بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
[ مقدمة ]
الحمدُ للهِ الذي أنزَلَ الكتابَ : تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ وهُدى .
وأَشهدُ أن لا إِلهَ إلاَّ الله الحَقّ الْمُبين .
وأَشهدُ أنَّ محمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ ، الصَّادقُ الأَمينُ ؛ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ والتَّابعينَ ، وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً .
أَمَّا بَعدُ : فَهذهِ مُقدِّمَةٌ في التَّفسيرِ : تُعينُ على فَهمِ القُرآنِ العَظيمِ الجديرِ بأنْ تُصرَفَ لَهُ الهِمَمَ ، ففيهِ الهُدى والنُّورُ ، ومَن أَخَذَ بِهِ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ .
البابُ الأَوَّلُ : تَنزيلُ القُرآنِ
[ الفَصلُ الأَوَّلُ : مَذهَبُ السَّلَفِ ]
أَجمَعوا على أنَّ القُرآنَ :
1ـ كلامُ اللهِ حَقيقَةً .
2ـ مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ .
3ـ سَمِعَهُ جِبريلٌ مِن اللهِ ، وَسَمِعَهُ مُحمَّدٌ مِن جِبريلَ ، وسَمِعَهُ الصَّحابَةُ مِن مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم .
4ـ وَهُوَ الذي نَتلُوهُ بِأَلسِنَتِنا ، وفِيما بَينَ الدَّفتَينِ ، وما في الصَّدورِ ؛ مَسموعاً ومَكتوباً ومَحفوظاً .
5ـ وكُلُّ حَرفٍ مِنهُ - كالباءِ والتَّاءِ - : كلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ ؛ مِنهُ بَدَأَ وإليهِ يَعودُ .
6ـ وهُو كلامُ اللهِ : حُروفُهُ ومَعانيهِ ؛ ليسَ الحروفُ دونَ الْمَعاني ، وَلا الْمَعانِي دُونَ الحروفِ .(1/1)
[ الفَصلُ الثَّانِي : مَذهَبُ الخَلَفِ ]• وبَدَّعوا مَن قالَ :
1ـ إنَّ القُرآنَ فاضَ على نَفسِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم مِنَ العَقلِ الفَعَّالِ أو غَيرِهِ ؛ كالفَلاسِفَةِ والصَّابِئِيَّةِ .
2ـ أَوْ : أنَّهُ مَخلوقٌ في جِسمٍ مِنَ الأَجسامِ ؛ كالْمُعتَزِلَةِ والجَهمِيَّةِ .
3ـ [ أَوْ : أنَّهُ مَخلوقٌ ] في جِبريلَ أو مُحمّدٍ أو جِسمٍ آخرَ غيرِهِما ؛ كالكُلاَّبِيَّةِ والأَشعَرِيَّةِ (1) .
4ـ أَو : أنَّهُ حُروفٌ وأَصواتٌ قَديمةٌ أَزَلِيَّةٌ ؛ كَالكَلاميَّةِ .
5ـ أَو : أنَّهُ : حادِثٌ قائِمٌ بِذاتِ اللهِ مُمتَنِعٌ في الأَزَلِ ؛ كالهاشِميَّةِ والكَرَّامِيَّةِ .
• ومَن قالَ :
1ـ ( لَفظِي بِالقُرآنِ مَخلوقٌ ) فَجَهمِيٌّ .
2ـ أَو : ( غَيرُ مَخلوقٍ ) فَمُبتَدِعٌ .
البابُ الثَّانِي : مَواضِعُ نُزولِ القُرآنِ
1ـ أَجمَعوا على أنَّ القُرآنَ : مِئَةٌ وأربَعَ عَشَرَةَ سُورَةً .
2ـ والْمَشهورُ : سَبعٌ وعُشرونَ مَدَنِيٌّ ، وباقيهِ مَكِّيٌّ ؛ واُستُثنِيَ آياتٌ .
3ـ ومِنهُ : النَّهارِيُّ والليلِيُّ ، والصَّيفِيُّ والشِّتائِيُّ .
4ـ وأَوَّل ما أُنزِلَ : ? اقْرَأ ? ، ثُمَّ : (الْمُدَّثِّرْ) .
وآخِرُهُ : الْمائِدَةُ ، وَبَراءَةٌ ، والفَتحُ ، وآَيَةُ : الكَلالَةِ ، والرِّبا ، والدَّينِ .
البابُ الثَّالِث : إِنْزَالُ القُرآنِ
1ـ [ وَقتُ نُزولِهِ ] :
أُنزِلَ القُرآن : جُملةً في لَيلَةِ القَدرِ ؛ إلى : بيتِ العِزَّةِ في السَّماءِ الدّنيا .
وأُنزِلَ مُنَجَّماً ؛ بِحَسَبِ الوقائِعِ .
2ـ [ طُرُقُ تَلَقِّيه ] :
يُلقيهِ جِبريلُ إلى النَّبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم فِي مِثلِ :
( أ ) صَلصَلَةِ الجَرَسِ : وهُو أَشدُّ عليهِ .
( ب ) ويأتيهِ في مِثلِ صُورَةِ الرَّجُلِ يُكَلِّمُهُ .
4ـ [ الحُروفُ السَّبعَةُ ] :
__________
(1) أي أنَّ القُرآن ليسَ هُو كلام الله ، وإنما كلامه المعنى القائم بِذاتِهِ ، والقُرآن خُلِقَ لِيَدلَّ على ذلك المعنى .
(1/2)
وثَبَتَ أنَّهُ أُنزِلَ على سَبعَة أَحرفٍ .
قيلَ : الْمَعانِي الْمُتَّفِقَة بِأَلفاظٍ مُختَلِفَةٍ ؛ كـ(هَلُمَّ) و(أَقْبِلْ) .
5ـ [ كِتابَتُهُ وَجمعُهُ ] :
وكُتِبَ فِي الرِّقاعِ والِّلخافِ والعُسُب والأَضلاعِ ؛ في عَهدِ النّبوَّةِ .
ثُمَّ : في الصُّحُفِ ؛ في عَهدِ أَبي بَكرٍ .
ثُمَّ : جُمَعَ عُثمانَ النَّاسَ على مُصحَفٍ واحِدٍ . والجُمهورُ : أَنَّهُ مُشتَمِلٌ على ما يَحتَمِلُهُ رَسْمُها ، ومُتَضَمِّنَتُها العَرضَةُ الآخيرَةُ .
6ـ [ تَرتيبهُ ] :
وتَرتيبُ :
1 : الآياتِ بالنَّصِّ .
2 : والسُّوَرِ بالاجتِهادِ .
البابُ الرَّابِعُ : أَسبابُ نُزولِ القُرآنِ
مَعرِفَةُ سَبَبِ نُزولِ القُرآنِ يُعينُ على : فَهمِ الآيةِ ؛ فَقَد يَكونُ اللَّفظُ عامّاً والسَّبَبُ خاصّاً .
ومِنهُ :
قَولُهُ تَعَاْلَى ? وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ? [ الطَّلاقُ : 4 ] .
وَقَولُهُ تَعَاْلَى : ? فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهُ ? (1) .
البابُ الخامِسُ : عامُّ القُرآنِ وخاصُّهُ
1ـ العامُّ أَقْسامٌ :
( أ ) مِنهُ : الباقِي على عُمُومِهِ ؛ كَقولِهِ تَعَاْلَى : ? حُرِّمَت عليكُم أُمَّهاتُكُم ? .
( ب ) والعامُّ المُرادُ بهِ الخُصوصُ ؛ كَقولِهِ تَعَاْلَى : ? الذينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ ? .
( ج ) العامُّ الْمَخصوصُ - وهُو كَثيرٌ ؛ إِذْ ما مِن عامٍّ إِلاَّ وَقَدْ خُصَّ - .
2ـ الْمُخَصِّصُ :
( أ ) إِمَّا مُتَّصلٌ : وهُو خَمسَهٌ ؛ الاسْتِثناءُ ، والوَصفُ ، والشَّرطُ ، والغايَةُ ، وَبدَلُ البَعضِ مِنَ الكُلِّ .
( ب ) وإمَّا ْمُنفَصِلٌ : كَآيَةٍ أُخرى ، أَو : حديثٍ ، أَو : إجماعٍ .
3ـ وَمِن خاصِّ القُرآنِ :
__________
(1) البَقَرة : 115 .(1/3)
ما كانَ مُخَصِّصاً لِعُمومِ السُّنَّةِ ؛ كَقولِه : ? حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُم صاغِرينَ ? ؛ خُصَّ بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم : « أُمِرتُ أَن أُقاتِلُ النَّاسَ حتَّى يَقُولُوا : ( لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) » .
البابُ السَّادِسُ : ناسِخُ القُرآنِ وَمَنسُوخُهُ
1ـ [ تَعريفُهُ ] : يَرِدُ النَّسخُ :
بِمَعنَى (الإِزالةِ) : ومِنهُ ? فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيطانُ ? .
وبِمَعنَى (التَّبديلِ) : ومِنهُ ? وإذا بَدَّلنا آيةً مكانَ آيَةٍ ? .
2ـ [ أَنواعُهُ ] : وهُو ثَلاثَةٌ :
(1) ما نُسِخَ تِلاوَتُهُ وحُكمُهُ ؛ كََعَشرِ رَضَعاتٍ .
(2) ما نُسِخَ تِلاوَتُهُ دُون حُكمُهُ ؛ كَآيَةِ الرَّجمِ .
(3) ما نُسِخَ حُكمُهُ دُون تِلاوَتُهُ ؛ وقَد صُنِّفَت فيه الكُتُب - وهُوَ قليلٌ - .
[ وقَد سَمَّى بَعضُ السَّلَفِ كُلَّ رَفعٍ نَسخاً ؛ سَواءً كان رَفعَ حُكمٍ أو رَفعَ دِلالة ظاهرة ؛ ولِذلك أكثَر بَعضهم من تَعديدِ الآياتِ الْمَنسوخَةِ ] .
3ـ [ ما يَقَعُ فيه النَّسخُ ] :
وَلا يَقَعُ إِلاَّ في : الأَمرِ والنَّهيِ ؛ ولَو بِلَفظِ الخَبَرِ .
البابُ السَّابِعُ : مُحْكَمُ القُرآنِ وَمُتَشابِهُهُ
1ـ [ تَعريفهُ ] :
• الْمُحْكَمُ : ما يُمَيِّزُ الحَقيقَةَ الْمَقصُودَةَ عَن غَيرِها .
• والْمُتشَابِهُ : [ ما احتَمَل مَعنَيَيْنِ ] فَيُشبِهُ هذا ويُشبِهُ هذا .(1/4)
2ـ [ حُكمُهُ ] (1) :
? فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ : فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ? :
( أ ) ? ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ ? لِيَفتِنُوا النَّاسَ ؛ إِذْ وَضَعُوهُ عَلَى غيرِ مَواضِعِهِ .
( ب ) ? وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ? وهُو الحَقيقَةُ التي أَخبَرَ عَنْها ؛ كالقِيامَةِ وَأَشرَاطِها .
? وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ? أي تأويلَ تِلك الحقائِقِ مِن وَقتٍ وصِفَةٍ ? إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ? وَلَم يَنفِ عَنهُم عِلمَ مَعناهُ ، بل قال : ? لِيَدَّبَّروا آياتِهِ ? (2) .
3ـ [ الصِّفاتُ لَيسَت مِنَ الْمُتشابِه ] :
قال شَيخُ الإِسلامِ : ( وثَبَتَ أَنَّ اتِّباعَ الْمُتشابِهِ ليسَ في خُصوصِ الصِّفاتِ ، ولا أَعلَمُ أنَّ أحداً مِنَ السَّلفِ جَعَلَها مِنَ الْمُتَشابِهِ الدَّاخِلِ في هِذهِ الآيَةِ ) ه .
• [ مَذهَبُ السَّلَفِ في الصِّفاتِ ] : وعِندَهُم : قِراءَتُها تَفسيرُها ، وتُمَرُّ كَما جاءَت ؛ دَالَّةٌ على ما فِيها مِنْ الْمَعانِي ؛ لا تُحَرَّف وَلا يُلْحَدُ فِيها .
4ـ [ الظَّاهِرُ والْمُجمَلُ ] :
__________
(1) قال تَعَاْلَى : ? هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ؛ مِنْهُ : آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ؛ هُنَّ : أُمُّ الْكِتَابِ . وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ . فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ : فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ؛ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ . وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا . وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7) ? [ آلِ عِمران : 7 ] .
(2) سُورَةُ آلِ عِمران : 7 .(1/5)
وَكُلُّ ظاهِرٍ : تُرِكَ لِمُعارِضٍ رَاجِحٍ ؛ كَتَخصيصِ العامِّ ، وتَقييدِ الْمُطلَقِ ؛ فَإنَّهُ مُتشابِهٌ لاحتِمالِهِ مَعنَيَينِ .
وكذا الْمُجمَلُ ؛ وإحكامُهُ : رَفعُ ما يُتَوَهَّمُ فيهِ مِن المشَعنَى الذي ليسَ بِمرادٍ .
البابُ الثَّامِنُ : التَّأْويلُ
1ـ [ مَذهَبُ السَّلَفِ ] :
• التَّأويلُ فِي القُرآنِ : نَفسُ وُقوعِ الْمُخبَرِ بِهِ .
• وَعِندَ السَّلَفِ : تَفسيرُ الكلامِ وَبيانُ مَعناهُ .
2ـ [ مَذهَبُ الخَلَفِ ] :
• وَعِندَ الْمُتَأَخِّرينَ - مِن الْمُتَكَلِّمَةِ والْمُتَفَقِّهَةِ ونَحوِهِم - : هُوَ صَرفُ اللفظِ عَنِ الْمَعنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعنَى الْمَرْجوحِ ؛ لِدليلٍ يَقتَرِنُ بِهِ .
أَوْ : حَمْلُ ظاهِرٍ عَلى مُحتَمَلٍ مَرجوحٍ .
• وما تَأَوَّلَهُ :
القَرامِطَةُ والباطِنِيَّةُ : لِلأَخبارِ والأَوامِرِ …
والفَلاسِفَةُ : للأَخبارِ عَنِ اللهِ واليومِ الآخرِ …
والجَهمِيَّةُ والْمُعتَزِلَةُ وغَيرُهُم : في بَعضِ ما جاء في اليوم الآخِرِ ، وَفي آياتِ القَدَرِ ، وآياتِ الصِّفاتِ …
هُوَ مِن تَحريفِ الكَلِمِ عَن مَواضِعِهِ .
3ـ [ غَلَطُ البَعضِ في مَعنَى (التَّأويلِ) ] :
• قَالَ الشَّيخُ : « وَطَوائِفُ مِن السَّلَفِ أَخطَؤا في مَعنَى (التَّأويلِ) الْمَنفِيِّ ؛ وَفي مَعنَى (التَّأويلِ) الذي أَثْبَتُوهُ .
والتَّأويلُ الْمَردودُ : هُوَ صَرفُ الكَلِمِ عَن ظاهِرِهِ إِلَى ما يُخالِفُ ظاهِرَهُ .
وَلَم يَقُل أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ : ( ظاهِرُ هذا غَيرُ مُرادٍ ) . وَلا قالَ : ( هَذهِ الآيَةُ أَو هَذا الحديثُ مَصروفٌ عَن ظاهِرِهِ ) . مَعَ أنَّهُم قَد قَالُوا مِثلَ ذلكَ في آياتِ الأَحكامِ الْمَصروفَةِ عَن عُمُومِها وظَواهِرِها ، وتَكَلَّمُوا فِيما يُسْتَشْكَلُ مِمَّا قَد يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُتَناقِضٌ » ه .(1/6)
البابُ التَّاسِعُ : نَفْيُ الْمَجازِ
1ـ صَرَّحَ بِنَفْيِهِ الْمُحَقِّقونَ ؛ ولَم يُحفَظُ عَن أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ القَولُ بِهِ .
وإِنَّما حَدَثَ تَقسِيمُ الكَلامِ إِلى حَقيقَةٍ ومَجازٍ بَعدَ القُرونِ الْمُفَضَّلَةِ .
فَتَذَرَّعَ بِهِ الْمُعتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ إِلَى : الإِلحادِ في الصِّفاتِ .
2ـ قالَ الشَّيخُ : « وَلَم يَتَكَلَّمِ الرَّبُّ بِهِ ، ولا رَسُولُهُ ، ولا أَصحابُهُ ، ولا التَّابِعون لَهُم بِإحسانٍ .
ومَن تَكَلَّمَ بهِ مِن أَهلِ اللغَةِ يَقُولُ في بَعضِ الآياتِ : ( هذا مِنْ مَجازِ اللغَةِ ) ومُرادُهُ : أَنَّ هذا مِمَّا يَجوزُ في اللغَةِ ، ولم يُرِدْ هذا التَّقسيمُ الحادثِ ؛ لا سِيَّما وقد قالُوا : ( إنَّ الْمَجازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ ) ! فَكَيفَ يَصِحُّ حَملُ الآياتِ القُرآنِيَّةِ على مِثلِ ذلك .
وَلا يَهُولَنَّكَ إِطباقُ الْمُتَأخّرينَ عَليهِ ، فَإنَّهُم أَطبَقُوا على ما هُوَ شَرٌّ مِنهُ » ه .
3ـ وَذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ خَمسِينَ وَجهاً في بُطلانِ القَولِ بالْمَجازِ .
وكَلامُ اللهِ وكلامُ رَسُولِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذلكَ .
البابُ العاشِرُ : إعْجازُ القُرآنِ
1ـ تَعريفُهُ :
الْمُعجِزَةُ : أَمرٌ خارِقٌ للعادَةِ ، مَقرونٌ بالتَّحَدِّي ، سَالِمٌ عَنِ الْمُعارَضَةِ .
2ـ والقُرآن مُعجِزٌ أَبداً :
أَعجَزَ الفُصحاءَ مَعَ حِرصِهِم على مُعارَضَتِهِ .
وقَد تَحَدَّهُم تَعالَى على أن يَأتُوا بِحديثٍ مِثلِهِ ، أو عَشرِ سُوَرٍ ، أو سُورَةٌ .
3ـ وُجُوهُ إعجازِهِ :
وَذَكَرَ العُلَماءُ وُجوهاً مِن إعجازِهِ :
مِنها : أُسلُوبُهُ ، وبَلاغَتُهُ ، وبَيانُهُ ، وفَصاحَتُهُ ، وحُسنُ تألِيفِهِ ، وإِخبارُهُ عَنِ الْمُغَيَّباتِ ، والرَّوعَةُ في قُلوبِ سامِعيهِ … وغَيرُ ذلكَ .
حتَّى قالَ الوَليدُ : ( إِنَّ لَهُ لَحَلاوَةٌ ، وإنَّ عَلَيهِ لَطَلاوَةٌ … ) .
ومَن تَأَمَّلَ حُسنَهُ وَبَديعَهُ وبَيانُهُ وَوُجوهَ مُخاطَباتِهِ : عَلِمَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ مِن وُجوهٍ كَثيرَةٍ .(1/7)
البابُ الحادي عَشَر : أَمثالُ القُرآنِ
1ـ أَهِمّيّتهُ :
أَمثالُ القُرآنِ : مِنْ أَعظَمِ عِلمِهِ . عَدَّهُ الشَّافعِيُّ مما يَجِبُ على الْمُجتَهِدِ مَعرِفَتِهِ .
2ـ الحِكمةُ منه :
ضَرَبَها اللهُ : تَذكيراً وَ وَعظاً .
3ـ فائِدَتُهُ :
وهِيَ : تُصَوُّرُ الْمَعانِي بِصُورَةِ الأَشخاصِ .
البابُ الثَّانِي عَشَر : إِقْسامُ القُرآنِ
1ـ تَعريفُهُ :
[ القَسَمُ : هُو اليَمينُ ، أَقسَمَ بِهِ ؛ أَي : حَلَفَ بِهِ ] .
2ـ الحِكمةُ منه وبِم يكون :
والقَسَمُ تَحقيقٌ للخَبَرِ وتَوكيدٌ لهُ ، ولا يَكونُ إلاَّ بِمُعَظَّمٍ ؛ وهُوَ : اللهُ تَعَالَى .
3ـ ما يُقسِمُ بِهِ اللهُ : يُقسِمُ :
1 : بِنَفسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمَوصُوفَةِ بِصِفاتِهِ .
2 : وبِآياتِهِ الْمُستَلزِمةِ لِذاتِهِ .
3 : وَصِفاتِهِ .
4ـ ما يُقسِمُ عليه :
يُقسِمُ تارَةً على : التَّوحيدِ .
وَتارَةً على : أنَّ القُرآنَ حَقٌّ .
وَتارَةً على : أنَّ الرَّسولَ حَقٌّ .
وَتارَةً على : الجَزاءِ وَالوَعدِ والوَعيدِ .
وَتارَةً على : حالِ الإنسانِ .
5ـ أنواعُهُ : والقَسَمُ :
( أ ) إِمَّا ظاهِرٌ .
( ب ) وَإِمَّا مُضمَرٌ ؛ وَهُوَ قِسمان :
1 : قِسمٌ دَلَّت عَلَيهِ اللاَّم ؛ نَحوُ : ? لَتَبْلُوُنَّ ? .
2 : وَقِسمٌ دَلَّ عليهِ الْمَعنَى ؛ نَحوُ : ? وَإِنْ مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُها ? .
البابُ الثَّالِثُ عَشَر : الْخَبَرُ وَالإِنْشاءُ
• الكَلامُ نَوعانِ : خَبَرٌ ، وَإِنْشاءٌ .
1- الفَرُوقُ بَينَهُما :
• الخَبَرُ : دائِرٌ بَينَ النَّفيِ والإِثباتِ .
وَالإِنشاءُ : أَمرٌ أَو نَهيٌ أَو إِباحَةٌ .
• الخَبَرُ : يَدخُلُهُ التَّصديقُ وَالتَّكذيبُ .
وَالإِنشاءُ : لا .
2- والإخبارُ : إِمَّا إِخبارٌ عَن الخالِقِ ، وإِمّا إخبارٌ عَن الْمَخلوقِ .(1/8)
1 : فالإخبار عَنِ الخالِقِ : هُوَ التَّوحيدُ ؛ وما يَتَضَمَّنُهُ مِن : أسماءِ اللهِ وَصِفاتِهِ .
2 : وَالإخبارُ عَنْ الْمَخلوقِ : هُوَ القَصَصُ ؛ وهُوَ : الخَبَرُ عَمَّا كانَ وما يَكونُ . ويَدخُلُ فيهِ :
( أ ) الخَبَرُ عَن الْرُّسُلِ وَأُمَمِهِم وَمَن كَذَّبَهُم .
( ب ) والإِخبارُ عَن الجَنَّةِ والنَّارِ والثّواب والعِقابِ .
البابُ الرَّابِعُ عَشَر : طُرُقُ تَفسيرُ القُرآنِ
1ـ أَصَحُّ طُرُقُ التَّفسيرِ : أَنْ يُفَسِّرَ :
1 : القُرآنُ بِالقِرآنِ :
فَما أُجمِلََ فِي مَكانٍ فَإنَّهُ قَد فُسِّرَ فِي مَوضِعٍ آخَرَ .
وَما اُختُصِرَ فِي مَكانٍ فَقَد بُسِطَ في مَوضِعٍ آخَرَ .
2 : فَإنْ لَم تَجِدْهُ فِي القُرآنِ فَبِالسُّنَّةِ :
فَإنَّها شَارِحَةٌ للقُرآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ .
3 : فَإنْ لم تَجِدهُ ؛ فَارجِعْ إِلى أَقوالِ الصَّحابَةِ :
فَإنَّهُم أَدرَى بِذلكَ ؛ لِما شاهَدوهُ ، ولِما لَهُم مِن الفَهمِ التَّامِّ والعِلمِ الصَّحيحِ ؛ لا سِيَّما كُبَراؤُهُم ؛ كـ(الخُلَفاءِ الرَّاشدينَ ، والأَئمَّةُ الْمَهديينَ ؛ كَابنِ مَسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ) .
4 : وإِذا لَم تَجِدْهُ فَقَدْ رَجَعَ كَثيرٌ مِن الأَئمَّةِ في ذلكَ إِلى أَقوالِ التّابعينَ : كَمُجاهدٍ ، وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ ، وعِكرِمَةَ ، وعَطاءٍ ، والحَسَنِ ، ومَسروقٍ ، وسَعيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ .
وَكَمالكٍ ، والثَّوريِّ ، والأَوزاعيِّ ، والحَمَّادَينِ ، وأَبي حَنيفَةَ … وغَيرِهِم مِنْ تابِعيْ التَّابعينَ .
وكَالشَّافِعي ، وأحمدَ ، وإسحاقَ ، وأبي عُبيدٍ … وأَمثالِهِم مِن أَتباعِ تابِعِي التَّابعينَ .
2ـ ليسَ تباين الألفاظِ من السَّلَفِ اختِلافاً :
قَالَ الشَّيخُ : « وقَد يَقَعُ في عِباراتِهِم تَبايُنٌ في الأَلفاظِ ، يَحسَبُها مَن لا عِلمَ عِندَهُ اختِلافاً ؛ وليسَ كَذلكَ ، فإنَّ مِنهُم :(1/9)
1 : مَن يُعَبِّر عَن الشَّيءِ بِلازِمِهِ ، أَو : نَظيرِهِ .
2 : ومِنهُم مَن يَنُصُّ عَلى الشَّيءَِ بِعَينِهِ .
ويُرْجَعُ [ فِي تَبايُنِ عِباراتِهِم ] إِلى :
1 : لُغَةِ القُرآنِ .
2 : أَو السَّنَّةِ .
3 : أَو لُغَةِ العَرَبِ .
ومَن تَكَلَّمَ بِما يَعْلَمُ مِن ذلكَ لُغَةً وَشَرعاً : فَلا حرجَ عليهِ . ويَحرُمُ : بِمَُرَّدِ الرَّأيِ » ه .
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : ( التَّفسيرُ على أَربَعَةِ أَوجُهٍ :
1 : وَجهٌ تَعرِفُهُ العَرَبُ مِن كَلامِها .
2 : وتَفسيرٌ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجهالَتِهِ .
3 : وتَفسيرٌ يَلَمُهُ العُلماءُ .
4 : وتَفسيرٌ لا يَعلَمُهُ إلاَّ اللهُ ) ه .
البابُ الخامِسُ عَشَر : التَّفاسيرُ
1ـ تَفاسير السَّلَفِ :
أَحسَنُ التَّفاسيرِ ؛ مِثلُ :
1 : تَفسيرُ عَبدِ الرَّزَّاقِ ، وَ وَكيعٍ ، وَعبدٍ بنِ حُميدٍ ، وَ دُحَيمٍ .
2 : وتَفسيرُ أَحمدَ ، وإِسحاقَ ، وبَقِيِّ بنِ مَخلَدٍ ، وابنِ الْمُنذِرِ ، وسُفيانَ بنِ عُيَينَةَ ، وسُنَيدٍ .
3 : وتَفسيرُ ابنِ جَريرٍ ، وابنِ أبي حاتمٍ ، وأَبي سَعيدٍ الأَشجِّ ، وابنِ ماجةَ ، وابنِ مَردَوَيهِ ، والبَغَويِّ ، وابنِ كَثيرٍ .
2ـ تَفاسير الخَلَفِ :
• وَحَدَثَ طَوائِفٌ مِن أَهلِ البِدَعِ : تَأوَّلوا كَلامَ اللهِ على آرائِهِم :
فَتارَةً : يَستَدِلُّونَ بِآياتِ اللهِ على مَذهَبِهِم .
وَتارَةً : يَتَأوَّلونَ ما يُخالِفُ مَذهَبَهُم ؛ كالخوارجِ والرَّافِضةِ والجَهمِيَّةِ والْمُعتَزِلَةِ والْمُرجِئَةِ … وغَيرِهِم . قَال الشَّيخُ : « وأَعظَمُهُم جَدَلاً : الْمُعتَزِلَةُ » ه .
• وَقد صَنَّفُوا تَفاسيرَ على أُصولِ مَذهبهِم ؛ مِثلَ : تَفسيرِ ابنِ كَيسانَ الأَصَمِّ ، والجُبَّائِيِّ ، وعَبدُ الجَبَّارِ الهَمَدانِيِّ ، والرُّمَّانِيِّ ، والزَّمَخْشَرِيِّ .(1/10)
ووافَقَهُم مُتاخِّروا الشِّيعَةِ : كالمفيدِ ، وأبي جَعفَرِ الطُّوسيِّ . اعتقَدوا رَأياً ثُمَّ حَمَلُوا القُرآنَ عليهِ .
ومِنهم حَسَنُ العِبارة يَدُسُّ البِدَعَ في كَلامِهِ ؛ كَصاحبِ الكَشَّافِ ، حتَّى إِنَّهُ يَروجُ على خَلقٍ كَثيرٍ .
وذَكَرَ : أنَّ تَفسيرَ ابنِ عَطِيَّةَ وأَمثالِهِ - وَإن كانَ أَسلَمَ مِن تَفسيرِ الزَّمخشَريِّ - لَكِنَّه يَذكُرُ ما يَزعُمُ أَنَّهُ مِ قَولِ المُحَقِّقينَ ، وإنما يَعني : طائِفةٌ مِن أهلِ الكلامِ الذين قَرَّروا أُصولَهُم بِطُرُقٍ مِن جِنسِ ما قَرَّرت بهِ الْمُعتَزِلَة (1) .
3ـ خطأُ بَعضِ التَّفاسيرِ :
1 : الخَطأُ في الدَّليلِ :
وَذكَرَ : الذين أَخطَؤا في الدَّليلِ ؛ مِثلَ كَثيرٍ مِن الصّوفيَّةِ والوُعَّاظِ والفُقَهاءِ وغيرِهِم ؛ يُفَسِّرون القُرآنَ بِمعانٍ صَحيحةٍ ولكنَّ القُرآن لا يَدلُّ عَلَيها . مِثلَ كثيرٍ مما ذَكَرَهُ أَبو عبدِ الرَّحمن السُّلَميِّ في (حَقائِقِ التَّفسيرِ) .
2 : الخَطَأُ في الدّليلِ والْمَدلولِ :
وَإن كانَ فيما ذَكروهُ ما هو مَعانٍ باطِلَةٍ ؛ فإنَّ ذلكَ يَدخلُ في الخطإِ في الدَّليلِ والمدلولِ جَميعاً ، حيث يكون الْمَعنى الذي قَصَدوه فاسِداً .
• وَبِالجُملَةِ : مَن عَدَلَ عَن مَذاهبِ الصَّحابَةِ وَالتَّابعين وَتَفسيرِهِم إلى ما يُخالِفِ ذلكَ : كان مُخْطِئاً في ذلكَ ، بل مُبتَدِعاً - وإن كانَ مُجتَهِداً مَغفوراً لَهُ خَطَؤُهُ - .
الْمَقصودُ : بيانُ طُرُقِ العِلمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوابِ .
البابُ السَّادِسُ عَشَر : سَبَبُ الاخْتِلافِ
مِنهُ : ما مُستَنَدُهُ :
1 : النَّقلُ .
2 : أَوِ الاسْتِدلالُ .
[ أَوَّلاً : ما مُستَنَدُهُ النَّقْلُ ]
1ـ والْمَنقُولُ : إِمَّا عَن الْمَعصومِ أَوْ لا .
__________
(1) يَعني : أُصولَهم وإن كان أهلُ الكلامِ أَقربُ إلى السنة من المعتزلة .(1/11)
فالْمَقصودُ : وَإذا جاء عنهُ مِن جِهتين أو جِهاتٍ - مِن غَيرِ تَواطُءٍ - فَصَحيحٌ .
وكَذا الْمَراسيلُ إذا تَعَدَّدَت طُرُقُها .
وخَبَرُ الواحِدِ إذا تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بالقَبولِ أوجَبَ العِلمَ .
والْمُعتَبَرُ في قَبولِ الخَبَرِ : إِجماعُ أَهلِ الحديثِ ، ولَهُ أدِلَّةٌ يُعرَفُ بِها أنَّهُ صِدقٌ ، وعليه أدلّةٌ يُعرَفُ بِها أَنَّهُ كَذِبٌ ، كما في تَفسيرِ : الثَّعلَييِّ ، والواحِدِيِّ ، والزَّمَخشَري . وهُو قليلٌ في تَفسيرِ السَّلفِ .
2ـ وما نُقِلَ عَن بَعضِ الصّحابَةِ نَقلاً صَحيحاً : فالنَّفسُ إِليهِ أَسكَنُ مِما نُقِلَ عَن بَعضِ التّابعينَ .
3ـ والإسرائِيلِيّات : تُذكَرُ للإِستِشهادِ لا للاعتمادِ :
1 : وما عُلِمَت صِحَّتُهُ مما شَهِدَ لَهُ الشَّرعُ : فَصَحيحٌ .
2 : وما خالَفَهُ : فَيُعتَقَدُ كَذِبُهُ .
3 : ومَا لَم يُعلَم حُكمُهُ في شَرعِنا : لا يُصَدَّقُ وَلا يُكَذَّبُ ، وَغالِبُهُ لا فائِدَةَ فيهِ .
[ ثَانِياً : ما مُستَنَدُهُ الاسْتِدْلالُ ]
وَالخَطَأُ الواقِعُ في الاستِدلالِ مِن جِهَتَينِ :
1 : [ قِسْمٌ مِمَّن تَقَدَّمَ ذِكرُهُم مِن الْمُبتَدِعَةِ - جاؤا ] بَعدَ تَفسيرِ الصَّحابِةِ والتَّابعينَ وتابِعيهِم - حَمَلُوا أَلفاظَ القُرآنَ عَلَيها .
2 : أَوْ فَسَّرُوهُ بِمُجَرَّدِ ما يَسوغُ أَن يُرِيدُوهُ مِمَّا لا يَدُلُّ على المرادِ مِن كلامِ اللهِ بِحالٍ .
وَتَبِعَهُم كَثيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ ؛ لِضَعفِ آثارِ النُّبُوَّةِ والعَجزِ والتَّفريطِ حتَّى كانوا يَرْوُونَ ما لا يَعلمونَ صِحَّتَهُ .
3 : وقد يكون الاختِلافُ : لِخَفاءِ الدَّليلِ والذّهولِ عَنهُ .
4 : وَقدْ يكونُ : لِعدَمِ سَماعِهِ .
5 : وَقد يكونُ : للغَلَطِ في فَهمِ النَّصِّ .
6 : وَقَد يَكونُ : لاعِتقادِ مُعارِضٍ راجحٍ .(1/12)
البابُ السَّابِعُ عَشَر : تَفسيرُ القُرآنِ
التَّفسيرُ : كَشفُ مَعانِي القُرآنِ وبَيانُ المرادِ مِنهُ .
قيلَ : (بَعضُهُ) يكون مِن قِبَلِ الألفاظِ الوجيزة وكَشفِ معانيها . و(بَعضُهُ) مِن قِبَلِ ترجيحِ بَعضِ الاحتمالاتِ على بعضٍ .
وأجمَعوا : على أنَّ التَّفسيرَ مِن فُروضِ الكِفاياتِ .
وهُو أجلُّ العلومِ الشَّرعِيَّةِ ، وأَشرَفُ صِناعَةٍ يَتَعاطاها الإنسانُ .
• والْمُعتني بِغريبه لا بُدَّ لَهُ مِن :
1 : مَعرِفَةِ الحروفِ : وأكثَرُ مَن تكلَّمَ فيها النُّحاةُ .
2 : والأَسماءِ والأَفعالِ : وأَكثَرُ مَن تكلَّمَ فيها اللُّغَوِيّونَ .
3 : ومِنهُ : معرفةُ ما وُضِعَ لهُ الضَّميرُ ، وما يَعودُ عليه .
4 : والتَّذكيرِ والتَّأنيثِ .
5 : والتَّعريفِ والتَّنكيرِ .
6 : والخِطابِ بالاسمِ والفِعلِ .
• وأولى ما يُرجَعُ في غريبهِ إلى :
1 : تَفسير ابنِ عبَّاسٍ وغيره من الصَّحابَةِ .
2 : ودواوينِ العربِ .
• ويُبحَثُ عن كونِ الآيةِ [ وكَذا السّورَةِ ] :
1 : مُكمّلةً لِما قبلَها ، أو مُستقلّةً .
2 : وما وجه مُناسَبَتِها لِما قبلَها .
وَعن القراءة (الْمُتواترةِ الْمَشهورَةِ) و(الآحادِ) وكَذا الشَّاذَّةِ ؛ فَإنّها تُفسّر المَشهورةِ وتُبيِّن معانيها ؛ وإن كان لا تَجوزُ القِراءةُ بالشَّاذةِ إجماعاً .
البابُ الثَّامِنُ عَشَر : تِلاوَةُ القُرآنِ
• تُستَحَبُّ : تلاوة القرآن على أكملِ وجهٍ على أكملِ الأحوالِ ، والإكثار منها ، وهو أفضلُ من سائِرِ الذكرِ .
والترتيلُ : أَفضلُ من السُّرعةِ مع تبين الحروفِ وأشدُّ تأثيراً في القلبِ .
وينبغي إعطاء الحروفِ حَقَّها وتَرتيبُها وتلطيفِ النّطقِ بها من غيرِ إسرافٍ ولا تَعسُّفٍ ولا تكلُّفٍ .
• ويُسنُّ : تَحسينُ الصَّوتِ ، والتَّرَنُّمُ بِخشوعٍ وحُضورِ قلبٍ وتَفكّرٍ وتَفهّمٍ .
يُنفِذ اللفظ إلى الأسماعِ والمعاني إلى القلوبِ .(1/13)
قال الشيخُ في « زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصواتِكُمْ » هو : التَّحسينُ والتَّرَنُّمُ بِخشوعٍ وحُضورُ قلبٍ .
لا صرفُ الهِمَّةِ إلى ما حُجِبَ به أكثرُ التَّاسِ من : الوسوسةِ في خروجِ الحروفِ وترقيقِها وتفخيمِها وإمالتِها والنّطقِ بالمدِّ الطّويلِ والقَصيرِ والمتوسّطِ وشَغلهِ بالوَصلِ والفَصلِ والإضجاعِ والإرجاعِ والتَّطريبِ … وغيرِ ذلكَ مما هو مُفضٍ إلى : تغييرِ كتابِ اللهِ والتَّلاعُبِ بهِ والتَّنطّعِ [ مما يُحيل القلوبِ ويَقطَعُها ] عن فَهمِ مُرادِ الرِّبِّ من كلامِهِ .
ومن تأمَّل هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلِّم وإقرارَهُ أهل كُلِّ لِسانٍ على قِراءَتِهِم : تبيَّن له أنَّ التنطّعَ بالوَسوسةِ في إخراجِ الحروفِ ليسَ من سُنّتهِ .
• وقال : يُكرَهُ التَّلحين الذي يُشبهُ الغِناءَ .
• واستحبَّ : بَعضُهُم القِراءةَ في المُصحَفِ .
ويُستحبُّ الخَتمُ كُلَّ أُسبوعٍ . والدّعاءُ بَعدَهُ . وتَحسينُ كِتابَةِ المُصحَفِ ، ولا يُخالِفُ خَطَّ مُصحَفِ عُثمانَ في واوٍ أو ياءٍ أو ألفٍ … أو غيرِ ذلكَ .
• ويَحرُمُ على المُحدِثِ :
1 : مَسُّهُ . 2 وسَفَرٌ بهِ لِدارِ حربٍ .
• ويَجب : احترامُهُ .
وصلَّى اللهُ على محمدٍ وآلِهِ وصَحبِهِ وسَلِّم(1/14)
شرح المقدمة للشيخ سعد الشثري
مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وأتباعه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
يقول الله -جل وعلا-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) } (1) ويقول: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } (2) ويقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } (3) وبعد:
فلا شك أن كتاب الله - عز وجل - فيه الخير والهدى، وصلاح أحوال الأمة، تصلح أحوال الأمة الاجتماعية بالتمسك بهذا الكتاب، وتصلح أحوال الأمة النفسية بهذا الكتاب { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) } (4) وتصلح أحوالهم السياسية بهذا الكتاب، وتصلح أحوالهم المالية بهذا الكتاب، والمؤمن عندما يتمسك بكتاب الله - عز وجل - يرجو ما في الآخرة، يرجو الأجر الأخروي، فإن حصل له أجر دنيوي، كان ذلك تابعا، وليس مقصودا أصالة، وحينئذ فعلينا بالتوجه إلى كتاب الله -عز وجل-؛ لترتفع درجاتنا عند الله؛ ولنحصل على إرضاء رب العالمين، فما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 102.
(2) - سورة النساء آية : 1.
(3) - سورة الأحزاب آية : 70-71.
(4) - سورة الرعد آية : 28.(2/1)
وهذا الكتاب العظيم القرآن الكريم، يمكن أن نتوجه إليه من خلال قراءة آياته، فإن القراءة يثاب المرء عليها بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وكذلك نتوجه إلى هذا الكتاب من خلال حفظه، فالله - عز وجل - قد وصف الذين أوتوا العلم أن هذا الكتاب في صدورهم { بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } (1) وكذلك ورد في الحديث أن " القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن، كالبيت الخرب " ويمكن أن نتوجه إلى هذا الكتاب العظيم كتاب الله - عز وجل - من خلال تدبر معانيه، ومعرفة المراد به، وقد عاب الله - عز وجل - على الذين لا يتدبرون القرآن، قال -جل وعلا-: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } (2) وقال سبحانه: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } (3) .
ويمكن أن نطيع الله - عز وجل - من خلال العمل بهذا الكتاب، والتمسك بما جاء فيه، من أوامر مع الانتهاء عن نواهيه، وحينئذ لا يمكن أن نعمل بما في الكتاب، إلا إذا عرفنا المعاني التي يحتوي عليها هذا الكتاب، ومن ثم اهتم العلماء ببيان معاني القرآن وتفسيره، وبيان مراد الله - عز وجل - به، وألفت المؤلفات في تفسير القرآن من العهود الأول، ومن أوائل من عرف عنه التدوين في تفسير القرآن الإمام مقاتل المتوفى سنة مائة وخمسين، ومن أوائل الكتب التي وصلت إلينا تفسير سفيان، وتفسير النسائي ومن أعظم الكتب في ذلك وأجمعها، كتاب تفسير ابن جرير الطبري، المتوفى سنة ثلاثمائة وعشر للهجرة، وحينئذ استفاد العلماء من هذه المؤلفات، وجمعوا ما ورد في معاني القرآن من خلال كتب التفسير.
__________
(1) - سورة العنكبوت آية : 49.
(2) - سورة محمد آية : 24.
(3) - سورة النساء آية : 82.(2/2)
ولكن الأمة لا زالت محتاجة للنظر في هذا القرآن، لا زالت محتاجة لتدبر معانيه، فما دون في تفسير القرآن، فإنه لا يكفي لبيان مراد الله - عز وجل - فإن هذا القرآن فيه من المعاني ما لا يمكن أن يحصيه بشر، فيه من المعاني والدلالات ما لا يخلق عن كثرة الرد، فكلما قرأنا هذا القرآن، وجدنا فيه معاني لم نكن قد توصلنا إليها فيما سبق، وحينئذ حث العلماء على تدبر القرآن، وتبين مراد الله به، وقرروا بأنه لا يكفي معرفة ما دون في تفسير كتاب الله - عز وجل - .
ومن ثم حرص العلماء على تدوين القواعد، التي يمكن من خلالها معرفة مراد الله - عز وجل - في كتابه العظيم، فألفوا مؤلفات في أصول التفسير، ومن أعظم ما ألف في ذلك رسالة أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهي عظيمة ونافعة، وقد تناولها العلماء بالشرح والبيان والتقريب، وإن كانت تحتاج إلى تقرير لما فيها، وتحتاج إلى زيادة القواعد التي ذكرها العلماء في تفسير القرآن، وعلماء التفسير لم يغفلوا هذه القواعد، بل ذكروا في مقدمات تفسيرهم، العديد من قواعد التفسير وأصوله.(2/3)
وممن ألف في أصول التفسير الشيخ العلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، المولود في العقد الثاني من القرن الرابع عشر، والشيخ عبد الرحمن معروف بتوجهه للعلم، ومعروف بأمانته، ومعروف بعلمه، وقد درس على علماء زمانه، فدرس على الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبد الله العنقري، وطبقة هؤلاء من العلماء، وقد كان مشرفا على الطبع في مطبعة الحكومة في مكة، ثم كان أمينا للمكتبة السعودية في الرياض، وقد كتب مؤلفات عديدة من أعظمها كتابه في أصول الأحكام، الذي جمع فيه أحاديث الأحكام، ثم شرح هذه الأصول في أربعة مجلدات معروفة مطبوعة متداولة، وكتابه كتاب عظيم نافع، ومن مؤلفاته أيضا كتاب حاشية الروض المربع، التي اعتنى بطبعها وتنسيقها وإعادة النظر فيها، فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، وله كتب عديدة وحواش مفيدة على كثير من كتب أهل العلم، سواء في العقيدة أو في الفقه، أو في التفسير أو في النحو واللغة العربية.
وقد قام بعملين جليلين عظيمين، يتمثلان في جمع فتاوى العلماء، فجمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية التي ما زال الناس ينهلون من علومها، وطبعت في خمس وثلاثين مجلدا، ثم قام بفهرسة هذه الفتاوى في مجلدين، فأصبح الجميع سبعا وثلاثين مجلدا، والعمل الثاني للشيخ -رحمه الله- جمْعه لفتاوى علماء نجد، في كتابه الدرر السنية، ولعلنا نقرأ في مقدمة الشيخ في أصول التفسير، نعم .(2/4)
مقدمة التفسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم -رحمه الله تعالى-:
مقدمة التفسير بسم الله الرحمن الرحيم "الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء، وهدى للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه التابعين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فهذه مقدمة في التفسير، تعين على فهم القرآن العظيم، الجدير بأن تصرف له الهمم، ففيه الهدى والنور، ومن أخذ به هدي إلى صراط مستقيم .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نعم، نقف على هذا مما أغفلناه في ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله- ما هو مذكور عندكم من سنة وفاته، فقد توفي -رحمه الله- سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف، وللشيخ -رحمه الله- أبناء أفاضل، ما زلنا نشاهد من أبنائه ما يسر له الخاطر.
قول المؤلف هنا: (مقدمة) إما أن تكون اسم فاعل بكسر الدال؛ لأنها تتقدم غيرها، وإما أن تكون اسم مفعول مقدمة، بمعنى أن المؤلف أو العلماء أو أهل التفسير يقدمونها على غيرها، ويجعلونها سابقة لغيرها، وأصول التفسير المراد بالأصل في اللغة الأساس؛ ولذلك أصل الشجرة أساسها الذي تقوم عليه، قال تعالى: { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } (1) وبعض العلماء من الأصوليين وغيرهم يقول: إن الأصل ما يبنى عليه غيره، وفي هذا نظر؛ لأن السقف يبنى على الجدار، ومع ذلك ليس الجدار أصلا للسقف.
. ـــــــــــــــــــــــــــــ
والتفسير هو التوضيح والبيان قال تعالى: { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) } (2) والمقصود هنا بالتفسير بيان مراد الله -سبحانه وتعالى- في كتابه القرآن الكريم، حسب ما يظهر لنا.
__________
(1) - سورة إبراهيم آية : 24.
(2) - سورة الفرقان آية : 33.(2/5)
وعلم أصول التفسير: يراد به القواعد الكلية التي نتمكن بواسطتها من فهم القرآن وتفسيره، ومن خلال هذا تعرف أن موضوع هذا العلم هو القرآن الكريم، كلام الله - عز وجل - ويمكن أن نتعرف على الفوائد التي سنجنيها من علم أصول التفسير، من خلال ما يأتي:
أولا: بواسطة هذا العلم -علم أصول التفسير- نتمكن من فهم كلام الله - عز وجل - فأصول التفسير هي المناهج التي تبين لنا الطريق الذي يلتزمه المفسر في كلام الله تعالى، ولا شك أن لكلام الله مزية وخاصية، وأن تدبر القرآن أمر مطلوب، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ } (1) قال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ } (2) .
وثانيا: من فوائد معرفة أصول التفسير، أننا نسلم من الإثم المرتب على القول على الله بلا علم، ومن تفسير القرآن بالرأي المجرد، وقد تواترت النصوص في بيان عظم إثم من قال على الله بلا علم، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } (3) إلى أن قال: { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } (4) وقال سبحانه: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } (5) ومن لم يتمكن من معرفة هذه القواعد -قواعد التفسير- فإنه حينئذ يحرم عليه أن يفسر القرآن، ويجب عليه في فهم القرآن أن يعتمد على فهم غيره، ما لم يكن معروفا بأصل اللغة.
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة ص آية : 29.
(2) - سورة النساء آية : 82.
(3) - سورة الأعراف آية : 33.
(4) - سورة الأعراف آية : 33.
(5) - سورة البقرة آية : 168-169.(2/6)
ومن فوائد معرفة أصول التفسير: الترجيح بين أقوال المفسرين، فنحن عند قراءة تفسير القرآن، نجد أقوالا مختلفة، فطائفة يفسرونها بقول، وطائفة يفسرون الآية بقول آخر، ما هو الراجح من هذه الأقوال؟ يمكن أن نتعرفه من خلال معرفة أصول التفسير.
ومن فوائد هذا العلم أيضا: أن نحكم على أقوال المفسرين تصويبا وتخطئة، فعندما نعرف هذه القواعد، ثم نجد قولا لأحد من المفسرين يفسر القرآن، فإننا نطبق هذه القواعد على قوله، فننظر هل قوله قول صائب، أو هو قول خاطئ.
ومن فوائد معرفة أصول التفسير أيضا: أننا نتمكن من معرفة الأحكام الشرعية الواردة في القرآن، فإننا إذا عرفنا معاني القرآن من خلال قواعد التفسير وأصوله، تمكنا من استخراج الأحكام الشرعية .
وكذلك من فوائده: أن نعرف أحكام النوازل الجديدة، والمسائل الحادثة، فإن هذا القرآن العظيم قد بين الله أنه جعله تبيانا لكل شيء، وكل ما احتجنا إليه من أحكام الشريعة، فهو موجود في الأدلة الشرعية، فحينئذ عندما تأتينا مسألة جديدة، فلا بد أن يكون حكمها موجودا في كتاب الله، أو في سنة رسوله، نصا أو استنباطا، كما قال -جل وعلا-: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (1) فحينئذ كيف يستنبطونه؟ بواسطة هذه القواعد -قواعد التفسير وأصوله-، وبمراعاة هذه القواعد، نسلم بإذن الله من الخطأ في التفسير.
__________
(1) - سورة النساء آية : 83.(2/7)
قواعد التفسير وأصوله كانت موجودة في عهد النبوة؛ ولذلك لما أمر الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإيضاح الكتاب وتبيينه للأمة، وبين الله - عز وجل - أنه سيبينه، وأن على الله البيان، فحينئذ نأخذ من هذا قواعد للتفسير، منها أولا أن القرآن يفسر القرآن، ومنها أيضا أن السنة تفسر القرآن، كما قال الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) } (1) .
ثم في عصر الصحابة -رضوان الله عليهم-، كان الصحابة يرجعون إلى دلالات اللغة في فهم الكتاب، وكان لديهم من القواعد الشرعية ما يؤهلهم لفهم كتاب الله - عز وجل - وحينئذ فهذا العلم كان موجودا في عهد النبوة، موجودا في عهد
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحابة -رضوان الله عليهم-، لكنه لم يدون في تلك العصور- وإنما ابتدأ تدوين هذا العلم عند البدء في تدوين علم أصول الفقه، فإنه من المعلوم عندكم أن من أوائل من ألف في أصول الفقه هو الإمام الشافعي -رحمه الله-، في كتابه الرسالة، فلما كتب هذا الكتاب -كتاب الرسالة-، ضمنه العديد من قواعد التفسير، من جهة البيان والعموم والخصوص، ونحو ذلك من مباحث قواعد التفسير، ثم بعد ذلك ضمن علماء أصول الفقه مؤلفاتهم في هذا العلم، قواعد متعلقة بالتفسير، فكانت هذه القواعد مما يستنير له العلماء، في فهم كتاب الله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة النحل آية : 44.(2/8)
لكن العلماء احتاجوا إلى تقريب هذه القواعد في مؤلفات خاصة، وليُعلم قبل هذا بأن أصول الفقه ليس خاصا بما يعرف بعلم الفقه، بالمسائل العملية المسماة بعلم الفقه، فأصول الفقه كما تستخرج منه الأحكام الفقهية، تستخرج منه أيضا الفوائد المتعلقة بالتفسير، والمتعلقة بالحديث، والمتعلقة بتأصيل بقية العلوم؛ ولذلك فإن علم المصطلح مثلا قد استند فيه إلى ما كتبه العلماء في علم الأصول، وقواعد التفسير وأصوله، استند فيه العلماء على قواعد أصول الفقه، فحينئذ نقول: لا اختصاص لعلم الأصول بالفقه، بل جميع علوم الشريعة تستند على قواعد الأصول.
فإن قال قائل: لماذا خص العلماء هذا العلم بالفقه، فقالوا: علم أصول الفقه ؟ فقيل في هذا وجهان:
الوجه الأول: أن المراد بالفقه هنا جميع علوم الشريعة، كما قال تعالى: { * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح!$sغ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } (1) فالمراد هنا بالتفقه في الدين، ليس علم الفقه الخاص، وإنما المراد به جميع علوم الشريعة، العقيدة الفقه التفسير الحديث؛ ولذلك قال الإمام أبو حنيفة في تفسير: المراد بكلمة الفقه، قال: هو معرفة النفس ما لها وما عليها، وهذا يشمل جميع العلوم.
والوجه الثاني: في هذا إنكار هذه التسمية، كما قاله طائفة من الحنفية وغيرهم، وقالوا: لا يصح أن يسمى هذا العلم أصول الفقه، وقرروا بناء على ذلك أنه ينبغي إطلاق هذا العلم، فيقال: علم الأصول، قالوا: ولذلك نجد كثيرا من العلماء يقولون في مؤلفاتهم، المصقول في علم الأصول وهكذا.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 122.(2/9)
بعد ذلك احتاج العلماء إلى إفراد القواعد المؤلفة في التفسير لوحدها، لماذا احتاجوا إليها؟ لأننا في أصول الفقه لا نأتي بالقاعدة مجردة، وإنما نأتي بالقاعدة، ونذكر الأقوال فيها، ونذكر الأدلة، ثم نرجح بينها, أما في قواعد التفسير، وقواعد المصطلح، فإننا نأخذ قواعد مسلمة، لا نحتاج فيها إلى استدلال، ولا نحتاج فيها إلى ذكر أقوال،
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما تأتي بالقول الراجح، سواء في المصطلح، أو في قواعد التفسير.
هذا العلم ما حكم تعلمه؟ هو من فروض الكفايات، الذي يجب على الأمة أن يوجد فيها من يعلمه؛ من أجل أن نتمكن من فهم كتاب الله - عز وجل - وأن نطبقه على الوقائع والحوادث التي تحدث على الأمة، فإذا تركته الأمة جميعا أثموا، وهذا العلم -علم أصول التفسير- يستمد من علم أصول الفقه، كما تقدم سابقا، وعلم الأصول يستمد من شيئين، من الأدلة الشرعية كتابا وسنة، ويستمد من لغة العرب، فإن القرآن نزل بلغة العرب، كما قال سبحانه: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا } (1) فإذا أردنا أن نفهم هذا الكتاب، فلا بد أن نكون ملمين بلغة العرب.
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 3.(2/10)
قال المؤلف -رحمه الله- تعالى: مقدمة في التفسير، بسم الله الرحمن الرحيم بسم: جار ومجرور، وهنا الجار والمجرور لا بد أن يكون متعلقا بشيء، ويصح أن يكون متعلقا باسم، كأن تقول ابتدائي باسم الله، ويصح أن يكون متعلقا بفعل، كأن تقول: أبتدئ باسم الله، وكلاهما وارد في القرآن، قال تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } (1) هنا علق الجار والمجرور بالاسم، وقال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) } (2) اقرأ فعل وباسم تعلق بهذا الفعل، بسم الله: الله علم على الذات الإلهية، والرحمن الرحيم صفتان من أوصاف الله - عز وجل - واسمان من أسماءه تتضمنان صفة الرحمة، الرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله - عز وجل - يتضمنان صفة الرحمة؛ لأن الأسماء المشتقة تدل على اتصاف الله - عز وجل - بالصفة التي اشتقت منها هذه الأسماء.
وأنتم تعلمون أن ما يضاف إلى الله - عز وجل - ثلاثة أشياء، الأول أفعال، فهذه لا يشتق منها شيء، والثاني صفات والصفات يشتق منها الأفعال، والثالث الأسماء فإذا أثبتنا الاسم فمعناه أننا نثبت الصفة، ونثبت الفعل، وإذا أثبتنا الصفة، فمعناه أننا نثبت الفعل، ولا يلزم منه إثبات الاسم، وإذا أثبتنا الفعل، فإنه لا يلزم من ذلك أن نثبت لله صفة ولا اسما.
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه البسملة لها مكانة في الشريعة ومنزلة، وقد شرع الله لنا البدء بالبسملة في عدد من الأعمال منها: الوضوء، الأكل، قراءة القرآن، الجماع، دخول الخلاء ،كتابة الرسائل.
__________
(1) - سورة هود آية : 41.
(2) - سورة العلق آية : 1.(2/11)
قال المؤلف بعد ذلك: "الحمد لله" جرت العادة أن الخطب تبدأ بحمد الله تعالى؛ ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ خطبة الجمعة بالحمد بدون بسملة، وجرت العادة أن المراسلات والكتب تبدأ بالبسملة دون حمد، كما كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - عددا من الكتب إلى ملوك زمانه، فكان يكتب بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كذا، بدون ذكر الحمد، وأما بالنسبة للمؤلفات والكتب، فإنه يكتنفها جانبان:
الجانب الأول: أنها كتاب، فشرع فيها البداءة بالبسملة الجانب.
الثاني: أنها بمثابة الخطبة والحديث فشرع فيها الحمد، وبذلك نكون نقتدي بكتاب الله - عز وجل - فإن كتاب الله -سبحانه وتعالى- ابتدأ بهما، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، فهنا بدأ بالبسملة، ثم ثنى بالحمد، ما المراد بالحمد؟ الحمد هو الوصف بالفعل الاختياري الجميل باللسان، الوصف باللسان، للفعل الاختياري الجميل، على وجه الاستغراق، الحمد هنا، هل هي عامة أو خاصة؟ فالألف واللام هنا هل هي للاستغراق، بحيث تشمل جميع أنواع المحامد، أو هي عهدية للعهد، كأنه يقول: الحمد الكامل الذي لا يتعريه نقص فهو لله، أما غيره فقد يكون له حمد، لكنه ليس حمدا كاملا.
هذان قولان لأهل العلم:(2/12)
القول الأول: أن الألف واللام للاستغراق، فتكون عامة، ويستدلون على ذلك بما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اللهم لك الحمد كله " فدل ذلك على أن جميع الحمد يكون لله -سبحانه وتعالى-، لكن هذا تعرفون أن هذا العلم قد تكلموا في إسناده، فإنه قد ورد في مسند أحمد وغيره، من طريق اثنين من الصحابة، طريق حذيفة لكن فيه رجل مجهول لم يسم، والحديث الذي فيه رجل مجهول لا يعول عليه، والطريق الثاني ورد أيضا في المسند وفي غيره، في السنن، من طريق عبيد بن رفاعة الزرقي، ولكن كثيرا من أهل العلم تكلم فيه، قال عنه الذهبي وغيره: بأنه منكر، وإن كان إسناده مستقيما، لكن أهل العلم تكلموا في شيء من ألفاظه في المتن، فاستدلوا بذلك على نكارة لفظه.
والقول الآخر: بأن الألف واللام للعهد، فيكون المراد الحمد الكامل الذي لا يعتريه نقص يكون لله، وأما غيره فيجوز حمده، واستدلوا على ذلك بما ورد من حمد بعض الناس، ومن ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض الناس، وقد ورد في
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا بحمدك، ولا بحمد أحد من الناس، في حديث الإفك، لما نزلت آيات براءتها -رضي الله عنها-.(2/13)
قال الحمد لله الذي أنزل الكتاب أنزل: النزول يأتي من العلو، وكلمة أنزل قد وردت في القرآن في عدد من المواضع، قال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) } (1) فأنزل واردة بالنسبة للقرآن في مواطن عديدة، وكذلك ورد لفظ نزّل بحذف الهمز وتشديد الزاي، وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين هذين اللفظين؛ ولذلك نجد أن هذين اللفظين يستخدمان في مواطن، فيفرق بينهما، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ } (2) وقال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (3) فدل ذلك على وجود فرق، وقال تعالى: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ } (4) فدل ذلك على وجود الفرق بينهما.
فقال طائفة بأن الكتب السابقة يقال فيها أنزل؛ لأنها قد نزلت جملة واحدة، لكن القرآن لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل مفرقا؛ ولذلك يقال فيه نزّل، ولكن هذا اللفظ أنزل قد ورد في القرآن في مواطن عديدة { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } (5) فوصف القرآن بكونه منزل أنزل؛ ولذلك قالت طائفة: وهذا يعارض قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } (6) فوصف القرآن بفعل نزّل مع قوله جملة واحدة .
__________
(1) - سورة الفرقان آية : 1.
(2) - سورة النساء آية : 136.
(3) - سورة النحل آية : 44.
(4) - سورة آل عمران آية : 3-4.
(5) - سورة الكهف آية : 1.
(6) - سورة الفرقان آية : 32.(2/14)
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولهذا اختار طائفة بأن الفرق بينهما أن أنزل لما تم إنزاله واستقر، ولم يبق منه شيء، ونزل لما لا يزال لما كان مستمرا إنزاله، فما استمر إنزاله، يقال فيه نزل، وما كمل إنزاله يقال فيه أنزل، وعلى كل فالأمر ليس قاطعا.
قوله الكتاب مأخوذ من كتب، والمراد به القرآن العظيم، فالقرآن العظيم يطلق عليه اسم الكتاب؛ ولذلك في حادثة الجن ذكر الله - عز وجل - عن الجن أنهم سموا ما سمعوه قرآنا، وسموا ما سمعوه كتابا، والمسموع شيء واحد .
"تبيانا لكل شيء" يعني موضحا ومبينا لكل شيء كما في قوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (1) يعني موضحا ومبينا؛ ولذلك ورد عن عدد من الصحابة بأن هذا القرآن فيه بيان كل شيء، ابن مسعود، وابن عباس وجماعة، وتبيانا لكل شيء، قيل المراد به: ما تحتاجون إليه من أمور آخرتكم، وقيل: تبيانا لكل شيء المراد له الأحكام الشرعية فالقرآن قد احتوى على جميع الأحكام الشرعية، وجعلهم يذهبون؛ لذلك أنهم يجدون شيئا من أمور الدنيا، ومن أمور الناس في صناعاتهم، وبيعاتهم وأعمالهم، وما يستجد لهم من معرفة بأمور كونية لا يجدونه في هذا الكتاب، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - قد بين لنا في القرآن كل علم وكل شيء .
قال المؤلف: وهدى للمتقين، الهدى للعلماء فيه قولان مشهوران:
القول الأول: أن الهدى يراد به العلم، فالهدى هو ما يعرفه الإنسان ويعلمه، من الصواب والحق، ولا يدخل في مسمى الهدى عندهم العمل، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } (2) فالهدى العلم، ودين الحق العمل .
__________
(1) - سورة النحل آية : 89.
(2) - سورة التوبة آية : 33.(2/15)
وقال طائفة: بأن الهدى يشمل العلم والعمل، واستدلوا عليه بمثل قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } (1) فالمغضوب عليهم: هم الذين عندهم علم، لكنهم لم يعملوا بهذا العلم، كاليهود ومن ضل من علماء هذه الأمة { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا الضَّالِّينَ (7) } (2) فالضالون: هم من عندهم عمل، لكن ليس عندهم علم يستند إليه هذا العمل، كالنصارى ومن وافقهم من عباد هذه الأمة.
فقوله: اهدنا شمل الأمرين، وهما العلم والعمل، وهو سبيل من أنعم الله عليهم، وأنتم تعلمون أن الهداية تطلق على هداية الدلالة والإرشاد، من دل غيره على طريق الحق والصواب، قيل هداه؛ ولذلك قال تعالى: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) } (3) وقال -جلا وعلا-: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) } (4) وفي الحديث: " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا " .
والنوع الثاني: من أنواع الهداية هو هداية الإلهام والتوفيق، كما في قوله سبحانه: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (5) { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } (6) .
__________
(1) - سورة الفاتحة آية : 6-7.
(2) - سورة الفاتحة آية : 7.
(3) - سورة الرعد آية : 7.
(4) - سورة الشورى آية : 52.
(5) - سورة القصص آية : 56.
(6) - سورة الأنعام آية : 125.(2/16)
وكذلك يأتي لفظ هدى في القرآن والسنة، بمعنى قضى وقدر، كما قال تعالى: { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) } (1) وكما قال تعالى في سورة طه: { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } (2) وكذلك تطلق الهداية في القرآن على المصير الحسن، الذي صار إليه الإنسان في آخر أمره، كما قال تعالى عن عباده المؤمنين: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } (3) قالوه فيه الجنة لهذا، يعني الجنة.
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: للمتقين، ما المراد بالتقوى، مأخوذ من الفعل وقى، بمعنى أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، والتقوى قد جاءت النصوص بالأمر بها، وقد ورد معنا شيء من النصوص بالأمر في ذلك، في أول كلمتنا هذه.
وقوله هنا: هدى للمتقين، فيه دلالة على أن التقوى سبب من أسباب الهداية، كما في أول سورة البقرة { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) } (4) فالتقوى سبب من أسباب الهداية، وقد تواترت النصوص بذلك، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } (5) وقال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } (6) إلى غير ذلك من النصوص، فحينئذ من أسباب التعلم ومن أسباب فهم العلوم الشرعية، هو التزام طاعة الله - عز وجل - فمن التزم التقوى والطاعة، أفهمه الله علوم الشريعة.
__________
(1) - سورة الأعلى آية : 3.
(2) - سورة طه آية : 50.
(3) - سورة الأعراف آية : 43.
(4) - سورة البقرة آية : 2.
(5) - سورة الأنفال آية : 29.
(6) - سورة البقرة آية : 282.(2/17)
وأشهد أن لا إله إلا الله أشهد، بمعنى أقر وأعترف وأعلم، والأصل في الشهادة أن يكون لما شوهد وعوين بالعين، هذا الأصل فيها؛ ولذلك يقال: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } (1) فالغيب ما غاب عنا، والشهادة ما شهدناه، وأحسسنا به بحواسنا، ولكن لما كان هذا الأمر متيقنا يقينا جازما لا شك معه، أصبح الإقرار بذلك والاعتراف به، بمثابة المشاهد عيانا .
ألا إله: إله بمعنى معبود، خلافا للطوائف الأخرى، أنتم تعرفون أن الحلولية يقولون: لا إله أي لا موجود إلا الله، وهذا كلام خاطئ، وخلافا للمعتزلة الذين يفسرون هذه الشهادة، بنفي الصفات أي لا قديم إلا الله، فصفاته ليست قديمة، وخلافا للأشاعرة الذين يفسرون هذه الشهادة بتوحيد الربوبية، أي لا خالق ولا رازق إلا الله، وكل هذه خطأ، على خلاف مدلول لغة العرب؛ ولهذا لما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا إلى قول لا إله إلا الله ، قالوا: { أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } (2) ،
............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مما يدل على أن قول هذه الطوائف كلها قول خاطئ، مخالف لمدلول هذه الآية، فيكون المراد بقوله: لا إله إلا الله، يعني لا معبود بحق إلا الله .
ويتضمن ذلك أيضا الإقرار بذلك، والعمل به، فكأنه يقول لا معبود ولا يستحق أحد العبادة إلا الله، وكذلك لا أعبد إلا الله؛ لأن من عبد غير الله، ولو كان يقر باستحقاق الله بالانفراد بالعبادة، فإنه لا يغني عنه ذلك شيئا؛ ولذلك ذكروا أن هذه الشهادة لها شروط:
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 73.
(2) - سورة ص آية : 5.(2/18)
أولا: العلم بمعناها ودلالتها، فمن لم يكن عالما بها، فإنه يكون حينئذ ليس ممن دخل في النصوص الشرعية الواردة بسلامة من قال، أو بمصير من قال هذا اللفظ إلى الجنة، وكذلك من شروط هذه الشهادة اليقين الجازم بصحة هذه الشهادة، والإخلاص بقول هذه الشهادة، بحيث يبتغى بها ما عند الله - عز وجل - كذلك الصدق، وكذلك المحبة، والانقياد لها ظاهرا وباطنا، مع القبول لها.
ودل على هذه القيود، ما ورد من النصوص الشرعية، من تقييد قول هذه الكلمة بهذه القيود، ففي بعض الألفاظ " من قال: لا إله إلا الله موقنا بها قلبه " وفي بعضها " من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله " إلى غير ذلك من النصوص، ومن القواعد المقررة أنه إذا ورد عندنا لفظان، أحدهما مفرد والآخر مقيد، فإننا نقيد المطلق باللفظ المقيد.
قال المؤلف هنا: الملك أي أن الله - عز وجل - يملك كل شيء ،كما قال سبحانه: { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (1) والنصوص في ذلك دالة، أو صريحة في إثبات أن الملك الحقيقي هو لله - عز وجل - فكل من ملك شيئا فهو وما ملكه ملك لله -سبحانه وتعالى-، ثم في الآخرة تصفو هذه الصفة لله - عز وجل - بمعنى أنها تتمحض الأملاك لله -عز وجل-؛ ولذلك يقول سبحانه في ذلك اليوم: " أنا الملك أين ملوك أهل الأرض؟ " قوله: الحق، يعني الذي لا يمتري عليه باطل، فالحق قد تكون عائدة لله - عز وجل - وقد تكون لصفة الملك.
.............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المبين: بمعنى الواضح البين، الذي لا يعتريه غموض أو خفاء، قال تعالى: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) } (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، وقولك حق" .
__________
(1) - سورة المائدة آية : 120.
(2) - سورة النور آية : 25.(2/19)
والشهادة بهذه الشهادة، شهادة أن لا إله إلا الله، قد شهد الله - عز وجل - بها، وشهد بها الملائكة، وشهد بها العلماء، قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } (1).
وهذه الشهادة لا تكفي وحدها، بل لا بد معها من الشهادة الأخرى، بعد بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي الشهادة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة؛ ولذلك قال المؤلف بعده: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، والعبودية مقام عظيم، مقام شريف؛ ولذلك وصف الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوصف، في أعظم المنازل، وفي أرفع الدرجات، وصفه عند إنزال الكتاب: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } (2) وصفه بذلك عند الإسراء والمعراج { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } (3).
وهذا الوصف وصف العبودية ليس خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أيضا شامل لجميع الناس، فإن العبودية -كما تعلمون- على صنفين، عبودية عامة لجميع المخلوقات المؤمن والكافر، وعبودية خاصة لأهل الإسلام والإيمان، والمراد هنا بهذا اللفظ ما يشمل المعنيين، لكن هذا المعنى ليس خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فكل مسلم مؤمن موحد، فهو عبد لله -سبحانه وتعالى- بالعبوديتين؛ فلماذا عُبر بالعبودية في الشهادة؟ للعلماء في ذلك قولان، قيل: لنفي الغلو، لئلا يوجد في الأمة من يغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعتقد أنه فوق منزلته.
القول الثاني: أن وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية؛ من أجل كونه خير من قام بحقوق العبودية؛ فلذلك وصف بها.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 18.
(2) - سورة الكهف آية : 1.
(3) - سورة الإسراء آية : 1.(2/20)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله هنا: ورسوله، يعني أن الله -سبحانه وتعالى- أرسله إلى الناس؛ للدلالة على الخير، وعلى سلوك الصراط المستقيم، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } (1) { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } (2) ومقتضى الرسالة أن نصدق ونوقن بما جاء به الرسول، وكذلك من مقتضى هذه الرسالة أن نطيعه في أوامره، وفي نواهيه، ومن مقتضى الرسالة أيضا ألا يعبد الله -سبحانه وتعالى- إلا بما جاء به هذا النبي الكريم، فلا نخترع عبادات جديدة، لم يأت بها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله هنا: الصادق، فيه وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدق، وقد وصفه الله - عز وجل - بذلك، بل وصف جميع المرسلين بذلك، قال تعالى: { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) } (3) { قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } (4) قوله الأمين: يعني أنه مؤتمن على تبليغ هذه الشريعة، وإيصالها للناس أجمعين، ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - قد اتصف بصفة الأمانة، ولا يأتينا شك في ذلك.
قوله: صلى الله عليه، صلى قيل: إن معناه أثنى الله عليه، كما قاله أبو العالية والجماعة، وهذا هو الصواب في هذا اللفظ، وقال طائفة معنى صلى الله عليه، يعني أن الله قد رحمه، وهذا المعنى قد رد بقوله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } (5) فلو كان معنى الصلاة هو الرحمة، لم يكن لذكر الرحمة بعد الصلاة فائدة، فدل ذلك على المغايرة بين اللفظين.
__________
(1) - سورة الأنبياء آية : 107.
(2) - سورة الفتح آية : 29.
(3) - سورة يس آية : 52.
(4) - سورة الأحزاب آية : 22.
(5) - سورة البقرة آية : 157.(2/21)
صلى الله عليه، يعني على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله، أتى بلفظة على هنا؛ لأن كثيرا من النحاة، وأهل اللغة لا يستجيزون عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور، فهنا عليه الهاء ضمير مجرور، فلا يجيزون أن يقال: صلى الله عليه وآله، وذلك؛ لأنهم يوجبون إعادة العامل في الاسم الظاهر، المعطوف على ضمير مجرور، كما في قوله تعالى:
. ـــــــــــــــــــــــــــــ
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ } (1) فذكر الباء، وإن كان طائفة من النحاة لا يوجبون ذلك، ويصححون عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور، ويستدلون عليه بمثل قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } (2) على إحدى القراءات فعطف الأرحام على الضمير المجرور، في قوله: { به } ؛ ولذلك قال بعض النحاة: إن سمعت فلانا -حمزة- يقرأ بها، لأخذت نعلي وتركته؛ لأنهم لا يستجيزون مثل هذا، وأنتم تعلمون أن القراءة لا بد أن تكون موافقة لوجه من أوجه اللغة.
والصواب جواز عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور لهذه الآية، وهي قراءة سبعية متواترة لا إشكال فيها ولقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) } (3).
فقوله: { وَمَنِ اتَّبَعَكَ } (4) معطوف على الكاف، وإن كان جمهور النحاة قالوا: هذه جائزة؛ لأنه فصل بين الاسم الظاهر وبين الضمير، فقال: حسبك الله، فإذا فصل بين الضمير، وبين الاسم الظاهر، جاز بين ذلك، فنقول: إذا جاز ذلك عند الفصل، فنقيس عليه جواز عطفه عليه عند الوصل.
__________
(1) - سورة القصص آية : 81.
(2) - سورة النساء آية : 1.
(3) - سورة الأنفال آية : 64.
(4) - سورة الأنفال آية : 64.(2/22)
قوله هنا: آله، للعلماء في ذلك أقوال متعددة ترجع إلى قولين، في تفسير الآل، القول الأول: أن المراد بالآل هم الأتباع، لقوله تعالى: { أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) } (1) والمراد بآل فرعون هنا هم أتباعه؛ لأن من قرابة فرعون من هو مؤمن، وقال طائفة: المراد بالآل هم القرابة لقوله تعالى: { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ } (2)، ولقوله سبحانه: { قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ } (3) فاستثنى المرأة من الأهل، والأصل في الاستثناء أن يكون استثناء حقيقيا، فتكون المرأة من آل لوط، ومع ذلك ليست من أتباعه؛ ولذلك لم تنج من العذاب.
قوله هنا: وأصحابه، من المعلوم أن المراد عند علماء الشريعة بالأصحاب، هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، ومات على ذلك، لما ورد في الحديث " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن قوما يغزون، فيقال له: هل فيكم من رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - " فدل ذلك على مزية هذه الرؤية، فأثبتت الصحبة بها، واشتراط الزمن والبقاء واللبث عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة للاتصاف بهذا الوصف، وصف الصحبة هذا إنما يكون في مبحث حجية قول الصحابي، وأما في مبحث عدالة الصحابة، وفي مبحث إثبات وصف الصحبة، فهذا يكون لكل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - سورة غافر آية : 46.
(2) - سورة غافر آية : 28.
(3) - سورة الحجر آية : 58-60.(2/23)
ولذلك جاءت النصوص ببيان مزية الصحابة، وعلو درجاتهم، قال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ } (1) فوصفهم بصفات جليلة، وأثنى عليهم وقال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } (2) والنصوص في فضل الصحابة وبيان مكانتهم كثيرة، ومن خص الصحبة بمن أسلم قبل فتح مكة، فهذا قد أخطأ خطأ قاطعا، وخالف دلالة النصوص الشرعية، ونجزم بخطأ قوله، ومخالفته للحق والصواب، وأنه على معتقد فاسد وخاطئ.
قوله هنا: والتابعين، يعني من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله -جل وعلا-: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (3) وحينئذ يكون هذا الاسم شاملا للصحابة والآل، وقد يقال في التابعين بأن المراد بهذا اللفظ، هم من اتبع الصحابة، يعني والتابعين للصحابة، كما في قوله سبحانه: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } (4) وكلاهما مراد، ولا مانع منه.
__________
(1) - سورة الفتح آية : 29.
(2) - سورة التوبة آية : 100.
(3) - سورة يوسف آية : 108.
(4) - سورة التوبة آية : 100.(2/24)
وسلم. التسليم هو: التحية والله - عز وجل - يسلم على أوليائه الصالحين، وعلى أنبيائه قال تعالى: { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) } (1) وجمع المؤلف هنا بين الصلاة والسلام، اقتداء بما ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } (2) اللهم صل وسلم عليه.
قال المؤلف بعد ذلك: أما بعد، يعني مهما يكن من أمر بعد ذلك فهذه مقدمة في التفسير، تقدم معنا المراد بذلك تعين على فهم القرآن، يعني تساعد على فهم القرآن، وتقدم معنا أن من القرآن ما يظهر بدلالة اللغة، فلا يحتاج فيه إلى تعلم مثل هذه القواعد، مثل لفظ السماء، لفظ الأرض ونحو ذلك، ومنها ما يحتاج إلى استنباط معتمد على قواعد وأصول التفسير، وهو المراد هنا.
القرآن العظيم: فالقرآن العظيم يعني أنه معظم، الجدير: يعني الذي يستحق أن تصرف له الهمم، يعني يتوجه العباد إلى هذا القرآن في فهم معناه، ومعرفة دلالته، ففيه: يعني في القرآن، الهدى والنور، لا شك أن هذا القرآن فيه هدى كما قال تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) } (3) وكما قال سبحانه: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) } (4) وقال تعالى: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة يس آية : 58.
(2) - سورة الأحزاب آية : 56.
(3) - سورة البقرة آية : 2.
(4) - سورة البقرة آية : 38-39.(2/25)
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) } (1) { تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) } (2).
والنور: بمعنى أن هذا القرآن فيه النور، فهو نور يهتدي به إلى الصراط المستقيم، قال تعالى: { جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } (3) وقال: { فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) } (4) ومن أخذ به هدي إلى صراط مستقيم، كما في قوله سبحانه: { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } (5).
تنزيل القرآن
__________
(1) - سورة النحل آية : 64.
(2) - سورة النمل آية : 1-2.
(3) - سورة المائدة آية : 15-16.
(4) - سورة الأعراف آية : 157.
(5) - سورة المائدة آية : 16.(2/26)
تنزيل القرآن، أجمعوا على أن القرآن كلام الله حقيقة، منزل غير مخلوق، سمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، وسمعه الصحابة من محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نتلوه بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا، وكل حرف منه كالباء والتاء، كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، وبدّعوا من قال: إنه فاض على نفس النبي من العقل الفعال، أو غيره كالفلاسفة والصابئة، أو أنه مخلوق في جسم من الأجسام، كالمعتزلة والجهمية، أو في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كالكلابية والأشعرية، أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية كالكلامية، أو أنه حادث قائم بذات الله ممتنع في الأزل، كالهاشمية والكرامية، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فجهمي، أو غير مخلوق فمبتدع .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف هنا: تنزيل القرآن، يعني أن هذا القرآن منزل من عند الله -سبحانه وتعالى-، وسيذكر في هذا الفصل أقوال أهل العلم، وأقوال الناس في هذه المسألة، أجمعوا: المراد بالإجماع الاتفاق، اتفاق مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، في عصر من العصور على حكم شرعي، هذا هو المراد بالإجماع، والواو هنا واو الجماعة تعود على أحد أمرين، إما على الصحابة -رضوان الله عليهم- وإما على أهل المعتقد الصحيح، أو يكون المراد الجميع، الصحابة والسلف ممن سار على منهجهم وطريقتهم.
على أن القرآن كلام الله حقيقة، فالقرآن أراد به المؤلف هذا الموجود بين أيدينا، كما قال سبحانه: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
(2/27)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظَهِيرًا (88) } (1) فالمراد هذا الذي بين أيدينا، كلام الله حقيقة، بمعنى أن الله - عز وجل - قد تكلم به حقيقة، أي ليس على سبيل المجاز، والدليل على أم الله - عز وجل - قد تكلم بهذا القرآن الذي بين أيدينا حقيقة، النصوص الشرعية المتكاثرة في الدلالة على ذلك قال سبحانه: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (2) فدل ذلك على أن المسموع هو كلام الله -سبحانه وتعالى-، وقال سبحانه { يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } (3) فسماه كلام الله، وجعل المسموع هو كلام الله، والأصل في الكلام هو الحقيقة، وليس المجاز.
منزل غير مخلوق: يعني أن الله - عز وجل - قد أنزله من عنده، كما قال -جل وعلا- { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } (4) { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } (5) ونحو ذلك من النصوص، قوله: غير مخلوق، فإن صفات الله - عز وجل - ليست مخلوقة، والقرآن كلام الله، وكلامه صفة من صفاته، وحينئذ لا يكون مخلوقا، وهذا قول أهل السنة قاطبة، لا شك عندهم في ذلك ولا مرية، وأنتم تعرفون ما حصل لأئمة الإسلام في هذه الكلمة في العصور الأول، ولا شك أن الله - عز وجل - يتكلم، فإنه قد وصف الله نفسه بالكلام { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (6) ووصف نفسه بالقول: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ } (7) { * وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا } (8) .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 88.
(2) - سورة التوبة آية : 6.
(3) - سورة البقرة آية : 75.
(4) - سورة الكهف آية : 1.
(5) - سورة النحل آية : 89.
(6) - سورة النساء آية : 164.
(7) - سورة النحل آية : 40.
(8) - سورة النحل آية : 51.(2/28)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ووصف نفسه بالنداء { نَادَاهُ رَبُّهُ } (1) ووصف نفسه بالمناجاة.
منزل غير مخلوق سمعه جبريل، يعني أن جبريل -عليه السلام-، وجبريل هو أحد الملائكة الموكل بإنزال الوحي، الذي تحصل به حياة القلوب، من الله - عز وجل - فجبريل -عليه السلام- هو الذي سمعه من الله -سبحانه وتعالى-، ونزل هذا الكتاب من عند الله -سبحانه وتعالى- إلينا، والنصوص في الدلالة على أن جبريل قد أنزل هذا الكتاب كثيرة، قال سبحانه: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } (2) وقال -جل وعلا- في سورة النحل: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (3) فوصف هذا الملك الكريم جبريل -عليه السلام- بإنزال هذا الكتاب من عند الله -سبحانه وتعالى-.
وسمعه محمد - صلى الله عليه وسلم - من جبريل، وسمعه الصحابة من محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا المسموع هو كلام الله -سبحانه وتعالى- حقيقة، ومن هنا نعلم أن من نفى هذه الصفة فهو خاطئ، صفة الكلام، أو نفى أن يكون القرآن كلام الله، فإنه خاطئ لمخالفته للنصوص الشرعية، وهو يعني هذا القرآن.
__________
(1) - سورة النازعات آية : 16.
(2) - سورة البقرة آية : 97.
(3) - سورة النحل آية : 102.(2/29)
هو الذي نتلوه بألسنتا، فالمتلو حقيقة هو كلام الله، وهو المسموع كما في قوله تعالى: { يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } (1) { إِنَّا سَمِعْنَا } (2) { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ } (3) فهذا المتلو هو القرآن، الذي هو كلام الله، وهو المسموع ثم قالوا بعد ذلك: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } (4) وقالوا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) } (5) فالمسموع هو كلام الله - عز وجل - حقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي نتلوه بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، يعني أن هذا الموجود بين الدفتين، هو كلام الله والدفتان هما غلافا المصحف، اللذان يكونان في أوله وفي أخره؛ لحفظه وصيانته، فما بين الدفتين هو كلام الله -سبحانه وتعالى-، وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "القرآن هو ما بين الدفتين" .
قال: وما في صدورنا، يعني أن الذي يوجد في الصدر هو كلام الله حقيقة، وهو القرآن حقيقة، مسموعا: يعني أن هذا المسموع هو كلام الله، ومكتوبا: يعني أن المكتوب هو كلام الله، ومحفوظا: المحفوظ في الصدور هو كلام الله -سبحانه وتعالى-، وكل حرف من هذا القرآن مثل الباء والتاء، هو من كلام الله - عز وجل - كان الأولى بالمؤلف أن يجعل من قبل كلام الله التبعيضية؛ لأن ليس كل كلام الله هو حرف الباء والتاء، أو يقول: وكل حرف منه كلام لله، وإن كان أهل اللغة لا يرتضون ذلك؛ لأن الكلام عندهم هو اللفظ المفيد، كما قال ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
__________
(1) - سورة البقرة آية : 75.
(2) - سورة الأحقاف آية : 30.
(3) - سورة الأحقاف آية : 29.
(4) - سورة الأحقاف آية : 30.
(5) - سورة الجن آية : 1.(2/30)
فلو قال: كالباء والتاء من كلام الله، لكان أولى والأحسن، غير مخلوق: يعني أن كلام الله -سبحانه وتعالى- غير مخلوق، كما قال -جل وعلا-: { لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (1) فدل ذلك على أن الأمر مغاير للخلق.
قوله: منه بدأ: يعني منه ظهر، ظهر منه -سبحانه وتعالى- فهو المتكلم به، وإليه يعود: يعني يرفع من الصدور والمصاحف في آخر الزمان، فلا يبقى منه آية كما وردت بذلك بعض الآثار، وهذا اللفظ منه بدأ وإليه يعود، ورد عن بن عباس - رضي الله عنه - بإسناد جيد، وهو كلام الله: يعني أن هذا القرآن هو كلام الله -سبحانه وتعالى-، حروفه ومعانيه، فليس الحروف هي وحدها كلام الله، دون المعاني، وليست المعاني دون الحروف، هي كلام الله -سبحانه وتعالى-، وحينئذ نعرف أن الكلام يشمل أمرين، الحروف والأصوات، ويشمل أيضا المعاني هذا مفهوم الكلام، فلو وجدت معاني بدون أصوات وحروف، فإنه لا يكون كلاما؛ ولذلك لماذا ذكر الله - عز وجل - مريم عليها السلام أمرها { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) } (2) ثم بين أنها خرجت لقومها، وأنها أشارت إليهم،
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فوجود الإشارة يدل على وجود معنى، ومع ذلك لم يسم كلاما منها، ولم تكن حانثة في قسمها.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة مريم آية : 26.(2/31)
وكذلك لما ذكر الله - عز وجل - عن زكريا -عليه السلام- أنه جعل الله له آية ألا يكلم الناس ثلاثة أيام { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } (1) فالإيحاء هذا فيه معنى، ومع ذلك لم يكن مخالفا للآية التي أوتيها زكريا -عليه السلام-، ومن ذلك أيضا ما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " ومع ذلك جعل ما يرد على النفوس من المعاني لا يبطل الصلاة، بخلاف الألفاظ، ومن ذلك ما أجمع عليه العلماء أن من حلف لا يتكلم، فإنه لا يحنث إلا بصدور الأصوات والحروف، فلو كان في نفسه معانٍ لم يتكلم بها، ولم يصدر بها أصواتا، فإنه لا يسمى متكلما؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أن الله قد تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به، أو تتكلم " فدل ذلك على أن الكلام مخالف لما في النفس من المعاني والأحاديث.
ثم بعد ذلك ذكر المؤلف أقوال المخالفين، فذكر الطائفة الأولى قال: وبدعوا، يعني أن من قال هذه المقالات، فإن قوله: بدعة مخالفة للشريعة، وضلالة القول الأول، أن كلام الله هو ما فاض على النفوس، من العقل الفعال أو غيره، وهذا قول الفلاسفة والصابئة، والفلاسفة: هم من يتكلمون في حقائق الأشياء، هذا هو المراد بالفلسفة والصابئة، يعني الذين خرجوا عن الديانات، وعن وحي الأنبياء، هذا هو المراد بالصابئة، فالفلاسفة والصابئة يقولون: إن كلام الله هو المعاني التي تفيض على النفوس، وهم في الحقيقة لا يخصونه بالأنبياء، بل يقولون: إن كلام الله يفيض على جميع النفوس، ولا يختص بالأنبياء، فتخصيص المؤلف لقولهم بالأنبياء فيه ما فيه، ليس صحيحا، ولا شك أن هذا القول ضلالة، وأنه خطأ، يدل على خطئه أن الله أرسل الأنبياء إلى الناس، فلو كان كلام الله يحصل بما يفيض على النفوس، لم يحتج إلى إرسال الأنبياء.
__________
(1) - سورة مريم آية : 11.(2/32)
والقول الثاني: أن القرآن مخلوق في جسم من الأجسام، وأن كلام الله مخلوق في جسم من الأجسام، وهذا قول المعتزلة، والمعتزلة سُموا معتزلة؛ لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري، لما قالوا بتخليد فاعل الكبيرة، والجهمية أتباع جهم بن صفوان، فهؤلاء ينكرون أن يكون الله متصفا بصفة الكلام، ويقولون: وصف الله أو إسناد الكلام إلى الله بمثابة قولنا: ناقة الله، أو بيت الله، فإن الناقة والبيت مخلوقة، فكذلك الكلام ولا شك أن
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا كلام خاطئ؛ لأن الكلام معنى، وبيت الله، وناقة الله، أعيان، وفرق بين إضافة الأعيان، وإضافة المعاني، فالأعيان إذا أضيفت إلى الله فإنها مخلوقة، أما المعاني فإنها إذا أضيفت إلى الله فإنها ليست مخلوقة، مثل وجود الله، حياة الله، علم الله، إلى غير ذلك.
وهم قالوا بأن الذي حملهم على ذلك تنزيه الله -سبحانه وتعالى- من مماثلة المخلوقين؛ لأن المخلوقين يتصفون بصفة الكلام، وتنزيها لله عن مماثلة المخلوقين، نقول: بأنه لم يتصف بهذه الصفة، وهذه الحجة ليست بلازمة؛ لأننا لم نكيف هذه الصفة، ونقول بأنها مماثلة، ولم نمثلها، ونقول بأنها مماثلة لكلام المخلوقين، فإننا نقول كلام يليق بالله -سبحانه وتعالى-، ليس مماثلا لكلام المخلوقين.(2/33)
فإن قالوا: لا نعهد إلا كلاما مماثلا للمخلوقين، قيل: إن النصوص الشرعية، قد دلت على أن كثيرا من الأشياء تتكلم بكلام، ليس مماثلا لكلام المخلوقين، ولا يحتاجون معه إلى أدوات الكلام التي يحتاجها بنو أدم، فذكر الله تعالى أن الجلود تتكلم، فقال سبحانه: { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ } (1) وبين أن الأيدي والأرجل تتكلم { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ } (2) والميزان يتكلم، والحصى تكلم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يحتجون بمثل قوله سبحانه: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (3) قالوا: والقرآن شيء فيكون مخلوقا، وهذا من عدم فهمهم لدلالة اللغة، فإن كل شيء، المراد بها كل شيء بحسبه، كما قال -سبحانه وتعالى-: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } (4) فلم تدخل المساكن في قوله: { كُلَّ شَيْءٍ } (5) ولم تدخل السماء، ولم تدخل الأرض، ثم إن المعتزلة خالفوا هذه الآية عندما قالوا: إن أعمال العبد لا يخلقها الله، وإنما مخلوقة للعبد نفسه، فلم يستدلوا بعموم الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة فصلت آية : 21.
(2) - سورة يس آية : 65.
(3) - سورة الرعد آية : 16.
(4) - سورة الأحقاف آية : 25.
(5) - سورة الأحقاف آية : 25.(2/34)
القول الثالث: قول المؤلف هنا: أو في جبريل، يعني أن الله قد خلق هذا القرآن الذي بين أيدينا في نفس جبريل، أو محمد، أو جسم آخر غيرهما، كالكلابية والأشعرية، فالكلابية والأشاعرة يقولون: كلام الله صفة ذاتية ملازمة لذات الله، لا تحدث بقدرة الله ولا مشيئته، وهي صفة قديمة، كلها حصلت في القدم في الأزل، والله -سبحانه وتعالى- لا يتكلم بعد ذلك، وإنما هي صفات ذاتية، وقالوا هذا الكلام إنما هو معان نفسية، وليس أصواتا وحروفا، فقلنا لهم: هذا القرآن الذي بين أيدينا، قالوا: هذا القرآن الذي بين أيدينا هذا مخلوق، يماثل تلك المعاني، فهو عبارة عن تلك المعاني، أو حكاية عنها.
وهذا القول خطأ، يرده قوله سبحانه: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } (1) ما قال: يسمع ما هو عبارة عن كلام الله، أو ما هو حكاية عن كلام الله، وكان من استدلالاتهم قوله سبحانه: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) } (2) فدل على أن هذا القول للرسول، وهذا الاستدلال خطأ؛ لأنه قال هنا { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) } (3) أضافه إلى المبلغ، ولم يضفه إلى المنشئ للكلام، بدلالة قوله رسول، والرسول فيها إشارة إلى أنه يبلغ هذا الكلام، ويدل على ذلك أنه مرة جعله من قول الرسول، بمعنى جبريل -عليه السلام-، ومرة قول رسول بمعنى محمد - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن هذا القول ليس منسوبا إليه، وأنه لم يخلق في نفسه، وإنما هو مبلغ له، وإلا لكان القرآن متناقضا.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 6.
(2) - سورة الحاقة آية : 40.
(3) - سورة الحاقة آية : 40.(2/35)
ويدل على ذلك أن هذا القرآن يحرم مسه، ولو كان هذا القرآن مخلوقا، وهو عبارة عن كلام الله، لما حرم مسه، ولكان مماثلا لغيره من المخلوقات، ويلزم على قول الأشاعرة، أن الأخرس يكون متكلما؛ لأن الأخرس فيه معان نفسية، ومع ذلك لا يقال بأنه متكلم؛ ولذلك كفّر الله - عز وجل - من قال بأن هذا القرآن من قول محمد - صلى الله عليه وسلم - وكلامه { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) } (1).
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطائفة الرابعة قالت: إن كلام الله حروف، وأصوات قديمة أزلية كالكلامية، يعني كبعض أهل الكلام، فهم يقولون: كلام الله حروف وأصوات صحيح، لكنها قديمة أزلية، وهذا القول خطأ، فإن صفة الكلام قديمة النوع، حادثة الآحاد، فوصف القرآن بأنه قديم بمعنى أنه أزلي خطأ؛ لأن الله - عز وجل - يتكلم متى شاء، لم يزل متكلما، ويتكلم متى شاء، ولا يزال يتكلم، وبعض كلامه سيكون في يوم القيامة { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) } (2) وحينئذ فالقول بأن كلام الله صفة قديمة، وأنه لا يتكلم بعد ذلك، وأنه لا يتعلق بالمشيئة كلام خاطئ، ترده هذه النصوص، ويدل على ذلك قوله سبحانه: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } (3) فدل على أن هذا القول حصل بعد السماع، وأن السمع حصل بعد قولها، وقولها ليس قديما قطعا، فدل ذلك على أن بعض الكلام ليس قديما، وأن صفة الكلام وإن كانت قديمة النوع، لكن بعض آحادها حادث، فإن الله يتكلم متى شاء لا مانع منه، لا مانع له من صفة الكلام .
__________
(1) - سورة الطور آية : 33-34.
(2) - سورة يس آية : 58.
(3) - سورة المجادلة آية : 1.(2/36)
الطائفة الخامسة: بعض هذه الطائفة يستدلون بقوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) } (1) قالوا: فدل ذلك على أنه قديم، إذ كونه في زبر الأولين، دليل على قدمه، والصواب أن المراد بهذه الآية ذكر هذا الكتاب { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) } (2) يعني أن ذكر هذا الكتاب في زبر الأولين، ووصف هذا الكتاب والأخبار به، والبشارة به موجودة في الصحف الأولى، كما في قوله تعالى عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } (3) وأنتم تعلمون أن حضور الأعيان قد يكون حضورا بعينه، وذكر الأعيان، قد يكون ذكرا للأعيان بذاتها، وقد يكون حضورا ذهنيا لها، فنستحضر صورة الشيء، وقد أتكلم به باللسان، وقد أكتبه فيكون حضور الأعيان حينئذ حضورا على هذه الأمور الأربعة، فمنزلة الوجود وأقسامه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجود الأعيان على أربعة أقسام، وجود عيني بذاتها، ووجود بالأذهان، وجود ذهني، ووجود لساني، ووجود كتابي.
القول الخامس: أن كلام الله حادث قائم بذات الله، ممتنع في الأزل: يعني أنه لا يوجد في الأزل كلام لله - عز وجل - وهذا قول الهاشمية والكرامية، فهم يقولون: إن الله لم يكن متكلما في الأزل، ثم حدثت له صفة الكلام بعد ذلك، وهذا القول لا شك أنه خطأ؛ لأن الله - عز وجل - لم يزل موجودا بصفاته.
__________
(1) - سورة الشعراء آية : 196.
(2) - سورة الشعراء آية : 196.
(3) - سورة الأعراف آية : 157.(2/37)
ثم ذكر بعد ذلك المسائل اللفظية قال: ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فجهمي، فكلمة لفظي تحتمل أمرين، تحتمل الفعل الذي هو التلفظ، وتحتمل الملفوظ، فحينئذ لما ترددت بين هذين الأمرين، وأحدهما مخلوق، وأحدهما غير مخلوق، امتنعنا من إطلاق هذا اللفظ، فلا نقول لفظي بالقرآن مخلوق، ولا غير مخلوق لماذا؟ لأنه يتردد بين أمرين الملفوظ، وهو كلام الله، وفعل العبد، وهو التلفظ؛ ولذلك المصدر تنتبهون له؛ لأنه يطلق على الفعل، وعلى المفعول، مثل كلمة خلق، تطلق على الفعل، وتطلق على المفعول، على فعل الله خلق، ويطلق كذلك على المفعول المخلوق، مثل السماوات والأرض { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } (1).
فحينئذ ننتبه ما يقال الخلق قديم، ننظر إلى أحد الأمرين، هل المراد الصفة؟ التي هي صفة لله - عز وجل - فالله خالق قبل وجود المخلوقات، أو يقال: المراد به المخلوق، فحينئذ يكون موجودا مخلوقا حادثا ولذلك بعض الناس لم يفهم كلام شيخ الإسلام في بعض مواطنه، فلما وجد أن أهل السنة يقولون: إن خلق الله قديم، ظن أنه يريد المخلوقات، فظن أن الشيخ يقول بقدم العالم المخلوق، وهذا كلام خاطئ، وليس مرادا للشيخ، وإنما المراد للشيخ أن صفة الخلق صفة قديمة لله -عز وجل-؛ لأن بعض الناس يقولون: إن الله لم يكن خالقا في الأزل، وأن صفة الخلق استجدت له، كما هو قول الهاشمية والكرامية في مسألة الكلام.
فالمقصود أن المصدر قد يطلق ويراد به الفعل، ويراد به المفعول، وحينئذ نتوقف في هذا اللفظ، وهذه قاعدة في المتردد بين أمرين، أننا نتوقف فيه؛ ولذلك لما ذكر الله - عز وجل - قول: { رَاعِنَا } (2) لما كانت تحتمل أمرين من المراعاة ومن الرعونة، نهى الله - عز وجل - عنها، وهكذا كل لفظ يتردد بين معنيين أحدهما سائغ، والآخر ممنوع، فإنه يمنع منه؛ ولذلك قولنا: لفظي بالقرآن، هل هو مخلوق، أو غير مخلوق، يحتمل أمرين، فإن فصلنا
__________
(1) - سورة لقمان آية : 11.
(2) - سورة البقرة آية : 104.(2/38)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلنا: الملفوظ غير مخلوق، والتلفظ الذي هو فعل المكلف مخلوق، فهذا لا بأس به، وأما أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق، هذا يخالف هذه القاعدة؛ ولذلك الجهمية كما أرادت أن تلبس على الأمة، قالوا لهم: ما تقولون في لفظنا بالقرآن.
مخلوق أو غير مخلوق، هذا يخالف هذه القاعدة؛ ولذلك الجهمية لما أرادت أن تلبس على الأمة قالت لهم: ما تقولون في لفظنا بالقرآن؟ هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ يريدون منهم التلبيس على الأمة ليجبروهم إلى القول بأن القرآن مخلوق.
فالمقصود: أن إطلاق هذه اللفظة إثباتا أو نفيا ليس من منهج أهل السنة والجماعة، لماذا ؟ لأنها تحتاج إلى تفصيل، هذا ما يتعلق بدرس اليوم، ونسأل الله --عز وجل-- أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يوفقنا للأعمال الصالحة والأقوال الطيبة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا .
يقول الأخ هذا: إن المقدمة استغرقت ساعة وخمس دقائق، والبعض منا قد أتى من بعيد ويتمنى أن يرجع بالزبد، أيش رأيكم؟ كم تبغون وقت الدرس في اليوم؟ مثل شغلنا اليوم أم نقلل أم نزيد؟ بدأنا اليوم كم الساعة؟ اليوم بدأنا الساعة السادسة إلا عشرة ننتهي السابعة إلا عشرة كل يوم.
خيرا إن شاء الله، فيما يأتي نستمر على هذا، عندنا كتاب نريد أن نفهمه ونعرف معانيه، وإن شاء الله ننهيه في هذا الأسبوع، وقضية أننا أخذنا فوائد واستطرادات هذا لا ما نع منه، ويكون إن شاء الله فيها فوائد، وإذا كان الإنسان قد علم بعض المسائل فلعلها تستقر في ذهنه، ولعلنا نقف على هذا، نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا العمل الصالح، وصلى الله على سيدنا محمد .
مواضع نزول القرآن(2/39)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد .
نواصل ما كنا ابتدأنا به من الحديث عن مقدمة التفسير نعم .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فال المصنف -رحمه الله تعالى :
مواضع نزوله:
أجمعوا على أن القرآن مائة وأربعة عشر سورة، والمشهور سبع وعشرون مدني، وباقيه مكي، واستثنى آيات، ومنه النهاري والليلي، والصيفي والشتائي، وأول ما أنزل " اقرأ" ثم المدثر، وآخره: المائدة، وبراءة، والفتح، وآية الكلالة والربا والدين .
إنزاله :
أنزل القرآن جملة في ليلة القدر في بيت العزة في السماء الدنيا، وأنزل منجمًا بحسب الوقائع، يلقيه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليه، ويأتيه في مثل صورة الرجل يكلمه.
وثبت أنه أنزل على سبعة أحرف، قيل: المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة كـ"هلم وأقبل" وكتب في الرقاع وغيرها في عهد النبوة، ثم في الصحف في عهد أبي بكر، ثم جمع عثمان الناس على مصحف واحد، والجمهور: أنه مشتمل على ما يحتمله رسمها ومتضمنتها العرضة الأخيرة، وترتيب الآيات بالنص، والسور بالاجتهاد .
أسباب نزوله:
معرفة سبب نزول القرآن يعين على فهم الآية؛ فقد يكون اللفظ عاما والسبب خاصا، ومنه: { إِنِ ارْتَبْتُمْ } (1) { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (2) .
__________
(1) - سورة الطلاق آية : 4.
(2) - سورة البقرة آية : 115.(2/40)
عامه وخاصه :
العام أقسام : منه الباقي على عمومه كـ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (1) والعام المراد به الخصوص كـ { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } (2) والثالث: العام المخصوص وهو كثير، إذ ما من عام إلا وقد خص، والمخصص إما متصل وهو خمسة: أحدها الاستثناء، والمنفصل كآية أخرى أو حديث أو إجماع، ومن خاص القرآن ما كان مخصصا لعموم السُّنة كـ " حتى يعطوا الجزية " خص " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " .
الناسخ والمنسوخ :
يرد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } (3) وبمعنى التبديل: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ } (4) وهو ثلاثة: ما نسخ تلاوته وحكمه كـ " عشر رضعات" أو تلاوته دون حكمه كآية الرجم، أو حكمه دون تلاوته وصنفت فيه الكتب وهو قليل، ولا يقع إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر .....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نعم، ذكر المؤلف هنا عددا من مواضيع مقدمة التفسير: أولها ما يتعلق بمواضع نزوله، يعني: المَواطن التي نزل فيها القرآن سواء كان متعلقا بالمكان أو متعلقا بالزمان.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف: هنا "أجمعوا على أن القرآن مائة وأربع عشرة سورة" وقوله هنا: أجمعوا ظاهره يراد به إجماع الأمة واتفاقها قاطبة، وتقدم معنا أن الإجماع من الأدلة الشرعية التي دلت النصوص على حجيته وعلى وجوب العمل به. قال: "مائة وأربع عشرة سورة" والمراد بالسورة مأخوذ من السور، كأنه الحد الذي يحجزها عن غيرها.
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.
(2) - سورة آل عمران آية : 173.
(3) - سورة الحج آية : 52.
(4) - سورة النحل آية : 101.(2/41)
وهذا الإجماع يتضمن حفظ القرآن من الزيادة والنقصان والتبديل، فقد تكفل الله - عز وجل - بحفظ هذا الكتاب { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } (1) فإن قال قائل بأنه هناك القراءة الشاذة قد تكون في القرآن!
قيل: هذه القراءة الشاذة ليست قرآنا باتفاق، وإنما نقلها الصحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن النبي تكلم بكلمة على جهة التفسير في أثناء قراءته فظن الصحابي أن هذا التفسير من القرآن فنقله على أنه قرآن، فلما قارنا قراءة هذا الصحابي بقراءة غيره تبين لنا أن هذه الزيادة ليست من القرآن، فكانت شاذة.
ومن المعلوم عندكم أن الشاذ: هو ما رواه الثقة مخالفا به جمع الثقاة أو من هو أوثق منه، وقد ورد عن أُبي - رضي الله عنه - أنه جعل دعاء القنوت " اللهم إنا نستعينك " سورتين من سور القرآن، وهذا بمثابة القراءة الشاذة فلا يعول عليه؛ فإن أُبيا - رضي الله عنه - سمع هذا الدعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعه يكرره فظنه قرآنا، وقد وقع الاتفاق بعد ذلك العصر على أن هاتين الدعوتين ليستا من القرآن في شيء.
وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - لا يذكر سورتي المعوذتين في كتابته للمصحف، وهذا أيضا لا يخرم الإجماع فإن الإجماع حاصل بعد ذلك العصر.
وقد ورد عن بعض السلف إدخال سورة في سورة كما ورد عن بعضهم أن براءة والأنفال سورة واحدة، وقيل: الفيل وقريش كذلك، وقيل: الضحى والانشراح كذلك، لكن الإجماع القطعي وقع بعد ذلك العصر على أن القرآن هو الموجود بين دُفتي المصحف بمائة وأربع عشرة سورة.
وهذا الإجماع إجماع قطعي نجزم بخطأ مخالفه، لكن هل نؤثم المخالف أو لا نؤثمه؟ وهذه قاعدة مهمة في حكم المخطئ في القطعيات، هل يأثم أو لا يأثم؟
__________
(1) - سورة الحجر آية : 9.(2/42)
نقول: من أخطأ في حكم قطعي جزمنا بخطئه، وأنه مخالف للصواب، ولا نحكم بتأثيمه أو باستحقاقه للإثم إلا إذا وصل إليه الدليل القطعي ثم خالفه، أما إذا خفي عليه الدليل القطعي ولم يصل إليه فإنه حينئذ لا يُحكم بكونه آثما.
والحكمة في جعل القرآن سورًا أمور عديدة، منها : ـ
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أولا: بيان إعجاز القرآن، وأن هذا الإعجاز ليس منحصرا في السور الكبار، فقد تحدى الله - عز وجل - العرب في الإتيان بسورة من مثل هذا الكتاب، والسورة كما تشمل السور الطوال تشمل أيضا السور القصار، فالإعجاز يبلغ مداه في التحدي بتحدي العرب بالإتيان بسورة واحدة ولو كانت مماثلة في الحجم لسور القرآن الصغار.
ومن الحكمة في وضع القرآن على جهة السور: رفع السآمة عن قارئ القرآن؛ فإنه متى رأى القارئ أنه قد قطع شيئا من قراءة القرآن فإن نفسه تنشط، ويكون لديه رغبة في الازدياد.
ومن حِكم تقسيم القرآن إلى سور: مخاطبة كل بما يناسبه، فنجد سورا تناسب في خطابها لمن كان عاصيا، وسورا تخاطب من كان راغبا في الطاعة، ونجد سورًا تخاطب من كان مخالفا لدين الإسلام، فهذا القرآن بسوره المتعددة يخاطب كلا بما يناسبه.
والملاحظ في القرآن أن لكل سورة موضوعا أساسيا تهتم به؛ ولذلك مثلا نجد في سور القرآن أنها تعرض لقصص الأنبياء، لكنها في كل سورة تعنى بالتركيز على جانب من الجوانب.
فمثلا تجد في سورة البقرة العناية بقضية إحياء الموتى، وأن الله -سبحانه وتعالى- قادر على ذلك، ولذلك ذكر قصصا عديدة فيها إحياء الموتى في هذه السورة، أولها قصة البقرة عندما ذبحها بنوا إسرائيل فأحياها الله، ثم بعد ذلك قصة صاحب القرية، وقصة إبراهيم مع ملك زمانه، وقصة إبراهيم مع الطير، ونحو ذلك.(2/43)
نجد مثلا في سورة الأنبياء والتركيز على قضية الدعاء، وأن الأنبياء دعوا فاستجاب الله - عز وجل - لدعائهم، وهكذا إذا تأملنا في سور القرآن وجدناها تركز على موضوع أساسي، ثم تورد من قصص الأنبياء ما يخدم ذلك الموضوع.
ومن حكم جعل القرآن على سور تيسير حفظه؛ لأنه لو كان سورة واحدة لصعب علينا الحفظ، لكن من فضل الله ورحمته أنه جعل القرآن مقسما إلى سور ليسهل الحفظ.
ومن حكمة الله -سبحانه وتعالى- في التنويع بين سور القرآن منها ما هو طويل ومنها ما هو قصير: بيان أن الطول والقصر غير مؤثر في قضية الإعجاز .
قال المؤلف: "والمشهور سبع وعشرون مدني وباقيه مكي، واستثنى آيات" قوله: "المشهور" يعني: أن القول الذي يشتهر عند علماء التفسير والعلماء في علوم القرآن أن سور القرآن سبع وعشرون، منها مدني والباقي مكي، والمراد بالمدني والمكي موطن اختلاف بين العلماء على ثلاثة أقوال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القول الأول: بأن المدني هو ما نزل بالمدينة، والمكي هو ما نزل بمكة، وعلى ذلك فإن الآيات التي نزلت في الحج وفي فتح مكة آيات مكية، كقول الله -عز وجل: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } (2) .
ويشكل على هذا القول أن هناك آيات عديدة نزلت لا في مكة ولا المدينة، وإنما نزلت في الطريق، نزلت في تبوك، نزلت في بعض الغزوات، فعلى هذا التقسيم تبقى هذه الآيات مترددة بين هذين الأمرين.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.
(2) - سورة النساء آية : 58.(2/44)
وقيل: بأن المكي ما كان الخطاب موجها فيه إلى أهل مكة وإلى الكفار بـ"يا أيها الناس"، والمدني ما وُجه الخطاب فيه إلى أهل الإسلام بقوله "يا أيها الذين آمنوا" وهذا أيضا فيه إشكال فنجد كثيرا مما نزل بالمدينة فيه "يا أيها الناس" فمثلا في سورة البقرة وهي قد نزلت بالمدينة "يا أيها الناس" في مواطن متعددة.
والقول الثالث: أن ما نزل قبل الهجرة فإنه مكي، وما نزل بعد الهجرة فإنه مدني، وهذا أقوى الأقوال في المسألة وهو الذي تنضبط به تقاسيم آيات القرآن بحسب كونها مكية أو مدنية.
إذا تأمل الإنسان السور المكية والسور المدنية وجد بينها فروقا، منها: أن الغالب في السور المكية أن تكون سورا قصارا بخلاف السور المدنية، والغالب في الآيات المكية أن تكون قصيرة بخلاف الآيات المدنية.
والسور المكية فيها غالبا تقرير أمور العقيدة، والمدنية نجد فيها مسائل الفرائض والأحكام والجهاد، وهذا في الغالب، وإلا فإن هناك أحكاما قد نزلت بمكة مثل الصلاة، وهناك آيات متعلقة بالعقيدة نزلت في المدينة يخاطب بها اليهود والنصارى كما في سورة "آل عمران"، وقد قال العلماء بأن كل سورة فيها سجدة فإنها مكية.
وليس الغرض هنا تقسيم السور إلى مكي ومدني ببيان السور المكية من المدنية، هذا ليس مرادا هنا؛ لأنه يطول، ولأن ذكر ذلك يحتاج إلى ذكر الخلاف في كل سورة من سور القرآن، ولكن سور القرآن من جهة المكية والمدنية على أربعة أنواع، منها:
ما هو مكي بحيث تكون كل آيات السورة مكية مثل سورة المدثر، ومن سور القرآن ما هو مدني كله ليس فيه آيات قد نزلت قبل الهجرة مثل سورة آل عمران، ومن سور القرآن ما هو مكي في الغالب، ويستثنى منه
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ(2/45)
آيات نزلت بعد الهجرة مثل سورة الأعراف، ومنها ما هو مدني في غالبه، لكن بعض آياته نزلت قبل الهجرة فهي مكية مثل سورة الحج.
وقد اعتنى العلماء بالمكي والمدني حتى إن بعضهم وضع في ذلك مؤلفات، فقد ألف فيه مكي والعز الدريني في موضوع المكية والمدنية.
قال المؤلف: "ومنه النهاري والليلي" يعني: من سور القرآن ما هو نهاري نزل في النهار، ومنه ما هو ليلي يعني: نزل في الليل، وغالب آيات القرآن نزلت في النهار، والنازل في الليل قليل، جاء في حديث ابن عمر قال: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن " هذا دل على أن هذه الآيات نزلت بالليل.
وجاء في "صحيح" ابن حيان أن آخر سورة "آل عمران" نزلت بالليل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " إني قد أُنزل علي الليلة آيات، ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن ".
وفي حديث الثلاثة الذين خلفوا نزلت التوبة في الليل؛ ولذلك وصل الخبر إلى كعب بن مالك في الفجر، وجاء في "صحيح البخاري" من حديث عمر أن سورة الفتح نزلت بالليل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: " لقد أنزلت على الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ".
وهذا يدلنا على اعتناء العلماء بآيات القرآن، ومعرفة أوقات نزولها، ويدلنا على العناية العظيمة بكتاب الله -سبحانه وتعالى.
قال المؤلف هنا: "والصيفي والشتائي" يعني: أن من آيات القرآن وسوره ما نزل في الصيف ومنها ما نزل في الشتاء، ومن أمثلة ذلك ما ذكر العلماء من أن آية الكلالة الأولى في سورة "النساء" نزلت في الشتاء، وأن آية الكلالة في آخر سورة "النساء" نزلت في الصيف.(2/46)
ومن ذلك مثلا سورة "براءة" وما ذكر فيها من غزوة تبوك هذه نزلت في الصيف { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } (1) وكذلك آيات براءة عائشة -رضي الله عنها- من حديث الإفك في سورة "النور" نزلت في الشتاء، وهذا يدلك على تحقق وعد الله -سبحانه وتعالى- بحفظ هذا الكتاب؛ فإن العلماء قد بذلوا فيه جهودهم في معرفة أحوال هذا الكتاب ومواطن نزوله.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ذكر المؤلف أول ما أنزل فقال: "إن أول ما أنزل سورة اقرأ وهي سورة العلق، وقد جاء في "الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها- أن أول ما بُدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي الرؤيا الصادقة.. إلى أن قالت: حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء، فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ.. إلى أن قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) } (2) إلى قوله: { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } (3).
قال المؤلف: "ثم المدثر" يعني: أن السورة الثانية التي نزلت بعد "اقرأ" هي سورة "المدثر"، وقد ذكر عن جابر - رضي الله عنه - أن سورة "المدثر" نزلت قبل "اقرأ"، لكن المستند الذي استند عليه جابر - رضي الله عنه - لا يدل على تقدمها، وإنما في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه لما بلغَ أهله نزلت عليه سورة "المدثر".
وقد ورد في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل من غار حراء ترجُف بَوادره أمر زوجته خديجة -رضي الله عنها- فغطته ودثرته فنزلت سورة "المدثر".
__________
(1) - سورة التوبة آية : 81.
(2) - سورة العلق آية : 1.
(3) - سورة العلق آية : 5.(2/47)
وقد اعترض بعض الناس على ذلك بما ورد في "الصحيحين" من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، وسورة العلق ليس فيها ذكر الجنة والنار، وأجاب العلماء أن المراد بالحديث: إن من أوائل ما نزل السورة التي ذكر فيها الجنة والنار.
قال المؤلف: هنا "وآخره" يعني: آخر ما نزل من القرآن سورة "المائدة" وبراءة والفتح" والمراد بالفتح هنا { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) } (1) وليس المراد به سورة { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) } (2) لأن سورة الفتح هذه نزلت في السنة السادسة في صلح الحديبية، وقد نزل بعدها سور وآيات وآية الكلالة والربا والدين، وقع الخلاف بين الصحابة -رضوان الله عليهم- في هذين الموطنين :
الموطن الأول: ما هي آخر سورة نزلت من القرآن؟ فقال البراء: آخر سورة نزلت من القرآن هي سورة "براءة" وقد ورد مثل ذلك عن عثمان، وقد روى قول البراء البخاري ومسلم، وقال ابن عباس -رضي الله
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنهما: إن أخر سورة نزلت من القرآن { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) } (3) كما في "صحيح مسلم" ورد عن عائشة أنها "المائدة" كما عند الترمذي والحاكم، وورد عن ابن عمر "المائدة والفتح"، والمراد بالفتح كما تقدم سورة { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) } (4).
__________
(1) - سورة النصر آية : 1.
(2) - سورة الفتح آية : 1.
(3) - سورة النصر آية : 1.
(4) - سورة النصر آية : 1.(2/48)
وأما آخر آية نزلت فقال البراء: آخر آية نزلت هي آية الكلالة في آخر سورة "النساء" كما في "الصحيحين"، وقال أُبي: آخر آية نزلت أواخر سورة التوبة { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } (1) رواه الحاكم.
وقال ابن عباس: أخر سورة نزلت آية الربا وورد مثله عن عمر وقد ورد أن بينها وبين وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد وثمانون يوما.
والجمع بينهما أن ما ورد عن الصحابة أن كلا منهم أخبر بما يعلمه هو، وخفي عنه ما يعلمه غيره؛ ولذلك لم يعرف أن آخر النزول هو ما عرفه غيره.
إنزال القرآن
إنزاله : أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في بيت العزة في السماء الدنيا، وأنزل منجمًا بحسب الوقائع، يلقيه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه، ويأتيه في مثل صورة الرجل يكلمه.
وثبت أنه أنزل على سبعة أحرف، قيل: المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة كـ"هلم وأقبل"، وكتب في الرقاع وغيرها في عهد النبوة، ثم في الصحف في عهد أبي بكر، ثم جمع عثمان الناس على مصحف واحد، والجمهور أنه مشتمل على ما يحتمله رسمها ومتضمنتها العرضة الأخيرة، وترتيب الآيات بالنص والسور بالاجتهاد .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف هنا: "إنزاله: أُنزل القرآن جملة" يعني مرة واحدة "في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا" ورد ت عدد من النصوص تدل على أن القرآن نزل في ليلة القدر، قال -تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ } (2)، وقال -سبحانه: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } (3) وقال -جل وعلا : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) } (4).
واختلف العلماء وفي تفسير هذه الآيات على قولين:
__________
(1) - سورة التوبة آية : 128.
(2) - سورة البقرة آية : 185.
(3) - سورة الدخان آية : 3.
(4) - سورة القدر آية : 1.(2/49)
الأول: أن المراد إنزال القرآن إلى بيت العزة في السماء الدنيا مكتوبا وهذا قول ابن عباس وتلاميذه، وقد ورد ذلك عنه بأسانيد متعددة صحيحة.
والقول الثاني: أن المراد بذلك ابتداء إنزال القرآن؛ فإن أول نزول القرآن نزل في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما، ولا مانع أن يكون كل من القولين صحيحا.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا القول الثاني قال به جماهير الصحابة، وقد رجحه جماعة وقالوا بأن نصوص القرآن تدل عليه، وقول الصحابي لا يعمل به إذا كان قد خالفه غيره وظواهر القرآن تدل على خلافه، ولا مانع أن يكون كل من القولين صحيحا؛ إذ لا تعارض بينهما، فإن إنزال القرآن جملة واحدة كان في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ولا يمنع هذا من كون جبريل -عليه السلام- قد سمع القرآن من الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك.
وقول المؤلف: "وأنزل منجما بحسب الوقائع" يعني: أن جبريل ينزل بالقرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - مفرقا على وفق أسباب النزول، وليس معناه: أن جبريل نقله من الكتاب الموجود في السماء الدنيا، بل الصواب: أن جبريل -عليه السلام- قد سمعه من الله -سبحانه وتعالى.
ومن هنا نعلم خطأ بعض المؤلفين عندما قال: إن جبريل نقله من اللوح المحفوظ أو نقله من هذا المكتوب الموجود في السماء الدنيا في بيت العزة، هذا قول خاطئ مخالف لما دلت عليه النصوص الشرعية، والله -سبحانه وتعالى- لا يمتنع أن يكون قد أنزله ثم يتكلم به بعد ذلك، لا مانع من هذا فإن القرآن موجود في اللوح المحفوظ الذي سجل فيه ما في الدنيا، ومع ذلك أنزله الله -سبحانه وتعالى- من عنده إلى السماء الدنيا.(2/50)
ويدل على ذلك أن الله - عز وجل - ذكر بعض أفعال العباد بصيغة الماضي مما يدل على أنه لم يتكلم به إلا بعد فعلهم لذلك الفعل، ومنه قوله -سبحانه: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } (1) فالسماع إخبار عن أمر ماض، والمجادلة أمر ماض ويستحيل أن يتكلم الله -سبحانه وتعالى- بما سيأتي بهذه الصيغة، مما يدل على أن قوله -سبحانه- وكلامه بذلك إنما حصل بعد حصول السماع والمجادلة.
ويدل على هذا قوله -سبحانه: { وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) } (2) وقوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } (3) والمراد بالمحدث: الذي أنزل جديدا؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- كان يتكلم بالقرآن وينزله شيئا بعد شيء.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونمثل لهذا بمثال -ولله المثل الأعلى- كتابة أعمال العباد، كان الله - عز وجل - قد كتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يعملها العباد، ثم أمر الملائكة بعد ذلك بكتابة أعمال العباد بعد أن يفعلوها، كما قال جل وعلا { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) } (4).
ومن هنا نعلم خطأ من قال: إن جبريل -عليه السلام- نقل القرآن من اللوح المحفوظ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، أو من هذا المكتوب الموجود في بيت العزة في السماء الدنيا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقد ألف الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- رسالة في بيان خطأ هذا القول وبيان مخالفته لمعتقد أهل السنة والجماعة .
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 1.
(2) - سورة الإسراء آية : 106.
(3) - سورة الأنبياء آية : 2.
(4) - سورة الانفطار آية : 10-12.(2/51)
ومن فوائد كون القرآن منجما: تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده - صلى الله عليه وسلم - يحصل بأمرين:
الأول: تقوية قلبه ضد الشبهات التي قد تعرض له من وساوس الشياطين .
والثاني: زيادة حفظه للقرآن؛ لكون القرآن غير مكتوب، فحينئذ ناسب أن يفرق من أجل أن يتمكن من حفظه.
ومن فوائد كون القرآن منجما أن يكون نزوله بأسباب معلومة يتيسر على الناس فهم القرآن من خلال معرفة هذه الأسباب، ومن فوائد التنجيم أيضا حصول التدرج في التشريع، ليقبل الناس بأحكام الشريعة.
ومن فوائده أيضا وجود الناسخ والمنسوخ، قال المؤلف هنا: "يلقيه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل صلصلة الجرس" ذكر المؤلف هنا أنواع الوحي من حيث كيفيته .
الكيفية الأولى: أن يكون مثل صلصلة الجرس، قال: "وهو أشده عليه" وقد ورد في حديث ابن مسعود مرفوعا " إن الله إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفا، قال: فيفزعون حتى يأتيهم جبريل، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: يا جبريل، ماذا قال ربك؟ فيقول جبريل: الحق " فدل ذلك على أن جبريل يسمع كلام الله، وعلى أن هذا الوحي مسموع.
جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فأعي ما
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقول " فهذه طريقتان وكيفيتان في تلقي الوحي؛ ولذلك ذكر المؤلف الطريقة الثانية "فقال: ويأتيه في مثل صورة الرجل يكلمه".(2/52)
وقد ذكر بعض المفسرين النفث في الروع: والنفث في الروع في حقيقته لا يخرج عن الكيفية الأولى، وذكر بعضهم مكالمة الله -سبحانه وتعالى- للنبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وذلك مثل حديثه له في الإسراء، ولكن هذا مكالمة وليست وحيا.
قول المؤلف هنا: "ثبت أنه أنزل القرآن على سبعة أحرف"؛ وذلك لأنه قد روى أكثر من عشرين نفسا من الصحابة -رضوان الله عليهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا اللفظ: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" مما جعل العلماء يذكرون أن هذا الحديث من المتواترات.
ويدخل في السبعة أحرف طرق الأداء واختلاف التصريف والإعراب مثال ذلك "ليس البرُّ" و"ليس البرُّ"، والأداء في مثل الإمالة ونحوه "أتى وأتي"، ويدخل في ذلك أيضا مراعاة لهجات العرب في كلامها، ويدخل في ذلك أيضا تغير بعض الحروف فبدل الباء قد تكون نونًا مثل "بشرى نشرى"، ومثل "ننشرها وننشزها" ومثل "فتثبتوا وفتبينوا"، ونحو ذلك مما ورد في القرآن.
ولكن هذه الأحرف ليست متضادة ولا متعاكسة، وإنما متوافقة، إما أن تدل على معنى واحد، وإما أن تدل على معان مختلفة غير متقابلة ومتضادة، فهذا فيه مزية للقرآن وبيان لإعجازه، فإن هذه الأحرف مع تنوعها وتعددها لم يحصل بينها تضاد ولا اختلاف.
قال المؤلف: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" هذه الأحرف السبعة لا تخرج عن خط المصحف العثماني، والقراءات السبع المشهورة المتداولة بعض هذه الأحرف وليس جميع الأحرف النازلة.
قال المؤلف: "وقيل" يعني أن هناك قولا آخر في حقيقة الأحرف السبعة، وقول المؤلف "قيل" إشارة إلى ضعف هذا القول، وأنه ليس قولا راجحا: "إن هذه الأحرف السبعة هي المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة" ومن أمثلته "هلم وأقبل"، فكلاهما طلب للإتيان والمجيء.(2/53)
والمؤلف قد ضعف هذا القول، وقد ورد هذا القول عن أبي بكر وأُبي بن كعب، ولا يفهم من هذا أنهم يقولون يجوز قراءة القرآن بالمعنى بحيث إذا جاءنا لفظ "هلم" أبدلناه بـ "أقبِل" ونحو ذلك.
هذا لا يقولنه هم، وإنما يفسرون قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" فإذا أتينا بمعنى من عند أنفسنا فإن هذا المعنى لم ينزل به وحي، والحديث نص على أن هذه الأحرف السبعة نازلة من عند الله "أنزل"،
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهؤلاء الصحابة أيضا أتوا بهذا التمثيل لبيان أن هذه الأحرف السبعة غير متضادة ولا متقابلة، وأنها متفقة في المعنى وإن وقع فيها اختلاف.
وليس المراد عندهم هذه الألفاظ بخصوصها "هلم وأقبل" وإنما مرادهم التمثيل، ولو أتي بمثل "فتثبتوا" وقراءة "فتبينوا" لكان أوضح وأولى؛ لأن كلا منهما دال على نفس المعنى وكلاهما نازل، وقد ورد كلاهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم. المقصود أن مثل هذا القول لا يدل على أن هؤلاء الصحابة يجيزون رواية القرآن بالمعنى.
"وكتب في الرقاع وغيرها في عهد النبوة" يعني أنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب في الرقاع والعسف، وكان موجودا في صدور الرجال، ثم بعد ذلك في عهد أبي بكر كتب في الصحف؛ وذلك أنه أتى عمر - رضي الله عنه - بأبي بكر وقال إن القتل استحرّ في قُراء القرآن، وذلك بعد معارك اليمامة، وإني أخشى أن يذهب القرآن، فإن مواطن الجهاد يخشى أن يستحر القتل فيها بالقراء.
وإني أرى أن نأمر بالقرآن أن يكتب وأن يجمع، فلم يزل عمر يكرر هذا القول على أمير المؤمنين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حتى شرح الله صدره لذلك، فأمر زيد بن ثابت فجمعه من العسف واللحاق وصدور الرجال، وسجلت في هذه الصحف.(2/54)
والقرآن قد جمعه وحفظه في عهد النبوة جماعة، فليس معناه أن القرآن لم يكن محفوظا قبل هذه الصحف، وإنما كان موجودا في صدور الرجال، وقد حفظه في عهد النبوة جماعة وبعد ذلك العهد حفظه جماعات.
وقول بعضهم: إنه لم يحفظه إلا أربعة، وورد في بعض الألفاظ: لم يجمع القرآن في عهد النبوة إلا أربعة، معناه: أن هؤلاء هم الذين كانوا يتولون إقراء القرآن للناس، فكان الناس يرجعون إليهم في إقراء القرآن، وليس المرد به أنه لم يحفظه إلا هؤلاء الأربعة فقط.
هذه الصحف التي كتبها زيد بن ثابت بقيت عند أبي بكر حياته، ثم أخذها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، ثم بعد ذلك كانت عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين -رضي الله عنها، فلما عهد عثمان كان الناس يتداولون صحفا مختلفة متفرقة، وهذه الصحف تختلف فيها اللهجات وفيها قراءات شاذة، فحينئذ خُشي من اختلاف الناس وعدم انضباط أمورهم.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فجاء حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - إلى عثمان وقد أفزعه اختلاف الناس في القراءة، فأشار عليه بكتابة المصحف، بحيث يكتب من الصحف التي كتبها أبو بكر نُسخا أخرى توزع على البلدان فيعتمدها الناس، فكتبت هذه النسخ وأرسلت إلى الأفاق، أرسل إلى كل أفق من الأفاق بمصحف.
وليس معناه أن القرآن لم يكن موجودا إلا في هذه المصاحف، بل الناس كانوا يحفظون القرآن، وكانوا قد دونوه في صحفهم، ولكن كما تقدم أن بعضهم لديه قراءة شاذة، وبعضهم يقرأه باختلاف اللهجات، وحينئذ خشي من اختلاف الناس فكتبت هذه المصاحف.(2/55)
قال المؤلف: "والجمهور أنه مشتمل على ما يحتمله رسمها ومتضمنتها العرضة الأخيرة" يعني: أن جمهور أهل العلم يرون أن هذا المصحف العثماني قد اشتمل على جميع الأحرف السبعة باحتمال رسمه، فرسم مصحف عثمان يحتمل القراءات المتعددة، ومن هنا قرر الفقهاء بأن كل قراءة تخرج عن مصحف عثمان فإنها قراءة شاذة.
"العرضة الأخيرة" هي قراءة جبريل أو عرض جبريل القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر رمضان من حياته فإنه قد عرض عليه القرآن كاملا، فقد عرض عليه القرآن مرتين وهذا العرض قد تضمن جميع الأحرف التي نزل بها القرآن.
قال: "وترتيب الآيات بالنص" يعني: أن ترتيب الآيات في السورة الواحدة ثابت بواسطة النص، ودليل ذلك ما ورد في الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزلت عليه الآيات قال: اجعلوها في السورة التي يذكر فيها كذا بعد آية كذا، ويدل على ثبوت ترتيب الآيات بالنص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ سور القرآن كاملة، وهذه القراءة تكون بهذا الترتيب الذي بين أيدينا.
ويدل عليه أيضا ما ورد من الأحاديث في إثبات أوائل السور أو أواخرها كما في الحديث: " ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء " في قضية الكلالة، وكما في "صحيح مسلم": " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وقي من فتنة الدجال - وفي لفظ - من آخر سورة الكهف " ويدل على ذلك ما ورد في قوله -تعالى: { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشدهم إلى موضعها تحديدا.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة النحل آية : 90.(2/56)
قال المؤلف: "والسور بالاجتهاد" يعني: أن ترتيب سور القرآن ليس بطريق نصي وإنما هو ثابت بطريق الاجتهاد، وهذا رأي الجماعة من المفسرين، والعلماء واستدلوا عليه بعدد من الأدلة منها ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة الأنفال وهي من المثاني وإلى سورة براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما؟" فدل ذلك على أن هذا الترتيب باجتهاد منهم، فقال عثمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم يفصل بينهما ولم أسأله عنهما.
واستدلوا على ذلك ثانيًا بأن الصحابة -رضوان الله عليهم- قد اختلفوا في ترتيب سور القرآن؛ ولذلك يقولون تأليف ابن مسعود وترتيبه لسور القرآن يخالف ترتيب غيره.
واستدلوا ثالثا على كون ترتيب سور القرآن اجتهاديا وليس نصيا ما ورد في حديث حذيفة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الليل فقرأ سورة البقرة ثم سورة النساء ثم سورة آل عمران " مما يدل على أن الترتيب اجتهادي وليس نصيا.
والقول الآخر بأن ترتيب سور القرآن ثابت بالنص وليس ثابتا بطريق الاجتهاد واستدلوا على ذلك بعدد من الأدلة، منها: أن القرآن قد أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، كما ورد عن ابن عباس مكتوبا، وهذه الكتابة لا بد أن تكون بترتيب، والمصحف الذي بين أيدينا مماثل لذلك المصحف المنزل إلى السماء الدنيا وكان موافقا له في ترتيبه.
واستدلوا على ذلك ثانيا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عرض على جبريل القرآن في رمضان الأخير عرضة تامة كاملة مرتين، وهذا العرض لا بد أن يكون بترتيب فيكون موافقا للترتيب الذي بين أيدينا.(2/57)
واستدلوا على ذلك ثالثا بما ورد في حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردها النبي - صلى الله عليه وسلم - " فجاء رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها " فقد جاء في بعض الروايات أنهم قالوا: وكان معه سورة البقرة، والسورة التي تليها مما يدل على أن الترتيب كان موجودا.
واستدلوا على ذلك رابعا بما ورد في الحديث أن القرآن يحاج عن صاحبه يوم القيامة يقدمه سورة البقرة وسورة آل عمران مما دل على أن هذا الترتيب معني ومقصود.
واستدلوا على ذلك أيضا بما ورد من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ السبع الطوال في ركعة مما يدل على أنها مرتبة كذلك.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واستدلوا عليه بما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما " فقرن بينهما مما يدل على أن هاتين السورتين قد حفظ ترتيبهما نصا.
ويدل على ذلك أيضا نظم القرآن، فهذا القرآن في تنظيمه لو كان باجتهاد من الصحابة لجمع الصحابة بين السور المتشابهة في أوائلها، لجمعوا بين السور التي في أوائلها ( حمد )، أو السور التي في أوائلها ( تسبيح)، أو السور التي في أوائلها ( حم )، ولكن الصحابة لم يجمعوا بينها مما يدل على أنهم قد تلقوا ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ويدل عليه أيضا ما ورد في حديث ابن مسعود أنه قال: أنا أعرف القرائن، أي: السور التي يقرن بينها النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم عددها على هذا الترتيب المعروف، وهذا القول أقوى من القول الأول، وأما حديث
حذيفة فيحتمل أنه كان قبل العرضة الأخيرة، فلم يكن هذا الترتيب معروفا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، ثم لما عرض القرآن على جبريل رتبه هكذا.(2/58)
وعلى كل من القولين القول القائل بأن ترتيب السور اجتهادي والقول القائل أن ترتيب السور نصي، فإن هذا الترتيب قطعي لوقوع الإجماع عليه، الإجماع القطعي المتواتر، وإذا ورد دليل قطعي على مسألة حرمت مخالفته، وحينئذ يحرم علينا مخالفة ترتيب سور القرآن، فمن قال سأرتب سور القرآن بحسب نزولها، قيل: هذا الترتيب خاطئ مخالف لما وقع عليه إجماع الأمة القطعي.
ويتعلق بمصحف عثمان مسألة وهي: هل يجب علينا المحافظة على رسم المصحف، أو يجوز لنا إبداله وتغييره بحسب ما يعرفه الناس ويتداولونه من قواعد الإملاء ونحو ذلك؟
الصواب في هذا: أنه لا يجوز؛ وذلك لثلاثة أمور:
الأمر الأول: وقوع إجماع الصحابة والتابعين وجميع الأمة على هذا المصحف بهذا الخط، فيحرم مخالفتهم.
والثاني: أنه قد لوحظ في هذا الخط جمعه للأحرف التي نزل بها القرآن فيكون حاويا للقراءات، فإذا بدلنا هذا الرسم فإنه حينئذ لا يكون رسم القرآن محتويا على هذه الأحرف.
والوجه الثالث: أن في ذلك وسيلة وسبيلا إلى تبديل القرآن وتغييره والله - عز وجل - قد أمرنا بالمحافظة على هذا القرآن وبذل الأسباب لاجتناب تغييره وتبديله.
أسباب نزول القرآن
أسباب نزوله: معرفة سبب نزول القرآن يعين على فهم الآية، فقد يكون اللفظ عاما والسبب خاص، ومنه { إِنِ ارْتَبْتُمْ } (1) { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (2).
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الطلاق آية : 4.
(2) - سورة البقرة آية : 115.(2/59)
قال المؤلف: "أسباب نزوله" يعني نزول القرآن معرفة سبب نزول القرآن، قال المؤلف هنا: القرآن على جهة العموم ومراده الخصوص، فمراده معرفة سبب نزول بعض آيات القرآن، فيه فوائد منها : أنه يعين على فهم الآية، فإن الآية قد يستشكل معناها إذا لم نعرف السبب الذي نزلت الآية فيه، فقد يكون اللفظ عاما والسبب خاصٌّ "والواو هنا إستئنافية" ومنه: { إِنِ ارْتَبْتُمْ } (1) المراد بهذه الآية آية سورة الطلاق { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ ِ/ن3ح!$|،خpS إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } (2).
فلا يقولن قائل: الآيسة إذا لم نَرتَبْ فيها لا تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن الله قال: { إِنِ ارْتَبْتُمْ } (3) و"إن" أداة شرط! هذا ليس مرادا، وإنما سبب نزول الآية أنه لما نزل قوله -تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (4) " جاء الصحابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إن من النساء الكبار " يعني: اللاتي لا يحضن والصغار والحُمل، فنزلت هذه الآية لما ارتابوا في حكم هؤلاء النساء.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنه قوله -تعالى: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (5) فإن ظاهر هذه الآية أنه يجوز التوجه بالصلاة إلى أي وجهة، وهذا ليس مرادا، وإنما سبب نزول هذه الآية فيه قولان للمفسرين:
__________
(1) - سورة الطلاق آية : 4.
(2) - سورة الطلاق آية : 4.
(3) - سورة الطلاق آية : 4.
(4) - سورة البقرة آية : 228.
(5) - سورة البقرة آية : 115.(2/60)
القول الأول: أن بعض الصحابة خرجوا في برية فاشتبهت عليهم القبلة فاجتهدوا وتحروا ثم صلوا، فتبين لهم أن صلاتهم على خلاف القبلة، فنزلت هذه الآية { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (1) فهذه الآية نزلت في رفع الإثم والجناح عن من جهل جهة القبلة فاجتهد وتحرى فكانت صلاته إلى غير القبلة .
القول الثاني في سبب نزول هذه الآية: أنها نزلت في صلاة النافلة، إذا أداها العبد على الراحلة فإنه يجوز له حينئذ أن يتوجه حيث توجهت به راحلته.
ذكر المؤلف هنا فائدة من فوائد معرفة أسباب النزول، وهو فهم الآية ورفع الإشكال الواقع فيها، ومن ذلك أيضا من فوائد معرفة أسباب النزول معرفة الحكمة التي لاحظها الشارع في إثبات الحكم.
ومعرفة الحكم والعلل يفيدنا في مسائل القياس، ويفيدنا أيضا في الثبات على الحكم، ومعرفة فضل الله - عز وجل - علينا بأحكام الشريعة، ومن فوائد معرفة أسباب النزول أيضا أن صورة السبب التي نزل النص من أجلها تدخل في النص دخولا قطعيا، فلا يصح استثناؤها أو تخصيصها.
فإذا نزلت الآية العامة في سبب خاص فإنه حينئذ لا يصح لنا أن نخرج هذا السبب الخاص من عموم الآية ولا نخصصه بدليل آخر، فإن صورة السبب قطعية الدخول في اللفظ العام، ولكن العبرة بعموم اللفظ فلا يصح أن نخصص اللفظ العام بسبب وروده على سبب خاص.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويدل على ذلك أن كثيرا من آيات القرآن والسنة نزلت في أسباب خاصة بألفاظ عامة، ومع ذلك أنزلها الصحابة على عمومها، ومن أمثلة ذلك حادثة اللعان بين الزوج وزوجته، فإنها نزلت في قصة عويمر العجلاني، ومع ذلك فالسبب خاص، إلا أننا نحكم عليه بحكم عام.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 115.(2/61)
وكذلك أيضا في حكم المظاهر لزوجته فإنها نزلت في قصة خاصة، فلا يصح لنا أن نخصص هذا العام ونجعله خاصا بصورة السبب؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكذلك بقية الأحكام.
العام والخاص
عامه وخاصه : العام أقسام : منه الباقي على عمومه كـ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (1) والعام المراد به الخصوص كـ { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } (2) والثالث العام المخصوص وهو كثير إذ ما من عام إلا وقد خص، والمخصص إما متصل وهو خمسة، أحدها الاستثناء، والمنفصل كآية أخرى أو حديث أو إجماع، ومن خاص القرآن ما كان مخصصا لعموم السنة كـ " حتى يعطوا الجزية " خص " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك ( مبحث العام والخاص ) والمراد بالعام اللفظ الواحد المستغرق لجميع ما يصلح له دفعة واحدة من غير حصر، فقولنا: "اللفظ" لإخراج الذوات وإخراج الأفعال فإنها ليست عامة، وقولنا: "الواحد" لإخراج الألفاظ المتعددة المتعاطفة مثل زيد وعمرو وخالد، فهذه تدل على ذوات كثيرة لكنها بألفاظ متعددة فلا تكون عامة.
"المستغرق" يعني: أنه شامل لجميع أفراده لما يصلح له، يعني: لجميع الأفراد الواقعة، وقولنا: "دفعة واحدة" لإخراج الألفاظ المشتركة فإنها تستغرق ما يصلح لها على أحد الأقوال، لكن ليس دفعة واحدة وإنما على سبيل البدلية.
وقولنا: "من غير حصر" لإخراج ألفاظ الأعداد مثل: عشرين وثلاثين، فإنها لفظ واحد مستغرق لجميع ما يصلح له دفعة واحدة لكن بواسطة الحصر، ومن أمثلة العام: لفظ "الذي والذين" وكل هذه عامة { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } (3) "كل" هنا عامة، { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } (4) "ما" هنا عامة.
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.
(2) - سورة آل عمران آية : 173.
(3) - سورة البقرة آية : 282.
(4) - سورة البقرة آية : 284.(2/62)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وألفاظ العموم يجمعها ستة أنواع: كل، وجميع وما ماثلها، والأسماء المبهمة مثل: ما ومن، والأسماء الموصولة: الذي والتي والذين اللائي، والأسماء المعرفة بـ "أل" الجنسية، وأسماء الجموع المضافة إلى معرفة.
قال المؤلف: "العام أقسام" يعني: أن اللفظ العام ينقسم من جهة أصله.. ينقسم في دلالته على جميع الأفراد إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: لفظ في أصله عام وقد بقي على دلالته اللغوية في كونه دالا على جميع الأفراد كقوله: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } (1) فلا يصح لنا استثناء شيء من الأمهات ولا تخصيصه، ومن أمثلة ذلك قوله -سبحانه: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } (2) العالمين جمع عام باق على عمومه { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } (3) هذا باق على عمومه { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } (4) هذا باق على عمومه.
النوع الثاني: عام يراد به الخصوص، وهو في ذاته لفظ عام لكن في معناه لا يشمل جميع الأفراد، ومن أمثلته قوله -سبحانه: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } (5) فإن هذا في الأصل لفظ "الناس" لفظ عام لأنه اسم جنس معرف بـ "أل" الجنسية، لكنه هنا أريد به الخصوص، وقد قيل بأن القائل شخص واحد، ومن أمثلته قوله -سبحانه: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } (6) على أحد التفاسير فإنه قد فسر
.
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.
(2) - سورة الفاتحة آية : 2.
(3) - سورة البقرة آية : 282.
(4) - سورة النساء آية : 40.
(5) - سورة آل عمران آية : 173.
(6) - سورة النساء آية : 54.(2/63)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأنه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومثله قوله: { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } (1) فقد فسر لفظ "الناس" هنا بإبراهيم -عليه السلام- وإن كان طائفة قالوا بأن المراد هنا غير الحمس، ومثله قوله -سبحانه: { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ } (2) فسر بأن المنادي هنا جبريل -عليه السلام.
النوع الثالث: لفظ عام بقي في دلالته على الاستغراق لكنه أخرجت منه بعض الألفاظ، ومن أمثلته قوله -سبحانه: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } (3) ثم بعد ذلك بين أن المضطر يجوز له أكل الميتة، فالميتة هنا معرف بـ "أل" الجنسية، فيفيد العموم ثم استثنى منه المضطر، فيجوز له أكل الميتة، فهذا عام مخصوص، قالوا: وهو كثير وظاهر هذا أن النوع الثالث أكثر ما في القرآن، والصواب أن أكثر عمومات القرآن باقية على عمومها، إذا تأمل الإنسان النصوص الشرعية وجد أن ألفاظ العموم باقية على عمومها.
قال: "إذ ما من عام وقد خص" وهذا أيضا فيه ما فيه، فهذا خطأ، فالكثير من العموميات باقية على عمومها { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) } (4) { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } (5) هذه باقية على عمومها { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } (6) { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) } (7) فهذه باقية على عمومها.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 199.
(2) - سورة آل عمران آية : 39.
(3) - سورة المائدة آية : 3.
(4) - سورة البقرة آية : 284.
(5) - سورة البقرة آية : 282.
(6) - سورة النساء آية : 40.
(7) - سورة الزلزلة آية : 7.(2/64)
قالوا: والمخصص ينقسم إلى نوعين، والمراد بالمخصص الدليل الذي يخرج بعض الأفراد عن دلالة العموم عليه، النوع الأول مخصصات متصلة، والمراد بالمخصصات المتصلة: التي تأتي مع الخطاب العام في سياق واحد، قالوا: وهو خمسة، يعني: المخصصات المتصلة خمسة أنواع، قال:
أحدها: الاستثناء، فإذا ورد استثناء فإننا نخصص ما بعده من الحكم السابق لأداة الاستثناء، ومن أمثلته لما ذكر الله - عز وجل - أن الذين يرمون المحصنات { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا } (1) الآية، وقال -سبحانه: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا } (2) ثُمَّ قَالَ { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } (3).
والأنواع الخمسة الباقية قلنا الأول: الاستثناء؛ والثاني: الصفة فإن الصفة تخصص بها اللفظ العام، ومثله قوله -جل وعلا { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } (4) فـ { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } (5) صفة فحينئذ تحرم الربيبة من الزوجة التي دخل بها دون الزوجة التي لم يدخل بها.
والثالث من المخصصات المتصلة: البدل، مثل قوله -سبحانه: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (6) "الناس" عامة، و"من استطاع" بدل، فنخصص لفظ الناس فنقول: العاجز لا يجب عليه الحج.
__________
(1) - سورة النور آية : 4-5.
(2) - سورة المائدة آية : 33.
(3) - سورة المائدة آية : 34.
(4) - سورة النساء آية : 23.
(5) - سورة النساء آية : 23.
(6) - سورة آل عمران آية : 97.(2/65)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والرابع الشرط: فالشرط يخصص العموم، وفيه قوله -جل وعلا: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا } (1) فكلمة "إن" أداة شرط فحينئذ نخصص وجوب الوصية فيمن ترك خيرًا قبل نسخ هذه الآية .
والنوع الخامس: الغاية، فالغاية تخصص العموم، ومنه قوله -سبحانه: { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } (2) هذا نهي عن القربان على جهة العموم ثم استثنينا بعد ذلك ما كان بعد الطهارة والتطهر؛ فإنه حائز استثناء من هذا العموم.
قال: "والمنفصل" يعني: النوع الثاني من أنواع المخصصات: المخصصات المنفصلة كآية أخرى، كأن تأتينا آية ونخصصها بآية أخرى، ومن أمثلته قوله -تعالى: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (3) استثنينا منها غير المدخول بها لقوله -سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } (4) فالمطلقة غير المدخول بها ليس عليها عدة ولا تعتد ثلاثة قروء.
قال: "أو حديث" يعني: أن عموم الآية قد يخصص بالحديث، ومنه قوله -سبحانه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (5) "السارق" عام لدخول "أل" الجنسية عليه، ثم خصصنا هذا العموم بما ورد في السنة من أن سارق ما دون النصاب لا يقطع وأن السارق من غير الحرز لا يقطع.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 180.
(2) - سورة البقرة آية : 222.
(3) - سورة البقرة آية : 228.
(4) - سورة الأحزاب آية : 49.
(5) - سورة المائدة آية : 38.(2/66)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "أو إجماع" يعني: أن عموم الآية يخصص بواسطة الإجماع، ومن أمثلته آيات المواريث عامة { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } (1) "أولادكم" جمع مضاف إلى معرفة فيفيد العموم فخص بالإجماع في الرقيق؛ لأن الابن الرقيق لا يرث من والده بالإجماع، فخص عموم الآية بالإجماع، ومنه قوله -جل وعلا: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } (2) فإن "ماء" نكرة في سياق النص فأفادت العموم، فخص بالإجماع بالماء المتغير بنجاسة فإنه لا يجوز الوضوء به.
قال: "ومن خاص القرآن ما كان مخصصا لعموم السنة" يعني: قد تأتينا سنة عامة ثم بعد ذلك نخصصها بآية قرآنية خاصة، ومن أمثلته قوله -صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس " "الناس" عام جمع أو اسم جنس معرف بـ "أل" الجنسية فيفيد العموم فخص بقوله -تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) } (3) ما استثنت دافعي الجزية من المعاهدين فإنهم لا يقاتلون.
ومن أمثلته ما ورد في الحديث: " ما أبين من حي فهو ميت " فهذا عام "ما أبين" اسم مبهم ثم خصص بقوله -تعالى: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } (4) دل ذلك على أن الأصواف المأخوذة من الحيوان الحي يجوز استعماله، ومن ذلك أيضا ما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عن الصلاة في أوقات معينة، ثم خصصنا هذا
__________
(1) - سورة النساء آية : 11.
(2) - سورة النساء آية : 43.
(3) - سورة التوبة آية : 29.
(4) - سورة النحل آية : 80.(2/67)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النهي العام بقوله -سبحانه { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } (1) فقلنا بأنه يجوز قضاء الصلوات في أوقات النهي، هذا ما يتعلق بالعموم والخصوص.
[نأخذ الناسخ والمنسوخ أم نتركه ليوم آخر ؟ ولا واحد تكلم إثبات ولا نفي سبع عشر طيب].
الناسخ والمنسوخ
الناسخ والمنسوخ : يرد النسخ بمعنى الإزالة ومنه { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } (2) وبمعنى التبديل { وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ } (3) وهو ثلاثة: ما ينسخ تلاوته وحكمه كـ"عشر رضعات" أو تلاوته دون حكمه كآية الرجم، أو حكمه دون تلاوته وصنفت فيه الكتب، وهو قليل ولا يقع إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر .....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف هنا: "الناسخ والمنسوخ": "النسخ" في اللغة يطلق على معان؛ المعنى الأول: الإزالة، ومنه قوله -تعالى: { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } (4) أي: يزيله، هذا المعنى اللغوي، ويأتي النسخ بمعنى التبديل، هذا معنى لغوي آخر للنسخ؛ لقوله -تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ } (5) هذه الآية لم يُذكر فيها لفظ النسخ، ولا يصح الإتيان بها هنا، ولو أتى بقوله تعالى: { * مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا } (6) لكان أولى، فإن المراد بها تبديل الآية بآية أخرى.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 238.
(2) - سورة الحج آية : 52.
(3) - سورة النحل آية : 101.
(4) - سورة الحج آية : 52.
(5) - سورة النحل آية : 101.
(6) - سورة البقرة آية : 106.(2/68)
وهذا التعريف في اللغة، فالنسخ في اللغة قد يطلق على الإزالة، لذلك تقول العرب: نسخت الريح الأثر، بمعنى أزالته، وقد يأتي بمعنى النقل، تقول: نسخْت ما في الكتاب يعني: نقلته إلى كتاب آخر، سواء مع بقاء الأصل أو مع عدم بقاءه.
ويراد به في الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي الثابت بخطاب متقدم بواسطة خطاب متأخر، وقولنا: "رفع" لإخراج التخصيص؛ فإنه ليس نسخا، وإن كان في العصور الأولى قد يطلقون لفظ النسخ على التخصيص؛
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولذلك تنتبهون لكلام بعض المفسرين من العصور الأولى، قد يستعملون لفظ النسخ ولا يريدون به النسخ الاصطلاحي، وإنما يريدون به التخصيص، وقد ورد ذلك في كلام ابن عباس وغيره من السلف، قوله هنا: "رفع الحكم" لإبعاد رفع غير الأحكام من الذوات وغيرها، "الشرعي" لأن الكلام في النسخ متعلق بالأدلة الشرعية، والحكم عند الأصوليين يراد به ذات الخطاب وذات الدليل.
"الثابت بخطاب متقدم": فلو كان الرفع لحكم ثابت بالبراءة الأصلية فإنه لا يكون نسخا، مثال ذلك: كانت الخمر مباحة في أول الإسلام، ثم نزل النص القاطع بتحريم الخمر، فلا يكون هذا نسخا، لماذا؟ لأن إباحة الخمر لم تثبت بنص متقدم، وإنما ثبتت بواسطة البراءة الأصلية، الإباحة الأصلية.
"بواسطة خطاب متراخ عنه": فيشترط في الناسخ أن يكون خطابا، ولا يصح لنا أن ننسخ بواسطة القياس، أو ننسخ بواسطة الإجماع.
"متراخ عنه": يعني أن الناسخ لا بد أن يكون متأخرا عن المنسوخ، فلا يصح أن ينزلا في وقت واحد.(2/69)
قال: "وهو ثلاثة" يعني أن النسخ، من أمثلة النسخ ما ورد من نسخ عدد من الأحكام الشرعية مثل آية المصابرة، فإنه كان في أول الإسلام يحرم على الإنسان أن يفر من عشرة، ثم نسخ هذا إلى تحريم فرار الإنسان من اثنين { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (1) ثم نسخت بقوله تعالى: { الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (2).
قال: "والنسخ ينقسم إلى ثلاثة أنواع": يعني النسخ ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما نسخت تلاوته وحكمه كـ "عشر رضعات" جاء في حديث عائشة - رضي الله عنه - كان فيما أنزل في القرآن عشر رضعات محرمات، فنسخن بخمس، فهنا كان في القرآن، نُسخت التلاوة، ونُسخ أيضا الحكم .
النوع الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم، فالحكم باق، لكن تلاوة الآية رفعت ونسخت، ومن أمثلته قال: "كآية الرجم"؛ فإن الرجم قد نزل فيه آية قرآنية، ثم نسخ لفظها وبقي حكم الرجم، قال عمر - رضي الله عنه - نزلت آية
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرجم ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعقلناها وعملنا بها، ورجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده، فهنا الرجم كان فيه آية، هذه الآية نُسِخَ لفظها وتلاوتها وبقي حكمها، فالمحصن الزاني يرجم.
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 65.
(2) - سورة الأنفال آية : 66.(2/70)
النوع الثالث: ما نُسِخَ حكمه وبقيت تلاوته، ومن أمثلته آية المصابرة التي ذكرتها قبل قليل { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (1) نسخت بالآية التي بعدها، وقوله سبحانه: { إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } (2).
قال: "وصنفت فيه الكتب" يعني أن العلماء قد صنفوا مصنفات، وألفوا مؤلفات في الناسخ والمنسوخ، وقد وُجد هذا في العصر الأول، وهو قليل، يعني أن النسخ بالنسبة للشريعة قليل، وأغلب آيات القرآن محكمة باقية على العمل بها، على مشروعية قراءتها، ومشروعية العمل بها.
قال: "ولا يقع إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخير"، يعني أن النسخ لا يكون إلا في الأوامر والنواهي؛ وذلك لأن المراد بالنسخ رفع حكم ثابت سابقا، والأحكام تكون في الأوامر والنواهي، ولا يكون في الأخبار؛ لأنه يلزم لرفع الخبر أن يكون خبر الله كاذبا، فلو قلت: محمد جاء، ثم نسخنا هذا الخبر لكان.
قال: "ولا يقع إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر"، يعني أن النسخ لا يكون إلا في الأوامر والنواهي؛ وذلك لأن المراد بالنسخ، رفع حكم ثابت سابقا، والأحكام تكون من الأوامر والنواهي. ولا يكون في الأخبار، لأنه يلزم لرفع الخبر، أن يكون خبر الله كاذبا، فلو قلت: محمد جاء، ثم نسخنا هذا الخبر: محمد لم يأت، يكون الخبر الأول كاذبا، والله -سبحانه وتعالى- منزه عن النقائص، ومنها الكذب.
قال: "ولو بلفظ الخبر"، يعني أن الأوامر والنواهي، إذا كانت بلفظ الخبر، جرى فيها النسخ، ومن أمثلته: قوله سبحانه: { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (3) هذا خبر، لكنه ليس المراد به الخبر، وإنما المراد به الأمر.
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 65.
(2) - سورة المجادلة آية : 12.
(3) - سورة الأنفال آية : 65.(2/71)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكون الأخبار لا يقع فيها النسخ، مذهب جماعة من الأصوليين، وذهب آخرون إلى أن الأخبار تنقسم إلى قسمين: أخبار آتية، وأخبار ماضية؛ فالأخبار الماضية لا يقع فيها النسخ، والأخبار الآتية قد يقع فيها النسخ، ولذلك قد يعفو الله عن العبد يوم القيامة، مع ورود الوعيد في حقه، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } (1) وهنا خبر بإثبات المحاسبة لِما ظهر، ولِما خفي في النفس.
ثم نزلت الآية التي بعدها: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } (2) فنسخت الآية السابقة، فحينئذ لا يؤاخذ الله إلا بما أظهره العبد. فهذا أثبت فيه الدليل الشرعي نسخا، مع كونه خبرا، وهذا خبر فيما يأتي، وهذا القول له قوته.
هذا ما يتعلق بشيء من مباحث النسخ، والأصوليون يستطردون في مباحث النسخ، ويذكرون له تقسيمات وأنواعا عدة، يترك البحث فيها لأهل البحث في العلم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 284.
(2) - سورة البقرة آية : 286.(2/72)
والناسخ والمنسوخ مهم أن نعرفه، وأن نتعلمه، وأن نعرف أحكامه، وألا نقول بحكم، ويكون ذلك الحكم منسوخا، ولذلك ورد عن الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم كانوا يقيمون من لا يعرف الناسخ من المنسوخ، إذا وجدوا أحدًا يقص، أو يحدث، وهو لا يعرف الناسخ من المنسوخ، أقاموه ومنعوه من الحديث، لئلا يوقع على الناس إشكالات في إيراد المنسوخ، وهو لا يعلم بناسخه، نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا، وإياكم علما نافعا، وعملا صالحا، وأن يجعلنا، وإياكم هداة مهتدين، وأن يرزقنا، وإياكم فهم كتابه العظيم، والعمل بما فيه، والسير على تعاليمه، كما نسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردا جميلا، وأن يجعلهم متمسكين بهذا الكتاب العظيم، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد.
س: سؤال: يقول سائل: كيف يكون القرآن مراعيا للغات العرب، وهو أنزل بلغة قريش؟
ج: لعل هذا يأتي في زيادة بيان فيما يأتي، ونذكر نماذج قد راعى فيها القرآن، أو ورد فيها القرآن بلغات، تكون من لغات العرب، مثال ذلك مثلا: لفظ الحِج، والحَج؛ فإن أهل الحجاز يختلفون عن أهل نجد في ذلك؛
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فبعضهم يقول: بالكسر الحِج، وبعضهم يقولها بالفتح: الحِج، وكلاهما قد ورد فيه قراءة سبعية متواترة، فهذا من لهجات العرب، التي ورد القرآن بها، ونزل القرآن بها، وكلاهما قراءة سبعية متواترة.
س: يقول السائل: ذكرتم ـ حفظكم الله ـ أنه يحرم مخالفة ترتيب السور، ألم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خالف هذا الترتيب أحيانا، ويكون ذلك صارفا للحكم من التحريم إلى الكراهة؟(2/73)
ج: بالنسبة للمخالفة للترتيب في القراءة؛ هذا لم نتطرق له، وإنما كلامنا السابق في ترتيب القرآن؛ هل هو نصي ثابت بطريق النص، أو هو باجتهاد، وللاجتهاد فيه مسار؟ ويترتب على ذلك؛ لو جاءنا إنسان قال: أنا سأرتب المصحف ترتيبا جديدا؛ بحسب نزوله، أو بحسب طول السور، أو بحسب أمر من الأمور، التي تجعلنا نخالف الترتيب السابق، هل هذا سائغ ويجوز لنا، أم ليس سائغا؟ هذا هو المراد. وقد وقع الإجماع على هذا الترتيب، وحينئذ لا يجوز لنا أن نغير ذلك.
نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا، وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله على محمد.
المحكم والمتشابه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد.
نواصل الحديث فيما كنا بدأنا به، في الكلام عن مقدمة علم التفسير، نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: المحكم والمتشابه، المحكم: يميز الحقيقة المقصودة. والمتشابه: يشبه هذا، ويشبه هذا. { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } (1) ليفتنوا به الناس، فيضعونه على غير موضعه { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (2) وهو الحقيقة التي أخبر عنها؛ كالقيامة، وأشراطها { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } (3) وقته وصفته { إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ } (4) ولم ينفِ عنهم علم معناه، بل قال: { لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ } (5) .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.
(4) - سورة آل عمران آية : 7.
(5) - سورة ص آية : 29.(2/74)
قال شيخ الإسلام: وثبت أن اتباع المتشابه، ليس في خصوص الصفات، ولا أعلم أن أحدا من السلف، جعلها من المتشابه الداخل في هذه الآية، وعندهم: قراءتها: تفسيرها، وتمر كما جاءت؛ دالة على ما فيها من المعاني، لا تُحرّف، ولا يلحد فيها، وكل ظاهر، ترك ظاهره لمعارض راجح؛ كتخصيص العام، وتقييد المطلق، فإنه متشابه، لاحتماله معنيين، وكذا المجمل، وإحكامه: رفع ما يتوهم فيه من المعنى، الذي ليس بمراد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف في هذا المبحث ما يتعلق بالمحكم، والمتشابه، ولفظ المحكم في النصوص الشرعية، وفى وصف القرآن به، يطلق على معنيين:
الأول: الإحكام العام؛ فكل القرآن محكم، بمعنى أنه متقن. قال تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ } (1) يعني أتقنت.
والمعنى الثاني: الإحكام الخاص، وذلك أن بعض الكتاب محكم، وبعضه متشابه، كما قال سبحانه: { مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (2) والمراد بالمحكم هنا؛ قال المؤلف بأنه هو الذي تميز فيه الحقيقة المقصودة، أو بمعنى أوضح يقال: المحكم: هو الدال على معنى واحد؛ بحيث لا يوجد هناك اضطراب، ولا اختلاف في معناه.
وأما المتشابه؛ فالقرآن كذلك ينقسم التشابه في حقه إلى:
تشابه عام: فالقرآن كله متشابه، كما في سورة الزمر، والمراد بهذا أنه يصدق بعضه بعضا، فلا يوجد اضطراب، ولا اختلاف في معاني القرآن.
__________
(1) - سورة هود آية : 1.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.(2/75)
والثاني: التشابه الخاص؛ كما في قوله سبحانه: { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (1) وقد بين المؤلف هنا أن المراد بالتشابه: ما يدل على أكثر من معنى، ويكون المراد به أحد المعاني دون جميعها؛ بحيث إن الذين في قلوبهم زيغ، يتبعون المعنى الذي لم يرده الله -سبحانه وتعالى- مثال ذلك: قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } (2) ؛ فإنا نحن: يحتمل أن يراد به الجمع، ويحتمل أن يراد به الواحد مع أتباعه، أو الواحد المُعَظم، هذا اللفظ فيه نوع
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
متشابه، فالذين في قلوبهم زيغ يقولون: المراد بهذا اللفظ: الجمع، كما يقوله النصارى، ويقولون: الله ثالث ثلاثة، وأما الراسخون في العلم، فإنهم يعرفون المراد به.
فبذلك، عرفنا المراد بلفظ المحكم، والمتشابه بالنسبة للقرآن، والحنفية يستعملون لفظ المحكم، والمتشابه في اصطلاح خاص بهم، فيقولون: المحكم: هو اللفظ الدال على معنى بين، واضح، سيق الكلام من أجله، لا يحتمل تأويلا، ولا نسخا، ولا تخصيصا. هذا المحكم عند الحنفية.
والمتشابه: هو اللفظ الذي خفي معناه من ذاته؛ بحيث لا يسع العقل إدراكه، لعدم وجود قرينة معه، وذلك كما تعرفون، أن الجمهور يقسمون الألفاظ، من جهة دلالتها، إلى ثلاثة أقسام:
أولها: النص: وهو اللفظ الدال على معنى، بلا احتمال متأيد بدليل، مثال ذلك: لفظ عشرة { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (3) لا يرد عليها أي احتمال أن المراد بها عشرة، فلا يصح أن يقال: المراد بها تسعة، ولا يصح أن يقال: المراد بها أحد عشر، هذا يسمى عند الجمهور نصا.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة الحجر آية : 9.
(3) - سورة البقرة آية : 196.(2/76)
والقسم الثاني: الظاهر: وهو الذي يدل على معنيين؛ هو في أحدهما أظهر، وعلى ذلك، يكون الظاهر من المتشابه، والنص هو المحكم؛ بمعنى الإحكام، والتشابه الخاص.
ومثال ذلك: ما ورد في الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة نكحت نفسها؛ فنكاحها باطل " امرأة هنا، ظاهرها العموم، يشمل الحرة، والآمة، فإذا جاء إنسان، وقال: المراد اللفظ؛ الأمة فقط، دون الحرة، فإنه حينئذ ترك المعني الظاهر، وذهب إلى معنى خفي، المقصود أن هذا اللفظ لفظ ظاهر.
القسم الثالث: المجمل: وسيأتي معناه.
هذا تقسيم الجمهور للألفاظ بحسب دلالتها.
الحنفية يقولون: الألفاظ تنقسم إلى قسمين:
ألفاظ خفية، وألفاظ واضحة؛ والألفاظ الواضحة، يقسمونها أربعة أقسام: الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم؛ والمحكم: أعلى أنواع الألفاظ من جهة وضوح الدلالة، وعدم ورود الاحتمال عليها.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والقسم الثاني: خفي الدلالة، ويقسمونه أربعة أقسام: المجمل، والمشكل، والمتشابه، ويدخلون فيه المشترك، المقصود أن المراد هنا ليس اصطلاح العلماء، وإنما المراد معرفة المحكم، والمتشابه بالنسبة للقرآن، والذي يميز به تفسير قوله سبحانه: { مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } (1).
قول المؤلف هنا: المحكم: هو الذي تميز فيه الحقيقة المقصودة؛ بحيث لا تلتبس بغيرها. ونجد أيضا من إطلاق العلماء للفظ المحكم، إطلاقه في مقابلة المنسوخ، فيقال: هذه الآية محكمة؛ بمعنى أنها غير منسوخة.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.(2/77)
النوع الثاني: المتشابه؛ المراد هنا: التشابه الخاص، وليس التشابه العام؛ لأن التشابه العام، كما تقدم؛ بمعنى تصديق بعضه لبعض، قال: "يشبه هذا ويشبه هذا"، يعني أن يوجد لفظ واحد، يحتمل أحد معنيين، فأهل الحق يعرفون المراد به من المعنيين، وأهل الخطأ يظنون أن المراد به المعني، الذي لم يرده الله - عز وجل - قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } (1) ؛ بمعنى أنهم يفسرون اللفظ المحتمل للمعنيين بتفسير غير مراد للشارع، { ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } (2) قال: ليفتنوا به الناس، إذا وضعوه على غير مواضعه؛ أي إذا فسروه على غير المراد به، ومن أمثلة ذلك: لو جاءنا إنسان، وقال: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (3) المراد بها الدعاء. نقول: هذا لفظ الصلاة، يحتمل أن يكون المراد به الدعاء، ومحتمل أن يكون المراد الصلاة، ذات الأفعال، والأقوال المبدوءة بالتكبير، المختومة بالتسليم، لكن لما قال: أقيموا، دلنا على أن المراد به المعنى الثاني، دون المعنى الأول، فإذا جاءنا إنسان، وفسر هذا اللفظ بالمعنى غير المراد، فإنه يكون حينئذ ممن اتبع المتشابه.
قال: { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } (4) هناك مبحث قادم في المراد بلفظ التأويل، وأن العلماء بينوا أن المراد به ثلاثة معان، والمقصود هنا أن كلمة: { تَأْوِيلِهِ } (5) ؛ يعنى الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، مثال ذلك: أنت خارج
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة الأنعام آية : 72.
(4) - سورة آل عمران آية : 7.
(5) - سورة آل عمران آية : 7.(2/78)
المسجد، فتقول: في المسجد درس علمي في أصول التفسير، فكلامك وأنت خارج لم تصل إلى تأويله؛ أي إلى الحقيقة التي تتكلم بها، فإذا دخلت إلى المسجد، فإنك حينئذ قد أصبت تأويل كلامك.
قال -جل وعلا-: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } (1) ؛ يعني يأتي حقيقة المراد بالكلام، فإذا وقع يوم القيامة، فهذا حينئذ تأويل ما أخبر الله - عز وجل - به، فالمقصود أن كلمة التأويل، المراد بها ما يؤول إليه الكلام، وما يصير إليه، قال: "وهو الحقيقة التي أخبر عنها".
لفظ القيامة، ما تأويله على هذا؟ تأويله: وقوع ذلك اليوم، ومشاهدتك له.
معنى تأويل أشراط الساعة: وقوعها، ومشاهدتك لها.
قال: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } (2) فسر المؤلف ذلك بوقته وصفته، الهاء في تأويله، { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } (3) الـ "ما": نافيه، حرف لا محل له من الإعراب. يعلم: بمعنى يعرف. تأويله: بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها. والهاء: وقع الخلاف بينهم في المراد بها، الضمير هنا إلام يرجع؟ هل يرجع إلي المتشابه؟ يعني وما يعلم حقيقة المتشابه إلا الله؟ يعني ما يصير إليه وما يؤول إليه، أو المعنى المراد به، هذا أحد الأقوال فيها.
القول الثاني: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } (4) يعني تأويل القرآن، لأن بداية الآية: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } (5) فيكون المراد: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } (6) أي حقيقة ما يؤول إليه هذا الكتاب، من جهة الوقت والصفة إلا الله، فلا يعلم مقدار حقيقة الأمر، وقتا، وقدرا، ونوعا، وحقيقة، إلا الله -سبحانه وتعالى.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 53.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.
(4) - سورة آل عمران آية : 7.
(5) - سورة آل عمران آية : 7.
(6) - سورة آل عمران آية : 7.(2/79)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ } (1) الراسخون في العلم: بمعنى الذين ثبت في قلوبهم العلم؛ بحيث لا تستهويهم الشبهات، يقال: رسخ في كذا؛ بمعنى ثبت فيه، ولم يتحرك منه، فالراسخ في العلم، يراد به الثابت؛ بحيث لا تستهويه الشبهات، لوجود علم يقيني لديه، وقال بعضهم: المراد بالراسخ في العلم، الذي يتمكن من استخراج الأحكام من الأدلة الشرعية، ولكن المعنى الأول أوضح وأظهر، وهو الذي تدل عليه اللغة، والواو هنا وقع الخلاف بينهم { وَالرَّاسِخُونَ } (2) هل هي استئنافيه، فيكون الراسخون مبتدأ، وجملة يقولون خبر، وهذا أظهر قوليْ أهل التفسير، أو تكون الواو عاطفة؛ بمعنى أن الراسخين في العلم، يعلمون تأويله، فيكون التأويل هنا حينئذ يراد به التفسير، وجملة يقولون آمنا به، حالية على التفسير التالي.
وجمهور المفسرين من الصحابة، والتابعين على الاختيار الأول، قالوا: واستئنافيه، قال المؤلف: "ولم ينف عنهم" يعني أن الله - عز وجل - في هذه الآية لم ينف عنهم؛ يعني عن الراسخين علم معنى الكتاب، وإنما أثبت أنهم يجرمون به، ويؤمنون به، ويوقنون به، ويدل على أنهم يعرفون معناه، أن الله أمر بتدبر آيات القرآن، وهم يطيعون أمر الله -سبحانه وتعالى-.
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلي مسألة، وهي: هل المتشابه يراد به آيات الصفات؟ أو أن المتشابه من أمثلته آيات الصفات؟ وذلك أن بعض المؤمنين رأى أن آيات الصفات من المتشابه، كما قاله الشيخ الموفق ابن قدامة؛ حيث مثّل للمتشابه بآيات الصفات، وقد قال العلماء بأن هذا يحتمل معنيين:
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.(2/80)
المعنى الأول: أن يكون حقيقة صفات الله غير معلومة لنا، ومتشابهة في حقنا، فكيفية الصفة لا يعلمها إلا الله، فحينئذ يكون هذا المعنى صحيحا، إن آيات الصفات من المتشابه؛ بمعنى أننا لا نعلم كيفيتها، ولا حقيقتها ولا حقيقة ما يؤول إليه لفظ الصفة.
والمعنى الثاني: الذي يحتمله كلام الموفق، أن معنى صفات الله من المتشابه، ولذلك فنحن ننفي هذه المعاني؛ سواء أولناها، أو فوضناها، أولناها؛ بمعنى أن نقول: ظاهر هذه الصفات، ومعناها في اللغة غير مراد، والمراد بها كذا، مثال ذلك: أن نقول: المراد بقوله: استوى؛ استولى، وليس المراد بها الاستواء حقيقة، وأما التفويض، فأن
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تكل علمها إلى الله، مع نفى المعنى الظاهر. قوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) الله أعلم بمعناها، فنحن لا نعرف معناها، فلا نثبت لهذا اللفظ معنى. قال شيخ الإسلام، ابن تيمية: وثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات؛ يعني التشابه ليس خاصا بآيات الصفات، بل كما يقع التشابه في آيات الصفات، يقع التشابه في غيرها.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.(2/81)
قال الشيخ: "ولا أعلم أن أحدا من السلف"، يراد بالسلف: متقدمو هذه الأمة، من أهل القرون المفضلة، وقد يدخل في هذا اللفظ من تبعهم، فينسب إليهم. قال: ولا أعلم أن أحدا من السلف جعلها؛ يعني جعل آيات الصفات من المتشابه الداخل في هذه الآيات، وذلك لأن آيات الصفات كلام عربي، والكلام العربي يحمل على حقيقته، وعلى ظاهره، ولا يصرف عن ظاهره إلا بدليل؛ وذلك لأن الله خاطب العرب بلغتهم، فإذا أردنا أن نفهم مراد الله، وجب علينا أن نفسر كلام الله - عز وجل - بمقتضى اللغة، ومن ثم، لا يصح لنا أن نجعل آيات الصفات من المتشابه، لأننا نفسرها بدلالة اللغة، ونثبت المعنى الذي يدل عليه لفظ آيات الصفات من جهة اللغة.
قال: وعندهم -يعني وعند السلف- قراءتها: تفسيرها؛ يعني أن قراءة آيات الصفات: هو تفسيرها؛ يعني هو التفسير، وهو المعني المراد بهذه الآيات، بحسب دلالة اللغة، وحينئذ لا نحتاج إلى صرفها عن معناها الظاهر، أو عن معناها اللغوي، بل نثبت هذه الصفات بحسب مدلولها اللغوي، على وجه يليق بالله -سبحانه وتعالى- "وتمر"؛ يعني آيات الصفات كما جاءت؛ يعني أنها تجري على ظاهرها، وتفسر بحسب دلالتها في اللغة، فقوله: "تمر كما جاءت" فيه رد على المؤولة، الذين يصرفون آيات الصفات عن المعاني اللغوية لها، فمثلا: يقولون: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (1) قالوا: المراد به: جرحه بجروح الحكمة { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2)؛ بمعنى استولى. { وَجَاءَ رَبُّكَ } (3) ؛ بمعنى وجاء ربك. هذا كله من التأويل،
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة النساء آية : 164.
(2) - سورة طه آية : 5.
(3) - سورة الفجر آية : 22.(2/82)
الذي يخالف منهج السلف، والذي رده المؤلف بقوله: " وتمر كما جاءت". قوله هنا: "دالة على ما فيها من المعاني"، فيه الرد على المفوضة، الذين يقولون: نؤمن بحقيقة هذه الألفاظ، لكننا لا نعرف المراد بها، فنفوض معانيها إلى الله.
فنقول: هذا خلاف مقتضى اللغة، فإن اللغة، قد دلت على أن مقتضى هذه الألفاظ مثبتة للمعاني، المتضمنة لها، والصفات التي احتوتها هذه الألفاظ، فحينئذ نؤمن بما فيها، قال المؤلف هنا: "لا تحرف"، التحريف: هو الميل بالشيء. يقال: انحرف عن الشيء؛ يعني مال عنه، والمراد به هنا التبديل، والتحريف قد يكون في المعاني،
وقد تكون في الألفاظ، فالتحريف في المعاني؛ بتفسيرها على غير مقتضاها في اللغة، بدون دليل شرعي، مثل تفسير "استوى"، "واستولى".
والنوع الثاني من أنواع التحريف: التحريف اللفظي، وهذا ينقسم إلى قسمين: تحريف في الحروف؛ بتبديل الكلمات، أو بعض الحروف، كما قيل لهم: قولوا حطة، قالوا: حنطة، فزادوا حروفا، أو بتبديل الكلمات؛ كفعل اليهود والنصارى في تبديل الإنجيل والتوراة، وقد يكون التحريف اللفظي في إبدال الحركات، مع إبقاء الحروف، كما في قوله سبحانه: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } (1) فقال بعضهم: { وَكَلَّمَ اللَّهُ } (2) بالنصب حتى يكون الله هو المكلَّم، لا المكلِّم.
قال المؤلف: "ولا يلحد أحد"، اللحد: الميل عن الطريق المستقيم، لذلك لحد القبر، لأنه قد ميل بطرفه عن أصل حفرته، وآيات الصفات لا يلحد فيها، والإلحاد فيها يتضمن أمورا:
أولها: إنكارها، فإنكار أدلة الصفات من القرآن، والسنة، يعتبر إلحادا.
والثاني: من معاني الإلحاد: تفسيرها بغير المراد بها.
والنوع الثالث: من أنواع الإلحاد: عدم جعلها دالة على معانيها؛ بتفويض معانيها إلى الله، وعدم إثبات معناها اللغوي بناء عليها.
__________
(1) - سورة النساء آية : 164.
(2) - سورة النساء آية : 164.(2/83)
قال المؤلف: "وكل ظاهر"، تقدم معنى أن الجمهور يرون أن الألفاظ على ثلاثة أنواع:
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النص: وهو الذي لا يرد عليه احتمال متأيد، بدليل كقوله: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (1).
والظاهر: وهو اللفظ الدال على معنيين فأكثر، وهو في أحدهما أظهر وأرجح.
والثالث المجمل: وهو الذي لم يتضح المراد به.
يقول المؤلف: الألفاظ الظاهرة لما كانت تحتمل معنيين، كانت من المتشابه، فالذين في قلوبهم زيغ يختارون المعنى المرجوح، ويتركون المعنى الراجح، فكانت من المتشابهات، وظاهر كلام المؤلف، أن الظاهر لا يكون متشابها، إلا إذا أريد به المعنى المرجوح لدليل، والأصل في الألفاظ الظاهرة أن تحمل على المعنى الراجح، ولا تحمل على المعنى المرجوح، فمثال ذلك: لفظ الفاء؛ الأصل فيها أن تكون للتعقيب، ولذلك في الحديث: " إنما
جعل الإمام، ليؤتم به فإذا كبر، فكبروا " مقتضى هذا اللفظ بحسب الدلالة اللغوية، أن يكون تكبير الإمام أولا، ثم يأتي بعده تكبير المأموم، يعني هذا هو معنى الفاء.
ويحتمل أن يكون معنى الفاء هنا، ليس مرادا به التعقيب، لكن الأرجح، والأظهر هنا بحسب دلالة اللغة، أن يكون مرادا به التعقيب، لكن الأرجح والأظهر هنا بحسب دلالة اللغة، أن يكون مرادا بها التعقيب، فهنا فسر اللفظ الظاهر بالمعنى الراجح، وترك المعنى المرجوح، لكن في قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } (2) هنا ترك المعنى الراجح في الفاء؛ من حيث دلالتها على التعقيب، فقيل: الاستعاذة تكون أولا، ثم بعد ذلك تكون القراءة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، كان يستعيذ أولا، ثم يقرأ.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 196.
(2) - سورة النحل آية : 98.(2/84)
فدل ذلك على أن الفاء هنا، لم يرد بها المعنى الراجح، وهو التعقيب، وأريد بها المعنى المرجوح، وهو مجرد الجمع بين الشيئين، بلا ترتيب، ولا تعقيب.
فهنا الفاء لفظ ظاهر، ترك المعنى الراجح من أجل دليل خاص، وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى المرجوح، قال: " وكل ظاهر ترك ظاهره"، كان الأولى أن يقول: ترك المعنى الراجح فيه.
والظاهر أيضا يطلق على المعنى الراجح، فكلمة الظاهر، يراد بها اللفظ الدال على معنيين؛ أحدهما أرجح من الآخر، وكذلك لفظ الظاهر يراد بها المعنى الراجح، والمقصود أن كلمة ظاهر، تطلق ويراد بها هذان
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعنيان، وأطلقها المؤلف في الموضع الأول على أحد معنيين، وأطلقها في الموطن الثاني على المعنى الآخر، كتخصيص العام، والأصل أنه إذا وردنا لفظ عام، أن يحمل على عمومه، مثل قوله سبحانه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (1) الأصل في هذا أن يقطع كل سارق؛ بحيث لا يترك بعض السارقين.
هذا هو الأصل، لأن العام يحمل على عمومه، ويحتمل أن يراد به بعض السارقين، فترك الظاهر؛ وهو حمله على جميع السارقين، من أجل دليل خاص، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل القطع فيما كان نصابا، فإذا لم يسرق النصاب، فإنه حينئذ لا يوجد قطع، كما في حديث عائشة، وابن عمر أنه: " لا قطع إلا في ثمن المجن " قال: "وتفيد المطلق"؛ يعنى أنه إذا وردنا لفظ مطلق، فإنه يحمل على إطلاقه، والمراد باللفظ المطلق، اللفظ الدال على معنى، بدون أي قيد، فهو لفظ دال على جنس شيء، بدون إضافة أي قيد إليه.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 38.(2/85)
مثال ذلك: جاء في الحديث: " أن رجلا واقع أهله في نهار رمضان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق رقبة " فلفظة رقبة، يراد بها أي رقبة، ولم يذكر معه أي قيد، فلما جاء في النصوص الأخرى تقييده بكونه مؤمنا، وكونه سليما، تركنا ظاهر اللفظ؛ يعني ظاهر اللفظ في قوله: أعتق رقبة، أن أي رقبة تجزئ، فتركنا هذا الظاهر، من أجل معارض راجح، فقلنا: لا بد أن تكون هذه الرقبة مؤمنة.
ومثله: قوله سبحانه: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (1) ظاهر هذا اللفظ، وإطلاقه يقتضي أن صيام أي أيام يجزئ، فجاءنا في الحديث تقييد ذلك بعدد من الصفات؛ منها أن يكون المرء -مثلا- ناويا للصيام، فإذا صام القضاء بدون نية مبيتة، فإنه حينئذ لا يصح صيامه، ولا يقع عن القضاء، وبذلك تعرف الفرق بين العام، والمطلق؛ فالعام: لفظ مستغرق لجميع أفراده، مثل قولك: الناس؛ يشمل جميع الأفراد، أما المطلق؛ فإنه لفظ يدل على الماهية المجردة؛ بحيث يصدق على واحد فقط، مثل: لفظ إنسان، فإذا قلت: رأيت إنسانا، فإنه يصدق على الواحد، وإذا قلت: أعط إنسانا كذا، فإنه يصدق على أي واحد، فيكون مطلقا.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أما إذا قلت: أعط الناس، فإنه يشمل جميع الأفراد، فيكون هذا اللفظ عاما، فالمراد أن اللفظ العام مستغرق لجميع الأفراد، وأن اللفظ المطلق دال على أصل الماهية فقط؛ بحيث يصدق على فرد واحد شائع في جنسه؛ بحيث إذا وجد فرد واحد، أي فرد، فإنه يجزئ، فحينئذ العام في تأويل كل، تقول: أعط الناس؛ يعني أعط كل الناس.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 184.(2/86)
والمطلق في تأويل أي، فإذا قلت: أعط إنسانا؛ كأنك قلت: أعط أي إنسان، والفرق بين تخصيص العام، وتقييد المطلق، أن تخصيص العام هو قصر اللفظ على بعض أفراده، فهو متعلق بالذوات، أو بالأزمان، أو بالصفات والعامة، مثال ذلك: لما قال: "اقتلوا المشركين"، ثم جاءنا أن المعاهدين لا يقتلون، فالأول عام يشمل جميع الأفراد، ثم جاءنا في النص الآخر، أن المعاهد لا يقتل، فحينئذ نخصص اللفظ العام على بعض ذوات الداخلة فيه، فقوله: "اقتلوا المشركين"؛ بمعنى غير المعاهدين، هذا تخصيص، لأنه قصر اللفظ العام المستغرق على بعض ألفاظه.
وأما التقييد؛ فمتعلق بالصفات، والتخصيص يتعلق بالذوات والصفات، وأما التقييد فلا يتعلق إلا بالصفات، فلما قال: أعتق رقبة، قال بعد ذلك: هذه الرقبة؛ تكون مؤمنة، فلفظ الإيمان هنا صفة.
قال: "فإنه متشابه"؛ يعنى أن ترك ظاهر اللفظ العام، وجعله دالا على بعض الأفراد، دون جميعها. قال: هذا تشابه، والأصوليون لا يسمونه تشابها، وإنما يسمونه تأويلا؛ لأن صرف اللفظ عن ظاهره، يجعلونه من باب التأويل، والتشابه عندهم: تفسير اللفظ بمعنى غير مراد به، فلما فسرت: { إِنَّا نَحْنُ } (1) بأن المراد به الجمع.
فيكون الله ثالث ثلاثة، كما قال النصارى -تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرا- كان هذا من اتباع المتشابه. قال: "فإنه متشابه لاحتماله معنيين"، فإنه؛ أي هذا اللفظ، يمكن تفسيره بتفسيرين متغايرين، فلما تردد بين هذين التفسيرين إبقاؤه على عمومه، وشموله لجميع الأفراد، أو تخصيصه؛ بحيث يكون خاصًا ببعض الأفراد، دون جميعها، لما تردد بين هذين المعنيين، كان من المتشابه.
قال المؤلف: "وكذا المجمل"؛ يعنى أن المجمل من أنواع المتشابه، والعلماء في المجمل على منهجين: المنهج الأول يرى أن المجمل هو ما لا يدل على أي معنى، مثل كلمة: "دعب"، أو أي كلمة ليس لها أي معنى، فبعض
__________
(1) - سورة الحجر آية : 9.(2/87)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأصوليين يجعل المجمل هو الذي لا يفهم له أي معنى، ومنه الألفاظ التي لم نفهم معناها، ومنها قوله: { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (1) ما المراد بحقه؟ لا نعرفه، لا نعرف فيها أي معنى، هذا هو المنهج الأول في المجمل.
والمنهج الثاني: في المجمل أن المجمل هو اللفظ، الذي لم يعرف منه معناه تحديدا، سواء كان غير معلوم المعنى مطلقا، أو تردد بين معنيين، ولم نعرف المراد به، وعلى ذلك، فقوله سبحانه: { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (2) لفظ القرء، يحتمل أن يراد به الحيض، ويحتمل أن يراد بالقروء الأطهار، هذا اللفظ تردد بين هذين المعنيين.
فعلى القول الأول أن المجمل هو ما لا يُفهم منه أي معنى، فلا يكون لفظ القرء حينئذ مجملا لماذا؟ لأنه يفهم منه معان متعددة.
وعلى الاصطلاح الثاني، يكون هذا اللفظ من باب المجمل لماذا؟ لأنه تردد بين معنيين، لا مزية لأحدهما على الآخر.
وقال: "وإحكامه"؛ يعنى وإحكام اللفظ المتشابه. "برفع ما يتوهم فيه"؛ يعنى بإبطال المعنى المرجوح، وبيان أنه غير مراد باللفظ، "رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد"، فلما جاءنا وفسر { إِنَّا نَحْنُ } (3) بالجمع، هذا من باب اتباع المتشابه، فلما بيّنا له أن هذا اللفظ يطلق على التعظيم والتفخيم، يطلق على الواحد من جهة التعظيم والتفخيم، رفعنا المعنى الباطل، وأبقينا المعنى الصحيح الصائب، فيكون هذا من باب إحكام المتشابه. نعم.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 141.
(2) - سورة البقرة آية : 228.
(3) - سورة الحجر آية : 9.(2/88)
التأويل
قال -رحمه الله-: التأويل: التأويل في القرآن: نفي وقوع المخبر به، وعند السلف: تفسير الكلام، وبيان معناه، وعند المتأخرين من المتكلمة، والمتفقهة، ونحوهم: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، بدليل يقترن به، أو حمل ظاهر على محتمل مرجوح، وما تؤوله القرامطة، والباطنية للأخبار، والأوامر، والفلاسفة للإخبار عن الله، واليوم الآخر، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات القدر، وآيات الصفات، هو من تحريف الكلم عن مواضعه.
قال الشيخ: وطوائف من السلف أخطئوا في معنى التأويل المنفى، وفى الذي أثبتوه، والتأويل المردود: هو صرف الكلم عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره.
قال: ولم يقل أحد من السلف: ظاهر هذا غير مراد، ولا قال: هذه الآية، أو هذا الحديث مصروف عن ظاهره، مع أنهم قد قالوا مثل ذلك في آيات الأحكام المصروفة عن عمومها، وظواهرها، وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه متناقض.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف هنا مبحث التأويل، وبين أن لفظ التأويل، يطلق على ثلاثة معان:
الأول: إطلاق لفظ التأويل على حقيقة ما يؤول إليه الكلام، فلما تحدث عن السباحة حديثا بلسانك، فحقيقة هذه السباحة هي كونك تسبح، فإذا سبحت بعد ذلك، يكون تأويلا لكلامك، وهذا المعنى من معاني التأويل، هو المراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، قال تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } (1) ؛ يعنى يقع يوم القيامة.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 53.(2/89)
وجاء في حديث عائشة -رضي الله عنها-: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: سبحانك... الحديث. قالت: كان يتأول القرآن " ؛ يعني يفعل حقيقة ما ورد في القرآن. فهذا هو المراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة.
المعنى الثاني من معاني التأويل: ما ذكره المؤلف بقوله: "وعند السلف"، هذا هو المعنى الثاني، إطلاق لفظ التأويل مرادا به التفسير، ولذلك مثلا يجدون عند ابن جرير في التفسير، في تأويل آي القرآن، "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ بمعنى تفسيرها، وتجدون في التفاسير باب تأويل قول الله تعالى... بمعنى تفسيره.
ومن أوائل من عرف استعمال لفظ التأويل، في مثل هذا: أبو عبيد، ونظراؤه، وأخلاق التأويل على التفسير، سواء كان بحمل اللفظ على ظاهره، والمعنى الراجح، أو بحمله على المعنى المرجوح.
المعنى الثالث من معاني لفظ التأويل: ما ذكره المؤلف بقوله :"وعند المتأخرين من المتكلمة والمتفقهة"، هذا هو المعنى الثالث من معاني التأويل، وقوله عند المتأخرين، يخالف المتقدمين من السلف، ونحوهم.
"من المتكلمة"؛ إذا أطلق هذا اللفظ، فيراد به المتحدثون في العقائد، فلفظ الكلام، وعلم الكلام مشترك بين معنيين:
المعنى الأول: إطلاقه على العقائد، ولذلك يقال: علم الكلام، كما ذكره ابن أبى العز في مقدمة شرح الطحاوية.
والثاني: إطلاق لفظ الكلام، مرادا به البحث في العقائد على أصول، تخالف مقتضيات الشرع، سواءً بناء على آراء الفلاسفة اليونان، ونحوهم، أو على العقل، ونحو ذلك؛ بحيث يُترك تقرير الكتاب، والسنة في مباحث العقائد، بناءً على قولهم بأنها لا تفيد اليقين، أو بناء على قولهم بأن الشيء لا يصح بأن يثبت نفسه.
وعلم الكلام المزعوم عند السلف، يراد به المعنى الثاني، دون المعنى الأول.(2/90)
قوله: والمتفقهة؛ المراد به المتحدثون في مسائل أحكام الأفعال، والعلم المعروف بالفقه، ونحوهم؛ يعني من ماثلهم من المتأخرين، فهؤلاء لهم اصطلاح ثالث في لفظ التأويل، يخالف الاصطلاحيين السابقين، قال: "هو"، يعني أن التأويل، يراد به المعنى الآتي. "صرف اللفظ": معنى صرف؛ بمعنى تفسير اللفظ، فقوله: صرف اللفظ؛ بمعنى صرف دلالة اللفظ، واللفظ هو الكلام المتكلم به "عن المعنى الراجح إلى المعنى الراجح"، فإذا صرف الكلام الظاهر عن المعنى الراجح، إلى المعنى المرجوح، كان تأويلا، ومن أمثلته: تخصيص العام، فالمعنى الراجح في العام، استغراقه لجميع الأفراد، فإذا خصص، وجعل دالا على بعض الأفراد، دون الجميع، كان تأويلا؛ بحسب اصطلاح المتأخرين من
المتكلمة والمتفقهة. لماذا؟ لأننا صرفنا دلالة اللفظ عن المعنى الراجح، وهو الاستغراق إلى معنى مرجوح، وهو بعض الأفراد دون الجميع.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قول المؤلف هنا: "لدليل يقترن به"، هذا شرط للتأويل الصحيح، فلا يصح أن نجعله في تفسير التأويل، فهم يقولون: صرف اللفظ عن المعنى الراجح، إلى المعنى المرجوح هو التأويل.
وهذا التأويل ينقسم إلى قسمين: التأويل الصحيح، وهو الذي معه دليل يقترن به، وتأويل فاسد، وهو الذي يكون بدون دليل.
ولذلك، تجدون الفقهاء يقولون: هذا النص مؤول؛ بمعنى أنه مصروف عن المعنى الراجح، إلى المعنى المرجوح، فإن كان هناك دليل، فإنه يكون تأويلا صحيحا؛ مثل تخصص العموم لدليل خاص، وإن كان بدون دليل، فإنه حينئذ لا(2/91)
يكون تأويلا صحيحا، لو جاءنا إنسان، وقال بأن قوله -سبحانه-: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) هذا يراد به عوام الناس دون خواصهم، فأهل اليقين، وأهل المنزلة العالية، هؤلاء لا يطالبون بالصلاة، قوله: "أقيموا"؛ الواو: واو الجماعة، الأصل فيها أن تكون دالة على العموم، فقولنا بأن هذا اللفظ، يراد به البعض دون الجميع، يراد به غير أهل اليقين، يكون هذا تأويلا. لماذا؟ لأننا صرفنا هذا اللفظ عن المعنى الراجح، وهو العموم والاستغراق إلي المعنى المرجوح، وهو أن يكون لبعض الألفاظ دون الجميع.
هنا هل يوجد مع هذا القائل دليل، أو لا يوجد؟ يوجد، أولا يوجد؟ لا يوجد. فحينئذ، يكون هذا تأويلا فاسدا.
قال قائل آخر: "أقيموا الصلاة"، نستثني منها الحائض، فصرف اللفظ عن ظاهره، وهو العموم والاستغراق، بأن جعله على بعض الأفراد دون الجميع.
هذا تأويل على حسب الاصطلاح الثالث، هل مع هذا القائل دليل، أو ليس معه دليل؟ معه دليل؛ فيكون تأويلا صحيحا.
قال: "أو حمل ظاهر"؛ يعني هذا هو نفس الاصطلاح الثالث، في بيان معنى التأويل، حمل اللفظ الظاهر على المعنى المرجوح المكتمل، فلم يذكر معه كلمة بدليل يقترن به، ليكون التأويل شاملا للتأويل الصحيح، والتأويل الباطل، ثم ذكر بعد ذلك المؤلف أمثلة للتأويل الباطل، قال: "ومتأولة القرامطة، والباطنية للإخبار"، فهم يقولون: إن ما ذكره الله - عز وجل - من الجنة والنار، هذا ليس المراد به الحقيقة، وظاهره فلا يوجد هناك جنة، ولا يوجد هناك نار، وإنما المراد تخويف النفوس، من أجل أن تلتزم بالطاعة، وإلا فليس هناك جنة، ولا نار، هذا قول القرامطة والباطنية. قال:
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 43.(2/92)
"والأوامر"؛ مثل أمره بالصلاة، وأمره بالزكاة، والحج، والصوم، هذه تأولها القرامطة، فيقولون: الصلاة ليس المراد بها الصلاة التي تفعلونها بأفعال وأقوال، تبتدئونها بالتكبير، وتختمونها بالتسليم، وإنما المراد ذكر الأئمة، فمن ذكره الأئمة، فإنه قد صلى، والصوم المراد به حفظ الأسرار، فمن حفظ أسرارنا؛ فقد صام، وليس المراد به الإمساك عن المفطرات؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا مَن يقوله؟ القرامطة، والباطنية. هذا تأويل لماذا؟ لأنهم صرفوا اللفظ عن ظاهره.
ظاهر قوله: الجنة والنار، أن هناك جنة، ونارا، وظاهر قوله: الصلاة، والصيام، والزكاة، أن هذه الأفعال مرادة لذاتها، فحينئذ إذا صرفوها من ظواهرها، فتكون هذا تأويلا؛ بحسب المعنى الثالث.
وهذا التأويل باطل لماذا؟ لأنه غير مستند إلى دليل.
قوله هنا: "والفلاسفة"؛ يعنى وما تأولته الفلاسفة.
"للإخبار عن الله"، فهم يقولون: ما ورد من الأخبار في حق الله -سبحانه وتعالى- ليس على ظاهره، فينفون الأخبار المتعلقة بالله -سبحانه وتعالى- من جهة وجوده، لأنهم يقولون بقدم العالم، وأن العالم يشاركون الله في القدم، أو يقولون بالعقول العشرة، فهم يقولون: الأخبار الواردة في القرآن عن الله -سبحانه وتعالى- ليست على ظاهرها. هذا التأويل باطل مردود.
قال: "واليوم الآخر"، فالفلاسفة يتأولون اليوم الآخر، ولا يثبتون النار، ولا يثبتون يوم الجزاء، والبعث، وما ورد من النصوص في الكتاب، والسنة عن اليوم الآخر، يتأولونها؛ فيجعلون المراد بها خلاف ظاهرها.
قال: "والجهمية"؛ يعني أن الجهمية كذلك، ورد منهم تأويل لبعض النصوص الشرعية، بصرف هذه النصوص عن ظواهرها، "والمعتزلة، وغيرهم"، في بعض ما جاء في اليوم الآخر. فهؤلاء لا يؤولون جميع ما جاء في اليوم الآخر، وإنما يؤولون البعض.(2/93)
فمثلا، يقولون: ليس هناك حوض، وما ورد من النصوص ليس المراد به الحوض المعروف، ولا يثبتون الصراط، ولا يثبتون الشفاعة، ويفسرون الألفاظ الواردة بهذه الأشياء بخلاف مقتضاها في اللغة.
وكذلك آيات القدر، الدالة على أن الله شاء أفعال العباد، قال -سبحانه-: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } (1) يقولون: ليس المراد به ظاهره، فينفون مشيئة الله، وخلقه لأفعال العباد، وفي قوله سبحانه: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (2) ،
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قالوا: إن أفعال العباد لا تدخل في هذه الآية، فهذا تأويل، لأنه صرف للفظ عن ظاهره، وفي قوله سبحانه: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) } (3).
قال: "وآيات الصفات"؛ يعني أن الجهمية، والمعتزلة يؤولون آيات الصفات، ويجعلون ظاهرها غير مراد، فينفون صفات الله. فهذا من التأويل على وفق المعنى الثالث، عند المتأخرين. قالوا: وهذا التأويل غير مستند إلى دليل، فيكون تأويلا فاسدا، باطلا، وحينئذ يكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه. والتحريف -كما تقدم- هو الميل بالشيء عن الطريق المستقيم. والكلم المراد به الكلام عن مواضعه؛ يعنى عن المعاني التي أرادها الشارع.
وفي الحقيقة أن فعل هؤلاء لم يرد على النصوص الظاهرة، وإنما ورد على النصوص القطعية، المجزوم بمعانيها، وحينئذ، حتى على المعنى الثالث، لا يصح أن تسمى تأويلا؛ لأن التأويل على المعنى الثالث، صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني ليست ظواهر في هذه الألفاظ، وإنما هي نصوص في معانيها.
__________
(1) - سورة الإنسان آية : 30.
(2) - سورة الرعد آية : 16.
(3) - سورة الصافات آية : 96.(2/94)
قال الشيخ -المراد بالشيخ؛ شيخ الإسلام ابن تيمية- قال: وطوائف من السلف أخطئوا في معني التأويل المنفي، وفي الذي أثبتوه في قوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (1) فسروا كلمة تأويله بخلاف المراد به { وَمَا يَعْلَمُ } (2) هنا نفي للتأويل، وما يعلم تأويله إلا الله، هذا إثبات، يقول: طوائف من السلف أخطئوا في معنى التأويل المنفي في هذه الآية، فظنوا مثلا أن المراد به المعنى الثاني، أو الثالث، والمراد به حقيقة هو ما يؤول إليه الكلام، ويرجع إليه، وليس المراد به التفسير، وهو المعنى الثاني، وليس المراد به كذلك صرف اللفظ عن ظاهره.
"وفى الذي أثبتوه، قال: "والتأويل المردود: هو صرف الكلم عن ظاهره إلى ما يخلف الظاهر". تقدم معنى أن التأويل الفاسد المردود، هو الذي لم يقترن بدليل صرف اللفظ عن ظاهره، بدون الاستناد إلى دليل.
قال المؤلف: "ولم يقل"؛ أي لم يتكلم أحد "من السلف" بقوله، "ظاهر هذا اللفظ غير مراد"؛ يعنى في آيات الصفات، وهذه الكلمة -كلمة ظاهر هذا اللفظ غير مراد- لم ترد عن سلف الأمة، ولم يقولوا: هذه الآية، أو هذا
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.(2/95)
الحديث مصروف عن ظاهره، وإنما يقولون: هذه الألفاظ مخصوصة، هذه الألفاظ مقيدة، هذا اللفظ يوضحه الدليل الآخر"، مع أنهم قد قالوا مثل ذلك"؛ يعني صرف اللفظ عن ظاهره، لم يقله الصحابة، ولا السلف في آيات الصفات، ولا في الأخبار، ولا في ما ورد في اليوم الآخر، "مع أنهم قد قالوا مثل ذلك"، قد قالوا بالتأويل الصحيح في آيات الأحكام، فصرفوا بعض الألفاظ عن ظواهرها بدليل خاص، مثل تخصيص قوله: "وأقيموا الصلاة" بعدم مطالبة الحائض مثلا بالصلاة. قال: "المصروفة عن عمومها وظواهرها"، فإن هذا قد ورد عن الصحابة والسلف، ولما كانوا مستندين فيه إلى دليل، كان تأويلهم صحيحا.
"وتكلموا"؛ يعنى أن السلف من الصحابة، والتابعين تكلموا فيما يستشكل، يعني الألفاظ المستشكلة التي ورد فيها استشكال، فسروها، ووضحوا المراد بها، وبيّنوا أن ظواهرها غير مرادة، ومن أمثلة ذلك مثلا: لما ورد حديث: " إن الميت يعذب في قبره " فسرته عائشة -رضي الله عنها- بأن المراد اليهود، أو فسره غيرها بأن المراد به، أن ينقل إلي الميت بأن أهله يبكون عليه فيتألم بذلك، وحينئذ فالنصوص التي يفهم منها أنها متناقضة متعارضة، فسرها السلف بما
يبين أنها غير متناقضة، لأن الله يقول: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (1) ثم هنا يقول: " يعذب الميت ببكاء أهله عليه " فبينوا المراد به؛ بحيث نرفع هذا التناقض، لأننا نجزم يقينا أن النصوص الشرعية، لا يوجد فيما بينها تعارض، أو تناقض؛ بقوله تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } (2).
لعلنا نقف على هذا. نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يرزقنا وإياكم الإنابة إليه، والتوبة النصوح، وأن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردا جميلا، كما
نسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعته، والعمل بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 164.
(2) - سورة النساء آية : 82.(2/96)
الحمد لله، وبعد، فبإذن الله - عز وجل - نواصل الحديث في مقدمة التفسير.
نَفْي المجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف - رحمه الله تعالى-:
نفي المجاز: صرح بنفيه المحققون، ولم يُحفظ عن أحد من الأئمة القول به، وإنما حدث تقسيم الكلام إلى: حقيقة، ومجاز، بعد القرون المفضلة، فتذرع به الجهمية، والمعتزلة إلى الإلحاد في الصفات.
قال الشيخ: ولم يتكلم الرب به، ولا رسوله، ولا أصحابه، ولا التابعون لهم بإحسان، ومن يتكلم به من أهل اللغة، يقول في بعض الآيات: هذا من مجاز اللغة، ومراده أن هذا مما يجوز في اللغة؛ لم يرد هذا التقسيم الحادث، لا سيما، وقد قالوا: إن المجاز يصح نفيه، فكيف يصح حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك، ولا يهولنّك إطباق المتأخرين عليه، فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه.
وذكر ابن القيم خمسين وجها في بطلان القول بالمجاز، وكلام الله، وكلام رسوله منزه عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــ
نعم، ذكر المؤلف في هذا الفصل ما يتعلق بنفي المجاز، يقسم كثير من المؤلفين في أصول الفقه، وفي مقدمات التفسير، وفي البلاغة الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولهم منهجان في حقيقة كل من هذين القسمين: فطائفة تقول: الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا، وأن ذات اللفظ يسمى حقيقة. والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، علي وجه يصح.(2/97)
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبعضهم يقول: الحقيقة: ليست هي اللفظ، وإنما الحقيقة: هي استعمال اللفظ فيما وضع له أولا. والمجاز: استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولا، على وجه يصح. ويمثل لذلك بمثال: كلمة الأسد؛ في أصل اللغة، يراد بها الحيوان المفترس، المعروف، فإذا قال إنسان: رأيت أسدا يأكل شاة. فالمراد به الحيوان المفترس، وهنا استعمال للفظ الأسد فيما وضع له. وإذا قلت: رأيت أسدا يخطب. فحينئذ لا يمكن أن يراد بهذا اللفظ ما وضع له أولا، وهو الحيوان المفترس، ولكون المراد به: الرجل الشجاع، فهنا استعملنا لفظ الأسد في غير ما وضع له أولا.
ومن أمثلته: استعمال اللفظ وإرادة جزءه، ويمثلون له بقولك: جعلت إصبعي في أذني. فأنت لم تجعل جميع الإصبع، وإنما جعلت طرفه، فحينئذ استعملت لفظ الإصبع، ولم ترد به ما وضع له من الدلالة على جميع الإصبع، وإنما أردت جزءه.
ومن أمثلته: أن تقول: قابلت الغلام العليم. فحال كونه غلاما، لا يكون عليما، وإنما إذا صار كبيرا، أصبح عليما، فهنا استعملنا اللفظ في غير ما وضع له.
وفرقوا بين الحقيقة، والمجاز بعدد من الفروق؛ منها:
أن الحقيقة لا يجوز نفيها، فإذا قلت: رأيت أسدا يأكل فريسته. لا يصح أن يقال لك: هذا ليس بأسد. أما إذا قلت: رأيت أسدا على المنبر، يوم الجمعة، يخطب. قيل لك: هذا شيخ، عالم، وليس أسدا.
ومن الفروق بينهما، أن الحقيقة لا تحتاج إلى قرينة، لأنها قد استعملت فيما وضعت له، بينما المجاز يحتاج إلى قرينة توضع، لأن المراد به غير الحقيقة.(2/98)
إذا تقرر لنا شيء من الفروق، بين الحقيقة والمجاز، نقرر: هل يوجد في القرآن مجاز، أو ليس في القرآن مجاز؟ ينسب إلى الأكثرين، ويراد به أكثر المتأخرين، أن القرآن فيه مجاز، ويستدلون على ذلك بما ورد في النصوص، من استعمال ألفاظ في غير ما وضعت له، مثل قوله تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } (1) يعني المراد به: محبة العجل.
وقوله سبحانه: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } (2) ؛ يعني أهل القرية.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستدلون على ذلك ثانيا، بأن المجاز: استعمال لغوى، والقرآن قد جاء بلغة العرب، فيكون المجاز موجودا فيه. وهذا الاستدلال فيه ضعف بيّن؛ وذلك لأن القرآن لم يحتوِ على جميع أساليب العرب.
والقول الثاني بنفي المجاز في القرآن، وقد اختاره جماعات من العلماء؛ منهم: الظاهرية، وبعض المالكية، كابن *خويز منداد، ومحمد بن سعيد البويطي، وبعض الشافعية، واستدلوا على ذلك بأن القرآن يجب الإيمان به، والمجاز يجوز نفيه، والقرآن لا يصح نفي شيء منه، ودل ذلك على أن القرآن ليس فيه مجاز، إذا وجد فيه مجاز، لجاز نفيه، واستدلوا على ذلك أيضا بأن القرآن كله حق، وحينئذ لا يمكن أن يقال فيه ما ليس بحقيقة.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 93.
(2) - سورة يوسف آية : 82.(2/99)
وقد ألف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، صاحب "أضواء البيان" رسالة في منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وأجابوا عن الآيات التي استدل بها أصحاب القول الأول، بأن فيها مجازا بأن قالوا: ليس فيها مجاز، وأجابوا عنها بأجوبة تفصيلية، فقالوا: قوله تعالى: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } (1) ليس المراد مجرد البنيان؛ فإن لفظ القرية في لغة العرب، يطلق على البنيان وساكنيه، ولذلك إذا لم يوجد في البلد سكان، فإنه لا يقال له قرية، وإنما يقال: هذه أطلال ومساكن، ولا يقال لها قرية. وهكذا أجابوا بإجابات تفصيلية.
إذا تقرر هذا، فهل في لغة العرب مجاز، أو ليس في لغة العرب مجاز؟
أكثر الأصوليين، والبلاغيين على إثبات المجاز في لغة العرب، وقد أثبت المجاز في لغة العرب بعض من نفاه في القرآن، واستدلوا عليه بوجود ذلك في لغة العرب، وفي كلامهم، وحديثهم، وذهب جماعة إلى نفي وجود المجاز في لغة العرب، ومن أشهرهم أبو علي الفارسي، من كبار علماء اللغة، وأبو إسحاق الإسفراييني، من كبار الأصوليين، وقد اختاره شيخ الإسلام، ابن تيمية، كما ذكر المؤلف، واختاره ابن القيم -رحمه الله-، وخصص له ربع كتاب "الصواعق المرسلة"، وجعله من الطواغيت التي يستند إليها أهل العقائد الفاسدة.
واستدلوا على نفي المجاز في لغة العرب، بأن قالوا: إن كون اللفظ مجازا؛ معناه ترك للحقيقة، ومخالفة للصدق، والواقع، ولا يصح لأهل لغة أن يكون الكذب، وترك الصدق منهجا لهم في لغتهم.
واستدلوا عليه؛ بأن قالوا بأن تقسيم الألفاظ إلى: حقيقة، ومجاز، لم يوجد في العصور الأُوَل، ولو كان هذا التقسيم ثابتا، لتكلم به السلف، وتكلم به أهل اللغة، ولانتشر بينهم، ولعرفوه، ولكن هذا لم يوجد.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة يوسف آية : 82.(2/100)
وإذا تأمل الإنسان في كلام شيخ الإسلام، ابن تيمية، ومن نحا نحوه؛ من نفي وجود المجاز في اللغة، وقارنه بكلام جمهور الأصوليين، والبلاغيين في إثبات المجاز في لغة العرب، نجد أن من أثبت المجاز، نظر إلى النفي مقررا، فقال: لفظ الأسد في قولنا: رأيت أسدا يأكل فريسته؛ استعمل في حقيقته، وهو الحيوان المفترس، ومن قال: رأيت أسدا يخطب؛ استعمله في غير حقيقته، وهو الرجل الشجاع، فيكون مجازا.
شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحا نحوه من نفي وجود المجاز في اللغة وقارنه بكلام جمهور الأصوليين والبلاغيين في إثبات المجاز في لغة العرب نجد أن من أثبتت المجاز نظر إلى اللفظ مفردا فقال : لفظ الأسد في قولنا : رأيت أسدا يأكل فريسته استعمل في حقيقته، وهو الحيوان المفترس، ومن قال رأيت أسدا يخطب استعمله في غير حقيقته، وهو الرجل الشجاع فيكون مجازا، فهم نظروا إلى اللفظ مجردا.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه فإنهم يقولون : لا يصح لنا أن ننظر إلى الألفاظ مجردة وإنما ننظر إلى الجملة كاملة بدلالة أن العرب تأتي باللفظ المفرد فتضع معه حروف جر أو تضع في سياقه من الأدوات ما يقلب معناه، فأنت تقول ذهبت معه بمعنى رافقته، وذهبت إليه بمعنى أنك وصلت إليه، وذهبت به بمعنى أنك أخذته معك، وذهبت من السوق بمعنى أن السوق كان ابتداء انتقالك وتحركك من مكان إلى مكان، فاختلف باختلاف المتعلق الذي يكون معه.(2/101)
وكذلك أوضح من هذا نجد أن العرب تستعمل اللفظ الواحد في معان مختلفة لا يدل عليها إلا السياق فتقول: (قال) ما معنى لفظة قال؟ قال بمعنى تكلم، وكذلك قال بمعنى نام القيلولة، من أين نفرق بين اللفظين في المدلول؟ من جهة السياق، فحينئذ قالوا : إن العرب لا تلتفت إلى الكلمة مجردة، وإنما تلتفت إلى السياق كاملا، وحينئذ إذا التفتنا إلى السياق كاملا "أسدا يخطب" لا يمكن أن يُراد به الحيوان المفترس، فيكون هذا من باب الاستعمال الحقيقي؛ لأن العرب لا يمكن أن تضع أو أن تستند بمثل هذا الإسناد، وتريد به الحيوان المفترس.
وهذا المنهج أصوب من المنهج الأول بالالتفات إلى جميع السياق وجميع الجملة؛ لأننا إذا وضعنا اللفظ مفردا لم نأخذ منه معنى وحده؛ ولأن العرب لا يتكلمون باللفظ المفرد الذي ليس معه ألفاظ أخر، سواء كانت هذه الألفاظ مظهرات أو مضمرات، فلا يقولون أسد ويسكتون إلا بتقدير كأن يقولوا : هذا أسد أو نحوه، فحينئذ الصواب أننا ينبغي أن ننظر إلى جميع السياق ولا ننظر إلى اللفظ المفرد، ويدل على ذلك أن السياق يختلف به المعنى، والسياق يترتب عليه العديد من الأحكام. ويمثلون لتأثير السياق على أخذ الحكم من الألفاظ بما ورد عن الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله أن الإمام أحمد قال: لا يجوز للإنسان أن يبتلع القيء الخارج منه، واستدل
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ(2/102)
على ذلك أن الإمام أحمد رأى أنه لا يجوز للإنسان أن يرجع في هبته، واستدل عليه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه " فقال الإمام الشافعي الكلب لا يحرم عليه العود في قيئه فكذلك العائد في هبته، فقال له الإمام أحمد في بقية الحديث: " ليس لنا مثل السوء " فدل ذلك على أننا لا نماثل مثل هذه المخلوقات في هذا الفعل، فكذلك لا نفعل الفعل المشبه به، فهنا التفت الإمام إلى دلالة السياق " ليس لنا مثل السوء " .
قال المؤلف: هنا (نفي المجاز) تقدم معنى أن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له أولا، ونفيه - يعني نفي القول بإثبات المجاز- فلا يوجد في لغة العرب مجاز، وقد يراد به نفي وجود المجاز في القرآن، قال المؤلف (صرح) المراد بكلمة صرح يعني تكلموا بذلك بلا احتمال، فالصريح من الألفاظ هو الذي لا يوجد معه احتمال يدل على خلاف ذلك التصريح، (صرح بنفيه) يعني ينفي وجود المجاز في لغة العرب (المحققون) وتقدم أن ممن صرح بذلك أبو علي الفارسي وأبو إسحاق الإسفراييني، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
وقوله (المحققون) يريد به المؤلف مَن حقق المسائل، ورجَّح بين الأقوال باستيعاب أدلة هذه المسائل والنظر في المناقشات والأجوبة الواردة عليها، فعرف الراجح من خلال ذلك، قال : (ولم يُحفظ) يعني لم يُنقل (عن أحد من الأئمة) يعني في العصور الفاضلة مثل الأئمة الأربعة ومن وافقهم في زمانهم كالثوري وإسحاق أو من تقدمهم كالزهري والسفيانين وغيرهم من الأئمة (القول به) يعني إثبات وجود المجاز في لغة العرب أو في القرآن، فلم يُعهد عن أحد من هؤلاء الأئمة أنه قسم اللغة إلى حقيقة ومجاز وهذا كما هو منفي عن أئمة علماء الشرع كذلك هو منفي عن أئمة علماء اللغة، فلا نجد مثل ذلك في كلام الأصمعي ولا كلام الخليل بن أحمد ولا كلام سيبويه.(2/103)
قال : (وإنما حدث تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز) يعني إنما وجد هذا التقسيم بعد أن لم يكن موجودا (إلى حقيقة ومجاز بعد القرون المفضلة) يعني بعد العصور والقرون الثلاثة التي وردت النصوص بأنها خير الأمة وأنها أفضل هذه الأمة ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " .
قال : (فتذرع به المعتزلة والجهمية إلى الإلحاد في الصفات) تذرع به يعني جعله المعتزلة والجهمية وسيلة إلى مقصودهم في الإلحاد في الصفات، فذريعةُ الشيء وسيلتُهُ التي يُتوصل إليه من خلالها، والمعتزلة : تقدم أن المراد بهم من اعتزلوا في الأصل مجلس الحسن البصري، وهم يبنون مذهبهم على أصول خمسة : كالتوحيد ويراد به نفي الصفات . والعدل ويراد به نفي القدر . والقول بالمنزلة بين المنزلتين والمراد بذلك أن صاحب الكبيرة في الدنيا ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين وهو في الآخرة مخلد في نار جهنم، وهكذا إلى بقية أصولهم.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجهمية أتباع جهم بن صفوان، وليُعلَم بأن النسبة إلى أهل هذه البدع يكون باعتماد المنهج الذي يسيرون عليه، فمن كان محكما للنصوص الشرعية في أبواب العقائد والصفات فإنه يكون من أهل السنة والجماعة، فلو قدر أنه خفي عليه نص من نصوص الصفات فلم يثبت الصفة لكونه قد خفي عليه ذلك النص فإننا حينئذ لا نجعله ممن خرج على مذهب أهل السنة والجماعة، ومثال ذلك ابن خزيمة فإنه لما جاء في حديث الصورة نهج منهجا مخالفا لأهل السنة، لكن ابن خزيمة سائر على منهج علماء الإسلام من تحكيم نصوص الوحيين: الكتاب والسنة في مباحث العقائد والصفات.(2/104)
فكونه لم يصل إليه ذلك اللفظ بطريق صحيح حسبما يراه، سواء كان من جهة الدلالة أو من جهة السند فلم يُثبت الصفة؛ لذلك فإننا لا ننفي نسبته لأهل السنة والجماعة ؛ لأنه يوافقهم في الأصل، وأما أصحاب المناهج الأخرى والبدع المغايرة لأهل السنة والجماعة فإننا ننظر إلى المنهج الذي اعتمدوه ؛ ولذلك تجد بعضهم يقول في باب الصفات (المرجع إلى العقل) فما أثبته العقل أثبتُّه وما نفاه العقل نفيته، وما سكت عنه اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال، فهذا منهج بدعي، وحينئذ نصف صاحبه بانتسابه إلى تلك البدعة.
قال المؤلف: (تذرعوا به إلى الإلحاد في الصفات) الإلحاد كما تقدم الميل عن الحق، (في الصفات) يعني في مباحث صفات الله سبحانه وتعالى، فقالوا بأن هذه الصفات ونصوص الصفات من باب المجاز ولا يراد بها الحقيقة، فمن خلال إثبات وجود المجاز في لغة العرب وفي القرآن الكريم قالوا: إن نصوص الصفات من باب المجاز، وليست من باب الحقيقة، فلما قال تعالى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) قالوا : ليس المراد بالاستواء ظاهره، وإنما المراد به الاستيلاء، وهذا من مجاز اللغة، وهذا مجاز، فجاز لنا نفي صفة الاستواء بناء على ذلك.
وأنتم تعلمون أن مثل هذا يعتبر تأويلا باطلا ؛ لعدم قيام الدليل عليه، فليس جحدا للنص الذي وردت الصفة فيه، وأنتم تفرقون بين جحد النص والتكذيب به ورده وبين تأويله، ومن أمثلته أيضا ما ورد في النصوص من أنه سبحانه يتكلم متى شاء، ومن أنه سبحانه وتعالى يسمع الأمور أو المسموعات بعد حصولها ووجودها، ونحو ذلك مما لا يوافق عليه أصحابُ تلك العقائد الفاسدة.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة طه آية : 5.(2/105)
قال المؤلف: (قال الشيخ : ولم يتكلم الرب به) لكن قبل هذا هل إثبات المجاز في اللغة أو في القرآن يلزم أن يكون عليه المثبت ممن ينفي الصفات؟
نقول: لا، لا يلزم فقد يُثبت الإنسان المجاز في اللغة أو في القرآن، ومع ذلك يقول بإثبات الصفات فلا يلزم من إثبات المجاز أن يكون المرء مبتدعا أو صاحب بدعة، لكنه قد يقال فيه إنه أخطأ أو لم يُوفق إلى الصواب في ذلك، فإذا كان خطؤه مع اجتهاده وتحريه للصواب فإنه حينئذ لا يأثم كما هو مقرر، (قال الشيخ) المراد بالشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية (ولم يتكلم الرب به) المراد أن الله سبحانه وتعالى لم يتكلم بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، ولم يتكلم الرب بإثبات لفظ المجاز، وكلام الرب صفة من صفاته كما تقدم، ( ولارسوله ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان ) يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من خير الأمة لم يثبتوا هذا التقسيم.
ومن تكلم به، يعني من تكلم بلفظ المجاز من أهل اللغة، ومن أمثلة ذلك ما ورد عن الإمام أحمد أنه لما احتج عليه بعض أهل البدع ببعض نصوص القرآن، قال هذا من مجاز اللغة، ومراده بهذا اللفظ (هذا من مجاز اللغة) يعني أن هذا اللفظ أو هذا الاستعمال مما يسوغ في لغة العرب، وهذا القائل : (هذا من مجاز اللغة) ليس مراده أبدا المجاز بحسب الاصطلاح المتأخر الذي يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز (لاسيما) يعني ويدلك على أن الأئمة إذا قالوا : هذا من مجاز اللغة فليس مرادهم اصطلاح المجاز المتأخر.(2/106)
وقد قالوا : إن المجاز يصح نفيه، يعني من الأمور المتقررة أن من الفروق بين الحقيقة والمجاز أن الحقيقة لا يصح نفيها، أما المجاز فإنه يصح نفيه، فإذا قلت : رأيت أسدا يخطب، قال لك قائل : الأسود لا تخطب، فنفيتُ كلامك، قال فكيف يصح حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك؟ يعني فكيف نجعل القرآن مجازا ؟ ويترتب عليه أنه يجوز نفيه، والقرآن لا يجوز نفي شيء منه، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في أحد المسألتين، وهي مسألة إثبات المجاز في القرآن وهي أخص من مسألة إثبات المجاز في لغة العرب.
قال : (ولا يهولنك) يعني لا يفزعك ولا يخوفك (إطباق المتأخرين عليه) يعني كون المتأخرين يتوسعون في هذا الاستعمال وهذا التقسيم للغة وللكلام إلى حقيقة ومجاز (فإنهم) يعني فإن المتأخرين (قد أطبقوا على ما هو شر من المجاز)، فإن عقائد كثير من المتأخرين مخالفة لعقيدة أهل الإسلام سواء في توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات أو توحيد الألوهية، بل إن كثيرا من المتأخرين لم يسلموا ولم يؤمنوا بتوحيد الألوهية مع كونه أصل دين الإسلام؛ ولذلك نجد بعض هؤلاء يتوسل إلى بعض المقبورين ويتقرب إليهم ويعبدهم من دون الله ويذبح لهم ويصلي لهم ويسجد لهم ، وهذه كلها من الأمور المضادة لأصل توحيد الألوهية.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ(2/107)
فإطباق المتأخرين عليه واتفاقهم عليه لا يدل علي صحته، وإنما المعول عليه في إثبات الأحكام وفي نفيها هو الأدلة الشرعية واستعمال أهل اللغة، ولا يوجد دليل شرعي يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز كما لا يوجد في كلام العرب الأوائل وأئمة النحاة الأوائل من يقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وابن القيم رحمه الله تعالى -وابن القيم معلوم بأنه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية- والقيم بمعنى المدير مدير المدرسة ونحوه؛ وذلك لأن والده كان قَيِّمًا على مدرسة الجوزية؛ ولذلك يقال : ابن قيم الجوزية، الجوزية المدرسة، والقيم بمعنى المدير؛ ولذلك فإن بعض المؤلفين يقول الأولى أن يقال ابن قيم الجوزية ؛ لأن نظراء المدارس ومُدراءها وقيميها كُثُرٌ، قد عُرِف عن جماعة تسميتهم باسم ابن القيم، فيقال ابن قيم الجوزية تمييزا له وفصلا له عن غيره.
وابن القيم له مؤلفات عديدة ويمتاز بسلاسة أسلوبه، وقد نفع الله بكتبه، ومن مؤلفاته كتاب (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة) وبيَّن أنهم بنوا طريقهم ومنهجهم على طواغيت أربعة ذكر منها قولهم في أخبار الآحاد، وذكر منها مذهبهم في التأويل، وذكر منها أيضا هذه المسألة وهي مسألة المجاز، وجعل المجاز طاغوتا، والمراد بالطاغوت ما تجاوز به العبد حده، وابن القيم أبطل القول في المجاز في هذا الكتاب من خمسين وجها.
المراد بالوجه الدليل ؛ لأن لفظ الوجه يطلق على ثلاثة معان عند علماء الشريعة: المعنى الأول الدليل كاستعمال المؤلف هنا، والاستعمال الثاني للفظ الوجه طريقة الاستدلال بالدليل، وهو ما نعبر عنه الآن كثيرا بقولنا وجه الدلالة ووجه الاستدلال، والاستعمال الثالث في كلمة وجه هو قول الأصحاب، فإذا وجدت مسألة واختلف فيها الأصحاب ولا يوجد فيها نصوص عن الإمام، فإن أقوال الأصحاب تعتبر وجوها في المذهب.
قال : (وذكر ابن القيم خمسين وجها في بطلان القول بالمجاز) يعني في بطلان تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وكلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - في السنة النبوية منزه عن ذلك؛ وذلك لأن القرآن والسنة كلها حق يجب الإيمان بها، ولا يجوز نفي شيء منها، فدلنا ذلك على أنها ليست من المجاز في شيء.(2/108)
الإعجاز
قال رحمه الله تعالى : (الإعجاز: المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة، والقرآن معجز أبدا أعجز الفصحاء مع حرصهم على معارضته، وقد تحداهم تعالى على أن يأتوا بحديث مثله أو عشر سور أو سورة، وذكر العلماء وجوها من إعجازه منها : أسلوبه وبلاغته وبيانه وفصاحته وحسن تأليفه، وإخباره عن المغيبات، والروعة في قلوب السامعين، وغير ذلك حتى قال الوليد: إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة . ومن تأمل حسنه وبديعه وبيانه ووجوه مخاطباته علم أنه معجز من وجوه كثيرة).
ـــــــــــــــــــــــ
نعم هذا مبحث من مباحث علوم القرآن وعلوم المقدمات للتفسير : إعجاز القرآن فإن الإعجاز يراد به إقامة الدليل على صحة هذا الكتاب، وعلى أنه من قول الله سبحانه وتعالى، والمراد بالإعجاز في اللغة القيام بعمل لا يتمكن الآخرون منه، ثم عرَّف المؤلف المعجزة في الاصطلاح، وليُعلَم أن المعجزات من خصائص الأنبياء عند جماهير أهل العلم بخلاف الكرامات، والمعجزة تكون مقرونة بالتحدي بخلاف الكرامة، فقد تكون كذلك وقد لا تكون، والمعجزة لا يتمكن أحد من فعلها.
وعرَّف المؤلف المعجزة بتعريف يشتمل على ثلاثة مقومات:-
الأمر الأول: أن المعجزات خوارق للعادات، والمراد بالعادة سنة الله الكونية والخارق للعادة ما يخالف هذه السنة الكونية، مثال ذلك أن من سنة الله الكونية أن القمر متحدة أطرافه وأنه غير منقسم، فإذا جاءنا انشقاق القمر فإن هذا الانشقاق خارق للعادة ؛ لأن العادة انضمام بعضه إلى بعض.(2/109)
والمقوم الثاني: في تعريف المعجزة أن تكون مقرونة بالتحدي فيقع هنا تحدٍّ بين صاحب المعجزة وبين من يقابله.
قوله هنا : (خارق للعادة) يخرج به ما لا يخرق العادة، لكن يبقى معنا الكرامة، ويبقى معنا السحر على قول الجمهور بأن السحر يقلب حقائق الأشياء، فقوله هنا : (مقرون بالتحدي) يخرج الكرامات فإنها في الغالب لا
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تحدي فيها، وقوله هنا : (سالم عن المعارضة) المراد بالمعارضة مقابلة الشيء بمثله، فإذا أورد عليك الإنسان دليلا يدل على الجواز فأوردت له دليلا يدل على التحريم فإيرادك لدليل التحريم يعتبر معارضة، وإذا أورد لك علة ثم قمت بإيراد علة أخرى للمسألة فهذا يسمى معارضة؛ لأنك قابلت علة بعلة أخرى، فقوله : (سالم عن المعارضة) يخرج السحر فإن معارضته بمثله ممكنة.
قال المؤلف: (والقرآن معجز أبدا) القرآن كلام الله الذي بين دفتي المصحف كما تقدم، وهذا القرآن معجزة؛ وذلك لأن الله - عز وجل - خرق به العادة في كلام العرب وفيه تحدٍّ، فقد تحدى العرب أن يأتوا بمثله أو بعشر سور فيه أو بسورة، وقد سلم من المعارضة فلم يتمكن أحد من معارضته، وقوله : (أبدا) يعني أن معجزته باقية أبد الدهر؛ ولذلك ورد في الحديث الصحيح أنه " ما من نبي إلا أعطي ما مثله يؤمن عليه البشر، وإنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله سبحانه إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا " .(2/110)
قوله هنا (أعجز الفصحاء مع حرصهم على معارضته) يعني أن هذا القرآن عجز الفصحاء على أن يأتوا بمماثل له ؛ لأن المعارضة مقابلة الشيء بما يماثله، وقد تحداهم الله - عز وجل - على معارضة القرآن فقال جل وعلا في كتابه العزيز : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) } (1) فهذا تحدٍّ بالإتيان بمثل القرآن كاملا، بل تحدَّى بعشر سور، فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } (2) إلى أن قال: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ } (3) كما تحداهم بإيراد سورة كما في مقدمة البقرة: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } (4) .
وقد تقدم أن الإعجاز ليس خاصّا بالسور الكبار، بل هو كذلك في السور الصغار، وإنما يثبت بالأمرين معا، وقد بين الله - عز وجل - عدم إمكانية الإتيان بمثل هذا القرآن سواء من الأفراد أو من الجماعات أو من الإنس أو الجن أو من الجميع بحيث لو اجتمعوا لن يتمكنوا من
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معارضة هذا القرآن : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } (5) والمراد بالظهير المساعد والمعاون.
__________
(1) - سورة الطور آية : 34.
(2) - سورة هود آية : 13.
(3) - سورة هود آية : 14.
(4) - سورة البقرة آية : 23.
(5) - سورة الإسراء آية : 88.(2/111)
ثم بين وجوه إعجاز القرآن فقال المؤلف : (وذكر العلماء وجوها من إعجاز القرآن) والوجه هنا المراد به النوع والقسم، (منها أسلوبه) فأسلوب القرآن فريد لا تجد أسلوبا مماثلا له؛ فإن القرآن يستعمل من الألفاظ في كل سياق ما يناسبه، فتجده مثلا مرة يقول : { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } (1) ومرة يذكر الذبح ولا يذكر القتل، ونجده مرة يستعمل اللفظ القوي عند كون ذلك المحل يتطلبه، فلما جاء بذكر المحاربين قال : { أَنْ يُقَتَّلُوا } (2) ما قال أن يُقتَلوا، و { يُقَتَّلُوا } (3) فيها دليل على صرامة مثل هذا الحكم، فأسلوب القرآن أسلوب فريد لا تجد له مماثلا في كلام الناس، فهو يستعمل الألفاظ في محلها بحسب دلالة سياقها، فيختار لمقام التفخيم لفظا مفخما، ولمقام التسهيل لفظا مناسبا له وهكذا.
قال : (وبلاغته) هذا وجه آخر من وجوه إعجاز القرآن أن هذا قرآن بليغ، وكون الشيء بليغا أن يكون اللفظ موصلا للمعنى بطريق واضح سهل من البلاغ { أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) } (4) ولذلك بين الله - عز وجل - أن هذا الكتاب سهل وميسر، وأمر الناس كلهم بتدبر هذا القرآن.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 141.
(2) - سورة المائدة آية : 33.
(3) - سورة المائدة آية : 33.
(4) - سورة المائدة آية : 92.(2/112)
قال : (وبيانه) يعني أن هذا القرآن معجز فيما يوجد فيه من البيان، ولفظة البيان قد يراد بها الوضوح والظهور، وقد يراد بها علم البيان المعروف عند البلاغيين، ففي القرآن أوجه التشبيه والصور البلاغية ما لا يوجد في غيره؛ ولذلك وجد في العصور الأولى من إذا ورد عليه القرآن تغيرت حاله وانقلبت، بل في عصورنا الحاضرة تجد الإنسان مستمرا على المعصية ومداوما على فعل الكبائر فتقرأ عليه آية من القرآن فتتحول حاله؛ ولذلك لا يبخلن أحد منكم على نفسه بالإرشاد والدلالة إلى الخير ولو بذكر آيات في القرآن ؛ ولهذا نجد بعض الناس إذا
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قرأت عليه آية من آيات النعيم استبشرت نفسه وإذا قرأت عليه آية من آيات العذاب تأثرت نفسه وبدا منه البكاء وبدا منه الخوف والترقب.
قوله : (وفصاحته) الكلام الفصيح هو الموصل للمعنى المقصود بأقصر الألفاظ بلا زيادة ولا نقصان، هذا هو الكلام الفصيح والقرآن فيه من الفصاحة ما لا يوجد في غيره، فهو يوصلك بسرعة إلى المقصود المراد ولا يكون في هذا المعنى زيادة ولا نقصان.
قول المؤلف هنا : (وحسن تأليفه) يعني أن حروف القرآن متفقة غير متنافرة، متآلفة غير متنافرة ما تجد في ألفاظ القرآن أن حروفه متنافرة بحيث يبتعد الإنسان عن هذا اللفظ كما قالوا في بعض الألفاظ التي فيها حروف متنافرة (الهعخع) ونحو ذلك هذه حروف متنافرة، لا تستحسن النفس اجتماعها في محل واحد، وفي كلمة واحدة، فهذا التنافر بين الحروف غير موجود في القرآن، وكذلك لا يوجد في القرآن تنافر في الكلمات في الجملة الواحدة، فجمل القرآن متسقة وكذلك الجمل متآلفة في الحروف والكلمات والجمل كلها متآلفة غير متنافرة.(2/113)
وفي القرآن من أوجه الإعجاز (إخباره عن المغيَّبات) سواء كانت هذه المغيبات من أخبار من سيأتي كما في ذكره خبر الروم، وأنهم سينتصرون على الفرس، فهو إخبار عن مغيب لم يحصل بعد، وكذلك إخباره بما سيكون سواء في آخر الزمان أو في يوم القيامة مما يوافق الكتب السابقة، وكذلك إخبار هذا الكتاب بقصص الأمم الماضية والقرون السالفة مما يوافق ما لدى الأمم الأخرى، ولا يخالف حقيقة ما وقع، هذه من أوجه الإعجاز في القرآن في إخباره عن المغيبات.
قال : (والروعة في قلوب السامعين) أنت إذا سمعت القرآن ميزته عن غيره، وإذا سمعت كلاما يرتل بمثل ترتيل القرآن، وهو ليس من القرآن عرفت أنه ليس من القرآن ؛ لأن القرآن عليه من المهابة ما يجعلك تعرفه بمجرد سماعه. وكذلك من أوجه إخبار القرآن عن المغيبات أنه أخبر عما في ضمائر بعض الناس فقال هؤلاء يخفون كذا ولا يظهرونه، ومن عقائد هؤلاء كالمنافقين وغيرهم كذا، ولم يُعرف أن أحدا منهم عارض مثل ذلك، وأما الروعة في قلوب السامعين فإن النفوس تتأثر بسماع القرآن مما نشاهده ونعلمه، ولذلك قال سبحانه : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } (1) فإذا كانت هذه الجبال فكيف بالقلوب والأسماع.
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الحشر آية : 21.(2/114)
وقوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } (1) واستشهد المؤلف هنا بكلام أحد المشركين لما سمع القرآن وهو الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد بن الوليد لما سمع القرآن قال : (إن لقوله حلاوة) يعني أن كلام القرآن فيه من الدوافع التي تجعلنا نندفع إلى استماعه لما فيه من حلاوة تناسب القلوب والأفئدة وتناسب الأسماع، قال : (وإن عليه لطلاوة) وقوله هنا "عليه لطلاوة" يعني أن عليه بهجة تجعلنا نقبل عليه، -قال (ومن تأمل حسنه وبديعه)- لم يكمل هنا المؤلف كلام الوليد فإنه قال فيه : (إنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه) مما يدل على أن هذا الكلام متميز عن كلام العرب.
(ومن تأمله حسنه) يعني حسن القرآن (وبديعه وبيانه ووجوه مخاطباته) يعني أنواع الخطاب فيه، علم أنه معجز من وجوه كثيرة، وهذا تجدونه أنتم من أنفسكم عندما تقرءون شيئًا من آيات القرآن تجدون فيها من المعاني البديعة ما لا يوجد في كلام الناس، ومن أمثلة ذلك اختيار وانتقاء الألفاظ فيُنتقى في كل موطن ما يناسبه من الألفاظ، ومن ذلك أيضا أن هذا القرآن متحد متسق لا يوجد فيه تناقض بخلاف غيره من كلام الناس؛ لذلك قال سبحانه : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } (2)
__________
(1) - سورة الزمر آية : 23.
(2) - سورة النساء آية : 82.(2/115)
ومن أوجه الإعجاز في هذا الكتاب أنه يفارق بين الألفاظ لوجود الفوارق في المعاني، ونمثل لهذا بمثال، تعرفون قصة أصحاب السفينة في آخر سورة الكهف قال الله - عز وجل - فيها : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } (1) وأما الغلام فقال فيه { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا } (2) وأما الجدار فقال فيه { فَأَرَادَ رَبُّكَ } (3) لماذا فارق بين هذه النصوص، هنا فيه معاني وأسرار تجعله يفرق، ففي اللفظ الأول ذكر للعيب، ولا يناسب أن ننسب العيب لله سبحانه وتعالى { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } (4) ثم إن هذا العمل وهو بقضاء
.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الله وقدره مختص بعمل الخضر، إتلاف السفينة وأخذ اللوح منها مختص بعمله، بقضاء الله وقدره، وأما في الموطن الثاني (فأردنا) لوجود عملين: الأول قتل الغلام والثاني إبداله بغلام آخر يكون صالحا لوجود نوع اشتراك في مثل هذا استعمل هذا اللفظ.
وفي الموضع الثالث { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا } (5) فبلوغ الأشد واستخراج الكنز ليس منسوبا إلى الخضر في شيء فحينئذ قال { فَأَرَادَ رَبُّكَ } (6) وهكذا في مواطن عديدة تلحظ الفرق بين موطن وآخر.
__________
(1) - سورة الكهف آية : 79.
(2) - سورة الكهف آية : 81.
(3) - سورة الكهف آية : 82.
(4) - سورة الكهف آية : 79.
(5) - سورة الكهف آية : 82.
(6) - سورة الكهف آية : 82.(2/116)
ومن أوجه إعجاز القرآن استعمال اللفظ الواحد في معان متعددة، وكل واحد من هذه المعاني مراد لله سبحانه وتعالى، ومن أمثلة ذلك قوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) } (1) ما المراد بلفظة سميع؟ يراد بهذا اللفظ ثلاثة معان:
الأول: إدراك المسموعات كما في قوله سبحانه : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } (2) .
والثاني: إجابة الدعاء كما في قوله سبحانه : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) } (3) .
والثالث: حفظ أوليائه المؤمنين كما في قوله سبحانه : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (4) وكلها مراد بقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } (5) وكذلك قوله : { عَلِيمٌ (181) } (6) فإن هذا يشمل أنواع العلم، فهو يشمل علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم الأشياء حال كونها، وعلم ما لم يكن لو كان فما وجه تكوينه؟
وكذلك من إعجاز القرآن أيضا اشتماله على الأحكام الشرعية التي تستقيم بها أحوال الخلق وتنتظم، وهذه من أعظم معجزات القرآن، فإن هذه الأحكام التي تصلح بها أحوال البشرية قد دل عليها هذا القرآن، ولا يمكن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يوجد في أحكام الشريعة ما يكون مخالفًا لمصالح الخلق، ولا يمكن أن يكون في أحكام الشريعة ما فيه ضرر وفساد، ولا ينظر إلى القضية من جهة واحدة، وإنما ننظر إلى القضية من جميع جهاتها.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 181.
(2) - سورة المجادلة آية : 1.
(3) - سورة إبراهيم آية : 39.
(4) - سورة طه آية : 46.
(5) - سورة البقرة آية : 181.
(6) - سورة البقرة آية : 181.(2/117)
فمثال ذلك إيلام الجاني بالضرب أو القتل، لا ننظر إلى قضية الشخص الجاني فقط ، وإنما ننظر إلى هذه المسألة من جميع جهاتها ومن جميع أطرافها، فقتل الجاني فيه مصلحة للناس أجمعين لإبعاد القتل عنهم، وفيه مصلحة لأولياء الدم بشفاء نفوسهم وابتعاد الغيظ من قلوبهم وبالتالي يعود ذلك على الأمة بوجود المحبة والتآخي فيها، بل في ذلك أيضا مصلحة للجاني نفسه من تكفير ذنبه وشفاء سقمه، وكذلك فيما تقرره الشريعة في الأحكام سواء في العقوبات بجلد أو قطع أو رجم أو قتل أو صلب، أو ما تقرره الشريعة في غير أبواب الجنايات والحدود سواء في أبواب النكاح أو في أبواب البيوع أو في أبواب العبادات.
ونحن في كل يوم نشهد ونلاحظ أننا نتوصل إلى فوائد جديدة للبشرية وللخلق أجمعين من تطبيق أحكام شريعة الإسلام بعد أن كان يُشنّع على قضية الختان أصبحت هذه القضية من الأمور التي يُرغِّب فيها الأطباء ويحثون عليها، تعرفون أنتم ما يذكر في قصة حديث الذبابة لما جاء بعض الناس ممن لم يستقر إيمانه في قلبه وعلم بصحة حديث الذبابة إلا أنه أنكره باستبعاده ثم بعد ذلك علمنا أن هذا الحديث موافق لما هو واقع وحاصل، فإن في أحد جناحي الذبابة داء وفي جناحها الآخر دواء، ونحن لم نستفد هذه المعلومة من هؤلاء الباحثين الجدد وإنما استفادتنا لهذه المعلومة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - .(2/118)
ومن أوجه إعجاز القرآن أيضا ما في هذا الكتاب من إخبار عن أمور دقيقة سواء في خلق الإنسان أو في أمور الكون مما لا يطلع عليه الناس في الزمان الأول، ومع ذلك لما اطّلع عليه أهل زماننا وجدوه كما أخبر القرآن، سواء في علم الأجنة أو في علم الفلك أو في غيرها، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } (1) بمثل ذلك قالوا: { أَنَّهُ الْحَقُّ } (2) يعني أن القرآن هو الحق، وبعضهم قال : إن الإسلام هو الحق، وبعضهم فسره بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومن إعجاز القرآن ما فيه من ترهيب وتخويف وفي نفس الوقت رجاء وترغيب، فقد احتوى القرآن على هذه الأمور المتضادة بطريقة متسقة متناسقة غير متنافرة، ولا نزال نطلع على شيء من إعجاز هذا الكتاب ما بين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقت وآخر، وحينئذ فعلى الأمة أن تتجه إلى كتاب ربها سبحانه وتعالى وتستلهم منه ما فيه صلاح أحوالها في الدنيا والآخرة.
وخلال الأيام الماضية وُجِد عدد من القصص الغريبة والاكتشافات الغريبة التي اكتشفها علماء مسلمون بناء على نظرهم في القرآن، ومن أمثلة ذلك أنه توصل بعض الباحثين إلى أن هناك مادة تكون في العرق تكون سببا لزوال الماء الأبيض من العين أخذًا من قصة يوسف عليه السلام مع أبيه يعقوب. وقد ذكر بعضهم أن الجراد تبين أنه لا يأكل من التمر، أخذا من قوله سبحانه في سورة (ق) لما ذكر النخل قال : { رِزْقًا لِلْعِبَادِ } (3) ولم يقل : رزقا للجراد.
ومن الأمور الملاحظة أيضا فيما يتعلق بالقرآن أن فيه صلاح أحوال الخلق وإذا تأمل الإنسان هذا الكتاب وجد فيه حلا لمشاكل الناس الاجتماعية والنفسية بل فيه طرق لزوال الكرب، وطرق لزوال الأمور والأقدار غير المرغوبة ؛ ولذلك تجدون العلماء يذكرون أن من لا يأتيه إلا بنات فعليه بالاستغفار لماذا ؟ أخذًا من قوله سبحانه وتعالى : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } (4) والبنون هم الذكور من الأولاد، إلى غير ذلك من أوجه إعجاز القرآن.
__________
(1) - سورة فصلت آية : 53.
(2) - سورة فصلت آية : 53.
(3) - سورة ق آية : 11.
(4) - سورة نوح آية : 12.(2/119)
الأمثال
قال رحمه الله تعالى : (الأمثال: أمثال القرآن من أعظم علمه، وعده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته ضربها الله تذكيرًا ووعظا، وهي تصور المعاني بصورة الأشخاص).
ـــــــــــــــــــــــــ
نعم ذكر المؤلف هنا أمثال القرآن، والمراد بأمثال القرآن تصوير القرآن للشيء بصورة مماثلة له، وأنتم تعرفون أن المثل هو الشبه من كل وجه، هذا الأصل في إطلاق المثل، وأما الشبه فلا يستلزم أن يكون مماثلا من كل وجه، وإنما يكفي فيه المماثلة من وجه واحد؛ ولذلك لما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية (الوسطية) كتب فيها بلا تشبيه، ثم بعد ذلك لما تأمل في المسألة استبدل كلمة بلا تشبيه إلى قوله : بلا تمثيل؛ وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن المنفي في القرآن هو المثل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) وليس الشبيه.
والأمر الثاني: أن المشابهة تصدق على مجرد المماثلة من وجه واحد، وقد يكون هناك نوع موافقة في الوجود، أو في أصل صفة الحياة، وإن كان وجود الله وحياته ليس مماثلا لوجود المخلوق وحياته، فحياة المخلوق يعتريها النقص ويعتريها المرض ويعتريها النوم ويعتريها الموت بخلاف حياة الخالق سبحانه وتعالى، فالمقصود أن المثل هو المشابهة من كل وجه.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.(2/120)
وقد بين الله - عز وجل - أنه يضرب الأمثال من أجل أن يكون ذلك بيانا لأهل الإيمان وتوضيحا لمراده وتقريبا له إلى الأفهام، وإن كان فيه ابتلاء واختبار للعباد أيصدقون أو يكذبون وإن كان فيه أيضا فتنة لغير أهل الإسلام، وبين الله سبحانه وتعالى أنه لا يستحيي من ضرب الأمثال، وأن أهل الإيمان يقابلون هذه الأمثال بالتصديق والإيقان، وفي القرآن من الأمثال ما يمكن أن يستفاد منه في تعليل الأحكام ويستفاد منه في التفهيم والتوضيح للمسائل، ويستفاد منه في معرفة معاني القرآن على وفق مراد الله سبحانه وتعالى، ويستفاد منه أيضا حتى في تفسير الرؤى فإن الأمثلة القرآنية فيها إشارة إلى مثل ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال : (أمثال القرآن) يعني ما في القرآن من أمثال : (من أعظم علم القرآن) وينبغي أن نلتفت إلى الممثِّل قبل أن نلتفت إلى المثَل أو الممثَّل به ؛ لأن المقصود هو الممثِّل. قال : (وعده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته) كأنه جعله شرطا من شروط الاجتهاد، وإن كان جَعْله شرطا فيه ما فيه .
(قد ضربها الله تذكيرا) يعني أن الفائدة من ضرب هذه الأمثال في القرآن هي التذكير والوعظ.
وكذلك فيه بيان المراد، وتوضيح كلام الله سبحانه وتعالى بجعل المعقول بصورة المحسوس؛ ولذلك نجد القرآن فيه ضرب الأمثلة في عدد من القضايا: في توحيد الألوهية في توحيد الأسماء والصفات في عذاب القبر في عذاب الآخرة، في الجنة والنار، وقد مثل الله - عز وجل - الحياة بمثابة الزرع الذي سقي من المطر ثم بعد ذلك يخضرّ ثم يصفرّ ثم تذروه الرياح، وهكذا الحياة تزول سريعا، فقرب له حقيقة الحياة من خلال مَثَل محسوس لهم يشاهدونه خصوصا أنهم يشاهدون الربيع في زمانهم، وهكذا بقية الأمثال.(2/121)
قال : (وهي) يعني أمثال القرآن (تُصور المعاني بصورة الأشخاص) فهي تجعل المعاني الذهنية المراد تقريبها إلى الذهن بصورة أشخاص محسوسة حقيقية . الحياة الدنيا هذا معنى في الذهن أراد الله تقريبه إلى الناس بأن مثَّله وصوَّره بصورة النبات، والنبات شيء مُشَخَّص مشاهَد محسوس، وقد ذكره الله - عز وجل - من فوائد ضرب الأمثال أنه سبب للتذكر، قال سبحانه : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) } (1) ولهذا من نعم الله على العباد أنه ضرب الأمثال في القرآن ؛ ولذلك امتن الله - عز وجل - بهذه النعمة فقال : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) } (2) .
ومما يتعلق بهذا وله نوع اتصال به أن بعض ألفاظ القرآن يستخدمها بعض الناس كأمثلة في كلامه، فتجده مثلا إذا انتهت مسألة قال : { قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) } (3) إذا وجد إنسان كثير الجدل قال : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) } (4) إذا وجد إنسانا مستعجلا قال :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) } (5) وهكذا... .
__________
(1) - سورة إبراهيم آية : 25.
(2) - سورة إبراهيم آية : 45.
(3) - سورة يوسف آية : 41.
(4) - سورة الكهف آية : 54.
(5) - سورة الأنبياء آية : 37.(2/122)
هل مثل هذا التمثيل بإيراد آيات من القرآن على أمور محسوسة مشاهدة أو وقائع من بعض الأفراد هل هذا أمر سائغ أو أمر ممنوع منه؟ هذا موطن خلاف بين الفقهاء منهم من منع؛ لأن القرآن قد نزل للتعبد به والعمل بما فيه، وليس هذا الاستعمال من أغراض إنزال القرآن، والقول الآخر بجواز مثل ذلك وعدم المنع منه، وهذا القول أصح لما ورد في حديث علي أن " النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على علي وفاطمة فقال : "ألا تصليان من الليل" فقال علي - رضي الله عنه - إن الله قد قبض أنفسنا وأرواحنا. خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب فخذه ويقول { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) } (1) " .
القسم في القرآن
قال رحمه الله تعالى : (الإقسام : القسم تحقيق للخبر وتوكيد له، ولا يكون إلا بمعظَّم، وهو تعالى يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، وبآياته المستلزمة لذاته وصفاته تارة على التوحيد وتارة على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق وتارة على الجزاء والوعد والوعيد وتارة على حال الإنسان، والقسم إما ظاهر وإما مضمر، وهو قسمان: قسم دلت عليه اللام نحو : { * لَتُبْلَوُنَّ } (2) وقسم دل عليه المعنى نحو : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف هنا ما يتعلق بالقسم في القرآن، وقد ألف ابن القيم في هذا الموضوع كتابا طبع في مجلدين عنوانه: (التبيان في أقسام القرآن) قال المؤلف: ( القسم، القسم هو الحلف بمعظم) قال (وفي القسم تحقيق للخبر وتوكيد له) هذه فائدة من فوائد وجود القسم في القرآن، والتوكيد في لغة العرب وتحقيق الخبر له طرق متعددة : منها القسم، ومنها أدوات التأكيد مثل (إنَّ) ونحو ذلك.
__________
(1) - سورة الكهف آية : 54.
(2) - سورة آل عمران آية : 186.
(3) - سورة مريم آية : 71.(2/123)
قال : (والقسم لا يكون إلا بمعظَّم) يعني لا تقسم بشيء إلا إذا كان معظًَّما (وهو تعالى يقسم بنفسه المقدسة) كما في قوله سبحانه : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } (1) أو يقسم بشيء من صفات، وكذلك يقسم سبحانه وتعالى بآياته، والآيات قد يكون المراد بها الآيات المسموعة التي هي صفة من صفاته، وقد يقسم سبحانه بآياته المخلوقة مثل الشمس والقمر والليل والنهار قال تعالى : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) } (2)وليُعلَم أن القسم بغير الله خاص به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سبحانه، فإن الله له أن يقسم بما شاء من خلقه، أما المخلوق فإنه لا يجوز له أن يقسم ويحلف إلا بالله سبحانه وتعالى، كما ورد في حديث ابن عمر : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " في السنن، وفي الصحيح " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " .
قوله : (بآياته المستلزمة لذاته) يعني أن الآيات المخلوقة دالة ومرشدة على الذات، وعلى صفات الله سبحانه وتعالى، فهذا الكلام المتقدم متعلق بالمقسم به، والمقسم به إما أن يكون هو الله، وإما أن يقسم الله بشيء من آياته، ثم بعد ذلك ذكر المؤلف المقسم عليه، مثال ذلك قوله سبحانه : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) } (3) هنا عندك أداة قسم، وهى الواو { فَوَرَبِّكَ } (4) ومقسم به (ربك) ومقسم عليه وهو الخبر الذي يراد تحقيقه، وهو قوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) } (5) .
__________
(1) - سورة مريم آية : 68.
(2) - سورة الشمس آية : 1.
(3) - سورة الحجر آية : 92.
(4) - سورة الحجر آية : 92.
(5) - سورة الحجر آية : 92-93.(2/124)
فهذه القضايا المقسَم عليها تارة تكون في التوحيد وأغلبها في توحيد الألوهية، في إفراد الله بالعبادة، وتارة تكون في إثبات أن القرآن حق، يعني في قوله سبحانه : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) } (1) إلى أن قال : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) } (2) هذا في الألوهية، وفي القرآن قوله : { * فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) } (3) إلى أن قال : { إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) } (4) وتارة في إثبات أن الرسول حق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{ يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) } (5) وتارة في إثبات اليوم الآخر والجزاء والوعد والوعيد مثل قوله : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) } (6) إلى أن قال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) } (7) وتارة على أحوال الإنسان، واختلافهم في سعيهم كما في قوله سبحانه : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) } (8) الآية، فهذا متعلق بالمقسم عليه.
__________
(1) - سورة الصافات آية : 1.
(2) - سورة الصافات آية : 4.
(3) - سورة الواقعة آية : 75.
(4) - سورة الواقعة آية : 77.
(5) - سورة يس آية : 1-3.
(6) - سورة المرسلات آية : 1.
(7) - سورة المرسلات آية : 7.
(8) - سورة الليل آية : 1-5.(2/125)
ننتقل بعد ذلك إلى أدوات القسم، القسم قد يكون بالواو أو كما في قوله سبحانه : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } (1) وهذا أغلب القسم، وهو أكثر ما في القرآن، وقد يكون القسم بالتاء : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ } (2) فهنا قُدِّمت التاء، والغالب في التاء أن تكون خاصة بلفظ الجلالة : الله.
ما بقي من أدوات القسم؟ نعم الباء، مثل أيش لو من غير القرآن؟ (بالله) طيب.
وقد يكون القسم أيضا بحذف الأداة، تحذف الأداة، أو تحذف الأداة والمقسم به ويبقى المقسم عليه فقط كما في سورة (التكاثر) { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) } (3) قال كثير من العلماء اللام هنا اللام المقارنة لجواب القسم، فهنا ذكر المقسم عليه ولم يذكر أداة القسم ولم يذكر المقسم به { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) } (4) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومثل قوله سبحانه مِثل ما مثَّل به المؤلف { * لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } (5) فهنا اللام تكون مقارنة لجواب القسم، مما يدل على أن هناك قسما محذوفا.
__________
(1) - سورة الحجر آية : 92.
(2) - سورة يوسف آية : 73.
(3) - سورة التكاثر آية : 6-7.
(4) - سورة التكاثر آية : 8.
(5) - سورة آل عمران آية : 186.(2/126)
وقد يكون جواب القسم والمقسم عليه متقدما على القسم، كما في قوله سبحانه : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } (1) فقد قال طائفة بأن هنا قُدِّم جواب القسم والمقسم عليه، يقول : (هذا الإضمار لأداة القسم على نوعين: إضمار مدلول عليه باللام المقارنة للجواب كما تقدم، وهناك إضمار لحرف القسم والمقسم به، لكنه ليس معه لام في جواب القسم، وإنما يدل عليه المعنى، ويمثلون له بقوله سبحانه : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } (2) كأنه قال والله إن منكم إلا واردها، ويمثلون له بقوله سبحانه : { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) } (3) هذا ما يتعلق بالقسم، ولعلنا نترك ما يتعلق بالخبر والإنشاء ليوم آخر.
نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يرزقنا وإياكم الهدى والاستقامة على الخير والحق والرشاد، وأن يصلح أحوال الأمة وأن يردهم إلى دينه ردا جميلا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
س: يقول السائل: نرى يا فضيلة الشيخ أن كثيرا من علماء اللغة وكثيرا من الأصوليين يقولون بالمجاز، وفي المقابل نرى أن من اهتم بأمور العقيدة وتفاصيلها أنكر ذلك، فهل إنكار من أنكر هو فقط من أجل أنه ذريعة إلى أهل الأهواء والبدع إلى تأويل الصفات؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ج: تقدم بيان أن من أنكر المجاز التفت فيه إلى الجملة كاملة يقول: إن العرب لا تتكلم بالألفاظ مفردة، وأن من أثبت وجود المجاز نظر إلى دلالة اللفظ مجردا، وحينئذ فالقول بأن نفي المجاز لما قد يرتب عليه نفي الصفات هذا ليس بصحيح، يعني لا يصح أن ننفي الشيء لآثاره ؛ لأن الآثار نتيجة، والنتيجة ليست سببا في نفي المقدمة،
وحينئذ فالتفات مَن نفى المجاز إلى قضية: هل المعتبر في كلام العرب الالتفات إلى الألفاظ مجردة أو النظر فيه إلى سياق الكلام وجملته.
أسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا وإياكم للخير وصلى الله على نبينا محمد.
__________
(1) - سورة الذاريات آية : 22-23.
(2) - سورة مريم آية : 71.
(3) - سورة يس آية : 47.(2/127)
الخبر والإنشاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، نواصل ما كنا ابتدأنا به من الحديث عن شرح مقدمة التفسير، وكنا أنهينا ما يتعلق بمباحث الإقسام، ونتحدث في هذا اليوم بإذن الله - عز وجل - عن مبحث الخبر والإنشاء.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المصنف -رحمه الله تعالى- : (الخبر والإنشاء: الكلام نوعان خبر وإنشاء، والخبر دائر بين النفي والإثبات، والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة، والخبر يدخله التصديق والتكذيب، والإخبار إما إخبار عن الخالق، وإما إخبار عن المخلوق، فالإخبار عن الخالق هو التوحيد وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته، والإخبار عن المخلوق هو القصص وهو الخبر عما كان وما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الرسل وأممهم ومن كذَّبهم، والإخبار عن الجنة والنار والثواب والعقاب) .
ــــــــــــــــــــــ(2/128)
بين المؤلف في هذا الفصل أن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء، ومعنى الخبر، قال: ما يدخله التصديق والتكذيب، فالكلام الذي يمكن أن يوجه عليه حكم التصديق أو التكذيب يعتبر خبرًا، ومن أمثلته إذا قلت : محمد بالسوق ومحمد ذاهب فحينئذ يحق أن يقال هذا خبر صادق، أو هذا خبر كاذب، وأما الإنشاء فالمراد به الكلام الذي لا يحكم عليه بتصديق أو تكذيب، ومن أمثلته هل جاء محمد؟ لا يصح لك أن تقول حينئذ صدقت أو كذبت، وما ارتضاه المؤلف هنا من تقسيم الكلام إلى هذين القسمين عليه جماهير البلاغيين والأصوليين وعلماء علوم القرآن.
وقد قال طائفة بتقسيمه إلى أقسام أكثر من هذا، وهذه التقسيمات في الحقيقة عائدة إلى الإنشاء، ومن أمثلة ذلك أن بعضهم جعل الكلام ثلاثة أنواع: خبر وإنشاء وتعجب، وبعضهم قال: خبر وإنشاء وطلب، قال: الإنشاء ما يتعلق بالماضي مثل الاستفهام، والطلب ما يتعلق بالزمان القادم مثل أحضِر لي ماءً، والصواب ما عليه الجماهير من دخول
.
ـــــــــــــــــــــــ
الاستفهام والتعجب في الإنشاء؛ لأنه لا يدخلهما التصديق ولا التكذيب فكانا من الإنشاء.(2/129)
وليُعلَم بأن الأخبار في الكتاب والسنة قد ترد ويراد بها الإنشاء، وذلك مثل قوله سبحانه : { * وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } (1) فإن هذا في ظاهره خبر لكنه في حقيقته طلب، وكأنه يطلب من الوالدات إرضاعهن، وكذلك قوله سبحانه : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (2) فهذا في ظاهره خبر، والمراد به الطلب، لماذا قلنا بأن هذه الأخبار لا يراد بها الخبر وإنما يراد بها الطلب؟ لأننا نجد بعض الأفراد الذين تصدق عليهم الآية لا يمتثلون ما فيها فنجد بعض الوالدات لا يكملن حولين في إرضاع أولادهن، ونجد بعض المطلقات لا تتربص ثلاثة قروء؛ فدل ذلك على أنه ليس المراد الخبر ؛ لأن خبر الله - عز وجل - لا يمكن أن يتخلف أبدا لأنه عالم بكل شيء وهو صادق في حديثه.
قال المؤلف : (الخبر دائر بين النفي والإثبات) لأن الخبر عبارة عن نسبة بين شيئين، كأن تقول محمد قائم، إما أن تكون هذه النسبة بالإثبات، وإما أن تكون هذه النسبة بالنفي، كقولك محمد ليس بقائم،
قال المؤلف : (والإنشاء) يعني أن الخبر ينقسم إلى قسمين إثبات ونفي، والإنشاء كذلك ينقسم إلى أقسام عدة:
أول هذه الأقسام: الأمر، والمراد بالأمر طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء، طلب الفعل يخرج منه طلب الترك؛ لأنه نهي، بالقول يخرج به الطلب الذي لا يتكلم له، فإنه لا يكون أمرا، وإنما يكون أحاديث نفس ووساوس، وقوله (على جهة الاستعلاء) يخرج به طلب الفعل ممن لا يرى في نفسه علوا كالالتماس والدعاء، ومن أمثلته قوله -سبحانه- : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } (3) وأغلب صيغه صيغة "افعل" مثل
...............................................................................................................
__________
(1) - سورة البقرة آية : 233.
(2) - سورة البقرة آية : 228.
(3) - سورة البقرة آية : 21.(2/130)
ـــــــــــــــــــــــ
{ اعْبُدُوا } (1) وقد يأتي الأمر بصيغ أخرى مثل صيغة (لِتفعل) فعل مضارع مسبوق بلام الأمر.
أصل صيغه صيغة (افعل) "اعبدوا"، وقد يأتي الأمر بصيغ أخرى، مثل صيغة (لتفعل)، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، ومنه قوله -سبحانه-: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) } (2) ومن صيغه أيضا الأمر الصريح بالأمر: { * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } (3) فهذا خبر في الظاهر، لكنه في حقيقته أمر وطلب، وكذلك اسم فعل الأمر، وكذلك صيغة "عليك": { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } (4) ومنه قوله -سبحانه-: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (5) .
والقسم الثاني من الإنشاء: النهي. والمراد بالنهي: طلب ترك بالقول على جهة الاستعلاء. ومن أمثلته قوله -سبحانه-: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } (6) هذا نهي، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ } (7)
والنوع الثالث: الإباحة. ومن أمثلته قوله -سبحانه-: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (8) هنا للتخيير والتسوية.
وهناك أقسام أخرى للإنشاء: لم يذكرها المؤلف، مثل: النداء. كقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } (9) ومثل: التعجب. كما هو على أحد القولين في تفسير قوله تعالى: { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) } (10) ومثل: التمني، والترجي، والاستفهام.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 21.
(2) - سورة الحج آية : 29.
(3) - سورة النساء آية : 58.
(4) - سورة المائدة آية : 105.
(5) - سورة آل عمران آية : 97.
(6) - سورة الحجرات آية : 12.
(7) - سورة الحجرات آية : 11.
(8) - سورة المائدة آية : 2.
(9) - سورة البقرة آية : 21.
(10) - سورة البقرة آية : 175.(2/131)
ـــــــــــــــــــــــ
والاستفهام في الأصل أنه إنشاء، لفظا ومعنى، ولكنه إذا كان استفهاما إنكاريا فإن حقيقته الخبر، مثل قوله -سبحانه-: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (1) هذا ظاهره الاستفهام، والمراد به النفي، أنه ليس له -سبحانه- مماثل.
ثم قال في تعريف الخبر: الخبر يدخله التصديق والتكذيب. وزاد بعضهم: لذاته. لإخراج أخبار الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنهما لا يدخلهما التكذيب، لكن ليس لذات الخبر، وإنما لأمر خارج، وهو كونه من عند الله سبحانه وتعالى.
وبعضهم يقول: الخبر ما احتمل الصدق أو الكذب لذاته. ثم بين المؤلف أنواع الأخبار:
الأول: تقسيم للخبر باعتبار الإثبات والنفي، باعتبار نوع النسبة، وهنا تقسيم للخبر باعتبار المخبر عنه، المخبر عنه ينقسم إلى قسمين: إخبار عن الخالق -سبحانه وتعالى-، سواء كان إخبارا عن أفعاله، أو عن صفاته، أو عن أسمائه.
قال: فالإخبار عن الخالق هو التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية. وما يتضمنه ذلك التوحيد من أسماء الله وصفاته.
والنوع الثاني من الأخبار: الإخبار عن المخلوق المخلوقات، وهذه قال المؤلف بأنها هي القصص، وأن الله -سبحانه وتعالى- في الكتاب العزيز قد قص علينا قصص كثير من الأنبياء .
وهذا الإخبار عن المخلوق على نوعين:
النوع الأول: إخبار عن أمور قد حصلت ووقعت، مثل: قصص الأنبياء السابقين، وما حصل للمكذبين، وقصص خلق السماوات والأرض، فهذا إخبار عن ماض.
والنوع الثاني: إخبار عن أمر آت مستقبلا، مثل الإخبار عن الجنة والنار وما فيهما من النعيم المقيم والثواب العظيم، وكذلك ما في النار من العقوبة الأليمة، نعم.
طرق وأوجه التفسير
تفسير القرآن بالقرآن
__________
(1) - سورة مريم آية : 65.(2/132)
قال -رحمه الله-:
طرق التفسير
أصح طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان، فإنه قد فصل في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضوع آخر، فإن لم تجده ففي السنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، فإن لم تجده فارجع إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما كبراؤهم، كالخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: كابن مسعود، وابن عباس. وإذا لم تجده، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين: كمجاهد، وسعيد بن جبر، وعكرمة، وعطاء، والحسن، ومسروق، وسعيد بن المسيب، وكمالك، والثوري، والأوزاعي، والحمادين، وأبي حنيفة، وغيرهم من تابعي التابعين، وكالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد وأمثاله من أتباع تابع التابعين.
قال الشيخ: وقد يقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافا، وليس كذلك؛ فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه.
ويُرجع إلى لغة القرآن أو السنة أو لغة العرب. ومن تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ويحرم بمجرد الرأي. وقال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.
ــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف في هذا المفصل أولا طرق التفسير، والمراد بطرق التفسير يعني: الأوجه التي يمكن أن يفسر بها القرآن، والأدلة التي يمكن أن يفهم القرآن من خلالها، ومن المعلوم أن المفسرين لهم منهاجان معروفان في التفسير:
.
ـــــــــــــــــــــــ
الأول تفسير القرآن بالمأثور: وهذا الذي عليه علماء الأمة وسلفها، وهو الذي ذكره المؤلف هنا.(2/133)
والثاني: تفسير القرآن بالرأي: وقد بين المؤلف أن هذه الطريقة طريقة غير مَرضية، قال المؤلف: أصح طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، في هذا إشارة إلي اختيار منهج التفسير بالمأثور، فأصح طرق القرآن -يعني أن الطريقة الصحيحة- هي تفسير القرآن من طريق السبل والطرق الآتية:
أول هذه الطرق أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فإن الله - عز وجل - قد وصف الكتاب بقوله: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } (1) فهذا القرآن تبيان لكل شيء، ومن ذلك تبيانه للقرآن ذاته.
ومن أمثلة تفسير القرآن بالقرآن: ما ذكره العلماء في قوله -سبحانه-: { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } (2) ففسر البقرة الواردة في أول هذه الآيات بهذا التفسير، بكونها غير فارض ولا بكر، وأنها عوان بين ذلك.
ومثال آخر أوضح من هذا: قوله -سبحانه-: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ } (3) فالدم كلمة عامة تشمل جميع أنواع الدم، ويدخل في ذلك الدماء التي في العروق، والدماء المسفوحة، ثم جاءت آية سورة النحل، قال فيها -سبحانه-: { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } (4) فهذه الآية فسرت الآية الأولى، وبينت أن المراد بالآية الأولى الدم المسفوح دون الدم الذي في العروق.
قال المؤلف: فما أُجمل في مكان، يعني أن الألفاظ التي لم يوضح معناها في مكان من القرآن، أو في إحدى سور القرآن، فإنه قد يفسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر، ويظهر هذا في قصص الأنبياء -عليهم السلام-، مثل قصة موسى، تجده في موطن يجمل، ويفسره في موطن آخر، ويختصر هذه القصة في مكان، ويبسطها في مكان آخر.
__________
(1) - سورة النحل آية : 89.
(2) - سورة البقرة آية : 68.
(3) - سورة البقرة آية : 173.
(4) - سورة الأنعام آية : 145.(2/134)
ـــــــــــــــــــــــ
تفسير القرآن بالسنة
والنوع الثاني، أو الطريق الثاني من طرق التفسير: السنة. فإن السنة مفسرة للقرآن كما قال -سبحانه- { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (1) .
ولا شك أن السنة النبوية دليل من أدلة الشريعة، قال تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (2) وقال: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (3) قال: فإنها -يعني السنة- شارحة للقرآن وموضحة له.
وقول المؤلف هنا: فإن لم تجده، يعني: إن لم تجد تفسير القرآن في القرآن، ففسر القرآن بواسطة السنة. وهذه المسألة موطن خلاف بين الأصوليين، وهي مسألة: هل المجتهد ينظر أولا إلى الكتاب ولا يلتفت إلى السنة، إذا وجد شيئا في الكتاب، أو هو يجمع أدلة المسألة كتابا وسنة، فلا يغفل أدلة السنة ولو كان في المسألة أدلة من الكتاب؟ في هذه المسألة قولان للعلماء:
القول الأول: أن من وجد دليلا من الكتاب اقتصر به، ولم يحتج معه إلى أدلة السنة.
والقول الثاني: بأن المجتهد ينظر إلى أدلة الكتاب وإلى أدلة السنة؛ لأن السنة تفسر القرآن وتخصصه وتقيده، وحينئذ يمكن أن تكون الآية عامة، ثم تأتي السنة فتفسرها وتوضحها، وتبين أن العموم فيها ليس مرادا، وأن هذا العموم مخصوص، وهذا القول أرجح؛ لقيام الأدلة على أن السنة تخصص الكتاب وتقيده.
__________
(1) - سورة النحل آية : 44.
(2) - سورة النساء آية : 80.
(3) - سورة الحشر آية : 7.(2/135)
قوله: فإنها، يعني: فإن السنة شارحة للقرآن. ولذلك تجدون كثيرا من ألفاظ القرآن لا نعرف معناها إلا من خلال السنة، قال تعالى: { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (1) ما المراد بالحق؟ ليس معروفا حتى تأتي السنة
ـــــــــــــــــــــــ
فتوضحه، وقال -سبحانه-: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (2) ما هي طريقة الصلاة؟ وكم عدد ركعاتها؟ وما هو الواجب فيها؟ لم يبينه الكتاب، فجاءت السنة فبينته.
والسنة قد تبين المجمل، مثل الآيات السابقة من الكتاب، والسنة كذلك قد تأتي بتخصيص الكتاب، كما في قوله -سبحانه-: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (3) ثم جاءت السنة ببيان أن المقطوع يد واحدة، وليس جميع الأيدي مع أن ظاهر قوله: { أَيْدِيَهُمَا } (4) يشمل جميع الأيدي، وجاءت السنة ببيان أن القطع يكون من الكوع لا من المرفق، ولا من الكتف، وجاءت السنة ببيان أن بعض السارقين لا يُقطعون، كالسارق من غير الحرز، وسارق ما دون النِّصاب ونحو ذلك.
وكذلك السنة تأتي بتقييد المطلق في الكتاب، قال -تعالى- في بيان كفارة القتل: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } (5) ثم جاء في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعتقها فإنها مؤمنة " فدل ذلك على أن الرقبة المعتقة في كفارة القتل مقيدة بكونها مؤمنة.
تفسير القرآن بأقوال الصحابة
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 141.
(2) - سورة البقرة آية : 43.
(3) - سورة المائدة آية : 38.
(4) - سورة المائدة آية : 38.
(5) - سورة النساء آية : 92.(2/136)
الطريق الثالث: أقوال الصحابة. قال المؤلف: فإن لم تجده، يعني: إن لم تجد تفسير القرآن في الكتاب ولا في السنة، فارجع إلى أقوال الصحابة. فإنهم أدرى بذلك، يعني أن الصحابة أعلم بذلك -يعني بتفسير القرآن- لما شاهدوه، فإنهم قد شاهدوا سبب نزول الآيات، وشاهدوا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزولها، وعرفوا القرائن التي احتفت بالخطاب والأحوال التي كانت موجودة في ذلك الزمان.
ـــــــــــــــــــــــ
وقوله: فإنهم، "إن" تعليلية، فهذا هو الدليل على كون الصحابة يعتمد قولهم في التفسير، أنهم أدرى بتفسير القرآن، لكونهم قد شاهدوا التنزيل، ولما لهم يعني: ولما لهؤلاء الصحابة من الفهم التام والعلم الصحيح.
ولا شك أن الصحابة -رضوان الله عليهم- بذلوا من أنفسهم في تعلم العلم وفي تعليمه، وكون أقوال الصحابة يعتمد عليها قد يراد به ثلاثة أشياء:
الأول: اتفاقهم، فإذا اتفق الصحابة على قول، فإن إجماعهم حجة شرعية بلا شك، فإذا اتفقوا على تفسير القرآن، أو تفسير آية بشيء، فإن قولهم حجة، وقد يمثل له بما ورد عن الإمام أحمد أن الصحابة أجمعوا على أن قوله -تعالى-: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ } (1) أنها نزلت في الصلاة.
والنوع الثاني: من أنواع أقوال الصحابة في تفسير القرآن: أقوالهم عند اختلافهم اختلافا متضادا، فحينئذ لا يكون قول بعضهم حجة دون قول البعض الآخر؛ وذلك لتساويهم وتماثلهم.
والنوع الثالث: قول بعضهم ممن لا يعلم له مخالف من الصحابة، فإذا قال البعض تفسيرا للقرآن ولم نعلم لغيرهم قولا في هذه المسألة، فهذا ينقسم إلى قسمين: أن ينتشر هذا القول ويشتهر في الأمة، ولا يوجد له مخالف، فهذا إجماع سكوتي، يرى جماهير أهل العلم أنه حجة ويعمل به ويفسر القرآن به.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 204.(2/137)
والنوع الثاني: قول بعضهم في تفسير القرآن الذي لم ينتشر في الأمة، فحينئذ هل هذا القسم طريق صحيح لتفسير القرآن، أو لا؟ فيه قولان لأهل العلم.
فعرفنا من خلال ما سبق أن محل الخلاف يشترط فيه شروط:
الشرط الأول: أن يكون قولا لبعضهم دون جميعهم.
والشرط الثاني: ألا يوجد اختلاف بين الصحابة فيه.
والشرط الثالث: ألا ينتشر قول هؤلاء الصحابة، فإذا كان كذلك، فليعلم أن بعض من قال: إن قول الصحابي ليس بحجة، وافق الجمهور في كون تفسير الصحابي دليلا شرعيا يُفسر به القرآن.
فبعض القائلين بأن قول الصحابي ليس بحجة قالوا: لكن تفسيره مقبول. وذلك لأن الصحابة عدول ثقاة، والعدل الثقة لا يتكلم في القرآن، ولا يفسر كلام الله إلا بما يعلم أن الرسول قد قاله، فيكون تفسير الصحابة حينئذ في مثابة المرفوع حكما.
.
ـــــــــــــــــــــــ
وقد جاءت النصوص الشرعية بالحث على التمسك بهدي الصحابة -رضوان الله عليهم-، قال -تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } (1) ولا شك أن الصحابة من أفاضل من أناب إلى الله - عز وجل - وقال -سبحانه-: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ح'$ءRF{$#ur وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } (2) فأثنى على من اتبع الصحابة بإحسان.
قال المؤلف: لا سيما كبراؤهم، يعني أن أولى من يتبع من الصحابة كبراء الصحابة، كالخلفاء الراشدين؛ لأنه قد ورد في عدد من النصوص الأمر بالسير على منهاجهم، قال - صلى الله عليه وسلم - " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر. " كما في السنن، وفي حديث العرباض: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. " .
__________
(1) - سورة لقمان آية : 15.
(2) - سورة التوبة آية : 100.(2/138)
وإن كان المأثور عن الخلفاء الراشدين في تفسير القرآن قليلا، ولم يرد عنهم تفسير كثير للقرآن، وأكثر من روي عنه في تفسير القرآن من الخلفاء الراشدين هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكما تقدم أن جهل الإنسان بتفسير آية من القرآن لا يدل على نقصان مكانته، أو عدم علو منزلته، فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما ليس لي به علم. " يريد بذلك أنه لا يعرف المراد بالأب، قالوا له: هذه الفاكهة قد علمناها، فما هو الأب؟ فلم ينقص هذا من مقدار الصحابي الجليل أمير المؤمنين أبي بكر الصديق، - رضي الله عنه - .
وكون الإنسان يخطئ في مسألة أو مسألتين، أو يجهل مسألة أو مسألتين، لا يغض من مكانته، فلا يزال الأئمة يسمع عنهم قول: "لا أعلم". وقد قيل: من أخطأ "لا أعلم" أصيبت مقاتله. ووقوع الخطأ القليل أيضا من الإمام الذي له كلام كثير صحيح لا يجعلنا ننتقص من مكانته؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " أصبت في بعض وأخطأت في بعض " ومع ذلك لم ينقص هذا من مكانة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .
قال: والأئمة المهديين. الخلفاء الراشدون، الخلفاء المراد بها من خلف الرسول في إمامة الأمة. قال: والأئمة، يعني: من يقتدى به. الإمام: هو من يقتدى به، المهدين يعني: الذي وفقهم الله للهداية، كابن مسعود، فإن ابن مسعود كان بالعراق، وكان يقرئ العلم ويفسر القرآن، فأخذ عنه الشيء الكثير من تفسير القرآن؛ ولذلك ورد عنه - رضي الله عنه - أنه قال: " إني لأعلم كل آية من كتاب الله أين نزلت وفيمن نزلت " .
ـــــــــــــــــــــــ(2/139)
قال: وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وقد دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعلمه الله التأويل، وهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بذل من نفسه في صغره، فكان يهين نفسه في طلب العلم، وكان يذهب للواحد من علماء الصحابة في وقت القائلة، فينام عند بابه ينتظر خروجه ليسأله شيئا من مسائل الشرع.
وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعتمد على ابن عباس في مسائل العلم، وورد أن بعض كبار الصحابة كان يتعلم من ابن عباس، وكان عبد الرحمن بن عوف يتعلم من ابن عباس. ونظرا لما لدى ابن عباس من العلم مع صغره، أدخله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في مجلسه للحديث في مسائل العلم مع علماء الصحابة.
وأنتم تعرفون ما ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) } (1) فإن الصحابة سألهم عمر عن تفسير السورة، فأجابوا بإجابات معتمدة على ظاهر هذه السورة، ثم سأل ابن عباس، فقال: هذا أجَلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعي إليه، فقال عمر: والله لا أعلم من هذه الآية إلا كما قلت.
وورد عنه الرجوع إلى ابن عباس في عدد من المسائل وفي تفسير القرآن، وكذلك بعد عمر كان الناس يرجعون إلى ابن عباس في تفسير القرآن.
ومن هنا نعلم أن قول بعضهم: إن السن له اعتبار، فيه وجهان: أحدهما صحيح، والآخر خاطئ. فإن بعض الناس وإن لم يبلغ من السن شأوا كبيرا، لكنه بذل من نفسه في تعلم العلم وبذل للأسباب في تحصيله فحصّله، فهذا يرجع إليه؛ لوجود مناط الحكم عنده وهو معرفة علوم الشريعة، وحينئذ ما ورد عن سلف الأمة في عدم اتباع الأصاغر يراد به الأصاغر في العلم، ليس الأصاغر في السن.
تفسير القرآن بأقوال التابعين
قال المؤلف: "وإذا لم تجده". هذه هي الطريقة الرابعة حسب تقسيم المؤلف، والطريقة الخامسة حسب تقسيمنا؛ لأن المؤلف قال:
أولا: الكتاب.
__________
(1) - سورة النصر آية : 1.(2/140)
وثانيا: السنة.
وثالثا: أقوال الصحابة.
ـــــــــــــــــــــــ
ورابعا: هنا أقوال التابعين.
وجعلناها نحن خمسة أقسام:
القسم الأول: الكتاب.
والثاني: السنة.
والثالث: الإجماع.
والرابع: أقوال الصحابة.
قال: "وإذا لم تجده"، يعني: وإذا لم تجد تفسير القرآن في الطرق السابقة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك -يعني في تفسير القرآن- إلي أقوال التابعين؛ وذلك لأن التابعين قد تلقوا العلم عن الصحابة، فأقوالهم مظِنة لكونها مأخوذة عمن سبقهم.
وثانيا: أن التابعين في القرون المفضلة التي شهدت النصوص بخيريتهم، وقد ورد في الحديث: " خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. " وهذا أحد الأقوال في المسألة: هو أن التابعين يرجع إلى أقوالهم في تفسير القرآن.
والقول الثاني: بأن التابعين لا يرجع إلى أقوالهم، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو ظاهر اختيار المؤلف؛ لأنه لما قال: "فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين" كأنه يحكي قول غيره، مما يدل على أنه يختار خلاف هذا القول. والظاهر أن قول التابعي يستدل له ولا يستدل به.
قال المؤلف: "كمجاهد"، مجاهد بن جبر من تلاميذ ابن عباس، وقد ذكر بأنه عرض المصحف على ابن عباس عرضات من فاتحته إلى خاتمته، وكان يوقفه عند كل آية يسأله عن معانيها، فيما نزلت وكيف نزلت وكيف معناها.
قال: "وسعيد بن جبير". وسعيد بن جبير مات ولم يبلغ سن الأربعين، وقد كانت الأمة ترجع إليه، وأنتم تعرفون حادثته: خرج مع ابن الأشعث أو شاركهم، فقتله الحجاج. وقد ورد عن سلف الأمة بيان مكانة سعيد بن جبير في تفسير القرآن، وسعيد بن جبير من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما.
قال: "وعكرمة". عكرمة مولى ابن عباس، وقد ألزمه ابن عباس المُكث بين يديه لتعلم العلم.(2/141)
قال: "وعطاء". ظاهر هذه العبارة أنه عطاء بن أبي رباح، وقد حكي عن عطاء من قِصره وسواد لونه وغزارة علمه، وكان مختصا بالمناسك، وكان ينادى في المناسك: لا يفتي في المناسك إلا عطاء بن أبي رباح. وعطاء أيضا من تلاميذ ابن عباس، فهؤلاء السابقون كلهم من تلاميذ ابن عباس، أخذوا العلم عنه.
ـــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف: "والحسن". يعني: الحسن البصري، متوفى سنة 110 هـ، كان من علماء الأمة في العراق. ومسروق، وسعيد بن المسيب، وهؤلاء من علماء الأمة الذين يرجع إليهم في التفسير على أحد القولين في هذه المسألة، وهذه الطبقة كلها من طبقة التابعين.
قال المؤلف: "وكمالك" أتى بحرف الكاف من أجل بيان أن من بعد الكاف طبقة أخرى مغايرة للطبقة السابقة، الطبقة السابقة في التابعين، وهذه الطبقة هم تابعو التابعين.
والإمام مالك إمام دار الهجرة وعالم المدينة، والثوري (سفيان بن سعيد)، والأوزاعي (عبد الرحمن بن عمرو)، والحمادَين (حماد بن زيد، وحماد بن سلمه)، وأبو حنيفة الإمام المعروف، هؤلاء يرجع إليهم في التفسير، وغيرهم من تابعي التابعين، وقد ورد في النص الثناء على القرون الثلاثة المفضلة، وهؤلاء منهم، وقد نقلوا العلم عن التابعين.
قال المؤلف: "وكالشافعي". انتقل من طبقة إلي طبقة، الطائفة السابقة تابعو التابعين، وهؤلاء أتباع تابعي التابعين: كالشافعي، وأحمد، وهما إماما المذهبين المعروفين في الفقه، وإسحاق بن راهويه، وهو من أئمة أهل السنة، وأبي عبيد كذلك، وأمثالهم من أتباع تابعي التابعين.
أنواع الاختلاف بين الصحابة في التفسير(2/142)
قال الشيخ -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية-: وقد يقع في عباراتهم -يعني في تفسيرهم للقرآن- تباين في الألفاظ، فيقع في تفسير هذه الطبقات من الصحابة والتابعين اختلاف، وهذا الاختلاف ليس اختلافا حقيقيا، وإنما هو اختلاف وتباين في اللفظ دون المعنى، من أمثلة ذلك تفسير الشيء بأمثلته، فيأتي فيفسر أحدهم الحنطة بأنها القمح، ويفسر الآخر الحنطة بأنها الحَب الذي يأتي منه الدقيق، وهكذا .. فهذا الاختلاف اختلاف في الترادف، الأسماء المترادفة لهذا اللفظ المفسر، ومن أمثلته أن يفسر أحدهم السيف باسم من أسمائه كالهندية، أو يفسر الأسد يفسر أحدهم الأسد بأنه الليث، ويفسره الآخر بأنه الهزبر، فكلاهما تفسير صحيح، ولا تضاد بين اللفظين.
فهذا النوع الأول: من أنواع الاختلاف بين الصحابة في التفسير: الاختلاف بإيراد ألفاظ مترادفة، الاختلاف بسبب ترادف الألفاظ.
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
والنوع الثاني: الاختلاف بسبب الاختلاف في التمثيل، فأحدهم يأتي بمثال والآخر يأتي بمثال آخر، كان يقول أحدهم: الدقيق هو الذي يصنع منه الخبز، ويقول الآخر: الدقيق هو الذي يطحن من القمح. فهنا اختلاف في التمثيل وليس اختلافا في التفسير، فكل منهم فسر القمح بلازمه، فإنه يلزم الدقيق أن يصنع منه بعض المأكولات، وهذا الدقيق ناتج عن القمح.
والنوع الثالث: اختلاف بين الصحابة في تفسير القرآن بسبب ذكر بعض الأجزاء والأفراد، ومثال ذلك تفسيرهم لقوله -تعالى-: { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) } (1) فإن بعض الصحابة قال: إن الصراط المستقيم هو الإسلام، وبعضهم قال: هو فعل الطاعات، وبعضهم قال: هو العلم، وبعضهم قال: هو القرآن. فكل منهم قال بجزء من تفسير هذا اللفظ، ولا تناقص بينهم.
__________
(1) - سورة الفاتحة آية : 6.(2/143)
قال: وقد يقع -يعني يوجد في عباراتهم يعني في تفسيرهم للقرآن، في تفسير الصحابة والتابعين للقرآن- تباين في الألفاظ، يحسبها -يعني يظنها- من لا علم عنده اختلافا حقيقيا، وليس كذلك -يعني وليس الأمر كذلك-، فلا يوجد هناك اختلاف حقيقي، وإنما هو اختلاف في اللفظ دون الحقيقة، فإن منهم -يعني إن من الصحابة- من يفسر اللفظ من القرآن بلازمه -كما قلنا في صناعة الخبز من الدقيق-، أو نظيره -أي ما يماثله-، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، فالذي يفسر الشيء بلازمه كالذي يقول: القمح هو الذي يصنع منه الخبز، أو يطحن منه الدقيق، أو نظيره، كأن يقول: القمح نبات مماثل للشعير، ومنهم من ينص عن الشيء بعينه، فيقول: القمح هو الحنطة. ولذلك الخلاف بين الصحابة في تفسير القرآن قليل.
وقوله هنا: النظير، الأصل في النظير هو المقابل للشيء، ولذلك يقال: فلان يتناظر مع فلان، وبينهم مناظره، يعني: يقابله. والغالب في إطلاق النظير على المضاد للشيء الذي يكون بينه وبين نظيره نوع تسابق لحيازة شيء ما، وحينئذ فالأصل في كلمة "النظير" أنها تقع على الأشياء المتشابهة في الصورة المختلفة في الحكم.
ـــــــــــــــــــــــ
أوجه التفسير
قال المؤلف: "ويرجع إلى لغة القرآن". يعني أننا عند تفسير القرآن نرجع إلى لغة القرآن، فإذا وجدنا لفظا في القرآن وأردنا أن نفهمه، رجعنا إلي هذا اللفظ في المواطن الأخرى التي ذكر فيها هذا اللفظ، ففهمنا معنى هذا اللفظ من سياقه ومدلوله؛ فجاءتنا لفظة "الصراط المستقيم" في مواطن عديدة في القرآن، عندما لم نعرف معناها في الموطن الأول، ذهبنا نبحث عن المواطن الأخرى التي ذكر فيها اللفظ، فنظرنا في سياق اللفظ والقرائن المحتفة به، فعرفنا معانيه في تلك المواطن، ففسرنا الموطن الأول بها.(2/144)
وقد ألف العلماء مؤلفات في الوجوه والنظائر، مما يعين الإنسان على فهم لغة القرآن، كما أنه وجد في العصر الحاضر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، وهو يعين الإنسان على معرفة لغة القرآن.
قال المؤلف: "أو السنة". يعني أن المفسر يرجع في فهم معاني القرآن إلى لغة السنة؛ إذا وجدنا لفظا مستخدما في الكتاب، وأردنا أن نعرف معانيه، ذهبنا نبحث عن هذا اللفظ في الأحاديث النبوية فعرفنا دلالته من خلال سياقه وما يحتف به من القرائن.
قال: "أو لغة العرب"، أي أنه يرجع في تفسير القرآن إلي لغة العرب، وذلك لأن القرآن نزل بلغتهم: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) } (1) { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) } (2) ؛ فإذا أردنا أن نعرف معاني القرآن، فلا بد أن نعرف معاني كلام العرب.
قال المؤلف: "ومن تكلم"، يعني أن المكلّف هو الشخص الذي يتكلم في تفسير القرآن بما .. -يعني بالألفاظ- وبالتفسير الذي يعلمه من ذلك -يعني من الطرق السابقة- من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة، ولغة العرب لغة وهو الطريق الأخير، وشرعا وهو الطرق السابقة، فإنه حينئذ لا حرج عليه.
وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبى طالب - رضي الله عنه - أنه " ليس عندنا شيء نختص به دون الناس إلا ما في هذه الصحيفة، ففيها العقل وأسنان الإبل، وإلا فهما يؤتاه رجل في القرآن " .
ـــــــــــــــــــــــ
وقد أمرنا الله - عز وجل - بتدبر القرآن، ولا يكون ذلك إلا بالبحث في تفسيره، وبتفسيره من خلال هذه الطرق السابقة، فهذه طرق سائغة لا حرج على الإنسان عند تفسيره القرآن بها.
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 3.
(2) - سورة الشعراء آية : 195.(2/145)
ثم ذكر المؤلف طريقا لا يصح تفسير القرآن به، فقال: ويحرُم -يعني يحرم تفسير القرآن- بمجرد الرأي، فمن فسر القرآن بالرأي المجرد فإنه آثم. وقوله: "بمجرد الرأي" يعني: الرأي الذي لا يستند إلي كتاب أو سنة أو لغة، أو أقوال الصحابة، فإن كان الرأي مستندا إلى واحد من هؤلاء، فلا حرج على المرء فيه.
وقد تواترت النصوص الشرعية بتحريم القول على الله بلا علم، قال -تعالى-: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } (1) وقال -سبحانه-: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (2) قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه:
الوجه الأول: وجه تعرفه العرب من كلامها، وهذا هو الألفاظ اللغوية التي تفسر بمقتضى اللغة: كتفسير الحروف المجردة، وتفسير الكلمات التي يستعملها أهل العربية كقوله: جبل، سماء، أرض، قمر، شمس. هذه يعرفها الناس من خلال معرفة لغة العرب.
والنوع الثاني: تفسير -يعني للقرآن- لا يعذر أحد بجهالته، والمراد به ما يلزم العبد على جهة الوجوب والحتم، فإنه يجب عليه أن يتعلمه، ولا يعذر أحد بجهالته، فقوله: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (3) لا بد أن تكون عالما بكيفية الصلاة، ولا تعذر بعدم علمك.
النوع الثالث: وتفسير يعلمه العلماء، يعني: دون عامة الأمة، وهو المذكور في قوله -تعالى-: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (4) ومن أمثلة ذلك: استخراج الأحكام من الأدلة؛ فإن أخذ الحكم من الدليل الشرعي لا بد أن يكون مبنيا على القواعد الأصولية، فمن لم يعرف القواعد الأصولية لم يحق له أن يستخرج الأحكام الشرعية من
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
القرآن، والقواعد الأصولية مما يختص العلماء بمعرفتها، ويختص العلماء بالقدرة علي تطبيقها على النصوص الشرعية.
ومما يعلمه العلماء أيضا بيان المجملات في القرآن، وتخصيص العموم، وتقييد المطلق.
النوع الرابع: تفسير لا يعلمه إلا الله، وهو ما استأثر الله بعلمه، ومن أمثلته: كيفية الصفات، استأثر الله بعلمها، ومن أمثلته أيضا: تفاصيل ما في الجنة والنار؛ لذلك ورد في الحديث: " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " .
وقد يكون هناك أشياء متعلقة بما في القرآن، لكنها لم توضح ولم تبين، وعدم إيضاحها وعدم بيانها هو لعدم انتفاعنا بإيضاحها وتوضيحها وتفسيرها، ومن أمثلة ذلك: لون كلب أصحاب الكهف، ما هو لونه؟ أيش لونه؟ لا نعلمه، لماذا لم يخبرنا الله به؟ لأنه لا فائدة لنا فيه.
مناهج الناس في التفسير
المنهج الأول تفسير أئمة السلف
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 21.
(2) - سورة الإسراء آية : 36.
(3) - سورة الأنعام آية : 72.
(4) - سورة النساء آية : 83.(2/146)
التفاسير
قال -رحمه الله تعالى-: التفاسير. أحسن التفاسير مثل تفسير عبد الرزاق، ووكيع وعبد بن حميد، ودحيم، وتفسير أحمد وإسحاق وبقي بن مخلد، وابن المنذر وسفيان بن عيينة وسنيد، وتفسير ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبي سعيد الأشج، وابن ماجه، وابن ماردويه، والبغوي، وابن كثير.
وحدَث طوائف من أهل البدع تأولوا كلام الله على آرائهم، تارة يستدلون بآيات الله على مذهبهم، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم، كالخوارج، والرافضة، والجهمية والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة وغيرهم.
قال الشيخ: وأعظمهم جدالا المعتزلة، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم، مثل: تفسير ابن كيسان الأصم، والجبائي، وعبد الجبار الهمداني، والرماني، والكشاف. ووافقهم متأخرو الشيعة: كالمفيد، وأبي جعفر الطوسي، اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، ومنهم حسن العبارة يدس البدع في كلامه، كصاحب الكشاف، حتى إنه يروج على خلق كثير.(2/147)
وذكر أن تفسير ابن عطية وأمثاله، وإن كان أسلم من تفسير الزمخشري، لكنه يذكر ما يزعم أنه من قول المحققين، وإنما يعني طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة.
وذكر الذين أخطئوا في الدليل، مثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، يفسرون القرآن بمعان صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير، وإن كان فيما ذكره ما هو معان باطلة، فإن ذلك يدخل في الخطأ في الدليل والمدلول جميعا، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدا.
وبالجملة: مَن عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعا، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب.
ـــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف هنا ما يتعلق بالتفاسير (تفاسير القرآن)، فبين مناهج الناس في التفسير، فالمنهج الأول في التفسير منهج صائب مصيب، وهو تفسير أئمة السلف الذين يفسرون القرآن بواسطة الطرق السابقة.
قال: "أحسن التفاسير": يعني: في منهجها وطريقتها واعتمادها على النصوص الشرعية كتابا وسنة، ومثل لها بتفسير عبد الرازق والصنعاني، وتفسير وكيع بن الجراح، وتفسير عبد بن حميد، وتفسير دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم العثماني الحافظ، وتفسير الإمام أحمد، وتفسير إسحاق بن راهويه، وتفسير بقي بن مخلد القرطبي، وتفسير ابن المنذر الشافعي، وتفسير سفيان بن عيينة، وتفسير سنيد حسين بن داود الإمام المشهور.(2/148)
وأغلب هذه التفاسير إما أنه اقتصر على تفسير آيات خاصة، يعني لا يوجد فيها تفسير لجميع الآيات، ثم ذكر المؤلف العلماء الذين عنوا بتفسير القرآن، بحيث لم يغفلوا منه آية، فقال: وتفسير ابن جرير (محمد بن جرير الطبري)، وتفسير ابن جرير موجود اليوم وهو بين أيدينا، وقد استوعب تفسير القرآن، وذكر فيه تفسيره بالمأثور من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته.
وكذلك تفسير ابن أبي حاتم، فإن هذا قد وجد منه أجزاء طبعت، وحاول المحقق تكميل المفقود منه من خلال كتاب الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ولكنه حصلت مفارقة وممايزة بين الاثنين، فأحدهما بالإسناد والآخر بدون إسناد.
ثم ذكر المؤلف عددا من أهل العلم الذين اشتهروا بالتفسير، ومنهم الأشج، وابن ماجه، وابن ماردويه، والبغوي، وابن كثير، وهذا الصنف الأول من أصناف المفسرين، من سار على الطرق السابقة في تفسير القرآن بالكتاب والسنة والإجماع من أقوال الصحابة، وبلغة العرب.
المنهج الثاني من أنزل القرآن على عقيدته تعصبا لمذهبه
ثم ذكر المؤلف الطريق الثاني، أو النوع الثاني من أنواع التفاسير، وهم الذين يكون عندهم عقائد مقررة، فيحاولون تنزيل القرآن عليها تعصبا لآرائهم، وهذا من أعظم الفوارق بين أهل السنة وغيرهم؛ أهل السنة عندهم
ـــــــــــــــــــــــ
الكتاب والسنة مقدم على كل شيء حتى على آراء أصحابهم، وأهل البدع تعصبوا لأصحابهم فتركوا الكتاب والسنة ونبذوهما.
قال المؤلف: "وحدث طوائف من أهل البدع". يعني أن هؤلاء من أهل البدع حدثوا، فليسوا من سلف الأمة، وليسوا من القرون المفضلة، وطوائف جمع طائفة، وهي الفرقة من الناس.(2/149)
" تأولوا كلام الله على آرائهم" ما معنى كلمة تأولوا؟ فسروا، يحتمل أن هذا هو المراد، ويحتمل أن المراد صرفوا ظاهر ألفاظ القرآن على وفق أهوائهم، كما تقدم معنا في كلمة "التأويل" ومعناها سابقا، وأنها على ثلاثة معان: تأولوا، فسروا، أو صرفوا ظاهر كلام الله من أجل آرائهم، "على آرائهم" يعني: على مذاهبهم التي ينتهجونها ويرونها. فحينئذ هذا القسم الثاني أخطئوا في شيئين: أخطئوا في المدلول، هو الرأي الذي يرونه، وأخطئوا في الدليل؛ لأنهم فسروه بغير المراد منه.
الطائفة الأولى أصابت في الدليل والمدلول، والطائفة الثانية هذه أخطأت في الدليل والمدلول.
قال: تارة يستدلون بآيات الله على مذهبهم، مع أن هذه الآيات لا تدل على مذاهبهم، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم، فيقولون: ظاهر القرآن ليس مرادا، لماذا؟ لأنه خالف مذهبهم. ومن أمثلته قول المعتزلة بنفي رؤية الله -سبحانه وتعالى-، هم يقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، استدلوا على ذلك بقوله -تعالى-: { لَنْ تَرَانِي } (1) وهذه الآية لا تدل على نفي الرؤية، وإنما تدل على عدم القدرة على الرؤية في الدنيا.
وقول المعتزلة: "لن" تفيد التأبيد، هذا قول خاطئ مخالف لغة العرب، لذلك قال ابن مالك -رحمه الله-:
ومن رأى النفي بـ"لن" مؤبدا
قوله اردد وسواه اعددا
ڑ
وتارة يأتيهم النص، فيقولون: ظاهره غير مراد. فلما جاء قوله -تعالى-: { * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (2) فسروا الزيادة بخلاف ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النظر إلى رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 143.
(2) - سورة يونس آية : 26.(2/150)
ومثله أيضا: صفة الكلام، فلما قيل لهم قوله -تعالى-: { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } (1) في بعض أصناف الكفار والمنافقين، دل ذلك على أنه يكلم أهل الإيمان، ففسروا هذا اللفظ بخلاف ظاهره، لما جاء قوله -تعالى-: { وَجَاءَ رَبُّكَ } (2) قالوا: لا، هذا المراد به: وجاء أمر ربك؛ لأنه قد تقرر في أذهانهم نفي الصفات الاختيارية عن الله - عز وجل - .
قال: "وتارة يتأولون"، يعني أن أهل البدع مرة يحرفون آيات الله، ويتعسفون في جهرها تدل على مذهبهم وهي لا تدل عليه، ومرة يجدون نصوص الكتاب والسنة تخالف مذهبهم، فحينئذ يتأولون ما في القرآن والسنة ويصرفونه عن ظاهره، فقوله هنا: "يتأولون ما يخالف مذهبهم"، ما معناه؟ أيش معنى كلمة "يتأولون"؟
لا .. خطأ، يفسرون خطأ، يصرفون اللفظ عن ظاهره، فتأولوا الأولى تحتمل المعنيين، ولا تحتمل المعنى الثالث الذي هو حقيقة الشيء، وتأول الثانية هنا لا يمكن أن يراد بها إلا صرف اللفظ عن ظاهره.
ومثل المؤلف لهؤلاء الذين فسروا القرآن بالخطأ في الدليل والمدلول، قال: كالخوارج، والخوارج هم الذين يرون الخروج على الأئمة، ويرون التكفير بالكبائر والذنوب، والرافضة وهم الذين يرفضون الشيخين، والجهمية هم الذين ينفون الصفات، ويقولون بكون العبد مجبورا على أعماله، والمعتزلة وهم الذين لهم الأصول الخمسة وتقدمت معناها، والقدرية وهم الذين ينفون القدر، ويقولون: العبد يخلق فعل نفسه. والمرجئة وهم الذين يخرجون الأعمال من مسمى الإيمان، وغيرهم من الطوائف الفاسدة الضالة.
وهم يتفاوتون في هذا الأمر: فمنهم من يكون تحريف القرآن وتأويله عندهم كثيرا، ومنهم من يكون ذلك عنده قليلا، فمثلا الباطنية عندهم من التحريف للقرآن أعظم من الطوائف الأخرى؛ لأنهم حتى الصلاة والصيام والحج والجنة والنار يتأولونها ويخرجونها عن دلالاتها.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 174.
(2) - سورة الفجر آية : 22.(2/151)
قال الشيخ -المراد به شيخ الإسلام ابن تيمية-: وأعظمهم جدالا المعتزلة، فهم يجادلون، وعندهم من فنون الجدل ما ليس عند غيرهم، ويزعمون أنهم أهل العقل، وفي الحقيقة أن أهل العقل هم أهل السنة والجماعة، فهم أهل السمع والعقل، والسمع والعقل متوافقان متعاضدان ولا يتعارضان.
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
قال: "وقد صنفوا" -يعني أصحاب الصنف الثاني الذين أخطئوا في الدليل والمدلول- تفاسير على أصولهم -يعني على وفق مذاهبهم التي يرونها-، مثل: تفسير ابن كيسان الأصم، والجبائي، وعبد الجبار الهمداني، والرماني، والكشاف -يعني يريد تفسير الزمخشري-، ووافقهم متأخرو الشيعة، فألفوا تفاسير على وفق معتقداتهم، وصرفوا القرآن على وفق آرائهم، فالمقدم عندهم مذهب آرائهم: كالمفيد، وأبي جعفر الطوسي، اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، بخلاف الصنف الأول، فإنهم عندهم المقدم هو النصوص والأدلة، والآراء تنتج عن النصوص والأدلة، عن الكتاب والسنة، وهؤلاء عندهم المقدم آراؤهم ومعتقداتهم، والكتاب والسنة يحملان على آرائهم ومعتقداتهم.
قال: ومنهم -يعني ومن أهل هذا الصنف- حسن العبارة -يعني يتكلم الكلام الفصيح وبكلام يروق للناس-، لكنه يدس البدع في كلامه -يعني يخيفها ولا يظهرها- بحيث لا يتبين للإنسان ما فيها من البدعة.
ومن أمثلة ذلك كصاحب الكشاف -يعني الزمخشري-، فأنه يفسر القرآن ويدخل البدع بحيث لا يشعر بها الإنسان، حتى إنه يروج على خلق كثير، ولا يعرفون ما فيه من البدع، ولذلك قالوا: استخرجنا الاعتزال من الكشاف بالمناقيش؛ لأن ما يلحظها كل إنسان.(2/152)
ونمثل لهذا بمثال، قال -تعالى-: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) } (1) قال: بإدخالهم الجنة، وهذا أعلى أنواع النعيم.
وهذا -يعني دخول الجنة- أعلى أنواع النعيم. ماشي ولا فيه إشكال؟ نعم، هذا خطأ؛ لأنه ورد في حديث جرير: " أن أعظم النعم هو النظر إلى وجه الله - عز وجل - " ولذلك قال في أوله: "الحمد لله الذي جعل القرآن"، ماشي ولا ما هو ماشي؟ هذا خطأ، لماذا؟ هذا بناء على مذهبهم في كون القرآن مخلوقا، طيب، فإن قال قائل: { جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا } (2) قيل: هنا { جَعَلْنَاهُ } (3) فعل جعل تعدى إلى مفعولين، وأما هناك جعلوا القرآن لم يتعد إلا إلى مفعول واحد، فيفرق بينهما.
المقصود أن مثل هذه الأشياء توجد في تفسير الكشاف، ولا ينتبه إليها كثير من الناس، وذكر -يعني أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر- أن تفسير ابن عطية وهو "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" -وقد طبع الكتاب في
ـــــــــــــــــــــــ
قطر- وأمثاله، وإن كان أسلم من تفسير الزمخشري، لكنه يذكر ما يزعم أنه من قول المحققين -يقول: قال المحققون- وإنما يعني طائفة من أهل الكلام؛ لأن ابن عطية من الأشاعرة، فيذكر مذهب الأشاعرة بقوله قال: المحققون في تفسير هذه الآية.
قال: إنما يعني طائفة من أهل الكلام، المراد الكلام المذموم، وهو بناء العقائد على أصول مخالفة لأدلة الشريعة؛ لأن كلمة "الكلام" تقدم عندنا أنه قد يراد بها المعتقد مطلقا، لذلك يقال: "علم الكلام"، وقد يراد بها بناء المعتقد على أصول مخالفة لأصول أهل الإسلام، كأصول الفلاسفة اليونان أو غيرهم.
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 72.
(2) - سورة الزخرف آية : 3.
(3) - سورة الزخرف آية : 3.(2/153)
قال: الذين قرروا أصولهم بطرق -يعني: هؤلاء أهل الكلام الذين ذكرهم ابن عطية بقوله: قال المحققون، هم من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق مخالفة لطرق الشريعة، وطرق أهل السنة والجماعة- من جنس ما قررت به المعتزلة يعني مذاهبهم.
المنهج الثالث الذين أخطئوا في الدليل مثل كثير من الصوفية والوعاظ
قال: "وذكر"، يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ذكر الذين أخطئوا في الدليل، هذا النوع الثالث من الأنواع، الأولون أصابوا في الدليل والمدلول، والثاني أخطئوا في الدليل والمدلول، والثالث أصابوا في المدلول، لكنهم أخطئوا في الدليل، فهم يأتون بمعان صحيحة صائبة، ويقولون: إن القرآن قد دل عليها وهو لم يدل عليها، فالمدلول صحيح، لكن قولهم هذه الآية تدل على هذه المعنى ليس صحيحا، فهم أخطئوا في الدليل، وإن كانوا قد أصابوا في المدلول.
وذكر الذين أخطئوا في الدليل مثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، يفسرون القرآن بمعان صحيحة، هذا المعنى المدلول صحيح، لكن القرآن لا يدل عليها، فهم أخطئوا في الدليل وإن أصابوا في المدلول، ومثل له المؤلف لما ذكره عبد الرحمن السلمي في "حقائق التفسير"، ومن هذا النوع تفسير الإشارة الذي يذكره كثير من الصوفية، .
قال: وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة، يقول: بعض المعاني التي أوردوها باطلة. لكن الغالب أن معانيهم صحيحة صائبة، لكن الإشكال عندهم في جعل القرآن يدل عليها وهو لم يدل عليها، وإن كان فيما
.
ـــــــــــــــــــــــ
ذكروه -يعني في التفسير الذي ذكره هؤلاء- ما هو معان باطلة، فيكون عندهم مرة خطأ في الدليل والمدلول، وهو الذي سيأتي، وعندهم مرة خطأ في الدليل دون المدلول، وهو الذي سبق.(2/154)
فإن ذلك -يعني هذا القسم الأخير الذي فسروا القرآن فيه بمعان باطلة- يدخل في الخطأ في الدليل والمدلول جميعا. أخطئوا في الدليل لأنهم فسروا القرآن بغير المراد به، وأخطئوا في المدلول بإيراد معنى مخالف لمعنى القرآن، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدا.
قال المؤلف: وبالجملة من عمل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك، كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا -لماذا؟-؛ لأنه قد خالف طرق تفسير القرآن، وأتى في الشريعة بطريق جديد لم يكن واردا فيها.
وأنتم تعلمون أن البدعة هي عبادة الله بطريقة جديدة مخترعة لم ترد في الكتاب والسنة ولا في الشريعة. فالذين فسروا القرآن بطرق غير شرعية لم يفسروه بالقرآن والسنة والإجماع وأقوال الصحابة ولغة العرب، هم جاءوا بطريقة جديدة في الدين، فيكون فعلهم في تفسير القرآن بدعة.
قال: وإن كان بعضهم مجتهدا مغفورا له خطؤه؛ لأنه لم يعلم الأدلة التي توجب عليه أن يقول بتفسير القرآن بمقتضى الطرق السابقة.
فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب، وهذه المسألة -المسألة السابقة- وهي حكم المخطئ في الأصول، وهل يأثم بها أو لا يأثم؟
الجماهير يقولون: إن المخطئ في النصوص آثم؛ لما ورد من النصوص من ذم البدعة والمبتدعين، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم وجماعة يرون أنه غير آثم، وينسبونه إلى السلف، وإذا تأمل الإنسان في هذين القولين لم يجدهما تواردا على محل واحد، فالجمهور يقولون هو آثم يعني إذا وصل إليه الدليل القطعي فخالفه، والشيخ يقول: هو غير آثم؛ وذلك لأنه لم يصل إليه الدليل القطعي.
فهم متفقون على أن من وصله الدليل القطعي فخالفه فهو آثم ومستحق للعقوبة، وهم متفقون أيضا على أن من لم يصل إليه الدليل القطعي، فإنه مخطئ قطعا لكنه غير آثم؛ لقوله -تعالى-: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } (1) .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 15.(2/155)
.
ـــــــــــــــــــــــ
قال: فالمقصود من هذا الفصل بيان طرق العلم، يعني: السبل والمسالك التي نسلكها من أجل تحصيل العلم، وبيان أدلته، ومعرفة طرق الصواب التي نتمكن من خلالها من تفسير القرآن تفسيرا يتضح لنا من خلاله مراد الله -سبحانه وتعالى- بكلامه في القرآن، لعلنا نقف على هذا.
نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهديين، وأن يرد الأمة إلى دينه ردا جميلا، وأن يوفق علماء الأمة لبيان أحكام هذه الشريعة، وللدلالة على تفسير القرآن ومعرفة معانيه، كما نسأله -سبحانه- أن يكفي هذه الأمة شر أعدائها، وشر من أراد بها سوءا، ونسأله -سبحانه- أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يردهم إلى دينه، وأن يجعلهم متمسكين بشريعته محكمين لكتابه، عاملين بسنة نبيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن مما ينبغي للإنسان العناية به والاهتمام به أن يسجل في أثناء شرح هذا الكتاب؛ فإن بالتسجيل يتم استعمال جميع الحواس -البصر، وإحساس اليد، والسمع- في هذا العلم، وبالتالي تبقى هذه المعلومات؛ ولذا كان كلامنا في هذا الشرح مترسلا من أجل أن يتمكن من يريد الكتابة من الكتابة، وأما من لم يكتب، فإن الملل قد يسارع إليه؛ ولذلك أرغب إليكم التسجيل والكتابة من أجل أن تبقى هذه المعلومات، ومن أجل أن يبقى الذهن حاضرا، ومن أجل ألا يكون الملل قد عرف طريقه إليكم.
الأمور التي نتج عنها اختلاف المفسرين في تفسير القرآن
نواصل ما كنا ابتدأنا به الحديث عند مقدمة التفسير، نعم.(2/156)
سبب الاختلاف
بسم الله الرحمن الرحيم . والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: سبب الاختلاف
منه ما مستنده النقل، أو الاستدلال، والمنقول إما عن المعصوم أو لا، فالمقصود وإذا جاء عنه من جهتين أو جهات من غير تواطؤ فصحيح، وكذا المراسيل إذا تعددت طرقها، وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول أوجب العلم، والمعتبر في قبول الخبر إجماع أهل الحديث، وله أدلة يعرف بما أنه صدق، وعليه أدلة يعرف بها أنه كذب، كما في تفسير الثعلبي والواحدي الزمخشري وأمثالها، وهو قليل في تفاسير السلف، وما نقل عن بعض الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين.
والإسرائيليات تذكر للاستشهاد لا للاعتماد، وما علمت صحته مما شهد له الشرع فصحيح، وما خالفه فيعتقد كذبه، وما لم حكمه في شرعنا فلا يصدق ولا يكذب، وغالبه لا فائدة فيه، والخطأ الواقع في الاستدلال من جهتين حدثتا عمن تقدم ذكرهم من المبتدعة بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم، اعتقدوا معاني حملوا ألفاظ القرآن عليهما، أو فسروه بمجرد ما يسوغ أن يوردوه مما لا يدل على المراد من كلام الله بحال.
وتبعهم كثير من المتفقهة؛ لضعف آثار النبوة والعجز والتفريط، حتى كانوا يروون ما لا يعلمون صحته، وقد يكون الاختلاف لخفاء الدليل والذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح.
ــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف هنا في هذا الفصل أسباب الاختلاف، والمراد بهذا: الأمور التي نتج عنها اختلاف المفسرين في تفسير القرآن فقال: منه -يعني من أسباب الاختلاف-: ما يكون مستندا إلى النقل، فيكون سبب اختلافهم التعارض بين
ـــــــــــــــــــــــ(2/157)
أقوال الصحابة في تفسير الآية، أو يكون سبب الاختلاف هو التعارض بحسب ما يظهر لنا في الأحاديث النبوية في تفسير القرآن، ومن أمثلته ما ورد في تفسير آية الحجاب، فقد قال ابن عباس بقول، وقال ابن مسعود بقول، وحينئذ وقع الاختلاف بين المفسرين في تفسير القرآن.
السبب الثاني من أسباب الاختلاف: الاستدلال، فيأتي مفسر فيفسر القرآن بمقتضى اللغة بفهمه، ثم يأتي مفسر آخر فيفعل ذلك الأمر، فيختلفا في تفسير القرآن لما طبع الله عليه الناس من اختلاف في طبائعهم وأفهامهم، فهذان سببان من أسباب الاختلاف.
ثم قال المؤلف: "والمنقول". هذا عَود إلى ذكر السبب الأول، وهو الاختلاف بسبب النقل، قال: إما عن المعصوم -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بحيث يأتي حديثان متعارضان في ظاهر الأمر، فيرجح أحد المفسرين أحد الحديثين، ويرجح الآخر الحديث الآخر، قال: أولى، يعني: يكون هذا النقل عن غير المعصوم، كأن يكون نقلا عن الصحابة، أو عن التابعين، لما اختلف الصحابة أو التابعون في تفسير القرآن، اختلف المفسرون فيه.
ثم ذكر المؤلف قاعدة متعلقة بالأحاديث: هو أن الحديث ولو كان فيه نوع ضعف، إذا جاء من طرق متعددة، قوى بعضها بعضا.
قال: أولى يعني يكون هذا النقل عن غير المعصوم؛ كأن يكون نقلا عن الصحابة، أو عن التابعين، ولما اختلف الصحابة أو التابعون في تفسير القرآن اختلف المفسرون فيه.
ثم ذكر المؤلف قاعدة متعلقة بالأحاديث، وهي أن الحديث -ولو كان فيه نوع ضعف- إذا جاء من طرق متعددة قوى بعضها بعضا، وهذا كما يقال في أحاديث الأحكام يقال في أحاديث تفسير القرآن، وهذا ما يعرفه أهل الحديث بالحسن لغيره، وقد يتقوى بحيث تكثر الطرق جدا فيكون صحيحا لغيره.(2/158)
قال: وكذا المراسيل، المراد بالمراسيل رواية من لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بإسقاط الصحابي الراوي، وهذا التعريف تعريف المحدّثين، وأما عند الأصوليين فإنهم يقولون: إن المرسل هو ما سقط من إسناده راوٍ فأكثر، في أي طبقة من طبقات الإسناد، فعند الأصوليين أن المرسل يشمل المنقطع الذي سقط منه راوٍ في أثناء السند، ويشمل المعضل الذي سقط منه راويان في أثناء السند، ويشمل المعلق، ويشمل كذلك المرسل في اصطلاح المحدّثين.
.
ـــــــــــــــــــــــ
قال: المراسيل إذا كان المرسِل يسقط الرواة الضعفاء فإن روايته غير مقبولة بالاتفاق، ووقع اتفاق المحدّثين والفقهاء والأصوليين على أن المرسِل إذا كان يسقط في بعض المرات رواة ضعفاء فإن مراسيله غير مقبولة، ومثلوا لها بمراسيل الزهري؛ فإن الزهري إمام من أئمة الحديث، حفظ على الأمة حديثا كثيرا، وكثير من الأحاديث ترجع عليه، لكنه عند الإرسال مراسيله ضعيفة جدا؛ لأنه يرسل عن كل أحد، ويسقط الضعفاء في مراسيله، وحينئذ فلا قيمة لمراسيل الزهري، أما إذا كان المرسِل لا يسقط إلا الثقاة، وعلم من حاله أنه لا يسقط إلا الثقاة، فإنه حينئذ وقع الخلاف فيه على ثلاثة أقوال مشهورة:
الجمهور: على حجية المرسل.
والقول الثاني: قول بعض المحدثين بأنه غير حجة.
والقول الثالث: بأنه إذا وجد له معاضد فإنه يكون حجة، وهذا المعاضد قد يكون مرسلا آخر، وقد يكون عمل صحابي، وهو الذي أشار إليه المؤلف هنا فقال: وكذا المراسيل، يعني الأحاديث التي روى فيها التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون مقبولة إذا تعددت طرقها، وقوله هنا "وكذا" ظاهره أن المراسيل حينئذ تكون صحيحة، وهذا فيه تساهل في التعبير، ويكفي مجرد القبول.(2/159)
ثم ذكر المؤلف مفاد خبر الواحد، والمراد بخبر الواحد ما لم يروه أهل التواتر، الأخبار التي لم يروها أهل التواتر، بأن يكون قد سقط منها شرط من شروط التواتر؛ كأن يكون الرواة له يمكن تواطؤهم على الكذب سواء كان غريبا برواية واحد أو عزيزا برواية اثنين أو مشهورا برواية جمع، فهذا كله يقال له: خبر الواحد؛ فالحديث الذي لم يروه إلا صحابي واحد يكون من باب خبر الواحد.
قال المؤلف: خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول؛ قوله: تلقته يعني أنه قابلته، وأذعنت له، ويدخل في التلقي بالقبول أن يقولوا بصحته أو يعملوا به، وحتى يدخل في التلقي بالقبول أن يتأولوه ولا يتكلموا في إسناده.
ما هو مفاد خبر الواحد: ليعلم أن خبر الواحد المجرد لذاته لم يقل أحد بأنه يفيد العلم لذاته، ولا يوجد أحد يقول كل خبر واحد يفيد العلم؛ لأن الواحد قد يكون كاذبا، وقد يكون غالطا، وإنما اختلف الناس في أخبار الواحد في مفادها على قولين:
القول الأول: بأن خبر الواحد لا يفيد العلم مطلقا، ولا يمكن أن يفيد العلم؛ قالوا: لاحتمال وقوع الخطأ من الراوي الواحد.
.
ـــــــــــــــــــــــ
والقول الثاني: بأن أخبار الآحاد تفيد العلم إذا احتفت بها القرائن، وهذا قول الجماهير من الأصوليين والمحدّثين والفقهاء؛ قالوا: لأننا نجد أخبارا من أخبار الآحاد استفاد الناس منها الجزم واليقين والقطع، ومثلوا لهذه القرائن التي تنقل الخبر من كونه مفيدا للظن إلى كونه مفيدا للقطع بعدد من القرائن، منها ما ذكره المؤلف هنا بأن تتلقاه الأمة بالقبول:
ومن أمثلة ذلك أحاديث الصحيحين، فإن الأمة تلقت ما فيها من أحاديث بالقبول بالجملة.
ومنها أن يكون الخبر من رواية الأئمة المشهورين بالعلم، مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك ونحوهم.(2/160)
ومنها أن يكون الخبر صحيحا لا معارض له، كما يقول بذلك جماعة من المحدثين والأصوليين، قالوا: إذا كان حديثا نبويا بإسناد صحيح لا معارض له فإنه يفيد الجزم واليقين، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة:
منها: أن الله - عز وجل - قد تكفل بحفظ دينه، ولا يحفظ هذا الدين إلا بألا يقع خطأ فيه ثم يخفى على جميع الأمة، فلو كان في خبر الواحد خطأ أو سهو لأطلع الله الأمة عليه أو أطلع بعضا منها.
ومنها: -من الأدلة على أن الخبر الصحيح يفيد العلم إذا لم يوجد له معارض-: أن أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلامه عليه من البهاء والنور ما يمكن تمييزه عن كلام غيره.
ومنها: النظر في أخبار الرواة والناقلين؛ فإن الأمة قد بذلت من أنفسها في حفظ أحوال الرواة جرحا وتعديلا، مما يجعلنا نجزم بأنهم لم يتركوا راويا فيه جرح إلا بينوا حاله، فإذا وردنا الحديث بطريق صحيح دل لنا ذلك على أن هذا الخبر مفيد للعلم واليقين، وهذا القول قول قوي، وعليه أدلة كثيرة؛ ويدل عليه إجماع الأمة على تلقي أخبار الآحاد بالقبول، وإجماعهم على نقل هذه الأخبار، مما يدل على أنها مفيدة لليقين والجزم؛ لأن الإجماع دليل شرعي قطعي.
قال المؤلف: والمعتبر في قبول الخبر إجماع أهل الحديث؛ يقول: إن الأخبار النبوية يرجع فيها إلى أهل الاصطلاح، وهم أهل الحديث؛ لأنهم أعرف برواة الخبر، وأعرف بطرقه، وأعرف بوجود المعارض له من عدم وجود المعارض، فكل فن يرجع فيه إلى أهله، فصحة الخبر وتضعيفه يرجع فيه إلى أهل الفن، ومن ذلك الأخبار الواردة في تفسير القرآن، نرجع في الحكم عليها بالصحة أو الضعف إلى أهل الحديث؛ لأنهم هم الذين يعول عليهم في ذلك.(2/161)
وله -يعني خبر الواحد- أدلة يعرف بها أنه صدق، فقد يوجد مع أخبار الآحاد قرائن تحتف به تدلنا على أن هذا الخبر صدق جزما ويقينا، لكن هناك أيضا أدلة تقارن الخبر يعرف بها أنه كذب؛ كأن يكون مخالفا للقرآن، أو يكون فيه أخطاء نحوية، أو يكون فيه نكارة، قال: وعليه -يعني وعلى خبر الواحد- أدلة يعرف بها، بهذه الأدلة، أنه أن خبر
ـــــــــــــــــــــــ
الواحد كذب، والمرجع في ذلك إلى أهل الحديث كما تقدم، قال المؤلف: "كما في تفسير الثعلبي"؛ يعني أن تفسير الثعلبي فيه أحاديث كثيرة مكذوبة أو ضعيفة، وقد قالوا بأن الثعلبي قد جمع في تفسيره بين الغث والسمين، ولم يميز بين الصحيح والضعيف والموضوع.
قال المؤلف: وكذلك الواحدي والزمخشري وأمثالهم؛ فإن هؤلاء قد جمعوا في كتبهم في التفسير بين الأحاديث الضعيفة والأحاديث الصحيحة، وهو يعني أن الأخبار المكذوبة قليلة في تفاسير السلف؛ فإن في تفاسير السلف يعتنون بصحة الحديث وضعفه في تفسير القرآن، فلا يوردون الحديث الموضوع والمكذوب إلا إذا بينوا حاله.
قال المؤلف: وما نقل عن بعض الصحابة؛ يعني وتفسير القرآن المنقول عن بعض الصحابة نقلا صحيحا، يعني بطريق صحيح بسند مقبول؛ فالنفس إليه أسكن، يعني أن النفس تقبله وتذعن إليه؛ وذلك لأن الصحابة عدول ثقات، فلا يمكن أن يفسروا القرآن بالرأي المجرد، فيكون تفسيرهم له حكم المرفوع على أحد القولين كما تقدم، أو يكون تفسيرهم قول صحابي وقول الصحابي حجة عند جماهير الأمة؛ ولذلك قبل كثير من العلماء تفسير الصحابي للقرآن وإن لم يكونوا يقبلون قول الصحابي بالأحكام الشرعية المجردة، فبعض الناس يقول: قول الصحابي ليس بحجة، يعني في الأحكام، لكن تفسيره للقرآن مقبول؛ إذ إن له حكم المرفوع.(2/162)
قال المؤلف: وما نقل عن الصحابة فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ وذلك لعلو منزلة الصحابة، ولكون الصحابة قد أخذوا القرآن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شاهدوا مواطن تنزيله، وقد سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - معاني القرآن، وعندهم من سليقة العرب ما يتميزون به عن غيرهم.
ذكر المؤلف نوعا آخر مما يفسر به من أنواع المنقول، وهو الإسرائيليات، فالمؤلف هنا ذكر في المنقول الذي يفسر به القرآن ويكون سببا للاختلاف ثلاثة أنواع، أو أربعة أنواع:
النوع الأول: ما نقل عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - والمنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم إلى قسمين: صحيح وضعيف.
النوع الثاني: من أنواع النقل: ما نقل عن الصحابة.
النوع الثالث: من النقل الذي سبب الاختلاف في التفسير: المنقول عن التابعين.
والنوع الرابع: من المنقول: الإسرائيليات، والمراد بالإسرائيليات القصص المنقول عن بني إسرائيل.
.
ـــــــــــــــــــــــ
وهناك فرق بين الإسرائيليات وبين شرع من قبلنا؛ فإن شرع من قبلنا يراد به ما ورد في الكتاب والسنة من الأحكام المتعلقة بالأنبياء السابقين، ولا يختص ببني إسرائيل، أما الإسرائيليات فإنها ليست منقولة من الكتاب والسنة وإنما منقولة عن بني إسرائيل، ثم هي خاصة ببني إسرائيل وأنبيائهم.
قال المؤلف: والإسرائيليات تذكر للاستشهاد لا للاعتماد، فهي تذكر لا لاعتماد تفسير القرآن، وإنما تذكر للتوضيح المجرد فقط؛ فلا يبنى عليها حكم جديد، ولا يصرف بها ظاهر القرآن.
ثم قسم المؤلف الإسرائيليات إلى ثلاثة أنواع:(2/163)
النوع الأول: الإسرائيليات التي عُلم صحتها بشهادة الشرع لها، وذكره بقوله: وما علمت صحته وشهد له الشرع، فقال: فهذا صحيح، والمراد بكلمة صحيح أنه مقبول، وقبوله ليس لذاته وإنما لكون الشرع قد شهد له، وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر بعض ما يأتي عن بني إسرائيل، ومن أمثلته حديث: " حمل السماوات والأراضين على إصبع " .
النوع الثاني: من أنواع الإسرائيليات: ما خالف الشرع فما نقل عن بني إسرائيل مما يخلف الشرع فإنه يعتقد كذبه؛ لأن الكتاب والسنة لا يمكن أن يتضمنا الكذب، فإذا كانت الإسرائيليات مخالفة لما في الكتاب والسنة الصحيحة فهذه الإسرائيليات كذب وباطلة.
النوع الثالث: من أنواع الإسرائيليات: ما لم يأت دليل بتصديقه ولا بتكذيبه، فهذا لا يصدق ولا يكذب، وقد ورد في الحديث: " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " ؛ لأنه يحتمل أن يكون صدقا فإذا كذبناه كذبنا أمرا صحيحا، ويحتمل أن يكون كذبا فإذا صدقناه أخذنا بأمر مكذوب.
قال المؤلف: وغالبه -يعني أن غالب الإسرائيليات التي تكون من القسم الثالث- لا فائدة فيه؛ وذلك لأن شرعنا ولأن الكتاب والسنة قد ذكرا كل ما فيه فائدة لنا، فنكتفي لما في الكتاب والسنة؛ إذ لو كان هناك فائدة لهذه الإسرائيليات لذكر في الكتاب والسنة.
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك أسباب الخطأ في التفسير المتعلق بالاستدلال؛ لأننا سبق أن ذكرنا أن الاختلاف في التفسير ناتج عن أمرين: إما عن اختلاف النقل، والنقل يكون من الطرق الأربعة السابقة، أو اختلاف الاستدلال، قال: والخطأ يقع في الاستدلال في تفسير القرآن من جهتين، وهاتان الجهتان حدثتا عمن تقدم ذكرهم من المبتدعة بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم، فجهات الخطأ الواقع في الاستدلال حصلت من المبتدعة الذين ذكروا في الفصل
(2/164)
ـــــــــــــــــــــــ
السابق، ولم تكن موجودة عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهاتان الجهتان اللتان يحصل بهما الخطأ في الاستدلال في تفسير القرآن هما:
أولا: أنهم قرروا مدلولات ومعاني باطلة ثم حملوا القرآن عليها؛ فأخطئوا في الدليل والمدلول، أخطئوا في المدلول لكونهم تبنوا أفكارا وعقائد باطلة، وأخطئوا في الدليل لكونهم حملوا القرآن على معنى غير مراد به، قال اعتقدوا معاني حملوا ألفاظ القرآن عليها؛ يعني اعتقدوا أحكاما وأفكارا باطلة، ثم فسروا ألفاظ القرآن بتلك المعاني والأحكام، فهذا هو السبب الأول والجهة الأولى من جهات الخطأ في الاستدلال في تفسير القرآن.
قال المؤلف: أو فسروه بمجرد ما يسوغ أن يريدوه؛ يعني القسم الثاني فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ -يعني ما يجوز- أن يريدوه، فهم نظروا في لغة العرب فقالوا: يمكن في لغة العرب أن يراد بهذا اللفظ هذا المعنى، وهذا المعنى يوافق مذهبنا ورأينا، فخالفوا لغة القرآن من أجل أمر جائز في اللغة، فيكون هناك لفظ يستخدم في القرآن كثيرا ويراد به معناه، لا يستعمل إلا في ذلك المعنى لكن هذا اللفظ في لغة العرب يستعمل في هذا المعنى الذي ورد في لغة القرآن، ويستعمل أيضا على لغة الجواز على معنى آخر، فحملوه على ما يجوز في اللغة، وتركوا دلالة لغة القرآن عليه، مع أن كلام الله لا يمكن أن يراد به ذلك المعنى بحال.(2/165)
ومن أمثلته: أنهم أتوا إلى لفظ "الاستواء" ففسروه بمعنى القصد، يقولون: استوى في لغة العرب يجوز أن يراد بها القصد، فقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) بمعنى قصد إليه وعمد إليه، وذلك جائز في لغة العرب، ثم يستدلون على جوازه بأشعار وكلام من كلام العرب، وقد يستدلون عليه بقوله -تعالى-: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } (2) بمعنى قصد إليها وعمد إليها وهم لم يميزوا لغة القرآن؛ فإن القرن -بل لغة العرب كذلك- تفرق بين "استوى" إذا كان قد تعلق به حرف "على" و"استوى" إذا تعلق به حرف "إلى"؛ فإن "استوى" في لغة العرب، تطلق على أنواع مختلفة، منها "استوى" المعدى بـ"إلى"، يقال: استوى إلى كذا بمعنى عمد إليه وقصد إليه، مثل آية البقرة، "استوى على كذا" استعمال آخر، بمعنى علا عليه وارتفع، وقد تستعمل "استوى" مع فاعل واحد بدون تعدية بحرف فتكون بمعنى النضج والتمام، يقال: استوى النبات بمعنى نضج وتم، وقد تستعمل "استوى" بدون أن يتعلق بها حرف وتكون بفاعلين بمعنى التماثل، يقال: استوى فلان وفلان بمعنى تماثلا.
ـــــــــــــــــــــــ
فالمقصود أنهم قد يفسرون القرآن بالنظر فيما يجوز لغة ويتركون دلالة لغة القرآن، وتبعهم كثير من المتفقة؛ يعني أن بعض المتفقهة -المنتسبين إلى الفقه- تبعوا هؤلاء المبتدعين، فتركوا التفسير الصحيح للقرآن من أجل هذين السببين المنشئين للخطأ في التفسير، والسبب في ذلك ضعف آثار النبوة عندهم.
إذن ما هو السبب في كون كثير من المتفقهة يتركون التفسير الصحيح يذهبون إلى تفسير القرآن الخاطئ الذي يقول به بعض أهل البدع؟ هناك أسباب:
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة البقرة آية : 29.(2/166)
السبب الأول: ضعف آثار النبوة عندهم، فليس لديهم من الأحاديث والآيات القرآنية ما يميزون به بين الصواب والخطأ، فحينئذ تبعوا هؤلاء المخطئين في تفسير القرآن؛ لجهلهم بآثار النبوة.
والسبب الثاني: العجز، فقد لا يتمكن الإنسان على معرفة الأدلة الدالة على مراد الله بالقرآن، فيكون ذلك سببا لإقدامه على التفسير الخطأ للقرآن.
والسبب الثالث: التفريط، فيفرط الإنسان في جنب الله بعدم بحثه للأدلة الشرعية التي توضح له الصواب من الخطأ؛ ولوجود هذه الأسباب الثلاثة كان كثير من المتفقهة يروون أحاديث نبوية مكذوبة وضعيفة، ويروون أقوالا لغيرهم وينقلونها، وهم لا يعلمون صحتها.
ومن الأمور المتعلقة بهذا أن بعض الناس قد ينقل خلافا في المسألة، فينقل الأقوال الخاطئة ولا ينقل القول الصحيح فيها؛ فتجد مثلا في مسألة عقدية، مثل مسألة الجبر والقدر، ينقل أقوال القدرية، وينقل أقوال الجبرية، ويجعل الخلاف دائر بين القولين، ولا يذكر قول أهل السنة.
قال المؤلف: وقد يكون الاختلاف لخفاء الدليل؛ هذا السبب الثالث من أسباب الاختلاف في تفسير القرآن، تقدم معنا أنه قد يكون الاختلاف ناشئا من اختلاف النقل، وقد يكون ناشئا من اختلاف الاستدلال، وكذلك قد يكون الاختلاف بين المفسرين من خفاء الدليل، فتكون الآية القرآنية يراد بها معنى جاء بيانه في آية قرآنية أخرى، أو جاء بيانه في حديث نبوي، فيخفى هذا الدليل عن المفسر؛ فيترك القول الصواب ويقول بظاهر الآية، ويكون غيره قد اطلع على الدليل الآخر فيقول به، من أمثلة ذلك قوله -سبحانه-: { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } (1) ؛ ظاهر هذا اللفظ أن التحريم يكون برضعة واحدة، فيقول بعض المفسرين: إن التحريم يثبت برضعة واحد لهذه الآية، ولا يطلع على الحديث الوارد المقيد للرضاعة المحرمة بخمس رضعات؛ فيقع الاختلاف بين المفسرين والفقهاء في تفسير
__________
(1) - سورة النساء آية : 23.(2/167)
.
ـــــــــــــــــــــــ
هذه الآية، هل المراد بها من رضعت رضعة واحدة أو من رضعت خمس رضعات؟
والسبب الآخر من أسباب الاختلاف: الذهول عن الدليل، يكون الدليل واضحا جليا لكنه يذهل الإنسان عنه ويغفل عنه، والإنسان قد يغفل عن أحاديث كثيرة أو يغفل عن نصوص قرآنية كثيرة مع كونه يحفظها؛ ولهذا تجدون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حادثة وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ السيف وقال: من قال: إن محمدا قد مات فعلت به وفعلت، فلما جاء أبو بكر قرأ قوله: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) } (1) وقوله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ } (2) قال عمر: فلما قرأها عقرت. وكان يحفظ هذه الآيات ولكن ذهل عنها.
وقد يكون الاختلاف ناشئا لعدم سماع الدليل، حينئذ لم يقل به، وهو مماثل لخفاء الدليل، لكن خفاء الدليل قد يكون متعلقا بذات الدليل وقد يكون متعلقا بمدلوله، وقد يكون الاختلاف ناشئا من الغلط في فهم النص؛ كأن يكون المفسر لا يعتقد صحة طريق صحيح من طرق الفهم، مثال ذلك: مفهوم المخالفة طريق صحيح من طرق الفهم، فيأتي مجتهد مفسر لا يرى حجية مفهوم المخالفة، فيترك الاستدلال بالدليل القرآني بناء على كونه لا يرى حجية مفهوم المخالفة، ومثل ذلك أيضا دلالة الإشارة.
وقد يكون الاختلاف ناشئا من ظن المفسر أن الدليل يدل على مدلول معين، ولا يكون الدليل كذلك، فهنا غلط في فهم النص.
قال المؤلف: وقد يكون الاختلاف ناشئا من اعتقاد وجود دليل آخر معارض لظاهر اللفظ، فيفسر القرآن بما يتمكن به من الجمع بين هذه المتعارضات، ولا يكون هذا المعارض دليلا صحيحا، نعم يا شيخ.
__________
(1) - سورة الزمر آية : 30.
(2) - سورة آل عمران آية : 144.(2/168)
التفسير
قال رحمه الله -تعالى-: التفسير؛ كشف معاني القرآن وبيان المراد منه، قيل: بعضه يكون من قبل الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض، وأجمعوا على أن التفسير من فروض الكفايات، وهو أجل العلوم الشرعية، وأشرف صناعة يتعاطاها الإنسان، والمعتني بغريبه لا بد له من معرفة الحروف وأكثر من تكلم فيها النحاة، والأسماء والأفعال وأكثر من تكلم فيها اللغويون، ومنه معرفة ما وضع له الضمير وما يعود عليه، والتذكير والتأنيث والتعريف والتنكير، والخطاب بالاسم والفعل.
وأولى ما يرجع في غريبه إلى تفسير ابن عباس وغيره ودواوين العرب، ويبحث عن كون الآية مكملة لما قبلها أو مستقلة، وما وجه مناسبتها لما قبلها، وكذا السور، وعن القراءة المتواترة المشهورة والآحاد، وكذا الشاذة، فإنها تفسر المشهورة وتبين معانيها، وإن كانت لا تجوز القراءة بالشاذة إجماعا.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، ذكر المؤلف هنا فنا من فنون علوم القرآن، وهو فن التفسير، ولا شك أنه من أعظم هذه الفنون، قال المؤلف: التفسير المراد به تفسير القرآن، كشف معاني القرآن، الكشف بمعنى الإظهار والإيضاح، والمعاني المراد بها الدلالات أو المدلولات، كشف معاني القرآن وبيان المراد منه؛ يعني أن التفسير يدخل فيه توضيح مراد الله من ألفاظ القرآن، والتفسير مشتق اشتقاقا أكبر من السفر والسِّفر؛ فإن السفر يكون بالظهور والوضوح، فإذا سافر الإنسان لا يقال له: مسافر إلا إذا ظهر من البلد، فالسفر والفسر متقاربان، قيل: هذا القول من بعض أهل التفسير في تقسيم التفسير، فالتفسير ينقسم إلى قسمين:(2/169)
بعضه -يعني بعض التفسير-: يكون من قبل بسط الألفاظ الوجيزة، كلمة بسط ساقطة من النسخ، والوجيزة المختصرة، فنبسط الألفاظ الوجيزة بأن نوسع هذه الألفاظ، فيأتينا اللفظ الواحد فنفسره بألفاظ عدة، وكشف معانيها، هذا هو القسم الأول من أقسام التفسير؛ أن يأتي لفظ وجيز، لفظ غير معلوم المعنى، فنوضح المراد به، ونبين المعمى الذي قصد به.
ـــــــــــــــــــــــ
والقسم الثاني من أقسام التفسير: يكون بترجيح بعض الاحتمالات على بعض، فيكون هناك أقوال متعددة للمفسرين متعارضة، فنرجح بعضها على بعضها الآخر، فهذه هي أقسام التفسير.
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك حكم تفسير القرآن، فقال: وأجمعوا، والإجماع -كما تقدم- دليل شرعي، على أن علم تفسير القرآن من فروض الكفايات، والمراد بفرض الكفاية ما طلبه الله طلبا جازما من مجموع الأمة لا من آحادها، بحيث يسقط الطلب بفعل البعض، فإذا تركه الجميع استحقوا الإثم، ومن أمثلة فروض الكفايات صلاة الجنازة، وتغسيل الميت؛ فهذه يطالب بها المجموع، فإذا فعلها البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركها الجميع أثموا جميعا، والملاحظ في فروض الكفايات أنه يراد بها مصلحة معينة، وهذه المصلحة تتحقق من البعض، فتفسير القرآن تتحقق به مصلحة، وهي معرفة مراد الله بكلامه، وهذه المصلحة تتحقق بفعل البعض لها.
قال المؤلف: وهو أجل العلوم الشرعية؛ يعني أن التفسير أعلى العلوم الشرعية؛ وذلك لأن التفسير متعلق بكلام الله، فموضوع التفسير هو القرآن، ولا شك أن القرآن أفضل الكلام، ثم إن هذا العلم تظهر قيمته وفائدته من خلال النفع العظيم الذي يحصل لنا منه؛ فإن القرآن فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، وحينئذ لا بد من تفسير هذا القرآن من أجل أن نتمكن بالعمل به؛ لتحصل به سعادتنا في الدنيا والآخرة.(2/170)
والأمر الثالث: مما يدل على مكانة هذا العلم، شدة الحاجة إليه، فنحن محتاجون إليه حاجة شديدة بل نحن مضطرون إليه؛ وذلك لأن الدنيا والآخرة لا تصلح أحوالهما إلا بالعمل بهذا الكتاب، والعمل به لا يكون إلا بمعرفة معانيه.
قال المؤلف: وأشرف صناعة؛ يعني أن التفسير أشرف صناعة يتعاطاها -يعني يعملها- الإنسان، "والمعتني بغريبه"، بدأ الآن المؤلف بذكر ما يجب على المفسر أن يعرفه، والمعتني بغريبه المراد به مفسر القرآن، لا بد له من معرفة أمور، يعني يجب عليه أمور:
الأمر الأول: معرفة الحروف، وليس المراد به الحرف المجرد، وإنما المراد به ما ليس اسما ولا فعلا، فأنتم تعرفون أن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأسماء، والأفعال، والحروف؛ فالفعل ما استقل بمعنى ودل على حدث مقترن بزمان، والاسم ما دل على ذات غير مقترن بزمان، والحرف ما لا يستقل بنفسه في المعنى، ولا بد أن يكون معه اسم أو فعل.
.
ـــــــــــــــــــــــ
وهذه الحروف يقول المؤلف: أكثر من تكلم فيها النحاة، فهم قد تكلموا بهذه الحروف، كما تقدم أنه ليس المراد بالحرف هنا جزء الكلمة، مثل حرف "ألف" حرف "باء"، هذا ليس مراده، وإنما المراد الكلمة المستقلة بنفسها لكن ليس لها معنى مستقل مثل: "إلى"، "عن"، "في"، "حتى"، وإن كانت من حروف متعددة، وقد ألف النحاة مؤلفات في الحروف وفي معانيها ودلالتها، ومن أشهر من ألف فيها ابن هشام في كتابه مغني اللبيب، وقد تكلم فيها علماء أصول الفقه أيضا، وبينوا معاني هذه الحروف، وذكروا ما ينوب منها عن غيره وما لا ينوب.(2/171)
الأمر الثاني: مما يشترط على المفسر أن يعرفه: معاني الأسماء والأفعال، فما هو المراد بهذا الاسم وما هو المقصود بهذا الفعل، هذا مما يشترط على المفسر أن يعرفه، وهذه الأمور يرجع فيها إلى أهل اللغة، أهل اللغة يراد بهم العرب الفصحاء، أو من نقل كلام العرب الفصحاء من المؤلفين في المعاجم اللغوية.
ومنه -يعني من الشروط التي لا بد على المفسر من معرفتها-: معرفة ما وضع له الضمير وما يعود عليه، فيعرف الضمير هل وضع للمفرد أو للجمع، للمذكر أو للمؤنث، للحاضر المخاطب أو الغائب، ويعرف عود الضمير إلى من يعود، والأصل في الضمائر أن تعود إلى أقرب مذكور ما لم يدل السياق على غير ذلك، وقد يكون الضيم عائدا إلى اسم ظاهر سابق للضمير، كما في قوله: { * وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } (1) الهاء تعود على إيراهيم المذكور، أو قد يكون الضمير عائدا إلى اسم متضمن في السياق وإن لم يكن موجودا، مثل قوله: { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } (2) ظهرها يعني ظهر الأرض، ولم يوجد ذكر سابق للأرض، وإنما يفهم بدلالة السياق، بل يكون الضمير عائدا إلى اسم مذكر بعده، كما في قوله -تعالى-: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) } (3) في نفسه الهاء تعود على موسى المذكور متأخرا، والنظر في الضمائر وعودها مما يخدم المفسر كثيرا، ومن أعظم أسباب الخطأ في التفسير عدم معرفة ما يعود إليه الضمير.
وكذلك على المفسر أن يعرف التذكير والتأنيث، ويفرق بينهما، وهل هذه الأسماء مذكرة أو مؤنثة، وكذلك يعرف التعريف والتنكير، ما هي وسائل التعريف؟ وما هي المعارف؟ الضمائر معارف، وما فيه "أل" معرفة، والمضاف إلى معرفة معرفة؛ وذلك لأنه يترتب عليه معرفة معنى الكلام، ويختلف المعنى بسبب اختلاف كونه
__________
(1) - سورة البقرة آية : 124.
(2) - سورة فاطر آية : 45.
(3) - سورة طه آية : 67.(2/172)
ـــــــــــــــــــــــ
معرفا أو منكرا، ففرق بين النكرة في سياق النفي التي تفيد العموم وبين المعرفة في سياق النفي التي لا تفيده، وهكذا.
قال المؤلف: والخطاب بالاسم والفعل يعني أن المفسر عليه أن يعرف نوع الخطاب، وهل هو اسم أو فعل؛ فإن الكلمة يختلف مدلولها لاختلاف كونها اسما أو فعلا، وأولى ما يرجع في غريبه -يعني أحسن وأفضل المراجع التي نرجع إليها في معرفة معاني غريب- تفسير ابن عباس وغيره -يعني من الصحابة- كان الأولى بالمؤلف أن يذكر أن أولى ما يرجع في الغريب إلى القرآن نفسه في مواطن أخرى وإلى السنة، والطريق الثالث تفسير الصحابة -على ما تقدم سابقا في طرق التفسير في فصل تقدم- وكذلك يرجع إلى دواوين العرب؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، فإذا أردنا أن نعرف معانيه فعلينا أن نرجع إلى لغة العرب، قال -تعالى-: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا } (1) { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) } (2) .
فإن قال قائل: إن القرآن فيه ألفاظ غير عربية، ألا يرجع إلى معاجم تلك اللغات التي وجد في القرآن ألفاظ منها، مثل لفظة "ناشئة" "بستان" "مشكاة"؟ فيقال: هذه الكلمات دخلت في لغة العرب، واستعملها العرب، فأصبحت جزءا من لغتهم، وحينئذ إذا رجعنا إلى دواوين العرب عرفنا معاني هذه الألفاظ، على أنه يمكن أن تستعمل تلك الألفاظ في تلك اللغات بمعنى أخص مما يستعمله العرب، أو أشمل، أو يغاير ما يستعمله العرب؛ فحينئذ فالرجوع إلى ما استعمال العرب لهذه الكلمة، ما هو مرادهم بهذه الكلمة؟ فلا نلتفت إلى معنى الكلمة في تلك اللغات، وإنما نلتفت إلى معنى هذه الكلمة في لغة العرب.
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 3.
(2) - سورة الشعراء آية : 195.(2/173)
وكذلك على المفسر أن يقارن بين الآية التي يفسرها، وبين ما قبلها من الآيات وما بعدها، وهل هي مكملة لما قبلها أو لها معنى مستقل؟ فلو جاءنا إنسان وفسر قوله: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) } (1) وسكت، لكان هذا تفسيرا خاطئا، لا بد أن ينظر إلى ما يقارن الآية: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } (2) وكذلك ينظر في وجه المناسبة بين هذه الآية التي يفسرها وبين ما قبلها وما بعدها، ما هو وجه الارتباط بينها؟
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
وما هي العلاقة التي بين هذه الآية وبين ما قبلها وما بعدها؟ فهل هي مخصصة لها أو تشاركها في الحكم؟ وحينئذ يعرف ما هو مقصود الكلام، فإننا نجد مثلا في القرآن القصص القرآني في سورة الأنبياء أورد من أجل بيان أن الله يجيب دعاء الداعين من أوليائه المؤمنين فذكر قصصا كثيرة في هذه السورة، وذكر أن الله استجاب دعاءهم، فحينئذ ظهر لنا وجه المناسبة بين الربط بين هذه القصص في سورة الأنبياء، وكذلك يلاحظ الإنسان السور ووجه الترابط والمناسبة بينها؛ ولذلك نجد المناسبة ظاهرة بين السور المتقاربة والمتقارنة.
__________
(1) - سورة الماعون آية : 4.
(2) - سورة الماعون آية : 4-5.(2/174)
قال المؤلف: وعن القراءة؛ يعني على المفسر أيضا أن يلاحظ القراءات؛ لأن خير ما فسر أيضا القرآن أن يفسر بعضه ببعض، فقد يأتي في قراءة ما يفسر القراءة الأخرى، سواء كانت تلك القراءة الثانية متواترة مشهورة، أو كانت تلك القراءة الأخرى قراءة آحادية أو قراءة شاذة؛ لأن القراءة الشاذة تفسر بها القراءة المشهورة، القراءة الشاذة تبين معانيها، يعني أنها تبين معاني القراءة المشهورة، ومن أمثلة ذلك قوله -سبحانه-: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ ِNخgح!$|،خpS تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) } (1) ؛ يعني إذا أقسم الزوج لا يقرب زوجته أجّل أربعة أشهر، { فَإِنْ فَاءُوا } (2) ؛ يعني فإن رجعوا، { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ ِNخgح!$|،خpS } (3) يعني يحلفون بعدم قربان نسائهم، { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } (4) يؤجّلون أربعة أشهر، { فَإِنْ فَاءُوا } (5) يعني فإن رجعوا عن هذه اليمين وكفروا كفارة اليمين، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) } (6) ويبقى النكاح على ما كان، ورد في بعض القراءات "فإن فاءوا فيهن"، فدل ذلك على أن الرجعة تكون في الأربعة الأشهر، ولا تكون بعدها، وهنا نحتاج إلى البحث في صحة إسناد هذه القراءة الشاذة، وقد تقدم معنا أن هذه القراءة الشاذة يحتج بها في الحكم، والعمل ولا تكون قرآنا.
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
ومن أمثلته أيضا في كفارة اليمين، قال: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } (1) ورد في بعض القراءات "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فهل يشترط التتابع، ويفسر القرآن بالتتابع، أو لا يشترط؟ يبحث في صحة إسناد هذه القراءة، وإن كانت القراءة الشاذة ليست قرآنا، ولا يصح أن يقرأ بها وأن تدخل في القرآن، نعم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 226.
(2) - سورة البقرة آية : 226.
(3) - سورة البقرة آية : 226.
(4) - سورة البقرة آية : 226.
(5) - سورة البقرة آية : 226.
(6) - سورة البقرة آية : 226.(2/175)
التلاوة
قال رحمه الله -تعالى-: التلاوة؛ تستحب تلاوة القرآن على أكمل الأحوال، والإكثار منها، وهو أفضل من سائر الذكر، والترتيل أفضل من السرعة مع تبيين الحروف وأشد تأثيرا في القلب، وينبغي إعطاء الحروف حقها وترتيبها، وتلطيف النطق بها، من غير إسراف ولا تعسف، ولا تكلف، ويسن تحسين الصوت والترنم بخشوع وحضور قلب وتفكر وتفهم، ينفذ اللفظ على الأسماع، والمعاني إلى القلوب.
قال الشيخ: في " زينوا القرآن بأصواتكم " هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب، لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس من الوسوسة في خروج الحروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وشغله بالوصل والفصل، والإضجاع والإرجاع، والتطريب وغير ذلك مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله، والتلاعب به حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه ومن تأمل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، تبين له أن التنطع بالوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.
وقال: يكره التلحين الذي يشبه الغناء، واستحب بعضهم القراءة في المصحف، ويستحب الختم كل أسبوع، والدعاء بعده، وتحسين كتابة المصحف، ولا يخالف خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك، ويحرم على المحدث مسه، وسفر به لدار حرب، ويجب احترامه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف هنا مبحث التلاوة، والمراد بالتلاوة القراءة: قال المؤلف: تستحب، والمستحب هو ما يثاب العبد عليه عند فعله ولا يعاقب على تركه.
قوله هنا: تلاوة القرآن؛ يعني من غير الواجبات، أنتم تعلمون أن القراءة في الصلاة واجبة فهذه ليست مرادة هنا، تستحب تلاوة القرآن؛ ذلك لورود النصوص الشرعية المتكاثرة في بيان الأجر العظيم على قراءة القرآن، كما قال
__________
(1) - سورة البقرة آية : 196.(2/176)
.
ـــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه " وقال - صلى الله عليه وسلم - " بكل حرف من القرآن حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " والنصوص في ذلك متتابعة متكاثرة.
قوله هنا: على أكمل الأحوال؛ وذلك لأن كلام الله -سبحانه وتعالى- كلام فاضل، فهو خير الكلام وأحسنه، وحينئذ فيستحب لنا أن نكمل أحوالنا عند قراءة القرآن؛ تقديرا لهذا الكتاب، وتعظيما لكلام الله سبحانه وتعالى.
ومن الأحوال التي يستحب إكمالها عند قراءة القرآن التطهر، ومراعاة سنن التلاوة وآدابها، ومراعاة أفضل الأوقات الذي لا يكون فيه اشتغال للبال واشتغال للذهن، كقراءة الليل وقراءة الفجر، وجمهور أهل العلم على استحباب الطهارة عند قراءة القرآن، وأما بالنسبة للجنب فالجماهير على تحريم قراءة الجنب للقرآن، وقد ورد في مسند أبي يعلى بسند جيد: " فأما الجنب فلا ولا آية " وكذلك عند الجماهير أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ قياسا على الجنب، ولما في حديث عائشة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن في حجرها وهي حائض " فيأخذ من هذا الدليل بطريق دلالة الإشارة أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأنها بينت أعلى أحوال الحائض بالنسبة للقرآن، وهو أن يُقرأ القرآن في حجرها.(2/177)
وقد قال طائفة بمنع الكافر من قراءة القرآن؛ إلحاقا عليهما، وقال طائفة بأن الحائض تقرأ إذا خشيت نسيانها، لكن اليوم مع توفر وسائل إبعاد النسيان، كوجود المسجلات التي تسمع منها القرآن، فيبقى القرآن محفوظا لها بمجرد السماع، يكون خوف النسيان حينئذ بعيدا.
أما بالنسبة للكافر فقد قالت طائفة بأنه يمنع من قراءة القرآن؛ قياسا على الجنب والحائض، وقال طائفة بجواز قراءته للقرآن ولا يمنع منه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل إلى ملوك زمانه آيات قرآنية، وكان الكفار في ذلك العهد يتناقلون آيات من القرآن، ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهاهم.
ويؤخذ من هذا مسألة إلحاق بعض النصارى أبنائهم بمدارس المسلمين، فإن بعض النصارى لما رأى ما عليها مدارس أهل الإسلام من سمت، وما تؤدي إليه من أخلاق فاضلة، ومحافظة على مكارم الأخلاق، أدخل أبناءه في مدارس المسلمين، فمثل هذه المدارس يدرس فيها القرآن، وهذا منسوب إلى النصرانية، فهل يمكن من قراءة القرآن ومن تعلمه؟ مبني على المسألة السابقة، والأظهر جوازه.
ـــــــــــــــــــــــ
قال: والإكثار منها؛ يعني أنه يستحب الإكثار من قراءة القرآن، وقد ورد في الحديث: " أن الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة " .
قال: وهو أفضل من سائر الذكر؛ يعني أن قراءة القرآن أفضل من باقي أنواع الذكر، فقراءة القرآن نوع من أنواع الذكر لكنها أفضل الذكر؛ لما في الترمذي: " فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " وبعض أنواع القرآن أفضل من بعض، فسورة الفاتحة وآية الكرسي لهما فضيلة ومزية.(2/178)
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك المقارنة بين ترتيل القرآن وبين السرعة، أيهما أفضل؟ بالسرعة نقرأ حروفا، أكثر وبالترتيل نتمكن من فهم القرآن وتدبره، قال المؤلف: الترتيل أفضل من السرعة مع تبيين الحروف، أما إذا كان هناك سرعة بدون تبيين للحروف فهذه مخالفة للشريعة، فتدور بين الكراهة والتحريم؛ فالترتيل أفضل، وكذلك الترتيل أشد تأثيرا في القلب؛ لأنه يحصل به التفكر والتدبر للقرآن، لكن بعض الناس إذا رتل لم يتمكن من القراءة؛ لكونه قد حفظ القراءة بطريقة الحدر، وأنتم تعلمون أن قراءة القرآن على ثلاثة أنواع:
قراءة التحقيق: بإعطاء الحروف حقها من المخارج، وكذلك بتكميل مدود القرآن، وقراءة الحدر: المراد به الإسراع بالحروف مما لا يخفى معه حرف ولا يسقط معه حرف، وهنا كقراءة متوسطة، بين هاتين القراءتين، وقد ورد أن الله - عز وجل - قد أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بترتيل القرآن، فقال: { وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) } (1) وهكذا كان دأب النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف من بعده.
قال المؤلف: وينبغي -يعني يستحب ويسن- إعطاء الحروف حقها، وإعطاء الحروف يعني إخراج الحرف من مخرجه، وإعطاءه حقه من التفخيم والترقيق والاستعلاء ونحو ذلك، وترتيبها يعني ينبغي ترتيب الحروف حالة النطق بها، بجعل الحرف خارجا من المرتبة التي يستحق الخروج منها؛ ففرق بين حروف اللسان حروف الحلق.
__________
(1) - سورة المزمل آية : 4.(2/179)
قال: وتلطيف النطق بها يعني يستحب أن يكون النطق بهذه الحروف لطيفا رقيقا بغير إسراف، ولا تعسف ولا تكلف؛ فإنه إذا أسرف الإنسان في الحرف جعل الحرف الواحد قائما مقام حرفين، فيكرر الراء مرتين، ولا تعسف في إخراج الحرف، ولا تكلف في إخراج الحرف؛ فإن المرء إذا تكلف في إخراج الحرف ثقله وشدده، فيكون زائد لشدة ليست موجودة في القرآن، ويسن تحسين الصوت بالقرآن؛ لحديث: " زينوا القرآن بأصواتكم، وما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن " "ما أذن" يعني ما استمع الله بشيء، وفي الحديث: " ليس منا من لم يتغنى بالقرآن "
.........................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
والترنم يعني أنه يستحب كذلك الترنم بقراءة القرآن، فلا يقرأ القرآن بمثل ما يتكلم به الناس في عادة كلامهم، وإنما يقرأ بترنم.(2/180)
وكذلك يكون بخشوع، فتخشع جوارحه عن الحركة، ويخشع قلبه عن التفكر، فإن ذلك أدعى إلى معرفة معاني القرآن والتدبر فيه، وحضور قلب وتفكر وتفهم، وقد وردت النصوص بالأمر بالتدبر: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ } (1) { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ } (2) ؛ لهذا " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ قراءة مترسلة، إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ " كما في حديث حذيفة، ولما قرأ ابن مسعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة النساء بكى - صلى الله عليه وسلم - وذرفت عيناه؛ فإن القراءة إذا كانت بتحسين بالصوت بترنم وخشوع وحضور قلب فإن تلفظ المرء بقراءة القرآن، وحينئذ تنفذ إلى الأسماع، وحينئذ تنفذ المعاني إلى القلوب، وتنفذ بمعنى تدخل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " زينوا القرآن بأصواتكم " أن تزيين القرآن بالصوت هو تحسين الصوت والترنم بخشوع، وحضور قلب.
وليس المراد بهذا الحديث - " زينوا القرآن بأصواتكم " - صرف الهمة إلى أمور غير مشروعة تكون سببا في حجب الناس عن التفكر في معاني القرآن، لا صرف الهمة إلى ما حجب عنه أكثر الناس عن تدبر القرآن وتفهمه من الوسوسة في خروج الحروف، من مواضعها وظهورها وتميزها، فيفكر في طريقة إخراج الحرف ولا يفكر في معنى ما يقرأه، ويفكر في الترقيق والتفخيم، والإمالة ولا يفكر في المعاني، والترقيق ضد التفخيم، ويراد به إغلاق الفم قليلا بالحرف، بخلاف التفخيم فهو فتح الفم بالحرف وتحريك وسط الكلمة، وأما الإمالة فأن يجعل الفتحة قريبة من الكسرة، ويجعل الألف قريبا من الياء، فيقول مثلا في "موسى": "موسي".
__________
(1) - سورة النساء آية : 82.
(2) - سورة ص آية : 29.(2/181)
قال: والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط؛ يعني أن بعض الناس يصرف همته في هذه الأمور، ولا يفكر في معاني القرآن؛ وكذلك يشتغل بالوصل؛ هل هذا الموطن موطن وصل أو وقوف وفصل؟ ولا يشتغل في معاني القرآن، والأصل الذي نزل له القرآن التفكر في معانيه والعمل بها، وأما أن تلاحظ طريقة النطق بالقرآن ونغفل عن تدبر المعاني فهذا ليس بمستحسن، وإذا تعارض النظر في المعاني والتفكر فيها مع طريقة إخراج الحرف قدم التفكر في المعنى،
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
وإن كان الجمع من الأمرين هو المستحسن؛ بأن نعطي مخارج الحروف حقها وأن نتفكر في معانيها.
قال المؤلف: والإضجاع يعني لا نصرف الهمة إلى الإضجاع بحيث نغفل عن التدبر والمعاني، والإضجاع قريب من الإمالة، قال: والإضجاع يعني ترديد الآية مرات عديدة بقراءات مختلفة أو بطرائق وهيئات متنوعة، ثم نغفل عن المعنى، كذلك لا نصرف الهمة إلى التطريب، تطريب الصوت، مما يفضي إلى تغيير كتاب الله، والتطريب مثل التمديد ونحوه؛ فإن التطريب قد يؤدي إلى تغيير كتاب الله، فتشبع الكسرة فتجعل حرفا جديدا بحرف الياء، ويفخم اللفظ يكون قريبا من الشدة، فيكون فيه إضافة شدة ليست في كتاب الله، وهذه الأمور تؤدي إلى التلاعب في كلام الله، وجعله ملعبة يتلاعب الناس فيها، وحينئذ إذا وجدت هذه الأمور واشتغل بها تكون سببا لعدم تفكر الناس في معاني القرآن، وحائلا للقلوب عن فهم معاني القرآن، ومن ثم لا نفهم مراد الله -سبحانه وتعالى- من كلامه، فحينئذ نعلم من هذا أن تحسين الصوت مطلوب، ولكن التكلف في ذلك مما يجعل المرء يشتغل عن فهم القرآن هذا أمر غير مشروع.(2/182)
ولا زال الكلام من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ومن تأمل هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني عند قراءته للقرآن وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم، فأقر قبائل العرب على قراءتهم للقرآن مع اختلافهم وتباين طريقة إخراجهم للحروف؛ إذا تأمل الإنسان ذلك تبين له أن التشدد والتنطع والوساوس في إخراج الحرف من مخرجه وطريقته ليس من هدي ولا من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال المؤلف: وقال -يعني شيخ الإسلام ابن تيمية-: يكره التلحين الذي يشبه الغناء، وقد ورد ذلك عن جماعة من السلف -أهل القرون المتقدمة- كراهة التلحين، والمراد بالتلحين هنا القراءة التي تتضمن مد حرف مقصور، أو العكس قصر حرف الممدود، أو التلحين الذي يتضمن تسكين حرف متحرك أو العكس، فإن بعض الناس يفعل ذلك ليوافق نغمات الأغاني المطربة، فإذا حصل مع هذا التلحين تغيير لنظم القرآن كان حراما، وحصل من هذا التلحين قلب الحركات على حروف أو قلب الحروف إلى حركات فإنه يكون حراما، ثم هنا نقارن بين القراءة، هل الأفضل أن تكون في المصحف، أو تكون من الصدر؟ قال المؤلف: واستحب بعضهم القراءة في المصحف؛ لأن النظر إلى المصحف عبادة، ولأنه حينئذ يتفكر في معاني ما يقرؤه، وجعل كثير من الناس هذا الحكم فيما إذا لم يكن هناك فائدة من القراءة حفظا؛ فإن القراءة حفظا إذا كانت لبقاء المحفوظ في الصدر، أو لكون المرء يحضر قلبه ويخشع بالقراءة من صدره؛ فإن هذا أفضل في حقه.
ـــــــــــــــــــــــ(2/183)
قال المؤلف: يستحب الختم يعني إكمال قراءة القرآن كل أسبوع، يعني في كل أسبوع مرة، وقد ورد في حديث ابن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اقرأ القرآن كل أسبوع ولا تزد على ذلك " قال في بعض الروايات: " اقرأه في ثلاث " واستثنى بعض العلماء من ذلك ما لو كان هناك مكان فاضل كمكة، أو زمان فاضل كرمضان؛ فإنه لا مانع من ختم القرآن في أقل من ذلك، ولا يجاوز الإنسان بختمه للقرآن للشهر، أقل ما يكون لختم القرآن في شهر، إذا ختمه في أقل من ذلك فهو أولى وأحسن.
قال: والدعاء بعده، يعني يستحب الدعاء بعد ختم القرآن، وقد ورد ذلك عن جماعة من السلف، أنس بن مالك وغيره، وقد قال طائفة بأن دعاء ختم القرآن يكون بعده مباشرة، ولو كان ذلك في صلاة التراويح، وهذا قول جماهير الفقهاء من المذاهب المعروفة، وقد قال الإمام أحمد: بأنني أدركت الناس بمكة والمدينة وغيرهما إذا أنهى القارئ في الصلاة قراءة الناس رفع يديه ودعا؛ فدل ذلك على أن هذا أمر مشهور مشتهر، وأنه وقع عليه اتفاق الأمة، ولم يوجد من ينكر مثل هذا الفعل في تلك العصور، والإجماع السكوتي مما يستدل به على الأحكام، ومنع منه طائفة؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أجيب عن ذلك بأن صلاة التراويح في جميع الشهر لم تنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لعلة وعذر وهو أنه خشي أن تفرض على الأمة.(2/184)
قال المؤلف: وتحسين كتابة المصحف، فإنه يستحب أن يحسن المرء خطه بالمصحف، واليوم كفينا هذا بوجود هذه المطابع الحديثة بفضل الله -سبحانه وتعالى- ولا يخالف خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، فلا يتبع الإنسان في كتابة المصحف الطريقة الإملائية، وإنما نأخذ بما ورد في مصحف عثمان؛ لأن الأمة أجمعت على ذلك، ولأن هذا المصحف بهذه الكتابة يجمع القراءات الواردة في الكتاب، فلوا عدلناها بقواعد الإملاء، لكان ذلك مؤديا إلى عدم دخول هذه القراءات في كتابة المصحف، ولكان في ذلك مخالفة لما عليه سلف الأمة.
قال المؤلف: ويحرم على المحدث مسه؛ يعني أن من كان محدثا -على غير طهارة- سواء كان محدثا حدثا أصغر بانتقاض الوضوء، أو كان محدثا حدثا أكبر بجنابة ونحوها؛ فإنه حينئذ يحرم عليه مس المصحف، وهذا مذهب الأئمة الأربعة يستدلون عليه مما ورد في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب: " لا يمس القرآن إلا طاهر " وقد قيل في قوله: { لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) } (1) هو خبر بمعنى الأمر، وقيل بأن الكتاب الذي في اللوح المحفوظ
...............................................................................................................
ـــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الواقعة آية : 79.(2/185)
{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) } (1) وهو أصل هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فيكون الفرع مماثلا له، ويستثنى من ذلك ما لو كتب مع القرآن تفسير فإن حينئذ لا يتمحض أن يكون مصحفا، ويستثنى من ذلك ما لو كان المصحف والقرآن في أشرطة، سواء أشرطة مسجل أو فيديو أو كومبيوتر، فإنه لا مانع من مسها، ولا يقال لها مصحفا، وهل يدخل في هذا مس المصحف بعلاقة ونحوها؟ مذهب أحمد أن المصحف إذا كان في علاقة منفصلة عن المصحف فإنه لا مانع من حمل العلاقة ومس هذه العلاقة، ولا يكون ماسا للمصحف، خلافا لطائفة من الفقهاء.
قال المؤلف: وسفر به لدار الحرب، يعني يحرم أن يسافر المسلم به لدار الحرب؛ لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " ؛ وعلة ذلك الخوف من تمكن العدو من تحريف القرآن وتبديله واستهانته، فحينئذ إذا كان سفر الإنسان بالقرآن لن يؤدي إلى هذه الأمور فهل ينتفي هذا المنع والتحريم؟ هذا مبني على قاعدة عند الأصوليين وهي أن العلة إذا عادت على أصلها بالتخصيص هل تعتبر، ويخصص بها اللفظ العام؟ والصواب في هذا التفريق بين العلة المنصوصة والعلة المستنبطة العلة؛ المنصوصة تخصص اللفظ العام، بخلاف المستنبطة.
__________
(1) - سورة الواقعة آية : 79.(2/186)
قال: ويجب احترامه؛ يعني ويجب احترام المصحف وصيانته عن كل أذى، فلا يدخل به بالقرآن، ولا يوضع في أماكن القاذورات والنجاسات، ولا يوضع في أمكنة الجلوس خشية من أن يجلس عليه، ولا يهان، ومن هنا قالت طائفة بأن القرآن لا يكتب على الجدران؛ لأن في ذلك امتهان له، وكذلك يصان القرآن عن الاستناد إليه أو جعله وسادة يستند عليه الإنسان، ويصان أيضا من الجلوس عليه والوقوف عليه، ومما يتعلق بهذا مد الرجلين إلى المصحف، فإنه مكروه إذا لم يقصد إهانة المصحف، أما إذا قصد إهانته فلا شك بأنه من العظائم، وقد قالت طائفة بأنه يكفر بذلك، وكذلك من عدم احترام القرآن إلقاؤه على الأرض بقوة؛ لأن هذا يؤدي إلى تمزقه.
هذا شيء مما يتعلق بأحكام المصحف، والمؤلف -غفر الله له ورحمه ورفع درجته- حاول استقصاء أحكام مقدمة التفسير، وقد استفاد من مقدمة تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرا، وذكر مباحث ومواطن ذكرها غيره، وقد اختصر مقدمة التفسير اختصارا غير مخل؛ فجمع ووعى من جهة، وقلل اللفظ وسهله من جهة أخرى، وهناك علوم كثيرة متعلقة بالتفسير، علوم القرآن لم يذكرها المؤلف؛ وذلك لأنه يعتبر أن هذه المقدمة بمثابة الأمر المسهل اليسير،
.
ـــــــــــــــــــــــ
وحينئذ فعلينا بمعرفة ما يتعلق بعلوم القرآن وطرق التفسير وطرق الدلالات، دلالات الألفاظ من أجل أن نفهم كلام الله - عز وجل - وأن نعرف المراد به؛ لنتمكن من العمل به، ولنتمكن من إرضاء الله -سبحانه وتعالى- لتعلمه وتعليمه، وقد ورد في الصحيح من حديث عثمان - رضي الله عنه - " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " تعلم القرآن يدخل فيه تعليم حروفه، ويدخل فيه أيضا تعليم معانيه وتعلمها.(2/187)
وحينئذ فأوصي الجميع بالتوجه لكتاب الله -سبحانه وتعالى- حفظا وتلاوة وتدبرا وعملا ودعوة، وأن نفهم هذا القرآن من خلال القواعد التي توضح مراد الله -سبحانه وتعالى- وتبينه، نسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا وإياكم فهم القرآن والعمل به، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، ويغفر لنا ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، كما أسأله -سبحانه- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يكفيهم شر أعدائهم، وأن يردهم إلى دينه ردا جميلا، كما أسأله -سبحانه- أن يوفق علماء الشريعة لبيان أحكامه، ولإرشاد جاهلها وتعليم كل فرد فيها، وأسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يجعلهم محكمين لكتابه، عاملين بسنة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا- نسأل الله - عز وجل - أن يتقبل منا ومنكم.(2/188)