شرح كتاب
(مقدمة في أصول التفسير)
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
شرح الشيخ
محمد بن عمر بن سالم بازمول
فرغ الأشرطة، وضبط الآيات والأحاديث، وخرجها
بعض طلبة العلم
غفر الله له ولوالديه
1423هـ - 1424هـ
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، و نستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ( .
يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَتَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ
يَآأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً
يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّا بعد:
فهذا كتاب لم أكتبه، وشرح لم أدونه!
إنما ألقيت دروساً في شرح كتاب "مقدمة في أصول التفسير" لابن تيمية رحمه الله، فقام بعض إخواني - جزاه الله خيرا - بتسجيل هذه الدروس، وتفريغها، ضابطاً الآيات، والأحاديث، مع تخريجها، ودفع لي هذه الأوراق لأنظر فيها؛(1/1)
فرأيت عبارات تستساغ سمعاً لا قراءة، وكلمات موهمة في المراد، مع إحالات تحتج إلى عزو وبيان، وتكرار في المعاني، يصلح في الكلام لا في الكتابة، فحذفت المكرر من لفظه، وأقمت عبارته، لتسهل قراءته، وبينت العزو، ونقلت الكثير من الإحالات بنصها، وحذفت المعاد من المعاني في ثناياه؛ فكان هذا الشرح لكتاب مقدمة في أصول التفسير؛ الذي أقدمه لطلاب العلم، عسى أن يكون عوناً لهم في فهم هذه الأصول، ولعل شادياً للعلم يقرؤه فيعجبه ، فيدعو لجامعه.
ولا يفوتني تسجيل شكري وتقديري لمن قام بقراءة الكتاب علي أثناء الدرس، وتسجيله، وتفريغه، فقام بجهد كبير، أسأل الله العلي القدير أن يجعله في موازين حسناته، وأن يرفع من قدره، إنه سميع مجيب.
وأخيراً أسأل الله عزوجل أن يرحم ابن تيمية ويسكنه فسيح جناته، فقد قعد هذه الأصول، وأسسها، وصنف كتاباً عز نظيره في كتب الناس، فاللهم ارحمه واغفر له، وأرفع درجته، واسكنه الفردوس، برحمتك يا ارحم الراحمين، واجزه اللهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، يا رحمن يا رحيم.
اللهم تقبل عملي خالصاً لوجهك الكريم، وداعياً إلى سنة نبيك الرؤوف الرحيم (.
الدرس الأول : الأحد 23/2/1423هـ
نبذة مختصرة
عن سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(1/2)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71) ألا وإن أصدق الكلام كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أما بعد : فهذا هو الدرس الأول ويتعلق بتعريف مختصر بشيخ الإسلام ابن تيمية وكتابه وبالعلم الذي هذا هو موضوعه .
شيخ الإسلام اسمه : أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية ، ولد سنة 661هـ يعني بعد الغزو التتري بخمس سنوات فإن الغزو التتري تحرك إلى العالم الإسلامي عام 656هـ . ولد رحمه الله في مدينة حرَّان وهي مدينة موجودة الآن من ضمن ديار بكر في تركيا ضمن محافظة اسمها (أورفا).
يلقب بتقي الدين ويكنى بأبي العباس كان أبوه مفتياً للحنابلة ، وكان جده عبد السلام هو الحاكم الشرعي، يعني : القاضي في مدينة حرَّان.
كان شيخ الإسلام نادرة عصره وأعجوبة بين أقرانه شهد له العلماء الموافقون والمخالفون شهدوا له بالعلم وبالمعرفة وبطول الباع.(1/3)
يقول ابن الزملكاني : إذا حضر في مجلسه أهل الفقه (الشافعية، المالكية، الحنفية، الحنابلة) خرجوا من عنده وهم يظنون أنه لا يحسن غير الفقه، وإذا تكلم في الفرق والملل والنِّحَل استفاد كل أهل ملة وكل أهل نِحلة شيئاً يتعلق بنحلتهم وبعقيدتهم وملتهم.
ولا يعرف أنه انقطع في مناظرة قط.
بارك الله في وقته رغم كثرة المشاغل والحروب والمشاكل السياسية التي مر بها - رحمه الله - فإن أعداءه تكالبوا عليه :
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم
حسدوه لأنه أظهر مخالفة ما استقروا عليه من بدع مخالِفة لما عليه أهل السنة والجماعة، ووضع الله له القبول عند السلطان في أخريات حياته - رحمه الله .
خالف أهل عصره في مسائل وافقوا فيها أهل البدعة الضلالة ، من هذه المسائل العظيمة التي اشتد النكير عليه فيها - رحمه الله - :(1/4)
1- المسألة الأولى : تحريم شد الرحل لزيارة القبور حتى ولو كان القبر المشدود إليه قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور الأنبياء أو قبور الصالحين وهو في هذه الفتوى انطلق من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى )(1) فبيَّن أن هذا الحديث : يمنع من شد الرحل إلى غير هذه المساجد الثلاث ، فكيف يجوز أن نشد الرحل إلى القبور ولو كانت قبور أنبياء أو قبور صالحين أو حتى قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا"(2) ، وقال صلى الله عليه وسلم : "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا لَعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"(3) . فقام عليه أهل عصره من هذا الباب وحرفوا كلامه وقالوا : ينهى عن زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والواقع أنه لم ينه عن زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، و إنما ينهى عن شد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
2- المسألة الثانية : مسألة الطلاق : وتشتمل على عدة فروع خالف فيها أهل عصره ، فقد خالف أهل عصره في إيقاع الطلقات الثلاث إذا كانت بفم واحد في مجلس واحد فكان يرى - رحمه الله - أن الصواب فيها ما كان عليه الأمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر رضي الله عنه بأن الطلقات الثلاث بهذه الصورة لا تقع إلا طلقة واحدة ، وله في بعض فتاواه ما يُعلم أنه يرى : أن للحاكم الشرعي إيقاع الطلقات الثلاث بهذه الصورة أو إيقاعها واحدة بحسب ما يراه الحاكم الشرعي من حال المسلم الذي حصلت له هذه الواقعة ، فقام أهل عصره عليه واتهموه بخرق الإجماع .(1/5)
أيضاً كان يرى : أن من أوقع الطلاق على هيئة يمين أن الذي يلزمه كفارة يمين ولا يقع الطلاق .
وقرر في مسائل العقيدة مسائل كثيرة خالف فيها كلامهم : فقرر أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، وأنكر مسألة (المعنى النفسي) لأنها تؤول إلى أن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله وإنما هو كلام يدل على المعنى النفسي القائم في ذات الله سبحانه وتعالى أتى به جبريل إنباءً عن المعنى النفسي القائم بالله سبحانه وتعالى ، فلما رأى أن هذا الكلام خلاف كلام السلف أنكره وأبطله وقام على أهل عصره فيه وبسبب هذه المسألة ألَّف كتاب : (التسعينية) ، المعروف في مسألة خلق القرآن ، وفي مسألة الزيارة ألَّف رسالة كبيرة في مسألة الزيارة ، وألًّف : (الرد على البكري) أيضاً في هذا الموضوع ، وله في الطلاق عدة مجلدات يتكلم فيها عن مسألة الطلاق .
ووضع الله له القبول بين الناس ، حج إلى مكة المكرمة سنة 680هـ.
جاء في مجموع الفتاوى قول ابن تيمية رحمه الله: "أخبرنا الأصيل المسند نجم الدين أبو العز يوسف بن يعقوب بن محمد بن على المجاور الشيباني قراءة عليه وأنا أسمع في الحرم سنة 680هـ"اهـ(4).
وحج مرة ثانية في سنة 692 هـ يعني وعمره 31 سنة كما نص على ذلك ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) في أحداث هذه السنة.
ألف مؤلفات عظيمة وقام بالرد على الفلاسفة والمناطقة وأهل الكلام وألف كتاباً عظيماً في هذا الباب اسمه : (درء تعارض العقل والنقل)، وفتح الله عليه الفتوح ، وفيه يصدق ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم: "من عمِل بما علِم أورثه الله علم ما لم يعلم"[ .(1/6)
يذكُر عنه أحد تلامذته وهو : أبو عبد الله بن رُشَيْق يقول : كان يقول : كنت أُطالع في تفسير الآية نحو مائة تفسير ثم أقول : اللهم يا معلِّم إبراهيم علمني ويا مفهِّم سليمان فهمني . وكان يقول رحمه الله : كتب التفسير فيها الغثُّ والسمين . وتكلم أهل التفسير وأجادوا ولم يبق إلا مواضع مختلفة هي التي أفردها بمزيد الكلام .
وكان في أواخر حياته يندم على اشتغاله بالرد على الفلاسفة والمناطقة واليونان علماً أن ردَّه سدَّ ثغرة في هذا الباب ورفع إثماً عن الأمة في قيامه بهذا الأمر ولكنه مع هذا ندم في أواخر حياته وكان يتمنى لو أنه صنف تفسيراً للقرآن الكريم أو شرحاً لكتاب صحيح الإمام البخاري كما ذكر هذا عن بعض تلامذته .
أوذي كثيراً وسجن في سجن القلعة بدمشق وهو إلى الآن قائم بجوار المسجد الأموي ، وسجن بمصر وحاولوا قتله بطرق ملتوية فأرسلوه إلى الإسكندرية وأشاعوا عدم رضى السلطان عنه يريدون أن يقوم أحد المتهورين فيقتله فلما وصل إلى الإسكندرية وضع له القبول بين الناس فتاب جماعة من أهل الفسوق من فسوقهم وفجورهم. وجماعة من أهل البدع تركوا ضلالاتهم وتعلموا على يد الشيخ فكان وجوده في الإسكندرية مصدر إزعاج لمن أرسله من القاهرة إلى الإسكندرية ، وكان له بمصر نشاط علميٌ كبير، وفيها وضع ما يسمى (بالفتاوى المصرية) وفيها ألف (الرد على البكري) لما ذهب إلى مصر.
وكان يقول : "ما يفعل أعدائي بي أنا قتلي شهادة وسجني خلوة وإخراجي من بلدي سياحة جنتي في صدري أينما ذهبت فهي معي" . نقل هذا عنه تلميذه ابن القيم في (الوابل الصيب).(1/7)
اختلف في سبب اشتهار هذه العائلة بـ ( آل تيمية ) فقيل : ( تيمية ) هي جدة لهم ، فإن الشيخ محمد ابن تيمية المعروف بـ ( ابن تيمية ) لما جاء في طريق الحج؛ شاهد طفلة مولودة في تيماء في طريق الشام فلما رجع إلى بلده وجد أهله وضعوا مولودة فقال : هذه تيمية، تشبه تلك البنت ، فقال : تيمية فعرفت بهذا . وقيل : إن تيمية لقب لقبوا به لأمر آخر لا يحضرني الآن .
اشتهر شيخ الإسلام ابن تيمية في جميع العلوم؛
فهو في التفسير حامل رايته وفي الحديث أهل روايته ودرايته.
وفي الفقه صاحب الباع الطويل في الاستدلال والانتقاد.
وفي أصوله يرجع إلى كلامه في تحرير المسائل.
فتح الله عليه من العلوم ما الله به عليم يحتار من ينظر في كلامه إذا ما تكلم في المسألة من أين يأتي بهذه الاستدلالات وهذه المادة العلمية.
حاربه أعداؤه في حياته وبعد موته، آذوا تلامذته وحرقوا كتبه وأتلفوا جزءاً كبيراً منها ولكن الله سبحانه وتعالى حفظها حتى وصلت إلينا، ومن صور حفظها أن بعض العلماء وهو ابن عروة الحنبلي أولع بحبها فألف كتاباً في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري ثم عمل له شرحاً فصار في هذا الشرح إذا جاء لموضع فيه رسالة لابن تيمية يوردها فكانت هذه الطريقة من الطرق التي حفظ الله عز وجل بها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . …
لم يتزوج لانشغاله بالعلم والجهاد ونحو ذلك من الأمور السياسية والمشاكل إلى آخره .(1/8)
كان يقوم على خدمته أخ له ، يذكرون أنه كان لا يقرب الطعام حتى يأتيه وإذا اتسخت ثيابه يأخذونها ويغسلونها مات سنة 728 هـ بسجن القلعة . قال الإمام أحمد : بيننا وبين أهل البدع الجنائز، وكذا كان يوم موته يوماً مشهوداً، في تلك السنين وفي تلك الأيام يقولون : حُصِر الناس فكانوا يزيدون على مائة ألف وغُلِّقت الحوانيت - وهي الدكاكين - وغلقت الأسواق وسُدَّت الطرق من أجل جنازته رحمه الله . وهذه من علامات أهل السنة أن أهل البدع إذا ماتوا الناس لا ينشغلون بهم . …
من الأمور التي حصلت له وتدل على كمال فضله - رحمه الله - أنه لما جاء أحد الأمراء في مصر واستتب له الأمر بعد الأمير السابق الذي آذى ابن تيمية ، جاء أمير آخر وكان يرى صواب ما عليه ابن تيمية وكان يرى أن هؤلاء المشايخ يعادونه ويحسدونه فلما استتب الأمر للأمير نادى ابن تيمية ونادى المشايخ ثم انفرد بابن تيمية وقال له : إن هؤلاء المشايخ آذوك وكانوا يريدون قتلك وفعلوا وفعلوا أفتني بقتلهم وأنا أقتلهم - يقول الذي نقل الواقعة : فانتبه شيخ الإسلام إلى أن هذا الأمير إنما يريد أن يأخذ فتوى منه بقتل هؤلاء العلماء بسبب أنهم كانوا يقفون ضده مع الأمير السابق فانتبه شيخ الإسلام لهذا فقال للأمير : إن هؤلاء العلماء هم الذين تقوم بهم الدولة وأنت إذا أضعتهم لا تجد مثلهم ولم يسمح للأمير بمبرر ولو صغير منه بأن يقوم ضد هؤلاء العلماء رغم أنهم كانوا يكيدون لابن تيمية ، ولذلك يقول ابن مخلوف - وهو الفقيه المالكي الذي قام ضد ابن تيمية وأمر بسجنه في مصر وإيذائه - يقول : رحم الله ابن تيمية لما قدر علينا أحسن ونحن لما قدرنا عليه أسأنا وكدنا له.(1/9)
لشيخ الإسلام ابن تيمية العديد من المؤلفات الناطقة الشاهدة بعلمه من أفضلها وأنفسها الكتب التالية : (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ، (الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول) ، وألف هذا الكتاب لأنه ظهر رجل يقال له : العساف النصراني أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم والانتقاص منه فاجتمع ابن تيمية - وكان في الثلاثينيات من عمره - مع بعض العلماء وأفتوا بوجوب عقوبة هذا الذي يقال له : العساف النصراني ، وكان هذا من جلساء الأمير ، فانزعج الأمير لهذا الأمر فأتى بهؤلاء المشايخ ومنهم ابن تيمية فضربهم أمام الناس وبعد هذا قام شيخ الإسلام وألف كتابه : الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول .
من كتبه النفيسة :
(شرح العمدة) ولم يتمه.
و(مقدمة في أصول التفسير).
ومنها (شرح الأصفهانية).
و(التدمرية).
و(الواسطية).
و(اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)
وله فتاوى كثيرة من أنفس ما يكون.
ويتضمن مجموع الفتاوى المطبوع جملة كبيرة من كتبه ورسائله رحمه الله.
أيضاً من كتبه النفيسة :
منها (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية).
ومنها (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح).
وله كتاب في إبطال التحليل ، وكان قد انتشر في عصره التحليل في النكاح وهو : أن المرأة إذا طلقت من زوجها ثلاث طلقات لا يحل لها أن ترجع إلى زوجها الأول حتى تنكح زوجاً غيره فكانوا يأتون بمحلل يعقد العقد على هذه المرأة ثم يطلقها يحللها للزوج الأول، وقد جاء في الحديث وصف هذا المحلل بالتيس المستعار ، فألف كتاباً في إبطال هذا الأمر عرف بـ (إبطال التحليل).
ومن كتبه: "مقدمة في أصول التفسير"، التي نعقد هذه الدروس لشرحها؛
هذا الكتاب مع صغر حجمه إلا أنه أصل فيه أصولاً نفيسة حتى إن العلماء لما جاءوا بعده أشادوا به وصاروا يوردون قطعاً كبيرة منه في ثنايا مصنفاتهم؛
فابن كثير رحمه الله أورد جملة كبيرة منه في أول تفسيره.(1/10)
والسيوطي في ( الإتقان ) أورد جملة كبيرة من هذا الكتاب في ثنايا كتابه وكان يصفه بالنفاسة.
أدار - رحمه الله - هذا الكتاب على فصول تكلم فيها عن عدة مسائل؛
تكلم في فصل قاعدة أن الرسول ( مامات حتى فسر جميع القرآن.
وفصل عن تفسير الصحابة والتابعين ونوع الاختلاف الحاصل بينهم في التفسير.
ثم تكلم عن أنواع التفسير بالرواية والدراية، التفسير بالمنقول والتفسير بالرأي.
ثم تكلم في فصل عن أهمية تفسير التابعين. وركز الكلام على أهمية تفسير الصحابة.
ثم ختم الكلام عن خطر التفسير بالرأي.
مورداً أثناء ذلك جملة من القواعد والفوائد، مما أثرى كتابه وجعله متميزاً على غيره من الكتب.
تعريف (أصول التفسير):
(أصول التفسير) علم مركب إضافي، لابد عند تعريفه من تعريف المضاف على حده، ثم يُعرّف المضاف إليه، ثم يعرف العلم بإضافة أحد اللفظين إلى الآخر. فأقول:
الأصل في اللغة : ما ينبني عليه غيره ، وقد يطلق في اللغة ويراد به : القاعدة .
والقاعدة هي : القضية الكلية المحيطة بمجموعة جزئياتها(5).
والتفسير في اللغة : الكشف والبيان .
وفي اصطلاح العلماء هو : معرفة مراد الله عز وجل من كلامه المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بحسب الطاقة البشرية .
وبإضافة لفظة (أصول) إلى (التفسير) ينتج عندنا أن (أصول التفسير) هي القضايا الكلية المحيطة بجزئياتها والتي ينبني عليها فهم القرآن ومعرفة مراد الله بحسب الطاقة البشرية .
فموضوع الكتاب : ذكر القواعد والأصول التي ينبني عليها فهم القرآن الكريم بمعنى : أن من أحاط علماً بهذه القواعد سهل عليه التعامل مع القرآن الكريم.
والذي لاحظته : أن هذا الكتاب - أعني: (مقدمة في أصول التفسير) - مَنْ أحسن قراءته وفهمه استطاع أن يتعامل مع كتب التفسير بالمأثور، خاصة مع أقوال السلف المتنوعة في تفسير الآيات ويعرف كيف يستفيد منها.(1/11)
وعِلْم أصول التفسير من العلوم المعروفة المتداولة عند أهل العلم يعرف بقواعد التفسير، ويسمى بعلوم القرآن.
هذا العلم مرَّ في نشأته حتى أصبح مفرداً مستقلاً بمصنفات و تآليف بأربعة أحوال :
الحال الأولى : كان عبارة عن قواعد مبثوثة في ثنايا كلام السلف رضوان الله عليهم في الأحاديث والتفسير كلمة هنا عن ابن عباس، كلمة هنا عن ابن مسعود، حديث يدخل في قواعد التفسير، قضايا مبثوثة، أول صورة بدأ فيها هذا العلم ونشأ فيها هذا العلم على هيئة قضايا مبثوثة في ثنايا الحديث والتفسير .
المرحلة الثانية : صار العلماء يجعلون الكلام عن أصول التفسير في مقدمات تفاسيرهم، فلما يأتي واحد منهم ويؤلف تفسيراً يجعل في مقدمة التفسير الكلام عن شئ من أصول التفسير.
المرحلة الثالثة : أفردوا فيها أنواعاً من هذا العلم بالتصنيف فتجد هناك كتاب في ناسخ القرآن ومنسوخه وتجد هناك كتاب في مبهمات القرآن وهكذا .…
المرحلة الرابعة : أفرد فيها هذا العلم بالتأليف وكانت على صورتين :
1- جاءت مؤلفات ومصنفات جمعت مجموعة من أنواعه دون استقصاء مثل : كتاب (فنون الأفنان) لابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ فإنه جمع جملة من القواعد المتعلقة بهذا العلم : أصول التفسير لكنه لم يستقص.
2- صورة التأليف المفرد في هذا العلم ولكن بهيئة استقصاء للتعريف بالنوع لا مفردات النوع . فمثلاً يعرِّف بناسخ القرآن ومنسوخه لكن يورد كل مفردات ناسخ القرآن ومنسوخه ، ويمثل هذه الصورة الجامعة كتاب : (البرهان في علوم القرآن للزركشي) ، وكتاب : (الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي
وهذه المراحل الأربع متداخلة فقد يوجد من حيث التسلسل التاريخي مصنفات مفردة قبل مقدمات التفاسير ولكن مرادي بيان الهيئة العامة لنشأة هذا العلم كتأليف.
ويعتبر هذا الكتاب (مقدمة في أصول التفسير) من الكتب المصنفة في علوم القرآن، لكن بغير استقصاء لجميع الأنواع، وبغير استقصاء للمسائل المتعلقة بتعريف النوع.(1/12)
استمداد هذا العلم : من كلام الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كلام الصحابة والتابعين . وكل القواعد التي ستمر علينا هي مستمدة من هذه الأصول والموضوعات
ومسائله : هي المسائل التي تتعلق بالقرآن من جهة ما يبين معناه، كسبب النزول واختلاف أقاويل السلف في الآية والمطلق والمقيد والعام والخاص.
…
شرح كتاب
مقدَّمة في أصول التفسير
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِك
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا(2).
أَمَّا بَعْدُ :
فَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ أَنْ أَكْتُبَ لَهُ مُقَدِّمَةً(6) تَتَضَمَّنُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ(7).
وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ(1)(1/13)
وَالتَّمْيِيزِ فِي مَنْقُولِ ذَلِكَ وَمَعْقُولِهِ(1) بَيْنَ الْحَقِّ وَأَنْوَاعِ الْأَبَاطِيلِ(2) وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ(3); فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي التَّفْسِيرِ مَشْحُونَةٌ بِالْغَثِّ وَالسَّمِينِ وَالْبَاطِلِ الْوَاضِحِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ. وَالْعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ وَإِمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ(1) وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ وَإِمَّا مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ بَهْرَجٌ وَلَا مَنْقُودٌ . وَحَاجَةُ الْأُمَّةِ مَاسَّةٌ إلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسُنُ وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ(2)
وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ(8)وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. قَالَ تَعَالَى : ?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى? (طه:123-126)(9).(1/14)
وَقَالَ تَعَالَى : ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ? (المائدة:15-16)(10).
وَقَالَ تَعَالَى : ?الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ? (إبراهيم:1-2)(11).
وَقَالَ تَعَالَى : ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ? (الشورى:51-52)(12).
وَقَدْ كَتَبْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً(13)بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إمْلَاءِ
الْفُؤَادِ(14)وَاَللَّهُ الْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ .
فَصْلٌ
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ?لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ? يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا(1).(1/15)
وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا; وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ(15).
وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا(16).
وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ: ثَمَانِ سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : ?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ? وَقَالَ : ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ? وَقَالَ: ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ? وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا يُمْكِنُ(17).
وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : ?إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ? وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِه(18).
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ(19).
وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؟(20).(1/16)
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا جِدًّا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحَابَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ(21).
وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفْسِيرِ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا؛
وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ.
وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفْسِيرِ يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفْسِيرَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَمَا تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
فَصْلٌ(1/17)
الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي التَّفْسِيرِ قَلِيلٌ وَخِلَافُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَكْثَرُ مِنْ خِلَافِهِمْ فِي التَّفْسِيرِ وَغَالِبُ مَا يَصِحُّ عَنْهُمْ مِنْ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى اخْتِلَافِ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافِ تَضَادٍّ وَذَلِكَ صِنْفَانِ(22): "أَحَدُهُمَا": أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ الْمُرَادِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي الْمُسَمَّى غَيْرِ الْمَعْنَى الْآخَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ. كَمَا قِيلَ فِي اسْمِ السَّيْفِ: الصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَسْمَاءِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ(23) فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعَائِهِ بِاسْمِ آخَرَ;
بَلْ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ?قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى?.
وَكُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُسَمَّاةِ وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْمُ(24).
كَالْعَلِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْعِلْمِ.
وَالْقَدِيرُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالْقُدْرَةِ.
وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالرَّحْمَةِ(25).(1/18)
وَمَنْ أَنْكَرَ دَلَالَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهِرَ : فَقَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا يُقَالُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ ; بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ ; فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ لَا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عِلْمٌ مَحْضٌ كَالْمُضْمَرَاتِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ؛
فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كَانَ مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ مُوَافِقًا لِغُلَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ(26).
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ وَعَلَى مَا فِي الِاسْمِ مِنْ صِفَاتِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي فِي الِاسْمِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَد وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ : مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالشِّفَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْكِتَابِ . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ(27).
فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ الْمُسَمَّى عَبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إذَا عُرِفَ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الِاسْمُ عَلَمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ : ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي? مَا ذِكْرُهُ ؟
فَيُقَالُ لَهُ : هُوَ الْقُرْآنُ مَثَلًا أَوْ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكُتُبِ . فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ . وَالْمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَتَارَةً إلَى الْمَفْعُولِ.(1/19)
فَإِذَا قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ مِثْلَ قَوْلِ الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.
وَإِذَا قِيلَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ : ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي? لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ ?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى? وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الذِّكْرِ وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : ?قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا? ?قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا?.
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلُ أَوْ هُوَ ذِكْرُ الْعَبْدِ لَهُ فَسَوَاءٌ قِيلَ ذِكْرِي كِتَابِي أَوْ كَلَامِي أَوْ هُدَايَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا.(1/20)
وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا فِي الِاسْمِ مِنْ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ اللَّهُ ; لَكِنَّ مُرَادَهُ مَا مَعْنَى كَوْنِهِ قُدُّوسًا سَلَامًا مُؤْمِنًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَنْ الْمُسَمَّى بِعِبَارَةِ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الصِّفَةِ مَا لَيْسَ فِي الِاسْمِ الْآخَرِ كَمَنْ يَقُولُ : أَحْمَد هُوَ الْحَاشِرُ وَالْمَاحِي وَالْعَاقِبُ , وَالْقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ وَالرَّحِيمُ أَيْ أَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ لَا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ هَذِهِ الصِّفَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلَافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ.
مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ " الْقُرْآنُ ": أَيْ اتِّبَاعُهُ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ: "هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ"(28).(1/21)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ " الْإِسْلَامُ "؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ وَفِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَدَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ قَالَ : فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ وَالدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ".
فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ(29); لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ الْوَصْفِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ "صِرَاطٍ" يُشْعِرُ بِوَصْفِ ثَالِثٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : هُوَ " السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ ".
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : "هُوَ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ".
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : "هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"صلى الله عليه وسلم.
وَأَمْثَالُ ذَلِكَ(30). فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَشَارُوا إلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ ; لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِصِفَةِ مِنْ صِفَاتِهَا .
"الصِّنْفُ الثَّانِي"(31): أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوْعِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ.(1/22)
مِثْلَ سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى "لَفْظِ الْخُبْزِ" فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ : هَذَا. فَالْإِشَارَةُ إلَى نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ : ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ?؛
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ(32).
وَالْمُقْتَصِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالسَّابِقُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ. فَالْمُقْتَصِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ?، ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ(33)وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إلَى الِاصْفِرَارِ.
وَيَقُولُ [ الْآخَرُ ]: السَّابِقُ وَالْمُقْتَصِدُ وَالظَّالِمُ قَدْ ذَكَرَهُمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ وَالظَّالِمَ بِأَكْلِ الرِّبَا وَالْعَادِلَ بِالْبَيْعِ وَالنَّاسُ فِي الْأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ وَإِمَّا عَادِلٌ وَإِمَّا ظَالِمٌ؛ فَالسَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَلَا يَأْكُلُ الرِّبَا.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ.(1/23)
فَكُلُّ قَوْلٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِعِ بِتَنَاوُلِ الْآيَةِ لَهُ وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ; فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ الْمُطْلَقِ(34).
وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ كَمَا يَتَفَطَّنُ إذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى رَغِيفٍ فَقِيلَ لَهُ : هَذَا هُوَ الْخُبْزُ.
وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا ; كَأَسْبَابِ النُّزُولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفْسِيرِ.
كَقَوْلِهِمْ : إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ.
وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عويمر العجلاني أَوْ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.
وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ : ?وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ? نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ : ?وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ? نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ.
وَأَنَّ قَوْلَهُ : ?شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ? نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ.
وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ : ?وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ? نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ الْحَدِيثَ.
وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛(1/24)
فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ; فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ(1).
وَالنَّاسُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لَا ؟ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ عمومات الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ وَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِيهَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ.
وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إنْ كَانَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ
بِمَنْزِلَتِهِ [ أَيْضًا ](35).
وَمَعْرِفَةُ " سَبَبِ النُّزُولِ " يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبِّبِ ; وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَا(36).
وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَا(37).(1/25)
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ؟
فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ; بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ(38).
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمِثَالِ. وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا ; فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ(39).
وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفْسِيرِ:
تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ كَالتَّمْثِيلَاتِ؛
هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ.
وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ;
إمَّا لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللَّفْظِ كَلَفْظِ (قَسْوَرَةٍ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي وَيُرَادُ بِهِ الْأَسَدُ. وَلَفْظِ (عَسْعَسَ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ إقْبَالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ.(1/26)
وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ أَوْ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ كَالضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ : ?ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى?، ?فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى? وَكَلَفْظِ : ?وَالْفَجْرِ. وَلَيَالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ? وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛
فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ، وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛
فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً.
وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ.
وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي(40).
وَمِنْ الْأَقْوَالِ الْمَوْجُودَةِ عَنْهُمْ وَيَجْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ اخْتِلَافًا أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ الْمَعَانِي بِأَلْفَاظِ مُتَقَارِبَةٍ لَا مُتَرَادِفَةٍ فَإِنَّ التَّرَادُفَ فِي اللُّغَةِ قَلِيلٌ(41).
وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ(42).
وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَعْنَاهُ ; بَلْ يَكُونُ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِمَعْنَاهُ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ(43).
فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : ?يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا?إنَّ الْمَوْرَ هُوَ الْحَرَكَةُ كَانَ تَقْرِيبًا إذْ الْمَوْرُ حَرَكَةٌ خَفِيفَةٌ سَرِيعَةٌ(44).(1/27)
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : " الْوَحْيُ " الْإِعْلَامُ، أَوْ قِيلَ: ?أَوْحَيْنَا إلَيْكَ? أَنْزَلْنَا إلَيْك أَوْ قِيلَ : ?وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ? أَيْ أَعْلَمْنَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً إلَيْهِمْ(45).
وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ وَتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ : ?لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ? أَيْ مَعَ نِعَاجِهِ و ?مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ? أَيْ مَعَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ(46).
وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ مِنْ التَّضْمِينِ فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ?وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ?ضُمِّنَ مَعْنَى يُزِيغُونَك وَيَصُدُّونَك(47).
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ?وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا? ضُمِّنَ مَعْنَى نَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ(48). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ?يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ? ضُمِّنَ يُرْوَى بِهَا وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ(49).
وَمَنْ قَالَ: "لَا رَيْبَ لَا شَكَّ" فَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَإِلَّا فَالرَّيْبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ(50)، كَمَا قَالَ : "دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك"، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ: "مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ: لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ"(51)، فَكَمَا أَنَّ الْيَقِينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ وَالطُّمَأْنِينَةَ فَالرَّيْبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الِاضْطِرَابَ وَالْحَرَكَةَ.(1/28)
وَلَفْظُ "الشَّكِّ" وَإِنْ قِيل: إنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا الْمَعْنَى; لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْقُرْآنُ فَهَذَا تَقْرِيبٌ; لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَالْإِشَارَةُ بِجِهَةِ الْحُضُورِ غَيْرُ الْإِشَارَةِ بِجِهَةِ الْبُعْدِ وَالْغَيْبَةِ وَلَفْظُ "الْكِتَابِ" يَتَضَمَّنُ مِنْ كَوْنِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لَا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ الْقُرْآنِ مِنْ كَوْنِهِ مَقْرُوءًا مُظْهَرًا بَادِيًا فَهَذِهِ الْفُرُوقُ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ(52)، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ : ?أَنْ تُبْسَلَ? أَيْ تَحْبِسَ وَقَالَ الْآخَرُ : تُرْتَهَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ اخْتِلَافِ التَّضَادِّ وَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ قَدْ يَكُونُ مُرْتَهَنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ إذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ(53).
وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ جِدًّا ; فَإِنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ(54).(1/29)
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ بَلْ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ الْخَاصَّةِ كَمَا فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَفَرَائِضِ الزَّكَاةِ وَنُصُبِهَا وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْمَوَاقِيتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ(55). ثُمَّ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَفِي الْمُشَرَّكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ(56)بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ هُوَ عَمُودُ النَّسَبِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْكَلَالَةِ ; مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمِنْ نِسَائِهِمْ كَالْأَزْوَاجِ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ مُفَصَّلَةٍ ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ وَذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ نَادِرٌ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالِاخْتِلَافُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ لِذُهُولِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْغَلَطِ فِي فَهْمِ النَّصِّ وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّعْرِيفُ بِجُمَلِ الْأَمْرِ دُونَ تَفَاصِيلِهِ(57).
فَصْلٌ
الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛
إذْ الْعِلْمُ؛(1/30)
إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ.
وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ .
وَالْمَنْقُولُ؛
إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ.
وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ .
وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ - سَوَاءٌ كَانَ عَنْ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - مِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ.
وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا(58).
فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ مُوسَى مِنْ الْبَقَرَةِ.
وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَمَا كَانَ خَشَبُهَا.
وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ.(1/31)
وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخَضِرُ - فَهَذَا مَعْلُومٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ(59)، - كَالْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : "إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ" (60).
وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ.
وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛
لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى.
وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ.
وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟(61).(1/32)
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا " الْقِسْمُ الْأَوَّلُ " الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ; بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ(62).
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ(63).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ; وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ : التَّفْسِيرُ وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ أَيْ إسْنَادٌ(64); لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي;
فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ،
ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ،
ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ؛(1/33)
فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ.
وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَأَمَّا "التَّفْسِيرُ" فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ.
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفْسِيرِ مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ(65).
و" الْمَرَاسِيلُ " إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا(66).(1/34)
فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ; فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ(67). فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ(68).(1/35)
مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئْ الْأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا وَيَنْظِمَ الْآخَرُ مِثْلَهُ أَوْ يَكْذِبَ كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الْآخَرُ مِثْلَهَا أَمَّا إذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صِدْقًاً(69).
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ(70)؛
لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ؛(1/36)
وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عتبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قَرْنَهُ ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ.
وَهَذَا الْأَصْلُ(71) يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجْهَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الْآخَرِ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ;
فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحَابَةَ كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَشْهَدُ بِالزُّورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.(1/37)
وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَالْأَعْرَجِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَوْ عُبَيْدَةَ السلماني أَوْ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ .
وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَطِ; فَإِنَّ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ لَا سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِهِ.
و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا; فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ(72)؛(1/38)
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ ; فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ(73).
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ; لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ; وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ; فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الخطأ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الْخَطَأَ أَوْ الْكَذِبَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِظَاهِرِ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ; بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ " خَبَرَ الْوَاحِدِ " إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ(74).(1/39)
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ; وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فورك.
وَأَمَّا ابْنُ الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ .
وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ . وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ(75).(1/40)
و الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ ; لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَثِيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ وَبِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ;
وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ؛
قَالَ أَحْمَد : قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ(76). وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ قَاضِي مِصْرَ ; فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ ; لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ.
وَكَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَيُسَمُّونَ هَذَا "عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ"؛ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ وَغَلِطَ فِيهِ وَغَلَطُهُ فِيهِ عُرِفَ;
إمَّا بِسَبَبِ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَنَّهُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ" وَجَعَلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِتَزَوُّجِهَا حَرَامًا(77)،(1/41)
وَلِكَوْنِهِ لَمْ يُصَلِّ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ(78).
وَكَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ : "إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ"(79)، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ
الْغَلَطُ.
وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيِّ : "كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ"(80)مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: "أَنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ"(81) مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَهَذَا كَثِيرٌ(82). وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ:
طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فَيَشُكُّ فِي صِحَّةِ أَحَادِيثَ أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا غَلَطٌ(83).
وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ(84)؛(1/42)
مِثْلُ مَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ مَا يَرْوِيهِ الْوَضَّاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْغُلُوِّ فِي الْفَضَائِلِ:
مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّا.
وَفِي التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزمخشري فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ(85).
و الثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ(86).
و" الْوَاحِدِيُّ " صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ; لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلَامَةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ(87).
والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ(88).
وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ(89).
وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ(90).
وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: ?وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ? أَنَّهُ عَلِيٌّ ?وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ? أُذُنُك يَا عَلِيٌّ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي(91) مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانِ;(1/43)
فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا(92)لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ دحيم، وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ عيينة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ(93) وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ماجه، وَابْنِ مردويه:
إحْدَاهُمَا : قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا(94).
والثَّانِيَةُ : قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَالْمُخَاطَبِ بِهِ(95).
فالْأَوَّلُونَ رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ(96).
والْآخَرُونَ رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخرون، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ أَسْبَقُ .(1/44)
وَالْأَوَّلُونَ صِنْفَانِ : تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ.
وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ.
وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ.
وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ(97).
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ(98).
فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ - مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ - اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ؛
تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا.
وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ(99).
وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا وَجِدَالًا، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ;
مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ.
وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي.
وَالتَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني.(1/45)
وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ.
وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزمخشري؛
فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ(100).
وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ : التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ .
وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ.
وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا; بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ، لَا خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا، وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ.
وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ; لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ; فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ.(1/46)
وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ(101).
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ والكرامية والكلابية وَأَتْبَاعِهِمْ; فَأَحْسَنُوا تَارَةً وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ.
وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ:
تَارَةً مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.
وَتَارَةً مِنْ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ(102).
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرَوِّجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ(103).(1/47)
ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ.
فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ : ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ? هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
و ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ? أَيْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ.
و ?إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً? هِيَ عَائِشَةُ.
و ?فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ? طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ.
و ?مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ? عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ.
و ?اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ? الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.
و ?وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ? فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
و ?عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ? عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
و ?إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ? هُوَ عَلِيٌّ وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ.(1/48)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ?أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ? نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ(104)مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : ?الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ? أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ.
وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ? أَبُو بَكْرٍ ?أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ? عُمَرُ ?رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? عُثْمَانُ ?تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا? عَلِيٌّ(105).
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : ?وَالتِّينِ? أَبُو بَكْرٍ ?وَالزَّيْتُونَ? عُمَرُ ?وَطُورِ سِينِينَ? عُثْمَانُ ?وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ? عَلِيٌّ.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ(106)الَّتِي تَتَضَمَّنُ؛
تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ.
وقوله تعالى : ?وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا? كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ . والْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ!(1/49)
وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ : إنَّ قَوْلَهُ : ?إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا? أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّ قَوْلَهُ : ?وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ? أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِهِ : ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ? أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَنَحْوِ ذَلِكَ(107).
و تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنْ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزمخشري، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ(108)فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ; لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفْسِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ؛(1/50)
فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
و فِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ(109).
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ.
كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم؛
فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا(110).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ(111).
كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
والْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفْسِيرِ، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ(112).
فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ:(1/51)
أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ.
وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ.
وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ(113).
ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ(114).
وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ(115).
وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛
فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ; لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا(116)؛
مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدًا.
فَصْلٌ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ:
أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ(117)..(1/52)
فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ(118)؛ ; بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ?إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا?. وَقَالَ تَعَالَى : ?وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?. وَقَالَ تَعَالَى: ?وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ?؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "أَلَا إنِّي أُوتِيت الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" يَعْنِي السُّنَّةَ.
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ; لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ(119).
َالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنْ السُّنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : "بِمَ تَحْكُمُ؟
قَالَ : بِكِتَابِ اللَّهِ.
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟
قَالَ : بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ : فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ؟
قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي .(1/53)
قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِهِ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ" وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ(120).
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا; وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ; لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : "وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته"(121).
وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ.(1/54)
وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ حَيْثُ قَالَ : "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"(122).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ : نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ داود عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ.
فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ؟.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.(1/55)
وَلِهَذَا غَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ : "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو;
وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ(123).
وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِقَادِ فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
أَحَدُهَا : مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ .
و الثَّانِي : مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
و الثَّالِثُ : مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ(124)، وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرًا وَيَأْتِي عَنْ الْمُفَسِّرِينَ خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ:(1/56)
كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ وَعِدَّتَهُمْ وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ ؟ وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ، وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ(125)، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ?سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ(126)وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ(127) رَجْمًا بِالْغَيْب(128)وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ(129) قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا?.
فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا؛
فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ; إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا(130).(1/57)
ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : ?قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ?، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ; فَلِهَذَا قَالَ : ?فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا? أَيْ : لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ ; لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْأَهَمِّ(131).
فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ; إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ(132) أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا.
فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ.
كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ((133فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
فَصْلٌ(1/58)
إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحَابَةِ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ(134)؛
كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ : حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عرضات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا(135).
وَبِهِ(136) إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ : مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْت فِيهَا شَيْئًا وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : قَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت(137).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ : حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ : فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ.
وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ .
وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ.
وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.(1/59)
وَأَبِي الْعَالِيَةِ.
وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ.
وقتادة.
وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ.
وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛
فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي(138).
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: أَقْوَالُ التَّابِعِينَ فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفْسِيرِ؟! يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ(139).
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" .(1/60)
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ".
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ. وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.(1/61)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرُ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ : ?فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ? فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛
كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? فَقَالَ : أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ مُنْقَطِعٌ.(1/62)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حميد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ : ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ : إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ (140).
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ : ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا رضي الله عنهما إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ; لقوله تعالى تَعَالَى : ?فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا. حَدَائِقَ غُلْبًا?.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.(1/63)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ : ?يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ? فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا : ?يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ?؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي أَوْ قَالَ : أَنْ تُجَالِسَنِي(141).
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ: إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا.
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنْ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ.(1/64)
وَقَالَ ابْنُ شوذب : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ : كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ.
وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ : ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ(142).
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إذَا حَدَّثْت عَنْ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ(143).
حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفْسِيرَ وَيَهَابُونَهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ : قَالَ الشَّعْبِيُّ وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ(144).(1/65)
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : حَدَّثَنَا هشيم أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : اتَّقُوا التَّفْسِيرَ فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ اللَّهِ .
فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ; وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ وَلَا مُنَافَاةَ; لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ; لقوله تعالى : ?لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ?، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ : "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ"(145).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا. وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ. وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ. وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ(146). وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
دليل المحتويات
الصفحة
الموضوع
2
المقدمة
3
نبذة مختصرة عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
3
الدرس الأول: تعريف أصول التفسير - موضوعه، مراحله.
11
مقدمة المصنف، الدرس الثاني
13(1/66)
شروط قبول التفسير بالدراية - معنى التفسير، شرح عبارة ( ليس كل ما صح لغة صح تفسيراً )
16
الدرس الثالث عشر
17
تفسير آيات المقدمة - قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري..)، معاني الإعراض
18
الآيات الدالة على عذاب القبر في القرآن
19
تفسير قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور..) - وتفسير آية سورة إبراهيم
20
أنواع الهداية - تفسير آية سورة الشورى
21
الدرس الرابع - قاعدة : الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات حتى فسَّر لأصحابه جميع القرآن
22
الأدلة على هذه القاعدة
25
ما ينبني على هذه القاعدة - التفسير نوعان
27
القاعدة الثانية: خلاف السلف في التفسير قليل
29
الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل
34
الدرس الخامس: التعريف بالمثال
35
صيغ تعبير السلف عن سبب النزول - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب : معناه وضابطه
36
فائدة معرفة سبب النزول
37
أهمية تفسير ( زاد المسير لابن الجوزي )
38
صيغ سبب النزول - إذا جاء ت عبارات صريحة واختلفوا في السبب - هل يصح القول بتكرار نزول القرآن
40
الألفاظ في اللغة على أنواع
42
الدرس السادس
43
سر إعجاز اللفظ القرآني
44
تضمين الفعل معنى الفعل - هل يوجد في اللغة حروف تنوب عن بعضها
48
قاعدة : في جمع عبارات السلف
49
الاختلاف نوعان : تنوع وتضاد
50
الدرس السابع: الاختلاف في التفسير على نوعين - الاختلاف المستند على النقل
51
قاعدة : في المبهمات في القرآن
52
أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام
53
خطورة القول بأن بعض الصحابة يأخذ بالإسرائيليات مطلقاً
54
المنقول في التفسير على نوعين
56
هل يرد خبر الفاسق مطلقاً ؟
57
ضوابط قبول القصص والأخبار
59
الدرس الثامن: تقوية الحديث الضعيف بتعدد طرقه
62
الكلام عن قبول خبر الواحد والرد على المخالفين من أهل البدع فيه
64
قاعدة شريفة في الرجوع في أي علم لأهله
67
الدرس التاسع: الحكم على الحديث لا يتوقف على مجرد السند
68(1/67)
الكلام على الثعلبي والواحدي والبغوي وكتبهم
69
مسألة الجهر بالبسملة
70
الدرس العاشر: الاختلاف المستند على الاستدلال - ضابط التفسير بالمأثور - الفرق بين كتب التفسير بالمأثور وكتب التفسير بالرأي
71
خطورة التفسير باللغة فقط
72
أحوال المفسرين الذين حملوا النصوص على ما يعتقدونه
73
الفرق بين إعجاز السنة وإعجاز القرآن
74
حال طالب العلم مع كتب أهل البدع
75
أصول المعتزلة الباطلة
77
نماذج من تفاسير أهل البدع
78
قاعدة مهمة: إذا اختلف الصحابة في مسألة فهل يجوز إحداث قول خارج عن أقوالهم
80
الدرس الحادي عشر: ليس لأحد أن يفسر القرآن أو الحديث على غير تفسير الصحابة والتابعين
80
مثارات الاختلاف في التفسير
81
أقسام الناس في التفسير
82
الإجمال على معنيين
83
أحسن طرق التفسير
84
السنة مثل القرآن في التشريع
86
هل تلقي العلماء للحديث بالقبول يفيد ثبوته ؟
88
الدرس الثاني عشر: ما المقصود بالفقه في الدين ؟ - الفرق بين التأويل والتفسير
92
الضوابط في حكاية الخلاف
93
الدرس الثالث عشر: كلام التابعين في التفسير
94
نزول القرآن على سبعة أحرف
95
تفسير القرآن بالرأي المجرد حرام
99
الدرس الرابع عشر والأخير: مراعاة السياق والسباق في التفسير
100
شرح حديث: ( من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار . . . )
101
قاعدة : قول ابن عباس : ( التفسير على أربعة أنحاء ... ) وشرحه
101
الخاتمة
(1) رواه البخاري في كتاب الجمعة ( 1189) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، وغيرهما .
(2) جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب المناسك ( 2042) ، وأحمد في مسنده ( 8586) . وحسنه الألباني في كتابه (تحذير الساجد ص 97 ).
(3) رواه أحمد في المسند ( 7311) ، وأبي يعلى في مسنده (1/312) وغيرهما وصححه الألباني في كتابه : تحذير الساجد (ص/18) .(1/68)
(4) مجموع الفتاوى (18/99، 109). وهذا هو تاريخ حجته رحمه الله وعمره تقريباً 15 سنة. وقد ذكر في اقتضاء الصراط المستقيم (3/339) أنه ألف منسكاً في الحج قبل أن يحج في أول عمره! ولعل هذا السماع من ابن المجاور كان في هذا الوقت.
(5) التعريفات للجرجاني ص171.
(الدرس الثاني 29/3/1423)
(1) بدأ كتابه بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) كما في نص المخطوط فقال: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسِّر وأعن برحمتك ثم ذكر (الحمد لله نحمده ... ) .
بدأ بالبسملة جرياً على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في كتبه ورسائله إلى الملوك وغيرهم فقد جرت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بالبدء بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فالبدء بها في أول التأليف أو في أول الكلام هو من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد اقتصر بعض المصنفين في الحديث على البسملة دون ذكر الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يعني دون ذكر خطبة الحاجة مثل ما صنع الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح فإنه بدأ كتابه : (بسم الله الرحمن الرحيم باب بدء الوحي) ولم يذكر الحمد لله ولا الصلاة والسلام على رسول الله استغناء بالبسملة وما فيها من الثناء على الله سبحانه وتعالى وبما يناسب هذا الكتاب من البدء ببدء الوحي فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم باب بدء الوحي).(1/69)
وما ورد من الروايات المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ أَقْطَعُ ) [رواه ابن ماجه] ، وفي رواية : (كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ ) [رواه أبوداود] أو نحو ذلك ، فهذه الروايات ضعفها أهل العلم ولم يثبتوا من ذلك شيئاً ، لكن سنية البدء بالبسملة في أول التآليف وفي أول الكتب وفي أول الكلام تؤخذ من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم ورسائله التي كان يبدأها ببسم الله الرحمن الرحيم ، والله عز وجل ذكر لنا في القرآن الكريم أن سليمان عليه السلام لما أرسل كتابه إلى بلقيس بدأه ببسم الله الرحمن الرحيم ، والله تعالى يقول : (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(الأنعام: من الآية90) فأمر بالاقتداء بما كان عليه الأنبياء ، وهكذا جرى فعله صلى الله عليه وسلم فكان يبدأ رسائله وكتبه ببسم الله الرحمن الرحيم ، وعلى هذه السنة جرى المصنف رحمه الله .
(2) هكذا ذكر المصنف هذه الخطبة ، وهي خطبة قريبة في ألفاظها من خطبة الحاجة. وههنا مسألة: إن قلنا : إن خطبة الحاجة من باب الأذكار والأدعية فإنه لا يجوز - على الراجح من كلام أهل العلم - التصرف في ألفاظها؛ وعليه فإن الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ليس هو خطبة الحاجة، وليس من باب روايتها بالمعنى لأننا نقول : إن خطبة الحاجة من باب الأدعية والأذكار التي لا يجوز روايتها بالمعنى .(1/70)
عند العلماء قاعدة وهي : أن باب الأدعية والأذكار يورد بحسب اللفظ الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والدليل: حديث عند مسلم في الصحيح عن الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْت"َ فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ فَقُلْتُ أَسْتَذْكِرُهُنَّ: "وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" قَالَ: "لَا وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ ) .
استدل العلماء بهذا الحديث الذي أخرجه مسلم : على أن ألفاظ الأدعية والأذكار الواردة في الأحاديث النبوية لا يجوز روايتها بالمعنى، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن للبراء أن يغير لفظة : (وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) إلى (وبِِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) فلما لم يأذن له بذلك دلَّ على أن أحاديث الأدعية والأذكار تُروى بلفظها، لا بالمعنى .
فإذا قلنا : إن حديث خطبة الحاجة من باب الأدعية والأذكار فإنه لا يجوز التصرف في خطبة الحاجة تورد في أول الكلام كما جاءت في الحديث ، فإن تصرَّف الإنسان فيها فإنه لم يقل خطبة الحاجة ، ولذا نحن نقول : إن هذا التصرف من شيخ الإسلام يدل على أنه لا يريد إيراد خطبة الحاجة .(1/71)
فإن قيل ما حكم إيرادها ؟ أقول : الذي جرى عليه أهل العلم أن حكم إيرادها : من باب المستحبات والسنن ، وحيث إن هذه السنة أميتت في هذا العصر سعى كثير من العلماء إلى إحيائها فحرصوا على أن يفتتحوا بها كتبهم من باب إشاعة السنة وإحيائها .
(6) في مقدمة كل كتاب يذكر المصنف - أي مصنف - الباعث له على التصنيف ومقصوده في التصنيف ، ثم أقسام ما يورده من العلم داخل هذا الكتاب من أجل تحرير البحث أو المسألة التي يريد الكتابة فيها .
هكذا جرت عادة المصنفين وشيخ الإسلام لم يخرج عن عادة غيره فإنه بدأ بذكر الباعث على التأليف فذكر أن الباعث له على التصنيف : أن بعض إخوانه رحمه الله سأله أن يصنف له كتاباً يذكر فيه قواعد كلية تساعده على فهم القرآن الكريم ، إذاً هذا الباعث لتصنيف هذا الكتاب .
ذكر شيخ الإسلام أن هذا الكتاب مقدِّمة أو مقدَّمة ، في علم اللغة العربية وفي كتبها يقولون : إن ( المقدَّمة ) هي أول الشيء ، و(المقدِّمة) بالكسر هي الكلام الذي تقدِّم به شيئاً آخر ، فهل شيخ الإسلام أراد بكتابه هذا أن يصنِّف مقدِّمة يقدم بها شيئاً آخر ، أو أراد بكتابه هذا أن يجعله مقدَّمة للتفسير ؟ الصحيح : أن شيخ الإسلام أراد بكتابه هذا أن يجعله مقدَّمة للتفسير يضعها بين يدي من يريد أن يفهم كتاب الله وبين يدي من يريد أن يفسر كتاب الله فهي مقدَّمة وليس مقدِّمة ولذلك يخطئ بعض الناس حينما يسمي بعض المقدَّمات يسميها مقدِّمات ، الصواب أنها مقدَّمات . من ذلك : ابن خلدون في مقدِّمة تاريخه (ديوان المبتدأ والخبر في أحوال العرب والعجم والبربر)، فإنه جعل لهذا الكتاب مقدَّمة وضع فيها أصول التاريخ ومنهج التاريخ وكيفية التثبت من تحقق المعلومات وقواعد الاجتماع وما يترتب عليها فهي مقدَّمة ابن خلدون لتاريخه . وكذلك : مقدَّمة تفسير الطبري ولا تقل مقدِّمة بل قل : مقدَّمة .(1/72)
وتسمى بعض الكتب بالمقدَّمات ويعنى بها : الكتاب الذي يضم الأمور الكلية التي ينبني عليها علم آخر أو ينبني عليها ما وراءها ، ولذلك مثلاً : كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث اشتهر عند العلماء بمقدَّمة ابن الصلاح لماذا ؟ هو ألَّف هذا الكتاب ليكون عوناً للطالب إذا ما دخل في علم الحديث رواية ودراية ، هي ليست كل علم الرواية والدراية بدقائقها وبتفاصيلها ولكنها مقدَّمة يضع فيها الأمور الكلية التي ينبني عليها ما ورائها.
فهذا الكتاب مقدَّمة لأي علم ؟
لعلم التفسير ، قدَّمه شيخ الإسلام ليُجعل بين يدي من يريد أن يفسر كتاب الله، فيكون بين يدي التفسير .
(7) إذاً هذه القواعد تعين على فهم القرآن، هي بمجردها ليست تفسير القرآن ولكن تعين على فهم القرآن.
…والقاعدة : القضية الكلية المحيطة بمجموعة جزئياتها، فهو سيذكر قضايا كلية تحيط بمواضيع كثيرة تتعلق بتفسير القرآن، ويرجع إليها؛
مثلاً : من هذه القواعد قاعدة سيذكرها المصنف في أول فصل : أن تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر لأصحابه جميع القرآن ، وهذه قاعدة عظيمة ينبني عليها أمور كثيرة من أيسرها وأهونها : أن تعلم أن تفسير الصحابي للقرآن بيقين أو بغلبة ظن هو مما استفاده من الرسول صلى الله عليه وسلم فيعطي تفسير الصحابة قيمة عليا . ومن فوائد هذه القاعدة: أن لا تهجم على تفسير الآية حتى تراجع كتب التفسير بالمأثور فلعلك تجتهد برأيك في تفسير الآية بحسب قواعد الاجتهاد والاستنباط وبحسب اللغة لكن لا يقع تفسيرك موافقاً للتفسير بالمأثور فيكون تفسيرك من باب التفسير بالرأي المذموم ولذلك جعل العلماء شروط قبول التفسير بالرأي الذي يسمونه : التفسير بالدراية جعلوا لقبوله خمسة شروط :
1- أن لا يخالف التفسير بالمأثور مخالفة تضاد .(1/73)
2- أن يتفق مع سياق الآية وسباقها ولحاقها (سياق الآية هو : الجو العام الذي وضعت فيه الآية والذي جاءت فيها الآية ، وسباقها: ما يسبقها ، ولحاقها: ما يتلوها) وهذا إشارة إلى علم المناسبات.
3- أن لا يتنافى مع دلالة الألفاظ من حيث اللغة ، ما تأتي لمعنى في الآية لا يتفق مع دلالة الألفاظ من حيث اللغة لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن القرآن أنه أنزل بلسان عربي مبين .
4- أن لا يتعارض مع أصول الشرع ، يعني : قد تأتي بتفسير وتقول هذا التفسير لا يتعارض مع التفسير بالمأثور ولا يتعارض مع سياق الآية وسباقها وهو يتفق مع دلالات اللفظ في اللغة ولكن يعارض أصول الشرع ، فهذا أيضاً مرفوض .
5- أن لا يؤدي إلى نصرة أهل البدع والأهواء المذمومة .
هذه الشروط الخمسة لا بد منها حتى يكون التفسير بالرأي والاجتهاد مقبولاً، و أول شرط فيها : أن لا يخالف التفسير بالمأثور مخالفة تضاد. هذا الشرط لماذا اشترطناه ؟
نقول: يا أخي لأن عندنا من قواعد التفسير : أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للصحابة جميع القرآن فما يصح أن تأتي بمعنى خلاف ما بينه الصحابة ، ولو قال : أنا أجتهد كالصحابة، نقول له: أنت لا تحسن كالصحابة ، لأن تفسير الصحابي يغلب على ظننا أنه مما استفاده من الرسول صلى الله عليه وسلم، فله حكم الرفع في تفسير القرآن الكريم.
فهذا الكتاب مقدَّمة في التعريف بقواعد كلية تعين على فهم القرآن بدون هذه القواعد قد تفسر القرآن وقد تفهمه ولكن بصعوبة، وقد لا تفهمه الفهم السديد!(1/74)
(1) التفسير يراد به : تفسير الألفاظ ، والمعاني : يراد بها دلالة الجملة بألفاظها على المعنى ، والعلماء الآن يقولون : نحن نفرق بين أمرين بين تفسير اللفظ والمراد من اللفظ ، فمثلاً قوله تعالى : (وَالضُّحَى) ، أقول لك : الضحى هي ساعة من ساعات النهار ، فما المراد من قوله تعالى : (وَالضُّحَى .وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) ، أقول المراد هنا : قسم أراد الله عز وجل به تعظيم هذا المخلوق الذي خلقه وهو وقت الضحى ، ولفت الأنظار إليه إذ أنه من الأوقات .. إلخ ، وهذا يسمونه : بيان المراد، فتفسير اللفظ شيء وبيان المراد شيء آخر؛
فتفسير اللفظ هو بيان معناه من جهة اللغة، والمراد من اللفظ هو تبيين معناه داخل السياق الذي جاء فيه.
…إذاً حينما قال : ( ومعرفة تفسيره ومعانيه ) أي : تفسير الألفاظ وبيان المراد منها ، ولذلك العلماء يقولون : (تفسير غريب القرآن) يعني : الألفاظ ، فإن فسروها بحسب الدلالة اللغوية بدون مراعاة المعنى الشرعي فهذا تفسير لغوي لا ينبغي أن يُعتمد بمجرده في تفسير القرآن لماذا ؟ لأن عندنا في كل لفظ يرد في القرآن أو في الحديث أربع احتمالات من حيث المعنى :
1- إما أن يكون لهذا اللفظ معنى شرعي .
2- وإما أن يكون لهذا اللفظ معنى عرفي .
3- وإما أن يكون له معنى لغوي .
فإن لم يوجد له معنى لغوي ولا معنى شرعي ولا معنى عرفي؛ نُظر فيه بحسب الحقيقة والمجاز عند من يقول بها .
فإذا أنت فسرت اللفظ من حيث اللغة قبل النظر هل له معنى شرعي أو عرفي؛ فأنت قد هجمت على تفسير القرآن بالرأي لأنه ليس كل معنى صح لغة صح تفسيراً، وينبغي لمن أراد أن يفسر غريب القرآن أن يفسره بحسب المراد منه، إن كان المراد منه في هذا الموضع المراد الشرعي أورده ، إن كان المراد منه في هذا الموضع المراد العرفي أورده، إن كان المراد منه في هذا الموضع المراد اللغوي أورده .(1/75)
خذ مثلاً : كلمة ( الصلاة ) في اللغة ما معناها ؟ الدعاء ، في الشرع : وردت الصلاة بمعان ، وردت بمعنى الصلاة ذات الركوع والسجود التي هي مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، ويعرفها الفقهاء بقولهم : أقوال وأفعال مفتاحها الطهور ، تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، ووردت الصلاة بمعنى : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، نقول : اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) (الأحزاب:56) ، ووردت أيضاً في القرآن والسنة بمعنى : الدعاء ، (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَن لَهُمْ)(التوبة: من الآية103) يعني : وادع لهم إن صلاتك سكن لهم .
إذا جاء من يفسر القرآن بحسب الدلالة ولم يُلزم نفسه إلا بالتفسير اللغوي فإنه سيفسر كل هذه المواضع بمعنى واحد : الصلاة بمعنى الدعاء ، وهذا خطأ إذ هذا المعنى إن صحَّ لغة لا يصح تفسيراً ، فالله تعالى يقول : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )(البقرة: من الآية43) فيقول : الصلاة يعني الدعاء ، يصح هذا ؟! ليس هذا هو المراد .
إذاً ليس كل ما صح لغة صح تفسيراً.
وليس كل ما صح إعراباً صح تفسيراً.
وهذه قاعدة أخرى نبه عليها ابن هشام في (مغني اللبيب) ص684، فقد تأتي أوجه من الإعراب للألفاظ تسوغ لغة ونحواً ولكن لا تسوغ تفسيراً؛ حيث ذكر ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الخامس الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها وهي عشرة، الجهة الأولى : أن يراعي ما يقتضيه ظاهر الصناعة و لا يراعي المعنى، وكثيرا ما تزل الأقدام بسبب ذلك"اهـ
وقد نبه على القاعدتين ابن القيم أعني قاعدة مراعاة لغة القرآن والسنة ومعهودهما عند التفسير ، وقاعدة أن يراعي في الإعراب معاني القرآن، فليس كل معنى صح إعراباً صح تفسيراً.(1/76)
مرادي : أن أنبه على أن شيخ الإسلام حينما قال : (ومعرفة تفسيره ومعانيه) أراد : بيان تفاوت القضية بين تفسير الألفاظ وبيان المعاني ، والعلماء يكثر عندهم قولهم : فرق بين التفسير والمعنى المراد ، تفسير اللفظ من حيث هو لفظ ، أما المراد : بيان دلالة اللفظ مع الألفاظ الأخرى التي كونت جملة وشكلت معنى .
(1) هذا إشارة منه إلى أن التفسير نوعان : 1- تفسير منقول .……2- تفسير معقول .
ونحن نسميه هذه الأيام : التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي، فالمنقول هو المأثور ، والمعقول هو التفسير بالرأي.
وقدمت أن التفسير بالرأي لا يجوز إلا بخمسة شروط .(1/77)
(2) انظروا كيف أفرد الحق وعدّد الباطل؛ لأن الحق واحد ، وهذا اتبع فيه أسلوب القرآن الكريم فإن القرآن الكريم لما يذكر الحق مع الباطل يذكر الحق واحداً ويعدد الباطل قال تعالى : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (البقرة:257) ، فعدّد الظلمات وأفرد النور لأن الحق واحد نور الهداية واحد لا يتعدد لكن الباطل أنواع وسبل وطرق . الحديث الذي أخرجه بعض أصحاب السنن وغيرهم : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطَّاً ثُمَّ قَالَ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ هَذِهِ سُبُلٌ - قَالَ يَزِيدُ مُتَفَرِّقَةٌ - عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ: (وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) [أخرجه : أحمد والدارمي] ، فالباطل متعدد ، ولذلك هناك مسألة أصولية قال أهل العلم : قولهم : (كل مجتهد مصيب ) فيه نظر لماذا ؟ قالوا : لأن الحق واحد وليس كل من اجتهد في المسألة أصاب الحق فإما أن يكون قولهم : ( كل مجتهد مصيب ) يعني : في الأجر ، فالمجتهد بين أجر وأجرين ، أو هي عبارة باطلة لماذا ؟ قالوا :لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أنه ليس كل مجتهد مصيب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) [رواه البخاري ومسلم وغيرهما] ، فبين أن هناك من يجتهد ويصيب وهناك من يجتهد ويخطئ ، فقولهم : ( كل مجتهد مصيب ) باطل لأن الحق واحد لا يتعدد.(1/78)
هنا شيخ الإسلام راعى هذا كله فقال : (والتمييز في معقول ذلك ومنقوله بين الحق وأنواع الأباطيل)، فالتمييز في المنقول : بمعرفة الأسانيد صحيحها وضعيفها وما يترتب عليها من علم الصناعة الحديثية . وفي المعقول : بمراعاة أصول الشرع والفهم من الشرع ، وسيشير شيخ الإسلام - إن شاء الله - في ثنايا كتابه إلى أشياء حول هذه القضية .
(3) يقول الشيخ: إنه يريد من هذه المقدَّمة أن ينبه فيها إلى الدليل الفاصل بين الأقاويل، وشيخ الإسلام له قاعدة يقول: (ما من دليل استدل به على باطل إلا وكان في الدليل نفسه ما ينقض استدلاله به) ، وهكذا كل قول يستدل به أناس أو يذهبون إليه ويكون هذا القول باطل إلا ويكون له في الدليل الذي استدلوا به في الآية أو الحديث ما يبطله وما يدل على بطلانه .
والمصنف سيذكر لك بعض القواعد التي تعينك على التمييز بين الأقاويل سواء كانت هذه الأقاويل مبنية على المأثور أو مبنية على
المعقول؛ لأنه يرد في الآية أكثر من معنى، لكن
هل هذه المعاني كلها مرادة أو غير مرادة أو بينها تضاد ؟
كيف ترجح هذا المعنى على هذا المعنى ؟
كيف تجمع بين هذه الأقوال؟
كيف تفرق بين هذه الأقوال؟
هذا بابه باب التعارض والترجيح وأصول أخرى حوله، ذكرها العلماء سيشير إليها رحمه الله في هذا الكتاب إشارات كلية .
(1) العلم لا يخلو من هذين الأمرين :
إما نقل مصدق.
أو قول محقق.
والنقل المصدق هو نص شرعي من آية أو حديث.
والقول المحقق يعني : فهما ، تفهمه من الشرع من هذه النصوص تأتي به فتحققه وترى فعلاً هذا الكلام صحيح أو غير صحيح.
والمصنف يشير بذلك إلى أن أقوال العلماء في التفسير لا تخرج عن ذلك، فما كان منها من باب النقل سنطبق فيها قواعد النقل، وما كان منها من باب العقل والفهم سنطبق فيه القواعد المتعلقة به.(1/79)
(2) هذا الوصف الذي ذكره شيخ الإسلام للقرآن الكريم جاء مرفوعاً في حديث من طريق الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحارث متكلم فيه بل نسبه بعض العلماء إلى لكذب ، وبلغ من شدة ضعف هذا الحديث أن الشوكاني أورده في ( الفوائد المجموعة ) وعلَّق المعلمي - رحمه الله - محقق الكتاب عليه بما معناه : بأن هذا الحديث ضعيف مبنى صحيح معنى ، فمعناه صحيح.
وذهب بعض العلماء إلى إثبات هذا موقوفاً عن علي رضي الله عنه.
وهذه الأوصاف التي تضمنتها هذه العبارة كلها حق .
وإدراج المصنف في كلامه كلاماً لغيره دون الإشارة يُعرف في البلاغة بالتضمين ، إذا قلنا : إن هذا أثر موقوف عن علي فنقول : إذا ضمن الناثر أو الشاعر في كلامه كلاماً لغيره دون أن يقول : قال فلان ، فإنه يسمى في البلاغة: (تضمين) ، وإن ضمَّن الناثر أو الشاعر آية أو حديثاً دون أن يقول في أول الآية : قال الله ، أو يقول في أول الحديث: قال رسول الله ، فإنه يسمى في علم البلاغة : (اقتباس) .
فهذا الذي صنعه المصنف إما تضمين إذا قلنا : إنه موقوف عن علي ، وإما اقتباس إذا قلنا : إنه حديث مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذا من التفنن في أداء المعنى المراد .
ومناسبة إيراد هذا المقطع لا تخفى عليكم : إذ فيها ذكر فضائل عظيمة للقرآن الكريم، فهو وصفه بأنه : حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق - يعني : لا يقدَم ، تقول : ثوب خَلِق يعني ثوب قديم - ولا يخلق على كثرة الترديد ، يعني : كلما ترجع تقرؤه تشعر أنه جديد لا تمله ولا تشعر أنه أصبح كلاماً معانيه متكررة - سبحان الله - وهذا يشهد به كل أحد يقرأ القرآن ويختم أكثر من ختمة وفي كل مرة يشعر أنه شيء جديد فيه فوائد جديدة ومعان جديدة وأشياء جديدة تنقدح في نفسه من هذه التلاوة .(1/80)
قوله : ( ولا تنقضي عجائبه ) أي : معانيه التي يشير إليها كثيرة ، فلا تفنى عجائبه كلما تكتشف شيئاً تجده يتضمن شيئاً آخر .
وبعض الناس يتوسع في هذه القضية فإنه يتجرأ في تحميل القرآن ما لا يحتمل من قضايا العلم الحديث مرتكزاً في ذلك على قضية ( لا تنقضي عجائبه أو لا تفنى عجائبه ) ، والتفسير العلمي للقرآن : هو من باب التفسير بالرأي لا يُقبَل إلا إذا توفرت فيه الشروط الخمسة السابقة[ص:13] ، فبعض الناس يأتي ويُدْخِلُ في تفسير الآية ويُحَمِّلُها من المعاني العلمية ما يتنافى مع السياق والسباق أو ما يخالف مخالفة تضاد ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة أو ما يَخْرُج باللفظ عن دلالته اللغوية، فهذا تفسير بالرأي المذموم و لا يغير واقعه شيئاً أن يقال: إن القرآن (لا تنقضي عجائبه) لأني أقول: نعم لا تنقضي عجائبه ولكنه ليس كتاب علم وليس كتاب جغرافيا ولا كتاب هندسة ولا كتاب طب ولا كتاب جيولوجيا ولا كتاب فلك ولا كتاب أحياء ، هو قرآن كتاب هداية وإعجاز لا تجد فيه خللاً، واستنباط ما فيه بالرأي يشترط في قبوله الشروط السابقة في قبول التفسير بالرأي، ومنه التفسير العلمي! وتناول القرآن على هذا الأساس بهذه الحيثية لا بأس به؛(1/81)
مثلاً قوله تعالى : (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) (الرحمن:20) ، هذا إشارة إلى حقيقة علمية : أن في ملتقى الأنهار مع البحار برزخ أي : حاجز وفاصل - يقولون في العقيدة : الحياة البرزخية يعني التي تفصل بين الدنيا والآخرة - نقول : هنا حقيقة علمية أشار الله إليها أن ما بين مصب ماء النهر وماء البحر برزخ فاصل بين المائين ، نعم الآن العلم الحديث أثبت هذا الحمد لله ، هذه قضية أوردها الله عز وجل في ثنايا الآية من باب الامتنان وإنعامه على الناس وبأنه وحده مستحق أن يُعبد دون سواه . وليس باللازم أن كل حقيقة علمية أو كل معلومة علمية تجد لها في القرآن أصلاً ، لا ، القرآن لم يوضع لهذا .
إذاً قضية (لا تفنى عجائبه أو لا تنقضي عجائبه) هذه القضية مضبوطة في التفسير العلمي بشروط قبول التفسير بالرأي الخمسة، إن لم تتوفر يكون هذا التفسير تفسير بالرأي الباطل المذموم ، إذاً (لا تنقضي عجائبه) لمن استعمله على الأصول العلمية المعتبرة عند أهل العلم. هذا هو المقصود بقوله : "لا تنقضي عجائبه"، فليست القضية متروكة هكذا بدون قواعد وبدون ضوابط ، يأتي الإنسان ويُحمِّل القرآن أموراً وأشياء ومعان هي ليست من دلالة لفظه أو هي ليست مما يناسب سياق الآية أو هي مما يخالف ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة مخالفة تضاد ، هذا خطأ ولا يصح الارتكاز على قضية "ولا تنقضي عجائبه".
(8) هذا إشارة إلى الحديث الوارد عن الرسول صلى اله عليه وسلم أنه قال : ( مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ ) [ أخرجه الترمذي ].
(الدرس الثالث : 7/3/1423هـ) .(1/82)
(2) لاحظتم أن القارئ قرأ هذه الآيات دون تلاوة وهذه هي السنة ، فبعض المحاضرين وبعض الخطباء إذا تكلم في أثناء الخطبة وفي أثناء الكلام وأورد آية على سبيل الاستدلال يغير صوته عند ذكر الآية أو عند ذكر محل الشاهد فيقرأها كما يقرأ القرآن ، ولم تكن هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم . والعلماء - رحمهم الله - بينوا أن هناك فرقاً بين مقامين :
1. بين مقام إيراد الآية على سبيل التلاوة والقراءة .
2. وبين إيراد الآية على سبيل الاستشهاد والاستدلال .
ففي المقام الثاني قالوا : لا يغير فيها القارئ صوته ولا يقرأها كما يقرأ في تلاوة القرآن ، قالوا : لأن الأحاديث التي وردت وورد فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أورد آية أو بعض آية أثناء الحديث لم يذكر الصحابة رضوان الله عليهم أنه غيَّر صوته ، وللسيوطي رسالة ضمن كتاب ( الحاوي ) (2/297)، اسمها "القذاذة في تحقيق محل الاستعاذة" قرر فيها الفرق بين قراءة القرآن للتلاوة وبين إيراد آية منه للاحتجاج، قلت: ومن ذلك هنا تغيير الصوت بالتلاوة عند إرادة القراءة دون الاحتجاج. وهي من البدع الشائعة التي ينبغي الحذر منها.
…أقول : أورد المصنف هذه الآيات للتدليل على أن القرآن الكريم كتاب هداية وكتاب إعجاز وأن من طلب الهدى في غير القرآن الكريم أضله الله.
…أما الآية الأولى : فهي قوله تعالى : :( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى*وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:123-126) .(1/83)
…في هذه الآيات يذكر الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي آدم وذريته من الله سبحانه وتعالى رسل (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) يأتي هؤلاء الرسل بالهدى ليخرجوا الناس من الضلال إلى النور ، وتعهد الله سبحانه وتعالى لمن اتبع هذا الهدى أن لا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن هذا الهدى فلم يتبعه ولم يأخذ به ، أو كفر به وأنكره فإنه سيعيش عيشة ضنكاً . قال العلماء : عيشة ضنكاً في الحياة الدنيا ، وعيشة ضنكاً في البرزخ ، وعيشة ضنكاً ستكون له في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) فالعيشة الضنك هنا المراد منها : عيشته في الدنيا وفي البرزخ ، وفي الآخرة هي عيشة ضنك أيضاً . صورتها قال: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) هذه الآية فيها مسائل :
1- فيها بيان أن القرآن كتاب هداية وأن لا هدى ولا سعادة ولا خلاص من الشقاء للناس إلا باتباع هذا الهدى، فمن ترك الاهتداء بكتاب الله سبحانه وتعالى وبشرعه سبحانه وتعالى فإنه في ضلال وفي شقاء وفي تعاسة.
2- قوله في هذه الآية : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) الإعراض عن ذكر الله المراد منه: الإعراض عن كتاب الله.
فقوله : (عَنْ ذِكْرِي ) هل هو من باب إضافة الاسم إلى المفعول ؟ أو من باب إضافة الاسم إلى الفاعل ؟ أو إضافة اللفظ إلى الاسم؟
قال العلماء : الصواب أنه من باب إضافة اسم الفاعل إلى الاسم، ولا يصح أن تكون الإضافة إلى المفعول.
ما الفرق بين هذه الثلاثة ؟(1/84)
إذا قلت في قوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِي ): المراد به : إضافة إلى اسم المفعول؛ فيصير المعنى: من أعرض عن أن يذكر الله يعني بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ونحو ذلك، فـ (ذكري) أي ما يُذكر به سبحانه، وهو قول العبد: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله.
ولو قلنا : الإضافة من باب الإضافة إلى اسم الفاعل؛ لصار المعنى : من أعرض عن ما ذكره الله، وهو كلامه، الذي هو القرآن العظيم.
ولو قلنا : إن المعنى من باب الإضافة إلى الاسم فيصير اسم ( الذِّكْر ) هو اسم للكتاب ابتداء فيكون المعنى : من أعرض عن كتاب الله أو عن شرع الله.
فأي المعاني هي المرادة هنا ؟ هل المراد في هذه الآية : من أعرض عن أن يذكر الله ؟ أو المراد في هذه الآية : من أعرض عن شرع الله وعن كتاب الله وعن ما أنزله الله سبحانه وتعالى من كتاب يكون به الهداية ؟
قال العلماء : المعنى الثاني والثالث هو المراد ويدخل فيه ضمناً المعنى الأول ، ولو قلنا : إن المعنى الأول هو المراد لصار دخول المعنى الثاني والثالث فيه بُعْد؛
وعليه فإن الإضافة من باب إضافة الاسم إلى اسم الفاعل أو إلى الاسم .
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) أي : عن كتابي الذي أنزلته ، أو أعرض عن شرع الله أو دين الله أو كتاب الله .
وقد جاء في القرآن تسمية القرآن بالذكر قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، سُمي القرآن بالذكر ، فيصير ( عن ذكر الله ) يعني : عن كتاب الله سبحانه وتعالى .
3- الإعراض عن ذكر الله يطلق على ثلاث معان :
الأول: الإعراض بمعنى : الجحود .
الثاني: الإعراض بمعنى التكذيب.(1/85)
والفرق بين الجحد والتكذيب : أن الجحود يكون باللسان، والقلب يعتقد صدق ما يكذب به، كما قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14). والتكذيب يكون باللسان والقلب، فهو لا يصدق بلسانه ولايعتقد في قلبه كذلك؛ فمن صدق بقلبه وكذب بلسانه فهذا الجحود، ومن كذب بلسانه وبقلبه فهذا التكذيب.
الثالث: الإعراض بمعنى التولي والإدبار عن شرع الله.
وهذه الثلاثة الإعراض فيها كفر أكبر محرج من الملة.
الرابع: الإعراض بمعنى : عدم العمل بما فيه على وجه المعصية، فإن من خالف شرع الله وارتكب المعاصي والمحرمات ولم يفعل الأوامر والواجبات فقد أعرض عن ذكر الله ولكنه في هذه الصورة لم يكفر كفراً أكبر، ما دام الذي تركه ليس مما يكفر تاركه. والإعراض عن ذكر الله هنا صاحبه من أهل الفسوق ومن أصحاب المعاصي .
الخامس: الإعراض عن ذكر الله بمعنى : عدم ذكر الله باللسان أو بالقلب، وهو التفكر في خلق الله وعظمته سبحانه.
ما المراد في هذه الآية من أنواع الإعراض ؟ قال العلماء : الإعراض في الآية يشمل الأنواع الأربعة الأولى، التي نجملها في قسمين: إعراض على سبيل الكفر، وإعراض على سبيل المعصية؛ بجحود أو تكذيب، ومن أعرض عن ذكري بمعصية أو بترك امتثال لطاعة أو بفعل لمنهي فإن له معيشة ضنكاً.(1/86)
4- قوله : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) . قال العلماء : هذا من ضمن الأدلة التي يوردها أهل العلم على عذاب القبر ، فإن الآية ظاهرة في أن هناك معيشة ضنكاً قبل عذاب الآخرة قبل يوم القيامة وليس قبل القيامة إلا الدنيا والبرزخ ، والمشاهد أن بعض الناس من أهل المعاصي يستدرجه الله سبحانه وتعالى فلا يكون في معيشته نوع من الضنك فأين يصير الضنك إذاً ؟ الجواب : الضنك في عذاب القبر، ولذلك ذكروا في تفسير هذه الآية عن السلف رضوان الله عليهم أنهم فسروا (العذاب الضنك) : بما يكون من عذاب في القبر.
وهناك عدة آيات ذكر فيها السلف رضوان الله عليهم عذاب القبر في القرآن الكريم؛
منها هذه الآية الكريمة.
ومنها قوله تعالى : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)(الأنعام: من الآية93)، قال: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) اليوم متى ؟ بعد خروج الروح مباشرة ، إذاً هذا إشارة إلى عذاب القبر.
ومنها قوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة:21)، قالوا : (العذاب الأدنى) هو : ما يكون في القبر .
ومنها قوله تعالى عن آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر:46) أي : هذا في عذاب القبر .(1/87)
وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (لأنفال:50) . متى يكون عذاب الحريق المذكور هنا ؟ بعد الوفاة مباشرة ، إذاً هذا إشارة إلى عذاب القبر .
ذكر هذه الآيات الشيخ ابن سعدي عند تفسيره لهذه الآية في تفسيره، وذكرها أيضاً ابن قيم الجوزية في (بدائع الفوائد) ذكر هذه الآيات كلها .…
قال العلماء : ففي هذه الآيات الكريمات إثبات عذاب القبر.(1/88)
5- بعض الناس يستدل بهذه الآية : (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) ، ويستدل ببعض الأحاديث الضعيفة يقول : أنا لا أريد أن أحفظ القرآن الكريم لماذا ؟ يقول : أخشى إن أنا حفظت القرآن أن أنساه فإن نسيتُه يكون عذابي ما جاء في هذه الآية . فالجواب أن نقول: إنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم توعد من حفظ القرآن ونسيه لم يثبت في ذلك شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكل ما ورد هو أحاديث ضعيفة ، والثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه رغب في حفظ القرآن الكريم وحث عليه وأمر بتعاهده وأكد على ذلك فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا ) [ رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم ] ، فأمر بالتعاهد لهذا القرآن الكريم وأدَّب صلى الله عليه وسلم من حفظ شيئاً من القرآن ونسيه أن لا يقول : ( نسيت آية كذا وكذا) وليقل : أنسيت آية كذا وكذا فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( بِئْسَمَا لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ سُورَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ أَوْ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ هُوَ نُسِّيَ ) [رواه البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ لمسلم] . فلو كان هناك من نسي شيئاً من القرآن بعد حفظه له آثماً لبين ذلك الرسول ( لولما اكتفى بقوله: (لا يقل نسيت وليقل أُنسيت آية كذا وكذا)؛
فلا دليل شرعي ثابت في أن من حفظ شيئاً من القرآن ونسيه أنه يأثم أو أن عليه وزر. إنما من تهاون فيما حفظه ولم يتعاهده فقد فرط في خير كثير وفضل عظيم يسره الله له،
فالمراد بالنسيان هنا في هذه الآية : هو ما ذكرناه ؛
الإعراض بمعنى: الجحود والتكذيب والتولي، وهو كفر أكبر .
والإعراض على سبيل الفسق والمعصية والذنب.(1/89)
أما النسيان بالنسبة إلى الله عز وجل : (وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) أي : تترك في العذاب ، وهذا يبين أن معنى : (نسيتها) أي: تركت العمل بها ، وكذا يكون الجزاء من جنس العمل ، فكما تركت العمل بها فالله يتركك في العذاب، فإن كنت من أهل المعاصي تترك في العذاب حتى توافق بالعذاب ما شاء الله عز وجل لك من العذاب : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية48) ، فمن كان من أهل المعاصي والذنوب وأراد الله عذابه فإنه يتركه في العذاب بقدر ما يوافي ذنوبه ، ومن ترك العمل بشرع الله جحوداً وتكذيباً وتولياً فحصل فيه كفر التولي والإعراض أو كفر الجحود أو كفر التكذيب فهذا يترك في النار خالداً مخلداً لأنه أصبح من الكافرين الخارجين من الملة.
6- المسألة الأخيرة : ما وجه إيراد المصنف رحمه الله لهذه الآية في هذا المحل ؟ وجه ذلك أنه أراد بيان أن عدم تفَهُّم القرآن والعمل بما فيه هو إعراض عن الله فهو أورد هذه الآية لما فيها من المناسبة من أن ترك تفهُّم القرآن وترك تعلمه وترك طلب القواعد المعينة على فهمه من أجل امتثاله والقيام بما فيه هو إعراض عن ذكر الله ، ولما في هذه الآية من الإشارة لمن أخذ بتعلم هذه القواعد فإنها ستكون مطلعاً إلى تفهُّم القرآن الكريم فإذا ما تفهَّم القرآن الكريم وعمل به حصلت له السعادة في الدنيا والآخرة .
(10) هذه الآية الثانية التي أوردها المصنف رحمه الله وهي قوله تعالى : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) .(1/90)
هذه الآية أيضاً فيها تأكيد أن اتباع سبل الهداية وسبل النجاة إنما يكون بالعمل بالقرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى يقول في وصف هذا القرآن (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . فمن لم يتبع القرآن الكريم فهو في ضلال ، وقد جاء في ذلك حديث أورده مالك في ( الموطأ ) بلاغاً وأسنده الحاكم في (المستدرك) وهو حديث حسن لغيره، قال صلى الله عليه وسلم : (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)، وهنا الله عز وجل يصف القرآن بأنه: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ)، مفهوم المخالفة: أن من لم يتبعه ويأخذ ما فيه فهو في ضلال.
فإن قيل: كيف تتبعه وتأخذ ما فيه ؟
أقول : بأن تفهمه .
فإن قيل: كيف تفهمه ؟
أقول: بأن تسلك الطريق التي سلكها السلف الصالح في فهمه.
فإن قيل: كيف هذا ؟
أقول: عن طريق القواعد التي قعدوها والأصول التي أصلوها، ومنها ما جمعه لك المصنف في هذا الكتاب.
هذه - فيما يظهر لي - مناسبة إيراد المصنف لهذه الآية في هذا التقديم لهذا الكتاب.
أورد الآية لما فيها من دلالة على أن المسلم يحتاج إلى أن يتبع القرآن ويعمل بما فيه ليتبع رضوان الله ليكون محصلاً لسبل الهداية والرشاد ونيل السعادة في الدارين؛
و لا يكون ذلك إلا بالعمل بالقرآن.
ولا يكون العمل بالقرآن إلا بعد فهمه.
ولا يفهم القرآن إلا بفهم السلف.
ويساعدك في ضبط تحصيله وحسن فهمه ما أورده المصنف في هذا الكتاب من قواعد وأصول.(1/91)
(11) أيضاً أورد آية أخرى تؤيد هذا المعنى فقال : قوله تعالى : (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (إبراهيم:1-2)، محل الشاهد: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ)، ولاحظوا في هذه الآية قوله تعالى : ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ، وفي الآية التي قبلها : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) لماذا ؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية التوفيق للقبول إذ الهداية ثلاثة أنواع:
الأولى : هداية التعليم والإرشاد، فالرسول صلى الله عليه وسلم هادٍ يهدي الناس والقرآن كتاب هداية يهدي الناس ، فيه تعليم وإرشاد فهذه هداية التعليم والإرشاد .
الثانية : هداية التوفيق للقبول : وهذه لا تكون إلا بيد الله سبحانه وتعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56) ، وقال سبحانه : (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية:21) وقال سبحانه : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات:55) وقال سبحانه : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ )(آل عمران: من الآية128) ، ليس له شيء لأنه عليه الصلاة والسلام رسول يبلغ ما أمره الله سبحانه وتعالى بإبلاغه يهدي الناس هداية تعليم وإرشاد وتوضيح وبيان ، أما هداية التوفيق للقبول فهي بيد الله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، والآيات كلها - كما ترون - قيدت الهداية.(1/92)
النوع الثالث: هداية الثبات وهي التي نقرؤها في الفاتحة ونقول : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ، أنا قبلت ولو لم أقبل لم أصلِّ وتعلمت فهداية التعليم حاصلة عندي وهداية القبول موجودة لدي لي فما هي الهداية التي أكرر سؤال الله سبحانه وتعالى إياها في كل صلاة في كل ركعة ؟ هي : هداية الثبات ، أن يهديك إلى الثبات ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ ) [ أخرجه الترمذي وابن ماجه ] . هذا النوع الثالث من الهداية هو أيضاً بيد الله تعالى ليست بيد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بيده هداية التوفيق لقبول الحق وليس بيده هداية الثبات على الحق ، فلا بد أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول في القرآن :
( وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) لماذا قال : (بِإِذْنِهِ ) ؟ لأنه ليس بيده عليه الصلاة والسلام أن يوفقهم للقبول .
ثم قال بعد ذلك : (وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي : هداية تعليم وإرشاد . الآية الثانية قال : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) لماذا ؟ لأنه ليس بيده عليه الصلاة والسلام أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، أي : يوفقهم إلى قبول الحق ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56) .(1/93)
(12) الآية التي بعدها : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } (الشورى:51-52) . إذاً هذه الآيات أوردها المصنف رحمه الله لما فيها من مناسبة بيان أن القرآن كتاب هداية وإعجاز ، والقرآن يهدي إلى صراط مستقيم ، يهدي هداية تعليم إرشاد وبيان والرسول صلى الله عليه وسلم يهدي هداية تعليم وإرشاد وبيان ما هو إلا مبلغ عن الله ما أمره الله سبحانه وتعالى بتبليغه ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4) ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) [ أحمد وابن ماجه ] ، فهو يهدي ويعلم الناس ويرشدهم لكن هداية الثبات ، وهداية التوفيق للقبول هي بيد الله سبحانه وتعالى وهذا هو الذي أفادته الآيات.
وكأن المصنف أورد هذه الآيات وما فيها من الإشارة إلى معنى الهداية ليبين أنك أيضاً مع هذه القواعد ومع هذه الأصول تحتاج إلى أن تسأل الله سبحانه وتعالى هداية التوفيق إلى قبول الحق وهداية التوفيق إلى الثبات على الحق ، هذه الأصول تعلمك مفاتيح تستعين بها على فهم القرآن العظيم بالطريقة التي جرى عليها السلف الصالح ، وتعينك على فهم القرآن الكريم إذا أحسنت استعمالها ولا تضمن لك أنك ثابت على الحق ولا تضمن لك أنك قابل للحق فكم من إنسان تعلم هذه الأصول ولم يشأ الله هدايته، فاللهم اهدنا هداية تعليم وإرشاد وقبول وثبات برحمتك يا أرحم الراحمين.(1/94)
(13) أي : أنه كتبها باختصار لم يطل فيها ، والعلماء من السابقين كانوا يقولون : (الكلام يختصر ليحفظ ويبسط ليفهم) فاختصار الكلام من المقاصد التي عدها العلماء من مقاصد التصنيف ، وقصدهم من هذا الاختصار : أن يساعد على سرعة الحفظ ، قالوا: (ويبسط الكلام ليفهم ) ، ونحن نبسط لكم هذا المختصر بمزيد من الشروحات وبمزيد من التعليقات حتى تفهموا - إن شاء الله - مرامي كلام المصنف رحمه الله.
(14) أي : أنه لما ألَّف هذه المقدَّمة لم يحشد لها كتباً ولم يحشد لها مراجع وإنما كتبها هكذا بعفو الخاطر من فؤاده رحمه الله بدون رجوع إلى مراجع وبدون كتب هكذا كتبها فوراً حينما سألها السائل وقد ذكر عنه رحمه الله شيئاً عجيباً في باب التصنيف ، يذكرون أن منظومته الطويلة في القدر التي كتبها في باب القدر - ومعلوم أن الكلام في القدر من أصعب الكلام حتى في مسائل العقيدة يعتبر من أصعب الكلام وفهمه من أغمض ما يكون - فجاءه سؤال على هيئة شعر في القدر فثنى ساقه إلى فخذه وجلس على هذه الثنية وأملى أبياتاً جواباً على سؤال السائل بالنظم وأورد أبياتاً جواباً على هذه الأبيات على نفس النظم وعلى نفس الروي أوردها في هذه المسألة العويصة عفو الخاطر فوراً وهذا من أصعب ما يكون ومن أعجب ما يكون عنه رحمه الله .(1/95)
باب القدر وباب النجوم وباب الصحابة من الأبواب التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يسكتوا لا يفتحوها قال : ( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا ) لا تتدخلوا في شيء حصل بين الصحابة ، لا تنتقدوا لا تتكلموا عن شيء حصل بين الصحابة ( أما أنتم تاركي وأصحابي ) ، لا تتكلموا عن شيء حصل بين الصحابة لا تنتقص ، هذا الباب الصعب أملى فيه رحمه الله أبياتاً يقرر فيها عقيدة السلف وأجاب فيها على استشكالات السائل فوراً في مجلس واحد ، وذكر عنه رحمه الله أنه كان يحرر الفتاوى العجيبة الطويلة المحررة في مجلس يسير أو مجالس يسيرة . والله الهادي إلى سبيل الرشاد .
(الدرس الرابع 15/7/1423)
(1) هذا الفصل وهو أول فصول هذه المقدمة ، يتضمن الأصل الأول من أصول التفسير ، ما هو هذا الأصل ؟ هو : أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات إلا وقد فسَّر جميع القرآن للصحابة رضوان الله عليهم .
إذاً القرآن الكريم فسره الرسول صلى الله عليه وسلم وبيَّن معانيه ووضحه وكشف - عليه الصلاة والسلام - المراد منه.
فإن قيل : هذه دواوين السنة بين أيدينا لا يأتي فيها تفسير القرآن آية آية ، فكيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات حتى بين للصحابة جميع القرآن ؟
فالجواب : ما مات صلى الله عليه وسلم حتى بين للصحابة جميع القرآن ، ولكن البيان يكون على طرق؛(1/96)
فالطريق الأول : البيان المباشر، كأن يقول صلى الله عليه وسلم: (الكوثر : نهر أعطاني الله إياه في الجنة)[الترمذي:2542]، فهذا تفسير مباشر عن الرسول صلى الله عليه وسلم لكلمة ( الكوثر ): (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر:1)، ومنه تفسير الظلم في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)(الأنعام: من الآية82)، حيث جاء جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية، وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ما منا إلا وقد ظلم، من الذي لم يلبس إيمانه بظلم ؟ ففسر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الظلم المراد في الآية فقال عليه الصلاة والسلام : ( ألم تقرأوا قول الرجل الصالح : ( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13))[البخاري ومسلم]، فبين ( أن المراد بالظلم هو : الشرك، فمعنى الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك ، هذا هو المقصود. هذا النوع الأول من البيان، وهو قليل في الأحاديث.(1/97)
والطريق الثاني: بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، بالتطبيق العملي في حياة المسلمين في زمنه، فهو صلى الله عليه وسلم وحينما علَّم الناس الصلاة ؛ فسر لهم معنى قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (البقرة: من الآية43)، هو صلى الله عليه وسلم حينما بين للناس أحكام الزكاة ؛ فسر لهم عملياً أحكام الزكاة ، وحينما صلى بالناس في مواقيت الصلوات الخمس ؛ بين لهم معنى قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)(هود: من الآية114) ومعنى قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (الاسراء:78)، وحينما أقام حد الزنى؛ بين تطبيقاً معنى هذا الزنى ، وحينما أقام حد السرقة ؛ بين تطبيقاً معنى حد السرقة الوارد في القرآن.
ومن اقتصر على الطريق الأول في بيان الرسول ( للقرآن يفوته شيء كثير، إذ إن هذا النوع الثاني أكثر من النوع الأول.
الطريق الثالث من طرق بيان الرسول وتفسيره للقرآن الكريم: هو ما كان يتخلق به صلى الله عليه وسلم في نفسه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن). فالرسول صلى الله عليه وسلم كان في خلقه في معاملته في نفسه عليه الصلاة والسلام مفسراً ومطبقاً للقرآن الكريم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر جميع القرآن بقوله وفعله وتقريره .
ودلل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لهذا الأصل بأدلة سبعة :(1/98)
الدليل الأول : وهو آية صريحة وهي قوله تعالى : ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم)(النحل: من الآية44)، فالرسول وظيفته بلاغ ما أنزله الله إلى الناس، وبيانه لهم. والآية نص في أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين القرآن الكريم، لأننا نقول : بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك بحسب نص الآية، وبما أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما مات حتى قام بالبلاغ، وأداء الرسالة؛ إذاً : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين القرآن الكريم .
الدليل الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام : ما جاء عن الصحابة في أنهم كانوا يتعلمون القرآن ويتعلمون تفسيره ، فإذا كانوا لا يعلمون تفسيره ؛ كيف يقولون : ( نتعلم العلم والعمل ) ؟!
(15) انظروا أبو عبد الرحمن السلمي يقول : (حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا). هذا نص ودليل يبين أن الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا تفسير القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يعقل وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنهم ويعلمهم ويحفظهم آيات القرآن الكريم؛ وهم لا يعقلون معناها، ولا يعقل في ذكائهم ونباهتهم رضوان الله عليهم وحرصهم على الدين وعلى العلم أن يقرأوا القرآن على رسول الله ( وهم لا يفهموه، هذا ليس بمعقول!
(16) هذا نص آخر يدل على أنهم كانوا يتعلمون معاني القرآن من رسول الله (. قال أنس بن مالك (: كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا) ، يعني : عَظُم . ( وتعالى جدُّك ) أي : تعالت عظمتك .(1/99)
(جدَّ في أعيننا ) يعني : عظُم وكبر، لماذا ؟ إذا كانت القضية مجرد حفظ فالصحابة كانوا من العرب الأقحاح الذين كانوا يوصفون بسيولة الذهن وسرعة الحفظ، وليس التمايز من جهة الحفظ، لماذا يكبروه ويعظموه إذا حفظ سورة البقرة ؟ الجواب: لأن سورة البقرة من السور الطوال المتضمنة للأحكام الكثيرة، ولأن طريقتهم في القراءة والحفظ كانت طريقة بالعلم والعمل ، فإذا ما قرأ الرجل سورة البقرة معنى ذلك أنه حفظها وعرف معانيها وتفسيرها وما فيها من الأحكام والعلم وعمل به ولذلك وكانوا إذا قرأوا القرآن وأرادوا حفظه يأخذون مدداً طويلة لأنهم يراعون في حال الحفظ معرفة المعنى.
(17) الدليل الثالث : ما جاء في القرآن الكريم من الأمر بالتدبر ، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24) ، وقوله : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ )(صّ: من الآية29).
كيف يسمع الصحابة رضوان الله عليهم هذه الآيات الكريمات التي فيها الأمر بالتدبر ثم هم لا يتدبرون القرآن ؟!
التدبر هو : النظر في عواقب الأمور، أي : النظر إلى أدبار الأمور ماذا تكون ؟ والفقيه إذا نزلت نازلة نظر في عواقبها، وعواقب القول الذي يريد أن يقول في حكم هذه النازلة قبل أن يتكلم.
انظروا ما ذكره الله من أحوال الكافرين وما آلت إليه عاقبتهم، لما عصوا الرسل!
انظروا إلى أحوال المؤمنين وما آلت إليه عاقبتهم، من نعيم الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة!
هل يستطيع الإنسان أن يتدبر في شيء وهو لا يعرف معناه ؟
الجواب : لا . مادام لا ، إذاً لا بد لمن تدبر القرآن أن يفهم معانيه.
من أولى الناس بأن يتدبر القرآن ؟
الجواب: من قرأه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة رضوان الله عليهم.
فهذا هو الدليل الثالث في تأسيس هذه القاعدة.(1/100)
(18) الدليل الرابع الذي أورده على هذه القاعدة : ما ذكره من قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(يوسف:2) قال : وعَقْلُ الكلام متضمن لفهمه . العَقْل : هو ربط الشيء وإحكامه حينما تقول: فلان عَقَلَ الدابة ، أي : ربطها وأحكمها ، وحينما تقول : فلان عَقَل الشيء ، أي : إنه فهمه وربطه في ذهنه وعقله وأحكمه بعقله .
من أولى الناس بأن يتعقل القرآن ويتحقق فيه قوله سبحانه وتعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ؟
و(لعل) من الله واجبة ، يقول العلماء : (عسى) و (لعل) من الله واجبة ، حينما يقول الله سبحانه وتعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، كأنه قال: إنا أنزلناه قرآناً عربياً من أجل أن تعقلوا، لا ترجي بالنسبة إلى الله ، لأن الله يعلم الأمور وعاقبتها ، ولا يرد إرادته سبحانه شيء ، و(لعلكم تعقلون) أي : لتعقلوا.
من أولى الناس أن يمتثل هذا ويقوم به ؟
الجواب بلا شك - إن شاء الله تعالى - الصحابة الذين قرأوا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم أولى الناس بذلك، وعقِل القرآن يتضمن فهمه.
فإذا كان الصحابة عقلوا القرآن فهذا دليل على أنهم فهموه وعرفوا تفسيره وكشفوا معانيه وتبينوا مراده سبحانه وتعالى بحسب ما علمهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/101)
(19) هذا هو الدليل الخامس قال: ( وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ ) قال: القرآن كلام الله ، فإذا كان كل كلام المقصود منه : فهم معانيه ؛ فكلام الله أولى الكلام بأن تفهم معانيه ، فإذا قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة كلام الله ، فلا بد أن يكونوا قد فهموا معانيه ، إما بحسب لغة العرب التي عرفوها ، ويكون إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لفهمهم سنة تقريرية، وإما أن يكون بأحد الطرق التي سبقت وهي : إما عن طريق البيان المباشر ، وإما عن طريق التطبيق العملي في واقع الحياة الإسلامية ، ويعرف بطريقة التطبيق العملي لشخصه صلى الله عليه وسلم .
يقول في هذا الدليل الخامس - وهو دليل عقلي - : كل كلام المقصود به التفاهم ، يعني : حينما تأتي لعلماء الاجتماع تقول: ما هو الكلام ؟ يقولون : الكلام لغة التخاطب التي يستطيع بها البشر أن يتواصلوا فيما بينهم فينقلوا مراداتهم بينهم .
والمراد بالتواصل : نقل المعاني من جهة إلى جهة ، هذا هو الكلام لغة تفاهم وحوار وتواصل ، فإذا كان المقصود بالكلام هو : فهم المعنى المراد وإيصاله من جهة إلى جهة .
وعليه فإن كلام الله أولى الكلام بأن يكون قد تحصل فيه فهم المراد.
ومن أولى الطبقات في فهم المراد من القرآن ؟
هم بلا شك الصحابة الذين سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
فنتج أن الرسول بين للصحابة جميع القرآن العظيم.
(20) الدليل السادس : يقول : (َالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنْ الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يستشرحوه) أي: لا يطلبون شرحه ، يقول : العادة تمنع أن يقرأ على شخص كتاباً في فن من الفنون لا يطلبون شرحه وبيانه!(1/102)
إذا كان الصحابة قرأوا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبحسب ما جرت به العادة لا بد أن يكونوا قد سألوه عما أغلق عليهم ففهمهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتحصل أنهم فهموا جميع القرآن؛
إما ببيانه المباشر.
وإما من خلال تطبيقه العملي .
وإما من خلال تخلقه به (.
وإما بمجرد التقرير للمعنى الذي فهموه بحسب ما جرى عليه العرف بينهم.
وإما بمجرد تقرير المعنى بحسب لغة العرب.
وفي هذه الأحوال جميعها يكون الرسول بين لهم القرآن إما بالقول أو بالفعل أو بالتقرير، فصح أن الرسول بين للصحابة جميع القرآن!
(21) الدليل السابع : هو قلة اختلاف السلف رضوان الله عليهم في تفسير القرآن بل يكاد يكون معدوماً ، لا يوجد اختلاف إلا في قضايا هي من باب الناسخ والمنسوخ ، أو قضايا محتملة للأوجه ويكون هذا أخذه ببيان وهذا أخذه ببيان ، أن يكون كل واحد من الصحابة أخذه بياناً على وجه من الوجوه ، هذا الأمر يحتم ما دام أنهم متفقون في تفسيره، إذا فإن مصدرهم في هذا التفسير واحد، وهو الرسول (، فصح أنه ( ما مات إلا وقد بين لهم جميع القرآن.
هذه أدلة سبعة أوردها - رحمه الله - للتدليل على هذا الأصل ، وهو أصل مهم من أصول تفسير القرآن الكريم .
فإن قيل : ماذا ينبني على هذا الأصل ؟
فالجواب : هذا الأصل إذا فهمناه وعرفناه وثبت لدينا بالأدلة ينبني عليه أمور كثيرة:
1- أول أمر ينبني عليه : توسيع معنى تفسير القرآن الكريم، فليس تفسير القرآن هو فقط باللفظ المباشر ، بل تستطيع في مواطن من القرآن الكريم أن تجعل الأحكام الشرعية مفسرة للمراد، فيصير هنا تفسير بالطريق الثاني، وهو بطريق التطبيق العملي في الحياة الإسلامية.
والسنة كلها تفسير للقرآن، فهي تفسر القرآن وتقضي عليه يعني : تخصص عامه وتقيد مطلقه توضح المراد منه.(1/103)
2- الأمر الثاني الذي ينبني على هذه القاعدة: ضرورة الاهتمام بالآثار الواردة عن الصحابة في تفسير القرآن الكريم، إذ بناءً على هذا الأصل ، ماذا يكون حكم تفسير الصحابي؟ يغلب على الظن أنه مرفوع ، يصير حكمه حكم المرفوع بغلبة الظن ، ولذلك لما يأتي بعض أهل التفسير عند قراءة شاذة ويقول: ولعل هذا من تفسير الصحابي فهي قراءة تفسيرية ، أقول : هذا ليس انتقاصاً ، ولكنه أعطاها حكم المرفوع بل أكاد أصل إلى درجة اليقين أن الصحابي حينما يفسر الآية داخل نصها فإنه لا يفعل هذا إلا وقد سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إذاً الأمر الثاني الذي ينبني على هذا الأصل : أهمية تفسير الصحابة ، إذ إنه يغلب على الظن أنه مما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون له حكم الرفع، ومن ذلك القراءات الشاذة فإننا لو تنزلنا وقلنا إنها من أقوال الصحابة في تفسير القرآن فإن لها حكم الرفع.
3- مما ينبني على هذا أيضاً ما ختم به شيخ الإسلام هذه القاعدة وهو : التنبيه على أهمية تفسير التابعين إذ إنهم - وبالذات بعضهم مثل مجاهد والكبار منهم -، تلقوا القرآن عن الصحابة قراءة وتفسيراً . يقول مجاهد : ( قرأت القرآن أكثر من مرة على ابن عباس أوقفه عند كل آية ) حتى جاء في بعض الآثار : ( قرأته عليه ثلاثين مرة ) ، وفي بعضها : ( ثلاث مرات ) ، أقل أو أكثر ، المهم أنه يقول : ( أوقفه عند كل آية ) .
إذاً ينبني على هذا الأصل : ضرورة الاهتمام بتفسير التابعين.
4- الأمر الرابع الذي ينبني على هذا الأصل : أننا نشترط في قبول أي تفسير فيه توسيع لمعنى الآية أن لا يخالف مخالفة تضاد التفسير بالمأثور .
التفسير نوعان : التفسير بالمأثور ، والتفسير بالدراية أو بالرأي؛(1/104)
فالتفسير بالمأثور : هو تفسير للآية بما أُثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته أو عن التابعين الذين لهم مثل هذه الخصوصية، وبعضهم يقصره عن ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عما جاء عن الصحابة، التفسير الذي تورد فيه هذه الآثار صرفاً بدون مزجها بالترجيح والتوجيه هو التفسير بالمأثور .
التفسير بالرأي : تفسير يورد فيه صاحبه بيان الآية بحسب ما يراه من جهة اللغة والاجتهاد والأمور العامة، من شروط قبول التفسير بالرأي - وقد سبق أن ذكرت الشروط فيما مضى من دروس- من هذه الشروط : أن لا يخالف التفسير بالرأي مخالفة تضاد التفسير بالمأثور، لماذا ؟ لأننا نقول : التفسير بالمأثور تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم سواء جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أو عن التابعين الذين عرفوا بهذه الخصوصية، وبناءً عليه : لا تجوز مخالفة هذا التفسير الذي جاء منقولاً ومأثوراً عنهم، فأي معنى تأتي به في الآية يخالف هذا التفسير المأثور مخالفة تضاد فهو مضروب عليه مطرح متروك.
إذا جاء معنى في تفسير الآية لا يخالف كلام الرسول والصحابة والتابعين مخالفة تضاد إنما يوسع المعنى بدون مخالفة ، فنقول : هذا من باب اختلاف التنوع ولا حرج فيه إذا روعيت بقية الشروط في قبول التفسير بالرأي .(1/105)
5- مما ينبني على هذه القاعدة - وهو المقصود الأعظم منها - تعظيم التفسير بالمأثور، والحرص على درسه وفهمه وتعلمه، إذ ما كان مرفوعاً إلى الرسول ( ظاهر في أهمية طلبه ودراسته، وما جاء موقوفاً فإن جملة منه يجزم برفعها، وغيرها يغلب على الظن رفعها، ولو حصل الجزم بأنها قول للصحابي فلا شك أن فهمه وتفسيره مقدم على تفسير غيره، لما لهم من الفضيلة والشرف، والعلم بأحوال القرآن العظيم ، وما كان عن التابعين فأغلبه مما يجزم بأنه مما تلقي عن الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ما يحصل الجزم أو بغلبة الظن أنه من كلامهم فلا شك أنه جدير وحقيق بالنظر فيه ودرسه ورعايته.
(22) الاختلاف هو: المعارضة وعدم الاتفاق ، وهو : أن يأتي شيء مكان شيء.
والاختلاف منفي عن الشرع، فإن الشرع لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض.
فإن قيل : كيف لا اختلاف في الشرع ولا تعارض ولا تناقض ، وهذه بعض الآيات يشكل معناها على آيات أخرى وبعض الأحاديث يشكل معناها على أحاديث أخرى ؟
فالجواب : إن هذا التعارض والتناقض الموجود إنما هو بحسب المجتهدين لا بحسب القرآن والسنة ولا بحسب الشرع، ولذلك قد يكون عند شخص بحسب علمه واجتهاده آية تعارض آية ، وعند عالم آخر لا تعارض ولا إشكال.
مثلاً : حينما يأتي إنسان ويسمع قوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:92) ، يقول : هذه الآية فيها تقرير أن الله سيسأل الناس يوم القيامة ، ثم يقرأ في القرآن قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (الرحمن:39) ، فيقول : هذا مشكل ، الآية الأولى تقول :إنهم سيسألون ، والآية الثانية تقول: إنهم لا يسألون ، فيقول : هذا تعارض وتناقض ، فنقول له : لا ، هذا التعارض والتناقض بحسب فهمك لقصورك في العلم حصل هذا التناقض والاختلاف لديك وإلا في الحقيقة لا تعارض ولا تناقض .(1/106)
والجواب عن هذا الإشكال في هاتين الآيتين كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الآخرة مقامات ، ففي مقام لا يسأل أحد عن ذنبه ، وفي مقام يسألوا ويحاسبوا ، ففي الموضع الذي جاء فيه أن الله لا يسأل عن شيء : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) ، فهو في مقامات يوم القيامة لا يسأل عن شيء ، وفي الموضع الذي جاء فيه : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، فهو في مقام من مقامات القيامة يكون فيه السؤال والتقريع إما على سبيل التبكيت ، وإما على سبيل من السبل الأخرى التي يذكرها أهل العلم في هذا المعنى .
جواب آخر ، قالوا : السؤال يأتي لمعانٍ فالمنفي: سؤال الاستعلام لأن الله يعلم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك:14) ، فيكون معنى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) أي : لا يسأل سؤال استعلام واستخبار لأن الله يعلم ما أحدثوا، وكل ما عملوا من عمل موجود محفوظ في إمام مبين ، كل إنسان كتابه موجود بما عمله من عمل ، فلن يسأل أحد سؤال استعلام واستخبار ، أما قوله : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي: سؤال تبكيت وتوبيخ وتقريع ، فالسؤال المنفي غير السؤال المثبت ، هذان جوابان لأهل العلم في إزالة الإشكال . وتعرفون أن من لم يعرف هذه الأوجه من أوجه الجواب ومن أوجه المعنى تظهر عنده الآيتان كأنها مشكلة وهي ليست مشكلة في الحقيقة .
إذاً الشرع من حيث هو هو لا اختلاف ولا تعارض فيه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82) ، لكن ما دام من عند الله لن يكون فيه اختلاف .(1/107)
فإن قال قائل : هذا دعاء الاستفتاح في الصلاة له أكثر من صيغة ، هناك صيغة تقول : (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ... الخ)، وهناك صيغة تقول: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك )، وهناك صيغة تقول : ( الله أكبر كبيرا...الخ )، وهذا اختلاف ؟ فنقول : نعم . هذا الاختلاف موجود في الشرع وهو غير الاختلاف المنفي ، فالمنفي : اختلاف التعارض والتناقض لا اختلاف في الشرع ، يعني : لا تعارض ولا تناقض في الشرع .
الاختلاف الثاني موجود ، والعلماء من أجل التفريق بين النوعين من الاختلاف قالوا : الأول المنفي اختلاف التعارض ، والمثبت اختلاف التنوع ، لأن اختلاف التنوع موجود في الشرع ، مثلاً : أنت في فدية الأذى في الحج مخير بين ثلاثة أنواع ، إما صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة ، أنت مخير قي صلاة الليل توتر بركعة أو توتر بثلاث أو توتر بخمس أو توتر بسبع ، هذا اختلاف ، أنت مخير في أذكار الركوع بأكثر من ذكر ، أنت مخير في أذكار السجود بأكثر من ذكر، أنت مخير في دعاء الاستفتاح بأكثر من ذكر ، هذا تنوع جاء به الشرع توسعة على الناس . هذا اسمه : اختلاف تنوع .
شيخ الإسلام ابن تيمية يريد أن يقول: لا اختلاف تعارض وتناقض في المنقول عن السلف في تفسير القرآن الكريم، وغالب اختلافهم هو من باب اختلاف التنوع .
فمثلاً : تفتح التفسير فتجد أحد السلف يقول في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) قال : القرآن ، آخر قال : الإسلام ، آخر قال: طريق الجنة ، آخر قال: السنة ، آخر قال: ما كان عليه الصحابة ، هذه الأقوال الأربعة هي قول واحد، إذ إن الصراط المستقيم هو القرآن وهو السنة وهو طريق الجنة وهو ما كان عليه الصحابة، تنوعت الألفاظ والمعنى واحد، فهو اختلاف تنوع .(1/108)
وهذه القاعدة مهمة كثيراً لمن يطالع كتب التفسير بالمأثور ، أكثر الناس يستصعب القراءة في تفسير ابن جرير وابن كثير بسبب كثرة الأقوال التي يوردها في الآية ؛ لكن لو تنبهوا لهذه القاعدة، لسهُل الخطب، ولم تعد القضية صعبة.
ثم يقول ابن تيمية رحمه الله: إن تنوعهم في التعبير عن الاختلاف يرجع إلى سببين:
الأول : أن يعبروا عن المعنى الواحد بأكثر من لفظ.
الثاني : أن يكون كلامهم من باب التمثيل، من باب المثال ، ولا يقصدون به الحصر.
(23) يعني وإن اختلف الاسم ، فالقرآن والكتاب والفرقان والذكر أسماء متنوعة لما أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد (، والرسول ( له أسماء متنوعة فهو أحمد ومحمد والماحي يمحو الله به الشرك وهو العاقب وهو الحاشر، والمقصود بها ذات معينة واحدة وهي ذات الرسول (، والله عزوجل له أسماء وصفات كثيرة، وقد جاء في الحديث : "إن لله تسعاً وتسعين اسما"، فهذه الأسماء المتنوعة تدل على ذات واحدة هي الله عزوجل.
(24) هذه القاعدة في باب الأسماء والصفات ، يقول العلماء - رحمهم الله - : كل اسم من أسماء الله تعالى يدل على ذاته ويدل على صفته ويدل على أثره، فمثلاً: اسم الله ( الرحمن ) يدل على ذات الله المسماة بالرحمن ، ويدل على صفة الرحمة ، ويدل على الأثر وهو وجود خلق مرحوم يصل إليه أثر هذه الرحمة ، فكل اسم يدل على صفة وذات وأثر لهذه الصفة.(1/109)
(25) الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل: قال ابن سعدي رحمه الله (كما في الأجوبة السعدية عن المسائل الكويتية ص119): "إن صفات الذات هي الصفات اللازمة التي لا تنفك ذات الباري عنها بل هو موصوف بها. وهي ثابتة له كل وقت، وفي كل حال، ولا تتعلق بقدرته ومشيئته، وذلك مثل الحياة والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعظمة، والكبرياء، والعلو، والحمد، والمجد، والجلال، والجمال، والعزة، والحكمة، ونحو ذلك من الصفات التي هي من لوازم ذاته و لا ينفك و لا يخلو منها، فله منها كمالها وغاياتها ونهاياتها بحيث لا يحيط العباد ببعض هذه الصفات.
…وأما صفات الأفعال فهي كل صفة تتعلق بقدرته ومشيئته، وهي التي إن شاء فعلها، وإن لم يشأ لم يفعلها، وذلك مثل صفة الكلام، فإنه موصوف بالكلام الذي لا ينفد و لا يبيد، وكلامه متعلق بمشيئته وقدرته، فإن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، وكذلك صفة الرحمة، فإنها صفة ذاتية، وصفة فعلية، فإنه يرحم من يشاء ?نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ? (يوسف: من الآية56)، وكذلك الاستواء على العرش فإنه لم يستو عليه إلا بعد خلق السموات والأرض، وكذلك النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة، فإنها من صفات الأفعال، فإنه ينزل إذا شاء كيف يشاء، وكذلك من صفاته الفعلية صفات الخلق والرزق والتصريف والتدبير، فإنه موصوف بأنه الخلاق والرزاق المتصرف المدبر للمخلوقات، ولكنها تتعلق بمشيئته وقدرته، فإنه كل يوم هو في شأن، وهي شؤون وتدابير وتصاريف يبديها ويظهرها في أوقاتها اللائقة بها بحسب حكمته وحمده، ذلك كله بقدرته ومشيئته. فهذا على وجه الإشارة هو الفرق بين الصفات الفعلية الذاتية والصفات الفعلية"اهـ
…وليعلم أن الله موصوف بهذه الصفات ومستحق لها، فهو لم يزل متصفاً بصفات الكمال ، صفات الذات وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفا بها. وانظر شرح الطحاوية ص127.(1/110)
(26) ضلَّ في أسماء الله وصفاته جماعات ، وضلالهم ينحصر في ثلاثة اتجاهات:
اتجاه التأويل؛ وهو أن تصرف الأسماء والصفات عن معانيها .
واتجاه التعطيل؛ وهو أن يثبت الاسم أو الصفة وينفي المعنى، فعندهم الله عليم بلا علم ، سميع بلا سمع، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
واتجاه التجهيل، وهو أن يقولوا عن الأسماء والصفات: معناها مجهول، ويقولوا : الرسول لم يعلِّم الناس معناها.
(27) يعني وكذا ما جاء من اختلاف في التفسير عن الصحابة فإن بعضه يعود إلى تعبيرهم عن المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، فهو اختلاف في اللفظ مع اتحاد المعنى، كما تختلف الأسماء للذات الواحدة.
(28) هذا الحديث في سنده الحارث الأعور، وقد ضعفوه، ومدار أسانيده وطرقه عليه. الحديث صحيح معنى ضعيف مبنى .
(29) القولان هما : تفسير (الصراط) بأنه القرآن ، أو تفسير (الصراط) بأنه الإسلام فهذان القولان متفقان .
(30) فتحصل عندنا خمسة أقوال في تفسير (الصراط المستقيم): القرآن ، والإسلام، والسنة والجماعة ، والعبودية ، وطاعة الله ورسوله ، هذه خمسة أقوال كلها في الحقيقة قول واحد، فهذا اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد .
هذه القاعدة مهمة لمن يطالع التفسير بالمأثور، وهي : أن يلاحظ أن الاختلاف الوارد عن الصحابة والتابعين في مجمله - إن لم يكن كله - من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد؛ فينظر في أقوالهم الواردة في تفسير الآية فإنها غالباُ ترجع إلى معنى واحد، والذي يحصل : أن كل واحد يعبر عن المعنى المراد باسم غير الذي يعبر عنه الثاني، أو يضرب أحدهم مثلاً للشيء فرد من أفراد العام غير ما يذكره الآخر ، وهو السبب الثاني لهذا التنوع؛ لأن الشيخ ذكر لاختلاف التنوع سببين في عبارات السلف:
الأول: كل واحد يعبر عن الشيء باسم غير ما يعبر به الآخر ، الذي هو : اختلاف اللفظ والمعنى واحد .(1/111)
الثاني: أن يكون اللفظ عاماً فيذكر كل واحد فرداً من أفراد العام على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
(31) يعني الصنف الثاني مما يرجع إليه اختلافهم في التفسير، وهذا هو السبب الثاني، والذي قبله هو السبب الأول، وهو أن يعبر كل واحد منهم عن الشيء باسم غير الاسم الآخر ؛ لكن كل الأسماء تعود إلى معنى واحد. وأما السبب الثاني فهو أن يكون للمعنى أفراد كثيرة فيذكر كل واحد منهم فرداً يشير إلى المعنى من باب التمثيل، أو من باب ذكر بعض أفراد العام.
(32) لو جاء شخص وقال : تفسير (الظالم لنفسه) قال هو : الذي يزني. وجاء آخر وقال: هو الذي يشرب الخمر، وثالث قال هو : الذي يأكل الربا، ورابع قال هو: الذي لا يحافظ على الصلاة، وخامس قال هو : الذي لا يحافظ على الصلاة جماعة، فهل هذا اختلاف ؟ الجواب : لا، ليس هذا اختلاف، لأنها كلها داخلة في معنى الظالم لنفسه، فالظالم لنفسه يشمل أفرادا كثيرة، وكل واحد ممن أراد تفسير الظالم لنفسه ذكر فرداً من أفراد (الظالم لنفسه).
هنا هذا الاختلاف : اختلاف تنوع، يختلف في سببه عن النوع الأول؛ الأول: التعبير بأسماء متعددة عن ذات واحدة، أما هنا : فالتعبير عن اسم عام بفرد من أفراده لا لقصد الحصر أو التخصيص، ولكن لغرض التمثيل أو التنبيه.
(33) يقول : (السابق بالخيرات) هو : الذي يصلي في أول الوقت ، وآخر يقول هو : الذي يبذل الصدقة في أول ما يشعر أن هناك محتاج ، وآخر يقول هو : الذي يبادر إلى الحج أول ما يستطيع ، وآخر يقول هو : الذي يبدأ بالنفقة التي تجب عليه أول ما يتحصل على المال . هذه كلها من صفات السابق بالخيرات ، لكن لا يراد بها الحصر.
إذا فهمتم هذه القاعدة - وهي قاعدة اختلاف التنوع واختلاف التضاد ، وإن الموجود بين السلف هو : اختلاف التنوع ليس اختلاف التضاد، وفهمتم أسباب اختلاف التنوع - ننبهكم على أمر :(1/112)
من الظلم في معاملة اختلاف التنوع إبطال الأنواع الأخرى، إذا أنت رجحت نوعاً لا تبطل النوع الثاني، نعم ترجح لكن لا تقول الثاني باطل، بل تقول : الأقرب الأول، الأقرب الثاني، لكن لا تقول: الصواب الأول، أو الصواب الثاني، لأنك إذا قلت هذا فمعناه أنك خطأت الآخر.
لماذا لا نحكم بخطأ القول الآخر في اختلاف التنوع، خاصة ولدينا أدلة على الترجيح أو قرائن ؟
الجواب: لأن الأقوال كلها في اختلاف التنوع حق، والترجيح بينها من باب اختيار الأوضح والأقرب للفهم في أداء المعنى، فقط.كلها معاني واحدة متفقة، إمّا من باب ذكر المعنى الواحد بألفاظ متعددة، وإما من باب ذكر بعض أفراد العام، أو التمثيل.
فمن الظلم هنا : أن تبطل القول الآخر، أو تصادره كما يعبر بعضهم، بل قد يتحتم أحياناً اعتماد جميع الأقوال الواردة، لأن الاقتصار على بعضها تقصير في تفسير معنى الآية.
وكذا في العبادات ما جاء منها على سبيل اختلاف التنوع، فمثلاً لو اختار رجل في دعاء الاستفتاح (سبحانك اللهم وبحمدك ...الخ) هل يجوز له أن يقول : ما عدا هذه الصيغة لا يجوز الاستفتاح بها ؟ الجواب: لا! لماذا ؟ لأن كل الصيغة الواردة في دعاء الاستفتاح الثابتة جائزة، وهو رجح هذه الصيغة لأنه رآها جاءت عن طريق عمر بن الخطاب أو عن طريق ابن مسعود ....الخ، لكن ينبغي أن لا يبطل الأقوال الأخرى لأنها من حيث المعنى راجعة إلى الأول هذه قضية .(1/113)
قضية ثانية : اختلاف التنوع في باب الأحكام غيره في باب التفسير ، اختلاف التنوع في باب الأحكام في باب العبادات السنة فيه : التنوع، والظلم فيه : ليس فقط في إبطال القول الآخر فقط؛ ولكن أيضاً من الظلم فيها أن تعمل بصفة واحدة وتترك الأخرى، ولكنه ظلم من باب ترك الأولى والأفضل في متابعة السنة، فليس من السنة أن تقتصر في الصلاة فقط على : ( سبحانك اللهم وبحمدك .... الخ) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرة يستفتح بهذه ، ومرة يستفتح بـ ( اللهم باعد ...الخ ) ، ومرة: (الله أكبر كبيرا ....الخ ) ، فالسنة في اختلاف التنوع في العبادات : التنوع في العمل بها، فمرة بهذه ومرة بهذه.
أما في التفسير : فتارة لا مانع من أن تأخذ بقول واحد من الوارد، لأن جميع الأقوال راجعة إليه، وتارة لا يتم عندك المعنى المراد إلا بجمع جميع الأقوال.
الدرس الخامس 23/7/1423هـ
(34) التعريف عند العلماء هو : الحد الجامع لأفراد المعرف فلا يخرج منها شيء، المانع من دخول غيرها فيه، لذلك يقولون : التعريف شرطه أن يكون جامعاً مانعاً . هذا التعريف ، لكن أحياناً يترك العلماء طريق التعريف الجامع المانع إلى ضرب المثال، ويكون تعريفهم بالمثال من باب التقريب للمعنى في أذهان المستمعين .
يعني مثلاً : تسأله ما هي الصلاة يقول : الصلاة مثل الصلوات الخمس ، كصلاة الظهر ، هذا تعريف بالمثال ، تسأله مثلاً : ما هو الحديث الصحيح ؟ يقول : الحديث الصحيح مثل ما أخرجه البخاري في صحيحه عن فلان عن فلان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، هذا اسمه تعريف بالمثال .
وأغلب ما جاء في القرآن والسنة وفي كلام السلف هو من هذا النوع لأنا أمة أمية ، ولأن الشرع يخاطب به جميع الناس على جميع مستوياتهم فيأتي البيان فيه على أيسر سبله وأقرب طرقه لإفهام الناس .(1/114)
وعادة يقصد المعرِّف بالمثال : تقريب المعنى إلى السامع لا حصره ، ولذلك لا يصح إذا ما عرَّف المصنف معنى من المعاني بالمثال أن ننتقده ، ونقول : هذا التعريف غير جامع مانع لأنه أصلاً ما قصد التعريف بالحد الجامع المانع ، وبعض الناس يعترض على بعض العلماء عندما يعرِّفون بعض المعاني بالمثال ثم يقول: هذا التعريف غير جامع ، ويبدأ يعامل كلامه بالتعريف بالمثال كما يعامل التعريف بالحد الجامع المانع ، وهذا خطأ في التعامل.
ومن أمثلتة التعريف بالمثال ما جاء عن بعض السلف لما سئل عن زيادة الإيمان بالطاعة ونقصانه بالمعصية، فقيل له: ما زيادته؟ فقال: زيادته ذكر الله : سبحان الله والحمد لله و الله أكبر ... فهذا ظاهر أنه قصد التمثيل بجنس الطاعات وذكر أيسهرها وأسهلها.
(1) الآن شيخ الإسلام يضرب أمثلة يقول: يدخل في باب اختلاف التنوع عباراتهم عن أسباب النزول.
ما تعريف سبب النزول ؟
سبب النزول هو الحادثة التي تقع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو السؤال الذي يسأل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فينزل القرآن متحدثاً عنها أو مجيباً عن السؤال.
تعريف آخر مختصر : أن سبب النزول هو : ما نزل بصدده قرآن من حدث أو سؤال.
والعلماء - رحمهم الله - نبهوا أن تعبير السلف عن سبب النزول له صيغتان :
الأولى : صيغة صريحة في التعبير عن سبب النزول .
الثانية : صيغة غير صريحة .
الصيغة الصريحة، كأن يقال: حدث كذا فأنزل الله كذا ، أو جاء رجل فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن كذا، فيرتب نزول الآية على حدث أو سؤال.(1/115)
النوع الثاني : الصيغة غير الصريحة : هي أن يقال : سبب النزول هذه الآية كذا، أو نزلت هذه الآية في كذا. هذه الصيغة محتملة لأن يكون ما يذكر من باب سبب النزول على المعنى الأول الصريح، أو من باب بيان دخول هذا المعنى في الآية، كأنه يقول : هذا المعنى مما يدخل في معنى هذه الآية، أو إن نزول هذه الآية يشمل هذا المعنى، فهي صيغة محتملة لأن يكون مراده التعبير عن السبب من الحدث أو السؤال الذي نزل بصدده قرآن، ومحتمل أن يكون ما عناه : البيان عن أنَّ هذا الأمر يدخل ضمن الآية.
فنبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن النوع الثاني من الصيغة المحتملة في التعبير عن سبب النزول، إذا تعددت أقوالهم فيه مما يدخل في اختلاف التنوع، لأن مرادهم أن ذلك مما يدخل في معنى الآية. فلا يضرب قول بعضهم ببعض، و لا يرد قول بعضهم بقول بعض. فإذا فتحت التفسير تجد من الصحابة من يقول : نزلت هذه الآية في كذا، صحابي آخر يقول : نزلت هذه الآية في كذا، ويذكر معنى آخر، وثالث يقول : نزلت في كذا، فاعلم عندها أن مرادهم: بيان أن الآية تشمل في معناها هذه الأمور ، وأن مراد الصحابي بقوله : نزلت هذه الآية في كذا ، بيان شمول المعنى في الآية لهذه الأمور ، لأن تعبيرهم بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا ، هو من مثل قولهم: من معنى هذه الآية كذا، أو يدخل في معنى هذه الآية كذا ، فصار من اختلاف التنوع.
(35) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبعض الناس ممن شذَّ عن طريقة أهل السنة والجماعة يجعل حكم الآية خاصاً في عين من نزلت فيه ، وهذا لا قائل به من أهل السنة المتبعين لما كان عليه السلف الصالح ، لأن العبرة عندهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(1/116)
لكن هنا نكتة علمية نبَّه عليها ابن دقيق العيد رحمه الله في إحكام الأحكام وهي : أن العبرة في اللفظ بعمومه لا بخصوص السبب لكن قد تفيد قرائن الأحوال معنى التخصيص فلا يكون للفظ معناه العام . قاله ابن دقيق العيد (ت702هـ) رحمه الله [إحكام الأحكام (2/225)، بتصرف يسير. وانظر فتح الباري (4/184)]: "السياق والقرائن [يدلان] على مراد المتكلم من كلامه وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات، فاضبط هذه القاعدة، فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى "اهـ.
والوقوف على مراد المتكلم ومقصده من كلامه واعتبار ذلك نافع للناظر؛ ومما يدل عليه السياق.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله، في كلامه على حديث: "الخالة بمنزلة الأم"[إحكام الأحكام (4/82-83)]: "سياق الحديث يدل على أنها بمنزلتها في الحضانة، وقد يستدل بإطلاقه أصحاب التنزيل على تنزيلها منزلة الأم في الميراث، إلا أن الأول أقوى؛ فإن السياق طريق إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات، وتنزيل الكلام على المقصود منه. وفهم ذلك قاعدة كبيرة من قواعد أصول الفقه، ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر وإن كانت ذات شعب ومناظر"اهـ.
ومثل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال : (ليس من البر الصيام في السفر) ، فإن هذا الحديث لفظه عام ، سببه : أن رجلاً من الصحابة كان صائماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر من الأسفار فشق عليه الصوم في السفر فأغمي عليه ، فكان الصحابة يحيطون به ويرشون عليه الماء ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما سبب هذا الاجتماع ؟ فقالوا : فلان أغمي عليه بسبب الصوم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطر وقال : (ليس من البر الصيام في السفر)[البخاري ومسلم].(1/117)
هذا الحديث لفظه عام فلو أخذنا بمعناه لكان معناه : أنه من الإثم الصيام في السفر بمنطوقه ، وأن من البر الفطر في السفر ، هذا مفهوم المخالفة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر وأقر فطر الصحابة وصيامهم في السفر - هنا قرائن أحوال - خصصت الحكم العام ، وجعلت حكم النص العام مخصوصاً بسببه ، ما هو سببه ؟ المشقة بالصوم في السفر ، عندها نقول: ترتيب المسألة سيكون هكذا ، نقول : ما حكم الصوم في السفر ؟ نقول : يجوز للمسافر أن يفطر ، إلا أن يشق عليه الصوم في السفر ؛ فإن شق عليه الصوم في السفر فلا يجوز له الصوم ، فإن صام والحال هذه أثم والدليل : (ليس من البر الصيام في السفر) فنحن هنا خصصنا عموم اللفظ بالسبب لا لذات السبب لكن لقرائن أخرى ، ما هي ؟ ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صام وأفطر في السفر ، وما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أقر الصحابة على فطرهم وعلى صيامهم في السفر.
إذاً هناك فرق بين أمرين :
الأول : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
الثاني : قرائن الأحوال في السياق قد تفيد تخصيص اللفظ العام .
وهذه مسألة مهمة نبه عليها ابن دقيق العيد ، وأشار إليها في قضايا القرآن ؛ الكثير من أهل العلم ، منهم من المتأخرين: القاسمي في مقدمة تفسيره محاسن التأويل (3/81).
(36) هذا الكلام من شيخ الإسلام بيان لفائدة معرفة سبب النزول ، لو سئلت ما هي فائدة سبب النزول ؟ قل له فوائد عظيمة ، أهم فائدة له : أنه يورث العلم بالآية ومعناها ، إذ العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ، أنت حينما تعلم أن هذا الأمر حدث نتيجة هذا الأمر ستعرف إذاً ما المراد بهذا اللفظ الذي جاء في هذه القضية ، تفهمه على أصله.(1/118)
وهل الأولى للمفسر إذا جاء يفسر الآية ، هل الأولى أن يبدأ ببيان السبب ، أم الأولى أن يبدأ ببيان المناسبة، على أقوال ثلاثة، ثالثها: أن يبدأ بما يعين على فهم الآية ، فإن توقف فهم الآية على بيان السبب بدأ به، وإن توقف فهم الآية على بيان المناسبة ؛ بدأ به، فإن استويا بدأ بسبب النزول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : من فروع هذه القاعدة ، أن الفقهاء قالوا : أنه إذا لم يعرف هل هذا الرجل في يمينه أو في طلاقه أو في غيرها من الألفاظ التي يناط فيها حكم ، إذا لم يعرف ما هو قصده وما هي نيته ؛ قالوا : ينظر في السبب الذي هيَّج هذا الرجل لقول هذه اللفظة من طلاق أو يمين ..الخ ، فإن السبب الذي هيَّج هذه يكون معيِّناً لنية وقصد الحالف أو صاحب اليمين أو الذي قال هذا اللفظ .
فقضية العلم بالسبب من القضايا المهمة للمفسر وأيضاً للفقيه ، هو يحتاجها في فهم النصوص من القرآن والسنة ، ويحتاجها أيضاً في تنزيل الأحكام الشرعية على أفراد الناس .
فائدة: هل يوجد سبب نزول للحديث ؟ نقول : عندنا سبب لكن لا نسميه سبب نزول ، إنما نسميه سبب ورود الحديث .
من الكتب المصنفة في أسباب نزول القرآن : (أسباب النزول للواحدي)، وهو مطبوع متداول بتحقيق : سيد صقر، و(لباب النقول في معرفة أسباب النزول ) لجلال الدين السيوطي، وهو أيضاً كتاب معروف متداول .
وفي الحديث كتاب كبير في ثلاثة مجلدات أسمه : (أسباب ورود الحديث) للحسيني ، و (أسباب ورود الحديث ) للسيوطي، وشراح الحديث يهتمون غالباً ببيان سبب ورود الحديث وقصته لما يتوقف على معرفة السبب وقصة الحديث من بيان وإيضاح لمعنى الحديث.
(37) هذا الذي قلنا عنه : الألفاظ غير الصريحة، الألفاظ المحتملة.(1/119)
أحياناً بعض الأخوة يقولون : نتعب من قراءة تفسير ابن كثير ، لماذا ؟ يقولون : لأنه يذكر أقوالاً كثيرة، فنقول له: إذا ضبطت هذه القاعدة في اختلاف التضاد واختلاف التنوع؛ لم تعد تصعب عليك القراءة في تفسير ابن كثير؛ لأن أغلب التفسير الوارد في تفسير ابن كثير هو من أقوال الصحابة والتابعين وهو من باب اختلاف التنوع يعبرون عن المعنى الواحد بأكثر من لفظ ، أو يمثلون بأمثلة تدخل تحت ما جاء في الآية، فإذا ما تكلموا عن سبب النزول فانتبه! فإنه إذا جاءت صيغة في سبب النزول، صيغة غير صريحة، كقولهم نزلت الآية في كذا، أو سبب نزول الآية كذا، وتعددت في الموضع الواحد فإن ذلك يدل على أن مرادهم أن ذلك مما يدخل في معنى الآية، كأنه يقول : معنى هذه الآية كذا ، أو أن هذا المعنى داخل في تفسير الآية.
فتزول بذلك الكثير من المشقة والصعوبة في التعامل مع هذه الكتب .(1/120)
فائدة : من الكتب المساعدة في التعامل مع الروايات الواردة في التفسير بالمأثور ؛ كتاب : (زاد المسير في علم التفسير ) لابن الجوزي، هذا الكتاب تحرَّى فيه رحمه الله، أن يختصر الأقوال الكثيرة في أقوال قليلة، فمثلاً: تأتي سبعة أو ثمانية روايات ، واحدة عن ابن عباس ، وواحدة عن مكحول ، وكذا، كلها ترجع إلى قول واحد، ثم تجد روايتين ترجع إلى قول ثالث، فيأتي يقول: في تفسير هذه الآية ثلاثة أقوال، القول الأول كذا وهو مروي عن فلان وعن فلان، القول الثاني كذا وهو مروي عن فلان وفلان ، القول الثالث : كذا .. الخ ، فهذا في الحقيقة يساعدك على التعامل مع كتب التفسير بالمأثور ، والسبب في تحرير عبارة ابن الجوزي في هذا الكتاب وأن تصنيفه في هذا الكتاب يعتبر من أفضل كتبه التي صنفها : أنه لخص هذا الكتاب من كتاب له كبير اسمه (المغني في التفسير) ، ثم بعد ما لخصه وقرأه قراءة بحث وتحرير مع سيف الدين ابن تيمية عم المجد ابن تيمية ، قرأه معه قراءة بحث وتحرير من أول الكتاب إلى آخره ، فكم أمر تيسر لتحرير هذا الكتاب : (زاد المسير) ؟ الأول : أنه لخصه من كتابه الكبير ، ولا شك أن الرجل لما يلخص من كتاب كبير سيكون دقيقاً في عبارته. الثاني : أن عبارته تحررت بمجالس المذاكرة والبحث مع السيف ابن تيمية، لأنه قرأه معه قراءة بحث ونظر فتحررت في هذا الكتاب العبارات الواردة في التفسير ، ويعتبر كتابه من الكتب المساعدة في تحرير الأقوال الواردة عن السلف في تفسير الآية وهو في تحريره وجمعه للأقوال أفضل من كتاب (النكت والعيون) للماوردي ، وأفضل من كتاب التفسير للعز بن عبد السلام ، وأفضل من كثير من الكتب المنقولة في هذا الباب.(1/121)
أمر آخر في هذا الكتاب (زاد المسير): أن هذا الكتاب يعتبر من كتب التفسير التي مؤلفوها من علماء الحنابلة. ما الفائدة ؟ أقول لك: هذا الرجل حنبلي ، فلما جاء إلى تفسير آيات الأحكام في داخل التفسير اعتنى ببيان المذهب الحنبلي ، لا تجد في المكتبة التفسيرية كتاباً في أحكام القرآن مؤلفه حنبلي ، عندنا أحكام القرآن لابن العربي المالكي ، عندنا أحكام القرآن للكيا الهراسي شافعي ، وأحكام القرآن للجصاص حنفي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي مالكي، عندنا التفسير الكبير للرازي وما تضمنه من آيات الأحكام شافعي ؛ وعليه فإن كتاب زاد المسير جدير بأن يعتنى به ، والله الموفق.
(38) اتفقوا على أن ما جاء عن الصحابي في بيان سبب النزول بصيغة صريحة كقوله: "حدث كذا فأنزل الله كذا"، أو "سئل رسول الله عن كذا فأنزل الله كذا"، أنه مرفوع، وأدخلوه في مصنفاتههم المفردة للمرفوعات.
واختلفوا في ما جاء عن الصحابة بصيغة غير صريحة كقوله: "نزلت هذه الآية في كذا"، أو "سبب نزول الآية كذا"،
فالإمام البخاري ومسلم أدخلاه في كتابيهما.
وغيرهما لا يدخله، وأكثر المسانيد على هذا.
وقد نص الحاكم في المستدرك (2/258) على أن ذلك من منهج البخاري، فقال: "ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديثاً مسنداً".اهـ
واختار في كتاب معرفة علوم الحديث في النوع الخامس [ص149/ السلوم] أن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا، فإنه حديث مسند، بخلاف تفسيرهم الموقوف عليهم.(1/122)
والذي يترجح بحسب القاعدة الأولى المذكورة في كتاب مقدمة أصول التفسير : أن تفسير الصحابي للقرآن العظيم وبيانه لأسباب النزول هو من قبيل المرفوع حكماً، ما لم يقم دليل على خلافه. ويستفاد من تقرير ابن تيمية رحمه الله للقاعدة أن هذا اختياره في هذه المسألة هنا، وقد سبق أن ذكرت أن هذا مما ينبني على هذه القاعدة الأولى المشار إليها.
(39) هذه العبارة من كلام الشيخ ، تضمنت التنبيه على أكثر من مسألة وهي :
المسألة الأولى : أنه ماذا تعمل إذا جاءت عبارات صريحة في سبب النزول ، واختلفوا في تحديد السبب ، فهذا يقول : حدث كذا فأنزل الله كذا وذكر هذه الآية ، وآخر يقول مثله ، ويذكر نفس الآية ؟ فنقول : هنا ننظر أولاً في صحة السند وثبوته ، إن ثبت السند في الروايتين فلا مانع من أن نقول عندها : إن الآية نزلت عقب هذين السببين. أو أن نقول : إن الآية تكرر نزولها .
المسألة الثانية التي يشملها كلام شيخ الإسلام هي : هل يصح القول بتكرار نزول القرآن؟
من العلماء من قال : إنه لا يصح القول بتكرار نزول القرآن ، قال : لأنه تحصيل حاصل يقول : لأن الآية نزلت فما المعنى من نزولها مرة ثانية ؟ ، والواقع : أن هذا القول قول باطل لا أعرف قائلاً له من السلف ، إنما قاله بعض المتأخرين وتبنوه ، ولكن الصواب : أنه لا مانع من القول بتكرار نزول القرآن بل جاءت أدلة نبوية تدل على تكرار نزول القرآن منها : حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أُنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كاف"[النسائي]، فإن هذا الحديث يدل على أن القرآن تكرر نزوله ، وتقرير ذلك أن نقول : إن القرآن أول ما نزل لم ينزل على سبعة أحرف ، إنما نزل على حرف من هذه الأحرف ثم في كل مرة ينزل على حرف آخر كما تفيده روايات هذا الحديث فإنه يقول : " نزل عليَّ جبريل بالقرآن فأقرأني إياه على حرف فاستزدته فزادني حرفاً " ، فإنه يدل على تكرار النزول .(1/123)
والواقع أيضاً يدل على هذا ، فإن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف إنما وقع في المدينة ، فقد جاء في إحدى روايات هذا الحديث عن أبي بن كعب أنه قال : ( أتى جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم عند أحجار المراء ) ، فسمى هذا الموضع - وهو موضع معروف في المدينة - "عند أحجار المراء عند أضاة بني غفار"، وهو موضع معروف بالمدينة. والمقصود بالأضاة: هو الفرع المائي الصغير ، مسيل الماء المتفرع من مسيل صغير ، هذا يسمى : (أضاة) . فإذا كان أصغر منه قليلاً يسمى : (سَرِي) ، ( قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً)(مريم: من الآية24). كانت قبيلة بني غفار تنزل عند هذه الأضاة عند هذا المسيل من مسيل الماء ، فالرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذكر أن جبريلاً أتاه عند أضاة بني غفار وعند أحجار المراء ، فهذا اسم مكان في المدينة مما يدل أن القرآن نزل في مكة على حرف ثم جاء التخفيف بعد ذلك في المدينة ، يعني : استمر ينزل عشر سنوات على حرف واحد ، ولذلك عثمان رضي الله عنه لما جمع القرآن قال: (إذا اختلفتم فاكتبوه على لسان قريش فإنه به نزل)[البخاري]. أي : في النزلة الأولى .
فهذا فيه دليل على أن القرآن تكرر نزوله .
وعليه فإن دعوى أن القرآن لم يتكرر نزوله ، وأن تكرار نزوله تحصيل حاصل، دعوى يكفي في ردها أن نقول : لا سلف لقائلها ، ويتأيد هذا بأن نقول : وقد قامت أدلة تدل على بطلان قوله ، فإذا لم يكن هناك مانع شرعي من تكرار النزول ؛ فكذا أيضاً لا مانع شرعي من تكرار سبب النزول .(1/124)
ولعل هذا يوضح بعض الأمور ، فمثلاً : الشائع عند العلماء أن سورة ( الكوثر ) مكية ، حتى إنه في آخرها أشار إلى الوليد بن عقبة بقوله : (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3) ، من كفار قريش ، الشائع عندهم أنها مكية ، فإن ثبت سند بذلك فهي مكية ، لكن أخرج مسلم في الصحيح عن أنس بن مالك قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم أفاق ، فقلنا : يا رسول الله ! ما إغفاءتك تلك ؟ قال : " أنزل عليَّ آنفاً : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) . وأنس بن مالك كان في المدينة ، إذاً هذه السورة على هذا الحديث في صحيح مسلم تكون مدنية ، فإذا قام دليل صحيح صريح أن السورة مكية ؛ عندها نجمع بين هذين القولين : بتكرار النزول .
خذوا مثلاً : المعوذات ، المشهور عند أهل التفسير أنها مكية ، والذي ورد في كتب الحديث أنها نزلت لما سحر لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل عليه جبريل وحلَّ عنه عُقَد السحر بأن تلا عليه إحدى عشرة مرة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص:1) ، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (الفلق:1) ، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس:1) وأنها أُنزلت عليه في هذه القصة فكيف نجمع ؟ فالجواب: إن صحَّ مستند أهل التفسير في أن هذه السورة نزلت في مكة ؛ فنجمع بين الروايات بتكرار النزول.
(40) هذا تعليق مختصر في معرفة الألفاظ يساعد - إن شاء الله تعالى - على فهم كلام المصنف رحمه الله، فأقول:
الألفاظ في اللغة على أنواع:
النوع الأول : الألفاظ المتباينة :(1/125)
وهي أن يستقل كل لفظ بمعنى يختلف فيه عن الآخر ، فالجمل غير الكرسي غير الحصان غير الهرة ، يستقل كل لفظ بمعناه عن الآخر، وهكذا غالب ألفاظ اللغة من قبيل الألفاظ المتباينة، ويسمي هذا النوع بعضهم (متباين لفظي)، فلكل لفظة معنى تختلف به عن الأخرى.
النوع الثاني : الألفاظ التي هي من قبيل المشترك اللفظي : وهي أن يأتي لفظ واحد وله أكثر من معنى ، والمعاني مختلفة.
مثل : كلمة ( عسعس ) بمعنى : أقبل وأدبر ، وكلمة ( قسورة ) بمعنى : الأسد والرامي ، وكلمة ( قرء ) بمعنى : حيض وطهر، وقس على ذلك .
هنا أسماء مشترك لفظي ، فتحتمل الكلمة أكثر من معنى .
فإن قيل: كيف يعرف العربي أن المراد هذا أو هذا ؟
فالجواب: يعرف ذلك بدلالة السياق، مثال ذلك : كلمة ( طاهر ) هي من باب المشترك اللفظي لأنها تحتمل أكثر من معنى . فتحتمل كلمة ( طاهر ) بأنه: ليس بنجس ، وتحتمل بمعنى :أنه على غير حدث، فهو ليس بنجس لكنه محدث، فهو من ارتفع عنه الحدث، وتحتمل معنى: مسلم مؤمن ، فيصير المشرك نجساً ، وقد جاء في القرآن ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)(التوبة: من الآية28) ، وهذا معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما علمت أن المؤمن لا ينجس"[البخاري ومسلم]، يعني : أنه طاهر ، عندنا أيضاً بمعنى : الطهارة المعنوية التي هي بمعنى حِلُّ الشئ ، يقابلها : النجاسة المعنوية التي هي بمعنى تحريم الشيء . فنحن نقول : الخمر نجسة نجاسة معنوية بمعنى أنها محرمة ، ومن الفقهاء من يقول : الخمر نجسة نجاسة عينية .
فإذاً كلمة ( طاهر ) لها خمسة معانٍ ، هذا مشترك لفظي .(1/126)
كلمة ( طاهر ) ومشتقاتها يتحدد معناها بحسب السياق . خذ مثلاً : يقول صلى الله عليه وسلم : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فإن طهوره أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب " . وفي رواية : " أولاهن بالتراب " . قال : " طهور" فمالمراد بالطهارة هنا ؟ نقول: الإناء لا يتعرض للحدث ، وليس بمؤمن ولا كافر ، وليس بحلال ولا حرام، إذاً الذي يقابل الطهارة هنا : هو إزالة النجاسة، هذا السياق دل على المعنى .
قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79) ، ما معنى (المطهرون) ؟
نقول : الكلام هنا عن الملائكة ، والمعنى هنا في الملائكة يشمل الطهارة من الحدث ، ويشمل الطهارة من النجس لأنهم ملائكة لا يُحدِثون ,لا يَنجُسُون .
إذاً المشترك اللفظي : أن تأتي لفظة واحدة تحتمل أكثر من معنى مختلف ، والعربي يعرف المعنى المراد بحسب السياق .
أحياناً لا يمتنع العربي من حمل اللفظة التي هي من قبيل المشترك اللفظي على جميع معانيها لعدم قيام مانع يمنع من هذا الحمل ، وهذا عليه جمهور أهل العلم ، أن المشترك اللفظي لا مانع من حمله على جميع معانيه ما لم يمنع من ذلك مانع.
هذه القاعدة في معنى المشترك اللفظي هي سبب اختلافهم في معنى حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه : "أن لا يمس القرآن إلا طاهر" ، فاختلفوا في معنى (طاهر) ، فقال بعض العلماء: كلمة (طاهر) محتملة لهذه المعاني كلها فلا نفسرها بأي معنى من المعاني فنتوقف ، ورُدَّ عليه بأنه لا مانع من حمل كلمة (طاهر) على جميع المعاني السابقة ، فلا يمس القرآن محدث ، ولا يمس القرآن نجس ، ولا يمس القرآن كافر ، ولا يمس القرآن بأمر حرام ، وما دام يجوز حمل اللفظ على كل هذه المعاني ؛ إذاً الحديث يكون دليلاً على جميع هذه المعاني .(1/127)
النوع الثالث : الألفاظ المتضادة : وهي نوع من المشترك اللفظي : أن يأتي لفظ واحد له معنيان مختلفان ، ولكن يضاد كل منهما الآخر مثل : كلمة (عسعس) لها معنى (أقبل) ، ولها معنى (أدبر) ، لكن تلاحظ أن : أقبل وأدبر معنيان متضادان. مثل كلمة : (قرء) لها معنيان : الطهر والحيض وهما متضادان .
النوع الرابع : الألفاظ المترادفة : أن يأتي معنى واحد له أكثر من لفظ .
مثل : آلة الحرب السيف ، اسمه : سيف ، وحسام ، وفيصل ، ومهند . ومثل : الأسد اسمه : أسامة ، وليث وهِزَبْر، وهشام وضرغام، هذه الألفاظ التي فيها معنى واحد وله أكثر من اسم يقال عنها ألفاظ مترادفة .
وقد اختلف أهل اللغة هل يوجد المترادف في لغة العرب أم لا يوجد ؟
من العلماء من قال : لا يوجد في لغة العرب ألفاظ مترادفة ، ومن العلماء من قال : إنه يوجد فيها ذلك ، والصحيح : أنه يوجد في لغة العرب ألفاظ مترادفة بمعنى أنها تتشابه في أصول معانيها بمعنى : أنها تشترك في معنى واحد لكن لكل لفظ التنبيه على صفة ليست في اللفظ الآخر .
خذ مثلاً : السيف والحسام والمهند والفيصل ، كلها أسماء للآلة التي يقاتل بها الناس فهي مشتركة في أداء هذا المعنى ، لكن كل اسم من الأسماء ينفرد بذكر صفة في هذه الآلة لم يذكرها الاسم الآخر ، فتسميته بالمهند : إشارة إلى أنه يستعمل بالزند والساعد ، وتسميته بالفيصل : إشارة إلى أنه يستعمل في فصل الأمور والأشياء ، وتسميته بالحسام : إشارة إلى أنه يحسم به الأشياء ، ( سبق السيف العذْل ) ، وتسميته بالسيف : هو اسمه الأصلي . وعلى هذا القول يوجد مترادف بمعنى : أن تشترك الأسماء في أصل المعنى لكن مع هذا لكل لفظة معنى زائد لا تذكره اللفظة الأخرى.(1/128)
الكتب المصنَّفة في هذا الباب : هي كتب فقه اللغة ، كتاب ( فقه اللغة ) للثعالبي ، هذا موضوعه ، ( المحْكَم ) لابن سيده في معاني الألفاظ هذا موضوعه . فمثلاً : تقول كان متكئاً فجلس ، ولا تقل : كان متكئاً فقعد ، لأن الجلوس يكون عن اتكاء والقعود يكون عن قيام . كل من القعود والجلوس مشترك بمعنى واحد وهو أن الإنسان يستوي على الأرض لكن لكل لفظة تنبيه على صفة ليست عند الأخرى ، فقولنا : ( كان متكئاً فجلس ) كلمة ( جلس ) تنبه على أن هذا الاستواء على الأرض كان عن اتكاء ، أما قولنا : ( كان واقفاً فقعد ) كلمة ( قعد ) تنبه على أن هذا الاستواء على الأرض كان عن قيام . (اهـ الدرس الخامس ) .
(41) (الدرس السادس 29/7/1423هـ)
تكلمنا في الدرس السابق عن أنواع الألفاظ في اللغة وهي : المتباينة ، والمشترك اللفظي ، والمترادفة ، والمتضادة ، ويبقى من أنواع الألفاظ.
النوع الخامس : الألفاظ المتواطئة ، وهي : أن يوجد اللفظ له معنى واحد ، وهذا المعنى له أفراد كثيرون .
مثل : كلمة ( إنسان ) ، فإنها تصدق على زيد وعلى صالح ، وعلى ناصر ، وعلى محمد ، وعلى هند وعلى علياء ، وعلى زينب ، وغير ذلك ، هذا اسمه متواطئ لفظي . تأتي لفظة واحدة تصدق على أفراد كثيرين ، مثل : كلمة ( بلد ) تطلق على مكة وجدة والمدينة والرياض ، ومثلها كلمة (مدينة) أيضاً فهي متواطئ لفظي .
إذاً اللفظ الذي يصدق معناه على أفراد كثيرين يسمى متواطئ لفظي .
يشترط في هذا المتواطئ اللفظي : أن يكون صِدق اللفظ على هذه الأفراد متساوياً ، فلا فرق بين علي وناصر وسالم في صفة رجل، فكلهم رجل ، لأن كلمة ( رجل ) تصدق عليهم بالتساوي .
النوع السادس : المشكك اللفظي ( الألفاظ المشككة ) : وهي أن يأتي اللفظ يصدق معناه على كثيرين ، لكن لا على التساوي ، فنقول : هذا المعنى موجود هنا وموجود هنا ، لكن في أحدهما وجوده أولى من الآخر .(1/129)
مثل : لفظة ( وجود ) ، و( حياة ) ، فإن لفظة ( حياة ) تصدق على حياة الله عز وجل ، وتصدق على حياة الإنسان ، وعلى حياة المخلوقات مثل : النباتات ، لكن صفة الحياة كصفة كاملة هي لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق بجلاله وبكماله سبحانه .
مثلاً : الحياة الدنيا ، وحياة الآخرة ، فإن الحياة الحقيقة هي حياة الآخرة ، فإن لفظة ( حياة ) من قبيل المشكك اللفظي ، لأن لها أكثر من فرد تصدق عليه ولكن ليس على وجه التساوي .
مثل : لفظ ( شجاعة ) فأنت قد تقول : زيد شجاع ، وعنترة شجاع ، لكن في عنترة صفة الشجاعة أكثر من زيد ، فصفة الشجاعة من قبيل المشكك اللفظي ، لأن معناها يصدق على عدة أفراد لا على وجه التساوي .
مثل : صفة ( الإيمان ) من الألفاظ المشككة ، فالناس ليسوا على التساوي وفي وصف الإيمان ، لكن الموصوفين بالإيمان كُثُر .
إذا فهمتم هذه المقدمة ستفهمون - إن شاء الله - كلام شيخ الإسلام الذي وقفنا عنده .
يقول شيخ الإسلام : ( مثل كلمة : قسورة ، فإن المراد بها الرامي ، ويراد بها الأسد ) . إذاً لفظة ( قسورة ) الآن مشترك لفظي ، إذ إن هذه اللفظة لها معنيان : الأول : الرامي ، والثاني : الأسد ، فقد يأتي في كلام المفسرين تفسير كلمة (قسورة) بالرامي ، وقد يأتي كلام آخرين تفسيرها بالأسد ولا تنافي بينهما ، لأن هذه اللفظة من قبيل المشترك اللفظي .
كذلك قوله تعالى : ( ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى ) ، قول من أقوال أهل التفسير : أن الضمير يعود إلى جبريل عليه السلام ، وقول آخر يقول : إن الضمير يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الضمير من قبيل الألفاظ المتواطئة ، وهو اللفظ الذي يصدق على كثيرين .
فتفسير الضمير : بجبريل - عليه السلام - أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مما يحتمله اللفظ ، لأن اللفظ من قبيل الألفاظ المتواطئة .(1/130)
وكذلك قوله تعالى : ( والشفع والوتر ) ، يصدق على صلاة الليل أنها شفع ووتر ، وقد يصدق على أمور أخرى مثل ليلة القدر ، وقد تجد في كلام أهل التفسير تفسيرها بأمور أخرى يصدق فيها أنها شفع ووتر ، لأنها من هذا القبيل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلَفُ وَقَدْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ) ، فالأول الذي يجوز فيه أن يكون مراداً للسلف : أن تكون جميع هذه الأقوال داخلة في الآية .
قال شيخ الإسلام : (إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُونُ عَامًّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنْ الصِّنْفِ الثَّانِي) . أشار الشيخ الآن إلى مسألة تكرار النزول وقد سبق ولله الحمد بيانها، وأن الصحيح أن الدليل الشرعي يقرر جواز تكرار نزل القرآن.
إذا تقرر عندنا جواز نزول القرآن ؛ فلا مانع أن ينزل القرآن أولاً ليقرر معنى من المعاني التي يحتملها لفظ الآية ثم ينزل ثانياً ليقرر فيه معنى آخر ، والمعنيان لا تنافي بينهما .(1/131)
أو أن يكون تعدد المعنى : أن اللفظ الذي جاء في الآية من قبيل المشترك اللفظي ، وعند العلماء : لا مانع من أن يفسر اللفظ الذي هو من قبيل المشترك اللفظي بجميع معانيه بشرط أن لا يكون هناك تمانع أو تنافي بينهم ، أو أن لا يقوم دليل على تحديد أحد هذه المعاني. وهذا موطن ينبغي أن يتفطن له المسلم ، إذا إن هناك آيات بل وأحاديث تحتمل أكثر من معنى ولا تمانع بينهما ، ولا مانع من تفسير الأحاديث بهذا المعنى أو الآية بهذا المعنى وهذا المعنى، إلا إذا قام دليل يمنع ، كأن يقوم دليل على تحديد أحد هذه المعاني في المشترك اللفظي، أو أن تقوم علة تمنع حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه.
وقد نبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن القول بجواز حمل المشترك اللفظي على جميع معانيه هو قول الأكثر من أهل العلم.
أو أن تكون اللفظة في الآية من قبيل المتواطئ اللفظي الذي يصدق على كثيرين فيكون هذا النوع من الصنف الثاني الذي فيه التفسير من باب ضرب المثال .
(42) وهذا سر! الذين تأملوا في نظم القرآن الكريم وجدوا أن من إعجاز اللفظ القرآني : أن الآية إذا سيقت لمعنى لا يستطيع إنسان أن يأتي بلفظ يؤدي هذا المعنى كما جاء في لفظ الآية ، وهذا حقيقة الإعجاز في النظم القرآني . أن كل لفظة في القرآن الكريم مهما أتيت بلفظة أخرى لا تقوم مكانها في أداء المعنى .
مثلاً : علماء البلاغة قالوا : قوله تعالى : (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)(يوسف: من الآية17) قالوا : تفيد من المعنى ما لا تفيده لو قال : (بمصدِّق لنا ولو كنا صادقين ) ، قالوا : لأن قوله : (بِمُؤْمِنٍ لَنَا ) ، أي : أنت لم تركن لنا ولم تطمئن لنا حتى لو علمتَ أن كلاً منا يوافق الواقع ، فهم أرادوا أن يصفوا اطمئنانه إليهم لا مجرد قبول الخبر ، فلو أنه جاء بلفظة (بمصدِّق) بدل لفظة (بمؤمن)؛ لذهب هذا المعنى ، مع أن اللفظتين تشتركان في معنى التصديق .(1/132)
كلمة (مؤمن) تفيد معنى التصديق مع الأمن والاطمئنان والركون إلى الشيء ، زيادة على كلمة (مصدق) ، فجاء التعبير القرآني (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) ، لينبه على هذا المعنى الذي يزول لو أبدلت كلمة (مؤمن) بكلمة (مصدق).
خذوا مثالاً آخر : (ألم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(البقرة: من الآية2)، لماذا جاءت هنا كلمة (الكتاب) ولم تأت بكلمة (القرآن) ؟
قالوا : لأن كلمة ( القرآن ) تفيد الإشارة إلى هذا الكلام بوصف أنه ملفوظ، لأنه يُقرأ ويلفظ دون تأكيد على معنى الجمع والضم ، بينما كلمة ( الكتاب ) تفيد معنى القراءة وزيادة عليها معنى الضم والجمع وأيضاً شمول مجموع القرآن الكريم ، وهذا المعنى لا تفيده كلمة ( القرآن ) بمفردها لو جاءت في هذا المحل .
إذ إن المقصود بهذا المحل نفي الريب ، فالريب منفي ليس عن مجرد اللفظ بل حتى عن المكتوب ، فجاء التعبير بالكتاب ليشمل هذه المعاني الثلاثة .
المعنى الأول : لما تفيده كلمة ( الكتاب ) من أن كل مكتوب مقروء ، فتشمل القراءة لنفي الريب عنه كونه مقروءاً.
المعنى الثاني : نفي الريب عنه كونه مكتوباً.
والمعنى الثالث : نفي الريب عنه جميعه من أوله إلى آخره بخلاف كلمة ( القرآن ) فإن الإشارة فيها إلى القراءة دون المعاني الأخرى، فكان المناسب لهذا السياق أن يقول : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) باسم ( الكتاب ) دون اسم ( القرآن ) أو ( الفرقان ) أو كلمة (تنزيل ) ، جاء بكلمة ( الكتاب ) للإشارة إلى هذه المعاني التي يشملها هذا اللفظ دون غيره .
وهكذا مهما جئت إلى لفظ من ألفاظ القرآن في آية وأردت أن تبدله بلفظ آخر يشترك معه في أصل المعنى ؛ فإنك مهما جئت بلفظ لا يساوي اللفظ القرآني ، ولذلك أهل التفسير الذين درسوا البلاغة القرآنية والإعجاز القرآني يرفضون القول بالترادف في اللغة وفي القرآن الكريم . وهذا موضوع فقه اللغة.(1/133)
مثلاً يقولون : قل: كان متكئاً فجلس ولا تقل: فقعد ، لأن القعود إنما يكون عن قيام ، قل: كأس ، إذا كان مملوءاً، وقل: زجاج ، أو إناء إذا كان فارغاً ، هذا كله فقه اللغة يبعد الترادف عن الألفاظ، لأنه عين من عيون إعجاز القرآن في النظم والبيان هو هذا الذي ذكرناه قبل قليل ، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (فإن الترادف في اللغة قليل ، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم).
(43) هذا من أسباب إعجاز القرآن الكريم في النظم . بعد ذلك سيورد لنا شيخ الإسلام ابن تيمية أمثلة لأقوال بعض المفسرين في تفسير كلمات من القرآن كل واحد يحاول تفسير اللفظة القرآنية بلفظة مقاربة لها ، فيقول هذا الاختلاف سببه : أنهم يُعَبِّرون عن اللفظ بلفظ قريب منه .
في مثل هذا النوع من الاختلاف في تفسير القرآن يستحسن جمع كل كلام السلف فإن المعنى سيكون في مجموع هذه العبارات، فإن كل مفسِّر سيهتم ببيان لفظة تفيد معنى تدل عليه لفظة الآية .
(44) يعني : إذا فسَّر مفسر ( الموْر ) بالحركة؛ كان قوله بأن الموْر هو الحركة من باب التفسير بتقريب معنى الموْر، وإلا ليس مجرد الحركة هو معنى الموْر ، إذ ( الموْر ) : حركة خفيفة سريعة . مثل : كلمة (الوحي) قد تجد من يفسرها بالإعلام ، يقول : الإعلام من معاني الوحي، لكن ليس هو معنى الوحي ككل، إذ إن الوحي: إعلام بسرعة وخُفية ليس مجرد إعلام .
فقد تجد في كلام المفسرين شيئاً من هذا الباب ، وهو تقريب معنى اللفظ القرآني بمعاني من اللغة العربية لا لإيراد حصر كل معنى اللفظ القرآني .(1/134)
(45) يعني يقول : (وقضينا إلى بني إسرائيل ) معناه : أنه أوحى إليهم وأعلمهم وأنزل إليهم وأوجب عليهم ، وهذه الأربعة كلها من معاني كلمة ( قضينا ) وكلها مرادة في هذا النص ، قد تجد من أهل التفسير من يفسر ( قضينا ) بأعلمنا ، أو حمكنا ، أو أنزلنا ، يقول : هذه كلها معانٍ لتقريب معنى اللفظ لا لتحقيق معنى اللفظ ، فإن هذا يختلف عن هذا ، إذ لا تجد ألفاظاً مترادفة في اللغة .
(46) من المسائل التي تأتي عند التفسير ويحتاجها المفسر : أنه قد يجد في الآية القرآنية فعلاً يُعدَّى بغير فعل التعدية المعروف له في اللغة العربية ، فيلجأ بعض المفسرين إلى أن يقول : حرف التعدية هذا ، مثلاً ( على ) يراد به ( من ) مثلاً ، أو يقول : (إلى) يراد به معنى ( على ) ، .. الخ .
مثل هذه الآية قوله تعالى : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه)(صّ: من الآية24) ، فيأتي بعض أهل التفسير فيقول : (إلى) بمعنى (مع) ، فيصير معنى الآية : لقد ظلمك بسؤال نعجتك مع نعاجه .
شيخ الإسلام يقول : هذا خطأ ، لا يوجد عندنا في اللغة العربية حروف تنوب عن حروف ، والصحيح : أنه يُضَمَّن الفعل معنى آخر وقوله : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه) ، أراد بكلمة (سؤال) أي : ضم وإلحاق ، فالمعنى حينئذٍ يكون أي : ظلمك بإدخال وضم نعجتك إلى نعاجه ، فجعل فعل ( سؤال ) مضمن فعلاً آخر وهو فعل الضم ، أو فعل الجمع ، ولم يقل بتناوب الحروف .
وهذه مسألة من المسائل المهمة لأنه يستسهل بعض الناس أن يقول : هنا حرف ناب عن حرف كذا .(1/135)
[وقد عقد ابن هشام في كتابه (مغني اللبيب) الباب السادس في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها، وذكر منها ص861، قولهم: "ينوب بعض حروف الجر عن بعض"، وقال: "هذا مما يتداولونه ويستدلون به، وتصحيحه بإدخال (قد) على قولهم: "ينوب..."، وحينئذ يتعذر استدلالهم به، إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك يقال لهم فيه: لا نسلم هذا مما وقت فيه النيابة، ولو صح قولهم لجاز أن يقال: مررت في زيد، ودخلت من عمرو، وكتبت إلى القلم، على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه، وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف، لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف"اهـ
وذكر في الباب الثامن الذي عقده في ذكر أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، ذكر ص897 "القاعدة الثالثة: قد يشربون لفظاً معنى لفظ فيعطونه حكمه، ويسمى ذلك تضميناً، وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين"اهـ
وهذه المسألة من مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين، فالقول بجواز جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، هو قول أكثر الكوفيين، بخلاف البصريين. انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين : البصريين والكوفيين (1/266)، الجنى الداني ص46، مغني اللبيب ص150-151. ونصر قول البصريين ابن جني في الخصائص (2/306-310، 435)، ونسبه للمحققين المرادي في الجنى الداني ص46، ونسب ابن القيم في بدائع الفوائد (2/21) طريقة الكوفيين إلى ظاهرية النحاة، ومذهب البصريين إلى فقهاء أهل العربية.]
الله سبحانه وتعالى يقول عن فرعون لما توعَّد بني إسرائيل وتهددهم قال : ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل)(طه: من الآية71) ، بعض المفسرين يقول معناها : على جذوع النخل ، لأن التصليب إنما يكون على جذوع النخل ولا يكون فيه .(1/136)
بتطبيق القاعدة التي قالها شيخ الإسلام ابن تيمية نقول : هذا الكلام خطأ ، فإن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض ، ولكن ضُمِّن معنى التصليب معنى (الغرس) ، فكأنه قال : لأغرسن أبدانكم في جذوع النخل ، أي : أدخلها ، فأفادت الآية أنه لم يُرِدْ - فقط - أنه يعلقهم على جذوع النخل ؛ بل إنه يأتي بالمسامير فيغرسها في لحومهم حتى تدخل لحومهم داخل الشجر . فبقي حرف ( في ) في قوله: (في جذوع النخل) على أصله .
والسر في التفسير الثاني هذا : أنه ضُمِّن معنى الفعل ( لأصلبنكم ) معنى فعل آخر وهو ( لأغرسنَّ ) ، فيصير معنى الآية ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل) أي : لأغرسنَّ لحومكم في جذوع النخل ، فهو لم يُرِد - فقط مجرد التصليب ، لأن التصليب قد يكون : تعليق الشيء بدون غرس بالمسامير وهذا المعنى غير مراد، وإنما أراد أن يغرس لحومهم في جذوع النخل حتى تصير فيها، فجاء حرف (في) لإفادة هذا المعنى، ولو قلت : ( في ) ناب عن حرف (على)، وأصل الكلام : لأصلبنكم على جذوع النخل، لما أفدت المعنى المراد، وقصرت في فهم الآية.
فلا تقل: إن الحرف ينوب عن حرف آخر ، ولكن قل: الفعل هنا ضُمِّن معنى فعل آخر يتناسب مع حرف التعدية.(1/137)
(47) المناسب لفعل ( فَتَنَ ) تقول : لا تَفْتِنِّي في كذا ، لا تَفْتِنِّي في ديني ، فالمناسب أن يقول : لَيَفْتِنونك في الذي أو حينا إليك، لكنه قال : ( لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك)(الإسراء: من الآية73) ، بعض المفسرين بطريق الخطأ يقول : ( عن ) بمعنى ( في ) ، فيصير معنى الآية : (وإن كادوا ليفتنونك في الذي أوحينا إليك)، كقولك : لقد كاد أن يَفْتِنِّي في ديني ، لأن فعل ( فَتَنَ ) يتعدَّى بـ (في)، لكن شيخ الإسلام يقول : لا ، هذا من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر ، فيكون معنى (ليفتنونك) ضُمِّن معنى : يزيغونك ، ويحرفونك ، ويحيدونك ، فلما كان هذا الفعل مضَمَّناً معنى فعل آخر جاء بحرف التعدية (في) ، فقال : (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك) أي : يزيغونك ، ويحرفونك ، ويحيدونك ، عن الذي أوحينا إليك ، فليس مجرد معنى الآية : أنهم فتنوك وأنت باقٍ ، لا ، الآية تُبَيِّن أنهم لم يقتصروا على مجرد تشكيكه في شيء وهو باقٍ عليه ؛ بل إخراجه عن الصراط السويِّ وإحرافه عنه وزيغانه عنه ، ولهذا جاء بحرف الجر ( عن ) ، وبهذا الأسلوب تكتسب الآية معنى : الفتنة ومعنى الزيغان .
قد يقول قائل : لماذا لم يأتِ أصلاً بالفعل المضمَّن الذي يناسب حرف التعدية الذي ذُكر في الآية ؟
نقول : لكي تشتمل الآية على معنى الفعلين ، معنى فعل الفتنة ، ومعنى فعل الزيغان .
قد تقول : ما الضابط لهذا ؟
نقول : الضابط هذا الحرف ، حرف التعدية فإنه هو الذي يشير إلى الفعل المضمَّن ، وعلى المفسِّر أن ينظر في السياق والسباق ، وينظر في الفعل المضمن المناسب لهذا الموضوع .
فالذين يستسهلون هذه القضية ويقولون : هذا من باب تناوب أحرف الجر ؛ فعلهم هذا خطأ لا يتناسب مع عظمة الأسلوب القرآني الذي لم يأتِ فيه لفظ ولا حرف إلا لمعنى .(1/138)
وانظروا إلى قوله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)(البقرة: من الآية49) ، جاءت هذه الآية نفسها في سورة إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم)(إبراهيم: من الآية6) ، لا فرق بين الآيتين إلا بحرف العطف ( الواو ) ، ففي سورة إبراهيم: (ويذبحون أبناءكم) ، وفي سورة البقرة : (يسومونكم .... يذَبِّحون ) بدون (الواو ) ، فزيادة حرف ( الواو ) في سورة إبراهيم أفاد معنى غيره لما لم يكن في البقرة .
تفسير آية البقرة : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) ما هو ( سوء العذاب ) ؟ هو : ذبح الأبناء ، واستحياء النساء ، فأفاد أن سوء العذاب هو هذا ، بينما في سورة إبراهيم قال : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) ، فسوء العذاب أشياء ، (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم) ، فالواو أفادت أن سوء العذاب شيء آخر غير هذا المذكور ، فدل ذلك على أن سوء العذاب أشياء كثيرة منها هذا ، بينما في البقرة حصر فقط ، فيكون في البقرة اقتصر على أهم أنواع العذاب ، وفي سورة إبراهيم أشار إلى تعدد أنواع العذاب ، ومنها هذا المذكور وهو ذبح الأبناء واستحياء النساء ، فالمعنى زاد بزيادة حرف الواو .
فالتعامل مع القرآن بهذه الخصوصية هو الذي يظهر المعاني ، أما تأتي وتستسهل الأمر وتقول : هذا الحرف ناب عن حرف آخر ، فهذا الكلام لا يتناسب مع الأسلوب القرآني وهو غلط في التعامل مع القرآن ، هذا قد يصح في كلام الناس العاديين لكن لا يصح مع القرآن الكريم الذي لم يأت فيه حرف ولا لفظ إلا لمعنى .(1/139)
تأملوا قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(البقرة: من الآية30) قال : في الأرض .
وفي الآية الأخرى : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)(الفرقان: من الآية63) ، طبعاً هنا لا يوجد تضمين فعل معنى فعل لأن فعل ( يمشي ) يتعدى بحرف الجر ( على ) فلا يوجد تضمين ، لأننا قلنا : علامة التضمين، أن يأتي حرف التعدية غير مناسب مع الفعل الظاهر مما يشير إلى معنى فعل آخر ، هذا علامة التضمين في الفعل ن لكن لما يأتي حرف التعدية متناسباً مع الفعل فهذا ليست فيه إشارة إلى تضمين فعل معنى فعل . ( هذا هو الضابط ) .
نرجع إلى الآية قال : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ) لماذا لما ذكر آدم عليه الصلاة والسلام وأنه سيكون في الأرض استعمل حرف (في) (في الأرض) ، ولما ذكر عباد الرحمن - وآدم من عباد الرحمن - قال : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ) ؟
قالوا : لاختلاف المقامين ، فالمقام الأول : كان مقام ذكر التمكين والإنزال إلى الأرض ، وهذا يناسب حرف الظرفية ( في ) ، أما في المقام الثاني : هو لبيان صفات عباد الرحمن ، فمن صفاتهم أنهم يمشون باستعلاء في الأرض ، هذا الاستعلاء الإيماني الذين يستعلون به على رغبات الدنيا وشهواتها يناسبه أن يكون ( يمشون على الأرض ) .
ولما ذكر طلب الإنسان وسعيه للرزق ذكر ( في ) قال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك:15) ، لأن فعل التعدية (مشى) يناسب الحرف (على) لكن هو قال هنا (في) لماذا ؟(1/140)
لأن المقام مقام ذكر الرزق ، وكأن المعنى : اسكنوا وامشوا في مناكبها في سهولها في جبالها واطلبوا الرزق الذي فيها ، فكان المناسب لمعنى الآية هنا : أن يأتي الفعل مضمَّنا معنى طلب الرزق والسكنى فجاء بحرف الجر (في) مع المشي فقال : (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) لأن المقام مقام طلب الرزق ، والفعل ضُمِّن معنى السكون والاستقرار ، استقروا في ، اسكنوا في ، بينما لما ذكر المؤمنين وكان المقام مقام استعلائهم على الأرض جاء بالفعل على ظاهره وحرف التعدية المناسب له على ظاهره للإشارة إلى معنى آخر، والذي دلَّ عليه سياق الآية وهو بيان ما عليه أهل الإيمان من الاستعلاء على ما في الأرض .
ولذلك دائماً شعار المؤمنين في فعلهم للطاعات وتركهم للمعاصي ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) يعني : الحياة الحقيقية .
(48) تقول : فلان نصرته على فلان . لماذا عبَّر بحرف التعدية (من) في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)؟(1/141)
أقول : لأن فعل ( نَصَرَ ) ضُمِّن معنى فعل آخر وهو الفعل (نَجَّى) (نَجَّيْنَاهُ مِنْ) فكان نصره بنجاته ، وكان نجاة بنصر ، بينما لو قال : نجيناه من القوم ، كان المعنى - فقط - مقصوراً على التنجية دون معنى النصر ، لكن لما جاء باستعمال كلمة (نصر) ، وجاء بحرف التعدية (من) أشار إلى معنى النصر والفعل المضمَّن (نَجَّى) فهي نجاة بنصر ، لأنه قد تحصل نجاة بذِلَّة وبعدم نصر ، فهو قد ينجو من الأمر ولكن بدون نصر ، لكن الله عز وجل - هنا - يريد إثبات المعنيين أنهما حصلا معنى النجاة ومعنى النصر فقال : (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا) (الأنبياء: من الآية77)، هذا المعنى لا يوجد إذا قلت: (من) بمعنى (على) إذ المعنى نصرناه على الذين كفروا؛ لذلك غلَّط شيخ الإسلام ابن تيمية الذين يأتون إلى القرآن الكريم ، ويقولون : هذه الحروف من باب تناوب الحروف، فيقول: هذا خطأ ، وإنما هو من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر .
(49) تقول : يشرب من العين ، أو يشرب بالعين ؟ في اللغة العربية يتعدى فعل ( يشرب ) بالحرف ( من ) ، لكن في الآية لماذا قال (يشرب بها عباد الله )؟(1/142)
قالوا : ليفيد ذلك معنيين : أفاد معنى شربهم واستمتاعهم بها ، ويفيد معنى شربهم وريُّهم بها فجاء بالفعل ( يشرب ) ، ثم جاء بالتعدية بحرف ( الباء ) الذي يناسب فعلاً آخر غير ( يشرب ) وهو فعل ( يروى ، ويستمتع ) ، فقال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ )(الإنسان: من الآية6) ، أي : يشربون ويرتوون ويستمتعون بهذه العين . فهو ليس مجرد شرب من الماء فقط ، فلو قال : يشربون منها ؛ لم نفهم هل شربهم باستمتاع ، هل شربهم بغير استمتاع ، هل شربهم بِرِيٍّ، هل شربهم بغير ري ، لا يفيد شيئاً ، لكن لما قال : ( يشرب بها ) ؛ أفاد هذه المعاني الثلاثة ، أفاد أنهم يشربون منها ويستمتعون بها ويرتوون بها ، وانظر ماذا تفقد من المعاني لو قال قائل : ( يشرب بها ) يعني : يشرب منها!
لماذا أورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة ؟
نقول : أوردها للإشارة إلى ما يأتي من كلام أهل التفسير في تقرير معاني الآيات ، فهو يقول : قد يأتي بعض أهل التفسير عند هذه الحروف في القرآن فيفسرها ببعض معناها لا بكل معناها ، وإلا فمعنى الآية يشتمل على معانٍ أكثر من هذا المعنى الذي حاول المفسر أن يقرِّب به المعنى المراد في الآية .
فهو ضرب أمثلة على هذا من خلال تقريره لهذه القاعدة : الحروف في القرآن لا يتناوب بعضها عن بعض، ولكن تضمنت معنى أفعال أخرى.(1/143)
(50) إذاً (لا ريب) ليست هي مجرد (لا شك)، يقول : الريب : شك واضطراب وعدم استقرار وعدم طمأنينة وهدوء، فهو اضطراب وحركة، هذا هو الريب، فلما نفى الله عن القرآن قال : (لا ريب فيه) ، فالريب يشمل جميع هذه المعاني ، فإذا وجدت من كلام أهل التفسير من قال : (لا ريب) بمعنى (لا شك) ، ومن قال : (لا ريب) أي : لا قلق ولا تردد في قبول معانيه إذا ما استقرت في النفس وعلمها الإنسان على الحقيقة وزالت موانع القبول ؛ فإن هذا معنى وهذا معنى ، وكل هذه المعاني مرادة وهي داخلة في معنى الريب ، فمن فسره بالشك فسر جانبا من معاني هذه اللفظة ، والمعنى الثاني أيضاً من هذه اللفظة، فإذا أردت التفسير على التحقيق ؛ اجمع هذه المعاني كلها.
(51) أي : لا يحركه أحد ، حاقف يعني : ضُرِب بسهم فصار واقفاً .
(52) يقول : لو جاء أحد يفسر قوله تعالى: (ذلك الكتاب) بمعنى : هذا الكتاب؛ لكان في تفسيره هذا قصور في بيان معنى الآية، نعم هذا التفسير قرب المعنى لكنه لم يؤد المعنى كاملاً، لأنك لو نظرت في كتب التفسير الذين يراعون هذه الألفاظ والتراكيب في الأسلوب القرآني يقولون : (ذلك الكتاب) لماذا استعمل وصف الإشارة للبعيد ، والقرآن قريب بين يدي من يقرؤه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه وهو قريب؟ قالوا : الإشارة إلى بُعده وعلوه وعظمته لما للقرآن من علو وعظمة ينبغي أن تكون في نفوس الناس لأنه كلام الله .
أو على التفسير الإشاري وهو هنا معنى مقبول، أن نقول : لبُعد من تلبس بخلاف تعاليمه عن الوقوف على معانيه لبعده في معانيه .(1/144)
مثل قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة:79) ، فإن أهل العلم قالوا : في هذه الآية إشارة إلى أن من لم يُخَلِّص نفسه وداخله عن المعاصي والذنوب فإنه لا يقف على فهم معاني القرآن ، فكذا قوله : ( ذلك الكتاب ) إشارة إلى بعده وعلوه عن أن يبلغ أفهام من تلبس بالذنوب والمعاصي ، فاسم الإشارة ( ذلك ) فيه : إشارة إلى البُعْد ، بينما اسم الإشارة ( هذا ) فيه : إشارة إلى القرب ، والحقيقة : أن هذا القرآن بعيد معنوياً في مكانته وفضله ، وبعيد عن أن تنال معاني ألفاظه لمن بَعُدَ عن تعاليمه فائتمر بما فيه من الأوامر وانتهى عما فيه من النواهي، فهذا المعنى باسم الإشارة ( ذلك ) للبعيد ليس موجوداً في اسم الإشارة ( هذا ) للقريب ، فمن فسَّر ( ذلك الكتاب ) بمعنى : هذا الكتاب ، أو هذا القرآن ؛ لم يأت بالمعنى المراد بكامله، وإنما قرَّر بعض المعنى.
(53) يمهد المصنف لقاعدة مستفادة من القاعدة الأصلية التي نحن تكلمنا عليها وهي : (الاختلاف الموجود بين السلف هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد) ، فبعد أن بين أن اختلاف التنوع تارة يكون من باب ذِكْر المثال ، وتارة يكون من باب التعبير عن المعنى الواحد بألفاظ متعددة .
وأن هذا الاختلاف قد يكون من باب التعبير عن المشترك اللفظي بمعانيه المتعددة ، أو عن التعبير عن المتواطئ اللفظي ، أو من التعبير بالمعاني المتقاربة للفظ القرآني . إذا علمت ما سبق ، وخاصة في الكلام الأخير : أنه قد يأتي في كلامهم كلاماً يريدون به تقريب معنى اللفظ القرآني ، إذا انتبهت لهذا؛ الآن سينبهك على قاعدة.
(54) هذه هي القاعدة نقول : قد يوجد في بعض الآيات أن يأتي معناها في مجموع كلام السلف الوارد فيها لا في بعضه.(1/145)
بصيغة أخرى : قد يكون معنى الآية في مجموع عبارات السلف الواردة فيها لا في بعضها . لماذا ؟ لأن الخلاف الذي حصل بينهم يكون من النوع الأخير الذي هو من باب التعبير عن المعاني التي في الآية بألفاظ متقاربة ، أو أن تكون اللفظة التي فيها من قبيل المشترك اللفظي ، أو المتواطئ اللفظي إذا استعملنا كلمة ( قد ) لأنه ليس دائماً أن كل اختلاف تنوع وارد عنهم هو بهذه المثابة ، فيصير الكلام : جمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جداً فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين .
صياغة هذه القاعدة أن نقول : ( أنه قد يوجد في تفسير بعض الآيات أن يكون معناها في مجموع عبارات السلف لآ في بعضها ، وذلك فيما كان من قبيل المشترك اللفظي أو المتواطئ اللفظي ، أو التعبير بألفاظ متقاربة للدلالة على معنى الآية ، فاقتصارك على قول من أقوالهم فيه إهدار للمعاني الأخرى ) .
فمثلاً : لو فسَّرت ( لا ريب ) بـ ( لا شك ) هذا معنى قاصر في تفسير الآية ، فيصير تفسير الآية هو مجموع الأقوال المذكورة فيها.
وهذه القاعدة مبنية على حقيقة أن الاختلاف الوارد بينهم هو اختلاف تنوع قد يكون من باب التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة.
فإن قيل : لماذا لا تكون هذه الألفاظ المتقاربة عند أحدهم هي معنى الآية بمفرده ؟
نقول : لأنه لا يوجد في القرآن مترادف ، فلا يقوم لفظ مقام اللفظ القرآني في جميع معناه ، فتجد كل واحد منهم ينبِّه على معنى لفظ الآية.(1/146)
(55) يعني : أن هناك اختلافاً معلوماً عند العامة والخاصة ، خلاف أقره الشرع ، فمثلاً : الشارع عدَّد صيغ دعاء الاستفتاح، وعدَّد صيغ التشهد ، وأذكار الركوع والسجود ، هذه كلها أشياء من باب اختلاف التنوع، وجاء أيضاً في الشرع تعدد صفة صلاة الجنازة بأربع تكبيرات وبخمس وبسبع وبتسع ، وهكذا أمور في الشرع يعلمها من تبصر في سنة رسول الله ( هي ليست من باب التناقض ولكن من باب التوسعة على الناس، ولذلك كانوا يقولون عن السنة: إنها سعة للناس، يعني من عَلِم السنة وعلم وجوه الاختلاف الواردة في الشرع الذي أقرَّه الشرع كان في ذلك توسعة على الناس.
(56) الآن هو يدفع شبهة فهو يقول : لا يظنن ظان أن وجود الاختلاف يوجب الشك ، فإن الاختلاف إذا كان من باب التنوع عُرِف وجهه لأنه كله أقرَّه الشرع، أما إذا كان الاختلاف ليس من باب التنوع فهذا مرجعه إلى المجتهدين يجتهدون في هذه الأمور ، فالاختلاف من جهة الاجتهاد لا من جهة الشرع وإلا فإن العلماء القول الراجح عندهم : أن الحق واحد لا يتعدد ، أيُّ مسألة خلافية اجتهادية اختلف فيها اجتهاد العلماء فإن الحق فيها واحد ، هذا الاختلاف الحاصل هو بالنسبة لأفهام واجتهادات العلماء ، والدليل على أن الحق واحد قوله صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) ، فذكر أن من المجتهدين من يصيب ومنهم من يخطئ ، ولكن حتى من أخطأ لا يأثم إنما له أجر واحد ، طالما أنه اجتهد ولديه آلة الاجتهاد ، يعني أنه متأهل لهذا ، أما لو اجتهد من لم يبلغ آلة الاجتهاد فهذا مخطئ حتى لو أصاب ويأثم بذلك لأنه لم يملك آلة الاجتهاد .(1/147)
إذاً الكلام في اختلاف العلماء إذا حصل، واختلاف المجتهدين إذا حصل ، فنقول : هذا الاختلاف إذا حصل فمرجعه إلى اجتهاد العلماء في الشرع لا إلى الشرع ، فهو لا يوجب شكاً ولا ريباً في الشرع ، فإن اختلاف التناقض والتضاد منتفٍ عن الشرع .
مثال ذلك اختلاف الصحابة، فهم اختلفوا في بعض المسائل ، هذه المسائل التي اختلفوا فيها لم توجب شكاً ولا ريباً فهو من باب اختلاف المجتهدين بحسب نظرهم واجتهادهم لا بحسب الشرع من حيث هو هو .
(57) من أراد التفاصيل المتعلقة بعذر العلماء فيما يقع بينهم من اختلاف فليرجع إلى كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" للمصنف، فإنه فرد في بابه رحمه الله.
ومن أهم الأمور التي تنبني على هذا الفصل
1- أنه لا يمكن ترجمة القرآن .
2- أن ترجمة معاني القرآن إنما تأتي ببعض معاني الآية لا جميعها.
3- أن تفسير ألفاظ القرآن بالكلمة ومعناها لا يعطي تفسيرا جامعاً لمعاني الآية، إنما يقرب - فقط - المعنى.
4- أن بعض المواضع في تفسير القرآن يكون معنى الآية في مجموع الأقوال الواردة عن السلف في تفسيرها لا في بعضها.
5- خطورة التفسير بالرأي، ولابد من مراعاة شروط قبوله، حتى يكون سائغاً.
الدرس السابع 7/8/1423هـ
(58) شيخ الإسلام يمهد للقاعدة بقوله: الاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما مستنده غير ذلك ، يعني: الأمور الاجتهادية على عمومها .
أقوال التفسير التي مستندها النقل :
1- إما أن يكون النقل فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- وإما أن يكون النقل عن الصحابة والتابعين.
والمنقولات عموماً منها ما يمكن الوقوف على ما يدل على ثبوته، والجزم به، ومنها ما لا يمكن لنا الوقوف على ما يدل على ثبوته والجزم به.
وما تحتاجه الأمة لا بد أن يُنقل ويبين، وعامة ما لا يمكننا الجزم به هو مما لا يتوقف عليه عمل، و لا تحتاجه الأمة، فهو مما لا فائدة فيه، والعلم بها هو من فضول الكلام.(1/148)
وتطبيق هذه القاعدة في مبهمات القرآن، وهي الأمور التي ذكرها الله عزوجل في كتابه ولم يسمها، مثل كلب أصحاب الكهف، وتعيين محل الكهف، وأسماء أصحاب الكهف، والشجرة التي أكل منها آدم عليه الصلاة والسلام، والجزء الذي ضرب منه موسى عليه الصلاة والسلام القتيل.
والمقصود بالثبوت ما يشمل الصحيح لذاته أو لغيره، أو الحسن لذاته أو لغيره، وما يشمل ثبوت اللفظ والقصة، أو القصة فقط دون اللفظ.
فكل ما تحتاجه الأمة من معاني القرآن والسنة مما يعود إلى النقل هو منقول وثابت، والأمور التي تتوقف على النقل ولا تحتاجها الأمة؛ لا يُشترط أن تكون ثابتة، لأن الأمة لا تحتاجها ولأن العلم بها من فضول العلم .
مثل ما يقولون : هناك من العلم ضرب لا يضر الجهل به ولا ينفع العلم به ما هو ؟ هو ما سيذكره بعد قليل
(59) هذه أمثلة يذكرها الشيخ على أمور تحتاج إلى النقل، و لا يمكن الجزم بها، وهي مما لا تحتاجه الأمة ، و لا يتوقف عليه عمل؛
ماذا ينقص الأمة لو لم تعلم أصحاب الكهف ؟
ماذا ينقص الأمة لو لم تعلم أين مَجْمَع البحرين؟
ماذا ينقص الأمة لو لم تعلم اسم كلب أصحاب الكهف؟
ماذا ينقص الأمة لو لم تعلم عدد أصحاب الكهف؟
ماذا ينقص الأمة لو لم تعلم الجزء أو البعض الذي ضُرب به القتيل فأحياه الله بموسى عليه السلام (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا )(البقرة: من الآية73))؟ ماذا يضر الأمة لو لم يعلموا ما هي الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام؟
ماذا يضر الناس لو لم يعلموا الفيل الذي جاء به أبرهة الحبشي ماذا كان اسمه؟
ماذا يضر الناس لو لم يعلموا من قريش ؟
هذه كلها أشياء هي من فضول الكلام والعلم .
ما جاء بيانه في الشرع فهذا معلوم من الشرع، وما لم يأت بيانه فهذا لا يضر الجهل به، لكن الأمور التي يحتاجها الناس لا بد لها من بيان، ولا بد أن يُنقل ، ولا بد أن يَثْبت.(1/149)
هذا القاعدة في المبهمات، تُعرَف في علوم القرآن بعلم مستقل اسمه : (مبهمات القرآن)؛
والقاعدة في علم مبهمات القرآن :
أن المبهمات على قسمين :
القسم الأول : ما استأثر الله بعلمه، كتحديد زمن قيام الساعة، وكتحديد عمر الدنيا، وكذكر مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله.
حكمه : هذا القسم يحرم طلب العلم به ، وتكلفه لا يجوز ، لأنك تطلب ما أخبرك الشارع أنه لا يعلمه أحد .
وهذا ليس هو موضوع التصنيف في هذا العلم ، ومن تكلم فيه فإنما تكلم بجهل ووقع في أمر محظور شرعاً .
القسم الثاني من أنواع المبهمات : ما لم يستأثر الله بعلمه ، ولم يأت في القرآن أو في السنة ما يفيد ذلك فهذا على أنواع :
النوع الأول : ما أبهمه في محل وفسره في محل آخر .
مثاله : ما هو ( الصراط المستقيم ) في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ؟ أبهمه هنا وفسره في موضع آخر فقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69) .
من هم المغضوب عليهم والضالون ؟ فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاَّل ) .
حكم هذا النوع : هذا النوع طلب بيانه من الأمور الجائزة .
ووجوده : لشحذ الهمم للبحث والنظر وهو من أوجه التفسير ، فتارة يكون من باب تفسير القرآن بالقرآن، وتارة يكون من باب تفسير القرآن بالسنة ، وتارة يكون من باب تفسير القرآن بقول الصحابي .
النوع الثاني : ما أبهمه الله سبحانه وتعالى ، أو أبهمه الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد الستر .(1/150)
مثاله : قوله تعالى : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا )(الأحقاف: من الآية17) ، فهذا أبهمه الله تعالى فلم يبين من هو بقصد الستر ، وكذا مواطن يبهم الله سبحانه وتعالى الشخص الذي فعل أمراً من الأمور بقصد الستر عليه .
حكمه : هذا النوع يكره طلب كشفه ، إذا كان الله ستره فكيف تكشفه وتفضحه ، فهذا يكره طلبه لكن لا يحرم .
النوع الثالث : ما أبهمه الله سبحانه وتعالى بقصد التعظيم ، كأمور من صفات الجنة ، وأمور من أحوال الآخرة ، أبهمها بقصد أن تكون في الأذهان شيئاً عظيماً ، إما لشرفه وعلوه ، أو لشدته وغلظته.
النوع الرابع : ما أبهمه الله تعالى بقصد التحقيق .
النوع الخامس : ما أبهمه الله تعالى بقصد التعميم .
النوع السادس : ما أبهمه الله تعالى لعدم تعلق فائدة به ، مثل : عدد أصحاب الكهف وأسماءهم واسم كلبهم ، واسم مجمع البحرين، وأين هو ، ونحو ذلك ، وهذا يكثر في قصص القرآن .
إذاً نقول : المبهمات على نوعين :
1- مبهمات استأثر الله بعلمها ، فطلبها حرام .
2- ومبهمات لم يستأثر الله بعلمها ، فطلبها على أنواع ، ولكل نوع حكم . فكلها يجوز طلبها إلا النوع الذي فيه طلب الستر فإنه يكره .
مع ملاحظة : أنه لا يجوز الجزم بتعيين شيء من المبهمات في هذه الأنواع ما لم يأتِ الدليل الصحيح الصريح فيها . وليس مجرد ذكرها في كتب التفسير يجعلنا نجزم بها .
مثال : قوله تعالى : (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(القصص: من الآية20) ، في كتب التفسير كثيرين يقولون : هي (أنطاكية) ، هذا غير صحيح لأنه لم يأت في نص صحيح صريح فكيف يُساق مساق المسلَّمات ؟(1/151)
إذاً : القاعدة هذه تنبهك على أنواع المبهمات ، وتنبهك على أمر خطير وهو : أنه لا يمكنك أن تجزم بشيء من تعيين هذه المبهمات ما لم يكن لديك دليل صحيح صريح ، ولا حرج أن تذكره ولكنك تذكره على سبيل الاحتمال، مثل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ).
وقد اختلفت الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الإسرائيليات - أخبار أهل الكتاب - ففي بعض الأحاديث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قراءة كتب أهل الكتاب وعن النظر فيها وبالتالي عن حكايتها ، من هذا لما جاء مرة في أحد طرقات المدينة ، ورأى عمر رضي الله عنه يطالع ورقة من التوراة فقال : ( أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟! والله لو أن موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)[أحمد والدارمي]، هذا النص أفاد عند العلماء : عدم جواز مطالعة كتب أهل الكتب وبالتالي لا يجوز النظر في أخبارهم .
نصٌ ثانٍ : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( بلِّغوا عني ولو آية ، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، فهنا : ينفي الحرج .
نصٌ ثالث : وهو ما أشار إليه المصنِّف - رحمه الله - يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ) .
جمع العلماء بين هذه النصوص ، وذكر قولهم الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في أول التفسير قال : قال العلماء - رحمهم الله - : إن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : ما نعلم بطلانه بما جاءنا من الوحي ، فهذا لا يجوز لنا أن نحكيَه ولا أن نسوقَه ، وإن سقناه فإننا نرده ونكذِّبه ، وذلك لما قام لدينا في شرعنا من الدليل على أن هذا من الباطل .(1/152)
النوع الثاني : ما جاءنا من أخبار أهل الكتاب مما نعلم صدقه لموافقته ما أخبرنا الله عز وجل به ، وهذا كثير من الأشياء في التوراة والإنجيل نجدها توافق ما عندنا ، وبالذات في باب القصص والأخبار ، فهذا النوع هو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، أي : فيما عَلِمْتم أنه يوافق ما عندكم .
النوع الثالث : ما لا يوافق ولا يخالف ، فهذا هو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) . ( لا تصدقوهم ) لأنه لا تعلمون صدقهم فيه ، ( ولا تكذبوهم ) يعني : أنتم لا تعلمون كذبهم فيه.
بعض أنواع المبهمات هذه قد يأتي تفسيرها في نفس كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل : ما أشار إليه المصنف - رحمه الله - أنه جاء في الحديث الصحيح أن صاحب موسى الذي حصلت معه المحاورة والقصة هو : الخَضِر ، بل بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم سبب تسميته بالخَضِر ، فقد جاء في الحديث : أنه جاء ليجلس على وسادة من فرو كبش أبيض فلما جلس عليها اخضرَّت ْ فسُمِّيَ: بالخَضِر[البخاري]، هذا جاء في حديث صحيح ، فعيَّن مُبهماً في القرآن ، وهو صاحب موسى وزاد أنه بين سبب التسمية ، فهذا من نوع المبهمات التي يجوز حكايتها والجزم بها لما ورد من النص الصحيح الصريح في إثباتها .
لكن أين مجمع البحرين ؟ أين سدُّ القرنين ؟ هذا ليس عندنا فيه خبر ، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه في بعض المبهمات لا يجزم فيقول : لا أدري أتُبَّعٌ نبيٌ أم لا ؟[مستدرك الحاكم(111)، وأبو داود(4674)].
إذاً : لا يجوز الجزم بشيء من المبهمات ما لم يكن هناك مستند صحيح صريح في هذا الموضوع .
(60) يعني: والحال أنكم لا تعلمون صدقهم من كَذِبهم ، وكذلك من بعض التابعين ، وإن لم يَذْكُر أنه أخذه من أهل الكتاب.(1/153)
(61) لدى بعض الناس جرأة غريبة، إذا ما جاء نص عن الصحابي، في قضية مما لا يجدها في القرآن العظيم والسنة النبوية، فإنه يهجم على القول بأنها مما تلقاه ذلك الصحابي عن بني إسرائيل!
والحقيقة أن الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية؛ فأقول: لا شك أن الصحابي الذي جاء في كلامه ما هو من قبيل كشف المبهم، لن يورد شيئاً عن أهل الكتاب يخالف ما في شرعنا، نجزم بذلك. إذا ما أورده الصحابي - على فرض أنه مما تلقاه عن أهل الكتاب - إمّا أن يكون مما يوافق شرعنا، وإما أن يكون مما لا يوافق و لا يخالف، ويدخل تحت عموم قوله (: "حدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج"[أحمد وأبو داود]، "وإذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و لا تكذبوهم"[ أحمد وأبو داود].
فالجرأة على رد ما جاء عن الصحابي بدعوى أنه من أخبار أهل الكتاب، لا يناسب علمهم وفضلهم رضي الله عنه، ويوضح هذا: أن الصحابي إذا جزم بشيء من هذه الأمور في تفسير آية فإنه يغلب على الظن أنه مما تلقاه عن الرسول (، أو مما قام على ثبوته الدليل، وإلا كيف يجزم به في تفسير الآية، وهو يعلم أن غاية هذا الخبر أنه مما لا نصدقه أو نكذبه؟!
من ذلك ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : ( فُصِل القرآن الكريم من اللوح المحفوظ وأُنزِل في بيت العزة في السماء الدنيا ، ثم نَزَل على محمد صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمَاً في ثلاث وعشرين سنة )[الطبراني في الكبير:(12243)،والحاكم في المستدرك:(2932)،والبزارفي مسنده:(210/2)].
رأيتُ بعض المتأخرين يجزم بأن هذا من الإسرائيليات، وبأن هذا مما تلقاه ابن عباس عنهم، مع أن هناك قرائن في نفس الخبر تمنع هذا؛ منها:
أولاً : جَزْم ابن عباس به.
ثانياً : لا علاقة له بالتوراة والإنجيل لأنه يتكلم عن القرآن.
ثالثاً : هو يتكلم عن نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً : لا مخالف لابن عباس في هذا .(1/154)
فهذا مما يجعل سند ابن عباس هذا - وإن كان موقوفاً سنداً - فهو مرفوع حكماً ومعنى ، يعني أن له حكم الرفع .
وجاء عن ابن عباس نفسه أنه كان ينهى عن الأخذ عن أهل الكتاب، كما روى البخاري في صحيحه، فكيف نقول: إن هذا من الإسرائيليات.
عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - صحيح أنه وقعت له زاملتان من أخبار أهل الكتاب وكتبهم، وكان يحدِّث بها؛ لكن نستبعد استبعاداً كبيراً أن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يجزم في تفسير آية بشيء هو من هذه الأخبار ، فينبغي للإنسان أن يعرف قدْر الناس ويُنَزِّلهم منازلهم ، وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالدين وأورع وأعلى فقهاً منا، وأكثر تقوى لله منا، وأعظم خشية لله منا؛ فكيف بمسألةٍ آحاد طلبة العلم يعلمها ويستنكرها ، هم يعملوا على خلافها ، هذا من أبعد ما يكون!
(62) إذاً المنقول على قسمين :
1- منقول يحتاج الناس إلى معرفته.
2- ومنقول لا يحتاج الناس إلى معرفته .
ما يحتاج الناس إلى معرفته : لا بد أن يأتي ما يدل على ثبوته.
أما ما لا يحتاج الناس إلى معرفته : فقد يُنقل وقد لا يُنقل ، لأن معرفته تخلو من الفائدة .
تكلم رحمه الله عن القسم الثاني، والآن رجع يتكلم عن القسم الأول ، وهو المنقول الذي يحتاج الناس إلى معرفته .
يقول : هناك أمور من التفسير تعتمد على النقل ، لكن منها الصحيح ومنها غير الصحيح ، وإن كانت مما يُحتاج إليه ، هي جنس ما يُحتاج إليه ، لكن ليست هي عين ما يحتاج إليه .
مثلاً : نحتاج أن نعرف أخبار الأنبياء ، أمورهم وشؤونهم لأثر ذلك في الدعوة ، فقد يأتي شيء من أخبارهم في كتب التفسير مستنده النقل لكن هو غير صحيح ، و نحن في غُنية عن هذا ؛ لوجود نقل آخر عن هؤلاء الأنبياء يُغْني عن هذا الذي لم نجد.(1/155)
(63) يمهِّد المصنف رحمه الله لقاعدة أخرى مهمة في المنقولات سواء كانت أحاديث أو كانت أخباراً، وسواء كانت الأخبار متعلقة بمبهمات القرآن أم بغير ذلك.
والقاعدة تجيب عن تساؤل مهم وهو هل يُشترط في قبول الأخبار الواردة في التراجم والسير وكتب التاريخ ما يشترط في قبول الحديث والأثر؟!
هل أعامل الأخبار التاريخية أو الأخبار المنقولة في سيرة شخص ، هل نعاملها بسندها كما أعامل الحديث والأثر أو لا؟ وإن كنت أعاملها نفس المعاملة ؛ هل لها مزيَّة عنها ، أم هناك نوع توسع فيها أم لا؟
مهد الشيخ لهذه القاعدة ، فبدأ بالإشارة إلى أهل الاختصاص وتعيينهم، فعيَّن من عُرِف بالتفسير من الصحابة ثم من التابعين ثم من تابعيهم ، وبيَّن أن أكثر الروايات المنقولة مدارها على هؤلاء.
ثم تكلم عن هذا المنقول عنهم ، فقال : (والمنقول عن هؤلاء فيه ما هو متصل وفيه ما هو مرسل ).
ثم تكلم عن المرسل .
والمرسل ما قال فيه التابعي قال رسول الله (.
والموقوف ما أضيف إلى الصحابي.
والمقطوع هو ما أضيف إلى التابعي.
والمنقطع ما لم يتصل.
(64) وعليه فإن تفسير قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: " ثلاثة أمور ليس لها أصل وليس لها إسناد : التفسير ، والمغازي ، والملاحم"، أنه يكثر في هذا النوع من العلم : المراسيل، وأن الغالب عليها الضعف من حيث السند.
وكلمة لا أصل لها تطلق بمعنى لا سند لها.
وتطلق بمعنى أن أسانيدها غير متصلة، فهي مرسلة ومنقطعة، ومعضلة، فهي ضعيفة.
وتطلق بمعنى أن ما جاء فيها لا أصل له في الشرع.
(65) فهؤلاء أهل اختصاص في التفسير، فما ثبت عنهم له خصوصية، ولو كان مرسلاً؛ بل إن المراسيل إذا تعددت وخلت عن المواطأة كانت صحيحة قطعاً.
(66) قوله: "كانت صحيحة قطعاً" فيه أن السند المحتف بالقرائن يفيد العلم؛ بل فيه أن السند الضعيف إذا تعددت طرقه وقامت القرائن على عدم المواطأة والاتفاق فإن ثبوته عنده قطعي. ومراده (بصحيحة): أي ثابتة.(1/156)
(67) هذه قسمة عقلية؛ يقول : الخبر إما أن يكون صِدقاً مطابقاً للواقع، وإما أن لا يكون.
فإذا لم يكن صدقاً مطابقاً للواقع؛
فإما أن يكون ناقل الخبر تعمد الكذب ، وإما أن يكون أخطأ ووهم لضعف الضبط.
فما تعمد فيه الكذب : فهو الموضوع، وما لم يتعمد فيه الكذب، أي : وقع فيه الخطأ والوهم بسبب ضعف الضبط فهذا الذي يسميه العلماء: الضعيف.
فإذا جاءنا خبر يطابق الواقع، ولكن ناقله عُرِف أنه من النوع الثاني الذي يكثر في كلامه الخطأ والوهم، بل قد يكون ناقله ممن عُرف بالكذب ، ماذا يكون حال خبره ؟
يقول شيخ الإسلام : ( متى سَلِم من الخطأ العمد والكذب كان صدقاً بلا ريب ) .
لكن هذا الراوي نحن نعرف أنه كذاب ، فكيف يَسْلَم من الكذب؟
قال : يَسْلَم من الكذب بأن يُنقَل هذا الخبر بطرق يستحيل تواطؤ أصحابها على الاتفاق على الكذب، إذا نُقِل الحديث بطرق استحال عقلاً أن يتفق أصحابه على الكذب، حتى ولو كانوا هم في أنفسهم أهل كذب؛ فإن خبرهم يُقبَل .
أليس الله عزوجل يقول : (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) ، وفي قراءة : ( فتثبَّتوا )! هل ردَّ الله في هذه الآية خبر الفاسق؟
لم يردَّه ، والمعنى : خبر الفاسق إذا جاءكم انظروا في القرائن، فإذا دلَّت القرائن على قبول خبره اقبلوه، وإذا دلَّت القرائن على ردِّ خبر رُدُّوه، بخلاف خبر العدل، فالأصل في العدل : أن خبره مقبول، وهذا مفهوم المخالفة في الآية.
إذاً هذه الآية ليس فيها : أن خبر الفاسق مردود ، بل فيها : أن خبر الفاسق يتثبَّت فيه ، يعني : ينظر في القرائن .(1/157)
ومن القرائن : أن يأتي الخبر نفسه من طرق متعددة ، ولو كانت هذه الطرق عن من هذه صفتهم ولكن بدون مواطأة واتفاق ، هذه من القرائن . إذ كيف يُعقَل أناس مختلفين بلا اتفاق وكلاً في جهة وكلاً في مكان وكلاً في بلد لم يلتقوا ولم يتصلوا ببعض، كلهم يأتي ويَنقُل نفس القضية إما بلفظها أو بمعناها ، أليست هذه قرينة على صِدقهم ، وإن كانوا في الأصل كذابين؟!
إذاً هذه من القرائن التي يتثبَّت فيها ، فقد يُقبَل بها خبر الفاسق .
(68) في مثل هذه الحال قال الإمام أحمد بن حنبل (هدي الساري ص363): "إذا كان في الحديث قصة، دل على أن راويه حفظه"اهـ
هذا الراوي يروي قصةً طويلة وهو صاحب القصة والموضوع ، هذا أدعى أن يكون ضبَطَ القصة ، أو يكون له علاقة بمن وقعَت له القصة ، أو يكون الحديث فيه قصة طويلة فيأتي هذا ويذكرها ، ويأتي غيره فيذكرها بلا مواطأة ؛ فإن ورود القصة الطويلة مما يُشعِر بالضبط إذا خلَتْ من المواطأة ، إذ كيف يتفقوا على القصة الطويلة يدون أن يكون لهذه القصة أصل .
هل معنى هذا أن هذه الطريقة نستعملها مطلقاً أم لها ضابط آخر ؟
أقول شيخ الإسلام ذكر في كلامه السابق ضابطين :
الضابط الأول : هو قيام القرائن على عدم الكذب أو الخطأ .
الضابط الثاني : أن يكون الحديث أو الخبر قصة طويلة ذات فنون فيتفقوا على أغلبها أو مجملها .
وسيأتي له ذكر ضابط ثالث: أن مثل هذه الأسانيد تثبت بها هذه الأخبار لكن لا تثبت بها الألفاظ.
(69) يقول : لكن مثل هذا لا نَضْبُط به الألفاظ والدقائق ، فلو كان الخبر يتوقف على لفظة حكم أو تقرير قضية ؛ فنقول : مادام هذا سبيله لا يثبت به لفظ ؛ فإن هذه الطريقة في إثبات الأخبار يثبت بها أصل الحديث أو الخبر أو القضية أو القصة ، لكن لا نستطيع أن نُدير حكماً على اللفظ ، وهذه نقطة مهمة جداً خاصة للفقيه الذي يريد أن يستنبط الأحكام .(1/158)
وقد جاء في حديث يصح جزء منه ولا يصح الآخر ، خذوا مثلاً : حديث ( الخَراج بالضمان )[أخرجه أصحاب السنن]، ورد من طرق وهو ثابت لكن وردت له قصة ، القصة الأولى : أن رجلاً اشترى عبداً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فلما أخذه عنده بعد أيام وجد فيه عيباً، وكان في خلال هذه الأيام استغله واستفاد منه ، فجاء يرده إلى صاحبه بالعيب الذي فيه ، فأراد الرجل أن يأخذ أجرة الأيام التي استفادها منه خلال تلك الأيام ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الخراج بالضمان ) .
هذا السبب جاء في رواية من روايات الحديث من طريق ضعيف .
جاء سبب ثانٍ : أن أحد الرواة يقول : كنت أنا وبعض الناس شركاء في عبد ، فاستغليت العبد ثم وجدت فيه عيباً فرددته ، فجاء الشركاء ينازعوه في الخراج يريدون منه أجرة تلك الأيام التي اشتغل فيها العبد . هذه القصة في ظاهرها أنها متفقة مع الأولى ، لكنها مختلفة لأنها في بعض الروايات الإشارة إلى نوع تصرف في الغصب ، فصاروا يستدلون بها في باب الغصب .(1/159)
نبَّه البلقيني [في محاسن الاصطلاح ص706-707، عند كلامه عن أسباب ورود الحديث]: إلى أن ما جاء في الطريق الأول أولى من هذا الطريق ولم يذكر السبب ، أقول : لعل السبب في هذا : أن بناء الحكم على سبب هذه القصة وما جاء في لفظها غير صحيح ، لعل السبب في ذلك هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه: لا يجوز بناء الحكم على ألفاظ جاءت في مثل هذه الطرق، فقال: "وقد جاء في سنن ابي داود أمر آخر يفهم منه تعدي ذلك الغاصب، قال أبوداود [السنن حديث رقم 3509]حدثنا محمود بن خالد، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن مخلد بن خُفَاف الغفاري قال: كان بيني وبين أناس شركة في عبد، فاقتويته (معناه: استخدمته) وبعضنا غائب، فأغلَّ عليّ غلة، فخاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "الخراج بالضمان".
وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين، والأخذ بالسبب المرفوع أولى لأمور ليس هذا موضع بسطها"اهـ
(70) ومثله هذه الأيام أخبار الجرائد، فلو نَقَلت جريدة خبراً أن في المكان الفلاني حدث كذا ، انفردت جريدة بهذا الخبر ، هذا الخبر هل تقبله أم تُرُدَّه ؟ انظر إلى أصحاب الجريدة إن كان مسلمين وأهل عدالة فالأصل أن خبرَهم مقبول ، إما إذا كانوا ليسوا مسلمين ، أو مسلمين لكن ليسوا أهل عدالة ، يعني : فساقاً ، فالأصل أن خبرهم لا يُقبل ولا يُرَد بل يُتوقف فيه ، فننظر في القرائن إذا كانت كل الجرائد لم تذكر هذا الخبر ، زيادة على ذلك : أن الجرائد الصادرة من نفس البلد التي حصل فيها الخبر لم تذكره زيادة على ذلك ثبت عندنا كلام الجرائد الأخرى على خلاف هذا الخبر ، فنقول : إذاً خبر هذه الجريدة مردود ، أليس هذا تطبيقاً لنفس القاعدة ؟!.(1/160)
لذلك تسمعون نفس الجرائد تقول : ولم يأتنا الخبر من جهة محايدة ، لأن ناقل الخبر إذا كان بين بلدين حرب، وناقله من أحدهما ، فناقل الخبر يريد أن يشن حرباً نفسية على الفريق الآخر ، فإذا لم يُنقَل من جهة محايدة لا يُقبَل لأنه لا مصلحة للجهة المحايدة في أن تكذب ، بينما هذه الجهة لها مصلحة في ذلك ، وهذه التهمة تقتضي التوقف في قبول خبرها .
فهذه قضايا عقلية حتى عامة الناس بتأملهم يصلوا إلى هذه النتيجة ، هذا الكلام نفسه - هنا - الشيخ يُطَبِّقه ، فيقول : إذا جاء الخبر متفق في اللفظ أو في معنى القصة من جهات متعددة بلا اتفاق ولا تواطؤ فهو وإن كان مرسلاً أو كان ضعيفاً أو كان الناقل فاسقاً أو غيره فإن هذا مما يقتضي - ليس فقط صحته - وإنما القطع بصحته .
(الدرس الثامن 21/8/1423هـ)
(71) الإشارة إلى قوله: "الْحَدِيثُ إذا جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ". قال: "وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ"، قال: " لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ"اهـ.(1/161)
(72) فإن قيل: لم يكن الأئمة يقوون الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه، فهذا حديث التسمية في الوضوء ورد من طريق أبي هريرة، ومن حديث سعيد بن زيد، ومن حديث أبي سعيد، ومن حديث سهل بن سعد، ومن حديث أبي سبرة، ومع ذلك قال أحمد فيه لما سئل عنه[كما في نصب الراية (1/4)]: "أحسن ما فيها حديث كثير بن زيد، و لا أعلم فيها حديثاً ثابتاً، وأرجو أن يجزئه الوضوء؛ لأنه ليس فيه حديث أحكم به" اهـ.
فالجواب: لابد أن تعلم أنه ليس كل ضعيف يتقوى بمجيئه من طرق أخرى، وأن لكل حديث نظر خاص به، وبخصوص كلمة أحمد بن حنبل رحمه الله هذه فقد علق عليها ابن تيمية رحمه الله[كما في شرح العمدة (كتاب الطهارة) (1/170-171)، باختصار] بقوله: "وتضعيف أحمد لها محمول على أحد الوجهين:
إما إنها لا تثبت عنده أولاً لعدم علمه بحال الراوي ثم علمه فبنى عليه مذهبه برواية الوجوب. ...
وهكذا تجئ عنه كثيرا الإشارة إلى انه لم يثبت عنده أحاديث ثم تثبت عنده فيعمل بها، و لا ينعكس هذا، بأن يقال: ثبت عنده ثم زال ثبوتها؛ فان النفي سابق على الإثبات.
وإما أنه أشار إلى أنه لم يثبت على طريقة تصحيح المحدثين؛ فإن الأحاديث تنقسم إلى صحيح وحسن وضعيف، وأشار إلى انه ليس بثابت أي ليس من جنس الصحيح الذي رواه الحافظ الثقة عن مثله، وذلك لا ينفي أن يكون حسنا، وهو حجة.
ومن تأمل كلام الحافظ الإمام علم انه لم يوهن الحديث، وإنما بين مرتبته في الجملة: أنه دون الأحاديث الصحيحة الثابتة. وكذلك قال في موضع آخر: أحسنها حديث أبي سعيد؛ ولو لم يكن فيها حسن لم يقل فيها: "أحسنها".
وهذا معنى احتجاج أحمد بالحديث الضعيف، وقوله: "ربما أخذنا بالحديث الضعيف"، وغير ذلك من كلامه يعني به الحسن"اهـ.(1/162)
قال ابن حجر (ت852هـ) رحمه الله معلقاً على ما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله من نفيه العلم بثبوت حديث في التسمية على الوضوء[كما نقله عنه في تحفة الأبرار بنكت الأذكار للسيوطي ص35]: "لا يلزم من نفي العلم ثبوت العدم، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف، لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة، فلا ينتفي الحسن ، وعلى التنزل لا يلزم من نفي الثبوت عن كل فرد نفيه عن المجموع"اهـ.
فإن قيل : هذا ابن حزم يمنع تقوية الحديث الضعيف بتعدد الطرق فيقول رحمه الله[النبذة الكافية ص34، وانظر الأحكام في أصول الأحكام (1/121-122)]: "نقطع بأن كل حديث لم يأت قط إلا مرسلاً أو لم يروه إلا مجهول لا يعرف حاله أحد من أهل العلم أو مجرح متفق على جرحته أو ثابت الجرحه؛ فإنه خبر باطل لم يقله قط رسول الله صلى الله عليه وسلم، و لا حكم به؛ لأن من الممتنع أن يجوز أن لا ترد شريعة حق إلا من هذه الطريق، مع ضمان الله تعالى حفظ الذكر النازل من عنده الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. ومع ضمانه تعالى [أنه قد بين لنا جميع الدين.
وبهذين البرهانين نقطع على] أنه لم يضع من الدِّين شيء أصلاً و لا يضيع أبداً ، و لا بد أن يكون مع عصر من العلماء من يضبط بأخفى من غيره منهم، و يضبط غيره أيضاً ما خفي عنه، فيبقى الدين محفوظاً إلى يوم القيامة و لا بد، وبالله تعالى التوفيق"اهـ.
فالجواب : هذا القول لم يسبق إليه - فيما أعلم - أحد من أئمة العلم قبل ابن حزم رحم الله الجميع.(1/163)
وما أطلقه بعضهم من أن المتقدمين لا يقوون الحديث الضعيف بتعدد الطرق، غير مسلم، والواقع أن لهم في كل حديث نظر خاص، فقد يتقوى عندهم حديث ما بتعدد طرقه، وقد لا يتقوى عندهم حديث آخر بتعدد طرقه، لا منعاً للتقوية بتعدد الطرق، ولكن لما قام لديهم من النظر الموجب عدم التقوية في هذا الحديث على خصوصه دون الآخر؛ فإطلاق القول أن المتقدمين ما كانوا يقوون بتعدد الطرق غير مطابق للواقع، وكذا إطلاق القول بأن المتقدمين يقوون بتعدد الطرق مطلقاً بدون مراعاة أن لكل حديث نظره الخاص به، غير مطابق للواقع.
وهذا الإمام الشافعي (ت204هـ) رحمه الله يقوي الحديث الضعيف بغيره كما تراه في [الرسالة ص461-465] حيث يقول فيما نقله من حوار دار بينه وبين محاوره: "فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه وهل يختلف المنقطع أو هو وغيره سواء؟ قال الشافعي : فقلت له : المنقطع مختلف؛ فمن شاهد أصحاب رسول الله من التابعين فحدث حديثا منقطعا عن النبي اعتبر عليه بأمور: منها أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه. وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما يفرد به من ذلك. ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه رجاله الذين قبل عنهم فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوي به مرسله وهي أضعف من الأولى. وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله قولا له فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله. وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي.(1/164)
قال الشافعي : ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم [يسم] مجهولا ولا مرغوبا عن الرواية عنه فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه. ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديث لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه. ومتى ما خالف ما وصفت أضر بحديثه حتى لا يسع أحدا منهم قبول مرسله. قال : وإذا وجدت الدلائل بصحة حديث بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله. ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل.
وذلك أن معنى المنقطع مغيب، يحتمل أن يكون حمل عن من يرغب عن الرواية عنه إذا سُمِّى، وأن بعض المنقطعات ـ وإن وافقه مرسل مثله ـ فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحدا، من حيث لو سُمِّى لم يقبل، وأن قول بعض أصحاب النبي ـ إذا قال برأيه لو وافقه ـ يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي يوافقه ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء . ...."اهـ.
فهذا كلام الشافعي فيه ما يفيد التقوية بتعدد الطرق.
وعن أحمد بن حنبل (ت241هـ) رحمه الله [نقله عنه من رواية ابن القاسم في شرح العلل لابن رجب/العتر/ (1/91)]: "ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار و الاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني استدل به مع حديث غيره يشدّه لا أنه حجة إذا انفرد".
وقال رحمه الله[الجامع لأخلاق الراوي وأدب السامع (2/193، تحت رقم 1583)]: "ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب اعتبر به، ويقوِّي بعضه بعضاً"اهـ.
وقال أيضاً رحمه الله، لما ذكر له الفوائد[العلل ومعرفة الرجال عن أحمد بن حنبل رحمه الله (رواية المروذي وغيره) ص163]: "الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر"اهـ.(1/165)
وفي رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري[مسائل أحمد بن حنبل رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (2/167). وقارن بشرح علل الترمذي لابن رجب/ العتر/ (1/91)]: "قيل له (يعني: لأحمد بن حنبل) فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: المنكر أبداً منكر. قيل له: فالضعفاء؟ قال: قد يحتاج إليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتاب عنهم باساً"اهـ.
عن أحمد بن أبي يحيى سمعت أحمد بن حنبل يقول[الكامل في ضعفاء الرجال (/266)]: "أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم ولا نكاح إلا بولي أحاديث يشد بعضها بعضا وأنا أذهب إليها".
وهذا الذي ذهب إليه ابن حزم، نص على شذوذه فيه، قال الزركشي (ت794هـ) رحمه الله[نكت الزركشي على كتاب ابن الصلاح (1/323)]: "شذ ابن حزم (ت456هـ) عن الجمهور فقال: "لو بلغت طرق الضعيف ألفاً لا يتقوى و لا يزيد انضمام الضعيف إلى الضعيف إلا ضعفاً"اهـ.(1/166)
(73) حديث جابر أورده البخاري في أربع وعشرين موضعاً [حسب ما في برنامج موسوعة الحديث صخر/ حرف]، ومن ألفاظه ما أخرجه في كتاب البيوع، باب شراء الدواب والحمر، حديث رقم (2097): "عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا فَأَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جَابِرٌ فَقُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: مَا شَأْنُكَ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي وَأَعْيَا فَتَخَلَّفْتُ فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَرَكِبْتُ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَزَوَّجْتَ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ: أَمَّا إِنَّكَ قَادِمٌ فَإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ ثُمَّ قَالَ: أَتَبِيعُ جَمَلَكَ قُلْتُ: نَعَمْ فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلِي وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ قَالَ: آلْآنَ قَدِمْتَ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَدَعْ جَمَلَكَ فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً فَوَزَنَ لِي بِلَالٌ فَأَرْجَحَ لِي فِي الْمِيزَانِ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ فَقَالَ: ادْعُ لِي جَابِرًا قُلْتُ: الْآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الْجَمَلَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ قَالَ: خُذْ(1/167)
جَمَلَكَ وَلَكَ ثَمَنُهُ"، والحديث أخرجه أيضاً مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (715).
…ووقع اختلاف في روايات الحديث في تحديد ثمن الجمل.
وقد أشار البخاري إلى اختلاف الروايات في ثمن الجمل، وحاول التوفيق بين بعضها، وذلك عند روايته للحديث في كتاب الشروط، في باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى، حديث رقم (2718)، ولفظه: "وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ "تَبَلَّغْ عَلَيْهِ إِلَى أَهْلِكَ".
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبٍ عَنْ جَابِرٍ : "اشْتَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَقِيَّةٍ".
وَتَابَعَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ: "أَخَذْتُهُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ".
وَهَذَا يَكُونُ وَقِيَّةً عَلَى حِسَابِ الدِّينَارِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
وَلَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ مُغِيرَةُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ: "وَقِيَّةُ ذَهَبٍ".
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ: "بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ".
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ: "اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ".
وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ عَنْ جَابِرٍ: "اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا".
وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ بِوَقِيَّةٍ أَكْثَرُ الِاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ عِنْدِي قَالَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ."اهـ
فإن قيل : ما حكم هذا الاختلاف في الروايات ؟
فالجواب : هو اضطراب، فإن ترجحت رواية فالمرجوحة شاذة والراجحة هي المحفوظة.
فإن قيل : أليس من شروط الصحيح أن لا يكون شاذاً ؟(1/168)
فالجواب : نعم ، ولكن البخاري صححه وأراد منه ما اتفقت عليه الروايات دون ما اختلفت عليه الروايات، ثم أمر آخر : وهو أن هذا الذي اختلفت فيه الروايات لا ينبني عليه حكم، إذا لا يؤثر اختلافهم في قيمة الجمل في حكم المسألة، ثم لا لوم على البخاري في تصحيحه للحديث، لأنه نبه على محل الاختلاف فبرأت منه عهدته، وبقي غير محل الاختلاف على شرطه.
وبعض أهل العلم يقول: ما المانع أن يكون الحديث صحيحاً مع كونه شاذا، كما نقول صحيح منسوخ، فلنقل صحيح شاذ. وقال : اشتراط نفي الشذوذ في شروط الصحيح، شرط مختلف فيه!
ولكن الذي عليه اتفاق أهل الحديث من الصحيح هو ما انتفى منه الشذوذ.
(74) خبر الواحد لا يخلو عن أحوال :
الحال الأول : خبر الواحد إذا احتف بالقرائن الدالة على ثبوته ، كأن يخرجه أحد أصحاب الصحيح ، أو كأن يجري عليه عمل الأمة ، أو نحو ذلك من القرائن ؛ فإن جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به فأنه يوجب العلم.
الحال الثاني : خبر الواحد الذي لم يحتف بالقرائن ، فهذا جمهور أهل الحديث على أنه إذ صح أوجب العلم والعمل.
فمن نقل عن الجمهور أنهم يرون : أن خبر الواحد لا يوجب العلم، أو أنه يوجب الظن عندهم فقد أخطأ في النقل؛ لأنهم يفصلون في ذلك، كما ترى!
ما ذا يترتب على هذه المسألة ؟
أقول : ينبني عليها أن من رد حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة وقد قامت عليه الحجة بثبوته، ولا مانع يمنع من أخذه به، و توفرت الشروط في الحكم على عينه، فإنه يحكم بكفره.
وأما من قال: إن أحاديث الآحاد ظنية الثبوت؛ فإنه لا يكفر من ردها، و أنكرها،لأنها لا توجب غير الظن، فلا يحكم بكفر من ثبت إسلامه بيقين بأمر ظني! فهؤلاء الذين يستهزئون بالأحاديث الصحيحة ويردونها، ويسفهون أهل الحديث لروايتها لا يحكم بكفرهم و لا بزندقتهم، لأن هذه الأحاديث ظنية!!(1/169)
واعلم أن من أصول أهل البدع : تقرير المسائل على هذا الأساس، فالحديث الآحادي عندهم ظني الثبوت. وهم يفرقون بين أبواب الشرع، فمنه ما لا يثبت إلا بقطعي الثبوت، وهو أبواب العقيدة، ومنه ما يثبت بالقطعي والظني وهو أبواب الأحكام. و يحصرون ما يوجب العلم على التواتر؛ فلا يوجب القطع بالثبوت إلا التواتر، على صفة اختلفوا في تحديدها؛ وعليه فإن من خالف أهل السنة في أبواب العقيدة في مسائل مرجعها إلى أحاديث الآحاد، إنما خالف في ظني، فلا يخرج من أهل السنة والجماعة.، والفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهذا معنى ما يردده بعض الناس عن ما يسميه (المنهج الأفيح للسنة).(1/170)
ومثل هذا التنظير باب أهل البدع والضلالات أعداء السنة، لأن مآله ضياع مذهب أهل السنة، بل سيكون أهل السنة هم محل نقد لأنهم بهذه الصورة سيظهرون بهيئة المتنطع والمتشدِّد، مع أن من تعظيم دين الله الذي جرى عليه السلف : أن خبر الآحاد يوجب العلم، بل صار بعضهم كأن منهجه منهج القرآنيين يقول : لأن القرآن قطعي أما السنة فظنية، وهؤلاء هم الذين حذر منهم رسول الله ( بقوله فيما أخرجه في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم (4605)، والترمذي، في كتاب العلم باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث رسول الله ، حديث رقم (2663)، وابن ماجة، في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على من عارضه، حديث رقم (13)، والحاكم في المستدرك (1/108-109)، ولفظ الحديث عند الترمذي بسنده قال: "حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَغَيْرِهِ رَفَعَهُ قَالَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ"
…والحديث قال عنه الترمذي : "قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/171)
…وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ إِذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الِانْفِرَادِ بَيَّنَ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ وَإِذَا جَمَعَهُمَا رَوَى هَكَذَا وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمُهُ أَسْلَمُ"اهـ، وصحح الشيخ أحمد شاكر الحديث، في تحقيقه للرسالة ص90. وأخرج أبوداود والترمذي وابن ماجه عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: قال رسول الله (: "أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ"؛
هذا الخبر الذي أخبر به ( نص قاطع في حال هؤلاء.
والمقصود : أن هذا القول يهوِّن السنة في النفوس، فيتجرأ على مخالفتها وردّها، لأن عقل المرء بهذا القول سيتجه - إلا ما شاء الله - إلى أنه لا فائدة من الظنيات، فلا يلبث أن يهجر السنة، ويدعي التمسك بالقرآن، ثم لا يمكث قليلاً حتى يجد أن دلالات القرآن يعتريها الظن؛ فيتجه إلى تحكيم العقل على نصوص الشرع، فما دله عقله على سلامته قبله، وما لا فلا، فيصير صاحب هذا القول عقلانياً صرفاً، يقدم العقل على النقل، ويحتكم إلى شريعة العقل، لا إلى شريعة النقل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/172)
فيقع في الضلال المبين ، فقد أخرج الدارقطني في سننه (4/245)، والحاكم في المستدرك (علوش 1/284، تحت رقم 324)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/114)، ولفظ الحديث عند الحاكم: "عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض".
قال في مجمع الزوائد (9/163): " رواه البزار وفيه صالح بن موسى الطلحي وهو ضعيف"اهـ.
قلت: في السند عند جميعهم صالح بن موسى، لكن أورد الحاكم والبيهقي في الموضع نفسه عن ابن عباس حديثاً جاء فيه : "يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم"، وهو شاهد صالح. وجاء في الموطأ في كتاب الجامع باب النهي عن القول بالقدر: "عَنْ مَالِك: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ". فالحديث يرتقي إن شاء الله إلى درجة الحسن لغيره.
فمن ترك الاهتداء بكتاب الله تعالى وبسنته ( فقد وقع في الضلال المبين، و لا حول و لا قوة إلا بالله.
ثم اعلموا - بارك الله فيكم - أن تقسيم السنة من حيث الثبوت والدلالة إلى قطعي وظني تقسيم دخيل على أهل السنة والجماعة ما هو من قول السلف، تأمل لو كان الدين يقرر هذا التقسيم لما قامت الحجة على المسلمين في المدينة، ولما قامت الحجة على الناس في فارس والروم، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أوْفَدَ رسله إلى هذه الأماكن أفراداً لا جماعات، فلو أن حديث الآحاد ظني لما أوجب العلم لهؤلاء، ولوسعهم أن يردوه!!(1/173)
(75) يعني أن يرجع في كل علم إلى أهله، وهذه قاعدة شريفة، نبه عليها ابن تيمية في مواضع من كتبه؛ فيرجع في كل فن إلى أهله، والنقل وما يتعلق به هو فن أهل الحديث، فهم المرجع فيه.
(76) هذا دليل على أن الإمام أحمد بن حنبل كان يرى تقوية الأحاديث بتعدد الطرق مع كونها أتت عن طريق رواة ضعفاء. وعموماً فإن وصف أئمة الحديث للراوي بأنه في منزلة الاعتبار دليل على أنهم يقوون حديث الضعيف، ويعضدونه بغيره.
(77) أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب تزويج المحرم، تحت رقم (1837)، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، وكراهة خطبته، حديث رقم (1410). وقد وجّه بعض أهل العلم تصحيح البخاري ومسلم للحديث؛ بأنهما تأولا كلام ابن عباس، وأنه أراد أنه تزوجها في الشهر الحرام، أو قريباً من إحرامه، وهذا جريا على أسلوب العرب في إطلاق الفعل على ما قاربه.
(78) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب قول الله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى(ا، حديث رقم (398)، ومسلم في كتاب الحج باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة، حديث رقم (1331). ويوجه تصحيح البخاري ومسلم للحديث بأن ابن عباس إنما تكلم بحسب علمه، فهو لم ينف علم غيره، ومن علم حجة على من لم يعلم.
(79) أخرجه البخاري في كتاب الحج باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1777)، ومسلم في كتاب الحج باب بيان عمر النبي صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (1255). ووجه تصحيح حديث ابن عمر على أن هذا بحسب علمه.
(80) أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب جواز التمتع، حديث رقم (1223)، واصل القصة في البخاري في كتاب الحج باب التمتع والقران والإفراد، حديث رقم (1563).
(81) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: ?إن رحمة الله قريب من المحسنين?، حديث رقم (7449).(1/174)
(82) يعني ما يذكرونه من أحاديث معلة ظاهرها الصحة! ومراد المصنف تقرير أن أهل الحديث كما يقوون حديث الضعيف إذا قامت القرائن المقتضية تقويته، قد يضعفون من حديث الثقة ما قامت القرآن على اختلال ضبطه فيه، فهذا الأمر سلم لهم، هم المختصون به دون سائر الناس، فالتسليم لهم واتباعهم فيه هو الأصل، إذ يرجع في كل فن إلى أهله، وهم يقررون أن الحديث الآحادي المحتف بالقرائن يفيد العلم، ويوجب العمل، بل يقررون أن الحديث الآحادي إذا صح مطلقاً عن رسول الله ( أفاد العلم وأوجب العمل.
(83) قال ابن رجب رحمه الله في بيان فضل علم السلف على علم الخلف ص69، : "في زماننا (قلت: وفي زماننا أوكد) يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة، وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله"اهـ
(الدرس التاسع 28/8/1423هـ )
(1) يقول : (وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ)، هذا تنبيه على قاعدة أخرى في الحديث ، العلماء - رحمهم الله - يقولون : الحكم على الحديث لا يتوقف على مجرد السند، إذ هناك علامات وأمارات تدل على كذب الحديث ووضعه.(1/175)
ولهذا تجدهم يفرقون بين الحكم على السند والحكم على المتن، فإذا جاء في السند راوٍ كذاب أو وضاع، فلك أن تقول: هذا إسناد موضوع، لكن ليس لك أن تقول: هذا حديث موضوع، حتى يجتمع في السند مع الرجل الوضاع في السند علامة من علامات الوضع في المتن، أما مجرد وجود رجل وضاع في السند، أو كذَّاب في السند، لا يبرر لك أن تقول: هذا حديث موضوع، إنما تقول: هذا إسناده موضوع، نبه عليه السخاوي حيث قال في فتح المغيث (1/297): "إن مجرد تفرد الكذاب بل الوضاع - ولو كان بعد الاستقصاء في التفتيش من حافظ متبحر تام الاستقراء - غير مستلزم لذلك (يعني: للحكم بالوضع) بل لابد معه من انضمام شيء مما سيأتي ... يشير إلى ما ذكره في ما يعرف به الوضع (1/314).
وقد يأتي السند فيه راوٍ ضعيف، أو سند ظاهره الصحة، وتكون لديك أمارات في المتن تجزم فيها بكذب الحديث، فنقول : هذا حديث موضوع ، فآل الأمر في الحكم على الحديث بالوضع إلى نقد المتن ، من أجل هذا اهتم العلماء - رحمهم الله - بوضع الأمارات التي يستدل بها على وضع الحديث ، الأمارات التي يُعرف بها أن الحديث موضوع، أفردها بالذكر ابن قيم الجوزية في كتابه: ( المنار المُنيف ) ذكر هذه العلامات .
(85) قال ابن الصلاح في معرفة أنواع علم الحديث ص100، في آخر النوع الحادي والعشرين: "مثال روينا عن أبي عصمة وهو نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟
فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة.
وهكذا حال الحديث الطويل الذي يروى عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة فسورة بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع لبين عليه.
ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم والله أعلم"اهـ.(1/176)
وأورد الخطيب في الكفاية (2/466) في ذكر المحفوظ عن أئمة أصحاب الحديث في أصح الأسانيد، بسنده من طريق محمود بن غيلان قال: سمعت المؤمل ذكر عنده الحديث الذي يروى عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن فقال: لقد حدثني رجل ثقة سماه قال: حدثني رجل ثقة سماه قال: أتيت المدائن فلقيت الرجل الذي يروي هذا الحديث فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي البصرة فقال: هذا الرجل الذي سمعناه منه هو بواسط في أصحاب القصب قال: فأتيت واسطا فلقيت الشيخ فقلت إني كنت بالمدائن فدلني عليك الشيخ وإني أريد آتي البصرة قال: إن هذا الذي سمعت منه هو بالكلاء فأتيت البصرة فلقيت الشيخ بالكلاء فقلت له: حدثني فإني أريد أن آتي عبادان فقال: إن الشيخ الذي سمعناه منه هو بعبادان فأتيت عبادان فلقيت الشيخ فقلت له: اتق الله ما حال هذا الحديث أتيت المدائن فقصصت عليه ثم واسطا ثم البصرة فدللت عليك وما ظننت إلا إن هؤلاء كلهم قد ماتوا فأخبرني بقصة هذا الحديث فقال: إنا اجتمعنا هنا فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن وزهدوا فيه وأخذوا في هذه الأحاديث فقعدنا فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه"اهـ(1/177)
قلت: وهذا من جهل هؤلاء، حيث يظنون أن الكذب على الرسول ( هو المحرم، أما الكذب للرسول من أجل نصرته فهو ليس بمحرم، حيث فهموا من قوله(: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، . وهذا الفهم باطل، فإن قوله ( في الحديث "علي متعمداً" لا مفهوم مخالفة له، والمقصود أن يتحرى المسلم في الحديث عنه ( الصدق، فإنه إذا لم يتحر وأخطأ فهو قد تعمد الكذب عليه، وهذا المعنى دل عليه أمران: الأول: أن الرسول قال في حديث آخر: "من قال عليّ مالم أقل فليتبوأ مقعده من النار"، فألغى كلمة "علي متعمدا"، وأناط الحكم بالتحريم والمقام في النار في مجرد القول عليه ( ما لم يقل. الثاني: أن راوي الحديث أدرى بمرويه، وقد جاء في البخاري عن الزبير أنه امتنع عن التحديث عن الرسول ( خوفاً من الخطأ عليه (، فلما سئل عن ذلك استدل بحديث "من كذب علي متعمدا".
(86) كتاب الثعلبي اسمه: (الكشف والبيان في تفسير سور القرآن)، حُقِّق أغلبه أو جميعه في جامعة أم القرى، في رسائل ماجستير ودكتوراه، في قسم الكتاب والسنة، والكتاب مثل ما وصفه شيخ الإسلام رحمه الله احتوى على جملة كثيرة من الأحاديث الموضوعة والروايات الضعيفة والباطلة ، وجملة من الإسرائيليات وغيرها ، وصاحبه كما وصفه شيخ الإسلام : حاطب ليل.(1/178)
وقوله : "حاطب ليل" من أمثال العرب، يقولون : الرجل إذا خرج يحتطب في الليل فإنه قد يأخذ الحية ويضعها بين الحطب يظنها عُصية وهي حية فقد تلدغه بالسم وهو يحملها على ظهره ، فيقولون : ( فلان حاطب ليل ) ، يشبِّهونه بمن يحطب في الليل فقد يحمل الحطب وبداخله الحية فتلدغه فيموت بسببها، هذا المثل يوصف به الرجل الذي يجمع و لا يحسن النظر في هذا الذي يجمعه ، قالوا : فلان حاطب ليل ، أهل الحديث عندهم سياسة ومنهج : ( قمِّش ثم فتِّش ) ، أما ( قمِّش ) فقط لا. ومعناه : جمِّع وبعد التجميع فتِّش ، ميِّز الصحيح والحسن والضعيف ، انظر المعمول به وغير المعمول به ، أما هكذا جمع فقط لا .
هذا الرجل كان من الذين يجمعون ، فمعناه : أنه لم يكن من المحدِّثين المتخصصين ، وإنما مجرد صاحب رواية بل هو حاطب ليل لا تمييز عنده في المنقولات التي ينقلها تجد في كتابه الصحيح والضعيف بل هناك قطعة كبيرة من أحاديث موضوعة معروفة عند العلماء بذلك موجودة في تفسيره .
(87) الواحدي هو أبو الحسين علي بن أحمد النيسابوري، توفي سنة (468هـ) له ثلاثة كتب في التفسير له (البسيط) وهو أكبر كتبه في التفسير، الكتاب الثاني سماه : (الوسيط في التفسير)، وهو مطبوع في ثلاث مجلدات ومحقق، والكتاب الثالث : سماه (الوجيز في التفسير) ، وهو أيضاً مطبوع.
تنبيه : أنبه على خطأ شائع عند الناس، يقول بعضهم : (اكتب بحثاً بسيطاً) يعني : بحث صغير قليل الأوراق، وهذا خطأ لغوي شائع، والبسيط بمعنى : الطويل الممدود الكثير، ولذلك ، الأرض تسمى : البسيطة الممدودة.
فائدة : الغزالي أبو حامد صاحب إحياء علوم الدين، ، له الوجيز في فقه الشافعية، وله الوسيط في فقه الشافعية، وللرافعي فتح العزيز شرح الوجيز.(1/179)
والواحدي كان يَغلب عليه شيء من منهج أهل الكلام، وشيء من الخوض في تفسير الآيات من جهة اللغة بمجردها، وسبق التنبيه على أنه لا ينبغي أن يفسر القرآن بمجرد اللغة، فإنه ليس كلُّ ما ساغ لغة ساغ تفسيراً ، كما أن عليه مؤاخذات من جهة اتباعه لبعض أقوال أهل البدع، وتقصيراً في اتباع كلام السلف والوارد في المأثور عنهم في تفسير القرآن الكريم .
(88) البغوي هو أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء الشافعي توفي سنة (516هـ): له كتاب في التفسير، اسمه "معالم التنزيل"، وهو مطبوع، وهو مختصر عن تفسير الثعلبي، أخذ أحسن ما عند الثعلبي ونقَّح عبارته واهتم بالمأثور، وكان في جملته سليماً بعيداً عن أقوال أهل البدع، وكان الشيخ ابن باز - رحمه الله - إذا سُئل عن تفسير أقرب وأيسر من تفسير ابن كثير يحيل على تفسير البغوي، فكان يحيل الطلاب كثيراً على تفسير ابن كثير، فإذا استصعب الطالب تفسير ابن كثير؛ أحاله على تفسير البغوي، ويصِفُه شيخ الإسلام بقوله : ( تفسيره مختصر عن الثعلبي )، وهذا أكده الذين اشتغلوا بتحقيق كتاب الثعلبي، لكن صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة، ومفتاح هذا التفسير: مقدمته ، فذكر في المقدمة أسانيده في الآثار التي أوردها داخل الكتاب ، كتفسير ابن عباس وتفسير مجاهد ، ذكر أسانيده إليها ، كما ذكر أسانيده في القراءات التي أوردها .
وكلام شيخ الإسلام عن الثعلبي، وعن الواحدي، وعن البغوي؛ يندرج تحت علم جديد صار يُدَرَّس الآن اسمه : (مناهج المفسرين)، والكتب المؤلفة فيه تحمل في الغالب اسم (التفسير والمفسرون)، أو (مناهج المفسرين)، وأشهرها كتاب التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي، وكتاب التفسير ورجاله لابن عاشور، فيُعرِّفون بالمفسر، ثم بتفسيره ويَدْرُسونه ويعطونك خلاصة عن منهجه وطريقته في تفسير القرآن ومزاياه والمآخذ عليه.
وشيخ الإسلام بكلامه هذا فتح الباب في هذا الموضوع بالكلام عن مناهج المفسرين .(1/180)
(89) المصنف تابع للدارقطني والخطيب في جزمهم بعدم صحة ما جاء صريحاً في جهر الرسول ( بـ (بسم الله الرحمن الرحيم). نعم، جاءت عن الصحابة جملة أحاديث أنهم جهروا بالبسملة في الصلاة، وهذا مما لا مجال فيه للرأي، لأن المقام في عبادة، والعبادات توقيفية، فهذه أقوى حجج القائلين بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، نعم جاءت أحاديث صحيحة لكنها غير صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم جهر في الصلاة بالبسملة، وأهل العلم في مسألة الجهر بالبسملة على أقوال :
- منهم من يرى سنية الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية قبل قراءة الفاتحة.
- ومنهم من يرى أن الجهر ليس بسنة فيقول : تُقرأ سراً ولا يُجهر بها .
- ومنهم من يقول : يُجهر بها أحياناً ويُسَر بها أحياناً، والغالب الإسرار ، وهذا اختيار ابن القيم وابن تيمية، وهذا الذي تدل عليه الآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم، تدل على أنهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم، يجهرون بها أحياناً، وفي أول قراء الفاتحة، وعليه نقول : حكم المسألة عن الناحية الفقهية : أنه يسَنُّ الجهر بها أحياناً ، ويتأكد ذلك للتعليم ، لتعليم الناس أنه تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، والغالب من حال الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يَجهر بها.
(90) قال شيخ الإسلام : (وحديث علي الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة)، هذا أورده علماء التفسير الذين يُوردون مثل هذه الأحاديث عند قوله تعالى : ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(المائدة: من الآية55) ، يذكرون حديثاً أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاءه سائل يطلب صدقة في المسجد وهو راكع ، وكان في يده خاتم فمد يده بالخاتم إلى السائل ليأخذه فتصدق بالخاتم وهو راكع ، فنزلت هذه الآية، وهو حديث موضوع كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. (انتهى الدرس التاسع ).
(بداية الدرس العاشر 18/10/1423هـ)(1/181)
(1) سبق للمصنف رحمه الله أن قال: " الِاخْتِلَافُ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى " نَوْعَيْنِ " مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ إذْ الْعِلْمُ؛ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ"اهـ، وهو فيما سبق تكلم عن التفسير الذي مستنده النقل وما يتعلق بقواعد النقل، وخصوصية أهل الحديث فيه، وخصوصية علماء التفسير فيما يروونه. وفي هذا الفصل يتكلم المصنف عن التفسير الذي مستنده الاستدلال، فذكر جهات دخول الخطأ في التفسير الذي مستنده الاستدلال.
(92) هذا ضابط التفسير بالمأثور، وهو التفسير الذي تورد فيه أحاديث وآثار التفسير صرفة، بدون ترجيح أو توجيه.
وكتب التفسير بالمأثور: هي التي تورد كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة وكلام التابعين في تفسير الآية دون التعرض لترجيح أو توجيه.
ولا يعكر على هذا كون بعض كلامهم يرجع إلى الاجتهاد، للفرق بين اجتهادهم في التفسير إن حصل (أعني الصحابة والتابعين) فهو ليس كاجتهاد غيرهم، ويكفي ما ذكره المصنف هنا من أن تفاسيرهم تكاد تخلو من جهات الخطأ في التفسير الذي مستنده الاستدلال.
…وعليه فإن كتب التفسير بالرأي هي التي يدخل فيها التوجيه والترجيح من المفسر، وباعتبار شروط قبول التفسير بالرأي فإنه ينتج أن الرأي الصرف في التفسير غير مقبول، وإنما يقبل التفسير الجامع بين المأثور والرأي، بمعنى الكتب الجامعة بين الرواية والدراية.…(1/182)
…وترجيحات وتوجيهات المفسر تصطبغ بالعلم الغالب عليه، فالفقيه يهتم بهذا الجانب، والمتكلم الأصولي يهتم بهذا الجانب، واللغوي والنحوي يهتم بهذا الجانب، وهكذا، مما جعل للتفسير بالرأي المقبول - الذي هو في الحقيقة (جامع بين الرواية والدراية) - له عدة أنواع فهناك التفسير البلاغي، وهناك التفسير النحوي، وهناك التفسير الفقهي، وهناك التفسير الكلامي، وهناك التفسير الأدبي، وهناك التفسير الاجتماعي، وهناك التفسير العلمي، وهناك التفسير التحليلي، كل ذلك في حقيقته اصطباغ للتفسير بالرأي المقبول بحسب الشخصية العلمية للمفسر.
(93) تفسير ابن جرير الطبري المعروف بـ (جامع البيان عن آي القرآن) هو من كتب التفسير الجامعة بين التفسير بالمنقول والتفسير بالاستدلال، مثله مثل تفسير البغوي وابن كثير؛ لكن صبغة التفسير بالمأثور غالبة، وتوجيهاته وترجيحاته دائرة في مجال التفسير المنقول، فعد من التفسير بالمأثور تغليباً، وإلا فهو من كتب التفسير الجامعة بين الرواية والدراية.
(94) ولهذا تجد أصحاب البدع إذا فسروا نصوص الشرع التي تخالف معتقدهم يلوونها لتوافق اعتقادهم.
ومن أجل هذا قالوا في آداب البحث والمناظرة: استدل ثم اعتقد، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت فإنك تبحث عما يؤيد اعتقادك، لا عن الحق من حيث هو. فالطريقة القويمة أن تستدل ثم تعتقد، متمسكاً في استدلالك بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح، فلا تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكن حريصاً على الاتباع ولزوم الأمر العتيق، فإنك إذا فعلت اهتديت، وإن خالفته لحقك الضلال، "تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"[المستدرك(324)].(1/183)
(1) تقدم التنبيه على خطورة تفسير القرآن بمجرد ما يسوغ لغة، وإعراباً، وفي هذا المعنى يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه بدائع الفوائد (3/27-28): "وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما؛
فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن، فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق، وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره؛ وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن.
مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ (والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) بالجر: إنه قسم.
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام): إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به.
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة): إن المقيمين مجرور بواو القسم.
ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وأوهى بكثير.
بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عُرْفِه والمعهود من معانيه، فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ، وأجلها، وأفصحها، ولها من الفصاحة أعلى مراتبها، التي يعجز عنها قدر العالمين؛ فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم.(1/184)
فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله"اهـ
وتقدم في أول هذا الشرح ذكر كلام ابن هشام في (مغني اللبيب) ص684، فقد تأتي أوجه من الإعراب للألفاظ تسوغ لغة ونحواً ولكن لا تسوغ تفسيراً؛ حيث ذكر ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الخامس الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها وهي عشرة، الجهة الأولى : أن يراعي ما يقتضيه ظاهر الصناعة و لا يراعي المعنى، وكثيرا ما تزل الأقدام بسبب ذلك"اهـ
فإن قيل: القرآن نزل بلسان عربي مبين ، فلماذا كان هذا خطئاً ؟
فالجواب: لأنك لا بد أن تلاحظ خصوصية اللفظ القرآني والنبوي، فكم من لفظ جاء تفسيره ومعناه في لسان الشرع، وهو أدرى بمراده، وكم من لفظ يجرى على معنى في عرف الصحابة غيره في عرف اللغة، فالهجوم على تفسير اللفظ الوارد في النص الشرعي بمجرد المعنى اللغوي يلغي المعهود الشرعي أو العرفي للفظ الذي هذا سبيله.
وبعبارة أخرى : الذي ينتج - من الهجوم على تفسير الألفاظ الشرعية بمجرد المعنى اللغوي دون البحث عن الحقيقة الشرعية والعرفية - إهمال المرادات الشرعية، وضياع المعنى الشرعي في تفسير اللفظ، وقد فصلت الكلام في هذه القضية في كتاب مفرد، مع إيراد أكثر من خمسين لفظة جاءت في الشرع لم يراع في تفسيرها هذه القاعدة فشاع عند الناس تفسيرها بغير المراد منها شرعاً، وكان ذلك سببا في تسويغ بعض البدع، واسمه "الحقيقة الشرعية في تفسير ألفاظ القرآن والسنة النبوية"، وهو مطبوع ولله الحمد.(1/185)
فليس كل ما جاز لغة جاز تفسيراً، وهناك قوم من المفسرين يستندون في تفسيرهم على الاستدلال، يفسرون الآيات والأحاديث بحسب اللغة ، فنتج عن هذا إهمال المرادات الشرعية؛ فأضاعوا الحقائق الشرعية للألفاظ، وأضاعوا الحقائق العرفية للألفاظ، وبالتالي صار عندنا تفسير قرآن ليس هو التفسير الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
وهذا من أكبر الأخطاء في الكتب الصغيرة التي تسمى (كلمات القرآن) ، فإن أغلب الذين يفسرون في كلمات القرآن يفسرون من حيث اللغة، وقد سبق ذكر أمر آخر يقع في مثل هذه الكتب وهو: أنه قد يأتي للفظة القرآنية أكثر من معنى وهو لا يورد إلا معنى واحداً، فيتحكم في ذلك، وقد يكون هذا المعنى الواحد بعض المراد لا كله، وهذا قصور!
(2) الأولون هم الذين حملوا ألفاظ القرآن على اعتقادهم. وسيأتي للمصنف ذكر أمثلة لتفاسيرهم الباطلة.
(1) الذين يحملون النصوص الشرعية على ما يعتقدونه، لهم ثلاث أحوال:
الحال الأولى : أن تكون عقيدتهم باطلة وبالتالي استدلالهم باطل .
الحال الثانية : أن يكون المعنى الذي يريدون حمل النص عليه صحيحاً، لكن طريقة استدلالهم باطلة.
الحال الثالثة : أن يكون المعنى صحيحاً واستدلالهم صحيحاً، فلم يتجاوزوا فيه معنى القياس والاعتبار.
وهذا مثل ما ذكره شيخ الإسلام في غير هذا المحل في التفسير الإشاري، التفسير الإشاري هو تفسير الصوفية ، يأتون إلى الآيات فيقولون : هذه الآية فيها إشارة إلى كذا ، فيها إشارة إلى كذا ، ويأتون بمعانٍ.
(فائدة أصولية) : للألفاظ منطوق ومفهوم ، المنطوق خمسة أنواع : النص والظاهر والمؤول والاقتضاء والإشارة.
ما هي الإشارة ؟ هي ما يسمى عند المناطقة : بـ (دلالة اللزوم) بأن يدل اللفظ على شيء خارج معناه، ولكنه لازم له .(1/186)
دلالة الإشارة من دلالة المنطوق، وهي طريقة التفسير الإشاري. مثلاً : حينما يذكر أصحاب التفسير الإشاري معنى صحيحاً واستدلالاً صحيحاً، فيقولون: إن المعاني الصحيحة والفقه الصحيح للدين لا يأتي أصحاب القلوب المتدنسة بالدنيا وشهواتها ، هذا أخذوه إشارة من قوله تعالى : (لا يمسه إلا المطهرون)، وأخذوه إشارة من قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة) ، فهذا المعنى إذا جاءوا به من باب القياس والاعتبار،فإن يُقبَل منهم ، هذا تفسير إشاري مقبول.
ولا شك أن هذا التفسير الإشاري المقبول ليس هو موضع الخطأ، ولذلك اقتصر شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على ذكر النوعين الأولين:
الذين يأتون بمعنى باطل، واستلالهم باطل.
والذين يأتون بمعنى صحيح ولكن باستدلال باطل.
وسكت عن النوع الثالث، لأنه خارج الموضوع.
(2) هذا أصل مهم . كل ما تكلم به العلماء في القرآن ؛ مثله يأتي في الحديث، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"؟! إلا ما اختص به القرآن مما دلَّ الدليل على اختصاصه؛
في القرآن يوجد محكم ومتشابه، وفي الحديث فيه كذلك.
وفي القرآن يوجد أسباب نزول وفي الحديث كذلك، وهي أسباب ورود الحديث.(1/187)
في القرآن الكلام عن نزوله والوحي به، وفي السنة كذلك، يقول حسان بن عطية - وهو أحد التابعين الثقات -: "كان جبريل ينزل بالسنة كما كان ينزل بالقرآن". وحديث يعلى بن أمية لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن رجل أحرم وتضمخ بطيب في إحرامه ما الذي يصنع ؟ فأغفى إغفاءة ( تعتريه عندما يوحى إليه، ثم قال : أين السائل آنفاً؟ قال له أنا يا رسول الله ؟ قال : انزع ثوبيك واغسلهما ثم البسهما واصنع في عمرتك ما أنت صانعه في حجك"[البخاري ومسلم]، أو كما قال (، أنه أثبت أنها فتوى وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت وحياً، فكان يوحي إليه بالسنة وبالأحكام ، ويكفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه".
كلام شيخ الإسلام في قضية التفسير وأنه على نوعين ، تفسير بالرواية ، وتفسير بالدراية، ومثله يأتي في الحديث وشرحه. تقرأون كتب ابن رجب في شرح الحديث وأشهرها جامع العلوم والحكم في شرح الأربعين النووية مع زيادات له، رحمه الله، ، هل هي مثل كتب ابن حجر في شرح الحديث؟ ألا تلاحظون أن هناك اختلافاً في الأسلوب؟ جامع العلوم والحكم، ألا تلاحظون أن ابن رجب صيغته في الشرح الإكثار من إيراد الروايات عن السلف والتابعين والصحابة وغيرهم في تفسير الحديث أكثر من طريقة ابن حجر.(1/188)
والأجزاء الحديثية التي عند أهل الحديث هي من طرق شرح الحديث، سواء كان الجزء في مسألة بعينها وما ورد فيها، أم كان في روايات حديث بعينه، فيأتي بالحديث الواحد ويجمع كل الأحاديث المتعلقة به، مثل : (جزء القراءة خلف الإمام) ، و (جزء رفع اليدين)، فهذه تعتبر شروح للأحاديث الواردة في هذا الموضوع عن طريق الروايات وعن طريق أقوال السلف وعن طريق كلام الصحابة والتابعين في هذا الموضوع، مثل التفسير بالمأثور، فإن زاد المحدِّث على إيراد الروايات المرفوعة والآثار الموقوفة أو المقطوعة عن التابعين كلاماً منه في البيان، مثل ما يصنع الطبري مثلاً في : (تهذيب الآثار) ؛ فهذا يعتبر شرح بالدراية، وانظر مصداق كلامي في كتاب شرح معاني الآثار للطحاوي.
أي شيء يأتي في خاطركم في القرآن الكريم، مثله يأتي في السنة إلا ما استثناه الدليل، حتى قضية الإعجاز في القرآن موجودة أيضاً في السنة، ولكن بما يلائم السنة ، فإن القرآن معجر في ألفاظه، ولكن السنة معجزة من جهات أخرى:
الجهة الأولى : ما تضمنته سنته ( من الفصاحة والبلاغة.
الجهة الثانية : ما تضمنته سنته ( من الإخبار عن أمور غيبية.
الجهة الثالثة : ما تضمنته سنته ( من الآيات التي رآها الصحابة حساً.
الجهة الرابعة : ما تضمنته سنته ( من تشريعات تخرج عن حد قدرة البشر، يشهد بصدقها وصلاحيتها وإصلاحها للبشرية جمعاء الواقع يوماً بعد يوم إذاً السنة فيها أيضاً إعجاز كما في القرآن.
هذا الأصل مهم جداً ينبغي أن يتنبه له طلاب العلم فإنه يعينهم على فهم السنة وعلى فتح أنواع كثيرة من أنواع الحديث غائبة عن الأذهان .
وهناك أنواع كثيرة من أنواع الحديث غائبة عن الأذهان يمكن استخراجها من خلال مقارنتها بعلوم القرآن، يأتي للنوع من علوم القرآن الموجود في علوم القرآن ويستخرج مثله في السنة.(1/189)
وكان عند الشيخ بكر أبو زيد - عافاه الله - مشروع اسمه (مد علوم الحديث )يعني : زيادته، أقول: من الطرق التي تستطيع أن تمد بها علوم الحديث أن تنظر في أنواع علوم القرآن وتصنع مثلها في السنة.
(99) تقول لهم: الله جل وعلا موصوف بالاستواء، استوى على عرشه، كما وصف نفسه في كتابه، فيقولون: (استوى) بمعنى (استولى)، ويستدلون بقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وهذا الشعر لشاعر نصراني ليس بمسلم وهو الأخطل.
وهذا المعنى على فرض صحته لغة فإنه لا يصح في تفسير الاستواء الذي صفة لله تعالى، لأن السلف لم يفسروا (الاستواء) بمعنى: الاستيلاء، والله سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء)، فإن الذي استولى على الشيء قَبِلَ أن ينازعه فيه غيره والله لا ينازعه في ملكه أحد. (استوى على العرش) على الوجه اللائق بجلاله بمعنى: علا وارتفع على الوجه اللائق بجلاله (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). قال مالك ومن قبلِه أم سلمة ومن قبله ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بـ ( ربيعة الرأي ) قالوا: الاستواء معلوم، يعني : من حيث اللغة بمعنى علا وارتفع ، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة"؛ لأن السلف لما سمعوا هذه العبارة وقرأوا هذه الآيات فهموا منها معنى العلو والارتفاع على الوجه اللائق بجلاله، وفوضوا أمر الكيفية، ولم يفوضوا المعنى، قالوا: على الوجه اللائق بجلاله.
(100) وعلى طالب العلم أن يحذر من كتب أهل البدع، وهو لا يخلو من حالتين :
الحال الأول : أن يكون لديه تمييز بين البدعة وغير البدعة، فهذا إن احتاج أن ينظر لا بأس بذلك لأنه يميز لكن لا ينقل من هذه الكتب شيئاً يجده عند أهل السنة، فإن العزو إلى كتب أهل البدع فيه رفع لذكرهم، والمطلوب إخماد ذكرهم حتى لا يغرر بهم عوام أهل السنة ومن في حكمهم.(1/190)
أما إذا كان طالب العلم لا يميز بين السنة والبدعة يخشى أن يدخل عليه من كلام أهل البدع إذا ما رجع إلى كتبهم فإنه يحرم عليه النظر فيها سداً للذريعة.
وينبغي لطالب العلم ألا يغتر حتى لو كان لك تمييز فالأفضل لك أن لا تنظر فيها، فإن النظر في كتب أهل البدع قد يجعل الشبه تلبس قلبك ، وتدخل في فؤادك وأنت لا تشعر؛ ولذلك جاء عن بعض السلف قوله: "فِرَّ من صاحب البدعة فرارك من المجذوم، نخشى أن يُجْرِبَك فينتقل لك جربه ومرضه".
وكان أحمد بن حنبل إذا احتاج في رواية الحديث إلى رواية شيخ من أهل البدع وهو يعاصره سمعها من رجل عنه ولم يسمعها منه مباشرة إذا احتاج إليها ولا توجد عند غيره، لا يريد الرواية عنه مباشرة لأن فيها نوع إعلاء لذكر هذا الرجل.
(101) المعتزلة يقولون بالمنزلة بين المنزلتين لأهل الكبائر، والخوارج يقولون : أهل الكبائر في النار خالدين مخلدين كالكفار بل هم كفار. والمعتزلة خالفوا الخوارج، وقالوا: أصحاب الكبائر في منزلة بين المنزلتين، ثم مآلهم إلى النار فخالفوهم في الوصف ووافقوهم في الحكم، فإن الأصل الرابع من أصولهم: انفاذ الوعيد، وهو يقتضي أن هؤلاء ينفذ فيهم الوعيد فيكونون في النار، فهم خالفوا الخوارج في الابتداء ووافقوهم في المآل، فهم يقولون : أصحاب الكبائر في منزلة بين المنزلتين ، ليس كقول الخوارج ولكن قالوا: بأن مآلهم إلى النار إنفاذاً للوعيد.
والأصل الخامس وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حقيقته عندهم : الأمر بالإنكار على السلطان والحث على الخروج عليه ورفع السيف قال شيخ الإسلام في موضع آخر: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة ، وقتالهم بالسيف"، فهذا أصل من أصول المعتزلة التي توافق الخوارج، ليس عندهم أمر بالمعروف ونهي عن المنكر مثل أهل السنة بضوابط أهل السنة.(1/191)
أهل السنة ليس من عقيدتهم الخروج على السلطان المسلم ولو كان فاسقاً جائراً، حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلطان ينبغي أن يكون بصورة لا يحصل منها خروج على السلطان ولا ينتج عنها رفع السيف عليه ولا قتل المسلمين وإراقة الدماء وإدخال الناس في فتن ومشاكل، لكن هذا من أصول المعتزلة والخوارج.
(102) (تارة من العلم بفساد قولهم) يعني : أن نعلم أن عقيدتهم هذه باطلة مخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة .
(وتارة من العلم ببطلان استدلالهم)، يعني : يستدلون بالآية فيحملونها على معنى، والآية لا تتناسب مع هذا المعنى لا من جهة لسياق ولا من جهة السباق. أو يكون عندنا دليل على تفسير الآية يخالف كلامهم؛ فنحن نستدل على البطلان من هاتين الجهتين؛
إما أن نقول: هذا التفسير باطل لأنه يخالف عقيدة أهل السنة بدون النظر في كلامهم من أصله في تفسير الآية.
أو نقول : هذا المعنى الذي حملوا عليه الآية ؛ باطل لمخالفته لهذه لمعاني الألفاظ، أو لدلالة السياق أو السباق، ولذلك اشترطنا في قبول التفسير بالرأي هذه الشروط، وقلنا :
الشرط الأول في قبول التفسير بالرأي : أن لا يخالف التفسير بالمأثور مخالفة تضاد .
الشرط الثاني : أن يوافق دلالة اللفظ من حيث اللغة لأن القرآن أنزل بلسان عربي مبين .
الشرط الثالث : أن يناسب السياق والسباق .
الشرط الرابع : أن لا يكون في هذا التفسير بالرأي مخالفة للشرع .
الشرط الخامس : أن لا يكون في هذا التفسير تأسيس بدعة .(1/192)
ذكرت في أول هذه الدروس هذه الشروط الخمسة، وهذا من المواطن التي أشار فيها شيخ الإسلام إلى معنى هذه الشروط الخمسة التي ذكرناها؛ فقد ذكر في أثناء كلامه وستأتي قضية اللغة ثم ذكر ترتيب التفسير اللغوي أنه يكون بعد عدم وجود الحقيقة الشرعية أو الحقيقة العرفية ، ثم ذكر أن هذا التفسير قد يستدل على بطلانه من نفس الآية ، يعني من حيث دلالتها، إما من جهة لفظها ومن حيث السياق العام أو سباقها أو لحاقها، هذا من المواطن في كلامه رحمه الله التي تستنبط منها مثل هذه الشروط في قبول التفسير بالرأي.
(103) الله أكبر! يقول : "وقد رأيت من العلماء المفسرين"، إذا كان هذا الحال من العلماء المفسرين أنه ينقل كلام أهل الباطل، ولا يهتدي إلى أن هذا الكلام باطل؛ فما بالك بطلبة العلم والمبتدئين؟ لذلك فعلاً احذروا النقل عن أهل البدع، احذروا القراءة في كتبهم!
يقول: "وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ"، يعني : هذا العالم المفسِّر يعتقد بطلان ما عليه أهل الاعتزال ، لكن ينقل من كلامهم ما يؤيد أصولهم فما بالك بالطالب؟!
(104) هذه كلها تفاسير مبنية على الاستدلال ، وهي باطلة ، منها ما يُعلم بطلانه من جهة بطلان العقيدة نفسها التي يحملونها عليها ، ومنها ما يُعلم بطلانه من جهة اللفظ .
هذه النماذج التي أوردها ، كلها يُعلم بطلانها من الجهتين ، من جهة بطلانها عقيدةً ، من جهة بطلانها لفظاً ، أي عربي يقرأ الآية ؛ يفهم أن هذا ليس تفسيرها ، هذا ليس بصحيح ، هذا حال أهل البدع ، أما سمعتم كلام العلماء : أن أهل البدع يلوون أعناق النصوص لتوافق معتقدهم؟! هذه الآن أمثلة من تفاسيرهم.(1/193)
(105) وهم جاءوا وفرقوها، فجعلوا (أشداء على الكفار) لرجل من الصحابة، بينما هي كلها أخبار معطوف بعضها على بعض تعود على (الذين معه) يعني : الصحابة كلهم.
(106) يقولون خرافة رجل من العرب خطفته الجن اسمه خرافه، فلما عاد بعد غيبته عندهم سنين صار يخبر عما شاهد من تهاويل وأمور لم يقبلها أحد ممن سمعه، فصار الناس إذا سمعوا كلاماً لا يصدقونه قالوا: حديث خرافة، أي كحديثه الذي لا يقبله عقل، و لا يصدق.
(107) بعد أن تكلم عن القاعدة في الاختلاف الذي مستنده الاستدلال، أورد مجموعة من المفسرين ممن يغلب على تفسيرهم الاستدلال ويبين حالهم، كما صنع في التفاسير التي مستندها النقل.
(108) فالخلل الذي حصل في تفسير ابن عطية أنه لم يراعِ عدم مخالفة التفسير بالمأثور، فدخل في تفسيره القصور من هذه الناحية، وقصرت معرفته في هذا الباب فحصلت فيه أقوال تخالف المأثور وهو لا يشعر، وحصلت عنده نقول عن أهل البدع تقرر كلام أهل البدع وهو لا يشعر.
(109) ومن هنا كان من أهم شروط قبول بالتفسير بالرأي : أن لا يخالف التفسير بالمأثور مخالفة تضاد.
وهنا تأتي المسألة الأصولية: إذا اختلف الصحابة في الآية أو في الحديث على أقوال هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول خارج عن أقوالهم ؟
الصحيح : أنه لا يجوز ، قال العلماء : لأن اختلافهم على هذه الأقوال في تفسير الآية أو تفسير الحديث ؛ دليل أن الآية أو الحديث لا يحتمل شيئاً من المعنى إلا ذلك ، فهذا كالإجماع منهم على أن الآية أو الحديث لا تحتمل من المعنى إلا هذا . ولذلك قال العلماء - صحت عن أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة - : أنه إذا اختلف الصحابة في المسألة: نتخير من أقوالهم ، فننظر أيها أقرب إلى الدليل فنتبعه إن ظهر الدليل ، فإن لم يظهر ؛ نتخير من هذه الأقوال ، ولم يقل أحد بإحداث قول جديد لم يقله الصحابة ، لم يقل أحد أنه يفتح لي معنى جديد يخالف ما قاله الصحابة.(1/194)
وفي أخبار أبي حنيفة للصيمري ص10، وإيقاظ همم أولي الأبصار ص70، قال ابن المبارك رحمه الله: سمعت أبا حنيفة [رضي الله عنه] يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم"اهـ.
وفي ترتيب المدارك (1/193)، قال مالك - وقد ذكر له كتابه الموطأ -: "فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة والتابعين ورأيهم. وقد تكلمت برأيي على الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا ولم أخرج عن جملتهم إلى غيره"اهـ .
وفي المدخل إلى السنن للبيهقي ص110، قال الشافعي رحمه الله: "العلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة؛ إذا ثبتت السنة. ثم الثانية : الإجماع فيما ليس فيه كتاب و لا سنة. والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و لا نعلم له مخالفاً منهم. والرابعة: اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى".
وفي المسودة ص276، قال أحمد بن محمد بن حنبل: "إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث؛ لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة و لا من بعدهم خلافه. وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول غيرهم. وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، و لا عن الصحابة قول؛ نختار من أقوال التابعين...".(1/195)
هذا كلام الأئمة لم يكونوا يخرجون عن كلام الصحابة ، لكن أن تُحدِث قولاً هو في معنى كلامهم في معنى عباراتهم في المعنى الذي يدور عليه لا يخالفه مخالفة تضاد ؛ فهذا في الحقيقة ليس بقول محدَث ، إنما هو في معنى الكلام الذي قالوه فلا بأس فيه ، أما إذا خالف كلامهم مخالفة تضاد فهو قول باطل مردود على صاحبه ، وهذا يفيدكم مدى خطورة وأهمية أن يعتمد المفسر على التفسير بالمأثور ، وليس لأحد أن يفسر من عند نفسه ، أو من حيث اللغة ، لا بد أن تذكر أولاً التفسير بالمأثور ، وميِّزه وحرره ، ثم اجتهد إذا أردت أن تجتهد في دائرة المعاني التي قررها. ( أ.هـ الدرس العاشر ) .
(الدرس الحادي عشر 25/10/1423هـ)
(1) قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (13/243): "من فسّر القرآن أو الحديث وتأوّله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرِّف للكلم عن مواضعه. وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام"اهـ.
فليس لأحد أن يتأوّل الآية أو الحديث على معنى يخالف مخالفة تضاد المعنى الذي فسّره به صحابة الرسول رضوان الله عليهم.
ومن أجل هذا الأصل (وهو فهم القرآن العظيم والسنة النبوية على ضوء فهم الصحابة رضوان الله عليهم)، ترى أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، لا يخوضون في تفسير القرآن العظيم، وبيان معاني الحديث بمجرد اللغة، والرأي والمعقول؛ بل ينظرون في الآثار، ويجمعون ما جاء عن السلف في مصنفاتهم، ويبنون عليه فقههم واجتهادهم. وعلى خلافهم أهل البدع والأهواء!(1/196)
قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان ص114: "وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل (يعني: الإيمان)، عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، واعتمدوا على رأيهم، وعلى ما تأوّلوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطيء الناس من جهة التأويل والقياس؛ ولهذا نجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم، ومعقولهم، وما تأوّلوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة، و لا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على العقل واللغة؛ ونجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة، والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب، وكتب الكلام التي وضعها رؤوسهم. وهذه طريقة الملاحدة أيضاً، إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة، وأمّا كتب القرآن والحديث والآثار؛ فلا يلتفتون إليها.
هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم.
وأولئك يتأوّلون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقد ذكرنا كلام أحمد وغيره في إنكار هذا وجعله طريقة أهل البدع"اهـ.
قلت : أورد في مجموع الفتاوى (21/291)، وأسند ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد بن حنبل ص178، عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال:"إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام".
(111) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة في أن جميع ما يحتج به المبطل يدل على فساد قوله، لا قوته، انظرها في مجموع الفتاوى (6/288-339).
(112) نعم ! المقصود في هذه القاعدة : التنبيه على مثارات الاختلاف ، ومثارات الاختلاف في التفسير الذي يعود إلى النقل هي: الأسانيد الضعيفة أو الباطلة ، أو تكلف بيان ما لا فائدة في بيانه من خلال الإسرائيليات وكتب أهل الكتاب.(1/197)
أما التفسير الذي مستنده الاستدلال فمثار الاختلاف فيه : من جهة أن يَطلب أصحاب البدع دليلاً على بدعهم من القرآن والسنة، فيحملوا النصوص ويلووا أعناقها إلى المعنى الذي يريدون ، ومن هنا قال أهل العلم : من قواعد البحث أن تستدل وتبحث ثم تعتقد، لا تعتقد أولاً ثم تستدل ، لأنك في هذه الحال سوف تبحث في النصوص عما يدل لقولك وسيكون الهوى غِطاءً يُعمي بصيرتك عن أن تتبصر الحق - إن شاء الله تعالى - ، فيأتي نص تتكلف فيه، ويأتي آخر فترده ، ويأتي نص آخر ما تنتبه له ، فقط تريد أن تقرر ما تعتقد ، وهذا خطأ ، ابحث ونقي واستدل ثم اعتقد. أو أن يفسروا القرآن بمجرد ما يسوغ لغة بدون ملاحظة اتباع ما جاء في التفسير المنقول (التفسير بالمأثور).
(113) هذه أول قضية : أن تعرف القول الباطل وتعرف ما يقابله، ولذلك كان من آلة المفسر : المعرفة باختلاف الناس من جهة عقائدهم، ومن آلته المعرفة بمقالات أهل السنة وما يقابلها، ومن آلته المعرفة بمناهج المفسرين.
(114) والأدلة التي نَصَبَها الله على بيان الحق ؛ منها ما يكون في نفس النص ، ومنها ما يكون في خارجه ، فيُعرف هذه ويُعرف هذا .
(115) تقدم أن كل ما يقال في القرآن العظيم يقال مثله في الحديث، وإذا كان المفسرون يقع في كلام بعضهم نصرة أهل البدع، والخروج عن كلام السلف ، فكذا الحال في شرح الحديث؛ فإن شرحه إذا كان مستنده الاستدلال يرد فيه الخطأ من نفس الجهتين التين ذكرهما المصنف في حق التفسير، وشرحه إذا كان مستنده النقل فإنه يقع فيه الخطأ من نفس الجهة التي يقع فيها الخطأ في التفسير الذي مستنده النقل. والشارح للحديث يحتاج إلى معرفة مقالات أهل السنة والجماعة وما يخالفها، ويحتاج إلى المعرفة بمناهج شراح الحديث واتجاهاتهم، والمعرفة بمقالات السلف الشارحة للحديث.
(116) القسمة ثلاثية؛(1/198)
فمنهم من يفسر القرآن بمعان باطلة وبالتالي طريقة الاستدلال باطلة. وهذه سبق قبل قليل التنبيه على مثار الغلط عندهم.
ومنهم من يفسر القرآن بمعان صحيحة ولكن استدلالهم لها بالقرآن خطأ. وهذا القسم هو موضوع الكلام هنا. وهو جمهور ما يسمى بالتفسير الصوفي والإشاري.
ومنهم من يفسر بمعان صحيحة واستدلال صحيح على سبيل القياس والاعتبار. فهذا تفسير مقبول، وهو ليس موضوع الكلام هنا أصلا؛ لأن الكلام على محل الخطأ في التفسير، ولذا لم يذكر الشيخ هذا القسم هنا.
وللمصنف كلام بسط فيه هذه المعاني، يصلح شرحاً لكلامه هنا، حيث قال في مجموع الفتاوى (13/240-243): "وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان:
أحدهما : أن يكون المعنى المذكور باطلا لكونه مخالفا لما علم فهذا هو في نفسه باطل فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضى أنه حق.
والثاني : ما كان في نفسه حقا لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يرد بها ذلك فهذا الذي يسمونه: "إشارات" .
و "حقائق التفسير" لأبى عبدالرحمن [السلمي] فيه من هذا الباب شيء كثير.
وأما النوع الأول فيوجد كثيرا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين للمسلمين في أصول دينهم؛
فإن من علم أن السابقين الأولين قد رضي الله عنهم ورضوا عنه؛ علم أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك فهو باطل.
ومن أقر بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد ما دام عقله حاضرا؛ علم أن من تأول نصا على سقوط ذلك عن بعضهم، فقد افترى.
ومن علم أن الخمر والفواحش محرمة على كل أحد ما دام عقله حاضرا؛ علم أن من تأول نصا يقتضى تحليل ذلك لبعض الناس أنه مفتر.
وأما النوع الثاني فهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس، فإن المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه، وهذان قسمان:
أحدهما: أن يقال إن ذلك المعنى مراد باللفظ فهذا افتراء على الله؛(1/199)
فمن قال المراد بقوله: ?تذبحوا بقرة? هى النفس. وبقوله: ?اذهب إلى فرعون? هو القلب. ?والذين معه? أبو بكر ?أشداء على الكفار? عمر ?رحماء بينهم? عثمان ?تراهم ركعا سجدا? علي؛ فقد كذب على الله إما متعمدا وإما مخطئا.
و القسم الثاني : أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللفظ فهذا من نوع القياس؛ فالذي تسميه الفقهاء قياسا هو الذي تسميه الصوفية إشارة. وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل، كانقسام القياس إلى ذلك؛
فمن سمع قول الله تعالى: ?لا يمسه إلا المطهرون? وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف، فقال كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة، وهى قلوب المتقين؛ كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا؛ ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف؛ قال تعالى: ?ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين? وقال : ?هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين?، وقال: ?يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام?، وأمثال ذلك.
وكذلك من قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب"، فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد؛ فقد أصاب، قال تعالى: ?أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم?، وقال تعالى: ?سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا?، وأمثال ذلك.
و كتاب "حقائق التفسير" لأبى عبدالرحمن السلمي يتضمن ثلاثة أنواع:
أحدها: نقول ضعيفة عمن نقلت عنه مثل أكثر ما نقله عن جعفر الصادق فإن أكثره باطل عنه، وعامتها فيه من موقوف أبى عبدالرحمن.
وقد تكلم أهل المعرفة في نفس رواية أبي عبدالرحمن حتى كان البيهقي إذا حدث عنه يقول: "حدثنا من أصل سماعه".
والثاني: أن يكون المنقول صحيحا لكن الناقل أخطأ فيما قال.(1/200)
والثالث: نقول صحيحة عن قائل مصيب، فكل معنى يخالف الكتاب والسنة فهو باطل وحجته داحضة، وكل ما وافق الكتاب والسنة والمراد بالخطاب غيره إذا فسر به الخطاب فهو خطأ.
وإن ذكر على سبيل الإشارة والاعتبار والقياس فقد يكون حقا وقد يكون باطلا.
وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام"اهـ
(117) يطلق الإجمال على معنيين بينهما تداخل :
1- المعنى الأول : المجمل من الكلام هو الذي لم يَبِنْ، فلم يظهر معناه.
2- المعنى الثاني : أن تأتي الآية ظاهرة على معنى ، ولكن هذا المعنى الظاهر ليس هو المراد، ولا يعرف المراد منها إلا بحمل هذه الآية على آية أخرى، مثل : الذي حصل في آية : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82) ، فهم الصحابة الآية على ظاهرها ، فقالوا : عموم (ظلم) ، يدخل في سياق هذه الآية، لأنه نكرة في سياق النفي فيشمل كل (ظلم) ، ففهموا الآية على ظاهرها، ففزعوا، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : يا رسول الله! أيُّنا لم يظلم نفسه؟ فأرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حمل هذه الآية على الآية الأخرى : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: من الآية13) ، فهذه الآية الأولى لها معنى ظاهر ومراد ، ولكنه غير مراد إلا بحمله على الموطن الثاني، فمعنى الظلم في الآية الأولى مجمل، لأن الظاهر منه غير مراد.
وحمل الكلام المجمل على المبين محله في كلام المعصوم، لأنه معصوم عن الخطأ.(1/201)
وغير المعصوم لا يحمل كلامه المجمل على المفسر إنما يقال في الموضع المجمل إذا كان إجماله من المعنى الأول: هذا كلام مجمل لا يظهر معناه، و لا يقبل، و لا يبن عليه. أمّا إذا كان من المعنى الثاني، فإنه يحكم ببطلان الموضع المجمل، وأنه غير صحيح، فإن كان لصاحب هذا الكلام كلام آخر على الصواب، قبل صوابه ورُدّ الخطأ، ولا يلزم حمل مجمله على مبينه.
فمن خرج عن هذا السبيل وطالب بحمل مجمل كلامه على مفصله فقد جعل لنفسه من الحكم ما للمعصوم!!
(118) هل معنى هذا التقسيم أن يستقلَّ تفسير القرآن بالقرآن عن تفسير القرآن بالسنة ؟
الجواب : لا، ليس المراد هنا أن يستقلَّ تفسير القرآن بالقرآن عن تفسير القرآن بالسنة، وإنما المراد التقسيم والترتيب للفهم وتقريب المعنى، لا يَصلح أن نقول : نكتفي بتفسير القرآن بالقرآن ونترك السنة؛ فمن زعم أن يفسر القرآن بالقرآن مجرداً بدون السنة؛ فقد أخطأ. ثم تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنة في مواطن قد يكون من باب التفسير بالمأثور المجرد، وفي مواطن قد يدخله اجتهاد؛
ففي مواطن يكون من باب التفسير المجرد، مجرد أنه يورد آية وآية أخرى تفسرها فقط، والمعنى واضح، لكن في مواطن ثانية يكون إيراد المفسِّر للآية والآية الأخرى التي تفسرها فيه إشارة إلى معنى استدلالي في الآية الأخرى يوضح الآية، فلا يُوصَل إلى المعنى إلا بنوع اجتهاد واستنباط، وقد يوافَق على هذا وقد لا يوافَق على هذا.
فليس معنى تفسير القرآن بالقرآن،أن نستقل بتفسير القرآن بالقرآن، إنما معنى هذا بيان للمراتب فقط، وإلا لا يمكن تفسير القرآن بالقرآن تفسيراً كاملاً صحيحاً فقط بمجرد تفسير القرآن بالقرآن.(1/202)
وكذا في تفسير القرآن بالسنة، ليس معناه بالسنة دون القرآن، هذه نفس القضية؛ ولذلك الذي يقولون بالتفسير الموضوعي - وهو نوع من أنواع التفسير حيث يأخذ المفسر موضوعاً من موضوعات القرآن ويجمع الآيات المتعلقة به ويفسرها - من قال بهذا النوع وجرَّده فقط للقرآن بالقرآن فقد أخطأ. فإن تفسير القرآن بالقرآن دون السنة غير صحيح، قال رسول الله (: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه".
(119) قال الله تبارك وتعالى: ?وَكَذلِك أَوحيْنآ إليِك رُوحاً من أمْرِنا مَاكُنْت تدرِي مَا الكتابُ ولا الإيمَانُ ولكِن جَعَلْناهُ نُوراً نهْدِي بِهِ مَنْ نشاءُ مِنْ عِبادنَا وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مُسْتَقيم. صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ? (الشورى:52-53).
قال الشافعي رحمه الله تعليقاً على هذه الآية الكريمة [كما في الرسالة للشافعي ص88-105 باختصار. وانظر إبطال الاستحسان (ضمن الأم 7/299)، الموافقات (4/12)]: "وفي شهادته له [(] بأنه يهدي إلى صراط مستقيم؛ صراط الله، والشهادة بتأدية رسالته واتباع أمره، وفيما وصفت من فرضه طاعته، وتأكيده إيّاها في الآي ذكر : ما أقام الله به الحجة على خلقه: بالتسليم لحكم رسول الله واتباع أمره.
قال الشافعي: وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم: فبحكم الله سنه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: ?وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مُسْتَقيم. صِرَاطِ اللّهِ? (الشورى:52-53).
وقد سنّ رسول الله مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نص كتاب.
وكل ما سنّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجاً، لما وصفت، وما قال رسول الله.(1/203)
أخبرنا سفيان عن سالم أبوا لنضر مولى عمر بن عبيدالله سمع عبيدالله بن أبي رافع يحدِّث عن أبيه أن رسول الله قال: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
قال سفيان : وحدثنيه محمد بن المنكدر عن النبي مرسلاً.
قال الشافعي: الأريكة: السرير.
وسنن رسول الله مع كتاب الله وجهان:
أحدهما: نص كتاب، فاتبعه رسول الله كما أنزل الله.
والآخر: جملة، بيّن رسول الله فيه عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها: عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد. وكلاهما اتّبع فيه كتاب الله.
قال [الشافعي] : فلم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه، فاجتمعوا منها على وجهين. والوجهان يجتمعان ويتفرعان:
أحدهما : ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبيَّن رسول الله مثل ما نص الكتاب.
والآخر : مما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبيّن عن الله معنى ما أراد.
وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث : ما سنّ رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب.
فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه: أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب.
ومنهم من قال : لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبين عدد الصلاة وعملها، على اصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنّ من البيوع، وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال: ?لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ? (النساء:29)، وقال: ?وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا? (البقرة:275)، فما أحلّ وحرّم فإنما بيّن فيه عن الله، كما بيّن الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله.(1/204)
ومنهم من قال : ألقي في روعه كل ما سنّ، وسنته الحكمة: الذي ألقي في روعه عن الله، فكان ما ألقي في روعه سُنته. ثم قال: فكان مما ألقي في روعه سنته، وهي الحكمة التي ذكر الله، وما نزل به عليه كتاب فهو كتاب الله، وكل ما جاءه من نِعَمِ الله، كما أراد الله، وكما جاءته النعم، تجمعها النعمة، وتتفرق بأنها في أمور بعضها غير بعض، ونسأل الله العصمة والتوفيق.
وأي هذا كان فقد بيّن الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذراً بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته، بما دلّهم عليه من سنن رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعْلم من عرف منها ما وصفنا أن سنته مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضة فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب أخرى: فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله بل هو لازم بكل حال.
وكذلك قال رسول الله في حديث أبي رافع الذي كتبناه قبل هذا"اهـ.
قال إسماعيل بن سعيد الكسائي الفقيه (ت230هـ، أو 246هـ) رحمه الله [كما الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص26]: "المذهب في ذلك: يجب على الناس أن يتبعوا القرآن و لا يخالفوه؛ فإن احتج محتج بأن في السنن ما يخالف التنزيل! قيل لهم: إن رسول الله ( قال: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه"، فكل سنة ثبتت عن رسول الله ( لا يجوز لقائل أن يقول إنها خلاف التنزيل؛ لأن السنة تفسير للتنزيل، والسنة كان ينزل بها جبرائيل، ويعلمها الرسول الله (، فكان لا يقول قولاً يخالف التنزيل، إلا ما نسخ من قوله بالتنزيل، فمعنى التنزيل ما قال رسول الله ( إذا كان ذلك بإسناد ثبت عنه"اهـ.
قال أبوعبدالله محمد بن نصر المروزي (394هـ) [في كتاب السنة له ص35]: "السنة تتصرف على أوجه: سنة اجتمع العلماء على أنها واجبة. وسنة اجتمعوا على أنها نافلة. وسنة اختلفوا عليها أواجبة هي أم نافلة.(1/205)
ثم السنة التي اجتمعوا على أنها واجبة تتصرف على وجهين:
أحدهما : عمل. والآخر : إيمان.
فالذي هو عمل يتصرف إلى أوجه:
سنة اجتمعوا على أنها تفسير لما افترضه الله مجملاً، في كتابه فلم يفسره، وجعل تفسيره وبيانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَانُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? (النحل:44).
والثاني: سنة اختلفوا فيها فقال بعضهم: هي ناسخة لبعض أحكام القرآن. وقال بعضهم: لا، بل هي مبينة في خاص القرآن وعامه، وليست ناسخة؛ لأن السنة لا تنسخ القرآن، ولكنها تبين عن خاصه وعامه وتفسر مجمله ومبهمه.
والوجه الثالث: سنة اجتمعوا على أنها زيادة على ما حكم الله به في كتابه، وسنة هي زيادة من النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لها أصل في الكتاب إلا جملة الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه وقضائه، والانتهاء عما نهى عنه"اهـ.
فإن قيل : كيف يستقيم أن السنة وحي، وحديث تأبير النخل، فيه : أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما أنا بشر فما خاطبنكم به من رأيي فلا تأخذوا به فأنتم أدرى بشئون دنياكم"[مسلم]- أو كما قال صلى الله عليه وسلم -؟!(1/206)
فالجواب : حديث تأبير النخل دليل على أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأشعر في لفظه أنه من رأيه وأنه من عنده ؛ فهذا الذي يقول عنه: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). وإلا فإن الأصل أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم المجرد عن مثل هذا وحي؛ ولذلك الصحابة لما لم يتبين لهم في مواطن هل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الوحي أو من باب الاجتهاد ، كما في حادثة بدر، قالوا : يا رسول الله ، الرسول في موقعة بدر تقدم كفار قريش إلى المحل فجعل الآبار أمامه وهو وقف من خلفها، فجاءه أحد الصحابة وقال: يا رسول الله أهو وحي أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال : بل الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله ليس هذا هو المحل، قم بنا ، فقاموا وجعلوا الآبار من ورائهم، ولم يجعلوها من أمامهم.
فانظر هنا لما أشكل عليهم سألوه لأنه لا يوجد في عبارته ما يدل على أنه وحي أو غير ذلك، لماذا ؟ لأن الأصل عندهم : أن كل ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وحي.(1/207)
بل وأزيدكم أنهم كانوا يرون أن ما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا لوحي، وكان يلتبس أحياناً عليهم بعض الأشياء، منها ما ورد في حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يحلوا وأن يذبحوا ما ساقوه من الهدي، وهو لم يفعل هذا، فدخل مغاضباً عند أم سلمة فقالت: مالك يا رسول الله ؟ ، فقال : أمرتهم فلم ينفذوا أمري، قالت : يا رسول الله أخرج فاحلق وتحلل واذبح هديك أمامهم ، فخرج فصنع هذا ، فكاد أن يذبح بعضهم بعضاً، إذاً لماذا تأخروا في الأول ؟ لأنهم فهموا من حال الرسول صلى الله عليه وسلم أن قوله وفعله وحي، فهم أرادوا أن يفعلوا مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس أنهم شكوا في اتباع الرسول، بل لأنهم يعلمون أن قوله وحي وفعله وحي معصوم ، لا يفعل شيء من عند نفسه، فقالوا : مادام الرسول لم يحلق معناه أن فيه فضيلة فنبقى مثل الرسول.
وعليه فإن معنى حديث (تأبير النخل) : أن قول الرسول الذي اقترن بأنه رأي من عنده أو ظن من عنده ؛ هو الذي يقال فيه : (أنتم أدرى بشئون دنياكم)، وما لم يقترن بذلك فالأصل أنه وحي من الله، وعلى هذا جرى فعل السلف رضوان الله عليهم.
(120) كذا قال، وغير الشيخ يقول إسناده ضعيف، في السند مجاهيل.
فإن قيل: ما وجه حكم الشيخ عليه بأنه جيد الإسناد؟
فالجواب: لا يخلو حكم الشيخ من أمرين لا ثالث لهما حسب علمي:
الأول : أن يكون استبان للشيخ من حال رواة الحديث ما لم يستبن لنا، فارتفعت جهالتهم عنده ، فجوّد السند.
الثاني : أن يكون الشيخ ، رأى تلقي العلماء للحديث بالقبول، وهذا يفيد ضمناً قوة في رواته، فجوّد إسناده.
فإن قيل: وهل تلقي العلماء للحديث بالقبول، يفيد ثبوت الحديث عن النبي (؟(1/208)
فالجواب : هذا الحديث من هذا القبيل ، قبله العلماء ، نص على ذلك : ابن عبد البر ، والخطيب البغدادي ، وابن القيِّم ، وقبول العلماء لهذا الحديث أقوى من مجرد السند، فقول شيخ الإسلام: "بإسناد جيد"؛ على اعتبار هذه القاعدة ، وهي تلقي العلماء له بالقبول، وهذا من الطرق التي تثبت بها الأحاديث، وهو أقوى من مجرد السند الفرد.
ووجه النكارة التي استشعرها بعض أهل العلم في المتن، أنه قال : هذا الحديث يشعر أنه يمكن أن يكتفى بتفسير القرآن بالقرآن دون السنة، وهذا مخالف لما هو مقرر من أن القرآن يفسر بالقرآن والسنة، و لا يكتفى فقط بالقرآن في تفسيره، والفقيه لا يمكن أن يستغني بالقرآن عن السنة
وتزول هذه النكارة - إن شاء الله تعالى - بما تقدمت الإشارة إليه من أن الترتيب في الحديث ليس هو ترتيب طريقة الاستدلال؛ لكن تقسيم مراتب الدليل من حيث هو فقط، فهذا من جهة الترتيب العام، لا من جهة أن الاستدلال يُستغنى فيه بالقرآن عن السنة، أو يُستغنى فيه بالسنة عن القرآن.
فهذه المراتب للتفهيم والبيان، وإلا فإنه لا يمكن الاستغناء في تفسير القرآن بمجرد القرآن، كما لا يمكن الاستغناء بتفسير القرآن بمجرد السنة، لا بد من القرآن والسنة، وهذا التقسيم - الذي هو للتفهيم والتعليم - يسلكه أهل العلم، من ذلك قولهم : التوحيد ثلاثة أقسام ؛ توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات، علماً بأن الربوبية بمفردها من جاء بها يعتبر كافراً؛ إذا لم يأتِ بتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، لا بد أن يأتي بهذه الثلاثة، من ادعى أنه يأتي بتوحيد الألوهية وهو لا يقر بتوحيد الربوبية، أو بتوحيد الأسماء والصفات؛ يُعتبر كافراً، وكذلك في الأسماء والصفات.
فالقسمة للتعليم والبيان والتفهيم .(1/209)
مثال آخر: الإنسان لا يكون إنساناً إلا بمجموع الجسد والروح ، الجسد بدون الروح يسمى (جثة)، لا يقال عنه إنسان، مجموع الأمرين هما الإنسان، يقال : فلان، جسداً وروحاً، أما إذا غادرته الروح فهو جسد، لمَّا يُقسِّمون ويقولون : الإنسان جسد وروح؛ ليس معنى هذا أنه بأحدهما - فقط - يكون إنساناً، بل هو بمجموع الأمرين.
إذاً هذه القسمة لمَّا نقول : أفضل طرق التفسير ، القرآن بالقرآن ، ثم القرآن بالسنة ، ثم القرآن بقول الصحابة ؛ هذه القسمة لا يُقصد بها أنه يمكن بها تفسير القرآن استقلالاً جميعه بإحدى هذه الطرق، حتى لما جاء الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله المتوفى سنة (1393هـ) ألَّف كتابه : "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"؛ ما مشى في هذا الكتاب على مجرَّد إيضاح آية بآية، إنما هو قال : شَرطي في إيضاح كل آية أُوردُها ، أن يكون قد جاء إيضاحها في آية أخرى، لكنه لم يكتفِ بهذا فقط في التفسير، فهو يقول : أنا أفسر من الآيات التي جاء تفسيرها في القرآن الكريم على هذا الوصف، لكن ليس فقط بالقرآن الكريم، إنما جاء تفسيرها في القرآن الكريم، ثم يدعم تفسيرها بما جاء في الأحاديث والآثار .(1/210)
لا يمكن لإنسان أن يدَّعي أنه يفسر القرآن بالقرآن ، وإلا فإنه سيكون من القرآنيين الذين يقولون بالاكتفاء بالقرآن ، هناك طائفة مبتدعة تقول : إننا نستقل في هذا الدين ، وفي هذا الشرع بالقرآن بمفرده ، أقول : وهم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي جاء فيه قوله: "يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ" [رواه أحمد والترمذي وابن ماجة واللفظ له].
نقول : هذا التقسيم هو للتفهيم والتعليم ، وكذا ما جاء في حديث معاذ بن جبل.
فلو اكتفى شخص في الحكم بالسرقة بما في الآية : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )(المائدة: من الآية38)، وقال: هذا حد السرقة، أنا أعمل بالآية، وجاء يطبق ، فهو إما أنه يقطع اليد من الكف، وإما أن يقطعها من الكوع، وإما أن يقطعها من مفصل الكتف، الآية ليست واضحة في هذا المعنى، فيها الحكم بقطع اليد، كيف يستطيع أن يطبق هذا الحد دون الرجوع إلى السنة؟ ثم كم تكون السرقة، بمعنى ما هو نصاب السرقة الذي إذا سرقه الشخص تقطع يده؟ لا يستطيع أن يحكم بشيء دون الرجوع إلى السنة!
مثال آخر: الله تعالى في القرآن يقول : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ )(النور: من الآية2) ، ذكر حد الزنا بدون تفصيل فمن يقول : أنا أكتفي بالقرآن في حد الزنا، الزنا هذا حكمه؛ فإنه يقال له: هناك الزاني الثيِّب ، هناك الزاني البكر ، هناك من يُكرَه ، هناك من كذا ، من أين يأتي بالحكم لهذه الأحوال بمجرد هذه الآية؟(1/211)
إذاً لا يستطيع إنسان أن يدعي الاكتفاء بتفسير القرآن الكريم بمجرد القرآن ، ولذلك الله سبحانه وتعالى أخبر أن السنة بيان لهذا القرآن فقال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: من الآية44) .
وقاعدة تلقي العلماء للحديث وتداوله بينهم دليل على ثبوته، تجري في مواضع، انظروا مثلاً : حديث "لا ضرر ولا ضرار"، أسانيده فيها ضعف ، لكنه قاعدة شرعية متلقاة بالقبول على أنه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
انظروا مثلاً: القراءات متلقاة بالقبول جيلاً بعد جيل نقلاً متواتراً، لكن أسانيدها المذكورة في أول كتب القراءات فيها رواة ضعافاً، و لا تصل إلى حد التواتر! فكيف صحت القراءات وحكم بتواترها؟ والجواب: هذه الأسانيد لبيان الاختيار لا لثبوت القراءة، فإن القراءة ثابتة بالتلقي جيلاً عن جيل وبهذا التلقي ثبت المتواتر.
كذا هنا في الحديث، وإن لم يَصِلْ إلى حد التواتر، فإن تلقي العلماء للحديث بالقبول كافٍ في إثبات صحته، وهذه من الطرق التي يسلكها أهل العلم لا في كل حديث إنما في الأحاديث التي ينصون عليها ويذكرونها، وهذا السبيل مَهْيَع معروف يسلكه أهل العلم.
انظر كلامهم على حديث "لا وصية لوارث"، و حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، انظروا كلام ابن عبد البر عليه في كتاب (التمهيد) فإنه أشار فيه إلى هذه القاعدة . (أهـ. الدرس الحادي عشر )
(الدرس الثاني عشر 2/11/1423هـ)
(1) حينما يسمع المسلم هذا الكلام هل يأتي في نفسه أن كلام ابن مسعود في تفسير القرآن اجتهاد منه ؟! لا أحد يأتي في نفسه هذا، لكن الناس يتهاونون في تفسير الصحابة ، إلا من رحم ربُّك، وهذا القول يؤكد ما تقدم من خصوصية تفسير الصحابي.(1/212)
(122) (الفقه في الدين) ليس المقصود به كثرة العلم بالمسائل؛ إنما الفقه في الدين هو: ما يكون في نفس المرء من الخشية لله المقتضية للالتزام بحكم الله، إن كان أمراً بامتثاله، وإن كان نهياً بالانتهاء عنه، فالفقه في الدين هو هذه الخشية، قد يكون إنسان عامي ليس من العلماء لكنه فقيه في الدين، بمعنى : أن وازع الخشية والتعظيم والمتابعة عنده قوي، وقد يوجد إنسان عالم بالمسائل الفقهية وبمسائل العلم؛ لكنه ليس بفقيه في الدين .
قوله : "وعلمه التأويل"، التأويل يذكر عند السلف وفي نصوص الكتاب والسنة بمعنيين :
1- بمعنى : الإيضاح والبيان .
2- ويطلق بمعنى : حقيقة الشيء، فمثلاً : تأويل كلمة (ارفع الكتاب) أن أرفع الكتاب، وتأويل كلمة ( قم ) أن أقف، فهذا تأويل الكلمة، ومنه في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام المذكورة في القرآن قال : (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْياي) (يوسف: من الآية100)، يعني : هذا الذي حصل هذا حقيقة الرؤيا التي رأيتها .
وللتأويل مصطلح حادث وهو : استعمال اللفظ لغير ما وُضِعَ له، وهذا المعنى حادث لا يُحمل عليه كلام السلف ولا كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وعلمه التأويل"، يعني: التفسير وحقائق المعاني، فهو دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما، بأن يقوِّي لديه الوازع الديني بتعظيم الله ومتابعة شرع الله والعمل بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يرزقه بصيرة وفهماً يتبين بها ويتضح له بها معاني النصوص .
ما الفرق بين التفسير والتأويل ؟
التفسير : المعاني الظاهرة ، والتأويل : المعاني الباطنة الخفية التي لا تظهر إلا بتقدير ، وتحتاج إلى نوع بُعْد.
إذا قلنا : إن المنطوق خمسة أنواع : النص والظاهر والمؤول والاقتضاء والإشارة ؛ فإن النص والظاهر ؛ باب التفسير، والتأويل والاقتضاء والإشارة باب التأويل.(1/213)
وكلمة (فَسَر) هي الوضوح، وفي اللغة العربية : قارورة البول الذي يؤخذ للطبيب ليعاينه وليعرف حال المريض في التحليل نسمي هذه القارورة ( تَفْسِرَة )، قالوا : لأن الطبيب يفسِّر بها حال الشخص المريض صاحب البول .
والتأويل هو تفسير لكن بنوع دقة ، وبنوع نظر وتأمُّل ، فهي معانٍ غير ظاهرة بادئ ذي بدء.
(123) سبق الكلام عن قضية (الإسرائيليات)، وسبق الكلام أن الصحابي لما يورد إسرائيليات؛ فالذي يُظَنُّ به أنه لا يورد من الإسرائيليات ما يخالف شرع الله، إنما يُورد من الإسرائيليات ما يوافق شرعنا أو ما لا يُخالف ولا يوافق ، ولا حرج في إيراده للترخيص النبوي، و سبق بيان أنه لا ينبغي أن تتجرأ على ما جاء عن الصحابة فنقول: إنه من الإسرائيليات؛ قبل النظر والتأمل، بل أقول : الأصل أن ما يأتي من الصحابة أنه ليس من الإسرائيليات حتى تقوم قرينة دالة على هذا. وإن ثبت أنه من الإسرائيليات فهو مما تجوز حكايته!
(124) يعني : لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، وسبق في أول الدروس: إن الأحاديث في هذا الباب جاءت فيها نوع اختلاف ، ولكن كل حديث حالة ، جاء حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال - لما رأى عمر بن الخطاب يطالع صحيفة من التوراة - : "أمتهوكون فيها يا ابن الخطَّاب ؟! والله لو أن موسى حياً لما وَسِعه إلا اتباعي"، فهذا الحديث يفيد كراهية النظر في كتب أهل الكتاب ، حديث ثانٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ) ، وحديث ثالث قال : ( حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، فهذا الحديث يفيد أنه يجوز مطلقاً التحديث عن أهل الكتاب ، وقلنا : إن هذه الأحاديث يُجمع بينها بتقسيم أنواع المنقول عن بني إسرائيل إلى ثلاثة أنواع :
1- فالذي يُنقَل عن بني إسرائيل ويخالف شرعنا ؛ فهذا نردُّه ولا تجوز حكايته إلا مع قرنه بالرد .(1/214)
2- الذي يوافق ما عندنا ؛ فهذا لا حرج من روايته .
3- الذي لا يوافق ولا يخالف ؛ فهذا لا حرج من روايته ومن ذكره، دون أن نصدقه أو نكذبه.
على هذا الأساس ترى بعض المفسرين يجرون في تفاسيرهم على إيراد الإسرائيليات التي توافق ما عندنا ، أو لا توافق ولا تخالف؛ إنما فيها إيضاح لبعض المبهمات ، تمسكوا بهذا الجواز .
(125) يعني عن أهل الكتاب في بيان المبهمات.
(126) هذا القول الأول في عدد أصحاب الكهف.
(127) هذا القول الثاني في عدد أصحاب الكهف.
(128) هذا رد من الله تعالى للقولين السابقين.
(129) هذا القول الثالث، ذكره ولم يتعقبه بما يبطله، كالقولين السابقين. وأرشد إلى الأدب في مثل هذه المواطن المبهمة التي لا يترتب عليها عمل ، نكل علمها إلى الله سبحانه وتعالى .
(130) وهذه قاعدة نافعة، في كل حكاية وقعت في القرآن العظيم ، ولم يتعقبها أو يسبقها رد لها، فهي حق، إذ لو كانت باطلة لردها سبحانه.
فإن قيل: كيف يستقيم هذا الأمر؟
فالجواب: ألسنا نقول أن إقرار الرسول ( سنة، لأنه معصوم، فكيف في حق القرآن الكريم الذي هو كلام الله، وفي هذا المعنى يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات (3/353): "كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أوْ لا؛
فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه.
وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه.
أما الأول فظاهر، ولا يحتاج إلى برهان. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء)، فأعقب بقوله: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) الآية.
وقال: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) الآية فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله: (بزعمهم).
وبقوله: (ساء ما يحكمون) ثم قال: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) إلى تمامه، ورد بقوله: (سيجزيهم بما كانوا يفترون).(1/215)
ثم قال: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة) الآية، فنبه على فساده بقوله: (سيجزيهم وصفهم) زيادة على ذلك.
وقال تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) فرد عليهم بقوله: (وقد جاءوا ظلما وزورا).
ثم قال: (وقالوا أساطير الأولين) الآية، فرد بقوله: (قل أنزله الذي يعلم السر) الآية.
ثم قال: (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا)، ثم قال تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا).
وقال تعالى: (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا) إلى قوله (أأنزل عليه الذكر من بيننا)، ثم رد عليهم بقوله: (بل هم في شك من ذكري) إلى آخر ما هنالك.
وقال: (وقالوا اتخذ الله ولدا)، ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله: (بل عباد مكرمون)، وقوله: (بل له ما في السموات والأرض)، وقوله سبحانه: (هو الغني) الآية، وقوله: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض) إلى آخره وأشباه ذلك.
ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر.
وأما الثاني فظاهر أيضا ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها؛ فإن القرآن سمي: فرقانا، وهدى، وبرهانا، وبيانا، وتبيانا لكل شيء، وهو حجة الله على الخلق على الجملة، والتفصيل والإطلاق والعموم وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه.
وأيضا فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا، ويمنعه قوم لا من جهة قدح فيه ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك، فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط.
ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول. كقوله تعالى: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) الآية.(1/216)
وقوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه) الآية، وكذلك قوله تعالى: (من الذين هادوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين) فصار هذا من النمط الأول.
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا كحكايته عن الأنبياء والأولياء ومنه قصة ذي القرنين وقصة الخضر مع موسى عليه السلام وقصة أصحاب الكهف وأشباه ذلك"اهـ
(131) يعني الشيخ ما كان من الأقوال معتبرا ، وليست من باب أقوال أهل البدع والضلالات بحيث يضيع معها القول الصواب و لا يكاد يبين، وفي هذا المعنى يقول الذهبي: رحمه الله[مسائل في طلب العلم وفضله للذهبي ص209، ضمن ست رسائل للذهبي تحقيق جاسم الفهيد الدوسري]: "في تفسير القرآن: منه ما هو حتم. ومنه ما هو مستحب. و[منه] مباح. و[منه] مكروه؛ فكثرة الأقوال في الآية مع وهنها وبعدها من الصواب الذي هو وجه واحد دل السياق الخطاب العربي عليه؛ مكروه حفظها والاعتماد عليها؛ فإن القول الصحيح يضيع بينها.
والمحرم حفظ تفسير القرامطة الإسماعيلية وفلاسفة المتصوفة الذين حرّفوا كتاب الله، فوق تحريف اليهود، مما إذا سمعه المسلم بل عامة الأمة ببداءة عقولهم علموا أن هذا التحريف افتراء على الله وتبديل للتنزيل. ولا استجيز ذكر أمثلة ذلك، فإنه من أسمج الباطل"اهـ.(1/217)
(132) هذا ناقص بحسب المقام، فإذا كان المقام يقتضي الذكر ولم يذكر ؛ فهذا ناقص، لكن أحياناً المقام لا يساعد على أن يستوعب المفسر أقوال المخالفين، مثلاً الآن عامي يسأل عن معنى آية، أقول له : تفسير الآية فيه خلاف ، والصحيح كذا، أو الراجح كذا؛ فهذا جواب يناسب حال هذا العامي، بل أحياناً العامي لا يحتاج من الجواب إلا أن تَذكر له الصواب، وهذه الطريقة ترونها كثيراً عند الشيخ ابن باز وعند المشايخ الكبار - حفظ الله الأحياء منهم ورحم الأموات -، وهذا ليس قصوراً علمياً فيهم ، ولا نقصاً فيهم ؛ ولكن هذا يناسب المقام، إذ الخطاب مع العامي ليس كالخطاب مع طالب العلم، وليس كالخطاب مع العالم.
(133) والخلاصة أن حكاية الخلاف يراعى فيه الضوابط التالية:
الضابط الأول : استبعاد الأقوال التي هي من جنس أقوال أهل البدع والأهواء ، أو نُصرتهم..
الضابط الثاني : حكاية الأقوال التي لها حظ من النظر، إذ ما عداها لا اعتبار له.
الضابط الثالث : أن تراعي حال من يتوجه الكتاب له، فإن كان الكتاب يتوجه إلى طبقة العوام ؛ فلا تذكر من الأقوال والخلافات ما يشتتهم ويضعِّف القول الراجح في أذهانهم، لأنه كما قال الذهبي : قد يؤدي تعداد الأقوال إلى إضاعة القول الصواب.
الضابط الرابع : أن تحرِّر هذه الأقوال فتنظر فيها فقد يكون في المسألة عشرة أقوال مآلها إلى قولين ، ويكون ذِكْر هذه الأقوال من باب اختلاف التنوع ، أو اختلاف العبارة والمعنى واحد.
الضابط الخامس : تذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يطول الخلاف والنزاع فيما لا ثمرة له و لا فائدة.
الضابط السادس : أن يعقب ذكر الخلاف بالتنبيه على الصواب من الأقوال.
(الدرس الثالث عشر 29/12/1423هـ)
(1) التابعي من رأى الصحابي مسلماً. وما أضيف إلى التابعي يسمى مقطوع. وقد يأتي في كلام التابعي ما له حكم الموقوف. وما قال فيه التابعي قال رسول الله ، يسمى مرسلا.(1/218)
(135) هذا الأثر وأمثاله مما سيأتي ذكره فيه دليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسَّر جميع القرآن، وإلا فمن أين للصحابي أن يعرف تفسير كل القرآن يوقفه التابعي عليه آية آية.
وهذا تفنن من المصنف إذ هو من رد الأعجاز على الصدور، إذ استفتح رسالته بالكلام عن تفسير الصحابة والتابعين، والآن هو يرد الأعجاز إلى الصدور.إذ هذه الآثار فيها دليل لما سبق.
وقد ذكرت فيما سبق سبعة أدلة أشار إليها شيخ الإسلام، أو ستة أدلة في أول مسألة أوردها في هذه المقدَّمة، وهي بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات إلا وقد فسَّر جميع القرآن العظيم، وكنا قد أشرنا هناك إلى أن تفسير الرسول لجميع القرآن منه ما فسره بأقواله ومنه ما فسره بأفعاله ، ومنه ما فسره بتقريراته صلى الله عليه وسلم، وليس ببعيد عنكم قول السيدة عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن"، من الأدلة التي أشار لها الشيخ: الآثار الواردة في أن الصحابة فسروا جميع القرآن، فأقول : من أين لابن عباس أن يفسر جميع القرآن؟! من أين له ذلك إن لم يكن تلقاه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجح ما ذهب إليه البخاري وغيره من أهل العلم : أن أقوال الصحابة في تفسير القرآن مما له حكم الرفع، الآن هذا مجاهد بن جبر يقول : "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية"، معنى ذلك : أنه فسر له القرآن آية آية . ومر معنا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "والله الذي لا إله إلا هو ما من آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيمن نزلت ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه" أو كما قال رضي الله عنه، من أين لابن مسعود رضي الله عنه هذا التفسير؛ إذاً هذا مما يؤيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات إلا وبيَّن جميع القرآن الكريم، وهذا فيه بيان مدى أهمية وخطورة التفسير الوارد عن الصحابة رضوان الله عليهم ، و عن التابعين الذين شهد لهم أهل العلم(1/219)
بأنهم تلقوا التفسير عن الصحابة رضوان الله عليهم، فلهم خصوصية في التفسير.
(136) هذه العبارة يستعملها المحدث إذا أورد إسناد نفسه، ثم أراد عطف إسناد آخر، من نفس الطريق فإنه يأتي إلى مدار السند ويقول: "به"، أي بالسند السابق نفسه، ثم يسوق الطريق، ومعنى هذا أن ابن تيمية ساق سنده إلى رواية ابن إسحاق، ولعل الناسخ لم يكتبه اختصاراً، أو أن النسخة التي بين أيدينا مختصرة، والله اعلم بحقيقة الحال.
(137) نعم ! الصحابة رضوان الله عليهم سمعوا القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يُقرئ الصحابة القرآن كلاً بحسب ما هو أقرب لحال لسانه ولحاله ، وذلك أن القرآن أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بسبعة أحرف ، والحرف في قوله عليه الصلاة والسلام : "أُنزل القرآن على سبعة أحرف"، يعني : القراءة التنزيلية ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد يُقرئ هذا الصحابي بحرف لا يُقرئ عليه الصحابي الآخر، وقد يقع في هذا الحرف من البيان ما لا يقع في الحرف الآخر ، يبدو أن القراءة التي أخذها ابن مسعود ، أو كان ابن مسعود له اهتمام بأن يسمع أو يقرأ القرآن على الحرف الأكثر بياناً ، فكان حرفه في قراءة القرآن مما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر بياناً ، ولذا يقول هذا التابعي - مجاهد - : لو كنت قرأت القرآن على قراءة ابن مسعود ؛ لم احْتَجْ أن أسأل ابن عباس عن كثير مما سألت ، لماذا ؟ لأن الحرف الذي قرأ عليه ابن مسعود أكثر بياناً من الحرف الذي قرأ عليه ابن عباس ، أو أن ابن مسعود كان أكثر اهتماماً بجمع أحرف القراءة المفسرة الواضحة، لأن القراءات السبع - وليس المقصود بالقراءات السبع هنا : القراءات السبع المعروفة ، إنما المراد بها القراءات السبع التنزيلية التي نزل بها القرآن ، الآن القراءات السبع هذه والقراءات العشر المتواترة عندنا هي قراءات اختيارية ترجع إلى الحرف الواحد ، أو إلى القراءة(1/220)
الواحدة التي جمع عليها عثمان الناس ، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( أُنزل القرآن على سبعة أحرف ) ، يعني : سبع قراءات تنزيلية ، وليست هذه الاختيارية ، هذه القراءات السبع أو العشر المعروفة الآن : قراءة حفص عن عاصم ، وقراءة ورش عن نافع ، وقراءة ابن عامر ، وقراءة أبي العلاء ، وقراءة الكسائي ، وغيرها ، هذه قراءات اختيارية مما اختاره كل قارئ من الحرف الذي جمع عليه عثمان الناس ، فإن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على حرف واحد وقراءة واحدة على مصحف واحد ، هذا المصحف الواحد الذي جمع عليه عثمان الناس اشتمل على لسان قريش ، وما شابه رسمه من سائر الأحرف ، بمعنى : أن هذا المصحف الموجود بين أيدينا الآن لا يشتمل على كل الأحرف السبعة ؛ إنما يشتمل على الحرف الذي نزل على وفق لسان قريش وما وافق رسمه من سائر الأحرف، وكل القراءات السبع أو العشر الاختيارية ترجع إلى هذا الحرف الذي جمع عليه عثمان الناس .
إذاً القراءات السبع الاختيارية ، أو العشر الاختيارية شئ ، وقولي : القراءات السبع التنزيلية التي هي معنى الأحرف السبعة شئ آخر ، يكفي أن تعلم أن القراءات السبع الاختيارية أو العشر الاختيارية المتواترة ترجع إلى المصحف الذي جمع عثمان عليه الناس ، وهو المتضمن لرسم الحرف الذي نزل على لسان قريش ، وما وافق رسمه من سائر الأحرف ، بمعنى أنه لم يشمل جميع الأحرف السبعة ، يكفي أن تعلم هذا .(1/221)
إذاً هناك بعض القراءات التي هي من الأحرف السبعة لا يتضمنها مصحف عثمان ، بعض أهل العلم يقول : يغلب على الظن أنها القراءات الآحادية صحيحة السند المنقولة عن الصحابة والمخالفة لرسم المصحف ، يسمونها قراءة آحادية ، وتوصف بالشذوذ - عندهم - بمعنى أنها خالفت الرسم ، لا بمعنى أنها لم تصح ، إنما هي صحيحة ولكنها بسند آحادي ، يقولون : هذه القراءات يغلب على الظن أنها من الأحرف السبعة التي لم تدخل في مصحف عثمان - رضي الله عنه - ، وبعض المفسرين يقول : هذه قراءة تفسيرية ، فيقول : هذا تفسير من الصحابي أدخله في أثناء القراءة ، وعلى هذا المعنى الثاني ، يكون معنى كلام مجاهد في قراءة ابن مسعود أي : أن ابن مسعود كان يُدخل تفسيراً منه في ثنايا القرآن ، ولكن هذا لا يليق ، عرفت ، إلا أن نقول : إن ابن مسعود كان في مصحفه تمييزاً لهذا بشيء من الحرف ، أو من الرسم ، أو من الكتابة ، ولكن هذا المعنى لا يليق ، قد يصح أن نقول : إن قراءة ابن مسعود كلها بهذه الطريقة ، يُدخِل في القرآن تفسيراً من عنده لمعانيه ، يصير المعنى المراد إذاً قراءة ابن مسعود : أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يعتني بالأحرف التنزيلية التي فيها زيادة بيان عن باقي الأحرف ، وكان شديد العناية بها ، وعُرف بهذه القراءة ، فقال التابعي : لو أني قرأت على قراءته لما احتجت أن أسأل عن كثير مما سألت عنه ابن عباس .(1/222)
وكتاب ( المصاحف ) لأبي داود موجود وفيه ذكر مصاحف الصحابة ، كيف كان ترتيبها ، ويتضمن كثيراً من الآيات التي كانت في مصاحفهم وتخالف الرسم العثماني ، وذلك عند العلماء محمول على أنها - في غلبة الظن - من الأحرف السبعة ، لماذا لا نقول : إنها قرآن ؟ قالوا : القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وهذه ما جاءت إلا بأسانيد آحادية . لكن هل يجوز أن نصلي يها ؟ قالوا : لا تجوز الصلاة إلا بما هو قرآن ، ومنهم من أجاز الصلاة بها فيما ليس بواجب ، وقد أجمع العلماء على النكير على ابن شنبوذ ، وابن قاسم لما صلوا في المحراب في صلاة العامة بمثل هذه الأحرف ، وممن قام عليهم في هذا ، ابن مجاهد صاحب كتاب : ( السبعة ) .
فهي تصح من حيث المعنى والتفسير ، بل الجزم برفعها من أظهر ما يكون ، إذ يبعد جداً أن يُدخل الصحابي تفسيراً منه في أثناء آية لو كان تفسيراً إلا ويكون سمعه ، وقد سبقت الإشارة إلى هذا .
(138) وهذا سبق بالتمثيل من كلام شيخ الإسلام حينما تكلم عن اختلاف التنوع واختلاف التضاد.
(139) سبق شرح هذا المعنى، حيث تكرر التنبيه إلى أنه ينبغي الرجوع إلى الحقيقة الشرعية في تفسير ألفاظ القرآن والسنة، فإن لم توجد صرنا إلى الحقيقة العرفية من لغة الصحابة، فإن لم توجد صرنا إلى لغة العرب.
…فإن قيل : لماذا قدم الشيخ هنا عموم لغة العرب على أقوال الصحابة؟(1/223)
فالجواب : إنما يرجع إلى تفسير التابعي إذا لم يجد المفسر تفسير الصحابة، فالفرض أنه لا يوجد تفسير للصحابة، فلو كان عندنا في تفسير الآية أقوال عن الصحابة، وجاءت أقوال عن التابعين في تفسيرها، فإن الأصل أن كلام التابعين لن يخالف كلام الصحابة، فإن فُرِض أن بعض أقوال التابعين خالفت أقوال الصحابة؛ فالراجح ما وافق كلام الصحابة، وانتهينا. لكن افرض ما وجدت أقوال للصحابة في تفسير الآية؛ إنما جاء في الآية تفسير عن التابعين واختلفوا ، فإنك ترجح بحسب لغة القرآن ، أو عموم لغة العرب ، أو لغة أقوال الصحابة. هذا محل كلام الشيخ. أو أن يقال: إن (أو) في كلامه هنا ليست للترتيب. والله اعلم.
(140) انتبهوا لقوله: "على المنبر"فهو يريد تعليم الناس؛ فهذه الآثار ، المراد منها كما قال الشيخ تعليم الناس أن لا يتكلفوا في تفسير القرآن العظيم ما لا علم لهم به، أو منع الناس من تكلف طلب حقائق الأشياء المذكورة في القرآن، والتشديد في التنقير عنها، فإن هذا من التكلف الذي ذمه الصحابة والتابعون، وعليه تحمل هذه الآثار.
(141) هذا محمله أنهم كانوا يكرهون السؤال الذي يفتح باب فتنة، أو بدعه حتى لو يعلم الجواب، يعني: أن يخوض الناس في الكلام عن موضوعٍ الأفضل ألا يخوضوا فيه، كانوا يكرهون مثل هذا السؤال، مع علمهم بالجواب.(1/224)
من ذلك : لما جاء ذاك السائل يسأل الإمام مالك بن أنس عن الاستواء ، يقولون : فسكت مالك حتى علته الرحضاء ، يعني : تصبَّب عرقاً وحُمَّ مطرقاً ، ثم بعد ذلك أجاب وقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، وأنت صاحب بدعة ، فأمر بإخراجه من المجلس ، لماذا قال : أنت صاحب بدعة ؟ لأنك أثرت السؤال في موضوع يفتح فتنة بين الناس .ومن ذلك الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن رجل أنه كان يكثر السؤال في مثل هذه المسائل، اسمه : صبيغ بن عسل التميمي، هذا كان يسأل مثل هذه الأسئلة، وبلغ عمر ، فلما رآه واستفتح السؤال؛ علاه بالدرة - وهي عصا صغيرة كانت معه يعلو بها الناس ، أو يضرب بها الناس إذا رأى شيئاً يخالف السنة ، أو يخالف الشرع - علاه بهذه الدرة وضربه بها وأمر بنفيه، حتى تاب ووعد أن لا يعود.
(142) "اتق الله وعليك بالسداد"، وفي الحديث : "سددوا وقاربوا"، ما معنى "سددوا وقاربوا"، و "عليك بالسداد"؟ السداد يعني : عليك بلزوم السنة، وقاربوا يعني : اعمل من العمل ما تطيق وقارب بين أعمالك، فسددوا وقاربوا، أي : احرصوا على اتباع السنة ، وقاربوا بين أعمالكم ولا تحملوا أنفسكم ما لا تطيقون ، وبدلاً من أن تعملوا العمل في وقت واحد؛ اجعلوه على فترات. ( أهـ الدرس الثالث عشر ) .
(الدرس الرابع عشر 6/1/1424هـ)(1/225)
(1) هذا الكلام - وإن لم يثبت بسند صحيح - إلا إنه يدل أنه كان معروفاً عند السلف رضوان الله عليهم مراعاة ما يُعرف بالسياق، وذلك أن العلماء - رحمهم الله - ذكروا أنه ينبغي أن يكون التفسير - إذا كان باجتهاد المفسر بحسب اللغة - أن يكون متفقاً مع سياق الآية، فينظر ما قبلها ، ويُسمى السباق ، وينظر ما بعدها ويسمى اللحاق، والسياق هو : الجو العام ، يشمل السباق واللحاق، فإذا أردت أن تفسر آية من كتاب الله بتفسير تجتهد فيه بحسب اللغة ومراعاة الأصول ؛ ينبغي أن تراعي في هذا التفسير موافقة السياق فتنظر ما سبق الآية ، وهو السباق ، وتنظر ما أتى بعد الآية ، وهو اللحاق.
ومن علوم القرآن ما يقوم على أساس مراعاة السياق، وهو العلم المعروف بعلم المناسبات، أو ما عرفه به بعضهم من أنه: العلم الذي يُعرف به علل ترتيب سور القرآن وآياته. هذا العلم يعتني عناية خاصة بالسياق ، وهي في الحقيقة قاعدة عظيمة جدا، أعني قاعدة مراعاة دلالة السياق على المراد من النص، فإن النص الشرعي إذا نزعته من سياقه يفيد معنى، فإذا ما نظرت في سياقه تغير هذا المعنى، وتذكرون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال : "ليس من البر الصيام في السفر" فإن من نظر إلى هذا الحديث، دون النظر في السياق الذي جاءت فيه، سيفهم أن الصوم في السفر ليس من البر، بمعنى : أنه محرم ، أو ممنوع منه شرعاً، لكن حينما تنظر أن هذا الحديث جاء في سياق رجل صام في السفر فشق عليه الصوم حتى أُغمي عليه ، نقول عندها : إذاً معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "ليس من البر ...": إذا أدى إلى مثل هذه الحالة التي صار إليها حال هذا الرجل.(1/226)
خذوا مثالاً آخر : حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال : "من صلى صلاتنا هذه ووقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه"، إذا نظرت لهذا الحديث مجرداً عن سياقه، ستقول: صلاة الفجر في مزدلفة شرط في صحة الحج، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "من صلى صلاتنا هذه ووقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار"[الترمذي ةالنسائي]، لكن حينما ترجع إلى سياق الحديث تجد أن هذا الكلام جاء في سياق جواب من الرسول صلى الله عليه وسلم لمن سأله في ذلك الوقت والمقام، فجاء الجواب مطابقاً لسؤال السائل ولحاله، وهو عروة بن المضَّرِّس - قال : يا رسول الله ! ما تركت من حَبَل ولا جبل إلا ووقفت عليه أليَ حج ؟ فكان سؤال السائل في وقت صلاة الفجر، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين الجواب، وطابق في جوابه حال السائل، ولم يرد أن يجعل أن هذا شرطاً في صحة الحج، فكأنه قال : هذا الذي يسأل وصلى معنا الفجر ، فالذي صلى معنا الفجر ووقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تمَّ حجه، فقوله : "من صلى صلاتنا هذه"، هو موافقة لحال السائل، وليس قيداً في الحكم. كيف استفيد هذا؟الجواب: بدلالة السياق.
هذا الأمر نفسه نحن نستعمله في تفسير القرآن الكريم ، ونقول : لا بد من مراعاة السياق في تفسير الآية ، فلا تأتِ بتفسير يجعل الآية نشازاً مخالفة لما قبلها ومخالفة لما بعدها ، وهذا فيه إشارة إلى علم يُعرف بعلم المناسبات، وهو : المعنى الذي يربط بين الآية والآية ، أو بين السورة والسورة .
(144) الفقيه يوقع عن الله في بيان الحكم الذي يفتي فيه، ولذا صنف ابن قيم الجوزية كتابه الفذ "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، والمفسر ينقل للناس المعنى الذي أراده الله بكلامه، فهو رواية عن الله، فالأمر شديد، فانظر ماذا تقول!!
(145) لا يخلو الأمر من حالتين :(1/227)
الحال الأولى : أن يكون ما تتكلم فيه فيما سُئلت عنه هو آية أو حديث أو آثار مروية عن السلف ؛ فهذا هو العلم، لأن العلم إما أن يكون آية محكمة، أو سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو قول عن الصحابة ؛ فهذا إذا سُئلت عنه - وأنت تعلمه - ولم تُجب، أثمتَ يوم القيامة.
الحال الثانية : أن يكون ما تتكلم به، هو من الاجتهاد والاستنباط منك، فلا يلزمك أن تتكلم، إذ الأمر فيه واسع، إذا لم يتعيَّن عليك الكلام فيه، ولا إثم عليك.
إذاً محل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : "من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار"، هو في ما كان من رواية : نقل آية أو حديث أو أثر ، لأن هذا هو العلم، ويدخل في حكمه الإجماع، أو القياس الذي صححه أهل العلم، تنقله للسائل، فهذا علم يحرم عليك كتمانه .
أما ما كان من الاجتهاد غير المتعيِّن عليك؛ فليس من العلم الذي تأثم إذا كتمته، لأن هذا اجتهاد ليس بعلم، ثم هو لم يتعين عليك ، فلا نقول : إن أي شيء تُسأل عنه أيها الطالب ، أيها العالم ، ينبغي لك أن تتكلم فيه ، وأنك إذا لم تتكلم فيه تدخل تحت قوله (: "من سئل عن علم فكتمه ..." الحديث، لأن هذا ليس بعلم، وإنما هو باجتهاد منك، بالظن أو الظن الراجح، لكن ليس من العلم المتيِّن إبلاغه فيأثم الساكت عنه خاصة إذا أنت لست ممن تعيَّن عليه الإفتاء، وبالتالي تعيَّن عليه الاجتهاد فيما يُسأل عنه ، أنت في مندوحة أن تدخل تحت طائلة : "من أفتى بغير علم ..." أنت في مندوحة عن ذلك، ولست بداخل تحت: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار"، لست بداخل تحت هذا ، لأن الحديث تكلم عما هو علم ، والعلم هو : آية محكمة، أو سنة نبوية صحيحة ، أو أثر عن السلف رضوان الله عليهم، من الصحابة والتابعين، ويدخل في حكم ما سبق : الإجماع الصحيح المعتبر، أو القياس الصحيح المعتبر.
(146) قول ابن عباس رضي الله عنه أصل عظيم من أصول التفسير ، يقول التفسير على أربعة أنحاء :(1/228)
النوع الأول : تفسير يعلمه العرب، أي : يُعرف من كلام العرب، ومن دلالاتها، ومن لسانها، لأن القرآن العظيم أُنزل بلسان عربي مبين، فهذا النوع من التفسير يُرجع فيه إلى كلام العرب، وهذه مقتضيات اللسان العربي.
النوع الثاني : لا يُعذر أحد بجهله، وهو ما يتعلق بمعرفة أحكام الدين: الصلوات، الزكاة، الصوم، الحج، فالآيات التي تضمَّنت الأمر بهذه العبادات الواجبة؛ وما يتعلق بوحدانية الله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، ورسالة النبي (، وبلاغه ودعوته، فإنه لا يُعذر أحد بالجهل بها ، كل ما وجب على المسلم القيام به في عبادته إذا ما ذُكر في القرآن فإنه لا يُعذر أحد بجهله.
لا يُعذر أحد بجهل : (أقيموا الصلاة)، لأنه مطالب بالصلاة في كل يوم وليلة خمس مرات، فإذا لم يَعرف كيف يقيم الصلاة؛ فهو جهل لا يُعذر به، لأن هذا واجب ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: ما تعيَّن على المسلم طلبه؛ فإن الجهل به لا يرفع عنه الإثم، لأنه واجب عليك أن تتعلم، فإذا قصَّرْتَ في تعلُّم هذا الواجب عليك فقد أثمتَ، وجهلك لا يرفع عنك الإثم.(1/229)
وهذا معنى ما جاء في الأحاديث : أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما شاهد رجلاً يصلي صلاة لا يُتم ركوعها ولا سجودها ، فقال له: لو مُتَّ على هذه الصلاة لمت على غير فطرة الإسلام، وهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "ارجع فصلِّ فإنك لم تصل"، ولم يعذره بجهله، لا نقول: هو جاهل، وصلاته مثل ما يفعلها فربنا يقبلها، لا "ارجع فصل فإنك لم تصل"، "ولو مت على هذا لمت على غير فطرة الإسلام"، يعني: في هذا العمل، فالجهل ليس بعذر في عدم تعلم ما يجب عليك، أنت تعرف نفسك لا تحسن إقامة الصلاة، لا تحسن إيتاء الزكاة، لا تحسن أحكام النكاح، لا تحسن أحكام الطلاق، وأنت تحتاجها؛ فهو مما يجب عليك تعلمه، فقصورك فيه يلحقك فيه الإثم، ما يعذرك الجهل، الجهل لا تعذر به، فإنك آثم، وواجب عليك أن تطلب العلم بهذه الأمور من الدين التي تحتاجها لتقيم شرع الله على نفسك، وتقصيرك أنت آثم فبه ، فإذا بذلت وسعك وطاقتك في الطلب، ومع ذلك ما وجدت فأنت هنا معذور، أما إذا لم تسع ولم تطلب العلم فأنت لست معذوراً بالجهل، فهذا النوع من التفسير لا يعذر أحد بجهله، وهو ما يتعلق بتفسير القرآن الكريم، [أصول العقيدة، وأركان الإسلام] والمعاملات التي يحتاج المسلم إلى تعلمها.
النوع الثالث : تفسير يعلمه العلماء، وهو تفسير الآيات الأخرى التي لا يعلمها عوام الناس.
النوع الرابع : تفسير لا يعلمه إلا الله، وهو ما يتعلق بكيفية صفاته، وحقيقة أمور الجنة والنار التي ذكرها الله عزوجل في القرآن العظيم.
والقرآن الكريم لا يوجد فيه ما لا يُعلم معناه، فمن قال : إن في القرآن شيء لا يعلم معناه فقد قال بقول أهل البدع .(1/230)
ونبَّه بعض أهل العلم إلى أن العبارة التي يذكرها بعض الناس في الأحرف المقطعة، حيث يقولون: "الله أعلم بمراده منها"، بمعنى : أنه لا يبين معناها، قالوا : هذا تفسير الأشاعرة، ليس تفسير أهل السنة والجماعة، فليس في القرآن ولا في السنة ما لا يُفهم معناه ، وإلا لزِم منه أن يكون الله قد خاطب الناس بما لا يُعلم معناه، ولزم منه تقصير الصحابة في السؤال وطلب العلم بما خوطبوا به.
فإن قيل : ما معنى قول ابن عباس في النوع الرابع : تفسير لا يعلمه إلا الله ؟
فالجواب : قال العلماء معناه : معرفة حقائق الأمور، وما أبهمه و أعلم أنه لا يعلمها إلا هو، مثلاً : الاستواء معلوم، لكن كيف الاستواء؟ ما حقيقته؟ الله سميع بصير، كيف سميع بصير؟ ما حقيقته؟ ليس كمثله شيء، تُثبت المعنى وتَكِل الكيفية إلى الله. معرفة القيامة؛ لكن متى تقع وكيف؟ لا نعرف. أمور الجنة والنار ، أمور من الأشياء الغيبية التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، فنحن نذكر معناها بحسب ما دل عليه الشرع، أو بحسب اللغة، أو ما اتفق عليه أهل العلم، ولكن نَكِل حقيقتها إلى الله.
فهذا النوع هو الذي أراده ابن عباس بقوله : "وتفسير لا يعلمه إلا الله"، وهو أحد القولين في تفسير قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) (آل عمران:7)؛
من وقف عند قوله : (إلا الله) قال: المراد بالتأويل : حقيقة الشيء، فلا يعلم حقيقة الأمور إلا الله سبحانه وتعالى.(1/231)
ومن وصل قال : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، من وقف عند (الراسخون في العلم) قال : المراد هنا بالتأويل : التفسير وبيان المعنى. فإذا كان المراد بالتأويل حقيقة الشيء؛ يجب أن تقف على (وما يعلم تأويله إلا الله)؛ لأن هذا لا يعلمه إلا الله.
(والراسخون يقولون آمنا به كل من عند ربنا)، وهذا هو الراجح في هذا الموطن، أن الوقف عند لفظة الجلالة.
وعلى القول الثاني : أنك تقف عند (العلم)؛ فعليه يكون المراد بالتأويل : التفسير بمعنى بيان المعنى، لا حقائق الأشياء، فهذا يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، لأنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة ما لا يعلم معناه إلا الله من حيث المعنى، أما من حيث الحقيقة فهناك أشياء لا يعلم حقيقتها إلا الله، يكفي أن تعلم أنه ليس في الدنيا مما في الجنة مما سماه الله لنا إلا الأسماء، إذا كنا أمور الجنة لا نعرف حقيقتها، فقط نعرف الأسماء، ومعانيها، يوجد فيها فاكهة وتفاح وعنب ، ولكن لا ندري ما حقيقته؛ فما بالك بالأمور الأخرى .
بهذا النص ختم شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه (مقدَّمة في أصول التفسير)، وهو من رد الأعجاز على الصدور.
وبه ننتهي - والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً - من شرح هذا الكتاب المبارك النافع الذي احتوى على جملة كبيرة من الأصول، والتي دلَّت على غزارة علم المصنف رحمه الله، خاصة إذا تذكرت أنه ألَّفه في جلسة واحد بين الظهر والعصر، وأن هذه الرسالة اهتم بها العلماء الموافقون والمخالفون لابن تيمية، حتى إن بعض العلماء مثل السيوطي أوردها بكاملها في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، مفرقة، وابن كثير أورد جملة كبيرة منها في مقدمة تفسيره "تفسير القرآن العظيم"، والحقيقة أنها احتوت من الأصول المتعلقة بالتفسير مع التدقيق والتحرير، ما لا تجده في كتاب، فسبحان الله الوهاب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/232)
(انتهى شرح الدرس الرابع عشر)
(وبه ينتهي شرح هذا الكتاب المبارك فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات)
??
??
=
=
??
??
6
شرح المقدمة في أصول التفسير(1/233)