أو زاده ، أو بيّن مراده ليخلص من لايعلم من هذه الشبهة ...
وكان من جواب الشيخ الإمام مجتهد ذلك العصر أبي العباس أحمد ابن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية - رحمه الله - : لانزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القراء السبعة المشهورة ) (2) .
وبهذا نعلم أن هذا القول من أضعف الأقوال ، ولذلك لم يطل ابن عبدالبر الكلام في الرد عليه ولا في مناقشته .
__________
(1) هو : الإمام المقرئ المحدث النحوي ، شيخ المقرئين ، أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي ، مصنف كتاب { السبعة } قال أبو عمرو الداني : فاق ابن مجاهد سائر نظائره مع اتساع علمه وبراعة فهمه ، وصدق لهجته ، وظهور نسكه ، مات سنة 324 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 15/272 - 274 .
(2) النشر لابن الجزري 1/36 - 39 باختصار . وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك في مجموع الفتاوى 13/395 .(1/208)
وأمَّا القول الثاني ، وهو أن معنى الأحرف السبعة سبعة أنحاء ، كل نحو منها جزء من أجزاء القرآن خلاف الانحاء غيره ، ومعنى الحرف عند أصحاب هذا القول : صنف من الأصناف .
فالقرآن نزل على سبعة أنحاء وأصناف ، فمنها زاجر ، ومنها آمر ، ومنها حلال ، ومنها حرام ، ومنها محكم ، ومنها متشابه ، ومنها أمثال .
واحتجوا بحديث سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أوجه زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، واعتبروا بأمثاله ، وآمنوا بمتشابه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا } (1) .
فقد رده ابن عبدالبر بقوله : ( وهذا الحديث عند أهل العلم لايثبت ، لأنه يرويه حيوة عن عقيل عن سلمة هكذا ، ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، عن سلمة ابن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود ، وابنه سلمه ، ليس ممن يحتج به .
وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده ، وقد رده قوم من أهل النظر ، منهم أحمد بن أبي عمران ، قال : مَن قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد ، محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ما سواه ، أو يكون حلالاً لا ما سواه ؛ لأنه لايجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله ، أو حرام كله أو أمثال كله .
ذكره الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران سمعه منه ، وقال : وهو كما قال ابن أبي عمران ) ا هـ .
وهذا الحديث إن صح فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا { سبعة أحرف } أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث ، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى ، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا .
__________
(1) سبق تخريجه ص 174 .(1/209)
وبيان ذلك : أن ظاهر الأحاديث يدل على أن المراد بالأحرف السبعة أن الكلمة تقرأ على وجهين أو ثلاثة ، إلى سبعة توسعة للأمة ، والشيء الواحد لايكون حلالاً وحراماً في آية واحدة ، والتوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام ، ولا في تغيير شيء من الوجوه والمعاني المذكورة (1) .
( والذي ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصحابة الذين اختلفوا في القراءات احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستقرأ كل رجل منهم ، ثُمَّ صوّب جميعهم في قراءاتهم على اختلافها ، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إياهم ، فقال صلى الله عليه وسلم للذي ارتاب منهم عند تصويبه جميعهم : { إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف } .
ومعلومٌ أن تماريهم فيما تماروا فيه من ذلك ، لو كان تمارياً واختلافاً فيما دلت عليه تلاواتهم من التحليل والتحريم ، والوعد والوعيد ، وما أشبه ذلك لكان مستحيلاً أن يصوب جميعهم ويأمر كل قارئ منهم أن يلزم قراءته في ذلك على النحو الذي هو عليه ؛ لأن ذلك لو جاز أن يكون صحيحاً وجب أن يكون الله جل ثناؤه قد أمر بفعل شيء بعينه وفرضه في تلاوة من دلت تلاوته على فرضه ، ونهى عن فعل ذلك الشيء بعينه وزجر عنه في تلاوة الذي دلت تلاوته على النهي والزجر عنه ، وأباح وأطلق فعل ذلك الشيء بعينه ، وجعل لمن شاء من عباده أن يفعله فِعْلَه ، ولمن شاء منهم أن يتركه تَرْكَه ، في تلاوة من دلت تلاوته على التخيير ؛ وذلك من قائله - إن قاله - إثبات ما قد نفى الله جل ثناؤه عن تنزيله بقوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ا؟لْقُرْءَانَ" وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ا؟للَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ا؟خْتِلَـ!ـــفًا كَثِيرًا = 82 } [ النساء : 82 ] .
__________
(1) فتح الباري 8/646 .(1/210)
وفي نفي الله جل ثناؤه ذلك عن محكم كتابه أوضح الدليل على أنه لم ينزل كتابه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ بحكم واحد متفق في جميع خلقه لا بأحكام فيهم مختلفة ) (1) ا هـ .
وبهذا نعلم أن هذا القول مردود من جهة الرواية والدراية والعقل (2) .
__________
(1) من تفسير الطبري 1/48 ، 49 بتصرف يسير جداً ، وانظر : نزول القرآن على سبعة أحرف لمناع القطان ص 82 ، 83 .
(2) انظر : المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد محمد أبو شهبة ص 178 .(1/211)
وأمَّا القول الثالث ويدخل فيه القول الرابع ، وهما أن معنى السبعة الأحرف سبع لغات من لغات العرب ، سواء كان على لغات العرب كلها - كما في القول الثالث - أم على لغات مضر خاصة - كما في القول الرابع - فهما مردودان أيضاً وإن قال بهما جماعة من العلماء ، منهم أبو عبيد القاسم بن سلام ، وثعلب (1) ، وأبو حاتم السجستاني ، واختاره ابن عطية (2) كما اختاره قبله الأزهري (3) في تهذيب اللغة .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } سبع لغات وقالوا : هذا لا معنى له ؛ لأنه لو كان ذلك لم ينكر القوم في أول الأمر بعضهم على بعض ؛ لأنه من كانت لغته شيئاً قد جبل وطبع عليه وفطر به لم ينكر عليه .
__________
(1) ثعلب : العلامة المحدّث ، إمام النحو ، أبو العباس ، أحمد بن يحيى بن يزيد البغدادي ، قال الخطيب : ثقة ، حجة ، ديّن صالح ، مشهور بالحفظ ، قال المبرد : أعلم الكوفيين ثعلب . له كتاب { اختلاف النحويين } وكتاب { القراءات } وكتاب { معاني القرآن } ، مات سنة 291 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 14/5 - 7 .
(2) ابن عطية : عبدالحق بن غالب بن عبدالرحمن بن عطية ، أبو محمد الغرناطي القاضي ، الإمام الكبير ، قدوة المفسرين ، كان فقيهاً عالماً بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب ، له تفسير { المحرر الوجيز } أحسن فيه وأبدع ، توفي سنة 541 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 1/265 - 267 .
(3) الأزهري : محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي ، أبو منصور ، أحد الأئمة في اللغة والأدب ، كان إماماً في اللغة ، بصيراً في الفقه ، كثير العبادة والمراقبة ، صاحب { تهذيب اللغة } الذي جمع فيه فأوعى ، وله مصنفات في التفسير والفقه والقراءات ، توفي بهراة سنة 37 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداودي 2/65 - 67 .(1/212)
وفي حديث مالك عن ابن شهاب المذكور في هذا الباب رد قول من قال : سبع لغات ؛ لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي ، وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي ، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته ، كما محال أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً منهما بغير ما يعرفه من لغته ، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا ) .
وقال أيضاً مرجحاً القول الذي اختاره ومبيناً السبب في ذلك : ( وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أن ما اخترناه هو الصواب فيه - إن شاء الله - ، فإنه أصح من قول من قال : سبع لغات مفترقات لما قدمنا ذكره ، ولما هو موجود في القرآن بإجماع من كثرة اللغات المفترقات فيه حتى لو تقصيت لكثر عددها ، وللعلماء في لغات القرآن مؤلفات تشهد لما قلنا ، وبالله التوفيق ) .
ويُمكن أن نجمل الردود على هذا القول بما يلي :
1 - أن هذا القول بعيد غاية البعد عن الروايات التي جاءت في هذا الباب ، كما أنه لايتفق مع الحكمة التي نزل القرآن على سبعة أحرف من أجلها ؛ لأنه يقتضي أن القرآن أبعاض ، كل بعض بلغة ، وهذا لايتأتى فيه رفعُ الحرج والمشقة ، والتيسيرُ والتسهيلُ ، إذ كل قبيلة مكلفة شرعاً بقراءة القرآن جميعه وفهمه والعمل به ، فهذا القول لايحقق الغرض الذي لأجله نزل القرآن على سبعة أحرف (1) .
2 - أن في القرآن الكريم ألفاظاً كثيرة من لغات قبائل أخرى غير السبعة التي عدّوها ، حتى عدّ بعضهم لغات العرب التي جاءت في القرآن ، وأوصلها إلى أربعين لغة (2) .
__________
(1) المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة ص 170 .
(2) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 1/182 ، 183 ، فقد ذكر بعض الأمثلة لألفاظ جاءت في القرآن من لغات غير التي ذكروها ، وذكر مَن قال بأن في القرآن أربعين لغة عربية .(1/213)
3 - أن أصحاب هذا القول اختلفوا في تعيين تلك اللغات وحصرها ، فلو كان المراد بالأحرف السبعة ما قالوه لما خفي على الصحابة تعيين تلك اللغات ، ولما خفيت علينا أيضاً (1) .
4 - أن الآثار التي استدلوا بها على قولهم آثار ضعيفة لاتقوم بها حجة(3) .
وأمَّا القول السادس الذي ذكره ابن عبدالبر ، وهو أن المراد بالأحرف السبعة وجوه التغاير السبعة التي وقع الاختلاف فيها ، وهو ما أشار إليه ابن عبدالبر بقوله : ( وقال بعض المتأخرين من أهل العلم بالقرآن : تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة ... ) إلخ .
فقد تعقبه ابن عبدالبر بقوله : ( وهذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث ، وفي كل وجه منها حروف كثيرة لاتحصى عدداً ) ا هـ .
ومفهوم كلام ابن عبدالبر هذا يدل على أن هذا القول ليس هو معنى الأحرف السبعة الواردة في الأحاديث ، وإنَّما هو وجه من وجوه معنى الحديث ؛ وذلك لأن هذا القول يعني أن الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن موجودة في المصحف الذي يقرأ فيه الناس اليوم كما يقول أصحاب هذا القول وابنُ عبدالبر لايرى هذا كما سيأتي - إن شاء الله - .
ولذلك قال بعد أن ذكر بعض الأمثلة للوجوه التي ذكرها أصحاب هذا القول : ( وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن إلاَّ حرف واحد ، وهو صورة مصحف عثمان ، وما دخل فيه مِمَّا يوافق صورته من الحركات واختلاف النقط من سائر الحروف ) ا هـ .
وهذا القول الذي ذكر ابن عبدالبر أنه وجه حسن من وجوه معنى الحديث قال به جماعة من العلماء ، ورجحه كثير من المتأخرين (2) .
وقد ورد في بيان أوجه التغاير هذه آراء متقاربة لثلاثة من العلماء ، وبين هذه الآراء روابط قوية .
__________
(1) انظر : كتاب : حديث الأحرف السبعة للدكتور عبدالعزيز بن عبدالفتاح القاري ص 72 ، 73 .
(2) انظر الذين قالوا به في كتاب مناهل العرفان للزرقاني 1/159 - 160 .(1/214)
أمَّا الأول منها فهو لابن قتيبة في كتابه : تأويل مشكل القرآن حيث قال : ( وقد تدبرتُ وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه :
أولها : الاختلاف في إعراب الكلمة ، أو في حركة بنائها بما لايزيلها عن صورتها في الكتاب ، ولايغيّر معناها ، نحو قوله تعالى : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ( } و { أطهرَ لكم } [ هود : 78 ] { وَهَلْ نُجَـ!ــزِي% إِلاَّ ا؟لْكَفُورَ } و { هل يُجازى إلاَّ الكفور } [ سبأ : 17 ] ، { وَيَأْمُرُونَ ا؟لنَّاسَ بِا؟لْبُخْلِ } و { بالبَخَلِ } [ النساء : 37 ، الحديد : 24 ] ، { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ" } و { مَيْسُرَة } [ البقرة : 280 ] .
والوجه الثاني : أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها ، بما يغير معناها ، ولايزيلها عن صورتها في الكتاب ، نحو قوله تعالى : { رَبَّنَا بَـ!ــعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] و { باعَدَ بين أسفارنا } ، و { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ , بِأَلْسِنَتِكُمْ } و { تَلِقُونه } [ النور : 15 ] ، { وَا؟دَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } و { بعد أَمَهٍ } [ يوسف : 45 ] .
والوجه الثالث : أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها ، بما يغيّر معناها ولايزيد صورتها ، نحو قوله : { وَا؟نظُرْ إِلَى ا؟لْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا } و { ننشرها } [ البقرة : 259 ] ، ونحو قوله : { حَتَّى% إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } و { فُرِّغَ } [ سبأ : 23 ] .
والوجه الرابع : أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يُغيّر صورتها في الكتاب ولايغير معناها ، نحو قوله : { إن كانت إلاَّ زقية } و { صَيْحَةً } [ يس : 29 ] و { كالصوف المنفوش } و { كَا؟لْعِهْنِ } [ القارعة : 5 ] .
والوجه الخامس : أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها نحو قوله : { وطلع منضود } في موضع { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [ الواقعة : 29 ] .(1/215)
والوجه السادس : أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير ، نحو قوله : { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ا؟لْمَوْتِ بِا؟لْحَقِّ( } [ ق : 19 ] وفي موضع آخر : { وجاءت سكرة الحق بالموت } .
والوجه السابع : أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان ، نحو قوله تعالى : { وما عملت أيديهم } و { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ( } [ يس : 35 ] ، ونحو قوله : { إِنَّ ا؟للَّهَ هُوَ ا؟لْغَنِيُّ ا؟لْحَمِيدُ } و { إن الغني الحميد } (1) [ لقمان : 26 ] .
وقرأ بعض السلف : { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أنثى } [ ص 23 ] و { إن الساعة آتية أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهركم عليها } [ طه : 15 ] ) (2) .
وأمَّا الثاني فهو لأبي الفضل الرازي (3) ، حيث ذكر في كتابه اللوامح - كما نقله عنه السيوطي في الإتقان - أن الكلام لايخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف :
الأول : اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع ، وتذكير وتأنيث .
الثاني : اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر .
الثالث : وجوه الإعراب .
الرابع : النقص والزيادة .
الخامس : التقديم والتأخير .
السادس : الإبدال .
السابع : اختلاف اللغات ، كالفتح والإمالة ، والترقيق ، والتفخيم ، والإدغام ، والإظهار ، ونحو ذلك (4) .
__________
(1) هكذا في الكتاب المطبوع ، ولعلها : { إن الله الغني الحميد } .
(2) من تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 36 - 38 .
(3) هو : أبو الفضل الرازي ، الإمام القدوة ، شيخ الإسلام ، أبو الفضل ، عبدالرحمن بن أحمد بن الحسن ابن بندر العجلي ، الرازي ، المقرئ ، كان ثقة ، جوّالاً ، إماماً في القراءات ، عالماً بالأدب والنحو ، كثير التصانيف ، زاهداً ، متعبداً ، توفي سنة 454 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 18/135 - 138 .
(4) انظر : الإتقان للسيوطي 1/147 . وانظر الأمثلة على هذه الأوجه في كتاب الوافي في شرح الشاطبية للشيخ عبدالفتاح القاضي ص 5 - 7 .(1/216)
وأمَّا الثالث فهو لابن الجزري ، حيث قال : ( ولازلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة ، حتى فتح الله عليّ بما يُمكن أن يكون صواباً - إن شاء الله - ، وذلك أني تتبعتُ القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها ، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لايخرج عنها ، وذلك : إمَّا في الحركات بلا تغيّر في المعنى والصورة ، نحو { البُخْل } [ النساء : 37 ] بأربعة و { يحسب } [ الهمزة : 3 ] بوجهين .
أو بتغيّر في المعنى فقط ، نحو : { فتلقى آدمَُ من ربه كلماتٌٍ } [ البقرة : 37 ] ، { وادّكر بعد أمة } [ يوسف : 45 ] وأمَهٍ .
وإمَّا في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو { تبلوا } و { تتلوا } [ يونس : 30 ] و { نُنَجِّيك ببدنك لتكون لمن خلفك } و { ننجِّيك ببدنك } [ يونس : 92 ] أو عكس ذلك نحو { بصطة } و { بسطة } [ الأعراف : 69 ] و { الصراط } و { السراط } أو بتغيرهما نحو { أشد منكم ، ومنهم } [ التوبة 69 ، الزخرف : 43 ] و { يأتل } و { يتأل } [ النور : 22 ] و { فامضوا إلى ذكر الله } و { فاسعوا } [ الجمعة : 9 ] .
وإمَّا في التقديم والتأخير ، نحو { فيُقتلون ويَُقتلون } [ التوبة : 111 ] و { جاءت سكرت الحق بالموت } [ ق : 19 ] .
أو في الزيادة والنقصان نحو { وأوصى ، ووصى } [ البقرة : 132 ] و { الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] .
فهذه سبعة أوجه لايخرج الاختلاف عنها ، وأمَّا نحو اختلاف الإظهار والإدغام ، والروم والإشمام ، والتفخيم والترقيق ، والمد والقصر والإمالة ، والفتح ، والتحقيق والتسهيل ، والإبدال والنقل ، مِمَّا يعبّر عنه بالأصول ؛ فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى ؛ لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لاتخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً ، ولئن فرض فيكون من الأول ) (1) ا هـ .
__________
(1) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/26 ، 27 .(1/217)
فهذه أشهر آراء العلماء في هذا القول ، وهي وإن كانت مقبولة ، إلاَّ أن جعلها هي المراد بالأحرف السبعة لايُسلَّم ، ولايَسْلم من اعتراضات وردود ، أبرزها :
1) - أنها أقوال واجتهادات ليس عليها دليل ، فلم يذكر القائلون بهذا القول دليلاً واحداً مأثوراً يدل على أن المراد بالأحرف السبعة هو ما ذهبوا إليه من هذه الوجوه إلاَّ التتبع الذي ذكره كل واحد منهم .
وهذا التتبع لايصلح أن يكون دليلاً على أن المراد بالأحرف السبعة هو الوجوه التي يرجع إليها اختلاف القراءات ؛ لأنه تتبع مبني على استقراء ناقص ، بدليل أن تتبعهم لهذه الوجوه التي ذكروها مختلف غير متفق ، فمثلاً الوجه السابع الذي ذكره الرازي لم يذكره ابن قتيبة ولا ابن الجزري ، بل إن ابن الجزري برّر إهماله مِمَّا يدل على أنه يُمكن الزيادة على سبعة .
وكذلك الوجه الأول عند الرازي ، والثاني والسادس ترجع ثلاثتها إلى الوجه الخامس عند ابن الجزري ؛ مِمَّا يدل على أن هذه الوجوه يُمكن أن يتداخل بعضها في بعض ، وأن تعيينها إنَّما هو بطريق الاتفاق ، لا الاستقراء الصحيح .
وعلى هذا يكون الحصر في الوجوه السبعة غير مجزوم به ، ولا متعين ، فهو مبني على الظن والتخمين .
2) - أن الغرض من إنزال القرآن على سبعة أحرف إنَّما هو رفع الحرج والمشقة ، والتيسير والتسهيل على الأمة ؛ والمشقّةُ غير ظاهرة في إبدال الفعل المبني للمعلوم بالفعل المبني للمجهول ، أو العكس ، ولا في إبدال فتحة بضمة ، أو حرف بآخر ، أو تقديم كلمة أو تأخيرها ، أو زيادة كلمة ونقصان أخرى ، فإن القراءة بإحداهما دون الأخرى لاتوجب مشقة يَسألُ النبي صلى الله عليه وسلم منها المعافاة ، ويبيّن أن أمته لاتطيق ذلك ، ويراجع لأجل رفعها جبريل مراراً ، ويطلب التيسير ، فيجاب بإبدال حركة بأخرى ، أو تقديم كلمة وتأخير أخرى .
فالحق أنه مستبعد أن يكون هذا هو المراد بالأحرف السبعة .(1/218)
وبعد هذا كله يتبيّن أن الرأي الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو أقوى الآراء وأولاها بالصواب - إن شاء الله - وهو القول الذي رجحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - ، واختاره أكثر أهل العلم كما قال ذلك غير واحد من العلماء ، منهم القرطبي ، وابن كثير - رحمهما الله - فقد ذكر القرطبي في مقدمة تفسيره خمسة أقوال ، فجعل القول الأول منها هذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر ، وقال : ( وهو الذي عليه أكثر أهل العلم ، كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري والطحاوي ، وغيرهم ) (1) .
ونقل كلامه هذا ابن كثير في كتاب فضائل القرآن (2) .
وقد اختاره من المتأخرين كل من الدكتور محمد محمد أبو شهبة في كتابه المدخل ، والشيخ مناع القطان في كتابه نزول القرآن على سبعة أحرف ، وأطالا في الاستدلال لصحته ، ورد الاعتراضات الواردة عليه ، وأكثر كلامهما في هذا مأخوذ من كلام الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - في مقدمة تفسيره (3) .
* * *
المبحث الثاني
صلة المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة
قال ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - : ( والذي أقول به أن جمع عثمان - رضي الله عنه - في جماعة الصحابة - رضوان الله عليهم - القرآن على حرف واحد بكتابة زيد بن ثابت إنَّما حملهم على ذلك ما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام حين اجتمعوا في بعض المغازي فخطأت كل طائفة منهم الأخرى فيما خالفتها فيه من قراءتها ، وصوّبت ما تعلم من ذلك .
وكان أهل العراق قد أخذوا عن ابن مسعود ، وأهل الشام قد أخذوا عن غيره من الصحابة ، فخاف الصحابة - رحمهم الله - من ذلك الاختلاف لما كان عندهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن الاختلاف في القرآن ، وأن المراء فيه كفر .
__________
(1) انظر : مقدمة تفسير القرطبي 1/42 .
(2) كتاب فضائل القرآن لابن كثير ص 133 .
(3) انظر : تفسير الطبري 1/21 - 67 .(1/219)
وقد كانت عامة أهل العراق وعامة أهل الشام هموا بأن يكفر بعضهم بعضاً تصويباً لما عنده وإنكاراً لما عند غيره ، فاتفق رأي الصحابة وعثمان - رضوان الله عليهم - على أن يجمع لهم القرآن على حرف واحد من تلك السبعة الأحرف ، إذ صح عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كلها كاف شاف } ، فاكتفوا - رحمهم الله - بحرف واحد منها ، فأمر زيد بن ثابت بذلك ، فأملاه على من كتبه ممن أمره عثمان بذلك على ما هو مذكور في غير موضع ...
وأمَّا جمع أبي بكر للقرآن فهو أول من جمع ما بين اللوحين ، وجمع علي بن أبي طالب للقرآن أيضاً عند موت النبي صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر ؛ فإنَّما كل ذلك على حسب الحروف السبعة لا كجمع عثمان على حرف واحد - حرف زيد بن ثابت - وهو الذي بأيدي الناس بين لوحي المصحف اليوم ) (1) ا هـ .
__________
(1) الاستذكار 8/44 - 46 باختصار يسير جداً .(1/220)
وقال : ( وقد أجمع الصحابة ، ومن بعدهم على حرف واحد من السبعة الأحرف التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل القرآن عليها ، ومنعوا ما عدا مصحف عثمان منها ، وانعقد الإجماع على ذلك ، فلزمت الحجة به ، لقول الله عزوجل : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ا؟لْمُؤْمِنِينَ ... } [ النساء : 115 ] ، وقال ابن مسعود : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله عزوجل حسن (1) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي } (2) ) (3) .
وقال - رحمه الله - : ( وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلاَّ حرف واحد ، وهو صورة مصحف عثمان ، وما دخل فيه مِمَّا يوافق صورته - من الحركات واختلاف النقط - من سائر الحروف ) (4) ا هـ .
وقال - رحمه الله - أيضاً : ( فهذا معنى الحروف المراد بهذا الحديث - والله أعلم - إلاَّ أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد ، وعلى هذا أهل العلم فاعلم ) (5) ا هـ .
الدراسة :
من المسائل الكبيرة التي اختلف فيها العلماء مسألة صلة المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة ، هل هذه المصاحف مشتملة على جميع الأحرف السبعة ؟ .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/211 رقم [3600] بتحقيق : أحمد شاكر ، وقال : ( إسناده صحيح ، وهو موقوف على ابن مسعود ، وهو في مجمع الزوائد 1/177 - 178 ، وقال : رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثوقون ) ا هـ .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب : لزوم السنة 5/13 - 15 ، والترمذي في كتاب العلم ، باب : في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 5/43 وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وهو حديث العرباض بن سارية المشهور ، . انظر : صحيح الجامع الصغير رقم [2549] 1/499 .
(3) الاستذكار 24/277 ، 278 .
(4) التمهيد 8/296 .
(5) التمهيد 8/291 .(1/221)
في هذه المسألة ثلاثة أقوال للعلماء (1) :
الأول : ما ذهب إليه الطبري ، ومن وافقه على رأيه في الأحرف السبعة من أن المصاحف العثمانية تشتمل على حرف واحد منها ، وهو حرف قريش ، الذي جمع عثمان عليه المصاحف .
الثاني : ما ذهب إليه جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين من أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة .
وبنوا قولهم هذا على أنه لايجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها ، ولايجوز أن ينهى الصحابة - بعد جمعهم للقرآن في مصحف عثمان - عن القراءة ببعض الأحرف السبعة ، ولا أن يجمعوا على ترك شيء من القرآن .
الثالث : ما ذهب إليه جماعة من السلف والخلف من أنها مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط .
وهذا القول نسبه ابن الجزري لجماهير العلماء من السلف والخلف ، وقال : ( وهذا القول هو الذي يظهر صوابه ؛ لأن الأحاديث الصحيحة ، والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له ) (2) ا هـ .
وأمَّا القول الذي اختاره ابن عبدالبر فهو القول الأول ، وهو أن المصاحف الموجودة بأيدي الناس اليوم تشتمل على حرف واحد من الأحرف السبعة ، وهو حرف زيد بن ثابت .
واختياره لهذا القول يوافق القول الذي رجحه في معنى الأحرف السبعة ؛ لأنه يقتضي أن القراءات التي يقرأ بها الناس اليوم ترجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة ، وهو مفهوم كلام سفيان بن عيينة عندما سئل عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين هل تدخل في السبعة الأحرف ؟ فقال : لا ، وإنَّما السبعة الأحرف كقولهم : هلم ، وأقبل ، وتعال ، أي ذلك قلت أجزأك .
__________
(1) انظر : المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبي شيبة ص 193 - 194 .
(2) النشر في القراءات العشر لابن الجزري 2/31 .(1/222)
وقد أسهب ابن جرير الطبري في تقرير هذا القول ، وكذلك أبو جعفر الطحاوي ، وذكرا أن إنزال القرآن على سبعة أحرف كان لحكمة التيسير والتسهيل على الناس في بداية الأمر ؛ إذ كانوا أميين لايكتبون ، إلاَّ القليل منهم ، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات ، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلاَّ بمشقة عظيمة ؛ فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً ، فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم ، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فبان بذلك أن تلك السبعة الأحرف إنَّما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ، ثُمَّ ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف ، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد (1) .
واختيار الصحابة لحرف واحد من الأحرف السبعة ليس فيه محذور ، ولايترتب عليه ما يخل بحفظ القرآن الكريم ؛ لأن القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة جائزة ، وكل حرف من هذه الأحرف كاف شاف كما جاء ذلك في الأحاديث ، والقارئ مخيرٌ بالقراءة بأي حرف منها ، كما أن الذي عليه كفارة يمين مخير بأن يكفر بأي نوع من أنواع الكفارات ، فإذا كفر بواحد منها فقد أدى ما عليه ، ولم يقع في محذور ، وكذلك من قرأ بحرف واحد من الأحرف السبعة فقد أدى ما عليه ولم يقع في محذور ، وقد كان سبب اقتصارهم على حرف واحد من هذه الأحرف السبعة هو خوفُ الوقوع في المراء في القرآن الذي هو كفر ، وخوفُ الاختلاف والتنازع كما هو واضح من حديث أنس في قصة حذيفة مع عثمان - رضي الله عنهم أجمعين (2) - .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل عندي - والله أعلم - ) (3) ا هـ .
__________
(1) انظر : تفسير الطبري 1/58 - 67 ، وانظر : كتاب الطحاوي شرح مشكل الآثار 8/125 - 130 .
(2) سبق ذكره وتخريجه ص 178 .
(3) التمهيد 8/279 .(1/223)
وبهذا يتبين رجحان ما اختاره ابن عبدالبر في هذه المسألة ، وإن كان القول الثالث - الذي اختاره ابن الجزري - وهو أن المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة صحيحاً أيضاً ؛ إذ لا تعارض بينه وبين القول الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - في الحقيقة .
وهذا ما قرّره - رحمه الله - بقوله : ( وهذا يدلك على قول العلماء أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها إلاَّ حرف واحد ، وهو صورة مصحف عثمان ، وما دخل فيه مِمَّا يوافق صورته من الحركات واختلاف النقط من سائر الحروف ) (1) ا هـ .
ونظراً لتداخل هذين القولين فإن ابن الجزري - رحمه الله - لم يذكر القول الأول في كتابه النشر عندما عرض أقوال العلماء في هذه المسألة ، وإنَّما اكتفى بذكر القولين الثاني والثالث ، ورجح الثالث .
فالقول الثالث في الحقيقة مشتمل على القول الأول ؛ لأنه إن لم يبق من الأحرف السبعة إلاَّ حرف واحد ، كما هو مذهب الطبري والطحاوي وابن عبدالبر وغيرهم فالمصاحف مشتملة عليه ، وهو الذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة ، والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه - كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله (2) - .
وإن فرض أنه بقى أكثر من حرف واحد ، واشتملت عليها المصاحف العثمانية فليس في هذا ما يناقض ما سبق .
__________
(1) التمهيد 8/296 .
(2) انظر : مجموع الفتاوى 13/395 .(1/224)
قال ابن حجر في الفتح : ( والحق أن الذي جُمِعَ في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بعض ما اختلف فيه [ من ] الأحرف السبعة لا جميعها ، كما وقع في المصحف المكي : { تَجْرِي تَحْتَهَا ا؟لأَنْهَـ!ــرُ } [ التوبة : 100 ] في آخر براءة ، وفي غيره بحذف { مِنْ } ، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض ، وعدة هاآت وعدة لامات ونحو ذلك ، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً ، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين ، أو أعلم بذلك شخصاً واحداً وأمره بإثباتهما على الوجهين .
وما عدا ذلك من القراءات مِمَّا لايوافق الرسم فهو مِمَّا كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس وتسهيلاً ، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان ، وكفر بعضهم بعضاً اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي ) (1) ا هـ .
ولعل ما ذكره الإمام أبو العباس المهدوي (2) في شرح الهداية يعتبر خلاصة ما سبق وهو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، وتقريره في هذه المسألة ، حيث قال : ( وأصح ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك - إن شاء الله - : أن ما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن .
وتفسير ذلك : أن الحروف السبعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها تجري على ضربين :
__________
(1) فتح الباري لابن حجر 8/646 ، 647 .
(2) هو : أحمد بن عمّار بن أبي العباس المهدوي التميمي ، أبو العباس ، مقرئ أندلسي ، له مصنفات في التفسير والقراءات ، منها كتابه : شرح الهداية في توجيه القراءات ، مات سنة 440 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 1/184 .(1/225)
أحدهما : زيادة كلمة ونقص أخرى ، وإبدال كلمة مكان أخرى ، وتقدمة كلمة على أخرى ، وذلك نحو ما روي عن بعضهم : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج } [ البقرة : 195 ] ... ورُوي عن بعضهم : { وجاء سكرة الحق بالموت } [ ق : 18 ] ، فهذا الضرب وما أشبهه متروك لاتجوز القراءة به ، ومن قرأ بشيء منه غير معاند ولا مجادل عليه وجب على الإمام أن يأخذه بالأدب بالضرب والسجن على ما يظهر له من الاجتهاد ، فإن قرأ به وجادل عليه ودعا الناس إليه وجب عليه القتل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { المراء في القرآن كفر } ولإجماع الأمة على اتباع المصحف المرسوم .
والضرب الثاني : ما اختلف فيه القراء من إظهار وإدغام وروم وإشمام وقصر ومدّ ، وتخفيف وشدّ ، وإبدال حركة بأخرى ، وياء بتاء وواو بفاء وما أشبه ذلك من الاختلاف المتقارب ، فهذا الضرب هو المستعمل في زماننا هذا ، وهو الذي عليه خط مصاحف الأمصار ، سوى ما وقع فيه من اختلاف في حروف يسيرة .
فثبت بهذا أن هذه القراءات التي نقرؤها هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن استعملت لموافقتها المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة ، وتُرك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم المصحف ، إذ ليس بواجب علينا القراءة بجميع الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن ، وإذ قد أباح النبي عليه السلام لنا القراءة ببعضها دون بعض لقوله عزوجل : { فَا؟قْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ ا؟لْقُرْءَانِ" } [ المزمل : 20 ] فصارت هذه القراءات المستعملة في وقتنا هذا هي التي تيسرت لنا بسبب ما رآه سلف الأمة من جمع الناس على هذا المصحف ؛ لقطع ما وقع بين الناس من الاختلاف وتكفير بعضهم لبعض ، فهذا أصح ما قال العلماء في معنى هذا الحديث ، وما أشبهه من الأحاديث المأثورة عن النبي عليه السلام ) (1) ا هـ .
* * *
المبحث الثالث
__________
(1) شرح الهداية للإمام أبي العباس المهدوي 1/5 - 7 باختصار يسير .(1/226)
لغة القرآن الكريم :
تعرض ابن عبدالبر لهذه المسألة عندما ذكر القولين الثالث والرابع من الأقوال الواردة في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف ، وأن معناها سبع لغات من لغات العرب .
وملخص ما ذكره ابن عبدالبر من كلام متعلق بهذا المبحث : ( قال جماعة من العلماء : إن السبع لغات التي نزل القرآن عليها راجعة إلى لغات العرب كلها يمنها ونزارها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئاً منها ، وقد أوتي جوامع الكلم .
وقال آخرون : إن هذه اللغات السبع إنَّما تكون في مضر ، وقالوا : جائز أن يكون منها لقريش ، ومنها لكنانة ، ومنها لأسد ، ومنها لهذيل ، ومنها لتميم ، ومنها لضبة ، ومنها لقيس ، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب .
وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر ، وقالوا : في مضر شواذٌّ لايجوز أن يقرأ القرآن عليها ، مثل كشكشة قيس ، وعنعنة تميم ، فهي لغات يُرغب بالقرآن عنها ، ولايحفظ عن السلف فيه شيء منها .
وقال جماعة من العلماء : إن القرآن نزل بلغة قريش خاصة ، وهذا مروي عن عمرَ بن الخطاب ، وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - .
فأمَّا عمر فقد كتب إلى ابن مسعود - رضي الله عنهما - : ( أمَّا بعد ، فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقريء الناس بلغة قريش ، ولاتقرئهم بلغة هذيل ، والسلام ) .
وأمَّا عثمان فقد ثبت عنه أنه أمر زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبدالله ابن الزبير ، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام ، أن يكتبوا المصاحف ، وقال لهم : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش ، فإن القرآن أنزل بلسانهم .
قال أبو عمر : قول من قال : إن القرآن نزل بلغة قريش ، معناه عندي : في الأغلب - والله أعلم - ؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها ، وقريش لاتهمز ) (1) ا هـ .
الدراسة :
__________
(1) انظر : التمهيد 8/276 - 280 .(1/227)
معلومٌ أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين كما أخبر الله بذلك في كتابه الكريم في أكثر من موضع ، فليس المراد باللغة هنا ما يخالف اللغة العربيَّة من لغات أخرى كالفارسية والرومية والتركية وغيرها من اللغات الأخرى الأعجمية ، وإنَّما المراد باللغة هنا ما يطلق عليه في الاصطلاح العلمي الحديث : اللهجة ، وهي مجموعة من الصفات اللغوية التي تخص بيئة معينة ، يشترك في هذه الصفات جميع أفراد تلك البيئة (1) .
وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات لكل منها خصائصها ، ولكنها تشترك جميعاً في مجموعة من الظواهر اللغوية .
وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات هي التي اصطلح على تسميتها باللغة ، فالعلاقة بين اللغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص ، فاللغة تشتمل على عدة لهجات لكل منها ما يميزها ، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات .
ويُعبِّر القدماء عمّا نسميه الآن باللهجة بكلمة { اللغة } كثيراً ، فيشير أصحاب المعاجم إلى لغة تميم ، ولغة طيء ، ولغة هذيل ، وهم يريدون بذلك ما نعنيه نحن الآن بكلمة { اللهجة } وقد يعبّرون بكلمة { اللسان } ، وهو التعبير القرآني : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ÷ } [ إبراهيم : 4 ] (2) .
وقد ذكر ابن عبدالبر - رحمه الله - أقوال العلماء في اللغات التي نزل عليها القرآن ، واختار أن القرآن الكريم نزل بلغة قريش في الأغلب .
والذي يظهر - والله أعلم - أن القرآن الكريم نزل بلغة قريش قوم الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لِحِكَم جليلة ، أهمها (3) :
__________
(1) انظر : كتاب لغة القرآن الكريم للدكتور : عبدالجليل عبدالرحيم ص 40 .
(2) انظر : كتاب نزول القرآن على سبعة أحرف لمناع القطان ص 4 .
(3) انظر : كتاب الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 57 ، 58 ، 59 .(1/228)
1 - أن قريشاً هم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جرت سنة الله في رسله أن يبعثهم بألسنة أقوامهم كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ÷ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ( } [ إبراهيم : 4 ] .
2 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمر بتبليغهم أولاً كما في قوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ا؟لأَقْرَبِينَ = 214 } [ الشعراء : 214 ] فلابد من مخاطبتهم بما يألفون ويعرفون ليستبين لهم أمر دينهم فأنزل الله القرآن بلغتهم وأساليبهم التي يفضلونها ، في مستوى رفيع من البلاغة لايجاري .
وهذا ما دلت عليه الآثار المروية عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - .
3 - أن لغة قريش أفصح اللغات العربيَّة ، وهي تشمل معظم هذه اللغات لاختلاط قريش بالقبائل ، واصطفائها الجيد الفصيح من لغاتهم ، فإنزال القرآن بلغة قريش يعني نزوله بألسنة العرب جميعاً من حيث الجملة ، ولذلك ترجم البخاري لحديث عثمان السابق بقوله : ( باب نزل القرآن بلغة قريش والعرب قرآناً عربياً بلسان عربي مبين ... وذكر حديث عثمان - رضي الله عنه - (1) .
ويجاب عمّا قاله ابن عبدالبر - رحمه الله - من وجود غير لغة قريش في صحيح القراءات ، وكذلك وجود بعض الكلمات التي قيل إنها بلغات غير لغة قريش (2) بأجوبة :
منها : أن ما ورد من هذه الألفاظ وإن كانت في الأصل من غير لغة قريش لكن قريشاً أخذتها واستعملتها حتى صارت قرشية بالاستعمال ، ومعروف أن مركز قريش هيأ لها أن تأخذ من اللغات الأخرى أعذبها وأسلسها .
ومنها : أن هذه الكلمات واللغات المذكورة مِمَّا توافقت فيه لغة قريش وغيرها إلاَّ إنها عند غير قريش أشهر وأعرف .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن 8/625 مع الفتح .
(2) انظر هذه اللغات في الإتقان للسيوطي ، النوع السابع والثلاثون فيما وقع في القرآن بغير لغة الحجاز 1/417 - 426 .(1/229)
وتوافق اللغات في بعض الكلمات أمر غير مستنكر ولا مستغرب ، وأيّاً كان الحال ، فوجود هذه الكلمات واللغات في القرآن لاينافي كون القرآن نزل بلغة قريش .
ومثل هذه الكلماتُ التي جاءت في القرآن وقيل : إنها غير عربية في الأصل كالمشكاة والقسطاس ، واستبرق ، ونحوها ، فإنها إمَّا صارت عربية بالاستعمال ، أو أنها مِمَّا توافقت فيها لغة العرب وغيرهم ، ولم يطعن وجودها في كون القرآن نزل بلسان عربي مبين (1) .
* * *
المبحث الرابع
حكم القراءة بالشواذ
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( الذي عليه جماعة الأمصار من أهل الأثر والرأي أنه لايجوز لأحد أن يقرأ في صلاته - نافلة كانت أو مكتوبة - بغير ما في المصحف المجتمع عليه ، سواء كانت القراءة المخالفة له منسوبة لابن مسعود ، أو إلى أبيّ ، أو إلى ابن عباس ، أو إلى أبي بكر ، أو عمر ، أو مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) (2) .
وقال - رحمه الله تعالى - : ( وأجمع العلماء أن ما في مصحف عثمان بن عفان - وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا - هو القرآن المحفوظ الذي لايجوز لأحد أن يتجاوزه ، ولاتحل الصلاة لمسلم إلاَّ بما فيه ، وأن كل ما روي من القراءات في الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أبيّ أو عمر ابن الخطاب أو عائشة أو ابن مسعود أو ابن عباس أو غيرهم من الصحابة مِمَّا يخالف مصحف عثمان المذكور لايقطع بشيء من ذلك على الله عزوجل ، ولكن ذلك في الأحكام يجري في العمل مجرى خبر الواحد .
وإنَّما حل مصحف عثمان - رضي الله عنه - هذا المحل لإجماع الصحابة وسائر الأمة عليه ، ولم يجمعوا على ما سواه ، وبالله التوفيق .
ويبين لك هذا أن من دفع شيئاً مِمَّا في مصحف عثمان كفر ، ومن دفع ماجاء في هذه الآثار وشبهها من القراءات لم يكفر .
__________
(1) انظر : كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبي شيبة ص 165 .
(2) الاستذكار 8/47 ، 48 .(1/230)
ومثل ذلك من أنكر صلاة من الصلوات الخمس ، واعتقد أنها ليست واجبة عليه كفر ، ومن أنكر أن يكون التسليمُ من الصلاة ، أو قراءةُ أم القرآن ، أو تكبيرةُ الإحرام فرضاً لم يكفر ونوظر ، فإن بان له فيه الحجة ، وإلاَّ عذر إذا قام له دليله ، وإن لم يقمْ له على ما ادعاه دليل محتمل ، هجر وبدع ؛ فكذلك ماجاء من الآيات المضافات إلى القرآن في الآثار ، فقف على هذا الأصل ) (1) .
وقال أيضاً - بعد ذكره لفتوى الإمام مالك في الرجل الذي يقرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود ، أو غيره من الصحابة مِمَّا يخالف المصحف أنه لايُصلى وراءه - قال : ( وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلاَّ قومٌ شذوا لايعرج عليهم ، منهم الأعمش سليمان بن مهران ) (2) ا هـ .
وقال : ( وجائزٌ عند جميعهم [ يقصد علماء الأمصار ] القراءة بذلك كله في غير الصلاة ، وروايته ، والاستشهاد به على معنى القرآن ، ويجري عندهم مجرى خبر الواحد في السنن لايقطع على عينه ، ولايشهد به على الله تعالى كما يقطع على المصحف الذي عند جماعة الناس من المسلمين عامتهم وخاصتهم مصحف عثمان ، وهو المصحف الذي يقطع به ، ويشهد على الله عزوجل ، وبالله التوفيق ) (3) ا هـ .
__________
(1) التمهيد 4/278 ، 279 .
(2) التمهيد 8/293 .
(3) الاستذكار 8/148 .(1/231)
وقال أيضاً في موضع آخر : ( وفيه (1) جواز الاحتجاج من القراءات بما ليس في مصحف عثمان ، إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها ، وهذا جائز عند جمهور العلماء ، وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه ، دون القطع [ عن مغيبيه ] ) (2) ا هـ .
الدراسة :
المراد بالشواذ هنا : ما خالف مصحف عثمان المجمع عليه مِمَّا صح من القراءات المروية عن الصحابة - رضي الله عنهم - أو المسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع موافقتها للعربيَّة ، وعلى هذا فيمكن تعريف القراءة الشاذة بأنها ما صح سنده ، ووافقت العربيَّة ولو بوجه وخالفت رسم المصحف .
وهذا التعريف هو الذي اعتمده ابن تيمية وابن الجزري - رحمهما الله - وغيرهما (3) .
وكلام ابن عبدالبر السابق في حكم هذا النوع من القراءات واضح لا خفاء فيه ، إلاَّ أن هناك تنبيهات ينبغي ملاحظتها :
__________
(1) أي في الأثر الذي ذكره مالك في الموطأ في كتاب الصيام ، باب : ماجاء في قضاء رمضان والكفارات 1/252 عن حميد بن قيس المكي قال : كنت مع مجاهد وهو يطوف بالبيت ، فجاءه إنسان فسأله عن صيام أيام الكفارة أمتتابعات أم يقطعها ؟ قال حميد : فقلت له : نعم ، يقطعها إن شاء ، قال مجاهد : لايقطعها فإنها في قراءة أبيّ بن كعب : ثلاثة أيام متتابعات .
(2) الاستذكار 10/190 وما بين المعكوفين ورد هكذا في المطبوع .
(3) انظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/393 ، 394 ، والمنجد لابن الجزري ص 16 ، 17 ، وانظر : القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد عمر بازمول 1/161 .(1/232)
أولها : قوله - رحمه الله - في حكم القراءة بالقراءات الشاذّة في الصلاة بأنه مِمَّا اجتمع علماء الأمصار على عدم جوازه فيه نظر ، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن في هذه المسألة قولين للعلماء هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد ، وروايتان عن مالك : إحداهما : يجوز ذلك ؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرؤون بهذه الحروف في الصلاة .
والثانية : لايجوز ذلك ، وهو قول أكثر العلماء ؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة ، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني .
وفي المسألة قول ثالث وهو : إنْ قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة - وهي الفاتحة عند القدرة عليها - لم تصح صلاته ؛ لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك ، وإن قرأ بها فيما لايجب لم تبطل صلاته ؛ لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها (1) .
ومع هذا فإن القول الذي ذكره ابن عبدالبر ونقل الإجماع عليه هو قول جمهور العلماء ، وهو القول الصواب الذي لايعدل عنه ، ومن قال غيره فغالط أو جاهل كما قال النووي - رحمه الله - (2) .
التنبيه الثاني : لايُقرأ بالقراءات الشاذة في غير الصلاة على أنها قرآن ، ومع ذلك فإننا لانحكم بردها ، وإنَّما نتوقف في ذلك ، إذ يحتمل أن تكون من الأحرف السبعة ، ويحتمل أن تكون من قبيل ما يسمى بالقراءات التفسيرية (3) .
__________
(1) انظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/394 - 398 ، وانظر : كتاب القراءات وأثرها في التفسير والأحكام لمحمد عمر بازمول 1/159 - 160 .
(2) المجموع شرح المهذب 3/392 .
(3) انظر : كتاب القراءات وأثرها في التفسير والأحكام للشيخ محمد عمر بازمول 1/157 .(1/233)
قال ابن جرير الطبري - رحمه الله - : ( كل ما صح عندنا من القراءات أنه علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته من الأحرف السبعة التي أذن الله له ولهم أن يقرؤوا بها القرآن فليس لنا أن نخطيء من قرأ به إذا كان ذلك موافقاً لخط المصحف ، فإن كان مخالفاً لخط المصحف لم نقرأ به ، ووقفنا عنه وعن الكلام فيه ) (1) ا هـ .
وقال ابن الجزري - رحمه الله - : ( فهذه القراءة تسمى اليوم شاذة لكونها شذت عن رسم المصحف المجمع عليه ، وإن كان إسنادها صحيحاً ، فلاتجوز القراءة بها لا في الصلاة ولا في غيرها ) (2) ا هـ .
التنبيه الثالث : القراءات الشاذة لها فوائد متعددة :
منها : أنه يحتج بها ، ويعمل بما يقتضيه معناها إذا لم يكن هناك ما يعارضها أو يدفعها ، وهي في الاحتجاج بها في حكم خبر الواحد .
وهذا هو رأي جمهور العلماء كما ذكر ذلك ابن عبدالبر - رحمه الله - بقوله : ( ... وهذا جائز عند جمهور العلماء (3) ، وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه ... ) (4) ا هـ .
ومن أمثلة ذلك : قول الله تعالى في كفارة اليمين : { فَصِيَامُ ثَلَـ!ـــثَةِ أَيَّامٍ" } [ المائدة : 89 ] جاء في قراءة ابن مسعود وأبيّ بن كعب - رضي الله عنهما - : { ثلاثة أيام متتابعات } ، وعلى هذا استند جماعة من العلماء فقالوا : إنه يلزم التتابع في صيام كفارة اليمين .
__________
(1) من كتاب الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب ص 60 نقلاً عن كتاب القراءات لابن جرير الطبري .
(2) المنجد لابن الجزري ص 16 ، 17 .
(3) انظر : كتاب أثر القراءات في الفقه الإسلامي للدكتور صبري عبدالرؤوف ص 331 - 347 حيث عقد فصلاً بيّن فيه موقف الفقهاء من الاحتجاج بالقراءة الشاذة .
(4) الاستذكار 10/190 .(1/234)
قال أبو بكر الجصاص (1) : ( روى مجاهد عن عبدالله بن مسعود (2) ، وأبو العالية عن أبيّ (3) : { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } ، وقال إبراهيم النخعي في قراءتنا : { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } ، وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاووس : هن متتابعات لايجزي فيها التفريق .
فثبت التتابع بقول هؤلاء ، ولم تثبت التلاوة لجواز كون التلاوة منسوخة والحكم ثابتاً ، وهو قول أصحابنا ، وقال مالك والشافعي : يجزيء فيها التفريق ) (4) ا هـ .
قال ابن كثير - رحمه الله - بعد ذكره للآثار التي تؤيد القائلين بالتتابع : ( وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً فلا أقل أن يكون خبر واحد أو تفسيراً من الصحابة ، وهو في حكم المرفوع ) (5) ا هـ .
ومن فوائد القراءة الشاذة أنها تفسر القراءة المتواترة وتُبيّن معناها ، ويُسْتعان بها على فهم مراد الله تعالى .
__________
(1) هو : الإمام العلامة المفتي المجتهد ، عالم العراق ، أبو بكر ، أحمد بن علي الرازي الحنفي ، صاحب التصانيف ، سكن بغداد ، وإليه انتهت رئاسة الحنفية ، ودُعي إلى القضاء فامتنع ، كان يميل إلى الاعتزال ، وفي تواليفه ما يدل على ذلك في رؤية الله وغيرها ، نسأل الله السلامة ، توفي سنة 370 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 16/340 - 341 .
(2) انظر رواية مجاهد عن عبدالله بن مسعود في تفسير الطبري 10/560 رقم [12499] .
(3) انظر رواية أبي العالية عن أبي في تفسير الطبري 10/559 ، 560 رقم [12498] .
(4) أحكام القرآن للجصاص 2/577 .
(5) تفسير ابن كثير 2/86 .(1/235)
قال أبو عبيد في فضائل القرآن : ( إن القصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها ، وذلك كقراءة عائشة وحفصة : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر } [ البقرة : 538 ] ، وكقراءة ابن معسود : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما } [ المائدة : 38 ] ... وكما قرأ ابن عباس : { لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج } [ البقرة : 198 ] ... فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن ، وقد كان يروى مثل هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك ، فكيف إذا روى عن كبار الصحابة ، ثُمَّ صار في نفس القراءة ! فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى ؛ فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحة التأويل ) (1) ا هـ .
ويتعلق بالقراءة الشاذة بعض القواعد التفسيرية التي يستفاد منها عند تفسير كلام الله ، ومن هذه القواعد :
1 - قاعدة : القراءات يُبَيّن بعضها بعضاً (2) ، ويدخل في هذه القاعدة أن القراءة الشاذة تفسِّر القراءة المتواترة (3) .
2 - قاعدة : يعمل بالقراءة الشاذة - إذا صح سندها - تنزيلاً لها منزلة خبر الآحاد (4) .
3 - القراءة الشاذة إن خالفت القراءة المتواترة المجمع عليها ولم يمكن الجمع فهي باطلة (5) ، وهذا معنى قول ابن عبدالبر : ( وفيه جواز الاحتجاج بالقراءة التي ليست في مصحف عثمان إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها ) (6) .
* * *
الموضوع الثالث
النسخ في القرآن الكريم
وتحته تمهيد وأربعة مباحث :
المبحث الأول : ثبوت النسخ في أحكام الله في القرآن
المبحث الثاني : أوجه النسخ في القرآن
__________
(1) من البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/486 ، 487 باختصار .
(2) قواعد التفسير جمعاً ودراسة لخالد بن عثمان السبت 1/90 .
(3) المرجع السابق 1/91 .
(4) المرجع السابق 1/92 .
(5) المرجع السابق 1/93 .
(6) بتصرف يسير من الاستذكار 10/190 .(1/236)
المبحث الثالث : حكم نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
المبحث الرابع : قواعد وضوابط في النسخ في القرآن
تمهيد :
النسخ في القرآن الكريم من الموضوعات المهمة التي لابُدّ من الإلمام بها لكل من تصدّى لدراسة القرآن ، وأراد معرفة أحكامه ومعانيه .
ولذلك فقد كتب فيه المؤلفون في علوم القرآن ، وأفرده كثيرون بالتصنيف (1) ؛
__________
(1) من الكتب المطبوعة المصنفة قديماً في الناسخ والمنسوخ :
... 1 - الناسخ والمنسوخ في القرآن ، لأبي عبيد القاسم بن سلام ( ت 224 هـ ) .
... 2 - الناسخ والمنسوخ في القرآن ، لأبي جعفر النحاس ( ت 328 هـ ) .
... 3 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ، لمكي بن أبي طالب ( ت 407 هـ ) .
... 4 - الناسخ والمنسوخ ، لأبي منصور عبدالقاهر البغدادي ( ت 429 هـ ) .
... 5 - الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ، لأبي بكر محمد بن عبدالله بن العربي ( ت 543 هـ ) .
... 6 - نواسخ القرآن ، لابن الجوزي ( ت 597 هـ ) .
... 7 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه ، لابن البارزي ( ت 738 هـ ) .
... ومن المؤلفات الحديثة المطبوعة في موضوع النسخ :
... 1 - النسخ في القرآن الكريم ، لمصطفى زيد ( رسالة دكتوراه ) .
... 2 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية ، لشعبان محمد إسماعيل .
... 3 - فتح المنان في نسخ القرآن ، لعلي حسن العريض .
... 4 - النسخ في الشريعة الإسلاميَّة كما أفهمه ، لعبدالمتعال الجبري ( رسالة ماجستير ) .
... 5 - النسخ بين الإثبات والنفي ، لمحمد محمود فرغلي .
... 6 - دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ، لمحمد حمزة .
... 7 - الأدلة المطمئنة على ثبوت النسخ في الكتاب والسنة ، لعبدالله مصطفى العريس .
... إضافة إلى ما كتب في النسخ في أغلب الكتب المؤلفة في علوم القرآن وأصول الفقه .
... وهناك مقالات وبحوث في مجلات عن هذا الموضوع ومنها :
... 1 - النسخ في القرآن الكريم ، للشيخ عبدالله الشبانة في مجلة البحوث الإسلاميَّة ، العدد 29 ص 207
... إلى ص 277 .
... 2 - النسخ في الشريعة حقيقته والحكمة منه ، لعمر السّردي في مجلة الحكمة ، العدد التاسع ص 157
... إلى ص 221 .(1/237)
( لأن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام ، خصوصاً إذا ما وجدت أدلة متعارضة لايندفع التعارض بينها إلاَّ بمعرفة سابقها من لاحقها ، وناسخها من منسوخها .
ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية ، يحذقونها ، ويلفتون أنظار الناس إليها ، ويحملونهم عليها ؛ حتى لقد جاء في الأثر أن ابن عباس - رضي الله عنهما - فسّر الحكمة في قوله تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) } [ البقرة : 269 ] بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه (1) .
وروي أن عليًّا - رضي الله عنه - مرّ على قاص ، فقال : أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت (2) . يريد أنه عرّض نفسه وعرض الناس للهلاك ، مادام أنه لايعرف الناسخ من المنسوخ ) (3) .
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 5 ، 6 رقم [3] ، وابن جرير الطبري في تفسيره 5/576 بتحقيق : أحمد ومحمود شاكر ، وأبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ 1/411 رقم [4] . وانظر : كلام المحقق عليه ، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/304 ، والسيوطي في الدر المنثور 1/348 ، وزاد سبته لابن المنذر وابن أبي حاتم .
(2) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 4 رقم [1] ، والنحاس في الناسخ والمنسوخ 1/410 رقم [2] والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1/244 ، وقال محققه : إسناده صحيح .
(3) مناهل العرفان للزرقاني 2/189 .(1/238)
وقد ذكر صاحب بحثنا الحافظ ابن عبدالبر - رحمه الله - في كتابه جامع بيان العلم وفضله في باب معرفة أصول العلم وحقيقته وما الذي يقع عليه اسم الفقه والعلم مطلقاً - أثراً يبيّن أهمية هذا العلم ، حيث قال : ( وذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش ، ثنا عبدالله بن محمود ، قال : سمعت يحيى بن أكثم (1) يقول : ليس من المعلوم كلها علم هو أوجب على العلماء وعلى المتعلمين ، وكافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه ؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً ، والعلم به لازم ديانةً ، والمنسوخ لايعمل به ، ولاينتهي إليه ، فالواجب على كل عالم عِلْمُ ذلك لئلا يوجب على نفسه أو على عباد الله أمراً لم يوجبه الله عزوجل ، أو يضع عنه فرضاً أوجبه الله عزوجل ) (2) .
وقال القرطبي في بيان أهمية معرفة النسخ : ( معرفة هذا الباب أكيدة ، وفائدته عظيمة ، لايستغني عن معرفته العلماء ، ولاينكره إلاَّ الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال من الحرام ) (3) .
معنى النسخ في اللغة :
يأتي النسخ في كلام العرب على ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون مأخوذاً من قول العرب : نسخت الكتاب ، إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر ، فهذا لم يتغير المنسوخ منه ، وإنَّما صار له نظيرٌ مثله في لفظه ومعناه ، وهما باقيان .
والثاني : أن يكون مأخوذاً من قول العرب : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وحلت محله .
__________
(1) هو : يحيى بن محمد بن قَطَن التميمي الأُسيدي ، أبو محمد المروزي القاضي الفقيه ، روى عنه الترمذي والبخاري في غير الصحيح ، كان أحد الأعلام ، واسع الفقه ، كثير الأدب ، توفي سنة 242 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 4/339 - 341 .
(2) جامع بيان العلم وفضله 1/767 وقال المحقق عن هذا الأثر : ( علقه المصنّف ولعله في بعض مصنفات أبي بكر النقاش ، فإنه صاحب تصانيف ولم يكن محمود الرواية ) انظر ترجمته في السير 15/573 - 576 .
(3) تفسير القرطبي 2/62 .(1/239)
والثالث : أن يكون مأخوذاً من قول العرب : نسخت الريحُ الآثار ، إذا أزالتها فلم يَبق منها عوض ، ولا حلت الريح محل الآثار ، بل زالا جميعاً (1) .
وقد وردت مادة النسخ في القرآن الكريم بهذه المعاني الثلاثة :
فمن الأول - وهو النقل - قول الله تعالى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] .
ومن الثاني - وهو إزالة شيء مع حلول شيء آخر محله - قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ومن الثالث - وهو إزالة الشيء بدون حلول شيء آخر محله - قول الله تعالى : { فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَـ!ــنُ } [ الحج : 52 ] (2) .
معنى النسخ في الاصطلاح :
يحتاج معنى النسخ في الاصطلاح إلى شيء من الإيضاح ؛ وذلك لأن معناه في اصطلاح المتقدمين يختلف عن معناه في اصطلاح المتأخرين .
__________
(1) ذكر هذه المعاني الثلاثة مكي بن أبي طالب في كتابه الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 47 - 53 وانظر : لسان العرب لابن منظور 14/121 ، وكتاب نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز للإمام أبي بكر محمد بن عزيز السجستاني ص 443 ، 444 ، وللتوسع في معرفة معاني النسخ في اللغة انظر : كتاب النسخ في القرآن لمصطفى زيد 1/55 - 62 .
(2) انظر : الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 18 ، 19 .(1/240)
فالمتقدمون - من الصحابة والتابعين - لهم اصطلاح خاص في مسألة النسخ ، فمفهوم النسخ عندهم أعم من مفهومه عند الأصوليين والفقهاء والمحدثين ، وما استقر عليه الأمر بعد ذلك في هذا المصطلح ، فلم يكن النسخ عندهم مُمَيَّزاً عن غيره من أساليب البيان ، فقد كانوا يطلقون النسخ على تخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتبيين المجمل ، وإيضاح المبهم ، ونحو ذلك ، كما كانوا يطلقونه على النسخ بمعناه المعروف عند الأصوليين بعد تحديد المصطلحات العلمية .
وقد بيّن هذا وقرره كثيرٌ من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية (1) وتلميذه ابن القيم (2) والإمام الشاطبي في كتابه الموافقات (3) .
وأمَّا معنى النسخ في اصطلاح المتأخرين من الأصوليين والفقهاء والمحدثين وأهل علوم القرآن - فقد اختلفت عباراتهم في تحديد معناه بعد أن اتفقوا على أنه يختلف عن أساليب البيان الأخرى من تخصيص ، واستثناء ، وتقييد ، وتبيين ، وإيضاح ونحوها .
ولعل أفضل تعريف يبين معنى النسخ في اصطلاح المتأخرين مع سهولته ووضوحه وشموله هو ما ذكره فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في كتابه { الأصول من علم الأصول } ؛ حيث قال في تعريف النسخ في الاصطلاح : ( رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة ) (4) .
( فهذا التعريف مع كونه مختصراً ، فهو جامع مانع ، سالم من المآخذ والاعتراضات الواردة على غيره .
فقوله : { رفع حكم } تعريف للنسخ على أنه فعل الشارع ، خلافاً للذين عرفوه بأنه الخطاب ، أو اللفظ ، أو الطريق ، فهؤلاء عرفوا النسخ بدليله ، وتقييد الحكم بأنه { حكم دليل شرعي } مخرج لرفع حكم البراءة الأصلية ، فلايسمى نسخاً .
__________
(1) انظر : مجموع الفتاوى 13/29 .
(2) انظر : إعلام الموقعين 1/66 ، 67 .
(3) انظر : الموافقات للشاطبي 3/81 - 88 ، وقد توسع في تقرير ذلك وضرب الأمثلة عليه .
(4) الأصول من علم الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 45 .(1/241)
وقوله : { أو لفظه } جيء به ليشمل التعريفُ نسخ لفظ التلاوة ؛ لأن النسخ إمَّا أن يكون للحكم أو للفظ أولهما معاً .
وقوله : { بدليل } يخرج رفع الحكم بالموت والجنون ونحوهما ، وتقييد الدليل بكونه من الكتاب والسنة ؛ ليخرج ما عداهما من الأدلة كالإجماع والقياس فلاينسخ بهما ) (1) .
وبعد هذا التمهيد السريع الذي أشرت فيه بإيجاز إلى أهمية معرفة النسخ ، وذكرت تعريفه في اللغة وفي الاصطلاح - أذكر ما وجدته لابن عبدالبر من كلام يتعلق بهذا الموضوع المهم من موضوعات علوم القرآن .
ونظراً لتفرق كلامه المتعلق بموضوع النسخ ، ولتعدد المسائل التي تعرض لها ، فقد رأيت أن أقسم هذا الموضوع إلى مباحث ، أذكر تحت كل مبحث ما وجدته لابن عبدالبر من كلام متعلق به ، ثُمَّ أقوم بدراسة كلامه هذا بشيء من التفصيل والإيضاح ، سائلاً الله العلي القدير أن يمدني بعون منه وتوفيق ، وأن يلحقني بأهل العلم والتحقيق ، وإلى مباحث هذا الموضوع الدقيق :
* * *
المبحث الأول
ثبوت النسخ في أحكام الله في القرآن
قال - رحمه الله - وهو يذكر الفوائد والأحكام المستفادة من حديث تحويل القبلة (2) :
__________
(1) من مقدمة محقق كتاب الناسخ والمنسوخ ، لأبي جعفر النحاس 1/114 ، الشيخ الدكتور سليمان اللاحم .
(2) وهو حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله e قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .
... أخرجه مالك في الموطأ في كتاب القبلة ، باب : ما جاء في القبلة 1/173 ، 174 ، وأخرجه البخاري في الصلاة ، باب : ماجاء في القبلة 1/157 ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم [526] .(1/242)
( وفيه أيضاً دليلٌ على أن في أحكام الله - عزوجل - ناسخاً ومنسوخاً على حسبما ذكر في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، واجتمعت على ذلك أمته صلى الله عليه وسلم ، فلا وجه للقول في ذلك ) (1) .
وفي كتابه الاستذكار قال معلقاً على نفس الحديث : ( وفي ذلك دليلٌ على أن في أحكام الله تعالى ناسخاً ومنسوخاً ، وهو ما لا اختلاف فيه بين العلماء الذين هم الحجة على من خالفهم ) (2) ا هـ .
وقال - رحمه الله - : ( وقد أنكر قومٌ من الروافض والخوارج النسخ في القرآن والسنة ، وضاهوا في ذلك قول اليهود ، ولو أمعنوا النظر لعلموا أن ذلك ليس من باب البداء كما زعموا ولكنه من باب الموت بعد الحياة ، والكبر بعد الصغر ، والغنى بعد الفقر إلى أشباه ذلك من حكمة الله تعالى ، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) (3) ا هـ .
الدراسة :
من كلام ابن عبدالبر السابق يظهر لنا بوضوح أنه يقرر أن النسخ ثابت ، وأن في أحكام الله ناسخاً ومنسوخاً ، وأن ثبوت النسخ من المسائل التي اتفق عليها العلماء المعتبرون ، وهي محل إجماع بينهم .
وممن نقل الإجماع على أن في القرآن منسوخاً : ابن الجوزي (4) حيث قال في كتابه نواسخ القرآن : ( باب إثبات أن في القرآن منسوخاً ) ثُمَّ قال تحت هذا الباب : ( انعقد إجماع العلماء على هذا إلاَّ أنه قد شذّ من لايلتفت إليه ) (5) ا هـ .
__________
(1) التمهيد 17/47 ، 38 .
(2) الاستذكار 7/204 .
(3) التمهيد 3/215 .
(4) هو : العلامة ، الإمام ، الحافظ ، عالم العراق ، وواعظ الآفاق ، جمال الدين ، أبو الفرج ، عبدالرحمن ابن علي بن محمد القُرشي ، التميمي ، البغدادي ، الحنبلي ، صاحب التصانيف الكثيرة في فنون العلم ، كان لايضيّع من زمانه شيئاً ، كان له ملكة قوية في الوعظ ، مات سنة 597 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 4/119 - 123 .
(5) نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 13 .(1/243)
وقد توسع العلماء في تقرير ثبوت النسخ ، وبينوا أنه جائز عقلاً ، وواقع شرعاً .
ونظراً لكون ثبوت النسخ ظاهراً لايحتاج إلى إطالة مناقشة واستدلال ، وكأنه مِمَّا ينبغي أن يكون معلوماً لكل طالب علم ؛ بل لكل مسلم قال : ( فلا وجه للقول في ذلك ) .
ويؤخذ من قوله هذا أن المسائل الواضحة الثبوت ، الظاهرة الاستدلال لاتحتاج إلى إطالة القول فيها ، ولا إلى كثرة الاستدلال على تقريرها .
وبناءً على هذا فإني لن أطيل في ذكر الأدلة العقليَّة والنقلية التي تدل على ثبوت النسخ ، لوضوحها أولاً ، ولأن العلماء قد كفونا مؤونة ذلك ثانياً .
وأكتفي هنا بذكر كلام لأحد الأئمة ، ممن ألف في الناسخ والمنسوخ في القرآن وهو الإمام مكي بن أبي طالب (1) حيث قال في كتابه الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ما مختصره : ( اعلم أن الله - جلّ ذكره - هو الآمر فوق كل آمر ، قد علم ما سيكون قبل أن يكون ، وكيف يكون ما علم أنه سيكون وإلى متى يبقى ما قدّر أنه سيكون .
فهو - تعالى - قد علم ما يأمر به خلقَه ويتعبّدهم به ، وما ينهاهم عنه قبل كل شيء ، وعلم ما يُقرُّهم عليه من أوامره ونواهيه وما ينقلهم عنه إلى ما أراد من عبادته ، وذلك منه تعالى لما فيه من الصلاح لعباده فهو يأمرهم بأمر في وقت لما فيه من صلاحهم في ذلك الوقت ، وقد علم أنه يزيلهم عن ذلك في وقت آخر لما علم فيه من صلاحهم في ذلك الوقت الثاني .
فهو - تعالى - لم يزل مريداً للفعل الأول إلى الوقت الذي أراد فيه نسخه ، ومريداً لإيجاب بدله أو إزالة حكمه لغير بدل في الوقت الذي أراد رفع حكم الأول ، فينسخ بأمره مأموراً به بمأمور به آخر ...
__________
(1) هو : مكي بن أبي طالب بن محمد بن مختار ، أبو محمد ، القيسي ، كان فقيهاً مقرئاً أديباً ، غلب عليه علم القرآن ، وكان من الراسخين فيه ، وصنّف تصانيف كثيرة في علوم القرآن ، توفي سنة 407 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 2/331 - 332 .(1/244)
ونظير ذلك وتمثيله مِمَّا لا خفاء فيه على ذي لُبّ : أن الله - جلّ ذكره - قدّر في غيبه الأول بلا أمد تغييرَ الشرائع وتبديل الملل على ألسنة الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليهم - واختلاف أحكامها كما أراد ، فأتى كل رسول قومَه بشرع شرعه الله له مخالف لشرع مَن كان قبله من الرسل ، بدليل قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" } [ المائدة : 48 ] ، وذلك منه تعالى تعبّدٌ واختبار وابتلاء للطائع والعاصي ، ولما عَلِمَ ما فيه من صلاح عباده ، لِيعلَم منهم علم مشاهدة يقع عليه الجزاء لأهل الطاعة من أهل المعصية ...
فالملل والشرائع كلها متفقة في أنها عبادة لله وطاعة له ، وهي مختلفة في الهيئة والعدد والرتبة .
وكذلك الناسخ والمنسوخ كله عبادة لله وطاعة له وفرضٌ منه علينا ، وفعله كله طاعة لله على ما رتبه وأمر به في أزمانه وأوقاته ، وإن كان مختلفاً في الهيئة والصفة ... .
ولأجل ما أراد الله من النسخ للرفق بعباده والصلاح لهم أنزل القرآن شيئاً بعد شيء ، ولم ينزله جملة واحدة ؛ لأنه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ولا منسوخ ؛ إذ غير جائز أن يقول في وقت واحد : افعلوا كذا ، ولاتفعلوا كذا - لذلك الشيء بعينه - .
فأنزله - تعالى ذكره - شيئاً بعد شيء ليتم مراده في تعبده خَلْقَه بما شاء إلى وقت ، ثُمَّ ينقلهم عن ذلك التعبد إلى غيره في وقت آخر ، أو يزيل عنهم التعبد بما أمرهم به بغير عوض تخفيفاً عليهم ، لما في ذلك من الصلاح لهم ...
فافهم جميع ذلك فهو الأصل الذي عليه ينبني الناسخ والمنسوخ ) (1) .
ثُمَّ عقد باباً آخر في بيان النص على جواز النسخ للقرآن ، وذكر فيه ثلاثة أدلة من القرآن الكريم تدل بوضوح على جواز النسخ في القرآن ، وهي :
__________
(1) من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب باختصار ص 55 - 59 .(1/245)
1 - قول الله تعالى : { يَمْحُوا ا؟للَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ( } [ الرعد : 39 ] .
2 - قوله تعالى : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَا؛َ ءَايَةٍ* وَا؟للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُو%ا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ" } [ النحل : 101 ] .
3 - قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ثُمَّ قال : ( ويدل على جواز النسخ أيضاً قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" } [ المائدة : 48 ] فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله ) (1) .
وبهذا نعلم أن النسخ جائز عقلاً ، وواقع شرعاً ، ولاينكره إلاَّ غبي جاهل ، أو مكابر معاند ، أو متأول مخطيء التبس عليه الأمر ، فزلت به القدم (2) .
__________
(1) انظر : الإيضاح لمكي بن أبي طالب ص 60 - 64 .
(2) أهملتُ عمداً ذِكْرَ مَن أنكر وقوع النسخ وذكر الشبه التي اعتمدوا عليها فيما ذهبوا إليه مع أني قد استغرقت وقتاً ليس بالقصير في قراءة بعض كتبهم ولكني لم أخرج منها بطائل ، ويُمكن لمعرفة من أنكر النسخ الرجوع إلى :
1 - ... كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ، لأبي عبيد القاسم بن سلام ، قسم الدراسة ، للمحقق محمد بن بن صالح المديفر ص 72 - 76 . ... ... ... ... ... ... = =
2 - ... = = كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عزوجل ، لأبي جعفر النحاس 1/400 - 404 حاشية ، تعليق : محققه الدكتور سليمان اللاحم .
3 - ... النسخ في القرآن الكريم مفهومه وتاريخه ودعاواه ، للدكتور محمد صالح مصطفى ص 16 - 18 .
4 - ... كتاب الأدلة المطمئنة على ثبوت النسخ في الكتاب والسنة ، تأليف الشيخ عبدالله مصطفى العريس ص 43 - 44 .
5 - ... كتاب فتح المنان في نسخ القرآن ، تأليف علي حسن العريض ص 125 - 129 .
6 - ... كتاب النسخ بين الإثبات والنفي ، للدكتور محمد محمود فرغلي .
... وقد جعل بعض الباحثين الخلاف بين المثبتين والمنكرين خلافاً لفظياً صورياً ، فالذي يسميه المثبتون نسخاً يسميه النافون أسماءً أخرى إمَّا تخصيصاً وإمَّا تدرجاً أو غير ذلك .
... انظر : كتاب النسخ في القرآن الكريم ، للدكتور محمد صالح مصطفى ص 17 ، وانظر : كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 66 - 68 .
... وانظر في الرد على من أنكر النسخ كتاب مناهل العرفان للزرقاني 2/213 - 224 .(1/246)
وقبل أن أترك هذا المبحث وانتقل إلى آخر ، أرى أنه لابد من ذكر تنبيهين مهمين على قول ابن عبدالبر : ( وقد أنكر قوم من الروافض والخوارج النسخ في القرآن والسنة وضاهوا في ذلك قول اليهود ، ولو أمعنوا النظر لعلموا أن ذلك ليس من باب البداء كما زعموا ، ولكنه من باب الموت بعد الحياة ، والكبر بعد الصغر ، والغنى بعد الفقر ، إلى أشباه ذلك من حكمة الله تعالى ، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) (1) ا هـ :
التنبيه الأول : أنكر اليهود النسخ - على اختلاف بينهم في طريقة إنكاره (2) - ليتوصلوا بذلك إلى إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم يتفقون على أن الشريعة الإسلاميَّة لم تنسخ شريعتهم .
( واليهود ينكرونه لأنه يستلزم في زعمهم البداء - وهو الظهور بعد الخفاء (3) - قالوا : لو جاز النسخ على الله تعالى لكان إمَّا لحكمة ظهرت له بعد أن لم تكن ظاهرة ، أو لغير حكمة ، وكلا الأمرين باطل ؛ لأن الأول بداء ، والثاني عبث ، والبداء والعبث لايجوزان على الله تعالى ، إذ كل منهما نقصٌ ينزه الله أن يوصف به .
واستدلالهم هذا فاسد ؛ لأن كلاًّ من حكمة الناسخ وحكمة المنسوخ معلومة لله تعالى من قبل ، فلم يتجدد علمه بها ) (4) .
__________
(1) التمهيد 3/215 .
(2) انظر تفصيل ذلك في : كتاب النسخ في القرآن الكريم ، لمصطفى زيد 1/27 ومابعدها ، وكتاب دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ، لمحمد حمزة ص 73 - 77 .
(3) انظر تعريف البداء والفرق بينه وبين النسخ : كتاب مناهل العرفان للزرقاني 2/196 - 197 .
(4) أكثر هذا الكلام مقتبس ومأخوذ من كتابي مباحث في علوم القرآن للقطان ص 234 - 235 ، والتبيان في علوم القرآن لسليمان القرعاوي ومحمد علي الحسن ص 239 - 240 .(1/247)
فالأمر كما قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ليس من باب البداء ، ولكنه من باب الموت بعد الحياة ، والكبر بعد الصغر ، والغنى بعد الفقر ، إلى أشباه ذلك من حكمة الله تعالى ، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) .
والأمر كما قال ابن كثير - رحمه الله - : ( الذي يحمل اليهود على البحث في هذه المسألة إنَّما هو الكفر والعناد ، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ؛ لأنه يحكم مايشاء كما أنه يفعل ما يريد ، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ... ) (1) إلخ كلامه - رحمه الله - .
التنبيه الثاني : يفهم من كلام ابن عبدالبر السابق أن الروافض ينكرون النسخ ، والصحيح أنهم لاينكرونه ، وإنَّما غالوا في إثباته وتوسعوا فيه وأجازوا البداء على الله تعالى ، فهم بذلك قد تجاوزوا اليهود في كفرهم وصدهم عن الإسلام ، فاليهود ينكرون النسخ لأنه يستلزم البداء ، أمَّا الرافضة فيثبتون النسخ المستلزم للبداء ، فوصفوا الله - سبحانه وتعالى عمَّا يقولون ويصفون - بالبداء ، ونسبوا ذلك إلى أئمة البيت زوراً وبهتاناً ، وقالوا : ( البداء ديننا ودين آبائنا ) (2) .
* * *
المبحث الثاني
أوجه النسخ في القرآن
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/144 .
(2) أكثر هذا الكلام مقتبس ومأخوذ من كتابي مباحث في علوم القرآن للقطان ص 234 - 235 ، والتبيان في علوم القرآن لسليمان القرعاوي ومحمد علي الحسن ص 239 - 240 . وانظر لمعرفة عقائد الرافضة كتاب الفرق بين الفرق لعبدالقاهر البغدادي ص 21 - 23 ، وانظر : كتاب المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال للإمام الذهبي .(1/248)
قال ابن عبدالبر - في شرحه لحديث عائشة أنها أملت مولاها أبا يونس { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى - وصلاة العصر - وقوموا لله قانتين } ثُمَّ قالت : سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) - قال : ( وفيه ما يدل على مذهب من قال : إن القرآن نسخ منه ما ليس في مصحفنا اليوم .
ومن قال بهذا القول يقول : إن النسخ على ثلاثة أوجه في القرآن :
أحدها : ما نسخ خطه وحكمه وحفظه ، فنسي ، يعني رفع خطه من المصحف ، وليس حفظه على وجه التلاوة ؛ ولايقطع بصحته على الله ، ولايحكم به اليوم أحد ؛ وذلك نحو ما روي أنه كان يقرأ : لاترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم (2) .
ومنها قوله : لو أن لابن آدم وادياً من ذهب ، لابتغى إليه ثانياً ، ولو أن له ثانياً ، لابتغى إليه ثالثاً ، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب ويتوب الله على من تاب . قيل : إن هذا كان في سورة ص% (3) .
__________
(1) أخرجه مالك في كتاب صلاة الجماعة ، باب : الصلاة الوسطى 1/132 ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم [629] .
(2) قال عمر - رضي الله عنه - في حديث طويل : ( ثُمَّ إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) أخرجه البخاري في كتاب المحاربين ، باب : رحم الحبلى في الزنا إذا أحصنت 6/2503 - 2507 .
(3) أخرجه البخاري في الرقاق ، باب : ما يتقى من فتنة المال 5/2364 - 2365 ، وأخرجه مسلم في الزكاة رقم [1049] ، في صحيح البخاري 5/2365 قال أنس : { كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : { أَلْهَـ[ــ!ــكُمُ ا؟لتَّكَاثُرُ = 1 } } وليس في شيء منها ذكر أنها كانت في سورة ص% .(1/249)
ومنها : { بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه } وهذا من حديث مالك عن إسحاق ، عن أنس ، أنه قال : أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآناً قرأناه ، ثُمَّ نسخ بعد : ( بلغوا قومنا ... ) فذكره (1) .
ومنها قول عائشة : كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات ثُمَّ نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وص% مِمَّا يقرأ (2) .
إلى أشياء في مصحف أبيّ ، وعبدالله ، وحفصة ، وغيرهم مِمَّا يطول ذكره .
ومن هذا الباب ، قول من قال : إن سورة الأحزاب ، كانت نحو سورة البقرة أو الأعراف ، روى سفيان ، وحماد بن زيد ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : قال لي أبيّ بن كعب : كائن تقرأ سورة الأحزاب ، أو كائن تعدها ؟ قلتُ : ثلاثاً وسبعين آية ، قال : قط ، لقد رأيتها وإنها لتعادل البقرة ، ولقد كان فيما قرأناه فيها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ، نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي ، باب : غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة ... 4/1501 ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة رقم [677] .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الرضاع رقم [1452] قال النووي في شرح صحيح مسلم في معنى قول عائشة : { فتوفي رسول الله e وهن مِمَّا يقرأ } : ( ومعناه : أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً حتى إنه e توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآناً متلواً لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لايتلى ) شرح النووي على صحيح مسلم 10/281 - 282 .
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/132 ، والنسائي في سننه الكبرى 4/271 ، وقال ابن كثير - بعد أن ذكره بإسناد الإمام أحمد وغزاه إلى النسائي من وجه آخر : ( وهذا إسناد حسن وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثُمَّ نسخ لفظه وحكمه أيضاً - والله أعلم ) 3/448 .(1/250)
وقال مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار (1) قال : كانت سورة الأحزاب تقارن سورة البقرة .
( وروى أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سيف عن مجاهد ، قال : كانت الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول ، ولقد ذهب يوم مسيلمة قرآن كثير ، ولم يذهب منه حلال ولا حرام ) .
أخبرنا عيسى بن سعيد بن سعدان ( المقرئ ) قال : أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن أحمد بن جعفر الخرقي المقرئ ، قال : أخبرنا أبو الحسن صالح بن أحمد القيراطي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، قال : أخبرني يحيى بن آدم قال : أخبرنا عبدالله بن الأجلح ، عن أبيه عن عدي بن عدي بن عميرة بن فروة عن أبيه عن جده عميرة بن فروة ، أن عمر بن الخطاب قال لأبيّ - وهو إلى جنبه - : أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : أن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم ؟ فقال : بلى ، ثُمَّ قال : أوليس كنا نقرأ : الولد للفراش وللعاهر الحجر - فيما فقدنا من كتاب الله ؟ فقال أبي : بلى (2) .
__________
(1) هو : عمرو بن دينار ، الحافظ ، الإمام ، عالِمُ الحرم ، أبو محمد الجُمَحي مولاهم ، المكي ، قال شعبة : لم أرَ مثل عمرو بن دينار . وقال ابن عيينة : ثقة ثقة ثقة ، كان قد جزأ الليل ، فثلثاً ينام ، وثلثاً يدرس حديثه ، وثلثاً يصلي . مات سنة 126 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/184 ، 185 .
(2) لم أجده بهذا السياق ، والجزء الأول منه هو : ( أن انتفاءكم من أبنائكم كفر بكم ) سبق تخريجه بلفظ قريب من هذا ، والجزء الثاني وهو : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) أخرجه البخاري في كتاب الحدود باب للعاهر الحجر من حديث أبي هريرة 6/2499 .(1/251)
والوجه الثاني : أن ينسخ خطه ويبقى حكمه ، وذلك نحو قول عمر بن الخطاب : لولا أن يقول قوم زاد عمر في كتاب الله ، لكتبتها بيدي : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة ، نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم . فقد قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
فهذا مِمَّا نسخ ورفع خطه من المصحف وحكمه باق في الثيب من الزناة إلى يوم القيامة - إن شاء الله - عند أهل السنة .
ومن هذا الباب قوله في هذا الحديث : وصلاة العصر - ( في مذهب من نفى أن تكون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ) .
وقد تأول قوم في قول عمر : قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي تلوناها ، والحكمة تتلى ، بدليل قول الله عزوجل : { وَا؟ذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـ!ــتِ ا؟للَّهِ وَا؟لْحِكْمَةِ" } [ الأحزاب : 34 ] .
وبين أهل العلم في هذا تنازع يطول ذكره .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الحدود ، باب : ماجاء في الرجم 2/628 ، 629 ، وأصل الحديث مخرج في الصحيحين بدون ذكر آية الرجم بالنص ، وفي هذا الحديث كلام طويل يُمكن الرجوع إليه في مقال بعنوان : { أسانيد آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) } جمع الشيخ حمد العثمان في مجلة الحكمة ، العدد السابع ص 235 - 242 .
... وانظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس 1/436 - 438 ، حاشية رقم [4] .(1/252)
والوجه الثالث : أن ينسخ حكمه ويبقى خطه يتلى في المصحف ، وهذا كثير ، نحو قوله - عزوجل - : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا وَصِيَّةً لأَزْوَ !جِهِم مَّتَـ!ــعًا إِلَى ا؟لْحَوْلِ } [ البقرة : 240 ] نسختها { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( } [ البقرة : 234 ] وهذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه ) (1) ا هـ .
وقال - رحمه الله - : ( وأمَّا قوله في الحديث : { لأقضين بينكما بكتاب الله } (2) فلأهل العلم في ذلك قولان :
أحدهما : أن الرجم في كتاب الله على مذهب مَن قال : إن من القرآن ما نسخ خطه وثبت حكمه ، وقد أجمعوا أن من القرآن ما نسخ حكمه ، وثبت خطه ، وهذا في القياس مثله ... ومَن ذهب هذا المذهب احتج بقول عمر ابن الخطاب : الرجم في كتاب الله ، حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصنّ (3) . وقوله : لولا أن يقال : إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها : { الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة } فإنا قد قرأناها (4) ) (5) .
الدراسة :
ذكر ابن عبدالبر - رحمه الله - في الكلام السابق أوجه النسخ في القرآن ، وذكر أمثلة لكل وجه من هذه الأوجه ، وأكثرُ ما ذكر واضح لايحتاج إلى إيضاح ؛ ولذلك سوف أكتفي في دراسته بالتنبيه على بعض الأمور :
__________
(1) التمهيد 4/273 - 277 .
(2) سبق تخريجه ص 147 .
(3) أخرجه مالك في الموطأ في الحدود ، باب : ماجاء في الرحم 2/628 ، وهو مختصر من خطبة لعمر طويلة رواها بأكملها البخاري في كتاب المحاربين ، باب : رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت 6/2503 - 2507 .
(4) سبق تخريج هذه الرواية والكلام عليها قريباً .
(5) التمهيد 9/77 .(1/253)
الأمر الأول : الوجه الأول الذي ذكره ابن عبدالبر - وهو ما نسخ حظه وحكمه وحفظه فنسى ، ويطلق عليه بعض العلماء نسخَ التلاوة والحكم معاً - هذا الوجه أنكره قوم كما حكى ذلك عنهم القاضي أبو بكر (1) في كتابه الانتصار كما نقله عنه الزركشي في البرهان بقوله : ( وحكى القاضي أبو بكر في { الانتصار } عن قوم إنكار هذا القسم ؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولايجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها ) (2) .
( وقد أُجيبت على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء ، وثبوت نزول القرآن شيء آخر ، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد ، أمَّا ثبوت نزول القرآن فهو الذي يشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر ، والذي معنا ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفى فيه أخبار الآحاد ) (3) .
الأمر الثاني : ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - من أمثلة على الوجه الأول ، وذكر أنها مِمَّا نسخ خطه وحكمه وحفظه فنسي ، في بعضها نظر ، وذلك مثل نسخ { لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب } ، ونسخ { بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا } وما شابه ذلك من أمثلة حكمها ثابت لم يتغير ولم يرفع .
وكذلك ما ذكره من نسخ حكم آية الرجم في سورة الأحزاب فيه نظر .
__________
(1) هو : القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ، البصري ، المالكي ، الأصولي المتكلم ، صاحب المصنفات ، كان يُضرب المثلُ بفهمه وذكائه ، كان ثقة إماماً بارعًا ، صنّف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية ، مات سنة 403 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 17/190 - 193 .
(2) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/171 .
(3) مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 238 .(1/254)
فلعل الصحيح في مثل هذه الأمثلة أن تكون مِمَّا نسخ تلاوته ولفظه وبقي حكمه لأن هذه الألفاظ جاءت بصورة الخبر ، ومعناها صحيح وحكمها باق ، فكيف تكون مِمَّا نسخ حكمه ؟ ! .
وسيأتي - إن شاء الله - بيان ذلك في المبحث الرابع ، تحت القاعدة الأولى .
الأمر الثالث : أنكر بعض أهل العلم الوجه الثاني - وهو نسخ الخط والتلاوة وبقاء الحكم - وقالوا : إن الأخبار فيه أخبار آحاد ، ولايجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد (1) .
وممن أنكر وشكك في وقوعه الدكتور مصطفى زيد (2) في كتابه النسخ في القرآن حيث قال : ( ولابد من وقفه هنا ، عند نوع ثالث للنسخ ذكره الأصوليون ، واعتمدوا فيه على آثار لاتنهض دليلاً له ، مع أن الآيتين اللتين تتحدثان عن النسخ في القرآن الكريم لاتسمحان بوجوده إلاَّ على تكلف ، ومع أنه يخالف المعقول والمنطق ، ومع أن مدلول النسخ وشروطه لاتتوافر فيه ... وهذا النوع هو منسوخ التلاوة باقي الحكم كما يعبر عنه الأصوليون ) (3) .
ثُمَّ ذكر الأمثلة التي تدل على وقوع هذا النوع - وهي آيتا الرجم ، وتحريم الرضعات الخمس - وشكك في ثبوتها ، واستبعد صدور الآثار فيهما عن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - ثُمَّ قال : ( ومن ثَمَّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرد فرض ، لم يتحقق في واقعة واحدة ، ولهذا نرفضه ، ونرى أنه غير معقول ولا مقبول ، والله عزوجل أعلم ) (4) ا هـ .
__________
(1) انظر : مباحث في علوم القرآن لمناع القطاع ص 239 .
(2) هو : مصطفى السيد بدر زيد ، أستاذ الشريعة الإسلاميَّة ورئيس القسم بجامعتي القاهرة وبيروت العربيَّة توفي في نهاية القرن الماضي كما ذكر عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي في كتابه ( الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ) ص 10 .
(3) النسخ في القرآن الكريم لمصطفى زيد 1/283 .
(4) المرجع السابق 1/258 .(1/255)
وقد رد المحققون من أهل العلم كلامه هذا من وجوه كثيرة ، ومن هذه الوجوه ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - بقوله : ( وقد أجمعوا أن من القرآن ما نسخ حكمه ، وثبت خطه ، وهذا في القياس مثله ) (1) ا هـ .
وما يحتج به هو وغيره من كون الأخبار فيه أخبار آحاد لايُعول عليه ؛ لأن منسوخ التلاوة لم يبق قرآناً ، فنقل كونه قرآناً بأخبار الآحاد لايجعله لم يكن قرآناً في السابق ؛ لأنه الآن زالت قرآنيته فلايحتاج إلى نقله متواتراً ؛ لعدم قرآنيته ، ولكنه يكتفى فيه بالنقل الصحيح لثبوت القرآنية السابقة للنسخ ، وأخبار الآحاد الصحيحة يقبل بها كل شيء عند أهل السنة والجماعة ، كما صرح بذلك الإمام البخاري في كتاب خبر الآحاد من صحيحه (2) .
( وبما تقدم نعلم أن نسخ التلاوة وبقاء الحكم واقعٌ ثابتٌ لا مطعن فيه ، وأن مَن نفاه متأثر بالمدرسة العقليَّة ، وهي متأثرة بالمعتزلة ) (3) .
وهنا سؤال أورده الزركشي في برهانه ، وهو أن يقال : ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم ؟ وهلاّ تثبت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها (4) ؟ .
والجواب على هذا السؤال من وجوه :
__________
(1) التمهيد 9/77 .
(2) انظر : كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 79 .
(3) انظر : كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 79 . وانظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/233 ، 234 .
(4) انظر : البرهان في علوم القرآن 2/168 .(1/256)
الأول : ( أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجرداً من الحكمة ، ولا خالياً من الفائدة ... بل فيه فائدة أي فائدة ، وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره ، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه ؛ وذلك سورٌ محكم ، وسياج منيع ، يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص ؛ لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ، ثُمَّ حاول أحد تحريفه ، سرعان ما يعرف ، ويقابل بالإنكار ، وبذلك يبقى الأصل سليماً من التغيير والتبديل ، مصداقاً لقوله سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ا؟لذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ , لَحَـ!ــفِظُونَ = 9 } [ الحجر : 9 ] .
والخلاصة : أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية ، حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام ، نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط ، رجوعاً بالقرآن إلى سيرته من الإجمال ، وطرداً لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال ، تيسيراً لحفظه وضماناً لصونه : { وَا؟للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ، 232 ، آل عمران : 66 ، النور : 19 ] ) (1) .
والثاني : أن في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم إظهاراً لمقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام أدنى طرق الوحي (2) .
__________
(1) مناهل العرفان للزرقاني 2/236 .
(2) انظر : البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/168 ، 169 .(1/257)
والثالث : ( أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ ، فإن عدم العلم بالشيء لايصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء ، وإلاَّ فمتى صار الجهل طريقاً من طرق العلم ؟ ثُمَّ إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم ، أن يصدر لحكمة أو لفائدة ، نؤمن بها وإن كنا لانعلمها على التعيين ، وكم في الإسلام من أمور تعبدية ، استأثر الله بعلم حكمتها ، أو اطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ا؟لْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] ) (1) .
والوجه الرابع : وهو خاص بآية الرجم ، فالسر في نسخ تلاوتها مع بقاء حكمها أنها كانت تتلى أولاً لتقرير حكمها ، ردعاً لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات ؛ حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس ، نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة ، وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة ، حيث سلكها مسلك ما لايليق أن يذكر فضلاً عن أن يفعل ، وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لايقع ؛ كأنه قال : نزهوا الأسماع عن سماعها ، والألسنة عن ذكرها ، فضلاً عن الفرار منها ومن التلوث برجسها ، كتب الله لنا الحفظ والتوفيق ؛ إنه على كل شيء قدير (2) .
الأمر الرابع : ذكر ابن عبدالبر أن ما نسخ حكمه وبقي خطه - وهو الوجه الثالث من وجوه النسخ - كثير ، حيث قال : ( والوجه الثالث : أن ينسخ حكمه ويبقى خطه في المصحف ، وهذا كثير ) ا هـ .
__________
(1) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/237 .
(2) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/213 .(1/258)
وهو عند التحقيق قليل جداً ، وإن أكثر الناس من تعداد الآيات فيه ، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان ، ثُمَّ حرّر الآيات التي ثبت فيها النسخ فأوصلها إلى عشرين آية (1) ، وقد أورد كلامه الدهلوي (2) في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير وتعقبه فيه ثُمَّ قال : ( وبما حررته لايتعين النسخ إلاَّ في خمس آيات ) (3) .
ويعتبر الدكتور مصطفى زيد أكثر مَن تعرض لقضايا النسخ وناقشها ، وقرر في النهاية أن الآيات التي صحت فيها دعوى النسخ لاتزيد عن ست آيات (4) .
أمَّا الزرقاني - رحمه الله - فقد تعرض لثنتين وعشرين واقعة ، قَبِلَ النسخ في اثنتي عشرة واقعة منها (5) .
وقد قام أحد الباحثين بدراسة هذه القضية دراسة متأنية ، وبيّن أن الآيات التي ثبت عنده نسخها تسع آيات ، دخلها النسخ في سبعة موضوعات ، ولم يجد آية اتفق على نسخها غير آية تقديم الصدقة لأجل النجوى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا غيرها من الآيات ففيها خلاف .
ثُمَّ قال : ( وقد ظهر لي من خلال البحث أن من أسباب الخلاف في النسخ عدم الاتفاق في مدلوله بين المؤلفين في الناسخ والمنسوخ ، وقد أشار إلى ذلك جملة من المؤلفين في الناسخ والمنسوخ ، وممن أبرز ذلك الجانب الإمام الشاطبي في موافقاته .
__________
(1) انظر : الإتقان في علوم القرآن 2/706 - 712 .
(2) هو : الإمام ولي الله أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي ، من علماء الهند الكبار ، وله مصنفات كثيرة في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه وفي أصول الفقه والسلوك والآداب ، ولد سنة 1114 هـ ، ومات سنة 1176 هـ بمدينة دلهي . انظر ترجمته في : مقدمة كتابه الفوز الكبير ملخصاً من نزهة الخواطر 6/398 - 415 .
(3) الفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي ص 60 .
(4) انظر : مقدمة كتابه النسخ في القرآن الكريم .
(5) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/274 - 288 .(1/259)
وقد نقل عنه الدكتور مصطفى زيد - رحمه الله تعالى - جملاً مفيدة في ذلك .
كما تبيّن لي أن المؤلفين في الناسخ والمنسوخ بين إفراط وتفريط فكثير منهم عدّ من النسخ ما ليس بنسخ ، كالتقييد والتخصيص والإجمال ، فلذلك جعلوا آية السيف بمفردها ناسخة لأكثر من مائة آية .
وقلة من العلماء منعوا النسخ وأغلبهم معاصرون .
وقلة من العلماء توسطوا وقبلوا النسخ بشروطه ، وميزوا بينه وبين التقييد والتخصيص ، وعلى رأس هؤلاء الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - واضع أول تأليف بين أيدينا في الأصول .
وممن سار على منهج الاعتدال إمام المفسرين ابن جرير الطبري ، فإن فهمه في تفسيره رائع ، وهو عمدة في هذا الباب .
وكذلك الإمام ابن عبدالبر في التمهيد ، وقد أوضح ذلك صاحب رسالة ابن عبدالبر وجهوده في أصول الفقه (1) ، فقد نقل عنه نقولاً ، وقد تتبعتها في التمهيد ، فوجدت عنده التوسط بين الإفراط والتفريط ، ومن العبارات التي تعتبر منهجاً في هذا الباب عبارة ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - حيث قال : قال أبو عمر : والصحيح في النظر عندي : أن لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ولايحتمل التأويل (2) .
وهذه الكلمة في غاية الإتقان والدقة في إعطاء الدارس لهذا الموضوع الصعب منهجاً يسير عليه في قبول النسخ ورفضه ، وهي عبارة جامعة مع قلة ألفاظها ، رحمه الله رحمة واسعة ) (3) ا هـ .
وعبارة ابن عبدالبر السابقة سوف تأتي إن شاء الله في مبحث قواعد وضوابط في موضوع النسخ مع ذكر أمثلة عليها .
__________
(1) هناك رسالة بعنوان أصول الفقه عند ابن عبدالبر جمع وتوثيق ودراسة للعربي بن محمد فتوح ، فقد تكون هي المشار إليها .
(2) التمهيد 14/391 ، 392 .
(3) من كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ، للدكتور عبدالله بن محمد الأمين الشنقيطي ص 155 - 156 بتصرف واختصار يسيرين .(1/260)
الأمر الخامس : ذكر ابن عبدالبر مثالاً على ما نسخ حكمه وبقي رسمه وخطه وهو قوله تعالى : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا وَصِيَّةً لأَزْوَ !جِهِم مَّتَـ!ــعًا إِلَى ا؟لْحَوْلِ } [ البقرة : 240 ] نسختها { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( } [ البقرة : 234 ] .
ثُمَّ قال : ( وهذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه ) ا هـ .
والصحيح أنه قد وقع اختلاف بين العلماء في هاتين الآيتين (1) ، فالجمهور على أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية ، حيث كانت العدة في الجاهليَّة وأول الإسلام حولاً ، ثُمَّ نسخت بأربعة أشهر وعشراً (2) .
وقالت جماعة : الآية غير منسوخة ، والنص القرآني لم يصرح بالعدة ، وإنَّما قال ذلك متاع لها إن أرادت سبعة أشهر وعشرين ليلة تقضيها في البيت ، فالواجب في العدة أربعة أشهر وعشراً ، وما زاد إلى الحول فهو وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت .
__________
(1) للتوسع في معرفة هذا الاختلاف . انظر : المرجع السابق ص 115 - 122 .
(2) انظر : تفسير القرطبي 3/226 ، 227 ، وتفسير ابن كثير 1/280 .(1/261)
وهذا القول الثاني نسبه ابن جرير - رحمه الله - إلى مجاهد حيث قال ابن جرير : ( وقال آخرون : هذه الآية ثابتة الحكم ، لم ينسخ منها شيء ) ثُمَّ ذكر من قال ذلك ، وذكر بسنده عن مجاهد في قول الله : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( } [ البقرة : 234 ] قال : كانت هذه للمعتدة ، تعتد عند أهل زوجها ، واجباً ذلك عليها ، فأنزل الله : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا وَصِيَّةً لأَزْوَ !جِهِم مَّتَـ!ــعًا إِلَى ا؟لْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ" } إلى قوله : { مِن مَّعْرُوفٍ) } [ البقرة : 240 ] قال : جعل الله لهم تمام السنة ، سبعة أشهر وعشرين ليلة ، وصية : إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى ذكره : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ" فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال : والعدة كما هي واجبة (1) .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له ، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس ابن تيمية ، وردّه آخرون منهم الشيخ أبو عمر ابن عبدالبر ) (2) ا هـ .
ولعل الراجح - والله أعلم - من هذين القولين هو القول بعدم النسخ ، ويؤيد ذلك ما يلي :
أولاً : ثبوت هذا القول عن مجاهد ، وهو مَن هو في التفسير ، وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
__________
(1) انظر : تفسير الطبري 5/258 بتحقيق : شاكر ، وأثر مجاهد أخرجه البخاري في التفسير ، باب : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( } . انظر : فتح الباري 8/41 .
(2) تفسير ابن كثير 1/281 .(1/262)
ثانياً : مساعدة اللفظ له ، كما ذكر ذلك ابن كثير - رحمه الله - ، ومن ذلك أنه قال في آية الحول : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي% أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ) } وقال في آية الأربعة أشهر وعشرة : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي% أَنفُسِهِنَّ بِا؟لْمَعْرُوفِ) } فلابد من بلوغ الأجل حتى ينتفي الحرج ، وهذا واضح لمن تأمله .
ثالثاً : لما قرّره ابن عبدالبر نفسه من أنه لاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه (1) ، ومن أنه لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ، ولايحتمل التأويل (2) ، ومن أنه لايقطع بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بدليل لا معارض له أو إجماع (3) .
وهذه القواعد الصحيحة التي قررها لاتنطبق على آية البقرة التي ادّعى الإجماع على أنها منسوخة ، وهي قوله تعالى : { وَا؟لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ !جًا وَصِيَّةً لأَزْوَ !جِهِم مَّتَـ!ــعًا إِلَى ا؟لْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ" ... } الآية .
قال الشيخ السعدي - رحمه الله - بعد أن ذكر قول أكثر المفسرين من أن الآية السابقة منسوخة قال : ( وهذا القول لا دليل عليه ، ومن تأمل الآيتين ، اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب ، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشراً على وجه التحتيم على المرأة ، وأمَّا في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت ، أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولاً كاملاً ، جبراً لخاطرها ، وبراً بميتهم ) (4) ا هـ .
وبهذا نعلم أن ما قاله ابن عبدالبر من أن هذا من الناسخ والمنسوخ المجتمع عليه فيه نظر ، ولعله لم يطلع على قول مجاهد .
__________
(1) انظر : الاستذكار 17/176 .
(2) انظر : التمهيد 14/391 ، 392 .
(3) انظر : الاستذكار 1/367 .
(4) تفسير الشيخ السعدي 1/194 .(1/263)
الأمر السادس : خلاصة ما تقدم في هذا المبحث أن جمهور العلماء ذكروا أن النسخ في القرآن ثلاثة أضرب - أو أوجه - :
أحدها : نسخ الحكم دون التلاوة - نسخ الحكم مع بقاء الرسم والخط - ويتفق العلماء على وقوع هذا الضرب من النسخ ، ووجوده في القرآن الكريم - ولايُعتبر قول من شذّ (1) - ويمثلون له بعدة أمثلة ، منها نسخ آية مصابرة الواحد للعشرة في القتال ، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونسخ وجوب قيام الليل في سورة المزمل ، وغير ذلك .
والتحقيق : أن أمثلة هذا الضرب قليلة قد لاتتجاوز أصابع اليدين كما قرر ذلك العلماء المحققون .
الثاني : نسخ التلاوة دون الحكم ، وعلى وقوعه وجوازه جمهور العلماء ، وأنكره بعضهم ممن يُقدم المعقول على المنقول ، ولايحتج بأخبار الآحاد ، والصحيح جوازه ووقوعه .
ويُمثل له بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به عند أهل السنة (2) ، وكذلك آية التحريم بالرضعات الخمس ، فهي منسوخة التلاوة باقية الحكم .
والضرب الثالث : نسخ التلاوة والحكم معاً ، ويمثلون له بنسخ تحريم عشر رضعات كما في حديث عائشة ، كما يستدلون له أيضاً بأدلة أخرى كما جاء أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، وغير ذلك من الأمثلة التي ذكر كثيراً منها ابن عبدالبر - رحمه الله - ، والجمهور على صحة وقوع هذا الضرب وجوازه للأخبار الصحيحة الواردة في ذلك - والله تعالى أعلم (3)
__________
(1) ألف أحد المعاصرين كتاباً بعنوان ( الرأي الصواب في منسوخ الكتاب ) وكتب على غلافه ( الآيات المنسوخة رفعها الله تعالى لفظاً وحكماً ، لا منسوخ في القرآن بتاتاً ) وهو جواد موسى محمد عفانة .
(2) قال صاحب الكتاب السابق بعد كلامه السابق على غلاف الكتاب : ( حكم الرجم منسوخ يقيناً ) !! .
(3) انظر في ذكر أضرب وأوجه النسخ في القرآن مع الأمثلة :
... ( كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب ص 67 ومابعدها .
... ( كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/166 - 171 .
... ( كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/705 - 713 .
... ( وكتب علوم القرآن عموماً ، وكتب أصول الفقه ، ككتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي
... 1/245 - 248 ، وغيرها كثير .(1/264)
- .
* * *
المبحث الثالث
حكم نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن
قال ابن عبد البر - رحمه الله - في كتابه جامع بيان العلم وفضله : ( قال الفضل (1) : وسمعتُ أحمد بن حنبل وقيل له : أتنسخ السنة شيئاً من القرآن ؟ قال : لاينسخ القرآن إلاَّ القرآن .
قال أبو عمر : هذا قول الشافعي - رحمه الله - : أن القرآن لاينسخه إلاَّ قرآن مثله ، لقول الله : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ* } [ النحل : 101 ] ، وقوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
وعلى هذا جمهور أصحاب مالك إلاَّ أبا الفرج (2) ، فإنه أضاف إلى مالك قول الكوفيين في ذلك أن السنة تنسخ القرآن بدلالة قوله : { لا وصية لوارث } (3) ، وقد بيّنا هذا المعنى في غير موضع من كتبنا ، والحمد لله ) (4) ا هـ .
__________
(1) هو : الفضل بن زياد القطان ، أحد أصحاب أحمد بن حنبل ، وممن أكثر الرواية عنه ، وكان الإمام أحمد يعرف قدره ويُكرمه .
... انظر : تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 12/363 .
(2) هو : عمر بن محمد بن عمر ، أبو الفرج الليثي القاضي المالكي ، كان فصيحاً لغويّاً فقيهاً متقدِّماً ، له كتاب { الحاوي } في مذهب مالك ، توفي سنة 331 هـ .
... انظر : الديباج المذهب 2/129 .
(3) جزء من حديث أخرجه أبو داود في الوصايا ، باب : ماجاء في الوصية للوارث من حديث أبي أمامة بلفظ : { إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث } 3/290 ، 291 ، وأخرجه الترمذي مطولاً في الوصايا ، باب : ماجاء لا وصية لوارث 4/377 ، 378 وقال : حديث حسن صحيح ، وأخرجه أيضاً ابن ماجة في الوصايا ، باب : لا وصية لوارث رقم [2713] والنسائي وغيرهم .
... وهو حديث مشهور صحيح جاء عن جماعة من الصحابة . انظر تخريجه بالتفصيل في إرواء الغليل للألباني 6/87 - 96 رقم [1655] .
(4) جامع بيان العلم وفضله 2/1194 - 1195 .(1/265)
وقال - رحمه الله - : ( وليس يسوغ عند جماعة أهل العلم الإعتراض على السنن بظاهر القرآن إذا كان لها مخرج ووجه صحيح ، فإن السنة مبينة للقرآن ، قاضية عليه ، غير مدافعة له ، قال الله عزوجل : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ا؟لذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ، وقد أبى جماعة من العلماء من نسخ السنة بالقرآن فيما يُمكن فيه النسخ وقالوا : لو جاز ذلك لارتفع البيان ، وهذه مسألة من الأصول ، ليس هذا موضع ذكرها ) (1) .
وقال - رحمه الله - : ( قال أبو عمر : ليس في كتاب الله ذكر الوصية إلاَّ في قوله - عزوجل - : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ا؟لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ا؟لْوَصِيَّةُ لِلْوَ ! لِدَيْنِ وَا؟لأَقْرَبِينَ بِا؟لْمَعْرُوفِ( حَقًّا عَلَى ا؟لْمُتَّقِينَ = 180 } [ البقرة : 180 ] وهذه الآية نزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ، فلما أنزل الله حكم الوالدين وسائر الوارثين في القرآن نسخ ما كان لهم من الوصية ، وجعل لهم مواريث معلومة على حسبما أحكم من ذلك - تبارك وتعالى - .
وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن أن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين ، وجماعة من أهل العلم .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا وصية لوارث } ، وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أن آية المواريث نسخت الوصية للوارثين ، وأمَّا مَن أجاز نسخ القرآن بالسنة من العلماء فإنهم قالوا : هذا الحديث نسخ الوصية للورثة ، وللكلام في نسخ القرآن بالسنة موضع غير هذا ) (2) ا هـ .
__________
(1) التمهيد 17/276 .
(2) التمهيد 14/292 ، 293 .(1/266)
وقال بعدها : ( وهذا كله يدلك على أن الأمر بالوصية في الكتاب والسنة على الندب لا على الإيجاب ، ولو كانت الوصية واجبة في الكتاب للوالدين والأقربين كانت منسوخة بآية المواريث ، ثُمَّ ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوصية لغير الوالدين ، وحضّ عليها ، وقال : { لا وصية لوارث } فاستقام الأمر وبان ، والله المستعان . فالوصية مندوبٌ إليها ، مرغوب فيها ، غير واجب شيء منها ) (1) ا هـ .
وقال - رحمه الله - أيضاً : ( وهذا إجماع من علماء المسلمين أنه لا وصية لوارث ، وأن المنسوخ من آية الوصية الوالدان على كل حال إذا كانا على دين ولدهما ؛ لأنهما وارثان لايحجبان ، وكذلك كل وارث من الأقربين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } ، ولو كان الوارث تجب له الوصية لانتقضت قسمة الله لهم فيما ورثهم ، وصار لهم أكثر مِمَّا أعطاهم .
فمن هنا قال العلماء : إن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا قول كل مَن لايجيز نسخ القرآن بالسنة ، وقد قال : لاينسخ القرآن إلاَّ بالقرآن ، وهو قول الشافعي وأصحابه وأكثر المالكيين وداود (2) ، وسمّوا السنة بياناً لا نسخاً .
وأمَّا الكوفيون الذين يجيزون نسخ القرآن بالسنة ، وقالوا : كلٌّ من عند الله ، فإنهم قالوا : نَسخَ الوالدين والأقربين الوارثين من الوصية قولُه صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } ) (3) ا هـ .
__________
(1) التمهيد 14/296 .
(2) هو : داود بن علي بن خلف ، الإمام ، البحر ، الحافظ ، العلامة ، أبو سليمان ، البغدادي ، رئيسُ وإمامُ أهل الظاهر ، صنّف الكتب ، وكان إماماً ورعاً ناسكاً زاهداً ، بصيراً بالفقه ، عالماً بالقرآن ، حافظاً للأثر ، له ذكاءٌ خارق ، مات سنة 270 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 13/97 - 108 .
(3) الاستذكار 23/12 ، 13 .(1/267)
وقال - رحمه الله - : ( والآية بإيجاب الوصية للوالدين والأقربين منسوخة ) (1) ا هـ .
الدراسة :
ينقسم النسخ بالنظر إلى دليله إلى أقسام متعددة ، يُمكن جعلها على قسمين : قسم متفق على جوازه ، وقسم وقع فيه الخلاف .
أمَّا القسم المتفق عليه فهو :
( نسخ القرآن بالقرآن .
( نسخ السنة المتواترة والأحاديث بمتواتر السنة .
( نسخ الآحاد من السنة بالآحاد من السنة .
وأمَّا القسم المختلف فيه فهو :
( نسخ القرآن بالسنة .
( نسخ السنة بالقرآن .
( نسخ المتواتر بالآحاد (2) .
والذي يهمنا بحثه في هذا المبحث هو نسخ القرآن بالسنة ونسخ السنة بالقرآن .
أولاً : نسخ القرآن بالسنة :
من كلام ابن عبدالبر السابق نعلم أن العلماء قد اختلفوا في جواز نسخ القرآن بالسنة على قولين :
الأول : قول الكوفيين ، وإليه ذهب جمهور الأصوليين أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة ، وهو اختيار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله (3) - .
الثاني : وإليه ذهب الإمام الشافعي وأصحابه ، والإمام أحمد وأكثر المالكيين وداود ، وهو أنه لايجوز نسخ القرآن بالسنة ، بل لايَنسخ القرآن إلاَّ قرآن مثله ، وهو اختيار ابن قدامة وابن تيمية - رحم الله الجميع (4) - .
__________
(1) التمهيد 8/384 .
(2) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 266 .
(3) انظر : نزهة الخاطر العاطر لعبدالقادر بدران 1/225 ، وأضواء البيان للشنقيطي 3/334 .
(4) انظر : روضة الناضر لابن قدامة 1/324 ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 17/195 ، 197 ، 19/202 .(1/268)
وحجة الجمهور : أن الجميع وحي من الله تعالى ، فالناسخ والمنسوخ من عند الله والله هو الناسخ حقيقة ، لكنه أظهر النسخ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : { وَمَآ ءَاتَـ[ــ!ـــكُمُ ا؟لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ[ــ!ــكُمْ عَنْهُ فَا؟نْتَهُوا" } [ الحشر : 7 ] ، وقال سبحانه : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، وبأنه لايوجد مانع عقلي من جوازه ، حيث إنه لايلزم من فرض وجوده محال ، ولايوجد مانع شرعي ؛ لأنه قد وقع في الشرع ، فهو دليل الجواز (1) .
ومثّلوا لذلك بآية الوصية ، فإن الناسخ لها هو قوله صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } وأيضاً آية التحريم بعشر رضعات نسخت بالسنة كما قالوا (2) .
وأمَّا حجة الإمام الشافعي ومن وافقه فقد بينها الشافعي - رحمه الله - في كتابه الرسالة ، حيث قال : ( إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مِمَّا أراد بخلْقِهم وبهم ، لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة ، وفرض فيه فرائض أثبتها ، وأخرى نسخها : رحمة لخلقه ، بالتخفيف عنهم ، وبالتوسعة عليهم ، زيادةً فيما ابتدأهم به من نعمه ، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته ، والنجاةَ من عذابه ، فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ ، فله الحمد على نعمه .
وأبان الله لهم أنه إنَّما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب ، وأن السنة لا ناسخة للكتاب ، وإنَّما هي تبعٌ للكتاب ، بمثل ما نزل نصاً ، ومفسرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً .
__________
(1) انظر : كتاب فتح المنان في نسخ القرآن ص 234 .
(2) انظر أمثلة المجيزين في مناهل العرفان للزرقاني 2/260 - 261 ، وأضواء البيان للشنقيطي 3/334 .(1/269)
قال الله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَـ!ــتٍ* قَالَ ا؟لَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ا؟]ـ:ــــْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـ!ـــذَآ أَوْ بَدِّلْهُ" قُلْ مَا يَكُونُ لِي% أَنْ أُبَدِّلَهُ , مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي%( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى% إِلَيَّ( إِنِّي% أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ = 15 } [ يونس : 15 ] ، أخبر الله أنه فرض على نبيّه اتباع ما يُوحى إليه ، ولم يجعل له تبديله من تلقاء نفسه .
وفي قوله : { مَا يَكُونُ لِي% أَنْ أُبَدِّلَهُ , مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي%( } بيان ما وصفت من أنه لاينسخ كتابَ الله إلاَّ كتابُه ... وفي كتاب الله دلالة عليه ، قال الله : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ا؟للَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ = 106 } [ البقرة : 106 ] فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخيرَ إنزاله لايكون إلاَّ بقرآن مثله ، وقال : { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَا؛َ ءَايَةٍ* وَا؟للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُو%ا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ" } [ النحل : 101 ] ) (1) .
وقد ذكر ابن تيمية - رحمه الله - أن منهج السلف في الحكم هو النظر في الكتاب أولاً ، ثُمَّ في السنة ثانياً ، وبين أن هذا المنهج إنَّما يتناسب مع القول بمنع نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن ، قال - رحمه الله - : ( وهم إنَّما كانوا يقضون بالكتاب أولاً ؛ لأن السنة لاتنسخ الكتاب فلايكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة ، بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه فلايقدم غير القرآن عليه ، ثُمَّ إذا لم يجد ذلك طَلَبَه في السنة ، ولايكون في السنة شيء منسوخ إلاَّ والسنة نسخته ) (2) ا هـ .
__________
(1) الرسالة للشافعي ص 106 - 108 .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 19/202 .(1/270)
وعند الرجوع إلى ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في هذه المسألة نجد أنه لم يرجح أحد القولين على الآخر ، وإنَّما ذكرهما ، ونسب كل قول إلى قائله ، فالله أعلم بالصواب .
ولعل السبب في ذلك هو تكافؤ أدلة أصحاب كل قول ، وعدم وجود حجة بيّنة سالمة من المعارضة ترجح أحد القولين ؛ مع أن جمهور الأصوليين يرجحون القول الأول ويستغربون القول الآخر (1) .
والذي أرى أنه من المفيد لكاتب هذا البحث والمطلع عليه هو الإحالة على ما كتبه الزرقاني - رحمه الله - في مناهل العرفان حول هذه المسألة ، فقد أجاد وأفاد ، وخلص إلى أن نسخ القرآن بالسنة لا مانع يمنعه عقلاً ولا شرعاً ، إلاَّ أنه لم يقع لعدم سلامة أدلة الوقوع (2) .
ونجد ابن عبدالبر - رحمه الله - عند كلامه عن آية الوصية وهي قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ا؟لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ا؟لْوَصِيَّةُ لِلْوَ ! لِدَيْنِ وَا؟لأَقْرَبِينَ بِا؟لْمَعْرُوفِ( حَقًّا عَلَى ا؟لْمُتَّقِينَ = 180 } [ البقرة : 180 ] يذكر أقوال العلماء في حكمها ، وهل هو منسوخ أولاً ؟ وما الذي نسخه ، هل هو ما نزل في القرآن الكريم من آيات المواريث في إعطاء كل ذي حق حقه ، أو أنه حديث : { لا وصية لوارث } ؟ .
وحاصل ما ذكره من الأقوال في هذه الآية ثلاثة أقوال :
الأول : أن الوصية للوالدين والأقربين على الندب ، لا على الحتم والوجوب ، فالآية كلها منسوخة ، والذي نسخها هو آيات المواريث ، وهذا القول منسوب لابن عمر وابن عباس ، ونحو هذا قول مالك - رحمه الله - كما قال القرطبي (3) ، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي .
قال ابن عبدالبر : ( والآية بإيجاب الوصية للوالدين والأقربين منسوخة ) (4) .
__________
(1) انظر : إرشاد الفحول للشوكاني 2/98 - 102 .
(2) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/254 - 262 .
(3) انظر : تفسير القرطبي 2/263 .
(4) التمهيد 8/384 .(1/271)
وقال : ( فالوصية مندوب إليها ، مرغوب فيها ، غير واجب شيء منها ) (1) ا هـ .
والقول الثاني : أن هذه الآية من قبيل العام المخصوص ، فهي عامة في تناولها للوالدين وجميع الأقربين ، ولكن خرج من هذا العموم الوالدان والأقربون الوارثون بدلالة آيات المواريث وببيان السنة لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث } (2) .
وهذا ما يدل عليه قوله : ( وهذا إجماع من علماء المسلمين أنه لا وصية لوارث ، وأن المنسوخ من آية الوصية الوالدان على كل حال ، إذا كانا على دين ولدهما ، لأنهما وارثان لايحجبان ، وكذلك كل وارث من الأقربين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } ، ولو كان الوارث تجب له الوصية لانتقضت قسمة الله لهم فيما ورثهم ، وصار لهم أكثر مِمَّا أعطاهم .
فمن هنا قال العلماء : إن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (3) ا هـ .
وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لايرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرآبة غير الورثة ، وهذا القول قاله الضحاك وطاووس والحسن ، واختاره الطبري (4) .
وما عبر عنه ابن عبدالبر بقوله : ( فمن هنا قال العلماء : إن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لايُقصد به النسخ بمفهومه الاصطلاحي المتأخر ، وإنَّما هو تخصيص كما هو ظاهر لمن تأمّله .
__________
(1) التمهيد 14/296 .
(2) سبق تخريجه ص 254 .
(3) الاستذكار 23/12 ، 13 .
(4) انظر : تفسير الطبري 3/384 ، 385 ، وتفسير القرطبي 2/262 .(1/272)
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( ولكن على قول هؤلاء لايسمى هذا نسخاً في اصطلاحنا المتأخر ؛ لأن آية المواريث إنَّما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصية ؛ لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لايرث فرفع حكم مَن يرث بما عين له ، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى .
وهذا إنَّما يتأتى على قول بعضهم : إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنَّما كانت ندباً حتى نسخت ، فأمَّا من يقول إنها كانت واجبة - وهو الظاهر من سياق الآية - فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ، فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بآية المواريث بالإجماع ، بل منهي عنه للحديث المتقدم { إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث } ) (1) ا هـ .
والقول الثالث : هو قول من يجيز نسخ القرآن بالسنة ، وهو أن هذه الآية منسوخة بحديث { لا وصية لوراث } .
فهذه مجمل الأقوال التي ذكرها ابن عبدالبر في حكم آية الوصية ، ولم يتبيّن لي ما القول الذي يرجحه ، وإن كان كلامه يدل على أنه يميل إلى أحد القولين الأولين - والله أعلم - .
وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير آية الوصية ، وتعددت آراؤهم ، وكذلك العلماء الذين ألفوا في بيان الناسخ والمنسوخ ذكروا أقوالاً متعددة في معنى هذه الآية وهل هي محكمة أو منسوخة ؟ .
والذي يظهر لي - والله أعلم - أن القول بالتخصيص هو الراجح ؛ لأن النسخ لايصار إليه إلاَّ عند التعارض ، وقد قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع استعماله وتخصيصه ) (2) ا هـ .
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/201 .
(2) الاستذكار 17/176 .(1/273)
والتدافع الذي ذكره العلماء بين آيات الفرائض والمواريث وحديث : { لا وصية لوارث } من جهة وآية الوصية من جهة أخرى لايمنع القول بالتخصيص ، فآية الوصية عامة في تناولها للوالدين والأقربين ، ولكن خرج من عمومها الوالدان والأقربون الوارثون بدلالة آيات المواريث وبيان وتفسير السنة لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث } .
وعلى هذا فحكم الوجوب الذي دلت عليه آية الوصية باق فيمن لايرث من الوالدين والأقربين ، ثُمَّ صَرَفَ هذا الوجوبَ إلى الندب ما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - بقوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاَّ ووصيته مكتوبة عنده } (1) (2) .
وهذا القول هو الذي رجحه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم في كتابه الناسخ والمنسوخ ؛ حيث ذكر الآثار التي تدل على أن آية الوصية منسوخة بآيات الفرائض ثُمَّ قال : ( قال أبو عبيد : فإلى هذا القول صارت السنة القائمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه انتهى قول العلماء وإجماعهم في قديم الدهر وحديثه أن الوصية للوارث منسوخة لاتجوز وكذلك أجمعوا على أنها جائزة للأقربين إذا لم يكونوا من أهل الميراث ، ثُمَّ اختلفوا في الأجنبيين ، فقالت طائفة من السلف : لاتجوز لهم الوصية ، وخصُّوا بها الأقارب ) .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الوصايا ، باب : الوصايا وقول النبي e : { وصية الرجل مكتوبة عنده } 3/1005 ، وأخرجه مسلم في أول كتاب الوصية رقم [1627] .
(2) انظر : تفسير القرآن للعز بن عبدالسلام 1/186 ، حاشية هامش رقم 2 .(1/274)
ثُمَّ ذكر آثاراً تدل على هذا القول ، ثُمَّ ذكر القول الآخر وهو أن الوصية جائزة لكل موصى له من الأباعد والأقارب إلاَّ الوارث ، ثُمَّ قال : ( قال أبو عبيد : وعلى هذا القول اجتمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام ومصر وغيرهم ، منهم مالك وسفيان (1) والأوزاعي (2) والليث (3) وجميع أهل الآثار والرأي ، وهو القول المعمول به عندنا أن الوصية جائزة للناس كلهم ما خلا الورثة خاصة ، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا وصية لوارث } ) (4) ا هـ .
__________
(1) هو : سفيان بن سعيد بن مسروق ، شيخ الإسلام ، وسيد الحفاظ ، أبو عبد الله الثوري الكوفي ، الفقيه ، أمير المؤمنين في الحديث ، قال ابن المبارك : لا أعلم أحداً على وجه الأرض أعلم من سفيان . مناقبه كثيرة جداً ، مات سنة 161 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/309 - 312 ، وسير أعلام النبلاء 7/229 - 279 .
(2) هو : عبدالرحمن بن عمرو بن يحمد ، الإمام ، شيخ الإسلام ، وعالم أهل الشام ، أبو عمرو الأوزاعي ، كان له مذهب مستقل مشهور عمل به فقهاء الشام مُدّة وفقهاء الأندلس ثُمَّ فني ، والأوزاعي في الشام نظير معمر لليمنيين ، والثوري للكوفيين ، ومالك للمدنيين ، والليث للمصريين ، وحماد للبصريين ، مات سنة 157 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 7/107 - 134 ، طبقات علماء الحديث 1/277 - 280 .
(3) هو : الليث بن سعد ، الإمام الحافظ ، شيخ الإسلام ، وعالم الديار المصرية ، أبو الحارث الفَهْمي مولاهم الأصبهاني الأصل ، المصري ، كان الشافعي يتأسف على فواته ، وكان يقول : هو أفقه من مالك إلاَّ أن أصحابه لم يقوموا به . مناقبه وفضائله كثيرة ، مات سنة 175 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/331 - 333 ، وسير أعلام النبلاء 8/136 - 163 .
(4) الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد بن سلام ص 232 - 234 .(1/275)
ومعلومٌ أن مراد الإمام أبي عبيد القاسم بن سلاّم بالنسخ هنا هو مراد السلف المتقدمين الذين يطلقونه على التخصيص وغيره من أنواع البيان .
ثانياً : نسخ السنة بالقرآن :
أشار ابن عبدالبر - رحمه الله - إلى هذه المسألة إشارة سريعة بيّن فيها أنه لايسوغ الاعتراض على السنن بظاهر القرآن إذا كان لها مخرج ووجه صحيح ؛ لأن السنة مبينة للقرآن ، غير مدافعة له ، كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ا؟لذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
وذكر أن جماعة من العلماء منعوا نسخ السنة بالقرآن فيما يُمكن فيه النسخ ؛ لأنه لو جاز ذلك لارتفع البيان ، ولم يزد على هذا ، بل أحال إلى كتب الأصول (1) .
ومن هنا يتبيّن لنا أنه - رحمه الله - يميل إلى القول بمنع نسخ السنة بالقرآن ، وهو أحد القولين في هذه المسألة ، وهو ما ذهب إليه الشافعي وقرّره في الرسالة (2) .
والقول الثاني : وإليه ذهب جمهور الأصولين - أنه يجوز نسخ السنة بالقرآن ، وهو اختيار محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله (3) - .
وأدلة كل فريق في هذه المسألة هي نفسها أدلتهم في المسألة السابقة - مع اختلاف يسير (4) - .
وقد مثل الجمهور للوقوع بأمثلة كثيرة منها :
1 - التوجه إلى بيت المقدس ، وهو ثابت بالسنة ، وناسخه في القرآن قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ا؟لْمَسْجِدِ ا؟لْحَرَامِ" } [ البقرة : 144 ] .
2 - تحريم مباشرة النساء في رمضان ليلاً ثابت بالسنة ، وناسخه في القرآن قوله تعالى : { فَا؟لْـ:ــَـ!ــنَ بَـ!ـــشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] .
__________
(1) انظر كلامه بنصه في التمهيد 17/276 .
(2) انظر : الرسالة للشافعي ص 108 .
(3) أضواء البيان 3/334 .
(4) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 269 ، ومناهل العرفان للزرقاني 2/262 - 263 .(1/276)
إلى غير ذلك من الأمثلة (1) .
( وخلاصة القول في هاتين المسألتين : أن الخلاف في جواز نسخ القرآن بالسنة والعكس خلافٌ لايترتب عليه أثر كبير والخطب فيه يسير ، وذلك إذا تقرر عند الجميع ما يأتي :
1 - تعظيم نصوص الكتاب والسنة وتقديم جانب العمل بهما مهما أمكن .
2 - أن الكتاب والسنة وحي من عند الله ، وأنهما متفقان لايختلفان ، متلازمان لايفترقان .
3 - أن النسخ لايكون إلاَّ بأمر من عند الله سبحانه : { يَمْحُوا ا؟للَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ( } [ الرعد : 39 ] .
4 - عدم التفريق في ذلك بين السنة المتواترة والآحادية ) (2) .
( وعلى كلٍّ فالمسائل التي يذكر أهل العلم أن السنة نسخت فيها الكتاب أو نسخ كتاب الله فيها السنة مسائل قليلة ، والنظرة الفاحصة في هذه المسائل تدل على صحة ما ذهب إليه الشافعي ، ويبدو أن نظرته مبنية على استقراء للنصوص التي تدخل في إطار البحث ) (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : ( فإن الشافعي وأحمد وسائر الأئمة يوجبون العمل بالسنة المتواترة المحكمة ، وإن تضمنت نسخاً لبعض أي القرآن ، لكن يقولون : إنَّما نسخ القرآن بالقرآن لا بمجرد السنة ، ويحتجون بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] ويرون من تمام حرمة القرآن أن الله لم ينسخه إلاَّ بقرآن ) (4) ا هـ .
__________
(1) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 269 ، ومناهل العرفان للزرقاني 2/262 - 263 .
(2) من كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد حسين الجيزاني ص 269 ، 270 .
(3) من كتاب مسائل في فقه الكتاب والسنة للدكتور عمر بن سليمان الأشقر ص 230 ، 231 .
(4) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 20/399 .(1/277)
وقال الشافعي - رحمه الله - : ( فإن قال قائل : هل تنسخ السنة بالقرآن ؟ قيل : لو نسخت السنة بالقرآن كان للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة ) (1) ا هـ .
* * *
المبحث الرابع
قواعد وضوابط في النسخ في القرآن
هناك قواعد مهمة ، وضوابط مفيدة تتعلق بموضوع النسخ في القرآن ذكرها ابن عبدالبر - رحمه الله - في ثنايا كتبه حاولت جمعها وتطبيقها على بعض الآيات .
ومعرفة مثل هذه القواعد والضوابط من الأمور المهمة ، وخاصة في مثل هذا الموضوع الذي تعددت فيها الآراء ، واختلفت فيه الأقوال ، وحصل فيه لبسٌ على الكثير بسبب عدم ضبط هذا الموضوع بضوابط واضحة يتميز من خلالها صحيح الأقوال من باطلها ، وقويها من ضعيفها .
وقد سبقت الإشارة إلى شيء منها من خلال ما سبق من مباحث ولكني أفردتها في هذا المبحث لأهميتها ، فإلى هذه القواعد والضوابط :
أولاً : ( الناسخ والمنسوخ إنَّما يكون في الأوامر والنواهي من الكتاب والسنة ، وأمَّا الخبر عن الله عزوجل أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلايجوز النسخ فيه ألبتة بحال ؛ لأن المخبر عن الشيء أنه كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل من السهو أو الكذب ، وذلك لايُعزى إلى الله ولا إلى رسوله فيما يخبر به عن ربه في دينه .
وأمَّا الأمر والنهي فجائز عليهما النسخ للتخفيف ، ولما شاء الله من مصالح عباده ، وذلك من حكمته لا إله إلاَّ هو ) (2) ا هـ .
وهذه القاعدة معلومة ، ومتفق عليها عند القائلين بالنسخ ، وهي تعتبر شرطاً من شروط النسخ ؛ فمن شروط صحة ا لنسخ أن يكون المنسوخ حكماً لا خبراً ، إذ الأخبار لايدخلها النسخ كأخبار ما كان وما يكون ، وأخبار الجَنَّة والنار ، وما ورد من أسماء الله وصفاته (3) .
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعي ص 110 .
(2) التمهيد 3/215 .
(3) انظر : الفقه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/255 ، 256 ، وانظر : الأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص 46 .(1/278)
وهذه مجموعة تنبيهات متعلقة بهذه القاعدة :
التنبيه الأول : لايدخل في مفهوم هذه القاعدة الأخبار التي يراد بها الإنشاء ، فالخبر الذي ليس محضاً بأن كان في معنى الإنشاء ، ودلّ على أمر أو نهي متصلين بأحكام فرعية عملية لا نزاع في جواز نسخه والنسخ به ؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ .
ومن أمثلة الخبر بمعنى الأمر قوله تعالى : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } [ يوسف : 47 ] فالمعنى هنا : ازرعوا (1) ، وكذلك قوله تعالى : { وَا؟لْمُطَلَّقَـ!ــتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـ!ـــثَةَ قُرُوءٍ" } [ البقرة : 228 ] .
ومن أمثلة الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه : { ا؟لزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَا؟لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ" } [ النور : 3 ] فما ذكر الله في هذه الآية يمتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانياً ينكح غير زانية ، وزانية تتزوج غير الزاني ، فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر ، فثبت أنه أراد الحكم والنهي (2) .
ومن أمثلة ما كان لفظه خبراً ومعناه الأمر ، وهو منسوخ قوله تعالى : { إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَـ!ــبِرُونَ يَغْلِبُوا مِا]ـ:ــَتَيْنِ } الآية [ الأنفال : 65 ] جاء نسخه في الآية التي بعد هذه وهي قوله تعالى : { ا؟لْـ:ــَـ!ـنَ خَفَّفَ ا؟للَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنْكُم مِّا]ـ:ـَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِا]ــ:ـَتَيْنِ" } الآية [ الأنفال : 66 ] .
__________
(1) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/229 .
(2) انظر : أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 3/346 .(1/279)
فالقول الراجح - وهو قول الجمهور - أن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية مع أن لفظها وظاهرها خبر ، إلاَّ أن المراد منه الأمر ، كما قرر ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله (1) - .
التنبيه الثاني : الأحكام الثابتة المتعلقة بالعقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات لا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء .
وعليه فإن النسخ إنَّما يكون في الأحكام المتعلقة بفروع العبادات والمعاملات الجزئية .
والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد ، أو هي كمياتها وكيفياتها ، وأمَّا أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف .
ويتصل بهذا أن الأديان الإلهية لاتناسخ بينها فيما ذُكر من الأمور التي يتناولها النسخ ؛ بل هي متحدة في العقائد ، وأمهات الأخلاق ، وأصول العبادات والمعاملات ، وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقاً لايقبل النسخ والنقض ، ومن أمثلة ذلك من القرآن الكريم :
1 - قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ا؟لدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ÷ نُوحًا وَا؟لَّذِي% أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ÷ إِبْرَ !هِيـ-َ وَمُوسَى وَعِيسَى%( أَنْ أَقِيمُوا ا؟لدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" } [ الشورى : 13 ] .
2 - قوله تعالى : { يَـ!ـــ%ــأَيُّهَا ا؟لَّذِيـ،َ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ ا؟لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ا؟لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 183 ] .
3 - قوله تعالى : { وَأَذِّن فِي ا؟لنَّاسِ بِا؟لْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ = 27 } [ الحج : 27 ] .
__________
(1) انظر : تفسير الطبري 10/41 ، وانظر : الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين ص 46 ، والآيات المنسوخة في القرآن الكريم لعبد الله الشنقيطي ص 99 - 104 .(1/280)
4 - قوله تعالى : { ... وَأَوْصَـ!ــنِي بِا؟لصَّلَو! ةِ وَا؟لزَّكَو! ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا = 31 وَبَرًّا بِوَ ! لِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا = 32 } [ مريم : 31 ، 32 ] .
5 - قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ÷ وَهُوَ يَعِظُهُ , يَـ!ـــبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِا؟للَّهِ( ... } إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة لقمان عن وصايا لقمان لابنه [ لقمان : 13 - 19 ] .
وأمثال أخرى كثيرة في القرآن الكريم (1) .
التنبيه الثالث : قد ينسخ لفظ الخبر المحض دون مدلوله ، وهذا جائزٌ بإجماع من قالوا بالنسخ ، ويكون ذلك بأن تنزل الآية مخبرة عن شئ ثُمَّ تنسخ تلاوتها فقط ، ومن ذلك ما صحّ من أخبار ذكر بعضها ابن عبدالبر - رحمه الله - عند كلامه عن منسوخ التلاوة والحكم ، وأشرتُ فيما سبق أن الصحيح أنها تدخل في منسوخ التلاوة باقي الحكم ، مثل { بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا } و { لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً ، ولايملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب } ، وغير ذلك من الأمثلة التي جاءت بلفظ الخبر ونسخت تلاوتها (2) .
ثانياً : ( لايكون النسخ إلاَّ فيما يتدافع ويتعارض ) (3) .
وهذه قاعدة مهمة في موضوع النسخ ، وهي تعتبر شرطاً من شروط صحة النسخ وذلك أن من شروط صحة النسخ أن يمتنع اجتماع الناسخ والمنسوخ ، بأن يكونا متنافيين قد تواردا على محل واحد ، يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه أو العكس (4) .
__________
(1) انظر : مناهل العرفان للزرقاني 2/228 ، 230 ، 231 ، والأصول من علم الأصول لابن عثيمين ص 46 ، وانظر : الموافقات للشاطبي 3/88 .
(2) انظر : كتاب قواعد التفسير جمعاً ودراسة لخالد بن عثمان السبت 2/732 .
(3) انظر : الاستذكار 1/234 .
(4) انظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 258 .(1/281)
وبعبارة أخرى : يشترط لصحة النسخ تعذر الجمع بين الدليلين ، فإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بكل منهما (1) .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - في توضيح هذه القاعدة : ( ولا سبيل إلى نسخ قرآن بقرآن ، أو سنة بسنة ، ما وجد إلى استعمال الآيتين أو السنتين سبيل ) (2) ا هـ .
ومن الأمثلة التي توضح هذه القاعدة ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في الجمع بين قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُوا ا؟لْمُشْرِكَـ!ــتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ... } الآية [ البقرة : 221 ] وقوله تعالى في سورة المائدة : { ا؟لْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ا؟لطَّيِّبَـ!ــتُ( وَطَعَامُ ا؟لَّذِينَ أُوتُوا ا؟لْكِتَـ!ــبَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ( وَا؟لْمُحْصَنَـ!ــتُ مِنَ ا؟لْمُؤْمِنَـ!ــتِ وَا؟لْمُحْصَنَـ!ــتُ مِنَ ا؟لَّذِينَ أُوتُوا ا؟لْكِتَـ!ــبَ مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] حيث قال : ( إن إحدى الآيتين ليست بأولى بالاستعمال من الأخرى ، ولا سبيل إلى نسخ إحداهما بالأخرى ما كان إلى استعمالهما سبيل ، فآية سورة البقرة عند العلماء في الوثنيات والمجوسيات ، وآية المائدة في الكتابيات ) (3) ا هـ .
ومِمَّا قاله - أيضاً - تأكيداً على هذه القاعدة : ( ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه ) (4) ا هـ .
قال هذا في سياق كلام له في الجمع بين آيتين ادّعى بعض العلماء أن إحداهما ناسخة للأخرى ، قال - رحمه الله - : ( وأجمع الجمهور منهم أن الخلع والفدية والصلح ؛ أن كل ذلك جائزٌ بين الزوجين في قطع العصمة بينهما وأن كل ما أعطته على ذلك حلالٌ له ، إذا كان مقدارَ الصداق فما دونه ، وكان ذلك من غير إضرار منه بها ، ولا إساءة إليها .
__________
(1) انظر : كتاب الأصول من علم الأصول للشيخ محمد العثيمين ص 47 .
(2) التمهيد 1/307 .
(3) الاستذكار 16/271 .
(4) الاستذكار 17/176 .(1/282)
إلاَّ بكر بن عبدالله المزني (1) ، فإنه شذّ ، فقال : لايحل له أن يأخذ منها شيئاً على حالٍ من الأحوال .
وزعم أن قوله عزوجل : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ا؟فْتَدَتْ بِهِ÷) } [ البقرة : 229 ] منسوخ بقوله عزوجل : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ ا؟سْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَ]ـ!ـهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـ:ـــًا" } [ النساء : 20 ] إلى قوله : { مِيثَـ!ـــقًا غَلِيظًا } [ النساء : 21 ] .
وهذا خلاف السنة الثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يأخذ من زوجته ما أعطاها ، ويخلي سبيلها (2) ، ولاينبغي لعالم أن يجعل شيئاً من القرآن منسوخاً إلاَّ بتدافع يمنع من استعماله وتخصيصه ) ا هـ .
ثُمَّ ذكر أن الآيتين يُمكن الجمع بينهما بأن نجعل قوله عزوجل : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ا؟فْتَدَتْ بِهِ÷) } [ البقرة : 229 ] محمولاً على رضاهما ، ونجعل قوله عزوجل : { فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْـ:ـــًا" } [ النساء : 20 ] محمولاً على الأخذ بغير رضاها ، وعلى كره منها وإضرار بها ، وبهذا الجمع يصح استعمال الآيتين (3) .
__________
(1) هو : بكر بن عبدالله بن عمرو ، الإمام ، القدوة ، الواعظ ، الحجة ، أبو عبدالله المُزَنيّ ، البصري ، أحد الأعلام ، يُذكر مع الحسن وابن سيرين ، كان ثقة ، ثبتاً ، كثير الحديث ، حجة ، فقيهاً ، وكان مجاب الدعوة ، مات سنة 108 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 4/532 - 536 .
(2) انظر قصة ثابت بن قيس بن شماس مع امرأته في : موطأ الإمام مالك كتاب الطلاق ، باب : ماجاء في الخلع 2/442 ، 443 ، وصحيح البخاري كتاب الطلاق ، باب : الخلع وكيف الطلاق فيه 5/2021 ، 2022 .
(3) الاستذكار 17/176 .(1/283)
ثالثاً : ( لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ ما قام عليه الدليل الذي لا مدفع له ، ولايحتمل التأويل ) (1) .
ويُمكن التعبير عن هذه القاعدة بعبارة مختصرة ، وهي : النسخ لايثبت مع الاحتمال (2) .
فلابد في النسخ من دليل يدل عليه ، سواء من الآية نفسها ، أو بواسطة النقل الصريح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة ، أو إجماع الأمة ، أو عن طريق وقوع التعارض الحقيقي مع معرفة التاريخ ، إذ إن هذا دليل على النسخ ، كما أنه في الوقت نفسه من الشروط اللازمة للقول به (3) .
( والحاصل أن الناسخ والمنسوخ إنَّما يعرفان بمجرد النقل الدال على ذلك ، ولايعرف ذلك بدليل عقلي ولا بقياس ) (4) .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ولايقطع بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بدليل لا معارض له أو إجماع ) (5) ا هـ .
قال الشاطبي - رحمه الله - : ( الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لايكون إلاَّ بأمر محقق ؛ لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق ، فرفعها بعد العلم بثبوتها لايكون إلاَّ بمعلوم محقق ) (6) ا هـ .
ومن أمثلة هذه القاعدة ما ذكره ابن عبدالبر - رحمه الله - في سياق كلامه عن خلاف العلماء في حكم الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا ، حيث قال : ( وقال آخرون : واجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه إذا تحاكموا إليه ، وزعموا أن قوله عزوجل : { وَأَنِ ا؟حْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ا؟للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] ناسخ للتخيير في الحكم بينهم في الآية التي قبل هذه .
__________
(1) التمهيد 14/391 ، والاستذكار 24/15 ، 16 .
(2) انظر : كتاب قواعد التفسير جمعاً ودراسة لخالد بن عثمان السبت 2/728 .
(3) المرجع السابق 2/728 .
(4) معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد بن حسين الجيزاني ص 258 .
(5) الاستذكار 1/367 .
(6) الموافقات في أصول الشريعة 3/79 .(1/284)
وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وبه قال الزهري وعمر بن عبدالعزيز (1) ، والسدي (2) ، وإليه ذهب أبو حنيفة (3) وأصحابه ، وهو أحد قولي الشافعي ...
__________
(1) هو : عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحكم ، الإمام ، الحافظ ، العلامة ، المجتهد ، الزاهد العابد ، أمير المؤمنين حقاً ، أبو حفص ، القرشي الأموي المدني ثُمَّ المصري ، الخليفة الزاهد الراشد ، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين - رحمة الله تعالى عليه - ، كان إماماً عادلاً ومحدثاً مأموناً ، وفقيهاً عالماً ، يُضرب به المثل في الزهد والعبادة ، والعدل والأمانة ، كانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأياماً ، وكان مجدد الإسلام في زمانه ، مات سنة 101 هـ . انظر : سير أعلام 5/114 - 148 .
(2) هو : إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة ، الإمام المفسِّر ، أبو محمد ، الحجازي ، ثُمَّ الكوفي ، من علماء الجرح والتعديل من وثّقه ، ومنهم من جعله صادق الحديث ، إلاَّ أنه كان من أعلم الناس بالتفسير ، مات سنة 127 هـ ، وأمَّا السدّي الصغير فهو محمد بن مروان الكوفي ، أحد المتروكين . انظر : سير أعلام النبلاء 5/264 ، 265 .
(3) هو : الإمام ، فقيه الملة ، عالم العراق ، أبو حنيفة ، النعمان بن ثابت التيمي الكوفي ، مولى بني تيم الله ابن ثعلبة ، إليه المنتهى في الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه ، والناس عيال عليه في ذلك ، أول الأئمة الأربعة ، وكان ثقة عابداً وقوراً حسن السمت حليماً عاقلاً ذكياً ، وسيرته حافلة بالفوائد ، ومناقبه وفضائله كثيرة ، مات سنة 105 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 6/390 - 404 .(1/285)
قال أبو عمر : الصحيح في النظر عندي أن لايحكم بنسخ شيء من القرآن إلاَّ بما قام به الدليل الذي لا مدفع له ، ولايحتمل التأويل ، وليس في قوله عزوجل : { وَأَنِ ا؟حْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ا؟للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] دليلٌ على أنها ناسخة لقوله عزوجل : { فَإِن جَآءُوكَ فَا؟حْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ( وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ (فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـ:ـــًا( وَإِنْ حَكَمْتَ فَا؟حْكُم بَيْنَهُم بِا؟لْقِسْطِ" } [ المائدة : 42 ] لأنها تحتمل أن يكون معناها : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت ولاتتبع أهواءهم فتكون الآيتان محكمتين مستعملتين غير متدافعتين .
فقف على هذا الأصل في نسخ القرآن بعضه ببعض ؛ لأنه لايصح إلاَّ بإجماع لاتنازع فيه ، أو بسنة لا مدفع لها ، أو يكون التدافع في الآيتين غير ممكن فيهما استعمالهما ولا استعمال أحدهما إلاَّ بدفع الأخرى فيُعلم أنها ناسخة لها ، وبالله التوفيق ) (1) ا هـ .
ومن الضوابط التي يعرف بها الناسخ والمنسوخ ما ذكره - رحمه الله - بقوله : ( بعمل الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقف على الناسخ والمنسوخ فافهم ) (2) ا هـ .
__________
(1) الاستذكار 24/15 ، 16 بتصرف واختصار يسير ، وانظر : التمهيد 14/391 ، 392 .
(2) التمهيد 12/278 .(1/286)
ومعنى هذا أن عمل الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ ، وذلك عندما يكون هناك تعارض بين حكمين - مثلاً - دل عليهما دليلان من الكتاب ، أو من السنة ، ولا سبيل إلى الجمع بينهما إلاَّ بإبطال الآخر ونسخه - فعمل الخلفاء الراشدين بأحد الحكمين مع عدم مخالفة الصحابة لهم يدل على أن الحكم الذي عملوا به ناسخ للآخر ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أمته بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده كما في حديث العرباض بن سارية المعروف (1) .
وفي هذا ردٌّ على من زعم - من المبتدعة ومن وافقهم - أن حكم الرجم منسوخٌ وذلك لأن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قد قرر في خطبة طويلة له أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رجم ، وأنهم قد رجموا بعده ، فكيف يقال بعد ذلك إن حكم الرجم منسوخ يقيناً (2) ؟ !! .
* * *
الموضوع الرابع
الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم
تمهيد في بيان معنى كلمتي الحقيقة والمجاز :
أمَّا الحقيقة فهي فعيلة من حق الشيء إذا ثبت ، وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل ، وقد يكون بمعنى المفعول ، فعلى التقدير الأول يكون معنى الحقيقة الثابتة ، وعلى الثاني يكون معناها المثبتة (3) .
( والحقيقة تستعمل في شيئين :
__________
(1) حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب : في لزوم السنة 5/13 - 15 ، والترمذي في كتاب العلم ، باب : في الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5/43 وقال : هذا حديث حسن صحيح . انظر : صحيح الجامع الصغير رقم [2549] 1/499 .
(2) ذكر ذلك صاحب كتاب الرأي الصواب في منسوخ الكتاب الذي سبق الإشارة إليه .
(3) انظر : إرشاد الفحول للشوكاني 1/110 ، والبيان في ضوء أساليب القرآن للدكتور عبدالفتاح لاشين ص 145 ، 146 .(1/287)
أحدهما : في العبارة عن صفة الشيء ومعناه ، فيقال : حقيقة العلم كذا ، وحقيقة العالم كذا ، وحقيقة المُحدَث كذا ، وهذا يرجع إلى حده وحصره ، وليس لهذا النوع من الحقيقة مجاز .
والثاني : حقيقة الكلام ، وحدّه : كل لفظ بقي على موضوعه ، ولهذه الحقيقة مجاز ) (1) .
وهذا النوع الثاني هو محل البحث هنا ، وسيأتي مزيد تفصيل وإيضاح لمعناه فيما يأتي - إن شاء الله - .
وأمَّا المجاز فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي ، كما يقال : جزت موضع كذا ، أي جاوزته وتعديته ، أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع (2) .
ومن المعنى الأول قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ , } [ البقرة : 249 ] أي تعداه (3) .
وسُمِّيَ المجاز مجازاً على هذا المعنى ؛ لأنه تجاوز موضعه الذي وضع له والحقيقة ما لم يتجاوز ذلك (4) .
وعلى المعنى الثاني للمجاز - الذي هو من الجواز ( قسيم الامتناع ) يكون مصدراً ميمياً كـ { المقام } و { المقال } ، وسُمِّي المجاز مجازاً على هذا المعنى ؛ لأنه جائز في اللغة العربيَّة غيرُ ممتنع (5) .
__________
(1) من كتاب العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 1/172 .
(2) انظر : إرشاد الفحول للشوكاني 1/110 ، والبيان في ضوء أساليب القرآن للدكتور عبدالفتاح لاشين ص 145 ، 146 .
(3) انظر : عمدة الحفاظ للسمين الحلبي 1/413 .
(4) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 212 مادة ( جوز ) .
(5) انظر : مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبدالعزيز بن باز 4/382 ، جمع وإشراف محمد بن سعد الشويعر .(1/288)
فهذا باختصار ما يتعلق ببيان معنى كلمتي الحقيقة ، والمجاز في اللغة ، وأمَّا معناهما في الاصطلاح فسوف يأتي عند دراسة كلام ابن عبدالبر المتعلق بهذا الموضوع - إن شاء الله - ، فقد تكلم - رحمه الله - عن الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم في عدة مواضع من كتبه ، وبيّن اختلاف العلماء في حمل كلام الله ، هل يحمل على الحقيقة أو على المجاز ؟ وبيَّن حجة كل فريق ثُمَّ بيَّن ما يراه راجحاً وصواباً .
وفيما يأتي أذكر كلامه المتعلق بهذا الموضوع ، ثُمَّ أعقبه بدراسة ما اشتمل عليه من مسائل مبيناً رأى ابن عبدالبر فيها مع تناوله بالمناقشة والدراسة .
قال ابن عبدالبر عند شرحه لحديث عطاء بن يسار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة } وقال : { اشتكت النَّار إلى ربها فقالت : يارب ! أكل بعضي بعضاً ، فأذن لها بِنَفَسين في كل عام : نفسٍ في الشتاء ، ونفس في الصيف } (1) .
قال : ( وأمَّا قوله : { اشتكت النَّار إلى ربها ، فقالت : ياربِّ ! أكل بعضي بعضاً } فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك ، فحمله بعضهم على الحقيقة ، وحمله منهم جماعة على المجاز .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب وقوت الصلاة ، باب : النهي عن الصلاة بالهاجرة ص 45 ، وهو حديث مرسل تقويه الأحاديث المتصلة الأخرى التي رواها مالك في نفس الباس من طرق كثيرة أخرى ، ومنها حديث حديث أبي هريرة أن رسول الله e قال : { إذا اشتد الحر ، فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم } وذكر { أن النَّار اشتكت إلى ربها فأذن لها في كل عام بنفسين : نفسٍ في الشتاء ونفس في الصيف } .
... وهذا الحديث أخرجه أيضاً البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب : الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم [533 ، 534] ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم [615] ص 244 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/289)
فالذين حملوه على الحقيقة قالوا : أنطقها الله الذي أنطق كل شيء ، وفهم عنها كما فهم عن الأيدي والأرجل والجلود ، وأخبر عن شهادتها ونطقها ، وعن النمل بقولها ، وعن الجبال بتسبيحها .
واحتجوا بقوله تعالى : { يَـ!ـــجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ , } [ سبأ : 10 ] أي سبِّحي معه .
وبقوله : { يُسَبِّحْنَ بِا؟لْعَشِيِّ وَا؟لإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] .
وبقوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ÷ وَلَـ!ـــكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) } [ الإسراء : 44 ] .
وبقوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] .
وبقوله : { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } [ الفرقان : 12 ] .
وبقوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
فلما كان مثل هذا - وهو في القرآن كثير - حملوا بكاء السماء والأرض وانفطار السماء ، وانشقاق الأرض ، وهبوط الحجارة من خشية الله ، كل ذلك وما كان مثله على الحقيقة ، وكذلك إرادة الجدار الانقضاض .
واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من الحقيقة في ذلك بقوله تعالى : { يَقُصُّ ا؟لْحَقَّ } [ الأنعام : 57 ] ، وبقوله : { وَا؟لْحَقَّ أَقُولُ } [ ص : 84 ] .
وأمَّا الذين حملوا ذلك كله وما كان مثله على المجاز قالوا : أمَّا قوله : { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } [ الفرقان : 12 ] ، { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ا؟لْغَيْظِ( } [ الملك : 8 ] فهذا تعظيم من الله تعالى لشأنها .
قالوا : وقول النبي - عليه السلام - : { اشتكت النَّار إلى ربها } (1) من باب قول عنترة (2) :
__________
(1) سبق تخريجه ص 277 .
(2) هو : عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية العبسي ، أشهر فرسان العرب في الجاهليَّة ، ومن فحول الشعراء ، أمه حبشية ، وكان مغرماً بابنة عمه { عبلة } فقل أن تخلو له قصيدة من ذكرها ، توفي قبل بعثة النبي e . انظر : الأعلام 5/91 .(1/290)
وشكا إليّ بعبرةٍ وتحمحم (1)
وقول الآخر :
شكا إليّ جَمَلي طول السُّرى ... ... صبراً جميلاً فكلانا مُبْتلى (2)
وكقول الحارثي (3) :
يريدٌ الرمحُ صدر أبي براءٍ ... ... ويرغب عن دماء بني عقيل (4)
وقال غيره :
ربّ قوم غبروا من عيشهم ... ... في نعيم وسرور وغَدَقْ
سكت الدهر زماناً عنهُمُ ... ... ثُمَّ أبكاهم دماً حين نطقْ (5)
وقال غيره :
وعظتك أجداث صُمُتْ ... ... ونعتك أزمنة جَفَتْ
وتكلَّمت عن أوجه ... ... تبلى وعن صور سَبتْ
وأرتك قبرَك في القبو ... ... ر وأنت حيٌّ لم تَمُتْ (6)
وهذا كثير في أشعارهم ، ... ، وقالوا : هذا كله على المجاز والتمثيل ، والمعنى في ذلك : أنها لو كانت ممن تنطق لكان نطقها هذا وفعلها .
__________
(1) البيت في ديوانه ص 146 وصدره : فازورّ من وقع القنا بلبانه .
(2) البيت في الكتاب لسيبويه 1/321 هكذا :
يشكو إليّ جملي طول السُّرى ... ... صبرٌ جميل فكلانا مُبتلى
ولم ينسب البيت لأحد .
(3) هو : جعفر بن عُلبة الحارثي ، كان شاعراً فارساً ، يغير على بني عقيل ، فقتل صَبْراً بالمدينة . انظر : الاشتقاق لأبي بكر بن دُرَيد ص 399 ، ومعجم الشعراء للمرزباني ص 380 .
(4) انظر هذا البيت في معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/306 ، وشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف لمحمد عليّان الشافعي المطبوع في آخر الكشاف الزمخشري ص 101 .
(5) لم أعثر على قائله ، وقد ذكره ابن عبدالبر أيضاً في بهجة المجالس 3/323 ، بدون ذكر قائله ، وأحال المحقق في الحاشية على عيون الأخبار 2/303 .
(6) هذه الأبيات ذكرها ابن عبدالبر في بهجة المجالس 3/339 ، ونسبها للحسن بن هانئ ( أبي نواس ) ، وذكر أنها تُروى لأبي العتاهية ، وهي في ديوان كل منهما كما ذكر محقق الكتاب : محمد مرسي الخولي .(1/291)
وذكروا قول حسان بن ثابت (1) حيث يقول :
لو أن اللؤم يُنسبُ كان عبداً ... ... قبيح الوجه أعور من ثقيف (2)
وسُئل أبو العباس أحمد بن يزيد النحوي (3) ، عن قول الملك : { إِنَّ هَـ!ـــذَآ أَخِي لَهُ , تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَ !حِدَةٌ } [ ص : 23 ] وهم الملائكة لا أزواج لهم فقال : نحن طول النهار نفعل هذا ، فنقول : ضرب زيدٌ عمراً ، وإنَّما هذا تقريرٌ ، كأن المعنى : إذا وقع هذا فكيف الحكم فيه ؟ .
وذكروا قول عديّ بن زيد العبادي (4) للنعمان ابن المنذر (5) : أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك ؟ قال : وما تقولُ ؟ قال : تقول :
رُبّ ركبٍ قد أناخوا حولنا ... ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثُمَّ أضحوا لعبَ الدهرُ بهم ... ... وكذاك الدهرُ حالٌ بعد حال ) (6)
__________
(1) هو : حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام البخاري الأنصاري ، شاعر رسول الله e ثبت أن النبي e دعا له بقوله : { اللهم أيده بروح القدس } ، توفي - رضي الله عنه - في خلافة على قبل سنة 40 هـ وقيل غير ذلك .
... انظر : الاستيعاب لابن عبدالبر 1/400 - 407 .
(2) ديوان حسان بن ثابت ، تحقيق : سيد حنفي ص 171 ، والبيت من قصيدة له في هجاء المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما .
(3) أبو العباس أحمد بن يزيد النحوي لم أقف على هذا الاسم فيما اطلعت عليه من كتب التراجم ، ولعلّه يقصد : أبا العباس أحمد بن يحيى بن يزيد المشهور بـ ثعلب ، وقد مرّ ذكره وسبقت ترجمته ص 201 .
(4) هو : عديّ بن زيد العبادي التميمي ، شاعر جاهلي نصراني من أهل الحيرة ، كان فصيحاً يحسن العربيَّة والفارسية ، توفي سنة 35 هـ قبل الهجرة . انظر : معجم الشعراء ص 249 - 250 .
(5) هو : النعمان بن المنذر بن امرئ القيس ، من أشهر ملوك الحيرة في الجاهليَّة ، وكان داهية مقداماً ، وهو الذي قتل عدي بن زيد ، توفي سنة 15 قبل الهجرة . انظر : الأعلام 8/43 .
(6) انظر : البيتين في كتاب الأغاني 2/95 .(1/292)
ثُمَّ قال مرجحاً القول الأول - وهو حمل ذلك على الحقيقة : ( قال أبو عمر : القول الأول يعضده عموم الخطاب وظاهر الكتاب ، وهو أولى بالصواب ، والله أعلم ) (1) .
وقال في التمهيد بعد أن ذكر كلاماً مشابهاً للكلام السابق في شرحه نفس الحديث : ( وحمل كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة أولى بذوي الدين والحق ؛ لأنه يقص الحق ، وقوله الحق ، تبارك وتعالى علواً كبيراً ) (2) .
وقال في موضع آخر : ( ومن حق كلام الله أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز ، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلاَّ على ذلك .
وإنَّما يوجه كلام الله عزوجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم .
ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات وجل الله - عز وجل - عن أن يخاطب إلاَّ بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها ، مِمَّا يصح معناه عند السامعين ) (3) ا هـ .
وقال أيضاً : ( ولا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما ) (4) ا هـ .
وقال : ( والحقيقة في كل ما يحتملها اللفظ من الكتاب والسنة أولى من المجاز ) (5) ا هـ .
وقال : ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلاَّ أنهم لايكيفيون شيئاً من ذلك ، ولايحدون فيه صفة محصورة ) (6) ا هـ .
الدراسة :
__________
(1) الاستذكار 1/349 - 353 .
(2) التمهيد 5/16 .
(3) التمهيد 7/131 .
(4) التمهيد 11/115 .
(5) الاستذكار 14/221 .
(6) التمهيد 7/145 .(1/293)
يظهر لنا بوضوح من كلام ابن عبدالبر أنه يَرى وجوب حمل كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على حقيقته ، ولايحمل على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما ، ويَرى أن صرف اللفظ عن المعنى الظاهر منه ، وحمله على المجاز يؤدي إلى عدم ثبوت شيء من العبارات ، وأنه يعني أن الله خاطب العرب بما لاتفهمه من ظاهر ومعهود مخاطباتها .
وهذا الذي قرره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو الحق الذي تشهد له النصوص الشرعية ، وفعل السلف الصالح - رحمهم الله - وأقوالهم (1) .
ويُمكن الخروج ببعض النتائج المهمة من كلام ابن عبدالبر السابق في هذا الموضوع المهم الذي وقع فيه النزاع ، وكثر فيه الخلاف بين العلماء قديماً وحديثاً ، وهي :
أولاً : يُفهم من كلام ابن عبدالبر السابق أن الكلام ينقسم إلى قسمين :
... حقيقة ومجاز .
وذلك أن الكلام العربي عموماً - ويدخل فيه كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم يحتمل أحياناً في كثير من ألفاظه أكثر من معنى ووجه ، وبعض هذه المعاني والوجوه أشهر من المعاني والوجوه الأخرى التي تحتملها هذه الألفاظ ، سواء كانت مفردة أو مركبة ، مع اتفاق جميع هذه المعاني والوجوه في كونها مفهومة عند السامعين .
فالحقيقة هي حمل الكلام على الأشهر من وجوهه ومعانيه عند المخاطبين به السامعين له .
والمجاز هو حمل الكلام على المعنى أو الوجه الغير مشهور مع صحة معناه عند السامعين له المخاطبين به .
__________
(1) انظر : كتاب عقيدة الإمام ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان للشيخ سليمان الغصن ص 105 - 106 .(1/294)
هذا ما فهمته من كلام ابن عبدالبر - رحمه الله - في هذا الموضوع عند قوله : ( وإنَّما يحمل كلام الله على الأشهر والأظهر من وجوهه ) ، وأحسب أن تعريف الحقيقة والمجاز بهذا الاعتبار يريحنا كثيراً من الخوض في مناقشات كثيرة دارت بين العلماء بسبب التعريف المشهور للحقيقة والمجاز ، وهو أن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً لعلاقة ، مع قرينة صارفة عن المعنى الأصلي أو الوضعي لهذا اللفظ ، وما شابه ذلك من تعريفات ذكرها علماء الكلام والأصول والبيان (1) .
ونظراً لخطورة القول بالمجاز في القرآن الكريم على المعنى الذي ذكره علماء الكلام والأصول والبيان ، ولما يؤدي إليه من إنكار صفات الباري تعالى ، وحملها على غير المعنى الذي أراده الله وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم منها فقد أنكره جماعة من العلماء قديماً وحديثاً وصنفوا في ذلك مصنفات .
__________
(1) انظر : في تعريف الحقيقة والمجاز :
... ( العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 1/172 - 174 .
... ( إرشاد الفحول للحافظ الشوكاني 1/110 ، 111 .
... ( البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/375 .
... ( التأسيس في أصول الفقه على ضوء الكتاب والسنة لأبي سلام مصطفى بن محمد ص 111 ، 112 .
... ( البيان في ضوء أساليب القرآن للدكتور عبدالفتاح لاشين ص 145 .(1/295)
فممن أنكر تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز شيخ الإسلام ابن تيمية (1) - رحمه الله - وتلميذه ابن قيم الجوزية (2) - رحمه الله - وكذلك أنكره العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (3) - رحمه الله - صاحب تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (4) ، وغيرهم من العلماء (5) .
__________
(1) تكلم - رحمه الله - عن هذا في كتاب الإيمان ص 84 وما بعدها ، وله في الرد على القائلين بالمجاز رسالة بعنوان الحقيقة والمجاز مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 20/400 - 498 .
(2) سُمِّي المجاز طاغوتاً وأبطله من خمسين وجهاً في أول الجزء الثاني من كتاب مختصر الصواعق المرسلة ، وبيَّن أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيماً شرعياً ولا عقلياً ولا لغوياً .
(3) هو : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبدالقادر الجكني الشنقيطي - رحمه الله تعالى - أحد كبار العلماء في القرن الماضي ، وصاحب المؤلفات النافعة ، وأشهر مؤلفاته : ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ) الذي يعتبر من أفضل ما ألف في تفسير القرآن بالقرآن ، توفي سنة 1393 هـ بمكة المكرمة . انظر ترجمته في : مقدمة تفسير أضواء البيان .
(4) له رسالة بعنوان : منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز - مطبوعة - .
(5) انظر كتاب : بطلان المجاز وأثره في فساد التصور وتعطيل نصوص الكتاب والسنة لمصطفى عيد الصياصنة ، وللتوسع أكثر في هذا الموضوع يُنظر كتاب : المجاز في اللغة والقرآن الكريم بين الإجازة والمنع عرض وتحليل ونقد للدكتور عبدالعظيم المطعني .(1/296)
وأمَّا على الرأي الذي يُفهم من كلام ابن عبدالبر - رحمه الله - في معنى كل من الحقيقة والمجاز فإنه لايترتب على تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز تصور فاسد ولا معنى باطل ؛ بل إن هذا التقسيم يشهد له وقوعه في كلام العرب الذين نزل القرآن بلغتهم التي تعتبر أوسع اللغات وأكثرها إعجازاً ، ولذلك قال الشوكاني (1) : ( فإن وقوع المجاز ، وكثرته في اللغة العربيَّة أشهر من نار على علم ، وأوضح من شمس النهار ) (2) .
ولايقاُل : إن هذا التقسيم لايجوز القول به ؛ لأنه تقسيم حادث لم يكن موجوداً في عهد السلف ولاتكلم به الصحابة ولا التابعون ولا الأئمة المشهورون المشهود لهم بالفضل والعلم ؛ لايقال هذا لأن أكثر الاصطلاحات التي تعارف عليها العلماء إنَّما حدثت بعد القرون المفضلة ، ولم تكن موجودة ، والتقسيمات الحادثة قطعاً لاتضر متى لم تغير الأصل .
فمثلاً الاسم في بداية الجملة الإسمية مرفوع ، فكون التقسيم سماه مبتدأ فهذا لايضر لأن المبتدأ مرفوع ، ولكن متى غيرت التسمية الأصل بأن جعلت المبتدأ مثلاً منصوباً فهذا يدل على فساد التقسيم (3) .
__________
(1) هو : محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، فقيه مفسر مجتهد ، من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء ، له 114 مؤلفاً منها فتح القدير في التفسير ، ونيل الأطار شرح منتقى الأخبار وإرشاد الفحول في علم الأصول وغيرها كثير ، توفي - رحمه الله - سنة 1250 هـ . انظر : الأعلام 6/298 .
(2) إرشاد الفحول 1/116 ، 117 .
(3) انظر : التأسيس في أصول الفقه على ضوء الكتاب والسنة لمصطفى سلامة ص 115 .(1/297)
فتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز بالمعنى الذي ذكره ابن عبدالبر لايغير الأصل ، بخلاف تقسيمه إلى حقيقة ومجاز بالمعنى الذي ذكره أهل الكلام من المبتدعة ، ومن وافقهم من علماء الأصول والبلاغة فإنه تقسيم فاسد لتغييره أصل الكلمة (1) .
ولذلك عدّه شيخ الإسلام تقسيماً مبتدعاً فقال : ( فلا مجاز في القرآن ، بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف ، والخلف فيه على قولين ، وليس النزاع فيه لفظياً ، بل يُقال : نفس هذا التقسيم باطل لايتميز هذا عن هذا ... ) (2) .
والذي يظهر - والله أعلم - أن الخلاف بين أهل السنة في إثبات لمجاز ونفيه خلاف لفظي ، فالذين أثبتوه وقالوا به يسمونه مجازاً ، والذين أنكروه إنَّما أنكروا التسمية بهذا الاسم ، ولم ينكروا وجود ألفاظ أو تراكيب في اللغة ليست على ظاهرها ولابد فيها من صرف عن الظاهر .
فبعض المنكرين يسمونه أسلوباً من أساليب اللغة العربيَّة ، وبعضهم يقول : اللفظ إن دلّ بنفسه فهو حقيقة لذلك المعنى ، وإن دلّ بقرينه فدلالته بالقرينة حقيقة للمعنى الآخر ، فهو حقيقة في الحالين (3) .
__________
(1) انظر : نقد هذا التعريف في كتاب بطلان المجاز وأثره في فساد التصور ، وتعطيل نصوص الكتاب والسنة لمصطفى عيد الصياصنة .
(2) كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 109 .
(3) انظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد بن حسين الجيزاني ص 118 ، 119 .(1/298)
وعلى كلٍّ فهو نزاعٌ في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه كما قال ابن قدامة (1) في روضة الناظر (2) .
والحقيقة والمجاز بالمعنى الذي فُهم من كلام ابن عبدالبر تُذكر عند علماء أصول الفقه تحت مسمى آخر ، وهو : الظاهر والمؤل .
فالظاهر : ما احتمل معنيين فأكثر هو في أحدهما أو أحدها أرجح ، أو ما تبادر منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره ، مثل لفظ { الأسد } فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ، ويبعد أن يراد به الرجل الشجاع ، مع احتمال اللفظ له .
والمؤول : من التأويل وهو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بدليل يدل على ذلك (3) .
وهناك شروط لابد من توفرها حتى يجوز صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى باطن يخالف الظاهر ومجاز ينافي الحقيقة ، وهذه الشروط ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهي :
1 - أن يكون ذلك اللفظ مستعملاً في المعنى المجازي ؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي ، ولايجوز أن يراد منه خلاف لسان العرب ، أو خلاف الألسنة كلها ، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي مِمَّا يراد به اللفظ ، وإلاَّ فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له ، وإن لم يكن له أصل في اللغة .
__________
(1) هو : عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ، ثُمَّ الدمشقي الحنبلي ، أبو محمد ، موفق الدين ، كان إماماً من أئمة المسلمين ، وعلماً من أعلام الدين في العلم والعمل ، له مصنفات كثيرة تدل على غزارة علمه وتبحره وخاصة في الفقه وأصوله ، توفي رحمه الله 620 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 22/165 - 173 .
(2) روضة الناظر لابن قدامة المقدسي 1/273 .
(3) انظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد بن حسين الجيزاني ص 392 - 393 .(1/299)
2 - أن يكون هناك دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه ، وإلاَّ فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة ، وفي معنى بطريق المجاز ، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء .
3 - لابُدّ أن يَسْلَمَ ذلك الدليل الصارف عن المعارض ، وإلاَّ فإذا قام دليل ثابت يبين أن الحقيقة مراده امتنع تركها .
4 - أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته ، فلابُدّ أن يبين لأمته أنه لم يرد به حقيقته ، وأنه أراد مجازه ، سواء عينه أو لم يعينه ، لاسيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم ، دون عمل الجوارح .
فإن الله سبحانه جعل القرآن نوراً ، وهدى وبياناً للناس وشفاء لما في الصدور ، وأرسل الرسول ليبين للناس ما نزل إليهم ، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ولئلا يكون على الله حجة بعد الرسل ، فلايجوز أن يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهره إلاَّ وقد نصب دليلاً يمنع من حمله على ظاهره (1) .
ثانياً : إن من حق كلام الله - عزوجل - وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحمل على الحقيقة لا على المجاز ، ولا معنى لحمل الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما ؛ لأن كلام الله - عزوجل - وكذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم إنَّما يوجهان إلى الأشهر والأظهر من الوجوه ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم .
وإذا عُلم هذا فإن القاعدة في حمل الكلام على المعنى المجازي : أن المجاز لايُصار إليه إلاَّ عند امتناع حمل اللفظ على الحقيقة .
فمتى أمكن حمل اللفظ على الحقيقة امتنع حمله على المجاز ووجب حمله على الحقيقة ، ومتى امتنع حمله على الحقيقة حُمل على المجاز مع وجود القرينة الدالة على هذا الامتناع .
__________
(1) انظر هذه الشروط الأربعة وشرحها وضرب الأمثلة عليها في كتاب : التأويل خطورته وآثاره للدكتور عمر سليمان الأشقر ص 37 - 60 .(1/300)
ومن القرائن الدالة على امتناع حمل الكلام على الحقيقة : أن تتفق الأمة على أنه أريد به المجاز ، قال ابن عبدالبر : ( ومن حق كلام الله أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز ) (1) ا هـ .
ومن الآيات التي تحمل على المجاز لاتفاق العلماء على أن المعنى المجازي هو المراد منها قوله تعالى : { وَهُوَ ا؟لَّذِي فِي ا؟لسَّمَآءِ إِلَـ!ــهٌ وَفِي ا؟لأَرْضِ إِلَـ!ــهٌ" } [ الزخرف : 84 ] وقوله : { وَهُوَ ا؟للَّهُ فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَفِي ا؟لأَرْضِ ( } [ الأنعام : 3 ] .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ... فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه ، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء ، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض ، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير ، فظاهر التنزيل يشهد أنه على العرش ... وأمَّا قوله في الآية الأخرى : { وَفِي ا؟لأَرْضِ إِلَـ!ــهٌ" } فالإجماع والاتفاق قد بين المراد بأنه معبود من أهل الأرض ، فتدبر هذا فإنه قاطع إن شاء الله ) (2) ا هـ .
وكذلك قوله تعالى : { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا( } [ المجادلة : 7 ] فإن المراد بذلك أنه على العرش ، وعلمه في كل مكان بإجماع علماء الصحابة والتابعين ، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله (3) .
قال ابن كثير - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية : ( ولهذا حكى غيرُ واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ، ولاشك في إرادة ذلك ) (4) ا هـ .
__________
(1) التمهيد 7/131 .
(2) التمهيد 7/134 .
(3) التمهيد 7/138 ، 139 .
(4) تفسير ابن كثير 4/323 .(1/301)
ثالثاً : بناءً على ما تقدّم في القاعدة السابقة من أن الكلام يجب حمله على حقيقته وظاهره ، ولايحمل على المجاز إلاَّ عند تعذر حمله على الحقيقة ؛ فإن المجاز لايدخل في آيات الصفات ، إذ من الممكن حملها على حقيقتها ، إذ لايلزم منه محال ، فوجب لأجل ذلك حمل هذه الصفات على الحقيقة ، وامتنع حملها على المجاز ، وهذا مذهب السلف أهل السنة والجماعة ، وهو المذهب الحق لأمور :
أحدها : أنه الموافق لظاهر الكلام وحقيقته ، والواجب حمل نصوص الوحي على ظواهرها وحقيقتها .
الثاني : أنه لايلزم منه أي محذور ولا محال .
الثالث : أن إثبات المجاز والقولَ به لايجوز إلاَّ بقرينة صحيحة يجب التسليم بها ، وهذه القرينة منتفية عند أهل السنة .
أمَّا مَن عدا أهل السنة فإنهم يثبتون المجاز في آيات الصفات ويصرفونها عن ظاهرها وحقيقتها لوجود القرينة المانعة من حمل اللفظ على حقيقته وظاهره ، وهي عندهم استحالة ذلك عقلاً ؛ لأنه يلزم من إثبات الصفات لله تشبيهه بالمخلوق .
وهذه قرينة باطلة كما قرّر ذلك العلماء المحققون من أهل السنة ، وبينوا أنه لايلزم من ذلك تشبيه الله بالمخلوق لأنه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ÷ شَيْءٌ( وَهُوَ ا؟لسَّمِيعُ ا؟لبَصِيرُ } (1) [ الشورى : 11 ] .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( وأمَّا ادّعاؤهم المجاز في الاستواء ، وقولهم في تأويل استوى : استولى ، فلا معنى له ؛ لأنه غير ظاهر في اللغة ، ومعنى الاستيلاء في اللغة : المغالبة ، والله لايغالبه ولايعلوه أحد ، وهو الواحد الصمد .
__________
(1) انظر تقرير ذلك وبيانه في الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث بيّن ذلك بأصلين شريفين ومثلين مضروبين وبخاتمة جامعة . وانظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة ، لعلي بن حسين الجيزاني ص 115 ، 116 ، 117 .(1/302)
ومن حق كلام الله أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز ؛ إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلاَّ على ذلك ، وإنَّما يُوجه كلام الله عزوجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك مايجب له التسليم ، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات ، وجلّ الله - عزوجل - عن أن يخاطب إلاَّ بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مِمَّا يصح معناه عند السامعين ، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم ، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه ) (1) .
إلى أن قال : ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلاَّ أنهم لايكيفيون شيئاً من ذلك ولايحدون فيه صفة محصورة ) (2) ا هـ .
وهذا المنهج الذي قرّره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو منهج أهل السنة والجماعة ، إلاَّ أنه - رحمه الله - قد تجاوز هذا المنهج بتأويل بعض الصفات الثابتة لله سبحانه وتعالى فأولها تأويلاً مخالفاً للظاهر ، وفسرها بغير ما فسرها به السلف الصالح .
__________
(1) التمهيد 7/131 .
(2) التمهيد 7/145 .(1/303)
ومن ذلك قوله عند كلامه على حديث : { يضحك الله - عزوجل - إلى رجلين بقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة } (1) : ( وأمَّا قوله : يضحك الله : فمعناه يرحم الله عبده عند ذاك ويتلقاها بالروح والراحة والرحمة والرأفة ، وهذا مجاز مفهوم ، وقد قال الله - عزوجل - في السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان : { رَضِيَ ا؟للَّهُ عَنْهُمْ } [ التوبة : 100 ] وقال في المجرمين : { فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ا؟نتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] وأهل العلم يكرهون الخوض في مثل هذا وشبهه من التشبيه كله في الرضا والغضب ، وما كان مثله من صفات المخلوقين ، وبالله العصمة والتوفيق ) (2) ا هـ .
فابن عبدالبر هنا قد أول صفة الضحك بأثرها ، وكذلك ما يماثلها من الصفات الفعلية كالرضى والغضب لتوهمه أنها مثل صفات المخلوقين ، وأن في إثباتها لله تعالى تشبيهاً وتمثيلاً .
ولاشك أن ابن عبدالبر - رحمه الله وعفا عنه - قد خالف الصواب في ذلك لشبهةٍ عرضت له كما عرضت لمن قبله ، ولاشك أن صفات الله ليست مثل صفات المخلوقين كما أن ذاته لاتشبه ذواتهم ، والقول في الصفات كالقول في الذات كما هو معلوم في عقيدة أهل السنة والجماعة (3) .
فالواجب إثبات هذه الصفات ونحوها على الوجه الحقيقي اللائق بالله تعالى ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ، والله المستعان .
* * *
الموضوع الخامس
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الجهاد ، باب : الشهداء في سبيل الله ص 367 رقم [28] ، وأخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب : الكافر يقتل المسلم ثُمَّ يسلم رقم [2826] ص 545 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، ومسلم في الإمارة ، باب : بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر ، حديث [1890] ص 786 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) التمهيد 18/345 .
(3) انظر : كتاب عقيدة الإمام ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان للشيخ سليمان بن صالح الغصن ص 386 - 390 .(1/304)
المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
وتحته تمهيد ومبحثان :
المبحث الأول : معنى المحكم والمتشابه
المبحث الثاني : طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه
تمهيد :
قبل أن أبدأ في الكتابة في هذا الموضوع أقول : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطرَ السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
فهذا موضوع مهمٌ من موضوعات علوم القرآن ، يحتاج الباحث فيه لمثل هذا الدعاء ؛ لأنه موضوع له صلة بالعقيدة ، والزلل فيه يؤدي إلى الوقوع في هاوية سحيقة ، وهذا ما وقع فعلاً لكثير ممن كتب في هذا الموضوع ، وعلى رأس هؤلاء الزركشي في برهانه (1) ، والسيوطي في إتقانه (2) ، ثُمَّ جاء بعدهم الزرقاني في مناهله (3) ، فكان من أكثر الذين تخبطوا في هذا الموضوع بدون نور ساطع من العقيدة الصحيحة التي تحمي صاحبها من الزلل والبعد عن الحق ، وخاصة في مسائل الأسماء والصفات .
__________
(1) انظر : النوع السابع والثلاثين في البرهان في علوم القرآن للزركشي ، وهو في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات 2/207 وما بعدها .
(2) انظر : النوع الثالث والأربعين في الإتقان وهو في المحكم والمتشابه ، وقد ذكر تحته فصلاً قال فيه : من المتشابه آيات الصفات 1/649 .
(3) انظر : المبحث الخامس عشر في مناهل العرفان ، وهو في محكم القرآن ومتشابهه حيث تكلم فيه عن متشابه الصفات 2/306 .
... وانظر في الرد عليه كتاب : القول الرشيد في حقيقة التوحيد لسليمان العلوان ص 50 - 53 ، وكتاب مناهل العرفان للزرقاني دراسة وتقويم لخالد بن عثمان السبت 2/741 - 868 .(1/305)
فقد أدخل هؤلاء ، وغيرهم - عفا الله عنّا وعنهم - آيات الصفات في المتشابه من القرآن ، ثُمَّ ساروا على مذهب الأشاعرة المؤولين ، وحكوا كلامهم ، وجعلوه المذهب الصحيح ، ونسبوه إلى السلف - وهم منه برءاء - كما سيأتي توضيحه - إن شاء الله - .
المحكم في اللغة :
المحكم : من أحكمَ الشيءَ يحكمه فهو مُحْكَم ، أي : أتقنه ومنعه من الفساد (1) ، وأصل المادة { حَكَمَ } يدل على المنع ، قال ابن فارس : ( الحاء والكاف والميم أصلٌ واحد وهو المنع ... ) (2) .
ويقال للشيء المتقن : محكماً ، لأنه مُنع من الخلل والنقص والفساد ، قال تعالى : { كِتَـ!ــبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـ!ـــتُهُ , } [ هود : 1 ] أي : ( صارت محكمة متقنة لا نقصَ فيها ولا نقضَ لها كالبناء المحكم ) (3) .
المتشابه في اللغة :
المتشابه مأخوذ من التشابه ، وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر ، والشبهة : هي ألاَّ يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه ، عيناً كان أو معنى ، قال تعالى : { وَأُتُوا بِهِ÷ مُتَشَـ!ـــبِهًا } [ البقرة : 25 ] أي يشبه بعضه بعضاً لوناً لا طعماً وحقيقة ، وقيل متماثلاً في الكمال والجودة (4) .
وقوله تعالى : { ا؟للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ا؟لْحَدِيثِ كِتَـ!ــبًا مُّتَشَـ!ــبِهًا } [ الزمر : 39 ] ( أي يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة والإعجاز وعدم تناقضه ، وإبداع ألفاظه ، واستخراج حكمه ) (5) .
وأمَّا تعريف كل من المحكم والمتشابه في الاصطلاح فلعله يتضح - إن شاء الله - بعد ذكر كلام ابن عبدالبر في هذا الموضوع ، ودراسته .
__________
(1) بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي 2/487 ، وانظر : مختار الصحاح مادة ( ح ك م ) ص 130 .
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/91 .
(3) فتح القدير للشوكاني 2/671 .
(4) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 443 .
(5) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 2/284 .(1/306)
قال ابن عبدالبر : ( قال أبو عمر : حرّم الله عقد النكاح في العدة بقوله : { وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ ا؟لنِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ ا؟لْكِتَـ!ــبُ أَجَلَهُ ," } [ البقرة : 235 ] وأباح التعريض بالنكاح في العدة ، ولم يختلف العلماء من السلف والخلف في ذلك ، فهو من المحكم المجتمع على تأويله ) (1) ا هـ .
وقال - أيضاً - في موضع آخر : ( وأجمع العلماء على أن قوله عزوجل : { أَوْ تَسْرِيحُ+ بِإِحْسَـ!ــنٍ } [ البقرة : 229 ] هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين ، وإياها عنى بقوله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ , مِن+ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ,) } [ البقرة : 230 ] وأجمعوا أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها ، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، فكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله ) (2) ا هـ .
وقال في موضع آخر : ( قال أبو عمر : قول الله عزوجل : { قُل لاَ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } [ الأنعام : 145 ] قد أوضحنا بما أوردنا في هذا الباب بأنه قول ليس على ظاهره ، وأنه ليس نصاً محكماً ، لأن النص المحكم ما لايُختلف في تأويله ... ) (3) ا هـ .
ومن أقواله المتعلقة بهذا الموضوع : ( واختلف العلماء في الحكم بينهم (4) إذا ترافعوا إلينا في خصوماتهم وسائر مظالمهم وأحكامهم ، هل علينا أن نحكم بينهم فرضاً واجباً ؟ أم نحن فيه مخيرون ؟ فقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق : إن الإمام والحاكم يخيّر ، إن شاء حكم بينهم إذا تحاكموا إليه بحكم الإسلام ، وإن شاء أعرض عنهم .
__________
(1) الاستذكار 16/15 .
(2) الاستذكار 18/158 .
(3) التمهيد 1/147 .
(4) المراد : أهل الكتاب .(1/307)
وقالوا : إن هذه الآية محكمة لم ينسخها شيء ، قوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فَا؟حْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ( وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـ:ـــًا( وَإِنْ حَكَمْتَ فَا؟حْكُم بَيْنَهُم بِا؟لْقِسْطِ" إِنَّ ا؟للَّهَ يُحِبُّ ا؟لْمُقْسِطِينَ } [ المائدة : 42 ] .
وممن قال ذلك مالك [ والشافعي أحد القولين ] (1) ، وهو قول عطاء (2) والشعبي والنخعي (3) .
وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث ابن إسحاق عن داود ابن الحسين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { فَإِن جَآءُوكَ فَا؟حْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ( ... } [ المائدة : 42 ] قال : نزلت في بني قريظة وهي محكمة .
وقال آخرون : واجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه إذا تحاكموا إليه ، وزعموا أن قوله عزوجل : { وَأَنِ ا؟حْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ا؟للَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] ناسخ للتخيير في الحكم بينهم في الآية التي قبل هذه ... ) (4) ا هـ .
__________
(1) كذا في الاستذكار المطبوع .
(2) هو : عطاء بن أبي رباح ، مفتي أهل مكة ومحدثهم ، الإمام ، أبو محمد ، القرشي مولاهم ، قال أبو حنيفة : ما رأيت أفضل من عطاء ، كان أسود ، فصيحاً ، كثير العلم ، من أحسن الناس صلاة ، من أعلم الناس بالمناسك ، مناقبه كثيرة جداً - رحمه الله - مات سنة 114 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/171 - 172 .
(3) هو : إبراهيم النَّخَعي ، أبو عمران بن يزيد بن قيس بن الأسود الكوفي ، فقيه العراق ، دخل على عائشة وهو صبي ، قال الأعمش : كان إبراهيم صرفياً في الحديث ، وكان يتوقى الشهرة ، مات آخر سنة 95 هـ كهلاً - رحمه الله - . انظر : طبقات علماء الحديث 1/145 - 146 .
(4) الاستذكار 24/12 ، 13 .(1/308)
ومِمَّا قال أيضاً : ( والكلام في صفة الباري كلام يستبشعه أهل السنة ، وقد سكت عنه الأئمة ، فما أشكل علينا من مثل هذا الباب وشبهه أمررناه كما جاء ، وآمنا به ، كما نصنع بمتشابه القرآن ، ولم نناظر عليه ؛ لأن المناظرة إنَّما تسوغ وتجوز فيما تحته عمل ويصحبه قياس ، والقياس غير جائز في صفات الباري تعالى ؛ لأنه ليس كمثله شيء ) (1) ا هـ .
فهذا مجموع ما وجدته من كلام لابن عبدالبر حول موضوع المحكم والمتشابه في القرآن ، وإلى دراسته بشيء من التفصيل .
الدراسة :
يُمكن دراسة ما سبق ذكره من كلام ابن عبدالبر من خلال المبحثين التاليين :
المبحث الأول
معنى المحكم والمتشابه
يظهر للناظر المتأمل في كلام ابن عبدالبر السابق أنه استعمل المحكم بمعنيين :
أحدهما : أنه ما أجمع العلماء على تأويله ولم يختلفوا في معناه .
والثاني : أنه ما لم ينسخ من القرآن ، وعلى هذا المعنى يحمل قول من جعل المحكم هو الناسخ المعمول به .
وهو أول الأقوال التي ذكرها ابن جرير الطبري في تفسيره في معنى المحكم والمتشابه ، حيث قال : ( وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { مِنْهُ ءَايَـ!ــتٌ مُّحْكَمَـ!ــتٌ هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَأُخَرُ مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ( } [ آل عمران : 7 ] وما المحكم من آي الكتاب ، وما المتشابه منه ؟ فقال بعضهم : { المحكمات } من آي القرآن المعمول بهن ، وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام ، والمتشابهات من آيه المتروك العمل بهن ، المنسوخات ) (2) ا هـ .
__________
(1) التمهيد 19/23 ، 232 .
(2) تفسير الطبري 6/174 بتحقيق : أحمد شاكر .(1/309)
ثُمَّ ذكر أن ممن قال بهذا القول ابن عباس ، وقتادة والربيع (1) والضحاك (2) ، وروى أقوالهم في ذلك بأسانيدها (3) .
وعلى هذا المعنى يكون المتشابه من آيات القرآن هو المنسوخ الذي لايعمل به .
( وجائزٌ أن يُسمّى الناسخ محكماً لأنه ثابت الحكم ، والعرب تسمى البناء الوثيق محكماً ، فجائز أن يسمّى الناسخ محكماً إذ كانت صفته الثبات والبقاء ، ويسمّى المنسوخ متشابهاً من حيث أشبه في التلاوة المحكم ، وخالفه في ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه ، فمن هذا الوجه جائزٌ أن يسمّى المنسوخ متشابهاً ) (4) .
والمحكم والمتشابه على هذا المعنى لايحبثان في هذا الموضوع ، وإنَّما محل البحث فيهما موضوع النسخ في القرآن ، وعليه فلانطيل الوقوف مع هذا المعنى في هذا الموضوع .
__________
(1) هو : الربيع بن أنس البكري البصري ثُمَّ الخراساني ، روى عن أنس بن مالك وأبي العالية والحسن البصري ، وروى عنه : الأعمش ، ومقاتل بن حيّان ، وابن المبارك وغيرهم ، قال العجلي : بصري صدوق . وقال النسائي : ليس به بأس . وقال ابن معين : كان يتشيع فيفرط . مات سنة 139 هـ أو 140 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 1/589 ، 590 .
(2) هو : الضحاك بن مزاحم الهلالي ، أبو القاسم الخراساني المفسر ، كان من أوعية العلم ، ليس بالمجود لحديثه ، وهو صدوق في نفسه ، كثير الإرسال ، مات سنة 102 هـ . انظر : أعلام النبلاء 4/598 - 600 ، طبقات المفسرين للداودي 1/222 .
(3) انظر : تفسير الطبري 6/174 - 176 .
(4) باختصار من كتاب أحكام القرآن للجصاص 2/3 ، 4 .(1/310)
وأمَّا المعنى الأول فهو محل البحث هنا ، وهو المراد بالمحكم المشار إليه في آية سورة آل عمران ، وهي قوله تعالى : { هُوَ ا؟لَّذِي% أَنزَلَ عَلَيْكَ ا؟لْكِتَـ!ــبَ مِنْهُ ءَايَـ!ــتٌ مُّحْكَمَـ!ــتٌ هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَأُخَرُ مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ( } [ آل عمران : 7 ] فآيات الكتاب منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه كما تدل عليه هذه الآية الكريمة .
وقد اختلف العلماء في بيان معنى كل من المحكم والمتشابه الواردين في هذه الآية وتعددت أقوالهم في ذلك ، ولن أتوسع هنا بذكر تلك الأقوال ومناقشتها ، فهي مذكورة في كتب التفسير وعلوم القرآن وأصول الفقه ، وإنَّما سأقتصر على ذكر القول الذي أراه راجحاً موافقاً لسياق الآية ومعناها ، والسبب الذي نزلت من أجله .
فالقول الراجح - والله أعلم - في المراد بالمحكم المشار إليه في آية آل عمران أنه ما ظهر معناه ، وانكشف انكشافاً يرفع الاحتمال (1) .
وأمثلته في القرآن كثيرة ، ومنها قوله تعالى : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ = 3 وَلَمْ يَكُن لَّهُ , كُفُوًا أَحَدٌ = 4 } [ الإخلاص : 3 ، 4 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ ا؟للَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] ، وقوله سبحانه : { إِنَّ ا؟لأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ = 13 وَإِنَّ ا؟لْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ = 14 } [ الانفطار : 13 ، 14 ] ، وغير ذلك كثير ، فلاتكاد تفتح المصحف وتقرأ في أي صفحة منه إلاَّ وتجد للمحكم أمثلة كثيرة .
ومن العلماء من عبّر عن هذا المعنى بلفظ آخر فقال : المحكم هو الواضح المعنى الذي لايتطرق إليه إشكال (2) ، واختصر بعضهم فقال : المحكم ما وضح معناه (3) .
__________
(1) انظر : كتاب البيان في علو القرآن ص 273 .
(2) علوم القرآن الكريم للدكتور نور الدين عتر ص 122 .
(3) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/460 .(1/311)
ويوافق هذا أيضاً قول من قال : المحكم ما لايحتمل من التأويل إلاَّ وجهاً واحداً (1) .
وقريبٌ من هذه الأقوال ما اختاره النحاس بقوله بعد ذكره لأقوال العلماء في ذلك : ( وأجمع هذه الأقوال أن المحكم ما كان قائماً بنفسه ، لايحتاج إلى استدلال ) (2) .
وهذا ما رجحه ابن كثير (3) - رحمه الله - ، واختاره كل من الشيخ عبدالرحمن السعدي (4) وتلميذه الشيخ محمد بن صالح العثيمين بل لم يذكرا غيره (5) .
وبعد هذا فإنه يتبين لنا أن المحكم من القرآن هو ما كان واضح المعنى ، ليس فيه خفاء ولا إشكال ، ولاتختلف في تأويله أقوال العلماء ، بل ليس فيه إلاَّ قول واحد ، لايحتمل غيره ، وهذا هو معنى قول ابن عبدالبر : ( المحكم : المجتمع على تأويله ) وقوله : ( محكم القرآن الذي لم يختلف العلماء في تأويله ) والله أعلم .
وعلى هذا فالمتشابه هو ما احتمل أكثر من معنى ، أو ما طرأ عليه خفاء في المعنى المراد منه ، فتشعبت فيه الآراء واختلفت فيه الأقوال .
ويُمكن تعريف المتشابه - بناءً على ما ذكره ابن عبدالبر في تعريفه للمحكم - بأنه ما اختلف العلماء في تأويله ولم يتفقوا على معناه .
__________
(1) انظر : تفسير الطبري 6/177 ، وتفسير البغوي 2/8 .
(2) معاني القرآن الكريم للنحاس 1/346 ، وانظر كذلك إعراب القرآن للنحاس 1/355 .
(3) تفسير ابن كثير 1/326 .
(4) هو : عبدالرحمن بن ناصر بن عبدالله السعدي التميمي ، من علماء القصيم ، فقيه مفسر أصولي ، متأثر بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ولايخرج اختياره في الغالب عن اختيارهما ، له مؤلفات كثيرة نافعة أشهرها : تفسيره المعروف ، واشتغل بالتدريس فنفع الله به وقصده الطلاب لتلقي العلم على يديه ، مات - رحمه الله - سنة 1376 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 3/340 .
(5) انظر : تفسير السعدي 1/23 ، وأصول التفسير لابن عثيمين ص 39 .(1/312)
والسبب الذي دعاني لترجيح هذا المعنى من معاني المحكم والمتشابه المتعددة - ليكون هو المراد بالمحكم والمتشابه الواردين في آية آل عمران - هو كونه المعنى الذي يتفق مع سياق الآية ، والسبب الذي نزلت من أجله .
وبيان ذلك قد أوضحه أتم إيضاح وأوفاه الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه : أحكام القرآن ؛ حيث قال بعد أن ذكر معاني كل من المحكم والمتشابه ، وبيّن أن المعنى الراجح في معنى الآية هو أن المحكم ما لايحتمل إلاَّ معنى واحداً والمتشابه ما يحتمل معنيين - قال : ( فلما كان المحكم والمتشابه يَعْتَوِرُهما ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى : { مِنْهُ ءَايَـ!ــتٌ مُّحْكَمَـ!ــتٌ هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَأُخَرُ مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ( فَأَمَّا ا؟لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ!ـــبَهَ مِنْهُ ا؟بْتِغَآءَ ا؟لْفِتْنَةِ وَا؟بْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ÷) } [ آل عمران : 7 ] مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه ، لقوله تعالى في صفة المحكمات : { هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ } والأم هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه ، فسمّاها أُمًّا ، فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها .(1/313)
ثُمَّ أكّد ذلك بقوله : { فَأَمَّا ا؟لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ!ـــبَهَ مِنْهُ ا؟بْتِغَآءَ ا؟لْفِتْنَةِ وَا؟بْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ÷) } فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه ، وأَعْلَمَنَا أنه مبتغ للفتنة ، وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى : { وَا؟لْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ا؟لْقَتْلِ" } [ البقرة : 191 ] يعني - والله أعلم - الكفر ، فأخبر أن متبع المتشابه وحامِلَه على مخالفة المحكم في قلبه زيغ - يعني الميل عن الحق - ؛ فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني ، الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه .
ثُمَّ نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتوِرُ هذا اللفظ وتتعاقب عليه مِمَّا قدمنا ذكره في أقسام المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال اللفظ ، فوجدنا قول مَن قال بأنه الناسخ والمنسوخ ، فإنه إن كان تاريخهما معلوماً فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما وعلم يقيناً أن المنسوخ متروك الحكم ، وأن الناسخ ثابت الحكم فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير النسخ ، وإن اشتبه على السامع من حيث إنه لم يعلم التاريخ فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكماً من الآخر ، ولا بكونه متشابهاً منه ، إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخاً ويحتمل أن يكون منسوخاً ؛ فهذا لا مدخل له في قوله تعالى : { مِنْهُ ءَايَـ!ــتٌ مُّحْكَمَـ!ــتٌ هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَأُخَرُ مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ( } .
وأمَّا قول من قال : إن المحكم ما لم يتكرر لفظه ، والمتشابه ما تكرر لفظه ؛ فهذا أيضاً لا مدخل له في هذه الآية ؛ لأنه لايحتاج إلى رده إلى المحكم ، وإنَّما يحتاج إلى تدبره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه .(1/314)
وأمَّا قول من قال : إن المحكم ما عُلم وقته وتعيينه ، والمتشابه ما لايُعلم تعيين تأويله كأمر الساعة ، وغير ذلك من الأمور التي آيَسَنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا ؛ فهذا أيضاً خارج عن حكم هذه الآية لأننا لانصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم ، فلم يجب بناء أحدهما على الآخر وحمله على معناه إلاَّ الوجه الذي رجحنا ، وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني ، فيجب حمله على المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه ) (1) ا هـ .
وأمَّا موافقة ذلك المعنى الراجح لسبب نزول الآية ، فبيانه : ( أن هذه الاية من الآيات التي نزلت في شأن وفد نصارى نجران ، كما ذكر ذلك أهل التفسير والسير (2) ، وقد جاء في الروايات الواردة في ذلك أن نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في الله ؛ فكان من جدالهم أن قالوا له - محتجين على التثليث - إن الله يقول : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، فقالوا : لو كان واحداً ما قال إلاَّ فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ ، ولكنه هو وعيسى ومريم - تعالى الله عمّا يقولون - فنزلت الآيات التي في سورة آل عمران ، ومنها هذه الآية التي تبين أن سبب مصيرهم إلى هذا الاستدلال الأعوج هو ما في قلوبهم من الزيغ .
وبيان ذلك أن هذه الألفاظ التي ذكروا تستعمل في اللغة استعمالين :
أحدهما : أن تكون للجماعة .
والثاني : أن تكون للواحد الفرد ، إن عبر عن نفسه معظماً لها ، فهذه الألفاظ متشابهة ؛ لأن لها احتمالين ، أحدهما حق وهو مراد الله تعالى ، وهو أنها للواحد المعظم نفسه ، والثاني باطل غير مراد ، وهو أنها تدل على الجماعة .
__________
(1) من كتاب أحكام القرآن للجصاص 2/4 ، 5 بتصرف يسير .
(2) انظر : تفسير الطبري 6/151 ومابعدها ، وسيرة ابن هشام 2/575 .(1/315)
ومن هنا قيل لها متشابهة ؛ لأنها تشبه الحق من جهة ، والباطل من جهة أخرى { فَأَمَّا ا؟لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } فيحملونها على الوجه الباطل ليستدلوا بها على دعاواهم الباطلة وأهواءهم الفاسدة .
وأمَّا تأويلها الحق فيعلمه الله والراسخون في العلم ، فإن الراسخين في العلم يقولون : آمنا بكتاب الله كله ، ولانكفر بشيء منه ، والله تعالى قد قال في مواضع أخرى { إِنَّمَا ا؟للَّهُ إِلَـ!ـهٌ وَ !حِدٌ( } [ النساء : 171 ] وقال : { لاَ إِلَـ!ـهَ إِلاَّ هُوَ } [ الحشر : 22 ، 23 ] وقال : { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } [ الإخلاص : 1 ] وقال في نفس السورة التي نزلت فيها هذه الآية : { وَمَا مِنْ إِلَـ!ـهٍ إِلاَّ ا؟للَّهُ" وَإِنَّ ا؟للَّهَ لَهُوَ ا؟لْعَزِيزُ ا؟لْحَكِيمُ } [ آل عمران : 62 ] .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي هي صريحة غير محتملة إلاَّ لوجه واحد هو الحق ، وهي الآيات المحكمة التي تدل على أن الله واحد غير متعدد ، فيقول الراسخون : لما كان المتشابه آتياً من الله ، والمحكم كذلك من الله { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } فلايُمكن أن يختلف ، فنرد المتشابه إلى المحكم ، أي نفسّر المتشابه بالمحكم ، فنرد الوجه الباطل وإن احتملته اللغة ونثبت الوجه الآخر الحق ، وبذلك يكون المحكم { أم الكتاب } لأن المتشابه يعود ويرجع إليه كما يرجع الطفل إلى أمه ) (1) .
وإذا تبين هذا واتضح فإنه يجدر التنبيه على أمرين :
الأمر الأول : للإحكام في القرآن ثلاثة معان (2) :
__________
(1) ما بين القوسين مستفاد من كتاب الواضح في أصول الفقه ، للدكتور محمد سليمان الأشقر بتصرف كثير ص 70 - 71 .
(2) انظر : بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية 3/218 ، 219 ، وانظر : تفصيل هذه المعاني الثلاثة في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/273 ، 274 .(1/316)
أحدها : الإحكام العام لجميع آيات القرآن ، وهو المراد بقوله تعالى : { كِتَـ!ــبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـ!ــتُهُ , ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ = 4 } [ الزخرف : 4 ] .
( ومعنى هذا الإحكام : الإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه ، فهو في غاية الفصاحة والبلاغة ، أخباره كلها صدق نافعة ، ليس فيها كذب ولا تناقض ولا لغو لا خير فيه ، وأحكامه كلها عدل وحكمة ليس فيها جور ولا تعارض ولا حكم سفيه ) (1) .
ومن هذا الإحكام ماجاء في قوله تعالى : { فَيَنسَخُ ا؟للَّهُ مَا يُلْقِي ا؟لشَّيْطَـ!ـنُ ثُمَّ يُحْكِمُ ا؟للَّهُ ءَايَـ!ـــتِهِ÷) } [ الحج : 53 ] فهذا الإحكام يعم جميع آيات الكتاب ، وهو إثباتها وتقريرها وبيانها مثل قوله تعالى : { كِتَـ!ــبٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـ!ــتُهُ , } (2) [ هود : 1 ] .
والثاني : إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة ، كما يقول السلف كثيراً ، هذه الآية محكمة غير منسوخة ، فمعنى المحكم هنا : الآيات الناسخة أو الآيات التي لم تنسخ .
والمعنى الثالث : الإحكام الذي في مقابلة المتشابه ، الوارد في قوله تعالى : { مِنْهُ ءَايَـ!ــتٌ مُّحْكَمَـ!ــتٌ هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَأُخَرُ مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ( } [ آل عمران : 7 ] .
والقول الراجح في المراد بهذا الإحكام أنه وضوح المعنى وظهوره واتفاق العلماء عليه لعدم تطرق الإشكال إليه .
__________
(1) أصول في التفسير للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 38 .
(2) انظر : بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية 3/218 ، وشفاء الغليل لابن القيم 2/95 .(1/317)
الأمر الثاني : ما استأثر الله بعلمه ليس هو المتشابه الذي تدل عليه آية آل عمران مع اتفاق السلف على أن في القرآن ما لايعلم تأويله إلاَّ الله ، كالروح ووقت الساعة والآجال ، وهذا قد يسمى بالمتشابه (1) ؛ ولكنه ليس المتشابه الذي جاء ذكره في آية سورة آل عمران ، وهي قوله تعالى : { مِنْهُ ءَايَـ!ــتٌ مُّحْكَمَـ!ــتٌ هُنَّ أُمُّ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَأُخَرُ مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ(} لأن { مُتَشَـ!ــبِهَـ!ـتٌ( } هنا جاءت وصفاً لآياتٍ من الكتاب منزلةٍ على النبي صلى الله عليه وسلم وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة وحقيقة الروح ووقت الآجال ونزول الغيث لم ينزل الله به خطاباً ، وليس في القرآن آية دلت عليه ، ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها (2) .
قال صاحب التحرير والتنوير (3) عند تفسيره لهذه الآية : ( وليس من المتشابه ما صُرِّح فيه بأنا لانصل إلى علمه كقوله : { قُلِ ا؟لرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] ولا ما صُرِّح فيه بجهل وقته كقوله : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) } [ الأعراف : 187 ] ) (4) .
* * *
المبحث الثاني
طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه
__________
(1) انظر : معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 111 .
(2) انظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 17/397 ، 398 .
(3) هو : الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، رئيس المفتين المالكيين بتونس ، وشيخ جامع الزيتونة وفروعه ، وُلد ودرس ومات بها ، له مصنفات مطبوعة ، من أشهرها : ( مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ) و ( التحرير والتنوير في تفسير القرآن ) مات سنة 1393 هـ . انظر : الأعلام 6/174 .
(4) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 3/16 .(1/318)
( الواجب على كل أحد أن يعمل بما استبان له ، وأن يؤمن بما اشتبه عليه ، وأن يرد المتشابه إلى المحكم ، ويأخذ من المحكم ما يفسّر له المتشابه ويبينه ، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم ، وتوافق النصوص بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً ، فإنها كلها من عند الله ، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض ، وإنَّما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ا؟لْقُرْءَانَ" وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ا؟للَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ا؟خْتِلَـ!ـــفًا كَثِيرًا = 82 } [ النساء : 82 ] .
هذه طريقة الصحابة والتابعين في التعامل مع المحكم والمتشابه ) (1) .
ولابد هنا من التنبيه على أمرين مهمين يتعلقان بهذا المبحث وهما :
الأمر الأول : أن المتشابه له معنى يفهم منه ، ولكنه غير واضح ؛ ولذلك اختلف العلماء في بيان معناه وتحديد المراد منه ؛ فمن ردّ ما اشتبه ولم يتضح إلى الواضح المحكم فقد اهتدى ورسخ في العلم ، ومن عكس فقد انعكس (2) .
وعلى هذا فلايجوز أن يُقال : إن الله أنزل كلاماً لا معنى له ، ولايجوز أن يُقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لايعلمون بعض الآيات كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين ، فهذا القول يجب القطع بأنه خطأ (3) .
قال ابن قتيبة (4)
__________
(1) من كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد بن حسين الجيزاني ص 110 ، بتصرف يسير جداً ، وانظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 17/386 .
(2) انظر : تفسير ابن كثير 1/326 .
(3) انظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 17/390 ومابعدها ، فقد أسهب - رحمه الله - في بيان هذه المسألة وتقريرها .
(4) هو : عبدالله بن مسلم بن قُتيبة الدينوري ، النحوي اللغوي الكاتب ، نزيل بغداد ، قال الخطيب : كان رأساً في العربيَّة واللغة والأخبار وأيام الناس ، ثقة ديناً فاضلاً ، له مصنفات كثيرة رائعة ، منها : = =
= = ( تأويل مشكل القرآن ) و ( تأويل مختلف الحديث ) و ( غريب الحديث ) وغيرها كثير ، مات سنة 276 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 13/296 - 302 ، وطبقات المفسرين للداودي 1/251 .(1/319)
في كتابه { تأويل مشكل القرآن } : ( ولسنا ممن يزعم أن المتشابه لايعلمه الراسخون في العلم ، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى ، ولم ينزل الله شيئاً من القرآن إلاَّ لينتفع به عباده ويدل به على معنى أراده .
فلو كان المتشابه لايعلمه غيره لَلَزِمَنَا للطاعن مقال ، وتعلق علينا بعلة .
وهل يجوز لأحد أن يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه ؟ ! ، وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ,% إِلاَّ ا؟للَّهُ) } جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته ؛ فقد علّم علياً التفسير ، ودعا لابن عباس فقال : { اللهم علمه التأويل ، وفقهه في الدين } (1) .
ولولم يكن للراسخين في العلم حظ في المتشابه إلاَّ أن يقولوا : { ءَامَنَّا بِهِ÷ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) } لم يكن للراسخين فضلٌ على المتعلمين ، بل على جهلة المسلمين ؛ لأنهم جميعاً يقولون : { ءَامَنَّا بِهِ÷ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) } .
وبعد : فإنا لم نَرَ المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا : هذا متشابه لايعلمه إلاَّ الله ، بل أمروه كله على التفسير ، حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور ، مثل { الـ%%ـر } و { حم% } و { طه } وأشباه ذلك ) (2) ا هـ .
فإن قال قائل : كيف تقولون هذا ، والله سبحانه وتعالى يقول في سياق الحديث عن المتشابه من القرآن : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ,% إِلاَّ ا؟للَّهُ) وَا؟لرَّ !سِخُونَ فِي ا؟لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ÷ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) } ؟ .
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد في المسند 1/264 ، 314 ، 328 ، 335 ، ورواه البخاري بلفظ : { اللهم علمه التأويل ، وفقهه في الدين } في كتاب الوضوء ، باب : وضع الماء عند الخلاء 1/66 رقم [143] وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة رقم [2477] .
(2) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 98 - 100 .(1/320)
قلنا له : في هذه الآية قراءتان متواترتان ، وهما :
1 - قراءة الوقف على لفظ الجلالة { الله } في قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ,% إِلاَّ ا؟للَّهُ) } ثُمَّ استئناف القراءة بـ { وَا؟لرَّ !سِخُونَ فِي ا؟لْعِلْمِ ... } ، وهي قراءة نافع (1) والكسائي (2) ويعقوب (3) ، فالواو للاستئناف و { وَا؟لرَّ !سِخُونَ } مبتدأ و { يَقُولُونَ } خبر .
__________
(1) هو : نافع بن عبدالرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم ، أبو رُوَيم ، المقرئ ، المدني ، أحد القراء السبعة ، قال مالك : نافع إمام الناس في القراءة ، توفي سنة 169 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار للذهبي 1/107 - 111 .
(2) هو : علي بن حمزة الكسائي ، الإمام أبو الحسن الأسدي مولاهم الكوفي المقرئ النحوي ، أحد الأعلام وأحد القراء السبعة ، كان بحراً في العربيَّة والنحو والقراءات ، مات سنة 189 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/120 - 128 .
(3) هو : يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قارئ أهل البصرة في عصره ، كان عالماً بالعربيَّة ووجوهها ، والقرآن واختلافه ، فاضلاً تقياً نقيًّا ، كان أقرأ أهل زمانه . انظر : معرفة القراء الكبار 1/157 - 158 .(1/321)
2 - قراءة الوصل ، فالواو للعطف و { وَا؟لرَّ !سِخُونَ } معطوف على لفظ الجلالة { الله } و { يَقُولُونَ } حال من { الراسخون } ، وهي قراءة ابن كثير (1) ، وأبي عمرو بن العلاء (2) ، وعبدالله بن عامر (3) ، وعاصم (4) ، وحمزة (5) ،
__________
(1) هو : عبدالله بن كثير بن المطلب ، الإمام أبو معبد المكي ، إمام المكيين في القراءة ، أحد القراء السبعة تصدّر للإقراء وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن ، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وغيره ، مات سنة 120 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/86 - 88 .
(2) هو : أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري الإمام ، مقرئ أهل البصرة ، اسمه زبّان على الأصح ، كان من أعلم الناس بالقرآن والعربيَّة وأيام العرب والشعر وأيام الناس ، وهو أحد القراء السبعة ، مات سنة 154 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/100 - 105 .
(3) هو : عبدالله بن عامر اليحصبي ، إمام أهل الشام في القراءة ، أبو عمران على الأصح ، أحد القراء السبعة ، أخذ القراءة عرضاً على أبي الدرداء ، ولي قضاء دمشق ، مات سنة 118 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/82 - 86 .
(4) هو : عاصم بن أبي النجود الأسدي مولاهم ، الكوفي ، القارئ ، الإمام أبو بكر ، أحد القراء السبعة ، وهو معدود في التابعين ، وإليه انتهت الإمامة في القراءة بالكوفة ، توفي سنة 127 هـ أو 128 هـ ، معرفة القراء الكبار 1/88 - 118 .
(5) هو : حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل ، أبو عمارة ، الكوفي ، الزيات ، أحد القراء السبعة ، كان إماماً حجة حافظاً للحديث ، بصيراً بالفرائض والعربيَّة ، عابداً خاشعاً ، عديم النظير ، مات سنة 156 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/111 - 118 ..(1/322)
وأبي جعفر (1) ، وخلف (2) ، فالقراءتان متواترتان (3) .
وعلى كلتا القراءتين فإن الآية لاتعارض ما تقرر من كون المتشابه له معنى يفهم منه يعلمه الراسخون في العلم .
وبيان ذلك أن للتأويل عند السلف معنيين :
أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول إليه أمره ، ومنه قوله تعالى : { وَقَالَ يَـ!ـ%ـ%ـأَبَتِ هَـ!ـــذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـ!ــي مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ," يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ , } [ الأعراف : 53 ] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد .
والثاني : التأويل بمعنى التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله تعالى : { نَبِّـ[ــ:ــــْنَا بِتَأْوِيلِهِ÷( } [ يوسف : 36 ] أي تفسيره (4) .
فإن أريد بالتأويل المعنى الأول ، فالوقف على لفظ الجلالة ؛ لأن حقائق الأمور وكنهها ، وما تؤول إليه لايعلمه على الجلية إلاَّ الله عزوجل ، ويكون قوله : { وَا؟لرَّ !سِخُونَ فِي ا؟لْعِلْمِ } مبتدأ و { يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ÷ } خبره .
__________
(1) هو : يزيد بن القعقاع ، أبو جعفر ، القارئ ، أحد العشرة ، مدني مشهور ، رفيع الذكر ، قرأ على أبي هريرة وابن عباس ، تصدى للإقراء دهراً ، وقرأ عليه نافع المدني ، مات سنة 127 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/72 - 76 .
(2) هو : خلف بن هشام بن ثعلب ، أبو محمد ، البغدادي ، المقرئ ، أحد الأعلام ، وله اختيار أقرأ به ، وخالف فيه حمزة ، كان عابداً فاضلاً ، توفي سنة 229 هـ . انظر : معرفة القراء الكبار 1/208 - 210 .
(3) القطع والائتناف للإمام النحاس 1/125 بتحقيق د . عبدالرحمن المطرودي نقلاً عن كتاب المحقق المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ص 17 .
(4) انظر : تفسير ابن كثير 1/328 ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/288 ، 289 .(1/323)
وأمَّا إن أريد بالتأويل المعنى الثاني فالوقف على { وَا؟لرَّ !سِخُونَ فِي ا؟لْعِلْمِ } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه .
وعلى هذا فيكون قوله : { يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ÷ } حال منهم ، وجائزٌ في اللغة أن يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه ، ومن ذلك قوله تعالى : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَا؟لْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا = 22 } [ الفجر : 22 ] ، فالحال هنا من المعطوف دون المعطوف عليه (1) .
__________
(1) انظر : تفسير ابن كثير 1/328 .
... وقد استشكل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الحالية هنا فقال : ( المعروف في اللغة العربيَّة أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها ، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو { يعلم } بهذه الحال التي هي { يقولون آمنا } ؛ إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم : آمنا به ؛ لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا به لايعلمون تأويله وهو باطل ، وهذا الإشكال قوي ، وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف ) .
... ثُمَّ قال : ( إذا كانت جملة يقولون : لايصح أن تكون حالاً لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة ؟ .
... الجواب - والله تعالى أعلم - أنها معطوف بحرف محذوف ، والعطف بالحرف المحذوف أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربيَّة ، والتحقيق جوازه ، وأنه ليس مختصاً بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربيَّة ، والدليل على جوازه وقوعه في القرآن وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ = 8 } [ الغاشية : 8 ] فإنه معطوف بلاشك على قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ = 2 } [ الغاشية : 2 ] بالحرف المحذوف الذي هو الواو ... ) إلخ كلامه رحمه الله ، فيكون التقدير : والراسخون في العلم ويقولون آمنا به . أضواء البيان 1/239 .(1/324)
وإذا اتضح هذا الأمر وتقرر ، فإنه يتفرع عنه أمرٌ آخر وهو الأمر الثاني الذي أردت التنبيه عليه وإيضاحه وهو : أن صفات الله - عزوجل - تكون من المتشابه باعتبار كيفياتها وليست من المتشابه باعتبار معانيها (1) .
والذي دفعني للتنبيه على هذا الأمر هو أهميته في فهم كلام ابن عبدالبر الذي سبق ذكره ، وهو قوله : ( الكلام في صفة الباري كلام يستبشعه أهل السنة ، وقد سكت عنه الأئمة ، فما أشكل علينا من مثل هذا الباب وشبهه أمررناه كما جاء ، وآمنا به ، كما نصنع بمتشابه القرآن ، ولم نناظر عليه ، لأن المناظرة إنَّما تسوغ وتجوز فيما تحته عمل ، ويصحبه قياس ، والقياس غير جائز في صفات الباري تعالى ، لأنه ليس كمثله شيء ) (2) ا هـ .
فكلامه هذا يحمل على الكلام في صفات الباري من حيث الكيفية والحقيقة ، لا من حيث بيان المعنى المفهوم منها ؛ لأنه - رحمه الله - قد بيّن في مواضع أخرى معاني بعض الصفات .
ومن ذلك مثلاً : أنه لما تكلم عن صفة الاستواء على العرش الثابتة لله عزوجل ، وبيّن مذهب السلف الصالح فيها ورد على المخالفين قال : ( والاستواء معلوم في اللغة مفهوم ، وهو العلو والارتفاع على الشيء ، والاستقرار والتمكن فيه .
قال أبو عبيدة (3) في قوله تعالى : { ا؟سْتَوَى } قال : علا ، قال : وتقول العرب : استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت .
وقال غيره : استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد .
__________
(1) انظر : كتاب معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد الجيزاني ص 112 .
(2) التمهيد 19/231 ، 232 .
(3) هو : أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري اللغوي العلامة الأخبار ، صاحب التصانيف ، روى عن هشام ابن عروة وأبي عمرو بن العلاء ، وكان أحد أوعية العلم ، مات سنة 210 هـ وقيل : 211 هـ . انظر : العبر في خبر من غبر للذهبي 1/282 ، وتهذيب التهذيب 4/126 ، 127 ، وانظر قوله هذا في كتابه مجاز القرآن 2/15 .(1/325)
قال أبو عمر : الاستواء : الاستقرار في العلو ، وبهذا خاطبنا الله عزوجل وقال : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ÷ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ا؟سْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } [ الزخرف : 13 ] وقال : { وَا؟سْتَوَتْ عَلَى ا؟لْجُودِيِّ( } [ هود : 44 ] وقال : { فَإِذَا ا؟سْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ا؟لْفُلْكِ } (1) [ المؤمنون : 28 ] ا هـ .
فهو هنا قد بيّن معنى الاستواء ، وفهم المراد منه حسب ماجاء في اللغة وما نطق به القرآن .
وهكذا الراسخون في العلم ، يفهمون معنى صفات الله ويفسرونها ويعرفون معنى اليد ، والوجه ، والاستواء ، والعلو ، ويصفون الله بها ، كما أخبر في كتابه أو كما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم عاجزون عن تأويلها وتحديدها ، أي : عاجزون عن بيان حقيقة اتصاف الله بها ، وتحديد كيفية وجودها عند الله سبحانه ، ولهذا لايخوضون في تحديد كيفية استواء الله على عرشه وكيفية علوه على خلقه ، وكيفية يده ووجهه ونفسه ومعيته سبحانه (2) .
فمذهبهم في ذلك هو كما قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة ، والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلاَّ أنهم لايكيفيون شيئاً من ذلك ، ولايحدون فيه صفة محصورة ) (3) .
ولهذا قلنا : إنه يقصد بقوله : ( والكلام في صفة الباري كلام يستبشعه أهل السنة ) الكلام عن الكيفية ، وتحديد صورة اتصافه بهذه الصفات المثبتة المعلومة المعنى .
__________
(1) التمهيد 7/145 .
(2) انظر : كتاب التفسير والتأويل في القرآن للدكتور صلاح الخالدي ص 122 - 124 ، وانظر : مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/306 ومابعدها .
(3) التمهيد 7/145 .(1/326)
وقوله - رحمه الله - : ( فما أشكل علينا من مثل هذا الباب وشبهه أمررناه كما جاء ، وآمنا به ، كما نصنع بمتشابه القرآن ) لايقصد به المتشابه الذي فيه اختلاف لعدم وضوح معناه ويُمكن معرفته برده إلى المحكم من القرآن ، وإنَّما يقصد به المتشابه الذي لا سبيل إلى معرفته والوصول إلى حقيقته ؛ لأن المتشابه على ضربين :
أحدهما : إذا رُدّ إلى المحكم عُرف معناه .
والآخر : ما لا سبيل إلى معرفة حقيقته (1) .
فالأول هو الذي سبق الكلام عليه في المبحث الأول ، وأنه المراد بالمتشابه الذي ذكر في آية سورة آل عمران .
وأمَّا الآخر فهو إطلاق أطلقه بعض العلماء على ما لايعلمه أحد من الناس ، وإنَّما يعلمه الله وحده ، فيكون المراد بالمتشابه على هذا معرفة حقائق بعض الأمور لا تفسير ألفاظها ، فليست آيات صفات الله تعالى متشابهة من حيث فهم معانيها ، بل معانيها مفهومة حقاً ، ولكنها متشابهه من حيث حقائقها ، فإن حقائقها لايعلمها إلاَّ الله وحده (2) .
ومن جنس ذلك أيضاً حقائق ما ذكره الله مِمَّا في الآخرة من النعيم والعذاب ، قال تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ = 17 } [ السجدة : 17 ] .
ويوضح ذلك أننا نجهل حقائق كثير من الأشياء التي نتحدث عنها في هذه الدار الدنيا ، ونرى ونسمع آثارها كالنوم والروح والكهرباء وغير ذلك ، لكن إن ذكرت هذه الألفاظ فهمنا تفسيرها ، ولايعني جهلنا لحقيقة الشيء أننا نجهل تفسيره ، فمعنى اللفظ مفهوم ، وحقيقة المسمى به مبهمة (3) .
__________
(1) انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/442 .
(2) انظر : تفصيل هذه المسألة في مجموع الفتاوى لابن تيمية 13/294 ومابعدها .
(3) انظر : كتاب الواضح في أصول الفقه للدكتور محمد سليمان الأشقر ص 72 ، 73 .(1/327)
وقد أطلنا في تقرير ما سبق ردّاً لما يزعمه بعض الناس من أن { تأويل } المتشابه الذي في القرآن الذي لايعلمه أحد من الناس هو تفسير الألفاظ ، ثُمَّ قالوا إن مذهب السلف في هذا المتشابه هو أنه لايعلمه إلاَّ الله وسمّوا هذا المذهب مذهب المفوّضة (1) ، وجعلوا من المتشابه بهذا المعنى صفات الله ، وهذا زعم باطل ، وهو خطأ وضلال ؛ فإن باب الأسماء والصفات باب محكم واضح ، وكيف يكون مشتبهاً وهو أفضل العلوم المتعلقة بعلاّم الغيوب ، بل أساس الدين معرفة الله بأسمائه وصفاته (2) ، فكيف تكون مجهولة المعنى مشتبهة على السامعين ؟ ! .
نسأل الله - عزوجل - أن يعصمنا بالإيمان من الوقوع في الزلل والزيغ { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً " إِنَّكَ أَنتَ ا؟لْوَهَّابُ = 8 } [ آل عمران : 8 ] .
الموضوع السادس
آداب القرآن
وتحته تمهيد وثلاثة مباحث :
المبحث الأول : آداب متعلقة بالقرآن الكريم
المبحث الثاني : طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه
المبحث الثالث : آداب متعلقة بقراءة القرآن
تمهيد :
الآداب : جمع أدب ( والأدب هو ما يتأدب به الأديبُ من الناس ، سمي أدَباً لأنه يأدِب الناس الذين يتعلمونه إلى المحامد وينهاهم عن المقابح ، ويَأْدِبهم أي يدعوهم ) (3) .
__________
(1) هذا ما ذهب إليه وادّعاه الزرقاني في مناهله 2/306 ، 307 ، وانظر الرد عليه في كتاب القول الرشيد في حقيقة التوحيد لسليمان العلوان ص 50 - 53 .
(2) انظر لمعرفة ذلك ما كتبه وقرره العلاّمة ابن قيم الجوزية في كتابه ( الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة ) 1/157 ومابعدها ، 1/203 .
(3) تهذيب اللغة للأزهري 14/209 بتصرف يسير جداً .(1/328)
والمراد بآداب القرآن هنا : الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلم مع القرآن الكريم سواءً كانت هذه الآداب واجبة أم مستحبة ، كما تقول : آداب الطريق ، وآداب المساجد وآداب السوق ونحو ذلك .
وقد أشار ابن عبدالبر - رحمه الله - في مواضع متعددة من كتبه إلى كثير من هذه الآداب ، وفصَّل القول في بعضها .
وبعد جمع ما وجدته له من أقوال متعلقة بهذا الموضوع رأيت أن من المناسب أن أقوم بدراسته تحت ثلاثة مباحث ، وهي :
المبحث الأول : آداب متعلقة بالقرآن الكريم .
المبحث الثاني : آداب متعلقة بالمصاحف .
المبحث الثالث : آداب متعلقة بقراءة القرآن .
حيث إن أقواله في هذا الموضوع لاتخرج عن هذه المحاور الثلاثة ، وسوف أذكر في كل مبحث ما ذكره ابن عبدالبر مِمَّا يتعلق به ، ثُمَّ أقوم بدراسته وبيان ما اشتمل عليه من مسائل وأحكام ، والله المستعان .
* * *
المبحث الأول
آداب متعلقة بالقرآن الكريم
المقصود بهذا المبحث ذكر الآداب التي لابُدّ من التأدب بها مع القرآن الكريم باعتباره كلام الله تعالى .
ويُمكن تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين :
الأول : الإيمان بالقرآن الكريم .
الثاني : تحريم المراء في القرآن الكريم .
المطلب الأول
الإيمان بالقرآن الكريم
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - وهو يذكر العلوم التي فرض الله على كل مسلم العلم بها : ( ... وأن القرآن كلام الله ، وما فيه حق من عند الله يلزم الإيمان بجميعه ، واستعمال محكمه ) (1) ا هـ .
وقال - رحمه الله - في موضع آخر : ( ... والقرآن عندنا صفة من صفات الله وهو كلام الله ... ) (2) ا هـ .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1/57 ، 58 .
(2) التمهيد 7/261 .(1/329)
وعند شرحه لحديث : { أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق } (1) قال - وهو يستنبط الفوائد من هذا الحديث : ( وفي هذا الحديث من الفقه أيضاً : أن كلام الله عزوجل غير مخلوق ، وعلى ذلك أهل السنة أجمعون - وهم أهل الحديث والرأي في الأحكام - ولو كان كلام الله أو كلمات الله مخلوقة ، ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً أن يستعيذ بمخلوق ) (2) ا هـ .
وقال في موضع آخر : ( وفي الاستعاذة بكلمات الله أبين دليل على أن كلام الله منه تبارك اسمه وصفة من صفاته ليس بمخلوق ، لأنه محال أن يستعاذ بمخلوق ، وعلى هذا جماعة أصل السنة والحمد لله ... .
عن عمرو بن دينار ، قال : أدركتُ الناس منذ سبعين سنة - وكان قد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن دونهم - يقولون : الله - عزوجل - الخالق وما سواه مخلوق إلاَّ القرآن ، فإنه كلام الله منه خرج وإليه يعود (3) ) (4) ا هـ .
الدراسة :
القرآن الكريم هو آخر كتب الله التي أنزلها على رسله ، وهو الكتاب الذي أنزله الله على أفضل رسله محمد بن عبدالله - عليه الصلاة والسلام - .
ومن المعلوم الذي يلزم كل مسلم العلم به ولايُعذر أحدٌ بجهله أن الإيمان بكتب الله المنزلة هو أحد أركان الإيمان التي يجب على كل مسلم أن يؤمن بها .
__________
(1) أخرجه مسلم من حديث خولة بنت حكيم في كتاب الذكر ، باب : في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره رقم [2708] ص 1086 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) التمهيد 21/241 .
(3) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ، باب : ما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين رضي الله عنهم في أن القرآن كلام الله غير مخلوق رقم [532] 1/598 وقال محققه عبدالله الحاشدي : إسناده صحيح .
(4) التمهيد 24/186 .(1/330)
فالإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ، هذه هي أركان الإيمان التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في حديث جبريل المشهور (1) .
( ومعنى الإيمان بالكتب : التصديق الجازم بأن كلها منزل من عند الله عزوجل على رسله إلى عباده بالحق المبين والهدي المستبين ، وأنها كلام الله عزوجل لا كلام غيره ، وأن الله تعالى تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد ...
ويعني كذلك الإيمان بكل ما فيها من الشرائع ، وأنه كان واجباً على الأمم الذين نزلت إليهم الصحف الأولى الانقيادُ لها والحكم بما فيها ...
وأن جميعها يصدق بعضها بعضاً لايكذبه كما قال تعالى في الإنجيل : { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا؟لتَّوْرَ]ـ!ـةِ( } [ المائدة : 46 ] ، وقال في القرآن : { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا؟لْكِتَـ!ــبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ( } [ المائدة : 48 ] ) (2) .
وقد بيّن ابن عبدالبر في كلامه السابق عقيدته في القرآن الكريم ، وأنه كلام الله وصفة من صفاته ، وأن ما فيه حق يجب على كل مسلم الإيمان بجميعه ، واستعمال محكمه .
فهذه أمور أربعة لابد منها حتى يكون المسلم مؤمناً بالقرآن الكريم حقاً ، وهي :
الأمر الأول : أنه كلام الله وصفة من صفاته :
وهذا هو القول الحق الذي ليس بعده إلاَّ الضلال ، ( فالقرآن جميعه - حروفه ومعانيه - كلام الله منزلٌ غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ، ليس ذلك مخلوقاً منفصلاً عنه ، وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وأنه لم يزل متكلماً متى شاء ، وأنه يتكلم بحرف وصوت ، وكلامه قائم بذاته ) (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص 118 .
(2) من معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي 2/672 - 673 بتصرف .
(3) عقيدة الإمام ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان لسليمان الغصن ص 377 بتصرف يسير .(1/331)
قال الإمام الطحاوي - عليه رحمة ربنا الباري - : ( وإن القرآنَ كلام الله ، منه بَدَا بلا كيفية قولاً ، وأنزله على رسوله وحياً ، وصَدَّقهُ المؤمنون على ذلك حقاً ، وأَيْقَنُوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ، ليس بمخلوق ككلام البرية ، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر ، وقد ذمّه الله وعابه وأوعده سَقَر ، حيث قال تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ = 26 } [ المدثر : 26 ] فلما أوعد الله بسقر لمن قال : { إِنْ هَـ!ـــذَآ إِلاَّ قَوْلُ ا؟لْبَشَرِ = 25 } [ المدثر : 25 ] عَلِمْنَا وأيقنّا أنه قول خالق البَشَر ، ولايشبه قول البشر ) (1) ا هـ .
فالقرآن كلام الله ، كما قال الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ا؟لْمُشْرِكِينَ ا؟سْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ ا؟للَّهِ } [ التوبة : 6 ] .
قال الحافظ ابن قيم الجوزية - عليه رحمة رب البريّة - :
... ... ... وكذلك القرآن عَيْنُ كلامه الـ
... ... ... ... ... ... ... مسموعُ منه حقيقة ببيانِ
... ... ... هو قولُ ربِّي كُلُّهُ لا بعضُه
... ... ... ... ... ... ... لفظاً ومعنى ما هما خَلْقانِ
... ... ... تنزيلُ رَبِّ العالمين ووَحْيه
... ... ... ... ... ... ... اللفظ والمعنى بلا روغانِ (2)
__________
(1) العقيدة الطحاوية للإمام الطحاوي ص 21 .
(2) القصيدة النونية لابن القيم 1/113 شرح الهراس .(1/332)
ورغم وضوح هذا وظهوره لكل ذي عينين فقد ضلّ كثير من المبتدعة عن الحق في هذه المسألة ، واختلفوا فيها وتعددت أقوالهم (1) ، وحصلت فتن ومحن بسبب هذا الاختلاف ، وما ذاك إلاَّ لابتعاد الناس عن المعين الصافي والمصدر الكافي - الذي لايضل من تمسك به - وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعلقهم بالشبه والبدع الكلامية التي أوقعتهم في أودية سحيقة ومهاوٍ مخيفة ، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ا؟تَّبَعَ هَوَ]ـ!ـهُ بِغَيْرِ هُدًي مِّنَ ا؟للَّهِ إِنَّ ا؟للَّهَ لاَ يَهْدِي ا؟لْقَوْمَ ا؟لظَّـ!ــلِمِينَ } [ القصص : 50 ] (2) .
الأمر الثاني : أن ما في القرآن حق :
القرآن الكريم حق ، وما فيه حق ؛ لأنه من الله الحق - سبحانه وتعالى - قال تعالى : { وَبِا؟لْحَقِّ أَنزَلْنَـ!ــهُ وَبِا؟لْحَقِّ نَزَلَ) وَمَآ أَرْسَلْنَـ!ــكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا = 105 } [ الإسراء : 105 ] ( بيّن جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أنزل هذا القرآن بالحق ، أي متلبساً به متضمناً له ، فكل ما فيه حق ، فأخباره صدق ، وأحكامه عدل كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] وكيف لا ؟! وقد أنزله جل وعلا بعلمه ؛ كما قال تعالى : { لَّـ!ــكِنِ ا؟للَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ( أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ÷( } الآية [ النساء : 166 ] ) (3) .
__________
(1) انظر : هذه الأقوال في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 1/172 - 174 .
(2) للتوسع في معرفة عقيدة السلف في القرآن يُنظر الكتاب النافع المحرّر المجوّد : العقيدة السلفية في كلام رب البرية لعبدالله بن يوسف الجديع .
(3) أضواء البيان للشنقيطي 3/575 .(1/333)
وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على أن القرآن حق ، وما فيه حق ، وأنه جاء بالحق ، ومن ذلك قوله تعالى : { ذَ ! لِكَ بِأَنَّ ا؟للَّهَ نَزَّلَ ا؟لْكِتَـ!ــبَ بِا؟لْحَقِّ) ... } الآية [ البقرة : 176 ] ، وقوله تعالى : { يَـ!ـــ%ــأَيُّهَا ا؟لنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ا؟لرَّسُولُ بِا؟لْحَقِّ مِنَ رَبِّكُمْ ... } [ النساء : 170 ] ، وقوله : { وَا؟لَّذِينَ ءَاتَيْنَـ!ــهُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ , مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِا؟لْحَقِّ( ... } [ الأنعام : 114 ] ، وقوله تعالى : { تِلْكَ ءَايَـ!ــتُ ا؟لْكِتَـ!ــبِ) وَا؟لَّذِي% أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ا؟لْحَقُّ وَلَـ!ــكِنَّ أَكْثَرَ ا؟لنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الرعد : 1 ] ، وقوله سبحانه : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ا؟لْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى" ... } الآية [ القصص : 48 ] ، وقوله سبحانه : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ÷% إِنَّهُ ا؟لْحَقُّ مِن رَبِّنَآ ... } الآية [ القصص : 53 ] ، وقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ ا؟فْتَرَ]ـ!ــهُ" بَلْ هُوَ ا؟لْحَقُّ مِن رَبِّكَ ... } الآية [ السجدة : 3 ] وغير ذلك كثير .
( والحق : الأمر الثابت ضد الباطل ، والحق الواقع الثابت الذي لا خلاف فيه ، قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ا؟للَّهِ حَقٌّ } [ يونس : 55 ] أي ثابت لازم لابد أن يقع ولا خلاف فيه .
والحق : من أسماء الله الحسنى ، والحق : القرآن ، والحق : العدل والصدق والحكمة والبعث وكمال الأمر ) (1) .
__________
(1) القاموس القويم للقرآن الكريم للأستاذ إبراهيم أحمد عبدالفتاح 1/164 بتصرف .(1/334)
وإذا تقرر ذلك علمنا أن كل ما في القرآن حق وصدق ، فلا كذب فيه ولا خيال (1) فأخباره حق وصدق ، وقصصه حق وصدق { إِنَّ هَـ!ـــذَا لَهُوَ ا؟لْقَصَصُ ا؟لْحَقُّ" } [ آل عمران : 62 ] { نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِا؟لْحَقِّ" } [ الكهف : 13 ] .
ويؤخذ من هذا أيضاً أنه ينبغي حمل كلام الله عزوجل على الحقيقة ؛ لأنه لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلاَّ على ذلك .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( وحمل كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة أولى بذوي الدين والحق ، لأنه يقص الحق ، وقوله الحق تبارك وتعالى علواً كبيراً ) (2) .
وقد سبق بيان ذلك في موضوع : الحقيقة والمجاز في القرآن .
الأمر الثالث : أنه يجب على كل مسلم الإيمان بجميع ما في القرآن :
قال تعالى : { وَا؟لرَّ !سِخُونَ فِي ا؟لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ÷ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا ا؟لأَلْبَـ!ــبِ } [ آل عمران : 7 ] ، فلابد من الإيمان بكل ما في القرآن ، وتصديق كل ماجاء فيه ؛ لأنه حق وصدق { لاَ يَأْتِيهِ ا؟لْبَـ!ــطِلُ مِن+ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ÷( تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ = 42 } [ فصلت : 42 ] .
__________
(1) وفي هذا ردٌّ صريح على من ادعى بأن قصص القرآن لايلتزم الصدق كما قال ذلك بعض الكاتبين الجاهلين . انظر : مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 308 - 309 ، فقد ذكر من قال بذلك وردّ عليه . وانظر : كتاب القصص القرآني إيحاؤه ونفحاته للدكتور فضل حسن عباس ص 427 - 430 ، فقد ردّ على القائلين بالخيال في القصص القرآني .
(2) التمهيد 5/16 .(1/335)
والإيمان التفصيلي بكل ماجاء في القرآن من خصائص القرآن الكريم التي اختص بها من بين الكتب السماوية الأخرى ؛ إذ إن الكتب المنزلة من الله تعالى التي جاءت قبل القرآن الكريم لم يتكفل الله بحفظها كما تكفل بحفظ القرآن الكريم ، فأصابها التحريف والتبديل ، وطرأ عليها زيادات ونقصان ، مِمَّا أساء إلى المعاني التي تضمنتها ، ففقدت مصداقيتها نتيجة تدخل الأبدي العابثة ، وذوي الأهواء الضالة ، فلم نعد نثق بمضمون تلك الكتب أو نعتبرها من الأصول الصحيحة في مجال العقيدة والإيمان ، إلاَّ ما علمنا صدقه وعدم تحريفه من تلك الكتب (1) .
أمَّا القرآن الكريم فقد تكفّل الله بحفظه من عبث العابثين ، وتحريف المبطلين ، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ا؟لذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ , لَحَـ!ــفِظُونَ = 9 } [ الحجر : 9 ] فعلمنا بذلك أن كل ما في القرآن حق يجب الإيمان به وتصديقه .
( فمن زعم أن هذا القرآن قد زيد فيه ، أو نقص منه حرفاً واحداً عمّا تركه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كفر به كله ، وحبط عمله ، ولم ينفعه صوم ولا صلاة ولا سواها .
ومَن زعم أنه يسعه تصديق بعضه دون بعض ، أو تكذيب شيء مِمَّا أخبر به ، أو مخالفته في بعض أخباره ، أو شرائعه ، فقد كفر به كذلك ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) (2) .
الأمر الرابع : أنه يجب على كل مسلم استعمال محكمه :
__________
(1) انظر : كتاب حق القرآن الكريم على الناس ، تأليف يوسف علي بديوي ص 13 .
(2) من كتاب مقدمة في فقه أصول الدعوة بقلم أحمد سلام ص 112 .(1/336)
فلايتم الإيمان بالقرآن الكريم إلاَّ بالعمل بأحكامه التي لم تنسخ ؛ لأن الله عزوجل أنزل هذا القرآن العظيم للعمل بأحكامه ، وبناءٍ مجتمع رباني ، يجسّد أوامر الله في أرضه ، ويحقق دعوة المرسلين في الأصقاع والبلاد { وَلَـ!ــكِن كُونُوا رَبَّـ!ــنِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ ا؟لْكِتَـ!ــبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [ آل عمران : 79 ] .
قال تعالى : { ا؟تَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ( } [ الأنعام : 106 ] أي اقتد به ، واقتف أثره ، واعمل به ؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه ) (1) ا هـ .
وقال الله جل وعلا : { ا؟تَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَبِّكُمْ } [ الأعراف : 3 ] قال القرطبي : ( أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن ، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه ، وامتثلوا أمره ، واجتنبوا نهيه ) (2) .
( فلابد في الإيمان به من امتثال أوامره واجتناب مناهيه ، وتحليل حلاله وتحريم حرامه ، والاعتبار بأمثاله ، والاتعاظ بقصصه ، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه ، والوقوف عند حدوده وتلاوته آناء الليل والنهار ، والذب عنه لتحريف الغالين وانتحال المبطلين ، والنصيحة له ظاهراً وباطناً بجميع معانيها ، نسأل الله تعالى أن يرزقنا كل ذلك ويوفقنا له ويعيننا عليه ويثبتنا به وجميع إخواننا المسلمين إنه ولي التوفيق ) (3) .
وهذا من خصائض القرآن الكريم ؛ إذ إن الإيمان بالكتب السابقة هو التصديق الجازم بها ، ومجردُ التصديق لايكفي في القرآن ، بل لابد مع التصديق من الأخذ به والعمل بما أمر الله به فيه ، وتركِ ما نهى عنه فيه إذا لم يكن شيء من ذلك منسوخاً (4) .
* * *
المطلب الثاني
تحريم المراء في القرآن الكريم
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/155 .
(2) تفسير القرطبي 7/161 .
(3) معارج القبول لحافظ الحكمي 2/675 .
(4) انظر : كتاب الرسل والرسالات للدكتور عمر الأشقر ص 231 .(1/337)
قال ابن عبدالبر في كتابه جامع بيان العلم وفضله : ( باب : ما تكره فيه المناظرة والجدال والمراء : قال أبو عمر : الآثار كلها في هذا الباب المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما وردت في النهي عن الجدال والمراء في القرآن .
وروى سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { المراء في القرآن كفر } (1) ... والمعنى : أن يتمارى اثنان في آية ، يجحدها أحدهما ويدفعها ويصير فيها إلى الشك ، فذلك هو المراء الذي هو كفر .
وأمَّا التنازع في أحكام القرآن ومعانيه فقد تنازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من ذلك ، وهذا يبيّن لك أن المراء الذي هو الكفر هو الجحود والشك كما قال الله عزوجل : { وَلاَ يَزَالُ ا؟لَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } [ الحج : 55 ] .
والمراء والملاحاة غير جائز شيء منهما ، وهما مذمومان بكل لسان ، ونهى السلف - رضي الله عنهم - عن الجدال في الله جل ثناؤه وفي صفاته وأسمائه ... .
عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما ضلّ قوم بعد هدى إلاَّ لُقِّنُوا الجدل } ، ثُمَّ قرأ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ+ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة ، باب : النهي عن الجدال في القرآن رقم [4603] 5/9 ، والحاكم في المستدرك رقم [2937] 2/595 بلفظ { مراءٌ في القرآن كفر } وهو عند الإمام أحمد أيضاً بلفظ : { جدالٌ في القرآن كفر } رقم [7499] 13/249 وقال أحمد شاكر في تعليقه عليه : إسناده صحيح ، على بحث فيه .
... والحديث حسن صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم [3847] 3/870 ، وهو في صحيح الجامع رقم [6687] .
(2) أخرجه الترمذي رقم [3253] 5/353 في كتاب التفسير ، باب : ومن سورة الزخرف ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجة في المقدمة ، باب : اجتناب البدع والجدل رقم [48] . انظر : = =
= = صحيح سنن ابن ماجة رقم [45] 1/14 ، وأخرجه الحاكم في المستدرك رقم [3726] في كتاب التفسير 3/240 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
... والحديث قال عنه الألباني في صحيح الجامع رقم [5633] : حسن . وانظر : صحيح الترغيب والترهيب رقم [136] ص 133 .(1/338)
[ الزخرف : 58 ] ) (1) .
الدراسة :
المراء والامتراء والمماراة : المحاجّة فيما فيه مرية .
والمرية : التردد في الأمر والشك فيه ، قال تعالى : { وَلاَ يَزَالُ ا؟لَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } [ الحج : 55 ] ، وقال تعالى : { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـ!ــ%ـؤُلاَءِ "} [ هود : 109 ] ، وقال سبحانه : { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ÷( } [ السجدة : 23 ] ، وقال جل وعلا : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ) } [ فصلت : 54 ] .
ومن ذلك قوله تعالى : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَـ!ــهِرًا } [ الكهف : 18 ] أي : لاتجادل وتحاجج .
وقوله سبحانه : { أَفَتُمَـ!ــرُونَهُ ,عَلَى مَا يَرَى = 12 } [ النجم : 53 ] أي : أفتجادلونه مجادلة الشاكين المتحيِّرين لا الكائنين على بصيرةٍ فيما تخاصمون فيه .
وقرئ : { أفَتَمْرُونَه } (2) وفُسِّرَت بالجحود ، أي : أفتجحدونه ؟ ) (3) .
وقد اختلف العلماء في تأويل حديث : { المراء في القرآن كفر } على أقوال :
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/928 - 948 باختصار .
(2) قال في إتحاف فضلاء البشر : ( واختُلف في { أفتمارونه } فحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بفتح التاء ، وسكون الميم بلا ألف من { مَرَيْتَه } إذا علمته وجحدته ... والباقون بضم التاء ، وفتح الميم وألف بعدها من { ماراه يماريه مراء } جادله ) ا هـ . إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر للعلامة الشيخ أحمد بن محمد البنا 2/500 ، 501 .
(3) انظر : عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الكلبي 4/97 ، 98 ، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 766 .(1/339)
القول الأول : أن معنى المراء في القرآن : الشك فيه والجحود ، وهذا ما عبّر عنه ابن عبدالبر بقوله : ( والمعنى أن يتمارى اثنان في آية يجحدها أحدهما ويدفعها ويصير فيها إلى الشك ، فذلك المراء الذي هو الكفر ... وهذا يبين لك أن المراء الذي هو الكفر هو الجحود والشك كما قال عزوجل : { وَلاَ يَزَالُ ا؟لَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } [ الحج : 55 ] ) (1) ا هـ .
ويدخل في هذا الجدال المشكِّك ؛ وذلك أنه إذا جادل في القرآن أدّاه إلى أن يرتاب في الآي المتشابهة منه ، فيؤديه ذلك إلى الجحود ، فسمّاه كفراً باسم ما يُخشى من عاقبته إلاَّ من عصمه الله (2) .
القول الثاني : أن المراد المراءُ في قراءته دون تأويله ومعانيه ، مثل أن يقول قائل : هذا قرآن أنزله الله تبارك وتعالى ، ويقول الآخر : لم ينزله الله هكذا ، فيكفر به من أنكره ، وقد أنزل الله سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شافٍ وكافٍ ، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها ، وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به ؛ إذ كان القرآن منزلاً على سبعة أحرف ، وكلها قرآن منزل يجوز قراءته ويجب علينا الإيمان به (3) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/928 .
(2) انظر : شرح السنة للبغوي 1/261 .
(3) انظر : معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 5/9 .(1/340)
ويؤيد هذا القول سبب ورود الحديث وهو ما رواه الإمام أحمد عن أبي جهيم الأنصاري أن رجلين اختلفا في آية من القرآن ؛ قال هذا : تقليتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال هذا تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { القرآن يقرأ على سبعة أحرف ، فلاتماروا في القرآن فإن مراءً في القرآن كفر } (1) .
وهذا ما اختاره الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حيث قال : ( وجه الحديث عندنا ليس على الاختلاف في التأويل ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ ، على أن يقرأ الرجل القراءة على حرف ، فيقول له الآخر : ليس هكذا ولكنه كذا على خلافه .
وقد أنزلهما الله جميعاً ... فإذا جحد هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يؤمن - أو قال : يَقْمَن - أن يكون ذلك قد أخرجه إلى الكفر لهذا المعنى ) (2) .
ثُمَّ ذكر بسنده عن أبي العالية الرياحي (3)
__________
(1) سبق تخريجه ص 180 ، وانظر : روايات هذا الحديث وما يؤخذ منه من فوائد في كتاب الأحرف السبعة للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 97 - 101 .
(2) غريب الحديث لأبي عبيد 1/214 باختصار .
(3) هو : رفيع بن مِهرَان ، أبو العالية الرِّياحي البصري ، الإمام المقرئ الحافظ المفسّر ، أحد الأعلام ، كان مولى لامرأة من بني رياح من بني تميم ، أدرك زمان النبي e وهو شاب وأسلم في خلافة أبي بكر ، قال أبو بكر ابن أبي داود : وليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية ، مات - رحمه الله - سنة 9 هـ .
... انظر : سير أعلام النبلاء 4/207 - 213 ، وطبقات المفسرين للداودي 1/178 - 179 .(1/341)
أنه كان إذا قرأ عنده إنسان لم يقل : ليس هو كذا ، ولكن يقول : أمَّا أنا فاقرأ هكذا ؛ فلما ذُكر ذلك لإبراهيم (1) ، قال : أراه قد سمع أنه من كفر يحرف فقد كفر به كله .
القول الثالث : أن المراد الجدالُ بالقرآن في الآي التي فيها ذكر القدر والوعيد ، وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل ، وما يجري بينهم من الخوض في تلك المسائل التي مبناها على الاعتقاد والتسليم .
وأمَّا آيات الأحكام والحلال والحرام فلاتدخل في معنى الحديث ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنازعوها فيما بينهم ، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم في الأحكام ، ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : { فَإِن تَنَـ!ــزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ا؟للَّهِ وَا؟لرَّسُولِ } ، فعُلم أن النهي منصرف إلى غير هذا الوجه ، والله أعلم (2) .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( وأمَّا التنازع في أحكام القرآن ومعانيه فقد تنازع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من ذلك ) (3) .
وقال : ( وأمَّا الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر ؛ لأنه علم يُحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك ، وليس الاعتقادات كذلك ؛ لأن الله عزوجل لايوصف عند الجماعة أهل السنة إلاَّ بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أجمعت الأمة عليه ، وليس كمثله شيء فيدرك بقياس أو بإمعان نظر ) (4) .
__________
(1) هو : إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود ، النَّخَعِيّ ، أبو عمران ، الكوفي الفقيه ، كان مفتي أهل الكوفة ، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً ، قال الشعبي : ما ترك أحداً أعلم منه ، مات سنة 96 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 1/92 - 93 ، وسير أعلام النبلاء 4/520 - 529 .
(2) انظر : معالم السنن للخطابي مع سنن أبي داود 5/10 .
(3) جامع بيان العلم وفضله 2/928 .
(4) المرجع السابق 2/929 .(1/342)
وقال - رحمه الله - : ( وقد أجمع أهل العلم بالسنن والفقه - وهم أهل السنة - على الكف عن الجدال والمناظرة فيما سبيله الاعتقاد مِمَّا ليس تحته عمل ، وعلى الإيمان بمتشابه القرآن والتسليم له ، ولما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الصفات كلها وما كان في معناها ، وإنَّما يبيحون المناظرة في الحلال والحرام ومسائل الأحكام ) (1) .
ومِمَّا سبق يعلم أن آيات العقائد - كآيات القدر والوعيد والأسماء والصفات - لايجوز المراء والجدال فيها لأمرين :
أحدهما : أن هذه الايات سبيلها التسليم والاعتقاد .
الثاني : أن الجدال والمراء فيها يؤدي إلى الانسلاخ من الدين ، بسبب الدخول في مباحث لايدركها العقل ، والخوض في ذات الله ووصفه بما لايليق به تعالى .
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( قال أبو عمر : وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد ؛ لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين ، بسبب الدخول في مباحث لايدركها العقل ، والخوض في ذات الله ووصفه بما لايليق به تعالى (2) .
__________
(1) الاستذكار 8/118 .
(2) انظر : عقيدة ابن عبد البر في التوحيد والإيمان للدكتور سليمان الغصن ص 95 .(1/343)
قال ابن عبد البر - رحمه الله - : ( قال أبو عمر : وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد ، لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين ، ألا ترى مناظرة بشر (1) في قول الله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَـ!ــثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] قال : هو بذاته في كل مكان ، فقال له خصمه : فهو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمارك - تعالى الله عما يقول - حكى ذلك وكيع (2) ، وأنا - والله - أكره أن أحكي كلامهم قبحهم الله ، فعن هذا وشبهه نهى العلماء ، وأمَّا الفقه فلايوصل إليه ولاينال أبداً دون مناظرة فيه وتفهم له ) (3) .
__________
(1) هو : بشر بن غياث البغدادي المريسي ، المتكلم المناظر ، كان من كبار الفقهاء ، ونظر في الكلام فغلب عليه وانسلخ من الورع والتقوى ، ودعا إلى القول بخلق القرآن ، فمقته أهل العلم وكفّره بعضهم ، توفي سنة 218 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 10/199 - 202 .
(2) هو : وكيع بن الجراح بن مَلِيح الرُّؤَاسي ، أبو سفيان الكوفي الحافظ ، قال عبد البر بن أحمد ، عن أبيه : ما رأيت أوعى للعلم من وكيع ولا أحفظ منه . وقال ابن سعد : كان ثقة مأموناً ، عالياً ، رفيع القدر ، كثير الحديث ، حُجّة . مات سنة 197 هـ ، وقيل : 196 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 4/311 - 314 ، وسير أعلام النبلاء 9/140 - 168 .
(3) جامع بيان العلم وفضله 2/948 .(1/344)
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : لقد جلست أنا وأخي (1) مجلساً ما أحب أنّ لي به حُمْرَ النَّعَم ، أقبلت أنا وأخي ، وإذا مَشْيَخَةٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسٌ عند باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حَجْرَةً (2) ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها ، حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَباً ، قد احمرّ وجهه ، يرميهم بالتراب ، ويقول : { مهلاً يا قوم ، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربِهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً ، بل يُصَدِّق بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه } (3) .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر ، هذا يَنْزِعُ آية وهذا ينزعُ آية ، ثُمَّ ذكر معنى الحديث (4) .
وهناك قول رابع في معنى الحديث ، وهو : أن المرادَ المراءُ والجدال في القرآن : هل هو خالق أو مخلوق ؟ .
__________
(1) المتحدث : عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأخوه هو محمد بن عمرو بن العاص ، ذكر ذلك أحمد شاكر في تعليقه على الحديث في المسند 10/175 .
(2) حَجْرَةً : أي ناحية ، قعد حَجْرَةً وحَجْراً أي ناحية . لسان العرب 3/258 .
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند رقم [6700] 10/174 ، 175 ، بتحقيق : أحمد شاكر ، وقال : إسناده صحيح .
... وروى الإمام مسلم نحوه مختصراً في أول كتاب العلم ، باب : النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه والنهي عن الاختلاف في القرآن رقم [2666] ص 1070 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(4) مسند الإمام أحمد رقم [6845] ، [6846] 11/83 ، 78 ، وسنن ابن ماجة رقم [85] . انظر : صحيح سنن ابن ماجة 1/21 رقم [69] .(1/345)
فالخوض في هذه المسألة والمراء والجدال فيها من البدع المحدثة التي لم تكن موجودة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، حتى ظهرت البدع وانتشرت وكثُر أهل الكلام والجدال الذين لا همّ لهم إلاَّ الخوض في مثل هذه المسائل التي تشبه السؤال والبحث في مسألة الاسم والمسمى هل هما شيء واحد ؟ أو أن الإسم غير المسمى ؟ ! .
ذكر ابن عبد البر بسنده عن الشافعي أنه قال : إذا سمعت الرجل يقول : الإسم غير المسمى أو الاسم المسمّى فاشهد عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له (1) .
وذكر بسنده أيضاً عن سليم بن منصور بن عمّار (2) قال : كتب بشر المريسي إلى أبي - رحمه الله - : أخبرني عن القرآن أخالق أم مخلوق ؟ فكتب إليه أبي : بسم الله الرحمن الرحيم : عافانا الله وإياك من كل فتنة ، وجعلنا وإياك من أهل السنة ، وممن لايرغب بدينه عن الجماعة ، فإنه إن يفعل فأولى بها نعمة ، وإلاَّ يفعل فهي الهلكة ، وليس لأحد على الله بعد المرسلين حجة .
__________
(1) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2/941 .
(2) هو : سليم بن منصور بن عمّار بن كثير ، وأبوه منصور بن عمَّار الواعظ ، البليغ الصالح ، أبو السَّرِيِّ السُّلَمي الخرساني ، وقيل : البصري ، كان عديم النظير في الموعظة والتذكير ، وعظ بالعراق والشام ومصر ، وبَعُدَ صيته ، وتزاحم عليه الخلق ، وكان لوعظه وقع وتأثير في النفوس ، مات في حدود المائتين . انظر : سير أعلام النبلاء 9/93 - 98 .(1/346)
ونحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة تشارك فيها السائل والمجيب ، تعاطى السائل ما ليس له ، وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، ولا أعلم خالقاً إلاَّ الله ، والقرآن كلام الله ، فانْتَهِ أنت والمختلفون فيه إلى ما سماه الله به تكن من المهتدين ، ولاتسم القرآن باسم من عندك ، فتكون من الهالكين ، جعلنا الله وإياك من الذين يخشونه بالغيب ، وهم من الساعة مشفقون (1) . ا هـ .
قال الإمام الطحاوي - رحمه الله - : ( ولانجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فعلّمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو كلام الله تعالى لايساويه شيء من كلام المخلوقين ولانقول بخلقه ، ولانخالف جماعة المسلمين ) (2) ا هـ .
قال ابن عبد البر : ( قال أبو عمر : ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات وجاء عن الصحابة وصحّ عنهم فهو علم يدان به ، وما أُحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فبدعة وضلالة ، وماجاء في أسماء الله وصفاته عنهم سُلِّمَ له ولم يُناظر فيه كما لم يناظروا .
قال أبو عمر : رواها السلف وسكتوا عنها وهم كانوا أعمق الناس علماً وأوسعهم فهماً وأقلهم تكلفاً ، ولم يكن سكوتهم عن عيّ ، فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر ) (3) ا هـ .
فهذا مجموع ما وجدته من أقوال للعلماء في معنى حديث { المراء في القرآن كفر } وهي كلها صحيحة ، ولفظ الحديث يحتملها جميعاً ، ولاتعارض بينها ، بل هي أقوال متفقة غير مختلفة ، فالمراء في القرآن كفرٌ على كل قول من الأقوال السابقة .
__________
(1) أورد هذه الرسالة بسنده في التمهيد 9/233 ، وفي الاستذكار 8/119 ، وقد أوردها البيهقي في الأسماء والصفات 1/620 - 621 ، وقال محققه عبيد الحاشدي : إسناده حسن .
(2) العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي 2/428 .
(3) جامع بيان العلم وفضله 2/946 .(1/347)
ومن المراء في القرآن الذي هو كفرٌ أيضاً المراءُ في تنزيله ، وذلك بأن يمتري أحدٌ ويشك في كون القرآن منزلاً من الله رب العالمين ، فهذا كفرٌ أيضاً ؛ لأنه شكٌّ فيما أخبر الله به كما قال سبحانه : { تَنزِيلُ ا؟لْكِتَـ!ــبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ا؟لْعَـ!ـــلَمِينَ = 2 } [ السجدة : 2 ] .
ومن المراء المحرم في القرآن أن يحمل الآية على معنى ضعيف يخالف الحق ، ويناظر على ذلك مع ظهورها له في خلاف ما يقول .
قال النووي في التبيان : ( يحرم المراء في القرآن والجدالُ فيه بغير حق ؛ ومن ذلك أن تظهر له دلالة الآية على شيء يخالف مذهبه ، ويحتمل احتمالاً ضعيفاً موافقة مذهبه ، فيحملها على مذهبه ، ويناظر على ذلك مع ظهورها له في خلاف ما يقول ، وأمَّا من لايظهر له ذلك فهو معذور ، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المراء في القرآن كفر } ) (1) ا هـ .
* * *
المبحث الثاني
آداب متعلقة بالمصحف
( المُصْحَفُ والمِصْحَف : الجامع للصحف المكتوبة بين الدَّفَّتين ، ... سمي المصحف مصحفاً لأنه أُصْحِفَ أي جُعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدَّفَّتين ) (2) .
فالمراد بالمصحف هنا : مجموعة الصحف التي كتب عليها القرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى ، سواء كان كاملاً أم غير كامل ، حتى ولو آية واحدة كتبت في ورقة ولم يكن معها غيرها فحكمها حكم المصحف (3) .
ويطلق على المصحف { القرآن } كما في بعض الأحاديث ، ومنها ماجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : { أن لايمس القرآن إلاَّ طاهر } (4) ، فالمراد بالقرآن هنا المصحف كما هو ظاهر .
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 140 .
(2) لسان العرب 7/291 .
(3) انظر : الشرح الممتع لفضيلة الشيخ ابن عثيمين 1/260 .
(4) سيأتي ذكره وتخريجه - إن شاء الله - قريباً .(1/348)
قال البغوي - رحمه الله - بعد ذكره لهذا الحديث : ( والمراد بالقرآن : المصحف سماه قرآناً على قرب الجوار والاتساع ، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1) ، وأراد به المصحف ) (2) .
ومن الآداب المتعلقة بالمصحف - والتي تعرض لها ابن عبدالبر - أدبان :
الأول : عدم مسه إلاَّ على طهارة .
والثاني : عدم السفر به إلى بلاد الكفار .
وسنفرد كل أدب منهما بمطلب مستقل .
المطلب الأول
الطهارة لمس المصحف
عند شرح ابن عبدالبر لحديث مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : { أن لايمس القرآن إلاَّ طاهر } (3) قال - رحمه الله - : ( وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل ، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل .
وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لايسمه إلاَّ الطاهر .
__________
(1) سيأتي تخريجه ص 343 .
(2) تفسير البغوي 8/23 .
(3) رواه مالك في الموطأ في كتاب القرآن ، باب : الأمر بالوضوء لمن مس القرآن ص 177 ، وهو جزء من الكتاب الذي كتبه النبي e لعمرو بن حزم في الديات والفرائض والسنن ، وقد ذكره الحاكم بتمامه في مستدركه 2/13 - 15 رقم [1487] ، وذكر بعضه ابن عبدالبر في التمهيد 17/338 ، وقال : ( لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد ، وقد روى مسنداً من وجه صالح ، وهو كتاب مشهور عند أهل السير ، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد ؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه ، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة ) .
... وقد ذكره الألباني في إرواء الغليل 1/158 - 161 ، وقال بعد أن ذكر طرقه ورواياته وخرجها : ( وعليه فالنفس تطمئن لصحة هذا الحديث لاسيما وقد احتج به إمام السنة أحمد بن حنبل ... وصححه أيضاً صاحبه الإمام إسحاق بن راهويه ) ا هـ .(1/349)
وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي وأحمد بن حنبل (1) ، وإسحاق بن راهويه (2) ، وأبي ثور (3) ، وأبي عبيد ، وهؤلاء أئمة الرأي والحديث في أعصارهم .
وروى ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وطاووس (4) ،
__________
(1) هو : الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً ، أبو عبد الله ، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المروزي ثُمَّ البغدادي ، أحد الأئمة الأعلام ، قال الشافعي عنه : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل . مناقبه كثيرة جداً . مات - رحمه الله - سنة 241 هـ .
... انظر ترجمة موسعة مهمة له في : سير أعلام النبلاء 11/177 - 358 ، وتهذيب التهذيب 1/43 - 44 .
(2) هو : الإمام الكبير ، شيخ المشرق ، سيد الحفاظ ، أبو يعقوب ، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي ثُمَّ المروزي ، نزيل نيسابور ، المشهور بـ إسحاق بن راهويه ، سئل الإمام أحمد عنه فقال : مثل إسحاق يُسأل عنه ؟! إسحاق عندنا إمام . توفي - رحمه الله - سنة 238 هـ .
... انظر : تهذيب التهذيب 1/112 ، 113 ، سير أعلام النبلاء 11/358 - 383 .
(3) هو : الإمام المجتهد الحافظ ، إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي ، المشهور بـ { أبو ثور } ويكنى أيضاً أبا عبد الله ، قال الخطيب : كان أحد الثقات المأمونين ، ومن الأئمة الأعلام في الدين ، وله كتبٌ مصنفة في الأحكام ، جمع فيها بين الحديث والفقه . مات - رحمه الله - سنة 240 هـ .
... انظر : طبقات علماء الحديث 2/185 - 286 ، سير أعلام النبلاء 12/72 - 76 .
(4) هو : طاووس بن كيسان ، الإمام ، أبو عبدالرحمن اليماني ، سمع زيد بن ثابت وعائشة وابن عباس ، قال عمرو بن دينار : ما رأيت أحداً مثل طاووس . كان رأساً في العلم والعمل والزهد ، وكان شيخ أهل اليمن ومفتيهم ، وكان كثير الحج ، فاتفق موته بمكة قبل التروية بيوم سنة 106 هـ .
... انظر : طبقات علماء الحديث 1/159 - 160 ، وسير أعلام النبلاء 5/38 - 49 .(1/350)
والحسن (1) ، والشعبي ، والقاسم بن محمد (2) ، وعطاء ، وهؤلاء من أئمة التابعين بالمدينة ومكة واليمن والكوفة والبصرة .
قال إسحاق بن راهُويَه : لايقرأ أحدٌ في المصحف إلاَّ وهو متوضيء ، وليس ذلك لقول الله عزوجل : { لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } [ الواقعة : 79 ] ولكن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لايمس القرآن إلاَّ طاهر } ، وهذا كقول مالكٍ ومعنى ما في الموطأ .
وقال الشافعي والأوزاعي وأبو ثور وأحمد : لايمس المصحف الجنبُ ولا الحائض ولا غيرُ المتوضيء .
وقال مالك : لايحمله بعلاقته ، ولا على وسادة إلاَّ وهو طاهر .
__________
(1) هو : الحسن بن أبي الحسن يسار ، الإمام ، شيخ الإسلام أبو سعيد البصري ، مولى زيد بن ثابت ، كان من بحور العلم ، كبير الشأن ، عديم النظير ، مليح التذكير ، بليغ الموعظة ، وكان عالماً مأموناً عابداً ناسكاً فصيحاً جميلاً . رأى عشرين ومائة من أصحاب رسول الله e وكان معروفاً بالتدليس في رواية الحديث ، مات سنة 110 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/140 - 142 ، وسير أعلام النبلاء 4/563 - 588 .
(2) هو : القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، الإمام ، أبو محمد القرشي التيمي المدني ، سمع عمته عائشة وابن عباس وغيرهما ، قال ابن عيينة : كان القاسم أعلم أهل زمانه . وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة . مات سنة 106 هـ أو 107 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/168 ، 169 ، وسير أعلام النبلاء 5/54 - 60 .(1/351)
قال : ولابأس أن يحمله في التابوت (1) ، والخُرج (2) والغِرَارَة (3) ، مَن ليس على وضوء .
قال أبو عمر : يريد أن يكون المصحف في وعاء قد جمع أشياءَ ، منها المصحف فلم يقصد حاملُ ذلك الوعاء إلى حمل المصحف خاصة ، وأمَّا إذا كان المصحف وحده في أي شيء كان ، وقصد إليه حاملُه وهو غير طاهر لم يَجُز .
وقد كره جماعة من علماء التابعين مسّ الدراهم التي فيها ذكرُ الله على غير وضوء منهم القاسم بن محمد ، والشعبي ، وعطاء ، فهؤلاء لاشك أشد كراهة أن يمس المصحف غيرُ المتوضيء .
وقد روي عن عطاء أنه لا بأس أن تحمل الحائض المصحف بعلاقته .
وأمَّا الحكمُ بن عتيبة (4) وحماد بن أبي سليمان (5) فلم يُختلف عنهما في إجازة حمل المصحف بعلاقته لِمَن ليس على طهارة .
__________
(1) التابوت : وعاء معروف ، أصله لما يجعل فيه الميت ، وقد يوضع فيه غيره ، ينحت من خشب وغيره . انظر : عمدة الحفاظ للسمين الحلبي 1/291 .
(2) الخُرْجُ : نوع من الأوعية معروف ، عربيّ . انظر : لسان العرب 4/54 .
(3) الغِرَارَة : واحدة الغَرَائِر ، وهي وعاء للتبن . انظر : لسان العرب 10/46 .
(4) هو : الحكم بن عُتَيبة ، الحافظ الفقيه ، أبو عمر الكِندي مولاهم الكوفي ، قال ابن عيينة : ما كان بالكوفة مثل الحكم وحماد . وهو ثقة ثبت فقيه ، صاحب سنة واتباع ، مات سنة 115 هـ ، وقيل : 114 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/188 ، 189 ، وسير أعلام النبلاء 5/208 - 213 .
(5) هو : حَمَّاد بن أبي سليمان ، العلاّمة الإمام ، فقيه العراق ، أبو إسحاق بن مسلم الكوفي ، كان أحد العلماء الأذكياء ، والكرام الأسخياء ، له ثروة وحشمة وتجمل ، كان من مرجئة الفقهاء الذين لايعدون الصلاة والزكاة من الإيمان . قال أبو حاتم الرازي : هو مستقيم في الفقه ، فإذا جاء الأثر شَوّش . مات سنة 120 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 5/231 - 239 .(1/352)
وقولُهما عندي شذوذ عن الجمهور ، وما أعلم أحداً تابعهما عليه إلاَّ داود ابن علي ومن تابعه .
قال داود : لابأس أن يمس المصحف والدنانير والدراهم التي فيها اسم الله الجنب والحائض .
قال داود : ومعنى قوله عزوجل : { لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } [ الواقعة : 79 ] هم الملائكة ، وَدَفَعَ حديث عمرو بن حزم في أن لايمس القرآن إلاَّ طاهر بأنه مرسلٌ غير متصل ، وعارضه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { المؤمن ليس بنجس } (1) .
وقد بينا وجه النقل في حديث عمرو بن حزم ، وأن الجمهور عليه ، وهم لايجوز عليهم تحريف تأويل ولا تلقِّي ما لايصح بقبول ، وبما عليه الجمهور في ذلك أقول ، وبالله التوفيق ) (2) ا هـ .
وذكر في التمهيد نحو كلامه هذا ، ومِمَّا قاله هناك إضافة إلى ما سبق : ( ... قال - يعني داود الظاهري - : ومعنى قوله : { لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } [ الواقعة : 79 ] هم الملائكة ، قال : ولو كان ذلك نهياً لقال : لايمسَّه (3) ، واحتج أيضاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { المؤمن لاينجس } .
قال أبو عمر : قد يأتي النهي بلفظ الخبر ويكون معناه النهي ، وذلك موجود في كتاب الله كثير ، نحو قوله : { ا؟لزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ النور : 3 ] جاء بلفظ الخبر ومعناه النهي ، ومثله كثير .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل ، باب : عرق الجنب ، وأن المسلم لاينجس رقم [283] ص 76 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب الحيض ، باب : الدليل على أن المسلم لاينجس رقم [371] ص 161 .
... ولفظهما : { إن المسلم لاينجس } وفي لفظ آخر عند البخاري : { إن المؤمن لاينجس } .
(2) الاستذكار 8/10 - 13 .
(3) أي على النهي . وانظر تفصيل الكلام فيها من حيث الإعراب في : الدر المصون للسمين الحلبي 10/224 - 225 فقد أجاد وأفاد .(1/353)
وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أن لايمس القرآن إلاَّ طاهر } بيان معنى قول الله عزوجل : { لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } [ الواقعة : 79 ] لاحتمالها للتأويل ومجيئها بلفظ الخبر .
وقد قال مالك في هذه الآية : إن أحسن ما سمع فيها أنها مثل قول الله عزوجل : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ = 11 فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ , = 12 فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ = 13 مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةِ+ = 14 بِأَيْدِي سَفَرَةٍ = 15 كِرَامِ+ بَرَرَةٍ = 16 } [ عبس : 11 - 16 ] .
وقول مالك : أحسن ما سمعت ، يدل على أنه سمع فيها اختلافاً ، وأولى ما قيل به في هذا الباب ما عليه جمهور العلماء من امتثال ما في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حازم : { أن لايمس القرآن أحد إلاَّ وهو طاهر } ، والله أعلم وبه التوفيق ) (1) .
الدراسة :
مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف من المسائل التي اختلف فيها العلماء وتباينت آراؤهم .
وسبب الاختلاف في هذه المسألة هو عدم وجود نص صحيح صريح يقطع النزاع فيها ، فالذين اشترطوا الطهارة لمس المصحف ، وحرّموا على المحدث مسه - وهم الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة - استدلوا بقوله تعالى : { إِنَّهُ , لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ = 77 فِي كِتَـ!ــبٍ مَّكْنُونٍ = 78 لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } (2) [ الواقعة : 77 - 79 ] .
__________
(1) التمهيد 17/399 - 400 .
(2) انظر أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية في : أحكام القرآن للجصاص 3/555 ، وأحكام القرآن لابن العربي 4/174 - 176 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/225 - 227 ، وروائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن للصابوني 2/472 - 474 .(1/354)
وبما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : { أن لايمس القرآن إلاَّ طاهر } (1) فقالوا : إن الآية - وإن لم تكن صريحة في الدلالة على المراد - تدل على أنه لايمس القرآن إلاَّ مَن كان على طهارة ؛ لأن لفظها محتمل لذلك ، ولأن حديث { لايمس القرآن إلاَّ طاهر } يقوي هذا الاحتمال - كما أشار إلى ذلك ابن عبدالبر في آخر كلامه السابق .
والذين قالوا بجواز مس المصحف للمحدث ، ولم يشترطوا الطهارة من الحدث لمسِّه - وهم الظاهرية - استدلوا بحديث ابن عباس الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى هرقل عظيم الروم ، وفيه : { يَـ!ــ%ـأَهْلَ ا؟لْكِتَـ!ــبِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الآية (2) [ آل عمران : 64 ] ، واستدلوا أيضاً بحديث : { إن المؤمن لاينجس } (3) .
ومن العلماء من قال : إنه يجوز مس المصحف بظاهر الكف دون باطنه ، وهذا القول منسوب للحكم وحماد - كما في المغني لابن قدامة (4) .
ومنهم من قال : إنه يجوز مسه للمحدث حدثاً أصغر ، ولايجوز مسه لمن كان محدثاً حدثاً أكبر (5) .
وبين أصحاب هذه الأقوال مناقشات وردود ليس هذا مجال سردها ومناقشتها ، فهو مبسوطة في كتب الفقه (6) ،
__________
(1) سبق تخريجه ص 333 .
(2) سيأتي تخريجه قريباً - إن شاء الله - .
(3) سبق تخريجه ص 336 .
(4) المغني لابن قدامة المقدسي 1/202 .
(5) مال إليه الشوكاني كما في نيل الأوطار 1/207 ، ورجحه الشيخ عبدالمحسن آل عبيكان في كتابه غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 2/163 .
(6) انظر : المغني لابن قدامة 1/202 - 204 ، والمجموع شرح المهذب للنووي 2/67 ، 72 ، ونيل الأوطار للشوكاني 1/205 - 207 .
... وقد قامت لجنة البحوث العلمية والإفتاء بكتابة بحث في هذه المسألة نشر في مجلة البحوث العلمية ، العدد الثالث عشر ، ص 24 - 45 ، وأفردها الدكتور عمر الأشقر في كتابه : مسائل من فقه الكتاب والسنة ، المسألة الحادية عشرة ص 165 - 175 ، وبحثها بتوسع أيضاً الدكتور فيحان المطيري في كتابه الطهارة لقراءة القرآن والطواف بالبيت الحرام .(1/355)
وأكتفي هنا بذكر بعض التنبيهات :
التنبيه الأول : الصحيح أن الضمير في قوله تعالى : { لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } [ الواقعة : 79 ] راجع إلى الكتاب المكنون الذي في السماء ، وأن المراد بـ { المطهرون } الملائكة الكرام الذين طهرهم الله عزوجل من الذنوب والشهوات .
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن هذا هو الصحيح في معنى الآية ، وهو أرجح من قول مَن قال : إن المراد بالآية أن المصحف لايمسه إلاَّ طاهر ، من وجوه متعددة :
منها : أن السورة مكية ، والاعتناء في السور المكية إنَّما هو بأصول الدين ، من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة - وأمَّا تقرير الأحكام والشرائع فمظنه السور المدنية .
ومنها : أنه قال : { فِي كِتَـ!ــبٍ مَّكْنُونٍ = 78 } والمكنون المصون المستور عن الأعين الذي لاتناله أيدي البشر ، وهكذا قال السلف في معناه .
ومنها : أنه قال : { إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ } ولم يقل : إلاَّ المتطهرون ، ولو أراد به منع المحدث من مسه لقال إلاَّ المتطهرون ، كما قال تعالى : { إِنَّ ا؟للَّهَ يُحِبُّ ا؟لتَّوَّ !بِينَ وَيُحِبُّ ا؟لْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] فالمتطهر فاعل التطهير ، والمطهَّر الذي طهره غيره ، فالمتوضيء متطهر ، والملائكة مطهَّرُون .
ومنها : ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن أنس بن مالك في قوله : { لاَ يَمَسُّهُ ,% إِلاَّ ا؟لْمُطَهَّرُونَ = 79 } قال : المطهرون الملائكة ، وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع ، والصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن ، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم (1) .
__________
(1) انظر : بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم 4/363 - 365 .(1/356)
وعلى هذا ، فإن استدلال القائلين بأنه لايجوز مس المصحف إلاَّ على طهارة بالآية الكريمة فيه نظر ، إلاَّ إذا كان ذلك من باب التنبيه والإشارة ، كما قال ابن القيم - رحمه الله - بعد أن ذكر الوجوه السابقة : ( وسمعتُ شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لايمسه المحدث بوجه آخر ، فقال : هذا من باب التنبيه والإشارة ، إذا كانت الصحف التي في السماء لايمسها إلاَّ المطهرون ، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لاينبغي أن يمسها إلاَّ طاهر ) (1) .
التنبيه الثاني : كما أن دلالة الآية على منع المحدث من مس المصحف ليست صريحة ، فكذلك دلالة حديث : { لايمس القرآن إلاَّ طاهر } ليست صريحة في منع المحدث من مس المصحف ، ( فلايتم الاحتجاج بهذا الحديث على حرمة مس المحدث للقرآن إلاَّ بعد الاتفاق على أن المراد بالطاهر الطاهر من الحدث .
والتحقيق أن الطاهر في الكتاب والسنة تطلق بالاشتراك على ثلاثة أمور :
الأول : على الطاهر من الحدث ، فالمتوضيء متطهر ، والمغتسل من الجنابة متطهر ، والمغتسلة من الحيض متطهرة ، قال تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَا؟طَّهَّرُوا"} [ المائدة : 6 ] .
الثاني : أن الطاهر هو الطاهر من النجاسة ، قال تعالى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ = 4 } [ المدثر : 4 ] أي من النجاسات ، ومن ذلك حديث : { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات ، أولاهن بالتراب } (2) ، وهذا معروف في إطلاقات الفقهاء عندما يقولون هذا طاهر ، وهذا نجس ، وهذا معروف ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ا؟لسَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا } [ الفرقان : 48 ] .
__________
(1) المرجع السابق 4/365 .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب : حكم ولوغ الكلب رقم [279] ص 136 ، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/357)
الثالث : الطاهر : المؤمن ، أو الذي تطهر من الذنوب ، قال تعالى : { إِنَّمَا ا؟لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا ا؟لْمَسْجِدَ ا؟لْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـ!ـــذَا" } [ التوبة : 28 ] ، وكان الصحابي يصيب الذنب فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : { طهرني } كما في حديث : { إني قد زنيت فطهرني } (1) ومنه حديث : { إن المؤمن لاينجس } (2) .
وإذا كان الطاهر في مصطلح الكتاب والسنة يطلق على كل واحد من هذه المعاني الثلاثة فإن تخصيصه بواحد منها وهو التطهير من الحدث يحتاج إلى مرجح ، وإلاَّ فهو تحكم لايُقر عليه ) (3) .
التنبيه الثالث : بعد طول بحث في هذه المسألة لم يترجح لي أحد هذه الأقوال ، ولم أستطع الجزم فيها بحكم ، وهي في نظري مسألة مشكلة تحتاج إلى تحرير .
والذي أستطيع أن أقوله هنا : إن القول بمنع المحدث - خاصة المحدث حدثاً أصغر - من مس المصحف ينبغي التثبت فيه وعدم الاستعجال في القول به لأمرين :
أحدهما : أن أدلته فيها احتمال ، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال فإنه لايصلح للاستدلال .
__________
(1) ثبت هذا في صحيح مسلم في حديث ماعز والغامدية في كتاب الحدود ، باب : من اعترف على نفسه بالزنى رقم [1695] ص 704 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) سبق تخريجه ص 336 .
(3) ما بين القوسين مأخوذ بتصرف من كتاب مسائل من فقه الكتاب والسنة للدكتور عمر الأشقر ص 171 - 173 .(1/358)
والأمر الثاني : أنه لم يثبت - فيما أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحدث عن مسّ المصحف إلاَّ ما جاء في حديث عمرو بن حزم ، وهو - كما سبق - ليس صريحاً في ذلك ، وهو كتاب كتبه له لما بعثه إلى أهل نجران وهم قوم كفار ، فدلت القرينة على أن المراد بالطاهر هنا : المسلم ؛ لأنه لو أراد به المحدث لبينه لأهل المدينة فهم أحوج لهذا البيان لكثرة حاجتهم إلى ذلك (1) .
ومعلوم أن هذه المسألة يحتاج إلى معرفتها كل مسلم ، ومثل هذه المسائل لابُدّ أن تكون الأدلة فيها واضحة صريحة معلومة .
ومع هذا كله فإن الأخذ بقول الجمهور فيه احتياط ، وهو الأولى ( وإن كان المعروف عند أهل المعرفة والتحقيق أنه لاتلازم بين قول الجمهور وبين الحق والصواب ؛ فقد يكون الحق معهم - وهذا الأكثر في المسائل العلمية - وقد يكون الحق في جانب غيرهم .
والمنصف دائماً يبحث عن الدليل ، فما نصره الدليل اتبعه ، وإن كان القائل به قليلاً ، وما لم يرد فيه دليل أو كان دليله ضعيفاً تركه ، وإن كان الأكثرون على القول به ) (2) .
التنبيه الرابع : الخلاف السابق في المس المباشر للمصحف بدون حائل ، وأمَّا حمل المحدث للمصحف حملاً غير مباشر فقد اختلف العلماء فيه أيضاً ، فمنهم من قال بجواز حمله حملاً غير مباشر ، سواء كان المحدث أكبر أو أصغر ، وهو مذهب الحنفية والحنابلة .
ومنهم من قال : لايجوز حمل المصحف مطلقاً ، سواء كان الحدث أكبر أو أصغر ، وسواء كان الحمل مباشراً وغير مباشر ، وهذا مذهب المالكية والشافعية .
__________
(1) أشار إلى هذا التعليل الشيخ عبدالمحسن آل عبيكان في كتابه غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 2/165 وذكر أنه لم يجد أحداً سبقه إلى هذا التعليل .
(2) من بحث بعنوان : حكم قراءة الجنب للقرآن ، للشيخ سليمان العلوان في مجلة الحكمة ، العدد الخامس ص 105 .(1/359)
والصحيح في هذه المسألة هو قول المجيزين ؛ لأن من حمل شيئاً حملاً غير مباشر لايسمّى ماسّاً لذلك الشيء ، والنهي إنَّما ورد عن المسّ ، ولايُقال لمن حمل شيئاً بالواسطة إنه ماسٌّ له ، بل يقال : إنه حامل ، وبينهما فرقٌ كما لايخفى (1) .
قال في المغني : ( والصحيح جوازه ؛ لأن النهي إنَّما يتناول مسه ، والحمل ليس بمس ) (2) .
* * *
المطلب الثاني
حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو
روى مالك في الموطأ عن ابن عمر ، أنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو .
قال مالك : وإنَّما ذلك مخافة أن يناله العدو (3) .
قال ابن عبد البر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث : ( وأجمع الفقهاء أن لايسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه ، واختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه .
قال مالك : لايسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، ولم يفرق بين العسكر الكبير والصغير .
وقال أبو حنيفة : يكره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، إلاَّ في العسكر العظيم فإنه لابأس بذلك .
واختلفوا من هذا الباب في تعليم الكافر القرآن ، فمذهب أبي حنيفة ، أنه لابأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والفقه .
وقال مالك : لايعلموا القرآن ولا الكتاب ، وكره رقية أهل الكتاب .
وعن الشافعي روايتان : أحدهما : الكراهة ، والأخرى : الجواز .
__________
(1) انظر : كتاب الطهارة لقراءة القرآن والطواف بالبيت الحرام للدكتور فيحان المطيري ص 92 - 94 .
(2) المغني لابن قدامة 1/204 .
(3) الموطأ كتاب الجهاد ، باب : النهي عن أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو ص 357 ، والحديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب : كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو رقم [2990] ص 573 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب : النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار رقم [1869] ص 779 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/360)
قال أبو عمر : الحجة لمن كره ذلك قول الله عزوجل : { إِنَّمَا ا؟لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لايمس القرآن إلاَّ طاهر } (1) .
ومعلومٌ أن من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات ، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له لذلك وإهانة له ، وكلهم أنجاس لايغتسلون من جنابة ، ولايعافون ميتة .
وقد كره مالك وغيره أن يعطى الكافر درهماً أو ديناراً فيه سورة أو آية من كتاب الله ، وما أعلم في هذا خلافاً إذا كانت آية تامة أو سورة ، وإنَّما اختلفوا في الدينار والدرهم إذا كان في أحدهما اسم من أسماء الله ...
وذكر أحمد بن المعدل عن عبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون (2) أنه سئل عن الرجل يدخل بالمصحف أرض العدو لما له في ذلك من استذكار القرآن والتعليم ولما يخشى أن يطول به السفر فينسى ؛ فقال عبدالملك : لايدخل أرض العدو بالمصاحف ، لما يخشى من التعبث بالقرآن والامتهان له مع أنهم أنجاس ، ومع ماجاء في ذلك من النهي الذي لاينبغي أن يتعدى .
فإن قال قائل : أفيجوز أن يكتب المسلم إلى الكافر كتاباً فيه آية من كتاب الله ؟ .
__________
(1) سبق تخريجه ص 333 .
(2) هو : عبدالملك بن عبدالعزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجِشُون ، أبو مروان ، كان فقيهاً فصيحاً ، دارت عليه الفتيا في زمانه إلى موته ، وعلى أبيه قبله ، فهو فقيه ابن فقيه ، وكان ضرير البصر ، روى عن مالك وعن أبيه ، توفي سنة 212 أو 214 هـ . انظر : الانتقاء لابن عبدالبر ص 104 - 105 .(1/361)
قيل له : أمَّا إذا دعي إلى الإسلام ، أو كانت ضرورة إلى ذلك فلابأس به ، لما رواه الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : أخبرني أبو سفيان بن حرب ، فذكر قصة هرقل وحديثه الطويل ، وفيه قال : فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيه : { بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله ، إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أمَّا بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين (1) ، و { قُلْ يَـ!ــ%ـأَهْلَ ا؟لْكِتَـ!ــبِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءِ+ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ا؟للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ÷ شَيْـ:ـــًا } الآية (2) [ آل عمران : 64 ] } ) (3) ا هـ .
الدراسة :
حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - صريح في النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (4) .
__________
(1) الأريسيون : هم الفلاحون وأهل الحرف - أي الرعايا عموماً - . انظر : فتح الباري لابن حجر 1/51 .
(2) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي رقم [7] ص 22 ، 23 ، 24 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) وأخرجه مسلم رقم [1773] ص 736 ، في كتاب الجهاد والسير ، باب : كتاب النبي e إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(3) التمهيد 15/254 - 256 باختصار يسير جداً ، والاستذكار 14/51 - 53 .
(4) انظر : أقوال العلماء بالتفصيل في هذه المسألة في مجلة البحوث العلمية التي تصدرها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، في بحث بعنوان : من أحكام القرآن - حكم السفر بالمصحف إلى أرض العدو من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، العدد 13 ص 16 - 23 .(1/362)
قال النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم : ( فيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث ، وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته ، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذٍ لعدم العلة ، هذا هو الصحيح ، وبه قال أبو حنيفة والبخاري (1) وآخرون ، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقاً ، وحكى ابن المنذر (2) عن أبي حنيفة الجواز مطلقاً ، والصحيح عنه ما سبق .
وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك .
واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات ، والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ) (3) ا هـ .
__________
(1) هو : الإمام ، سيد الحفاظ ، وشيخ المحدثين محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، أبو عبد الله البخاري ، صاحب الصحيح المشهور بصحيح البخاري ، الذي هو أصح كتاب حديث على الإطلاق ، قال ابن خزيمة في البخاري : ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله e ولا أحفظ له من البخاري . مناقبه وأخباره كثيرة جداً ، مات - رحمه الله - سنة 256 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 3/508 - 511 .
(2) هو : الفقيه الحافظ العلامة المجتهد ، أبو بكر ، محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ، شيخ الحرم ، وصاحب التصانيف التي لم يصنف مثلها ، كالمبسوط في الفقه ، والإشراف في اختلاف العلماء ، وكتاب الإجماع ، وغيرها ، مات سنة 318 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/493 ، 494 ، وسير أعلام النبلاء 14/490 - 492 .
(3) شرح صحيح مسلم للنووي - رحمه الله - 13/16 ، 17 .(1/363)
وقال البغوي - رحمه الله - : ( حمل المصحف إلى دار الكفر مكروه ، ولو كتب إليهم كتاباً فيه آية من القرآن فلابأس به ، كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل : { قُلْ يَـ!ــ%ـأَهْلَ ا؟لْكِتَـ!ــبِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءِ+ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران : 64 ] ) (1) ا هـ .
ومِمَّا سبق نعلم أن النهي عن السفر بالمصحف إلى بلاد الكفار معللٌ بمخافة امتهانه ونيل العدو له ، فإذا وجدت العلة بقي الحكم ، وإذا انتفت العلة زال الحكم ؛ للقاعدة المعروفة عند أهل العلم : الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، والله تعالى أعلم .
والنهي الوارد في الحديث يحتمل أن يكون للكراهة ويحتمل أن يكون للتحريم .
ومِمَّا يقوي حمله على التحريم ماجاء في رواية عند مسلم بلفظ : { لاتسافروا بالقرآن ، فإني أخاف أن يناله العدو } (2) فظاهر هذا اللفظ التحريم ؛ لأنه الأصل في النهي (3) .
وتبويب البخاري للحديث يدل على أنه يرى حمل النهي على الكراهة حيث قال : ( باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ) (4) .
قال الإمام الفقيه ابن مفلح (5) في الآداب الشرعية : ( ويحرم السفر به إلى أرض للعدو للخبر المتفق عليه ، وقيل : إن كثر العسكر وأمن استيلاء العدو عليه فلا لقوله في الخبر : { مخافة أن تناله أيديهم } ) (6) ا هـ .
__________
(1) شرح السنة للبغوي 4/528 .
(2) سبق تخريجه قريباً .
(3) انظر : مجلة البحوث الإسلاميَّة ، العدد 13 ص 22 .
(4) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير ، باب 129 ص 573 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(5) هو : محمد بن مفلح بن محمد ، أبو عبد الله ، شمس الدين المقدسي الراميني ثُمَّ الصالحي ، أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل ، من تصانيفه : كتاب الفروع في الفقه ، والآداب الشرعية ، توفي سنة 763 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 7/107 .
(6) الآداب الشرعية لابن مفلح 2/276 .(1/364)
والذي يظهر - والله أعلم - أن العلة في النهي عن السفر بالمصحف إلى بلاد الكفار هي أن وقوع المصحف في أيدي الكفار كان مظنة فتنة في العصر الأول لقلة المصاحف ، فيخشى أن يغيروا فيه ويحرفوا ليطعنوا فيه ويشككوا مَن شاؤوا فيما في أيدي المسلمين ، ثُمَّ كثرت المصاحف وانتشرت وعمّت الآفاق وصارت موجودة في كل مكان حتى في بلاد الكفار ، وأمنت تلك الفتنة وأتم الله وعده بحفظ كتابه (1) .
ولذلك فإن السفر بالمصحف الآن ليس كالسفر به في العصر الأول ، فلابأس بذلك إذا كان في ذلك مصلحة راجحة إلاَّ إذا ترتب على ذلك امتهان له بأن يستولي عليه الكفار ويمتهنوه بأي صورة من صور الامتهان - أمَّا إذا لم يترتب على السفر به شيء من ذلك ، وكان في السفر به مصلحة راجحة فلا حرج في السفر به - والعلم عند الله تعالى - .
ومن فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء : ( حمل المسلم المصحف - القرآن - إلى بلاد الكفار من المسائل التي اختلف الفقهاء في حكمها ، فقال جماعة منهم بجواز حمله إلى بلادهم ، وقال آخرون بمنع ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى بلادهم خشية أن يمتهنوه أو يحرفوه أو يشبهوا على المسلمين فيه ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو } (2) .
وروى مسلم أيضاً عن عبد البر بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ، وقال صلى الله عليه وسلم : { لاتسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو } .
__________
(1) المرجع السابق ، تعليق محققي الكتاب شعيب الأرناؤوط وعمر القيام 2/276 .
(2) سبق تخريجه ص 343 .(1/365)
وقال آخرون : يجوز حمله إلى بلادهم للبلاغ وإقامة الحجة عليهم ، وللتحفظ والتفهم لأحكامه عند الحاجة إذا كان للمسلمين قوة أو سلطان أو ما يقوم مقامهما من العهود والمواثيق ونحو ذلك مما يكفل حفظه ويرجى معه التمكين من الانتفاع به في البلاغ والحفظ والدراسة ، ويؤيد ذلك ما ورد في آخر حديث النهي عن السفر به إلى بلادهم من التعليل .
وهذا الأخير هو الأرجح ؛ لحصول المصلحة مع انتفاء المفسدة التي خشيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ) (1) ا هـ .
تنبيه : أشار ابن عبد البر - رحمه الله - في أثناء كلامه السابق عن حكم السفر بالقرآن إلى بلاد الكفار إلى مسألة أخرى ، وهي : حكم تعليم الكافر القرآن ، وذكر أن أبا حنيفة قال : لابأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والفقه .
وأمَّا مالك فقال : لايُعلم الكافر القرآن .
وأمَّا الشافعي فعنه روايتان : إحداهما : الكراهة ، والأخرى الجواز .
والذي أراه راجحاً في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - حيث قال - بعد ذِكْرِه لما ذهب إليه كل من أبي حنيفة ومالك والشافعي - : ( والذي يظهر أن الراجح التفصيل بين من يُرجى منه الرغبة في الدين والدخول فيه مع الأمن منه أن يتسلط بذلك إلى الطعن فيه ، وبين من يتحقق أن ذلك لاينجع فيه ، أو يظن أنه يتوصل بذلك إلى الطعن في الدين ، والله أعلم ) (2) ا هـ .
* * *
المبحث الثالث
آداب متعلقة بقراءة القرآن
__________
(1) فتوى رقم [2358] نقلاً عن كتاب فتاوى كبار العلماء حول القرآن الكريم ، إعداد وترتيب أبو أنس علي بن حسن أبو لوز ص 75 ، 76 .
(2) فتح الباري 6/81 ، وانظر تفصيل الأقوال في هذه المسالة في مجلة البحوث العلمية ، العدد الثالث عشر ص 58 - 64 .(1/366)
قراءة القرآن من أفضل العبادات ، وأجل الطاعات ، قال الله تعالى : { إِنَّ ا؟لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ!ــبَ ا؟للَّهِ وَأَقَامُوا ا؟لصَّلَو! ةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـ!ــهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـ!ــرَةً لَّن تَبُورَ = 29 لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ = 30 } [ فاطر : 29 - 30 ] .
وفي الحديث الصحيح عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه } (1) .
والأحاديث الواردة في فضل تلاوة القرآن الكريم كثيرة معلومة (2) .
وهناك آداب كثيرة ينبغي التأدب بها ومراعاتها عند قراءة القرآن ، وقد اهتم بهذه الآداب العلماءُ ، وصنفوا فيها مصنفات ، وممن ألف في ذلك الإمام ابن عبد البر - صاحب بحثنا - رحمه الله تعالى ، حيث ألف كتاباً في آداب القرآن أشار إليه في كتاب الاستذكار بقوله : ( وقد أفردنا لهذا المعنى كتاباً أسميناه { كتاب البيان عن تلاوة القرآن } واستوعبنا فيه القول والآثار في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الهذّ والترتيل والحدر ، وأيُّ ذلك أفضل ، والقول في قراءة القرآن بالألحان ومَن كره ذلك ومَن أجازه ، وما روي في صوت داود صلى الله عليه وسلم وما جاء من هذه المعاني ، فيه شفاءٌ في معناه والحمد لله ) (3) ا هـ .
وقد سبق ذكر هذا الكتاب عند ذكر جهوده في علوم القرآن في مقدمة القسم الثاني من هذا البحث ، وبيان أن هذا الكتاب غير مطبوع .
__________
(1) رواه البخاري في فضائل القرآن ، باب : خيركم من تعلم القرآن وعلمه رقم [5027] ص 998 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) انظر طرفاً من هذه الأحاديث في كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 27 - 32 . وانظر : كتاب الترغيب والترهيب للمنذري ، باب : الترغيب في قراءة القرآن 2/317 - 332 .
(3) الاستذكار 8/24 ، 25 .(1/367)
وقد تعرض ابن عبدالبر لجملة من آداب قراءة القرآن في كتبه المطبوعة ، وخاصة في كتابي التمهيد والاستذكار ، فجمعت ما استطعت جمعه منها ، وسوف أذكرها في هذا المبحث - إن شاء الله - وأتناولها بالدراسة والتوضيح من خلال المطالب الآتية :
المطلب الأول
الحث على حفظ القرآن وتعاهده وتفهم معانيه
قال ابن عبد البر - رحمه الله - وهو يذكر رتب طلب العلم : ( قال أبو عمر - رحمه الله - : طلب العلم درجات ومناقل ورتب لاينبغي تعديها ، ومَن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف - رحمهم الله - ومَن تعدى سبيلهم عامداً ضلّ ، ومَن تعداه مجتهداً زلّ .
فأول العلم حفظ كتاب الله عزوجل وتفهمه ، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه ، ولا أقول إن حفظه كله فرض ، ولكني أقول : إن ذلك شرط لازم على من أحب أن يكون عالماً فقيهاً ناصباً نفسه للعلم ، ليس من باب الفرض .
حدثنا عبدالوارث بن سفيان ، نا قاسم بن أصبغ ، نا أحمد بن زهير ، ثنا سعيد بن سليمان ، ثنا ميمون أبو عبد الله ، عن الضحاك ، في قوله تعالى : { وَلَـ!ـــكِن كُونُوا رَبَّـ!ـــنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ا؟لْكِتَـ!ــبَ } [ آل عمران : 79 ] قال : حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً ... (1) .
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/1129 ، وقال محققه : إسناده ضعيف .(1/368)
قال أبو عمر : القرآن أصل العلم ، فمن حفظه قبل بلوغه ، ثُمَّ فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه ، ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ ينظر في ناسخ القرآن ومنسوخه وأحكامه ، ويقف على اختلاف العلماء واتفاقهم في ذلك وهو أمرٌ قريب على من قَرّبه الله - عزوجل - عليه ثُمَّ ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزوجل في كتابه ، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحاً ) (1) ا هـ .
وذكر في التمهيد حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنَّما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة ، إن عاهد عليها أمسكها ، وإن أطلقها ذهبت } (2) .
ثُمَّ قال : ( في هذا الحديث التعاهد للقرآن ودرسه والقيام به ، وفيه الإخبار أنه يذهب عن صاحبه وينساه إن لم يتعاهد عليه ويقرأه ويدمن تلاوته .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله 2/1129 - 1130 باختصار يسير .
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب القرآن ، باب : ماجاء في القرآن ص 179 ، والبخاري في فضائل القرآن ، باب : استذكار القرآن وتعاهده رقم [5031] ص 999 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب : الأمر بتعهد القرآن رقم [789] ص 309 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/369)
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعيد شديد فيمن حفظ القرآن ثُمَّ نسيه ، كل ذلك حض منه على حفظه والقيام به ... عن سعد بن عبادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من تعلم القرآن ثُمَّ نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم } (1) .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : التشديد فيمن حفظ القرآن ثُمَّ نسيه رقم [1474] 2/158 . وأورده المنذري في الترغيب والترهيب في الترهيب من نسيان القرآن رقم [2138] 2/334 ، والحديث ضعيف لأن في سنده يزيد بن أبي زياد الهاشمي وهو ضعيف . انظر : تقريب التهذيب ص 1075 ، وانظر : ضعيف الجامع الصغير رقم [5153] ص 744 .(1/370)
معناه عندي : منقطع الحجة (1) - والله أعلم - ... وقال ابن عيينة في معنى حديث سعد بن عبادة هذا وما كان مثله : إن ذلك في ترك القرآن ، وترك العمل بما فيه ، وأن النسيان أريد به ههنا : الترك ، نحو قوله : { فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـ!ـــذَآ إِنَّا نَسِينَـ!ــكُمْ( } [ السجدة : 14 ] قال : وليس من اشتهى حفظه وتفلت منه بناسٍ له إذا كان يحل حلاله ، ويحرم حرامه ؟ لأن هذا ليس بناس له ، قال : ولو كان كذلك ما نسي النبي صلى الله عليه وسلم منه شيئاً ، وقد نسي ، وقال : { ذكرني هذا آية نسيتها } (2) وقال الله عزوجل : { سَنُقْرِ]ـ:ـُكَ فَلاَ تَنسَى = 6 إِلاَّ مَا شَآءَ ا؟للَّهُ ... } [ الأعلى : 6 ، 7 ] .
قال : و لو كان كما يقول هؤلاء الجهال ما أنسى الله نبيه منه شيئاً .
__________
(1) قال الخطابي في معالم السنن : ( قال أبو عبيد : الأجذم : المقطوع اليد ، وقال ابن قتيبة : الأجذم هاهنا : المجذوم ، وقال ابن الأعرابي ، معناه أن يلقى الله خالي اليدين عن الخير ، كنى باليد عمّا تحويه اليد ، وقال آخر : معناه لقي الله لا حجة له ) 2/158 مع سنن أبي داود .
(2) عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمع النبي e رجلاً يقرأ في المسجد فقال : { رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية ، أسقطتها من سورة كذا وكذا } رواه البخاري في الدعوات ، باب : قول الله تعالى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] ، رقم [6335] ص 1218 ، 1219 ، ورواه مسلم بلفظ : { رحمه الله ، لقد أذكرني آية كنت أنسيتها } في كتاب صلاة المسافرين ، باب : الأمر بتعهد القرآن وكراهة أن يقول نسيت آية كذا ، وجواز قول أُنسيتا ، رقم [788] ص 309 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/371)
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - وهم الذين خوطبوا بهذا الخطاب - لم يكن منهم من يحفظ القرآن كله ، ويكمله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ القليل ، منهم : أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد الأنصاري ، وعبد الله ابن مسعود ، وكلهم كان يقف على معانيه ومعاني ما حفظ منه ، ويعرف تأويله ، ويحفظ أحكامه ؛ ورُبَّما عرف العارف منهم أحكاماً من القرآن كثيرة وهو لم يحفظ سورها .
قال حذيفة بن اليمان : تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ، وسيأتي قوم في آخر الزمان يتعلمون القرآن قبل الإيمان (1) .
ولا خلاف بين العلماء في تأويل قول الله عزوجل : { يَتْلُونَهُ , حَقَّ تِلاَوَتِهِ÷% } [ البقرة : 121 ] أي يعملون به حق عمله ، ويتبعونه حق اتباعه ، قال عكرمة : ألم تستمع إلى قول الله عزوجل : { وَا؟لْقَمَرِ إِذَا تَلَـ[ـ!ــهَا = 2 } [ الشمس : 2 ] أي : تبعها (2) .
وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه ذهب عنه أي علم كان ؛ لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير .
__________
(1) رواه ابن ماجه في المقدمة رقم [61] ( صحيح سنن ابن ماجه ) رقم [52] عن جندب بن عبد الله قال : كنا مع النبي e ونحن فتيان حَزاوِرة ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثُمَّ تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً .
... وأخرج الحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان ، باب : كيف يُتعلم القرآن 1/196 رقم [108] عن عبد الله بن عمر قال : لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن ... إلخ . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولا أعلم له علة ولم يخرجاه . ولم أجده عن حذيفة .
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره 2/569 ، وانظر : كلامه - رحمه الله - حول اختلاف أهل التأويل في معنى { يَتْلُونَهُ , حَقَّ تِلاَوَتِهِ÷% } فقد ذكر أنهم قد اختلفوا في معنى ذلك ، فمعناها فيه خلاف ، خلافاً لما حكاه ابن عبدالبر بأنه لا خلاف .(1/372)
وإذا كان الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد ، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة .
وخير العلوم ما ضبط أصله ، واستذكر فرعه وقاد إلى الله ، ودلّ على ما يرضاه .
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ؛ والذي يقرأه وهو يشق عليه له أجره مرتين } (1) .
... عن سهل بن معاذ الجهني ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { مَن قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والداه يوم القيامة تاجاً ، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيه ، فما ظنكم من عمل بهذا } (2) .
... قال عبد الله بن مسعود : تعاهدوا القرآن فهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقله ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئسما لأحدكم أن يقول نسيتُ آية كيت وكيت ، بل هو نُسِّي } (3) .
__________
(1) رواه البخاري في تفسير سورة عبس رقم [4937] ص 976 ، ومسلم في صلاة المسافرين ، باب : الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه رقم [798] ص 312 .
(2) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : في ثواب قراءة القرآن رقم [1453] 2/148 ، وانظر : ضعيف أبي داود 239 ، وضعيف الجامع الصغير رقم [5762] ص 831 .
(3) رواه البخاري في فضائل القرآن ، باب : استذكار القرآن وتعاهده رقم [503] ص 999 ، ومسلم في صلاة المسافرين ، باب : الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول : نسيتُ كذا ، وجواز قول : أُنسيتها رقم [790] ص 310 ، واللفظ لمسلم .(1/373)
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أرَ ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية من القرآن أوتيها رجل ثُمَّ أنسيها } (1) .
وليس هذا الحديث مِمَّا يحتج به لضعفه ، وبالله التوفيق ) (2) .
الدراسة :
كلام ابن عبد البر السابق واضح لايحتاج إلى إيضاح ، وبيّن لايحتاج إلى بيان ، إلاَّ أني أريد التنبيه على أمور مهمة تتعلق بحفظ القرآن الكريم (3) وتعاهده والقيام به :
الأمر الأول : أن حفظ القرآن عن ظهر قلب من خصائصه التي اختص بها ، بخلاف التوراة والإنجيل والزبور ، وصحف إبراهيم وموسى ، وغيرها ، مِمَّا أنزله الله تبارك وتعالى .
فمن خصائص هذا الكتاب السماوي الكريم أن الله عزوجل كلّف الأمة الإسلاميَّة بحفظه كله ، بحيث يحفظه عدد كثير يثبت بهم التواتر المفيد للقطع والتبيين ، فإن لم يحفظه عدد يثبت بهم التواتر أثمت الأمة كلها (4) .
وقد صرّح بعض أهل العلم أن حفظ القرآن الكريم واجب على الأمة ، فإن قام بذلك قوم فإنه يسقط الإثم عن الباقين ، وإلاَّ أثموا جميعاً إذا لم يقم من تقوم الكفاية بهم بحفظ القرآن الكريم .
__________
(1) رواه أبو داود في الصلاة ، باب : في كنس المسجد رقم [461] 1/316 ، 317 ، والترمذي في كتاب فضائل القرآن رقم [1916] 5/163 ، 164 ، وقال : قال أبو عيسى : هذا حديث غريب : لانعرفه إلاَّ من هذا الوجه . قال : وذكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه واستغربه .
... والحديث ضعيف كما في ضعيف الجامع الصغير رقم [3700] ص 542 .
(2) التمهيد 14/131 - 136 بتصرف يسير جداً . وانظر : الاستذكار 8/55 - 59 .
(3) للتوسع انظر : كتاب حفظ القرآن الكريم لمحمد بن عبد الله الدويش .
(4) انظر : كتاب المدخل لدراسة القرآن الكريم للأستاذ الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة ص 349 .(1/374)
قال الزركشي في البرهان : ( قال أصحابنا - رحمهم الله - : تعليم القرآن فرض كفاية ، وكذلك حفظه واجب على الأمة ، صرّح به الجرجاني (1) في الشافي ، والعبّادي (2) وغيرهما ، والمعنى فيه كما قاله الجويني (3) : ألا ينقطع عدد التواتر فيه ، ولايتطرق إليه التبديل والتحريف ؛ فإن قام بذلك قومٌ سقط عن الباقين ، وإلاَّ فالكل آثم ) (4) ا هـ .
الأمر الثاني : كان الصحابة متفاوتين في الحفظ ، قلة وكثرة ، وإتقاناً وتجويداً ، ومنهم من كان يحفظ بعضه ، ومنهم من كان يحفظ السور القليلة .
وأمَّا الذي لاينبغي أن يُشك فيه فهو أن القرآن كله كان محفوظاً عند الصحابة - رضي الله عنهم - حفظاً يحصل مع اليقين والقطع المفيد للتواتر ، حيث كان مجموع القرآن عند مجموعهم (5) .
__________
(1) هو : أحمد بن محمد بن أحمد القاضي ، أبو العباس الجرجاني ، كان إماماً في الفقه والأدب ، قاضياً بالبصرة ومدرساً بها ، من تصانيفه الشافي في الفقه ، وإشارات البلغاء ، توفي سنة 482 هـ . انظر : طبقات الشافعية 3/31 ، والأعلام 1/214 .
(2) هو : محمد بن أحمد بن محمد ، أبو عاصم الهروي العبّادي القاضي الشافعي ، كان إماماً جليلاً حافظاً للمذهب ، بحراً يتدفق بالعلم ، له من التصانيف الزيادات ، وأدب القضاء وغيرها ، توفي سنة 458 هـ . انظر : طبقات الشافعية 3/43 .
(3) هو : الإمام الكبير ، شيخ الشافعية ، إمام الحرمين ، أبو المعالي ، عبدالملك بن الإمام أبي محمد عبد الله ابن يوسف ، الجويني ، ثُمَّ النيسابوري ، صاحب التصانيف ، ومع إمامته في الفروع وأصول المذهب الشافعي فقد كان لايدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا إسناداً . توفي سنة 478 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 18/468 - 477 .
(4) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/88 - 89 . وانظر : المجموع للنووي 1/26 .
(5) انظر : المدخل لدراسة القرآن لأبي شهبة ص 352 - 353 .(1/375)
الأمر الثالث : أن الأمر بتعاهد القرآن والتحذير من نسيانه ، يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على بقاء القرآن محفوظاً في صدور أصحابه ومن بعدهم ، وهذا يعتبر من العوامل المهمة التي ساعدت على حفظ القرآن الكريم الذي هو دستور هذه الأمة ، وسر بقائها (1) .
الأمر الرابع : تعاهد القرآن وكثرة قراءته واستذكاره مِمَّا يعين على تدبر القرآن وتفهم معانيه ، ومن ثَمّ العمل به وتطبيق أحكامه .
فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة : القراءة والتلاوة ، والتدبر والتفهم ، والعمل والتطبيق ، يكون جامعها قد حقق المقاصد التي نزل القرآن من أجلها ، فإن الله عزوجل أنزل القرآن لتتلى آياته : { ا؟تْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ا؟لْكِتَـ!ــبِ } [ العنكبوت : 45 ] ، { إِنَّ ا؟لَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـ!ــبَ ا؟للَّهِ ... } [ فاطر : 29 ] ، { وَأَنْ أَتْلُوَ ا؟لْقُرْءَانَ } [ النمل : 92 ] ، وأنزله كذلك لتتدبر آياته : { كِتَـ!ــبٌ أَنزَلْنَـ!ــهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـ!ـــتِهِ÷ } [ ص : 29 ] ، وأنزله أيضاً للعمل بأحكامه واتباع ماجاء به { ا؟تَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ( } [ الأنعام : 106 ] .
وقد جمع الله هذه الأمور الثلاثة ، وجعلها أهم ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أجله في قوله : { رَبَّنَا وَا؟بْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاَ مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَـ!ــتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ وَا؟لْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ" إِنَّكَ أَنتَ ا؟لْعَزِيزُ ا؟لْحَكِيمُ = 129 } [ البقرة : 129 ] .
فالمقصد الأول : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَـ!ــتِكَ } .
والثاني : { وَيُعَلِّمُهُمُ ا؟لْكِتَـ!ــبَ وَا؟لْحِكْمَةَ } وهذا لايكون إلاَّ بتدبر معاني القرآن وتفهمها .
والثالث : { وَيُزَكِّيهِمْ" } ولاتزكو النفس إلاَّ بالعمل الصالح .
__________
(1) انظر : المرجع السابق ص 354 - 361 .(1/376)
فاللهم اجعلنا من الذين يتلون كتابك حق تلاوته ، ويتدبرونه حق تدبره ، ويعملون بما فيه على الوجه الذي يرضيك يا أرحم الراحمين ، آمين .
الأمر الخامس : قول ابن عبدالبر : ( وكلهم [ أي الصحابة ] كان يقف على معانيه ومعاني ما حفظ منه ، ويعرف تأويله ، ويحفظ أحكامه ؛ ورُبَّما عرف العارف منهم أحكاماً من القرآن كثيرة وهو لم يحفظ سورها ) ا هـ .
ليس على إطلاقه ، فلم يكن كل الصحابة يعرفون معاني القرآن كله أو معاني كل ما يحفظونه ، إذ لو كان الأمر كذلك لما تفاوتوا في العلم به ، ولكانوا كلهم سواء ، ومن المعلوم لكل من عرف سيرتهم أنهم يختلفون في مقدار علمهم بالقرآن ومعانيه .
قال مسروق بن الأجدع : لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ فالإخاذ يروي الرجل ، والإخاذ يروي الرجلين ، والإخاذ يروي العشرة ، والإخاذ يروي المائة ، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ (1) .
ولو كانوا كلهم يعرفون معاني آيات القرآن لما حصل عند بعضهم أو كثير منهم لبس في فهم بعض آيات ، وقد حصل ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، وهذا الأمر لا أظنه بلغ من الخفاء ما يحتاج إلى أكثر مِمَّا ذكرت .
* * *
المطلب الثاني
تحزيب القرآن
__________
(1) طبقات ابن سعد 2/261 .(1/377)
في موطأ الإمام مالك في كتاب القرآن ، باب : ماجاء في تحزيب القرآن ، ذكر الإمام مالك - رحمه الله - في هذا الباب عن يحيى بن سعيد (1) ، أنه قال : كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبّان (2) جالسين ، فدعا محمدٌ رجلاً ، فقال : أخبرني بالذي سمعت من أبيك ، فقال الرجل : أخبرني أبي أنه أتى زيد بن ثابت ، فقال له : كيف ترى في قراءة القرآن في سبع ؟ فقال زيد : حَسَنٌ ، ولأن أقرأه في نصف أو عشر أحبُّ إليَّ ، وسلني لِمَ ذاك ؟ قال : فإني أسألك ، قال زيد : لكي أتدبره وأقف عليه (3) .
قال ابن عبد البر في شرح هذا الحديث - بعد أن ذكرَ طرقه ورواياته - : ( ويشهد لصحة قول ابن ثابت قول الله عزوجل : { كِتَـ!ــبٌ أَنزَلْنَـ!ــهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـ!ـــتِهِ÷ } [ ص : 29 ] ، وقال : { وَرَتِّلِ ا؟لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] وقال : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـ!ــهُ لِتَقْرَأَهُ , عَلَى ا؟لنَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } [ الإسراء : 106 ] .
__________
(1) هو : يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري النجاري ، أبو سعيد المدني القاضي ، كان ثقة ، كثير الحديث ثبتاً حجة ، وقد وهم من ظنه يحيى بن سعيد القطان ، مات - رحمه الله - سنة 144 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 4/360 - 361 .
(2) هو : محمد بن يحيى بن حَبَّان ابن منقذ الأنصاري المدني ، ثقة فقيه ، كان له حلقة في مسجد المدينة وكان يفتي ، توفي سنة 121 هـ . انظر : تهذيب التهذيب 3/726 .
(3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب القرآن ، باب : ما جاء في تحزيب القرآن ص 178 ، وأكثر من روى هذا الحديث رووه بلفظ : لأن أقرأه في عشرين أو في نصف . انظر : تعليق ابن عبدالبر عليه في الاستذكار 8/22 .(1/378)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فلم يفقهه } (1) رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لايختم القرآن في أقل من ثلاث } (2) .
وأمَّا أحاديث عبد الله بن عمرو فأكثرها أنه قال له : { اقرأه في سبع ولاتزد على ذلك } (3) .
... عن أبي حمزة قال : قلتُ لابن عباس : إني سريع القراءة ، إني أقرأ القرآن في ثلاث ، قال : لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة أدبرها وأرتلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن كله أهذّه كما تقول (4) .
... وعن أبي حمزة قال : قلتُ لابن عباس : أقرأ القرآن في كل ليلة ، وأكثر ظني أني قلتُ مرتين ؟ فقال : لأن أقرأ سورة واحدة أحب إليّ ، فإن كنت لابُدّ فاعلاً فاقرأ ما تسمعه أذناك ويفقهه قلبُك .
...
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : تحزيب القرآن رقم [1394] 2/116 ، ولفظه : { لايفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث } ، ورواه الترمذي في آخر كتاب القراءات رقم [2949] 5/182 ، وقال : هذا حديث حسن صحيح . انظر : صحيح سنن أبي داود رقم [1242] 1/262 ، وصحيح سنن الترمذي رقم [2349] 3/17 .
(2) الحديث أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 88 - 89 بلفظ : كان رسول الله e لايختم القرآن في أقل من ثلاث . كما في فضائل القرآن لابن كثير ، وقال : هذا حديث غريب جداً ، وفيه ضعف . ص 253 ، 254 .
(3) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : في كم يقرأ القرآن رقم [5054] ص 1002 ، ومسلم في كتاب الصيام رقم [1159] ص 448 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(4) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 74 ، وأخرجه الآجري في أخلاق حملة القرآن ، وذكره ابن كثير في فضائل القرآن ص 236 ، وقال محققه أبو إسحاق الجويني : إسناده صحيح . وذكره أيضاً أن الصحيح أن راوي هذا الأثر عن ابن عباس هو أبو جمرة - بالجيم - لا أبو حمزة - بالحاء - .(1/379)
وسئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة ، وقرأ الآخر البقرة وآل عمران ، فكان ركوعهما وسجودهما وجلوسهما سواء ، أيهما أفضل ؟ فقال : الذي قرأ البقرة ، ثُمَّ قرأ : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـ!ــهُ لِتَقْرَأَهُ , عَلَى ا؟لنَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } [ الإسراء : 106 ] .
... وقال محمد بن كعب القرظي (1) : لأن أقرأ {إذا زلزلت} و {القارعة} في ليلة أرددهما ، وأتفكر فيهما أحبّ إليّ من أن أبيت أهذّ القرآن .
... وقال : فإنّ قراءة عشر آيات تتفكر فيها خيرٌ من مائة تهذّها ) (2) ا هـ .
الدراسة :
الحِزْب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرْد ، ومنه حديث أوس بن حذيفة : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تُحَزِّبُون القرآن (3) .
فمعنى تحزيب القرآن أن يجعل المسلم لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه بحيث يختم القرآن في كل شهر ، أو عشرين أو خمسة عشر ، أو عشر ، أو سبع ، أو غير ذلك (4) .
وتحزيب القرآن يعتبر في هذا الزمان من السنن المهجورة ، بل المجهولة عند كثير من طلبة العلم فضلاً عن عامة الناس ، في حين كان الأمر متواتراً ، ومعلوماً عند السلف ، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلاَّ وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا (5) .
__________
(1) هو : محمد بن كعب بن سُليم ، الإمام العلامة الصادق أبو حمزة ، القُرَظي المدني ، كان من أئمة التفسير ، توفي سنة 108 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 5/65 - 68 .
(2) الاستذكار 8/22 - 26 ، باختصار وتصرف يسير .
(3) انظر : النهاية لابن الأثير 1/376 ، وسيأتي ذكر الحديث بتمامه - إن شاء الله - قريباً .
(4) انظر : تحزيب القرآن وهدي السلف في ذلك لمحمد الدويش مقال في مجلة البيان ، العدد 41 ص 62 .
(5) انظر : المرجع السابق ص 61 ، 62 .(1/380)
وقد ذكر ابن عبد البر في النقل السابق عنه بعض الأحاديث والآثار المتعلقة بتحزيب القرآن ، وبيّن أنها تدل على أن التمهل في القراءة والتدبر فيها أولى وأفضل من الهذّ والإسراع في القراءة بدون تدبر وتفهم .
وفيما يأتي أذكر مسائل مهمة تحتاج إلى إيضاح وبيان ولها تعلق بتحزيب القرآن :
المسألة الأولى : في كم يقرأ القرآن ؟ :
في كتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري باب : في كم يقرأ القرآن ، وقول الله تعالى : { فَا؟قْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] ، ذكر البخاري - رحمه الله - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اقرإ القرآن في شهر } قلتُ : إني أجد قوة ، حتى قال : { فاقراه في سبع ، ولاتزد على ذلك } (1) .
وفي رواية في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : { فاقرأه في كل سبع ولاتزد على ذلك ، فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزَوْرِكَ عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً } (2) .
فهذا الحديث ظاهره يقتضي المنع من قراءة القرآن في أقل من سبع ، كما ذكر ذلك ابن كثير في فضائل القرآن (3) .
وجاء في أحاديث أخرى ما يدل على إقرار من قرأ في ثلاث ، ومنها ما ذكره ابن كثير في فضائل القرآن ، وعزاه للإمام أحمد في المسند عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقرأُ القرآنَ في ثلاث ؟ قال : { نعم } قال : فكان يقرؤه حتى توفي (4) .
__________
(1) صحيح البخاري رقم [5054] ص 1002 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) صحيح مسلم ، كتاب الصيام رقم [1159] ص 448 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(3) فضائل القرآن لابن كثير ص 249 .
(4) هذا الحديث ساقط من المسند المطبوع مع أن ابن كثير ، والهيثمي في المجمع 2/268 ، عزوه إليه ، وأخرجه أيضاً أبو عبيد ص 88 في فضائل القرآن .
... والحديث قال ابن كثير عن إسناده : وهذا إسناد جيّد قوي حسن . انظر : فضائل القرآن لابن كثير ص 252 .(1/381)
ومنها حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لاتفقه في قراءة في أقل من ثلاث } (1) .
قال ابن كثير : ( وقد ترخّص جماعات من السلف في تلاوة القرآن في أقلّ من ذلك ، منهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ) (2) .
وذكر آثاراً تدل على أنه كان يقرأ القرآن كله في ركعة من الليل .
وكذلك تميم الداري - رضي الله عنه - وسعيد بن جبير - رحمه الله - ثبت عنهما بأسانيد صحيحة أنهم كانوا يختمون القرآن في ركعة (3) .
وقد ذكر النووي في التبيان أحوال السلف في ختم القرآن ، وعاداتهم في قدر ما يختمون فيه ، ثُمَّ قال : ( والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، فمن كان يظهرُ له بدقيق الفكر لطائفُ ومعارف فليقتصر على قدرٍ يحصل له به كمالُ فهم ما يقرؤه ، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة ، فليقتصر على قدرٍ لايحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له ، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة (4) ) (5) ا هـ .
__________
(1) سبق تخريجه قريباً بلفظ : { لايفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث } .
(2) فضائل القرآن لابن كثير ص 256 .
(3) المرجع السابق ص 257 ، 258 .
(4) الهذرمة : - بالذال - السرعة في القراءة والكلام ، يقال : هذرم وِرْدَه أي هذّه . مختار الصحاح مادة ( هـ ذ ر م ) ص 611 .
(5) التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 62 . وانظر : كتاب الأذكار له أيضاً ص 138 ، 139 .(1/382)
وقال في شرح صحيح مسلم : ( والمختار أنه يستكثر منه ما يُمكنه الدوام عليه ولايعتاد إلاَّ ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره ، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل بإكثار القرآن عنها ، فإن كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يُمكنه المحافظة عليها مع نشاطه وغيره من غير إخلال بشيء من كمال تلك الوظيفة ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف ، والله أعلم ) (1) ا هـ .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( وقد كره غيرُ واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث ، كما هو مذهب أبي عبيد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهما من الخلف .
... عن معاذ بن جبل أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث (2) .
وقال عبد الله بن مسعود : مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز (3) .
وفي المسند عن عبدالرحمن بن شيل مرفوعاً : { اقرؤوا القرآن ، ولاتغلوا فيه ، ولاتجفوا عنه ، ولاتأكلوا به ، ولاتستكثروا به } (4) .
فقوله : { لاتغلوا فيه } أي : لاتبالغوا في تلاوته بسرعة في أقصر مدة ، فإن ذلك ينافي التدبر غالباً ، ولهذا قابله بقوله : { ولاتجفوا عنه } أي : لاتتركوا تلاوته ) (5) ا هـ .
وبهذا نعلم أن ما جاء في الآثار عن كثير من السلف أنهم كانوا يختمون في أقل من ثلاث ليس مشروعاً ولا مستحباً ، بل هو خلاف المشروع ، ويُمكن أن يجاب عن فعلهم هذا بأجوبة :
منها : أنه لم يبلغهم النهي عن ذلك .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 8/293 .
(2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 89 ، وذكر ابن كثير أنه أثر صحيح .
(3) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 89 ، وذكر محقق فضائل القرآن لابن كثير بأن إسناده ضعيف . ص 308 .
(4) أخرجه الإمام أحمد 3/444 وقال أبو إسحاق الحويني ، محقق فضائل القرآن لابن كثير : وسنده صحيح ص 256 .
(5) فضائل القرآن لابن كثير باختصار وتصرف يسير ص 254 - 256 .(1/383)
ومنها : أنهم كانوا يفهمون ويتفكرون فيما يقرؤونه مع هذه السرعة (1) .
ومنها : أنهم لم يحملوا النهي على المنع .
ومنها : أنهم خصصوا النهي بمن ورد في حقه ، وقالوا : إن مقدار القراءة يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، والله أعلم (2) .
وعلى كُلٍّ ؛ فالذي لاينبغي الشك والامتراء فيه أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه هو القدوة والأسوة الحسنة لنا ، كما قال سبحانه : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا = 21 } [ الأحزاب : 21 ] .
فنحن متعبدون باتباع سنته وهديه ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه مسلم : ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا صلى ليلة إلى الصبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان (3) .
المسألة الثانية : هل يكون التحزيب بالسور أو بالأجزاء ؟ :
__________
(1) انظر : المرجع السابق ص 260 .
(2) انظر : هدي السلف في تحزيب القرآن : لمحمد الدويش في مجلة البيان ، العدد 42 ص 51 .
(3) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب : جامع صلاة الليل رقم [746] ص 293 ، 294 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/384)
جاء في حديث أوس بن حذيفة الثقفي - رضي الله عنه - قال : سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُحزِّبُون القرآن ؟ قالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل وحده (1) .
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هذا الحديث واستدل به على أن الصحابة كانوا يحزبون القرآن سوراً تامة ، ولايحزبون السورة الواحدة .
وذكر - رحمه الله - أن التحزيب بالسور أفضل وأحسن لوجوه :
أحدها : أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن في كثير من المواضع الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده ، حتى إن بعض المواضع يكون الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه ، فيبدأ القارئ في اليوم الثاني بمعطوف كقوله تعالى في أول الجزء الخامس : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ } [ النساء : 24 ] .
وبعضها يتضمن الوقوف على بعض القصة دون بعض حتى إن بعض المواضع يكون الوقف فيها على كلام أحد المتخاطبين ، ويكون الابتداء في اليوم التالي بكلام المجيب ، كما في قوله تعالى في سورة الكهف في أول الجزء السادس عشر : { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا } [ الكهف : 75 ] .
ومثل هذه الوقوف لايسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي .
الثاني : أن المنقول عن الصحابة هو التحزيب بالسور لا بالأجزاء ، كما في حديث حذيفة السابق .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : تحزيب القرآن رقم [1393] 2/114 - 116 ، وأحمد في المسند 4/9 ، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة ، باب : في كم يستحب ختم القرآن رقم [1345] . وانظر : ضعيف سنن ابن ماجه رقم [283] ، وقد احتج بهذا الحديث كل من شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 13/408 ، 409 ، وابن كثير في تفسيره 4/221 . وذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/280 ، وقال : وإسناده جيد .(1/385)
الثالث : أن الأجزاء والأحزاب محدثة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنَّما أحدثت بعد ذلك كما هو معلوم (1) .
إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها - رحمه الله - .
وبهذا نعلم أن التحزيب بالسور هو المشروع وهو الأفضل والأكمل ، سواء كان ذلك في القراءة أثناء الصلاة أو خارجها ، والله أعلم .
* * *
المطلب الثالث
كيفية القراءة
عن حفصة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سُبْحَتِه قاعداً قط حتى كان قبل وفاته بعام ، فكان يصلي في سبحته قاعداً ، ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها (2) .
ذكر ابن عبدالبر هذا الحديث في التمهيد ، ثُمَّ ذكر بعض فوائده ، ومِمَّا قال في ذلك : ( وفيه ترتيل القرآن في الصلاة ، وهو الذي أمر الله به رسوله ، واختاره له ولسائر أمته ، قال الله عزوجل : { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] والترتيل التمهل والترسل ليقع مع ذلك التدبر ؛ وكذلك كانت قراءته صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً - فيما حكت أم سلمة وغيرها .
وقد ذكرنا فضل الترتيل على الهذّ في كتاب جمعناه في ( البيان عن تلاوة القرآن ) .
وفي قول حفصة : فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها - دليلٌ على إباحة الهذّ ، لأنه محال أن تكون أطول من أطول منها إذا رتلت التي هي أطول منها مثل ترتيلها ، وإنَّما أرادت أطول من أطول منها إذا حدرت تلك ، وهذّ بها قارئها ) (3) ا هـ .
الدراسة :
__________
(1) انظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - 13/410 - 412 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب صلاة الجماعة ، باب : ماجاء في صلاة القاعد في النافلة ص 131 ، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب : جواز النافلة قائماً وقاعداً .
(3) التمهيد 6/222 ، 223 ، وانظر : الاستذكار 5/411 .(1/386)
الترتيل في اللغة : من قولهم : ثغْرٌ مُرَتَّل ، ورَتَلٌ : أي مُفَلجَّ ، مستوي النبتة حسن التنضيد ، والرَّتْلُ أصله حسن تناسق الشيء ، وقولُهم : رتّل الكلام ترتيلاً ، أي أحسن تأليفه (1) .
والترتيل : إرسالُ الكلمة من الفم بسهولة واستقامة (2) .
والهذّ : الإسراع ، تقول : هذّه هذّاً : اسرع قطعه ، وسكين هَذُودٌ .
وهذّ القرآن يهذه هذّاً إذا أسرع فيه وتابعه (3) .
ولاشك أن ترتيل القرآن مأمور به شرعاً كما في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَرَتِّلِ ا؟لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] .
قال ابن جرير : ( يقول جل ثناؤه : وبيّن القرآن إذا قرأته تبييناً ، وترسل فيه ترسلاً ) (4) .
وقال الزجاج (5) : ( ومعنى { وَرَتِّلِ ا؟لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } بينه تبييناً ، والتبيين لايتم بأن يعجل في القرآن ، إنَّما يتم بأن تُبين جميع الحروف ، وتُوفى حقها من الإشباع ) (6) ا هـ .
__________
(1) انظر : أساس البلاغة للزمخشري ص 154 .
(2) مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص 341 .
(3) انظر : أساس البلاغة للزمخشري ص 482 .
(4) تفسير ابن جرير 12/280 .
(5) هو : إبراهيم بن السّريّ بن سهل ، أبو إسحاق الزجاج ، قال الخطيب : كان من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد ، جميل المذهب ، له من التصانيف : معاني القرآن ، والاشتقاق ، وما ينصرف وما لاينصرف وغيرها . مات سنة 311 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 1/9 - 12 .
(6) معاني القرآن للزجاج 5/239 ، 240 .(1/387)
قال أبو المظفر السمعاني (1) : ( وحقيقة الترتيل هي الترسل في القراءة ، وإعطاء الحروف حقها من الإشباع بلا عجل ولا هذرة ) (2) .
وقد استجاب النبي - عليه الصلاة والسلام - لأمر ربه ، فكان يرتل القرآن ، بعد أن كان يحرك به لسانك ليعجل به ، فنهاه الله عن ذلك ، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ÷ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ÷% = 16 } [ القيامة : 16 ] قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدّة ، وكان مِمَّا يحرك شفتيه ، ... فأنزل الله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ÷ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ÷% = 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ , وَقُرْءَانَهُ , = 17 } [ القيامة : 16 ، 17 ] قال : جمعُهُ له في صدرك وتقرأه : { فَإِذَا قَرَأْنَـ!ــهُ فَا؟تَّبِعْ قُرْءَانَهُ , = 18 } [ القيامة : 18 ] قال : فاستَمِعْ له وأَنصِتْ : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ , = 19 } [ القيامة : 19 ] ثُمَّ إن علينا أن تقرأه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع ، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه (3) .
فكان هديُ النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة هو الترتيل والتأني .
__________
(1) هو : الإمام العلامة ، مفتي خراسان ، شيخ الشافعية ، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبدالجبار التميمي السمعاني ، كان بحراً في الوعظ ، حافظاً ، زاهداً ، ورعاً ، له تفسير القرآن ، وقواطع الأدلة في أصول الفقه ، وغيرها من المصنفات ، مات سنة 489 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 19/114 - 119 .
(2) تفسير القرآن لأبي مظفر السمعاني 6/77 .
(3) رواه البخاري في كتاب بدأ الوحي رقم [5] ص 22 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب الصلاة ، باب : الاستماع للقراءة رقم [448] ص 189 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/388)
قال ابن القيم - رحمه الله - وهو يذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن : ( وكانت قراءته ترتيلاً لا هذّاً ولا عجلة ، بل قراءة مفسرة حرفاً حرفاً (1) ، وكان يقطع قراءته آية آية (2) ، وكان يمد عند حروف المد ، فيمد { الرحمن } ويمد { الرحيم } (3) ) (4) .
وقد اتفق العلماء - رحمهم الله - على استحباب الترتيل (5) .
__________
(1) عن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة النبي e فإذا هي تنعت قراءته حرفاً حرفاً رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : استحباب الترتيل في القرآن رقم [1466] 2/154 ، والترمذي في كتاب فضائل القرآن باب : كيف كانت قراءته e رقم [2923] 5/167 ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب .
... وقال عبدالقادر الأرناؤوط في تحقيقه للتبيان في آداب حملة القرآن للنووي : وهو حديث صحيح . ص 83 ، وضعفه الألباني في ضعف سنن الترمذي رقم [561] ، وضعيف سنن النسائي رقم [46 ، 100] ص 63 .
(2) عن أم سلمة قالت : كان رسول الله e يقطع قراءته ... أخرجه أبو داود في كتاب الحروف والقراءات رقم [400] 4/294 ، والترمذي في كتاب القراءات ، باب : في فاتحة الكتاب رقم [2927] 5/170 ، وقال : هذا حديث غريب ، وأخرجه الحاكم في المستدرك رقم [2964] 2/606 ، 607 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
... والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم [2336] 3/13 ، وتوسع في تخريجه في الإرواء 2/59 - 61 رقم [343] .
(3) سئل أنس عن قراءة النبي e فقال : كانت مداً ثُمَّ قرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم } يمد بسم الله ، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم . أخرجه البخاري في فضائل القرآن ، باب : من القراءة رقم [5045 ، 5046] ص 101 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(4) زاد المعاد لابن القيم 1/482 .
(5) انظر : التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 82 .(1/389)
ولا خلاف في أن ترتيل القراءة أفضل من هذّها إذا كان مقدار المقروء واحداً في الحالين .
ولكنهم اختلفوا في الترتيل وقلة القراءة هل ذلك أفضل أو السرعة وكثرة القراءة ؟ فقال بعضهم : الترتيل مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها ؛ لأن المقصود هو تفهمُ القرآن وتدبرُه ، والفقهُ فيه والعملُ به ، وهذا لايَكْمُل إلاَّ مع الترتيل وتدبر القرآن ، هذا إضافة إلى كون الترتيل هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وخير الهدي هديه ، وهو القدوة والأسوة .
وقال بعضهم : كثرة القراءة أفضل ؛ لأن في ذلك زيادة في عدد الحروف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : { من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : ( الم ) حرف ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف } (1) .
قال ابن القيم - رحمه الله - بعد ذكره للقولين السابقين : ( والصواب في المسألة أن يقال : إن ثوابَ قراءة الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفع قدراً ، وثوابَ كثرة القراءة أكثر عدداً ، فالأول : كمن تصدق بجوهرة عظيمة ، أو أعتق عبداً قيمته نفيسة جداً ، والثاني كمن تصدّق بعدد كثير من الدراهم ، أو أعتق عدداً من العبيد قيمتهم رخيصة ) (2) ا هـ .
وذكر ابن حجر معنى كلام ابن القيم - رحمهما الله - ومال إليه وذكر أنه هو التحقيق (3) .
ولعل الراجح في المسألة - والله أعلم - هو ما ذهب إليه ابن عبد البر من تفضيل الترتيل على الهذّ ؛ لأن الترتيل هو الذي أمر الله به نبيه ، واختاره له ولسائر أمته ، ولأنه هديُ النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) سبق تخريجه ص 171 .
(2) زاد المعاد لابن القيم 1/337 - 339 .
(3) فتح الباري لابن حجر 8/707 .(1/390)
ويستثنى من هذا من كان لايحسن إلاَّ الهذّ ، فإذا رتل أخطأ ، وهذا معنى ما ذكره القرطبي في التذكار بقوله : ( وروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك في الهذّ في القراءة فقال : من الناس من إذا هذّ كان أخف عليه ، وإذا رتل أخطأ ، ومن الناس من لايحسن هذا ، والناس في هذا على قدر درجاتهم وما يخف عليهم وكل واسع ) (1) ا هـ .
وأمَّا الهذّ فقد بيّن ابن عبد البر في كلامه السابق أنه جائز ، حيث قال : ( وفي قول حفصة : فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها - دليل على إباحة الهذّ ؛ لأنه محالٌ أن تكون أطول من أطول منها إذا رتلت التي هي أطول منها ترتيلها ، وإنَّما أرادت أطول من أطول منها إذا حدرت تلك ، وهذَّ بِهَا قارئها ) ا هـ .
واستدلال ابن عبد البر على جواز الهذّ بقول حفصة : حتى تكون أطول من أطول منها إنَّما يصح إذا كان مرادها - رضي الله عنها - : أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القارئ للسورة التي هي أطول من التي رتلها ؛ أمَّا إذا كان القارئ غيره للسورة الطويلة فليس في الحديث ما يدل على إباحة الهذّ وإنَّما فيه الدلالة على ترتيل النبي صلى الله عليه وسلم للسورة التي يقرؤها .
ثُمَّ إن الترتيل مراتب ، وأعلى هذه المراتب هو ما يطلق عليه علماء التجويد : التحقيق وقد كانت قراءته صلى الله عليه وسلم التحقيق ، وهذا هو ما يدل عليه حديث حفصة - رضي الله عنها (2) - .
ثُمَّ تأتي مرتبة التوسط ، وهي ما يطلق عليها علماء التجويد : التدوير ، ويعرفونه بأنه قراءة القرآن الكريم بحالة متوسطة بين الاطمئنان والسرعة مع مراعاة الأحكام (3) .
__________
(1) التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي ص 120 .
(2) انظر : كتاب سنن القراء ومناهج المجودين للدكتور : عبدالعزيز القارئ ص 70 .
(3) غاية المريد في علم التجويد ص 20 .(1/391)
ثُمَّ تأتي المرتبة الثالثة من مراتب الترتيل وهي السرعة في القراءة ، وهي ما يطلق عليها علماء التجويد : الحَدْر ، ويعرفونه بأنه : قراءة القرآن بسرعة ، مع المحافظة على أحكام التجويد (1) .
وهذا هو التحقيق في كيفيات القراءة فهي ثلاث كيفيات : التحقيق ، والتدوير ، والحدر ، وكلها داخلة تحت الترتيل ، فالترتيل يشمل هذه الكيفيات الثلاث ، وهذا ما ذهب إليه إمام القراء ابن الجزري - رحمه الله - حيث قال : ( وأمَّا كيف يقرأ القرآن فإن كلام الله تعالى يقرأ بالتحقيق وبالحدر وبالتدوير الذي هو التوسط بين الحالتين مرتلاً مجوداً بلحون العرب وأصواتها ، وتحسين اللفظ والصوت بحسب الاستطاعة ) (2) ا هـ .
ثُمَّ ذكر تعريف كل كيفية من هذه الكيفيات الثلاث ، وذكر أن التحقيق نوع من الترتيل ، وكذلك الحدر لايخرج عن الترتيل (3) .
وهذا التقسيم أولى من تقسيم القراءة إلى ثلاث كيفيات ، وهي : الترتيل ، والتدوير ، والحدر ، وبعضهم يزيد كيفية رابعة وهي التحقيق ، لأن مقتضى هذا التقسيم أن الكيفيات الأخرى خارجة عن الترتيل ، فيكون القارئ بها قد خالف الأمر الوارد في قوله تعالى : { وَرَتِّلِ ا؟لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] .
__________
(1) المرجع السابق ص 20 .
(2) النشر لابن الجزري 1/205 .
(3) انظر : المرجع السابق 1/205 - 207 .(1/392)
وبناءً على ما سبق تقريره ، فإن المباح في القراءة هو الإسراع الذي لايخرج إلى حدّ الإفراط ، ولايخرج عن أحكام التجويد الواجبة التي لابد من مراعاتها ، وهذا هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام ابن عبدالبر في إباحة الهذّ ، فالهذّ المباح هو الحدر في القراءة ، وأمَّا الإفراط في السرعة ، فقد ورد النهي عنه ، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قال له : إني لأقرأ المُفَصَّلَ في ركعة ، فقال عبد الله : هذّا كهذّ الشِّعْر ؟ إن أقواماً يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع (1) .
قال النووي - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث : ( ... ففيه النهي عن الهذّ والحث على الترتيل والتدبر ، وبه قال جمهور العلماء ، قال القاضي (2) : وأباحت طائفة قليلة الهذّ ) (3) ا هـ .
وقال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح : ( وإنَّما الذي يكره الهذّ وهو الإسراع المفرط بحيث يَخْفَى كثيرٌ من الحروف ، أو لاتخرج من مخارجها ... ، ودليل جواز الإسراع ما تقدم في أحاديث الأنبياء من حديث أبي هريرة رفعه : { خُفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدوابه فتسرج ، فيفرغ من القرآن قبل أن تسرج } (4) ) (5) .
وخلاصة ما سبق أن الهذّ قسمان :
__________
(1) صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب : ترتيل القراءة واجتناب الهذّ وهو الإفراط في السرعة رقم [822] ص 319 ، 320 .
... وهو في البخاري أيضاً في فضائل القرآن ، باب : الترتيل في القراءة رقم [5043] .
(2) المراد به القاضي عياض وقد سبقت ترجمته ص 53 .
(3) شرح صحيح مسلم للنووي 6/353 .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب : { وَءَاتَيْنَا دَاوُ , دَ زَبُورًا } [ النساء : 163 ] رقم [3417] ص 657 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(5) فتح الباري 8/707 .(1/393)
أحدهما : الهذّ المكروه وهو الإسراع في القراءة بحيث يخفى كثير من الحروف ، أو لاتخرج من مخارجها ، فلايحصل المراد من القراءة .
وهذا ما يسميه بعضهم بالهذرمة ، وهي مكروهة في القراءة ، ولذا ورد النهي عن ختم القرآن في أقل من سبع ، وفي رواية في أقل من ثلاث (1) .
والثاني : الهذّ المباح ، وهو الحدر الذي سبق بيانه ، فهذا لاشك في جوازه ، وهو أقل مراتب الترتيل ، والله أعلم .
* * *
المطلب الرابع
ما جاء في الطهارة لقراءة القرآن
روى الإمام مالك في الموطأ عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، أن عمر ابن الخطاب كان في قوم وهم يقرؤون القرآن ، فذهب لحاجته ، ثُمَّ رجع وهو يقرأ القرآن ، فقال له رجلٌ : يا أمير المؤمنين ، أتقرأ القرآن ولست على وضوء ؟! فقال له عمر : مَن أفتاك بهذا ؟ أمسيلمة (2) ؟ .
قال ابن عبدالبر : ( وفي هذا الحديث جواز قراءة القرآن طاهراً في غير المصحف لمن ليس على وضوء إن لم يكن جنباً .
وعلى هذا جماعة أهل العلم ، لايختلفون فيه إلاَّ من شذّ عن جماعتهم ممن هو محجوج بهم ، وحسْبُك بعمر في جماعة الصحابة وهم السلف الصالح .
__________
(1) سبق تخريج هذه الروايات ، وانظر : كتاب سنن القراء ومناهج المجودين للقارئ ص 72 .
(2) أخرجه الإمام مالك في كتاب القرآن ، باب : الرخصة في قراءة القرآن على غير وضوء ص 177 ، 178 ، ومحمد بن سيرين لم يسمع من عمر فالسند منقطع .(1/394)
والسنن بذلك أيضاً ثابتة ، فمنها : حديث ابن عباس في حديث صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، وفيه : { فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه ، فجلس ، ومسح النوم عن وجهه ، ثُمَّ قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران ، ثُمَّ قام إلى شن معلقة فتوضأ منها ، وذكر تمام الحديث } (1) .
وهذا نصٌّ في قراءة القرآن طاهراً على غير وضوء .
وحديث علي بن أبي طالب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايحجبه عن تلاوة القرآن شيء إلاَّ الجنابة (2) .
وقد شذّ داود عن الجماعة بإجازة قراءة القرآن للجنب ، وقال في حديث عليّ : إنه ليس قولَ النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا اعتراض مردود عند جماعة أهل العلم بالآثار والفقه ؛ لأن علياً لم يقله عنه حتى علمه منه ، ويلزمه على هذا أن يردَ قول ابن عمر : قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مِجَنّ (3) ، وقولَ عمرَ : رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا (4) ، ومِثلَه قول الصاحب : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا ... ، ونحو هذا ومثلُ هذا كثير ) (5) ا هـ .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه ومنها في كتاب الوضوء ، باب : قراءة القرآن بعد الحدث وغيره رقم [183] ص 60 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب : الدعاء في صلاة الليل وقيامه رقم [763] ص 300 .
(2) سيأتي تخريجه والكلام عليه بتوسع قريباً - إن شاء الله - عند الدراسة .
(3) أخرجه البخاري في الحدود رقم [6796] ص 1296 ، ومسلم رقم [1686] ص 700 .
(4) سبق تخريجه ص 242 ، 243 .
(5) الاستذكار 8/14 - 16 باختصار يسير .(1/395)
وقال في التمهيد - عند شرحه لحديث ابن عباس السابق - : ( وفيه قراءة القرآن على غير وضوء ؛ لأنه نام النوم الكثير الذي لايختلف في مثله ، ثُمَّ استيقظ ، فقرأ قبل أن يتوضأ ، ثُمَّ توضأ بعد وصلى .
ومن هذا المعنى - والله أعلم - أخذ عمر قوله للذي قال له : أتقرأ وأنت على غير وضوء ؛ فقال له عمر : أفتاك بهذا مسيلمة ؟ ) (1) .
الدراسة :
الطهارة إمَّا أن تكون من حدث أصغر ، وهي الوضوء ؛ وإمَّا أن تكون من حدث أكبر ، وهي الغسل .
فأمَّا الطهارة من الحدث الأصغر ، فإنها لاتشترط لقراءة القرآن بإجماع أهل العلم ، فقد أجمعوا على جواز قراءة القرآن للمحدث حدثاً أصغر (2) .
والأدلة على ذلك كثيرة .
ومن الأدلة الصريحة الصحيحة على ذلك : حديث ابن عباس السابق - الذي ذكره ابن عبدالبر - وقد ذكره البخاري في صحيحه في كتاب الوضوء ، باب : قراءة القرآن بعد الحدث وغيره (3) .
ومن الأدلة أيضاً : حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه (4) .
__________
(1) التمهيد 13/207 .
(2) انظر : المجموع للنووي 2/163 ، وشرح السنة للبغوي 2/48 .
(3) صحيح البخاري ص 60 ( بيت الأفكار الدولية ) .
(4) أورده البخاري بغير إسناد في كتاب الحيض ، باب : تقضي الحائض المناسك كلها إلاَّ الطواف بالبيت ص 80 ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب : ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها رقم [373] ص 162 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .(1/396)
ومنها : حديث علي - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته ثُمَّ يخرج فيقرأ القرآن ، ويأكل معنا اللحم ، ولايحجبه - ورُبَّما قال : لايحجزه - عن القرآن شيء ليس الجنابة (1) .
وفي رواية : كان يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً (2) .
ومع ذلك فالأفضل للمسلم أن يتطهر لذكر الله تعالى لما ثبت عن المهاجر بن منقذ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه ، فلم يرد عليه حتى توضأ ، ثُمَّ اعتذر إليه فقال : { إني كرهت أن أذكر الله تعالى ذكره إلاَّ على طهر } (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 2/151 وقال محققه أحمد شاكر : إسناده صحيح ، وأبو داود في كتاب الطهارة ، باب : في الجنب يقرأ القرآن رقم [229] 1/155 ، وأخرجه الترمذي مختصراً كما سيأتي في التعليق التالي .
(2) أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة ، باب : في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً رقم [146] 1/273 ، 274] وقال : حديث علي هذا حديث حسن صحيح .
... وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/51 بلفظ : كان رسول الله e يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً ، وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح .
... والحديث فيه خلاف كبير ، فمن العلماء من صححه ، ومنهم من ضعفه ، انظر : هذا الخلاف في شرح الستة للبغوي 2/42 حاشية ، وفي تعليق أحمد شاكر على سنن الترمذي 1/274 ، 275 .
... وللتوسع أكثر انظر : بحث حكم قراءة الجنب للقرآن لسليمان بن ناصر العلوان في مجلة الحكمة ، العدد الخامس ص 109 ، 110 .
(3) رواه أبو داود في الطهارة ، باب : أيرد السلام وهو يبول رقم [17] 1/23 ، وأخرجه النسائي في الطهارة برقم [38] ، وابن ماجه برقم [350] .
... والحديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود رقم [13] 1/6 .(1/397)
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي الجهم قال : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على جدار فمسح بوجهه ويديه ثُمَّ ردّ السلام (1) .
فهذان الحديثان يدلان على كراهة ذكر الله على غير طهارة - ولاشك أن قراءة القرآن أفضل الذكر - ، والأدلة السابقة تدل على جواز القراءة على غير وضوء ، فيُجمع بين الأدلة بأن تحمل أدلة الكراهة على استحباب الطهارة لذكر الله وقراءة القرآن ، فالكراهة كراهة تنزيه لا تحريم (2) .
وأمَّا الطهارة من الحدث الأكبر ، فقد ذهب جمهور العلماء إلى اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر لقراءة القرآن ، كما ذكر ذلك الترمذي (3) في سننه ، حيث قال : ( وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم ) (4) .
وذهب جماعة من العلماء إلى جواز قراءة القرآن للجنب مطلقاً .
وتوسط آخرون فقالوا : يجوز قراءة الآية والآيتين والشيء اليسير ، ويحرم الكثير .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم ، باب : التيمم في الحضر رقم [337] ص 87 ، ومسلم في كتاب الحيض ، باب : التيمم رقم [369] ص 161 .
(2) انظر : كتاب الطهارة لقراءة القرآن للدكتور فيحان المطيري ص 18 ، 19 .
(3) هو : الإمام الحافظ ، أبو عيسى ، محمد بن عيسى بن سَوْرة السُّلَمي الضرير ، مصنف الجامع ، وكتاب { العلل } كان يضرب به المثل في الحفظ ، مات - رحمه الله - سنة 279 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/338 - 340 .
(4) سنن الترمذي 1/246 .(1/398)
وقد قال بكل قول من هذه الأقوال الثلاثة جماعة من أهل العلم (1) .
ومحل تفصيل هذه المسألة كتب الفقه والأحكام إلاَّ أن الذي ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن قراءة القرآن من أفضل العبادات ، فينبغي لقارئ القرآن أن يتأدب بالآداب التي ذكرها العلماء - وخاصة ما دلّ عليه الدليل من هذه الآداب - احتراماً للقرآن الذي هو كلام الله تعالى .
* * *
الموضوع السابع
سجدات القرآن الكريم
وتحته تمهيد وخمسة مباحث :
المبحث الأول : حكم سجود التلاوة
المبحث الثاني : عدد سجدات القرآن
المبحث الثالث : الطهارة لسجود التلاوة
المبحث الرابع : صفة سجود التلاوة
المبحث الخامس : قراءة السجدة في الصلاة
تمهيد :
سجدات القرآن هي السجدات التي يشرع لمن قرأ آية فيها سجدة أو سمعها أن يسجدها ، وهي العبادة الموسومة عند أهل العلم بـ { سجود التلاوة } ، وهي عبادة مشروعة بإجماع العلماء ، دلّ على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : { إِنَّ ا؟لَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُو؛َ عَنْ عِبَادَتِهِ÷ وَيُسَبِّحُونَهُ , وَلَهُ , يَسْجُدُونَ = 206 } [ الأعراف : 206 ] .
وقال جل وعلا : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـ:ــَايَـ!ـــتِنَا ا؟لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ = 15 } [ السجدة : 15 ] .
__________
(1) انظر : تفصيل هذه المسألة في مجلة الحكمة ، العدد الخامس بحث بعنوان : حكم قراءة الجنب للقرآن ص 105 - 126 ، فهو بحث مفيد . وانظر كذلك : مجلة البحوث العلمية ، العدد الثالث عشر ص 45 - 57 ، وانظر : كتاب مسائل من فقه الكتاب والسنة للدكتور عمر الأشقر ص 176 - 183 ، وانظر كذلك كتاب الطهارة لقراءة القرآن والطواف بالبيت الحرام للدكتور فيحان المطيري ص 20 - 47 .(1/399)
وقال تبارك اسمه : { أُولَـ!ــ%ـئِكَ ا؟لَّذِينَ أَنْعَمَ ا؟للَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ا؟لنَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَ !هِيـ-َ وَإِسْرَ ! %ءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَا؟جْتَبَيْنَآ" إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـ!ــتُ ا؟لرَّحْمَـ!ـنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا = 85 } [ مريم : 58 ] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ، ونسجد ، حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته . رواه البخاري ومسلم (1) .
وفي لفظ للبخاري : فيسجد ونسجد معه ، فنزدحم ، حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه (2) .
وزاد مسلم : في غير صلاة .
وأمَّا الإجماع فقد حكاه غير واحد من العلماء ، ومنهم النووي الذي قال في شرحه لحديث ابن عمر السابق : ( وفيه إثبات سجود التلاوة وقد أجمع العلماء عليه ) (3) .
وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على فضيلة هذا السجود وأهميته ، وأنه من أعمال الأنبياء وأولي العلم الصالحين الذين يؤمنون بآيات الله ، ولايستكبرون عن عبادة ربهم - سبحانه وتعالى - .
قال تعالى : { إِنَّ ا؟لَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُو؛َ عَنْ عِبَادَتِهِ÷ وَيُسَبِّحُونَهُ , وَلَهُ , يَسْجُدُونَ = 206 } [ الأعراف : 206 ] .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : من يسجد لسجود القارئ رقم [1075] ص 214 ( ط : الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب المساجد ، باب : سجود التلاوة رقم [575] ص 230 ( ط : الأفكار الدولية ) .
(2) رقم [1076] باب : ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 5/78 .(1/400)
وقال جلّ وعلا : { قُلْ ءَامِنُوا بِهِ÷% أَوْ لاَ تُؤْمِنُو%ا" إِنَّ ا؟لَّذِينَ أُوتُوا ا؟لْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ÷% إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا = 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَـ!ــنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً = 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا = 109 } [ الإسراء : 107 - 109 ] .
وفي سجود التلاوة إرضاء للرحمن وترغيم للشيطان ؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ( وفي رواية : يا ويلي ) أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجَنَّة ، وأمرتُ بالسجود فأبيتُ فَلِيَ النَّار } (1) .
وقد اهتم العلماء بدراسة أحكام هذا السجود ، ودراسة الأحاديث التي وردت فيه ، واستنبطوا الفوائد والأحكام (2) ، ومن هؤلاء العلماء ابن عبدالبر - رحمه الله - الذي شرح أحاديث الموطأ ، واهتم بها في كثير من كتبه .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة رقم [81] 60 ، 61 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) من الكتب المؤلف في أحكام سجود التلاوة - وقد استفدت منها كثيراً في مسائل هذا الموضوع :
... 1 - إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ، تأليف أبي عبدالرحمن محمود الجزائري .
... 2 - التبيان في سجدات القرآن ، جمع وتحقيق عبدالعزيز بن محمد السدحان .
... 3 - سجود التلاوة وأحكامه ، للدكتور صالح بن عبد الله اللاحم .
... وهذا الكتاب الأخير يدرس أحكام سجود التلاوة ، دراسة فقهية مقارنة بشيء من التوسع .(1/401)
وقد عقد الإمام مالك - رحمه الله تعالى - باباً في كتابه الموطأ في كتاب القرآن ، وهو باب ماجاء في سجود التلاوة (1) ، وذكر تحته مجموعة من الأحاديث والآثار المتعلقة به ؛ وقام ابن عبدالبر بشرح هذه الأحاديث والآثار بتوسع في كتابه الاستذكار ، وَذَكَرَ أقاويل العلماء في المسائل المستفادة من هذه الأحاديث .
وقد قرأتُ ما كتبه في هذا الباب ، فرأيته طويلاً متداخلَ المسائل ، فقسمته إلى خمسة مباحث جامعة لجميع المسائل التي ذكرها - رحمه الله - ، ذكرتُ في كل مبحث ما يتعلق به من مسائل ، ثُمَّ قمتُ بدراسة هذه المسائل وبيان أقوال العلماء فيها وبيان الراجح منها ، فإلى مباحث هذا الموضوع :
المبحث الأول
حكم سجود التلاوة
قال ابن عبد البر - رحمه الله - : ( واختلفوا في سجود التلاوة ، فقال أبو حنيفة وأصحابه : هو واجب .
وقال مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، والليث : هو مسنون وليس بواجب .
وذكر مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة ، فنزل وسجد وسجد الناس معه ، ثُمَّ قرأها الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود ، فقال : على رِسْلِكُم ، إن الله لم يكتبها علينا إلاَّ أن نشاء ، فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا (2) .
__________
(1) انظر : موطأ الإمام مالك 1/181 - 183 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 ، وسأتي تخريجه في التعليق التالي بالتفصيل .(1/402)
وذكر عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة عن عثمان بن عبدالرحمن ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير ، أنه حضر عمرَ ابن الخطاب يوم الجمعة ، فقرأ على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها ، حتى إذا جاء السجدة قال : يا أيها الناس ، إنَّا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب وأحسن ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه . وقال : ولم يسجد عُمَرُ (1) .
قال : وأخبرنا ابن جُريج ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لم يفرض علينا السجود إلاَّ أن نشاء (2) .
قال أبو عمر : هذا عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة ، فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ، ولا اتفق العلماء على وجوبه ، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا أو ما كان في معناها ، وبالله توفيقنا ) (3) ا هـ .
وقال في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة : ( والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه ، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض ، ولكنه سنة كما ذكرنا ، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً في الصلاة فيشتركان في ذلك ) (4) ا هـ .
الدراسة :
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : مَن رأى أن الله عزوجل لم يوجب السجود رقم [1077] ص 214 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) أخرجه البخاري في الموضع السابق بلفظ : ( وزاد نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : إن الله لم يفرض السجود إلاَّ أن نشاء ) .
(3) الاستذكار 8/107 - 109 .
(4) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 76 ، 77 .(1/403)
بعد اتفاق العلماء على مشروعية سجود التلاوة - كما سبق بيانه - اختلفوا في حكمه ، فمنهم من قال بوجوبه ، وذهب الجمهور إلى سُنيَّته وعدم وجوبه (1) .
وقد رجح الإمام ابن عبدالبر أنه مسنون غير واجب ، وقال : ( فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ، ولا اتفق العلماء على وجوبه ) ا هـ .
وما رجحه ابن عبدالبر هو الراجح ، بل هو الصحيح الذي لاينبغي التعويل على غيره ، فهو القول الذي تنصره الأدلة ، وتقويّه وترجحه القواعد العلمية .
وقد بيّن ابن عبد البر هذه الأدلة ، ورجح هذا القول بمقتضى القواعد العلمية الشرعية .
فأمَّا الأدلة ؛ فقد ذكر منها ما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قرأ سورة النحل على المنبر يوم الجمعة ، حتى إذا جاء السجدة سجد وسجد الناس معه ، ثُمَّ لَمَّا قرأها في الجمعة الأخرى ، وجاء السجدة قال : أيها الناس ، إنَّا نَمُرُّ بالسجود ، فمن سجد فقد أصاب ، ومن لم يسجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد - رضي الله عنه (2) - .
ووجه الاستدلال بهذا الدليل أن ( القول من عمر رضي الله عنه في هذا الموطن والمجمع العظيم دليلٌ ظاهر في إجماع الصحابة وغيرهم أن سجود القرآن ليس بواجب ) (3) .
وجميلٌ ما قاله ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث قال : ( ومِن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها مَن جعل الله الحق على لسانه وقلبه حظّه ولاينكره عليه أحدٌ من الصحابة ، ويكون الصواب فيها حظّ من بعده ، هذا مِن أبين المحال !! ) (4) .
__________
(1) انظر أقوال العلماء في حكم سجود التلاوة ومناقشتها في المجموع للنووي 4/61 ، 62 ، وفي كتاب سجود التلاوة وأحكامه للدكتور صالح بن عبد الله اللاحم ص 12 - 27 .
(2) سبق تخريجه قريباً .
(3) المجموع للنووي 4/62 .
(4) إعلام الموقعين لابن القيم 4/178 ، 179 ، 180 ، حيث قرر هذا الكلام وأكّده أكثر من مرة .(1/404)
ومن الأدلة الصحيحة الصريحة في هذه المسألة ما رواه البخاري في صحيحه ، عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم { والنجم } فلم يسجد فيها (1) .
ووجه دلالة هذا الحديث على عدم الوجوب ، أن سجود التلاوة في سورة النجم ثابت شرعاً ، كما في الأحاديث الصحيحة ، ومع ثبوتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد ، ولم يأمر زيداً - رضي الله عنه - أن يسجد لَمَّا قرأها ، ولو كان السجود واجباً لأمره به ؛ لأن من القواعد المقررة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز .
وقد عبّر ابن خزيمة (2) - رحمه الله - على وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدم وجوب السجود بقوله في صحيحه : ( باب : ذكر الدليل على أن السجود عند قراءة السجدة فضيلة لا فريضة ، إذ النبي صلى الله عليه وسلم سجد وسجد المسلمون معه والمشركون جميعاً ؛ إلاَّ الرجلين اللذين أرادا الشهرة ، وقد قرأ زيد بن ثابت عند النبي صلى الله عليه وسلم { النجم } فلم يسجد ، ولم يأمره عليه السلام ، ولو كان السجود فريضة ؛ لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها ، ولولم تكن في { النجم } سجدة ؛ كما توهم بعض الناس ... لما سجد النبي صلى الله عليه وسلم في { النجم } ) (3) ا هـ .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : من قرأ السجدة ولم يسجد رقم [1072] ص 213 وأخرجه مسلم برقم [577] مطوّلاً .
(2) هو : الحافظ الثبت ، إمام الأئمة ، وشيخ الإسلام ، أبو بكر ، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال الدارقطني : كان ابن خزيمة إماماً ثبتاً معدوم النظير . سئل عنه عبدالرحمن بن أبي حاتم ، فقال : وَيْحَكُم ، هو يُسألُ عَنَّا ولانُسْألُ عنه ، هو إمام يقتدى به . مناقبه كثيرة - رحمه الله - توفي سنة 311 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/441 - 446 ، وسير أعلام النبلاء 14/365 - 382 .
(3) صحيح ابن خزيمة 1/284 .(1/405)
وقال البغوي - رحمه الله - بعد أن ذكر حديث زيد السابق : ( فيه دليلٌ على أن سجود التلاوة غيرُ واجب ، إذ لو كان واجباً لم يتركِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيداً حتى يسجد ) (1) ا هـ .
وأمَّا القواعد العلمية التي ترجح القول بعدم الوجوب ، فقد أشار إليها ابن عبدالبر بقوله : ( فلا وجه لقول من أوجب سجود التلاوة فرضاً ؛ لأن الله لم يوجبه ولا رسوله ولا اتفق العلماء على وجوبه ، والفرائض لاتثبت إلاَّ من الوجوه التي ذكرنا ، أو ماكان في معناها ، وبالله توفيقنا ) (2) ا هـ .
وقال في موضع آخر - بعد ذكره للأثرين عن عمر وابنه - : ( أي شيء أبين من هذا عن عمر ، وابن عمر ، ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت ، وليس قول من أوجبهما بشيء ، والفرائض لاتجب إلاَّ بحجة لا معارض لها - وبالله التوفيق ) (3) ا هـ .
وإذا تقرر هذا علمنا أن القول الراجح في حكم سجود التلاوة هو الاستحباب ، فسجود التلاوة مسنون وليس واجباً ، وهذا هو قول جمهور العلماء - والله تعالى أعلم - .
ويتعلق بهذا المبحث مسألتان :
المسألة الأولى : هل يلزم المستمع السجود إذا سجد القارئ ؟ :
قال ابن عبدالبر في الكافي : ( والسجود سنة للتالي وللسامع إذا كان جالساً إليه ، وليس بواجب على واحد منهما وجوب فرض ، ولكن سنة كما ذكرنا ، وهو على التالي أوكد من المستمع إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك ) (4) ا هـ .
مِمَّا سبق يتبين أن ابن عبدالبر يرى أن السجود سنة للتالي والسامع إذا كان جالساً إليه ، أي إذا كان قاصداً للسماع ، وهو من يعبر عنه العلماء بالمستمع .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر هو مذهب الحنابلة والشافعية والمالكية .
__________
(1) شرح السنة للبغوي 3/310 .
(2) الاستذكار 8/109 .
(3) التمهيد 19/133 .
(4) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 77 .(1/406)
وذهب الحنفية إلى وجوب ذلك على القارئ وعلى من سمعها ، سواء قصد ذلك أم لا (1) .
واحتج من قال بأن المستمع يسجد إذا سجد القارئ بحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته (2) .
هذا إذا سجد التالي ، أمَّا إذا لم يسجد التالي فإن المستمع لايسجد ؛ لأن سجودَ المستمع تبع لسجود القارئ ، فالقارئ أصل والمستمع فرع (3) .
قال البخاري في صحيحه : ( باب : من سجد لسجود القارئ . وقال ابن مسعود : لتميم بن حَذْلَم ، وهو غلام ، فقرأ عليه سجدة ، فقال : اسجد فإنك إمامنا فيها ) (4) ثُمَّ ذكر حديث ابن عمر السابق .
قال ابن حجر : ( وفي الترجمة إشارة إلى أن القارئ إذا لم يسجد لم يسجد السامع ) (5) ا هـ .
وقال البغوي في شرح السنة : ( والسنة للمستمع أن يسجد بسجود التالي ، فإن لم يسجد التالي فلايتأكد في حقه . قال مالك والشافعي : إذا لم يكن قعد لاستماع القرآن ، فإن شاء سجد ، وإن شاء لم يسجد ) (6) ا هـ .
قال عثمان - رضي الله عنه - : إنَّما السجدة على من استمعها (7) .
__________
(1) انظر تفصيل الخلاف في هذه المسألة في كتاب : أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 28 - 34 .
(2) سبق تخريجه ص 379 .
(3) انظر : الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين 4/133 .
(4) صحيح البخاري ص 214 ، وفتح الباري 2/647 .
(5) فتح الباري لابن حجر 2/647 .
(6) شرح السنة للبغوي 3/315 .
(7) صحيح البخاري كتاب سجود القرآن ، باب : من رَأى أن الله لم يوجب السجود ص 214 .(1/407)
وقولُ ابن عبدالبر : ( وهو على التالي أوكد من المستمع ، إلاَّ أن يكون التالي إماماً فيشتركان في ذلك ) فيه نظر ؛ لأن التالي إذا كان إماماً في الصلاة وسجد فإنه يتعين على المستمع أن يسجد وجوباً متابعة لإمامه ؛ لأن متابعة الإمام واجبة (1) .
وبهذا نعلم أن سجود المستمع في هذه الحال أوكد من سجود التالي ، فسجود التالي سنة ، وسجود المستمع في الصلاة واجب .
المسألة الثانية : حكم سجود التلاوة في أوقات النهي :
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - وهو يشرح قول مالك في الموطأ : ( وأمَّا قوله : لاينبغي لأحد يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة الصبح ، ولا بعد صلاة العصر .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، والسجدة من الصلاة ، فلاينبغي لأحد أن يقرأ سجدة في تينِكَ الساعتين (2) . فقولٌ صحيح وحجة واضحة .
وأمَّا اختلافهم في سجود التلاوة بعد الصبح وبعد العصر فقد ذكرنا ما ذكره مالك في الموطأ .
وقال ابن القاسم عنه : يسجد في هذين الوقتين ما لم تتغير الشمس أو يُسفر ، فإذا أسفر أو اصفرت الشمس لم يسجد ، وهذه الرواية قياس على مذهبه في صلاة الجنائز .
وقال الثوري مثلَ قول مالك في الموطأ .
وكان أبو حنيفة لايسجد عند الطلوع ولا عند الزوال ولا عند الغروب ، ويسجدها بعد العصر وبعد الفجر .
قال أبو عمر : وهكذا مذهبه في الصلاة على الجنائز .
__________
(1) انظر : المعتمد في فقه الإمام أحمد 1/165 .
(2) موطأ الإمام مالك كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 .(1/408)
وقال زُفَرُ (1) : إن سجد عند طلوع الشمس أو غروبها أو عند استوائها أجزأه إذا تلاها في ذلك الوقت .
وقال الأوزاعي والليث والحسن بن صالح (2) : لايسجد في الأوقات التي تكره فيها الصلاة .
وقال الشافعي : جائز أن يسجد بعد الصبح وبعد العصر ) (3) ا هـ .
هذا ما ذكره ابن عبدالبر في هذه المسألة ، وقد ذكر أقوال أهل المذاهب فيها ، ولم يبق إلاَّ قول الإمام أحمد .
فذهب أحمد في رواية عنه إلى أنه يسجد في كل وقت ، والرواية الثانية أنه لايسجد في أوقات النهي مطلقاً ، وهي المذهب (4) .
فهذه خلاصة أقوال أئمة المذاهب في هذه المسألة (5) .
وأمَّا رأى ابن عبدالبر فيها فهو ما ذكره الإمام مالك في الموطأ وهو أنه لاينبغي لأحدٍ أن يقرأ من سجود القرآن شيئاً بعد صلاة العصر ، وبعد صلاة الصبح ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذين الوقتين ، والسجدة من الصلاة ، فلاينبغي لأحدٍ أن يقرأ سجدة في تينك الساعتين .
قال ابن عبدالبر : هذا قولٌ صحيحٌ وحجةٌ واضحةٌ .
__________
(1) هو : زُفَرُ بن الهذيل العنبري ، الفقيه المجتهد الرباني ، العلاّمة ، أبو الهذيل ، كان من بحور الفقه ، وأذكياء الوقت ، تفقه بأبي حنيفة ، وهو أكبر تلامذته ، وكان ممن جمع بين العلم والعمل ، وكان يدري الحديث ويتقنه . مات سنة 158 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 8/38 - 41 .
(2) هو : الحسن بن صالح بن حي ، الإمام القدوة ، أبو عبد الله الهمداني الكوفي ، الفقيه العابد ، كان من كبار المحدثين ، ثقةً حافظاً متقناً عابداً زاهداً . كان وكيع يشبهه بسعيد بن جبير . مات - رحمه الله - سنة 167 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/320 - 322 .
(3) الاستذكار 8/109 - 110 .
(4) انظر : المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 1/687 .
(5) انظر تفصيل هذه المسألة وأقوال العلماء فيها في كتاب أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 102 - 107 .(1/409)
وأقول : قول ابن عبدالبر صحيح إذا اعتبرنا سجود التلاوة صلاةً - كما هو قول جمهور أهل العلم ، ومنهم الأئمة الأربعة وأصحابهم - ولكن الصحيح أن سجود التلاوة لايعتبر صلاةً - كما ذهب إلى ذلك ابن جرير وابن حزم وابن تيمية ، وهو قول الشعبي ، وسعيد بن المسيب (1) (2) - .
وإذا تقرّر أن سجود التلاوة ليس بصلاة فإنه لاينهى عنه في أوقات النهي ؛ لأن النهي إنَّما هو عن الصلاة ، ولا صلاة .
قال الشوكاني - رحمه الله - : ( روى عن بعض الصحابة أنه يكره سجود التلاوة في الأوقات المكروهة ، والظاهرُ عدم الكراهة ؛ لأن السجود المذكور ليس بصلاة ، والأحاديث الواردة في النهي مختصة بالصلاة ) (3) ا هـ .
* * *
المبحث الثاني
عدد سجدات القرآن ومواضعها
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( واختلفوا في جملة سجود القرآن ، ذهب مالك وأصحابه إلى أنها إحدى عشرة سجدة ، ليس في المفصل منها شيء .
وروى ذلك عن عمر ، وابن عباس على اختلاف عنه ... .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : أربع عشرة سجدة فيها الأولى من الحج .
وقال الشافعي : أربع عشرة سجدة ليس فيها سجدة { ص% } فإنها سجدة شكر . وفي الحج عنده سجدتان .
وقال أبو ثور : أربع عشرة سجدة ، فيها الثانية من الحج وسجدة { ص% } وأسقط سجدة النجم .
__________
(1) هو : الإمام ، شيخ الإسلام ، وفقيه المدينة ، وسيد التابعين ، سعيد بن المسَيِّبْ ، أبو محمد المخزومي ، أعلم التابعين على الإطلاق ، وكان قد سمع من كثير من الصحابة . وكان من أعبد الناس ، مناقبه كثيرة - رحمه الله تعالى - مات سنة 94 هـ على الأرجح الأقوال في تاريخ وفاته . انظر : طبقات علماء الحديث 1/112 - 113 ، وسير أعلام النبلاء 4/227 - 246 .
(2) انظر : أقوال العلماء في اعتبار سجود التلاوة صلاة في كتاب أحكام سجود التلاوة للدكتور صالح اللاحم ص 96 - 101 ، وكتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ص 21 - 28 .
(3) نيل الأوطار للشوكاني 3/126 .(1/410)
وقال أحمد وإسحاق : خمس عشرة سجدة . في الحج سجدتان ، وسجدة { ص% } .
وهو قول ابن وهب ، ورواه عن مالك .
وقال الطبري : خمس عشرة سجدة ، ويدخل في السجدة بتكبير ، ويخرج منها بتسليم .
وقال الليث بن سعد : يستحب أن يسجد في القرآن كله ، في المفصّل وغيره ) (1) ا هـ .
الدراسة :
يتبين لنا من عرض ابن عبدالبر السابق لأقوال العلماء في عدد سجدات القرآن أن عدد هذه السجدات بالجملة خمس عشرة سجدة ، على خلاف بين العلماء في بعضها - كما سيأتي تفصيله إن شاء الله - .
وتفصيل هذه السجدات كالتالي :
1 - قوله تعالى : { إِنَّ ا؟لَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُو؛َ عَنْ عِبَادَتِهِ÷ وَيُسَبِّحُونَهُ , وَلَهُ , يَسْجُدُونَ = 206 } [ الأعراف : 206 ] .
2 - قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَا؟لأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلـ!ــــلُهُم بِالْغُدُوِّ وَا؟لآصَالِ = 15 } [ الرعد : 15 ] .
3 - قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَمَا فِي ا؟لأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَا؟لْمَلَـ!ــ%ـئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ = 49 يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ = 50 } [ النحل : 49 ، 50 ] .
4 - قوله تعالى : { قُلْ ءَامِنُوا بِهِ÷% أَوْ لاَ تُؤْمِنُو%ا" إِنَّ ا؟لَّذِينَ أُوتُوا ا؟لْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ÷% إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا = 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَـ!ــنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً = 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا = 109 } [ الإسراء : 107 - 109 ] .
__________
(1) الاستذكار 8/106 - 107 باختصار يسير جداً . وانظر : التمهيد 19/131 ، 132 .(1/411)
5 - قوله تعالى : { أُولَـ!ــ%ـئِكَ ا؟لَّذِينَ أَنْعَمَ ا؟للَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ا؟لنَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَ !هِيـ-َ وَإِسْرَ ! %ءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَا؟جْتَبَيْنَآ" إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـ!ــتُ ا؟لرَّحْمَـ!ـنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا = 85 } [ مريم : 58 ] .
6 - قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ا؟للَّهَ يَسْجُدُ لَهُ , مَن فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَمَن فِي ا؟لأَرْضِ وَا؟لشَّمْسُ وَا؟لْقَمَرُ وَا؟لنُّجُومُ وَا؟لْجِبَالُ وَا؟لشَّجَرُ وَا؟لدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ا؟لنَّاسِ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ا؟لْعَذَابُ) وَمَن يُهِنِ ا؟للَّهُ فَمَا لَهُ , مِّن مُّكْرِمٍ" إِنَّ ا؟للَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ = 18 } [ الحج : 18 ] .
7 - قوله تعالى : { يَـ!ـــ%ــأَيُّهَا ا؟لَّذِيـ،َ ءَامَنُوا ا؟رْكَعُوا وَا؟سْجُدُوا وَا؟عْبُدُوا رَبَّكُمْ وَا؟فْعَلُوا ا؟لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ = 77 } [ الحج : 77 ] .
8 - قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ا؟سْجُدُوا لِلرَّحْمَـ!ـنِ قَالُوا وَمَا ا؟لرَّحْمَـ!ـنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا = 60 } [ الفرقان : 60 ] .
9 - قوله تعالى : { أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ ا؟لَّذِي يُخْرِجُ ا؟لْخَبْءَ فِي ا؟لسَّمَـ!ــوَ !تِ وَا؟لأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ = 25 ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ا؟لْعَرْشِ ا؟لْعَظِيمِ = 26 } [ النمل : 25 ، 26 ] .
10 - قوله تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـ:ـَايَـ!ــتِنَا ا؟لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ = 15 } [ السجدة : 15 ] .(1/412)
11 - قوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ÷( وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ا؟لْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ ا؟لَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ا؟لصَّـ!ــلِحَـ!ـتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) وَظَنَّ دَاوُ , دُ أَنَّمَا فَتَنَّـ!ــهُ فَا؟سْتَغْفَرَ رَبَّهُ , وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ = 24 } [ ص : 24 ] .
12 - قوله تعالى : { وَمِنْ ءَايَـ!ـــتِهِ ا؟لَّيْلُ وَا؟لنَّهَارُ وَا؟لشَّمْسُ وَا؟لْقَمَرُ" لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَا؟سْجُدُوا لِلَّهِ ا؟لَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ = 37 فَإِنِ ا؟سْتَكْبَرُوا فَا؟لَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ , بِا؟لَّيْلِ وَا؟لنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْـ:ــَمُونَ = 38 } [ فصلت : 37 ، 38 ] .
13 - قوله تعالى : { فَا؟سْجُدُوا لِلَّهِ وَا؟عْبُدُوا = 62 } [ النجم : 62 ] .
14 - قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ ا؟لْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ = 21 } [ الانشقاق : 21 ] .
15 - قوله تعالى : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَا؟سْجُدْ وَا؟قْتَرِبْ = 19 } [ العلق : 19 ] .
وقد اتفق العلماء على مشروعية السجود في عشرة مواضع من هذه المواضع الخمسة عشر ، وهي التي في السور التالية : الأعراف ، الرعد ، النحل ، الإسراء ، مريم ، الأولى من الحج ، والفرقان ، النمل ، السجدة ، فصلت .
قال العلاّمة ابن حزم - رحمه الله - : ( واتفقوا أنه ليس في القرآن أكثر من خمس عشرة سجدة ، واتفقوا منها على عشر ، واختلفوا في التي في { ص% } ، وفي الآخرة التي في الحج ، وفي الثلاث اللواتي في المفصل ) (1) ا هـ .
وقد بيّن ابن عبدالبر خلاف العلماء في المواضع التي حصل فيها خلاف ، وإليك ما ذكره - رحمه الله - في هذا :
__________
(1) مراتب الإجماع ص 37 ، نقلاً عن كتاب : إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ، لمحمود الجزائري ص 27 .(1/413)
أولاً : السجدة الثانية من الحج :
قال ابن عبدالبر : ( وذكر مالك في هذا الباب أيضاً عن نافع ، مولى ابن عمر ، أن رجلاً من أهل مصر ، أخبره أن عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج ، فسجد فيها سجدتين . ثُمَّ قال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين (1) .
وعن عبد الله بن دينار ، أنه قال : رأيت عبدَ الله بن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين (2) .
وهذه السجدة الثانية من الحج ، اختلف فيها الخلف والسلف ، وأجمعوا على أن الأولى يسجد فيها .
وقال الطحاوي : كل سجدة جاءت بلفظ الخبر فلم يختلفوا في أنه يسجد فيها ، واختلفوا فيما جاءت بلفظ الأمر (3) .
وأمَّا اختلافهم في السجدة الأخيرة من الحج ، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : ليس في الحج سجدةٌ إلاَّ واحدة وهي الأولى .
وروى ذلك عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وجابر بن زيد (4) واختلف فيها عن ابن عباس .
وقال الشافعي وأصحابه ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، والطبري : في الحج سجدتان .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 181 ، وفي سنده جهالة رجل من أهل مصر ، ولكن له شواهد بمعناه يتقوى بها . انظر : جامع الأصول لابن الأثير 5/55 حاشية .
(2) أخرجه مالك في الموضع السابق ص 182 ، وإسناده صحيح كما قال عبدالقادر الأرناؤوط في تحقيقه لأحاديث جامع الأصول لابن الأثير 5/556 حاشية .
(3) انظر قوله هذا في شرح معاني الآثار 1/361 .
(4) هو : جابر بن زيد الأزدي البصري ، أبو الشعثاء ، أحد الأعلام ، وصاحب ابن عباس . قال عمرو بن دينار : ما رأيت أحداً أعلم بالفتيا من جابر بن زيد . مات سنة 93 هـ في الجمعة التي مات فيها أنس بن مالك - رضي الله عنه - . انظر : طبقات علماء الحديث 1/142 - 143 ، وسير أعلام النبلاء 4/481 - 483 .(1/414)
وهو قول عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر ، وأبي الدرداء ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس على اختلاف عنه ، وأبي عبدالرحمن السلمي (1) ، وأبي العالية الرياحي .
وقال أبو إسحاق السبيعي (2) : أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين .
__________
(1) هو : أبو عبدالرحمن السلمي ، مقرئ الكوفة وعالمها ، عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي ، قرأ على عثمان وعلي وابن مسعود ، وسمع منهم ومن غيرهم من الصحابة ، تصدّر للإقراء في خلافة عثمان إلى أن مات في سنة 73 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/107 ، وسير أعلام النبلاء 4/267 - 272 .
(2) هو : أبو إسحاق السبيعي ، عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي الحافظ ، أحدُ الأعلام . قال أبو حاتم : ثقة ، يشبه الزهري في الكثرة . وقد كان صوّاماً قوّاماً متبتلاً كثير الحديث ، ومناقبه كثيرة ، توفي سنة 127 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/185 - 187 ، وسير أعلام النبلاء 5/392 - 401 .(1/415)
وقال الأثرم (1) : سمعتُ أحمد بن حنبل يُسأل : كم في الحج من سجدة ؟ فقال : سجدتان . قيل له : حدّث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { في الحج سجدتان ؟ } قال : نعم . رواه ابن لهيعة عن مِشْرَح ، عن عقبة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { في الحج سجدتان ، ومَن لم يسجدهما فلايقرأهما } (2) يريد فلايقرأهما إلاَّ وهو طاهر (3) .
__________
(1) هو : الإمام الحافظ العلاّمة ، أبو بكر ، أحمد بن محمد بن هانئ الإسكافي الأثرم الطائي ، أحد الأعلام ومصنّف السنن ، وتلميذ الإمام أحمد . وكان جليل القدر حافظاً . مات - رحمه الله - في حدود 360 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 12/623 - 628 .
(2) أخرجه أحمد في المسند 4/151 ، 155 في مسند عقبة بن عامر رضي الله عنه ، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : ماجاء في السجدة في سورة الحج رقم [578] 2/470 ، 471 ، وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب : ماجاء في السجدة في سورة الحج رقم [578] 2/470 ، 471 . وقال : هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي .
... وتعقبه محقق الكتاب أحمد شاكر بقوله : بل هو حديث صحيح . وصححه أيضاً محقق جامع الأصول لابن الأثير 5/555 .
... وأكثر الأئمة والحفاظ من المحدثين يضعفون هذا الحديث ، فقد ضعفه الترمذي نفسه ، والنووي في المجموع 4/63 ، والحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ص 87 رقم [324] وكذا الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم [398] ص 580 .
(3) قال أحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي : ( ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحديث ظاهر اللفظ وأن من أتى على آية السجدة ولم يرد السجود ترك الآية ... وهذا كله عندي غير جيّد ، بل هو خطأ ، لأن = =
= = هذا الكلام من كلام العرب لايراد به ظاهره ، إنَّما هو تقريع وزجر ، كقوله e : { إذا لم تستح فاصنع ما شئت } وأمثال ذلك مِمَّا يعرفه من فقه كلام العرب ومناحيهم . وإنَّما يريد e - في هذا الحديث - : أن يحض القارئ على السجود في الآيتين ، فكما أنه لاينبغي له أن يترك قراءتهما : لاينبغي له إذا قرأهما أن يدع السجود فيهما ) ا هـ سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر 2/471 حاشية .(1/416)
قال : وهذا يؤكد قول عُمر ، وابن عمر ، وابن عباس أنهم قالوا : فضلت سورة الحج بسجدتين (1) .
وذكر عبدالرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع : أن عمر وابن عمر كانا يسجدان في الحج سجدتين (2) .
قال : وقال ابن عمر : لو سجدت فيها واحدة كانت السجدة الآخرة أحب إليَّ ) (3) .
ومِمَّا سبق يُمكن القول بأن السجدة الثانية في سورة الحج ثبتت عن عدد من الصحابة - كما ذكر ابن عبدالبر رحمه الله - وغيره ، وكان العمل على السجود في الحج سجدتين كما يفهم ذلك من قول أبي إسحاق السبيعي التابعي الكبير : أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين .
فإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من القول بثبوت تلك السجدة خاصة وأنه لم يُعرف لمن قال بثبوتها وسجدها من الصحابة مخالف في عصرهم فكان إجماعاً كما قال ابن قدامة في المغني (4) .
وأمَّا الأحاديث التي جاءت بإثبات هذه السجدة فكلها لايخلو من مقال ، وقد ضعفها العلماء كحديث عقبة بن عامر السابق ، وحديث عمر بن العاص - رحمه الله (5)
__________
(1) انظر : مصنّف عبدالرزاق 3/342 وسبق تخريج قول عمر قريباً . وانظر : المستدرك للحاكم كتاب التفسير ، باب : فضلت سورة الحج بسجدتين 3/149 - 151 .
(2) مصنّف عبدالرزاق 3/341 .
(3) الاستذكار 8/101 - 104 ، وانظر : التمهيد أيضاً 19/130 ، 131 .
(4) المغني لابن قدامة 1/685 مع الشرح الكبير .
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : تفريع أبواب السجود وكم سجدة في القرآن رقم [1401] 2/120 ولفظه عنده : عن عمرو بن العاص ، أن رسول الله e أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان . ... ... ... ... ... ... = =
= = وأخرجه ابن ماجة في إقامة الصلاة ، باب : عدد سجدات القرآن حديث [1057] وأورده البغوي في شرح السنة 3/303 بصيغة التمريض { رُوِيَ } إشارة إلى ضعفه ، وهو في ضعيف ابن ماجه للألباني رقم [218] ، وانظر الكلام عليه بتوسع في كتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ص 64 - 67 ، وانظر كذلك تمام المنة للألباني ص 269 ، 270 .
... وسيأتي ذكره مرة أخرى - إن شاء الله - وبيان من حسّنه من العلماء .(1/417)
- .
وهذه الأحاديث - وإن كان فيها مقال - إلاَّ أن بعضها يعضد بعضاً ويقويه ، ولذلك فقد ذكر ابن كثير هذه الأحاديث ، وذكر معها أثر عمر السابق ثُمَّ قال : ( فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً ) (1) ا هـ .
وقد قال الإمام أبو بكر بن العربي (2) - وهو من أئمة المالكية ومحققيها - بثبوت هذه السجدة ، حيث ذكر أقوال العلماء فيها ، ثُمَّ قال : ( وإني لأسجد بها وأراها كذلك ) ثُمَّ ذكر أنه رجح القول بثبوتها لثبوت ذلك عن عمر ، وابن عمر ، وذكر الأثرين الذين أوردهما مالك في موطأه عنهما ، ثُمَّ قال بعد ذكر أثر ابن عمر : ( وكان ابن عمر أكثر الخلق بالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة ) (3) .
( فالقول الراجح ، المعوّل عليه أن في سورة الحج سجدتين ، والله تعالى أعلم ) (4) .
ثانياً : سجدة { ص~ } :
قال ابن عبدالبر : ( واختلفوا في سجدة { ص~ } : فذهب مالكٌ والثوري وأبو حنيفة إلى أن فيها سجوداً .
وروي ذلك عن عمر ، وابن عمر ، وعثمان ، وجماعة من التابعين ، وبه قال إسحاق ، وأحمد ، وأبو ثور .
واخْتُلف في ذلك عن ابن عباس .
وذهب الشافعي إلى أن لا سجود في { ص% } ، وهو قولُ ابن مسعود وعلقمة .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/205 - 206 .
(2) هو : محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد ، الإمام أبو بكر بن العربي المعافريّ الأندلسي الإشبيلي ، الحافظ ، ختام علماء الأندلس ، وآخر أئمتها وحفاظها ، أحد الأعلام ، وله مصنفات كثيرة حسنة مفيدة منها : أحكام القرآن ، وعارضة الأحوذي على كتاب الترمذي والقواصم والعواصم وغيرها كثير . توفي سنة 543 هـ . انظر : طبقات المفسرين للداوودي 2/167 - 171 .
(3) انظر : كتابه أحكام القرآن 3/307 ، 308 و 2/371 .
(4) تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي للمباركفوري 3/145 .(1/418)
وذكر عبدالرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله بن مسعود : إنَّما هي توبة نبي ذكرت . وكان لايسجد فيها (1) .
وقال ابن عباس : ليست سجدة { ص% } من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها (2) ) (3) ا هـ .
هذا ما ذكره ابن عبدالبر من خلاف في سجدة { ص% } ، والذي يترجح في هذه المسألة ، وهو مِمَّا لاشك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في هذا الموضع كما صحت بذلك الأحاديث ، وصحت كذلك آثار عن الصحابة وغيرهم أنهم كانوا يسجدون عند هذه الآية من سورة { ص% } { ... وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } [ ص : 24 ] .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما - قال : { ( ص ) ليس من عزائم السجود ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها } (4) .
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في { ص% } ، وقال : { سجدها داود توبة ، ونسجدها شكراً } (5) .
__________
(1) انظر : مصنّف عبدالرزاق 3/338 رقم [5873] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : سجدة { ص% } رقم [1069] .
(3) الاستذكار 8/104 - 105 .
(4) سبق تخريجه قريباً .
(5) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح ، باب : سجود القرآن السجود في ( ص ) 2/159 مع شرح السيوطي ، وهو في صحيح سنن النسائي للألباني رقم [917] 1/208 ، 209 .(1/419)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر { ص% } ، فلما بلغ السجدة ؛ نزل فسجد ، وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر ؛ قرأها ، فلما بلغ السجدة ، تشزَّن (1) الناس للسجود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنَّما هي توبة نبي ، ولكن رأيتكم تشزّنتم للسجود } ، فنزل فسجد وسجدوا } (2) .
وعن أبي رافع قال : صليت مع عمر الصبح فقرأ بـ { ص% } فسجد فيها (3) .
وقال ابن عمر - رضي الله عنه وعن أبيه - : في { ص% } سجدة (4) .
وكان ابن عباس يسجد في { ص% } ويتلو هذه الآية { أُولَـ!ــ%ـئِكَ ا؟لَّذِينَ هَدَى ا؟للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ا؟قْتَدِهْ) } (5) [ الأنعام : 90 ] .
وثبت عن الحسن ومسروق أنهما كانا يسجدان في { ص% } (6) .
__________
(1) تشزّن : تأهب وتهيأ ، والتشزّن : التأهب والتهيؤ للشيء ، والاستعداد له . انظر : النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/470 ، 471 .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : السجود في ( ص ) رقم [410] 2/124 ، وصححه النووي في المجموع 4/61 حيث قال : رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري . ا هـ .
... وانظر : صحيح سنن أبي داود للألباني رقم [1253] 1/265 حيث قال : صحيح ، وهو في صحيح الجامع الصغير رقم [2378] بلفظ : { إنَّما هي توبة نبي يعني سجدة ( ص ) } 1/468 .
(3) رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار بإسناد حسن كما قال صاحب كتاب التبيان في سجدات القرآن عبدالعزيز السدحان ص 108 .
(4) أخرجه عبدالرزاق في المصنّف 3/338 ، وابن أبي شيبة 2/8 ، وإسناده صحيح كما قال صاحب التبيان في سجدات القرآن ص 112 .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة 2/9 وإسناده صحيح كما في المرجع السابق ص 112 .
(6) انظر ذكر الآثار عنهما في كتاب التبيان في سجدات القرآن ص 110 .(1/420)
ولكن هل هذه سجدة تلاوة ، أو أنها سجدة شكر ، وتفعل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
قال أبو بكر الجصاص الحنفي : ( ولما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود ، دلّ على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود ) (1) ا هـ .
وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن : ( والذي عندي أنها ليست موضع سجود ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها ، فسجدنا للاقتداء به ) (2) .
وقال النووي الشافعي - رحمه الله - : ( وقال أصحابنا [ يقصد الشافعية ] سجدة { ص% } ليست من عزائم السجود . معناه : ليست سجدة تلاوة ، ولكنها سجدة شكر ، هذا هو المنصوص ، وبه قطع الجمهور ) (3) ا هـ .
والمعتمد في مذهب الإمام أحمد أنها سجدة شكر (4) .
والصحيح أن سجدة { ص% } سجدة تلاوة لارتباطها بتلاوة الآية ، ولكنها ليست من عزائم السجود كما قال ابن عباس (5) .
( والمراد بالعزائم ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً ، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لايقول بالوجوب ) (6) .
ثالثاً : السجود في المفصل :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قرأ : { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } [ الانشقاق : 1 ] فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها (7) .
__________
(1) أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 3/500 .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 4/58 .
(3) المجموع للنووي 4/61 .
(4) المعتمد في فقه الإمام أحمد 1/166 .
(5) انظر : الشرح الممتع لابن عثيمين 4/140 .
(6) فتح الباري لابن حجر 2/643 .
(7) أخرجه بهذا اللفظ مالك في الموطأ كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 181 ، ومسلم في كتاب المساجد ، باب : سجود التلاوة رقم [578] ص 230 ، وأخرجه البخاري بألفاظ أخرى ستأتي - إن شاء الله - قريباً .(1/421)
ذكر ابن عبدالبر هذا الحديث في التمهيد ، ثُمَّ قال - بعد أن بيّن أنه حديث صحيح : ( وفي هذا الحديث السجود في المفصّل ، وهو أمر مختلف فيه ، فأمَّا مالك وأصحابه ، وطائفة من أهل المدينة ، فإنهم لايرون السجود في المفصل ، وهو قول ابن عمر وابن عباس ، وروي ذلك عن أبي بن كعب ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وطاووس ، وعطاء ؛ كل هؤلاء يقول : ليس في المفصل سجود بالأسانيد الصحاح عنهم ، وقال يحيى بن سعيد : أدركنا القراء لايسجدون في شيء من المفصّل ، وكان أيوب السختياني لايسجد في شيء من المفصّل ... .
وحجة من لم يرَ السجود ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن رافع ، قال : حدثنا أزهر بن القاسم - رأيته بمكة - قال : حدثنا أبو قدامة ، عن مطر الوراق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحوّل إلى المدينة (1) .
قال أبو عمر : هذا عندي حديث منكر ، يرده قول أبي هريرة سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } [ الانشقاق : 1 ] ولم يصحبه أبو هريرة إلاَّ بالمدينة .
قال أبو داود (2) : هذا حديث لايحفظ عن غير أبي قدامة هذا بإسناده .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : من لم ير السجود في المفصّل رقم [1403] 2/121 ، وهو حديث ضعيف الإسناد منكر المتن . انظر : إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ص 34 ، والتبيان في سجدات القرآن ص 9 ، 10 .
(2) هو : أبو داود ، الإمام الثبت ، سيّد الحفاظ ، سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني ، صاحب السنن ، قال الحاكم : أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة . مات سنة 275 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/290 - 292 ، وسير أعلام النبلاء 13/203 - 220 .(1/422)
قال أبو داود : وقد روى من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ، وإسناده واهٍ (1) .
قال أبو عمر : رواه عمر الدمشقي مجهول ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء .
قال أبو عمر : في حديث أبي الدرداء إحدى عشرة سجدة ، منها : النجم .
واحتجوا أيضاً بحديث زيد بن ثابت ... ، قال : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم ، فلم يسجد فيها (2) .
وليس فيه حجة إلاَّ على من زعم أن السجود واجب .
وقد قيل : إن معناه أن زيد بن ثابت كان القارئ ، فلما لم يسجد ، لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن المستمع تبع للتالي ، وهذا يدل على صحة قول عمر : إن الله لم يكتبها علينا ، فإنَّما حديث زيد ابن ثابت هذا حجة على من أوجب سجود التلاوة لا غير .
وقال جماعة من أهل العلم : السجود في المفصّل في { والنجم } و { إذا السماء انشقت } و { اقرأ باسم ربك } .
هذا قول الشافعي والثوري وأبي حنيفة ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور ؛ وروي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، على اختلاف عنه ؛ وعن عمر بن عبدالعزيز ، وجماعة من التابعين .
وحجة من رأى السجود في المفصل حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في { إذا السماء انشقت } و { اقرأ باسم ربك } ... عن أبي هريرة ، قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } [ الانشقاق : 1 ] ، و { ا؟قْرَأْ بِا؟سْمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] .
__________
(1) حديث أبي الدرداء أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة ، باب : ماجاء في سجود القرآن رقم [568] 2/457 ، 458 ، وقال : حديث أبي الدرداء حديث غريب . وانظر قول أبي داود في سننه 2/120 .
(2) سبق تخريجه ص 384 .(1/423)
وفي رواية عن أبي رافع ، قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } فسجد ، قلتُ : ما هذه السجدة ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه (1) .
قال أبو عمر : هذا حديث ثابت أيضاً صحيح ، لايختلف في صحة إسناده ، وكذلك الذي قبله صحيح أيضاً ، وفيه السجود في المفصل ، والسجود في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } معينة ، والسجود في الفريضة ؛ وهذه فصول كلها مختلف فيها ، وهذا الحديث حجة لمن قال به ، وحجة على من خالف ما فيه ... .
عن أبي سلمة بن أبي عبدالرحمن ، أنه رأى أبا هريرة - وهو يصلي - فسجد في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } قال أبو سلمة حين انصرف : لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيهما ، قال : إني لولم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها لم أسجد (2) ... .
قال أبو عمر : احتج من أنكر السجود في المفصل بقول أبي سلمة لأبي هريرة : لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها . قالوا : فهذا دليل على أن السجود في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } كان قد تركه الناس ، وجرى العمل بتركه في المدينة ؛ فلهذا كان اعتراض أبي سلمة لأبي هريرة في ذلك .
__________
(1) أخرج هذه الرواية البخاري في صحيحه في كتاب سجود القرآن ، باب : من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها رقم [1078] ص 214 ، 215 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) ، ومسلم في كتاب المساجد ، باب : سجود التلاوة رقم [578] ص 231 .
(2) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : سجدة { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } رقم [1074] ص 214 .(1/424)
واحتج من رأى السجود في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } وفي سائر المفصل ، بأن أبا هريرة رأى الحجة في السنة لا فيما خالفها ، ورأى أن من خالفها محجوج بها ؛ وكذلك أبو سلمة لما أخبره أبو هريرة بما أخذه به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت لما لزمه من الحجة ؛ ولم يقل له الحجة في عمل الناس ، لا فيما تحكي أنت عن رسول الله بل علم أن الحجة فيما نزع به أبو هريرة ، فسلم وسكت .
وقد ثبت عن أبي بكر ، وعمر ، والخلفاء بعدهما السجود في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } فأيّ عمل يدعى في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده ؟ ! .
... عن أبي هريرة ، قال : سجد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما - في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } ومن هو خير منهما (1) .
... فهذا ما في سجود المفصل من الآثار الصحاح ، واختلاف العلماء من الصحابة ومن بعدهم - رضوان الله عليهم - ) (2) ا هـ .
وبعد هذا الكلام المحقق المجوّد الواضح ؛ يتبين لنا أن ابن عبدالبر ، يميل إلى القول بثبوت السجود في المفصل مخالفاً في ذلك إمام مذهبه الإمام مالكاً - رحمة الله على الجميع - وإن كان لم يبين ذلك بصراحة .
والقول بثبوت السجود في المفصل هو القول الصحيح الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة من السنة النبوية ، وأقوالُ الصحابة والتابعين وفعلُهم .
ولقوة أدلته وصراحتها فقد رجحه بعض محققي المالكية ، ومنهم الإمام أبو بكر ابن العربي ، فقد قرّر في عدة مواضع ثبوت السجود في المفصل ، وأن ذلك هو القول الصحيح الذي تشهد له الأدلة .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح ، باب : السجود في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } 2/161 ، وهو صحيح كما في صحيح سنن النسائي للألباني رقم [924] 1/210 .
(2) التمهيد 19/118 - 128 باختصار وتصرف يسير جداً . وانظر : الاستذكار 8/92 - 100 .(1/425)
قال - رحمه الله - : ( ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قرأ : { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها .
وقد قال مالك : إنها ليست من عزائم السجود ، والصحيح أنها منه ، وهي رواية المدنيين عنه ، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة .
قال ابن العربي : لَمَّا أمَمْتُ بالناس تركت قراءتها لأني إن سجدت أنكروه ، وإن تركتها كان تقصيراً مني ، فاجتنبتها إلاَّ إذا صليت وحدي ) (1) ا هـ .
وبعد هذا كله فالقول الصحيح المعوّل عليه أن عدد سجدات التلاوة في القرآن الكريم خمس عشرة سجدة ، منها السجدة الثانية في الحج ، وسجدة { ص% } وثلاث في المفصل (2) .
ويشهد لهذا حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل ، وفي الحج سجدتان } .
فهذا الحديث أشملُ حديث في بيان عدد سجدات القرآن ، وهو وإن كان في إسناده ضعف فله من الشواهد المرفوعة والموقوفة ما ينهض به عن درجة الضعف (3) ؛ ولذلك فقد حسنه النووي - رحمه الله (4) - .
تنبيه :
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 4/369 ، وانظر : الكتاب نفسه أيضاً 2/373 .
(2) انظر الأحاديث والآثار التي تدل على كل سجدة من هذه السجدات بالتفصيل في كتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ، حيث عقد لكل موضع من هذه المواضع باباً يذكر فيه ما يدل على السجود فيها من الأحاديث والآثار من ص 64 إلى ص 48 .
(3) انظر : الكلام على هذا الحديث في كتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ص 64 - 67 ، وكتاب تمام المنة في التعليق على فقه السنة للألباني ص 269 ، 270 .
(4) المجموع للنووي 4/60 قال : ( حديث عمرو رواه أبو داود والحاكم بإسناد حسن ) .(1/426)
سبب اختلاف العلماء في عدد سجدات القرآن يعود إلى اختلاف النقل في الأحاديث والعمل ، واختلافهم في الأمر المجرد بالسجود في القرآن هل المراد به سجود التلاوة أو سجود الفرض في الصلاة . أفاد ذلك القرطبي (1) .
* * *
المبحث الثالث
الطهارة لسجود التلاوة
سئل مالك : عمّن قرأ سجدة ، وامرأةٌ حائض تسمع ، هل لها أن تسجد ؟ قال مالك : لايسجد الرجل ، ولا المرأة إلاَّ وهما طاهران (2) .
قال ابن عبدالبر معلقاً على قول مالك هذا : ( وأمَّا قوله : { لايسجد الرجل والمرأة إلاَّ وهما طاهران } فإجماع من الفقهاء أنه لايسجد أحدٌ سجدة تلاوة إلى على طهارة ) (3) ا هـ .
وقال في كتاب الكافي في فقه أهل المدينة : ( ولايسجد أحدٌ للتلاوة إلاَّ على طهارة ، ومستقبل القبلة ) (4) .
الدراسة :
هكذا قال ابن عبدالبر : ( فإجماع من الفقهاء أنه لايسجد أحدٌ سجدة تلاوة إلاَّ على طهارة ) .
وهكذا قال بعض العلماء كالقرطبي في تفسيره ، حيث قال : ( ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجسٍ ونية واستقبال قبلة ووقت ) (5) ا هـ .
والنووي ، حيث ذكر أن سجود التلاوة له حكم صلاة النافلة في اشتراط الطهارة وغيرها ، وذكر أن ذلك من المتفق عليه الذي لا خلاف فيه (6) .
وكذلك ابن قدامة ذكر أنه لايعلم خلافاً في اشتراط الطهارة لسجود التلاوة (7) .
واشتراط الطهارة لسجود التلاوة مبني على مسألة أخرى سبق ذكرها ، وهي : هل سجود التلاوة صلاة ؟ وذكرنا أن الصحيح أن سجود التلاوة لايعتبر صلاة .
__________
(1) انظر : تفسير القرطبي 7/357 .
(2) موطأ الإمام مالك ، كتاب القرآن ، باب : ماجاء في سجود القرآن ص 182 .
(3) الاستذكار 8/110 .
(4) الكافي في فقه أهل المدينة ص 76 ، 77 .
(5) تفسير القرطبي 7/358 .
(6) التبيان في آداب حملة القرآن ص 118 ، 119 ، والمجموع شرح المهذب 4/63 .
(7) المغني مع الشرح الكبير 1/685 .(1/427)
وإذا تقرر أن سجود التلاوة لايعتبر صلاة ، فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لايشترط لسجود التلاوة ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث والطهارة عن النجس في البدن والثوب والمكان ، وستر العورة ، واستقبال القبلة ، فهذه الشروط لاتشترط لسجود التلاوة .
وقد ذهب الكثير من المحققين إلى عدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة ، ومنهم ابن حزم (1) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (2) ، وابن القيم (3) ، والشوكاني (4) - رحمهم الله - وغيرهم من العلماء .
وقد فصّل القول في هذه المسألة صاحب كتاب : إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ، فأجاد وأفاد ؛ ولذا رأيت أن أنقل ما ذكره في هذه المسألة . قال ما نصه : ( ما اشترطه الفقهاء لسجود التلاوة من طهارة واستقبال لا دليل عليه ! .
فليس معهم باشتراط الطهارة وغيرها له كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ؛ بل الأدلة الشرعية من الأثر والنظر متضافرة على عدم الاشتراط :
1 - فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بـ { النجم } وسجد معه المسلمون والمشركون ، والجن والإنس ) (5) .
قال بعض المحققين (6) : ومعلوم أن الكافر لا وضوء له .
قالوا : وأيضاً ؛ فالمسلمون الذين سجدوا معه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالطهارة ، ولا سألهم : هل كنتم متطهرين أم لا ؟ ولو كانت الطهارة شرطاً فيه ؛ للزم أحد الأمرين :
- إمَّا أن يتقدم أمره لهم بالطهارة .
__________
(1) انظر : المحلى لابن حزم 1/105 ، 5/165 .
(2) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 23/165 ومابعدها .
(3) انظر : تهذيب السنن لابن القيم 1/54 ، 55 .
(4) انظر : نيل الأوطار للشوكاني 3/125 .
(5) أخرجه البخاري في كتاب سجود القرآن ، باب : سجود المسلمين مع المشركين ، والمشرك نجس ليس له وضوء رقم [1071] ص 213 .
(6) لعله يقصد ابن القيم - رحمه الله - .(1/428)
- وإمَّا أن يسألهم بعد السجود ؛ ليبين لهم الاشتراط .
ولم ينقل مسلمٌ واحداً منهما .
قالوا : وأيضاً ؛ فيبعد جداً أن يكون المسلمون كلهم إذ ذاك على وضوء (1) .
2 - وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يسجد على غير وضوء (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - : ( ومن المعلوم أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه أن السجود لايكون إلاَّ على وضوء ؛ لكان هذا مِمَّا يعلمه عامتهم ؛ لأنهم كلهم كانوا يسجدون معه ، وكان هذا شائعاً في الصحابة ، فإذا لم يُعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة ، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنّة ، وقد بقي إلى آخر الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة ؛ كان هذا مِمَّا يبيّن أنه لم يكن معروفاً بينهم أن الطهارة واجبة لها ، ولو كان هذا مِمَّا أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك شائعاً بينهم ، كشياع وجوب الطهارة للصلاة ، وصلاة الجنازة .
وابن عمر لم يُعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها (3) ، ولكن سجودها على الطهارة أفضل باتفاق المسلمين ) (4) ا هـ .
4 - أن السجود من جنس ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء ، ولهذا شُرع في الصلاة وخارجها ، فكما لايشترط الوضوء لهذه الأمور ، وإن كانت من أجزاء الصلاة - فكذا لايشترط للسجود (5) .
__________
(1) انظر : تهذيب السنن لابن القيم 1/54 .
(2) أخرجه البخاري في الموضع السابق معلقاً بصيغة الجزم ص 213 .
(3) هذا خلاف ما ذهب إليه ابن حجر ، حيث ذكر أنه لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بلا وضوء إلاَّ الشعبي وأبو عبدالرحمن السلمي . انظر : فتح الباري 2/645 .
(4) مجموع الفتاوى 21/278 - 279 .
(5) انظر : تهذيب السنن لابن القيم 1/54 - 55 .(1/429)
6 - وعن أبي عبدالرحمن السلمي ، أنه كان يقرأ السجدة ، ثُمَّ يسجد وهو على غير وضوء ، إلى غير القبلة ، وهو يمشي يومئ إيماءً (1) .
وعن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة على غير وضوء ؟ قال : يسجد حيث كان وجهه (2) ) (3) ا هـ .
وأمَّا الموجبون للطهارة لسجود التلاوة فقالوا : إنه صلاة وله تحريم وتحليل ، وكل ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم فمفتاحه الطهور للحديث الصحيح المشهور : { مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم } (4) .
وسجود التلاوة سجود ، والسجود من الصلاة ، وبعض الصلاة له حكم الصلاة .
وكذلك القياس يقتضي إلحاقه بالصلاة في مثل هذا الحكم .
وقد روى البيهقي من حديث الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : لايسجد الرجل إلاَّ وهو طاهر (5) . وهذا يخالف ما رويتموه عن ابن عمر ، مع أن في بعض الروايات : وكان ابن عمر يسجد على وضوء ، وهذا هو اللائق به ، لأجل رواية الليث .
والجواب على هذه الاستدلالات :
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن كما قال الحافظ في فتح الباري 2/645 .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح 2/645 .
(3) إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن لأبي عبدالرحمن محمود الجزائري ص 41 - 43 باختصار .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب : فرض الوضوء رقم [61] 1/49 ، 50 ، والترمذي في كتاب الطهارة ، باب : ماجاء أن مفتاح الصلاة الطهور رقم [3] 1/8 ، 9 ، وقال : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن .
... والحديث صحيح . وانظر تخريجه بالتفصيل والحكم عليه في إرواء الغليل للألباني رقم [301] 2/8 - 10 .
(5) رواه البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح 2/644 .(1/430)
1 - أمَّا استدلالكم بقوله : { تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم } فهو من أقوى ما يحتج به عليكم ، فإن أئمة الحديث والفقه ليس منهم أحد قط نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه سلم من سجود التلاوة ، وأمَّا التكبير فالحديث المروي فيه ضعيف لايحتج به (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( وسجود القرآن لايشرع فيه تحريم ولا تحليل ، هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عامة السلف ، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين ، وعلى هذا فليست صلاة ، فلاتشترط لها شروط الصلاة ، بل تجوز على غير طهارة ... ) (2) ا هـ .
2 - وأمَّا قولكم : إن السجود من الصلاة ، وبعض الصلاة صلاة ؛ فيُجاب عنه من وجهين :
أحدهما : أنه لايكون بعض الصلاة صلاة إلاَّ إذا تمت كما أُمر بها المصلي ، ولو أن أحداً كبّر وقرأ وركع ثُمَّ قطع عمداً ؛ لما قال أحدٌ من أهل الإسلام إنه صلى شيئاً ، بل يقولون كلهم : إنه لم يصل ، ولو أتمها ركعة في الوتر أو ركعتين في الجمعة والصبح والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف (3) .
والوجه الثاني : يقال لكم من طريق الإلزام : إن القيام بعض الصلاة ، والتكبير بعض الصلاة ، وقراءة الإمام بعض الصلاة ، والجلوس بعض الصلاة ، والسلام بعض الصلاة ؛ فيلزمكم على هذا أن لاتجيزوا لأحدٍ أن يقوم ولا أن يكبر ولا أن يقرأ أم القرآن ولايجلس ولايسلم إلاَّ على وضوء ؛ وهذا ما لاتقولونه فبطل احتجاجكم (4) ، واللهُ يقول الحق وهو يهدي السبيل .
3 - وأمَّا قياس سجود التلاوة على الصلاة فممتنع لوجهين :
__________
(1) سيأتي ذكره وتخريجه في مبحث صفة سجود التلاوة - إن شاء الله - .
(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية 23/170 ، 171 ، 165 .
(3) انظر : كتاب إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ص 45 .
(4) انظر : المرجع السابق ص 45 ، والمحلى لابن حزم 1/80 .(1/431)
أحدهما : أن الفارق بينه وبين الصلاة أكثر وأظهر من الجامع ؛ إذ لا قراءة فيه ولا ركوع لا فرضاً ولا سنة ، ولا مُصَّافة فيه ، فليس إلحاق محل النزاع بصور الاتفاق أولى من إلحاقه بصور الافتراق .
والثاني : أن هذا القياس غير صحيح أصلاً حتى يمتنع ؛ إذ من شرط القياس الصحيح عدمُ فعل الشيء المقيس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا حدثت حادثة لم تقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن المجتهد ينظر في هذه الحادثة ويلحقها بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث المشابهة التي جاء فيها نص . فإذا كانت الحادثة الواقعة قد وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا قياس فيها أصلاً ؛ وكذلك سجود التلاوة ، فإنه قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسجد وسجد الصحابة معه ولم يأمرهم بالوضوء له ، فلا قياس إذن في هذه المسألة والله تعالى أعلم (1) .
4 - وأمَّا أثر الليث ؛ فقد أجاب عنه العلماء بأمرين :
الأول : قيل : إنه ضعيف (2) .
والثاني : حمله على الأفضل جمعاً بينه وبين ما ثبت أنه - رضي الله عنه - سجد على غير وضوء .
وأمَّا رواية مَن روى : كان يسجد على وضوء ؛ فغلط ؛ لأن تبويب البخاري واستدلاله وقوله : ( والمشرك ليس على وضوء ) يدلُّ على أن الرواية بلفظ { على غير وضوء } وعليها أكثر الرواة .
__________
(1) انظر : إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن ص 45 ، 46 ، وتهذيب السنن لابن القيم 1/55 .
(2) تهذيب السنن لابن القيم 1/56 .(1/432)
قال ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري : ( قوله : { وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء } كذا للأكثر ، وفي رواية الأصيلي بحذف { غير } والأول أولى ، فقد روى ابن أبي شيبة (1) من طريق عبيد بن الحسن عن رجل زعم أنه كنفسه عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثُمَّ يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ . وأمَّا ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الليث عن نافع عن ابن عمر : لايسجد الرجل إلاَّ وهو طاهر . فيجمع بينهما بأنه أراد بقوله : { طاهر } الطهارة الكبرى ، أو الثاني على حالة الاختيار والأول على الضرورة ) (2) ا هـ .
وبعد هذا كله ؛ يتبين أن الصواب في هذه المسألة أنه لاتشترط الطهارة لسجود التلاوة ، وهذا ما رجحه العلاّمة الشيخ عبدالعزيز بن باز (3) ، حيث قال : ( والصواب أنه لايشترط له الطهارة ولا غيرها من شروط الصلاة كما قال ابن حزم ) (4) ا هـ .
ومع ذلك فإن الأفضل والأكمل أن يكون الساجد للتلاوة على طهارة ، وهذا باتفاق المسلمين (5) .
* * *
المبحث الرابع
__________
(1) هو : عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة العبسي مولاهم الكوفي ، أبو بكر ، صاحب { المسند } و { المصنّف } وغير ذلك . أخذ عنه البخاري ومسلم وغيرهما كثير ، قال الخطيب : كان أبو بكر متقناً حافظاً ، صنّف المسند ، والأحكام والتفسير . مات - رحمه الله - سنة 235 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/84 ، 85 .
(2) فتح الباري لابن حجر العسقلاني 2/644 .
(3) هو : الشيخ العلاّمة عبدالعزيز بن عبد الله بن باز ، رئيس هيئة الإفتاء بالمملكة العربيَّة السعوديَّة وأحد كبار العلماء ، مشهور بعلمه الغزير ، وخلقه الجَمّ ، واهتمامه بأمور المسلمين ، معاصر - بارك الله في عمره - . انظر : كتاب علماؤنا لفهد البدراني وفهد البراك ص 28 - 33 .
(4) من كتاب التبيان في سجدات القرآن لعبدالعزيز السدحان ص 32 .
(5) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/279 .(1/433)
صفة سجود التلاوة
قال ابن عبدالبر وهو يذكر أحكام سجود التلاوة : ( ويكبّر لها إن شاء ، ولا تشهد فيها ولا تسليم ) (1) ا هـ .
وقال - رحمه الله - : ( وأمَّا اختلافهم في التكبير لسجود التلاوة والتسليم منها ، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو حنيفة : يكبر التالي إذا سجد ، ويكبر إذا رفع رأسه في الصلاة وفي غير الصلاة .
وروى ذلك عن جماعة من التابعين ، وكذلك قال مالك إذا كان في صلاة ، واختلف عنه إذا كان في غير صلاة .
وكان الشافعي وأحمد يقولان : يرفع يديه إذا أراد أن يسجد .
قال الأثرم : وأُخبرت عن أحمد أنه كان يرفع يديه في سجود القرآن خلف الإمام في التراويح في رمضان ، قال : وكان ابن سيرين (2) ومسلمُ بن يسار (3) ، يرفعان أيديهما في سجود التلاوة إذا كبرا .
وقال أحمد : يدخل هذا في حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير (4) .
ثُمَّ قال : مَن شاء رفع ، ومن شاء لم يرفع يديه ههنا .
__________
(1) الكافي في فقه أهل المدينة ص 76 ، 77 .
(2) هو : محمد بن سيرين ، الإمام الرباني ، أبو بكر ، مولى أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان إماماً غزير العلم ، ثبتاً ، علاّمة في التعبير ، رأساً في الورع ، رأى ثلاثين من أصحاب رسول الله e ، مات سنة 110 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/151 - 152 ، وسير أعلام النبلاء 4/606 - 622 .
(3) هو : مسلم بن يسار ، القدوة ، الفقيه ، الزاهد ، أبو عبد الله البصري ، مولى بني أمية ، كان يضرب به المثل في حسن صلاته ، كان إذا صلّى كأنه ثوبٌ ملقى فلايسمع من حوله ، مات - رحمه الله - سنة 100 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 4/510 - 514 .
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/316 عن وائل بن حجر قال : ( رأيت رسول الله e يرفع يديه مع التكبير ) وهو حديث حسن كما قال الألباني في إرواء الغليل رقم [641] 3/113 - 114 .(1/434)
وقال أبو الأحوص (1) وأبو قلابة (2) وابن سيرين وأبو عبدالرحمن السلمي : يسلّم إذا رفع رأسه من السجود ، وبه قال إسحاق ، قال : يسلم عن يمينه فقط : السلام عليكم .
وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ، ويحيى ابن وثاب (3) : ليس في سجود القرآن تسليم ، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم .
وقال أحمد بن حنبل : أمَّا التسليم ، فلا أدري ما هو ؟ ) (4) .
الدراسة :
ذكر ابن عبدالبر - رحمه الله - أقوال العلماء في التكبير لسجود التلاوة والتسليم منها ، ويُمكن تقسيم ذلك إلى مسألتين :
المسألة الأولى : التكبير لسجود التلاوة :
يرى ابن عبدالبر أن الساجد للتلاوة له أن يكبر إن شاء ، وليس ذلك بلازم ، هذا ما يفهم من قوله : ( ويكبّر لها إن شاء ) .
__________
(1) هو : سلاّم بن سليم الثقفي مولاهم الكوفي ، أبو الأحوص ، الحافظ الثبت ، قال ابن معين : ثقة متقن . وكان صاحب سنة واتباع . مات - رحمه الله - سنة 179 هـ مع مالك وحمّاد - رحمهم الله جميعاً - . انظر : طبقات علماء الحديث 1/368 - 369 ، وسير أعلام النبلاء 8/281 - 284 .
(2) هو : عبد الله بن زيد الجَرْمِيُّ البصريّ ، أبو قلابة ، أحد الأئمة الأعلام ، روى عن جماعة من الصحابة ، وكان ممن ابتُلي في دينه وبدنه حيث فقد يديه ورجليه وبصره ، وهو مع ذلك حامد شاكر . وكان من عبّاد التابعين وزهادهم . مات بمصر سنة 104 هـ أو 107 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 1/164 - 166 ، وسير أعلام النبلاء 4/468 - 475 .
(3) هو : يحيى بن وثّاب ، الإمام القدوة ، المقرئ ، الفقيه ، شيخ القرّاء الأسدي الكاهلي ، مولاهم ، الكوفي ، أحد الأئمة الأعلام . كان - رحمه الله - من أحسن الناس قراءة ، حتى إنه إذا قرأ في المسجد أنصت الناس فلاتُسمع في المسجد حركة . مات سنة 103 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 4/379 - 382 .
(4) التمهيد 19/133 - 134 .(1/435)
وقد ورد في التكبير لسجود التلاوة حديث رواه أبو داود عن ابن عمر أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن ، فإذا مرّ بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا (1) .
قال البغوي : ( السنّة إذا أراد السجود للتلاوة أن يكبر ، روي عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن ، فإذا مرّ بالسجدة كبّر وسجد وسجدنا معه . وهو قول أكثر أهل العلم ) (2) ا هـ .
والقول بمشروعية التكبير لسجود التلاوة متوقف على ثبوت هذا الحديث . فإن ثبت فهو فاصل في هذه المسألة ، وإن لم يثبت فلايقال بمشروعية التكبير ؛ إلاَّ إذا دلّ عليه دليل صحيح .
وقد ضعّف هذا الحديث جماعة من العلماء كالنووي ، وابن تيمية ، وغيرهما - كما سبق في تخريج هذا الحديث - وعليه فلايُقال بمشروعية هذا التكبير .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : في الرجل يسمع السجدة وهو راكب أو في غير الصلاة رقم [1413] 2/125 - 126 في سنده عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم وهو ضعيف كما في التقريب رقم [3513] ص 528 ، ولذا فقد ضعفه جماعة من العلماء كابن تيمية في مجموع الفتاوى 23/170 ، والنووي في المجموع 4/64 ، والألباني في الإرواء 2/224 ، 225 .
(2) شرح السنة للبغوي 3/315 .(1/436)
قال المحدّث الألباني (1) : ( وقد روى جماعة من الصحابة سجوده صلى الله عليه وسلم للتلاوة في كثير من الآيات في مناسبات مختلفة ، فلم يذكر أحد منهم تكبيره عليه السلام للسجود ؛ ولذلك نميل إلى عدم مشروعية هذا التكبير ، وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ) (2) ا هـ .
هذا إذا كان السجود للتلاوة خارج الصلاة ، ( وأمَّا إذا كان السجود للتلاوة في الصلاة فإن حكمه فيها كحكم باقي سجداتها يكبّر عند الخفض ويكبّر عند الرفع في داخل الصلاة ) (3) .
وهل يرفع يديه إذا كبّر لسجود التلاوة في الصلاة ؟ :
الجواب : يُؤخذ من قول ابن عبدالبر : ( قال الأثرم : وأُخبرت عن أحمد أنه كان يرفع يديه في سجود القرآن خلف الإمام في التراويح في رمضان ، قال : وكان ابن سيرين ومسلم بن يسار يرفعان أيديهما في سجود التلاوة إذا كبّرا .
وقال أحمد : يدخل هذا في حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير .
ثُمَّ قال : مَن شاء رفع ، ومَن شاء لم يرفع يديه ههنا ) ا هـ .
والخلاصة : أن الأمر في هذا واسع ، فمن شاء رفع ، ومن شاء لم يرفع ، والحمد لله .
المسألة الثانية : التسليم من سجود التلاوة :
قال ابن عبدالبر : ( ولا تشهد فيها ولا تسليم ) ا هـ .
__________
(1) هو : أبو عبدالرحمن ، محمد ناصر الدين بن نوح الألباني ، ولد سنة 1333 هـ ، واشتغل بدراسة الحديث منذ أن كان في العشرين من عمره ، وأصبح الحديث شغله الشاغل حتى صار أكبر محدثي العصر بلا منازع كما يشهد لذلك مؤلفاته الكثيرة المشهورة على حدّة فيه وشدّة في الرد على مخالفيه - عفا الله عنه - وهو معاصر حفظه الله . انظر : كتاب علماؤنا ، إعداد فهد البدراني وفهد البراك ص 38 - 41 .
(2) تمام المنة للألباني ص 269 .
(3) من كلام الشيخ عبدالعزيز بن باز بتصرف ، يسير نقلاً عن كتاب التبيان في سجدات القرآن ص 41 .(1/437)
وهذا هو الصحيح ، وهو قول أكثر أهل العلم كما يفهم ذلك مِمَّا ذكره ابن عبدالبر في هذه المسألة ، قال : ( وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، ويحيى بن وثاب : ليس في سجود القرآن تسليم ، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم .
وقال أحمد بن حنبل : أمَّا التسليم فلا أدري ما هو ؟ ) ا هـ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( فإن أئمة الحديث والفقه ليس فيهم أحد قط نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه سلّم منه ) (1) ا هـ .
ومثل التسليم التشهد ، فلا تشهُّد بعد سجدة التلاوة كما قال أكثر أهل العلم (2) .
وبعد هذا العرض ، يتبين لنا أن صفة سجود التلاوة تكون كالتالي :
__________
(1) مجموع الفتاوى 23/170 .
(2) انظر : كتاب سجود التلاوة وأحكامه للدكتور صالح اللاحم ص 138 - 139 .(1/438)
إذا مرّ القارئ للقرآن بسجدة تلاوة فيشرع له ولمن استمع إليه أن يخرّ ساجداً بدون تكبير ويقول في سجوده : سجد وجهي للذي خلقه ، وشق سمعه وبصره ، بحوله وقوته ، فتبارك الله أحسن الخالقين (1) . اللهم احْطُطْ عني بها وزراً ، واكتب لي بها أجراً ، واجعلها لي عندك ذُخراً ، وتقبَّلْها مني كما تقبلتها من عبدك داود (2) .
وإن قال فيها ما يقوله في سجود الصلاة جاز (3) .
ثُمَّ يرفع رأسه بلا تكبير ، ولا يتشهد بعد السجود ولا يسلّم .
هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سجود القرآن ، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم (4) .
* * *
المبحث الخامس
قراءة السجدة في الصلاة
قال ابن عبدالبر - رحمه الله - : ( ولابأس بقراءة السجدة في النافلة والمكتوبة إذا لم يخف أن يخلط على من خلفه ، وقد روى عنه كراهة ذلك للمنفرد ، وليس بشيء ؛ لأنه لايُخشى عليه أن يخلط على غيره .
__________
(1) ثبت هذا الدعاء بهذا اللفظ في مستدرك الحاكم 1/480 رقم [833] ، وأخرجه بدون زيادة { فتبارك الله أحسن الخالقين } أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : ما يقول إذا سجد ، رقم [1414] 2/126 ، 127 ، والترمذي في أبواب الصلاة ، باب : ما يقول في سجود القرآن رقم [580] 2/474 وقال : هذا حديث حسن صحيح . والنسائي في الافتتاح ، باب : الدعاء في السجود 2/222 ، وهو حديث صحيح . انظر : صحيح سنن أبي داود رقم [1255] 1/265 ، وصحيح سنن النسائي رقم [1081] 1/242 .
(2) أخرج هذا الدعاء الترمذي في أبواب الصلاة ، باب : ما يقول في سجود القرآن رقم [579] 2/472 ، 473 ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وانظر : صحيح سنن الترمذي رقم [473] 1/180 حيث قال : حسن . وقد حسّنه النووي في المجموع 4/64 .
(3) انظر : المجموع للنووي 4/64 ، والشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين 4/144 - 145 .
(4) انظر : زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 1/362 - 363 .(1/439)
وروى أشهب وابن نافع عن مالك أنه إن كان خلفه قليل من الناس فلابأس أن يقرأ بسورة فيها سجدة في المكتوبة ويسجد ، قال يحيى بن عمر (1) : وهو أحبّ إلي ) (2) ا هـ .
الدراسة :
التالي في الصلاة إمَّا أن يكون منفرداً أو إماماً .
فإذا كان منفرداً فله أن يقرأ السجدة في صلاة سواء كانت سرية أم جهرية ، ولا حرج عليه في ذلك ؛ لأنه لايُخشى عليه أن يخلط أو يُلبّس على غيره ، كما نبّه على ذلك ابن عبدالبر .
وإذا كان إماماً ، فلايخلو من أن تكون الصلاة جهرية أو سرية . فإذا كانت جهرية فلابأس بقراءة آية السجدة في الصلاة سواء كانت مفروضة أم نافلة ، ويدلّ على ذلك أحاديث :
منها : حديث أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة ، فقرأ : { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } [ الانشقاق : 1 ] فسجد ، فقلتُ : ما هذه ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى أبقاه (3) .
قال ابن عبدالبر في ذكر فوائد هذا الحديث : ( وفيه السجود في المفصل ، والسجود في { إِذَا ا؟لسَّمَآءُ ا؟نشَقَّتْ = 1 } [ الانشقاق : 1 ] معينة ، والسجود في الفريضة ، وهذه فصول كلها مختلف فيها ، وهذا الحديث حجة لمن قال به ، وحجة على من خالف ما فيه ) (4) .
__________
(1) هو : يحيى بن عمر بن يوسف الكتاني الأندلسي ، أبو زكريا ، فقيه مالكي عالم بالحديث . نشأ بقرطبة القيروان ، ورحل إلى المشرق ثُمَّ استوطن سوسه ، ومات بها ، كانت الرحلة إليه في وقته ، وله نحو 40 جزءاً من المصنفات ، مات سنة 289 هـ . انظر : الأعلام للزركلي 8/160 .
(2) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر ص 77 .
(3) سبق تخريجه ص 399 .
(4) التمهيد 19/122 .(1/440)
ومنها : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر { الم تنزيل السجدة } و { هل أتى على الإنسان } [ الإنسان : 1 ] متفق عليه (1) .
وإذا كانت الصلاة سرية ، فلاينبغي للإمام أن يقرأ آية فيها سجدة ثُمَّ يسجد ؛ لئلا يخلط على الناس ، فقد يتوهم المقتدون به أنه سها عندما يخر للسجود لعدم سماعهم تلاوته ، فتنقلب الصلاة إلى فوضى ، ولهذا لاينبغي للإمام في السرية أن يقرأ آية فيها سجدة تلاوة ثُمَّ يسجد إلاَّ إذا أَمِنَ من حصول المفسدة المترتبة على عدم سماعهم لتلاوته ، وذلك بأن يخبرهم بأنه سوف يقرأ آية فيها سجدة ، أو يكون العدد قليلاً فيسمعهم تلاوته لآية السجدة .
فعلّة كراهة قراءة آية السجدة هي خوف التشويش على المصلين ، فإذا انتفت هذه العلة ارتفعت الكراهة ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً كما تقرر في علم الأصول .
وهذا معنى قول ابن عبدالبر : ( ولابأس بقراءة السجدة في النافلة والمكتوبة إذا لم يخف أن يخلط على من خلفه ) ا هـ .
وهذا عام في كلا صلاة ، سواء كانت نافلة أم مكتوبة ، وسواء كانت سرية أم جهرية ، وهذا هو الرأي الصواب ، والله أعلم بالصواب (2) .
* * *
الموضوع الثامن : فضائل القرآن الكريم
وتحته تمهيد ومبحثان :
المبحث الأول : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟
المبحث الثاني : ماجاء في فضائل بعض السور
تمهيد :
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة ، باب : ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة رقم [891] ص 179 ومسلم في كتاب الجمعة ، باب : ما يقرأ في يوم الجمعة رقم [880] ص 339 ( ط : بيت الأفكار الدولية ) .
(2) انظر تفصيل هذه المسألة وأقوال أصحاب المذاهب فيها في كتاب : سجود التلاوة وأحكامه للدكتور صالح اللاحم ص 73 - 82 .(1/441)
فضائل القرآن من مباحث علوم القرآن المهمة ، وذلك لارتباطه بالقرآن الكريم حيث إنه يرغب في تلاوة كتاب الله تعالى ويحث على حفظه والارتباط الوثيق به ويبين فضله وما يحصل عليه قارئه من الفضل العظيم والثواب الجزيل .
وقد اهتم العلماء اهتماماً بالغاً بهذا العلم من علوم القرآن وألفوا فيه مؤلفات كثيرة (1) .
قال الزركشي : ( وقد صنّف فيه أبو بكر ابن أبي شيبة ، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم والنسائي (2) وغيرهم .
وقد صح فيه أحاديث باعتبار الجملة ، وفي بعض السور بالتعيين .
__________
(1) من الكتب المؤلفة في فضائل القرآن :
1 ) - ... فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي ت 224 هـ مطبوع .
2 ) - ... فضائل القرآن لمحمد بن أيوب بن الضريس ت 294 هـ مطبوع .
3 ) - ... فضائل القرآن لجعفر بن محمد بن الحسن الفرياني ت 301 هـ .
4 ) - ... فضائل القرآن لأحمد بن شعيب النسائي ت 303 هـ مطبوع .
5 ) - ... فضائل القرآن وتلاوته ، وخصائص تلاوته وحملته ، لأبي الفضل عبدالرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي ت 454 هـ . مطبوع .
6 ) - ... فضائل القرآن لأبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير ت 774 هـ . مطبوع .
7 ) - ... معرفة فضائل القرآن لابن رجب الحنبلي ت 795 هـ مطبوع .
... هذه أشهر كتب فضائل القرآن ، وهناك كتب كثيرة جداً في هذا الموضوع . ينظر : ما كتبه محققو كتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي يوسف المرعشلي وجمال الذهبي وإبراهيم الكردي في تعليقهم على كتاب الزركشي 2/55 - 59 ، فقد ذكروا ما ألف في فضائل القرآن من الكتب المطبوعة والمخطوطة ) . وينظر كذلك كتاب معجم مصنفات علوم القرآن 3/314 .
(2) هو : الإمام الحافظ ، شيخ الإسلام ، أبو عبدالرحمن ، أحمد ابن شعيب بن علي الخرساني ، القاضي ، صاحب السنن ، كان المقدّم في الحديث على أهل عصره ، وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرجال ، مات سنة 303 هـ . انظر : طبقات علماء الحديث 2/418 - 421 .(1/442)
وأمَّا حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - في فضيلة سُوره سورة سورة فحديث موضوع ) (1) .
وما صح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه كفاية ، ويغني عما لم يصح .
وما صح من أحاديث في بيان فضائل القرآن على ضربين :
أحدهما : ما ورد في فضل القرآن على الجملة .
والثاني : ما ورد في فضل سور بعينها (2) .
وليس هذا محل ذكر ما صح من أحاديث في هذا الباب ، ومن أراد معرفتها فيمكنه الرجوع إلى الكتب المصنّفة في فضائل القرآن ... ومحل البحث هنا هو ما بحثه ابن عبدالبر - رحمه الله - وأشار إليه مِمَّا له صلة بهذا المبحث .
ويُمكن تقسيم ما وجدته لهذا الإمام في هذا المقام إلى مبحثين :
الأول : هل في القرآن شيء أفضل من شيء .
الثاني : ما ورد في فضل بعض السور .
* * *
المبحث الأول
هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟
اختلف الناس في هذه المسألة مع أنه لاينبغي الخلاف فيها ؛ وذلك لورود النصوص التي تدل بوضوح على أن بعضه أفضل من بعض .
وقد ذكر خلاف الناس في هذه المسألة كل من الزركشي في البرهان (3) ، والسيوطي في الإتقان (4) .
وسوف أذكر ملخص ما ذكراه بعد ذكر رأي الإمام ابن عبدالبر - إن شاء الله - ثُمَّ أذكر القول الصواب في هذه المسألة مستمداً من الله العون والسداد .
يرى ابن عبدالبر - رحمه الله - أنه لاينبغي أن نفضل بعض القرآن على بعض ؛ لأن القرآن كلام الله ، وصفة من صفاته ؛ ولو قلنا بأن بعضه أفضل من بعض للزم من ذلك دخول النقص في المفضول منه .
__________
(1) البرهان للزركشي 2/55 - 59 .
(2) انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1113 - 1130 .
(3) انظر : رهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 73 النوع الثامن والعشرون : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ؟ .
(4) انظر : الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 - 1134 النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله .(1/443)
فبعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الحديث الوارد في فضل سورة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } وأنها تعدل ثلث القرآن (1) ، وبيّن أن المعنى الذي يشهد له ظاهر الحديث أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن ، قال : ( وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث ، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفصيل القرآن بعض على بعض ، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه ، بل هو فضله عزوجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلاً منه على من يشاء منهم ، وقد قال الله عزوجل : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] .
ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
فكذلك { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } خيرٌ لنا ، لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ، ولسنا نقول [ هي ] في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن عندنا كلام الله وصفة من صفاته ، ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها ) (2) ا هـ .
__________
(1) سيأتي ذكر هذا الحديث وبيان معناه وتخريجه - إن شاء الله - .
(2) الاستذكار 8/116 ، 117 .(1/444)
وهذا القول الذي اختاره ابن عبدالبر - رحمه الله - هو القول الأول في هذه المسألة ، وهو الذي ذكره الزركشي بقوله : ( فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري (1) ، والقاضي أبو بكر ، وأبو حاتم ابن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعضه على بعض ؛ لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها ، وروى معناه عن مالك ، قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها ، واحتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه .
قال ابن حبان في حديث أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - : { ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن } (2) : إن الله لايعطي لقارئ التوارة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله بفضله فضّل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مِمَّا أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ... قال : وقوله : { أعظم سورة } أراد به في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض ) (3) ا هـ .
__________
(1) هو : العلاّمة ، إمام المتكلمين ، أبو الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر ، الأشعري اليماني البصري يرجع نسبه إلى كان عجباً في الذكاء ، وقوة الفهم ، كان معتزلياً ثُمَّ رجع عن مذهب الاعتزال وتاب من ذلك ، ثُمَّ أخذ يرد على المعتزلة ويهتك عوارهم . ومذهبه في الصفات خلاف مذهب الذين ينسبون أنفسهم إليه من الأشاعرة المؤلين ، فهو يمرّ الصفات كما جاءت ، ويقرّ بها ، ولايؤوّلها . مات - رحمه الله - سنة 324 هـ ببغداد . انظر : سير أعلام النبلاء 15/85 - 90 .
(2) سيأتي ذكره بتمامه وتخريجه قريباً - إن شاء الله - .
(3) البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/67 - 69 .(1/445)
وأمَّا القول الثاني في هذه المسألة فهو القول بالتفضيل ، أي أن بعض القرآن أفضل من بعض ، وهو القول المأثور عن السلف ، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
قال السيوطي في الإتقان : ( وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث ، منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربي ، والغزالي (1) .
وقال القرطبي : إنه الحق ، ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين (2) .
وقال ابن الحصّار (3) : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك ، مع النصوص الواردة بالتفضيل ) (4) ا هـ .
__________
(1) هو : الشيخ ، البحر ، أعجوبة الزمان ، زين الدين ، أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسيّ ، الشافعي الغزالي ، صاحب التصانيف ، والذكاء المفرط ، ومع غزارة علمه وتبحره في كثير من العلوم إلاَّ أنه لم يكن له علمٌ بالآثار ولا خبرة بالسنة النبوية ، ولذلك فقد جاء بالموضوعات والمنكرات في كتبه ، وخاصة كبابه المشهور : إحياء علوم الدين . توفي سنة 505 هـ . انظر ترجمة قيِّمةً حافلة مليئة بالفوائد لهذا العَلَم في : سير أعلام النبلاء 19/322 - 346 .
(2) انظر كتاب القرطبي : التذكار في أفضل الأذكار من القرآن الكريم ص 40 - 44 ، وقد رجح أن القول الصحيح هو القول بالتفضيل .
(3) هو : العلاّمة ، أبو المطرِّف ، عبدالرحمن بن أحمد بن سعيد بن غَرسِيّة ، القرطبي ، المالكي ، ابن الحَصَّار . كان أحد الأذكياء المتفَنِّنين . قال ابن حزم : ... ولقد كان من أعلم من لقيته بمذهب مالك مع قوته في علم اللغة والنحو ، ودقة فهمه . مات سنة 422 هـ . انظر : سير أعلام النبلاء 17/473 - 475 .
(4) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/1131 ، 1132 ، باختصار .(1/446)
وأقول أنا أيضاً : إنه لعجيب أن يرد مثل هذا الخلاف في هذه المسألة مع أن النصوص والأدلة الكثيرة تدل على التفضيل بل إن العقل يدل على ذلك مع دلالة الشرع .
وتقرير ذلك أن يقال : إن القرآن كلام الله ، ( وكلام الله لا نهاية له كما قال سبحانه : { قُل لَّوْ كَانَ ا؟لْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَـ!ــتِ رَبِّي لَنَفِدَ ا؟لْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـ!ــتُ رَبِّي وَلَوْ جِـ[ــ:ـــــْنَا بِمِثْلِهِ÷ مَدَدًا = 109 } [ الكهف : 109 ] .
ومن كلماته تعالى : كتبه المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، وكلماته التي يخلق بها الخلق ، وكلماته التي كلّم بها آدم ، والتي كلّم بها موسى ، والتي كلّم بها محمداً صلى الله عليه وسلم وكلماته التي يكلم بها عباده في المحشر وفي الجَنَّة ، وكلماته التي يخاطب بها أهل النَّار توبيخاً وتقريعاً ، وغيرُ ذلك من كلامه تبارك وتعالى .
فكلامه تعالى متبعّضٌ متجزي ، فالتوراة بعض كلامه وجزء منه ، والإنجيل كذلك والقرآن كذلك ، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ وسورٌ وآياتٌ وكلماتٌ .
وجميع هذا من المسلَّمات المعلومة لدى الكافة ، دلّ عليها الحس ، والعقل ، والشرع ، وهي أجلى من أن تحتاج إلى ضرب الأمثلة ، وسياق البراهين .
فكلامه تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ ، بعضه أفضل من بعض ، وليس ذلك من جهة المتكلم به وهو الله تعالى ، وإنَّما هو من جهة ما تضمن من المعاني العظيمة ، فإن كلام الله المتضمن للتوحيد والدعوة إليه ، أفضل من كلامه المتضمن ذكر الحدود والقصاص ونحو ذلك ، وما يخبر به عن نفسه وصفاته أعظمُ مِمَّا يخبر به عن بعض خلقه ، وذلك لشرف الأول على الثاني .
وقد ورد في السنة الصحيحة ما يثبت ذلك ويوضحه ويُجلِّيه ، فمن ذلك :(1/447)
1 - حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في ميسر له فنزل ونزل رجلٌ إلى جانبه ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ } قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين } (1) .
2 - حديث أبي سعيد بن المعلّى - رضي الله عنه - قال : كنتُ أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبْه ، فقلتُ : يا رسول الله ! إني كنت أصلي فقال : { ألم يقل الله : { ا؟سْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] ثُمَّ قال لي : { لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ، قبل أن تخرج من المسجد } . ثُمَّ أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلتُ له : ألم تقل : { لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ } قال : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } (2) .
3 - عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أبا المنذر ، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : الله ورسوله أعلم . قال : { يا أبا المنذر : أتدري : أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ } قال : قلتُ : { ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ــهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لْحَيُّ ا؟لْقَيُّومُ ... } [ البقرة : 255 ] ، قال : فضرب في صدري ، وقال : { والله ، لِيَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر } (3) .
__________
(1) حديث صحيح أخرجه النسائي في فضائل القرآن رقم [36] ص 72 ، وقال محققه فاروق حماده : إسناده صحيح . وانظر : الترغيب والترهيب للمنذري 2/342 رقم [2151] .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل فاتحة الكتاب رقم [5006] ص 995 .
(3) سبق تخريجه ص 98 .(1/448)
4 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } يرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له - وكأنّ الرجل يتقالُّها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن } (1) .
فدلت هذه النصوص ، وغيرها على تفضيل كلام الله بعضه على بعض ، وذلك حسب ما يدل عليه من المعاني ، وهو مذهب جمهور السلف وأهل السنة ) (2) .
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الكلام في هذه المسألة في رسالة له بعنوان : ( جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن ) (3) ، وذكر أقوال العلماء في ذلك وأدلة كل قول مع المناقشة والترجيح ، والتوجيه والتعليل بما يغني الناظر فيه عن الرجوع إلى غيره .
وقد قرر أن النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقليَّة تدل على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض . وقال : ( ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة ، بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة ) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } رقم [5013] ص 996 .
(2) من كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية ، تأليف : عبد الله بن يوسف الجديع ص 187 - 191 بتصرف يسير واختصار .
(3) وهي مطبوعة بتحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي ، نشر دار الكتاب العربي ، وهي أيضاً مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى 17/5 - 205 .
(4) انظر : الرسالة السابقة ص 91 .(1/449)
وإذا تقرّر أن القول بالتفضيل هو القول الصواب الذي لاينبغي القول بخلافه ؛ فإن من نافلة القول أن أذكر الشبه التي احتج بها - ابن عبدالبر - على قوله المخالف للصواب ، مع الرد عليها والاعتذار له - إن أمكن - .
الشبهة الأولى : اشتبه عليه المراد بقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] ، وذكر أن العلماء بتأويل القرآن لم يختلفوا أن المراد بقوله : { بِخَيْرٍ مِّنْهَآ } أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا قول الله عزوجل { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها ) (1) .
وما استدل به وذكره ابن عبدالبر وإن كان قاله أيضاً إمام المفسرين ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية إلاَّ أنه في الحقيقة لايدل على المراد الذي أراده ابن عبدالبر من نفي وقوع التفاضل في كلام الله ؛ بل إن ظاهر الآية يدل على أن الآية التي يأتي بها الله بدل الآية المنسوخة أو المنسية خيرٌ منها أو مثلها .
ولهذا ( فقول القائل : إنه ليس بعض ذلك خيراً من بعض بل بعضه أكثر ثواباً ، ردٌّ لخبر الله الصريح ، فإن الله يقول : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] فكيف يُقال : ليس بعضه خيراً من بعض ؟ .
وإذا كان الجميع متماثلاً في نفسه امتنع أن يكون فيه شيء خيراً من شيء .
__________
(1) التمهيد 19/231 .(1/450)
وكون معنى الخير أكثر ثواباً مع كونه متماثلاً في نفسه أمر لايدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازاً ، فلايجوز حمله عليه ، فإنه لايُعرف قط أن يقال : هذا خير من هذا وأفضل من هذا ، مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه ، بل لابُدّ مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات ، فأمَّا إذا قدر أن مختاراً جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه ، فهذا لايعقل وجوده ، ولو عقل لم يقل إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لايتصف به أحدهما البتة .
وأيضاً ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة : { لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } (1) فقد صرح الرسول بأن الله لم ينزل لها مثلاً ، فمن قال إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثلٌ لها من كل وجه فقد ناقض الرسول في خبره ) (2) .
فالآية التي ذكرها ابن عبدالبر تدل على خلاف ما ذهب إليه ، كما قال ابن حجر : ( ويؤيد التفضيل قوله تعالى : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } ) (3) ا هـ .
الشبهة الثانية : أن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفة من صفاته ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول - منها .
وهذا الذي ذكره ابن عبدالبر بعضه صحيح ، وبعضه غير صحيح .
فأمَّا الصحيح منه فهو أن القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفاته ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وأمَّا غير الصحيح فهو أن التفاضل لايدخل في صفات الله لدخول النقص في المفضول منها ، والسبب الذي دعاهم إلى هذا القول ، هو أن صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ، وليس فيها نقص ، وإذا قلنا بأن بعضها أفضل من بعض كان ذلك وصفاً للمفضول بالنقص ، وهذا لايجوز .
__________
(1) سيأتي ذكره كاملاً وتخريجه - إن شاء الله - .
(2) من كلال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الرسالة السابقة ص 167 .
(3) فتح الباري 8/8 .(1/451)
والجواب على هذه الشبهة أن يقال : ( قول القائل : صفات الله كلها فاضلة في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص ، كلام صحيح ، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيباً منقوصاً خطأ منه فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض ، وبعض أفعاله أفضل من بعض .
ففي الآثار ، ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم ، واسمه الكبير واسمه الأكبر ، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، فإذا رجلٌ يصلي يدعو : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلاَّ أنت الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده ، لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دُعي به أجاب } (1) .
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي } وفي رواية : { سبقت رحمتي غضبي } (2) .
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب : الدعاء رقم [1493] 2/166 ، 167] ، والترمذي في الدعوات ، باب : جامع الدعوات رقم [3475] 5/481 ، 482 ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وغيرهما من أهل السنن ، وهو حديث صحيح كما في صحيح سنن أبي داود رقم [1324] 1/279 ، وصحيح سنن الترمذي رقم [2763] 3/163 .
(2) رواه البخاري في كتاب التوحيد ، باب : قول الله تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ ا؟للَّهُ نَفْسَهُ ,) } [ آل عمران : 28 ] رقم [7404] ص 1410 ، ومسلم في كتاب التوبة ، باب : في سعة رحمة الله تعالى ، وأنها سبقت غضبه رقم [2751] ص 1100 ، 1101 .(1/452)
فوصف رحمته بأنها تغلب غضبه وتسبقه ، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك } (1) ، ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه ، فقد استعاذ برضاه من سخطه ، وبمعافاته من عقوبته .
وأمَّا استعاذته به منه فلابد أن يكون باعتبار جهتين : يستعيذ به باعتبار تلك الجهة ، ومنه باعتبار تلك الجهة ، ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ منه ، إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه ، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه ، والجهة الواحدة لاتكون مطلوبة مهروباً منها ، لكن باعتبار جهتين تصح ) (2) أ هـ .
ويقال أيضاً في الجواب على هذه الشبهة ما سبق ذكره من أنه لايوجد في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض ، بل ولايمنع تفاضل صفاته تعالى ، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة بحيث جعلوا أعلاماً للسنة وأئمة للأمة .
بل النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تفضيل بعض كلام الله على بعض وعلى تفضيل بعض صفاته على بعض ، وقد سبق ذكر شيء منها في ثنايا هذا المبحث ، وبالله التوفيق .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة رقم [486] ص 201 .
(2) باختصار من رسالة ابن تيمية السابقة ص 101 - 104 .(1/453)
ومِمَّا سبق يُعلم أن إمامنا ابن عبدالبر لم يوفق للصواب في هذه المسألة ، ويُمكن أن يُعتذر له بأنه - رحمه الله - ظن أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض لايُمكن إلاَّ على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأن القرآن مخلوق ، فإنه إذا قيل : إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض ، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض ، وهذا الظن الذي ظنه - رحمه الله - قد ظنّه غيره من العلماء الذين هم من أهل السنة ووافقوه في هذه المسألة فيما ذهب إليه .
( قالوا : وأمَّا على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته . ولأجل هذا الاعتقاد صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله ابن الدراج في مصنّف صنّفه في هذه المسألة ، قال : { أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مِمَّا ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض ، إذ هو كلام الله وصفة من صفاته ، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال } .
وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازماً لأهل السنة ، فلما علم أنهم يقولون : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وظن هو أن المفاضلة إنَّما تقع في المخلوقات في الصفات ، قال ما قال . وإلاَّ فلاينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض ، لا في نفسه ، ولا في لوازمه ومتعلقاته ، فضلاً عن أن يكون هذا إجماعاً ) (1) .
وأخيراً نقول : إن ابن عبدالبر اجتهد في هذه المسألة فأخطأ ، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه ، بل يثيبه على ما فعله من طاعته ويغفر له ما أخطأ فيه فعجز عن معرفته والوصول إليه .
وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلاَّ المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه .
__________
(1) من رسالة ابن تيمية السابقة ص 87 .(1/454)
* * *
المبحث الثاني
ما ورد في فضل بعض السور
ورد في موطأ الإمام مالك - رحمه الله - بعض الأحاديث التي فيها ما يدل على فضل بعض سور القرآن الكريم ، وقد شرحها الإمام ابن عبدالبر - رحمه الله - في كتبه التي شرح فيها أحاديث الموطأ ، وأشار إلى بعض معانيها والفوائد والأحكام المستفادة منها .
وفي هذا المبحث سأذكر الأحاديث التي ذكرها ابن عبدالبر في فضائل بعض السور وبعض تعليقاته عليها التي تتعلق بهذا المبحث في المطالب التالية :
المطلب الأول
ماجاء في أمّ القرآن ( الفاتحة )
في كتاب الصلاة من موطأ الإمام مالك نجد باباً فيما جاء في أم القرآن ، ذكر فيه هذا الحديث : عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه وهو يصلي ، فلمّا فرغ من صلاته لحقه ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه على يده ، وهو يريد أن يخرج من باب المسجد فقال : { إني لأرجو أن لاتخرج من المسجد حتى تعلّم سورة ؛ ما أنزل الله في التوراة ، ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } قال أبيّ : فجعلت أبطي في المشي ، رجاء ذلك ، ثُمَّ قلتُ : يا رسول الله ! السورة التي وعدتني ، قال : { كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ } قال : فقرأت { الحمد لله رب العالمين } حتى أتيت على آخرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هي هذه السورة ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت } (1) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الصلاة ، باب : ماجاء في أم القرآن رقم [37] ص 91 ، وأخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن أبيّ بن كعب في كتاب فضائل القرآن ، باب : ماجاء في فضل فاتحة الكتاب رقم [2875] 5/143 ، 144 وقال : هذا حديث حسن صحيح . ... ... ... = =
= = وأخرج البخاري مثل هذه القصة عن أبي سعيد المعلّى في كتاب التفسير ، باب : ماجاء في فاتحة الكتاب وفي فضائل القرآن ، باب : فضل فاتحة الكتاب ، وسبق تخريجه قريباً .(1/455)
وقد شرح ابن عبدالبر هذا الحديث ، وفصّل في بيان الأحكام المستفادة منه (1) ، والذي يهمنا هنا هو ما أورده مِمَّا يتعلق بفضل هذه السورة العظيمة .
قال - رحمه الله - : ( وأمَّا قوله - عليه السلام - لأبيّ : { حتى تعلمَ سورة ما أنزل الله في القرآن ، ولا في التوراة ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها } فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير ، لأن فيها الثناء على الله بما هو أهله ، وما يستحق من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره ؛ لأن كلّ نعمة وخير فمنه ، لا من سواه ، فهو الخالق الرازق ، ولا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهو المحمود على ذلك ، وإن حُمد غيره فإليه يعود الحمد .
وفيها التعظيم له ، وأنه رب العالم أجمع ، ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود المستعان .
وفيها تعليمُ الدعاء إلى الهدى ، ومجانبة طريق من ضلّ وغوى ، والدعاءُ لبابُ العبادة ، فهي أجمع سورة للخير ، وليس في الكتاب مثلها على هذه الوجوه ، والله أعلم .
وقد قيل : إن معنى ذلك لأنها لاتجزيء الصلاة إلاَّ بها دون غيرها ، ولايجزئ غيرها عنها ، وليس هذا بتأويل مجمع عليه ) (2) ا هـ .
فهذا كلام ابن عبدالبر - رحمه الله - في معنى كون الفاتحة أعظم سورة في القرآن ، وأن الله لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها ، وأن ذلك راجع إلى ما اشتملت عليه من المعاني العظيمة التي لاتوجد في غيرها من سور القرآن .
وابن عبدالبر إذ يقرر هذا فهو يخالف ما ذهب إليه من القول بعدم التفضيل لبعض القرآن على بعض ، إذ مقتضى كلامه هنا أنها أفضل من غيرها ، وأنه ليس هناك سورة مثلها ، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث .
__________
(1) في التمهيد 20/217 - 222 ، وفي الاستذكار 4/179 - 188 .
(2) الاستذكار 4/186 - 187 .(1/456)
ولو أنه قال هنا في معنى كونها أفضل سورة وأعظم سورة في القرآن بمقتضى ما ذهب إليه من عدم التفضيل لكان المعنى : أن ثوابها أعظم من غيرها ، كما قال بذلك ابن التين ، كما ذكر ذلك السيوطي في الإتقان .
وهذا يدل على أن القول بالتفضيل هو الذي لاتدل النصوص الصريحة الصحيحة إلاَّ عليه كما سبق تقريره .
وقد كثرت أقوال العلماء ؛ وتعددت آراؤهم في توجيه وبيان معنى كون الفاتحة أعظم سورة في القرآن ، وأن الله لم ينزل مثلها ، وحاصل تلك الأقوال أنها كانت أعظم السور لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن الكريم ، ولذلك سميت : أم القرآن ، وكذلك لأنها مشتملة على خلاصة ما اشتملت عليه جميع الكتب المنزلة (1) .
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال ، وتضمنتها أكمل تضمن ، ثُمَّ فصّل هذا الإجمال وبيّن الأمور التي تضمنها أتم بيان وأوضحه (2) .
وخلاصة ذلك : أن سر الخلق والأمر ، والكتب والشرائع ، والثواب والعقاب ، ينتهي إلى الكلمتين اللتين تضمنتهما هذه الآية : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ = 5 } حتى قيل : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب ، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن . وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن ، وجمع معاني القرآن في المفصل ، وجمع معاني المفصل في الفاتحة في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ = 5 } (3) .
وقد ذكر ابن عبدالبر قولاً آخر في معنى كون الفاتحة لم يُنزل مثلها في القرآن وهو أن ذلك بسبب كونها لاتجزئ الصلاة إلاَّ بها دون غيرها ، ولايجزئ غيرها عنها .
__________
(1) انظر : الإتقان للسيوطي 2/1134 - 1136 .
(2) انظر : كتابه القيّم مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 1/13 - 14 .
(3) انظر : المرجع السابق 1/85 .(1/457)
وهذا القول الذي ذكره لم أرَ في كتب شروح الحديث من ذكره فهو قول فيه ضعف ، ولذلك أشار ابن عبدالبر لضعفه بتصديره بصيغة التضعيف : قيل ، وبقوله بعده وليس هذا بتأويل مجمع عليه .
وقال - رحمه الله - في شرحه لحديث الباب : ( وأمَّا قوله : { هي السبع المثاني والقرآن العظيم } فمعناه عندي هي السبع المثاني التي أعطيت ، لقوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي وَا؟لْقُرْءَانَ ا؟لْعَظِيمَ = 87 } [ الحجر : 87 ] فخرج { والقرآن العظيم } على معنى التلاوة .
وأولى ما قيل به في تأويل السبع المثاني أنها فاتحة الكتاب ؛ لأن القول بذلك أرفع ما روى فيه وهو يخرج في التفسير المسند .
وقد روى عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي } قال : فاتحة الكتاب (1) ، قيل لها ذلك ؛ لأنها تُثَنَّى في كل ركعة .
وقال بذلك جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن ، منهم قتادة .
ذكر عبدالرزاق عن معمر ، عن قتادة في قوله : { سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي } قال : هي فاتحة الكتاب ، تُثَنَّى في كل ركعة مكتوبة وتطوع (2) .
وقد روي عن ابن عباس أيضاً في السبع المثاني أنها السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، وبراءة (3) .
__________
(1) انظر : تفسير ابن جرير الطبري 7/537 ، وتفسير ابن كثير 2/538 ، وفتح الباري لابن حجر 8/233 .
(2) انظر : تفسير الطبري 7/538 .
(3) رواه النسائي كتاب الافتتاح ، باب : تأويل قول الله عزوجل : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي } 2/139 ، 140 ، وأخرجه في التفسير في تفسير سورة الحج ، باب : قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا = =
= = مِّنَ ا؟لْمَثَانِي } 1/634 ، 635 رقم [296] ، وذكر ابن حجر في الفتح بأن سنده صحيح 8/8 . وانظر : جامع الأصول رقم [685] 2/206 .(1/458)
وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ؛ لأنها تُثَنَّى فيها حدود القرآن والفرائض (1) .
والقول الأول أثبت عن ابن عباس ، وهو الصحيح إن شاء الله في تأويل الآية ، لما ثبت عن النبي - عليه السلام - في ذلك ) (2) ا هـ .
فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الباب : { وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيتُ } أن الفاتحة هي السبع المثاني الذي أُعطي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي وَا؟لْقُرْءَانَ ا؟لْعَظِيمَ = 87 } .
وأمَّا { القرآن العظيم } فليس المراد به أن الفاتحة هي القرآن العظيم ، وإنَّما قال صلى الله عليه وسلم : { والقرآن العظيم } على معنى التلاوة للآية ، أي قال ذلك موافقة لما جاء في الآية الكريمة .
وهذا على قول ابن عبدالبر - رحمه الله - كما يُفهم ذلك من قوله السابق .
وهذا القول فيه شيء من البعد ، لأن روايات الحديث لاتدل عليه ، بل معنى الحديث أن الفاتحة هي السبع المثاني ، وهي القرآن العظيم ، الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم .
ففي رواية الإمام البخاري لهذا الحديث : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم الذي أوتيته } (3) .
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم } (4) .
__________
(1) انظر : تفسير ابن جرير الطبري 7/538 .
(2) الاستذكار 4/187 ، 188 .
(3) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي وَا؟لْقُرْءَانَ ا؟لْعَظِيمَ = 87 } من حديث أبي سعيد بن المعلى رقم [4703] 8/232 مع الفتح .
(4) صحيح البخاري ، الموضع السابق رقم [4704] .(1/459)
وفي رواية عند الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن : { هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي القرآن العظيم } (1) .
وبناءً على هذه الروايات فالمعنى الصحيح للحديث هو ما ذكره الخطابي بقوله : ( في قوله { هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم ، وأن الواو ليست بالعاطفة التي تفصل بين الشيئين ، وإنَّما هي التي تجيء بمعنى التفصيل كقوله : { فَـ!ـكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68] ، وقوله : { وَمَلَـ!ــ%ـئِكَتِهِ÷ وَرُسُلِهِ÷ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـ[ــ!ـلَ } [ البقرة : 98 ] ) (2) ا هـ .
وعلى هذا فالفاتحة هي القرآن العظيم ولا مانع من إطلاق هذا الوصف عليها ؛ لأن بعض القرآن يطلق عليه القرآن ، ووصفها بأنها القرآن العظيم راجع إلى أنها أعظم سورة فيه ، ولم ينزل مثلها في الكتب المنزلة كلها كما جاء في الأحاديث (3) .
( وإنَّما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة لما عُلم في اللغة العربيَّة من أن الشيء الواحد إذا ذُكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى تنزيلاً لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات ، ومنه قوله تعالى : { سَبِّحِ ا؟سْمَ رَبِّكَ ا؟لأَعْلَى = 1 ا؟لَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى = 2 وَا؟لَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى = 3 وَا؟لَّذِي% أَخْرَجَ ا؟لْمَرْعَى = 4 } [ الأعلى : 1 - 4 ] .
وقول الشاعر :
__________
(1) رواه أحمد في المسند 2/448 .
(2) انظر : فتح الباري 8/9 .
(3) انظر : كتاب موسوعة فضائل سور وآيات القرآن للشيخ محمد طرهوني 1/33 .(1/460)
إلى الملك القرم وابن الهمام ... ... وليث الكتيبة في المزدحم ) (1) ا هـ
وعلى هذا فالقول الراجح الذي تؤيده الأدلة من السنة النبوية أن المراد بالقرآن العظيم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـ!ـــكَ سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي وَا؟لْقُرْءَانَ ا؟لْعَظِيمَ = 87 } هو الفاتحة .
وأمَّا ما ذكره ابن جرير بقوله : ( وأمَّا قوله : { وَا؟لْقُرْءَانَ ا؟لْعَظِيمَ } فإن القرآن العظيم معطوف على السبع بمعنى : ولقد آتيناك سبع آيات من القرآن وغير ذلك من سائر القرآن ) (2) ا هـ . فهو وإن كان صحيحاً إلاَّ أنه معنى مرجوح ؛ لأن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بالعظيم بأنه الفاتحة أولى ، وهو بالرجحان أحرى .
وأمَّا ما ذكره ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث أبي سعيد بن المعلى في فضل الفاتحة ، وفيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } (3) بعد أن ذكر قول الخطابي السابق ذكره فعقب عليه بقوله : ( وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله : { والقرآن العظيم } محذوف الخبر ، والتقدير ما بعد الفاتحة مثلاً ، فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله : { هي السبع المثاني } ثُمَّ عطف قوله : { والقرآن العظيم } أي ما زاد على الفاتحة ، وذكر ذلك رعاية لنظم الآية ويكون التقدير : والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة ) (4) ا هـ .
__________
(1) أضواء البيان للشنقيطي 3/176 ، وانظر : تفسير القرطبي 10/55 ، والبيت يستشهد به كثيراً في كتب اللغة والتفسير ولم أرَ بعد البحث من عرف قائله . انظر : الدر المصون للسمين الحلبي 1/97 .
(2) تفسير ابن جرير 7/542 .
(3) سبق تخريجه ص 426 .
(4) فتح الباري لابن حجر 8/9 ، وانظر أيضاً 8/233 .(1/461)
فهو قريب مِمَّا رجحه ابن عبدالبر ، إلاَّ أنه فصّل فيه أكثر ، وذكر أن في الكلام محذوفاً ، وهذا مخالف للروايات الأخرى كما سبق بيانه ، ولعل القول الحقيق بالتحقيق هو ما قاله الإمام ابن كثير - بعد ذكره حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره وهو عند البخاري - بقوله : ( وهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ، ولكن لاينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك لما فيها من هذه الصفة كما لاينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضاً كما قال تعالى : { ا؟للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ا؟لْحَدِيثِ كِتَـ!ــبًا مُّتَشَـ!ــبِهًا مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه ، وهو القرآن العظيم أيضاً كما أنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فأشار إلى مسجده (1) ، والآية نزلت في مسجد قباء ، فلاتنافي فإن ذكر الشيء لاينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة ، والله أعلم ) (2) ا هـ .
وقد ذكر ابن عبدالبر في شرحه السابق للحديث أن في معنى قوله تعالى : { سَبْعًا مِّنَ ا؟لْمَثَانِي } قولين لأهل التفسير :
الأول : أن المراد بها الفاتحة .
الثاني : أن المراد بها السبعُ الطوَل : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال وبراءة .
ثُمَّ رجح القول الأول ؛ لأنه أرفع ما روي في ذلك وهو يخرج في التفسير المسند لما ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - في ذلك .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج ، باب : بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي e بالمدينة رقم [1398] ص 547 من حديث أبي سعيد الخدري . وانظر : تفسير النسائي 1/558 .
(2) تفسير ابن كثير 2/538 .(1/462)
وهو بترجيحه هذا يوافق أشهر وأكثر المفسرين في ترجيحهم لهذا القول ، وهو القول الذي لاينبغي القول بخلافه ؛ لأنه إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلايُصار إلى غيره . وهذه قاعدة مهمة من قواعد الترجيح عند المفسرين (1) .
ولهذا قال الإمام المالكي ابن العربي بعد أن ذكر الأقوال في معنى الآية : ( المسألة الرابعة : في تحقيق هذا المسطور : يحتمل أن يكون السبع من السور ، ويحتمل أن يكون من الآيات ؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد كشف قناع الإشكال ، وأوضح شُعاع البيان ؛ ففي الصحيح عند كل فريق ومن كل طريق أنها أم الكتاب ، والقرآن العظيم - حسبما تقدّم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : { هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت } وبعد هذا فالسبع المثاني كثير ، والكل محتمل ، والنص قاطع بالمراد ، قاطع بمن أراد التكليف والعناد ، وبعد تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فلا تفسير ، وليس للمعترض إلى غيره إلى النكير ) (2) ا هـ .
وقد قرّر ذلك أيضاً الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - في أضواء البيان ، وقال بعد كلام له في هذا الشأن : ( وبه تعلم أن قول من قال : إنها السبع الطوال غير صحيح ، إذ لا كلام لأحد معه صلى الله عليه وسلم . ومِمَّا يدل على عدم صحة ذلك القول : أن آية الحجر هذه مكية ، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلاَّ بالمدينة ، والعلم عند الله تعالى ) (3) ا هـ .
* * *
المطلب الثاني
ماجاء في فضل { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا = 1 }
__________
(1) انظر : الكتاب القَيِّم : قواعد الترجيح عند المفسرين لحسين بن علي الحربي 1/191 .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 3/113 .
(3) انظر : أضواء البيان 3/176 .(1/463)
روى الإمام مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ، ثُمَّ سأله ، فلم يجبه ، ثُمَّ سأله ، فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك عمر ، نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، كل ذلك لايجيبك . قال عمر : فحركت بعيري ، حتى إذا كنت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن . فما نشبت أن سمعتُ صارخاً يصرخ بي . قال : فقلتُ : لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن ، فقال : { لقد أنزلت عليّ هذه الليلة سورة لهي أحب إليّ مِمَّا طلعت عليه الشمس } ثُمَّ قرأ { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا = 1 } (1) .
قال ابن عبدالبر في أثناء كلام له في شرح هذا الحديث : ( وفيه أن غفران الذنوب خيرٌ للإنسان مِمَّا طلعت عليه الشمس لو أعطي ذلك ، وذلك تحقير منه صلى الله عليه وسلم للدنيا وتعظيم للآخرة ، وهكذا ينبغي للعالم أن يحقر ما حقر الله من الدنيا ، ويزهد فيها ، ويعظم ما عظمه الله من الآخرة ، ويرغب فيها .
وإذا كان غفران الذنوب للإنسان خيراً مِمَّا طلعت عليه الشمس ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفر عنه إلاَّ الصغائر من الذنوب ، لأنه لم يأت قط كبيرة ، لا هو ولا أحد من أنبياء الله لأنهم معصومون من الكبائر صلوات الله عليهم ، فعلى هذا : الصلوات الخمس خير للإنسان من الدنيا وما فيها ؛ لأنها تكفر الصغائر ، وبالله التوفيق ) (2) ا هـ .
__________
(1) الموطأ كتاب القرآن ، باب : ماجاء في القرآن رقم [9] 1/180 ، وأخرجه البخاري في التفسير ، باب : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا = 1 } رقم [4833] ، وفي فضائل القرآن ، باب : فضل سورة الفتح رقم [5012] .
(2) التمهيد 3/266 ، وانظر : الاستذكار 8/76 .(1/464)
ويفهم من كلامه هذا أن السبب في كون هذه السورة أحبّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّا طلعت عليه الشمس هو ما جاء فيها من البشارة بمغفرة ما تقدم من ذنب النبي صلى الله عليه وسلم وما تأخر .
وهذا الذي أشار إليه ابن عبدالبر هو أحد ما اشتملت عليه هذه السورة من أنواع العطايا ؛ لأن الله جمع في هذه السورة خمسة أنواع من العطايا :
أحدها : الفتح المبين .
الثاني : مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
الثالث : هدايته الصراط المستقيم .
الرابع : إتمام نعمته عليه .
الخامس : إعطاء النصر العزيز (1) .
وكذلك يفهم مِمَّا ذكره ابن عبدالبر فيما يستفاد من حديث الباب أن المراد بـ { ما طلعت عليه الشمس } الدنيا ، وقد ورد هذا صريحاً في رواية مسلم وفيها أنه قال : { لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً } (2) .
* * *
المطلب الثالث
ما جاء في قراءة { تَبَـ!ــرَكَ ا؟لَّذِي بِيَدِهِ ا؟لْمُلْكُ }
روى الإمام مالك في الموطأ ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أنه أخبره : أن { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن ، وأن { تبارك الذي بيده الملك } تجادل عن صاحبها (3) .
__________
(1) انظر : بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن القيم 4/167 .
(2) أخرج هذه الرواية مسلم من حديث أنس بن مالك في كتاب الجهاد والسير ، باب : صلح الحديبية رقم [1786] 12/385 .
(3) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب القرآن ، باب : ماجاء في قراءة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } و { تَبَـ!ــرَكَ ا؟لَّذِي بِيَدِهِ ا؟لْمُلْكُ } رقم [19] 1/183 ، 184 ، وهو مرسل صحيح . انظر : موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 2/197 .(1/465)
قال الإمام ابن عبدالبر - رحمه الله - في التمهيد بعد ذكر ه هذا الحديث : ( أدخلنا هذا في كتابنا لأن مثله لايقال بالرأي ، ولابُدّ أن يكون توقيفاً لأن هذا لايدرك بنظر ، وإنَّما فيه التسليم ، مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ) (1) .
ثُمَّ ذكر الأحاديث المرفوعة في فضل سورة الملك ، وهي :
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { سورة من القرآن تشفع لصاحبها فتدخله الجَنَّة ، قال : وهي { تَبَـ!ــرَكَ ا؟لَّذِي بِيَدِهِ ا؟لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ = 1 } } (2) .
2 - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له ، وهي { تَبَـ!ــرَكَ ا؟لَّذِي بِيَدِهِ ا؟لْمُلْكُ } } (3) .
وقال في الاستذكار في معنى كونها تجادل عن صاحبها : ( ومعناه عندي - والله أعلم - أن كثرة قراءته لها ترفع عنه غضب الرب يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، فقامت له مقام المجادلة ، والله أعلم ) (4) ا هـ .
والأسلم في مثل هذا عدم الخوض في ذكر معناه حتى يأتي دليل صحيح صريح يُبيّن ذلك المعنى ؛ لأن ذلك مِمَّا لا مجال للقول فيه بدون مستند شرعي لكونه من أمور الغيب ، والله أعلم .
__________
(1) التمهيد 7/252 .
(2) أخرجه الطبراني والضياء المقدسي في المختارة وقال الحافظ الهيثمي : رجاله رجال الصحيح .
(3) أخرجه أحمد في المسند 2/299 ، 321 ، والترمذي رقم [3053] في فضائل القرآن ، باب : ماجاء في فضل سورة الملك ، وأبو داود في الصلاة ، باب : في عدد الآي 2/119 ، 120 ، رقم [1400] ، وابن ماجه [3786] في الأدب ، باب : ثواب القرآن ، وأخرجه البغوي في شرح السنة 4/473 .
... وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم [2315] : حسن . 3/6 .
(4) الاستذكار 8/125 .(1/466)
وقد يحتمل أنها تتمثل يوم القيامة بهيئة معينة ثُمَّ يجعلها الله سبحانه وتعالى تنطق وتجادل عن صاحبها الذي كان يكثر من قراءتها .
ويدل على هذا المعنى ويقويه ماجاء في سورتي البقرة وآل عمران من أنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنها فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما (1) .
قال المباركفوري في شرحه لسنن الترمذي : ( وظاهر الحديث أنهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التي شبهها بها صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يقدرهما الله سبحانه وتعالى على النطق بالحجة ، وذلك غير مستبعد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشيء كن فيكون ) (2) ا هـ .
* * *
المطلب الرابع
ما جاء في فضل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 }
روى الإمام مالك في الموطأ عن عبدالرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } يرددها فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، وكأن الرجل يتقالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن } (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب : فضل قراءة القرآن وسورة البقرة رقم [804] من حديث أبي أمامة الباهلي ، وأخرج الترمذي نحوه في أبواب فضائل القرآن ، باب : ماجاء في آل عمران من حديث نواس بن سمعان رقم [3045] 8/154 ، 155 مع تحفة الأحوذي .
(2) تحفة الأحوذي 8/155 .
(3) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب القرآن ، باب : ماجاء في قراءة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } و { تَبَـ!ــرَكَ ا؟لَّذِي بِيَدِهِ ا؟لْمُلْكُ } رقم [17] 1/113 ، وأخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } رقم [5013] مع الفتح .(1/467)
أورد الإمام ابن عبدالبر هذا الحديث في كتابه التمهيد (1) وذكر طرقه ورواياته ثُمَّ قال : ( وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، ونحن نقول بما ثبت عنه ولانعدوه ونكل ما جهلنا من معناه إليه صلى الله عليه وسلم فبه علمنا ما علمنا ، وهو المبين عن الله مراده ، والقرآن عندنا مع هذا كله كلام الله وصفة من صفاته ليس بمخلوق ، ولاندري لم تعدل ثلث القرآن ؟ والله يتفضل بما يشاء على عباده .
وقد قيل : إن ذلك لرجل مخصوص وحده بأنها تعدل ذلك له ، وهذه دعوى لابرهان عليها .
وقيل : إنها لما تضمنت التوحيد والإخلاص كانت كذلك ، فلو كان هذا الاعتلال وهذا المعنى صحيحاً ، لكانت كل آية تضمنت هذا المعنى يحكم لها بحكمها ، وهذا ما لايقدم العلماء عليه من القياس ، وكلهم يأباه ويقف عندما رواه .
حدثنا محمد بن خليفة ، قال : حدثنا محمد ابن الحسين ، قال : حدثنا ابن الأعرابي قال : حدثنا عمر بن مدرك القاضي ، قال : حدثنا الهيثم ابن خارجة ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها فكلهم قال : مروها كما جاءت بلا تفسير .
وقال أحمد بن حنبل : يسلم لها كما جاءت ، فقد تلقاها العلماء بالقبول .
وأمَّا قول الله عزوجل : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] فمعناه بخير منها لنا لا في نفسها ، والكلام في صفة الباري كلام يستبشعه أهل السنة ، وقد سكت عنه الأئمة ؛ فما أشكل علينا من مثل هذا الباب وشبهه ، أمررناه كما جاء وآمنا به كما نصنع بمتشابه القرآن ، ولم نناظر عليه ، لأن المناظرة إنَّما تسوغ وتجوز فيما تحته عمل ، ويصحبه قياس ، والقياس غير جائز في صفات الباري تعالى ؛ لأنه ليس كمثله شيء .
__________
(1) انظر : التمهيد 19/227 .(1/468)
قال مصعب الزبيري : سمعتُ مالك بن أنس يقول : أدركت أهل هذا البلد - يعني المدينة - وهم يكرهون المناظرة والجدال إلاَّ فيما تحته عمل . يريد مالك - رحمه الله - الأحكام في الصلاة ، والزكاة ، والطهارة ، والصيام ، والبيوع ، ونحو ذلك ، ولايجوز عنده الجدال فيما تعتقده الأفئدة مِمَّا لا عمل تحته أكثر من الاعتقاد ، وفي مثل هذا خاصة نهى السلف عن الجدال ، وتناظروا في الفقه ، وتقايسوا فيه ؛ وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب بيان العلم (1) ، فمن أراده تأمله هناك - وبالله التوفيق .
أخبرنا أحمد بن محمد ، وعبيد بن محمد ، قالا : حدثنا الحسن بن سلمة بن المعلى قال : حدثنا عبد الله ابن الجارود ، قال : حدثنا إسحاق ابن منصور ، قال : قلتُ لأحمد بن حنبل : حديث النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } فكأنما قرأ ثلث القرآن ، فلم يقم لي على أمر بيّن .
قال : وقال لي إسحاق بن راهويه : إنَّما معنى ذلك أن الله جعل لكلامه فضلاً على سائر الكلام ثُمَّ فضل بعض كلامه على بعض ، فجعل لبعضه ثواباً أضعاف ما جعل لغيره من كلامه تحريضاً من النبي صلى الله عليه وسلم أمته على تعليمه وكثرة قراءته ؛ وليس معناه : أن لو قرأ القرآن كله ، كانت قراءة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ذلك إذا قرأها ثلاث مرات ، لا ولو قرأها أكثر من مائتي مرة .
قال أبو عمر : من لم يجب في هذا ، أخلص ممن أجاب فيه ، والله أعلم ) (2) ا هـ .
__________
(1) انظر : كتاب جامع بيان العلم وفضله ، باب : ما تكره فيه المناظرة والجدال والمراء 2/928 وما بعدها .
(2) التمهيد 16/231 - 232 ، وانظر : التمهيد 7/261 .(1/469)
وقال في كتابه الاستذكار : ( وقد اختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث ، فقال قوم : إنه لما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يُردّدها ويكثر ترداد قراءتها - إمَّا لأنه لم يحفظ غيرها ، وإمَّا لما جاءه من فضلها وبركتها - وأنه لم يزل يرددها حتى بلغ تردادها بالكلمات والحروف والآيات ثلث القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنها لتعدل ثلث القرآن } يعني على هذا الوجه لما كان من تكراره لها .
وهذا تأويل فيه بعدٌ عن ظاهر الحديث ، والله أعلم .
وقال آخرون : بل ذلك لما تضمنت سورة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } من التوحيد والإخلاص والتنزيه لله تعالى عن الأنداد والأولاد .
قال قتادة : هي سورة خالصة لله ليس فيها شيء من أمر الدنيا والآخرة .
وقال : إن الله أسس السموات السبع والأرضين السبع على هذه السورة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } .
قالوا : فلهذا كله وما كان مثله كان ذلك الفضل فيها لتاليها .
وهذا وجهٌ حسنٌ من التأويل إلاَّ أنه لايُقال في غيرها من آيات القرآن المضمنات من التوحيد والإخلاص ما في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } أنها تعدل ثلث القرآن ، ولو كانت العلة ما ذكر لزم ذلك في مثلها حيث كانت من القرآن كقوله : { ا؟للَّهُ لاَ إِلَـ!ــهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لْحَيُّ ا؟لْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] و { لاَ إِلَـ!ــهَ إِلاَّ هُوَ ا؟لرَّحْمَـ!ــنُ ا؟لرَّحِيمُ } [ البقرة : 163 ] ، وكآخر سورة الحشر ، وما كان مثل ذلك .
[ وخالفت ] (1) طائفة معنى الحديث في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء ، فجعل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } منها جزءاً واحداً وزعموا أن تلك الأجزاء على ثلاثة معان :
أحدها : القصص والأخبار .
والثاني الشرائع والحلال والحرام .
والثالث : صفاته تبارك اسمه .
__________
(1) كذا في المطبوع ، ولعلها : وقالت .(1/470)
وفي سورة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } صفاته ، فلذلك تعدل ثلث القرآن .
واعتلوا بحديث قتادة عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : { أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ } قالوا : نحن أعجز من ذلك وأضعف ، قال : { إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } جزءاً من أجزاء القرآن } (1) .
قال أبو عمر : ليس في هذا الحديث حجة لما ذكروه ولا فرق بين ثلاثة أجزاء ، وثلاثة أثلاث أو ثلاثة سهام ؛ لأن ذلك كله معناه واحد ، وقد وجدنا في خاتمة سورة الحشر وغيرها من صفات الله أكثر مِمَّا في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } ولم يأت في شيء منها أنها تعدل ثلث القرآن كما جاء في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } ، ولما لم تعدل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } في كلماتها ولا في حروفها إلاَّ أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن ، وهذا هو الذي يشهد له ظاهر الحديث ، وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفضيل القرآن بعضه على بعض ، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه بل هو فضله عزوجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من عباداته تفضلاً منه على من يشاء منهم ، وقد قال الله عزوجل : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ) } [ البقرة : 106 ] ، ولم يختلف العلماء بتأويل القرآن أنها خير لعباده المؤمنين التالين لها والعاملين بها إمَّا بتخفيف عنهم وإمَّا بشفاء صدورهم بالقتال لعدوهم ، لا أنها في ذاتها أفضل من غيرها .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب : فضل قراءة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } رقم [259] - [811] 6/342 .(1/471)
فكذلك { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } خيرٌ لنا لأن الله يتفضل على تاليها من الثواب بما شاء ، ولسنا نقول في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن عندنا كلام الله وصفة من صفاته ، ولايدخل التفاضل في صفاته لدخول النقص في المفضول منها .
هذا كله قد قاله أهل السنة والرأي والحديث على أني أقول : إن السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم .
حدثنا عبيد بن محمد قال : حدثنا سلمة بن المعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن الجارود ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، قال : قلتُ لأحمد ابن حنبل : قوله صلى الله عليه وسلم : { { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن } ما وجهه ؟ فلم يقم لي فيها على أمر بيّن . قال : وقال لي إسحاق بن راهويه : معناه أن الله عزوجل لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضاً فضلاً من الثواب لمن قرأه تحريضاً منه على تعليمه لا أن من قرأ { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } ثلاث مرات كمن قرأ القرآن كله هذا لايستقيم ، ولو قرأ { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } مائتي مرة .
قال أبو عمر : هذان عالمان بالسنن ، وإمامان في السنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة ) (1) ا هـ .
ومِمَّا سبق يتضح لقارئ ما ذكره ابن عبدالبر أنه يرى أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } : { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن } اختلف فيه العلماء ، والذي يشهد له ظاهر الحديث - عند ابن عبدالبر - أن معنى ذلك : أنها تعدل في الثواب لمن تلاها ثلث القرآن .
وقد رجح ابن عبدالبر هذا المعنى بناءً على رأيه في مسألة تفضيل بعض القرآن على بعض ، وأنه لايجوز فقال : ( وهو الذي يفر منه من خاف واقعة تفضيل القرآن بعضه على بعض ) .
__________
(1) الاستذكار 8/115 - 118 .(1/472)
وقد سبق تفصيل القول في هذه المسألة وبيان القول الراجح فيها في المبحث السابق ، وهو مع هذا يرى أن السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم ، ويرى أن من لم يجب في هذا أخلص ممن أجاب فيه .
هذا مجمل ما فهمته من كلام ابن عبدالبر السابق في شرحه لحديث الباب .
وهذا الحديث قد بلغ حد التواتر عند المحققين من أهل العلم (1) ، وقد اختلفت أقوال العلماء في معناه وفي وجه كون { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن ، وقد ذكر ابن عبدالبر بعض هذه الأقوال .
وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله رحمة واسعة - مؤونة ذكر هذه الأقوال حيث ألف رسالة علمية قيّمة خصصها لهذه المسألة وجعل عنوانها : جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن .
__________
(1) انظر : موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 2/443 ، وانظر : كتاب { لقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة } لأبي الفيض محمد الحسيني الزبيدي ص 173 ، طبعة دار الكتب العلمية الأولى 1405 هـ .(1/473)
وقد ذكر في رسالته هذه أن أحسن الأقوال في وجه كون { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن هو القول المنقول عن الإمام أبي العباس بن سريج (1) ، حيث سئل عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : { { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن } ، فقال : معناه أنزل القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات .
ثُمَّ ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الأقوال الأخرى التي ذكرت في معنى هذا الحديث ، وبيّن ضعف بعضها ، وعدم قوة بعضها ، ثُمَّ أشار إلى أن القول الذي ذكره عن ابن سريج هو القول الصواب بلا ريب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } جزءاً من أجزاء القرآن ، وهذا يقتضي أن مجموع القرآن ثلاثة أجزاء ، وهذا التقسيم تقسيم يدل عليه الدليل ، فإن القرآن كلام ، والكلام إمَّا إخبار وإمَّا إنشاء ، والإخبار إمَّا عن الخالق وإمَّا عن المخلوق .
فالإنشاء هو الأحكام كالأمر والنهي ، والخبر عن المخلوق هو القصص .
__________
(1) هو : الإمام العلاّمة ، إمام أصحاب الشافعي في وقته ، القاضي ، أبو العباس ، أحمد بن عمر بن سريج البغدادي ، شرح مذهب الشافعي ولخصه ، وعمل المسائل في الفروع ، وصنّف الكتب في الرد على المخالفين من أهل الرأي وأصحاب الظاهر . انظر : طبقات علماء الحديث 2/518 - 520 ، وسير أعلام النبلاء 14/201 - 204 .(1/474)
والخبر عن الخالق هو ذكر أسمائه وصفاته ، وليس في القرآن سورة هي وصف الرحمن محضاً إلاَّ هذه السورة ، وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { سلوه لأي شيء يصنع ذلك ، فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحب أن أقرأ بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبروه أن الله يحبه } (1) (2) .
وقد ذكر الزركشي في البرهان ما ذكره ابن عبدالبر من أن السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم ثُمَّ قال بعده مباشرةً : ( قلتُ : وأحسن ما قيل فيه إن القرآن قسمان : خبر وإنشاء ، والخبر قسمان ، خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق ، فهذه ثلاثة أثلاث ، وسورة الإخلاص ، أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث القرآن ) (3) ا هـ .
وبهذا يتبين أن القول الذي أشار إليه ابن عبدالبر بقوله : ( وقيل : إنها لما تضمنت التوحيد والإخلاص كانت كذلك ) (4) .
وبقوله : ( وقالت طائفة : معنى الحديث في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء ، فجعل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } منها جزءاً واحداً ، وزعموا أن تلك الأجزاء على ثلاثة معان :
أحدها : القصص والأخبار .
والثاني : الشرائع والحلال والحرام .
والثالث : صفاته تبارك اسمه .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد ، باب : ماجاء في دعاء النبي e أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى حديث رقم [7385] ص 1405 ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب : فضل قراءة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } رقم [813] .
(2) انظر : رسالة شيخ الإسلام ( جواب أهل العلم والإيمان ) ص 113 - 136 .
(3) البرهان للزركشي 2/78 .
(4) التمهيد 19/231 .(1/475)
وفي سورة { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } صفاته ، فلذلك تعدل ثلث القرآن .
واعتلوا بحديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : { أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ } قالوا : نحن أعجز من ذلك وأضعف قال : { إن الله جزء القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } جزءاً من أجزاء القرآن } (1) ) (2) .
يتبين أن هذا هو أقوى الأقوال وأحسنها في معنى حديث { { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } تعدل ثلث القرآن } لأن حديث أبي الدرداء السابق يدل عليه ويقويه ، إضافة إلى التعليل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية والزركشي في البرهان .
وأمَّا تضعيف ابن عبدالبر لهذا القول لكون بعض الآيات قد اشتملت على ما اشتملت عليه سورة الإخلاص من التوحيد والإخلاص وذكر صفات الله كآخر الحشر وغيرها ، ولم يأت في شيء منها أنها تعدل ثلث القرآن كما جاء في { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } .
فهذا التعليل الذي ذكره لايسلّم له لأن هذه الأمور مبنية على التوقيف ولا دخل للنظر والقياس فيها ، وهي مبنية على التسليم والقبول ، والله أعلم بأسرار كتابه .
والظاهر - والله أعلم - أن سبب اضطراب أقوال ابن عبدالبر في هذا الباب راجعٌ إلى قوله بعدم تفضيل بعض آيات القرآن وسوره على بعض ، فهو يريد الفرار من القول بالتفضيل ، فَوَقَعَ في أقواله في شرح الأحاديث التي تدل على التفضيل اضطرابٌ وعدمُ استقرار على رأي ثابت .
ولذلك رأينا أنه قال في الأحاديث الواردة في تفضيل سورة الفاتحة ، وأنه لم ينزل مثلها ما يخالف ما قاله في معنى الحديث الوارد في سورة الإخلاص .
__________
(1) سبق تخريجه ص 448 .
(2) الاستذكار 8/116 باختصار قليل .(1/476)
هذا آخر ما يتعلق بدراسة موضوعات علوم القرآن التي تناولها ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - في كتبه المختلفة ، وقد بذلتُ في دراستها جَهْدِي ، واستفرغتُ في ذلك وُسْعِي ، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله وهو يقول الحق ويهدي السبيل .
* * *
وبعد قطع هذا الطريق في دراسة هذا الموضوع وكتابته أختم بهذه النتائج والوصايا :
1 - إن دراسة موضوعات علوم القرآن تعتبر من أعظم ما يعين على فهم القرآن الكريم ، إذ هذه الموضوعات وثيقة الصلة بالقرآن الكريم وتعين على معرفة معانيه والكشف عن أسراره واستخراج حكمه وأحكامه .
2 - دراسة موضوعات علوم القرآن من الكتب المؤلفة فيه خاصة يعتبر - في نظري - قصوراً في الدراسة ، وتقصيراً في البحث ، وذلك لأن هناك كَمٌّ هائل من المسائل والمباحث المهمة المتعلقة بموضوعات علوم القرآن ، ولايُمكن الحصول عليه إلاَّ بالتوسع في البحث والقراءة ، والاطلاع على الكتب المؤلفة في فنون العلم الأخرى ، وخاصة علم الحديث الذي تعتبر كتبه من المصادر المهمة والمراجع الأصيلة لكثير من موضوعات علوم القرآن .
3 - من المفيد للباحث عن الصواب ، والحريص على طلب المزيد ، والراغب في البعد عن آفة التقليد أن يكثر من قراءة الكتب المنسوجة على طريقة الاستدلال ، والتي عرف أصحابها بسلامة المنهج وسعة الاطلاع ، ورسوخ العلم ، والبعد عن التعصب كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ومن قبلهما الإمام ابن عبدالبر - رحمهم الله - ، وغير هؤلاء كثير ، ومنهم : ابن حجر ، والذهبي ، وابن رجب ، والشاطبي ، والشوكاني ، والصنعاني ، والشنقيطي صاحب أضواء البيان .
ولو أن الباحثين جمعوا أقوال هؤلاء وغيرهم وآراءهم في فنون العلم المختلفة لحصلوا على علم طيب مبارك .(1/477)
4 - إن كتابة مثل هذه البحوث العلمية من أعظم ما يُكَوِّن شخصية طالب العلم ويثري ثقافته ، ويزيد علمه ، ويصقل ذهنه ، ويعوّده على الصبر والجدّ في طلب العلم ؛ ومن هذا المنطلق أدعو نفسي وإخواني طلبة العلم أن يعودوا أنفسهم على الكتابة والتأليف والبحث ، وأن لايصدنّهم عن ذلك شيء ولايشغلهم عنه شاغل مهما كان ذلك الشيء ، وأيًّا كان ذلك الشاغل .
5 - من سمات طالب العلم المنصف المتجرد أن لايقبل أيّ قول إلاَّ بعد البحث عن مستنده ودليله ، وعرضه على أصول العلم المعتبرة وقواعده المعتمدة ، مهما كان ذلك القول - إذا لم يكن قول معصوم - وسواء كان ذلك القول تفسيراً لآية ، أو بياناً لحكم لشرعي ، أو توضيحاً لمعنى حديث نبوي ، أو غير ذلك .
وبهذا المنهج المحكم السديد يَسْلمُ طالب العلم من الوقوع في مهاوِ التقليد السحيقة ومستنقعات التعصب الوخيمة .
وكم رأينا من أقوال ، وقرأنا من آراء لرجال ليس لها مستند مقبول ، ولا دليلٍ صحيح منقول ، ومن هذه الأقوال التي مرّت معنا في بحثنا هذا : قول من قال : إن نزول القرآن ليس نزولاً حقيقياً ، وإنَّما هو نزول مجازي ، فهذا قول مخالف لصريح القرآن الذي قال فيه ربنا الرحمن : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ا؟لْقُرْءَانَ تَنزِيلاً = 23 } [ الإنسان : 23 ] وقال : { وَنَزَّلْنَـ!ــهُ تَنزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] فأكد الفعل بالمصدر ، فكيف يقال بعد ذلك إن هذا النزول ليس حقيقياً ؟! .
ومن هذه الأقوال أيضاً : قول من قال : إن القرآن نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم منجماً من السماء الدنيا ، فهذا القول مخالف للأدلة الصريحة الكثيرة التي تثبت نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم من الله جل وعلا بواسطة جبريل عليه السلام - كما سبق تقرير ذلك - .(1/478)
والمتأمل في هذه الأقوال يجد أن الدافع الأول والمهم في قول بعض العلماء بها - مع جلالة قدرهم وغزارة علمهم - هو عدم البحث عن الدليل الصحيح المعتبر الذي يؤيد هذه الأقوال ويشهد لها ويدل عليها .
6 - فنون العلم المختلفة - وأقصد العلوم النافعة - تربط بينها روابط قويّة ، ولايُمكن أن يكتمل أي فن منها إلاَّ إذا ارتبط بالفنون الأخرى .
فالحديث بحاجة إلى الفقه ، والفقه إلى الحديث أحوج ، والتفسير بحاجة إلى العربيَّة وعلوم القرآن بحاجة إلى أصول الفقه ، وهكذا .
فما مثل هذه العلوم المختلفة إلاَّ كمثل شجرة كثيرة الفروع أصلها واحد وهو الكتاب والسنة ، ولايكتمل حسنها إلاَّ باكتمال فروعها .
وبناءً على هذا فإنه يجدر بكل متخصص في فن من الفنون - وقد أصبح التخصص ضرورة - ألاّ يهمل بقية الفنون الأخرى ويعرض عنها بالكلية بل لابد له من الإلمام بأصولها حتى لايؤديه الجهل بها إلى الوقوع في أخطاء جسيمة لاتُقبل ولاتغتفر .
وإن أكثر الانحرافات في أي علم من العلوم ما هو إلاَّ بسبب الجهل بأصول علم آخر مهم .
ومن ذلك أن الانحرافات التي وقع فيها من ألّف في علوم القرآن كانت بسبب الجهل بعلم العقيدة مثلاً - وانظر إذا أردت مثالاً لذلك إلى مبحثِ المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في هذا البحث .
وأكثر الانحرافات التي وقع فيها المفسرون هي في الحقيقة بسبب جهلهم بأصول العقيدة وبعلوم الحديث ، والأمثلة على ذلك كثيرة .
7 - عند رجوعي إلى الكتب والمراجع المختلفة للاستفادة منها في كتابة موضوعات هذا البحث وجدتُ أن الرسائل العلمية المتخصصة من أكثر المراجع تحريراً للمسائل ودقة في بحثها وشمولاً لجميع فروعها .
ولهذا فإني أدعو إلى الاستفادة من هذه الرسائل والبحوث العلمية والرجوع إليها ، وأدعو إلى نشرها وتوزيعها .(1/479)
وليس الرجوع إلى هذه البحوث والرسائل - وإن كانت متأخرة - من القوادح ولا من السلبيات في كتابة البحوث - كما يظن ذلك بعض الناس - لأنها بحوث مؤصلة وكتابات محرّرة ؛ وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن تذهب سدىً ، ويرمى بها بين رفوف المكتبات الخاصة ، ويُحرم القراء والباحثون من الرجوع إليها والاستفادة منها .
وأخيراً لايسعني بعد هذا الوقت الطويل الذي قضيته في كتابة هذا البحث ، إلاَّ أن أسأل الله جعل وعلا بمنه وكرمه وجوده وفضله وإحسانه أن يوفقني لما فيه الخير لي في الدنيا والآخرة ، وأن يزيدني علماً وتقىً وخشية وصلاحاً ، وأن يجعل جميع أقوالي وأعمالي خالصة لوجهه الكريم ، وأن يوفقني فيها للصواب ، وأن يغفر لي كل ما وقعت فيه من الأخطاء والزلات والهفوات .
وأسأل الله أن يقرّ عَيْنَيَ وأعين جميع الصالحين بصلاح المسلمين ، وبنصر دينه القويم ، والتمكين لأهله الصالحين المصلحين في جميع البلاد .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
* * *
قائمة مراجع ومصادر البحث
أولاً : القرآن الكريم :
ثانياً : كتب ابن عبد البر - رحمه الله - :
1 - الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة { بسم الله الرحمن الرحيم } في فاتحة الكتاب من الاختلاف : دراسة وتحقيق : عبداللطيف بن محمد الجيلاني المغربي ، دار أضواء السلف - الرياض الطبعة الأولى 1417 هـ .
2 - الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار : تحقيق : الدكتور عبدالمعطي أمين قلعجي ، دار قتيبة للطباعة والنشر - دمشق ، بيروت ، دار الوعي - حلب ، القاهرة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .(1/480)
3 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب : تحقيق : الشيخ علي محمد معوّض ، والشيخ عادل عبدالموجود ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، توزيع دار الباز ، مكة المكرمة ، الطبعة الأولى 1415 هـ .
4 - الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء : اعتنى به : عبدالفتاح أبو غدة ، الناشر : مكتب المطبوعات الإسلاميَّة بحلب ، الطبعة الأولى 1417 هـ .
5 - بهجة المجالس وأُنس المُجَالِس وشحذ الذاهن والهاجس : تحقيق : محمد مرسي الخولي ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان .
6 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد : طبع بإشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة بالمملكة المغربية ، توزيع : مكتبة الأوس بالمدينة النبويّة .
7 - جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله : تحقيق أبي الأشبال الزهيري ، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
8 - الدُّرَرُ في اختصار المغازي والسير : دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان .
9 - فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبدالبر : ترتيب : محمد بن عبدالرحمن المغراوي ، مجموعة التحف النفائس الدولية للنشر والتوزيع ، الرياض - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
10 - فهارس التمهيد لابن عبدالبر على حسب ترتيب الزرقاني للموطأ : عمل وتنظيم : عطية محمد سالم ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
11 - الكافي في فقه أهل المدينة المالكي : تحقيق : الدكتور محمد محمد أحيد وِلْد ماديك ، الناشر : مكتبة الرياض الحديثة - الرياض ، الطبعة الأولى 1398 هـ ، وطبعة أخرى عن دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، الطبعة الثانية 1413 هـ .
ثالثاً : كتب تفسير القرآن وغريبه :(1/481)
1 - أحكام القرآن : لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص ، ضبط نصه ، وخرج آياته : عبدالسلام محمد علي شاهين ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، توزيع : مكتبة دار الباز ، مكة المكرمة ، الطبعة الأولى 1415 هـ .
2 - أحكام القرآن : لأبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي ، مراجعة وتخريج وتعليق : محمد عبدالقادر عطا ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى .
3 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن : محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ، الناشر : مكتبة ابن تيمية - القاهرة 1413 هـ .
4 - إعراب القرآن : لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحّاس ، تحقيق : الدكتور زهير غازي زاهد ، طبعة عالم الكتب - بيروت ، الطبعة الثانية 1409 هـ .
5 - بدائع التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قيم الجوزية : جمعه ووثق نصوصه وخرج أحاديثه : يسرى السيد محمد ، دار ابن الجوزي ، الدمام - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
6 - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز : لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي ، المكتبة العلمية بيروت - لبنان .
7 - تأويل مشكل القرآن : لابن قتيبة ، شرحه ونشره : السيد أحمد صقر ، طبعة المكتبة العلمية ، بيروت لبنان ، الطبعة الثانية 1401 هـ .
8 - تفسير ابن جرير الطبري : جامع البيان في تأويل القرآن : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1412 هـ ، وطبعة دار المعارف بمصر بتحقيق : محمود محمد شاكر ، وأحمد محمد شاكر ، الطبعة الثانية .
9 - تفسير ابن عطية ( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ) : للقاضي أبي محمد عبدالحق بن غالب ابن عطية الأندلسي ، تحقيق : المجلس العلمي بفاس 1413 هـ .(1/482)
10 - تفسير ابن كثير ( تفسير القرآن العظيم ) : للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ، طبعة : دار الريان للتراث ، نشر : دار الحديث ، القاهرة ، الطبعة الأولى 1408 هـ .
11 - تفسير الألوسي ( روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ) : للعلاّمة أبي الفضل محمود الألوسي البغدادي ، ط : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1408 هـ .
12 - تفسير البغوي ( معالم التنزيل ) : للإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ، بتحقيق : محمد عبد الله النمر ، وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش ، طبعة دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
13 - تفسير التحرير والتنوير : للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ، مكتبة ابن تيمية ، توزيع الدار التونسية للنشر 1984 م .
14 - تفسير الجلالين : لجلال الدين محمد بن أحمد بن محمد المحلّى ، وجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي ، طبعة بيت الأفكار الدولية - الرياض 1419 هـ .
15 - تفسير السعدي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان : للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي طبع ونشر وتوزيع ، دار المدني بجدة 1408 هـ .
16 - تفسير القاسمي : محاسن التأويل : لمحمد جمال الدين القاسمي ، دار الفكر - بيروت ، الطبعة الثانية 1398 هـ .
17 - تفسير القرآن : للإمام أبي المظفر السمعاني ، تحقيق : أبي تميم ياسر بن إبراهيم أبي هلال غنيم ابن عباس بن غنيم ، دار الوطن - الرياض ، الطبعة الأولى 1418 هـ .
18 - تفسير القرآن : للإمام عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام ، تحقيق : الدكتور عبد الله بن إبراهيم الوهيبي ، توزيع : دار ابن حزم ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
19 - تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ) : لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، ط : دار الكتاب الإسلامي ، الطبعة الثالثة .(1/483)
20 - تفسير النسائي : للإمام أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، تحقيق : سَيِّد الجليمي وصبري الشافعي ، مكتبة السنة - القاهرة ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
21 - تهذيب التفسير وتجريد التأويل مِمَّا ألحق به من الأباطيل ورديء الأقاويل : لعبدالقادر بن شيبة الحمد ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
22 - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون : لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي ، تحقيق الدكتور : أحمد محمد الخرّاط ، دار القلم - دمشق ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
23 - روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن : لمحمد علي الصابوني ، دار القلم - دمشق الطبعة الثانية 1412 هـ .
24 - عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ : صنّفه أحمد بن يوسف السمين الحلبي ، تحقيق : الدكتور محمد التونجي ، عالم الكتب ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
25 - فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية من علم التفسير : للإمام محمد بن علي الشوكاني تحقيق : سيّد إبراهيم ، دار الحديث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
26 - فتح القدير تهذيب تفسير ابن كثير : للقاضي الشيخ محمد أحمد كنعان ، دار لبنان للطباعة والنشر ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
27 - القاموس القويم للقرآن الكريم : للأستاذ إبراهيم أحمد عبدالفتاح ، مجمع البحوث الإسلاميَّة الأزهر 1417 هـ .
28 - مجاز القرآن : لأبي عبيدة معمر بن المثنى ، تعليق : محمد فؤاد سزكين ، الناشر : مكتبة الخانجي بمصر .
29 - مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف : للعلامة الشيخ محمد عليان المرزوقي الشافعي ، مطبوع في آخر كتاب الكشاف للزمخشري ، دار المعرفة ، بيروت - لبنان .
30 - معاني القرآن الكريم : لأبي جعفر النحاس ، تحقيق : الشيخ محمد علي الصابوني ، مطبوعات جامعة أم القرى ، الطبعة الأولى 1408 هـ .(1/484)
31 - معاني القرآن وإعرابه : للزجاج أبي إسحاق إبراهيم بن السَّري ، شرح وتعليق : دكتور عبدالجليل عبده شلبي ، دار الحديث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
32 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : وضعه ، محمد فؤاد عبدالباقي ، دار الحديث ، القاهرة الطبعة الثالثة 1411 هـ .
33 - مفردات ألفاظ القرآن : للعلامة الراغب الأصفهاني ، تحقيق : صَفوان عدنان داوودي ، دار القلم - دمشق ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
34 - نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز : للإمام أبي بكر محمد بن عزيز السجستاني ، تحقيق : د / يوسف عبدالرحمن المرعشلي ، دار المعرفة ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
ثالثاً : كتب علوم القرآن والقراءات وأصول التفسير وقواعده :
1 - الآيات المنسوخة في القرآن الكريم : للدكتور عبد الله بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، الناشر : مكتبة ابن تيمية - القاهرة ، توزيع : مكتبة العلم بجدة .
2 - الأحرف السبعة للقراءات : لإمام القراء أبي عمرو الداني ، تحقيق : الدكتور عبدالمهيمن الطحان ، دار المنارة للنشر والتوزيع - جدة ، الطبعة الأولى 1418 هـ .
3 - الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها : للدكتور حسن ضياء الدين عتر ، دار البشائر الإسلاميَّة بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
4 - أحكام قراءة القرآن الكريم : للشيخ محمود خليل الحصري ، ضبطه وعلق عليه : محمد طلحة بلال ، المكتبة المكية - مكة المكرمة ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
5 - الأدلة المطمئنة على ثبوت النسخ في الكتاب والسنة : للشيخ عبد الله مصطفى العَريس ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت - لبنان 1980 م .
6 - أسباب نزول القرآن : للعلاّمة جلال الدين السيوطي ، تحقيق : د / حمزة النشدتي ، والشيخ عبدالحفيظ فرغلي ، ود / عبدالحميد مصطفى .(1/485)
7 - أصول التفسير : للشيخ محمد بن صالح العثيمين ، دار ابن القيم ، الدمام - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
8 - أصول التفسير وقواعده : للشيخ خالد بن عبدالرحمن العك ، دار النفائس - بيروت ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
9 - الإبانة عن معاني القراءات : لمكي بن أبي طالب القيسي ، تحقيق : الدكتور عبدالفتاح إسماعيل شلبي ، المكتبة الفيصلية ، الطبعة الثالثة 1405 هـ .
10 - إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر : للعلاّمة الشيخ أحمد بن محمد البنا ، تحقيق : الدكتور شعبان محمد إسماعيل ، عالم الكتب - بيروت ، الطبعة الأولى 1407 هـ .
11 - الإتقان في علوم القرآن : للحافظ جلال الدين عبدالرحمن السيوطي ، تقديم وتعليق : الدكتور مصطفى ديب البُغا ، دار ابن كثير ، دمشق - بيروت ، الطبعة الثانية 1414 هـ .
12 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه : للإمام العلاّمة أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي ، تحقيق : الدكتور أحمد حسن فرحات ، دار المنارة - جدة ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
13 - بحوث منهجية في علوم القرآن الكريم : موسى إبراهيم الإبراهيم ، دار عمّار - عمّان ، الأردن الطبعة الثانية 1416 هـ .
14 - البرهان في علوم القرآن : للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ، تحقيق : الدكتور يوسف عبدالرحمن المرعشلي الشيخ جمال حمدي الذهبي ، والشيخ إبراهيم الكردي ، دار المعرفة بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
15 - بطلان المجاز وأثره في إفساد التصور وتعطيل نصوص الكتاب والسنة : لمصطفى عيد الصياصنة دار المعراج للنشر والتوزيع 1412 هـ .
16 - البيان في علوم القرآن : للدكتور سليمان بن صالح القرعاوي ، والدكتور محمد بن علي الحسن مكتبة الظلال - الأحساء ، المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة الثانية 1415 هـ .(1/486)
17 - التبيان في آداب حملة القرآن : للإمام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي ، حقق نصوصه وخرج أحاديثه : الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط ، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع - الكويت الطبعة الثالثة 1409 هـ .
18 - التبيان في سجدات القرآن : جمع وتحقيق : عبدالعزيز بن محمد السّدحان ، نشر وتوزيع : مكتبة دار المنار بالخرج للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
19 - التحبير في علم التفسير : للسيوطي ، تحقيق : الدكتور فتحي عبدالقادر فريد ، دار العلوم للطباعة والنشر - الرياض ، الطبعة الأولى 1402 هـ .
20 - التذكار في أفضل الأذكار : لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
21 - التفسير والتأويل في القرآن الكريم : للدكتور صلاح الخالدي ، دار النفائس - الأردن ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
22 - تهذيب وترتيب الإتقان في علوم القرآن : لمحمد بن عمر بن سالم بازمُول ، دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
23 - جواب أهل العلم والإيمان : بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن : لشيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم ابن تيمية ، تحقيق : فواز أحمد زمرلي وخالد السّبع العلمي ، دار الكتاب العربي ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1408 هـ .
24 - حديث الأحرف السبعة - دراسة لإسناده ومتنه واختلاف العلماء في معناه وصلته بالقراءات القرآنية : للدكتور عبدالعزيز بن عبدالفتاح القارئ ، دار النشر الدولي - الرياض ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
25 - حفظ القرآن الكريم : لمحمد بن عبد الله الدويش ، دار الوطن للنشر ، الطبعة الأولى 1418 هـ .
26 - حق القرآن الكريم على الناس : ليوسف علي بديوي ، دار ابن كثير - دمشق - بيروت ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
27 - دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم : لمحمد حمزة .(1/487)
28 - دراسة في علوم القرآن الكريم : للأستاذ الدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي ، مكتبة التوبة الرياض - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة السابعة 1419 هـ .
29 - الرأي الصواب في منسوخ الكتاب : لجواد موسى محمد عفانه .
30 - سُنن القراء ومناهج المجوّدين : للدكتور عبدالعزيز بن عبدالفتاح القارئ ، مكتبة الدار - المدينة النبويّة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
31 - شرح الهداية : للإمام أبي العباس أحمد ابن عمّار المهدوي ، تحقيق : الدكتور حازم سعيد حيدر مكتبة الرشد - الرياض ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
32 - الصحيح المسند من أسباب النزول : الشيخ أبي عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي ، دار ابن حزم بيروت - لبنان ، مكتبة دار القدس ، صنعاء - اليمن ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
33 - علوم القرآن الكريم : للدكتور نور الدين عتر ، دار الخير ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
34 - غاية المريد في علم التجويد : لعطية قابل نصر ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
35 - فتاوى كبار العلماء حول القرآن الكريم : أبو أنس علي بن حسين أبو لوز ، دار المجد للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
36 - فتح المنّان في نسخ القرآن : للأستاذ علي حسن العريض ، الناشر : مكتبة الخانجي بمصر ، الطبعة الأولى 1973 م .
37 - فضائل القرآن : للإمام أحمد بن شعيب النسائي ، تحقيق : الدكتور فاروق حمادة ، دار الثقافة الدار البيضاء - المغرب ، الطبعة الأولى 1400 هـ .
38 - فضائل القرآن : للحافظ ابن كثير ، تحقيق وتخريج : أبي إسحاق الحويني الأثري ، الناشر : مكتبة ابن تيمية - القاهرة ، توزيع دار ماجد عسيري - جدة ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
39 - فنون الأفنان في عيون علوم القرآن : للإمام أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي ، تحقيق : الدكتور حسن ضياء الدين عتر ، دار البشائر الإسلاميَّة ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1408 هـ .(1/488)
40 - الفوز الكبير في أصول التفسير : للإمام ولي الله أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي ، ترجمة : سلمان الحُسيني الندوي ، دار البشائر الإسلاميَّة ، بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية 1407 هـ .
41 - قاعدة في فضائل القرآن : لشيخ الإسلام ابن تيمية ، دراسة وتحقيق : د / سليمان بن صالح القرعاوي ، مكتبة الظلال - الأحساء ، المملكة العربيَّة السعوديَّة 1414 هـ .
42 - القرآن المبين وكيف نزل به الروح الأمين : للدكتور محمد بحيرى إبراهيم ، دار الطباعة المحمدية الأزهر ، الطبعة الأولى 1399 هـ .
43 - القراءات وأثرها في التفسير والأحكام : إعداد : محمد بن عمر بن سالم بازمول ، دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1417 هـ .
44 - القصص القرآني - إيحاؤه ونفحاته : الدكتور فضل حسن عباس ، دار الفرقان ، الطبعة الأولى 1407 هـ .
45 - قواعد الترجيح عند المفسرين : دراسة نظرية تطبيقية : حسين بن علي بن حسين الحربي ، دار القاسم - الرياض ، الطبعة الأولى 1417 هـ .
46 - قواعد التفسير - جمعاً ودراسة : لخالد بن عثمان السبت ، دار ابن عفّان - المملكة العربيَّة السعوديَّة - الخُبَر ، الطبعة الأولى 1417 هـ .
47 - لغة القرآن الكريم : للدكتور عبدالجليل عبدالرحيم ، مكتبة الرسالة الحديثة ، الأردن - عمّان الطبعة الأولى 1401 هـ .
48 - لمحات في علوم القرآن : الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ ، المكتب الإسلامي - بيروت ، الطبعة الثالثة 1410 هـ .
49 - مباحث في علوم القرآن : للأستاذ مناع القطان ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الخامسة والعشرون 1414 هـ .
50 - مباحث في علوم القرآن : للدكتور صبحي الصالح ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة السابعة عشرة 1988 م .
51 - المجاز في اللغة والقرآن الكريم بين الإجازة والمنع .. عرض .. وتحليل .. ونقد : للدكتور عبدالعظيم المطعني ، مكتبة وهبة - القاهرة ، الطبعة الثانية 1414 هـ .(1/489)
52 - المحكم والمتشابه في القرآن العظيم : للدكتور عبدالرحمن بن إبراهيم المطرودي ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
53 - المدخل لدراسة القرآن الكريم : للأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة ، دار الجيل بيروت 1412 هـ .
54 - مذكرة علوم القرآن لطلاب الدراسات العليا بقسم القرآن وعلومه : كلية أصول الدين بالرياض للشيخ مناع القطان ، مخطوطة مصورة .
55 - المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز : لشهاب الدين عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي المعروف بأبي شامة ، تحقيق ودراسة : د . وليد مساعد الطبطبائي ، مكتبة الإمام الذهبي - الكويت الطبعة الثانية 1414 هـ .
56 - المفسرون بين النفي والإثبات في آيات الصفات : لمحمد بن عبدالرحمن المغراوي ، دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1405 هـ .
57 - مقدمة في أصول التفسير : لشيخ الإسلام ابن تيمية ، اعتنى به : فواز أحمد زمرلي ، دار ابن حزم بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
58 - مناهل العرفان : للزرقاني ، دراسة وتقويم : خالد بن عثمان السبت ، دار ابن عفّان - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الخبر ، الطبعة الأولى 1418 هـ .
59 - مناهل العرفان في علوم القرآن : للأستاذ محمد عبدالعظيم الزرقاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
60 - منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز : للعلاّمة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي تحقيق : أبي حفص سامي بن العربي ، مكتبة السنة - القاهرة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
61 - منهج المدرسة العقليَّة الحديثة في التفسير : للدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الرابعة 1414 هـ .
62 - موسوعة فضائل سور وآيات القرآن : للشيخ محمد بن رزق بن طرهوني ، الناشر : مكتبة العلم بجدة ، الطبعة الثانية 1414 هـ .(1/490)
63 - الناسخ والمنسوخ : للإمام أبي منصور عبدالقاهر البغدادي ، تحقيق : الدكتور حلمي كامل أسعد عبدالهادي ، دار العدوي ، عمّان - الأردن ، الطبعة الأولى 1407 هـ .
64 - الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز : لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي ، دراسة وتحقيق : محمد ابن صالح المديفر ، مكتبة الرشد - الرياض ، الطبعة الأولى 1411 هـ .
65 - الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عزوجل واختلاف العلماء في ذلك : لأبي جعفر أحمد بن محمد ابن إسماعيل النحاس ، دراسة وتحقيق : الدكتور سليمان بن إبراهيم اللاحم ، مؤسسة الرسالة بيروت - الطبعة الأولى 1412 هـ .
66 - نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر : لأبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي ، دراسة وتحقيق : محمد عبدالكريم كاظم الراضي ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الثانية 1405 هـ .
67 - نزول القرآن على سبعة أحرف : للأستاذ مناع القطان ، الناشر : مكتبة وهبة - القاهرة ، الطبعة الأولى 1411 هـ .
68 - النسخ في القرآن الكريم : للدكتور مصطفى زيد ، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة الطبعة الثالثة 1408 هـ .
69 - النسخ في القرآن الكريم مفهومه وتاريخه ودعاواه : للدكتور محمد صالح على مصطفى ، دار القلم - دمشق ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
70 - النشر في القراءات العشر : للحافظ أبي الخير محمد بن محمد بن الجزري ، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان .
71 - نواسخ القرآن ( الناسخ والمنسوخ ) : للإمام الحافظ أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي ، شرح ومراجعة : الشيخ إبراهيم رمضان ، الشيخ عبد الله الشعّار ، دار الفكر اللبناني - بيروت .
72 - الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع : عبدالفتاح عبدالغني القاضي ، مكتبة السوادي للتوزيع - جدة ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
73 - الوحي المحمدي : لمحمد رشيد رضا ، المكتب ا لإسلامي ، بيروت - دمشق ، الطبعة العاشرة 1405 هـ .
رابعاً : كتب الحديث والسيرة :(1/491)
1 - إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل : للعلامة : محمد ناصر الدين الألباني ، إشراف : زهير الشاويش ، المكتب الإسلامي ، بيروت - دمشق ، الطبعة الأولى 1405 هـ .
2 - بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام : لابن حجر العسقلاني ، تخريج وفهرسة : عصام الدين سيد الصبابطي ، دار الحديث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
3 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : للإمام الحافظ محمد بن عبدالرحمن المباركفوري ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
4 - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف : للإمام الحافظ عبدالعظيم بن عبد القوي المنذري حققه : محيي الدين مستو ، وسمير أحمد العطار ، ويوسف على بديوي ، دار ابن كثير ، دمشق - بيروت الطبعة الأولى 1414 هـ .
5 - جامع الأصول في أحاديث الرسول : للإمام المبارك بن محمد بن الأثير ، تحقيق : عبدالقادر الأرناؤوط ، دار الفكر ، لبنان - بيروت ، الطبعة الثانية 1403 هـ .
6 - زاد المعاد في هدي خير العباد : للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية ، تحقيق : شعيب الأرناؤوط وعبدالقادر الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الخامسة عشر 1407 هـ .
7 - سلسلة الأحاديث الصحيحة : للشيخ محمد ناصر الدين الألباني : المكتب الإسلامي ، بيروت دمشق ، الطبعة الرابعة 1405 هـ .
8 - سلسلة الأحاديث الضعيفة : لمحمد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي ، بيروت - لبنان دمشق ، الطبعة الخامسة 1405 هـ .
9 - سنن أبي داود : للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث ، إعداد وتعليق : عزت عبيد الدعاس وعادل السيد ، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1388 هـ .
10 - سنن الترمذي : للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، بتحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر توزيع دار الباز - مكة المكرمة ، الطبعة الأولى 1356 هـ .(1/492)
11 - سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي : الناشر : دار الريان للتراث - القاهرة .
12 - شرح السنة : للإمام البغوي ، تحقيق : زهير الشاويش ، وشعيب الأرناؤوط ، المكتب الإسلامي بيروت - دمشق ، الطبعة الثانية 1403 هـ .
13 - شرح حديث ما ذئبان جائعان : للحافظ ابن رجب الحنبلي ، الناشر : مكتبة الوعي الإسلامي وسوق ، الطبعة الأولى 1415 هـ .
14 - شرح صحيح مسلم للنووي : راجعه : الشيخ خليل الميس ، دار القلم ، بيروت - لبنان الطبعة الأولى .
15 - شرح مشكل الآثار : لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي ، تحقيق : شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الأولى 1415 هـ .
16 - صحيح البخاري : للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، اعتنى به : أبو صهيب الكرمي ، طبعة بيت الأفكار الدولية 1419 هـ ، وطبعة أخرى بتحقيق الدكتور مصطفى ديب البُغا ، دار ابن كثير دمشق - بيروت ، توزيع اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق ، الطبعة الرابعة 1410 هـ .
17 - صحيح الترغيب والترهيب : للمنذري ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني ، مكتبة المعارف الرياض ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
18 - صحيح الجامع الصغير وزيادته : لمحمد ناصر الدين الألباني ، أشرف على طبعه : زهير الشاويش المكتب الإسلامي ، بيروت - دمشق ، الطبعة الثانية 1406 هـ .
19 - صحيح سنن أبي داود : للألباني ، إشراف : زهير الشاويش ، مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
20 - صحيح سنن ابن ماجه : لمحمد ناصر الدين الألباني ، إشراف : زهير الشاويش ، الناشر : مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض ، الطبعة الثالثة 1408 هـ .
21 - صحيح سنن الترمذي : للألباني ، إشراف زهير الشاويش ، الناشر : مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض ، الطبعة الأولى 1408 هـ .(1/493)
22 - صحيح سنن النسائي : للألباني ، إشراف : زهير الشاويش ، الناشر : مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
23 - صحيح مسلم : للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج النيسابوري ، اعتنى به : أبو صهيب الكرمي طبعة بيت الأفكار الدولية - الرياض 1419 هـ .
24 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته : لمحمد ناصر الدين الألباني ، أشرف على طبعة : زهير الشاويش المكتب الإسلامي ، بيروت - دمشق ، الطبعة الثالثة 1410 هـ .
25 - ضعيف سنن النسائي : لمحمد ناصر الدين الألباني ، إشراف : زهير الشاويش ، المكتب الإسلامي ، بيروت - دمشق ، عمّان ، الطبعة الأولى 1411 هـ .
26 - غريب الحديث : لأبي عبيد القاسم بن سلام ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
27 - فتح الباري شرح صحيح البخاري : للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه : محمد فؤاد عبدالباقي ، إخراج وتصحيح : محب الدين الخطيب ، الناشر : دار الريان للتراث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1407 هـ .
28 - مدرسة الحديث في الأندلس وإمامها ابن عبدالبر : للدكتور صالح أحمد رضا ، رسالة دكتوراه من جامعة الأزهر ، مطبوعة بالآلة الكاتبة .
29 - المستدرك على الصحيحين : للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم ، تحقيق : أبي عبد الله عبدالسلام بن محمد بن عمر علوش ، دار المعرفة ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1418 هـ .
30 - مسند الإمام أحمد : بتحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر ، دار المعارف بمصر 1377 هـ ، توزيع مكتبة المؤيد - المملكة العربيَّة السعوديَّة .
31 - معالم السنن : للخطابي ، المطبوع بحاشية سنن أبي داود ، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1388 هـ .
32 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي : رتبه ونظمه لفيفٌ من المستشرقين ، مكتبة برلين في مدينة ليدن سنة 1936 هـ .(1/494)
33 - المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة : للإمام الشيخ محمد بن عبدالرحمن السخاوي ، تصحيح وتعليق : عبد الله محمد الصديق ، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع - مكة المكرمة ، الطبعة الأولى 1407 هـ .
34 - الموطأ : للإما مالك بن أنس ، تعليق : محمد فؤاد عبدالباقي ، دار الحديث - القاهرة .
35 - النهاية في غريب الحديث والأثر : للإمام المبارك بن محمد الجزري ، المعروف بابن الأثير ، تحقيق : طاهر أحمد الزاوي ، ومحمود محمد الطناحي ، المكتبة العلمية - بيروت .
خامساً : كتب العقيدة والمذاهب والفرق :
1 - الأسماء والصفات : للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، تحقيق : عبد الله بن محمد الحاشدي ، مكتبة السوادي للتوزيع - جدة ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
2 - الإيمان : لشيخ الإسلام ابن تيمية ، خرج أحاديثه : محمد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي ، بيروت - دمشق ، الطبعة الرابعة 1413 هـ .
3 - التأويل خطورته وآثاره : للدكتور عمر سليمان الأشقر ، دار النفائس ، عمّان - الأردن ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
4 - التدمرية : لشيخ الإسلام ابن تيمية ، تحقيق : محمد بن عودة السعوي ، الطبعة الأولى 1405 هـ .
5 - الرسل والرسالات : للدكتور عمر سليمان الأشقر ، مكتبة الفلاح - الكويت ، الطبعة الثالثة 1405 هـ .
6 - شرح العقيدة الطحاوية : لابن أبي العز الدمشقي ، تحقيق : الدكتور عبد الله بن عبدالمحسن التركي ، وشعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة ، بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية 1411 هـ .
7 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطية : للإمام ابن قيم الجوزية ، تحقيق : الدكتور / علي بن محمد الدخيل الله ، دار العاصمة للنشر والتوزيع - الرياض ، النشرة الثانية 1412 هـ .(1/495)
8 - عقيدة الإمام ابن عبدالبر في التوحيد والإيمان عرضاً ودراسة : لسليمان بن صالح بن عبدالعزيز الغصن ، دار العاصمة للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
9 - العقيدة السلفية في كلام ربّ البرية وكشف أباطيل المبتدعة الرديّة : لعبد الله بن يوسف الجديع ، دار الإمام مالك - الرياض ، دار الصميعي للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الثانية 1416 هـ .
10 - العقيدة الطحاوية : لأبي جعفر الطحاوي ، حاشية محمد بن عبدالعزيز المانع ، تعليق : سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبد الله بن باز ، اعتنى بها : أشرف بن عبدالمقصود ، مكتبة طبرية - الرياض الطبعة الأولى 1415 هـ .
11 - الفصل في الملل والأهواء والنحل : لابن حزم الظاهري ، تحقيق : الدكتور محمد إبراهيم نصر والدكتور عبدالرحمن عميرة ، شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع - المملكة العربيَّة السعوديَّة الطبعة الأولى 1402 هـ .
12 - القول الرشيد في حقيقة التوحيد : للشيخ سليمان بن ناصر العلوان ، دار المنار - المملكة العربيَّة السعوديَّة - الطبعة الأولى 1413 هـ .
13 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد : للإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة : شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، تحقيق وتخريج : أشرف بن عبدالمقصود ، مكتبة الإمام البخاري ، الإسماعيلية - مصر ، الطبعة الثانية 1412 هـ .
14 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة : لابن قيم الجوزية ، تحقيق : سيد إبراهيم ، دار الحديث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
15 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول : للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ، تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر ، دار ابن القيم للنشر والتوزيع - الدمام ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
سادساً : كتبه الفقه وأصوله :
1 - أثر القراءات في الفقه الإسلامي : للدكتور صبري عبدالرؤوف ، أضواء السلف ، الرياض ، الطبعة الأولى 1418 هـ .(1/496)
2 - الأصول من علم الأصول : للشيخ محمد بن صالح العثيمين ، مؤسسة قرطبة للنشر والتوزيع الطبعة الثانية 1407 هـ .
3 - إتحاف أهل الإيمان بأحكام سجود القرآن : لأبي عبدالرحمن محمود الجزائري ، دار الريّان ، الإمارات العربيَّة المتحدة ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
4 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول : للإمام الشوكاني ، تحقيق : الدكتور شعبان محمد إسماعيل ، دار الكتبي ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
5 - إعلام الموقعين عن رب العالمين : لشمس الدين ابن قيم الجوزية ، تحقيق : الشيخ عبدالرحمن الوكيل ، الناشر : مكتبة ابن تيمية - القاهرة .
6 - التأسيس في أصول الفقه على ضوء الكتاب والسنة : لأبي إسلام مصطفى بن محمد بن سلامة مكتبة الحرمين للعلوم النافعة - القاهرة ، توزيع مكتبة البلد الأمين - جدة ، الطبعة الثالثة 1415 هـ .
7 - الرسالة : للإمام الشافعي ، تحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان .
8 - روضة الناظر في أصول الفقه : للإمام ابن قدامة المقدسي ، قدّم له وحققه وعلّق عليه : الدكتور عبدالكريم بن علي النملة ، مكتبة الرشد - الرياض ، الطبعة الخامسة 1417 هـ .
9 - سجود التلاوة وأحكامه : صالح بن عبد الله اللاحم ، دار أصداء المجتمع - السعودية ، القصيم الطبعة الأولى 1418 هـ .
10 - شرح القواعد الفقهية : للشيخ أحمد بن محمد الزرقا ، دار القلم - دمشق ، الطبعة الثانية 1409 هـ .
11 - الشرح الممتع على زاد المستقنع : للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين : اعتنى به وخرج أحاديثه ووضع فهارسه ، د . سليمان بن عبد الله أبا الخيل ، ود . خالد بن علي المشيقح ، مؤسسة آسام للنشر - الرياض ، الطبعة الثانية 1414 هـ .
12 - الطهارة لقراءة القرآن والطواف بالبيت الحرام : للدكتور فيحان المطيري .(1/497)
13 - العدة في أصول الفقه : للقاضي أبي يعلى الحنبلي ، تحقيق : الدكتور أحمد بن علي سيد المباركي ، الطبعة الثانية 1410 هـ .
14 - غاية ا لمرام شرح مغني ذوي الأفهام : للشيخ عبدالمحسن آل عبيكان ، الناشر : مكتبة العبيكان الطبعة الأولى 1411 هـ .
15 - الفقيه والمتفقه : للخطيب البغدادي ، تحقيق : عادل بن يوسف الفزاري ، دار ابن الجوزي الدمام - الطبعة الأولى 1417 هـ .
16 - القواعد الفقهية : لعلي أحمد الندوي ، دار القلم - دمشق ، الطبعة الثالثة 1414 هـ .
17 - المجموع شرح المهذب : للإمام محيي الدين النووي ، دار الفكر ، بيروت - لبنان ، بدون تاريخ طبعة .
18 - مدرسة الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبدالبر في الحديث والفقه وآثارها في تدعيم المذهب المالكي بالمغرب : إعداد الأستاذ محمد بن يعيش ، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميَّة بالمملكة المغربية 1414 هـ .
19 - مسائل من فقه الكتاب والسنة : لعمر سليمان الأشقر ، دار النفائس ، عمّان - الأردن ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
20 - معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة : لمحمد بن حسين الجيزاني ، دار ابن الجوزي الدمام - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
21 - المعتمد في فقه الإمام أحمد : جرى فيه الجمع بين نيل المآرب بشرح دليل الطالب : للشيخ عبدالقادر ابن عمر الشيباني ، ومنار السبيل في شرح الدليل : للشيخ إبراهيم بن ضويان ، أعدّه وعلّق عليه : علي عبدالحميد بلطه جي ، ومحمد وهبي سليمان ، دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت ، توزيع المكتبة التجارية ، مكة المكرمة ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
22 - المغني : لابن قدامة المقدسي ، تحقيق : الدكتور عبد الله بن عبدالمحسن التركي ، الدكتور عبدالفتاح محمد الحلو ، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان ، القاهرة - الطبعة الثانية 1412 هـ .(1/498)
23 - المغني مع الشرح الكبير : للإمامين موفق الدين وشمس الدين دار الفكر - بيروت ، لبنان الطبعة الأولى 1404 هـ .
24 - الموافقات في أصول الشريعة : لأبي إسحاق الشاطبي ، شرح : فضيلة الشيخ عبد الله دراز دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان .
25 - نزهة الخاطر العاطر : شرح روضة الناظر : للشيخ عبدالقادر بن بدران ، مكتبة المعارف - الرياض الطبعة الثانية 1404 هـ .
26 - نيل الأوطار : للشوكاني ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1403 هـ .
27 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار : للإمام محمد بن علي الشوكاني ، تخريج وتعليق : عصام الدين الصبابطي ، دار الحديث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1413 هـ .
28 - الواضح في أصول الفقه : لمحمد بن سليمان الأشقر ، الدار السلفية - الكويت ، الطبعة الثالثة 1407 هـ .
سابعاً : كتب اللغة والشعر والمعاجم :
1 - أساس البلاغة : لجار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري ، بتحقيق الأستاذ عبدالرحيم محمود ، دار المعرفة بيروت - لبنان .
2 - الاشتقاق : لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد ، تحقيق وشرح : عبدالسلام محمد هارون ، الناشر : مكتبة الخانجي بالقاهرة ، الطبعة الثالثة ، بدون تاريخ .
3 - البيان في ضوء أساليب القرآن : للدكتور عبدالفتاح لاشين ، دار المعارف - القاهرة ، الطبعة الثالثة 1992 هـ .
4 - تهذيب اللغة : للأزهري ، حققه وقدّم له : عبدالسلام محمد هارون ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر 1384 هـ .
5 - ديوان حسان بن ثابت : تحقيق : سيد حنفي ، المكتبة العربيَّة - القاهرة 1394 هـ .
6 - ديوان ذي الرمة : مع شرح أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي ، تحقيق : الدكتور عبدالقدوس أبو صالح ، مؤسسة الإيمان - بيروت ، الطبعة الأولى 1402 هـ .
7 - ديوان عنترة بن شداد : شرح وتعليق عباس إبراهيم ، دار الفكر العربي - بيروت ، الطبعة الأولى 1994 م .(1/499)
8 - الكتاب : لسيبويه أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ، تحقيق وشرح : عبدالسلام محمد هارون ، دار الكتب العلمية - بيروت ، الطبعة الثالثة 1408 هـ ، الناشر : مكتبة الخانجي بالقاهرة .
9 - لسان العرب : لابن منظور ، دار إحياء التراث العربي - مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت لبنان الطبعة الأولى 1416 هـ .
10 - مختار الصحاح : للشيخ محمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة لبنان ، بيروت 1989 م .
11 - معجم قبائل العرب : لعمر كحالة ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الثالثة 1402 هـ .
12 - معجم مقاييس اللغة : لابن فارس ، بتحقيق وضبط : عبدالسلام محمد هارون ، دار الجيل بيروت ، الطبعة الأولى 1411 هـ .
ثامناً : كتب التراجم والتاريخ :
1 - الأعلام : لخير الدين الزِّرِكْلي ، دار العلم للملايين ، بيروت - لبنان ، الطبعة العاشرة 1992 م .
2 - ابن عبدالبر الأندلسي وجهوده في التاريخ : ليث سعود جاسم ، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ، المنصورة ، الطبعة الثاننية 1408 هـ .
3 - التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة : للدكتور عبدالرحمن علي الحجي دار القلم - دمشق ، الطبعة الرابعة 1415 هـ .
4 - تاريخ بغداد : للخطيب البغدادي ، المكتبة السلفية المدينة المنورة .
5 - ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك : للقاضي عياض اليحصبي .
6 - تقريب التهذيب : لابن حجر العسقلاني ، حققه وعلّق عليه : أبو الأشبال صغير أحمد شاغف الباكستاني ، دار العاصمة للنشر والتوزيع - الرياض ، النشرة الأولى 1416 هـ .
7 - تهذيب التهذيب : لابن حجر العسقلاني ، باعتناء : إبراهيم الزيبق ، وعادل مرشد ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
8 - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس : لأبي عبد الله الحميدي ، تصحيح وتحقيق : محمد بن ثاويت الطنجي ، نشر مكتب نشر الثقافة الإسلاميَّة - القاهرة .(1/500)
9 - ذيل الأعلام : لأحمد العلاونة ، دار المنارة للنشر والتوزيع - جدة ، الطبعة الأولى 1418 هـ .
10 - سير أعلام النبلاء : للإمام شمس الدين بن محمد بن أحمد الذهبي ، أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه : شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة السابعة 1410 هـ .
11 - شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب : لابن العماد الحنبلي الدمشقي ، تحقيق : عبدالقادر الأرناؤوط ومحمود الأرناؤوط ، دار ابن كثير - دمشق ، بيروت ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
12 - الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم : للشيخ أبي القاسم خلف بن بشكوال ، عني بنشره ، وصححه ، وراجع أصله : السيد عزت العطار الحسيني ، مكتب نشر الثقافة الإسلاميَّة 1374 هـ .
13 - طبقات ابن سعد : تحقيق : محمد بن عبدالقادر عطا : دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
14 - طبقات المفسرين : للحافظ محمد بن علي بن أحمد الداوودي ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان .
15 - طبقات علماء الحديث : للإمام أبي عبد الله محمد بن عبدالهادي الدمشقي ، تحقيق : أكرم البوشي وإبراهيم الزيبق ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الأولى 1409 هـ .
16 - العبر في تاريخ من غبَر : للحافظ الذهبي ، تحقيق : أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1405 هـ .
17 - معرفة القراء الكبار : للحافظ الذهبي ، تحقيق : بشار عواد ، وشعيب الأرناؤوط وصالح مهدي عبّاس ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الثانية 1408 هـ .
18 - نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء : لمحمد حسن عقيل موسى ، الناشر : دار الأندلس للنشر والتوزيع - جدة ، الطبعة الأولى 1411 هـ .
19 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب : للشيخ أحمد بن محمد المقرّي التلمساني ، تحقيق : الدكتور إحسان عباس ، دار الفكر ، طبعة 1408 هـ .
تاسعاً : كتب أخرى :(2/1)
1 - الآداب الشرعية : للإمام الفقيه محمد بن مفلح المقدسي ، حققه وضبط نصه وخرج أحاديثه وقدّم له شعيب الأرناؤوط وعمر القيام ، مؤسسة الرسالة - بيروت ، الطبعة الأولى 1416 هـ .
2 - آفات العلم : لأبي عبد الله محمد بن سعيد بن رسلان .
3 - بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار : للشيخ العلاّمة عبدالرحمن بن ناصر السعدي ، تصحيح وتخريج : أشرف بن عبدالمقصود ، دار الريان للتراث - القاهرة ، الطبعة الأولى 1408 هـ .
4 - التعريفات : لعلي بن محمد الجرجاني ، ضبطه وفهرسه محمد بن عبدالحكيم القاضي ، دار الكتاب المصري - القاهرة ، دار الكتاب اللبناني - بيروت ، الطبعة الأولى 1411 هـ .
5 - الحقيقة الشرعية في تفسر القرآن العظيم والسنة النبوية : لمحمد بن عمر بن سالم بازمول ، دار الهجرة للنشر والتوزيع - الرياض ، الطبعة الأولى 1415 هـ .
6 - حلية طالب العلم : للشيخ بكر أبو زيد ، مؤسسة قرطبة ، مدينة الأندلس ، الهرم ، دار الراية الرياض ، الطبعة الثانية 1409 هـ .
7 - الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية : لأسامة الريّس ، دار الأندلس - جدة ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
8 - سقوط الأندلس : للدكتور ناصر العمر ، دار الوطن للنشر - الرياض ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
9 - علماؤنا : إعداد فهد البدراني وفهد البراك ، الطبعة الثانية 1410 هـ .
10 - الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط - علوم القرآن : مخطوطات التفسير وعلومه ، إصدار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ، مؤسسة آل البيت .
11 - اللقاء الشهري مع فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين : إعداد الدكتور عبد الله بن محمد الطيار ، دار الوطن للنشر - الرياض .
12 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : جمع وترتيب : عبدالرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الطبعة الثانية .(2/2)
13 - مجموع فتاوى ومقالات : للشيخ عبدالعزيز بن باز ، جمع وإشراف : محمد بن سعد الشويعر مكتبة المعارف للنشر والتوزيع بالرياض 1413 هـ .
14 - مدارج السالكين بين منازل ( إياك نعبد وإياك نستعين ) : للإمام ابن قيم الجوزية ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية 1408 هـ .
15 - مقدمة في فقه أصول الدعوة : لأحمد سلام ، دار ابن حزم - بيروت ، الطبعة الأولى 1410 هـ .
16 - واقعنا المعاصر : للأستاذ محمد قطب ، الناشر : مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر جدة ، الطبعة الثانية 1408 هـ .
عاشراً : المجلات :
1 - مجلة البحوث الإسلاميَّة : الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، الرياض - المملكة العربيَّة السعوديَّة ، العدد [13] و [29] .
2 - مجلة البيان : مجلة إسلامية شهرية ، جامعة تصدر عن المنتدى الإسلامي ، لندن ، العدد [41] .
3 - مجلة الحكمة للبحوث الإسلاميَّة : بريطانيا - ليدن ، العدد [5 ، 9] .
* * *
الفهارس العامة للبحث
1 - فهرس الآيات .
2 - فهرس الأحاديث .
3 - فهرس الآثار .
4 - فهرس الأعلام المترجم لهم .
5 - فهرس المصطلحات المعرّفة .
6 - فهرس المحتويات .
[1] - فهرس الآيات (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - سورة الفاتحة :
5 ... ... 434
[2] - سورة البقرة :
20 ... ... 187 - 299
25 ... ...
30 ... ... 111
97 ... ... 117 ، 161
98 ... ... 437
__________
(1) طريقتي في فهرس الآيات أن أذكر السورة وفق ترتيبها في المصحف ثُمَّ أذكر تحتها ما ورد في البحث من آياتها مع ذكر رقم الصفحة هكذا [ رقم الآية / الصفحة التي وردت فيها ] .(2/3)
106 ... ... 231 ، 237 ، 254 ، 259
... ... 266 ، 427 ، 428
121 ... ... 353
127 ... ... 79
129 ... ... 356
143 ... ... 82
144 ... ... 264
163 ... ... 448
176 ... ... 319
180 ... ... 255 ، 260
183 ... ... 269
185 ... ... 151 ، 154
191 ... ... 300
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
216 ... ... 247
221 ... ... 270
222 ... ... 339
228 ... ... 268
229 ... ... 271 ، 272 ، 295
230 ... ... 295
232 ... ... 247
234 ... ... 243 ، 250
235 ... ... 295
238 ... ... 190
240 ... ... 243 ، 250 ، 251
249 ... ... 276
253 ... ... 136
255 ... ... 98 ، 448
259 ... ... 190 - 205
269 ... ... 229
280 ... ... 204
[3] - سورة آل عمران :
7 ... ... 297 ، 298 ، 300 ، 303 ، 320
28 ... ... 429
62 ... ... 302
64 ... ... 345 ، 346
66 ... ... 247
79 ... ... 321
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
102 ... ... 1
121 ... ... 159
181 ... ... 159
[4] - سورة النساء :
1 ... ... 1
20 ... ... 271 ، 272
21 ... ... 271 ، 272
24 ... ... 148 ، 364
59 ... ... 82 ، 326
65 ... ... 258
70 ... ... 1
80 ... ... 148
82 ... ... 201 - 305
95 ... ... 144 - 165
113 ... ... 147
115 ... ... 82 ، 211
163 ... ... 372
164 ... ... 131 ، 136
166 ... ... 319
170 ... ... 319
171 ... ... 302
[5] - سورة المائدة :
5 ... ... 271
6 ... ... 340
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة(2/4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
42 ... ... 274 ، 296
46 ... ... 317
48 ... ... 65 ، 236 ، 237 ، 317
49 ... ... 273 ، 274 ، 296
67 ... ... 89 ، 161
89 ... ... 225
[6] - سورة الأنعام :
3 ... ... 288
57 ... ... 278
103 ... ... 126
106 ... ... 321 ، 356
112 ... ... 109
114 ... ... 89 ، 611 ، 319
115 ... ... 319
[7] - سورة الأعراف :
3 ... ... 82 ، 322
53 ... ... 308
143 ... ... 131 ، 136
180 ... ... 103
187 ... ... 304
206 ... ... 379 ، 380 ، 391
[8] - سورة الأنفال :
12 ... ... 109
65 ... ... 268
66 ... ... 268
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[9] - سورة التوبة :
6 ... ... 318
28 ... ... 165 ، 340 ، 343
80 ... ... 170
100 ... ... 214 ، 290
103 ... ... 352
[10] - سورة يونس :
15 ... ... 258
55 ... ... 319
58 ... ... 2
[11] - سورة هود :
1 ... ... 294 ، 303
44 ... ... 310
78 ... ... 190 ، 204
[12] - سورة يوسف :
36 ... ... 308
45 ... ... 205
47 ... ... 268
76 ... ... 247
100 ... ... 308
[13] - سورة الرعد :
1 ... ... 319
15 ... ... 391
39 ... ... 237 ، 265
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[14] - سورة إبراهيم :
4 ... ... 218 ، 219
24 ... ... 79
[15] - سورة الحجر :
9 ... ... 247 ، 321
87 ... ... 435
[16] - سورة النحل :
44 ... ... 255 ، 264
49 ... ... 391
50 ... ... 391
68 ... ... 109
101 ... ... 237 ، 254 ، 259
102 ... ... 161
103 ... ... 141
[17] - سورة الإسراء :
44 ... ... 278(2/5)
85 ... ... 247 ، 304
105 ... ... 319
106 ... ... 114 ، 167 ، 358 ، 359
107 ... ... 380 ، 391
109 ... ... 380 ، 391
110 ... ... 103
[18] - سورة الكهف :
18 ... ... 324
66 ... ... 37
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
75 ... ... 364
109 ... ... 425
[19] - سورة مريم :
11 ... ... 109
24 ... ... 177
31 ... ... 269
32 ... ... 269
58 ... ... 379 ، 391
[20] - سورة طه :
13 ... ... 136
[21] - سورة الحج :
11 ... ... 174 ، 193
18 ... ... 391
27 ... ... 369
52 ... ... 230
53 ... ... 303
55 ... ... 323 ، 324 ، 325
77 ... ... 391
[22] - سورة المؤمنون :
1 ... ... 122
28 ... ... 310
[23] - سورة النور :
3 ... ... 268
12 ... ... 143
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
13 ... ... 143
15 ... ... 205
19 ... ... 247
39 ... ... 58
[24] - سورة الفرقان :
6 ... ... 168
12 ... ... 278
48 ... ... 340
60 ... ... 391
[25] - سورة الشعراء :
13 ... ... 190
192 ... ... 89 ، 117 ، 137 ، 140 ، 161
194 ... ... 89 ، 117 ، 137 ، 140 ، 161
214 ... ... 219
[26] - سورة النمل :
25 ... ... 391
26 ... ... 391
92 ... ... 356
[27] - سورة القصص :
7 ... ... 109
48 ... ... 319
50 ... ... 318
53 ... ... 319
[28] - سورة العنكبوت :
45 ... ... 356
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة(2/6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[29] - سورة لقمان :
13 ... ... 269
26 ... ... 205
[30] - سورة السجدة :
1 ... ... 161 ، 331
2 ... ... 161 ، 331
3 ... ... 319
14 ... ... 352
15 ... ... 379 ، 392
17 ... ... 312
23 ... ... 324
[31] - سورة الأحزاب :
21 ... ... 363
34 ... ... 121 ، 149 ، 243
70 ... ... 1
71 ... ... 1
[32] - سورة سبأ :
10 ... ... 278
17 ... ... 204
19 ... ... 190 ، 204
23 ... ... 205
[33] - سورة فاطر :
29 ... ... 349
30 ... ... 349
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[34] - سورة يس :
29 ... ... 205
[35] - سورة الصافات :
102 ... ... 120 ، 126 ، 127
177 ... ... 112
[36] - سورة ص :
18 ... ... 278
23 ... ... 190 ، 280
24 ... ... 392 ، 397
29 ... ... 306 ، 358
84 ... ... 278
[37] - سورة الزمر :
1 ... ... 161
2 ... ... 161
7 ... ... 94
23 ... ... 438
39 ... ... 294
[38] - سورة غافر :
1 ... ... 161
2 ... ... 161
[39] - سورة فصلت :
1 ... ... 161
2 ... ... 161
11 ... ... 278
37 ... ... 392
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
38 ... ... 392
42 ... ... 192 ، 320
54 ... ... 322
[40] - سورة الشورى :
11 ... ... 289
13 ... ... 269
51 ... ... 116 ، 126 ، 132
[41] - سورة الزخرف :
4 ... ... 303
13 ... ... 310
55 ... ... 291
58 ... ... 323 ، 324
84 ... ... 288
[42] - سورة الدخان :
3 ... ... 153 ، 154
43 ... ... 187
44 ... ... 187
[43] سورة الجاثية :
29 ... ... 231
[44] - سورة الفتح :
1 ... ... 166(2/7)
2 ... ... 166
[45] - سورة ق :
19 ... ... 190 ، 205
30 ... ... 278
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[46] - سورة النجم :
3 ... ... 145 ، 147 ، 148
4 ... ... 145 ، 147 ، 148
13 ... ... 125 ، 126
14 ... ... 125 ، 126
53 ... ... 324
62 ... ... 392
[47] - سورة الرحمن :
68 ... ... 437
[48] - سورة الواقعة :
29 ... ... 190 ، 205
75 ... ... 152
77 ... ... 152
79 ... ... 334 ، 336 ، 337 ، 339
[49] - سورة الحديد :
13 ... ... 186
[50] - سورة المجادلة :
1 ... ... 159
7 ... ... 288 ، 328
[51] - سورة الحشر :
7 ... ... 82 ، 258
22 ... ... 302
23 ... ... 302
[52] - سورة الملك :
8 ... ... 278
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[53] - سورة المزمل :
4 ... ... 358 ، 366 ، 367 ، 371
5 ... ... 144
20 ... ... 216 ، 360
[54] - سورة المدثر :
1 ... ... 125
5 ... ... 125
26 ... ... 318
[55] - سورة القيامة :
16 ... ... 142 ، 367 ، 368
17 ... ... 368
19 ... ... 368
[56] - سورة الإنسان :
23 ... ... 114
[57] - سورة عبس :
1 ... ... 97
2 ... ... 97
11 ... ... 337
16 ... ... 337
[58] - سورة التكوير :
23 ... ... 126
[59] - سورة الانفطار :
13 ... ... 299
14 ... ... 299
[60] - سورة الانشقاق :
21 ... ... 392 ، 399 ، 417 ، 418
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم السورة ورقم الآية ... ... ... ... ... رقم الصفحة(2/8)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[61] - سورة الأعلى :
1 ... ... 437
4 ... ... 437
6 ... ... 352
7 ... ... 352
[62] - سورة الغاشية :
2 ... ... 309
[63] - سورة الفجر :
22 ... ... 309
[64] - سورة الشمس :
2 ... ... 353
[65] - سورة العلق :
19 ... ... 392
[66] - سورة القدر :
1 ... ... 151 ، 154 ، 155
[67] - سورة القارعة :
5 ... ... 190 ، 191 ، 205
[68] - سورة الكوثر :
1 ... ... 165
3 ... ... 165
[69] - سورة الإخلاص :
1 ... ... 302
3 ... ... 299
4 ... ... 299
* * *
[2] - فهرس الأحاديث (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الحديث ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحاديث القولية :
1 - { أتاني ربي فقال : فيمَ يختصم الملأ الأعلى ... } ... ... 141
2 - { أتدري يا عمر من السائل ... ؟ فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم } ... ... 118 ، 123
3 - { أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس ... } ... ... 115
4 - { أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق } ... ... 315
5 - { ألا أخبرك بأفضل القرآن } ... ... 425
6 - { ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ... } ... ... 146 ، 147
7 - { ألا يمس القرآن إلاَّ طاهر } ... ... 333
8 - { ألم يقل الله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } } ... ... 426
9 - { أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم } ... ... 436
10 - { أنزل القرآن على سبعة أحرف } ... ... 181
11 - { أنزل القرآن على سبعة أحرف : غفوراً رحيماً ... } ... ... 182
12 - { أنزل القرآن على سبعة أحرف ، لكل آية منها ظهر وبطن ... } ... ... 180
__________
(1) رتبت الأحاديث وفق حروف المعجم بالنظر إلى طرف الحديث مبتدئاً بالأحاديث القولية ، ثُمَّ الأحاديث الفعلية .(2/9)
13 - { أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ؟ } ... ... 448
14 - { إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي ... } ... ... 111 ، 164
15 - { إذا اشتدّ الحر فأبردوا عن الصلاة ... } ... ... 277
16 - { إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ... } ... ... 380
17 - { إذا قضى الله الأمر في السماء ... } ... ... 163
18 - { إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فلاتماروا في القرآن ... } ... ... 180
19 - { إن الله كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش ... } ... ... 429
20 - { إن الله لايقبض العلم اتنزاعاً ... } ... ... 99
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الحديث ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
21 - { إن المسلم لاينجس ، إن المؤمن لاينجس } ... ... 336
22 - { إن شدة الحر من فيح جهنم ... } ... ... 277
23 - { إنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان ... } ... ... 444
24 - { إني كرهت أن أذكر الله تعالى ذكره إلاَّ على طهر } ... ... 376
25 - { إني لأرجو أن لاتخرج من المسجد حتى أتعلم ... } ... ... 432
26 - { إنَّما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعضلة ... } ... ... 351
27 - { إنَّما هي توبة نبي ، ولكن رأيتكم تشزنتم للسجود } ... ... 398
28 - { اسأل الله مغفرته ومعافاته ... } ... ... 184
29 - { اشتكت النَّار إلى بها فقالت ... } ... ... 277
30 - { اقرأ في سبع ولاتزد على ذلك } ... ... 359 - 361
31 - { اقرؤوا القرآن ، ولاتغلوا فيه ، ولاتجفوا عنه ... } ... ... 363
32 - { اكتب ، فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاَّ الحق } ... ... 148
33 - { بئسما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كيت وكيت ... } ... ... 354
34 - { بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظم الروم } ... ... 344 ، 345(2/10)
35 - { جاورت بحراء شهراً ، فلما قضيت جواري ... } ... ... 117 - 125
36 - { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ... } ... ... 240
37 - { الحمد رب العالمين هي السبع المثاني ، وهي القرآن العظيم ... } ... ... 436
38 - { الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم ... } ... ... 426
39 - { خيركم من تعلم القرآن وعلمه } ... ... 349
40 - { ذكرني هذا آية نسيتها } ... ... 352
41 - { سجد وجهي للذي خلقه ، وشق سمعه وبصره ... } ... ... 416
42 - { سجدها داود توبة ، نسجدها شكراً } ... ... 397
43 - { سلوه لأي شيء يصنع ذلك ... } { أخبروه أن الله يحبه } ... ... 451 ، 452
44 - { سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها ... } ... ... 443
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الحديث ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
45 - { سورة من القرآن تشفع لصاحبها فتدخله الجَنَّة ... } ... ... 343
46 - { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ... } ... ... 340
47 - { عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ... } ... ... 354
48 - { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي } ... ... 211 ، 274
49 - { في الحج سجدتان ، ومن لم يسجدهما فلايقرأهما } ... ... 392
50 - { قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك ... } ... ... 152 - 153
51 - { كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد ... } ... ... 174
52 - { لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن ... } ... ... 426
53 - { لا أقول إلاَّ حقاً } ... ... 148
54 - { لا تجتمع أمتي على ضلالة } ... ... 82
55 - { لا حسد إلاَّ في اثنتين ... } ... ... 2
56 - { لا وصية لوارث ... } ... ... 254
57 - { لقد أنزل الله عليّ الليلة سورة ... } ... ... 166 ، 441(2/11)
58 - { لقد أنزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً } ... ... 442
59 - { اللهم أذهب عن أبيّ الشكّ ... } ... ... 183
60 - { اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ... } ... ... 430
61 - { اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين } ... ... 306
62 - { ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه ... } ... ... 262
63 - { ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم ... } ... ... 96
64 - { ما ضل قوم بعد هدى إلاَّ لُقِّنُوا الجدل ... } ... ... 323 ، 324
65 - { الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة } ... ... 353
66 - { المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور } ... ... 102
67 - { المراء في القرآن كفر } ... ... 323
68 - { مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ... } ... ... 408
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الحديث ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
69 - { من تعلم القرآن ثُمَّ نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم ... } ... ... 351
70 - { من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ... } ... ... 171
71 - { من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فلم يفقهه لايفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث } ... 359
72 - { من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلبس والداه يوم القيامة تاجاً ... } ... ... 353
73 - { مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ... } ... ... 329
74 - { هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرأوا ولا حرج ... } ... ... 185
75 - { هكذا أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ... } ... ... 173
76 - { هي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ... } ... ... 437
77 - { والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن } ... ... 426 ، 445
78 - { والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ... } ... ... 147
79 - { والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم ... } ... ... 429(2/12)
80 - { يا أبا المنذر : أتدري أيَّ آية في كتاب الله معك أعظم ... } ... ... 98 - 426
81 - { يا أبيّ ، إنه أنزل على سبعة أحرف ، كلها شاف كافٍ ... } ... ... 183
82 - { يا أبيّ ، إني أقرئت القرآن ... } ... ... 181
83 - يا رسول الله أقرأ القرآن في ثلاث ؟ قال : { نعم } ... ... 361
84 - { يضحك الله - عزوجل - إلى رجلين ... } ... ... 290
الأحاديث الفعلية :
85 - أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل ... ... 376
86 - أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة ... ... ... 143
87 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة ... ... ... 395 ، 396
... ... 404
88 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه : { لايستوي القاعدون ... } ... ... 144
89 - أنزلت { عبس وتولى } في عبد الله بن أم مكتوم ... ... ... 97
90 - بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة ... ... ... 165
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الحديث ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
91 - بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار ... ... ... 165
92 - بينما الناس في قباء صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال ... ... ... 150
93 - جاء جبريل إلى النبي عليه السلام فقال : اقرأ على حرف ... ... ... 185 ، 186
94 - سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن ؟ ... ... 364
95 - سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى ... ... ... 438
96 - سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في { إذا السماء انشقت } ... ... 399 ، 401
... ... 402 ، 417
97 - فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه فجلس ... ... ... 373(2/13)
98 - فو الله ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه ... ... 142 ، 143
99 - قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم ... ... ... 384
100 - قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجنّ ... ... 374
101 - كان صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته ... ... 368
102 - كان أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ... ... 117 ، 126
103 - كان ا لنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ... ... 379
104 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير ... ... 412
105 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر ... ... ... 418
106 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه وهو على ناقته ... ... ... 144
107 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد أن يتخذ خشبتين ... ... ... 120 ، 128
108 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لايحجبه عن تلاوة القرآن شيء ... ... ... 373 ، 375
109 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ... ... 375
110 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ... ... ... 142 ، 368
111 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن ... ... ... 414
112 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيقرأ ... ... ... 375
113 - كان يقرئنا القرآن على كل حال ... ... ... 375
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الحديث ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
114 - كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم حرفاً حرفاً ... ... 368
115 - كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مدّاً ... ... 368
116 - لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كل ليلة ... ... ... 363(2/14)
117 - لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من المفصل ... ... ... 400
118 - لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ... ... ... 138
119 - ليست سجدة حتى من عزائم السجود ... ... 397
120 - ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعداً ... ... 366
121 - نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن ... ... ... 343
* * *
[3] - فهرس الآثار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الأثر ... ... ... ... ... ... القائل ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ ... ... ... علي بن أبي طالب ... 229
2 - أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون ... ... ... أبو إسحاق السبيعي ... 394
3 - أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون ... ... ... عمرو بن دينار ... 316
4 - ألم تستمع إلى قول الله عزوجل ... ... ... عكرمة ... 353
5 - أمَّا أنا فأقرأ هكذا ... ... أبو العالية ... 326
6 - أمَّا بعد ، فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش ... ... ... عمر بن الخطاب ... 177 ، 178
7 - أنزل القرآن على سبعة أحرف ، صار في عجز هوازن ... ... ابن عباس ... 179
8 - أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة ... ... أنس بن مالك ... 241
9 - أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ... ... ... عمر بن الخطاب ... 242
10 - أُنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة ... ... ... أبو عثمان النهدي ... 124
11 - إذا سمعت الرجل يقول : الاسم غير المسمى ... ... ... الشافعي ... 103 ، 329
12 - إن هذه السورة فضلت بسجدتين ... ... عمر بن الخطاب ... 393
13 - إنك لاتعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره ... ... أيوب السختياني ... 37
14 - إني سمعتُ القراءة فرأيتهم متقاربين ... ... ... عبد الله بن مسعود ... 186
15 - إنَّما السجدة على من استمعها ... ... عثمان ... 387(2/15)
16 - إنَّما هذه الأحرف في الأمر الواحد ... ... الزهري ... 186
17 - إنَّما هي توبة نبي ذكرت ... ... ... ابن مسعود ... 397
18 - اسجد فأنت إمامنا ... ... ابن مسعود ... 386
19 - بسم الله الرحمن الرحيم : عافانا الله وإياك ... ... ... منصور بن عمّار ... 330
20 - بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ... ... الشعبي ... 154
21 - تعاهدوا القرآن ، فهو أشد تفصياً ... ... ... عبد الله بن مسعود ... 354
22 - تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ... ... ... حذيفة ... 352
23 - ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم الفِرية ... ... ... عائشة ... 126
24 - حسن ، ولأن أقرأه في نصف ... ... ... زيد بن ثابت ... 358
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الأثر ... ... ... ... ... ... القائل ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
25 - حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً ... ... الضحاك ... 350
26 - الذي قرأ البقرة ... ... ... مجاهد ... 359
27 - رؤيا الأنبياء وحيٌ ... ... ابن عباس ... 127
28 - الرجم في كتاب الله ... ... ... عمر بن الخطاب ... 243
29 - السبع المثاني فاتحة الكتاب ... ... ... ابن عباس ... 435
30 - السبع المثاني هي السبع الطوال ... ... ... ابن عباس ... 435
31 - سجد أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - في { إذا السماء
انشقت } ... ... ... أبو هريرة ... 403
32 - صليت مع عمر الصبح فقرأ بـ ( ص ) ... ... ... أبو رافع ... 398
33 - في ( ص ) سجدة ... ... ابن عمر ... 398
34 - القرآن نزل جملة واحدة موضع مواقع النجوم ... ... ... عكرمة ... 152
35 - قيمة كل امرئ ما يحسن ... ... علي بن أبي طالب ... 37
36 - كائن تقرأ سورة الأحزاب ؟ ... ... ... أبيّ بن كعب ... 241
37 - كان أبو عبدالرحمن السُّلَمي يقرأ السجدة ... ... ... ... 408
38 - كان ابن عمر يسجد على غير وضوء ... ... ... ... 407
39 - كان الشعبي يسجد حيث كان وجهه ... ... ... 408(2/16)
40 - كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة ... ... ... ابن عباس ... 115
41 - كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي ... عبدالبر بن عمر ... 118
42 - كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات ... ... ... عائشة ... 241
43 - كان يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث ... ... معاذ بن جبل ... 362
44 - كانت سورة الأحزاب تقارن سورة البقرة ... ... عمرو بن دينار ... 241
45 - كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة ... ... ... مجاهد ... 242
46 - كانت هذه للمعتدة ، تعتد عند أهل زوجها ... ... ... مجاهد ... 251
47 - لأن أقرأ { إذا زلزلت } و { القارعة } ... ... ... محمد بن كعب ... 359
48 - لأن أقرأ سورة البقرة في ليلة ... ... ... ابن عباس ... 359
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الأثر ... ... ... ... ... ... القائل ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
49 - لأن أقرأ سورة واحدة أحبّ إليّ ... ... ... ابن عباس ... 359
50 - لا ، وإنَّما السبعة الأحرف كقولهم ... ... ... سفيان بن عيينة ... 189
51 - لاترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ... ... عمر بن الخطاب ... 240
52 - لايسجد الرجل إلاَّ وهو طاهر ... ... ابن عمر ... 408 - 411
53 - لايقرأ أحد في المصحف إلاَّ وهو متوضيء ... ... ... إسحاق بن راهويه ... 334
54 - لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ... ... ... مسروق بن الأجدع ... 357
55 - لم يُفرض علينا السجود إلاَّ أن نشاء يُفرض ... ... ابن عمر ... 382
56 - لو أن لابن آدم وادياً من ذهب ... ... ... أنس بن مالك ... 240
57 - لو سجدت فيها واحدة كانت السجدة ... ... ... ابن عمر ... 395
58 - لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى ... ... قتادة بن دعامة ... 37
59 - لولا أن يقول قومٌ زاد عمر في كتاب الله ... ... ... عمر بن الخطاب ... 242(2/17)
60 - ما اختلفتم أنتم وزيد فيه فاكتبوه ... ... ... عثمان بن عفّان ... 176
61 - ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ... ... عبد الله بن مسعود ... 211
62 - المطَهَّرُون } : الملائكة ... ... أنس بن مالك ... 339
63 - من أفتاك بهذا ؟ أمسيلمة ؟ ! ... ... عمر بن الخطاب ... 373
64 - من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ... ... ... عبد الله بن مسعود ... 362
65 - نزل أول القرآن في ليلة القدر ... ... الشعبي ... 155
66 - نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر ... ... ... ابن عباس ... 151
67 - نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان ... ... سعيد بن جبير ... 154
68 - نزل القرآن جميعاً في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ... ... ... ابن عباس ... 152
69 - نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة ... ... ... ابن عباس ... 151
70 - نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة ... ... المسور بن مخرمة
... ... ومروان بن الحكم ... 166
71 - هذّاً كهذّ الشعر ؟ ! ... ... ... عبد الله بن مسعود ... 371
72 - هي فاتحة الكتاب تُثنّى في كل ركعة ... ... قتادة ... 435
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طرف الأثر ... ... ... ... ... ... القائل ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
73 - { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة }
أي : السنة ... ... ... قتادة ... 149
74 - ولقد رآه نزلة أخرى } رأى جبريل عليه السلام ... ... أبو هريرة ... 125
75 - { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً ... } قال : موسى
حين كلمه الله ... ... ... مجاهد ... 116
76 - { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً ... } قال : نرى
هذه الآية تعد من أوحى الله إليه ... ... ... ابن شهاب الزهري ... 116
77 - { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } الحكمة هي
معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ... ... ... ابن عباس ... 229(2/18)
78 - يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة ... ... حذيفة بن اليمان ... 178
79 - يا أيها الناس إنا نمر بالسجود ... ... ... عمر بن الخطاب ... 382
* * *
[4] - فهرس الأعلام المترجم لهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - إبراهيم النخعي ... ... 296 ، 326
2 - إبراهيم بن السرّي ، أبو إسحاق الزجاج ... ... 367
3 - إبراهيم بن خالد البغدادي ، أبو ثور ... ... 334
4 - إبراهيم بن موسى الغرناطي ، الشاطبي الأصولي ... ... 129
5 - أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ... ... 125
6 - أبو عمرو بن العلاء البصري ... ... 307
7 - أحمد بن أبي عمران ... ... 175
8 - أحمد بن الحسين بن علي الشافعي ، البيهقي ... ... 134
9 - أحمد بن بن محمد بن إسماعيل النحاس ... ... 144
10 - أحمد بن حنبل ... ... 333
11 - أحمد بن سعيد بن غرسية ، أبو المطرّف القرطبي المالكي ابن الحصار ... ... 424
12 - أحمد بن شعيب ، أبو عبدالرحمن الخرساني ، النسائي ... ... 420
13 - أحمد بن عبد الله بن محمد الباجي ... ... 39
14 - أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ، شيخ الإسلام ابن تيمية ... ... 53
15 - أحمد بن عبدالملك بن هاشم ابن المكوى الإشبيلي ... ... 40
16 - أحمد بن علي أبو بكر الرازي الحنفي ، الجصاص ... ...
17 - أحمد بن علي بن محمد العسقلاني ، ابن حجر ... ... 124
18 - أحمد بن عمار بن أبي العباس ، أبو العباس الأندلسي ، المهدوي ... ... 215
19 - أحمد بن عمر بن سريج ، أبو العباس البغدادي الشافعي ، ابن سريج ... ... 451
20 - أحمد بن فارس بن زكريا ، ابن فارس ... ... 65
21 - أحمد بن محمد بن أحمد ( المقري التلمساني ) ... ... 33
22 - أحمد بن محمد بن أحمد ، أبو العباس الجرجاني ... ... 355
23 - أحمد بن محمد بن أحمد بن الجسور ... ... 40(2/19)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24 - أحمد بن محمد بن رزق الأموي القرطبي ... ... 45
25 - أحمد بن محمد بن سلامة ، الطحاوي ... ... 175
26 - أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الطلمنكي ... ... 41
27 - أحمد بن محمد بن هانئ ، أبو بكر الطائي ، الأثرم ... ... 394
28 - أحمد بن موسى بن العباس البغدادي ، أبو بكر ، ابن مجاهد ... ... 199
29 - أحمد بن يحيى بن يزيد ، أبو العباس البغدادي ، ثعلب ... ... 201
30 - أيوب بن أبي تميمة السختياني ... ... 37
31 - إسحاق بن راهويه ... ... 333
32 - إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي كريمة ، أبو محمد الكوفي ، السدّي ... ... 273
33 - إسماعيل بن عمر الدمشقي ، ابن كثير ... ... 55
34 - ابن أبي شيبة ، أبو بكر الكوفي ... ... 410
35 - بشر بن غياث المريسي ، البغدادي ... ... 328
36 - بكر بن عبد الله المزني ... ... 271
37 - جابر بن زيد ، أبو الشعثاء البصري ... ... 393
38 - جعفر بن علبة ، الحارثي ... ... 279
39 - حسان بن ثابت الأنصاري ... ... 280
40 - الحسن بن صالح ، أبو عبد الله الكوفي ... ... 388
41 - الحسن بن يسار ، أبو سعيد البصري ... ... 334
42 - الحسين بن حسن بن محمد الحليمي الشافعي ... ... 156
43 - حسين بن محمد بن أحمد الغسّاني الجيّاني ... ... 46
44 - الحسين بن مسعود الفرّاء ، أبو محمد البغوي ... ... 125
45 - الحكم بن عتيبة الكوفي الفقيه ... ... 335
46 - حماد بن أبي سليمان ... ... 335
47 - حمزة بن حبيب الزيات ... ... 307
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة(2/20)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
48 - خلف بن عبدالملك بن بشكوال ... ... 16
49 - خلف بن قاسم بن سهل بن الدبّاغ القرطبي ... ... 41
50 - خلف بن هشام بن ثعلب البغدادي ... ... 308
51 - الخليل بن أحمد الفراهيدي ... ... 173
52 - داود بن علي الظاهري ... ... 256
53 - دحية بن خليفة الكلبي ... ... 118
54 - الراغب الأصبهاني ... ... 65
55 - الربيع بن أنس البكري ... ... 297
56 - ربيعة بن أبي عبدالرحمن فروخ ... ... 102
57 - رفيع بن مهران الرياحي البصري ، أبو العالية ... ... 326
58 - زفر بن الهذيل ، أبو الهذيل العنبري ... ... 388
59 - سعيد بن المسيب ، أبو محمد المخزومي ... ... 389
60 - سعيد بن جبير ... ... 154
61 - سفيان بن العاصي الأسدي ... ... 46
62 - سفيان بن سعيد الثوري ... ... 263
63 - سفيان بن عيينة ... ... 188
64 - سلاّم بن سليم الكوفي ، أبو الأحوص ... ... 413
65 - سليمان بن الأشعث السجستاني ، أبو داود ... ... 400
66 - سليمان بن خلف القرطبي ، أبو الوليد الباجي ... ... 52
67 - سليمان بن مهران الأسدي ، الأعمش ... ... 188
68 - سهل بن محمد بن عثمان السجستاني ، أبو حاتم ... ... 179
69 - صبحي الصالح ... ... 158
70 - الضحاك بن مزاحم الهلالي ... ... 298
71 - طاهر بن مفوّز المعافري الشاطبي ... ... 46
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
72 - طاووس بن كيسان اليماني ... ... 334
73 - عاصم بن أبي النجود الكوفي ... ... 307
74 - عامر بن شراحيل الهمداني ، الشعبي ... ... 154
75 - عبد الله بن أحمد المقدسي الحنبلي ، ابن قدامة ... ... 286
76 - عبد الله بن حبيب الكوفي ، أبو عبدالرحمن السلمي ... ... 394(2/21)
77 - عبد الله بن زيد البصري ، أبو قلابة ... ... 413
78 - عبد الله بن عامر اليحصبي ... ... 307
79 - عبد الله بن كثير المكري ... ... 307
80 - عبد الله بن محمد بن عبدالبر ( والد ابن عبدالبر ) ... ... 17
81 - عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي القرطبي ... ... 42
82 - عبد الله بن مسلم الدينوري ، ابن قتيبة ... ... 305 ، 306
83 - عبد الله بن وهب المصري المالكي ، ابن وهب ... ... 187
84 - عبدالحق بن غالب بن عبدالرحمن ، أبو محمد الغرناطي ، ابن عطية ... ... 202
85 - عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد ، السيوطي ... ... 140
86 - عبدالرحمن بن أحمد بن الحسن ، أبو الفضل الرازي ... ... 205
87 - عبدالرحمن بن القاسم المصري المالكي ، ابن القاسم ... ... 188
88 - عبدالرحمن بن عبدٍ الغفاري ... ... 122
89 - عبدالرحمن بن علي بن محمد ، أبو الفرج البغدادي ، ابن الجوزي ... ... 235
90 - عبدالرحمن بن عمر بن رسلان البلقيني ... ... 166
91 - عبدالرحمن بن عمرو بن يحمد ، الأوزاعي ... ... 263
92 - عبدالرحمن بن محمد بن عتاب بن محسن القرطبي ... ... 47
93 - عبدالرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس القرطبي ... ... 42
94 - عبدالرحمن بن مُِلّ ، أبو عثمان النهدي ... ... 124
95 - عبدالرحمن بن ناصر السعدي ... ... 299
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
96 - عبدالعزيز بن عبد الله بن باز ... ... 411
97 - عبدالغني بن سعيد ... ... 39
98 - عبدالملك بن عبد الله ، أبو المعالي الجويني ... ... 355
99 - عبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون ... ... 344
100 - عبدالوارث بن سفيان بن جبرون القرطبي ... ... 43
101 - عدي بن زيد العبادي ... ... 280
102 - عطاء بن أبي رباح ... ... 296
103 - عطية محمد سالم ... ... 163
104 - عكرمة بن عبد الله المدني ، مولى ابن عباس ... ... 152(2/22)
105 - علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري ... ... 47
106 - علي بن إسماعيل ، أبو الحسن البصري ، الأشعري ... ... 423
107 - علي بن حمزة ، أبو الحسن الكوفي النحوي ، الكسائي ... ... 307
108 - علي بن محمد بن حبيب القاضي البصري ، الماوردي ... ... 156
109 - عمر بن عبدالعزيز ... ... 273
110 - عمرو بن دينار ... ... 241
111 - عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي ، أبو إسحاق السبيعي ... ... 394
112 - عمرو بن محمد بن عمرو ، أبو الفرج المالكي ... ... 254
113 - عنترة بن شداد العبسي ... ... 279
114 - عياض بن موسى اليحصبي ، القاضي عياض ... ... 53
115 - غيلان بن عقبة ، ذو الرمة ( الشاعر ) ... ... 177
116 - الفضل بن زياد ... ... 254
117 - قاسم بن أصبغ بن محمد البياني ... ... 43
118 - القاسم بن سلامة الهروي ، أبو عبيد ... ... 175
119 - القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ... ... 334
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
120 - قتادة بن دعامة السدوسي ... ... 37
121 - الليث بن سعد ، أبو الحارث المصري ... ... 263
122 - مجاهد بن جبير ... ... 116
123 - مجاهد بن عبد الله العامري ... ... 31
124 - محمد الأمين الشنقيطي ... ... 284
125 - محمد الطاهر بن عاشور ... ... 304
126 - محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي ، ابن قيّم الجوزية ... ... 54
127 - محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله الحُميدي ... ... 48
128 - محمد بن أحمد ، أبو منصور الهروي ، الأزهري ... ... 202
129 - محمد بن أحمد بن أبي بكر المالكي المفسر ، القرطبي ... ... 145
130 - محمد بن أحمد بن عثمان ( الذهبي ) ... ... 30
131 - محمد بن أحمد بن محمد ، أبو عاصم العباد الشافعي ... ... 355
132 - محمد بن إبراهيم ، أبو بكر النيسابوري ، ابن المنذر ... ... 345(2/23)
133 - محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... ... 158
134 - محمد بن إدريس الهاشمي القرشي الشافعي ... ... 147
135 - محمد بن إسحاق ، أبو بكر النيسابوري ، ابن خزيمة ... ... 384
136 - محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ... ... 345
137 - محمد بن السائب الكوفي ، الكلبي ... ... 179
138 - محمد بن الطيب الباقلاني البصري المالكي ، القاضي أبو بكر ... ... 244
139 - محمد بن جرير الطبري ( ابن جرير ) ... ... 132
140 - محمد بن حبان البستي ، ابن حبان ... ... 191
141 - محمد بن سيرين ... ... 412
142 - محمد بن صالح بن عثيمين ... ... 159
143 - محمد بن عبد الله ( جد ابن عبدالبر ) ... ... 17
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
144 - محمد بن عبد الله ، أبو بكر الأندلسي ، ابن العربي ... ... 396
145 - محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ ... ... 189
146 - محمد بن عبد الله المصري الشافعي الزركشي ... ... 155
147 - محمد بن عبد الله بن الوليد المعيطي ... ... 40
148 - محمد بن عبدالعظيم ، الزرقاني ... ... 157
149 - محمد بن علي بن محمد الشوكاني ... ... 284
150 - محمد بن عمر بن الحسين ، فخر الدين الرازي ... ... 156
151 - محمد بن عيسى بن سورة ، أبو عيسى الترمذي ... ... 376
152 - محمد بن كعب القرظي ... ... 359
153 - محمد بن محمد أبو شهبة ... ... 141
154 - محمد بن محمد بن خطاب البستي ، أبو محمد ، الخطّابي ... ... 146
155 - محمد بن محمد بن محمد ، أبو حامد الطوسي ، الغزالي ... ... 424
156 - محمد بن محمد بن محمد الدمشقي ، ابن الجزري ... ... 171
157 - محمد بن مسلم ، أبو بكر ، ابن شهاب الزهري ... ... 116
158 - محمد بن مفلح بن محمد ، أبو عبد الله الحنبلي ، ابن مفلح ... ... 346(2/24)
159 - محمد بن ناصر الدين بن نوح ، أبو عبدالرحمن ، الألباني ... ... 414
160 - محمد بن يحيى بن حبّان الأنصاري المدني ... ... 358
161 - محمد عبده بن حسن ( محمد عبده ) ... ... 157
162 - مسروق بن الأجدع ... ... 126
163 - مسلم بن يسار ، أبو عبد الله البصري ... ... 412
164 - مضر بن نزار ... ... 176
165 - معمر بن مثنّى البصري ، أبو عبيدة ... ... 310
166 - مقاتل بن سليمان الخرساني ، المفسر ... ... 156
167 - مكي بن أبي طالب ، أبو محمد القيسي ... ... 235
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم العَلَم ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
168 - مناع القطّان ... ... 137
169 - المنصور بن أبي عامر ... ... 30
170 - منصور بن إسماعيل الفقيه ... ... 85
171 - منصور بن عمار بن كثير الواعظ ... ... 329
172 - منصور بن محمد بن عبدالجبار ، أبو المظفر السمعاني ... ... 367
173 - موسى بن عبدالرحمن بن خلف بن أبي تليد الشاطبي ... ... 49
174 - نافع بن عبدالرحمن ، أبو رويم المقرئ المدني ... ... 307
175 - النعمان بن المنذر ... ... 281
176 - النعمان بن ثابت الكوفي ، أبو حنيفة ... ... 273
177 - وكيع بن الجراح ، أبو سفيان الكوفي ... ... 328
178 - ولي الله أحمد بن عبدالرحمن الهندي ، الدهلوي ... ... 248
179 - يحبى بن أكثم ... ... 229
180 - يحيى بن سعيد الأنصاري ... ... 358
181 - يحيى بن شرف النووي ... ... 131
182 - يحيى بن وثّاب ... ... 413
183 - يحيى بن يحيى الليثي ... ... 56
184 - يزيد بن القعقاع ، أبو جعفر المدني ... ... 308
185 - يعقوب بن إسحاق الحضرمي ... ... 307
186 - يعيش بن سعيد بن محمد بن الوراق القرطبي ... ... 44
187 - يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن عديس الأنصاري ... ... 49
188 - يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث بن الصفّار القرطبي ... ... 44
* * *
[5] - فهرس المصطلحات المعرَّفة(2/25)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصطلح ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - المنهج ... ... 66
2 - العلم ... ... 66
3 - القرآن ... ... 67
4 - علوم القرآن ... ... 67
5 - الأصل ... ... 79
6 - القاعدة ... ... 80
7 - الضابط ... ... 80
8 - الوحي ... ... 109 ، 110 ، 111
9 - النزول - نزول القرآن ... ... 113
10 - الحرف ... ... 171
11 - سبعة ... ... 170
12 - اللغة ... ... 218
13 - اللهجة ... ... 218
14 - القراءة الشاذة ... ... 223
15 - النسخ ... ... 231 ، 232
16 - البَدَاء ... ... 238
17 - الحقيقة ... ... 283
18 - المجاز ... ... 283
19 - الظاهر ... ... 286
20 - المؤول ... ... 286
21 - المحكم ... ... 298 ، 299
22 - المتشابه ... ... 300
23 - التأويل ... ... 308
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصطلح ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24 - الآداب ( الأدب ) ... ... 314
25 - المراء ... ... 324
26 - المصحف ... ... 332
27 - الحِزْب ... ... 360
28 - تحزيب القرآن ... ... 360
29 - آداب القرآن ... ... 314
30 - الترتيل ... ... 366 ، 367
31 - الهَذّ ... ... 367
32 - التحقيق ... ... 370
33 - التدوير ... ... 370
34 - الحَدْر ... ... 370
35 - سجدات التلاوة ... ... 379
* * *
[6] - فهرس المحتويات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقدمة وفيها : ... ... 1 - 12(2/26)
1 - أهمية الموضوع ... ... 2
2 - أسباب اختيار الموضوع ... ... 3
3 - خطة البحث ... ... 5
4 - منهج كتابة البحث ... ... 8
القسم الأول : ابن عبد البر ومنهجه في علوم القرآن ... ... 13 - 103
وفيه فصلان :
الفصل الأول : ترجمة ابن عبد البر ... ... 14 - 63
من خلال تمهيد والمباحث العشرة التالية :
التمهيد : ... ... 15
المبحث الأول : نسبه ومولده ... ... 16
المبحث الثاني : نشأته ... ... 17
المبحث الثالث : الحالة السياسية في عصره ... ... 19
المبحث الرابع : الحالة الاجتماعية في عصره ... ... 26
المبحث الخامس : الحالة العلمية والثقافية في عصره ... ... 29
المبحث السادس : طلبه للعلم ... ... 34
المبحث السابع : شيوخُه وتلاميذه ... ... 38
المبحث الثامن : مكانته العلمية وثناء العلماء عليه ... ... 51
المبحث التاسع : مؤلفاته وآثاره ... ... 55
المبحث العاشر : وفاته - رحمه الله - ... ... 63
الفصل الثاني : منهج ابن عبد البر في علوم القرآن ... ... 64 - 103
من خلال تمهيد وثلاثة مباحث :
التمهيد ... ... 65
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول : مسلك ابن عبدالبر في دراسة موضوعات علوم القرآن ... ... 70
المبحث الثاني : الطريقة التي سار عليها ابن عبدالبر في دراسة موضوعات علوم القرآن ... 74
المبحث الثالث : الأصول والقواعد والضوابط التي اعتمد عليها ابن عبدالبر وانطلق منها
في كتابة موضوعات علوم القرآن ... ... 79 - 103
وتحته مطلبان :
المطلب الأول : الأصول التي اعتمد عليها ابن عبد البر في كتابة ودراسة موضوعات
علوم القرآن ... ... 81
المطلب الثاني : قواعد وضوابط في دراسة ابن عبد البر لموضوعات علوم القرآن ... ... 93
القسم الثاني : جهود ابن عبد البر في علوم القرآن - دراسة وموازنة ... ... 104 - 455(2/27)
من خلال تمهيد وثمانية موضوعات :
التمهيد ... ... 105
الموضوع الأول : الوحي ونزول القرآن ... ... 108 - 168
وفيه تمهيد ومبحثان :
التمهيد ... ... 109
المبحث الأول : كيفية نزول الوحي وأنواعه ... ... 115 - 149
من خلال ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : صور وكيفيات نزول الوحي ... ... 121
المطلب الثاني : آثار الوحي ومظاهره على النبي صلى الله عليه وسلم ... ... 142
المطلب الثالث : أقسام الوحي ... ... 145
المبحث الثاني : كيفية نزول القرآن ... ... 150
الموضوع الثاني : نزول القرآن على سبعة أحرف ... ... 169 - 226
وفيه تمهيد وأربعة مباحث :
التمهيد ... ... 170
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول : معنى الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن ... ... 173
المبحث الثاني : صلة المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة ... ... 210
المبحث الثالث : لغة القرآن الكريم ... ... 217
المبحث الرابع : حكم القراءة بالشواذ ... ... 221
الموضوع الثالث : النسخ في القرآن الكريم ... ... 227 - 275
وفيه تمهيد وأربعة مباحث :
التمهيد ... ... 228
المبحث الأول : ثبوت النسخ في أحكام الله في القرآن ... ... 234
المبحث الثاني : أوجه النسخ في القرآن ... ... 240
المبحث الثالث : حكم نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن ... ... 254
المبحث الرابع : قواعد وضوابط في النسخ في القرآن ... ... 267
الموضوع الرابع : الحقيقة والمجاز في القرآن الكريم ... ... 276 - 291
الموضوع الخامس : المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ... ... 292 - 312
وفيه تهيد ومبحثان :
التمهيد ... ... 293
المبحث الأول : معنى المحكم والمتشابه ... ... 297
المبحث الثاني : طريقة السلف في التعامل مع المحكم والمتشابه ... ... 305
الموضوع السادس : آداب القرآن الكريم ... ... 313 - 377(2/28)
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث :
التمهيد ... ... 314
المبحث الأول : آداب متعلقة بالقرآن الكريم ... ... 315 - 331
من خلال مطلبين :
المطلب الأول : الإيمان بالقرآن الكريم ... ... 315
المطلب الثاني : تحريم المراء في القرآن الكريم ... ... 323
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الثاني : آداب متعلقة بالمصحف ... ... 332 - 348
من خلال مطلبين :
المطلب الأول : الطهارة لمس المصحف ... ... 333
المطلب الثاني : حكم السفر بالقرآن إلى أرض العدو ... ... 343
المبحث الثالث : آداب متعلقة بقراءة القرآن ... ... 349 - 377
من خلال أربعة مطالب :
المطلب الأول : الحث على حفظ القرآن وتعاهده وتفهم معانيه ... ... 350
المطلب الثاني : تحزيب القرآن ... ... 358
المطلب الثالث : كيفية القراءة ... ... 366
المطلب الرابع : ماجاء في الطهارة لقراءة القرآن ... ... 373
الموضوع السابع : سجدات القرآن الكريم ... ... 378 - 418
وفيه تمهيد خمسة مباحث :
التمهيد ... ... 379
المبحث الأول : حكم سجود التلاوة ... ... 382
المبحث الثاني : عدد سجدات القرآن ... ... 390
المبحث الثالث : الطهارة لسجود التلاوة ... ... 405
المبحث الرابع : صفة سجود التلاوة ... ... 412
المبحث الخامس : قراءة السجدة في الصلاة ... ... 417
الموضوع الثامن : فضائل القرآن الكريم ... ... 419 - 453
وفيه تمهيد ومبحثان :
التمهيد ... ... 420
المبحث الأول : هل في القرآن شيء أفضل من شيء ... ... 422
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع ... ... ... ... ... ... رقم الصفحة(2/29)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الثاني : ما جاء في فضائل بعض السور ... ... 432 - 453
وتحته أربعة مطالب :
المطلب الأول : ماجاء في أم القرآن ( الفاتحة ) ... ... 432
المطلب الثاني : ماجاء في فضل { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا = 1 } ... ... 441
المطلب الثالث : ما جاء في قراءة { تَبَـ!ــرَكَ ا؟لَّذِي بِيَدِهِ ا؟لْمُلْكُ } ... ... 443
المطلب الرابع : ما جاء في فضل { قُلْ هُوَ ا؟للَّهُ أَحَدٌ = 1 } ... ... 445
الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث ، وبعض وصايا الباحث ... ... 454 - 458
قائمة المراجع ... ... 459 - 480
فهارس البحث : ... ... 481 - 520
1 ) فهرس الآيات القرآنية ... ... 482
2 ) فهرس الأحاديث النبوية ... ... 496
3 ) فهرس الآثار ... ... 502
4 ) فهرس الأعلام ... ... 506
5 ) فهرس المصطلحات المعرّفة ... ... 514
6 ) فهرس المحتويات ... ... 516
* * *(2/30)