عبارات منقولة عن السلف في الوقف والابتداء
وتفصيل القول في الوقف على قوله تعالى: ( وما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم )
وفيه بيان أقوال العلماء في معنى المحكم و المتشابه
تأليف
عبد الله علي الميموني المطيري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى و صلاة وسلام على عباده الذين اجتبى ومن تبعهم أبدا
وبعد
فهذا البحث ملحق للفائدة بالبحث الموسوم بـ: ( حكم الوقف على رؤوس الآيات ). وفيه عبارات منقولة عن السلف في الوقف والابتداء.
وتفصيل للقول في الوقف على قوله تعالى: ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ). وفيه بيان أقوال العلماء في معنى المحكم و المتشابه.
وقد نقلته من الرسالة المطبوعة هدية لإخواني بل لجميع المسلمين رجاء أن يستفيدوا منه ، وبخاصة من ليست عنده رسالتي في فضل علم الوقف و الابتداء.
تمهيد
أهمية علم الوقف والابتداء
إن القارئ للقرآن الكريم لابد أن يقف لانقطاع نَفَسه ، وحيث وقف مختارا فعليه أن يختار الوقف الذي لا يخل بالمعنى . ووقفه إما وقف اضطرار ، أو وقف اختيار .
فوقف الاضطرار لا عتب على القارئ فيه ، لكن عليه أن يستأنف ويحسن الابتداء ويتخير حسن الوقف ، فبذلك تظهر المعانى ويتبين إعجاز القرآن، قال ابن الجزري :
(لما لم يمكن القارئ أن يقرأ السورة أو القصة في نفس واحد ، ولم يجز التنفس بين كلمتين حالة الوصل ،بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة وجب حينئذ اختيار وقف للتنفس والاستراحة ، وتعين ارتضاء ابتداء بعد التنفس والاستراحة ) (1) .
و لقد دلت الأدلة على أهمية مراعاة الوقف والابتداء ؛ وثبت واشتهر اعتناء السلف بذلك . قال تعالى :
{ وَرتِّلِ القرآن ترتيلا } (2) فهذا أمر من الله تعالى بترتيل القرآن ، وندب منه سبحانه للعباد إلى ترتيل كلامه المنزل ؛ ومراعاة الوقوف داخلة في ذلك إن شاء الله تعالى ، قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله : { وَرتِّلِ القرآن ترتيلا } :
__________
(1) النشر 1 / 225
(2) المزمل -آية- 4(1/1)
(بينه تبيينا ) (1) ؛ وقال الحسن : اقرأه قراءة بينة . وقال مجاهد : بعضه على إثر بعض على تؤدة وقال أيضا : ( ترسل فيه ترسلا ) . (2) قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى :
:( اقرأه قراءة على تمهل ، فإنه يكون عونا على فهم القرآن ، وتدبره ) اهـ . . (3)
وقال تعالى : ( الرَّحمَن* علَّم القرءان *خلق الإنسن * علَّمه البيان ) (4) قال ابن النحاس: ( من التبيين تفصيل الحروف والوقف على ما تم معناه منها) اهـ (5) .
وقد حكى ابن النحاس وأبوعمرو الداني وغيرهما ، إجماع العلماء على أهمية مراعاة الوقف والابتداء (6) واستدلوا على ذلك بقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
__________
(1) رواه أحمد بن منيع في مسنده كما في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر -النسخة المسندة : ( ج4[3777] ) ومختصر اتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري : (ج8[6590] ) ورواه الطبري :جامع البيان 12/1/127 وابن النحاس القطع 1 /74 وينظر : الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/277 .
(2) مصنف عبد الرزاق 2 / 490 ومصنف ابن أبي شيبة 10 / 525 حامع البيان 12/1/127 والتمهيد في معرفة التجويد لأبي العلاء الهمذاني : صـ 141 و الدر المنثور : 6/277
(3) تفسير ابن كثير 4/363 .وقيل :إن عليا رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال : ( الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ) النشر 1/298 و316 . ولم أجده في التفاسير التي تعتني بالمأثور وقد رواه الهذلي في الكامل ورقة 34 ( مخطوط ) ينظر الوقف والابتداء للغزال 1/ 6 رسالة دكتوراة تحقيق الدكتور العثمان إشراف الشيخ محمد محمد سالم محيسن .
(4) الرحمن -آية- 1و2و3و4
(5) القطع لابن النحاس 1/74
(6) القطع 1/ 87 و المكتفى ص 135 و النشر 1/ 225 .(1/2)
( لقد عشنا برهة من دهرنا ، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم ، فنتعلم حلالها ، وحرامها ، و ما ينبغي أن يوقف (1) عنده منها ، كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن ، ولقد رأيت اليوم رجالا ، يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان ، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ، وينثره نثر الدَّقَل (2) ) .
رواه الطبراني في الأوسط (3) وابن النحاس (4) والحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة ، و وافقه الذهبي (5) ، والبيهقي (6)
__________
(1) في رواية الطبراني والبيهقي :( يقف ) :مجمع الزوائد 1 / 170 والسنن الكبرى 3 / 120 .
(2) بفتح الدال المهملة بعدها قاف مفتوحة وهو رديء التمر ويابسه ، و ما ليس له اسم خاص وقيل : هو أردأ التمر : ( غريب الحديث لإبراهيم الحربي 2 / 889 والنهاية لابن الأثير 2/172 )
(3) مجمع البحرين في زوائد المعجمين للهيثمي 1 / رقم 209 ومجمع الزوائد 1 / 170
(4) القطع لابن النحاس 1/87
(5) المستدرك على الصحيحين 1/35 وفي طبعة عبد السلام علوش برقم : ( 108 ) ج 1/ 196
(6) السنن الكبرى للبيهقي 3/120 و ينظر : الإتقان للسيوطي1/ 110 .
قال الهيثمي بعد أن عزاه للطبراني في الأوسط :( رجاله رجال الصحيح ) اهـ : مجمع الزوائد :
1 / 170. قلت : وهو من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة الرقي عن القاسم بن عوف الشيباني البكري ، و رجاله كلهم ثقات روى لهم الشيخان إلا القاسم بن عوف فقد روى له مسلم وابن ماجة وتُكُلِّم فيه فتركه شعبة . وقال أبوحاتم : ( مضطرب الحديث ومحله عندي الصدق ) .وقال ابن عدي هو ممن يكتب حديثه . وذكره ابن حبان في الثقات . وفي التقريب : (صدوق يُغرب ) : (( ( الجرح والتعديل 7/(659) و الثقات لابن حبان 5/305 وتهذيب الكمال 23/400 وتهذيب التهذيب 8 / 326 – 328 ) )) . وسنده يدور على عبيد الله بن عمرو وهو صحيح عنه . فقد رواه الطبراني و ابن النحاس من طريق عبد الله بن جعفر بن غيلان الرقي القرشي عنه وهو ثقة حافظ تغير بأَخَرَةٍ ولم يفحش اختلاطه وقد اختلط من سنة 218 هـ إلى وفاته سنة 220هـ ووثقه يحيى بن معين وأبو حاتم : ( التاريخ الكبير للبخاري 5 / رقم 150 والجرح والتعديل 5 / رقم 104 وثقات ابن حبان 8 / 351 وتهذيب الكمال 14 / 377 – 378 وتهذيب التهذيب 5 / 173 والميزان 2 / رقم 2249 ) . و في الكاشف : ( ثقة حافظ ) : رقم :2691 وفي التقريب: ( ثقة لكنه تغير بأَخَرَةٍ فلم يفحش اختلاطه ) اهـ .
ورواه الحاكم من طريق هلال بن العلاء الرقي عن والده عن عبيد الله بن عمرو . وهي طريق ضعيفة ، لضعف العلاء بن هلال الباهلي الرقي والد هلال بن العلاء ، قال أبو حاتم منكر الحديث وضعفه غيره : ( تهذيب التهذيب 8 / 193 – 194 )
و تابعهما عبيد بن هشام الحلبي عند البيهقي ، ولا بأس به . قال: أبو حاتم وصالح جزرة في عبيد بن هشام الحلبي: ( صدوق ) وضعفه النسائي ( تهذيب التهذيب 7 / 76 – 77 ) .ثلاثتهم : (عبد الله بن جعفر بن غيلان الرقي والعلاء بن هلال الباهلي وعبيد بن هشام الحلبي ) رووه عن عبيد الله بن عمرو به فالأثر حسن لما في القاسم بن عوف من الكلام الذي تقدم وقد تفرد به . كما أن لبعض ألفاظه شواهد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم .(1/3)
. وسنده جيد .
والشاهد منه قوله : ( وما ينبغي أن يوقف عنده منها ) . وبه استدل ابن النحاس (1) والداني (2) وغيرهم من علماء القراءات والوقف (3) ، وعبارة الداني : ( ففي قول ابن عمر دليل على أن تعليم ذلك توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه إجماع من الصحابة رضي الله عنهم ) (4)فهذا دليل قد ذكره كثير من العلماء مستدلين به على الوقف والابتداء . وقد عارض ذلك الشيخ ملا القاري في شرحه على الجزرية بعد أن ذكره بقوله : ( ولا يخفى أن قوله : (( وما ينبغي أن يوقف عنده منها )) لا يبعد أن يراد به الآيات المتشابهات في معناها ، فليس في الحديث نص على الوقف المصطلح
عليه ) . اهـ . (5) أقول : كلا المعنيين محتمل من جهة اللفظ ، وقوى الاحتمال الأول كلام أولئك الأئمة في الاستدلال به على مراعاة الوقوف .
وروى الإمام أبو عمرو الداني عن ميمون بن مهران (6) التابعي قال :
( إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتما عليه ألا يقصر عن العشر ، إنما كانت القراء تقرأ القصص إن طالت أو قصرت يقرأ أحدهم اليوم { إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } (7) ويقوم في الركعة الثانية فيقرأ { ألا إنهم هم المفسدون } (8) ) . (9) ثم قال أبو عمرو رحمه الله تعالى : ( هذا يبين أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتجنبون في قراءتهم القطع على الكلام الذي يتصل بعضه ببعض ، ويتعلق آخره بأوله لأن ميمون بن مهران إنما حكى ذلك عنهم إذ هو من كبار التابعين وقد لقي جماعة منهم ) اهـ . (10)
واشتهر اعتناء السلف رحمهم الله تعالى بهذا العلم حتى عد ابن الجزري ذلك متواترا عنهم (11) ، وكانوا يعتنون بذلك حال الإقراء ، قال ابن الجزري :
__________
(1) القطع صـ 87
(2) المكتفى صـ 134
(3) ينظر : النشر 1 / 225 والبرهان للزركشي 1 / 499
(4) المكتفى صـ134
(5) شرح المقدمة الجزرية ( المنح الفكرية على متن الجزرية ) صـ 270
(6) ميمون بن مهران الجزري أبو أيوب الرقي من ثقات التابعين ، و من علمائهم . سمع من ابن عباس وابن عمر ، ( ت :118 هـ ) . ترجمته في :حلية الأولياء لأبي نعيم 4/82 –97 وتهذيب الكمال 29/ 210 –227 وغيرها .
(7) البقرة -آية- 11
(8) البقرة -آية- 12
(9) المكتفى ص 135
(10) المكتفى ص136
(11) النشر 1/225(1/4)
( صح بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح ، كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين ، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم ، و أبي عمرو بن العلاء ،ويعقوب الحضرمي ، وعاصم بن أبي النجود وغيرهم من الأئمة وكلامهم في ذلك معروف ، و نصوصهم عليه مشهورة في الكتب ، ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحدا إلا بعد معرفته الوقف والابتداء .
وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف ، ويشيرون إلينا فيه بالأصابع ، سنة أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين ) اهـ . (1)
وقد حظ العلماء على تعلم الوقف والابتداء والعمل به ، وبينوا عظيم فضيلته ، وذلك مذكرو في مقدمات كثير من كتب الوقف والابتداء ، وفي كثير من كتب فن التجويد ومضمن في كتب علوم القرآن ، فمما قالوه قول ابن الأنباري رحمه الله تعالى : ( من تمام معرفة القرآن ومعانيه ، وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه ، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام ، والوقف الكافي الذي ليس بتام ، والوقف القبيح الذي ليس بتام
ولا كاف ) . اهـ (2)
وقول ابن النحاس : ( قد صار في معرفة الوقف والائتناف التفريق بين المعاني ، فينبغي لمن قرأ القرآن أن يتفهم ما يقرأه ويشغل فلبه به ويتفقد القطع والائتناف ، ويحرص على أن يفهم المستمعين في الصلاة وغيرها ، وأن يكون وقفه عند كلام مستغن أو شبيه وأن يكون ابتداؤه حسنا ) اهـ . ( (3) ) وقول الإمام الداني : ( معرفة ما يتم الوقف عليه وما يحسن وما يقبح من أجل أدوات القراء المحققين والأئمة المتصدرين وذلك مما تلزم معرفته الطالبين وسائر التالين إذ هو قطب التجويد وبه يوصل إلى نهاية التحقيق ) اهـ . (4)
ولأنه يتوصل بهذا العلم لفهم القرآن جعل الأئمة تعلمه أمرا لابد منه لمن أراد معرفة معاني القرآن واستنباط الأدلة منه (5) ، وجعلوا ذلك مما يعين على الغوص على فرائد القرآن ودرره (6) .
__________
(1) النشر 1/225
(2) الإيضاح في الوقف والابتداء 1 / 108
(3) القطع والائتناف ص 97
(4) شرح القصيدة الخاقانية للداني 2 / 96 رسالة ماجستير – تحـ – غازي بنيدر العمري إشراف – د – محمد ولد سيدي حبيب 1419هـ – بجامعة أم القرى . . وينظر ما سيأتي إن شاء الله تعالى ص 96 مبحث أهمية علم الوقف والابتداء .
(5) ينظر الاقتداء في الوقف لابن النكزاوي 1/198 والإتقان 1/110
(6) جمال القراء ص553(1/5)
وقال علم الدين السخاوي رحمه الله : ( ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دونه العلماء تبيين معاني القرآن العظيم وتعريف مقاصده وإظهار فوائده ، وبه يتهيأ الغوص على درره
وفرائده ) . (1)
فهذا العلم ينفتح بتعلمه وإعمال الفكر فيه من مقاصد القرآن ومعانيه شئ عظيم ، فالقارئ إذا لم يراع الوقف بحسب المعنى فلن يفهم المعنى ، وربما فوت على السامع فهم المعنى وقد لا يظهر بذلك وجه الأعجاز (2) .
ولذا فإن معرفته متأكدة وفي ذلك يقول الصفاقسي :
( ومعرفة الوقف والابتداء متأكدة غاية التأكيد إذ لا يتبين معنى الكلام ويتم على أكمل وجه إلا بذلك ) اهـ . (3) ويقول المقرئ أبو الأصبغ بن الطحان الأندلسي : ( أليس من الخطأ العظيم أن يقرأ كتاب الله تعالى فيقطع على القطع يفسد به المعنى …الخ ) اهـ . (4) ولأهمية علم الوقف والابتداء ذكر الأئمة أن إتقانه ومعرفته يحتاج إلى معرفة علوم أخرى قال الإمام أبو بكر بن مجاهد رحمه الله تعالى :
( لا يقوم بالتمام إلا نحوي عالم بالقراءة عالم بالتفسير ، عالم بالقصص وتلخيص بعضها من بعض عالم باللغة التي نزل بها القرآن ) اهـ . ( (5) )
وقد تكلم علماء الوقف والابتداء على جميع الآيات والجمل القرآنية ، وبينوا ما يصلح الوقف عليه ، وما لا يصلح ، ونهوا عن الوقف على وقوف بعينها ، ووضعوا لذلك قواعد ، كقولهم لا يوقف على المبتدأ دون خبره ولا على الشرط دون جزائه إلى غير ذلك مما ذكروه و مثلوا له واختلفوا في بعضه .
وذكروا الوقف التام ، وما دونه ، وبينوا الوقوف ، وحرروا الكلام على المعاني مستمدين من النقول في التفسير والحديث والأثر ومعتمدين على العربية . فكما بنى المفسرون كلامهم على ذلك بنى علماء الوقف والابتداء وأفادوا من التفاسير وأضافوا فوائد كثيرة .
وربما نقل عنهم كبار المفسرين ، كما يوجد من نقل القرطبي وغيره من كتاب الإمام ابن الأنباري الإيضاح في الوقف والابتداء ، وهو من أجل من صنف في هذا الفن وكتابه مطبوع .
وقد اعتنى به أئمة القراء تصنيفا وإقراء . وهو من أوائل العلوم الإسلامية التي صنف فيها المتقدمون من السلف .
__________
(1) المصدر السابق
(2) تنبيه الغافلين ص 120 و ينظر : البرهان 1/493 والإيضاح لابن الأنباري 1/108
(3) تنبيه الغافلين الموضع السابق
(4) نظام الأداء ص20
(5) القطع والائتناف ص 94(1/6)
ومن تصانيف المتقدمين في هذا العلم المبارك : كتاب : شيبة بن نِصَاح مولى أم سلمة رضي الله عنها أتي به إليها وهو صغير فمسحت رأسه ودعت له وثقه النسائي وغيره
( ت : 130 هـ ) (1)جعله ابن الجزري أول من صنف في هذا
و قال : (كتابه مشهور ) (2) .
و مقطوع القرآن وموصوله : لعبد الله بن عامر اليحصبي : ( ت : 118 هـ ) ذكركتابه ابن النديم ، ولم أجده عند غيره ، وابن عامر أقدم من شيبة وفاة و شيوخا ، وقد تعاصرا ، كما يظهر من وفاتهما وترجمتهما ، ولذا ذكرهما الحافظ الذهبي في معرفة القراء في طبقة واحدة (3) ، فلا يمتنع أن يكون كتاب شيبة أقدم ، وإن كان عبد الله بن عامر أكبر سنا ، على أن كتاب شبة بن نصاح أشهر .
__________
(1) شيبة بن نصاح مولى أم سلمة رضي الله عنها ، أتي به إليها وهو صغير فمسحت رأسه ودعت له بالخير والصلاح قال النسائي ( ثقة ) ووثقه غيره مدني مقرئ . ترجمته في كثير من الكتب منها : تاريخ البخاري الكبير 4/ترجمة 2662والجرح والتعديل 4/ ترجمة ( 1471 ) وتهذيب الكمال 12/608 وبقية مصادر الترجمة في هامشه للمحقق . ويزاد عليه :غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار لأبي العلاء الهمذاني 1/16ومعرفة القراء الكبار 1/79 . و نصاح : ( بكسر أوله والتخفيف وكان أبو سعد الإدريسبي يقوله بفتح ثم يشد ) اهـ .: ( الإكمال 7 / 273 و تبصير المنتبه بتحرير المشتبه للحافظ ابن حجر 4 / 1415 ) .
(2) غاية النهاية 1/329 و مقدمة محقق المكتفى ص 60 والبرهان - تحـ الدكتور المرعشلي – 1/494 ومعجم مصنفات القرآن الكريم للدكتور علي شواخ المشعبي 1/268 ومقدمة محقق علل الوقوف للسجاوندي 1/24 –وفيه ابن ناصح خطأ – والوقف والابتداء للغزال مقدمة المحقق 1/ 8.
(3) ينظر معرفة القراء 1 / ترجمة ( رقم 34 ) و ( رقم 36 ) " طبعة استانبول- تحـ - د طيار قولاج ( 1416 هـ ) .(1/7)
كما ألف فيه من القراء السبعة : أبو عَمرو بن العلاء ( ت : 154هـ ) إمام النحو والعربية وأحد القراء السبعة وكتابه من الكتب التي ورد بها الخطيب البغدادي إلى بغداد وحصل على إجازة بروايته (1) ، وحمزة بن حبيب الزيات المقرئ الزاهد أحد القراء السبعة ( ت ـ 156 ) (2) و نافع بن أبي نُعيم إمام أهل المدينة أحد القراء السبعة ( ت : 169هـ ) (3)، وعلي بن حمزة الكسائي ( ت : 189 ) إمام العربية و أحد القراء السبعة (4) ، وغيرهم من أئمة القراء المشهورين في مختلف العصور والأمصار ،كما صنف فيه أيضا الأئمة المشهورون من علماء العربية ، كالفراء ، وأبي عبيدة معمر بن المثنى والأخفش الأوسط ، وأبي حاتم سهل السجستاني وغيرهم .
لقد جاء عن السلف رحمهم الله عبارات في الوقف على بعض الآيات ، بستفاد منها اعتنائهم بمراعاة الوقوف و الابتداء ، و يستنبط منها فوائد في التفسير،فمن ذلك . قال ابن النحاس رحمه الله: ( سئل علي رضي الله عنه: عن قول الله تعالى: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ..وقد رأينا الكافر يقتل المؤمن : فقال : اقرأ ما قبلها :
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (النساء: من الآية141) .قال ابن النحاس : لما اتصل الكلام بما قبله تبين المعنى وعرف المشكل ) اهـ . (5) وهذه الآية من قوله تعالى :
__________
(1) تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين 1 / 22 نقلا عن مشيخة الخطيب البغدادي – مخطوط بالظاهرية – مجموع : 18 ( 128 ب ) .
(2) الفهرست لابن النديم صـ 54 ( طبعة دار الكتب العلمية ) و معجم مصنفات القرآن الكريم 1 / 268
(3) ذكر كتابه ابن النحاس القطع والائتناف ص ـ 75 وابن النديم صـ 54
(4) اسم كتابه مقطوع القرآن وموصوله : ذكر كتابه : ابن النديم : الفهرست : صـ 98 و ياقوت : معجم الأدباء 7 / 203 و الذهبي : معرفة القراء 1 / 127 ( 45 ) .
(5) القطع صـ 91(1/8)
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) . (النساء:141) وقول علي رضي الله عنه رواه الثوري في تفسيره (1) وعبد الرزاق في تفسيره من طريقه (2) وابن جرير (3) والحاكم في المستدرك (4) : جميعهم من طريق الثوري عن الأعمش عن ذر عن يُسَيع الكندي :( جاء رجل إلى ابن أبي طالب فقال كيف تقرأ هذه الآية :
( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) وهم يقتلون ؟ فقال علي رضي الله عنه: اُدنُه ثم (قال ) ((فالله يحكم بينهم يوم القيامة) ) ) اهـ .
فهذه الآية لا يظهر معناه إلا بما قبلها وقد أجمع المفسرون على
هذا . (5)
وقال الشعبي : ( إذا قرأت : ( كلّ من عليها فان ) ( (6) ) ، فلا تسكت حتى تقرأ ( ويبقى وجه ربك ذو الجلل والإكرام ) ( (7) ) ) .
وقد صححه عن الشعبي الإمام ابن الجزري ( (8) ) .
تنبيه : مصنفات المتقدمين في الوقف والابتداء ربما سميت بكتب ( التمام ) ، وبـ ( المقطوع والمفصول ) .
وقال أبونهيك الأسدي ( (9) ) رحمه الله تعالى : ( إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة :
__________
(1) تفسير الثوري ص 98
(2) تفسير عبد الرزاق 1 / صـ 480
(3) تفسير ابن جرير 9 / 327
(4) مستدرك الحاكم 2 / 309
(5) تفسير القرطبي 5 / 419 والبحر لأبي حيان 3 / 376 وتفسير ابن كثير 2 / 437
(6) الرحمن – 26
(7) الرحمن – 27
(8) رواه ابن أبي حاتم كما في : الدر المنثور 6 / 143 وينظر النشر 1 / 225
(9) عثمان بن نهيك تابعي مقرئ روى عن ابن عباس رضي الله عنهما و لشهرتة بالكنية يجعله بعض الحفاظ ممن لا يعرف إلا بكنيته و لا يعرف اسمه : ثقات ابن حبان 5 / 582 والكاشف رقم ( 3745 ) وتهذيب التهذيب 7 / 156 .(1/9)
( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ) ( (1) ) فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا ) اهـ . ( (2) )
ومراده أن الوقف تام على : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) . ثم يبتدأ ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) . فهم لا يعلمون تأويل المتشابه ولكنهم يكلون علمه إلى الله تعالى (3) ، وعليه فالواو لاستئناف خبر عن الراسخين في العلم وليست عاطفة . والراسخون على هذا : ( مبتدأ ) خبره : ( يقولون آمنا به ) . والقول بأن الرسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه هو الصحيح ، وهو مروي عن أبي بن كعب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعائشة وعبد الله بن عباس في رواية طاوس عنه (4)
__________
(1) من قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7) .
(2) تفسير الطبري 3 / 183 والدر المنثور : 2 / 7 . وسيأتي إن شاء الله الكلام عليها مفصلا .
(3) سأفصل القول هنا في هذا الوقف لأهميته و شهرته .
(4) ينظر : الإيضاح في الوقف والابتداء لابن الأنباري 2 / 568 و تفسير الطبري : 3 / 175 –
183 و القطع والائتناف لابن النحاس 212 – 213 وتفسير البغوي 2 / 10 وزاد المسير 1/ 187 وتفسير القرطبي 2 / 287 . وسيأتي في القول الثاني الكلام على رواية مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما(1/10)
وهو الصحيح عنه (1) وبه قال أكثر السلف ، منهم عمر بن عبد العزيز والحسن وعروة وقتادة والضحاك (2) قال ابن النحاس : ( رويناه عن نيف وعشرين من الصحابة والتابعين والقراء والفقهاء وأهل اللغة ) (3) . وقد اختاره مالك (4) والفراء (5) أبو عبيد وابن الأنباري (6) والزجاج والطبري
والخطابي (7) والداني (8) والسمعاني (9) والبغوي (10) وفخر الدين الرازي (11) وأبو حيان (12) والسيوطي (13) والشوكاني (14) و شهاب الدين الآلوسي (15) و اختاره أيضا القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى وقال : ( إنه أشبه بأصولنا
) اهـ . (16) وقال ابن النجار : ( إنه الأصح المختار ) (17) وقال المرداوي :
( وهو المختار وهو قول السلف ) (18)وقال الخطابي : ( هو مذهب أكثر العلماء ) (19) وهو الراجح لوجوه :
__________
(1) تفسير السمعاني 1 / 295
(2) ينظر : تفسير الطبري : 3 / 175 – 183 وتفسير ابن عطية 1 / 403 والبرهان للزركشي 2 / 199 والدر المنثور 2 / 7
(3) القطع صـ 213
(4) تفسير الطبري 3 / 175
(5) معاني القرآن له ( 1 / 191 )
(6) الإيضاح في الوقف والابتداء 2 / 568
(7) معالم السنن 7 / 125
(8) المكتفى في الوقف والابتداء صـ 195 – 196
(9) تفسير السمعاني 1 / 295
(10) تفسير البغوي 2 / 10
(11) التفسير الكبير 7 / 153
(12) البحر 2 / 385
(13) الإتقان 2 / 3
(14) فتح القدير 1 / 317
(15) روح المعاني 3 / 87
(16) العدة في أصول الفقه 2 /690
(17) ابن النجار محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي ، ( ت :972 هـ ) شرح الكوكب المنير 2 /150
(18) التحرير شرح التحبير 3 / 1408
(19) معالم السنن ( 7 / 125 ) .(1/11)
منها : أن في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ما يرجح ذلك ففي قراءة أبي (1) وعبد الله بن عباس : ( ويقول الراسخون في العلم آمنا به ) (2) . وفي قراءة ابن مسعود : ( إن تأويله إلا عند الله ) (3) . وهذه القراءات احتج بها العلماء لهذا القول وهو استدلال صحيح - وإن لم تكن متواترة - فإنها على أقل الأحوال كالتفسير الثابت عن كبار الصحابة ولذا قال الحافظ ابن حجر والسيوطي في قراءة ابن عباس :
( أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم قوله في ذلك على من دونه ) اهـ (4) .
ولا شك عندي أنها أقوى من التفسير لأنها خبر صحيح عن قراءة صحابة أجلاء علماء ، فهم قد تلقوا ذلك ... وفي الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه منفرد بعلم تأويل المتشابه (5) منها : أنه تعالى ذم متبعي المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء معرفة تأويله . فلو كان ابتغاءهم تأويله ممدوحا ما ذمهم بذلك ثم سكت عن التفصيل في موضع يحتاج الخلق فيه للبيان .
وهذه الآية الكريمة مفصلة لحكم صنفين من المسلمين ، الراسخون في العلم ، وغيرهم ، فأهل الرسوخ أخبر الله عن مقالته أنهم يقولون : ( آمنا به كل من عند ربنا ) . فالمحكم والمتشابه من عند ربنا ونحن نؤمن بهما . و لأن المعنى على الوقف على : ( إلا الله ) أظهر إعرابا وأقيس في العربية (6) فـ(الراسخون في العلم ) مبتدأ خبره :
( يقولون آمنابه ) كما تقدم . وهذا الإعراب هو الظاهر وإن جعلت الواو عاطفة فـ
{ يقولون } حال ، وقيل : خبر والمبتدأ محذوف ( (7) ) .
__________
(1) نقلها ابن جرير 3 / 182 – 183 والبغوي2 / 10 وابن الجوزي 1 / 187 وغيرهم .
(2) وسندها عن ابن عباس على شرط الشيخين فقد رواها عبد الرزاق في تفسيره 1 / 383 رقم ( 377 ) من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه ورواها أيضا الحاكم 2 / 289 والطبري 3 / 182 و الداني في المكتفى صـ 195 – 196 مع قصة . وينظر الدر 2 / 6
(3) أخرجها ابن أبي داود في المصاحف صـ 95 وذكرها ابن جرير على وجه الجزم : 3 / 182
(4) فتح الباري 8 / 210 و الإتقان 2 / 4
(5) الروضة لابن قدامة صـ 68
(6) ينظر : تفسير البغوي 2 / 10 و البحر 2 / 384 و التحرير شرح التحبير للمرداوي 3 / 1414
(7) إعراب القرآن لابن النحاس 1 /356 والبحر 2 /384(1/12)
قالوا : ولم يقل الله تعالى ( والراسخون في العلم يقولون علمنا به ) . وجرى هذا مجرى قول القائل : ما يعلم ما في البيت إلا زيد وعمرو يقول: آمنا به . ومعناه أنه مصدق له ، ولا يقتضي مشاركته في العلم بما في البيت ( (1) ) .
القول الثاني :
أن يصل القارئ ثم يقف على قوله تعالى : { والراسخون في العلم } وعليه فالراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه ويقولون آمنا به ، وهم بذلك داخلون في الاستثناء . وهذا قول مجاهد ورواه عن ابن عباس قال : (( أنا ممن يعلم تأويله ))(2) وبه قال : محمد بن جعفر بن الزبير والربيع بن أنس و ابن قتيبة وعلي بن سليمان الأخفش وأبو سليمان الدمشقي واختاره أيضا : الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه وابن الحاجب والنووي ( (3) ) .
وقد نسب القول به إلى طائفة يسيرة من أهل السنة( (4) ) . و تكلم في صحة هذا القول عن مجاهد ، قال ابن الجوزي : قال ابن الأنباري : ( الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح ( (5)
__________
(1) العدة لأبي يعلى 2 / 690 وشرح الكوكب المنير لابن النجار 2 /150
(2) تفسير الطبري 2 / 203
(3) ينظر :( القطع ص213 و الفقيه والمتفقه 1 / 63و زاد المسير 1 / 354 و شرح صحيح مسلم 16 /434 والإتقان 2 / 2-3 وتنبيه الغافلين 125 – 126 ) .
(4) المصادر السابقة .
(5) عبد الله بن أبي نَجِيح واسمه : يسار الثقفي المكي مولى الأخنس بن شريق الثقفي المكي سمع مجاهدا وطاووسا ، روى له الجماعة ، وهو من الثقات ، وثقه ابن معين ، وأحمد ، و أبوزرعة ، و أبو حاتم ، والنسائي . و قد رمي بالقدر ، و وصف بالتدليس .
و روايته للتفسير عن مجاهد اختلف فيها : فسفيان ابن عيينة يقول : ( تفسير مجاهد لم يسمعه من إنسان إلا من القاسم ابن أبي بزة ) . تاريخ يحيى بن معين : ( ترجمة :426 ) .و يحيى القطان يقول : ( لم يسمع التفسير كله من مجاهد ،سمع بعضه من القاسم ابن أبي بزة ) . ( ت : 132 هـ ) وقيل : ( ت : 131 هـ ) ، ( طبقات ابن سعد 5 / 483 ، وتاريخ الدوري عن ابن معين 2 / 334 ، و الجرح والتعديل 5 / ترجمة 497 والثقات لابن حبان 7 / 5 ، و تهذيب الكمال : 16 / 215 – 218 ، وميزان الاعتدال 2 / 555 وسير أعلام النبلاء 6 / 125 ومراسيل العلائي : ترجمة 406 وتهذيب التهذيب 6 / 54 ) .(1/13)
) ولا تصح رواية التفسير عن مجاهد ) اهـ . ( (1) ) وعزي هذا القول إلى أكثر المتكلمين ( (2) ) . ونصره أبو البقاء العكبري .( (3) )
كما عزي إلى ابن عطية ( (4) ) ، وقد فصل في تفسيره في المسألة ، واختار أنه لا يعلمه على الكمال إلا الله تعالى ، وقال : (هذه المسألة إذا تأملت قرب الخلاف فيها من الاتفاق ، وذلك أن الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين : - محكما و متشابها – فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من يفهم كلام العرب لا يحتاج فيه إلى نظر ، و لا يتعلق به شيء يلبس ، ويستوي في علمه الراسخ وغيره ، والمتشابه يتنوع ، فمنه ما لا يعلم البتة ، كأمر الروح ، و آماد المغيبات التي قد أخبر الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، و مناح في كلام العرب ، فيتأول تأويله المستقيم ) اهـ ( (5) ) . قلت : هذا حسن في الظاهر لكن دخل من بعضه أبوابه أهل الكلام والمبتدعة ،بتأويلات اخترعوها لم يقلها السلف ، وهي درجات في الخطأ والبدعة . ...
واحتجوا بأدلة :
1 -…أن الخطاب بما لا يعلم معناه بعيد . وأجاب الأولون عن الدليل الأول :
بأن الله تعالى يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ، ليختبر طاعتهم ، قالوا كما اختبرهم بالحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها ( (6) ) على الصحيح .
2-…أنه لو لم يكن الراسخون يعلمون تأويله لم يكن لهم فضيلة على غيرهم ، لأن الجميع يقولون آمنا به . و أجابوا عن الثاني : بأن المزية ثابتة لهم بمعرفة غيره من الأحكام فهم راسخون في العلم لمعرفتهم معاني المحكم ، وعملهم بما علموا ، و تورعهم عن القول فيما لا يعلمون .
3 -…أن ذلك يفضي إلى أن يتعبد بالشيء المجهول . و أجابوا عن هذا : بأن التعبد بالشيء المجهول غير ممتنع كما تعبدنا بالإيمان بالملائكة وبالرسل وإن لم نعرف جميعهم وتعبدنا بالإيمان بالكتب وإن لم نعرف ما فيها .
__________
(1) زاد المسير الموضع السابق .
(2) التفسير الكبير للرازي 7 / 153 والبحر المحيط 2 /384 قد قيل : هو قول عامة المتكلمين : شرح الكوكب المنير 1 / 155
(3) أملاء ما من به الرحمن 1 /124وشرح الكوكب المنير 2 / 153
(4) البحر المحيط 2 /384 -385
(5) المحرر الوجيز 1 /404
(6) شرح الكوكب 1 /155-156(1/14)
4 -…ولأن الله لم ينزل في كتابه شيئا إلا وقد جعل للعلماء طريقا إلى معرفته . ( (1) )
و أجابوا عن هذا : بأن الله تعالى أنزل أشياء وليس إلى معرفتها سبيل كمعرفة كنه صفاته سبحانه وكيفيات أفعاله وغير ذلك وهذا الأخير بمعنى الدليل الأول . ( (2) )
ومن الأدلة التي ذكرت لهذا القول قوله تعالى :{ تبيانا لكل شئ } ( (3) ) قالوا على قولكم ليس في القرآن بيان المشكل . وهذه الآية يجاب عنها بالجواب المشهور وأنها لا تقتضي جميع الأشياء كما قال تعالى:{ وأوتيت من كل شئ } ( (4) ) .ولم تؤت مثل ذكر الذكر ولحيته ولا ما أوتي سليمان في ملكه ، وهذا معروف في لغة العرب فلا يطول بتفصيله . ( (5) )
ومن الأدلة التي ذكرت لهذا القول قول الزركشي :
( إن الكل قائلون به لأننا لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقفوا عن شئ من القرآن فقالوا متشابه بل أمروه على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة ) اهـ . ( (6) )
وقد يجاب عن هذا الإيراد : بأن العلماء وإن كانوا لم يتركوا آية من القرآن إلا وتكلموا عليها إلا أنه لا يعلم أي الوجوه المحتملة هو الحق إلا الله فتعيين المراد من هذه الوجوه لا يعلمه إلا الله قال الوزير الصالح الإمام عون الدين يحيى بن هبيرة :
( ما من آية من القرآن إلا وقد فسرها العلماء ، لكن لا يعلم المراد من تلك الوجوه المحتملة إلا الله ) اهـ . ( (7) ) بشيء من الاختصار .
وأعظم أسباب اختلاف العلماء في هذه المسألة مبني على اختلافهم في المحكم والمتشابه وأي شئ أريد بهما ( (8) ) . وذلك للاشتراك اللفظي في لفظ التأويل ( (9) ) .
__________
(1) العدة لأبي يعلى الموضع السابق والفقيه والمتفقه الموضع السابق وتفسير القرطبي 2 /287 و ابن
كثير 1 /355
(2) ينظر المصادر السابقة وروضة الناظر 1 /187
(3) النحل - 89
(4) النمل -23
(5) ينظر العدة 2 / 692 و أصول الفقه لأبي الوفاؤ ابن عقيل 4 / 18
(6) البرهان 2 /202
(7) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1 /272 . وابن هبيرة عون الدين يحيى بن هبيرة وزير صالح مشهور بالفقه والزهد كان ينفق على أهل العلم ويجالسهم ويراجعهم سائل الفقه وكان أول أمره فقيرا وله كتاب مشهور شرح به الصحيحين وهو الإفصاح عن معاني الصحاح مطبوع ،. أثنى عليه العلماء . ومنهم ابن الجوزي الثناء الكثير ترجمته في : ( ذيل الطبقات 1 / 251 – 289 ).
(8) فتح القدير 1 /317
(9) مجموع الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام 2 /17(1/15)
ومن العلماء من فصل في هذا المقام ، وقال التأويل يطلق في القرآن ويراد به معنيان
أحدهما :
التأويل بمعنى حقيقة الشيء التي يؤول إليها أي يرجع إليها ، ومنه قوله تعالى: { هذا تأويل رؤياي من قبل } و قوله تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله } أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فعلى هذا الوقف على { إلا الله } لأن حقائق الأمور لا يعلمها على الجلية إلا الله.
ويرد التأويل بمعنى التفسير والبيان ، كما قال تعالى : { نبئنا بتأويله) يعني تفسيره ، فالوقف على هذا على : ( الراسخون في العلم ) لأنهم يعلمون ما خوطبوا به على هذا الاعتبار ( (1) ) .
وعلى هذا إن حمل المتشابه على ما استأثر الله بعلمه كوقت قيام الساعة ونحو ذلك فالوقف على : ( إلا الله ) ، وإن حمل على ما لا يتضح معناه إلا بمزيد فحص فالوقف على قوله :
{ والراسخون في العلم } ( (2) ) . لكن هذا التنويع هنا نظري لا عملي بمعنى أن الوقف لا بد فيه من ترجيح أحد الوجهين وكذلك المعنى . وهل يعقل أن يقول عالم من علماء المسلمين إن الراسخين في العلم يعلمون ما استأثر الله بعلمه ؟ ، أو يعلمون وقت قيام الساعة ونحو ذلك ؟ هذا معلوم ، ولكن يقال : من فهم من معنى التأويل التفسير ، جعل الوقف على : ( إلا الله ) ومن فهم من معنى : التأويل : الحقيقة التي يؤول الكلام إليها ، فهو يقف عند قوله : ( والراسخون في العلم ) .
ولكن نسبة ذلك إلى السلف فيه تحكم فإن من قال بذلك من السلف لم يقولوا قلنا بالوقف على : ( إلا الله ) ، لأننا نرى أن معنى التأويل : ينصرف إلى الحقيقة التي استأثر الله بعلمها لا بمعنى التفسير ، لأنه قد اشتهر في كلامهم إطلاق التأويل على المعنى والتفسير فيمكن أن يكونوا فهموا من التأويل : التفسير والبيان أو الحقيقة التي يؤول إليها الشيء
و قد ثبت عندنا اختيارهم الوقف على : ( إلا الله ) ، وأنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله
وقيل إن الخلاف في ذلك لفظي ، فإن من قال :
__________
(1) تفسير ابن كثير 1 /355 وينظر ما قاله في هذا شيخ الإسلام في الفتاوى 16 /228 الطبعة الجديدة لمكتبة العبيكان 1418هـ
ومجموع الرسائل الكبرى 1/6 وما بعدها
(2) تنبيه الغافلين 125 -126(1/16)
الراسخون في العلم يعلمون تأويله أراد به أنه يعلم ظاهره لا حقيقته ومن قال : لا يعلم أراد به لا يعلم حقيقته وإنما ذلك إلى الله تعالى ( (1) ) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
( لم يقل في المتشابه : لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ، وإنما قال : { وما يعلم تأويله إلا الله } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع ، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو ، والوقف هنا كما دل عليه أدلت كثيرة ......ولكن لم ينف علمهم بتفسيره ....والله ورسوله إنما ذم متبعي المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله تعالى ... ) اهـ . باختصار ( (2) ) .
وفي المسألة مذهبان آخران غير مشهورين وهما ضعيفان الأول منهما :
أن الوقف على { إلا الله } ويعلمه الراسخون ، وإنما امتنع العطف لمخالفة علم الله لعلم
الراسخين ( (3) ) .
والقول الثاني : القول بالوقف فلا يجزم بأحد هذه الأقوال لتعارض الأدلة ( (4) ) . ومعلوم أن هذا القول لا يمكن العمل به في الوقف ، لأنه إن وصل فقد عطف الراسخين في العلم و أشركهم مع الله تعالى في معرفة تأويل المتشابه . فإن وصل القارئ ووقف على قوله تعالى : { آمنا به } فالوقف عليها صالح كما قاله صاحب المرشد فأنه قال :
( الوقف على { آمنا به } صالح على المذهبين ) اهـ . ( (5) )
والراجح أن الخلاف في الأصل ليس بلفظي لأن المتشابه مختلف في المراد به وعلى هذا الخلاف ينبني الخلاف في الوقف كما تقدم .
و قول أكثر العلماء- وهو أن الوقف على لفظ الجلالة .. - أصح ، وهذا القول يؤيده ظاهر النظم القرآني ، و الأدلة التي تقدمت عند ذكره قوية ، ولو لم يكن فيها إلا القراءات الثابتة عن الصحابة لكان فيها دلالة قوية على ترجيحه ، فكيف وقد انضاف إلى ذلك غيرها مما تقدم ، هذا مع أنه لم يثبت عن الصحابة غيره .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب ص255 وشرح الكوكب المنير 2/ 153
(2) مجموع الرسائل الكبرى 2 /9
(3) عزي هذا إلى أبي إسحاق الشيرازي الشافعي والسهيلي عبدالرحمن بن عبد الله الضرير ، ( ت :581 هـ) شرح الكوكب الموضع السابق
(4) عزي إلى القفال الشاشي ينظر : البحر المحيط للزركشي : 3 / 1046 و التحرير للمرداوي 3 / 1412 وشرح الكوكب المنير 2/ 153
(5) المقصد ص22(1/17)
ورواية مجاهد عن ابن عباس معارضة برواية طاووس وهي أصح كما قاله السيوطي ( (1) ) بل حكى الإمام أبو المظفر السمعاني( (2) ) أن الصحيح رواية طاووس وتقدم قول ابن الأنباري في ذلك وتضعيفه لرواية ذلك عن مجاهد نفسه . وبينت أنه مسبوق إلى الطعن في رواية ابن أبي نجيح التفسير عن مجاهد ، ولكن الراجح أنها صحيحة لأن ابن أبي نجيح ثقة و إن كان سمعه من القاسم بن أبي بزة ، فالقاسم ثقة أيضا (3) ، فقد علمنا الواسطة بينه وبين مجاهد في التفسير ، فيكون قد دلسه عن القاسم بن أبي بزة ، فإن ابن أبي نجيح معدود في المدلسين كما تقدم ، لكننا في هذا الموضع نرجح رواية طاووس إذ لم يكتنفها ما اكتنف رواية مجاهد من طريق ابن أبي نجيح . وقال الإمام السمعاني أيضا في كتابه قواطع الأدلة : ( ونقل بعضهم ذلك عن مجاهد ولا أعلم تحققه ) اهـ . بل زاد على ذلك بأن جعل قول بعض العلماء في اختيار هذا الوقف كبوة من كبوات الجواد ( (4) ) ؟. كذا قال رحمه الله تعالى ، ولا يبلغ الأمر ذلك ، ويزاد على هذه الأدلة ، ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عائشة رضي الله عنها قالت :
__________
(1) الإتقان 2 /3
(2) أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني الإمام تقدم صـ81
(3) القاسم بن أبي بزة واسمه نافع ويقال يسار ويقال نافغ بن يسار المكي أبو عبد الله ويقال أبو عاصم القارئ مولى عبد الله بن السائب المخزومي قيل إن أصله من همذان روى عن أبي الطفيل وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعنه ابن جريج وشعبة وجمع . وثقه ابن معين والعجلي والنسائي . وروى له الجماعة : ت : 114 هـ وقيل 115 هـ وقيل : 125 هـ . قال المزي : ( والأول أصح ) ا هـ . ( الجرح والتعديل 7 / الترجمة 697 و تهذيب الكمال : 23 / 338 والكاشف : 4503 وفي التقريب : ثقة : ( 2 / 116 )
(4) قواطع الأدلة في الأصول للسمعاني 1 /265(1/18)
( تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7) } قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم ) اهـ ( (1) )
فهذا الحديث دال على ذم متبعي المتشابه كالآية ( (2) ) .
وذلك يدل على مدح من فوضوا علم المتشابه إلى الله تعالى ، وقد توسع السيوطي رحمه الله تعالى ، بعض التوسع في ذكر أحاديث ، وآثار بهذا المعنى تراجع في كتابه ، وهي دالة كهذا الحديث على ترجيح قول الجماهير . ( (3) )
ومعلوم أن القائلين من أهل السنة والجماعة بالقول الآخر ، لا يقصدون بعلم الراسخين للمتشابه أنهم يعلمون ما استأثر الله بعلمه كوقت قيام الساعة ونحو ذلك . ولكن يبقى أمور من المتشابه عند بعض العلماء كالحروف المقطعة ، وبعض الآيات المتعارضة في الظاهر التي يختلفون في الجمع بينها ولا يوجد مرجح ينقطع به النزاع ، ونحو ذلك .
و هذه الآية من الآيات التي ينبغي على كل طالب علم أن يمعن النظر في أقوال السلف ثم الأئمة المحققين في بيان معناها ، فإن المبتدعة قد أكثروا من الاستدلال بها .
والكلام عليها لا بد فيه من بيان معنى المحكم والمتشابه ، ومعنى التأويل فلا يصلح أن نهمل ذكره هنا لمسيس الحاجة إليه . وقد انجر الكلام على معنى الآية من باب إيضاح المثال المذكور قبل في الوقف .
قال الإمام الطبري :
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب التفسير : سورة آل عمران ، باب منه آيات محكمات رقم 3547 ج 8 /209 وصحيح مسلم مع شرح النووي كتاب العلم : باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه رقم 6717 ج 16 / 433 –434 والمسند 6 / 48 و256
(2) فتح الباري الموضع السابق والإتقان 2 /3
(3) الإتقان 2 /3 –4 .(1/19)
(وأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن ، وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال ، وحرام ، ووعد ، ووعيد وثواب ، وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ، ومثل ، وعظة ، وعبر ، وما أشبه ذلك ، ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن هن أم الكتاب ، يعني بذلك أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين ، والفرائض ، والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم ، وآجلهم ، وإنما سماهن أم الكتاب ، لأنهن معظم الكتاب وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب تسمي الجامع معظم الشيء أما له ، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمهم ، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة أمها ) اهـ . (1)
وقال أيضا : ( وأما قوله : ( متشابهات ) . فإن معناه متشابهات في التلاوة مختلفات في المعنى كما قال جل ثناؤه : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً )(البقرة: من الآية25)) . يعني في المنظر مختلفا في المطعم وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) (البقرة:70) ) يعنون بذلك تشابه علينا في الصفة ، وإن اختلفت أنواعه ، تأويل الكلام إذا ، إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن ، منه آيات محكمات ، بالبيان هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين ، وإليه مفزعك ، ومفزعهم ، فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام ، وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني ) . (2)
و التأويل لغة : ( تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ، ولا يصح إلا ببيان غير لفظه ) . ذكره الأزهري وبدأ به (3) . وقيل : أصل التأويل من آل الشيء يؤول إلى كذا أي رجع وقال ثعلب: التأويل والتفسير بمعنى واحد ، ويقال لعبارة الرؤيا : تأويل. (4)والتأويل المراد في الآية إما التفسير وإما الحقيقة التي يؤول الأمر إليها .
__________
(1) تفسير الطبري 3 / 170
(2) تفسير الطبري 3 / 172
(3) تهذيب اللغة : 15 / 459 و لسان العرب 1 / 264 مادة : أول .
(4) لسان العرب 1 / 264 مادة : أول . وينظر مجمل اللغة : 1 / 107 و تاج العروس 7 / 215وقيل من الإيالة وهي السياسة : كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه : الإتقان 2 / 1189(1/20)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( قد ذكرنا في غير موضع ، أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه ، وإن كان موافقا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر ، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه ، وإن كان موافقا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره ، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك . وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعنى إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى بل يريدون بالتأويل المعنى الأول أو الثاني ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) . أريد به هذا المعنى الاصطلاحي الخاص واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله ( وما يعلم تأويله إلا الله ). لزم من أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها وأن ذلك المعنى المراد بها لا يعلمه إلا الله ، لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن وهو جبريل ولا يعلمه محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الأنبياء ) اهـ (1)
وقال : ( لفظ التأويل مجمل يراد به ما يؤول إليه الكلام فتأويل الخبر نفس المخبر عنه وتأويل أسماء الله وصفاته المقدسة بمالها من صفات الكمال ويراد بالتفسير التأويل وهو بيان المعنى المراد وإن لم نعلم كيفيته وكنهه كما أنا نعلم أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وعسلا وذهبا وحريرا وغير ذلك وإن كنا لا نعرف كيفية ذلك ويعلم أن كيفيته مخالفة لكيفية الموجود في الدنيا ويراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح وهذا لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين وأما خطاب الصحابة والتابعين فإنما يوجد فيه الأولان ) .اهـ (2)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1 / 14
(2) الصفدية 1 / 289 وينظر : 1 / 291(1/21)
واستعمال التأويل بمعنى تفسير الكلام وبيان معناه والمراد منه ، كثير في لغة السلف ومعروف لغة ، وقد سمى الطبري كتابه : ( جامع البيان عن تأويل القرآن ) ، وأكثر فيه من استعمال كلمة تأويل ، مريدا بها معنى الكلام وتفسيره . وممن يستعمل التأويل بمعنى التفسير من مشهوري العلماء المتقدمين أبو عمر بن عبد البر (1) .
ومن استعمال الصحابة للتأويل بمعنى تفسير القرآن ومعناه قول جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم :
( فصلى رسول الله صلى الله عليه سلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدى بصري من بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ) اهـ (2) . فتأمل قوله في وصف أفعال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ) .
وفي مصنف عبد الزاق عن قتادة قال : ( تسرت امرأة غلاما لها فذُكِرت لعمر ،فسألها ما حملك على هذا فقالت كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا تأوّلت كتاب الله تعالى تأويله . فقال عمر لا جرم والله لا أحلك لحر بعده أبدا ، كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها ، وأمر العبد أن لا يقربها ) . (3)
وقد اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال :
1- أن المحكم هو المعمول به وهو الناسخ ، والمتشابه هو المنسوخ المتروك العمل به . وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وروي أيضا عن قتادة والربيع والضحاك وقد رواه الطبري عنهم . ولفظ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة عنه : (المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به . قال : ( وأخر متشابهات ) والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به ) (4) .
__________
(1) ينظر على سبيل المثال : التمهيد 1 / 147 و 2 / 313
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 8 / 170والمسند 3 / 320 ومسند الطيالسي 1 / 232 و عون المعبود 5 / 254
(3) مصنف عبد الرزاق ( 12818 ) ومعلوم أن قتادة لم يدرك عمر لكن القصة مروي معناها عن عمر من وجوه .
(4) تفسير الطبري 3 / 172(1/22)
2- أن المحكم ما أحكم الله فيه من أي القرآن وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم عند التكرير في السور ، ومثل لذلك بقصة موسى وتكررها مع اختلاف الألفاظ ، قاله بد الرحمن بن زيد (1) .
قلت : و هذا في حقيقته - إن قبل - إنما هو تمثيل لنوع من المتشابه ، ولا مانع من أن يكون ذلك أحد أوجه المتشابه ، لأن الله لم يخص متشابها دون متشابه ، ولهذا ضل بهذا التشابه في عصرنا بعض من درس قصص القرآن الكريم ، ولم يوفق للفهم ، فزعم أن ما في القرآن من قصص ليس حقيقة في نفسه ، ولهذا اختلفت عباراته من سورة إلى سورة ، و زعم أن ذلك قصص فني . والعياذ بالله . كما فعل صاحب رسالة : ( الفن القصصي في القرآن ) . (2)
3- أن المحكم ما علم العلماء تأويله ، وفهموا معناه ، والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه . وهذا رواه الطبري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ورجحه وبه قال الشعبي و سفيان الثوري وغيرهم . و من أمثلة هذا ، وقت قيام الساعة ، و ووقت خروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى ، والحروف المقطعة في أوائل السور، ونحو ذلك .
وقد روي : أن اليهود طمعوا أن يعرفوا من قبل الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور مدة الإسلام وأهله ويعلموا نهاية أجل محمد و أمته. ورجحه القرطبي وقال : ( هذا أحسن ما قيل في المتشابه ) .
4- أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه ما تشتبه معانيه وهذا قول مجاهد .
5- أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وعبارته في تفسير الطبري : ( منه آيات محكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه ، وأخر متشابهة في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق ) (3) .
__________
(1) المصدر السابق
(2) هو الدكتور : محمد أحمد خلف الله . وقد نقدها : أحد أعضاء اللجنة الذين اشتركوا في مناقشة الرسالة وهو الأستاذ : أحمد أمين ونشر نقده في مجلة ( ( الرسالة )) . ينظر كتاب بلاغة القرآن للأستاذ محمد خضر حسين صـ 94 و مباحث في علوم القرآن للشيخ لمناع القطان صـ 308 .
(3) تفسير الطبري 3 / 175(1/23)
و هو قول ابن الأنباري (1) و أبي الحسن الكرخي من الحنفية (2) و أبي بكر الجصاص الحنفي (3) و الواحدي ، (4)وابن عطية (5) ، وقال : ( إنه أحسن الأقوال ) اهـ .
6- أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال ، والمتشابه ما لم يقم بنفسه واحتاج إلى نظر واستدلال ،وهذا القول اختاره ابن النحاس و قال :
( أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه ، لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره ، و المتشابهات نحو قوله تعالى { إن الله يغفر الذنوب جميعا } يرجع فيه إلى قوله : { وإني لغفار لمن تاب } وقوله :{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء } النساء -48 و116 . وهذا يرجع عندي إلى القول بأن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها – القول الذي قبله - .
8- هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة ، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره ، والمتشابه ما لم يتضح معناه لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره . اختاره الإمام الشوكاني في تفسيره وهو قريب من القول الذي قبله . فهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة هكذا عدها حماعة من العلماء ومن تأملها علم أنها ترجع إلى قول واحد لكن القولين الأخيرين فيهما زيادة إيضاح .
9- أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة كأعداد الصلوات واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان . (6)
وأرجحها في نظري القول بأن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها . لأن معنى الإحكام والتشابه لغة يدل على ذلك ولأنه تعالى قال في وصف المحكمات : { هن أم الكتاب } . و ذلك دال على أن المحكمات أصل يرد إليهن غيرهن ولو يكن المحكم كذلك لما أمكن رد المتشابه إليه .
وقد فصلت القول هنا في هذه الآية لظهور دلالتها على أهمية وفضل علم الوقف والابتداء ، ولشدة الحاجة لمعرفة أقوال العلماء فيها .و تركت التوسع أكثر في تفسيرها مراعاة لمقصد هذه الرسالة .
__________
(1) الوسيط للواحدي 1 / 413
(2) حكاه عنه أبو بكر الجصاص ينظر : أصول الفقه للجصاص 1 / 205
(3) المصدر السابق
(4) الوسيط 1 / 413
(5) تفسير ابن عطية 1 / 403
(6) ينظر : تفسير الطبري 3/171 -175 و إعراب القرآن لابن النحاس 1 /355 و الحاوي في فقه الإمام الشافعي للماوردي 16 /71 -72 و البرهان 2 /199 –201 و فتح الباري 8 /210 -211و الإتقان 2 /2-3 وفتح القدير للشوكاني 1 /317...(1/24)