روضُ البيان في إِعجَاز القرآن
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
alhzm@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله معلم الإنسان البيان ومنزل القرآن بأبدع تبيان، والصلاة والسلام على معلم الناس الحكمة محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.
فلا يزال القرآن الذي أنزل قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام هو الكتاب الخالد الذي أنزله الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وتحدى به العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور منه فعجزوا ثم تحداهم أن يأتوا بسورة منه فعجزوا، رغم وجود فطاحلة الفصاحة والشعر والأدب، ولكن القرآن كان من خالق الفطاحلة، كما أن كلام الله لم يكن شعرا أو أدبا.
ورغم تقادم العصور وتبدل الدهور، وتعاقب الأجيال إلا أن القرآن لا يزال محتفظا ببريقه وإعجازه، والذي سيتبن من خلال هذه الرسالة الصغيرة الحجم العظيمة الفائدة كيف أن كلمات القرآن وجمله وضعت في مواضعها الملائمة لها بحيث يعجز الكثيرون عن النسج على منواله، أو مطاولته ومعارضته.
ويكفينا ما حدث من محاولات للإتيان بمثله بحيث يضحكك بعضها كما فعل مسيلمة، وكم من فرق بين قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } إلى آخرها وبين قول مسيلمة: "يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين"!!!.
وكانت أخر المحاولات ما قام به قسيس أمريكي من أصل فلسطيني! بجمع آيات وكلمات من القرآن وبدل مواضعها وزاد ونقص بطريقة ساذجة لا تنطلي على ضعاف العقول، فالحمد لله الذي حفظ كتابه من تحريف المحرفين { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .(1/1)
هذا ولما كان كتاب دلائل الإعجاز للعلامة عبد القاهر الجرجاني من فتح هذا الباب وأسس لهذا العلم وقعده وبين براهينه وأوضحه، قام الكثيرون باختصاره وتقريبه وكان منهم الشيخ عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني في كتابه التبيان ثم في مختصر أصغر منه سماه "المجيد في إعجاز القرآن المجيد" ولما كانت عباراته معقده، وألفاظه في كثير من الأحيان موهمة وغير بينة، جردت القلم فاختصرته في قريب ثلث حجمه، بألفاظ موجزة، وعبارات منمقة، مع زيادات لطيفة، وإفادات شريفة، حتى غدا نسيج وحده، جديد عهده، يفهمه المبتدي ويستفيد منه المنتهي، ولا أسلم نفسي عن خطأ وزلل، ولا أعصم قولي عن وهم وخطل "فالفاضل من تعد سقطاته وتحصى غلطاته" والسالم كتاب الله سبحانه.
ورجائي أن يدعو لي قارئ هذه الرسالة بظهر الغيب، وإن الملك سيقول له: "ولك مثل ذلك".
الركن الأول في الدلالات الإفرادية
الباب الأول
الحقيقة والمجاز
أ- التعاريف:
1. الحقيقة: استعمال اللفظ فيما وضع له، كالأسد إذا أريد به الحيوان المفترس.
2. المجاز: استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
3. العلاقة هي: المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وقد تكون المشابهة بين المعنيين وقد تكون غيرها فإذا كانت العلاقة المشابهة فالمجاز استعارة وإلا فهو مجاز مرسل.
4. القرينة:هي المانع من إرادة المعنى الحقيقي.
ب- الخلاف في وجود المجاز:
اختلف أهل العلم في وقوع المجاز على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المجاز واقع في القرآن والسنة ولغة العرب، وهذا الذي عليه الجمهور.
الثاني: أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن.
الثالث: إنكار المجاز في القرآن والسنة واللغة، وهذا الذي انتصر له الشيخ ابن تيمية.
ج- أنواع المجاز:
ينقسم المجاز إلى : مجاز مفرد، ومجاز عقلي، ومجاز مركب.
وينقسم المجاز المفرد إلى: مجاز مرسل واستعارة.(1/2)
- المجاز المرسل: هو الكلمة المستعملة قصدا في غير معناها الأصلي لملاحظة علاقة غير المشابهة مع قرينة دالة على عدم إرادة المعنى الوضعي وله علاقات كثيرة منها:
1. الكلية: هي كون الشيء متضمنا للمقصود ولغيره وذلك فيما إذا ذكر لفظ الكل وأريد منه الجزء نحو: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } أي أناملهم.
2. الجزئية: هي كون المذكور ضمن شيء آخر وذلك فيما إذا ذكر لفظ الجزء وأريد منه الكل كقوله تعالى: { فتحرير رقبة مؤمنة } .
3. السببية: وهي كون الشيء المنقول عنه سببا ومؤثرا في غيره وذلك فيما إذا ذكر لفظ السبب وأريد منه المسبب نحو: { ما كانوا يستطيعون السمع } أي القبول والعمل به لأنه مسبب عن السمع.
4. المسببية: هي أن يكون المنقول عنه سببا وأثرا لشيء آخر وذلك فيما إذا ذكر لفظ المسبب وأريد منه السبب نحو: { وينزل لكم من السماء رزقا } أي مطرا يسبب الرزق.
- المجاز العقلي: وهو إسناد الفعل أو ما في معناه من اسم فاعل أو اسم مفعول أو مصدر إلى غير ما هو له في الظاهر من المتكلم لعلاقة الملابسة مع قرينة تمنع من أن يكون الإسناد إلى ما هو له نحو:
- قوله تعالى: { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } نسبت الزيادة وهي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا لها.
- قوله تعالى: { يذبح أبناءهم } { يا هامان ابن لي } نسب الذبح وهو فعل الأعوان إلى فرعون والبناء وهو فعل العملة إلى هامان لكونهما آمرين به.
- قوله تعالى: { يوما يجعل الولدان شيبا } نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه
- قوله تعالى: { عيشة راضية } أي مرضية.
د- الاستعارة
هي: تشبيه حذف أحد طرفيه، فعلاقته المشابهة.
وهي ليست إلا تشبيها مختصرا لكنها أبلغ منه كقولك: "رأيت أسدا في المدرسة"، فأصل الاستعارة "رأيت رجلا شجاعا في المدرسة" فحذفت المشبه "رجل" والأداة "الكاف" ووجه التشبيه "الشجاعة" وألحقته بقرينة "المدرسة" لتدل على أنك تريد بالأسد شجاعا.
وهي قسمان:(1/3)
1- تصريحية: وهي ما صرح فيها بلفظ المشبه به، كقوله تعالى: { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } فيقصد بالظلمات الضلال لتشابههما في عدم اهتداء صاحبهما، وبالنور الإيمان لتشابههما في اهتداء صاحبيهما، وكقوله تعالى: { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } و { اهدنا الصراط المستقيم } أي الدين الحق لتشابههما في أن كلا يوصل إلى المطلوب.
2- مكنية: وهي ما حذف فيها المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه.
كقوله تعالى: { واشتعل الرأس شيبا } طوى ذكر المشبه به وهو النار ودل عليه بلازمه وهو الاشتعال
وقوله تعالى: { فأذاقها الله } شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر فأوقع عليه الإذاقة.
وقوله تعالى: { جدارا يريد أن ينقض } شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي فأثبت له الإرادة التي هي من خواص العقلاء.
هـ- الاستعارة التمثيلية (المجاز المركب):
وهي: تركيب لغير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة معناه الأصلي.
أو هي: أن يكون وجه الشبه فيها منتزعا من متعدد.
كقولك للرَّجل يتردَّد في الشّيءِ بين فعلهِ وتركه : "أراكَ تقدَّم رِجلاً وتؤخَّرُ أُخرى" فالأصل في هذا : "أراك في تردُّدكَ كمنْ يقدم رجلاً ويؤخّر أخرى" –وهو هنا تشبيه لا مجاز لتصريحك بأداة التشبيه- ثم اختُصر الكلام وجُعل كأنه يقدّم الرَّجْلَ ويؤخّرها على الحقيقة كما كان الأصلُ في قولك : "رأيتُ أسداً" : " رأيت رجلاً كالأسد " ثم جُعل كأنّه الأسد على الحقيقة.
وكذلك تقولُ للرجل يعملُ غيرَ مُعْمل : " أراك تنفخُ في غير فحم".
ومثاله في القرآن قوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعا } شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته والنجاة من المكارة باستمساك الواقع في مهواة بحبل وثيق مدلى من مكان مرتفع يأمن انقطاعه.(1/4)
وقوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } شبه حال الملتزم بمشقة غيره بحال من يحمل متاع غيره.
وقوله تعالى حاكيا عن إبليس: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } مثلت هيئة التوسل إلى الإغواء بكل وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدو إذ يأتيه من كل جهة حتى يصادف الجهة التي يتمكن فيها من أخذه فهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تخور قوة مدافعته.
و- الكناية
هي لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته، نحو: "فلانة بعيدة مهوى القُرط" ومهوى القرط هو المسافة من شحمة الأذن إلى الكتف، وإذا كانت هذه المسافة بعيدة لزم أن يكون العنق طويلا.
وكقوله تعالى: { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين الشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك والمراد نفي ذلك عن الملائكة.
ومنها الكناية عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول والسر في قوله { ولكن لا تواعدوهن سرا } والغشيان في قوله: { فلما تغشاها } .
الباب الثاني
الفرق بين الإثبات بالاسم والفعل والمعرفة والنكرة
أ- الفرق بين الإثبات بالاسم والفعل:
الاسم له دلالة على الحقيقة دون زمانها، والجملة الاسمية هي ما تركبت من مبتدأ وخبر، وهي تفيد ثبوت شيء لشيء ليس غير بدون نظر إلى تجدد ولا استمرار نحو: زيد منطلق، فلا يستفاد من هذه الجملة إلا إسناد الانطلاق إلى زيد كما يشعر الاسم ثبوت المعنى ودوامه دون انقضائه بوقت معين.(1/5)
أما الفعل فله دلالة على الحقيقة وزمانها والجملة الفعلية ما تركبت من فعل وفاعل أو من فعل ونائب فاعل وتفيد التجدد والحدوث في زمن معين.
وعليه إن كان الغرض من الإخبار الإثبات المطلق غير المشعر بزمان وجب أن يكون الأخبار بالاسم كقوله تعالى: { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } فليس الغرض إلا إثبات البسط للكلب، فأما تعريف زمان ذلك فغير مقصود، كما يشعر الاسم بثبوت صفة البسط بخلاف ما لو قال: (يبسط) فإنه يؤذن حينئذ بمزاولة الكلب للبسط وأنه يحدث له شيئا فشيئا.
وأما إذا كان الغرض من الإخبار الإشعار بزمان ذلك الثبوت فالصالح له هو الفعل كقوله تعالى: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فإن تمام المقصود لا يحصل بمجرد كونه معطيا للرزق بل بكونه معطيا للرزق في كل حين وأوان.
والفعل المضمر كالمظهر في ذلك ومن ثم قالوا: سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة في قوله تعالى: { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } فإن سلام إبراهيم جملة اسمية، وسلام الملائكة انتصب بفعل محذوف أي نسلم سلاما، وما كان ثابتا مطلقا أبلغ مما عرض له الثبوت.
ب- الفرق بين المعرفة والنكرة
المعرفة: ما دل على شيء بعينه.
النكرة: ما دل على واحد لا بعينه، وتطلق فتدل على:
1- إرادة الوحدة كقوله تعالى : { وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } أي رجل واحد.
2- إرادة الجنس كقوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء } أي جنس الدواب.
3- الوحدة والجنس نحو: "جاءني رجل" فـ"رجل" هنا تدل على رجل واحد، وعلى جنس الجائي.
- مراتب المعرفة والنكرة:
المعارف والنكرات متفاوتة في مراتب التعريف والتنكير:
فأعرف المعارف: الله ثم المضمر ثم العلم ثم الإشارة ثم الموصول ثم المعرف ثم ما أضيف إلى واحد منها.
وأنكر النكرات: معلوم ثم شيء ثم جسم ثم حيوان ثم إنسان ثم رجل.(1/6)
هذا وقد تحسن النكرة في محل لا تحسن فيه المعرفة كما في قوله تعالى: { َلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } أي على أي حياة، أو على الحياة المتطاولة، وقوله تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي حياة عظيمة.
الباب الثالث
مفردات لم تدخل تحت الضبط
(كل)
وهي موضوعة للشمول واستغراق الأفراد نحو قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ }
وقوله تعالى: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } .
ولاجتماع (كل) مع النفي حالتان:
الأولى: أن تتقدم (كل) على أداة النفي نحو: (كل ذلك لم يكن) أي لم يقع هذا ولا ذاك.
وتسمى هذه الحالة بـ"عموم السلب" أو "شمول النفي"، ويكون النفي هنا لكل فرد.
الثانية: أن تتقدم أداة النفي على أداة العموم نحو: (لم يكن كل ذلك) أي لم يقع المجموع فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد، لأن النفي يوجه إلى الشمول دون أصل الفعل.
وتسمى هذه الحالة بـ "سلب العموم" أو "نفي الشمول".
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } إذ يقتضي إثبات الحب لمن فيه أحد الوصفين، وأجيب بأن دلالة المفهوم إنما يعول عليه عند عدم المعارض وهو هنا موجود، إذ دل الدليل على تحريم الاختيال والفخر، وجواب آخر أنه جاء لعموم النهي قليلا كما في الآية.
(كاد)
وتفيد القرب من الوقوع فهي في النفي على معنى نفي مقاربة الفعل نحو قوله تعالى: { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي لم يقارب أن يراها.
وقيل إنها لوقوع الفعل ولكن بعد جهد أخذا بقوله تعالى: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } وأجيب بأن قوله تعالى: { وما كادوا يفعلون } لا يدل على وقوع الفعل لولا ما سبق من قوله تعالى: { فذبحوها } فعلى هذا متى لم يكن في الكلام ما يدل على الوقوع كان الذي يفيد الظاهر نفي الوقوع ونفي القرب منه.
(إنّ)
وهي حرف توكيد، ولها فوائد هي:(1/7)
1. أنها تربط الجملة الثانية بالأولى، وبسببها يحصل التأليف بين الجملتين، فإن أسقطتها اختل الكلام كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }
2. لضمير الشأن في الجملة الشرطية وغيرها مع (إنّ) من الحسن ما لا تراه إذا هي لم تدخل عليه، فمن فوائدها تحسين ضمير الشان معها إذا فسر بالجملة الشرطية مالا يحسن بدونها كقوله تعالى: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وقوله تعالى: { فإنّها لا تَعمَى الأبصَار } فلا يقال: هو من يتق ويصبر، هي لا تعمى الأبصار، كما أنه ليس إعلامُك الشيء بَغتةً مثلَ إعلامِك له بعدَ التَّنبيهِ عليه والتَّقدمةِ له لأنَّ ذلك يَجري مجرى تكريرِ الإِعلام في التأكيد والإِحكام ومن هاهُنا قالوا : إنَّ الشيءَ إذا أضمر ثمَّ فُسر كان ذلك أفخمَ له من أن يُذكرَ من غيرِ تقدم إضمار ويَدل عليه أنّا نعلم ضرورة في قوله تعالى : ( فَإِنها لاَ تعمى الأَبصارُ ) فخامة وشرفا وروعة لا نجد منها شيئاً في قولنا : فإِنَّ الأبصارَ لا تَعمى.
3. تهيء النكرة للحديث عنها كقول الشاعر:
إن شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون
ولو حذفت (إن) وقلت: شواء ونشوة لم يكن كلاما.
هذا وتختلف أساليب الخبر باختلاف أحوال المخاطب الذي يعتريه ثلاث أحوال:
1- أن يكون المخاطب خالي الذهن من الخبر غير متردد فيه، ولا منكر له فيساق الخبر دون تأكيد لعدم الحاجة إليه كقوله تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ويسمى هذا النوع ابتدائيا.
2- أن يكون المخاطب مترددا في الخبر فيحسن تأكيد الكلام تقوية للحكم فيزول التردد نحو: { إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } ويسمى هذا النوع طلبيا.(1/8)
3- أن يكون المخاطب منكرا للخبر فيؤكد الكلام له بمؤكد أو أكثر على حسب حالة الإنكار نحو: إن زيدا قادم، إنه لقادم، والله إنه لقادم، وكقوله تعالى: { إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } ويسمى هذا النوع إنكاريا.
وقد يخرج الكلام عن الأضرب الثلاثة السابقة:
- فينزل خالي الذهن منزلة السائل المتردد إذا تقدم في الكلام ما يشير إلى حكم الخبر كقوله تعالى: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } فـ (إن) وما دخلت عليه مؤكد للجملة السابقة لإشعاره بالتردد فيما تضمنه مدخولها.
ونحو قوله تعالى: { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ } فأمره بصنع الفلك ونهاه عن مخاطبته بالشفاعة فصار مع كونه غير سائل في مقام السائل المتردد هل حكم الله عليهم بالإغراق، فأجيب بقوله: { إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } .
- كما ينزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار كقول الشاعر:
جاء شقيق عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح
فـ"شقيق" لا ينكر رماح بني عمه، لكن مجيئه عارضا رمحه بمنزلة إنكاره أن لبني عمه رماح، فأكد له الكلام لذلك.
هذا وقد يؤكد الكلام بـ(إن) إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لا يوجد كقوله تعالى –حاكيا عن أم مريم-: { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى } فقد كانت تظن أن المولود ذكر فبوقوعه على خلاف ظنها كان بحيث تشك في كونه أنثى وتخاطب نفسها بطريق التأكيد أي ردا منها على نفسها ما كانت تظن.
(إنما)
وفيها مسائل:
1- وضعت (إنما) لإفادة القصر، وتعريفه: تخصيص الحكم بالمذكور في الكلام ونفيه عن سواه بطرق مخصوصة، ومن هذه الطرق (إنما).
2- تجيء فيما لا يجهله المخاطب كقولهم: (إنما هو أخوك) تنبيها لما يلزمه من حق الأخوة.(1/9)
3- كما تجيء فيما ينزل منزلة ما لا يجهله المخاطب كقوله تعالى حكاية عن اليَهُود : { وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ قالُوا إِنّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ } فادعوا أن كونهم مصلحين أمر ظاهر معلوم.
4- ليس قولنا: (إنما زيد منطلق) بمنزلة قولنا: (زيد منطلق لا غيره) لأن (إنما) توجب وتنفي دفعة واحدة، وليس كذلك مع (لا) فإنه يفهم منه الإثبات أولا ثم النفي ثانيا، ولا نقول: (إنما زيد منطلق) أو (زيد منطلق لا غيره) إلا إذا كان السامع يتوهم في الشخص المنطلق هل هو زيد أو غيره، فيكون هذا القول قاطعا للشك والغلط عند السامع.
5- الاختصاص مع (إنما) يقع للمتأخر، فمتى وليها المبتدأ والخبر فالقصر للثاني نحو: (إنما هذا لك) فالمقصور عليه (لك) فإذا أخرت المبتدأ وقدمت الخبر نحو: (إنما لك هذا) كان المقصور عليه (هذا) وشاهد المقصور عليه صحة العطف عليه بـ (لا)، فتقول: (إنما هذا لك لا لغيرك) و (إنما لك هذا لا ذاك).
6- قد يقصد بـ (إنما) التعريض وحده كقوله سبحانه: { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } فهذا تعريض بالكفار بأنهم لا لب لهم، وعلة إفادة (إنما) التعريض أن الكلام يتضمن النفي عن غير المذكور، فالآية السابقة أفادت إثبات التذكر لأولي الألباب وهم المؤمنون، وتضمنت النفي عن غيرهم وهم الكفار، ولهذا لا يحصل التعريض لو أزيلت (إنما) فلو قلت: (يتذكر أولوا الألباب) كان مجرد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكرون.
7- تأتي (إنما) إثباتا للمذكور ونفيا لما سواه ففيها نفي وإثبات فتشبه من هذه الجهة (ما) و (إلا) إلا أن بينهما فروقا تظهر مما يلي:
أ أنهما ليسا كالمترادفين وإلا لصح استعمل (إنما) في قوله تعالى: { ومَا مِنْ إِلهٍ إلاَّ اللّهُ } ولا يصح هذا الاستعمال؛ لأنه سيكون حينئذ (إنما من إله الله) وكذلك في قوله تعالى: { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } سيكون: (إنما عاصم اليوم من أمر الله من رحم) .(1/10)
كما لا يصح العكس أن نستعمل (ما) و (إلا) موضع (إنما) في قولنا: "إنما هو درهم لا دينار" ولو قلتَ : "ما هو إلاَّ دِرهمٌ لا دينار" لم يكن شيئاً، لأنك نفيت عنه كل صفة تنافي الدرهمية فيندرج فيه نفي الدينار، فإذا قلت بعده: (لا دينار) كان تكرارا.
ب تستعمل (ما) و (إلا) فيما يتوهم المخاطب خلافه، فتقول: (ما هو إلا زيد) بخلاف (إنما) والتي تجيء فيما لا يجهله المخاطب، ومن هنا حسن قولنا: (إنما هو أخوك) ولم يحسن (ما هو إلا أخوك) تذكيرا بلوازم الأخوة.
كما تأتي (ما) و (إلا) فيما ينزل منزلة المنكر نحو: { قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } فالبشرية معلومة لكن جاء الكلام بـ (إن) و (إلا) دون (إنما) لأن الكفار جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشرا مثلهم، ولما كان كذلك أخرج اللفظ مخرجه عندما يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب ويدعي خلافه.
وكذلك الأمر في قوله تعالى: { إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } جاء بالنفي والإثبات لمبالغته - صلى الله عليه وسلم - في الإنذار بحيث يُظن أنه يملك تحويل قلوب الكفار إلى الإسلام، فهذا الخطاب جعل المخاطب بمنزلة من ظن أنه يملك ذلك ولا يعلم أنه ليس في وسعه إلا الإنذار والتحذير فأخرج اللفظ مخرجه فقال: { إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ } .
(الهمزة)
إذا ولي الهمزة الفعل الماضي فقلت: (أبنيت الدار) كان الشك في الفعل، وكان الغرض من الاستفهام معرفة وجوده.
وإذا وليها الاسم فقلت: (أأنت بنيت هذه الدار) كان الشك في الفاعل من هو؟ لأنه إذا لم تكن الدار موجودة كيف يقع الشك في بانيها.
فإذا قلت: (أبنيت هذه الدار) لم يكن كلاما صحيحا إذ هو بمنزلة أن تقول في الشيء المشاهد: أموجود هو أم لا.
وتجيء الهمزة للتقرير تارة وللإنكار أخرى:(1/11)
أما التقرير فكقوله تعالى: { قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ } فليس غرضهم أن يقر لهم بوجود كسر الأصنام، ولكن بأن يقر بأن الفعل كان منه لا من غيره.
وأما الإنكار فكقوله تعالى: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ } فالإنكار هنا في نفس الفعل.
أما إذا قدم الاسم ففيه يتوجه الإنكار إلى الفاعل كقولك لمن انتحل شعرا: (أأنت قلت هذا الشعر؟ كذبت لست ممن يحسن فعله) فأنكرت أن يكون القائل هو ولم تنكر الشعر.
(ما) النافية
ولها حالتان:
1- من شأنها إذا وليها الفعل أن تنفيه، دون التعرض لكون ذلك الفعل لآخر أو لم يُفعل أصلا، فإذا قلت: (ما ضربت زيدا) كنت قد نفيت عن نفسك ضربا واقعا بزيد، وذلك لا يقتضي كونه مضروبا، بل ربما لا يكون مضروبا أصلا.
2- إذا وليها الاسم كقولك: (ما أنا ضربت زيدا) لم تقله إلا وزيد مضروب، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.
ويدل على هذا الفرق ما يلي:
1- أنه يصح أن تقول: (ما ضربت زيدا، ولا ضربه غيري) ولا يصح أن تقول: (ما أنا ضربت زيدا ولا ضربه غيري).
2- لو قلت: (ما ضربت إلا زيدا) كان كلاما مستقيما، ولو قلت: (ما أنا ضربت إلا زيدا) كان لغوا من القول؛ لأن نقض النفي بـ "إلا" يقتضي أن تكون ضربت زيدا، وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته.
وهذا الفرق بعينه يجيء في تقديم المفعول وتأخيره، فإذا قلت: "ما ضربت زيدا" فقدمت الفعل، كان المعنى أنك نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك من غير تعرض لبيان كونك ضاربا لغيره.
وإذا قلت: "ما زيدا ضربت" كان المعنى: أن ضربا منك وقع على إنسان، فظُن أن ذلك الإنسان هو زيد فنفيت أن يكون إياه، ولهذا تقول على الوجه الأول: "ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس" وليس لك ذلك في الوجه الثاني.(1/12)
وحكم الجار والمجرور حكم المنصوب، فإذا قلت: "ما أمرتك بهذا" فقد نفيت عن نفسك أمره بذلك، ولم يجب أن يكون قد أمرته بشيء آخر، وإذا قلت: "ما بهذا أمرتك" كنت قد أمرته بشيء غيره.
(ما) و (إلا)
وهنا مسائل:
1- يجوز في قولنا: "ماجاءني إلا زيد" أحد غرضين:
أ تعريف المخاطب أنه لم يجئ غيره لا تعريفه بأنه قد جاء.
ب تعريف المخاطب بأن الجائي زيد لا غيره.
2- متى فصلت "إلا" بين الفاعل والمفعول فالحصر للثاني نحو: "ما ضرب زيدا إلا عمر" وعكسه.
وكذلك المبتدأ والخبر توسط بينهما "إلا" فإن أخبرت الخبر نحو: "ما زيد إلا قائم" فقد قصرت الصفة على الموصوف، وإن عكست: "ما قائم إلا زيد" فقد قصرت الموصوف على الصفة.
3- إنما اختص ما بعد "إلا" بالحصر لاستحالة ظهور أثر الحرف قبل وجوده.
4- إن ذكر الفاعل والمفعول بعد "إلا" فالحصر لما يليها.
وكذلك حكم المفعولين نحو: "لم يكس عمرو إلا زيدا جبة" المعنى: أنه خص زيدا بكسوة جبة، ولو قدمت الجبة على زيد صار المعنى أن عمراً أن عمراً خص الجبة من أصناف الكسوة، وكذا الحكم لو يكون بدل أحد المفعولين جارا ومجرورا كقول الشاعر: "ما اختار إلا منكم فارسا" ولو قلت: "ما اختار إلا فارسا منكم" رجع الاختصاص إلى "فارس".
(لا) و (لن)
هذان حرفان يفيدان النفي، بيد أن بينهما فرقا، وهو أن (لا) لنفي ما تمادى زمانه، ويدل على ذلك أن آخره ألف، والألف يمكن امتداد الصوت به.
أما (لن) فهي لنفي ما قرب زمانه، يدل على ذلك أنه لا يمكن مد الصوت به مثل الألف.
ويدل لهذا قوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{6} وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{7}]الجمعة[(1/13)
فـ "إن" الشرطية تعم الأوقات أي تمنوا الموت في أي وقت، ولهذا جاء بعدها بـ "لا" في قوله: { ولا يتمنونه } .
وجاءت "لن" في قوله تعالى: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{94} وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ{95} } (البقرة) لأن "كان" تدل على الحدوث، كأنه قيل: إن كانت وجبت لكم الدار الآخرة فتمنوا الموت الآن، وعلى هذا لفظ "أبدا" في الآية للزمن القريب تفخيما لأمره.
ويؤيد ما ذكرناه إتيان "لن" في قوله سبحانه { لن تراني } وإتيان "لا" في قوله: { لا تدركه الأبصار } حيث أريد نفي الرؤية في الدنيا ونفي الإدراك مطلقا.
الركن الثاني:
في مراعاة أحوال التأليف (النظم)
المراد بمراعاة أحوال التأليف: توخي معاني النحو فيما بين الكلم، أي أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وذلك بأن تنظر في وجوه كل باب وفروقه فتنظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: "زيد منطلق"، و"زيد ينطلق".
وتنظر في الحروف التي تشترك في معنى ثم ينفرد كل واحد منهما بخصوصية في ذلك المعنى، نحو أن تجيء بـ "ما" في نفي الحال، وبـ "لا" إذا أردت نفي الاستقبال، وبـ "أن" فيما يتردد بين أن يكون وبين أن لا يكون، وبـ"إذا" إذا علم أنه كائن.
وتنظر في الجمل فتعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم تعرف فيما حقه الوصل موضع "الواو" من موضع "الفاء" وموضع الفاء" من موضع "أو" وموضع "لكن" من موضع "بل".
وتتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير في الكلام وفي الحذف والتكرار والإضمار والإظهار فتصيب بكل ذلك مكانه وتستعمله على الوجه الذي ينبغي له.
يدل لذلك أنهم وصفوا قول الفرزدق:
وما مثلُهُ في النّاسِ إِلا مُمَلَّكاً ... أبُو أمَّهِ حَيٌّ أبوهُ يقاربُه(1/14)
بفساد النظم وسوء التأليف (1) .
وهنا أنبه إلى أمور:
1- أن البلاغة لا تحصل بسبب مفهومات الألفاظ مثل أن "الواو" للجمع، والفاء للتعقيب دون تراخي، وهكذا بل بسبب العلم بالمواضع التي تليق بها معاني هذه الحروف.
2- كون الكلمة حسنت في موضع منكرة لا يلزم ذلك حسنها دائمان بل ذلك بحسب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام.
3- لا يحصل النظم أو مراعاة التأليف في الكلمة الواحدة بل في كلمات ضم البعض إلى البعض، وذلك النظم يعتبر فيه أحوال المفردات وأحوال انضمام بعضها إلى بعض.
أقسام النظم:
إذا نظمت الجمل نظما واحدا فلا يخلو: إما أن يتعلق البعض بالبعض، أو لا يتعلق.
أولا: إذا لم يتعلق البعض بالبعض: كقول أحدهم : " جنَّبكَ اللُه الشُّبهةَ، وعصَمكَ منَ الحَيْرة، وجعَلَ بينَكَ وبينَ المعرفة نَسَباً، وبينَ الصَّدقِ سَبباً" وهذا الضرب من النظم لا يستحق الفضيلة إلا بسلامة معناه وسلاسة ألفاظه، إذ ليس فيه معنى دقيق لا يدرك إلا بثاقب الرأي ودقيق النظر.
__________
(1) كان حق الشاعر أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه، فإنه يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان، فقال: وما مثله يعني إبراهيم الممدوح في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا (يعني هشاما) أبو أمه (أي أبو أم هشام) أبوه (أي أبو الممدوح) فالضمير في "أمه" للملك، وفي "أبوه" للممدوح، ففصل بين "أبو أمه" وهو مبتدأ و"أبوه" وهو خبره "بحي" وهو أجنبي، وكذا فصل بين "حي" و"يقاربه" وهو نعت حي بـ"أبوه" وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد، فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية.(1/15)
ثانيا: الجمل التي يتعلق بعضها ببعض: وهنا تظهر جودة القريحة، وكلما كان أجزاء الكلام أقوى ارتباطا وأشد التحاما كان أدخل في الفصاحة.
الفن الأول
في تقديم الاسم على الفعل وتأخيره
إذا قدمت الاسم فقلت: "زيد قد فعل" أو "أنا فعلت" اقتضى أن يكون القصد إلى الفاعل، ويحتمل هذا القصد وجهين:
1- تخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل كقولك: "أنا شفعت في حقه" والمراد أن تدعي الانفراد بذلك وترد على من يزعم أنه كان ذلك من غيرك.
2- تحقيق الفعل منك عند السامع لتوهمك شكه، نحو: "هو يعطي الجزيل" فلا تريد الحصر بل أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل دأبه، وتمكن هذا الحديث في نفس المستمع وتقرره عليه، ومثله قوله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم.
والدليل على ذلك أنه لا يؤتى باسم معرى من العوامل إلا بحديث قد نوي إسناده إليه، فلا يأتي الحكم إلا بعد تأنس به، فجرى بذلك مجرى التأكيد، فإنك لو قلت: "عبد الله" فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه، فيحصل شوق على معرفة ذلك فإذا جئت بالخبر بعده قبله الذهن فيكون أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة، ومن هنا يعلم الفخامة في قوله تعالى: { فإنها لا تعمى الأبصار } كما سبق بيانه.
ويشهدُ لِما قلنا من أنَّ تقديمَ المحدَّثِ عنه يَقْتضي تأكيدَ الخبرِ وتحقيقَه:
1. مجيء الاسم مصدرا في جواب إنكار من مُنْكرٍ نحوُ أن يقولَ الرجلُ : ليس لي علمٌ بالذي تقول فتقولُ له : أنتَ تعلمُ أنَّ الأمرَ على ما أقولُ ولكنك تميل إلى خصمي . وكقول الناس : هو يعلم ذاك وإن أنكر وهو يَعلمُ الكَذِبَ فيما قال وإنْ حلَف عليه . وكقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ على اللَّه الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
2. مجيء الاسم فيما اعترضه الشك نحوُ أن يقولَ الرجلُ : "كأنَّك لا تعلمُ ما صَنَعَ فلانٌ ولم يَبْلُغْك فتقولُ : "أنا أعلمُ ولكنّي أُداريه".(1/16)
3. مجيء الاسم في تكذيبِ مُدَّعٍ كقولهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وإِذا جَاؤُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وقَدْ دَخَلُوا بالكُفْرِ وهُمْ قد خَرَجُوا بِه } وذلك أنَّ قولهم : آمنّا دَعوى منهم أنَّهم لم يَخْرجوا بالكفرِ كما دَخلوا به فالموضعُ مَوْضِعُ تكذيب، أو فيما القياسُ في مثلهِ أن لا يكونَ كقولهِ تعالى : { واتَّخذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُون } وذلك أنَّ عبادتَهم لها تَقْتضي أن لا تكونَ مخلوقة
4. قول الرجل لمن يعده ويضمن له: "أنا أعطيك" وذلك إذا كان من شأن من يعده ويضمن له أن يعترضه الشك في وفائه بوعده.
5. أنه يكثر في المدح كقولك: "أنت تعطي الجزيل، أنت تجود حين لا يجود أحد".
6. إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال لم يحسن الابتداء بالاسم، نحو: "طلعت الشمس"
والفعل المنفي في ذلك كالمثبت كقولُه تعالى : { والَّذينَ هُمْ بِرَبهِمْ لا يُشْرِكُون } يفيدُ مِنَ التأكيد في نفي الإِشراك عنهم بخلاف ما لو قيل : والذين لا يُشْركون بربَّهم أو بربَّهم لا يشركون لم يفدْ ذلك وكذا قولُه تعالى : { لقَدْ حَقَّ القولُ عَلَى أكثَرهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمنُونَ } .
ويكاد يلزم تقديم "مثل" و"غير" في نحو قولك: "مثلك يكون الكرماء" والمعنى: أن كل من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس وموجبُ العُرْف والعادة أن يفعل ما ذكر
وكذلك في نحو: "غيري يفعل ذلك"على معنى أني لا أفعله.
الفن الثاني
في خبر المبتدأ
وفيه مسائل:
1- معنى الإخبار بالمعرفة والنكرة:
قد يكون الخبر معرفة أو نكرة،ومعنى الإخبار بهما مختلف:
- فتقول: "زيد منطلق" لمن لم يعلم انطلاقا لامن زيد ولا من غيره.(1/17)
- وتقول: "زيد المنطلق" لمن عرف وقوع الانطلاق لكنه يجهل ممن هو فإن أردت التأكيد قلت: "زيد هو المنطلق" بزيادة ضمير الفصل، ولما أفهم التعريف الحصر منعوا العطف نحو: "زيد المنطلق وعمر" فإذا كان الانطلاق منهما جمع بينهما في الخبر نحو: "زيد وعمرو هما المنطلقان".
- وإذا قلت: "المنطلق زيد" فالمعنى أنك رأيت إنسانا لبعد منك ينطلق ولم تعرف أنه زيد، فيقول لك صاحبك: "المنطلق زيد".
2- "أل" في الخبر ووجوهها:
"أل" في الخبر على معنى الجنس،وتجيء على أربعة أوجه:
1- المبالغة، أي تقصر جنس المعنى على المخبر عنه، نحو: "زيد هو الجواد" أي هو الكامل في الجود (1) .
2- أن تريد أنه لا يوجد إلا منه،فتقصر المعنى عليه لا على وجه المبالغة، كقولك هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقا.
3- أن يقره في جنس اتضح أمره بحيث لا يخفى كقول الخنساء في رثاء صخر:
إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا
أرادتْ أن تُقِرَّهُ في جنسِ ما حسنهُ الحسن الظاهرُ الذي لا يُنكِره أحد ولا يشك فيه شاك.
4- التعريف لحقيقة عقلها المخاطب في ذهنه لا في الخارج، نحو: "هو البطل الحامي" كأنك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل الحامي، وهل حصلت معنى هذه الصفة، وكيف ينبغي أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال له ذلك، فإن أردت العلم بذلك فعليك بهذا الرجل، فإنه بغيتك.
3- تقديم الخبر على المبتدأ مع كونهما معرفتين:
ليس كل معرفة يمكن الابتداء به، يدل على ذلك قول أبي تمام: "لعاب الأفاعي القاتلات لعابه".
فلو جعلت "لعاب الأفاعي" مبتدأ لأفسدت المعنى، إذ غرضه تشبيه مداد قلمه بلعاب الأفاعي في إتلاف النفوس.
__________
(1) فتخرج الكلام في صورة توهم أن الجود لم يوجد إلا فيه لعدم الاعتداد بجود غيره لقصوره عن رتبة الكمال.(1/18)
4- "أل" في الجنس في المبتدأ مغاير لمعناها في الخبر، فإذا قلت: "الشجاع موقى" فإن حكم "موقى" يعم كل فرد من الشجعان والجبناء.
وإذا قلت: "أنت الشجاع" فالمراد الكامل في الشجاعة.
5- قولنا: "أنت الخلق كلهم" معناه جمع المعاني الشريفة المتفرقة في الناس من غير أن يتجردوا عنها.
أما قولنا: "أنت الشجاع" فمعناه ادعاء معنى حقيقة الشجاعة حتى صار ما يعد شجاعة من غيره ليس بشجاعة.
6- يقع "الذي" خبرا ومن حق صلتها أن تكون معلومة للسامع، كقولك: "ذهب الرجل الذي أبوه منطلق" فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه "الذي".
وقد يؤتى بعد "الذي" بالجملة غير المعلومة للسامع، وذلك حيث يكون "الذي" خبرا، نحو: "هذا الذي قدم رسولا" فالجملة هنا وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه بقولك: "هذا" فإنه لا بد لن يكون قد علمها على الجملة وحدث بها، فتقول: "هذا الذي قدم رسولا" لمن علم أن رسولا قد ولكن لا يعلم عينه.
الفن الثالث
في تقديم بعض الأسماء على بعض
ولهذا فوائد كثيرة، ومن هذا الباب قوله تعالى: { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ } .
فإذا قدمت الشركاء أفاد أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شركاء، لا من الجن ولا من غير الجن.(1/19)
وإذا أخرت فقلت: "وجعلوا الجن شركاء لله" لم يفد ذلك المقصود ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأما إنكار المعبود الثاني على الإطلاق فلا يكون في اللفظ دليل عليه مع تأخر "الشركاء" وذلك أن التقدير في التقديم هو أن "شركاء" مفعول أول لـ "جعل" و"لله" في موضع المفعول الثاني، ويكون "الجن" على تقدير كلام آخر وهو : انه قيل: "فمن جعلوا شركاء لله" فقيل الجن، وإذا كان كذلك وقع الإنكار على جعل الشريك لله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء، وحصل أن جعل الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار كما دخل جعله من الجن، لأن الصفة ذكرت مجردة كان الذي تعلق بها من النفي عاما في كل ما يجوز أن يكون له تلك الصفة.
الفن الرابع
التشبيه
وهو: عقد مماثلة بين أمرين أو أكثر لاشتراكهما في صفة أو أكثر بأداة.
وأركان التشبيه أربعة:
1- المشبه: وهو الأمر الذي يراد إلحاقه بغيره.
2- المشبه به: وهو الأمر الذي يلحق به المشبه.
3- وجه الشبه: وهو الوصف المشترك بين الطرفين، ويكون في المشبه به أقوى منه في المشبه.
4- أداة التشبيه: وهي اللفظ الذي يدل على التشبيه، ويربط المشبه به، وقد تذكر الأداة وقد تحذف.
والتشبيه ليس من المجاز، لأنه معنى من المعاني وله حروف وألفاظ تدل عليه وضعا، مثل: الكاف وكأن ومثل، فإذا صرح بذكر الألفاظ الدالة عليه وضعا كان الكلام حقيقة.
ومن أمثلة التشبيه في القرآن:
1- { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام }
2- { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة }
3- { تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر }
4- { وأزواجه أمهاتهم }
5- { تمر مر السحاب }
الفن الخامس
الإيجاز
وهو: وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل منها، من غير إخلال.
كقوله تعالى: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } فهذه الآية جمعت مكارم الأخلاق.
وكقوله تعالى: { ولكم في القصاص حياة } .(1/20)
الفن السادس
التأكيد
وهو كل لفظ تابع للفظ قبله يغيره لفظا ويطابقه معنى، نحو قوله تعالى: { فلا أقسم بمواقع النجوم()وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } فالآية الثانية مغايرة لفظا للأولى لكنها تضمنت معناها فأكدتها.
الفن السابع
الحذف
وذلك كقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } أي لكان هذا القرآن.
الفن الثامن
في المنصوبات
أولا: في المفعول به
قد يكون للأفعال المتعدية مفعولات معينة، وقد لا يكون:
1- الفعل الذي لا يكون له مفعول معين فحاله كحال غير المتعدي في أنك لا ترى له مفعولا لفظا وتقديرا، إذ الغرض بيان حال الفاعل فقط، وذلك كقولهم: "فلان يحل ويعقد، ويأمر وينهى" والمقصود إثبات المعنى في نفسه للشيء من غير أن يتعرض لحديث المفعول فكأنك قلت: "صار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي"، وعليه قوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي: هو الذي منه الإغناء والإقناء، وقوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } أي من له علم ومن لا علم له.
2- أن يكون له مفعول معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لأغراض ثلاثة:
أ- أن يكون المقصود بيان حال الفاعل أيضا كقول الشاعر:
أبو أن يملونا واو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
أي: لملتنا.
ومنه قوله تعالى: { وجد عليه أمة من الناس يسقون } أي: يسقون أغنامهم ومواشيهم.
ب- أن يكون المقصود ذكره، لكنك تحذفه لإيهام أنك لا تقصد ذكره، كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه أن يَرى مبصرٌ ويسمع واعٍ
أي: لا محالة أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره، ولكنه تغافل عن ذلك، لأنه أراد أن يقول: إن فضائله يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع، حتى يعلم أنه المنفرد بالفضائل، وأنه الشخص الذي ليس لأحد أن ينازعه فيها، فليس شيء أشجى لكونه لهم من علمهم بأن ههنا مبصرا وسامعا.(1/21)
ج- أن يحذف لكونه جليا كقولهم: "أصغيت إليه" وهم يريدون "أذني" ومنه قوله تعالى: { أرني أنظر إليك } أي ذاتك وقوله تعالى: { أهذا الذي بعث الله رسولا } أي بعثه الله.
ثانيا: تنازع الفعلين:
التنازع عبارة عن توجه عاملين إلى معمول واحد نحو: "أكرمني وأكرمت عبد الله" أي: أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله، ثم تركت ذكره استغناء بذكره في الثاني.
ومما يشبه ذلك مجيء المشيئة بعد "لو" وبعد حرف الجزاء كقوله تعالى: { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } { ولو شاء الله لهداكم } والتقدير: ولو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، ولو شاء الله أن يهديكم لهداكم.
ومتى كان مفعول المشيئة أمرا عظيما أو بديعا أو غريبا كان الأولى ذكره وإلا فالحذف أولى.
كقوله: "ولو شئت أن أبكي دما لبكيته" لما كان البكاء دما أمرا عظيما صرح به.
وقوله تعالى: { لو نشاء لقلنا مثل هذا } لإيهامهم أن ذلك ليس بغريب من قدرهم.
وللمظهر عمل لا يقوم به المضمر كقوله تعالى: { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل } لإنه أفخم من :"وبه نزل"، وكقوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ . اللّهُ الصَّمَدُ } .
ثالثا: في الحال:
الجملة الحالية على ثلاثة أقسام:
الأول: تجب واو الحال في ثلاثة مواضع:
1- إذا كانت جملة اسمية مجردة من ضمير يربطها بصاحبها نحو: "هرب المسجون والحرس نائمون".
2- إذا كانت مصدرة بضمير صاحبها نحو: "قصدتك وأنا واثق بمروءتك".
3- إذا كانت ماضوية غير مشتملة على ضمير صاحبها مثبت كانت أو منفية غير أنه تجب "قد" مع الواو في المثبتة، نحو: "بلغت المدينة وقد بزغ الفجر، ورحلت عنها وما طلعت الشمس".
الثاني: يجوز اقتران جملة الحال بالواو وعدمه إذا لم يكن فيها شيء مما يوجب اقترانها بها أو يمنعه، وأكثر ما يكون ذلك في الجملة الاسمية المقترنة بضمير صاحبها.
الثالث: تمتنع واو الحال في خمسة مواضع:(1/22)
1- إذا كانت جملة الحال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها نحو: { ذلك الكتاب لا ريب فيه }
2- إذا كانت ماضوية واقعة بعد إلا فيجب تجريدها حينئذ من الواو و"قد" نحو: "ما تكلم إلا ضحك".
3- إذا كانت ماضوية متلوة بـ"أو" نحو: "لأضربنه عاش أو مات".
4- " " " مثبتة غير مقترنةبـ "قد" نحو: { لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } .
5- " " مضارعية منفية بـ"ما" أو "لا" نحو: "ما لنا لا نؤمن بالله".
رابعا: في التمييز:
للتمييز من النباهة ما لا يدفع فمنه قوله تعالى: "واشتعل الراس شيبا" أفاد شمول الشيب في الرأس واستغراقه كما تقول: "اشتعل البيت نارا" فإنه يفيد ما لم يفده: اشتعل النار في البيت، وتعريف الرأس بـ "أل" يعطيه حسنا أكثر مما لو قال: "واشتعل رأسي" ونظيره: { وفجرنا الأرض عيونا } أفاد أن الأرض صارت عيونا كلها.
الفن التاسع
في معرفة الفصل والوصل
الوصل: عطف مفرد أو جملة على أخرى بالواو.
والفصل: ترك هذا العطف، وهو ضربان:
الأول: عطف مفرد على مثله:
- وفائدته التشريك في الإعراب ليستدل به على التشريك فيما يوجب الإعراب، فتقول: "جاء زيد وعمرو" فـ"عمرو" معطوف على زيد والمعطوف على المرفوع مرفوع فاشتركا في الإعراب، والذي أوجب رفع زيد كونه فاعلا لـ "جاء" وكذلك كان "عمرو".
- وقل مجيء العطف في الصفات، فتقول: "جاء زيد الطويل الذكي الغني" أولى من "جاء زيد الطويل والذكي والغني".
- والعطف في الصفات الإلهية أقل، لأنها دالة على الذات والصفة فهي كالأسماء المترادفة، قال تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } .
وأما قوله سبحانه: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } فلتضاد معانيها مما قد يستبعد وجود هذه الصفات في ذات واحدة فجاء بالعاطف ليرفع هذا الوهم.(1/23)
الثاني: عطف جملة على جملة، وهو نوعان:
الأول: عطف جملة على جملة لها موضع في الإعراب، وتكون مثابة عطف المفرد على المفرد كقولك: "مررت برجل خلقه حسن وخلقه قبيح" فقد أشركت بين الجملتين في الإعراب، وهو الجر صفة للنكرة ليستدل به على التشريك في المعنى وهو كون كل واحد منهما تقييدا للموصوف وتخصيصا له.
ومما تردد بين عطف المفردات والجمل قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ }
ومما اختلف في إيصاله واستئنافه: { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
ولا يخفى انقطاع: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } عن: آخر الآية قبلها: { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } .
النوع الثاني: أن يعطف جملة على جملة لا موضع لها من الإعراب،وهو الذي يشكل أمره، نحو: "زيد أخوك وعمرو صاحبك" فلا فائدة للواو هنا غير الإشراك في الإخبار، بخلاف حروف العطف الأخرى التي تدل على معاني خاصة كالفاء و "ثم" تدلان على الترتيب، ولهذا لا بد من مراعاة الملاءمة والمناسبة في تقديم بعضها على بعض، ولا يخلو هذا النوع من:
أ معنى إحدى الجملتين لذاته متعلقا بمعنى الجملة الأخرى، كالتوكيد للجملة الأخرى نحو: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فقوله: { لا ريب فيه } توكيد لقوله: { ذلك الكتاب } أو كالصفة لها فلا يجوز إدخال العاطف عليه؛ لأن الصفة والتوكيد متعلقان بالموصوف والمؤكد لذاتيهما، ولما كان التعلق الذاتي حاصلا استغنى عن لفظ يدل على ذلك التعلق.
ب- لا يكون " " " " " " " " ولا تخلو:(1/24)
? أن يكون بين الجملتين مناسبة، فيجب ذكر العاطف، ثم لا يخلو أن يكون المحدث عنه في الجملتين شيئين أو شيئا واحدا، فإن تعدد فلا بد من المناسبة بين الأمرين لكونهما متشابهين نحو: "زيد كاتب وعمرو شاعر" أو متضادين نحو: "زيد طويل وعمرو قصير"،فأما إذا كان المحدث عنه في الجملتين واحدا نحو: "فلان يقول ويفعل، ويأمر وينهى" فإدخال العاطف ههنا كالضروري، لن ترك العاطف يجوز أن يكون قولك: "ينفع" رجوعا عن قولك: "يضر".
? ليس بين الجملتين مناسبة أصلا، فهنا يجب ترك العاطف أيضا؛ لأن العطف للتشريك، فحيث لا يكون مشاركة أصلا استحال العطف، ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله:
لا والذي هُوَ عالِمٌ أنَّ النَّوَى ... صَبِرٌ وأنَّ أبا الحُسَيْنِ كريمُ
وذلك لأنه لا مناسبةَ بينَ كَرَمِ أبي الحسين ومرارِة النَّوى ولا تعلُّقَ لأَحِدهما بالآخرِ وليس يقتضي الحديثُ بهذا الحديثُ بذاك.
أما قوله تعالى: { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } مع أن مجيء البأس ينبغي أن يتقدم الإهلاك، فهي على تقدير أردنا أو قضينا بإهلاكها فجاءها بأسنا.
وكذا قوله تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } فمحمولة على دوام الاهتداء أي: وعمل صالحا ثم داوم على اهتدائه.
وفي قوله تعالى: { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } على معنى أن الرائي لهم يقول هم مائة ألف أو يزيدون، أو أن "أو" للإضراب أي: بل يزيدون.
الفن الحادي عشر
في معرفة أسباب التقديم والتأخير
لما كانت الألفاظ تابعة للمعاني والمعاني تتقدم لاعتبارات خمسة:
1- تقدم العلة والسببية على المعلول والمسبب، كقوله تعالى: { عزيز حكيم } لأنه عز فحكم.
2- التقدم بالذات كالواحد مع الاثنين
3- بالشرف والرتبة كالأنبياء، نحو: { من النبيين والصديقين } { إنس قبلهم ولا جان }
4- بالزمان، نحو: { وعادا وثمودا } .(1/25)
5- الخفة نحو: ربيعة ومضر، مع أن مضر أشرف لكثرة الحركات، وكقوله تعالى: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ } وإنما يقدم الأثقل لنشاط المبتدي في أول كلامه
وقد تجتمع صفتان كل واحدة تقتضي التقديم لكن تكون إحداهما أهم في مكان فتقدم، وإن أخرت في غيره من ذلك:
1- قال تعالى: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } تقديم الأموال هنا لكونها سببا للأولاد، لأن الإنسان يشرع في النكاح عند قدرته على مؤنه، والنكاح سبب للتناسل، وقدم النساء على البنين وأخر المال عنهما في قوله تعالى: { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة } لأن الآية مصدرة بالحب والنساء والبنين أقعد في المحبة الجبلية.
2- قدمت السماء على الأرض لأنها أكمل شرفا، وأخرت في: { َمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } لتقدم: { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً }
الفن الثاني عشر
في قواعد كلية يتعرف بها أحوال النظم
القاعدة الأولى: في ما يتحقق به بيان العبارات:
إنما تتميز إحدى العبارتين على الأخرى لزيادة معناها، فإِذا أفادتْ هذه ما لا تفيدُ تلك فليستا عبارتين عَنْ معنى واحدٍ بل هما عبارتان عن معنيين اثنين، نحو: "زيد كالأسد" فتجعله تشبيها ساذجا.
ثم تقول:"كأن زيدا الأسد" فتكون قد فخمت التشبيه بأن أفدت أنه من الشجاعة بحيث يتوهم أنه الأسد بعينه، فالثانية أبلغ في التشبيه من الأولى.
وإذا سمعت مقولة: " الطباع لا تتغير" ثم سمعت قول المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
علمت بالضرورة أن لهذا المعنى في هذا الشعر من المزية والجمال ما هو غير حاصل له في الكلام الأول.
القاعدة الثانية: في دلالة الكلام:(1/26)
كل كلام معناه مستفاد منه كـ: "خرج زيد" أو من دلالة معناه نحو: "نؤوم الضحى" ومدار هذا الضرب على الكناية والاستعارة والتمثيل فالأول معنى اللفظ والثاني معنى معنى اللفظ.
ونعني بالمعنى: المفهومَ من ظاهرِ اللفظِ والذي تصِلُ إليه بغيرِ واسِطَة، فظاهر قولنا: "خرج زيد" إثبات الخروج لزيد بمجرد ألفاظ هذه الجملة.
أما معنى المعنى فهو أن تعقِلَ من اللفظِ معنًى ثم يُفْضي بكَ ذلكَ المعنى إِلى معنًى آخر، فقولنا: "فلانة نؤوم الضحى"" المرادُ أنها مترفةٌ مخدومةٌ لها مَن يَكفيها أمرَها، فقد أرادنا معنىً ثم لم نذكرُه بلفظِه الخاصَّ به ولكننا توصَّلنا إليه بذكرِ معنىً آخر.
القاعدة الثالثة: كل لفظ تابع لمعناه:
لو كانتِ المعاني تابعة للألفاظ في ترتيبها لكان محالاً أن تتغيَّر المعاني والألفاظ بحالها لم تَزُل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غيرِ أن تتغيَّر الألفاظ وتزولَ عن أماكِنها علمنا أن الألفاظَ هي التابعةُ والمعاني هي المَتْبوعة، وعليه فإن المعنى يقضي على اللفظ بالحذف والإضمار والزيادة ليتم المعنى أو يصح.
مثال ذلك قوله تعالى: { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } قد يظن أن الدعاء هنا بمعنى النداء فلا يقدر محذوف، وليس هذا هو المعنى، لأنه لو كان هو المعنى للزمه إما الإشراك أو عطف الشيء على نفسه، لأنه إن كان مسمى أحدهما غير مسمى الآخر لزم الأول وإن كانا مسماهما واحدا لزم الثاني وكلاهما باطل فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي سموه الله أو الرحمن أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى.
ومن هذا الباب قوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ } بغيرِ تنوين وذلك أنَّهم قد حَملوها على وجهينِ :(1/27)
1- أن يكونَ القارىءُ له أرادَ التنوينَ ثم حَذَفه لالتقاءِ الساكَنْين ولم يحركه كقراءة من قرأ : ( قُلْ هوَ اللهُ أحدُ اللهُ الصَّمدُ ) بتركِ التَنوين من " أحد ".
2- أن يكون الابنُ صفةً ويكونَ التنوينُ قد سقط على حدِّ سقوطه في قولنا : جاءني زيدُ بنُ عمرٍو ويكونَ في الكلام محذوف ثم اختلفوا في المحذوف فمنهم من جعله مبتدأ فقدّر " وقالتِ اليهودُ هو عُزيرُ ابنُ الله " ومنهم من جَعَله خبراً فقدَّر وقالت اليهودُ : " عزيرُ ابنُ الله معبودنا" وهذا خطأ فادح، لأنه إذا قيل: "زيد الفقيهُ قد قَدِم" فقلتَ له : كذبتَ أو غلطتَ لم تكن قد أنكرتَ أن يكون زيدٌ فقيهاً ولكن أن يكون قد قدم، الإِثباتُ والنفيُ يتناولان الخبرَ دونَ الصفة، فعلى هذا سيكون معنى الآية إثبات ابن لله، وأن الإنكار إنما توجه لجعله معبودا وهذا شيء عظيم.
القاعدة الرابعة: في جهة إضافة الكلام على قائله:
كل نظم أو نثر ليس مضافا إلى مؤلفه من جهة كونه واضعا لكلماته بل من جهة توخي معاني النحو في معاني الكلم.
فليس قائل الشعر قائلا من حيث نطق بالكلم إذ يساويه الحاكي في ذلك، وإنما كان امرؤ القيس قائلا :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
من جهة جعله (نبك) جوابا للأمر، و (من) معدية على ذكرى، وهكذا.
القاعدة الخامسة: في معرفة الفصيح:
لا يعدو الكلام الفصيح قسمين:
أحدهما: المفردات التي فيها مجاز واتساع كقول ابن هرمة:
"ولا أبتاع إلا قريبة الأجل".
ومراده أنه لا يشتري بعيرا أو شاة إلا للضياف.
وفي هذا القسم تعزى المزية على اللفظ ويدخل فيه الكناية والاستعارة وغيرها.
وقول بعضهم: إنَّ الكلام يكونُ فصيحاً من أجل مزيَّةٍ تكون في معناه، يرده أن يكونَ تفسيرُ الكلامِ الفصيحِ فصيحاً مثلَه، وهذا خطأ، فقول ابن هرمة هنا من الكناية المطلوب بها إثبات صفة فالشاعر يريد وصف نفسه بأنه مضياف، وهذا ليس كما لو قال: هو مضياف.(1/28)
الثاني: ما تعزى المزية منه على النظم وهو الذي عقد له الركن الثاني، وهو غرضنا في هذا الفن.
وقد توصف الكلمة بالفصاحة لكونها أكثر استعمالا كـ"ينمى" مع "ينمو".
الركن الثالث
في معرفة أحوال اللفظ وأسماء أصنافه في علم البديع
1- التجنيس:
وهو اتفاق اللفظين في أربعة اشياء: نوع الحروف وعددها وهيئاتها الحاصلة من الحركات والسكنات وترتيبها مع اختلاف معانيهما، وهو قسمان :
الأول: الكامل (المستوفى): وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن والحركات والسكنات، ويقع الاختلاف في المعاني، كما في قوله تعالى: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ }
الثاني: الناقص: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد أو أكثر من الأربعة السابقة، ومنه:
- المختلف: وهو أن تعاد الكلمة بتغيير الحركة نحو: "البدعة شَرَك الشِرك".
- المطلق: وهو أن تتفق الكلمتان في أصل واحد من جهة الاشتقاق كقوله تعالى: { فأقم وجهك للدين القيم } , { وجنى الجنتين دان } .
- المركب: وهو ألا يجمعهما اشتقاق لكن بينهما موافقة صورة مع أن إحداهما من كلمتين والأخرى من كلمة واحدة، وهو على وجهين:
1. المفروق: أن تكون المشابهة من جهة اللفظ لا من جهة الخط، نحو: "من ظلم نملة فنم له".
2. المرفو: أن تكون المشابهة بينهما من جهة اللفظ والخط، نحو: "يا مغرور أمسك وقس يومك بأمسك".
- المذيل: وهو زيادة الحرف الأخير مع اتفاق ما قبله لفظا وزنة وتمام معنى أحدهما دونه، نحو: "طوبى لرجل سال من إخوانه سالم منه زمانه".
- تجنيس الخط: وهو أن يتفق اللفظان صورة في الحروف دون النقط واللفظ كقوله تعالى: { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } .
- المضارع: وهو أن يقع تفاوت بحرف من الحروف المتقاربة سواء وقع أولا أو وسطا أو آخرا كقوله تعالى: { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ } .(1/29)
- التجنيس اللاحق: هو كالسابق ولكنه يقع في الحروف التي لا تقارب فيها كقوله تعالى: { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ{7} وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ{8} } .
- المزدوج: وهو أن يلي أحد المتجانسين الآخر، نحو: "من جدّ وجد".
- المشوش: كل تجنيس تجاذبه طرفان ولا يمكن إطلاق اسم أحدهما عليه دون الآخر، نحو: "فلان مليح البلاغة لبيق البراعة".
2- الترصيع:
وهو توازن الألفاظ مع توافق الأعجاز أو تقاربها، فالتوافق كقوله تعالى: { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } ومثال التقارب: { وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم }
3- الاشتقاق:
وهو أن تأتي بألفاظ يجمعها أصل واحد مع زيادتها عليه معنى كقوله تعالى: { فأقم وجهك للدين القيم } وقوله تعالى: { وجنى الجنتين دان } وهذا يشبه المشتق وليس به.
4- الطباق:
وهو الجمع بين لفظين متقابلين في المعنى، وقد يكونان اسمين كقوله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } .
أو فعلين كقوله تعالى: { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى }
أو حرفين كقوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
5- لزوم ما لا يلزم:
هو التزام حرف مخصوص قبل حرف الروي كقوله تعالى: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} } .
6- التضمين المزدوج:
وهو أن يقع في أثناء الكلام لفظان مسجعان كقوله تعالى: { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } .
7- الالتفات:
وهو العدول من الغيبة إلى الخطاب نحو: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{5} }
أو من الخطاب إلى الغيبة نحو: { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } .
8- الاعتراض:(1/30)
وسماه بعضهم التفاتا،وهو أن تدرج في الكلام ما يتم الغرض دونه، أو هو الإتيان بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب في أثناء كلام أو كلامين اتصلا معنى.
والمقصود به تحقيق ما اعترض فيه أو تكميل معنى تعلق به، كقوله تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } فقوله { سبحانه } اعتراض لتنزيه الله سبحانه وتعالى عن البنات والشناعة على جاعليها.
9- اللف والنشر:
وهو أن يذكر متعدد ثم يذكر ما لكل من أفراده شائعا من غير تعيين اعتمادا على تصرف السامع في تمييز ما لكل واحد منها ورده إلى ما هو له، وهو نوعان:
أ اللف والنشر المرتب: وهو أن يكون النشر على ترتيب اللف كقوله تعالى: { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } فقد جمع الليل والنهار ثم ذكر السكون لليل وابتغاء الرزق للنهار على الترتيب.
ب اللف والنشر غير المرتب كقوله تعالى: { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } ذكر ابتغاء الفضل للثاني وعلم الحساب للأول على خلاف الترتيب.
10- التفسير:
وهو أن يذكر متعدد ثم يعاد ذكر كل واحد مع ماله. كقوله تعالى: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ{105} } فذكر متعددا وهو: (شقي وسعيد) ثم أعاد الأول وحاله { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ } ثم أعاد الثاني وحاله { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ } ومثله قوله تعالى: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ{4} فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ{5} وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ{6} }(1/31)
ويناسب هذا الفن التقسيم الصحيح وهو استيفاء أقسام الشيء، كقوله تعالى: { ُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } .
11- التعديد:
وهو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد وأكثر ما يكون في الصفات، ومقتضاها ألا يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها كقوله تعالى: { الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ } .
ويسمي البعض هذا بـ"تنسيق الصفات".
12- التخييل:
وهو تصوير الشيء حتى يتوهم أنه ذو صورة يشاهد وأنه مما يظهر في العيان كقوله تعالى: { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } .
13- المتوازي:
وهو أن تتفق الفاصلتان وزنا وتقفية كقوله تعالى: { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ{13} وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ{14} } .
والمُطَرَّف: أن تختلف الفاصلتان في الوزن وتتفقا في حروف السجع كقوله تعالى: { َّما لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً{13} وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً{14} } .
والمتوازن: أن يتفقا في الوزن دون التقفية نحو: { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ{15} وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ{16} } و { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ{117} وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ{118} }
14- رد العجز إلى الصدر:
هو أن يأتي في آخر الكلام بما يوافق أوله.
أو هو أن يجعل احد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما -بأن جمعهما اشتقاق أو شبهه- في أول الفقرة ثم تعاد في آخرها كقوله تعالى: { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } و { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } واللذان يجمعهما شبه اشتقاق نحو: { قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ } .
15- العكس:
هو أن تقدم في الكلام جزءا ثم تعكس بأن تقدم ما أخرت وتؤخر ما قدمت، ويأتي على أنواع منها:(1/32)
أ أن يقع العكس بين أحد طرفي جملة وما أضيف إليه ذلك الطرف نحو: "كلام الملوك ملوك الكلام".
ب أن يقع العكس بين متعلقي فعلين في جملتين كقوله تعالى: { وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } .
ت أن يقع العكس بين لفظين في طرفي الجملتين كقوله تعالى: { لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
16- الاستطراد:
وهو أن يخرج المتكلم من الغرض الذي هو فيه إلى غرض آخر لمناسبة بينهما ثم يرجع فينتقل إلى إتمام الكلام الأول كقوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } فهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليهما إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى.
ومنه قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } فجاء الاستطراد عتابا للمؤمنين وذكرا لجملة من الأحكام ثم بعد أربعين آية جاء حكم الأنفال وهو قوله تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء... }
17- الاستهلال:
وهو أن يبتدئ بما يدل على ما بعده، أو هو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، كسورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن فإنها مشتملة على جميع مقاصده، وكقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ } إلى قوله تعالى: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } .
18- الترديد:(1/33)
وهو أن تورد اللفظة لمعنى من المعاني ثم تردها بعينها وتعلق بها معنى آخر، كقوله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنها وإن تكررت نيفا وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها، وكقوله تعالى: { حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله }
19- التتميم:
وهو أن يتم الكلام فيلحق به ما يكمله إما مبالغة أو احترازا أو احتياطا .
وقيل هو أن يأخذ في معنى فيذكره غير مشروح وربما كان السامع لا يتأمله ليعود المتكلم إليه شارحا.
كقوله تعالى: { ويطعمون الطعام على حبة مسكينا ويتيما وأسيرا } فالتتميم في قوله { على حبه } جعل الهاء كناية عن الطعام مع اشتهائه، وكذلك قوله { وآتى المال على حبه }
وكقوله تعالى: { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة } فقوله { وهو مؤمن } تتميم في غاية الحسن.
وكقوله تعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } فقوله: { وهل نجازي } إنما ورد على جهة التوكيد لما مضى من الكلام الأول.
20- تجاهل العارف:
وهو ذكر المعلوم أو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه لنكته،كقوله تعالى: { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } أن لم يكونوا يعرفون عنه إلا أنه رجل ما.
وكقوله تعالى: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }
وكقوله تعالى: { أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ } .
والحمدلله رب العالمين(1/34)