الفصل الثاني
- - -
دراسة أمثلة للتفسير بالمأثور بالمنطقة
- - - - - -
تفسير يحيى بن سلام
من خلال تفسيره ومختصره لابن أبي زمنين
***
مؤلف هذا التفسير هو يحيى بن السلام بن أبي ثعلبة البصري ثم القيرواني ت200هـ وهو من أئمة القيروان ولو أنه مولود بالكوفة ونشأ بالبصرة وقد صنف تفسيره بالقيروان ومنها انتشر .(1)
التعريف بالتفسير :
وتفسير ابن سلام مشهور باسمه وهو من التفاسير المخطوطة غير الكاملة(2) وقد رجعت إلى بعض أجزاء منه بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بعضها مصورة برقم 611،610 ، وبعضها على ميكروفيلم برقم 1343،1344،1345، 1346، وهي نسخة عن دار الكتب القومية برقم 24791/ب ، 24792/ب .
وتفسير ابن سلام اهتم به عدة من الباحثين(3) فحاولوا تحقيق بعض أجزائه ولكن لم أقف على شيء طبع من ذلك حتى الآن .
وقد جاء تفسير ابن سلام من طرق : منها طريق ابنه محمد (ت262هـ) الذي كانت له عناية كاملة ومعرفة بالحديث ، ومنها طريق أبي داوود بن موسى بن جرير الأزدي العطار (ت274هـ) ، الذي اشتهر بطلب العلم منذ صغر سنه ، وقد عمر ، وعن طريقه انتشر تفسير ابن سلام بالأندلس وبالمشرق .
__________
(1) تقدمت ترجمته في الوافدين برقم (103)
(2) قد ذكرت مواضع نسخ الكتاب في ترجمة يحيى بن السلام .
(3) منهم حمود صمود والبشير ورشيد الغزي تحت إشراف الدكتور محمد طالبي (انظر مقدمة تفسير هود 1/26 الحاشية ، وانظر مقدمة التصاريف ص83 )(1/1)
وتفسير ابن سلام اختصره عالمان أندلسيان هما أبو عبد الله محمد بن عيسى بن أبي زمنين(1) ، وعبد الرحمن بن مروان القنازعي ت 413هـ ، ولم يصلنا غير مختصر ابن أبي زمنين وقد اطلعت عليه في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية النسخة المصورة برقم 3131 ، والميكروفيلم برقم 1350،4498 وقال في مقدمته :
قرأت كتاب يحيى بن سلام في تفسير القرآن ، فوجدت فيه تكرارا كثيرا وأحاديث ذكرها يقوم التفسير دونها ، فطال بذلك الكتاب …فاختصرت في هذا الكتاب مكرره وبعض أحاديثه ورددت مافيه من غير كتاب يحيى مالم يفسره يحيى ، وأتبعت ذلك إعرابا كثيرا …الخ .(2)
ولهذا التلخيص أهمية كبيرة إذا يساعد على تلافي ما لحق تفسير ابن سلام من نقص، إذ الموجود منه ، في مختلف قطعه ، يقارب ثلثيه .(3)
وهناك كتاب ثالث يعتبر اختصارا لتفسير ابن سلام وإن لم يصرح صاحبه بذلك إلا أنه عبث ببعض النصوص العقدية لتوافق معتقده ألا وهو تفسير هود بن محكم الهواري الإباضي وسوف يأتي الحديث عنه مفصلا في الفصل القادم .
__________
(1) من علماء الأندلس ولد بغرناطة سنة 324هـ وتوفي بألبيرة سنة 399هـ وله ترجمة في طبقات المفسرين للداوودي 2/161 ، الديباج ص269 . والكتاب منه نسخة بمكتبة القرويين وأخرى بالمتحف البريطاني .
(2) المقدمة ق2 ، ولم أنقل في هذا المبحث من مختصر ابن أبي زمنين إلا ما صرح فيه أنه عن يحيى .
(3) انظر التفسير واتجاهاته ص53(1/2)
وقد تكلم عن منهج ابن سلام في تفسيره عدة(1) ، سوف ألخص كلامهم وأزيد عليه مايتيسر إلا أنني لن أطيل في بيان منهجه لأنني سوف أتعرض له مرة ثانية ضمنا عند حديثي عن منهج هود الهواري .
ومقدمة تفسير ابن سلام مفقودة وجاء على بعض أجزائه : الجزء الحادي والعشرون والثاني والعشرون من تفسير يحيى بن سلام البصري رحمه الله رواية أبي الحسن علي ابن الحسن عن أبي داود وأحمد بن موسى عن يحيى بن سلام سماع لعبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن . وفيها خرم كثير وتكرار في بعض المواضع .
وقد ذكر ابن أبي زمنين أنه سيبدأ اختصاره بما بدأ به يحيى بن سلام وهو قوله : حدثنا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار .(2)
كما يتبين من نقل ابن أبي زمنين أن مقدمة ابن سلام تضمنت ذكر حد الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وبعض مايتعلق بنزول القرآن وترتيب الآيات داخل السور وماجاء في البسملة .
__________
(1) منهم حسين شواط في مدرسة الحديث في القيروان 2/912، ووسيلة بلعيد في التفسير واتجاهاته بإفريقية 57 ، وعبد السلام الكنوني في المدرسة القرآنية في المغرب ص 135، وبالحاج شريفي في مقدمة تفسير هود بن محكم 1/26 ، وابن عاشور في التفسير ورجاله ص36 . وكتبت عنه رسالة علمية باللغة التركية بعنوان "يحيى بن سلام ومنهج تفسيره" أعدها إسماعيل جراح أوغلو بكلية الإلهيات بجامعة أنقرة 1970م .
(2) المقدمة ق2(1/3)
ونقل ابن أبي زمنين عن يحيى أيضا قوله في مقدمته : ولا يعرف تفسير القرآن إلا من عرف اثنتي عشرة خصلة : القرآن المكي والمدني والناسخ والمنسوخ والتقديم والتأخير والمقطوع والموضوع والخاص والعام والإضمار والعربية(1) .
المنهج العام للتفسير :
وتفسير يحيى بن سلام تفسير أثري على منهج القدماء وهو حلقة بين التفاسير المتقدمة الخالية من أي تدخل من المفسر مثل تفسير ابن جريج ومجاهد وغيرهما وبين تفسير ابن جرير الطبري الذي استفاض في ذكر اللغويات والقراءات والترجيحات.
وهذا التفسير يعتبر أقدم تفسير بالمأثور موجود إلى اليوم حيث لم يصل إلينا ما ألف
من تفاسير قبله(2).
ومنهج يحيى فيه أنه يذكر الآية ثم يسوق الأحاديث والآثار الواردة فيها بإسناده إلى أصحابها ، وربما علق السند ولم يذكره كاملا ، ويتعرض أحيانا للقراءات وبعض اللغويات .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : يذكر ابن سلام أسماء السور مجردة فيقول مثلا : سورة التوبة ثم يسوق الروايات ، لايتعرض لأسماء أخرى للسورة أو لعد آيها ومواضع الوقوف منها ونحو ذلك .
وهو يذكر مكية أم مدنية ومن أمثلة ذلك(3) :
__________
(1) انظر للعلوم التي يحتاج إليها المفسر : التيسير في قواعد التفسير ص144-148 ، الإتقان 2/225- 235 ولم أجد فيما ذكره أهل العلم المقطوع والموضوع ويبدو – والله أعلم - أنه أراد علمين من علوم الحديث لهما أثر في التفسير بالمأثور وهما :
المقطوع : وهو الموقوف على التابعين قولاً وفعلاً ، والموضوع : وهو المختلق المصنوع من الحديث (انظر الباعث الحثيت ص38،65)
(2) باستثناء التفسير المنسوب إلى مجاهد(ت101هـ) والأقرب فيه أنه لآدم بن أبي إياس (ت221هـ) وما فيه عن مجاهد هو أغلب مروياته كما حققه فضيلة الدكتور حكمت بشير ياسين (انظر مجلة الجامعة الإسلامية 1412هـ – ملحق رقم 2)
(3) يلاحظ أن النسخة التي رجعت إليها هنا وفي بعض المواضع الأخرى غير مرقمة الصفحات(1/4)
قال : تفسير سورة الرعد وهي مكية ماعدا آية واحدة مدنية { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة } (1) إلى آخر الآية
وقال : تفسير سورة الجمعة ، وهي مدنية كلها
تفسير سورة المزمل ، وهي مكية كلها
تفسير سورة الممتحنة ، وهي مدنية كلها
تفسير سورة الحواريين(2) ، وهي مدنية كلها ، وهكذا
ثانيا : موقفه من العقيدة :
ومن خلال تفسيره ، يبرز مذهبه العقائدي المتمثل في اتباع السلف الصالح ، والابتعاد عن التأويل ، والرد على المبتدعة وأصحاب الضلالات .
وهو على مذهب السلف في الإمساك عن الخوض في آيات الصفات فقد فسر قوله تعالى { ثم استوى على العرش } (3) بأنه مثل قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } (4). (5)
وساق آثارا في العرش وماهيته فقال :
عن أبيه عن ابن آمنة عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “بين السماء السابعة وبين العرش كما بين سماءين”(6) .
عن أبيه عن المعلى بن هلال عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين ولا يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه(7).
وقال في قوله تعالى : { وهو معكم } (8) : حاضركم { أينما كنتم والله بما تعملون بصير } (9) .
__________
(1) الرعد : 31
(2) يعني سورة الصف .
(3) الرعد :2
(4) طه : 5
(5) ق 656
(6) إسناده ضعيف لإرساله . وقد روي عن العباس نحو ذلك مطولا أخرجه أحمد 1/207 وغيره ، وقد حسن إسناده الذهبي ، وروي عن ابن مسعود أخرجه ابن مهدي وغيره (انظر : كتاب التوحيد مع فتح المجيد ص513-514 ، وانظر : العرش وما روي فيه ص55-56)
(7) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص71 وعبد الله بن أحمد في السنة ص71 وغيرهما . وقال الذهبي : رواته ثقات . وقال الألباني : صحيح . (انظر مختصر العلو ص102)
(8) الحديد : 4
(9) الحديد : 4(1/5)
وذكر في تفسير قوله تعالى { ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } (1) أن النضر سمع أبا قلابة يقول لأيوب : يا أيوب احفظ مني ثلاثا : لا تقاعد أهل الأهواء ولا تستمع منهم ولا تفسرن القرآن برأيك فإنك لست بذلك في شيء وانظر هؤلاء الرهط من أصحاب النبي فلا تذكرهم إلا بخير(2) .
ثم يقول زيادة في التأكيد على ذم اتباع أهل الأهواء ومجادلتهم : ثلاث ارفضوهن : مجادلة أصحاب الأهواء وشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنظر في النجوم(3).
كما تعرض أيضا إلى رأي السلف في القدر فأكد أن كل شيء بقدر وأن الخوض في القدر منهي عنه ، فقد روى عن ابن مسعود قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : “إذا ذكر القدر فأمسكوا ، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا ، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا”(4).
وفي قوله تعالى { الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } (5) روى أثرا عن علي قال : كل شيء بقدر حتى هذه ووضع طرف أصبعه السبابة على طرف لسانه ثم وضعها على ظفر إبهامه اليسرى .
وفي مبحث الإيمان تعرض ابن سلام إلى أن الشرك بالله يوجب النار وأنه لا ينجي منها إلا الإيمان بالله الواحد الأحد ، وذكر جملة أحاديث وآثار وجميعها تفيد أن المشرك في النار وأن الموحد في الجنة (6)، وذلك عند تفسير قوله تعالى { ومن جاء بالسيئة } (7)
__________
(1) الحشر :10
(2) ق 346
(3) ق 347
(4) ق 346 ، أخرجه الطبراني في الكبير 2/278 ، وأبو نعيم في الحلية 4/108 وفي إسناده مسهر بن عبد الملك قال الحافظ : لين الحديث (التقريب 6667) ولكن للحديث طرق وشواهد يرتقي بها للصحة ( انظر : السلسلة الصحيحة رقم 34 ، صحيح الجامع رقم 559)
(5) الفرقان : 2
(6) ق 76
(7) النمل : 90(1/6)
ويؤكد ابن سلام على أهمية أعمال المؤمنين وعلى أنها المعيار الذي يحدد المنزلة التي ينالونها في الجنة خلافا لما شاع عنه من تهمة الإرجاء (1) .
فقد ذكر في تفسير قوله تعالى : { ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون } (2) أن للمؤمنين درجات في الجنة على قدر أعمالهم وللمشركين درجات في النار على قدر أعمالهم(3) .
كما أكد على القيام بالفرائض والاشتغال بذكر الله وذلك في تفسيره لقوله تعالى : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } (4) ونقل عن السدي أن هؤلاء كانوا إذا سمعوا المؤذن تركوا بيعهم وقاموا إلى الصلاة وذكر الله(5) .
وفي موضوع البعث والحساب يوم القيامة يورد ابن سلام أخبارا مطولة فيها تفصيلات لما يلقاه المؤمنون من جزاء حسن ينتهي بهم إلى منازلهم في الجنة ومايناله الكافرون والمشركون من عقاب وسوء مصير يفضي بهم إلى جهنم خالدين فيها وقد أوضح ابن سلام (6) هذه المعاني عند تفسيره لقوله تعالى { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } (7)
كما نقل ابن سلام أحاديث متعددة في فضل الصحابة رضي الله عنهم ومن ذلك :
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “ إن في السماء الدنيا ثمانين ألف ملك يستغفرون لمن أحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، وفي السماء الثانية ثمانون ألف ملك يلعنون من أبغض أبا بكر وعمر ، ومن أحب جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق”(8).
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
__________
(1) سبق وأن تحدثت عنها في ترجمته .
(2) الأحقاف :19
(3) ق 565
(4) النور 36
(5) ق 54
(6) ق 7
(7) الإسراء : 13-14
(8) ق 99 ، رواه الخطيب والديلمي وأبو نعيم وقد حكم بوضعه غير واحد منهم الخطيب
والشوكاني (انظر الفوائد المجموعة ص338)(1/7)
إن تفسير القرآن بالقرآن كثير في تفسير يحيى فمن ذلك
قول يحيى : قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له } (1)وتفسيره في سورة البقرة { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } (2)
وقال : قوله تعالى : { يغشي الليل النهار } (3) وهو كقوله : { يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل } (4) .
وقال : قوله { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } (5) فيها إضمار خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، اليوم منها ألف سنة كقوله { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } (6) .
وقوله : { للتي هي أقوم } (7) وقال في المزمل { وأقوم قيلا } (8) : أصوب .
وقوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (9) تفسير الحسن : ألا يعذب قوم باستئصال حتى يحتج عليهم بالرسول كقوله { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا } (10) وكقوله { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } (11)يعني الأمم التي أهلكها الله بالعذاب .
وقوله : { كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا } (12)يقول : هي كقوله تعالى { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } (13) (14)
وقال في تفسير قوله تعالى { ومن آياته منامكم بالليل } (15) : هي كقوله عز وجل { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه } (16)
__________
(1) البقرة : 245
(2) البقرة : 261 ، ق 84/ب
(3) الأعراف : 54
(4) الزمر : 5
(5) الحديد :4
(6) الحج : 47
(7) الإسراء : 9
(8) المزمل : 6
(9) الإسراء : 15
(10) القصص : 59
(11) فاطر : 24
(12) مريم : 78
(13) النبأ : 30
(14) ق 24
(15) الروم : 23
(16) القصص :73 ، ق 80(1/8)
كما فسر قوله تعالى { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } (1) قال : هو كقوله { وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا } (2) وكقوله : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } (3) (4)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
ومن الأحاديث المرفوعة التي ذكرها يحيى في قوله في تفسير قوله تعالى { قل نار جهنم أشد حرا } (5):
وحدثني حماد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ” قيل : يارسول الله ! إن كانت لكافية . قال : “فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا .” (6)
وقال في قوله { له معقبات } (7):
… عن نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - “يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار فيجتمعون عند صلاة الصبح وعند صلاة العصر فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون” (8).
وقال في تفسير قوله تعالى { وجئتك من سبأ } (9)
__________
(1) إبراهيم : 7
(2) هود : 52
(3) الأعراف : 96
(4) ق 357
(5) التوبة :81
(6) ق598 ، أخرجه بنحوه البخاري – بدء الخلق - باب صفة النار 4/90 والترمذي - كتاب صفة جهنم - باب ما جاء أن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا 4/709 .
(7) الرعد:11
(8) أخرجه البخاري – التوحيد – باب قوله تعالى { تعرج الملائكة والروح إليه } 9/154 ، ومسلم - المساجد ومواضع الصلاة – باب فضل صلاة الصبح والعصر 1/439
(9) النمل :22(1/9)
وحدثني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة أنه سمع ابن عباس يقول: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ أرجل أم امرأة ؟ فقال : “بل هو رجل ولد عشرة فباليمن منهم ستة وبالشام أربعة ، فأما اليمانيون فمذحج وحمير وكندة وأنمار والأزد والأشعريون ، وأما الشاميون فلخم وجذام وعاملة وغسان ” (1)
وقال في تفسير قوله تعالى { إني وجدت امرأة تملكهم } (2)
وحدثني المبارك عن الحسن عن أبي بكرة قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : “لن يفلح قوم تملكهم امرأة” (3)
وقال في تفسير قوله تعالى { ونفخ في الصور } (4)
عثمان عن نعيم به عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجد موسى متعلقا بالعرش فلا أدري أصعق فيمن صعق أم
أجزأته الصعقة الأولى” (5)
__________
(1) ق23 ، أخرجه أحمد 1/316 والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة سبأ 2/423 وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وسكت الذهبي . وله شاهد من حديث فروة بن مسيك (انظر مرويات الإمام أحمد في التفسير 3/445)
(2) النمل :23
(3) ق 24 ، أخرجه البخاري - كتاب الفتن- باب 13/53 من طريق الحسن به بلفظ : ولوا أمرهم امرأة .
(4) الزمر :68
(5) ق 39 ، أخرجه مسلم -كتاب الفضائل - باب من فضائل موسى عليه السلام4/1844 بأطول منه .(1/10)
وقال : وقال بعضهم { وتقلبك في الساجدين } (1)كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى في الصلاة من خلفه كما يرى من بين يديه قال يحيى : سمعت سعيدا يذكر عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - “أحسنوا الركوع والسجود إذا ماركعتم وإذا ماسجدتم والذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري كما أراكم من بين يدي” . حماد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “استووا والذي نفسي بيده إني لأراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي” .(2)
وقد اشتمل تفسير يحيى من ذلك على ثروة كبيرة من الحديث حتى إن ابن أبي زمنين قد صرح في مقدمة المختصر أن الدافع لاختصاره هو كثرة ما اشتمل عليه من الأحاديث .
وهو لا يلتزم بإخراج الصحيح بل ربما أورد أحاديث ضعيفة بل وموضوعة كما تقدم ، ومن ذلك أيضًا قوله : { الذين يأكلون الربا لا يقومون …. } (3)
__________
(1) الشعراء : 219
(2) ق 18 ، أخرجه البخاري – كتاب الصلاة – باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف 2/208 وباب إلزاق المنكب بالمنكب 2/211 وباب الخشوع في الصلاة 2/225 ، ومسلم – كتاب الصلاة – باب الأمر بتحسين الصلاة 1/319
(3) البقرة :275(1/11)
نا حماد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث عن ليلة أسري به فكان في حديثه أنه أتي به على سابلة آل فرعون حيث ينطلق بهم إلى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فإذا رأوها قالوا : ربنا لاتقيمن الساعة لما يرون من عذاب الله قال : “فإذا أنا برجال بطونهم كالبيوت يقومون فيقعون لظهورهم ولبطونهم فيأتي عليهم آل فرعون …. بأرجلهم … قلت : من هؤلاء ياجبريل ؟ فقال : هؤلاء أكلة الربا ” ثم تلا هذه الآية { الذين يأكلون الربا لايقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } (1)
ومارواه أيضا عن أبي الأشهب والمبارك عن الحسن قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : “ثلاثة من حفظهن هو عبد لي حقا ، ومن ضيعهن فهو عدو لي ؛ ائتمن الله ابن آدم على ثلاث : الصلاة ، ولو شاء قال : قد صليت . وعلى الصوم ، ولو شاء قال : قد صمت . وعلى الغسل من الجنابة ، ولو شاء قال : قد اغتسلت .” ثم تلا هذه الآية { يوم تبلى السرائر } (2). (3)
وأما أسباب النزول فهو يهتم بذكرها وأمثلتها كثيرة ومن ذلك :
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق (انظر سيرة ابن هشام 2/38) وابن جرير 15/11 والبيهقي في دلائل النبوة 2/390 وابن عدي في الكامل 6/2123 وابن عساكر في تاريخ دمشق 1/581 من طريق أبي هارون به مطولا ولم يسمه ابن إسحاق وقد ضعفه ابن كثير والذهبي (انظر البداية 3/111 ، السيرة النبوية ص181) وأبو هارون اسمه عمارة بن جوين قال الحافظ : متروك ومنهم من كذبه ، شيعي (التقريب 4840) (انظر صحيح السيرة النبوية 2/404).
(2) الطارق :9
(3) ق92 ، وهو حديث قدسي إسناده ضعيف لإرساله وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء نحوه وزاد : الزكاة . وأخرج ابن المنذر عن عطاء نحو ذلك من قوله (انظر الدر المنثور 6/375).(1/12)
قال في تفسير قوله عز وجل { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } (1) : حدثني الفرات عن طاووس أن رجلا قال : يا رسول الله ! إني رجل أقف المواقف ، أريد وجه الله ، وأحب أن يرى مكاني ، فلم يرد عليه رسول الله شيئا ، فنزلت هذه الآية (2). (3)
وقال يحيى : عاصم بن حكيم عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } (4)قال أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت هذه الآية { إن الشرك لظلم عظيم } (5).(6)
وعند تفسيره لقوله تعالى { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } (7)، قال : أخبرني صاحب عن الأعمش عن أبي الضحاك عن مسروق عن خباب بن الأرت قال : كنت قينا في الجاهلية ، فعملت للعاصي بن وائل حتى اجتمع لي عنده دراهم فأتيته أتقاضاه ، فقال : والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لمبعوث ؟. قلت : نعم . قال : فسيكون لي ثَمّ مال وولد فأقضيك ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية إلى قوله { ويأتينا فردا } (8).(9)
وأما تعرضه لفضائل السور والآيات فمن أمثلته :
__________
(1) الكهف :110
(2) ق21 .
(3) ضعيف لإرساله أخرجه ابن أبي حاتم وابن أبي أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاووس به ، وقال السيوطي : مرسل . وأخرجه الحاكم من طريق طاوس عن ابن عباس موصولاً وصححه على شرط الشيخين وله شواهد عن مجاهد وغيره (انظر لباب النقول ص22) ولم يذكره صاحب الصحيح المسند من أسباب النقول .
(4) الأنعام : 82
(5) لقمان :13
(6) ق 82 ، أخرجه البخاري – كتاب التفسير : تفسير سورة لقمان - { لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } رقم 4776 ، ومسلم - كتاب الإيمان - باب صدق الإيمان وإخلاصه رقم 124 كلاهما من طريق الأعمش به .
(7) مريم : 78
(8) مريم :80 .
(9) ق24 .(1/13)
ذكر في آخر آية من سورة البقرة وهي قوله { لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كسبت } (1) ، أنها دعاء غفر الله به للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم نقل حديثا من طريق قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “ إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي سنة ، فوضعه تحت العرش فأنزل منه آيتين فختم بهما سورة البقرة ، لا تقرآن في بيت ، فيقربه الشيطان ثلاث ليال { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } (2) إلى آخر السورة .
كما ذكر فضل بعض الآيات من سورة الكهف ، وهو ما جاء في حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ” (3) .
__________
(1) البقرة : 28 .
(2) البقرة :285،286إسناده ضعيف لإرساله ولكن أخرج أحمد 4/274 والترمذي- كتاب فضائل القرآن – باب ماجاء في سورة البقرة 5/160 ، والدارمي – كتاب فضائل القرآن – باب في فضل سورة البقرة 2/449 وابن حبان باب قراءة القرآن - ذكر البيان بأن آخر سورة البقرة إذا قرئ في دار …2/110 ، والحاكم في المستدرك – كتاب فضائل القرآن – باب أخبار في فضل سورة البقرة 1/562 ، كتاب التفسير – باب من سورة البقرة 2/260 وغيرهم عن النعمان بن بشير مرفوعا الجزء الأول منه وصححه ابن حبان والحاكم وقال الترمذي : حسن غريب . وله طرق أخرى وشواهد (انظر موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 1/186-188) وأما الجزء الثاني فهو عند ابن حبان وغيره وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره ص91 عن أبي قلابة مرسلا . وأخرج الطبراني 2/161 عن معاذ ابن جبل في حديث طويل معناه وأخرجه أيضا الحاكم 1/563 وصححه وسكت الذهبي.
(3) أخرجه مسلم - كتاب صلاة المسافرين- باب فضل سورة الكهف 1/555 ، وأحمد 5/196، 6/446،449 وغيرها .(1/14)
ويروي ابن سلام حديثًا آخر عن فضل خاتمة سورة الكهف عن قتادة أيضًا وهو قوله : “من حفظ خاتمة سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه ” (1).
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
كثيرا ما يفسر يحيى الآيات بأقوال الصحابة والتابعين مسندة وغير مسندة :
ففي قوله تعالى { له معقبات } (2)
قال يحيى : عبد القدوس بن مسلم عن ليث عن مجاهد قال : مامن آدمي إلا ومعه ملكان يحفظانه في ليله ونهاره ونومه ويقظته من الجن والإنس والدواب والسباع والهوام … (3)
وقال في قوله عز وجل { وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم } (4) : قال قتادة : الذي يراك قائما وجالسا وفي صلاتك . قال { وتقلبك في الساجدين } (5) قال قتادة : في الصلاة وقال بعضهم : { الذي يراك حين تقوم } في الصلاة وحدك { وتقلبك في الساجدين } في صلاة الجميع وقال بعضهم : { الذي يراك حين تقوم } في الصلاة قائما { وتقلبك في الساجدين } في الركوع والسجود قال يحيى : أحد هذين الوجهين تفسير السدي وقتادة …وتفسير ابن مجاهد عن أبيه: الذي يراك حين تقوم أينما كنت .(6)
__________
(1) أخرجه هكذا مرسلا عبد الرزاق في المصنف 3/377 وأصله حديث أبي الدرداء السابق ذكره فقد جاء من طريقه موصولا عند أبي عبيد في فضائل القرآن ص177 .
(2) الرعد :11
(3) في إسناده ليث بن أبي سليم قال الحافظ : صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك (التقريب 5685 ) ولكن أخرجه ابن جرير 13/115 من طرق أخرى عن مجاهد بنحوه، وقد جاء هذا التفسير عن غيره من السلف أيضا (انظر الدر 4/54،55) .
(4) الشعراء : 219
(5) الشعراء : 220
(6) ق18 وفي مختصر ابن أبي زمنين 129/ب : { الذي يراك حين تقوم } يعني حين تقوم في الصلاة وحدك { وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم }(1/15)
وقال في قوله { ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي } (1) : قال قتادة : عندي { المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم } (2) تفسير الحسن: { لا يخاف لدي المرسلون } في الآخرة وفي الدنيا لأنهم أهل الولاية وأهل المحبة { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء } فغفر الله له وهو قتل ذلك القبطي لم يتعمد قتله ولكن تعمد وكزه . (3)
قال : قوله عز وجل : { وأدخل يدك } (4)قال السدي : يعني يده بعينها ، { في جيبك } (5) قال قتادة : أي في جيب قميصك { تخرج بيضاء من غير سوء } (6) قال: من غير برص ، وهو تفسير السدي .
قال : قوله { ماكان للنبي والذين آمنوا ….الجحيم } (7)
أخبرنا سعيد عن قتادة وهشام عن قتادة قال : كان أنزل في سورة بني إسرائيل { وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } (8)ثم أنزل هذه الآية { ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } (9)إلى آخر الآية فلا ينبغي لمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ولا يقول رب ارحمهما (10). وقال الحسن : { من بعد ماتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } (11) ماتوا على الكفر .
__________
(1) النمل :10
(2) النمل : 11
(3) ق21 وفي ابن أبي زمنين130/أ : إني لا يخاف لدي المرسلون أي عندي إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم أي فإنه لا يخاف عندي وكان موسى ممن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء غفر الله له وهو قتل ذلك القبطي لم يتعمد قتله ولكن تعمد وكزه .
قال محمد : قوله { إلا من ظلم } قال : هو استثناء ليس من الأول والله أعلم : لكن من ظلم من المسلمين وغيرهم ثم تاب .
(4) النمل : 12
(5) النمل : 12
(6) النمل : 12
(7) التوبة :113
(8) الإسراء : 23-24
(9) التوبة : 113
(10) هو مذكور بنحوه في الناسخ والمنسوخ لقتادة ص181 ، وقد ذكره النحاس في ناسخه ص181 .
(11) التوبة : 113(1/16)
قال يحيى : يقول : اللهم اهده ولا يقول : اللهم اغفر له . (1)
وفي قوله تعالى { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } (2)
قال يحيى : عن صاحب له عن فطر بن خليفة عن مجاهد قال : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } : إخوانهم من العجم (3) .
وقال : قوله { كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين } (4)تفسير الحسن يقول : أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين والمقتسمون أهل الكتابين الذين اقتسموه فجعلوه كتبا بعد إذ كان كتابا واحدا فجعلوه كالأعضاء وحرفوه عن مواضعه ثم قالوا : هذا من عند الله . وكتب الله كلها القرآن .
وقال : قول الله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } (5)
حدثني إبراهيم بن محمد عن محمد بن المنكدر عن عبد الله بن جعفر عن علي وعمر
قالا : المسجد الذي أسس على التقوى مسجد النبي عليه السلام (6).
وقال في تفسير قوله تعالى : { رفع السموات بغير عمد ترونها } (7)
سعيد عن قتادة عن ابن عباس : لها عمد ولكن لا ترونها(8).
__________
(1) ق605
(2) الجمعة : 3
(3) إسناده ضعيف لأن فيه مبهما وقد أخرجه ابن جرير 28/95 من غير هذه الطريق عن مجاهد وعزاه السيوطي لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وغيرها (الدر 6/238) .
(4) الحجر :90-91
(5) التوبة :108
(6) ق 21 ، وفي إسناده ابراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال الحافظ : متروك ، (التقريب 241) وانظر (تهذيب الكمال 1/63) وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة (انظر الدر المنثور 3/300) ورواه الترمذي مرفوعًا - كتاب التفسير 5/280 وقال : حسن صحيح غريب .
(7) الرعد :2
(8) إسناده ضعيف لانقطاعه قتادة لم يسمع من غير أنس من الصحابة (انظر التهذيب 8/351) وقد فسرها بذلك تلميذ ابن عباس : مجاهد (انظر التفسير المنسوب إليه 1/323)(1/17)
وفي قوله { فلا أقسم بمواقع النجوم } (1) قال : أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن { لقرآن كريم } على الله { في كتاب مكنون } عند الله بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة { لا يمسه إلا المطهرون } (2) يعني من الذنوب وهم الملائكة وهو تفسير السدي .
قوله عند تفسير قول الله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } (3).
هشام عن قتادة عن مطرف بن عبد الله قال : فضل العلم أعجب إلي من فضل العبادة . قيل : لم ؟ قال : لأنه أورع لله عن محارمه(4).
عاصم بن حكيم عن هلال بن خباب قال : قلت لسعيد بن جبير : متى هلاك هذه الأمة ؟ فقال : إذا هلك فقهاؤها هلكوا (5).
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
ذكر ابن سلام عدة روايات في الإسراء مستقاة من السيرة في بداية سورة الإسراء ومن ذلك قوله :
وقال بعض من رواه : يامحمد نسألك عن عيرنا هل رأيتها في الطريق ؟ قال : نعم قال : أين ؟ قال : مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا ناقة لهم وهم في طلبها …. فذكر قصة طويلة .
__________
(1) الواقعة :75
(2) الواقعة :79
(3) المجادلة : 11
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/32 من طريق قتادة به نحوه وإسناده صحيح . هشام : هو ابن سنبر الدستوائي قال الحافظ : ثقة ثبت (التقريب 7299) وقتادة : ثقة مشهور .
(5) ق 127 ، أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/153 من طريق هلال به
وعاصم : قال الحافظ : صدوق (التقريب 355) وهلال : قال الحافظ : صدوق تغير بأخرة (التقريب 7334) فالإسناد حسن .(1/18)
ومن مواضع تعرضه للسيرة بيانه لقوله عز وجل { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } (1)بالاستناد إلى رواية الكلبي حيث ذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج أسماء بنت النعمان الكندية وكانت من أحسن البشر ، فقالت نساء نبي الله : لئن تزوج رسول الله علينا الغرائب ، ما له فينا حاجه ، فحبس الله نبيه على أزواجه اللائي عنده ، وأحل له من بنات العم والعمة والخال والخالة ما شاء .(2)
وفسر قوله عز وجل { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطأوها } (3)، بما رواه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما حاصر بني النضير وقطع نخلهم ، فرأوا أنه قد ذهب بعيشهم فصالحوه على أن يجليهم إلى الشام .(4)
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
والإسرائيليات في تفسير يحيى كثيرة لأنه ينقل عن الكلبي في مواضع عدة ومن ذلك قوله في تفسير قوله عز وجل : { قيل لها ادخلي الصرح } (5)
__________
(1) الأحزاب : 52
(2) ق91
(3) الأحزاب : 27
(4) ق118
(5) النمل : 44(1/19)
وقال الكلبي : إن الجن استأذنوا سليمان وقالوا : ذرنا فلنبن لها صرحا من قوارير –والصرح قصر – ننظر كيف عقلها وخافت الجن أن يتزوجها سليمان فتطلع سليمان على أشياء كانت الجن تخفيها من سليمان ، قال قتادة : وكان أحد أبويها جنيا قال يحيى : فلذلك تخوفوا ذلك منها ، قال الكلبي : وأذن لهم فعمدوا إلى الماء فحجزوه في أرض فضاء ثم أكثروا فيه من الحيتان والضفادع ثم بنوا عليه سترة من زجاج ثم بنوا عليه صرحا – قصرا ممردا – من قوارير – والممرد الألمس- ثم أدخلوا عرش سليمان- أي سرير سليمان- وعرشها وكراسي عظماء الملوك ثم دخل الملك سليمان ودخل معه عظماء جنده ثم قيل لها : ادخلي الصرح وفتح الباب فلما أرادت الدخول إذا هي بالحيتان والضفادع فظنت أنها مُكِر بها لتغرق ثم نظرت فإذا هي بالملك سليمان على سريره والناس عنده على الكراسي فظنت أنها مخاضة فكشفت عن ساقيها وكان بها سوء فلما رآها سليمان كرهها فلما عرفت الجن أن سليمان قد رأى منها ماكانت تكتم من الناس قالت لها الجن : لاتكشفي عن ساقيك ولا قدميك….الخ .
وقال ابن مجاهد عن أبيه : وكانت أم بلقيس جنية وكان قدم بلقيس كحافر حمار وقال قتادة : وكان مؤخر رجلها كحافر الدابة . (1)
وفي قوله تعالى { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } (2):
قال : عن كعب الأحبار قال : إن يأجوج ومأجوج ينقرون كل يوم بمناقرهم في السد ، فيشرعون فيه ، فإذا أمسوا قالوا : نرجع غدا فنفرغ منه ، فيصبحون وقد عاد كما كان ، فإذا أراد الله تبارك وتعالى خروجهم قذف على ألسن بعضهم الاستثناء ، فقالوا : نرجع غدا إن شاء الله ، فنفرغ منه ، فيصبحون وهو كما تركوه ، فينقرونه فيخرجون على الناس .
__________
(1) ق 28 ونقله أيضا ابن أبي زمنين 132/أ عن الكلبي
(2) الكهف:90(1/20)
ومما يتصل بهذا المبحث روايته لبعض الأخبار المتعلقة بتوضيح مبهمات القرآن فقد ذكر في تفسير الرجل ، والمدينة من قوله تعالى { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } (1) أن الرجل هو حبيب النجار ، وأن المدينة هي أنطاكية(2).
ثامنا : موقفه من اللغة :
يقوم بتفسير بعض المفردات التي لا رواية فيها ومن ذلك قوله :
قال يحيى : { الدين } (3) في اللغة الجزاء ، ومن كلام العرب دنته أي جازيته(4).
وقال : قوله عز وجل { إنه هو السميع العليم } (5)لاأسمع منه ولا أعلم منه . (6)
وقال يحيى : قوله : { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم } (7) ذوو السعة والغنى في البقاء والتخلف عن الجهاد ، { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } (8)النساء (9).
وأقول : هذا فيه نظر وإنما النساء أردن بقوله : الخوالف ، وأما القاعدون فهو جمع مذكر سالم أريد به المتخلفون من المعذورين (10).
وقال يحيى عند تفسير قول الله عز وجل : { بئسما اشتروا به أنفسهم } (11) : وكل شيء في القرآن "اشتروا" فهو شراء إلا هذه الآية ، وكل شيء في القرآن "شروا" فهو بيع(12) .
وقال { طوبى لهم } (13) أي : حسنًا لهم وهي كلمة من كلام العرب .(14)
__________
(1) القصص :25
(2) ق 657
(3) الفاتحة :4
(4) انظر ابن أبي زمنين 7/ب
(5) الشعراء : 220
(6) ق18
(7) التوبة : 86
(8) التوبة : 86
(9) ق 19
(10) انظر تفسير الطبري 10/207 –208
(11) البقرة : 90
(12) انظر ابن أبي زمنين 11/ب
(13) الرعد: 29
(14) ق 668(1/21)
ومن تعرضه أيضا لبعض النواحي اللغوية قوله : { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار } (1) فيها تقديم وتأخير : سواء من أسر القول منكم ومن جهر به … قوله : { له معقبات } (2) لهذا المستخفي وهذا السارب ، { من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } (3)فيها تقديم وتأخير : له معقبات من بين يديه ومن خلفه من أمر الله ، أولئك يحفظونه(4).
وتعرض ابن سلام إلى بعض الألفاظ الواردة في القرآن والتي هي من أصل أعجمي فنسبها إلى أصولها . مثل لفظة (المشكاة) في قوله تعالى { الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } (5) قال : المشكاة : الكوة في البيت التي ليست بنافذة وهي بلسان الحبشة(6) . ولفظة (المنسأة) في قوله تعالى { فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته } (7)قال : وهي العصا بالحبشية(8). وقال في أصل لفظة (القسطاس) في قوله تعالى : { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم } (9) بالقسطاس : العدل بالرومية(10)
ولم أقف على استدلال ليحيى بالشعر فيما رجعت إليه من تفسيره (11)
__________
(1) الرعد : 10
(2) الرعد : 11
(3) الرعد : 11
(4) ق 27
(5) النور : 35
(6) ق53
(7) سبأ :14
(8) ق 93
(9) الإسراء : 35
(10) ق 9
(11) وقد وقعت صاحبة التفسير واتجاهاته في مأزق كبير ويبدو أنها لا تحفظ القرآن حيث نسبت لابن سلام أنه يحتج للتفسير اللغوي بالشعر العربي القديم وقالت : فقد ذكر في تفسير معنى (أسفا) من قوله تعالى { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } (الكهف :6) : غضبا وهو تفسير قتادة ثم قال : مثل قوله :
…….. فلما آسفونا أغضبونا
انظر التفسير واتجاهاته ص95
فظنت أن قوله : فلما آسفونا أغضبونا شطرا من بيت شعر عربي ووصفته بأنه قديم والمراد كما هو واضح تفسير كلمة آسفونا من قوله تعالى { فلما آسفونا انتقمنا منهم } (الزخرف :55) بأن معناها : أغضبونا . وهو موافق لما رواه ابن جرير 25/84 عن قتادة وغيره .(1/22)
.
تاسعا : موقفه من القراءات :(1)
لقد وصف الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور منهج ابن سلام بقوله : …يتدرج من اختيار المعنى إلى اختيار القراءة التي تتماشى وإياه ، مشيرا إلى اختياراته في القراءة بما يقتضي أن له رواية ، أو طريقا ، لا يبعد أن تكون راجعة إلى قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري ، لأن يحيى بن سلام بصري النشأة .(2)
ويؤيد كلامه هذا ما جاء في تفسير يحيى لقوله تبارك وتعالى { أن لهم النار وأنهم مُفْرَطون } (3) حيث قال : معجلون إلى النار …وبعضهم يقرأ هذا الحرف { وأنهم مُفَرِّطون } يعني أنهم مفرّطون : قولهم : { يا حسرتنا على ما فَرّطنا فيها } (4) ، ثم قال : وكذلك قرأتها عند أبي عمرو .
وقد كان له مصحف معتمد رجح البعض أنه مصحف البصرة(5) ظهر ذلك عند تفسيره لقوله تعالى { الزانية والزاني } (6) حيث قال يحيى : وأما الرجم فهو في مصحف أبي بن كعب وفي مصحفنا .(7)
__________
(1) انظر دراسة خاصة بالقراءات عند يحيى بن سلام من خلال تفسيره عند هند شلبي في القراءات بإفريقية ص151-185
(2) التفسير ورجاله ص27
(3) النحل :62
(4) الأنعام : 31
(5) انظر القراءات بإفريقية ص176 .
(6) النور :2
(7) ق49(1/23)
وكثيرًا ما يشير يحيى في تفسيره إلى أوجه القراءة المختلفة ، غير أنه لا يصرح بأسماء أصحاب تلك القراءات إلا قليلا ، ولا غرابة في ذلك ، فقد ذكر ابن الجزري أنه روى الحروف عن أصحاب الحسن البصري ومنهم الحسن بن دينار وغيره . وقال: وله اختيار في القراءة من طريق الآثار .(1) ومن نماذج ذلك ما يلي :
قوله { ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } (2)، أشار يحيى إلى أن أنها تقرأ بالتخفيف والتثقيل أي : يَكْذِبون من الكذب ، ويُكَذِّبون من التكذيب .(3)
__________
(1) غاية النهاية 2/373 ورواية الحروف لم أقف على من حد لها حدا ولكنها غير عرض القراءات قطعا ، وربما يتضح معناها مما ذكره ابن الجزري في ترجمة يحيى بن سعيد الكوفي حيث قال : قال يوسف القطان : قلت لجرير بن عبد الحميد كيف أخذتم هذه الحروف عن الأعمش ؟ قال : إذا كان شهر رمضان جاء أبو حيان التميمي وحمزة الزيات مع كل واحد منهما مصحف فيمسكان على الأعمش المصحف ويقرأ ويجتمع الناس ويسمعون قراءته فأخذنا الحروف من قراءته . غاية النهاية 2/372-373
وقال القاري : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تلقى أحرف القرآن السبعة … ثم علق قائلا : الحرف لغة الوجه ومعناه هنا وجه القراءة وعند الصحابة كانوا يستعملون هذا الاصطلاح مرادفا للقراءة فقول عمر بن الخطاب : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة ، أي على قراءات كثيرة ، ويقولون : حرف زيد وحرف أبي وحرف ابن مسعود ، كل ذلك معناه القراءة التي يرويها هؤلاء ، فالنسبة إليهم كنسبة الحديث النبوي إلى راويه . سنن القراء ومناهج المجودين ص32 .
وتعبير روى الحروف ونحوه متكرر عند ابن الجزري بكثرة في غايته انظر أمثلة لذلك 2/36،106،108،168،261،274 ويلاحظ أن هذا التعبير غالبا مايكون في المتقدمين قبل تسبيع السبعة .
(2) البقرة : 10
(3) انظر مختصر ابن أبي زمنين ل4/ب(1/24)
قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } (1) قال يحيى : مقرأ العامة بالنصب فيهما . وذكر قراءة أخرى وهي : نصب الحج ورفع العمرة ، وذكر أن هذه القراءة تتفق مع قول من ذهب إلى أن الحج فريضة والعمرة تطوع .(2)
قوله { قالوا ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون } (3) قال : يعنون موسى ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الحسن ، وقال سعيد بن جبير : يعنون موسى وهارون عليهما السلام .(4)
قوله { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } (5) قال : وهي تقرأ زُبُرا وزُبَرا فمن قرأها زُبَرا يقول : قطعا ، ومن قرأها زُبُرا يقول :كتبا .(6)
قوله { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية } (7) قال : وهي تقرأ على وجهين : { قَرن } و { قِرن } ، فمن قرأها { وقِرن } فمن قبل القرار ، ومن قرأها { وقَرن } فمن قبل الوقار .(8)
قوله { سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون } (9) قال: وهي تقرأ على وجهين : { فرَضناها } و { فرَّضناها } على التخفيف والتثقيل ثم قال : فرض فيها فرائضه قال قتادة : وحد فيها حدوده وسن فيها سننه يعني مافرض في هذه السورة وسن فيها . وقال السدي : وفرَّضناها : يعني بيناها .(10)
__________
(1) البقرة :196
(2) انظر مختصر ابن أبي زمنين ل21/ب
(3) القصص :48
(4) ق34 ويلاحظ هنا أنه اعتمد قراءة الحسن وأهل البصرة وغيرهم : ساحران بفتح المهملة بعدها ألف ، والقراءة الأخرى وهي قراءة أهل الكوفة : سحران بكسر المهملة بدون مد ثم سكون وهما قراءتان سبعيتان . انظر : إتحاف فضلاء البشر ص343
(5) المؤمنون : 53
(6) قراءة العشرة بضم الباء وقرأ بالفتح الأعمش قال أبو حيان : جمع زبرة . انظر البحر المحيط 6/338
(7) الأحزاب : 33
(8) ق120 والقراءة الأولى بفتح القاف والثانية بكسرها وهما قراءتان سبعيتان .
(9) النور :1
(10) ق49(1/25)
قوله { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } (1) ، قال : وهي تقرأ على وجهين : { حمئة } و { حامية } ثم قال : حدثني المعلى عن محمد بن عبيدالله عن ابن أبي مليكة قال : تمارى ابن عباس وعمرو بن العاص في { عين حمئة } فقال ابن عباس : حمئة ، وقال عمرو : عين حامية فجعلا بينهما كعب الحبر فقال كعب : نجدها في التوراة تغرب في ماء وطين كما قال ابن عباس .(2)
ثم أشار ابن سلام إلى معنى ما جاء في قول كعب الأحبار فقال : يعني بالحمأ : الطين المنتن(3) ، ومن قرأها حامية يقول حارة .(4)
وهو يتعرض للقراءات الشاذة المخالفة لرسم المصحف :
ومن هذا النوع ما ذكره في قراءة قوله تعالى : { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما } (5) قال : قال سعيد عن قتادة : كانت تقرأ في الحرف الأول : صمتا (6)وبلغني عن أنس بن مالك أنه كان يقرؤها { صوما } صمتا .(7)
قوله { أن بورك من في النار ومن حولها } (8) قال : قال قتادة : { ومن حولها } الملائكة وهي في مصحف أبي بن كعب : نودي أن بوركت النار ومن حولها .(9)
قوله : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } (10). قال : سعيد عن قتادة قال : هي في قراءة أبي بن كعب : له معقبات من بين يديه ورقيب من خلفه .
وأما اختيار يحيى في القراءات الذي أشرنا إليه آنفا حفظ لنا بعض حروفه ابن أبي زمنين في مختصره ومن ذلك قوله :
__________
(1) الكهف : 86
(2) أخرج ابن جرير نحوه 16/11 من طريق عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس . وعزاه السيوطي أيضا لسعيد بن منصور وابن المنذر (انظر الدر المنثور 4/272)
(3) انظر المفردات في غريب القرآن ص133
(4) ق 19 ، وهما قراءاتان سبعيتان انظر لتوجيههما بنحو مما هنا : إتحاف فضلاء البشر ص294
(5) مريم: 26
(6) أخرجه ابن جرير 16/75 من طريق يزيد بن زريع عن سعيد به مثله وفيه زيادة .
(7) ق22
(8) النمل :8
(9) ق20
(10) الرعد : 11(1/26)
{ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } (1)قال محمد : قراءة يحيى : { واتخِذوا } بكسر الخاء .
وقوله { ومن يعش عن ذكر الرحمن } (2) قال محمد : قراءة يحيى : يعشَ ، بفتح الشين .(3)
وقوله { في غيابة الجب } (4) قال محمد : كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة ، وكذلك قرأ يحيى : { غيابة الجب } .(5)
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
وهو يتعرض للفقهيات دائما في نقوله عن الصحابة والتابعين وأحيانا من كلامه هو كما في تفسير قوله تعالى { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } (6)بعد أن ذكر الآثار والكلام في الرجم قال يحيى : ولا تحصن الأمة ولا اليهودية ولا النصرانية ولا يحصن المملوك الحرة ولا يحصن الحر إذا كانت له امرأة لم يدخل بها ولا تحصن امرأة لها زوج لم يدخل بها وإذا أحصن الرجل أو المرأة فوطئ مرة واحدة ثم زنا بعد ذلك وليس له امرأة يوم زنا أو زنت امرأة ليس لها زوج يوم زنت فهما محصنان يرجمان وإذا زنا أحد الزوجين وقد أحصن ولم يحصن الآخر رجم الذي أحصن منهما وجلد الذي لم يحصن منهما مائة ولا تحصن أم الولد وإن ولدت له أولادا وإذا زنا الغلام أو الجارية وقد تزوجا وقد دخل الغلام بامرأته أو دخل على الجارية زوجها ولم يكن الغلام احتلم ولم تكن الجارية حاضت فلا حد عليهما لا رجم ولا جلد حتى يحتلم أو تحيض …الخ كلامه فهو أطول من ذلك.(7)
وأطال أيضا في المواريث تحت قوله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم… } (8) الآيات ، إطالة مملة لا علاقة لها بالتفسير حيث عدد حالات تفصيلية:
ومن ذلك قوله : أخ لأب وأم نصفه حر وأخ لأب حر فنصف المال للأخ لأب وأم لأن نصفه حر والنصف الثاني للأخ للأب
وقوله : رجل ترك ثلاثة بنين أحدهم حر ونصف الآخر حر … الخ
وعقد أبوابا : ميراث الملاعنة في قول ابن مسعود وعلي …
__________
(1) البقرة : 125
(2) الزخرف : 36
(3) ل315/أ
(4) يوسف :10
(5) ل152/أ
(6) النور:2
(7) ق735
(8) النساء:11-12(1/27)
وللأرحام في قول ابن مسعود …الخ .
وكثيرًا ما يذكر يحيى اختياره من بين ما يورده من الروايات ، معبرًا عن ذلك ، بقوله : " وبه يأخذ يحيى" ومن ذلك :
أنه أورد عدة روايات في نفقه المطلقة ثلاثًا وسكنها ، ثم أورد الرواية عن عمر - رضي الله عنه - بأن لها السكنى والنفقة ، وقال على إثرها : " وبه يأخذ يحيى " .(1)
كما ساق يحيى عدة روايات تتعلق بنفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ، وفي آخرها أورد رواية عن جابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء ، قالوا : الحامل المتوفى عنها لا نفقه لها ثم قال : "وبه يأخذ يحيى" .(2)
ومن رواياته في النسخ :
ما تقدم في قوله { ماكان للنبي والذين آمنوا ….الجحيم } (3)
قال : أخبرنا سعيد عن قتادة وهشام عن قتادة قال : كان أنزل في سورة بني إسرائيل { وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } (4) ثم أنزل هذه الآية { ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } (5) إلى آخر الآية ، فلا ينبغي لمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ولا يقول : رب ارحمهما .(6)
وللمؤلف استطرادات في بعض الأحيان سوى ماتقدم في الفقهيات ومن ذلك إطالته في الحديث عن الجمعة وخطبتها في تفسير سورة الجمعة فساق أحاديث وآثارا جانبية لا علاقة لها بالتفسير ومنها قوله :
__________
(1) ق53
(2) ق53 وانظر أيضا ق20
(3) التوبة : 113
(4) الإسراء :23-24
(5) التوبة : 113
(6) سبق تخريجه وتخريج الآيات في موقف المؤلف من تفسير القرآن بأقوال السلف .(1/28)
ابن لهيعة عن عبد ربه بن سعيد عن أخت لعمرة بنت عبد الرحمن قالت : حفظت هذه السورة ق والقرآن المجيد من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ظهر قلب وهو على المنبر كل يوم جمعة .(1)
__________
(1) ابن لهيعة مشهور وفيه كلام كثير ، وعبد ربه قال الحافظ : ثقة (التقريب 3786) وأخت عمرة هي أم حارثة بنت النعمان وقد أخرج حديثها هذا غير واحد من طرق أخرى ومنهم مسلم - كتاب الجمعة – باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/595 من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن أختها به نحوه .(1/29)
تفسير ابن برجان
الصوفي
من خلال كتابه الإرشاد
***
مؤلف هذا التفسير هو أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبي الرجال محمد ابن برجان اللخمي الإفريقي الإشبيلي الصوفي من الوافدين على المنطقة ت 536 هـ بمراكش . (1)
وقد ذكرت في ترجمته أنهم عابوا عليه الإمعان في علم الحرف واستخدامه إياه في التفسير وقرروا أنه مبتدع .
نبذة عن موقف الصوفية(2) من التفسير :(3)
قال الحافظ ابن الصلاح رحمه الله عندما سئل عن كلام الصوفية في القرآن :
وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمي "حقائق التفسير" فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر . قال ابن الصلاح : وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولاذهب مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير …ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإبهام والإلباس .(4)
وقد قسم الدكتور حسين الذهبي التفسير الصوفي إلى قسمين :
__________
(1) تقدمت ترجمته في الوافدين يرقم 32
(2) الصوفية : اختلف أهل العلم في نسبتهم ومنشئهم ومنهم الغلاة الذين مرقوا من دين الإسلام وقالوا بوحدة الوجود وأغرقوا في الفلسفة ، ومنهم المعتدلون الذين اعتبروا التصوف مرادفا للزهد والعزوف عن الدنيا كما كان أهل الصدر الأول ، ولكن هذا القسم يكاد يكون منعدما وتحول أمر مدعيه إلى جنون وجذب وخرافات وطبل وزمر وموالد ، وينظر للاستفاضة : هذه هي الصوفية وصوفيات كلاهما لعبد الرحمن الوكيل ، الرد على القائلين بوحدة الوجود لعلي سلطان قاري ، التصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر شقفة ، حوار مع الصوفية لأبي بكر العراقي .
(3) انظر : التفسير والمفسرون 2/338 ، اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر 1/357
(4) الفتاوى ص29(2/1)
التفسير الصوفي النظري : وهو مابني على مباحث نظرية وتعاليم فلسفية وهو يقوم على مذهب وحدة الوجود .
التفسير الصوفي الفيضي أو الإشاري : وهو تأويل لآيات القرآن على خلاف الظاهر بمقتضى إشارات خفية تظهر لمن يطلق عليهم أرباب السلوك ، ويفترض فيه إمكانية التطبيق بينه وبين الظواهر المرادة .(1)
وهذا الأخير له شروط عند من قبله وقد تقدم شيء من ذلك في كلام ابن باديس رحمه الله إلا أن تلك الشروط لا تكاد تنطبق عند النقد .
وأضيف هنا قسما ثالثا :
وهو التفسير الصوفي الحرفي : وهو استعمال الحروف وأسرارها التي هي من وحي الشياطين في تفسير كتاب الله تعالى ، وتفسير ابن برجان من هذا النوع ، وأما النوع الأول فسوف نتعرض له في تفسير ابن عربي ، والنوع الثاني سوف نتعرض له في تفسير ابن عجيبة ، نسأل الله السلامة .
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى "الإرشاد" من التفاسير المخطوطة وقد ذكر الزركلي أنه لم يكمله وأن أكثر كلامه فيه على طريق الصوفية ، وفي كشف الظنون أنه ذكر فيه من الأسرار والخواص ما هو مشهور فيما بين أصحاب هذا الشأن .
وقد وقفت على نسخة على الميكروفيلم بمكتبة الجامعة الإسلامية جاء عليها :
النصف الأول من تفسير القرآن العظيم للشيخ الإمام العارف الرباني أبي الحكم عبدالسلام بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن اللخمي عن السليمانية بتركيا 8951/1-2 ، وهي التي اعتمدتها في دراسة الكتاب ، وهي من سورة الفاتحة إلى سورة الكهف .
وقد افتتح المؤلف الكتاب بخطبة ثم عقد فصلا يدل على انحراف فكره قال فيه :
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون 2/339،352(2/2)
ثم قد يكشف الله جل جلاله لبصائر بعض عباده المؤمنين فيرون بها ما غاب عن أبصار رءوسهم …فرأوا بنور الإيمان وحقيقة الإيقان ما ليس بشخص ولا جوهر ولا عرض ولا هو من قبيل ذلك ..ثم قد يرون أيضا ما ليس كالأجسام المعهودة ….مرائي روحانية يصورها مصور العقل في باطن الذكر …وكذلك يزيل الوقر عن أسماع قلوبهم فيسمعون بها ما غاب عن آذان رءوسهم …إلى أن قال : وأما الإلهام ...الخ
وأما التوسم ...الخ
فلم يكن الله جل جلاله ليجعل كلامه الكريم ظاهرا كله للحكمة والحكم اللذين في كلامه ولئلا يصل إلى فهم رفيع خطابه إلا من صرف همته إليه ...ثم ذكر الظاهر والباطن .
ثم شرع في الحديث عن البسملة .
وهذا التفسير في الجملة تفسير صوفي يركز على الحرف وشيء من الإشارة وأنواع من الهذيان ، وهو لا ينقل عن أحد سبقه البتة ، ولا يهتم باللغويات والنحو .
ويبدأ بذكر اسم السورة كقوله سورة البقرة ….ولا يذكر مكية أو مدنية ولا عدد آي ولا مناسبات …….
وربما خالف ذلك مثل قوله سورة الأنعام مكية غير تسع آيات نزلت هذه السورة ليلا المنسوخ منها أربع عشرة آية (1) .
ويتعرض للكلام في العقائد فقال تحت قوله تعالى : { إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك } (2)بعد أن ذكر كلاما كثيرا عن المسيح والمسيح الدجال تطرق للكلام عن علي بن أبي طالب وقال : وحتى هذا اعتقد قوم أنه حي وأنه تكون منه رجعه فيفعل ما يفعل الوصي فإنهم ادعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله وصيا وهذا لم يثبت وإنما يكون في نسله ومنهم يكون الرجل الصالح المهدي المبشر به فهذا أوقع أولئك في هذيانهم من قولهم بالرجعة (3).
__________
(1) 213/أ
(2) آل عمران :55
(3) 147/ب(2/3)
وهو يذكر الآيات القرآنية بكثرة في نسق واحد وفي الغالب يكون لا تعلق لها بالآية المراد تفسيرها أو تعلقها طفيف جدا وربما ذكر تفسيرا مقبولا لآية بآية كما هو منهج المفسرين ومثل ذلك قوله : { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } (1) ذكر بعض المفسرين في ذلك أنه على المال ولهذا نظير قوله تعالى : { الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } (2)ثم استطرد بآيات على طريقته فقال : ومثله قوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا …..لا يبصرون } (3)وقوله { أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم …خالدون } (4) . (5)
وقد يذكر بعض الأحاديث الصحيحة كقوله :
جاء في الصحيح المأثور أن جبريل ورسول الله صلوات الله وسلامه عليهما (6)كانا قاعدين معا إذ سمع جبريل نقيضا في السماء .(7) فذكر الحديث في فضل الفاتحة وأواخر البقرة .
وقال : فصل :
فذكر فيه حديث أبي بن كعب فقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب - رضي الله عنه - : “يا أبي إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد ….الخ ”(8) الحديث في فضل الفاتحة .
ومن الأحاديث غير الصحيحة قوله :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا”
وفي أخرى “فجعل سورة يس جزءا”(9) .(10)
وقد يتعرض لأسباب النزول :
__________
(1) البقرة:174
(2) النساء:10
(3) يس:8
(4) الرعد:5
(5) 102/ب
(6) 7/أ
(7) أخرجه مسلم – كتاب صلاة المسافرين - باب فضل الفاتحة 1/554 عن ابن عباس
(8) سبق تخريجه .
(9) الرواية الأولى صحيحة أخرجها مسلم في صحيحه – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل قراءة قل هو الله أحد 1/556 عن أبي الدرداء ، وأما رواية يس فلم أقف لها على أصل إلا أنه روي أن من قرأها فكأنما قرأ القرآن . أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/273 عن قتادة عن رجل مرفوعا .
(10) 12/ب(2/4)
ومن ذلك قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } (1)
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } (2)ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله { ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } (3) (4)
وأما السيرة والتاريخ فمن مواضع تعرضه لها :
قال في قوله { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } (5) : اختلف الناس فيمن هو المعني بهذا المعنى فقال قوم : هو بلعام بن باعوراء وقيل : باعر وقال آخرون : هو البسوس عابد من بني إسرائيل قالوا : كانت له ثلاث دعوات استفذهن على ما ذكروه في امرأة والله أعلم أكان ذلك أم لا ؟ وقال قوم : هو أمية بن أبي الصلت وقال قوم : نزلت في راهب بن صيفي وقال قوم : إنها نزلت مثلا في اليهود والنصارى وكل من آتاه الله من آياته وعلمه كتابه فانسلخ من ذلك فهو المعنى بهذا ثم اختلفوا في القصص عن هؤلاء المذكورين وأنا ذاكر طرفا من قصص أمية بن الصلت لقرب طريقه وتارك ذكر قصص ما قص في شأن أولئك لبعد الطريق وتعذر الوقوف على صحته وسقمه ….فذكر طرفا وذكر شعرا كثيرا له في التوحيد .(6)
والعجيب أنه عندما أتى على قصة موسى والخضر اختصرها اختصارا شديدا ولم يتعرض لا لماهية الخضر ولا لحقيقة العلم اللدني الذي كان من المتوقع إسهابه فيه ولم يزد عن ذكر القصة مختصرة وبدأها بقوله : العلم اللدني هو خاص الخاص من العلم ولما سأله الصحبة وأعلمه سبب رحلته إليه قال ياموسى أنت على علم ملكه الله لا أعلمه أنا وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ….الخ
ومما ذكره قبل سوقه للآيات عن سبب القصة قوله :
__________
(1) النساء:43
(2) الكافرون:1،2
(3) النساء:43
(4) 176/أ
(5) الأعراف:175
(6) 265/ب،266/أ(2/5)
رأى - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتي العلم دون أهل الأرض إذ لم يعلم في الأرض رسولا غيره فأراد الله أن يكشف له عن علم هو أرفع من علم الرسالة التي هي للبشر فأعلمه بصاحبه.(1)
وأما الإسرائيليات فقد انفرد برأي غريب بالنسبة لهاروت وماروت فقال :
وكان الغالب ما أنزل عليهما ما هو من سبيل علم الأسماء وما يقتضيه وما يكون دواء من السحر وعلى الأقرب فالأقرب من معانيها وخاصة كل اسم منها في منافعه …. إلى أن قال : وكلاهما من عند الله جل وعز ومن رسله وملائكته لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فافهم مرسل الله من فضله …..فكانا عليهما السلام لأجل ذلك يقولا للمتعلمين منهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تزغ ولا تعدل عن الطريق فيعدل بك ...فمن آمن منهم واتقى الله أعلم رقية العلم ونال ذروة شرفه ونجا من الفتنة ووصف الله عز وجل المتعلمين منهم على السبل المذمومة أنهم إنما كانوا يتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه بدل الذي يوجب الألفة وكرم الوداد في الله ثم ما يتبع ذلك لا محالة مما يضاده ….الخ (2)
وأما اللغويات :
فربما تعرض لشرح المفردات مثل قوله :
الهداية : التسديد والإرشاد وإتمام النعمة على المهدي .(3)
ويتعرض للقراءات أحيانا مثل قوله :
قرئ الحمد لله بالنصب على المصدر والحمد لله بضم الدال واللام على الاتباع وبالكسر أيضا .
فذكر القراءات المتواتر منها والشاذ عن جعفر الصادق وثابت البناني وأيوب السختياني والمخالف منها لرسم المصحف .
كما ذكر القراءات في الملكين في قوله { على الملكين ببابل } (4)
وذكر القراءات في { ماننسخ من آية أو ننسها } (5)
ونذكر هنا مثالا لأسلوبه في معالجة الآيات الفقهية يقول :
__________
(1) 418/ب
(2) 62/أ،ب
(3) 16/أ
(4) البقرة:102
(5) البقرة:106(2/6)
قوله تعالى : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون … } (1)إلى آخر المعنى أعلم الله جل ذكره عباده بكتب الصيام عليهم مجملا لا يدري من لفظ الصيام ماهو قدره إلا ما قال الله { كما كتب على الذين من قبلكم } (2)فتوجه على المسلمين أن يصوموا صيام من كان قبلهم فكانوا يصومون ويفطرون قبل غروب الشمس كصيام أهل الإنجيل فبين الله جل جلاله هذا المجمل بقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل وكانوا يصومون إذا أفطروا فرفع أحدهم يده عن الطعام أو نام عنه لم يرجع إليه إلى مثلها فضر ذلك بعضهم فبين الله جل جلاله بقوله وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وكانوا لا يمسون النساء ولا يجامعوهن في الصيام وكانوا مع ذلك يتهافتون فيه ويحرجهم ذلك فبين الله جل ذكره ذلك بقوله { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ... } (3) إلى أن قال : وليس من القرآن في هذا كله شيء منسوخ ….ثم قال { ومن كان مريضا أو على سفر } (4)فعليه أن يصوم عدة ما أفطر أياما أخر من غيره وفي الخطاب { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } (5)فوجب على المريض والمسافر عدة أيام أخر وبقي على المطيقين وهي الحامل إذا خافت على ما في بطنها أفطرت وأطعمت وإن كانت هي مطيقة للصوم وكذلك المرضع إذا خافت على رضيعها أفطرت وأطعمت وأما الهرماء والزمنى الذين لا ترجى صحتهم فهم يطعمون ولا يكلفون صوما لعذرهم الدائم وفيه فمن تطوع خيرا ………….الخ (6)
{ أحل لكم } قال : وقد تقدم ذكر هذه الثلاثة الأحوال أنها نسخت بالقرآن العزيز فالمنسوخ بالقرآن هو شرع من كان قبلنا وكتابهم كما قال تعالى { كتب عليكم ….قبلكم } فكان ذلك شيء للكتاب المتقدم لا نسخا للقرآن . (7)
__________
(1) البقرة:183
(2) البقرة:183
(3) البقرة :187
(4) البقرة :185
(5) البقرة :184
(6) 104/أ،ب
(7) 106/أ(2/7)
وقد تكلم عن النسخ عند قوله تعالى : { ماننسخ من آية … } (1)
ومما قاله : وماورد في القرآن العزيز من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل قد يسر الله جل ذكره ناسخه عند منسوخه كنسخ الصدقة عند مناجاة الرسول بالآية التي أعقبها بها ……..فذكرها ثم بين أن ذلك ليس نسخا وإنما إنساء .
وقد ظهر أنه يرجح عدم وجود النسخ في القرآن وفسر الآية تفسيرا جديدا وربطها بقصة هاروت وماروت فقال : وإن كان الكلام في نسخ القرآن ما أنزل على الملكين عليهما السلام فتقديره { ما ننسخ من آية } مما أنزل عليهما { نأت بخير منها } أي أعظم مثوبة وأبعد من الفتنة وأقرب إلى السلامة .(2)
هذا عرض شبه تفصيلي لمنهج المفسر وهو يشم منه الانحراف عن الجادة وننقل هنا بعض النقول التي تتحدث عن نفسها في بيان انحراف هذا التفسير فمن ذلك :
ذكر كلاما كثيرا به تخليط وتخبيط يشتمل على أحاديث كثيرة صحيحة وآيات قرآنية بعضها في محلها وبعضها ليس في محلها ليقرر أن الفاتحة سبعة فصول تنفصل هذه السبعة فصول إلى مائة فصل عدد أسمائه جل ذكره وعددها عدد درجات الجنة عنها انفصل العلم كله وإليها رجع .
قال : وهذه الفصول الأربعة للقرآن شبيهة بالفصول السبعة للأسماء وقد تقدم ذكرها في شرح الأسماء (يعني كتابه الذي ألفه في شرح الأسماء الحسنى) وهي أيضا شبيهة بالأيام السنة سابعها يوم الجمعة وهو جامعها وموضع فريدها ، عنه انفصلت وإليه ترجع على نحو ما تقدم من العبرة في اسم الشهيد وهذه الفصول السبعة وما تفصلت إليه ترجع كلها إلى فصلين فصل الإلهية وفصل النبوة ويرجعان معا إلى فصل الإلهية ، الأعلى ينتظم الأسفل .(3)
__________
(1) البقرة :106
(2) 64/ب
(3) 12/ب(2/8)
ثم يقول : إنباه إياي أعني ونفسي أخاطب أين يذهب بك أيها اللاعب المتلاهي والبطال المتغافل أغفلت حظك ولهيت عن فوزك رب العالمين الرحمن الرحيم ذو العرش العظيم يذكرك ويثني كلامه على تلاوتك …..إلى أن قال : إنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله نحتسب غفلة التخلف { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } (1) { إن ربنا لغفور شكور } . (2)
وقال في تفسير كلمة { الرحيم } (3)
فصل : كان الله جل جلاله ولا شيء قبله ولا موجود سواه ولما كتب في الذكر كل شيء ثم أوجد أوائل ما كتبه فكان ذلك ثناء لفردانيته ثم استوى على العرش فحمد كل شيء باستوائه على العرش إذ حيي باستوائه ذلك العبد الكلي واستوى أي كمل وتم كما شاءه المستوي العلي الكبير فهو جل ذكره لا يعزب عنه من موجودات عبده الكلي والجزئي مثقال ذرة في العلو ولا في المنتهى ولا ماهو أصغر من ذلك ولا أكبر فكان مقتضى اسمه الرحمن شامل للجملة ومقتضى اسمه الرحيم عام للمطيعين .(4)
ويقول في { إياك نعبد } (5) وهي كلمة مركبة من أربعة أحرف هن حروف المعرفة الهمزة والباء والألف والكاف والهمزة صادرة من ذات المخاطب إلى الكاف التي هي لمواجهة المخاطب والياء والألف سبيل إلى ذلك وعماد له أشار بها السر المخاطب بالاخلاص للعبادة على حكم التوحيد المحض ..الخ .
ويقول : { الم } (6)ثلاثة حروف مرسومة ظاهرة وأربعة رءوس وستة توالي دخلت لضرورة النطق بالرءوس المرسومة الرءوس ولما كانت الهمزة إنما دخلت لضرورة النطق بالألف لحقت بالتوالي إذا سبعة والمرسومة ثلاثة فهي عشرة كانت هذه التوالي ………إلى أن قال :
__________
(1) يوسف :105-107
(2) 14/ب ، فاطر :34
(3) الفاتحة :3
(4) 15/ب
(5) الفاتحة :5
(6) البقرة :1(2/9)
فصل فالهمزة يعطي معناها هاهنا كلما ما أفهمته من معنى وما أعلمته من معلوم وكذلك الألف وكذلك اللام إذ هي أوائل المعاني في كل ما دخلت عليه كل صحيح معتبر ……..الخ (1)
فذكر في الحروف حوالي خمس صفحات :
قال فيها : وعلى هذا السبيل تأولها حبر العرب عبد الله بن عباس- رضي الله عنه - حيث قال : { الم } أنا الله أعلم ، { الر } (2) أنا الله أعلم وأرى . ولإمعانه في العلم بالحروف لما سئل عن تفسير قوله جل وعز { كهيعص } (3) قال : لو أخبرتكم بتفسيرها لكفرتموني وفي أخرى لكفرتم أي بتكذيبكم الحق .
وقال : وأما دلالة الميم المتأخرة الموجودة في حرف لام وحرف الميم فنقول هو الله لا إله إلاهو الحليم الحكيم ….الماضي والمضاء والمتمادي والأمر النافذ والتدبير المبرم هكذا ويدخل في الاعتبار والأحكام والقصص ….الخ (4)
ورجع للحروف مرة أخرى بعد أن تكلم عن نزول القرآن على سبعة أحرف .
وعقد عدة فصول تحت قوله { الذين يؤمنون بالغيب } (5)
قال في بعضها : ومصداق هذا قول الله عز وجل { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } (6)وأخبر جل جلاله أن ذلك من أمره أنزله إلينا وأعظم اليسر ما يفتحه الله
عز وجل على بواطن المتقين وينزله عليهم من فتوحاته وإلهامه ….الخ (7)
قال : ثم درجة أخرى منها تترقى إليها إن سمت بك همة وهي ستة معالم احتوت على معارف أحكام الملكوت التي أطلع الله جل ثناؤه عليها خصوص عباده وكلفهم تعلم علمها ……الخ (8) فذكر قرابة عشرين صفحة في الغيب .
__________
(1) 17/أ
(2) يونس :1
(3) مريم :2
(4) 18/أ
(5) البقرة :3
(6) الطلاق :4
(7) 26/أ
(8) 27/ب(2/10)
وعندما مر بقوله تعالى { إن الصفا والمروة } (1) تركه ومضى ولم يفسره إلى أن جاء قوله تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } (2) فأسهب فيه فذكر قرابة اثنتين وخمسين صفحة(3) وتكلم عن الفلك والظواهر الكونية فأطال جدا .
وقال في قوله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } (4)
أحد وجهي الخطاب معناه وهو الأظهر إرادة التشديد والزجر في حرمة للدماء بقتل القاتل من كان وهو الحق والصواب والحكمة .
والوجه الثاني وهو الأظهر في آخر الآية : القصاص من الأنفس قوله { لعلكم تتقون } إنه القصاص من الأنفس وتلك سنة أولي الألباب من كانت ذنوبه بكثرة الضحك يقاص منها بكثرة البكاء ومن سهر في البطالة فليسهر في العبادة والاجتهاد …الخ(5)
__________
(1) البقرة :158
(2) آل عمران :190
(3) 72/أ-98/ب
(4) البقرة :179
(5) 103/ب(2/11)
تفسير ابن بزيزة
من خلال كتابه البيان والتحصيل
***
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد عبد العزيز بن إبراهيم ابن بزيزة المالكي الصوفي ت662 هـ وهو من أهل المنطقة ولد بتونس وتوفي بها(1).
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى "البيان والتحصيل المطلع على علوم التنزيل" من التفاسير المخطوطة الناقصة وقد رجعت إلى نسخة على الميكروفيلم بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية وهي مصورة عن نسخة مكتبة القرويين وتقع في140ورقة غير مرقمة وتبدأ من قوله تعالى { ولقد وصلنا لهم القول } (2) من سورة القصص إلى سورة محمد وفيها سقط في الوسط وخلط شديد مع سوء في الخط . وعلى آخر لوحة من القسم الثاني من الكتاب جاء قوله : كمل السفر …. من تفسير القرآن العظيم المسمى بالبيان والتحصيل المطلع على علوم التنزيل الجامع بين الزمخشري وابن عطية وكان الفراغ من نسخه من أصل مؤلفه في بوم الأحد الرابع والعشرين من شهر المحرم عام ستة عشر وسبعمائة مؤلف هذا الكتاب هو الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد القرشي التميمي التونسي عرف بابن بزيزة … كان رحمه الله خيرا صوفيا وعالما فقيها جليلا ...وذكر بعض مؤلفاته وينتهي هذا القسم عند قوله : قوله عز وجل { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } (3).
المنهج العام للتفسير :
إن تفسير البيان والتحصيل تفسير متسع للقرآن جمع فيه مؤلفه المشكلات بين
تفسيري ابن عطية والزمخشري ومن الأمثلة على نقله عنهما قوله :
قال تعالى { لما أنزلت إلي من خير فقير } (4) قال ابن عطية : اتفق جميع المفسرين على أنه طلب في هذا المقام مايأكله ولم يصرح بذلك …(5)
__________
(1) مترجم في أهل المنطقة برقم 87 .
(2) القصص : 51
(3) محمد :20
(4) القصص : 24
(5) المحرر الوجيز 4/284 ، ولفظه :ولم يصرح بالسؤال هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب …(3/1)
قال الزمخشري : فإن قلت كيف ساغ لنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية؟ قلت : الأمر في نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة(1).
وهو يعتبر تفسيرا جامعا يقطتف من كل بستان زهرة دون تركيز على اتجاه معين وإن ظهر منه شيء من الاستطراد في بعض الفقهيات .
وهو يبدأ بقوله سورة كذا ثم يذكر جملة من آياتها ثم يشرع في التفسير وذلك مثل قوله :
سورة العنكبوت مكية
قوله : { الم أحسب الناس أن يتركوا } (2) إلى أول الحزب ... الخ
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : لا يهتم بعد الآي ولا بالوقوف ولا المناسبات ويبدأ التفسير بقوله سورة كذا ويذكر مكية أم مدنية ومن ذلك قوله :
تفسير سورة القتال …
اختلفوا هل هي مكية أو مدنية فقال مجاهد : مدنية ، وقال الضحاك : مكية وهو قول ابن جبير كذا نقله الزمخشري وقال ابن عطية : هي مدنية بإجماع غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى { وكأين من قرية } (3) أنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي عليه السلام عام الفتح أو سنة الحديبية وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني لأن المراعاة في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها(4).
ثانيا : موقفه من العقيدة :
__________
(1) الكشاف 3/171 وفيه : … لنبي الله الذي هو شعيب عليه السلام ...
(2) العنكبوت :1-2
(3) محمد : 13
(4) انظر المذاهب الثلاثة في اعتبار المكي والمدني في الإتقان 1/11-12 والذي ذكره ابن عطية هو المشهور وقد ذكر السيوطي عن يحيى بن سلام المغربي قوله : مانزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فهو من المكي ، وما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره بعد ماقدم المدينة فهو من المدني .(3/2)
وهو يتعرض لبعض مسائل الاعتقاد فمن ذلك تعقبه للزمخشري في قوله { إنا جعلناه قرآنا عربيا } (1) حيث قال الزمخشري : { جعلناه } بمعنى صيرناه معدى إلى المفعولين أو المعنى خلقناه معدى للواحد كقوله { وجعل الظلمات والنور } (2) ونحوه. قال المؤلف عفا الله عنه : هذا فاسد لأن القرآن ليس بمخلوق(3) كما تقرر في قواعد علم الكلام لاستحالة قيام الحوادث بذات الله سبحانه لما يلزم من حدوثه تقدير قبول الذات العليا لقيام الحوادث . فالذي لا يصح غيره ؛ أن الجعل هنا بمعنى…(4) والحكم والإنزال … وهذه من غلطاته الشنيعة التي هي عند أهل السنة آيلة إلى الجهل بصفات الله سبحانه وقد اختلفوا في تكفير من جهل الصفات كما بسطناه في موضعه .
ومن استطراداته ماذكره في قوله تعالى { ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } (5)قال : قال العلماء : والنبي إذا عظم قدره عظمت أسماؤه . قال بعض الصوفية: لله ألف اسم ، وللنبي عليه السلام ألف اسم . قال القاضي أبو بكر بن العربي : فأما أسماء الله فهذا العدد حقير فيها { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي } (6) وأما أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمعلوم منها سبعة وستون اسما وهي النبي الرسول الرشيد المصدق …… الخ فذكرها كلها .
__________
(1) الزخرف : 3
(2) الأنعام : 1
(3) انظر كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية ص283-321 حيث تكلم عن شبه المعتزلة في خلق القرآن والرد عليهم .
(4) كلمة غير واضحة في المخطوط .
(5) الأحزاب : 45
(6) الكهف :109(3/3)
أقول : وجلها لا اعتبار له ولا صحة وقد قال- صلى الله عليه وسلم - : “لي خمسة أسماء ؛ أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب”(1) كما في الصحيح وجاء النص على بعض الأسماء زيادة على تلك الخمسة أرى أن الاقتصار عليها أولى(2) وجعل بعض الصفات أسماء أمر توسعي ظاهر يشترك فيه جمل من الناس .
على أنه قد أوصل البعض أسماءه - صلى الله عليه وسلم - إلى تسعة وتسعين اسما ذكروها في كتاب(3) وكذا أوصلوا أسماء عبد القادر الجيلاني !!(4)
والآية التي نقلها عن ابن العربي لا حجة فيها على موضوعنا ، وقد ثبت في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : “إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة”(5). وقد تعب العلماء في حصرها ، والزيادة التي وردت في الحديث في تعيينها مدرجة لا تصح.(6)
ومن مواضع تأثر ابن بزيزة باتجاهه الصوفي :
__________
(1) أخرجه البخاري – كتاب المناقب – باب ماجاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 6/554 ، ومسلم – كتاب الفضائل- باب في أسمائه - صلى الله عليه وسلم - 4/1828 عن جبير بن مطعم .
(2) وهي نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والخاتم والمقفي انظر فتح الباري 6/556 ، صحيح مسلم – الكتاب والباب السابق 4/1828 ومسند أحمد 4/404 والمستدرك 2/604،608 ودلائل النبوة للبيهقي 1/152-156 .
(3) انظر كتاب وظائف مجموعة باللغة الأردية والعربية ص55 .
(4) المصدر السابق ص121 .
(5) أخرجه البخاري – كتاب الدعوات – باب لله مائة اسم غير واحد 8/109 ، ومسلم – كتاب الذكر – باب في أسماء الله تعالى 8/63 عن أبي هريرة .
(6) أخرجه ابن ماجه بهذه الزيادة – كتاب الدعاء – باب أسماء الله عز وجل رقم 3861 ، وقال الألباني : ضعيف (انظر ضعيف الجامع 1941) وانظر : مرويات ابن ماجه في التفسير ص210(3/4)
قوله : { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } (1) : وهذه الآية أصل المتوكلين في الخروج بغير زاد ولأنه خرج حافيا خائفا بغير زاد ولا دراهم قالوا : ولم يكن له
طعام إلا ورق الشجر .
أقول : وهذا الكلام فيه نظر من وجوه :
أولا : نفس الاستدلال فإن الآية ليس فيها أنه خرج من غير زاد ولا دراهم وإنما هذا مما نقل من أخبار لا زمام لها ، ثم إن موسى عليه السلام - لو سلم بما نقل - كان قد خرج خائفا وفي عجلة من أمره وفي هذا مدعاة لترك الجهاز وليس ذلك من التوكل في شيء ، ثم إنه لو صح أنه خرج بدون زاد بنية التوكل لم يكن في ذلك حجة لأن موسى عليه السلام لم يكن نبئ بعد ، ولم يَعْدُ تصرفه أن يكون سلوكا خاصا لا شرعا ، وأخيرا لو كان كل ذلك متحققا لما كان فيه دليل لأنه شرع سابق عارضه شرعنا وننتقل بذلك للنقطة التالية .
ثانيا : قد ثبت في الصحيح في سبب نزول قوله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } (2) مايرد ذلك حيث نزلت في أهل اليمن الذين كانوا يحجون ولا يتزودون(3) . فما ذكره مخالف لشريعتنا ، ولو لم يكن مخالفا لكان في الاستدلال به نظر للخلاف المشهور بين الأصوليين هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟(4).
ثانيا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
__________
(1) القصص :22
(2) البقرة : 197
(3) أخرجه البخاري – كتاب الحج – باب قول الله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } 3/383 عن ابن عباس .
(4) انظر الإحكام في أصول الأحكام 2/943-973 .(3/5)
لا يُلحظ في القسم الذي وقفت عليه من الكتاب اهتمام كبير من المؤلف بهذا الجانب ، وربما كان ذلك لكونه متتبعا لغيره ناقلا عنه ثم محللا ، ومن مواضع تفسيره للقرآن بالقرآن قوله { إنا أنزلناه } (1)الضمير عائد على القرآن { في ليلة مباركة } اختلفوا في هذه الليلة المرادة فقيل : ليلة القدر ، وقيل : ليلة النصف من شعبان ، والأول أصح لقوله سبحانه { إنا أنزلناه في ليلة القدر } (2)وفي قوله { شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن } (3).
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
قال في قوله تعالى { وما يهلكنا إلا الدهر } (4) :
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : “كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر ؛ أقلب الليل والنهار”(5).
وقد أطال تحت قوله { فيها يفرق كل أمر حكيم } (6) في الكلام على ليلة النصف من شعبان وفضلها وأن ماء زمزم فيها يحلو وكذا ماء البحر وذكر فيها آثارا وأحاديث في قيامها وصيامها وفضلها منها قوله وروي عن عثمان عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: “تقطع الآجال من السنة إلى السنة في ليلة النصف من شعبان” (7).
__________
(1) الدخان :1
(2) القدر:1
(3) البقرة:185
(4) الجاثية : 24
(5) أخرجه البخاري – كتاب التفسير – باب سورة الجاثية 8/574 مقتصرًا على الحديث القدسي . وأخرجه كاملاً الطبري 25/92 .
(6) الدخان : 4
(7) عثمان هنا ليس هو ابن عفان - رضي الله عنه - وإنما هو عثمان بن محمد ابن المغيرة بن الأخنس وهو من صغار التابعين أخرجه ابن جرير 25/109 انظر التقريب 5/45 عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وهو ضعيف لإرساله .(3/6)
وهذا كله على الرغم من أنه صدر كلامه عنها بقول الحافظ أبي بكر ابن العربي : من قال إنها ليلة النصف من شعبان فهو باطل ولم يثبت في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها.
وهو يذكر أسباب النزول ومن ذلك قوله :
{ من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه } (1) قال أنس : غاب عمي أنس ابن النضر … عن بدر … وقال : غبت عن أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … فذكر الحديث في مقتله بأحد بعد بلاء شديد وقال : فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ونزلت { من المؤمنين رجال … } قال : وكنا نقول نزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه(2).
وهو يتعرض لفضائل السور والآيات غير مبال بالرواية هل هي صحيحة أم ضعيفة أم موضوعة :
قال في آخر الأحقاف : روي عن ابن عباس(3) أنه قال : إذا عسر على المرأة الطلق فليكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة ثم تغسل وتسقى منها وهي بسم الله الرحمن الرحيم لاإله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب السموات ورب العرش العظيم { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } (4) { كأنهم يوم يرون مايوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } (5)صدق الله العظيم .
__________
(1) الأحزاب : 23
(2) أخرجه البخاري – كتاب الجهاد – باب قول الله عز وجل { من المؤمنين رجال .. } رقم 2807 ، كتاب التفسير – سورة الأحزاب باب { فمنهم من قضى نحبه } رقم 4784.
(3) أخرجه ابن السني في اليوم والليلة ص231 وإسحق بن إبراهيم في كتاب الطب (انظر تاريخ جرجان 229 ) وابن أبي شيبة في مصنفه 7/385 ، وعزاه السيوطي للديلمي (انظر الدر 4/24) موقوفا ومرفوعا وهو حديث لا يصح (انظر : تكميل النفع بما لم يثبت به وقف ولا رفع1/2 )
(4) النازعات : 46
(5) الأحقاف :35(3/7)
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: “من قرأ سورة الأحقاف كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا”(1).
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
وهو يهتم بهذا الجانب ومن ذلك قوله :
{ ولما توجه تلقاء مدين } (2)... وكان موسى عليه السلام لا يعرف الطريق إليها قال ابن عباس : خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه .
وعن ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحبة فرعون في قولها { عسى أن ينفعنا } (3) وأبو بكر في عمر .
{ سواء السبيل } (4) … قال الحسن : أراد سبيل الهدى . وقال مجاهد : أراد طريق مدين .
وقال { ولقد وصلنا لهم القول } (5)... وعن ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة(6).
سادسا : موقفه من السيرة وذكر الغزوات :
وعلى الرغم من كون القسم الذي اطلعت عليه من التفسير قسما محدودا وفيه سقط فقد وقفت على عدة نقول نقلها المصنف من سيرة ابن هشام وغيرها فيما يتعلق بأحداث السيرة والغزوات فمن ذلك :
تحت قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } (7)ذكر قصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ابن الزبعرى .
وذكر تحت قوله تعالى { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } (8)قضية اللقاء بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الجن فقال : اختلف السلف في هذه القضية في مواطن ؛ الأول : هل كان عند النبي عليه السلام علم بوفود الجن عليه أم لا…الخ .
الموطن الثاني : الاختلاف في عددهم …الخ .
__________
(1) أخرجه الثعلبي 106/أ/1 من طريق هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي به وهو قطعة من الحديث الطويل الموضوع في فضائل القرآن . وانظر الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي 1/102 .
(2) القصص : 22
(3) القصص : 9
(4) القصص : 22
(5) القصص : 51
(6) هذا على قراءة { وصلنا } بالتخفيف كما سيأتي في القراءات .
(7) الأنبياء:98
(8) الأحقاف:29(3/8)
الموطن الثالث : هل حضر ابن مسعود ليلة الجن أم لا ؟ … الخ .
كما ذكر من قتل من الكفار صبرا يوم بدر تحت قوله تعالى { فإما منا بعد وإما فداء } .(1)
وتحت قوله تعالى { وشهد شاهد من بني إسرائيل } (2)
قال : وفي حديث أنس جاء عبد الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه المدينة فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ …الخ الحديث .(3)
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
يتعرض لها أحيانا ومن ذلك قوله تحت آية { قالت إن أبي يدعوك } (4) :
واختلف أهل الآثار في قائلة هذا القول هل هي الصغرى أو الكبرى؟ وكانت الكبرى تسمى صفيرا والصغرى صبيرا(5) وكذلك اختلفت الآثار هل زوجه الصغرى أو الكبرى ؟ فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زوجه الصغرى ذكره الثعلبي وغيره(6) وفي كتاب النقاش: كانتا توأمين ولدت إحداهما قبل الأخرى بنصف نهار .
وقال : { ولما توجه تلقاء مدين } (7) هي قرية شعيب سميت بمدين بن إبراهيم ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان ... وقيل : خرج حافيا لا يعيش إلا بورق الشجر فما وصل حتى سقط خف قدمه …ويقال : إن الله تعالى بعث إليه ملكا يسدده الطريق وأعطاه عصاه التي كانت فيها الآيات والصحيح أن العصا إنما أخذها من عند شعيب .
ثامنا : موقفه من اللغة :
وهو يتعرض للنحويات والإعراب ومن ذلك :
__________
(1) محمد:4
(2) الأحقاف:10
(3) أخرجه البخاري – كتاب مناقب الأنصار 7/272
(4) القصص : 25
(5) الذي في الكشاف 3/171 الكبرى : صفراء . والصغرى : صفيراء . والذي في الدر المنثور 5/137 صفورا ، وصفيرا .
(6) أخرج ذلك البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه قال السيوطي : بسند ضعيف عن أبي ذر مرفوعا ، وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة . انظر : الدر المنثور 5/138.
(7) القصص : 22(3/9)
قوله : { أو من ينشأ في الحلية } (1) أجازوا في محل { من } وجهين في قوله { أو من ينشأ } أحدهما أن تكون في محل نصب مفعول بفعل مضمر يدل عليه جعلوا تقديره: أو من ينشأ في الحلية جعلتم أو اتخذتم ونحوه مما يقتضي المعنى …
والثاني أن يكون في محل رفع بالابتداء والتقدير : أو من ينشأ في الحلية من الذي خصصتم به الله سبحانه … الخ .
وقال : { أجر ماسقيت لنا } (2) أي جزاء سقيك لنا "وما" مصدرية …
وعندما ذكر حديث : وأنا الدهر تحت قوله تعالى { ومايهلكنا إلا الدهر } (3) قال: فيه روايتان وأنا الدهر على الابتداء والخبر ونصب الدهر على الظرف وخبر المبتدأ الذي هو أنا ؛ الجملة بعده التي هي "بيدي الأمر"
وهو قليل ذكر الشعر ، إلا أنه أطال في ذكر بعض الأبيات عند كلامه عن الهوى في قوله تعالى { واتبعوا أهواءهم } (4) ، حيث نقل عن ابن المبارك وأبي العتاهية وابن دريد وغيرهم أشعارا في الهوى .
كما ذكر بعض الشعر أيضا عند قوله { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } (5) فقال : قال الزمخشري : وعن بعض العرب أن امرأته وضعت بنتا فهجر البيت الذي فيه المرأة ، فقالت المرأة في ذلك :
مالأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ماأعطينا(6)
وفي قوله : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } (7) قال: إنه لن يريحهم التأسي باشتراكهم في العذاب ، ثم ذكر قول الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي
تاسعا : موقفه من القراءات :
وهو يذكر القراءات ويوجهها ومن ذلك :
__________
(1) الزخرف:18
(2) القصص:25
(3) الجاثية :24
(4) محمد :14
(5) الزخرف:19
(6) انظر الكشاف 3/482 وفيه : أنثى بدلا من "بنتا" و"فقالت" بدلا من "فقالت المرأة" في ذلك .
(7) الزخرف : 39(3/10)
قوله عز وجل { ولقد وصلنا لهم القول } (1) إلى آخر السورة
قرئ { وصَلنا } بالتخفيف والتشديد وقرئ { واصلنا } (2) أي تابعنا إنزال الكتاب بعد الكتاب التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن والقول واقع على الكتب الإلهية وقيل : على القرآن وحده ، والمعنى : جعلناه متواصلا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ونصائح ومواعظ إرادة أن يذكروا ، وعن ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة .
وقال { وقال موسى ربي أعلم } (3)
الجمهور على إثبات الواو وقرأ ابن كثير { قال موسى } بغير واو ، وقرئ { ومن تكون } بالتاء على التأنيث للعاقبة لفظا وبالياء من حيث أن تأنيثها غير حقيقي .
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
والمؤلف يتعرض للفقهيات ومن ذلك قوله :
{ ومن الناس من يشتري لهو الحديث } (4)
قال المؤلف عفا الله عنه : قد أكثر أهل الآثار في تحريم الغناء وذكر أبو حامد الغزالي في الإحياء فيه أخبارا كثيرة وورد عن ابن المنكدر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة”(5) واختلف أهل العلم في سماع الغناء ، وأقاويل العلماء في ذلك بينة ؛ فمنهم من حرمه ، ومنهم من كرهه ، ومنهم من أجازه . وحكى المازري وغيره الاتفاق على تحريم سماعه بآلة واختلفوا في جواز سماعه بغير آلة … الخ
ثم ذكر أحاديث في الغناء والمغنيات .
وهو أحيانا يستطرد في الحديث الفقهي ومن ذلك إطالته في لبس الذهب والحرير وحكمها للنساء دون الرجال تحت قوله تعالى { في الحلية } (6)
وقال في قوله : { أجر ماسقيت لنا } (7):
__________
(1) القصص : 51
(2) قراءة التخفيف وإثبات الألف شاذتان وانظر البحر 7/125 .
(3) القصص : 37
(4) لقمان : 6
(5) هذا مرسل وقد أخرجه ابن عساكر عن أنس موصولا وقال الألباني : موضوع (انظر ضعيف الجامع 5418) وانظر أيضا : المشتهر من الحديث الموضوع والضعيف 1/135 .
(6) الزخرف :18
(7) القصص : 25(3/11)
وفي الآية دلالة على أن الإجارة كانت مشروعة عندهم وكذلك كانت في كل ملة لأنها من المصالح الداعي إليها ضرورة …. وأجمعت أمة محمد عليه السلام على جوازها .
وأخذ العلماء من الآية فوائد حكيمة منها جواز عرض الرجل الولي وليته على الرجل وقد عرض صالح مدين ابنته على صالح بني اسرائيل وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان وعرضت أم المؤمنين أختها على رسول - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث حفصة أنه لما عرضها على أبي بكر سكت أبو بكر ….. فذكر جزءا من الحديث .
وقال : حكي في هذه الآية خصائص منها أنه لم يعين الزوجة قال المؤلف عفا الله عنه : هذا فيه نظر لأن هذا عرض لا عقد إذ لو كان عقدا لعين المعقود عليها وقد اتفق الفقهاء على أن الإبهام في النكاح لا يجوز إذ لا يجوز في النكاح خيار واختلفوا في جوازه في البيع مثل أن يقول … (وأطال في تلك المسألة )
ومن مواضع تعرضه لبعض الأصول ماذكره تحت قوله { فضرب الرقاب … فإما منا بعد وإما فداء } (1) حيث تكلم عن نسخها أو عدمه وقال : ولا دليل في ذلك على النسخ …ثم أخذ يقرر ذلك .
ولتقدم المؤلف لا نجد ذكرا للعلوم الحديثة والكونيات ونحو ذلك في تفسيره ، كما لا نلمح منه اهتماما بجانب الوعظ والحديث عن الآداب أو الاجتماعيات بصفة مباشرة ، كما نلاحظ أن له بعض الاستطرادات فيما لا علاقة له بالتفسير ومن ذلك قوله :
ليس في الصحابة من اسم أبيه سلام إلا رجلين عبد الله بن سلام هذا ورجل آخر ذكره أبو بكر ابن ثابت الخطيب في تاريخه .
__________
(1) محمد : 4(3/12)
تفسير ابن باديس
من خلال مجالس التذكير
***
مؤلف هذا التفسير هو عبد الحميد بن باديس الصنهاجي الجزائري ت 1359 هـ وهو من أهل المنطقة ولد بقسنطينة وتوفي بها .(1)
التعريف بالتفسير :
وتفسير ابن باديس طبع باسم "تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير " جمع وترتيب وإعداد وتعليق محمد الصالح رمضان أستاذ بوزارة التربية الجزائرية ، وتوفيق محمد شاهين بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر – ط2 دار الفكر سنة1391هـ . والكتاب عبارة عن مجالس قرآنية كان ابن باديس يفتتح بها مجلة الشهاب التي كان يتولى إصدارها ، وقد جمعها المذكوران في هذا الكتاب بعد أن قام بجمع بعضها أحمد بوشمال . (2)
المنهج العام للتفسير :
وتفسير ابن باديس في الجملة تفسير أدبي اجتماعي يناسب وضعه كدروس تلقى على العامة وغيرهم .
والكتاب له مقدمة في التذكير وحاجة الخلق إليه وفي أفضل الأذكار وأنواع الذكر وتلاوة القرآن .(3)
ثم خطبة افتتاح لدروس التفسير ذكر فيها طريقته في التفسير فقال : هي تفسير الألفاظ بأرجح معانيها اللغوية وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية وربط الآيات بوجوه المناسبات معتمدين في ذلك على صحيح المنقول وسديد المعقول مما جلاه أئمة السلف المتقدمون أو غاص عليه علماء الخلف المتأخرون رحمة الله عليهم أجمعين وعمدتنا فيما نرجح إليه من كتب الأئمة :
تفسير ابن جرير الطبري الذي يمتاز بالتعاليق السلفية وبأسلوب الترسل البليغ في بيان معنى الآيات القرآنية وبترجماته لأول الأقوال عنده بالصواب .
وتفسير الكشاف الذي يمتاز بذوقه البياني في الأسلوب القرآني وتطبيقه فنون البلاغة على آيات الكتاب ، والتنظير لها بكلام العرب واستعمالها في أفانين الكلام .
وتفسير أبي حيان الأندلسي الذي يمتاز بتحقيقاته النحوية واللغوية وتوجيه القراءات .
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 74
(2) انظر ص27
(3) ص29-48 .(4/1)
وتفسير الرازي الذي يمتاز ببحوثه في العلوم الكونية مما يتعلق بالجماد والنبات والحيوان والإنسان وفي العلوم الكلامية ومقالات الفرق والمناظرة والحجاج في ذلك . (1)
ومجالس ابن باديس تشمل أقساما ستة سورة الإسراء وسورة الفرقان وسورة النمل وسورة يس والمعوذتين ثم آيات متفرقة من سور يوسف والنحل والمائدة والنور ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والذاريات والقسم السابع يعتبر تفسيرا موضوعيا عن العرب في القرآن .
وهو يذكر آية أو عدة آيات ثم يتكلم عن مناسبتها ثم يتكلم عن معاني المفردات ثم يشرحها مستخرجا منها الآداب والإعجاز والنكات اللغوية وغير ذلك .
وقد تكلم البشير الإبراهيمي عن خصائص تفسير ابن باديس في كلمة سماها "خصائص التفسير الباديسي" انظرها كاملة .(2) وهو فيها يعتبر ظهور محمد عبده معجزة ويصفه بأنه إمام المفسرين وأنه قد خلفه ترجمان أفكاره محمد رشيد رضا ثم يجعل إمامة التفسير بعده في العالم الإسلامي كله إلى ابن باديس .(3)
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : يلاحظ أن المؤلف لا يتعرض لأسماء السور ولا عد الآي ولا للمكي والمدني ونحو ذلك لأنه ليس تفسيرا شاملا كما ذكرنا .
أما المناسبات فهو يهتم بها ومن ذلك قوله :
ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على ذلك على هذا الكون الأعظم فقال تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } .(4)
وانظر أيضا المناسبة في الربط بين الإحسان للوالدين وإفراد الله بالعبادة . (5)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
__________
(1) ص50-51 .
(2) ص19 .
(3) ص24-27 .
(4) الإسراء :12 ، ص57
(5) ص94
وانظر أيضا ص108،116،136،141(4/2)
لقد أولى ابن باديس القضايا الاعتقادية اهتماما بينا فعلى الرغم من قلة المادة التفسيرية التي وقفنا عليها نجد أنه تطرق إلى مسائل متعددة من مسائل العقيدة فقد تكلم عن التوحيد وأنه أساس الدين كله (1) تحت قوله تعالى : { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } (2)
وتكلم عن أقسام التوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والتوحيد العلمي والتوحيد العملي (3)
وعن أقسام الكفر (4)
وتكلم عن الأحكام الشرعية والأحكام القدرية تحت قوله تعالى : { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها ….. } (5) ثم قال : فما حكم من أحكامه القدرية إلا وله سببه
وعلته لا لوجوب أو إيجاب عليه بل بمحض مشيئته ومقتضى عدله وحكمته(6) .
وتطرق للرياء الذي هو شرك أصغر عند قوله تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } (7)
فقال : إن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الإخلاص فيه لله .
وتكلم عن العامل الذي لا يريد الآخرة أصلا وإنما أراد الرياء أو منفعة دنيوية وفصل في ذلك تفصيلا جيدا . (8)
وتحت قوله تعالى { إلا من تاب وآمن .. } (9) تساءل هل يخرج غير التائب من النار ؟ فقرر العقيدة السلفية من عدم خلود أهل الكبائر كالقاتل والزاني في النار(10).
ومع كونه امتدادا لمدرسة محمد عبده إلا أنه يرى جواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرى أنه من التأثير البدني فقط خلافا لمحمد عبده وذلك في تفسيره لقوله تعالى : { ومن شر النفاثات في العقد } (11) (12)
كما تحدث عن منزلة الدعاء (13).
__________
(1) ص87 .
(2) الإسراء : 22
(3) ص90،91 .
(4) ص213 .
(5) الإسراء : 58
(6) ص193
(7) الإسراء : 19
(8) ص70-75 .
(9) الفرقان :70
(10) ص371-374
(11) الفلق : 4
(12) ص633،634
(13) ص93(4/3)
وفي الغيبيات يقول تحت قوله تعالى : { ولا تقف ماليس لك به علم } (1): ... أحوال مابعد الموت فلا نقول فيها إلا ماكان لنا به علم بما جاء في القرآن العظيم أو ثبت في الحديث الصحيح(2) .
وأما موقفه من البدع :
فقد تطرق من ذلك إلى الإنكار على المبتدعة من المشركين الأوائل الذين اخترعوا الرقص والزمر والطواف حول القبور والذبح عندها ونداء أصحابها ….الخ وذكر فساد ذلك ، وحث المسلمين على أن يقتصروا في العبادة على ماثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(3)
ومن ردوده على الصوفية قوله :
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد أن يعبد الله تعالى لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم .الخ يعني قوله { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم } (4) وقد تنازع في ذلك مع أحد هؤلاء ردا وجوابا(5).
وهو يرفض تفاسير الصوفية التي ليس لها معاني صحيحة في نفسها ، ولم تؤخذ من التركيب القرآني أخذا عربيا صحيحا ، وليس لها مايشهد من أدلة الشرع ؛ فيقول: …أما مالم تتوفر فيه الشروط المذكورة – وخصوصا الأول والثاني - فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله وهو كثير في التفاسير المنسوبة لبعض الصوفية كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي من المتقدمين والتفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين .(6)
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
قال في قوله : { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } (7) ونظيرها أيضا آية { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها … } (8)
__________
(1) الإسراء :36
(2) ص160
(3) ص75-76
(4) الفرقان :65
(5) ص329-353 فأطال في تقرير ذلك . وانظر ص357
وانظر من كلامه أيضا في العقيدة ص181-183
(6) ص444
(7) الشورى :20
(8) هود : 15،16(4/4)
وقال في قوله : { وننزل من القرآن ماهو شفاء } (1)وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه ومنها قوله تعالى { ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } (2)ومنها قوله: { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء … } (3)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
ويتميز تفسير ابن باديس بانتقائه للأحاديث في الجملة فغالب أحاديثه صحيحة أو حسنة وهو يعزو الأحاديث لمخرجيها في معظم المواضع(4) . وهذه ظاهرة عزيزة لا تكاد توجد في أي من التفاسير ، فهي حسنة من حسنات ابن باديس رحمه الله .
وربما ذكر الحديث بدون عزو أو ذكر لدرجة صحته كقوله :
وقال - صلى الله عليه وسلم - : “إن الله كتب الإحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة” (5) .(6)
وتحت قوله { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } (7)ذكر عدة أحاديث مستطردا:
منها قوله : جاء حديث أبي هريرة في الصحيح قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : “إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت . قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء فقد قيل…ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن …ورجل وسع الله عليه ….” الخ (8) .
__________
(1) الإسراء : 82
(2) يونس : 57
(3) فصلت : 44 ، ص225
(4) انظر ص84،92،93، 96،97،98،103،106،210،211،212.
(5) ص81 وانظر أيضا ص98
(6) أخرجه مسلم - كتاب الصيد والذبائح - باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/1548 عن شداد بن أوس .
(7) الإسراء: 19
(8) ص72 والحديث أخرجه مطولا : مسلم –كتاب الإمارة -باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 3/1513(4/5)
وقال :حديث أبي هريرة في الصحيح قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال الله تبارك وتعالى “ أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه”(1).
وقال : وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا – أي الرجل يبتغي الجهاد وهو يريد من عرض الدنيا - فقال : “لا أجر له” ، وقال : رواه أبو داود وابن حبان .(2)
وكذا قوله : ومن أدلة هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عند مسلم : “وفي بضع أحدكم صدقة” قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال : “أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر”(3).
وبتعرض لأسباب النزول ومن ذلك قوله :
{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة…. } (4) قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : هي في نفر من الإنس كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم (5).
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
نظرا لاستعمال ابن باديس الأسلوب الأدبي الذي يخاطب مستوى العامة نلاحظ عدم اهتمامه بنسبة الأقوال للمفسرين جملة وبالتالي لم يظهر اهتمامه بالتنصيص على المفسرين من السلف إلا لماما .
قال تحت قوله : { واجعلنا للمتقين إماما } (6) :
قال مجاهد التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير :
__________
(1) ص73 والحديث أخرجه مسلم – كتاب الزهد والرقائق - باب تحريم الرياء 4/2289
(2) الحديث بطوله في سنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب فيمن يغزو ويلتمس الدنيا 3/14، صحيح ابن حبان 10/494
(3) ص74 أخرجه مسلم –كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف 2/697
(4) الإسراء : 57
(5) ص186 أخرجه البخاري – كتاب التفسير – سورة الإسراء باب { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه } 8/397
(6) الفرقان :74(4/6)
أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا . ذكره البخاري ورواه ابن جرير بسند صحيح . (1)
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
وربما تطرق ابن باديس لبعض حوادث السبرة والتاريخ ومن ذلك :
قال في قوله : { إما يبلغن عندك الكبر } (2): يعني الوالدين ، وكان والداه – أي النبي - صلى الله عليه وسلم - - عليهما الرحمة قد توفيا فلم يدخلا في الخطاب قطعا(3) .
وقال في قوله { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } (4) : والمخاطب بهذا الخطاب إما مفرد غير معين فيشمل جمع المكلفين غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير وفدك وخيبر(5) .
وقد ذكر بعضا من أهل الجاهلية أحيوا الموءودة تحت قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } (6) كزيد بن عمرو بن نفيل وصعصعة بن ناجية (7).
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
وعلى الرغم من محدودية القطع التفسيرية التي نوقع عليها الدراسة ، فقد ظهر موقف ابن باديس من الإسرائيليات في قوله :
تحذير :
__________
(1) ص395
(2) الإسراء : 23
(3) ص127 وهذا على قول من يرى إيمان أبويه - صلى الله عليه وسلم - أما من يرى عدم إيمانهما فلا يجوز الترحم عليهما كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : “ استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي …” أخرجه مسلم – كتاب الجنائز - باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل في زيارة قبر أمه 2/671
(4) الإسراء : 29
(5) السورة مكية وهذه الآيات قبل ماذكره المصنف بزمان .
(6) الإسراء :31
(7) ص133ومن مراجعه في السيرة كتاب الشفا للقاضي عياض انظر : ص 214
كما ذكر قصصا تاريخية عن إبراهيم بن المهدي والمأمون ص322(4/7)
رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة ، ومعظمها من الإسرائيليات الباطلة التي امتلأت بها كتب التفسير، مما تلقي من غير تثبت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وروى شيئا من ذلك الحاكم في مستدركه وصرح الذهبي ببطلانه ، ومن هذه المبالغات الباطلة أنه ملك الأرض كلها مشارقها ومغاربها ، فهذه مملكة عظيمة "سبأ" كانت مستقلة عنه ومجهولة لديه على قرب مابين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام . (1)
ثامنا : موقفه من اللغة :
يهتم المؤلف بشرح المفردات كوسيلة مباشرة لتوضيح المعنى لمن يلقي عليهم دروسه، ومن ذلك قوله في قوله تعالى { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل } (2):
{ جعلنا الليل } : … وجعل الشيء هو وضعه على حاله أو كيفية خاصة(3) .
{ آيتين } : الآية : العلامة الدالة(4) .
{ فمحونا } : المحو هو الإزالة(5).
وفي قوله { محظورا } (6)قال : والحظر : المنع والمحظور الممنوع(7) .
ومن استدلاله بالشعر أحيانا قوله :
والأوابون في قوله تعالى { فإنه كان للأوابين غفورا } (8) هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى والأوبة في كلام العرب هي الرجوع قال عبيد :
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لايؤوب(9)
وربما ذكر بيت شعر لا على سبيل التوضيح اللغوي :
ومن ذلك ما نقله عن البوصيري :
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم(10)
وربما تعرض للإعراب أحيانا (11).
ومن مواضع تعرضه للنكات البلاغية :
__________
(1) ص451
(2) الإسراء :12
(3) ص57
(4) ص58
(5) ص60
(6) الإسراء :20
(7) ص80 ، وانظر أيضا ص88،116،122
(8) الإسراء : 25
(9) ص110 ، وانظر أيضا : ص113،163،180،216
(10) ص61
(11) انظر 186(4/8)
{ كلا نمد هؤلاء } (1) قال : قدم المفعول وهو { كلا } ردا على من يعتقد أن الله يمد بعضا دون بعض وفيه إيجاز بالحذف والأصل كلا الفريقين يعني فريق مريدي العاجلة ومريدي الآخرة (2).
قوله { إنه كان للأوابين غفورا } (3): وقد أكد الكلام بإن لتقوية الرجاء في المغفرة وجيء بلفظ كان لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق …الخ (4).
وقال { واخفض لهما جناح الذل } (5) فشبه الولد في سعيه وحنوه وعطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه وحذف المشبه به وأشير إليه بلازمه وهو خفض الجناح لأن الطائر هو ذو الجناح …فيكون في الكلام استعارة بالكناية(6).
كما تكلم عن سر توجيه الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله { لا تجعل مع الله إلها آخر } (7)
وتكلم عن سر تنكير إحسانا في قوله { وبالوالدين إحسانا } (8)
وتكلم عن إعجاز القرآن :
ومن ذلك كلامه عن الآيات من قوله : { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } (9) إلى قوله { لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } (10) فقال : فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها …ثم بين ذلك مفصلا (11).
تاسعا : موقفه من القراءات :
وربما تعرض ابن باديس للقراءات وهو نادر ومن ذلك قوله في آية { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } (12):
__________
(1) الإسراء : 20
(2) ص80
(3) الإسراء : 25
(4) ص112
(5) الإسراء : 24
(6) ص101 ، وانظر أيضا ص113،125
(7) الإسراء :22 ، ص89
(8) الإسراء : 23 ، ص96 ، وانظر أيضا ص 224
(9) الإسراء : 22
(10) الإسراء : 39
(11) ص86 ، وانظر في معجزات القرآن أيضا ص190
(12) الإسراء:38(4/9)
{ ذلك } إشارة إلى جميع ماتقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة { سيئُهُ } (1) فالمكروه هو سيء ماتقدم وهو القبائح المنهي عنها ، أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة { سيئَةً } (2) . (3)
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
يتعرض للفقه لماما مثل قوله تحت آية { وبالوالدين إحسانا } (4) :
وإنما تحل مخالفتهما – أي الوالدين – إذا منعاه من واجب عيني أو أمراه بمعصية .
ويقول : لأن القيام عليهما فرض عيني والجهاد كان عليه فرض كفاية ولو تعين عليه ولم يكونا عن كفاية قدم القيام عليهما وكفايتهما عليه(5) .
وفي قوله { ولا تقربوا الزنا } (6)قال :
وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي وهو ستر الحرة ماعدا وجهها ، وجمع ثيابها عند الخروج بالتجلبب وبما حرم من تطيب المرأة وقعقعة حليها عند الخروج وخلوتها بالأجنبي واختلاط النساء بالرجال.
وتحت قوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } (7) :
تساءل هل يسلَّم على الكافر ؟ قال : نعم . كما قال إبراهيم لأبيه { سلام عليك } (8) وقد قال تعالى { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } (9) ولم يستثن إلا قوله لأبيه لأستغفرن لك(10).
وقد فات ابن باديس النهي الوارد في السنة الصحيحة من قوله - صلى الله عليه وسلم - : “لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه”(11) .
__________
(1) قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم الهمز والهاء وإشباع ضمتها على الإضافة والتذكير .
(2) قراءة الباقين بفتح الهمزة ونصب تاء التأنيث مع التوحيد . انظر إتحاف فضلاء البشر ص283
(3) ص166
(4) الإسراء : 23
(5) ص98
(6) الإسراء : 32
(7) الفرقان : 63
(8) مريم :47
(9) الممتحنة : 4
(10) ص322
(11) أخرجه مسلم – كتاب السلام – باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام 4/1707 عن أبي هريرة .(4/10)
وقد تعرض أيضا لحكم تارك الصلاة(1) .
ومن مصادره في الفقهيات ابن العربي المالكي (2).
ويلاحظ أن ابن باديس ليس ناقلا فقط وإنما يناقش ويحلل ويرجح
ومن ذلك كلامه في التهجد تحت قوله { ومن الليل فتهجد به } (3) وهل كان مفروضا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده أم لا ؟(4) .
ومن تفرداته واجتهاداته ماذكره تحت قوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } (5)
حيث ذكر قولا ثالثا في تفسيرها وقال : ولم أره لأحد ، واللفظ يحتمله : أن ميل الشمس يبتدئ بالزوال وينتهي فيما يرى لنا بالبصر بمغيب الشفق غير أن ميلها في الزوال والغروب مشاهد بمشاهدة ذاتها ، وميلها بعد الغروب مستدل عليه بما يشاهد من أخذ الشفق في المغيب إلى أن يغيب بتمامه ، ولا شك أن ذلك نتيجة ميلها من وراء الأفق فالصلوات الأربع على هذا واجبة لدلوك الشمس(6) .
وهو يتعرض للأصول أثناء التفسير ومن ذلك :
قوله : والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام .(7)
وقوله : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(8) .
وتكلم عن :
التقليد وحكمه(9) .
والاجتهاد وخبر الآحاد والفتوى بالدليل(10) .
وفي الحمل على الظاهر(11) .
ومن كلامه : وماأحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح . (12)
ويقول : عندما يختلف عليك الرعاة الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى فانظر من يدعوك بالقرآن إلى القرآن ومثله ماصح من السنة لأنها تفسيره وبيانه فاتبعه(13) ..
أما النسخ فهو يرى وقوعه ويرفض الغلو فيه ، ومن ذلك قوله في قوله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } (14) :
__________
(1) انظر ص213
(2) انظر ص127
(3) الإسراء : 79
(4) ص218-220
(5) الإسراء : 78
(6) ص209
(7) ص67
(8) ص135
(9) ص157
(10) ص158،159
(11) ص301
(12) ص305 .
(13) ص309
(14) الفرقان : 63(4/11)
فهو أدب مشروع مؤكد وحكم دائم محكم ، وهو في معاملات الأفراد كما ترى فلا ينافي ماشرع من الحرب عند وجود أسبابها وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات ، وهي من الأمور العامة كما ترى ، فبطل قول من زعم أن هذه الآية بالنسبة لغير المسلم منسوخة بآية السيف لأن هذه الآية حكمها في حال وآية السيف حكمها في حال أخرى فلا تنسخ إحداهما الأخرى وماأكثر ماقتلت أحكام بآية السيف هذه !! وهي عند التحقيق غير معارضة لمباينة حالها لحالها(1) .
وقوله :
ولحديث عائشة رضي الله عنها : إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة (المزمل) قيام الليل فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيامه تطوعا بعد فرضه . رواه مسلم . (2)
حادي عشر : موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية :
لقد تعرض ابن باديس لبعض الكونيات فنراه يقرر كروية الأرض في تفسيره لقوله تعالى { يكور الليل على النهار } (3) (4)
ويقول في قوله { وجعلنا الليل والنهار آيتين } (5) قال : بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص على نظام محكم وترتيب بديع بحسب الفصول الشتوية والصيفية وبسبب الأمكنة ومناطق الأرض المناطق الاستوائية والقطبية الشمالية والجنوبية وما بينهما حتى يكونا في القطبين ليلة ويوما في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين ويوم في ستة أشهر هو صيفهم(6) .
وقد تكلم عن القمر عند علماء الفلك ثم عن المعجزة العلمية في محو القمر بمعنى أنه كان شديد الحمو والحرارة في الأزمان القديمة منذ ملايين الستين ثم برد وزالت إضاءته على ماهو الآن(7) .
__________
(1) ص321
(2) ص219 والحديث أخرجه مسلم مطولا جدا – كتاب صلاة المسافرين – باب جامع صلاة الليل 1/513
(3) الزمر : 5
(4) ص58
(5) الإسراء : 13
(6) ص58
(7) ص60(4/12)
وعند التحقيق فهذه نظرية لا علاقة لها بالآية وهذا إغراق في تطبيق تلك النظريات على الآيات في حين ثبوت خطئها في كثير من الأحيان ، والمراد بالمحو ظلمة الليل كما فهمه أهل اللغة الذين نزل القرآن بمخاطبتهم أصلا ونحن لهم تبع .
كما تكلم عن استمداد القمر ضوءه من الشمس(1) .
كما عقد ابن باديس فصلا في المدنية الحديثة(2) .
ثاني عشر : موقفه من المواعظ والآداب :
وقد اهتم المؤلف بجانب الاجتماعيات والآداب اهتماما كبيرا مع شيء من الوعظ والإرشاد :
فمن الآداب والاجتماعيات تكلم في سورة الإسراء مثلا على أصول الهداية وبر الوالدين وصلاح النفوس وإصلاحها والعلم والأخلاق والقول الحسن وغير ذلك .
ومن استفاضته في التوجيه والإرشاد تطرقه إلى بر الوالدين بعد موتهما(3).
وفي قوله تعالى { من كان يريد العاجلة } (4)
قال : ومن مقتضى هذا أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم .
ثم قسم ابن باديس العباد إلى أربعة أقسام : مؤمن آخذ بالأسباب فهو سعيد في الدنيا والآخرة ، ودهري تارك لهما فهو شقي فيهما ، ومؤمن تارك للأسباب شقي في الدنيا ناج بعد المؤاخذة على ترك الأسباب في الآخرة ، ودهري آخذ بالأسباب فهو سعيد في الدنيا هالك في الآخرة .
ويقول : فلا يفتتن المسلمين بعد هذا مايرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم …الخ(5) .
وفي قوله تعالى { فأولئك كان سعيهم مشكورا } (6) قال :
فهذا كان سعيه مشكورا بثلاثة شروط :
أن يقصد بعمله ثواب الآخرة …،
أن يعمل لهما عملها …،
أن يكون مؤمنا موقنا بثواب الله ...الخ
وتحدث عن المجتمع السعيد ومقوماته(7) .
__________
(1) ص61 ، وانظر أيضا ص62
(2) ص152
(3) ص103
(4) الإسراء : 19
(5) ص68
(6) الإسراء :19
(7) ص116 ، وانظر أيضا ص82 ، ص195-196(4/13)
وله تقسيمات جيدة في أنواع الأمراض وفي التداوي بالقرآن(1) .
ومن توجيهاته الوعظية :
قال : فهذه الكلمات القليلة الكثيرة { لتبتغوا فضلا من ربكم } (2)جمعت أصول السعادة في هذه الحياة ، بالعمل مع الجد فيه والمحبة له والرجاء في ثمرته الذي به قوام العمران وبالرضا والتسليم للمولى الذي به طمأنينة القلب وراحة الضمير وبالكف للقلب واليد عن الناس الذي به الأمن والسلام(3) .
وفي قوله { من كان يريد العاجلة } (4)
يقول : كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام ، عامل ومريد ، فسفيه ورشيد ، وشقي وسعيد ، منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا عليها قصر همه وعلى حظوظها عقد ضميره … لايرجو سواها ثوابا ولا يخاف عقابا … الخ(5).
ويقول : وإذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهدا …..الخ(6) .
ويقول في قوله تعالى { قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم … } (7) :
هذه نملة وفت وأدت نحوهم واجبها فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه ؟ هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه ، ولا يؤدي الواجب نحوهم ، ولمن يرى الخطر داهما لقومه فيسكت أو يتعامى ، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم ! آه .. ماأحوجنا معشر المسلمين إلى أمثال هذه النملة ! (8)
__________
(1) ص226-232
(2) الإسراء : 12
(3) ص63 .
(4) الإسراء :18
(5) ص65
(6) ص70 ، وانظر أيضا ص83،90،108،111،123 ، 197
(7) النمل :18
(8) ص435(4/14)
تفسير ابن ظفر
من خلال كتابه ينبوع الحياة
***
مؤلف هذا التفسير هو حجة الدين أبو جعفر محمد بن عبد الله بن ظفر الصقلي المكي ت565هـ وهو من الوافدين على المنطقة قصد بلاد إفريقية ، فجال فيها ودخل المغرب فأقام بالمهدية مدة .(1)
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى ينبوع الحياة من التفاسير المخطوطة (2) ويقع في اثني عشر مجلدا وقد رجعت إلى نسخة ناقصة منه على الميكروفيلم بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم 1353هـ وهي مصورة عن نسخة مكتبة تسشتربيتي وتقع في 415 ورقة غير مرقمة تبدأ بالمقدمة وتنتهي عند تفسير قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } (3)من سورة آل عمران ، وبداية المقدمة غير واضحة وقد كتب عليها تفسير القرآن العظيم وهو ينبوع الحياة تأليف الفقيه حجة الدين محمد بن عبد الله بن ظفر المكي رحمة الله عليه ، وفي النسخة خلط بين الأوراق في بعض المواضع .
وقد بدأ المؤلف المقدمة بذكر أسانيده لبعض كتب السنة المشهورة ويبدأ الجزء الموجود بذكر إسناده لسنن أبي داود ثم ذكر مقدمة في أصول التفسير وعلومه وفي عدد آيات القرآن ثم انقطعت المقدمة إلى تفسير قوله تعالى { مالك يوم الدين } (4).
المنهج العام للتفسير :
وتفسير ينبوع الحياة يعتبر في الجملة تفسيرا لغويا يهتم بالقراءات وتوجيهها ولا يغفل الاعتماد على المأثور ، وطريقة مؤلفه فيه أنه يقسم السورة إلى مقاطع يبدأ الحديث عن كل مقطع بذكر القراءات الواردة فيه وتوجيهها ثم يثني بالتفسير اللغوي لهذا المقطع ، ويدرج فيه الآثار الواردة في تفسير تلك الآيات .
فمثلا يقول في سورة البقرة :
الكلام عليها من فاتحتها إلى قول الله سبحانه { وأولئك هم المفلحون } (5)
ثم يقول :
ذكر القراءات فيتكلم عنها وعن التوجيه
__________
(1) تقدمت ترجمته في الوافدين برقم 74
(2) سبق ذكر مواضع مخطوطاته في ترجمته .
(3) آل عمران : 133
(4) الفاتحة : 3
(5) البقرة : 5(5/1)
ثم يبدأ التفسير .
وقد وقفت على رسالة علمية لنيل درجة الماجستير بعنوان " ابن ظفر ومنهجه في التفسير من خلال كتابه ينبوع الحياة " قدمها صالح عبد الرحمن الفايز تحت إشراف د. عبد العزيز القاري سنة1410هـ بالجامعة الإسلامية مرقونة على الآلة الكاتبة ، ولم أرها إلا بعد دراستي للتفسير فألحقت بعض الفوائد منها على عجالة ويلاحظ أنه ذكر أن مقدمة الكتاب غير موجودة(1) كما ذكرت كما أنه عقد فصلا لمصادر ابن ظفر في تفسيره(2) .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا(3) : لايهتم المصنف بعد الآي ولا بالوقوف ولا بالمناسبات بين السور أو الآيات، وقد عقد فصلا في البسملة ابتدأه بقوله : ليست آية البسملة من الفاتحة ولا من أوائل السور عند المدني رحمه الله .
ويبدأ تفسير السورة بقوله مثلا : السورة التي يذكر فيها البقرة (كذا) ، ويذكر مدنية أم مكية أما في آل عمران فقال : سورة آل عمران . ويبدو أن الوجهين في التسمية عنده جائزان خلافا لمن كره ذلك .(4)
ثانيا : موقفه من العقيدة(5) :
المصنف يحمل على المعتزلة بشدة فمن أول وهلة قال في قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } (6) :
وفي الكلام ما يشعر قلوب المؤمنين من تعاطي الحول والقوة إلا بالله وهذا مما حرمه المعتزلة وسيأتي بيانه .
ومن ذلك أيضا قوله : ولهذا قلنا إن المعتزلة اعتزلوا مقام التعبد لله سبحانه .
__________
(1) انظر ص5
(2) انظر ص93-131
(3) أفرد الفايز فصلاً تحدث فيه عن موقف المؤلف من علوم القرآن ومن ذلك المكي والمدني وأول مانزل وآخر مانزل . انظر ص213-233
(4) كره بعض أهل العلم أن يقال سورة كذا وإنما يقال : السورة التي يذكر فيها كذا استنادا لحديث ضعيف قال بعضهم بوضعه والصواب : جواز ذلك بل هو السنة حيث ورد هكذا في غير حديث . انظر لتفصيل ذلك : الإتقان 1/69
(5) انظر أيضًا ابن ظفر الصقلي ص244-270
(6) الفاتحة : 5(5/2)
ويقول : وزعم المعتزلة أن الإنسان يقدر على أن يخلق الهدى لنفسه ولا يخلق الله الهدى له وأنهم اهتدوا بغير هدى من الله خلقه لهم فحصلوا من ذلك على تسمية الهوى هدى قال الله سبحانه { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } (1) وقد أمر الله سبحانه عباده المهتدين بأن يقولوا : { اهدنا الصراط المستقيم } (2) رغبة في أن يخلق لهم الثبات على الذي أنعم عليهم به .
ومن ردوده على المعتزلة قوله : وإضلال الله وهدايته يكونان قدره وقضاؤه بذلك ، ويكونان خلقه لهم الضلال والهداية ، وإذا قدر ذلك وقضى على أحد في سابق علمه فلا بد أن يخلقه له . وقالت المعتزلة : ذلك محمول على التسمية والحكم بأنهم قد اهتدوا أو ضلوا . وذلك غير معلوم في اللغة ، لا يقول العربي : هديت فلانا ولا أضللته بمعنى حكمت بأنه مهتد أو ضال أو سميته بذلك . ثم ما يصنعون بقول الله سبحانه { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } (3) الآية ؟ ثم إن قوله تعالى { يضل به كثيرا } (4) إنما هو جواب قولهم : { ماذا أراد الله بهذا مثلا } (5)؟ فلا يطابقه الجواب إلا إذا كان التقدير : يريد أن يضل به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين . فيه دليل قول أهل الحق بالكسب لأنهم كسبوا الفسق فعوقبوا بالإضلال.
وكذلك رد على المعتزلة عند قوله تعالى { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } (6) بالتفريق بين الإرادة والأمر .
وهو يعتقد بوقوع السحر للنبي - صلى الله عليه وسلم - خلافا للمعتزلة وغيرهم من العقلانيين فقال عند كلامه عن آيات السحر في سورة البقرة وموقف اليهود منه : وقد سحروا المصطفى محمدا - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي هذا .
__________
(1) القصص :50
(2) الفاتحة : 6
(3) الأنعام : 125
(4) البقرة : 26
(5) البقرة 26
(6) البقرة : 253(5/3)
وهو لا يتذرع بالمجاز ولا يميل للعقلانيات ولعل هذا أمر طبعي مع مايظهر من موقفه الصارم من الاعتزال وأهله فيقول عند قوله تعالى { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } (1) - بعد أن ذكر بعض الآيات والأحاديث الدالة على حصول الخشية من الحجارة - :
وأما قول من قال : هذا على تقدير وجود الحياة والفهم لها ، أي : لو كانت حية فاهمة لكان ما ذكر من تشققها أو سقوطها لخشية الله ، وقول من قال : أضيفت الخشية إليها مجازا وحقيقة الخشية للمعتبرين بها ، وأشباه هذا من الأقوال الملفقة ؛ فإنها نتاج تعجب واستبعاد وجوانح نفس نافرة من غير معتاد .
وقد استطرد في بعض المواضع ومن ذلك :
أنه ذكر تحت قوله سبحانه { بديع السموات } (2) معنى الابتداع ثم تطرق منه إلى الفرق المبتدعة من الخوارج والشيعة ثم القدرية وتصحيح منهج من رد على أهل البدع بالحجج العقلية واستدل لذلك ببعض الآيات التي رد فيها القرآن على المشركين بدلائل العقل مثل قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } (3) ونحوها ، وبعض الأحاديث كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العدوى : “فمن أعدى الأول؟”(4). وتكلم عن البدعة الحسنة وقول عمر : "نعمت البدعة" . في قيام رمضان.
ومن الفصول الاستطرادية قوله :
فصل : قرأ رجل من المتكلمين في هذا العلم { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } (5) ثم قال : الرؤية والنظر قد يراد بهما العلم بالمعلوم والخبرة للمختبر ، وقد يراد بهما إدراك المبصرات بمعنى هو البصر ، فإذا قرنا بإلى في الاستفهام أو في الإخبار اختصا بالإبصار .
__________
(1) البقرة : 74
(2) الأنعام : 101
(3) الأنبياء : 22
(4) أخرجه البخاري –كتاب الطب – باب لاصفر…1/171 ، ومسلم –كتاب السلام – باب لاعدوى …4/1742 عن أبي هريرة مطولاً .
(5) البقرة : 243(5/4)
فقيل له : كيف ترى أمة سلفت ؟ فقال : أتستبعد هذا لمحبوب محظوظ مكاشف بسطور من اللوح المحفوظ …ثم ذكر استدلالات من قصة الإسراء والمعراج وغيرها.
وهو يميل إلى التأويل فهو أشعري العقيدة وذلك واضح جلي في تفسيره حيث فسر آيات الصفات وفقا لمذهب الأشاعرة وانتصر له وطعن في المخالفين له وغمز أهل السنة ولمزهم ووصفهم بأوصاف ذميمة قبيحة(1):
يقول في قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } (2)وقال الزجاج : أي عمد وقصد إلى السماء كما تقول : فرغ الأمير من بلد كذا ثم استوى إلى العراق . والاستواء أيضا : العلو ، قال الشاعر :
أقول وقد قطعن بنا شَرَورَى نواجي واستوين من الضَّجوعي(3)
أي : علون منها ، والضجوع : مواضع منخفضة .
والاستواء أيضا يكون بمعنى الاستيلاء إذا قرن بعلى ، تقول : استوى فلان على الملك أي : استولى عليه مثل الإحاطة وكل ذلك جائز في وصف الله سبحانه . فأما الحلولية القائلون استوى : استقر ؛ فإنهم مجسمون وقد أكذبهم الله بقوله { ليس كمثله شيء } (4) إلى ما ادعوه من أن الله سبحانه ليس بغني عن ما خلق والله غني عن العالمين ، وقد أجمع المسلمون على أن الله سبحانه كان غنيا عن العرش قبل خلقه فالقول بأنه حدث له حاجة إليه بعد خلقه ، كفر صراح تعالى الله عن أن يكون محمولا بشيء أو حالا في شيء أو مجاذبا لشيء أو متنَفّعا بشيء وهو العلي الكبير . وقيل هذا من المتشابه الذي لا يتتبع الفكر فيه والسؤال عنه إلا من في قلبه زيغ ؛ روي لنا أن رجلا سأل عنه مالك بن أنس فأجابه بأن قال : الاستواء غير مجهول والتكييف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا ، ثم قال : أخرجوه .
__________
(1) انظر :ابن ظفر الصقلي ومنهجه في التفسير ص28
(2) البقرة : 29
(3) الضَّجوع : رملة بعينها معروفة (انظر لسان العرب 4/2555) وشَرَوْرَى : اسم جبل في البادية (المصدر السابق 4/2255)
(4) الشورى : 11(5/5)
وقال في قوله تعالى { بأسماء هؤلاء } (1)دليل على أن الاسم غير المسمى ومن آمن بأن أسماء الله تعالى ليس لها مثل لم ينكر أن ينفرد في هذا بحكم .
ويقول : ولا يجوز أن تكون الكتابة كلام الله لأن الكتابة فعل الكاتب وكلام الله صفة لذات الله وصفات الذات لا تفارق الذات ما بقيت الذات لكن المكتوب في اللوح المحفوظ وفي المصحف هو كلام الله والكتابة تدل عليه دلالة العبارة على المعبر عنه .
وفي قوله تعالى { منه آيات محكمات وأخر متشابهات } (2) قال : قال ابن جبير : هن آيات تشابهن على الناس ومن أجل تشابههن ضل من ضل ، تقرأ الفرقة الآية منها فتزعم أنها لها فمما اتبع الحرورية من المتشابه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (3) ويقرءون معها { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } (4)فإذا رأوا الإمام يحكم بغير حق قالوا : قد كفر ، ومن كفر فقد عدل بربه ، ومن عدل بربه فقد أشرك بربه ...وقد أطال الحديث عن المتشابه وهل يعلم أحد تأويله أم لا؟
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن (5):
من مواضع ذلك عند المصنف قوله في تفسير قوله تعالى { الذين أنعمت عليهم } (6): والذين أنعم الله عليهم : النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، وهذا من التفسير بالكتاب . وهو يعني بذلك قوله تعالى { من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } (7) .
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } (8) قال : وقيل : أي لا تخلطوا الحق من كتابكم بالباطل من تحريفكم كقوله تعالى : { يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب } (9) الآية.
__________
(1) البقرة : 31
(2) آل عمران : 7
(3) المائدة : 44
(4) الأنعام : 1
(5) انظر أيضًا : ابن ظفر الصقلي ص135-139
(6) الفاتحة :7
(7) النساء :69
(8) البقرة : 42
(9) آل عمران : 78(5/6)
وقال : وقوله سبحانه { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } (1)كقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } (2) فهذا من التفسير الفرقاني .
وقال { فاستقيما } (3) فأمر بالثبات على الطاعة والنهضة بالأمر ومثله { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } (4)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة(5):
ومن منهج المصنف الاحتجاج بالحديث في التفسير وهو يذكر الرواية بدون إسناد أو عزو للمخرجين ومن مواضع ذلك قوله : وروي لي أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القرى(6) فقال : يا رسول الله ! من المغضوب عليهم ؟ قال : “اليهود” قال : ومن الضالون ؟ قال : “النصارى”(7).
وربما ذكر بعض المخرجين ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى { وقولوا حطة } (8) روي لنا مارواه مسلم بإسناده من حديث أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “ قيل لبني إسرائيل : { ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم } (9) فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة”(10).
وذكر أحاديث في التأمين وهي من مشاهير الأحاديث الصحيحة .
وهو لا يلتزم الصحة فيما يورده من أحاديث بل ربما ذكر بعض الأحاديث الضعيفة مثل قوله :
__________
(1) البقرة : 123
(2) فاطر : 18
(3) يونس 89
(4) هود : 112
(5) انظر ابن ظفر الصقلي ص143-149
(6) وادي القرى : واد بين المدينة والشام كثير القرى . (انظر معجم البلدان 5/397)
(7) أخرجه أحمد 5/23-33-77 ، وابن جرير 1/80 –83 ورواه ابن مردويه من حديث أبي ذر وحسن إسناده الحافظ ابن حجر (انظر فتح الباري 8/159) وله طرق كثيرة بألفاظ أخرى .
(8) البقرة : 58
(9) البقرة : 58
(10) أخرجه البخاري – كتاب التفسير – باب { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } رقم 4479 ، ومسلم – كتاب التفسير 4/2312 .(5/7)
وروي لي أن ابن عباس قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ما معنى آمين ؟ قال : “رب افعل”(1).
وقال في قوله { وطهر بيتي للطائفين } (2) : قال ابن عباس : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : “إن لله عز وجل في كل يوم عشرين ومائة رحمة ينزلها على البيت : ستون للطائفين ،
وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين” (3).
وأما أسباب النزول فهو من المهتمين بإيرادها ومن ذلك :
قال في قوله تعالى { أتامرون الناس بالبر } (4) : كان الرجل من الأوس والخزرج يأتي حليفه أو رضيعه من اليهود فيسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فينصح له ويأمره باتباعه فنزلت الآيات في هذا(5).
قال في قوله تعالى { ليس لك من الأمر شيء } (6) الآيتين :
__________
(1) أخرجه جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس به وأخرجه الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به . قال الحافظ : وجويبر بن سعيد ضعيف جدًا (التقريب 987) وأما الكلبي فقال : ما حدثت عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب فلا ترووه (انظر التهذيب 9/179) (وانظر الدر 1/23)
(2) الحج : 26
(3) أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عساكر وغيرهما وقال ابن الجوزي : حديث لايصح . انظر العلل المتناهية رقم940 ، والسلسلة الضعيفة رقم187 ، ضعيف الجامع رقم 1760، وأسنى المطالب رقم 1776 ، وذخيرة الحفاظ رقم 1987 .
(4) البقرة :44
(5) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص15 من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وقد تقدم قول الكلبي ماحدثت عن أبي صالح عن ابن عباس فهو كذب فلا ترووه . وعزاه السيوطي أيضًا للثعلبي (انظر الدر 1/70)
(6) آل عمران : 128(5/8)
قيل : إنها أنزلت يوم أحد وهو ما روي لنا أن أنس بن مالك قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته في يوم أحد وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه وهو يقول : “كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ؟” فأنزل الله عز وجل { ليس لك من الأمر شيء } (1)
وروي لنا أيضا أن عبد الله بن عمر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول : “اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا” بعد ما يقول : “سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ” فأنزل الله تعالى { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } (2)
وروي لنا من حديث أبي هريرة (3)… فلعلها إن شاء الله نزلت في الأمرين معا.
وفي تحويل القبلة ذكر روايات كثيرة منها حديث أنس المشهور وغيره .
وبالنسبة لفضائل السور والآيات :
يفتتح بها كلامه عن التفسير مثل قوله : روي لنا أن أبا أمامة الباهلي قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : “اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة”(4). قيل : البطلة السحرة فهم أهل باطل ولا يستطيعون أن يسحروا من قرأها . وقيل : البطلة السفهاء أهل البطالة لا يستطيعون تحفظها قراءة.
وذكر حديث النواس بن سمعان : “يؤتى بالقرآن وأهله …”(5)
__________
(1) أخرجه مسلم – كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أحد رقم 1791
(2) أخرجه البخاري – كتاب التفسير – باب { ليس لك من الأمر شي } رقم 4559.
(3) أخرجه البخاري – كتاب التفسير – باب { ليس لك من الأمر شيء } رقم 4560 .
(4) أخرجه مسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل قراءة القرآن رقم 804 ضمن حديث طويل .
(5) أخرجه مسلم أيضًا بطوله – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل قراءة القرآن رقم 805.(5/9)
وحديث الآيتين من أواخر سورة البقرة عن أبي مسعود(1).
وقد ذكر أحاديث عدة في فضل آية الكرسي .
وافتتح تفسير سورة آل عمران ببعض فضائلها .
وذكر حديثا ضعيفا في فضل قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو… } وهو حديث غالب القطان عن الأعمش . (2)
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف(3):
قال في قوله تعالى { أنعمت عليهم } (4) : قال أبو العالية : هم محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزيراه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقال في قوله تعالى { وقودها الناس والحجارة } (5)قال ابن عباس في الحجارة : إنها حجارة الكبريت .
وقال في قوله تعالى { وأتوا به متشابها } (6) قال ابن عباس : الرمان يؤدي طعم الكمثرى والسفرجل والتفاح . فجعل التشابه في المطعوم …
وقال مقاتل بن سليمان : يؤتون به بكرة على مقدار بكرة الدنيا في صحاف الدر والياقوت ، ثم يؤتون به عشية على مقدار عشية الدنيا ، فيقولون : هذا الذي طعمناه بكرة …
وقال في قوله تعالى { أزواج مطهرة } (7) : قال قتادة : مطهرة من الإثم والأذى.
وقال مجاهد والحسن : من الحيض والبول والنخامة والبصاق وكل الأقذار .
وقال عبد الله بن عمر : إن أزواج أهل الجنة لتغنين بأحسن أصوات سمعها أحد وإن مما يتغنين :
__________
(1) أخرجه البخاري – كتاب فضائل القرآن – باب فضل سورة البقرة 9/55 ، ومسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة رقم 807 .
(2) آل عمران : 18 . أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/102-103 وقال هذا حديث لايصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تفرد به عمر بن المختار وعمر يحدث بالبواطيل .. ا.هـ وهو على كل ليس صريحًا في فضل الآية إنما هو في فضل الشهادة . وقد أخرجه أيضًا الخطيب في تاريخ بغداد 7/193 وأبو نعيم في الحلية 6/187 .
(3) انظر : ابن ظفر الصقلي ص150-164 .
(4) الفاتحة : 7
(5) البقرة : 24
(6) البقرة : 25
(7) البقرة : 25(5/10)
نحن الخيرات الحسان
أزواج قوم كرام
ينظرون بقرة أعيان
وإن مما يتغنين :
نحن الخالدات فلا نموت
ونحن الآمنات فلا نخاف
ونحن المقيمات فلا نظعن
وقال في قوله تعالى { ولا تلبسوا الحق بالباطل } (1) : قال قتادة : أي لا تلبسوا اليهودية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله هو الإسلام .
وفي قوله { وقولوا للناس حسنا } (2) : قال ابن عباس وغيره : أي حقا وصدقا في شأنه- صلى الله عليه وسلم - ولا تغيروا نعته .
وقال الحسن والثوري : هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقال الربيع وعطاء وغيرهما هذا على العموم في تحسين القول للناس كلهم .
وقد وقفت له على أثر يرويه بإسناده تحت تفسير قوله تعالى { لا تأخذه سنة ولا نوم } (3)فقال :
واللفظ الذي ذكرته روي لي فأخبرني به الفقيه أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري عن الحسن بن عمر بن الحسن الهوزني عن عبد الله بن الوليد بن سعيد عن علي بن الحسن بن العباس بن فهر عن الحسن بن علي بن شعبان عن أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر بن محمد بن علي النجار عن عبد الرزاق عن معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة . ولي فيه إسناد أقرب من هذا .
واللفظ الذي ذكره قبل ذلك عن عكرمة : سأل سائل من بني إسرائيل موسى عليه السلام : أينام ربنا ؟ فصمت عنه ، فأرسل الله تعالى إلى موسى ملائكة فأرقوه ثلاث ليال ، ثم أعطوه قارورتين ، فأمروه أن يمسك في كل يد قارورة وحذروه من كسرهما ، فجعل ينعس وينتبه ، ثم ينعس وينتبه ، حتى نعس نعسة فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما(4).
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ :
__________
(1) البقرة : 42
(2) البقرة : 83
(3) البقرة : 255
(4) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره ص113 ومن طريقه ابن جرير 3/7-8 وهو ضعيف لإرساله وقد أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس موقوفًا (انظر الدر 1/336) وأخرجه ابن جرير عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .(5/11)
وهو يتعرض لبعض حوادث السيرة عند الحاجة لذلك فقد ذكر قصة العاقب والسيد وقدومهما على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها سبب نزول قوله تعالى { زين للناس حب الشهوات } (1)
وذكر كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهرقل تحت قوله تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا } (2) فقال: وبهذه الآية كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - هرقل ملك الروم …..فذكر الحديث بطوله .
كما سبق بعض الآيات المتعلقة بغزوة أحد في حديثنا عن أسباب النزول .
وسوف يأتي في الحديث عن الإسرائليات روايات تاريخية تتعلق بالأمم الماضية .
ولم يفرد الفايز في دراسته فصلا في ذلك ، وهو من سلبيات رسالته .
سابعا : موقفه من الإسرائيليات (3):
والمصنف من المكثرين جدا في نقل الروايات عن أهل الكتاب ، وهو يسلك في ذلك مسلك قدامى المفسرين فلا يرد ما اشتهر رده عند جمهور المتأخرين :
ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى { فأزلهما الشيطان عنها } (4) قال ابن عباس: عرض إبليس نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل فيها فتدخله الجنة فأبين إلا الحية فإنها طاعت له بذلك فدخل بين فكيها فأدخلته الجنة . وقال أيضا : قالت الحية : إني أخاف آدم . فقال : أنت في ذمتي منه ومن ولده . قال ابن عباس : أخفروا ذمة عدو الله فإنه أعطى الحية ميثاقا أن يمنعها من آدم وولده .
وقال في قوله تعالى { ولا تقربا هذه الشجرة } (5): واختلف في تعيين الشجرة ؛ قال ابن عباس : هي السنبلة … وقاله وهب بن منبه قال : وكانت الحبة مثل كلية الثور وأحلى من العسل وألين من الزبد . وحكى السدي عن ابن عباس أنه قال : هي شجرة العنب وكذلك قال ابن مسعود . وقال قتادة : هي الكرمة . وحكاه بعض العلماء عن علي كرمه الله والذي روي لنا عنه أنه قال : هي شجرة الكافور … وقال ابن جريج : هي شجرة التين …الخ .
__________
(1) آل عمران :14
(2) آل عمران : 64
(3) انظر : ابن ظفر الصقلي ص235-241 .
(4) البقرة : 36
(5) البقرة : 35(5/12)
وقال في قوله تعالى { قلنا اهبطوا } (1) : فأهبط آدم إلى أرض الهند بسرنديب . قال محمد بن إسحق : إن مهبط آدم وحواء على جبل بأرض الهند يقال له : واشم …والجمهور على أن حواء أهبطت بجدة على ساحل مكة …الخ
وقال في قوله تعالى { يابني إسرائيل } (2): قال السدي : سمي إسرائيل لأنه هرب من عيصو فكان يسير ليلا …الخ
وفي قوله { بعصاك الحجر } (3) قال : قيل كان حجرا طورانيا أخذه موسى عليه السلام من جبل الطور وقال مقاتل : كان لطيفا مربعا أحمر وقيل : كان من حجار الجنة .
وقد ذكر قصة بقرة بني إسرائيل كاملة بعد تفسيره للآيات فقال :
ذكر القصة
قال ابن عباس في رواية عنه ما معناه : كان في بني إسرائيل رجل صالح فلما حضرته الوفاة ….فذكر القصة
ثم نقل جزءا عن وهب بن منبه وآخر عن عكرمة ثم قال :
وروي لي في ذلك بيان عزاه أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي(4) إلى ابن عباس في كتاب التفسير الذي ألفه فقال قال : عباس …فذكر أكثر من صفحة وأتبعها بصفحتين عن ابن عباس أيضا في قصة القتيل .
كما ذكر قصة هاروت وماروت المشهورة عن ابن عباس وابن عمر ولم يذكر غير هذا القول في تفسير الآية .
وفي قوله تعالى { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } (5)ذكر قصتهم مع نبيهم حزقيل عن وهب بن منبه ، وبعضها عن مقاتل .
وذكر فصلا مستقلا بعد أن فسر الآيات المتعلقة بطالوت فقال :
ذكر قصة التابوت وتمليك طالوت وقتل داود جالوت فقال : قال الطبري وغيره…فذكر أكثر من ثمان صفحات في ذلك .
وكذا في قوله تعالى { أو كالذي مر على قرية } (6) قال : ذكر ما قاله المفسرون في القصة …فذكر فصلا مستقلا فيها حوالي سبع صفحات .
__________
(1) البقرة : 38
(2) البقرة : 40
(3) البقرة : 60
(4) هو علي بن إبراهيم بن سعيد المصري له تفسير يسمى "البرهان في تفسير القرآن" قال عنه الداوودي : تفسير جيد . ت 430هـ (انظر طبقات المفسرين 2/388) .
(5) البقرة : 243
(6) البقرة : 259(5/13)
وفي قوله { كلما دخل عليها زكريا المحراب } (1)
قال : ذكر القصة : كانت حنة بنت فاقود علت في السن…الخ
وذكر فصلا قال فيه :
ذكر جمل من أمر زكريا ويحيى عليهما السلام …فنقل فيه عن ابن إسحق وغيره حوالي ست صفحات .
ثامنا : موقفه من اللغة(2):
وأما موقفه من اللغة فقد قدمنا أن تفسيره يعد من التفاسير اللغوية لأن الصناعة اللغوية تغلب عليه .
وهو يكثر النقل عن الفراء وأبي عبيدة والزجاج ونحوهم من أئمة اللغة .
قال في قوله تعالى { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم } (3) :
وانتصبت { يتوب } لأن { أو } عاطفة على قوله { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم } (4) وقيل { أو } هي التي تأتي بمعنى : حتى ، في مثل قولك : لأدعون أو يستجاب لي . وليس بجيد لأن ذلك يقتضي نفي ملك الأمر عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - إلى غاية وأمد ، وقوله سبحانه { ولله ما في السموات وما في الأرض } (5)تأكيد بيان لانفراده سبحانه بملك الخلق والأمر .
وفي تفسير قوله { ولا تلبسوا الحق بالباطل } (6) تكلم عن اللبس لغويا وفسر الآية بناء عليه .
وهو يطنب في المسائل اللغوية ويستدل بالشعر ، وقلما تخلو صفحة من بيت شعر أو أكثر ، ومن ذلك قوله :
وسمي الدعاء عبادة لتذلل الداعي ، والطريق المعبد هو الذي ذلل بالوطىء ، والإبل إذا جربت عبدت جلودها بالهناء(7) قال الشاعر :
……………. وأقردت أقراد البعير المعبد
وقوله :
وأصل { نستعين } نستعون أي نسأل العون فنقلت كسرة الواو إلى العين فسكنت الواو وانقلبت لسكونها وانكسار ما قبلها ياء .
ويقول : ومن صنوف الفصاحة تقلب وجه الخطاب بين لفظي الغيبة والحضور قال الشاعر :
__________
(1) آل عمران : 37
(2) انظر ابن ظفر الصقلي ص190-199
(3) آل عمران : 128
(4) آل عمران : 127
(5) آل عمران : 129
(6) البقرة : 42
(7) الهِناء : القطران تقول هَنأت البعير بالفتح أهنؤه إذا طليته بالهناء (لسان العرب 6/4708)(5/14)
يالهف نفسي كان جدة خالد وبياض وجهك للتراب الأعفر
وأطال في بيان لغويات الهدى واستشهد لبعض معانيه بقول الشاعر :
…………. وهادية الصوار قوامها
قال : والصوار القطيع من بقر الوحش
ويقول : وقال جرير:
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموراد مستقيم
ومن ذلك قوله في معنى "آمين" :
يارب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
وهو يكثر من الرجز كقوله في تفسير { رزقوا منها من ثمرة رزقا } (1) :
شبهت بالفاروق فافرق فرقه وارزق عيال المسلمين رزقه
وقد تكلم عن الحروف التي في أوائل السور وعن موقعها من الإعراب وفائدتها في بداية سورة البقرة .
ومن كلامه عن وقوع المعرب في القرآن قال :
{ والقناطير المقنطرة } (2) والقناطير جمع قنطار ، فزعموا أنه بلسان الروم : ألف دينار ، ولا ينكر توافر اللغتين في كلمات ، ولا أعتقد أن في القرآن كلمة فما فوقها ليست عربية سوى الأسماء الأعلام العجمية ، وإن صح أن العرب نطقت بكلمات من غير لغتها وفشا استعمالهم إياها فقد صارت بذلك الاستعمال الفاشي كلاما للعرب .
ومن الفضول اللغوي ما ذكره تحت قوله تعالى { وإذ قالت الملائكة يا مريم } (3) قال : فصل : أبو عبيدة يقول أن "إذ" و "إذا" من الكلمات التي تزاد صلة …فذكر فصلاً مستقلاً في ذلك .
وبعد أن ذكر حديث هرقل وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - له قال : تفسير ألفاظ من هذا الحديث …فذكر حوالي ست صفحات في تفسير بعض ألفاظه .
تاسعا : موقفه من القراءات(4) :
المصنف من المهتمين بالقراءات وتوجيهها وكما قدمنا نجده يفرد بابا للقراءات فيقول :
ذكر القراءات
فيتكلم عنها وعن توجيهها ، وقد بين شيئا من منهجه في ذلك فقال عند قوله تعالى { بارئكم } (5):
__________
(1) البقرة : 25
(2) آل عمران :14
(3) آل عمران : 42
(4) انظر : ابن ظفر الصقلي ص165-178.
(5) البقرة : 54(5/15)
ولم أتعرض في هذا الكتاب غالبا لبيان أصولهم في التغليظ والترقيق والإدغام والإظهار والغنة والهمز والمد والإضجاع والوقف وإنما أودعته مالا يسع المفسر الجهل به في التلاوة .ا.هـ
وليس الأمر كما قال ، فقد استفاض في أمور يسع المفسر جهلها لعدم تعلقها بمعاني القرآن البتة وسوف يأتي شيء من ذلك .
قال : قرأ قنبل عن ابن كثير { السراط } (1) و { سراط } (2)بالسين حيث كان وقرأ خلف عن سليم عن حمزة بإشمام الزاي حيث كان ، ووافقه خلاد عن سليم عن حمزة ، وقرأ الباقون بالصاد المحضة حيث كان .
وقال : قرأ حمزة وحده { عليهم } (3)و { إليهم } (4) و { لديهم } (5) بضم الهاء منهن خاصة حيث كن وبكسر الهاء من غيرهن …قال الفراء : لأن الأصل في هذه الهاء من عليهم وإليهم ولديهم ؛ الضم في قولك : هم . وهذا صحيح لكن تلزم المحافظة على ذلك فيما أشبه هذه الكلمات… وذكر فصلا طويلا
وتكلم عن الحروف المقطعة في أول سورة البقرة وسكت يزيد بن القعقاع عليها وأردف ذلك بتوجيه القراءات الواردة في هذه الآيات .
ويقول :
قرأ اليزيدي عن أبي عمرو { بارئكم } (6) بإختلاس كسرة الهمزة وروى شجاع عنه إسكان الهمزة وحقق كسرتها الباقون ولو اضطر قارئ إلى الوقوف عليها لهمزها إلا على طريقة حمزة فيقف عليها بغير همز على ما أصله .
ومن تفريعاته في القراءات قوله : حكى الحلواني وحده عن قالون إسكان هاء { أن يملَّ هْوَ } (7)
وهو يذكر الشواذ وغيرها مثل قوله :
وقرأ قتادة "مثوبة" (8)بإسكان الثاء وفتح الواو وهو الأصل وهي لغة فيها وفي أشباهها.
__________
(1) الفاتحة : 6
(2) الفاتحة : 7
(3) الفاتحة : 7
(4) المائدة :66
(5) آل عمران : 44
(6) البقرة : 54
(7) البقرة : 282
(8) هي قراءة شاذة ، وقراءة الجمهور { مثوبة } المائدة :60 بضم الثاء وإسكان الواو .(5/16)
وفي قوله تعالى { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } (1) قال : وقرأ عمر كرمه الله وابن مسعود "القيَّام" .
وربما حمل على بعض القراءات المتواترة ومن ذلك قوله :
{ وإذ ابتلى إبراهيم } (2) قال : قرأ هشام عن ابن عامر { إبراهام } (3) بألف وهو مذكور في هذه السورة خمس عشرة مرة ، وهذه القراءة تنسب إلى عبد الله بن الزبير وهي شاذة ، ولم يشتهر بها في قراءة ولا سنة نبوية ولا في أثر صحابي نقل .
ومن مواضع توجيهه للقراءات لغويا قوله :
قرأ عاصم وحده { تجارةً حاضرةً } (4) فنصبها لأن التقدير عنده إلا يكون المال تجارة، ورفعها سائرهم لأنهم جعلوا كان بمعنى حدث .
عاشرا : موقفه من الفقه : (5)
يلاحظ على المؤلف ميله لمذهب مالك كسائر أهل المنطقة وهو ينقل عن غيره ولا يلمح في كلامه روح التعصب المذهبي ، كما أنه ربما استطرد استطرادا عجيبا في بعض المسائل الفقهية على الرغم من كون تفسيره لا يصنف ضمن التفاسير الفقهية، ومن الأمثلة على ماذكرت :
قوله في البسملة :
ويختار ترك قراءتها في أول الفاتحة وغيرها من السور سرا وجهرا في الصلوات المكتوبة خاصة ، ثم ذكر حجته والخلاف ، ثم تكلم عن وجوب قراءة الفاتحة .
__________
(1) البقرة : 255
(2) البقرة : 124
(3) هذه قراءة سبعية متواترة ولم ينفرد بها هشام عن ابن عامر بل قرأ بها ابن ذكوان عنه (انظر إتحاف فضلاء البشر ص147) وقال ابن الجزري : وهو لغة فاشية للعرب (النشر 2/222) ولا تؤخذ القراءة من أثر وإنما هي سنة متبعة تؤخذ من أفواه القراء ، كلٌ يقرأ كما عُلّم . انظر (سنن القراء ص17) وقرأ ابن عامر هذه القراءة على أبي هاشم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن المغيرة عن عثمان بن عفان وقرأ أيضًا على أبي الدرداء وقرأ عثمان وأبو الدرداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (انظر النشر 1/144)
(4) البقرة : 282
(5) انظر ابن ظفر الصقلي ص200-212(5/17)
وفي قتل الساحر قال : وعن المدني رحمه الله أن الساحر الذي وصفت كافر بسحره على الإطلاق وإن تظاهر بالإسلام وادعى أنه لا يستحله كالزنديق ، فيقتل من غير أن يستتاب ، فإن كان كافرا ذميا ؛ فقد اختلفت الرواية عنه فيه فقال مرة : يقتل ولايستتاب كالساحر المسلم ، وقال مرة : يستتاب وتوبته إسلامه .
وعند آيات تحويل القبلة تطرق إلى حكم الصلاة داخل الكعبة واستدل لمالك .
ومن مواضع إطالته الكلام أحيانا بما يخرج عن حد التفسير :
في تفسير قوله تعالى { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } (1) أطال الكلام في الكلمات التي أمر بها إبراهيم عليه السلام ، واستطرد إلى السنة في حلق العانة وقص الشارب ونحو ذلك .
وفي قوله { لا ينال عهدي الظالمين } (2) استنبط من الآية عصمة الأنبياء عن الظلم وعدم صحة الإمامة للظالم قال : وينتظم ذلك الإمامة في حملة الكتاب والسنة والقضاء والفتيا والصلاة ، على تفصيل في الظلم الذي ليس بشرك …الخ
وفي تحريم الميتة قال : من العلماء من قال : لا يجوز لغير المضطر أن ينتفع من الميتة بشيء لأن التحريم جاء فيها مطلقا لا مجملا ….إلى أن قال وهو قول مالك رحمه الله وأجراه في جميع وجوه الانتفاع بالميتة وبكل نجس حتى قال : لا يطعم الكلب المقتنى لحم الميتة ولا يسقى الزرع بالماء النجس…..الخ
واختلف أصحاب مالك في طهارة الزيت النجس إذا غسل واختلف قوله في طهارة اللحم إذا أصابته نجاسة في حال الطبخ……الخ
كما استفاض كثيرا عند حكم الإيلاء ، وذكر مسائل منها : أن رجلا حلف ألا يطأ امرأته حتى يفطم ولده فلم ير علي ذلك إيلاء وأن مالكا عمل بذلك .
كما عقد فصلا عند الكلام على العدة فقال :
فصل : تجب العدة على المطلقة بمجرد الخلوة عند مالك وفي أظهر قولي الشافعي ……..الخ
كما أطال الكلام عن الخلع وهل هو طلاق أم لا ؟ وعن الطلاق ثلاثا ونحو ذلك من أحكام الطلاق .
__________
(1) البقرة : 124
(2) البقرة : 124(5/18)
وأطال الحديث عن الذي بيده عقدة النكاح ، وعن ولاية الأب على ابنته ، وعن الصلاة الوسطى .
كما أطال الكلام عن الربا وذكر ربا الفضل وتفرع إلى تفريعات دقيقة فيه فحكى مذهب الشافعي في إلحاق كل مطعوم للتغذي أو للتأدم أو للتداوي أو للتفكه وقال والتحق بها الأدهان والزعفران والطين الأرميني والطين الذي يأكله بعض الناس لشهوة ودهن البنفسج ….الخ
وهو يتعرض للأصول أحيانا ويرى جواز النسخ ومن ذلك قوله في قصة بقرة بني إسرائيل :
قال ابن عباس : لو ذبحوا أي بقرة ذبحوا لأجزت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم .
قال : وفي هذا شهادة لجواز النسخ قبل فعل المأمور بفعله لأن طاعة الأمر كانت تحصل منهم بذبح أي بقرة شاءوا ، ثم نسخ ذلك بإلزامهم ذبح بقرة مخصوصة بأوصاف مخصوصة . كما استنبط منها أيضا أن امتثال الأمر يحصل بفعل أقل ما يقع عليه الاسم إذا كان المأمور به غير موصوف ولا محدود قال : وفيها أن الأمر الذي لم يخصص بزمان معين لا يلزم حمله على الفور لأنهم أخروا فعل ما أمروا بفعله حتى راجعوا في الخطاب . وفيها أن الأمر إذا لم يقترن به ما يدل على الندب أو الاستحباب لزم حمله على الوجوب ، ولا يخفى أن قوله : اذبحوا بقرة عري عن القرائن .
وقد تكلم عن النسخ فأطال وذكر بعض الآيات التي دخلها النسخ مثل : قوله تعالى { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت } (1)
وقوله { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } (2)
وقوله { إن يكن منكم عشرون صابرون } (3)
ورد على اليهود في إنكارهم النسخ بوقوعه عندهم وذكر أمثلة على ذلك .
ويقول في قوله تعالى { لا إكراه في الدين } (4) والنسخ تعطيل للمنسوخ فلا يصار إليه إلا بحديث نبوي وعند عدم المروي عن بعض السلف بما فيه مندوحة عن القضاء بالنسخ على الكلمة المنزلة وعند امتناع الجمع بين ما قيل إنه ناسخ وما قيل إنه منسوخ .
__________
(1) النساء : 15
(2) النساء : 33
(3) الأنفال : 65
(4) البقرة : 256(5/19)
والمصنف لا يعتبر في تفسيره هذا مجرد جامع أو ناقل ومهذب بل تظهر شخصيته في ترجيحه بين الأقوال ومن مواضع ترجيحه في تفسير قوله تعالى { وسيدا وحصورا } (1) قال وقال عكرمة : …وأما الحصور : الذي لا يأتي النساء . وتبعه في هذا مجاهد وقتادة وابن جبير والضحاك وعطية العوفي وغيرهم ، وروي عنه أيضا أنه قال : الحصور : الذي لا ينزل الماء . ويشبه هذا قول الربيع بن أنس : الحصور: هو الذي لا يولد له .
قال : والتفسير الأول أصح بالقبول لحديث رواه سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “ما من عبد يلقى الله تعالى إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله تعالى يقول : { وسيدا وحصورا } (2)” قال : “وإنما كان ذكره مثل هدبة الثوب ”. (3)
ولما حسمت عنه شهوة النساء سلم من الذنوب ، ومن نقب عن أسباب أكثر الذنوب عرف أنها متصلة بالرغبة في النساء على قرب وبعد .
ولم يتعرض المصنف للمواعظ والآداب فيما وقفت عليه من تفسيره ، إلا بطريقة غير مباشرة كما تقدم في كلامه السابق . ونظرا لتقدمه لا نجد في كلامه ذكرا للعلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية ونحو ذلك مما ظهر في تفاسير المتأخرين .
__________
(1) آل عمران : 39
(2) آل عمران : 39
(3) أخرجه ابن جرير 3/255 وابن أبي حاتم في التفسير رقم 482 والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير 2/373 وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت الذهبي .
وأخرجه أحمد في الزهد ص90 وابن أبي شيبة في المصنف 11/560 وابن أبي حاتم في التفسير رقم 483 عن عبد الله بن عمرو موقوفًا .
وقال ابن كثير في الموقوف : هو أقوى إسنادًا من المرفوع بل وفي صحة المرفوع نظر (التفسير 2/30) وقال السيوطي في الموقوف أيضا : هو أقوى إسنادًا من المرفوع (الدر2/190)(5/20)
هذا وقد ذكر الفايز في رسالته بعض المزايا التي تميز بها تفسير ابن ظفر وبعض المآخذ التي أخذت عليه(1) وسوف أجملها في مايلي :
أولا : المزايا :
يهتم بالمأثور
يهتم باللغة
يهتم بآيات الأحكام
يهتم بعلوم القرآن
ثانيا : المآخذ :
مخالفته لأهل السنة وشتمه لهم .
عدم تمحيص الروايات .
إهماله لمذهب أبي حنيفة وأحمد .
كثرة الإسرائيليات .
__________
(1) انظر ص276-278 .(5/21)
تفسير ابن عاشور
من خلال كتابه التحرير والتنوير
***
مؤلف هذا التفسير هو محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي ت 1393 هـ وهو من أهل المنطقة ولد بتونس وتوفي بها (1) .
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى بالتحرير والتنوير اسمه الأصلي : "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد وتفسير الكتاب المجيد" .
والكتاب له طبعتان : طبعة على هيئة أجزاء متفرقة نشرتها الدار التونسية للنشر ، وطبعة في خمس مجلدات ، وطبعة قديمة سنة 1384هـ بمطبعة عيسى البابي الحلبي لم أقف منها على غير الجزء الأول فقط .
قدم له المؤلف بتمهيد واف ذكر فيه مراده من هذا التفسير وقال :
فجعلت حقًا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها ، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها ، فإن الاقتصار على الحديث المعاد ، تعطيل لفيض القرآن الذي ماله من نفاد ، ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين : رجل معتكف فيما شاده الأقدمون ، وآخر آخذ بمعولة في هدم ما مضت عليه القرون وفي تلك الحالتين ضر كثير ، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير ، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده ، علما بأن غمص فضلهم كفران للنعمة ، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة .(2)
وقد ذكر فيها أهم التفاسير في نظره فبدأها بتفسير الكشاف ثم المحرر الوجيز ثم مفاتيح الغيب وتفسير البيضاوي والآلوسي وذكر بعض الحواشي على الكشاف والبيضاوي وتفسير أبي السعود والقرطبي وتقييد الأبي على ابن عرفة وتفسير ابن جرير ودرة التنزيل . ثم قال : ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها .
فكأنها مراجعه الأساسية .
__________
(1) سبقت ترجمته في أهل المنطقة برقم 217
(2) 1/1/7(6/1)
ولقد أخر ما حقه التقديم فجعل أولها كتاب الكشاف المعتزلي وجعل في آخرها كتاب ابن جرير أعظم المفسرين وعمدة السابقين واللاحقين مما يعطي الانطباع بأن منهج الشيخ عقلاني أكثر منه أثري .
ثم قال : وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية مما لا يذكره المفسرون .(1)
كما وضح أن فن البلاغة لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا أفانين القرآن الأخرى ومن أجل ذلك التزم أن لا يغفل التنبيه على ما يلوح له منه كلما ألهمه .
وأخيرًا فهو يمتدح كتابه بقوله : ففيه أحسن ما في التفاسير ، وفيه أحسن مما في التفاسير . (2)
وقد أتبع كلامه عن تفسيره بعشر مقدمات :
الأولى : في التفسير والتأويل وتعرض فيه لبيان أن التفسير ليس علمًا إلا على وجه التسامح وناقش ذلك بمقدمات منطقية ترسم أبعادًا لمنهجه العقلاني الذي يتضح من خلال مطالعة تفسيره شيئًا فشيئًا .(3)
وقد أثنى في تلك المقدمة على تفسيري الكشاف وابن عطية وقال : وكلاهما عضادتا الباب ومرجع من بعدهما من أولي الألباب . (4)
وسوف يأتي ذكر بقية المقدمات في غضون كلامنا عن المنهج التفصيلي .
المنهج العام للتفسير :(5)
وتفسير التحرير والتنوير بعتير في الجملة تفسيرا بلاغيا بيانا لغويا عقلانيا لايغفل المأثور ويهتم بالقراءات . وطريقة مؤلفه فيه أن يذكر مقطعا من السورة ثم بشرع في تفسيره مبتدئا بذكر المناسبة ثم لغويات المقطع ثم التفسير الإجمالي ويتعرض فيه للقراءات والفقهيات وغيرها .
وهو يقدم عرضا تفصيليا لما في السورة ويتحدث عن ارتباط آياتها . (6)
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : أسماء السور وعدد الآيات والوقوف وبيان المناسبات :
__________
(1) 1/1/7
(2) 1/1/8
(3) 1/1/12
(4) 1/1/16
(5) وممن تكلم عن منهج ابن عاشور في تفسيره : د بلقاسم الغالي في كتابه شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور ص75-85
(6) انظر كمثال1/1/203(6/2)
لقد أفرد ابن عاشور المقدمة الثامنة من مقدماته وجعلها في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها .
ثم هو يتعرض أثناء التفسير لأسماء السور ومن ذلك في سورة الفاتحة إذ يقول : سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة . أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات وجرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة.(1)
ومما قاله في تقديمه لكتابه : واهتممت أيضًا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض وبين أن البحث عن تناسب مواقع السور ليس حقًا على المفسر .
ويتعرض لمكية السور ومدنيتها وترتيب نزولها كما في الفاتحة والبقرة وغيرهما .(2)
وفي ترتيب النزول جاء قوله :
تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور ، وفي فواتح سور أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية ، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهى { ن والقلم } (3)وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر أقوال متعددة وأبحاث كثيرة (4) .
وعند النظر لأول وهلة يتبين أن تحديد المصنف لتلك السورة بأنها ثاني سورة نزلت ليس بصحيح فإن أولى السور نزولا هي العلق ثم المدثر والخلاف محصور فيهما مع الفاتحة ، فسورة ن هي الرابعة على أقل تقدير .(5)
وهو يتعرض لعد الآي ومن ذلك قوله في سورة البقرة : وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة ومكة والشام ، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة ، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة (6) .
وقد تعرض للخلاف في عد الفواتح . (7)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
وهو في العقيدة يسلك مسلك المؤولة :
__________
(1) 1/131 ، وانظر أيضا في أسماء السور1/1/201
(2) انظر1/135-202
(3) القلم:1
(4) 1/1/206
(5) انظر الإتقان 1/31-33
(6) 1/1/202
(7) انظر1/1/218(6/3)
يقول : فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشئ على مقدار عقائد أهلها في ما يجوز على الله ويستحيل ، وكان أكثر الأمم مجسمة ، ثم يجيء ذلك في لسان الشرائع تعبيرًا على المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن { ليس كمثله شيء } (1)فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي : الرحمن الرحيم ؛ لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الأسمى من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة لأن ماعدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له ، لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدًا ولا يملك له نفعا لعجز أو نحوه وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في المقصد الأسنى بقوله : الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرًا على قضائها لم يسم رحيمًا إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما باعتبار ما اعتبره من الرحمة والرقة ولكن ناقص .
__________
(1) الشورى:11(6/4)
وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله ، كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل ، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون ، ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة ، فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله { ورحمتي وسعت كل شيء } (1)فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالب الأسماء الحسنى من هذا القبيل.(2)
__________
(1) الأعراف:156
(2) 1/169-170(6/5)
ويقول : وإذا كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها ، وإسنادها إليه على الحقيقة ، للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية ؛ فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقة أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه ، فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه ، أعني : العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية . وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات ، لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس ، فلما نشأ النظر في العلم وطلبوا معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق ، لم يجد أهل العلم بدًأ من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد ، فقام الدين بصنيعهم على قواعده ، وتميز المخلص له عن ماكره وجاحده ، وكل فيما صنعوا على هدى . وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدًا ،(1)
__________
(1) ما أجمل منهج السلف في هذا الباب وماذا أفاد الخوض فيه من خاضه وهل لا يكبت المعاند التمسك بالنفي والإثبات ؟ فننفي عن الله المثيل والشبيه ونثبت له ماأثبته على مراده وكما يليق بجلاله ، وما أجمل تلك القاعدتين المفحمتين لكل متكلم :
القول في الصفات فرع عن الكلام في الذات .
القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر .
ورحم الله الرازي إذ يقول :
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوى } طه:5 { إليه يصعد الكلم الطيب } فاطر :10 وأقرأ في النفي { ليس كمثل شيء } الشورى:11 { ولا يحيطون به علما } طه :110 ثم قال : ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .ا.هـ فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟
وانظر : تصحيح المفاهيم في جوانب من العقيدة ص22-32 ، شرح العقيدة الطحاوية ص167-170(6/6)
وماتأولوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله . فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية .(1)
وقد يستطرد أحيانا في تلك القضايا المتعلقة بالصفات ويكفي القارئ لمعرفة مدى الاستطراد الذي وقع فيه المؤلف الخارج عن نطاق التفسير أن يقرأ هذه الفقرة التي ساقها ضمن كلامه الطويل عن الحمد :
__________
(1) 1/197-198(6/7)
قال : …ومنه أنه يكون ثناء على الجميل الاختياري : وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال ، وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضًا ظاهرا ؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية ، فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف . وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية ، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه اختياريًا . وعندي أن الجواب أن نقول : إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد – عند مثبته- لإخراج الصفات غير الاختيارية ، لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود ، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ، ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادة في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها ، فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلا على زيادة الكمال ، وفينا دليلا على النقص . وما كان نقصًا فينا باعتبار ما ، قد يكون كمالا لله تعالى باعتبار آخر ، مثل عدم الولد ، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف ، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة (حمد ) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة ، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم .(1)
ويقول في خلق الأفعال وقضية اللطف وهو كلام يشم منه رائحة الاعتزال :
__________
(1) 1/156(6/8)
{ فزادهم الله مرضا } (1) وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها ، لأن الله تعالى لما خلق هذا التولد وأسبابه وكان أمره خفيا ، نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة ، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنا من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن .
وله كلام جيد في تقدير المحذوف في لا إله إلا الله :
قال : قد أفادت جملة (لا إله إلا هو) التوحيد لأنها نفت حقيقة الألوهية عن غير الله تعالى . وخبر" لا" محذوف دل عليه ما في" لا "من معنى النفي لأن كل سامع يعلم أن المراد نفي هذه الحقيقة فالتقدير لا إله موجود إلا هو ، وقد عرضت حيرة للنحاة في تقدير الخبر في هاته الكلمة …الخ (2)
كما تعرض للخلاف في مسمى الإيمان فأطال فيه إطالة خرجت عن حد التفسير(3) وتورط فيها ورطة كبيرة كما سيأتي في نهاية حديثنا عن هذا التفسير .
وله ردود ومناقشات مع الفرق ومن ذلك :
حملته في المقدمة الثالثة على تفسير الباطنية وقد عرج على التفسير الإشاري وخرجه تخريجًا يوحي بقبوله له وقال في بعض أنحائه : ورأيت الشيخ محيي الدين يسمي هذا النوع سماعًا ولقد أبدع . (4)
وقد تعرض للإباضية وقولهم في الإيمان (5)
كما تعرض لبعض الخلافات بين الأشاعرة والمعتزلة(6)
__________
(1) البقرة:10
(2) 2/1/75
(3) 1/1/266 ، 274 .
(4) 1/1/36
(5) انظر1/1/268
(6) 1/1/235 ،257(6/9)
وابن عاشور يؤخذ عليه أنه ينقل عن أناس معروفين بالزيغ في باب الاعتقاد فهو ينقل عن ابن سينا (1) وأمثاله إذ يقول بعد ذكر كلام للرازي :
قلت : ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم في المرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في الإشارات : العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئًا على عرفانه وتعبده له فقط لأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة ا.هـ فجعلهما حالة واحدة . (2)
كما ينقل عنه مرة ثانية بعدها بصفحة فيقول :
__________
(1) الحسين بن عبد الله الرئيس الفيلسوف كان أبوه من دعاة الإسماعيلية قال الذهبي : هو رأس الفلاسفة الإسلامية لم يأت بعد الفارابي مثله فالحمد لله على الإسلام والسنة وله كتاب الشفاء وغيره وأشياء لاتحتمل وقد كفره الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال وكفر الفارابي (سير أعلام النبلاء 17/531) وقال أيضا الذهبي : ماأعلمه روى شيئا من العلم ولو روى لماحلت الرواية عنه لأنه فلسفي النحلة ضال لارضي الله عنه . وقال ابن أبي الحموي : وقد اتفق العلماء على أن ابن سينا كان يقول بقدم العالم ونفي المعاد الجسماني ولا ينكر الميعاد النفساني ونقل عنه أنه قال : إن الله لا يعلم عن الجزئيات بعلم جزئي بل بعلم كلي فقطع علماء زمانه ومن بعدهم من الأئمة ممن يعتبر قولهم أصولا وفروعا بكفره وبكفر أبي نصر الفارابي من أجل اعتقاده هذه المسائل وإنها حلاف إعتقاد المسلمين . (انظر لسان الميزان 2/291-293)
(2) 1/1/181(6/10)
وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في الإشارات : لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحدة منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه لنفسه لازدحم على الواحد كثير وكان مما يتعسر إن أمكن ، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة ، ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير ، فوجب معرفة المجازي والشارع ، وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكِّرة للمعبود ، وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير ا.هـ(1)
وتقدم نقله عن ابن عربي . (2)
كما تأثر بمن لديه انحراف في عقيدته ونقل عنه كثيرا أمثال الزمخشري ، وهو يثني على الغزالي وينقل عنه كثيرًا أيضا . (3)
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
ومن مواضع تفسير ابن عاشور للقرآن بالقرآن وهي تكاد تكون نادرة وغير مباشرة قوله :
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } (4) قال : وقيل : أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان فتكون خطابا للمنافقين فيؤول قوله { الذين آمنوا } بمعنى أظهروا الإيمان فيكون تهكما بهم على حد قوله { وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } (5) فيكون خطابا للمنافقين …الخ .(6)
وقال : والعلو في قوله { ولتعلن علوا كبيرا } (7) مجاز في الطغيان والعصيان كقوله كقوله { إن فرعون علا في الأرض } (8) وقوله { إنه كان عاليا من المسرفين } (9) وقوله { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } (10) تشبيها للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس .(11)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
__________
(1) 1/1/182
(2) وانظر أيضا1/1/ 207 ،210
(3) انظر كمثال 1/34،42
(4) البقرة :108
(5) الحجر :6
(6) 2/2/277
(7) الإسراء :4
(8) القصص:4
(9) الدخان:31
(10) النمل :31
(11) 15/30(6/11)
وأفرد ابن عاشور المقدمة الثالثة من مقدماته العشر : في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي وقد انتقد فيها كتب التفسير بالمأثور حتى تجاوز الانتقاد إلى ذكر ما ليس بحقيقة كقوله : وإن أرادوا بالمأثور ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور . لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا . (1)
وهذا غير صحيح فالدر المنثور جامع لأقوال التابعين وبعض تابعي التابعين أكثر مما جمع عن الصحابة .
وقد انتقد الطبري وقال عن طريقته : وذلك طريق ليس بنهج وقد سبقه إليه بقي ابن مخلد ولم نقف على تفسيره ، وشاكل الطبري فيه معاصروه ، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين ، والزجاج والرماني ممن بعدهم ، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية . (2)
وأقول : بل لله در من حبسوا نفسهم على منهاج أولهم ولم تزل أقدامهم في مازلت فيه أقدام غيرهم ممن خرجوا من القفص لحتفهم .
أما موقفه من الحديث فيتعرض له على وجه التفسير وربما جاء به لدلالة لغوية ونحوها .
وهو في الغالب يذكر الأحاديث بدون تخريج (3) .
وربما ذكر التخريج وهو قليل (4) .
وقد يخالف المصنف عادته لحاجة في نفس يعقوب ومن ذلك كلامه عن حديث تحويل القبلة حيث لم يكتف بالتخريج ولا بالصناعة الحديثية بل ذكر أيضا طرفا من الأسانيد فقال عند قوله { سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم } (5):
__________
(1) 1/1/32
(2) 1/33
(3) انظر 1/1/275 ، 311 ، 333 ، 2/1/44،47،54،69،03،149
(4) انظر 1/1/154 ، 202 ، 2/1/70 ،71،81
(5) البقرة :142(6/12)
ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد . وروى البخاري في كتاب الصلاة(1) من طريق عبدالله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه : فقال السفهاء - وهم اليهود - : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } { قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . وأخرجه في كتاب الإيمان(2) من طريق عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء بغير هذه الزيادة ، ولكن قال عوضها : وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت القدس، وأهل الكتاب ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك . وأخرجه في كتاب التفسير (3)من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شيء من هاتين الزيادتين، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق ، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلما والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين ، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله { سيقول السفهاء } بمعنى التحقيق لا غير ، أي قد قال السفهاء : ماولاهم (4).
وهذا التخريج المطول - بالنسبة للتفسير - لاقيمة له من حيث الصناعة الحديثية لإثبات الإدراج في الحديث ، ولابد في ذلك من نص عالم متخصص من الحفاظ على ذلك الإدراج أو التتبع الكامل لجميع طرق الحديث ثم عرضها على قواعد أهل المصطلح للوصول لتلك الدعوى العريضة .
وهو أحيانا يغض طرفه عن مشهور الحديث بعبارة مقتضبة لعدم قناعته بالتفسير المترتب عليه ومن ذلك :
قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } (5)
__________
(1) باب التوجه نحو القبلة 1/502 وفيه : وقال السفهاء من الناس – وهم اليهود …الخ
(2) باب الصلاة من الإيمان 1/95
(3) باب { سيقول السفهاء … } 8/171
(4) 2/1/6،7
(5) الفاتحة:7(6/13)
قال : فالمغضوب عليهم : جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو تأويل بعيد جدًا ، والضالون : جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء ، وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير { المغضوب عليهم } باليهود و { الضالين بالنصارى } فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضًا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه . (1)
فقوله : "وما ورد في الأثر مما ظاهره .. "واضح جدا فيما ذكرته ، وتفسير الآية بذلك يعتبر نصا فيها لا ظاهرا كما يوهم كلامه وهو حديث مشهور رواه عدة واتفق السلف على تفسير الآية بذلك حتى قال ابن أبي حاتم : لا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف خلافا .(2)
وربما نقد بعض الأحاديث(3) ثم تناقض . (4)
وقد وهم في حديث نسبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من مشهور كلام علي بن أبي طالب وذلك في قوله :
__________
(1) 1/196
(2) التفسير 1/23
(3) انظر : 2/1/24،52
(4) انظر : 2/1/53(6/14)
فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغة إليه في تاريخ الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن النظر كالاجتهادات إذا بلغة مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيرًا للمسلمين ، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يثبت في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يلقنها وهو لا يحسن تزيلها ولا تأويلها ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟”(1) وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعه (2) .
وهو يتعرض لذكر أسباب النزول وقد أفرد لها المقدمة الخامسة حيث تكلم فيها عن فوائدها وأنكر على من توسع فيها وخلط الغث بالسمين .
ومن مواضع ذكره لأسباب النزول ماتقدم في قضية تحويل القبلة .
ومنه أيضا قوله في آية { ماكان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } (3): … فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعت بدر . وذلك مارواه مسلم عن ابن عباس والترمذي عن ابن مسعود ما مختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى ، قال أبو بكر : يانبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام وقال عمر : أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوي رسول الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء . (4) كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله
{ ماكان لنبي أن يكون له أسرى } . (5)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه – كتاب العلم – باب من خص بالعلم قوما دون قوم 1/225 عن علي بن أبي طالب من قوله هو وليس حديثا كما ذكرت .
(2) 2/1/69،70،71
(3) الأنفال : 67
(4) انظر صحيح مسلم – كتاب الجهاد والسير – باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر 3/1385
(5) 10/72-73 وانظر أيضا في أسباب النزول 2/1/11،60(6/15)
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
أما أقوال الصحابة والتابعين فلا يكثر نقلها وهو في نقله غالبا تابع لابن عطية والرازي ونحوهما لا عن المصادر الأساسية ، وأما أكثر نقوله فهي عن المتأخرين أمثال الرازي والغزالي وصاحب الكشاف والسكاكي والسيالكوتي والتفتازاني ونحوهم .
ومن مواضع نقله عن السلف قوله :
ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون (1) . (2)
ومن المواضع التي تستحق التنبيه لتعلقها بتفسير السلف قوله : ...مثل اللات يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج وأن أصله اللاتّ . (3)
وهذا الذي ذكره ليس زعما للعرب بل هو تفسير صحيح ثابت عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس(4) .
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
والمصنف يتعرض للسيرة في مناسبات كثيرة منها ماتقدم في أسارى بدر . (5)
ومن مواضع تعرضه للأمور التاريخية حديثه عن شهور العرب وإطالته فيها تحت قوله تعالى { شهر رمضان } (6) .
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
والمصنف إذ ينعى على التفسير بالمأثور إغراقه في الإسرائيليات ونقلها عن أئمة أهل الكتاب ممن أسلم أمثال عبد الله بن سلام- رضي الله عنه - ووهب بن منبه وكعب ابتكر تعاملا جديدا معها وهو النقل المباشر من الأسفار ومن ذلك(7) :
__________
(1) 2/1/6
(2) وانظر أيضا 2/1/163،164
(3) انظر 2/1/94
(4) أخرجه البخاري – كتاب التفسير – باب { أفرأيتم اللات والعزى } النجم:19 - 8/611
(5) وانظر في ذلك أيضا 1/1/263 ، 264 ، 2/1/173
(6) انظر 2/1/169،171
(7) انظر 2/1/68(6/16)
قوله : وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في (حواريب) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في (مؤاب) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : أنتم واقفون اليوم جميعكم أمام الرب إلهكم … لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب... الخ (1)
ثامنا : موقفه من اللغة :
ومما قاله المصنف في تقديمه لكتابه :
وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال .
وقال : واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبطه وتحقيقه كثير منه قواميس اللغة .
وهو كما قال فعلا حيث خرج من التفسير إلى إضافة قاموس لغوي لمفردات القرآن ومن أمثلة ذلك :
الإطناب في كلمة حجارة(2)
الإطناب الشديد في فواتح السور (3)
وجعل المقدمة الثانية : في استمداد علم التفسير وركز على أهمية علمي البيان والمعاني ثم الشعر وبهما صدر العلوم التي يستمد منها التفسير فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم .(4)
وجعل المقدمة التاسعة : في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها .
وأما المقدمة العاشرة والأخيرة فكانت في إعجاز القرآن ويقول فيها : وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغًا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملاً على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسموا إليه الهمة من تطويل واختصار . (5)
__________
(1) وانظر أبضا في النقل عن أسفار التوراة 2/1/9 ، ،143،175 ، وفي الإسرائيليات أيضا 2/2/487-488
(2) 1/1/344
(3) 1/1/207 - 218
(4) 1/1/18-23
(5) 1/1/102(6/17)
وفي هذا مبالغة مكشوفة فإن تفسير ترجمان القرآن وحبر الأمة على الإطلاق كان خاليا مما ذكر ثم من بعده من أئمة التفسير من الصحابة الكبار والتابعين الأبرار الذين أجمعت الأمة على إمامتهم في ذلك الفن لم يتعرضوا لما ذكر ، ثم جهابذة المفسرين المشهود لهم أمثال الإمام مالك والإمام أحمد وبقي بن مخلد والنسائي وابن أبي حاتم والطبري ثم ابن كثير وغيرهم لم يتعرضوا لما ذكر أيضا .
ومن إطناباته اللغوية التي خرجت عن حد التفسير والتي هي كثيرة :
كلامه عن اشتقاق كلمة الفاتحة في قريب من صفحة كاملة .(1)
كما أفاض في وجه إضافة سورة إلى فاتحة الكتاب بما يقرب من صفحة أيضًا .(2)
وكذا في أصل كلمة بسملة أكثر من صفحة كاملة .(3)
وفي متعلق الباء .(4)
وفي اشتقاق كلمة اسم .(5)
وفي الفرق بين الحمد والثناء والمدح .(6)
كما نقل بابا من كلام سيبويه باختصار فوقع في أكثر من صفحة كاملة وهو باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره .(7)
وفي جملة الحمد هل هي إنشائية أم خبرية .(8)
وهو لاشك متمكن من اللغة وإمام بارع فيها وله إضافات جميلة ومن ذلك قوله عند قوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } (9)
وقد عن لى في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب :
أولها : إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التى أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد .
الثانية : إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساوئهم كما قال نوح عليه السلام { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } (10)
__________
(1) 1/1/131
(2) 1/1/132
(3) 1/1/137
(4) 1/1/146-147
(5) 1/1/147-151
(6) 1/1/154-158
(7) 1/1/156 –157
(8) 1/1/160 –161
(9) البقرة:205 ، 1/1/284
(10) نوح:27(6/18)
الثالثة : إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع ، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والإفساد : فعل ما به الفساد ، والهمزة فيه للجعل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض .
والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضر به أو بغيره ، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملا على مضرة ، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال : فسد الشيء بعد أن كان صالحا ، ويقال : فاسد إذا وجد فاسدا من أول وهلة ، وكذلك يقال : أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه ، ويقال : أفسد إذا أوجد فسادا من أول الأمر . والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك في الأطعمة ، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبرآء ، ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور ، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين ، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع ، فلذلك حذف متعلق تفسدوا تأكيدا للعموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي .
وذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوى عليه وهو الأرض لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها . والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوى عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها .(1)
ومن التحقيقات اللغوية عميقة الدلالة كلامه عن "كذلك" في قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } (2) .
وكلامه عن "لعل" وانفراده بقول مستقل فيها حيث يقول :
__________
(1) 1/1/284
(2) البقرة : 143 وانظر 2/1/15، 17(6/19)
وعندي وجه آخر مستقل وهو أن "لعل" الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهى لها استعمال يغاير استعمال "لعل" المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره ، فإذا قلت : افتقد فلانا لعلك تنصحه ، كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه ، فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أعلى قد يعلم انتفاؤه بالقرينة ، وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده "لعل" حتى أن يكون مجازًا أو استعارة لأن "لعل" إنما أتي بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجئوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى "لعل" بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف "لعل" المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء من إلى إخبار به ، وعلى كل فمعنى "لعل" غير معنى أفعال المقاربة (1) .
وقد أطال في معنى الواو في قوله تعالى { أولو كان آباؤهم } (2)
كما توسع في اسم الإشارة : ذلك في تفسير قوله تعالى { ذلك الكتاب } (3)
ومن إطنابه في مسائل البيان بما يخرج أيضًا عن حد التفسير قوله :
فسورة الفاتحة بما تقرر منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي .
__________
(1) 1/1/330 .
(2) البقرة:170 ،وانظر 2/1/107
(3) البقرة :2 ، وانظر : 1/1/219 ،220(6/20)
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة : القاعدة الأولى: إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة ، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض ، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة . الثانية : أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب ، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة ، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه ، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم . وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن . الثالثة : أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها . الرابعة : أن تفتتح بحمد الله .(1)
وهو من المكثرين جدا في الاستدلال بالشعر في أصل الكتاب وحاشيته وقلما تمر صفحة إلا وفيها بيت من الشعر إن لم يكن أكثر .
وهو حريص جدا على نسبة الشواهد الشعرية لأصحابها حتى إنه قال فيما لم يقف على من قاله : كقول بعض فتاك العرب في أمه ( أنشده في الكشاف ولم أقف على تعيين قائله) … (2).
ومن مواضع خروجه عن التفسير استطراده في تسمية بعض الشعراء تعليقا على اسم شاعر استدل ببيت له . (3)
ومن استطراداته بذكر أشعار كثيرة كشواهد في مسألة واحدة ماذكره تحت قوله تعالى { الم } (4)
وقد وصل به الأمر إلى شرح شعر الشواهد . (5)
وهو يعتمد في كثير من ذلك على الكشاف وشروحه اعتمادًا كبيرًا .
ومن مواضع اهتمامه بالتنبيه على النكات البلاغية :
__________
(1) 1/1/152-153
(2) 1/1/301
(3) 1/1/220
(4) البقرة :1 ، وانظر 1/1/109-110
(5) انظر : 1/1/316(6/21)
واختيار لفظ النور في قوله تعالى { ذهب الله بنورهم } (1)دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ، لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها ، وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن ، فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة ، وعبر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في إصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله { بنورهم } . (2)
وانظر كلامه عن المثل في اللغة والتمثيل . (3)
وله كلام جيد عن التشبيه في قوله { ومثل الذين كفروا } (4)
وفي الاستعارة هل هي تبعية أم تمثيلية ؟ (5)
ومن اهتمامه بالتنبيه على النكات في المتشابه اللفظي قوله :
قد يقول قائل إن قريبًا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى { قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } (6)فعبر هنالك باسم الموصول (الذي) وعبر هنا باسم الموصول (ما) ، وقال هنالك (بعد) وقال هنا (من بعد) وجعل جزاء هنالك انتفاء ولي ونصير ، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين ، وقد أورد هذا السؤال صاحب درة التنزيل وغرة التأويل وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفي ….ثم ذكر وجهًا آخر أحسن منه . (7)
وقد تعرض المصنف للإعجاز في مواضع عدة ومن ذلك :
مقارنة بين شعر وآية(8)
الإعجاز وتعلقه بسورة أو آيات (9)
وقد أطال في الحديث عن الإعجاز تحت قوله { ولن تفعلوا } (10) . (11)
تاسعا : موقفه من القراءات :
__________
(1) البقرة:17
(2) البقرة:17 ، 1/1/310
(3) 1/1/ 302 ، 307
(4) البقرة:171 ، 1/1 /110
(5) راجع الصفحات 1/1/242 ، 245 .
(6) البقرة:120
(7) 249/1/ 38،39
(8) 2/1/84
(9) 1/1/103 .
(10) البقرة :24
(11) انظر 1/1/343 ،350 .(6/22)
وقد جعل المصنف المقدمة السادسة في القراءات وبين فيها سبب إعراضه عن ذكر كثير من القراءات في أثناء التفسير . (1)
وقال رحمه الله :
( تنبيه ) أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة ، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام .
وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويًا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس ، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة . (2)
ولم يلتزم بما قال ، بل أطنب إطنابا غريبا في بعض المواضع ومن ذلك قوله :
والصراط : الطريق وهو بالصاد والسين وقد قرئ بهما في المشهورة وكذلك نطقت به بالسين جمهور العرب إلا أهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثم إلى الطاء قال في لطائف الإشارات عن الجعبرى : إنهم يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء وإنما قلبوها هنا صادًا لتطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخم مع الراء استثقالا للانتقال من سفل إلى علو اهـ . أى بخلاف العكس نحو طست لأن الأول عمل والثاني ترك . وقيسٌ قلبوا السين بين الصاد والزاي وهو إشمام وقرأ به حمزة في رواية خلف عنه . ومن العرب من قلب السين زايًا خالصة قال القرطبي : وهي لغة عذرة وكلب وبني القين وهي مرجوحة ولم يقرأ بها ، وقد قرأ باللغة الفصحى (بالصاد ) جمهور القراء وقرأ بالسين ابن كثير في رواية قنبل ، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى . (3)
__________
(1) 1/51
(2) 1/63
(3) 1/190 .(6/23)
وقال : واختلفوا أيضا في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا { عليهم غير المغضوب عليهم } (1)بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة { غير المغضوب عليهمو } (2)وهي لغة لبعض العرب وعليها قول لبيد :
وهمو فوارسها وهم حكامها
فجاء باللغتين وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو { غير المغضوب عليهم } (3)وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف .
وفي قوله { فمن اضطر غير باغ } (4)قال :
وقرأ أبو جعفر : فمن اضطر بكسر الطاء ، لأن أصله اضطرر براءين أولاهما مكسورة فلما أريد إدغام الراء الأولى في الثانية نقلت حركتها إلى الطاء بعد طرح حركة الطاء .(5)
وانظر أيضا في تعرضه للأصول في القراءات كلامه في قوله تعالى { ءأنذرتهم } (6)
وهذا خروج سافر عما أخذه على نفسه من عدم الإطالة في القراءات فجل المفسرين إنما يتكلمون في الخلاف المؤثر في المعنى أو المتعلق به لا في الأداء ونحوه .
وقد أخطأ خطأ فاحشا في عزو القراءات في قوله تعالى { يخادعون الله والذين آمنوا ومايخدعون إلا أنفسهم ومايشعرون } (7)حيث قال :
ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه : يخدعون الله . وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه ، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله .
__________
(1) الفاتحة:7
(2) الفاتحة:7
(3) الفاتحة:7
(4) البقرة:173
(5) 2/1/121 .
(6) البقرة:6 وانظر : 1/1/251 .
(7) البقرة:9(6/24)
وأما التأويل في فاعل { يخادعون } المقدر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريق المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومرسله ، وإما مجاز بالحذف للمضاف ، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة ، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم ، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم كذلك غير لائق . (1)
وقال :
واعلم أن قوله { وما يخادعون إلا أنفسهم } (2) أجمعت القراءات العشرة على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف ، والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنة المعبر عنها بالروح وخاطر العقل . (3)
وهذا الذي ذكره هو عكس الحقيقة فقد أجمع القراء على قراءة { يخادعون الله والذين آمنوا } بضم الياء والألف على المفاعلة ، وأما في الموضع الثاني فاختلفوا فقرأها الجميع ماعدا نافع وابن كثير وأبي عمرو واليزيدي { ومايخدعون إلا أنفسهم } بفتح الياء وسكون الخاء بدون ألف ، وقرأها الباقون كالحرف الأول.(4)
وقد أطال إطالة شديدة في اختلافهم في قراءة { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله } (5)
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
أطال رحمه الله نفسه كعادته في بعض المسائل التي لا علاقة لها بالتفسير ومن ذلك قراءة البسملة عند الشروع في قراءة السورة أو أجزائها .(6)
وقد أطنب في مسألة هل البسملة آية من كل سورة أم لا إطناب الفقهاء لا المفسرين . (7)
ومن مواضع حديثه عن الفقهيات بتطويل مسألة استقبال القبلة . (8)
__________
(1) 1/1/276 .
(2) البقرة:9
(3) 1/1/278 .
(4) انظر إتحاف فضلاء البشر ص128
(5) البقرة : 165، 2/1/94 ، 95 .
(6) 1/144-146
(7) 1/138- 141 ، 144
(8) انظر 2/1/13 .(6/25)
وله كلام فقهي عجيب في ماذبح بنية أن الجن تشرب دمه ولايذكرون اسم الله عليه تحت قوله تعالى { وما أهل به لغير الله } (1)
وهو لا يلتزم مذهب مالك (2) وينقل عن الظاهرية وأهل الحديث (3)
ومن كلامه الجيد في الفقه مع كونه استطرادا في التفسير قوله :
ومن العجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء من البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر ، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية ؟ وفي المدونة توقف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزير . قال ابن شأش : رأى غير واحد أن توقف مالك حقيقة لعموم { أحل لكم صيد البحر } (4)عموم قوله تعالى { ولحم الخنزير } (5) ورأى بعضهم أنه غير متوقف فيه حقيقة ، وإنما امتنع من الجواب إنكارا عليهم تسميتهم إياه خنزيرا ولذلك قال : أنتم تسمونه خنزيرا ؟ يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزيرا وأنه لا ينبغي تسميته خنزيرا ، ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون : أكلوا لحم الخنزير ، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يتلاعب بها ، وعن أبي حنيفة أنه منع أكل خنزير البحر غير متردد أخذا بأنه سمي خنزيرا ، وهذا عجيب منه وهو المعروف بصاحب الرأي ، ومن أين لنا ألا يكون لذلك الحوت اسم آخر في لغة بعض العرب فيكون أكله محرما على فريق ومباحا لفريق؟(6) (7)
موقفه من النسخ :
وهو يقول بالنسخ وله في تفاصيله تفردات ومن ذلك قوله معللا بقاء تلاوة المنسوخ حكما :
__________
(1) البقرة :173 ، انظر 2/1/120 .
(2) انظر 2/1/120
(3) انظر1/1/267 ، 2/1/165
(4) المائدة:96
(5) البقرة:173
(6) 2/1/119
(7) وانظر في الاستطراد الفقهي2/1/82 ، 116 ، 117(6/26)
وقد بدا لي دليل قوي على هذا وهو بقاء الآيات التي نسخ حكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة في المصاحف فإنها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها في المصاحف إلا ما في مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدى بالإتيان بمثلها مثال ذلك آية الوصية في سورة العقود . (1)
ومن كلامه في النسخ قوله :
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب السنن عن عمرو بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أمامه كلاهما يقول سمعت النبيء قال : “إن الله أعطى كل ذى حق حقه ، ألا لا وصية لوارث” (2) . وذلك في حجة الوداع ، فخص بذلك عموم الوالدين وهذا التخصيص نسخ ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتبر من قبيل المتواتر ، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول . (3)
وفي معرض استبعاده لتشريع كيفية الصيام السابقة لصيام رمضان الثابتة في الأحاديث الصحيحة قال :
فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درجه فشرع الصوم شهرًا على التخيير بينه وبين الطعام تخفيفًا على المسلمين ؛ أن يفرضه بعد ذلك ليلاً ونهارًا فلا يبيح الفطر إلا ساعات قليلة من الليل . (4)
والرد عليه في هذا الكلام يطول ويكفي في ذلك ثبوت الرواية ولم ينتبه لمدلول كلمة { تختانون } (5)وكلمة { فتاب عليكم } (6)وكلمة { وعفا عنكم } (7)حيث أضرب عن تفسيرها تمامًا ، كما حاول تأويل كلمة { فالآن } (8)لأنها ليست متوافقة مع ماذهب إليه .
ومن مواضع تعرضه للأصول قوله :
__________
(1) 1/1/104
(2) انظر سنن الترمذي – كتاب الوصايا – باب ماجاء “ لا وصية لوارث” رقم 2121 وقال في حديث عمرو : حسن صحيح .
(3) 2/1/150 ، 151.
(4) 2/1/ 182 ، 183 .
(5) البقرة:187
(6) البقرة:187
(7) البقرة:187
(8) البقرة:187(6/27)
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا } (1)وأما كون الآية دليلاً على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلا بأن يقال : إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطًا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفيه إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه العقول من الاعتقاد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمة .(2)
ويقول أيضا :
وعلى هذا التفسير يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعا عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة . (3)
ود أطال في حديثه عن بعض القضايا العقلية الأصولية وهي قضية التكليف بالمحال عند قوله تعالى { سواء عليهم ءأنذرتهم } (4)
وهو يتذرع كثيرا بالمجاز ومن ذلك ماذكره تحت قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم } (5)
عاشرا : موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية :
وقد اهتم بذلك ابن عاشور على الرغم من استنكاره على المفسرين الحشو والنقل غير الدقيق فحشا بها تفسيره ومن ذلك قوله :
__________
(1) البقرة:143
(2) 2/1/19
(3) 2/1/340 .
(4) البقرة:6 ، انظر : 1/1/252 ، 253.
(5) البقرة :7 ، 1/1/254 ، 255 .(6/28)
قال ابن عرفة عند قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } (1)كان بعضهم يقول : إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام . أقول : وكذلك قوله تعالى : { أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما } (2)
والدليل على إصراره على هذا الفهم المعكوس قوله :
وفي ذلك آية لخاصة العقلاء إذ يعلمون أسباب اختلاف الليل والنهار على الأرض وإنه من آثار دوران الأرض حول الشمس في كل يوم ولهذا جعلت الآية في اختلافهما وذلك يقتضي أن كلا منهما ...الخ (3)
ويبدو أن جهلة القرن التاسع عشر عند ابن عاشور هم الخواص الذين خاطبهم القرآن وعلماء القرون المفضلة من الصحابة والتابعين هم العوام حشرنا الله معهم .
ويقول : وأعظم تلك الأسرار تكوينها على هيئة كرية . قال الفخر : كان عمر بن الحسام يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري فقال لهما بعض الفقهاء يومًا : ما الذي تقرأونه ؟ فقال الأبهري أفسر قوله تعالى { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } (4)فأنا أفسر كيفية بنائها . ولقد صدق الأبهري فيما قال فإن كل من كان أكثر توغلا في بحار المخلوقات كان أكثر علمًا بجلال الله تعالى وعظمته.ا.هـ (5).
ويبدو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطبق هذا الأمر من النظر إلى السماء كيف بناها الله كما أنه لم يعلم أعظم الأسرار التي لاتدخل جنة ولا تنجي من نار ! وكذا صحبه الأخيار ثم علماء الأمة الأبرار حتى جاء هذا الذي لعله لايحسن وضوءه ليفسرها .
والنتيجة التي وصل إليها غير صحيحة فكم من عالم متوغل في بحار المخلوقات وهو من أعظم الناس جهلا بربه .
__________
(1) آل عمران:27
(2) الأنبياء:30 ، 1/127
(3) 2/1/78 .
(4) ق:6
(5) 2/1/78 .(6/29)
وقال : وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة ، فإن الكرة الهوائية بين الكرة ……الخ فأطال بما لايسمن ولايغني من جوع . (1)
ثم وقع رحمه الله في طامة من الطامات التي يقع فيها غالبا المفتونون بتلك العلوم المقحمون لها في دبن الله عز وجل بغير ترو ولا بصيرة فقال :
والسماوات جمع سماء والسماء إذا أطلقت فالمراد بها الجو المرتفع وإذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة ذات نظام عظيمة وهي السيارات العظيمة المعروفة والتي عرفت من بعد والتي ستعرف عطارد ، والزهرة ، والمريخ ، والشمس ، والمشتري ، وزحل، وأروانوس ، ونبتون . ولعلها هي السماوات السبع والعرش العظيم وهذا السر في جمع السماوات هنا وإفراد الأرض لأن الأرض عالم واحد في بعض الآيات فهو معنى طبقاتها أو أقسام سطحها . (2)
السموات السبع والعرش العظيم ؟؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، ولا نقول إلا : لا حول ولا قوة إلا بالله !! فكيف نفهم إذن أحاديث المعراج المتواترة، وكيف نفهم أحاديث قبض الأرواح والأحاديث التي تتحدث عن خلق السموات؟ وماذا يقول مفسرنا لو عاش إلى يومنا هذا واكتشف أن هذه الأجرام التي فتنه العلم السطحي بها ليست إلا مجموعة من المجموعات الشمسية في مجرة رأس التبانة التي هي واحدة من ملايين المجرات التي تسيح في هذا الكون ؟
ثم وقع رحمه الله في كلام غير علمي من ناحية العلوم الحديثة ليته لم يقحم نفسه فيه فيضحك علينا من ليس منا ، قال :
__________
(1) 1/1/331 .
(2) 2/1/77،38 .(6/30)
والدم معروف مدلوله في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آت من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين رحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة ، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ، ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقوة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ماكينيكية هوائية ، ثم يدور الدم في العروق منتقلا من بعضها إلى بعض بواسطة حركات القلب وتنفس الرئة ، وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان . (1)
ومن شغفه أيضا بالكونيات كلامه عن الحديد وأصنافه وصدئه وأكسيده وأماكن وجوده وماوجد منه في مدافن الفراعنة بمنفيس وغير ذلك مما تميز به عمن سبقه من المفسرين !!! . (2)
وربما نقل ابن عاشور شيئا من كلام الحكماء والفلاسفة هو في غنى عنه ومن ذلك قوله :
والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدر الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل : أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما روحانية منبتة في قرارتها من الجسمانية كلها . (3)
ثاني عشر : موقفه من المواعظ والآداب :
__________
(1) 2/1/118 ، وانظر التفسير الطبي الصحيح لظاهرة الطمث في متاعب المرأة في مرحلة الزواج ص26-28
(2) 15/126-127 وانظر أيضا 2/1/84 ، 85 ، 87 .
(3) 2/1/159-160 .(6/31)
أفرد المصنف المقدمة الرابعة : فيما يحق أن يكون غرض المفسر فذكر ثمانية أمور وهي إصلاح الاعتقاد وتهذيب الأخلاق والتشريع وسياسة الأمة والتأسي بأخبار الأمم والتعلم والوعظ والإعجاز بالقرآن .(1)
كما جعل المقدمة السابعة : في قصص القرآن وفوائده . وذكر عشر فوائد كما ذكر حكمة تكرار القصة في مواضع عدة . (2)
ولم يظهر له اهتمام كبير في هذا الجانب ومما وقفت عليه من كلامه فيما يندرج تحته إعداده شجرة بتفريعات جيدة في الأمراض النفسانية الناشئة عن النفاق مبنية على الآيات والأحاديث ليحذرها المسلم(3).
إلى هنا وصلت إلى دراسة منهج المصنف بصورة لا بأس بها ، وهذه جملة من الانتقادات الموجهة له خلا ماتقدم في الحديث عن المنهج التفصيلي أدى إليها الإعجاب به أختم بها حديثي عن تفسيره :
فهو أولا : ذو ثقة زائدة بنفسه أوقعته في مزالق :
فمن مواقف ثقته الزائدة بنفسه وتفرده قوله :
والظاهر أن المراد بالقبلة المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرق وهي قبلة اليهود ولم يشف أحد من المفسرين وأسباب النزول الغليل في هذا على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها.(4)
وقوله :
وأنا أقول كلمة أربأ بها عن الانحياز إلى نصرة وهي أن اختلاف المسلمين في أول خطوات مسيرهم وأول موقف من مواقف أنظارهم وقد مضت عليه الأيام بعد الأيام وتعاقبت الأقوام يعد نقصا علميا لا ينبغى البقاء عليه . ولا أعرفني بعد هذا اليوم ملتفتا إليه . (5)
__________
(1) 1/40 –41
(2) 64-69
(3) 1/1/ 280 .
(4) 2/1/5 .
(5) 1/1/270 .(6/32)
ثم وقع في إشكال كبير في مسمى الإيمان والإسلام خرج به عن عقيدة أهل السنة والجماعة ! والعجيب أنه ظن أنه استوفى المسألة وفصل فيها وهو لم يستوعب عشر معشار أدلة أحد الفريقين والمقام لا يحتمل سوق الأدلة والردود وفي نفس الوقت خرج عن حد التفسير فلا هو استوفى ولا هو راعى المقصد . (1)
كذلك عدم اعتباره التفسير علما كما ذكر في المقدمة ، وعلى الرغم من كونه يعلم تماما أنه لم يسبقه أحد لهذا الفهم وأنه تحصيل حاصل ذهب إليه ، وكان الأولى به أن ينخرط في آلاف العلماء من جميع عصور الإسلام الذين اعتبروا التفسير علما بل اعتبروه أجل العلوم .
وكذا حملته الشعواء على التفسير بالمأثور واستقلاله له واستخفافه بأهله ، عظيمة من العظائم ، فبدون التفسير بالمأثور ضلت الأمة وبغير نوره زاغ المفسرون ، وهو نفسه من الدلائل على ذلك فهو على الرغم من استفادته منه في كل تفسيره إلا أنه حاد عنه في بعض المواضع فوقع فيما وقع فيه .
وانظر أيضا من مواضع مخالفته بالمأثور وثقته الزائدة بنفسه واستخدامه "لعله" لغير حجة . (2)
ثانيا : صاحب استطراد وتكلف خرج عن حد التفسير جملة وتفصيلا على الرغم من إهماله التفسير في مواضع لا يستغنى عن تفسيرها :
فمع اهتمامه بإثبات الياء في دعان أو عدم إثباتها أهمل تفسير قوله تعالى { فإني قريب } (3)
ومن التكلفات التي دفع إليها الاستطراد قوله :
وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه : { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } (4)وقال : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا } (5) ومعنى الحفى قريب من الرحيم وحكي عنه قوله { وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم } (6)
__________
(1) 1/1/273 .
(2) ص181.
(3) البقرة:186 ، 2/1/179 .
(4) مريم:45
(5) مريم:47
(6) 1/151 ، والآية من سورة البقرة رقم :128(6/33)
وقوله : وقال الأستاذ محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم ، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أ سماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات ، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد . وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشمل على ذلك إذ الناقل أمين فهي نكتة لطيفة .
ثالثا : ذو ولع شديد بالنقد وإن كان هناك مندوحة لترك الانتقاد
انتقاده لوجه في التفسير مقبول عند قوله تعالى { فزادهم الله مرضا } (1)
قال : قال بعض المفسرين : هي دعاء عليهم كقول جبير بن الأضبط :
تباعد عنى فقال إذ دعوته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
قال : وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدى القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه ، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو “اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ” .(2)
وهذا ليس بلازم فقد قال تعالى { قتل الإنسان ما أكفره } (3)وقال { ملعونين أينما ثقفوا } (4)وقال { قاتلهم الله أنى يؤفكون } (5)غير ذلك .
وقد كنت من المعجبين بهذا الكتاب وحرصت على اقتنائه بطبعته التونسية على الرغم من غلاء سعره جدا وعدم اكتماله وقتها وذلك قبل أكثر من سبع عشرة سنة، إلا أنني لمحت فيه تلك السلبيات مما حدا بي إلى الإطالة في بيانها .
والكتاب في الجملة كتاب جيد من حيث الإضافات العلمية التي أضافها وقد كان تحرر صاحبه سلاحا ذا حدين فكما أفادنا في مواضع كثيرة ، زلت قدمه في مواضع أكثر والمعصوم من عصمه الله .
__________
(1) البقرة:10
(2) 1/1/281، 282 . وقوله : “اللهم اهد قومي” جزء من حديث أخرجه الضياء في المختارة من الأحاديث الصحيحة 10/14
(3) عبس:17
(4) الأحزاب:61
(5) التوبة:30(6/34)
تفسير ابن عجيبة الصوفي
من خلال كتابه البحر المديد
***
مؤلف هذا التفسير هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي ابن عجيبة الأنجري الصوفي الفاسي ت 1224هـ من أهل المنطقة وتوفي ببلدته أنجرة (1).
التعريف بالتفسير :
وتفسيره هذا المسمى "البحر المديد في تفسير القرآن المجيد" من التفاسير المخطوطة وقد طبع قديما بدار الثناء للطباعة بمصر سنة 1373هـ جزء من أوله ينتهي عند قوله تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } (2)
والكتاب تحت الطبع الآن في دار الكتب المصرية . وقد اعتمدت في هذه الدراسة الجزء المطبوع .
المنهج العام للتفسير :
وتفسير البحر المديد تفسير صوفي إشاري لايغفل التفسير بالظاهر وطريقة مؤلفه فيه أنه يقسم السورة إلى مقاطع ثم يقوم بتفسير كل مقطع حسب مايقنضيه الظاهر ويتبع ذلك بالنفسير الإشاري .
وقد ذكرت في ترجمة المصنف السبب الباعث له على تأليف هذا التفسير ، ومما قاله في مقدمته :
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 38
(2) آل عمران :190(7/1)
...فإن علم تفسير القرآن من أجل العلوم ، وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرائح الفهوم ولكن لايتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النحرير ، الذي رسخت أقدامه في العلوم الظاهره عربية وتصريفا ، ولغة وبيانا وفقها وحديثا وتاريخا يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال ثم غاص في علوم التصوف ذوقًا وحالا ومقالا ، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال ، وإلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم ، واشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم ، واعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر وباطن من لأهل الباطن ، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن ، ولا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم ، ولا يصح ذكره إلا بعد تقدير الظاهر ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقه وإشارة دقيقة ، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار ، فليسلم ولا يبادر بالإنكار ، فإن علم الأذواق من وراء طور العقول ، ولا يدرك بتواتر النقول . قال في لطائف المنن : اعلم أن تفسير هذه الطائفة – يعنى الصوفية – لكلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له عليه في حرف اللسان وثم أفهام باطنه تفهم من الآية والحديث لمن فتح الله قلبه . وقد جاء أنه عليه السلام قال : لكل آيه ظاهر وباطن ، وحد ومطلع – فلا يصدنك عن تلقى المعاني الغربية منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله عز وجل وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لكلام الله لو قالوا لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لا يقولون ذلك ، بل يقرون الظواهر على ظواهرها ومراداتها وموضوعاتها ويفهمون عن الله ماأفهمهم .(1)
__________
(1) ص4-5(7/2)
وهو ينقل في هذا التفسير عن أساتذة التصوف ومشاهيره مثل أبي العباس المرسي(1) والقشيري (2) وأبي الحسن النوري (3) ، وابن الفارض ويقول- رضي الله عنه - (4) ، والحلاج ويقول - رضي الله عنه - (5) ، وأبي يزيد البسطامي (6)، وشيخ المشايخ القطب الجيلاني (7)، وأبي الحسن الشاذلي (8)، ومحي الدين ابن عربي (9)، والجنيد (10)، وذي النون (11)، وابن الفارض (12) ، ورابعة العدوية(13)، والحارث المحاسبي (14)،ابن أبي مدين (15)، صاحب الحكم العطائية (16)، الششتري (17) ، وغيرهم .
ومن المصادر التي يحيل عليها من التفاسير تفسير الفاتحة الكبير له (18) وينقل عن الرازي (19)، والبيضاوي (20)والواحدي والإقليشي (21) وابن جزي (22)، والمحشي الفاسي (23) ، والزمخشري (24) ، وابن عطية (25)، والثعلبي (26) ، والسيوطي (27). كما ينقل عن الغزالي (28)، وابن البنا (29)، وغيرهما
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : أسماء السور وعدد الآيات والوقوف وبيان المناسبات :
يتعرض ابن عجيبة لعد الآي قوله : قال سيدنا علي كرم الله وجهه : أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة ،وفيها ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة ، ومائتان وستة وثمانون آية ، وقيل سبع وثمانون . (30)
وقد ذكر أسماء الفاتحة وعدد الآيات عند الشافعي ومالك .
وهو يحاول الربط بين الآيات بمناسبات مختصرة
مثل قوله :
__________
(1) ص12،14،23،53،91 .
(2) ص12،18، 36،75 ، 112،116 .
(3) ص38،41،54 .
(4) ص51 .
(5) ص53 .
(6) ص56 .
(7) ص56 .
(8) ص78 ،92،133 .
(9) ص85 .
(10) ص10،85 .
(11) ص90 .
(12) ص132 .
(13) ص133 .
(14) ص134 .
(15) 18 ،175 .
(16) ص23 .
(17) ص137 .
(18) ص5،6 .
(19) ص8 .
(20) ص8،11، 97، 110 ، 115 ، 118، 137 .
(21) ص6
(22) ص7،،12،127 .
(23) ص112 .
(24) ص 152 .
(25) ص157، 177 .
(26) ص 152 .
(27) ص153.
(28) ص7 .
(29) ص68 .
(30) ص20 .(7/3)
ولما أراد الله تعالى أن يتكلم على الحج قدم الكلام على الأحوال لأنها سبب في وجوبه والوصول إليه . (1)
وقال :
ولما أراد الحق تعالى أن يتكلم عن أحكام الحج قدم الكلام على الهلال لأنه معتبر في الحج أداء وقضاء (2)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
هذا هو الباب الأساسي في زيغ هذا التفسير فانظر مثلا إلى قوله في حديثه عن الفاتحة :
حمد نفسه بنفسه ، ومجد نفسه بنفسه ، وعظم نفسه بنفسه ، ووحد نفسه بنفسه ، ولله در السعدوى حيث قال :
ما وحد الواحد من واحد…إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته…عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده …ونعت من ينعته لاحد
فقال في تمجيد نفسه بنفسه مترجما نفسه بنفسه : { الحمد لله رب العالمين } (3).(4)
وهذا انحراف عقدي خطير إن لم يكن كفرا والعياذ بالله لأن "ما" النافية مع "من" تفيد الاستغراق وتنكير لفظة "واحد" تدل على شمول ذلك للرسل صلوات الله عليهم وهم قد وحدوا الله حق توحيده . أما توحيد هؤلاء فلاشك أن الرسل لم يوحدوا به الله لأنه عين الشرك وقد قال تعالى { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } (5) وقال تعالى عن رسله { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } (6)
وقال أيضا مما يوحي بتأثره بوحدة الوجود وهو مايظهر كثيرا في كلامه وإن خالفه غيره :
__________
(1) ص154 .
(2) ص155 .
(3) الفاتحة :2
(4) ص10
(5) الزمر :65-66
(6) الأنعام :90(7/4)
لا عبرة بظواهر الأشياء وإنما العبرة بالسر المكنون وليس ذلك إلا بظهور الحق وارتفاع عطاياه ، وزوارل أستاره وخفاياه ، فإذا تحقق ذلك التجلى والظهور ، استولى على الأشياء الفناء والدثور ، وانقشعت الظلمات بإشراق النور ، فهناك يبدو عين اليقين ، ويحق الحق المبين ، وعند ذلك تبطل دعوى المدعين ، كما يفهم العامة بطلان ذلك يوم الدين ، حين يكون الملك لله رب العالمين . وليت شعرى أي وقت كان الملك لسواه حتى يقع التقييد { الملك يومئذ لله } (1) وقوله : { والأمر يومئذ لله } (2) لولا الدعاوي العريضة من القلوب المريضة .(3)
ويقول :
الطريق المستقيم الذي أمرنا الحق بطلبه ، هو طريق الوصول إلى الحضرة ، التي هي العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وهو مقام التوحيد الخاص الذي هو أعلى درجات في التوحيد ، وليس فوقه إلا مقام توحيد الأنبياء والرسل ، ولابد فيه من تربية على يد شيخ كامل عارف بطريقة السير ، قد سلك المقامات تذوقا وكشفا ، وجاز مقام الفناء والبقاء ، وجمع بين الجذب والسلوك ، لأن الطريق عويص ، قليل خطاره ، كثير قطاعه ، وشيطان هذه الطريق فقيه بمقاماته ونوازله ، فلا بد فيه من دليل وإلا ضل سالكه عن سواء السبيل .(4)
أقول : والحمد لله الدليل هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والصراط الذي أمرنا بطلبه هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، لا الأقطاب والأغواث والمجاذيب !!!
ويقول :
__________
(1) الحج :56
(2) الإنفطار :19
(3) ص10
(4) ص17(7/5)
ثم افتتح السورة برموز رمز بها بينه وبين حبيبه فقال : { الم } (1) وقد حارت العقول في رموز الحكماء ، فكيف بالأنبياء ؟ فكيف بالمرسلين ؟ فكيف بسيد المرسلين ؟ فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين ؟ قال الصديق رضي الله عنه: في كل كتاب سر وسر القرآن فواتح السور اهـ فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء ، وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه .
قال : قلت : والأظهر أنه حروف تشير للعوالم الثلاثة : فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت ، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت ، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت ، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر تصرف الذات في عالم الشهادة فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الكوان ، واللام يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت ، والميم يشير والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك .
__________
(1) البقرة :1(7/6)
قال جعفر الصادق : لقد تجلى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون . وقال أيضا وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه ، فلما سرى عنه قيل له في ذلك فقال : مازلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته اهـ فدرجات القراءة ثلاث : أدناها : أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفا بين يديه ، وهو ناظر له ومستمع منه فيكون حاله السؤال والتملق والتضرع والابتهال ، والثانية : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم ، والثالثة : أن يرى في كلام المتكلم ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، بل يكون فانيا عن نفسه ، غائبا في شهود ربه ، لم يبق له عن نفسه إخبار ، ولا مع الله غير قرار . فالأولى لأهل الفناء في الأفعال ، والثانية في أهل الفناء في الصفات ، والثالثة لأهل الفناء في الذات ، رضي الله تعالى عنهم ، وحشرنا على مناجيهم ، آمين .
فلا ترضى بغير الله حبا وكن أبدا بعشق واشتياق
ترى الأمر المغيب ذا عيان وتحظى بالوصول وبالتلاقي
يامن غرق في بحر الذات وتيار الصفات ، ذلك الكتاب الذي تسمعه من أنوار ملوكتنا وأسرار جبروتنا ، لا ريب فيه أنه من عندنا ، فلا تسمعه من غيرنا { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } (1) فهو هاد لشهود ذاتنا ، ومرشد للوصول إلى حضرتنا لمن اتقى شهود غيرنا ، وغرق في بحر وحدتنا .(2)
ويقول :
وقيل لأبي الحسن النوري : ماهذه الأماكن والمخلوقات الظاهرة ؟ فقال : عز ظاهر، وملك قاهر ، ومخلوقات ظاهرة به ، وصادرة عنه ، لا هي متصلة به ، ولا منفصلة عنه ، فرغ من الأشياء ولم تفرغ منه ، لأنها تحتاج إليه وهو لا يحتاج إليها .
__________
(1) القيامة :18
(2) ص20،21،22،23(7/7)
كيف تنكرون ظهور نور الحق في الأكوان وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان ، وقد كنتم أمواتا بالغفلة وغم الحجاب ، فأحياكم باليقظة والإياب ، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ماسواه ، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره بالله ، ثم إليه ترجعون في كل شيء ، لشهود نوره في كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وعند كل شيء ، كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان .
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى يا عبدي إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها فإن أدعيتها لنفسك سلبتك الولاية ولم أسلبك صفاتي ، يا عبدي أنت صفتي وأنا صفتك فارجع إلي أرجع إليك ، ياعبدي فيك للعلوم باب مفتاحه أنا ، وفيك للجهل باب مفتاحه أنت فاقصد أي البابين شئت … الخ .
ويقول : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي ، هي قطعة من الروح الأعظم ، التي هي المعاني القائمة بالأواني ، وهي آدم الأكبر ، والأب الأقدم ، وفي ذلك يقول ابن الفارض :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
ويقول :
وقال بعض العارفين : الحق تعالى منزه عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ولا كم ولا كيف ولا جسم ولا جوهر ولا عرض لأنه للطفة سار في كل شيء ، ولنوريته ظاهر في كل شيء ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف غير متقيد بذلك فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده فهو أعمى البصيرة ، محروم من مشاهدة الحق تعالى
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الأذواق من أهل المعاني تذوق أسرارهم وتفهم إشاراتهم وإلا فحسبك أن تعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه وتمسك بقوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (1)وسلم للرجال في كل حال .
__________
(1) الشورى :11(7/8)
وأقول : الأولى أن يقول : وسلم للمحال بكل حال ، ومن هم هؤلاء الرجال ؟ وما الضابط الذي يضبط لنا من نسلم له ممن لا نسلم له ؟ أهو السير عريانا في الشوارع أمثال سيدهم إبراهيم العريان ؟(1) أم إتيان الحمارة على قارعة الطريق بمرأى الناس أمثال سيدهم علي وحيش ؟(2)
ويقول :
اعلم أن الأماكن والجهات وكل ماظهر من الكائنات قائمة بأنوار الصفات ممحوة بأحدية الذات كان الله محق الآثار بإجلاء الأنوار وامتحت الأنوار بأحدية الأسرار وانفرد بالوجود الواحد القهار ولله در القائل :
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
فمن كحل عين بصيرته بإثمد الخاص لم يقع بصره إلا على الحق ولا يعرف إلا إياه ، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله ، بل لا وجود لها مع الله ومن فتح الله سمع قلبه ، لم يسمع إلا من الحق ولا يسمع إلا به كما قال القائل :
أنا بالله أنطق ومن الله أسمع
وقال الجنيد - رضي الله عنه - : لي أربعين سنة أناجي الحق ، والناس يرون أني أناجي الخلق فالخلق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق ، مثبتون عند أهل الجهل والتفريق يقولون: { لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية } (3)مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة .
وينقل عن ابن عربي قوله :
من رأي الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن رآهم لا صورة لهم فقد جاز ومن رآهم بين العدم فقد وصل (4) وانظر أيضا (5)وقال : قال بعض العارفين : لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده . (6)
ويقول في مقامات التوحيد التي ذكرها تحت قوله تعالى { وإلهكم إله واحد } (7) :
__________
(1) انظر ترجمته وماجاء فيها في الطبقات الكبرى ص595
(2) انظر ترجمته وماجاء فيها في الطبقات الكبرى ص606-607
(3) البقرة :118
(4) ص100 .
(5) ص101 .
(6) ص156 .
(7) البقرة :163(7/9)
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على قدرته درجات ، الأولى توحيد العامة وهو الذي يعصم النفس والمال وينجو به من الخلود في النار وهو نفي الشركاء والأنداد والصاحبة والأولاد والأشباه والأضداد ، الثانية توحيد الخاصة وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال فإن ذلك حاصل لكل مؤمن وإنما مقام الخاصة يقين في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده فلا يرجو إلا الله ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلا الله فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب الدرجة الثالثة ألا يرى في الوجود إلا الله ولا يشهد معه سواه ، فيغيب عن النظر إلى الأكوان في شهود المكون وهذا هو مقام الفناء فإن رد إلى شهود الأثر بالله سمى مقام البقاء . (1)
ومما يلحظ في هذا التفسير استخدام اسم الحق لله سبحانه وتعالى عند الكلام على التفسير سواء في الظاهر وفي الباطن وأخشى أن يكون ذلك تأثرًا بالاتحادية الصوفية فإنهم يعتبرون أن كل ما في الوجود باطل والحق هو الله وحده ولم ألحظ استخدام هذا الاسم من أحد المفسرين المتقدمين . (2)
وهو يقول بأن الإنسان خليفة لله في الأرض فيقول في قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } (3) : يخلفني في أرضي وتنفيذ أحكامي . (4)
وانظر في وحدة الوجود (5) وذكره الشعر في ذلك . (6)
ومن غلوه في طريقته يقول تحت قوله تعالى { لتكونوا شهداء على الناس } (7):
__________
(1) ص131 .
(2) انظر كمثال : ص8 ،9، 12،13،28،29 .
(3) البقرة :30
(4) ص40 .
(5) ص97 .
(6) ص98
(7) البقرة :143(7/10)
ثم إن العلماء بأحكام الله ، إذا لم يحصل لهم الكشف عن ذات الله يكونون حجة على العامة يشهدون على الناس ، والأولياء يشهدون على العلماء فيزكون من يستحق التزكية ، ويردون من لا يستحقها لأن العارفين بالله عالمون بمقامات العلماء أهل الظاهر . لا يخفي عليهم شيء من أحوالهم ومقاماتهم بخلاف العلماء لا يعرفون مقامات الأولياء ولا يشمون لها رائحة كما قال القائل :
تركنا البحور الزاخرات وراءنا فمن أين يدري الناس أين توجهنا . (1)
وله ردود سريعة على بعض الفرق ومن ذلك :
قوله في { إياك نعبد وإياك نستعين } (2) قال : قال ابن جزي: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا فهذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية وأن الحق بين ذلك .(3)
ويقول : أما القرآن العظيم فلا بد من الإيمان أنه منزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن اعتقد أنه منزل على غيره كالروافص فإنه كافر بالإجماع(4) .
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
ومن تفسيره القرآن بالقرآن وهو قليل قوله :
{ فتلقى } (5) أي أخذ { آدم من ربه كلمات } وهي { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } (6)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
وهو يذكر الأحاديث بكثرة إلا أنه لايعتني بصحة الحديث من عدمها ومن ذلك ذكره أحاديث كثيرة في التأمين ومن مصادره ابن ماجه وابن خزيمة وأبو داود (7)
وقوله: وروى الترمذي الحكيم عن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : “أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره” . (8)
__________
(1) ص116 .
(2) الفاتحة :4
(3) ص12 .
(4) ص24
(5) البقرة :37
(6) ص43 ، الأعراف :23
(7) ص19 .
(8) ص92 . والحديث أخرجه الترمذي (وهو غير الحكيم) – كتاب الأمثال 5/152 بنحوه عن أنس وقال : حسن غريب . وأما حديث ابن عمر فهو عند الطبراني وانظر (المقاصد الحسنة رقم997)(7/11)
وفي قوله تعالى { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } (1)قال : وقد كتب على اليهود القصاص وحده وعلى النصارى العفو مطلقا وخيركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الدية والقصاص فمن اعتدى بعد أخذ الدية وقتل فله عذاب أليم في الدنيا والآخرة في الدنيا بأن يقتل لا محالة لقوله عليه السلام : “لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية”(2) .
ومن الأحاديث التي يذكرها بدون تخريج : “أولياء الله إذا رءوا ذكر الله” . (3)
وانظر مثالا لحديث أخطأ فيه . (4)
وانظر أمثلة أخرى للأحاديث (5)
ومن الأحاديث الموضوعة التي ذكرها قوله :
__________
(1) البقرة :178
(2) سبق تخريجه .
(3) الحديث أخرجه الحكيم الترمذي عن أنس بلفظ : “أفضلكم الذين إذا …” وقال الألباني: ضعيف (ضعيف الجامع رقم1148) . وانظر أيضا ص65، 126 .
(4) انظر ص131 .
(5) ص70،81،83، 138 ، 142 ، 143، 179 .(7/12)
وفي حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها في قصة الحولاء امرأة من الأنصار قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “مامن امرأة حملت من زوجها حين تحمل إلا لها من الأجر مثل القائم ليله الصائم نهاره والغازي في سبيل الله وما من امرأة يأتيها الطلق إلا كان لها بكل طلقة عتق نسمة وبكل رضعة عتق رقبة ، فإذا فطمت ولدها ناداها مناد من السماء قد كفيت العمل فيما مضى ، فاستأنفي العمل فيما بقي ” قالت عائشة رضي الله عنها : قد أعطى النساء خيرا كثيرا ، فمالكم يامعشر الرجال ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : “مامن رجل مؤمن يأخذ بيد امرأته يراودها إلا كتب الله له حسنة، وإن عانقها فعشر حسنات ، وإن ضاجعها فعشرون حسنة ، وإن أتاها كان خيرا من الدنيا وما فيها ، فإذا قام ليغتسل لم يمس الماء شعرة من على جسده إلا محي عنه سيئة ، ويعطى له درجة ، ومايعطى بغسله خير من الدنيا وما فيها ، وإن الله تعالى يباهي الملائكة فيقول : انظروا إلى عبدي قام في ليلة قرة يغتسل من الجنابة يتيقن بأني ربه ، اشهدوا أني قد غفرت له”(1) .
وقوله :
روي عن علي كرم الله وجهه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرقق القلب ويكثر الدمعة ، وإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم”(2) .
وانظر أمثلة أخرى للأحاديث الضعيفة والموضوعة . (3)
وربما ذكر لفظ الحديث ولا ينص على أنه حديث مثل قوله : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي أمروا به وقالوا مكان حطة : حنطة حبة في شعرة . (4)
__________
(1) أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات 2/270 ، وذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة 2/169
(2) أخرجه السيوطي في اللآلئ المصنوعة 2/212 ونقل عن ابن المبارك قوله لما سئل عنه : لا ولا على لسان نبي واحد وإنه لمؤذ ينفخ .
(3) ص19، 32 ، 59 ، 120، 152 .
(4) ص56 .(7/13)
وهو يذكر أسباب النزول بدون دقة ولا عزو في كثير من المواضع .(1)
ويتعرض لفضائل السور والآبات ومن ذلك قوله :
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ، وفيها سيدة القرآن وهي آية الكرسي” (2) وإنما كانت سنام القرآن أي ذروته لأنها اشتملت على جملة مافيه من أحوال الإيمان وفروع الإسلام .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : “أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش” (3).
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
لا يتعرض ابن عجيبة لسوق الآثار إلا قليلا وفيها بواطيل مثل ماتقدم عن علي وأبي بكر وجعفر الصادق .
وقد نقل عن ابن عباس نقولا كثيرة منها قوله : { إياك نعبد } (4)نعبدك ولا نعبد غيرك (5)
وذكر آثارا عن علي ، والنخعي ،و الزهري ، وعائشة . (6)
وعن الحسن (7) ، وابن زيد (8) ، ومالك (9) ، وعبد الواحد بن زياد (10) ومقاتل(11)
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
نظرا لكون القسم المطبوع محدود لم أقف إلا على شيء يسير من تعرض المصنف للسيرة ومن ذلك ذكره لسرية عبد الله بن جحش في شهر جمادى وقتلهم لعمرو بن الحضرمي في أول يوم من رجب وماحصل بناء على ذلك تحت قوله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } (12).
__________
(1) وانظر : ص 29،84 ، 89 ، 93،95 ، 138 ، 152 ، 153 ، 157،158 ، 179.
(2) أخرجه ابن حبان 2/109 والعقيلي في الضعفاء 2/6 وله شواهد وقد صححه ابن حبان. وانظر موسوعة فضائل سور وآيات القرآن 1/106-109
(3) سبق تخريجه .
(4) الفاتحة :4
(5) ص10 ، وانظر أيضا ص 32 ،81 ، 107 ،137 .
(6) ص 146،147 .
(7) ص166 .
(8) ص96 .
(9) ص 108 .
(10) ص88 .
(11) ص 137 .
(12) البقرة :217(7/14)
كما ذكر عن الواقدي قصة خروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد وبعض الأحداث تحت قوله تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } (1)، واسترسل في ذكر أحداث الغزوة في الآيات التالية .(2)
سابعا : موقفه من الإسرائيليات(3) :
وابن عجيبة من المفسرين الذين يذكرون الإسرائليات بغير تمحيص ويتزيدون في ذكرها ومن ذلك :
ما نقله تحت قوله { العالمين } عن الفخر الرازي قال : روي أن بني آدم عشر الجن، وبنى آدم والجن عشرحيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم ، وهؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية ، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد في سرادقات العرش التي عددها مائة ألف ، طول كل سرادق وعرضه كذلك إذا قبلت السماوات والأرض وما فيها وما بينها يكون شيئا يسيرا ونزرا قليلا ، وما من موضع شير إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم وله زجل بالتسبيح والتهليل ، ثم هؤلاء في مقابلة الذين يحولون حول العرش كالقطرة من البحر ولا يعلم عددهم إلا الله تعالى .(4)
وقال وهب بن منبه - رضي الله عنه -: قوائم العرش ثلاثمائة وست وستون قائمة ، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء ، وفي كل صحراء ستون ألف عالم ، وكل عالم قدر الثقلين . (5)
وقد ذكر قصة هاروت وماروت وقال : ذكرها المنذري في شرب الخمر وقال في حديثها : رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق زهير بن محمد وقد قيل إن الصحيح وقفه على كعب وقال ابن حجر : قصة هاروت وماروت بسند حسن خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه . (6)
__________
(1) آل عمران:121
(2) ص322-325 ، 332-336،341-343
(3) وانظر في الإسرائيليات أيضا ص39، 112 .
(4) ص8 .
(5) ص9 .
(6) ص87 .(7/15)
ثم قال فإن قلت : الملائكة معصومون فكيف يصح هذا مع هاروت وماروت قلنا : لما ركب الله فيما الشهوة انتسخا من حكم الملائكة لحكم البشرية ابتلاء من الله تعالى لهما فلم يبق لهما حكم الملائكة من العصمة . (1)
وقال أيضا : والأسباط أولاد يعقوب عليه السلام وهم : روبين وشمعون ولاوى ويهودا ويشسوخور وزبزلزن وزوانا وأمهم ليا ثم خلف على أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين . وولد له من سريتين تفثونا وكوذا وأوشير . قال ابن حجر اختلف في نبوتهم فقيل كانوا أنبياء وقيل لم يكن فيهم نبي وإنما المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل . فقد كان منهم من الأنبياء كثير وممن صرح بنفي تبوتهم عياض وجمهور المفسرين . انظر المحشي الفاسي .
وفي تفسير المبهمات يقول { ولا تقربا هذه الشجرة } (2) العنب أو التين أو الحنطة
ويقول : فدخل إبليس خفية أو في فم الحية . (3)
ويقول : واسم فرعون الذي كان في زمن موسى مصعب بن ريان وقيل اسمه الوليد(4)
ثامنا : موقفه من اللغة :
أما معاني المفردات فهو يتعرض لها بدون عزو كلما بدأ تفسير أحد المقاطع مثل قوله :
اللقاء : المصادفة بلا قصد .
والخلو بالشيء أو معه : الإنفراد به
والشيطان : فيعال من شطن إذا بعد أو فعلان من شاط إذا بطل .
والاستهزاء بشيء : الاستخفاف بحقه
والعمه في البصيرة : كالعمى في البصر . (5)
ويتعرض أيضا للغويات مثل اشتقاق اسم وتعلق الباء ومذهب البصريين والكوفيين.(6)
ومن ذلك أيضا كلامه عن أصل كلمة رب واشتقاقها . (7)
وأحيانا يتعرض للإعراب مثل قوله { الحمد لله } (8): قلت الحمد مبتدأ ولله خبر وأصله النصب وقرئ به (9)
ويقول : { سواء } (10)خبر مقدم . و { ءأنذرتهم } مبتدأ لسبقه بهمزة التسوية ، أي
__________
(1) ص88 .
(2) البقرة :35
(3) ص42 .
(4) ص50 .
(5) ص29 .
(6) ص6 .
(7) ص7 .
(8) الفاتحة :1
(9) ص6 .
(10) البقرة :6(7/16)
الإنذار وعدمه سواء في حق هؤلاء الكفرة ، والجملة خبر إن و { غشاوة } (1) مبتدأ والجار قبله خبره ، والغشاوة ما يغشى الشيء ويغطيه كنى به عن تعاميهم عن الإيمان .
ويقول : { استوقد } (2) السين والتاء يحتمل أن يكون للطلب ، أو زائدة بمعنى أوقد ولما شرطية . وذهب جواب ، وإذا كان لفظ الموصول مفردا واقعا على جماعة يصح في الضمير مراعاة لفظه فيفرد ومعناه فجمع ، فأفرد في الآية أولا وأجمع ثانيا، ويقال : أضاء يضيء ، ضاء يضوء : ضوءا . (3)
والصيب المطر فيفعل من صاب المطر إذا نزل ، وهو على حذف مضاف أي أو كذا صيب ، وأصله صيوب كسيد ، قلبت الواو ياء وأدغمت ، ولا يوجد هذا إلا في المعتل كهيب ولين وضيق وطيب بالتشديد .
وربما استدل عل وجوه الإعراب من ألفية ابن مالك .(4)
وهو يكثر من الاستدلال بالشعر وجله في الإشارات وقد تقدم طرف من ذلك وعندما استدل في التفسير الظاهر أتى بيتين صوفيين وهما قول الشاعر :
ياتائها في مهمه عن سره انظر تجد فيك الوجود بأسره
أنت الكمال طريقة وحقيقة ياجامعا سر الإله بأسره (5)
ومن الأشعار أيضًا في تفسيره للظاهر قوله :
فلا ترضى بغير الله حبا وكن أبدا بعشق واشتياق
ترى الأمر المغيب ذا عيان وتحظى بالوصول وبالتلاقي
وهي صوفيات أيضا (6) .
ومن استدلالاته القليلة بالشعر على المعاني(7) قوله والفوم قيل الحنطة والأصح أنه الثوم قال الشاعر :
وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل (8)
وهو يتعرض لأساليب البلاغة أحيانا وينبه على النكات التفسيرية ومن ذلك :
__________
(1) البقرة :7
(2) البقرة :17
(3) ص31 .
(4) انظر ص136 ، 140 .
(5) ص7 .
(6) ص23 .
(7) وفي استدلاله بالشعر على معاني الكلمات : انظر 135، 152 . وانظر أيضا في الشعر ص 17،34 ، 48 .
(8) ص58 .(7/17)
قوله : لم قدم الرحمن على الرحيم والقياس الترقي من الأدنى للأعلى ؟ فقال : لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره . (1)
وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } (2) :
قال : وكرر الضمير ولم يقل إياك نعبد ونستعين 0لأن إظهاره أبلغ في إظهار الاعتماد على الله ، وأمدح ألا ترى أن قولك بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مأربي ، أبلغ وأمدح من قولك بك أنتصر وأحتمى الخ . وقدم العبادة على الاستعانه لتوافق رءوس الآي ، وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة ، فإن من تلبى لخدمة الملك وشرع فيها بحسب وسعه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلفه الملك بخدمته فقال : أعطنى ما يعينني عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضا من استحضر الأوصاف العظام ما أمكنه إلا المسارعة إلى الخضوع والعبادة وأيضا لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه ، أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : وإياك نستعين دفعا لذلك التوهم.(3)
ومن كلامه عن الالتفات قوله :
ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوب إلى آخر تطرية وتنشيطا للسامع ، فتعدل من الخطاب إلى الغيبة إلى التكلم قوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح } (4)ولم يقل بكم وقوله : { أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد } (5) أي ولم يقل فساقه ... ، والالتفات هنا في قوله إياك نعبد ولم يقل إياه نعبد لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعين وصار حاضرا.
وقال أيضا : فإن قلت : الريب في القرآن قد وقع من الكفار قطعا فكيف عبر بإن الدالة على الشك والتردد ؟
قلت : لما كان ريبهم واقعا في غي محله ، إذ لو تأملوا أدنى تأمل لزال ريبهم لوضوح الأمر وسطوع البرهان كان ريبهم كأنه مشكوك فيه ومتردد في وقوعه.(6)
__________
(1) ص7 .
(2) الفاتحة :4
(3) ص10 .
(4) يونس :22
(5) فاطر :9
(6) ص12 .(7/18)
تاسعا : موقفه من القراءات(1) :
وهو يتعرض للقراءات وتوجيهها وربما ذكر القراءات الشاذة ومن ذلك :
قوله : وقرئ الحمد لله باتباع الدال للام وبالعكس(2).
وقال : { مالك } قراءة الجماعة بغير ألف من الملك بالضم وقرأ عاصم والكساني بالألف من الملك بالكسر ثم أخذ يوجهها . (3)
ومن ذلك قوله : وجبرئيل فيه ثمان لغات أربع قرئ بهن وهي : جبرئيل كسلسبيل، وجبرئل كجحمرش ، وجبريل بفتح الجيم بلا همز ، وجبريل بكسرها . وأربع شواذ جبرال وجبرائيل وجبرائل وجبرين بالنون . (4)
وقوله : { واتخذوا } (5) على قراءة الأمر محكى بقول محذوف أي : وقلنا اتخذوا وعلى قراءة الماضي معطوف على جعلنا أي جعلناه مثابة واتخذه الناس مصلى .
{ فإنما يقول له كن فيكون } (6)قال : وقرأ ابن عامر بنصب المضارع ولحنه بعضهم لأن المنصوب في جواب الأمر لا بد أن يصح جوابا لشرطه تقول اضرب زيدا فيستقيم أي إن تضربه يستقم ولا يصح أن تقول إن يكن يكن وقد يجاب لعله على المعنى والتقدير إن قلت كن يكن . (7)
ويتعرض للرسم مثل قوله في بسم : حذفت الألف لكثرة الاستعمال (8)
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
وأما تعرضه للفقهيات فضئيل جدا وليس هناك نقول عن المذاهب واختلافات الفقهاء ومن ذلك :
كلامه عن البسملة ، وهل هي آية من كل سورة أم لا وحكمها في الصلاة .(9) وقال { وعلى الذين يطيقونه… } (10)
وعلى الذين يطيقونه بلا مشقة إن أرادوا أن يفطروا فدية …… وأن تصوموا أيها المطيقون للصيام خير لكم إن كنتم تعلمون مافي الصيام من الأسرار والخير المدرار ثم نسخ بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه (11)
__________
(1) وانظر في القراءات أيضا ص104، 135 ، 137 ، 140 ، 148، 179 .
(2) ص6 .
(3) ص8 .
(4) ص83 .
(5) البقرة :125
(6) مريم :35
(7) ص99 .
(8) ص6 .
(9) ص5 .
(10) البقرة :184
(11) 148-149 .(7/19)
{ ولتكبروا الله على ماهداكم } (1) ووقت التكبير عند مالك من حيث يخرج إلى المصلى بعد الطلوع إلى مجيء الإمام إلى الصلاة . (2)
وقال في تفسير قوله تعالى { ولاتقاتلوهم عند المسجد الحرام } (3)ابتداءا { حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم } فيه { فاقتلوهم } فيه وفي غيره { كذلك جزاء الكافرين } . (4)
هكذا اقتصر في تفسير الآية مع مافيها من كلام كثير لأهل العلم .
وكذلك قال في قوله { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } (5) فإن أحصرتم ومنعتم من إتمامها فتحللوا منهما وعليكم مااستيسر من الهدي وذلك شاة { ولا تحلقوا رؤوسكم } أي لا تتحللوا { حتى يبلغ الهدي محله } أي حيث يحل ذبحه وهو محل الإحصار عند الشافعي فيذبح فيه بنية التحلل ويفرق ، ومنى أو مكة عند مالك فيرسله فإذا تحقق أنه وصل وذُبح حل وحلق . (6)
وقوله تحت تفسير { يسألونك عن الخمر والميسر } (7)والميسر قال ابن عباس والحسن : كل قمار ميسر من شطرنج ونرد ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إذا كان بالفلوس وسمي ميسرا ليسر صاحبه بالمال الذي يأخذه وأما إذا كان بغير عوض إنما هو لعب فقط فلا بأس قاله ابن عرفة(8).
ويقول :
__________
(1) البقرة :185
(2) 149 .
(3) البقرة :191
(4) ص158 .
(5) البقرة :196
(6) ص160 .
(7) البقرة :219
(8) ص179 .(7/20)
يقول الحق جل جلاله : ياأيها المؤمنون { كتب عليكم القصاص } (1)في شأن القتلى في العمد فاستسلموا للقصاص فالحر يقتل بالحر ولا يقتل بالعبد بل يغرم قيمته لسيده ودليله قوله عليه السلام : “لا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد ”والعبد يقتل بالعبد إن أراد سيد المقتول قتله فإن استحياه خير سيده بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد وكذلك إن قتل الحر ، خير أولياؤه بين قتله أو استرقاقه فإن استحيوه خير سيده بين إسلامه وفدائه بدية الحر العمد والأنثى تقتل بالأنثى والذكر بالذكر يقتل بالأنثى وتخصيص الآية بالمساوي قال مالك : أحسن ماسمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس أي جنس الحر والذكر والأنثى فيه سواء ، وأعاد ذكر الأنثى تأكيدا لرد ماكان يفعله الجاهلية من عدم القود فيها ثم قال الحق جل جلاله : { فمن عفي له } من دم { أخيه شيء } ولو قل فقد سقط القتل فالواجب اتباع القاتل بالدية بالمعروف من غير تعنيف ولا تعنيت وأداء من القاتل بإحسان من غير مطل ولا بخس ذلك الذي شرعت لكم من أمر العفو والدية تخفيف من ربكم ورحمة بكم.(2)
ومن دعوة أهل التصوف إلى ترك الجهاد وسائر العبادات يفيض علينا مفسرنا ببعض فيوضاته في تفسيره لقوله تعالى { كتب عليكم القتال } (3)
فيصف القتال بأنه جهاد أصغر وأن مجاهدة النفس جهاد أكبر ويبين أن المراد هو تجلي الحق لهم وهذا هو ثمرة الجهاد الأكبر .
وبقول : أما الجهاد الأصغر فلا يحصل شيئا من هذا ، فلذلك كان مفضولا عند أهل الجهاد الأكبر فيتركونه لما هو أرجح منه كما قال الششتري - رضي الله عنه - :
دع السيف والسبحة والسجاد واعقد سكيرة من خمرة الإفراد (4)
وربما تعرض لشيء من الأصول ومن ذلك :
كلامة عن تأخير البيان عن وقت الحاجة والفرق بينه وبين تأخير البيان لوقت الحاجة . (5)
وقال عند قوله تعالى { وإذ قتلتم نفسا } (6)
__________
(1) البقرة :178
(2) ص145 .
(3) البقرة :216
(4) ص177 .
(5) ص 152 .
(6) البقرة :72(7/21)
واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء وهي قبول قول القتيل قبل موته بأن فلانا قتله ، وفيه نظر لأن هذا حيي بعد موته فلا يتطرقه الكذب ، واستدلت أيضا على حرمان القاتل من الإرث ، وفيه نظر لأن هذه شريعة من قبلنا يطرقها النسخ لكن ثبت في الحديث أنه لا يرث . (1)
ومن كلامه في النسخ قوله في آية الوصية :
وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين محكمة في الأقربين غير الوارثين ، فإذا كان
الوالدين غير وارثين كالكافرين أو العبدين فهي محكمة .(2)
وقوله :
والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي دون الأخبار ، لأنه يكون كذبا ومعنى النسخ انتهاء العمل بذلك الحكم ، ونقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة فلم يلزم عليه البدء كما قالت اليهود – والنسخ عندنا ثلاثة أقسام : نسخ اللفظ والمعنى كما كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ثم نسخ – ونسخ اللفظ دون المعنى كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ثم نسخ لفظه وبقي حكمه وهو الرجم – ونسخ المعنى دون اللفظ كآية السيف بعد الأمر بالمهادنة مع الكفار ، والله تعالى أعلم .(3)
حادي عشر : موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية :
لا يتعرض لشيء من ذلك سوى الفلسفة وهي فلسفة التصوف الكامنة في كلام ابن عربي وابن الفارض ونحوهما وقد قدمنا شيئا من ذلك عند الحديث عن موقف المصنف من العقيدة وسوف يأتي تكميل لنفس الموضوع في الفقرة التالية .
ثاني عشر : موقفه من المواعظ والآداب :
نظرا لكون الكتاب صوفي إشاري فإنه يتضمن شيئا من الزهديات والوعظ مع مايحمل في طياته من انحراف منهجي واضح ولذا فسوف أتكلم في هذه الفقرة عن صوفيات هذا التفسير ومظاهر انحرافه .
فمن الصوفبات التي أقحمها المصنف في تفسير الظاهر على الرغم من كون ذلك مخالفا لمنهجه الذي ذكره قوله :
__________
(1) ص64 .
(2) ص147 .
(3) ص91 .(7/22)
{ اهدنا الصراط المستقيم } (1) فإن قلت : إذا كان العبد ذاهبا على هذا المنهاج المستقيم ، فكيف يطلب ماهو حاصل ؟ فالجواب : أنه طلب التثبت على ماهو حاصل ، والإرشاد إلى ماهو ليس بحاصل ، فأهل مقام الإسلام الذي هو حاصل ، يطليون الترقي إلى مقام الإيمان الذي ليس بحاصل ، على طريق الصوفية الذين يخصون العمل الظاهر بمقام الإسلام ، والعمل الباطن بمقام الإيمان ، وأهل الإيمان يطلبون الثبات على الإيمان الذي هو حاصل ، والترقي إلى مقام الإحسان الذي ليس بحاصل ، وأهل مقام الإحسان يطلبون الثبات على الإحسان والترقي إلى مالا نهاية له من كشوفات العرفان { وفوق كل ذي علم عليم } (2)وقال الشيخ أبو العباس المرسي - رضي الله عنه - : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد بما ليس بحاصل . ثم قال : عموم المؤمنين يقولون اهدنا الصراط المستقيم أي بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل ، فإنه حصل لهم التوحيد ، وفاتهم درجات الصالحين والصالحون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } معناه نسألك التثبت فيما هو حاصل ، والإرشاد إلى ماليس بحاصل فإنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء . والشهداء يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أى بالتثبت فيما هو حاصل ، والإرشاد ماليس بحاصل ، فإنهم حصلت لهم الشهادة ، وفاتهم درجات الصديقين . والصديقون يقولون : { اهدنا الصراط المستقيم } أي بالتثبت فيما هو حاصل والإرشاد إلى ماليس بحاصل ، فإنهم حصل لهم درجات الصديقين ، وفاتهم درجات القطب . والقطب يقول : { اهدنا الصراط المستقيم } بالتثبت فيما هو حاصل ، والإرشاد إلى ماليس بحاصل ، فإنه حصل له رتبة القطبانية وفاته علم ما إذا شاء الله أن يطلعه عليه .
__________
(1) الفاتحة :6
(2) يوسف :76(7/23)
وليت شعري في أي آية في كتاب الله ذكرت درجة القطب هذه أم في أي حدبث صحبح ؟ وليس بعد الصديقين إلا الأنبياء ، وهل كان أبو بكر قطبا أم كان عمر أم عثمان أم علي ؟ وهل أخفى ذلك عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم الصحابة رضي الله عنهم ؟
ويقول :
والشكر على ثلاث درجات : درجة العوام الشكر على النعم ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال ، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن رؤية النعم بمشاهدة المنعم . قال رجل لإبراهيم بن أدهم - رضي الله عنه - : الفقراء إذا أعطوا شكروا ، وإذا منعوا صبروا ، فقال إبراهيم : هذه أخلاق الكلاب ولكن القوم إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا .
وماأدري أكلام هذا نقدمه أم كلام منزل الكتاب ؟ قال تعالى { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وأنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } (1) وقال : { والصابرين على ماأصابهم } (2) وقال : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } (3)وقال { واصبر على ماأصابك إن ذلك من عزم الأمور } (4) ولم يقل : شكروا ، والشاكرين ، واشكر !!
وماأدري أكلام هذا نقدمه أم كلام الذي أنزل عليه الكتاب من رب الأرباب ؟ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : “عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له”.(5)
فهل هو مؤمن بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أم كلب من الكلاب بنص ...؟
__________
(1) البقرة :156-157
(2) الحج :35
(3) البقرة :177
(4) لقمان :17
(5) أخرجه مسلم – كتاب الزهد والرقائق – باب المؤمن أمره كله خير 4/2295 عن صهيب مرفوعا .(7/24)
ولاشك أن هذا منهج سلوكي مصادم للفطرة ، فإن الذي يشكر على المصيبة إنسان غير سوي ، ويتضمن هذا الكلام نفي أصل العبادة وأمها وهو الدعاء لأن الذي يشكر على المصاب كيف يدعو برفعه ؟ وفي ذلك حط من شأن الأنبياء الذين جابهوا المصائب بالدعاء بكشفها لا بالشكر عليها ، وهذا التنطع معارضة للشريعة السمحة التي أعطت كل ذي حق حقه .
أما الإيثار فهو من دلائل الشكر على النعمة فليس ثمة تعارض أصلا .
وأما إشارياته فنتركها تتحدث عن نفسها وهي جلها منصبة على أهل خصوصية والمنكرين عليهم من أهل العلم أو العوام فهو يجعل فريق المؤمنين يراد به أهل الخصوصية وفريق الكافرين أو المنافقين يراد به أهل العلم أو عوام الناس . (1)
وقد صرح بذلك في قوله :
اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عقاب توجه لمن ترك طريق الإيمان وأنكر على أهله ، يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان وأنكر على أهله وكل وعيد توعد به أهل الكفر حسي بدني ، وعذاب أهل الحجاب معنوي قلبي ، فنقول فيمن رضي بعيبه ، وأقام على مرض قلبه ، وأنكر الأطباء ووجود أهل التربية : بئسما اشتروا به أنفسهم وهو كفرهم بما أنزل الله من الخصوصية على قلوب أوليائه بغيا وحسدا ، أو جهلا وسوء ظن أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، فباءوا بغضب الحجاب على غضب البعد والارتياب ، أو بغضب سقم القلوب ، على غضب الإصرار على المساويء والعيوب من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرا على الكبائر وهو لا يشعر كما قال الشاذلي - رضي الله عنه - ولا يصح يتغلغل فيه إلا بصحبة أهله وللكافرين بالخصوصية عذاب الطمع وسجن الأكوان وهما شجرتا الذل والهوان ، وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله من أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة ، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا من ظواهر الشريعة ، ويكفرون بما وراءه من أسرار ككشف أسرار الذات ، وأنوار الصفات . (2)
__________
(1) انظر كمثال ص29،30،33،68،69،77،79،90، 120،172 .
(2) ص78 .(7/25)
أقول : وقد شابه هؤلاء في منهجهم ذلك الرافضة الذين جعلوا كل آية ذم في أبي بكر وعمر والصحابة رضوان الله عليهم ، وكل آية ثناء في علي وآل البيت ، فبئس الشبيه وبئس المشبه به .
قال :
والأحسن أن يقال : { غير المغضوب عليهم } (1) هم الذين أوقف بهم عن السير أتباع الحظوظ والشهوات ، فأوقعتهم في مهاوي العصيان والمخالفات { ولا الضالين } الذين حبسهم الجهل والتقليد ، فلم تنفذ بصائرهم إلى إخلاص التوحيد ، فنكصوا عن توحيد العيان إلى توحيد الدليل والبرهان ، وهو ضلال عند أهل الشهود والعيان ، ولو بلغ في الصلاح غاية .
وما أسوأ أحسنه !! …
ويقول في قوله : { سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } (2): فسبحان من حجب العالمين بصلاحهم عن مصلحهم ، وحجب العلماء بعلمهم عن معلومهم ، واختص قوما بنفوذ غرائبهم إلى مشاهدة ذات محبوبهم ، فهم في رياض ملوكته يتنزهون ، وفي بحار جبروته يسبحون { لمثل هذا فليعمل العاملون } (3) .
ويقول في قوله : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } (4) وإذا قيل لمن يشتغل بالتعويق عن طريق الله ، والإنكار على أولياء الله : أقصر من هذا الإفساد ، وارجع عن هذا الغي والعناد ، فقد ظهرت معالم الإرشاد لأهل المحبة والوداد ، قال : إنما أنا مصلح ناصح ، وفي أحوالي كلها صالح ، يقول الحق جل جلاله : بل أفسدت قلوب عبادي . ورددتهم عن طريق محبتي وودادي ، وعوقتهم عن دخول حضرتي ، وحضرتهم شهود ذاتي وصفاتي ، سددت بأحبائي ، آيستهم من وجود التربية ، وتحكمت على القدرة الأزلية ، ولكنك لا تشعر بما أنت فيه من البلية ،ولقد صدق من سبقت له العناية ، وأتحف بالرعاية والهداية حيث يقول :
فهذه طريقة الإشراق كانت وتبقى ما الوجود باق
وأنكروه ملأ عوام لم يفهموا مقصوده فهاموا
__________
(1) الفاتحة :7
(2) البقرة :6
(3) الصافات :61
(4) البقرة :11(7/26)
فتب أيها المنكر قبل الفوات واطلب من يأخذ بيدك قبل الممات لئلا تلقي الله بقلب سقيم ، فتكون في الحضيض الأسفل من عذابه الأليم ، فسبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعم النظر لوجهه الكريم ، منحنا الله الحظ الأوفر في الدنيا والآخرة ، آمين .(1)
ويقول :
اعلم أن كثيرا من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء ، ويطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات ، ويقولون :سمعنا من سيدي فلان يقول : من رآنا لا تمسه النار ، وهذا غلط وغرور ، وقد قال عليه السلام لبنته : يافاطمة بنت محمد ، لا أغنى عنك من الله شيئا ، اشتري نفسك من الله ، وقال للذي قال : ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة ، قال له : أعني على نفسك بكثرة السجود . نعم هذه المقالة إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق ، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات ، وترك المحرمات ، فإن المأمول من فضل الله ببركة أوليائه ، أن يستقبل الله منه أحسن ما عمل ، ويتجاوز عن سيئاته ، فإن الولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده ، وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه والغالب على من صحب الأولياء المتمكنين الحفظ وعدم الإصرار ، فمن كان كذلك لا تمسه النار ، وفي الحديث إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب – يعني يلهم التوبة سريعا كما قيل لأهل بدر : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم . وقال في القصد : يبلغ الولي مبلغا يقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة فاصنع ما شئت ، ومصداقه قوله تعالى في حق سليمان عليه السلام : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } (2)هذا إن كان نبيا لأجل العصمة ، فمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط من أجل الحفظ ، والله تعالى أعلم ، ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء ، لأنهم بالله فيما يقولون ، فليس لهم عند نفسهم إخبار، ولا مع الله قرار . (3)
__________
(1) ص27 .
(2) ص :39
(3) ص70 .(7/27)
وأقول : سبحان الله ! ما هذه الجرأة الوقحة التي توصل صاحبها إلى أن يقول : من رآنا لاتمسه النار .
ولا أظن رجلا صالحا فضلا عن ولي لله بقول : من رآني لاتمسه النار ، بل لايقول ذلك إلا فاسق جريء على ربه وقد وصف الله عباده الصالحين بقوله { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } (1) ...إلى أن قال : { والذين يؤتون ماآتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } (2) وقال : { فلايأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } (3) وكان أبو بكر الصديق سيد الأولياء والعارفين يقول : لو أن إحدى قدمي بالجنة والأخرى خارجها ماأمنت مكر الله . وكان سميه عمر يقول : لو نادى مناد يوم القيامة أن ادخلوا جميعا الجنة إلا واحدا لفرقت أن أكون هو . بل إن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - قال : “والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي”(4) . وهو مصداق لقوله تعالى { وما أدري مايفعل بي ولا يكم } (5)
وقد غفل صاحبنا عن مصيبة وليه واشتغل بالمريد المسكين الملبس عليه .
وليت شعري من الذي يقول للولي : أصحبناك السلامة وأسقطنا عنك الملامة فاصنع ماشئت أهو رسول موحى إليه مثل الذي قال لأهل بدر ماقال ؟ أم أنه هو عين القائل لسليمان { فامنن أو أمسك بغير حساب } (6) وما أظن الذي قال للولي المزعوم ذلك إلا إبليس عليه لعنة الله .
ومن إشارته النادرة المقبولة لا لكونها تفسيرا إشاريا إنما لكونها يشملها عموم اللفظ قوله تحت آية { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } (7):
__________
(1) المؤمنون :57
(2) المؤمنون :60
(3) الأعراف :99
(4) أخرجه البخاري – كتاب مناقب الأنصار – باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة 7/264 عن أم العلاء .
(5) الأحقاف :9
(6) ص :39
(7) البقرة :44(7/28)
كل من أشار إلى مقام لم يبلغ قدمه إليه ، فهذا التوبيخ متوجه إليه وكل من ذكر غيره بعيب لم يتخلص منه ، قيل له : أتأمر الناس بالبر وتنسى نفسك خالية منه ، فلا يسلم من توبيخ هذه الآية إلا النادر في الصفاء والوفاء . قال البيضاوي : المراد بها حث الواعظ على تزكية النفس ، والإقبال عليها بالتكميل ليقوم فيقيم غيره ، لا منع الفاسق عن الوعظ ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر فانظر . وتأمل قول القائل :
ياأيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا نصحا وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فإنهما عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم (1)
وأردف هذه الإشارة بإشارة أخرى وبدون تعليق إلا أن أقول : اشتهر عن هذه الطائفة قولهم : إذا رأيت شيخك على فاحشة فظن به خيرا ، وقد ذكر صاحب سلوة الأنفاس فيما ذكر من الكرامات أن فلانا من الأولياء كان يفعل في حمارة في الطريق فقيل له في ذلك فقال : أصلح السفينة ...ويسوق القصة التي تدلل على إصلاح سفينة معطلة في عرض البحر فجأة بعد أن أعيت أصحابها في نفس اللحظة الجنسية الشاذة .(2)
__________
(1) ص47 .
(2) ذكر الشعراني نحو هذه القصة بدون سفينة ثم قال : وقد أخبرت عنه سيدي محمد عنان رضي الله عنه فقال : هؤلاء يخيلون للناس هذه الأفعال وليس لها حقيقة . انظر الطبقات الكبرى ص607(7/29)
قال مفسرنا تحت قوله { أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } (1)بعد أن قرر عدم جواز حل المريد عقدته مع شيخه لينتقل إلى شيخ آخر : وصحب تلميذ شيخا فرآه يوما قد زنا بامرأة !! فلم يتغير من خدمته، ولا أخل في شيء من مرسومات شيخه، ولا ظهر منه نقص احترامه وقد عرف الشيخ أنه رآه فقال له يوما : يابني قد عرفت أنك رأيتني حين فسقت بتلك المرأة !! وكنت أنتظر فراقك عني من أجل ذلك فقال له التلميذ : ياسيدي إن الإنسان معرض لمجاري أقدار الله عليه ، وإني من الوقت الذي دخلت فيه إلى خدمتك ما خدمتك على أنك معصوم وإنما خدمتك على أنك عارف بكيفية السلوك عليه الذي هو طلبي وكونك تعصي شيء بينك وبين الله عز وجل لا يرجع شيء من ذلك علي ، فما وقع منك ياسيدي شيء يوجب نفاري وزوالي عنك وهذا هو عقدي فقال له الشيخ : هكذا وإلا فلا ، فربح ذلك التلميذ وجاء منه ماتقر به العين من حسن الحال وعلو المقام . (2)
ومن الفوائد التي تضمنها التفسير وهي استطراد منه على كل حال قوله :
{ وبشر الصابرين } (3) قال ابن جزي: فائدة ورد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعا وذلك لعظم موقفه في الدين قال بعض العلماء كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } (4)وذكر الله للصابرين ثمان من الكرامات …فذكرها (5) .
__________
(1) البقرة :100
(2) ص85 .
(3) البقرة :155
(4) الزمر :10
(5) ص127 .(7/30)
تفسير ابن عرفة
من خلال تقييد الأبي والبسيلي
***
مؤلف هذا التفسير هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي ت803هـ وهو من أهل المنطقة ولد وتوفي بتونس (1) .
التعريف بالتفسير :
وتفسير ابن عرفة عبارة عن مجالس أملاها في التفسير فقيدها عنه بعض تلاميذه واشتهر منها رواية البسيلي وهو أحمد بن محمد أبو العباس التونسي(2)وله تقييدان عن شيخه تقييد كبير وآخر صغير وكلاهما مخطوط والكبير فقدت بعض أجزائه والصغير ناقص ، وليس كل مافيه من كلام ابن عرفة كما تقدم في ترجمة البسيلي ويوجد من رواية البسيلي نسخة مصورة على ميكروفيلم بمكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية تحت رقم 1260،1261 عن نسخة الخزانة الملكية بالرباط ، ورواية الأبي وهو محمد بن خلفة الوشتاتي (3) وهي أكمل الروايات لتفسير ابن عرفة ومنها نسخ خطية كثيرة من أكملها نسخة المكتبة الوطنية بتونس وقد نقلت عنها أكثر النصوص ، وقد طبع جزء من هذه الرواية في مجلدين إلى نهاية سورة البقرة بتحقيق الدكتور حسن المناعي نشرها مركز البحوث بكلية الزيتونة سنة 1986م ، ورواية أبي القاسم الشريف الإدريسي السلاوي من أهل القرن التاسع(4) وله تقييد في مجلدين وهو مفقود .
المنهج العام للتفسير : (5)
وتفسير ابن عرفة تفسير بياني منطقي أصولي فقهي لا يغفل المأثور ويهتم بذكر القراءات .
وقدم له ابن عرفة بمقدمة تكلم فيها عن علم التفسير وشروط المفسر ثم شرع في تفسير الاستعاذة (6).
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 212
(2) ت 848هـ تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 24
(3) ت827هـ تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 160
(4) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 130
(5) تكلم عن منهج ابن عرفة الدكتور حسن المناعي في مقدمة تفسير ابن عرفة 1/37-42 ، الفاضل ابن عاشور في التفسير ورجاله ص113 ووسيلة بلعيد في التفسير واتجاهاته ص289-399 .
(6) تفسير ابن عرفة 1/59-64(8/1)
وقد أفاض محمد الفاضل ابن عاشور في بيان أصاله تفسير ابن عرفة وشموله العناية بالناحية اللغوية والبيانية البلاغية وأصول العقيدة والشريعة ونزعته النقدية ، وتعدد مصادره (1) التي كان تفسير ابن عطية يحتل فيها الصدارة .
ومن مصادر ابن عرفة في تفسيره أيضا : كتاب " فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب" لشرف الدين الطيبي ، وهو من المصادر الهامة في تفسيره .
وقد بين ابن عاشور منهجه بقوله :
ويهتم بالتخريج والتأويل حتى تتضح دلالة الآية مستقيمة على المعنى الذي تتعلق به، ويرد ماعسى أن يكون قد وقع من تخريج بعيد أو تأويل غير مقبول ، بتطبيق القواعد اللغوية ، والنكت البلاغية ، أو بإثارة مايتعلق بالمفاد من مباحث أصلية ترجع إلى أصول الدين أو أصول الفقه ، جاعلا عمدته في هذه المباحث تفسير ابن عطية غير معرض عن تفسير الكشاف ، فيعتبر كلام ابن عطية حاصلا بين أيدي مستمعية ، ليسايره أو يرده ويورد كلام الزمخشري ويكثر إيراد الآراء والمذاهب عن العلماء في كل مسألة . (2)
وقال المناعي ملخصا منهج ابن عرفة في تفسيره :
__________
(1) انظر التفسير واتجاهاته ص384.
(2) التفسير ورجاله ص113.(8/2)
سارت دروس التفسير في منهجها على نسق متشابه حيث كانت تتلى الآية أو الآيات ثم يبدأ في التفسير ، فيورد كلام أئمة القراءات أو اللغة والنحو ، ويعتني ببيان ما احتمل التأويل أو الاختلاف بين المفسرين ، فيذكر أقوال العلماء من أصوليين وفقهاء ومحدثين ، وقد يعرج في ذكر نكتة بلاغية أو علمية أو شواهد شعرية أو قضايا اجتماعية ظرفية أو مباحث في أصول الدين أو أصول الفقه ليقوم بهما ما لم يستقم من تفسير أو تأويل ، ويرجح به آراء على أخرى ، وتلتقي جميعها أحيانا في الآية الواحدة ، وتعرض على التلاميذ لتناقش ، فيصير الدرس محكمة تفسيرية تتداول فيها الآراء سجالا بين الحاضرين ، فتجمع الاحتمالات العديدة والأوجه المختلفة وتتدارس برؤى سنية أشعرية ومنهجية حرة ، ربما كانت فيها الكلمة الأخيرة لأحد الطلبة يقره عليها شيخه بكل تواضع علمي . ولقد اختار ابن عرفه لنفسه هذا المنهج التربوي وآثره على غيره من المناهج ، وسار بالتفسير وجهة جديدة ؛ وجهة السؤال والجواب قبل تقرير المسألة . (1)
وقال أيضا :
فجاء هذا التفسير يزخر بالنقل عن عشرات الكتب الثمينة النادرة وعشرات العلماء في كل فن ، دون تمييز أحدهم عن سواهم ، وإن كان قد خص بعضهم باهتمام أكثر من غيرهم كالزمخشري وابن عطية ، وهو ما حمل المرحوم الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور على القول بكون هذا التقييد تعليقًا على ابن عطية أشبه منه بالتفسير . والحقيقة أن هذا غير صحيح ذلك لأننا نلاحظ مثلا في سورة البقرة أن النقل عن ابن عطية يكاد يتساوي مع النقل عن الزمخشري عدديا فعن الأول نقل ابن عرفة مائتين وخمسًا وأربعين مرة وعن الثاني مائتين وإحدى عشرة مرة . (2)
المنهج التفصيلي للمؤلف :
__________
(1) مقدمة تفسير ابن عرفة1/37-38
(2) المصدر السابق 1/41(8/3)
أولا : لقد اعتنى ابن عرفة بمجال المناسبات فبحث عن وجه مناسبة الآية لما قبلها وبين ماكان منها مكملاً للآخر ، ووجه اتصال الآية بما قبلها ، وما سيقت له ، ومن ذلك :
ماذكره في تفسير قوله جل ذكره { زين للناس حب الشهوات } (1) ، فقال : مناسبتها لما قبلها أن الآية المتقدمة اقتضت الحض على الجهاد ، ومدح المتصف به ، ومن خالف نفسه في سبيل الراحة ، أتت هذه الآية في معرض الذم لمن لم يتصف بذلك وطاوع نفسه وشهوته البهيمية(2) .
ومثل ذلك تفسيره لقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } (3) ، قال : لما تضمن الكلام السابق التنبيه على بركة البيت كان ذلك كالسبب الحامل على حجه وأعمال السفر إليه ، وأركان معظم الحج عرفة كما في الحديث “الحج عرفة”(4) إنما ذلك لأجل أن عرفة له وقت(5) .
وكذلك قوله تعالى : { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا … } (6) ، قال ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم ذم الحياة الدنيا باعتبار مانشأ عنها من … العجب والرياء عقبه ببيان ذمها في نفسها ، لأن نعيمها زائل مضمحل … ، فالماء كونه ينزل فينشأ عنه النبات الأخضر الناعم ثم يضمحل ، فكذلك الإنسان مثله ، يوجد بعد أن لم يكن ، تتدرج حاله من الصغر إلى الشباب ثم إلى الكبر ثم ينعدم(7).
ومن مباحث ابن عرفة قوله : قيل البسملة آية من كل سورة . فقال الغزالي في المستصفى : معناه أنها آية من كل سورة وليست جزءا من كل سورة .
وقال غيره : معناه أنها آية- أي جزء - من كل سورة .
__________
(1) آل عمران :13-14.
(2) ق71
(3) آل عمران : 97 .
(4) أخرجه ابن ماجه – كتاب المناسك – باب من أتى عرفة قبل الفجر رقم 3015 وقال ابن كثير : إسناده صحيح (التفسير 1/350) وقال الألباني : صحيح (صحيح ابن ماجه 2/173)
(5) ق 83
(6) الكهف : 45 .
(7) ق 201(8/4)
وورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها : ما كنا نعلم تمام السورة إلا بالبسملة.(1)
فظاهره أنها تكرر إنزالها مع كل سورة مثل { فبأي آلاء ربكما تكذبان } (2). (3)
وهو يتعرض لأسماء السور ومكيتها ومدنيتها ولا يتعرض لعد آيها ومن ذلك قوله في الفاتحة :
اختلفوا فيها ؛ فقال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة : إنها مكية واحتج له ابن عطية بقوله تعالى في الحجر : { ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم } (4) وهي مكية بإجماع وفي حديث أبي بن كعب أنها السبع المثاني .
قال الإمام : وذهب عطاء والزهري وجماعة إلى أنها مدنية وقيل : إنها نزلت بمكة والمدينة ، وأبطله القاضي العماد بأنه يجب عليه تحصيل الحاصل وهو محال .
أجاب ابن عرفة بأن التأكيد شائع في كلام العرب وليس فيه تحصيل الحاصل فإن قلت : يلزم عليه أن تكون الفاتحة في القرآن مرتين لنزولها مرتين وكان تكرر كما تكرر { فبأي آلاء ربكما تكذبان } (5)قلنا : إنما ذلك إذا نزلت على أنها غير الأولى . فقد ذكر الأصوليون على أن الغيرين يصدقان على المثلين ، أما إذا نزلت على أنها هي الأولى بعينها فلا يلزم ذلك فيها .
زاد القاضي العماد في إبطال النزول بمكة والمدينة أنه يلزم منه أن يكون كلما نزل بمكة نزل بالمدينة مرة أخرى ، لأن جبريل عليه السلام كان يعرضه القرآن في كل سنة مرة وفي الأخيرة مرتين فيكون ذلك إنزالا آخر وهذا لايقوله أحد .
__________
(1) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك – كتاب الصلاة 1/231 وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي : أما هذا فثابت .
(2) الرحمن :13 وقد تكررت في 31 موضعا .
(3) تفسير ابن عرفة1/71
(4) الحجر:87
(5) الرحمن :13 وقد تكررت في 31 موضعا كما تقدم .(8/5)
وقال : ولعلهم يعنون بنزولها مرتين ، أن جبريل نزل حين حولت القبلة فأخبره عليه الصلاة والسلام أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة وأقرأه فيها قراءة لم يكن أقرأه بها في مكة فظنوا ذلك إنزالا وهو ضعيف . (1)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
من مواضع تعرض ابن عرفة للمسائل الاعتقادية قضية الاسم والمسمى وقد ذكر فيها ثلاثة أقوال قال :
الأول : أن الاسم هو المسمى وهو قول أهل الحق .
الثاني : أنه غيره وهو مذهب المعتزلة . ومثله للأشعري في بعض كتبه .
الثالث : ما كان اسمًا لله تعالى باعتباره صفة فعل كخالق فهو غير المسمى ، وإلا فهو المسمى وهو قول الباقلاني الإمام . (2)
وقال أيضا : قال الفخر ابن الخطيب في نهاية العقول : المشهور عن أصحابنا أن الاسم هو المسمى ، وعن المعتزلة أنه التسمية ، وعن الغزالي أنه مغاير لهما ، والناس طولوا في هذا وهو عندي فضول .(3)
ويفسر ابن عرفة آيات العقيدة ، معتمدًا مذهبه السني المالكي الأشعري ، رادًا على المخالفين كالمعتزلة ، وغيرهم .
قال ابن عرفة : ولما قال { إياك نعبد } أوهم أن للإنسان في العبادة ضربا من المشاركة والاختيار ، فعقبه بطلب الهداية تنبيها على كمال الافتقار وأن كل العبادة والطاعة من الله تعالى وليس للعبد عليها قدرة ، فهو دليل لأهل السنة . (4)
__________
(1) تفسير ابن عرفة1/91-92
(2) تقييد البسيلي ، وبدأ ذلك بقوله : وحصل شيخنا في المسألة من حيث الجملة ثلاثة أقوال: …فذكرها
(3) تفسير ابن عرفة 1/84
(4) تفسير ابن عرفة 1/102-103(8/6)
وقد تعرض ابن عرفة إلى رأي المعتزلة في قول الزمخشري : إن الشيء يطلق على الممكن والمستحيل . ثم قال معلقًا على هذا الرأي : وظاهر الآية حجة للمعتزلة لأنه لو كان المراد أن الله على كل موجود قدير ، للزم تحصيل الحاصل ، ثم تعرض بعد ذلك إلى شرح متعلق القدرة فقال : القدرة تتعلق بالممكن المعدوم المقدر الوجود ، كما يفهم من معنى قوله تعالى { الزانية والزاني … } (1) ، المراد من حصل منه الزنى بالفعل ، ومن سيحصل منه الزنى ؛ يصدق عليه في الحال أنه زان باعتبار ، على تقدير أنه سيوجد منه ، وهذا كما يقول المنطقيون : القضية الخارجية ، والقضية الحقيقية ، ويجعلون الخارجية عامة في الأزمنة الثلاثة ، مثل كل أسود مجمع للبصر ، وكل أبيض مفرق للبصر ، المراد كل موصوف بالسواد مطلقًا في الماضي والحال والاستقبال (2).
ثم ذكر حجة الزمخشري في نفي الرؤية ، قال : وقوله { لن تراني } (3)استدل بها الزمخشري على عدم الرؤية منطلقًا ، لأن لن عنده لنفي دائم وهي المسماة بلن الزمخشرية ونحن نقول : إنها لنفي غير دائم ، ويثبت بعد ذلك الرؤية مستدلا عليها بقوله تعالى { فإن استقر مكانه فسوف تراني } (4) ، قال : دليل على أن الرؤيا ممكنة لأن استقرار الجبل في مكان ، ممكن عقلا ، وقد علق عليه بسوف تراني فدل على إمكان الرؤية إذ لايصح تعليق المستحيل على الممكن ...(5)
كما يناقش الزمخشري في تفسير قوله تعالى { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } (6) ، الذي يرى أن { بإذن ربهم } تعني بتسهيله فرد ابن عرفة عليه بأن هذا التفسير متماش مع مذهبه في نسبة أفعال العباد إليهم ، وأنها ليست مقدورة لله ، وإنما ييسرها ويسهلها الله عليهم ….
__________
(1) النور :2
(2) ق9 .
(3) الأعراف :143
(4) الأعراف 143 .
(5) ق144
(6) إبراهيم :1(8/7)
ثم ناقش ابن عطية في نفس الموضوع الذي فسر بإذن ربهم بعلم الله ، واقتضائه وتوفيقه ، فرد عليه ابن عرفة بأن هذه نزعة اعتزالية ولولا قوله واقتضائه لكان صريحًا في اتباع المعتزلة ، لانهم يقولون : إن العبد يستقل بافعاله ، ويخلقها ، وإن الله لم يخلق الشر ، ولا أراد .
ثم يفسر ابن عرفة الآية بما يراه صوابًا وهو أن معنى قوله بإذن ربهم ، أي بقدرته وخلقه واختراعه وأنه خلق الهداية والضلال ، وأراد تعالى أن يكون في ملكه مالا يريد (1).
وفي قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة …. } (2) ، قال ابن عرفة : فيه دليل لأهل السنة القائلين بأن لاحسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم فدل على أنها تفضل من الله تعالى ، ولو كان القصاص واجبًا في العقل لما
حسن كونه نعمة ، ولما صح الاتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل (3).
وهو يفسر الألفاظ حسب اصطلاح أهل الكلام عليها :
وقال في تفسير قوله تعالى { فيعلمون أنه الحق … } (4)، الحق يقع في القرآن كثيرًا كقوله تعالى { ماخلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق } (5) ، فمن يفهمه على ظاهره يعتزل ، لأن مذهب المعتزلة مراعاة الأصلح على قاعدة التحسين والتقبيح . والصواب أن يقال في تفسير الحق : هو الأمر الثابت في نفس الأمر الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته . أو يقال : إنما هو الثابت بدليل شرعي أو مدلول الكلام القديم الأزلي (6).
__________
(1) ق180
(2) البقرة :179.
(3) ق41
(4) البقرة :26 .
(5) الأحقاف :3 .
(6) ق11(8/8)
وفي قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } (1)قال ابن عرفة : حكى ابن الخطيب اختلاف المتكلمين على الاستطاعة مع الفعل أو قبله ؟ قال : والآية حجة لمن يقول إنها قبله ، ورد ابن عرفة هذا الرأي وقال : الاستطاعة تطلق على معنين فتارة يراد بها التمكن من الفعل كقوله : زيد الفاعل مستطيع على القيام فهذا لاخلاف أنها تشترط فيها المقارنة وليست هي المصطلح عليها عند المتكلمين ، وتارة يراد بها القدرة على الفعل فهذه التي تعرض لها الأصوليون وذكروا فيها الخلاف ، والآية من القسم الأول (2).
ويفسر لفظة "إله" من قوله تعالى { وإلهكم إله واحد لاإله إلا هو الرحمن الرحيم } (3)، معتمدا على الأصوليين واللغويين ، ويختم كل ذلك بالاستشهاد بالقرآن . قال : الإله في اصطلاح المتقدمين من الأصوليين هو الغني بذاته المفتقر غيره إليه ، وعند الأصوليين المتأخرين واللغويين : هو المعبود تقربا ، وبه يفهم قوله عز وجل { وقال فرعون يا أيها الملأ ماعلمت لكم من إله غيري } (4) ، وقول إبراهيم لأبيه آزر { أتتخذ أصنامًا آلهة.. } (5)، وقول الله عز وجل { ءآلهتنا خير أم هو… } (6) (7).
كما يستدل ابن عرفة بقوله { ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم } (8) لعقيدة أهل السنة فقال : وفيه دليل لأهل السنة في أن الله تعالى يخلق الخير والشر (9).
__________
(1) آل عمران :97 .
(2) ق 83
(3) البقرة : 163.
(4) القصص : 38 .
(5) الأنعام : 74 .
(6) الزخرف :58 .
(7) ق 39
(8) النساء : 168-169 .
(9) ق 113.(8/9)
وفي قوله تعالى { ومن يرتدد منكم عن دينه } (1)، قال ابن عرفة : في لفظ هذه الآية رحمة وتفضل من الله عز وجل لأن قبلها { حتى يردوكم عن دينكم } (2) ، فكان المناسب أن يقال : ومن يرد منكم عن دينه لكنه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة فإن الله سبحانه لما قال ومن يرتدد : يكون الوعيد مختصًا بمن ارتد مختارًا متعمدًا وتسائل ابن عرفة : هلا قيل فيمت وهو مرتد ليناسب أول الآية آخرها ؟ ويسمونه رد العجز على الصدر فقال : إن من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنه مرتد عن دينه لقوله تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } (3) ، وأشار إلى مفهوم الإسلام الوارد في الحديث والمتمثل في الشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج للمستطيع فأفاد بأن الإسلام حقيقة مركبة من هذه القواعد الخمسة فمتى عدم بعضها عدم الإسلام لامتناع وجود الماهية بدون بعض أجزائها ، فمن فعلها كلها ثم بدا له بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتد عن دينه، وأنه غير مسلم فلذلك قال:
فيمت وهو كافر (4).
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
وابن عرفة ممن يهتم بهذا الجانب من التفسير ومن ذلك قوله : { يسبحون الليل والنهار لايفترون } (5)معناه : لايفترون من العبادة وفي آية أخرى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } (6) (7)
__________
(1) البقرة : 217 .
(2) البقرة 217 .
(3) آل عمران :19 .
(4) ق 51.
(5) الأنبياء:20
(6) الشورى :5
(7) تقييد البسيلي .(8/10)
وهو يجمع بين الآية التي يفسرها مع آية أخرى استعملت فيها نفس اللفظة ليبين أن المعاني القرآنية متناسقة وأن الألفاظ التي تدل عليها متآلفة ، يقول عند تفسير قوله تعالى { قل هو أذى } (1) ، وقال تعالى { لن يضروكم إلا أذى } (2) ، والجامع أن الأذى : هو الأمر المؤلم الذي يقصد إماطته وأتى هنا بالحكم مقرونا بعلته ونصوا على أن الأصل تقديم العلة على المعلول كهذه الآية . وكقولك : سهى فسجد وزنى فرجم (3).
ويحلل تقديم الصغير على الكبير في قوله تعالى { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله } (4) ، بخشية التهاون به والتفريط فيه ، واستدل بقوله تعالى { لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } (5) ، وقوله : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } (6) ، وقوله { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } (7)(8).
ومن الأمثلة أيضا مايأتي في الفقرة التالية .
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
ويتعرض ابن عرفة لتفسير القرآن بالحديث ، كما في قوله تعالى { لاإكراه في الدين.. } (9)حيث قال : فالدين هنا عام ، خصص بقوله سبحانه { إن الدين عند الله الإسلام } (10) ، ووقع تفصيله وزيادة بيانه بقوله - صلى الله عليه وسلم - “أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ” .(11)
__________
(1) البقرة :222.
(2) آل عمران :111 .
(3) ق 53.
(4) البقرة : 282.
(5) الكهف : 49.
(6) النساء : 12 .
(7) النساء : 92 .
(8) ق 67.
(9) البقرة :256 .
(10) آل عمران 19 .
(11) ق62 والحديث أخرجه ضمن حديث طويل عن أبي هريرة : البخاري – كتاب الإيمان – باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان 1/115 ، ومسلم – كتاب الإيمان – باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان 1/39-40(8/11)
كما ذكر في تفسير قوله تعالى : { وذلك جزاء المحسنين } (1) ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسر الإحسان في حديث القدر بقوله : “هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (2) ثم أوضح أن الحديث أخص مما جاء في قوله تعالى بيانًا لمعنى المحسنين { هدىً ورحمة للمحسنين ، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } (3) .(4)
وفي تفسير قوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } (5) ، يذكر تفسيره لمعنى
الظن الذي يراه مصروفًا لزمن ملاقاة الله ، أي أن هؤلاء يستحضرون الموت ، ويظنونه واقعا عليهم في كل حين ، ثم يواصل شرح الآية بما نقله القشيري من أن أبا بكر وعمر جلسا ذات يوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : إني إذا أصبحت لا أدري هل أمسي أم لا ؟ . وقال عمر - رضي الله عنه - : إذا أمسيت لا أدري هل أصبح أم لا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : “وإذا صعد النفس لاأدري هل أرده أم لا ؟” (6)
وهذا المثال دليل على عدم تدقيقه في صحة الرواية أم عدم صحتها .
أما أسباب النزول فهو يتعرض لها ومن ذلك :
قوله تعالى { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها … } (7)
__________
(1) المائدة : 85 .
(2) انظر الحديث السابق .
(3) لقمان : 3-4 .
(4) ق121
(5) البقرة :46 .
(6) ق15 ، وذكر الغزالي رواية عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في معنى هذا الحديث ولفظها : “ …ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض …” وهو حديث طويل أخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل والطبراني وغيرهما وقال العراقي : إسناده ضعيف (انظر : الإحياء مع المغني عن حمل الأسفار 4/437) وهذا الحديث لم أقف له على أصل صحيح أو ضعيف أو موضوع .
(7) البقرة : 189 .(8/12)
قال : كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون أن لايحول بينهم وبين السماء شيء فيدخلون بيوتهم من خلفها (1)ينقبون الحائط ، أو من سقفها ، أو يطلعون سلم على السطح فينزلون في وسط الدار ، وهذا عند البداء الدخول ، فإذا تكرر ذلك تركوه.(2)
وقال في قوله عز ذكره { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق } (3) :
قال ابن عطية : سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لايعرفون الآخرة فنهوا عن ذلك .(4)
وفي قوله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله } (5)
قال ابن عرفة : حكى ابن عطية في سبب نزولها ثلاثة أوجه: إما أنها عامة في كل من أبطن الكفر وأظهر الإسلام . وإما أنها خاصة بقوم من المنافقين تكلموا في قوم من المؤمنين استشهدوا في غزوة الرجيع .(6)
وإما أنها خاصة بالأخنس بن شريق . (7) (8)
وقال في تفسير قوله تعالى : { لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } (9) :
__________
(1) أخرج معناه عن البراء : البخاري – كتاب التفسير – باب { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } 8/183
(2) ق45
(3) البقرة :200 .
(4) ق48 ، أخرج معناه ابن أبي حاتم رقم 1379 عن ابن عباس وصححه الضياء في المختارة
وأخرجه أيضا ابن مردويه (انظر الدر 1/232)
(5) البقرة :204 .
(6) أخرج معناه ابن إسحق (السيرة 3/97) ومن طريقه ابن جرير 2/313 ، وابن أبي حاتم رقم 1480 من حديث ابن عباس وإسناده حسنه الحافظ ابن حجر (انظر فتح الباري 7/322) والسيوطي (الإتقان 2/242)
(7) أخرجه صاحب تنوير المقباس في تفسير ابن عباس 1/99-100 من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهو تفسير موضوع كما قال الحاكم وغيره (انظر التهذيب 9/179-181)
(8) ق48
(9) الأنعام: 109 .(8/13)
ذكر المفسرون في سبب نزولها أن المشركين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصير لهم الصفا ذهبًا وفضة وحينئذ يؤمنون .(1)
وأما فضائل السور والآيات فليس من المكثرين في ذكرها ومن مواضع تعرضه لها قوله في الفاتحة :
قال ابن عطية : ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن(2) . والعدل إما في المعاني باشتمالها على التوحيد وغيره و { قل هو الله أحد } (3) على التوحيد فقط ، وإما أن يكون
فضلا من الله لايعلل . (4)
وقوله : قال الزمخشري : وعنه عليه الصلاة والسلام : “من قرأ الآيتين من سورة البقرة في كل ليلة كفتاه”(5) قال ابن عرفة : أولهما { آمن الرسول } ومعنى كفتاه أن يرفعان قارئهما عن رتبة من حرم قيام اليل .(6)
وربما تعرض ابن عرفة لبعض أصول علم الحديث ومن ذلك قوله :
نص المحدثون على أن الراوي إذا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه من قبيل المسند لكنه عندهم يحتمل السماع مباشرة أو بواسطة ، لكن الصحابي إنما يروي عن صحابي فلذلك عدوه في المسند وفي هذه زيادة اللام للمقول له كقولك : قال لي فلان : كذا . فهو أصرح في الدلالة على المباشرة من الأول .(7)
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
__________
(1) ق131 ، وأخرج ابن جرير معناه ضمن رواية مرسلة عن محمد بن كعب القرظي وهي ضعيفة لإرسالها .
(2) أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس مرفوعا انظر إتحاف المهرة 46/أ/4 وقد حسنه البوصيري والصواب تضعيفه لتفرد أبان وشهر به فأما الأول فقد تغير آخرا وأما الثاني فكثير الأوهام كما قال الحافظ (انظر التقريب رقم 138 ،2830)
(3) الإخلاص :1
(4) تفسير ابن عرفة 1/97
(5) أخرجه البخاري – كتاب فضائل القرآن – باب فضل سورة البقرة رقم 5009 ، ومسلم – كتاب صلاة المسافرين وقصرها رقم 808 عن أبي مسعود .
(6) تفسير ابن عرفة 2/821
(7) تفسير ابن عرفة 1/237(8/14)
ومن اعتماد ابن عرفة على ماأثر عن الصحابة ، تفسيره لقوله تعالى { وللرجال عليهن درجة } (1) ، والمعنى درجة في التفضيل ، إلا أن تفسير لفظة درجة وقع حوله خلاف ، فعند الجمهور هي حسن المعاشرة وهو رأي ابن عباس ، وهو الظاهر ، فيقولون وله عليها من القيام بحقه المبادرة إلى غرضه ورفقه ، مثل الذي عليه وزيادة درجة التقديم .
وأشار ابن عرفة إلى تفسير غريب نقل عن ابن مسعود مفاده أن الدرجة : هي اللحية.(2)
وفي تفسير قوله { ليس البر أن تولوا وجوهكم } (3) ، يعرض ابن عرفة روايتين
حول الخطاب ، أولاهما بأنه للمؤمنين ، وهو مانقله ابن عطية عن ابن عباس وعن مجاهد ومعناه : أيه المؤمنون ليس البر أن تكتفوا بالصلاة …
وثاني الروايتين تجعل الخطاب لليهود والنصارى وهذا مروي عن قتادة والربيع .(4)
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
وهو يتعرض للسيرة ضمن حديثه عن أسباب النزول وغيرها ومن ذلك :
قوله تحت آية { إن الذين كفروا سواء عليهم } (5): قال ابن عطية : وقال الربيع ابن أنس : إن الآية نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب . وأهل القليب ببدر .
قال ابن عرفة : وهو الصحيح فإن غزوة الأحزاب متأخرة عن بدر وأهل القليب ببدر قتلوا فلم يبق منهم أحد للأحزاب .
قال ابن عرفة : إلا أن يريد بالأحزاب الجماعة ولا يريد بهم الغزوة . (6)
__________
(1) البقرة : 228 .
(2) ق54
(3) البقرة : 176.
(4) ق40
(5) البقرة :6
(6) تفسير ابن عرفة 1/117(8/15)
وقوله في الآية { ومنهم من يستمع إليك } (1) ، قال الزمخشري : سبب نزولها أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبا جهل ، استمعوا قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا للنضر : ياأبا قتيلة مايقول محمد ؟ فقال : والذي جعلها بيته -يعني الكعبة- ماأدري مايقول محمد ، إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين . فقال أبو سفيان: إني لأراه حقا ، فقال أبو جهل : كلا فنزلت الآية .(2)
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
لا يلاحظ على تفسير ابن عرفة اهتمام كبير بها ، ولعل ذلك لما سبق ذكره من كون التفسير عبارة عن تقييدات للمجالس وليس تفسيرا متكاملا ، ويتضح مما هنا أن ابن عرفة ممن يقف منها موقف الناقد كعادته .
ففي قوله تعالى { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات } (3)
قيل لابن عرفة : أو يجاب بعكس ما قال الزمخشري ؛ وهو أنه خلقت السموات والأرض ملتصقة ثم خلقت الأرض ودحيت ثم فصلت السموات وصيرت سبعا والله أعلم ؟ فقال : هذا يمكن لكن الأثر الذي أورده هنا أن الأرض خلقت كالفهر وعلاها الدخان فخلقت منه السموات يرده ماذكره الشيخ الزمخشري ونقله عن الحسن وللفخر في الأربعين كلام طويل وليس فيه خبر صحيح . (4)
وقال : قال ابن عطية : قال ابن عباس - رضي الله عنه - : كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة فقتلت بعضهم وهربت باقيهم وحصروهم إلى البحار ورؤوس الجبال وجعل آدم وذريته خليفة .
قال ابن عرفة : هذا يدل على أن الجن أجسام كبني آدم لأجل القتل والمبالغة فيه .
__________
(1) الأنعام :25 .
(2) ق126
(3) البقرة : 29
(4) تفسير ابن عرفة 1/234(8/16)
قيل لابن عرفة : كيف يفهم هذا مع قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا } (1)إن اللام في لكم تقضي اختصاصه بنا ؟ فقال : لعل اللام هنا ليست للاختصاص ، ولو سلمنا أنها للاختصاص يكون مافي الأرض لهم ولا يلزم من ذلك كونه قاصرًا عليهم فهو خلق لهم ولا ينافي أن يكون خلقا لغيرهم .
وقال : قال ابن عطية : لما دخل إبليس لآدم سأله عن حاله فقال له : ما أحسن هذا لو أن خلدا كان . فوجد به السبيل إلى إغوائه . قال ابن عرفة : هذا إلهام للنطق بما وقع في الوجود حيث قال إبليس : { هل أدلك على شجرة الخلد } (2)كما قال يعقوب عليه السلام لبنيه { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } فقالوا له { إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب } (3)كما قال الشاعر :
احفظ لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
وأكله من الشجرة إما لظنه أن النهي للكراهة أو المنهي عنها شجرة واحدة بالشخص وهذا من نوعها فقط .
زاد ابن عطية : إن حواء سقته الخمرة فأكل في حال السكر . قيل لابن عرفة : خمر الجنة لا يسكر فقال : إن تلك الجنة التي من دخلها يؤمن من الخروج منها ولعل هذه إذ ذاك كان خمرها مسكرا .
…قال : ومذهب مالك أن جميع ما يصدر عن السكران من طلاق وقذف وقتل وزنى وسرقة كله يلزمه ويؤاخذ به وهي أول مسألة في العتبية من النكاح الأول .
قيل له : إنما هذا اللزوم بعد تحريم الخمر وقد كانت حين إذ حلالا فيعذر شاربها ؟
فقال : حفظ العقول من الكليات الخمس الذي اتفقت جميع الملل عليها فالسكر حرام وإنما كان يجوز فيها ما لا يسكر .(4)
وفي قوله تعالى { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } (5)
__________
(1) البقرة :29
(2) طه :120
(3) الآيتان من سورة يوسف :13 ، 17
(4) تفسير ابن عرفة 1/261-262
(5) البقرة :36(8/17)
قال ابن عطية : المخاطب بالهبوط آدم وحواء وإبليس والحية ؟ وقال الحسن : آدم وحواء والوسوسة . قال ابن عرفة : أي عدو الوسوسة . وقال غيره : والحية لأن إبليس قد كان أهبط .(1)
وفي قوله : { هاروت وماروت } (2)قال : قال ابن عطية : روي أنهما ملكان اختصمت إليهما امرأة وحكى القصة وضعفه ابن عطية من جهة السند .
قال ابن عرفة : بل هو ضعيف من جهة الاستدلال فإنه قد قام الدليل على عصمة الملائكة ، ولا يقال : إنهما كانا معصومين ثم انتقت العصمة عنهما حينئذ فإن ذلك إنما هو فيمن يتصف بالحفظ لابالعصمة ، فيصح أن يحفظ تارة دون تارة ، أما العصمة فلا تزول عمن ثبتت له أبدًا . وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضوع لأجل ذكره هذه الحكاية ونقل بعضهم عن القرافي : أن مالكًا أنكر ذلك في حق هاروت وماروت . (3)
وفي قصة بقرة بني إسرائيل لم يتعرض لتفاصيلها ومر عليها مرور الكرام . (4)
ثامنا : موقفه من اللغة :
لقد عني ابن عرفة باللغويات ومن ذلك وضع الحروف في الجملة القرآنية وأهميته في تصوير المعنى ، ومن ذلك قوله :
الألف واللام في { الحمد } (5) للجنس ويتناول الحمد القديم وهو حمده تعالى نفسه وبنفسه ويتناول حمده في الدنيا وحمده في الآخرة وإن كان خبرا بمعنى الطلب فيكون " الـ " للماهية إذ لا يقدر أحد على حمده تعالى بجميع محامده ولذا قال عليه الصلاة والسلام : فأحمده بمحامد يعلمنيها لم أكن أحمده بها قبل ذلك . (6)
في قوله تعالى { ذهب الله بنورهم } (7) قال : وفي التعدية بالباء التى للمصاحبة نوع زيادة وإشعار بدوام الذهاب ، وملازمته بسبب ملازمة فاعل الذهاب له ، فلا يزال ذاهبا عنهم ، فهو أشد في عقوبتهم حتى لا يتصور رجوعه إليهم بوجه .(8)
__________
(1) تفسير ابن عرفة 1/263
(2) البقرة : 102
(3) تفسير ابن عرفة 1/386
(4) تفسير ابن عرفة 1/322
(5) الفاتحة:2
(6) تقييد البسيلي .
(7) البقرة : 17 .
(8) ق7(8/18)
وفي قوله تعالى { فإن آمنوا بمثل ماآمنتم به ، فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق } (1) قال : الباء إما للسبب والمراد أسباب إيمانكم وهي البراهين والمعجزات أو للتعدية به ، والمراد متعلق الإيمان وهو الإله ، فإن كانت للسبب فواضح أي : فإن آمنوا ، بسبب مثل الأسباب التي أرشدتكم أنتم إلى الإيمان ، فقد اهتدوا ، وإن أريد متعلق الإيمان فمشكل ، ثم أورد رأي ابن عطية في معنى الباء الواردة وفي نفس الآية ، ويتمثل في ثلاثة أقوال …(2)
كما يتعرض للمتشابه اللفظي مثل ماجاء في قوله تعالى : { فلهم أجرهم عند ربهم } (3) ، وقوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم } (4)حيث ذكر أن الآية الأولى التي أثبتت فيها الفاء ، كان ماسبق لها وهو قوله تعالى { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية …. } (5)، أكمل وأبلغ إذ أكده بالسر والعلانية ، بينما في الآية الثانية ، حذفت
الفاء لأنه لاحاجة للتأكيد ، إذ هو موجود وثابت بحرف إن .(6)
وهو يستشهد بالشعر أحيانا كما في تفسير قوله تعالى { ومنهم أميون لايعلمون الكتاب إلا أماني .. } (7)، قال : والأماني إما بمعنى التلاوة أي لايعلمون معنى الكتاب بل يحفظون ألفاظه فقط وأنشدوا عليه قولا في عثمان :
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
وإما معنى التمني أنهم يتمنون أن يكونوا يحفظونه …الخ .(8)
وسيأتي أمثلة أخرى فيما يلي .
ومن مواضع تعرضه للبلاغيات وأفانين الكلام :
__________
(1) البقرة :137 .
(2) ق33
(3) البقرة :274 .
(4) البقرة : 277 .
(5) البقرة : 274.
(6) ق66
(7) البقرة : 78 .
(8) ق22(8/19)
في قوله تعالى { ذلك الكتاب لا ريب فيه } (1) ، قال : أورد الزمخشري هنا سؤالاً قال : الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا قريب ؟ وأجاب بأن المراد البعد المعنوي ورد ابن عرفة سؤال الزمخشري فقال : السؤال غير وارد لأنه أجاب في غير هذا الموضوع في قوله تعالى { فذلكن الذي لمتنني فيه } (2) وفي قوله تعالى { عوان بين ذلك } (3) بأن الإشارة بلفظ البعيد للقريب على سبيل التعظيم ، وهو معنى يذكرة البيانيون . وعبر عنه باسم الإشارة دون ضمير الغيبة تنبيها على أنه كالمحسوس المشار إليه ، فهو دليل على عظمته في النفوس .(4)
ومن معاني اسم الإشارة عند علماء البلاغة ماذكره ابن عرفة في تفسير قوله تعالى { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم … } (5) ، قال : قال أهل البيان اسم الإشارة يؤتى به للتحقير كهذه الآية ، ومثله { بل فعله كبيرهم هذا } (6)، وقوله :
تقول وصكت صدرها بيمينها أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
يصف امرأة رأت بعلها يطحن وهو في جمع من النساء فاحتقرته .(7)
ونوع آخر من أنواع المجاز يذكره ابن عرفة وهو مجاز التمثيل قال في قوله تعالى : { خطوات الشيطان } (8) : ليس المراد النهي عن اتباع خطواته حقيقة ، إذ لانراه نحن بل الخطوات معنوية .
__________
(1) البقرة : 2
(2) يوسف : 32 .
(3) البقرة 68 .
(4) ق4
(5) المائدة :53 .
(6) الأنبياء : 63 .
(7) ق38
(8) البقرة : 208 .(8/20)
كما تعرض لأسلوب الالتفات في القرآن فقال في تفسير قوله تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق …. } (1) ، الإشارة إلى الآيات المتقدمة وعبر عن التلاوة الماضية بصيغة المستقبل للتصور والدوام وإما أن يكون { نتلوها } مستقبلا حقيقة ، والإشارة إلى التقدم باعتبار لفظه فقط مثل : عندي درهم ونصفه ، أو الإشارة إلى المستقبل المقدر في الذهن تحقيقًا لوقوعه ، وتنزيلاً له ، منزلة الواقع حقيقة وهي الآية، التفاتا بالانتقال من الغيبة إلى التكلم .(2)
كما بين حسن التركيب في قوله تعالى { ويعلم مافي السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير } (3) ، قال : انظر حسن تركيب هذه الآية ..فإن الوعيد والتخويف إنما يكون لمجموع صفتي العلم والقدرة ، فالقادر إذا لم يعلم بمخالفة عبده له ، لايعاقبه ، وكذلك إن علم ولم يقدر على العقوبة .(4)
كما تكلم عن اللف والنشر وبين أنه قسمان : أحدهما موافق وهذا مثل قوله تعالى { فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار } (5) ، والثاني مخالف كقوله سبحانه { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم } (6)قال : وحكمة ذلك في الجمع الاهتمام بمقام التخويف والإنذار فلذلك بدأ بأهل الشقاوة في الآيتين .(7)
ومن الصور البديعية في القرآن تأكيد الذم بما يشبه المدح وهو ماأشار إليه ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى { لايعلمون الكتاب إلا أماني } (8) ، قال : هو من تأكيد الذم بما يشبه المدح ، كقول الشاعر :
هو الكلب إلا أن فيه ملالة وسوء مراعاة وما ذلك في الكلب (9)
__________
(1) البقرة 252.
(2) ق60
(3) آل عمران 29 .
(4) ق74
(5) هود : 105 .
(6) آل عمران : 106 .
(7) ق11
(8) البقرة : 78 .
(9) تفسير ابن عرفة 1/346(8/21)
وأما الإعراب فحين يقع الاختلاف بين المفسرين حول الإعراب في الآية يعرض آراءهم ، ثم يأخذ بالرأي الذي يتفق مع منهجه في إبراز معاني الآية ، وهو في سبيل الوصول إلى هذا الغرض يعرض الآراء ويحللها ويناقشها مرجحا بعضها على بعض. مثال ذلك تفسيره لقوله تعالى { يخادعون الله والذين آمنوا } (1)، عرض رأي الزمخشري في هذه الجملة بأنه إما تفسير لما قبلها أو استئناف .
وحلل ابن عرفة هذا الرأي بأن الفرق بينهما أنه على الأول يكونون وصفوا بأمرين: بعدم الإيمان وبالخداع ، وعلى الثاني وصفوا بعدم الإيمان ، فكأن قائلاً يقول : لم حكم عليهم بعدم الإيمان ؟ فقيل : لأنهم يخادعون الله . ثم عرض رأي أبي حيان بما نصه :
{ يخادعون } مستأنفة أو بدل من { يقول آمنا } ولا موضع لها ، أو حال من فاعل يقول ، فموضعها نصب . ثم انتقل إلى عرض رأي أبي البقاء الذي أجاز أن تكون الجملة حالا من الضمير في { مؤمنين } ، وأشار ابن عرفة إلى أنه اعترض بأنه يلزم منه نفي الإيمان المقيد بالخداع ، وهو فاسد ، لأن المقيد بقيد إذا نفي فله طريقان ، إما نفي المقيد فقط وإثبات المقيد ، وهو الأكثر ، فيلزم إثبات الإيمان ، ونفي الخداع وهو فاسد ، وإما نفيهما معًا ، فيلزم نفي الإيمان والخداع وهو فاسد . قال: ومنع أن تكون الجملة حالا من الضمير في آمنا ،لأن آمنا محكي بيقول ، فيلزم أن يكونوا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يخادعون وهو باطل ، وأيضًا فلو كان من قولهم لكان يخادع بالنون .
وفي الخلاصة يؤيد ابن عرفة رأي أبي البقاء المتمثل في إعراب الجملة حالا من الضمير بمؤمنين ، ومثال ذلك أن تقول : قال زيد : إن عمرا منطلق ، وهو كاذب. فهذه الجملة الأخيرة وهو كاذب في موضع حال مع أنها ليست من قول زيد ، وبذلك لايلزم أن يكون { يخادعون الله } (2) مقولا لهم بأي وجه من الوجوه .(3)
__________
(1) البقرة :9 .
(2) البقرة : 9 .
(3) ق3(8/22)
وبالإضافة إلى تعرضه للمواضيع النحوية فإنه يعللها أحيانا ، ومن هذا تعليله للتأكيد في قوله تعالى { ومن لم يطعمه فإنه مني } (1) ، حيث أبان أنه أكد الثاني بإن ، ولم يقل في الأول : فمن شرب منه فإنه ليس مني . وإنما جاءت الآية بقوله { فمن شرب منه فليس مني } (2) فأجاب ابن عرفة على هذا بأنه لم يقع تأكيد الأول لأن سببه أكثر في الوقوع ، وتم تأكيد الثاني لأن سببه أقل في الوقوع ، بهدف التحريض على المبادرة إلى امتثال سببه والعمل بمقتضاه .(3)
ويرد ابن عرفة إعراب الزمخشري في قوله تعالى { وصدها ماكانت تعبد } (4)، مستشهدًا على رأيه بالشعر حيث أشار إلى أن واصل صدها : "ما" في الأظهر في حين أن الزمخشري جعله مضمرًا أي ضلالها أو الله أو سليمان ، و ما مفعول على إسقاط حرف الجر ، أي صدها عما كانت تعبد ولا يقبل ابن عرفة هذا التأويل ويرده ويضعفه لأنه ليس من مواضع حذف الجار ، وهو لايجوز إلا للضرورة الشعرية كقولهم :
تمرون الديار ولم تعوجوا ……………….(5)
وهو يهتم بالنكات التفسيرية :
ومن ذلك قوله في قوله تعالى { الرحمن } (6) :
وقدم على { الرحيم } إما لأن الرحمن انفرد به البارئ تعالى أو لإفادته عموم الرحمة فكان أصلا ، والرحيم كان كالزيادة في التشريف للمؤمنين قال تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } (7)وإما لأجل رأس الآي في الفاتحة . وقيل : الرحيم أبلغ بدليل ذكره بعد الرحمن ، ولأن الرحمن يفيد نوعًا من القهر والكبرياء قال تعالى : { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } (8)ولولا ذلك لما ناسب ذكر الوعيد معه ، ولأن ختم الكلام بما هو أقوى دلالة على أن الرحمة أرجى وأقرب لحسن الظن بالله تعالى . (9)
__________
(1) البقرة : 249 .
(2) البقرة :249 .
(3) ق59
(4) النمل : 43.
(5) ق72
(6) الفاتحة : 1
(7) يونس:26
(8) الفرقان:26
(9) تقييد البسيلي(8/23)
وقال : فإن قلت : لم قال { الذين أنعمت عليهم } (1)بلفظ الفعل و { غير المغضوب عليهم } بلفظ الاسم ؟ وهلا قال : صراط المنعم عليهم كما قال : غير المغضوب ؟ قلت : فالجواب أنه قصد التنبيه على التأدب مع الله تعالى بنسبة الإنعام عليه وعدم نسبة الشر إليه بل أتى به بلفظ المفعول الذي لم يتم فاعله فلم ينسب الغضب إليه على معنى الفاعلية وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب للفاعل الخير دون الشر .
وأجاب القاضي العماد بوجوه :
الأول : من ألطاف الله أنه إذا ذكر نعمة أسندها إليه فقال : { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ، وإن تصبهم سيئة … } (2)
ولذلك قال إبراهيم عليه السلام : { وإذا مرضت فهو يشفين } (3)
الثاني إنما قال : { غير المغضوب عليهم } ، ليدخل غضبه وغضب الملائكة والأنبياء والمؤمنين فهو أعم فائدة .
الثالث : إنما لم يقل صراط المنعم عليهم لأن إبراز ضمير فاعل النعمة ذكر وشكر له باللسان وبالقلب فيكون دعاء مقرونا بالشكر والذكر .
الرابع فيه فائدة بيانية ، وهو أنه من التفنن في الكلام لأنه لو أجري على أسلوب واحد لم يكن فيه تلك اللذاذة وإذا اختلف أسلوبه ألقى السامع إليه سمعه وهو تنبيه وطلب إحضار ذهنه من قريب ومن بعيد .
قال : وإشارة إلى قوله تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } (4)فالنعمة تفضل ورحمة والانتقام عدل وقصاص .(5)
وقوله : وفي دعوة الله عباده المؤمنين إلى الجنة والمغفرة في قوله تعالى { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة } (6) ، تساءل ابن عرفة بقوله : هلا قال : والمؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة بإذنه ، كما أسند للمشركين الدعاء إلى النار .
__________
(1) الفاتحة :7
(2) الشورى : 48
(3) الشعراء :80
(4) النساء :79
(5) تفسير ابن عرفة1/104-105
(6) البقرة :122 .(8/24)
وأجاب بأن فيه كمال تشريف لدين الإسلام ، وهذا شبيه بقوله تعالى { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } (1) .
تاسعا : موقفه من القراءات :
ومن مواضع تعرضه للقراءات كلامه في الاستعاذة حيث قال :
وحكى أبو عمرو الداني في بحار البيان في كيفيته ثلاثة أوجه : إما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم وحكى في كتاب الإقناع : أن الأولى أن تقول : أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي .
وقال الشاطبي :
إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ جهارًا من الشيطان بالله مسجلا
على ماأتى في النحل يسرًا وإن تزد لربك تنزيهًا فلست مجهلا
وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا(2)
فظاهره أن الآية مجملة ، هو خطأ لأن المجمل عند الأصوليين هو اللفظ المحتمل
معينين فصاعدا على التساوي ، وليست الآية كذلك بل هي عندهم من قبيل المطلق الذي يصدق بصورة ...
قال : وعادتهم يجيبون عنه بأنه من قبيل الإجمال اللغوي لا الاصطلاحي .
ثم قال :
وفيه مقال في الأصول فروعه فلا تعد منها باسقًا ومظللا (3)
ومراده بالأصول إما الكتب المطولة وإما أصول الفقه . (4)
وفي قوله تعالى : { ءأنذرتهم … } (5)
__________
(1) الفتح : 10.
(2) حرز الأماني ووجه التهاني ص10
(3) المصدر السابق وقد عدلت لفظ البيت منها .
(4) تفسير ابن عرفة1/66-67
(5) البقرة :6(8/25)
قال : أنكر الزمخشري هنا قراءة ورش وجعلها لحنا وكفره الطيبي وظاهر كلام الطيبي هذا أن السبع قراءات أخبار آحاد وليس بمتواتر قال ابن عرفة : وحاصل كلام الناس فيها أنها على وجهين : فأما ما يرجع إلى آحاد الكلام كملك ومالك ويخدعون ويخادعون فهو متواتر اتفاقًا من غير خلاف منصوص إلا أن ظاهر كلام الداوودي على ما نقل عنه الأنباري أنها غير متواترة وأما ما يرجع إلى كيفية النطق بها من إعراب وإمالة وكيفية وقف ففيه ثلاثة أقوال :
الأول : نقل الأنباري شارح البرهان عن أبي المعالي أنها متواترة وأنكره عليه وهو اختيار الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة من أشياخنا
الثاني : أنها متواترة عند القراء فقط نقله المازري في شرح البرهان واختاره شيخنا ابن عرفة.
الثالث : أنها غير متواترة قاله ابن العربي في العواصم والقواصم والأنباري وابن رشد في كتاب الصلاة الأول وفي كتاب الجامع الرابع من البيان والتحصيل قال ابن عرفة: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق إبراهيم الجزري وشيخنا القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام وصاحبنا الفقيه أبي العباس أحمد بن إدريس البجائي . (1)
وهو يتعرض للقراءات من حيث التركيب اللغوي ويطنب في ذلك :
ذكر في تفسير قوله سبحانه { والله يؤيد بنصره من يشاء إن } (2) ، أنها قرئت بتسهيل الهمزة ، وأن أبا حيان جوز تسهيلها ، وبعضهم يذهب إلى عدم تسهيلها ، لأنه قريب من السكون فيلتقي ساكنان ، غير أن ابن عرفة يرد قولهم هذا بما ورد في قراءة الآية { سواء عليهم ءأنذرتهم } (3) ، التي وقع فيها تسهيل ، في حين التقى فيها ثلاث سواكن .(4)
وقال في قوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات } (5):
وقرأ ابن كثير { آدم } بالنصب و { كلمات } بالرفع .
__________
(1) تفسير ابن عرفة 1/120-123
(2) آل عمران : 13.
(3) البقرة :6 .
(4) ق71
(5) البقرة :37(8/26)
قال ابن عرفة : قراءة الجماعة بالرفع ظاهرة لأنه هو فاعل التلقي فكلفة التلقي والقصد إليه وإمعان النظر فيه ظاهر وأما قراءة ابن كثير فتقتضي أن آدم عليه السلام أتاه التلقي هجما من غير نظر فيمكن فهمه على أنه أتته أوائل درجات النظر بالبديهة لأن المعقولات فرع المحسوسات فأول درجات النظر مدرك معلوم بالبديهة لا يفتقر إلى تقدم شيء قبله لأن لا يلزم عليه التسلسل وتنكير { كلمات } للتشريف والتعظيم . (1)
وهو يتعرض للقراءات الشاذة ومن ذلك قوله :
قال ابن عطية : وقرأ سفيان بن عينية ورؤبة بن العجاج "الحمد لله" بفتح الدال … على إضمار فعل .
قال ابن عرفة : وقالوا : وقراءة الضم أدل على الثبوت …، قال الزمخشري : ومنه قوله تعالى : { قالوا سلاما قال سلام } (2) بالرفع في الثاني ليدل على أن إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على الثبوت . وكذا قال السكاكي في علم البيان . (3)
__________
(1) تفسير ابن عرفة 1/264
(2) هود:69
(3) تفسير ابن عرفة 1/95(8/27)
كما ذكر ابن عرفة رأي ابن جني في قراءة قوله تعالى : { فرجل وامرأتان } (1)، وهو المتمثل في أنه لانظير لتسكين الهمزة المتحركة ، وإنما خففوا الهمزة فقرب من الساكن ، ثم بالغوا في التخفيف ، فصارت الهمزة ألفا ساكنة ، ثم جعلوا الهمزة على الألف ساكنة ومثلوا له بقراءة ابن كثير { وكشفت عن سأقيها } (2) ، لكن ابن عرفة بعد عرضه للقراءة التي نقلها ابن جني وتعليقه عليها يشير إلى أنه توجد في القرآن ، ثلاث نظائر لتسكين الهمزة المتحركة إجراء للوصل مجرى الوقف أولها في قوله تعالى { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } (3) ورويت هذه القراءة عن قنبل ، والموضع الثاني في قوله تعالى { مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته } (4)، ورويت هذه القراءة عن ابن ذكوان ، والموضع الثالث في قوله عز وجل { ومكر السيء } (5)وهي قراءة حمزة .(6)
كما كان لابن عرفة موقف موفق في رده قراءة ابن عطية التي خالف فيها القراءة المتواترة في قوله تعالى { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة } (7) ، إذ قرأ ابن عطية المقيمون ، وهي قراءة شاذة ، وأشار إلى أن كلام الزمخشري في هذه الآية أصوب من كلام ابن عطية الذي أطنب في تخطئه قراءة { المقيمين } مع أنها نالت إجماع القراء السبعة.(8)
تاسعا : موقفه من الفقه والأصول :
__________
(1) البقرة :282 .
(2) النمل : 44 .
(3) النمل :22 .
(4) سبأ :14 .
(5) فاطر:43
(6) تفسير ابن عرفة 1/785
(7) النساء : 162.
(8) ق112(8/28)
إن المتتبع لتفسير ابن عرفة يلاحظ اهتمامه بالفقه وأصوله : فهو يتوقف عند آيات الأحكام ويستخرج منها الأدلة الأصولية ، ويعنى بالتفريعات الفقهية مما يدل على سعة علم الرجل ، ودقة فهمه ، وهو يقوم بهذا العمل حتى مع الآيات التي ظاهرها لايتناول الفقه فيستنتج منها حقائق أصولية واجتهادات فقهية ، وقد أشار إلى هذا الشيخ ابن عاشور بقوله : وهو شديد الاهتمام بأن ينتزع من الآيات ماهو من سياقها أو ليس منه بما يرجع إلى الأحكام التكليفية من مسائل الأصول ومسائل الفقه ، وإيراد مايتعلق بذلك من الأنظار ومناقشتها .(1)
وهو في تناوله لمسائل الفقه في تفسيره لايعرض رأيًا إلا وينسبه لقائله ، ولا يتعرض إلى المسائل الخلافية إلا في القليل النادر ، لأن المقام لايستدعي الإطالة ، إذ هو يلقي دروسه على طلبته في علم التفسير وهو ليسوا في حاجة إلى الخلافيات والمقارنات الفقهية ، التي يتناولونها في دروس الفقه .
في قوله تعالى { ثلاثة قروء } (2) : يذهب إلى رأي يجمع فيه بين رأي مالك والشافعي لأن الأول يفسر القرء بالطهر ، والشافعي يفسره بالحيض فيرى ابن عرفة أن القرء مشترك بين الطهر والحيض ، غير أن الطلبة وهم يناقشون شيخهم في هذه المسالة قالوا له : كنت قلت لنا أن هذا ليس من ذلك لأن الجمع من قرية الماء في الحوض غير مهموز ، والقرء مهموز ، وقلت لنا الصحيح أنه للقدر المشترك ، وهو براءة الرحم ، فرد ابن عرفة على الطلبة : أن ظاهر الآية يدل على أن القرء هو الحيض ، يعني معنى التربص هو الانتظار ، وهذا الانتظار يستلزم قروء مستقبلة ، إذ الشارع قد أمر بطلاق لم تمس فيه المرأة ، فإذا اعتبرنا القرء حيضًا صح الانتظار وإذا اعتبرناه طهرًا لم يستقم إسناد الانتظار .(3)
__________
(1) التفسير ورجاله ص114
(2) البقرة :228 .
(3) ق54(8/29)
ومن أمثلة ذلك رده لاجتهاد الإمام المازري في تجويزه إعطاء الرشوة للحصول على القضاء عند تفسيره لقوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } (1)، قيل لابن عرفة أن المازري حكى في تعليقه عن الشعبي أن الفقيه إذا علم وتأكد لديه أن ليس هناك من هو أفضل منه في بلده ، فلا بأس أن يسعى للحصول على ولاية القضاء ، ولو أدى به الأمر إلى إعطاء الأجرة والرشوة لولاة الأمر فأنكر ابن عرفة هذا الرأي ، وقال : إنه من باب أكل المال بالباطل والمشارفة فيه على الخطأ ، وأشار إلى أن ماأدرك عليه القضاة أن بعضهم كان يتسبب في الحصول على المنصب القضائي بالكلام فقط . (2)
وتفسير ابن عرفة كما ذكرنا متميز بأنه تفسير أصولي ويظهر ذلك في مواضع كثيرة إذ يستفيض في هذا المجال لأدنى مناسبة ومن ذلك عندما رد تفسير ابن عطية لقوله تعالى { لم تلبسون الحق بالباطل } (3) حيث اعتمد رأي ابن جريج في أن المعنى يلبسون التوراة والإنجيل بالقرآن . فصرح ابن عرفة بأنه خطأ واضح لأن القرآن حق ، وأما الذي دخلت عليه الباء في الآية فهو الباطل ثم شرح الآية مستخدمًا في تفسيره طريقة أصول الفقه حيث إن عادة الأصوليين إيراد السؤال وهو أن القاعدة في اشتمال الكلام على أمرين : أعم وأخص ، وأن يبدأ في الإثبات بالأعم ثم بالأخص . وفي النفي يبدأ بالأخص ثم بالأعم لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص والذم على فعل الشيء ، يتنزل منزلة نفية، والكفر بآيات الله أعم من إلباس الحق بالباطل على مافسروه ، لأن الكافر يلبس فيخلط التوراة بغيرها . وقد لا يفعل ذلك . والإلباس للحق بالباطل أخص لأنه كفر بلاشك .(4)
وفي قوله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة } (5)
__________
(1) البقرة : 188 .
(2) ق44
(3) آل عمران : 71 .
(4) ق80
(5) البقرة :283(8/30)
قال ابن عرفة : مفهوم الآية ملغي بنص السنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر وأيضًا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب لأن السفر مظنة لعدم وجدان الكاتب أو هو شيء من الأدلة غالبا بخلاف الحضر . قال ابن عطية : أجمع الناس على صحة قبض المرتهن وعلى قبض وكيله . واختلفوا في قبض عدل فجعله الإمام مالك قبضا .
قال ابن عرفة إذا لم يكن من جهة الراهن .
وقال الحكم ابن عيينة وقتادة : ليس بقبض .
قال ابن عرفة : إذا قبض المرتهن الرهن ولم يزل حائزا له كان أحق به بلا خلاف . وإن كان قبضه بالشهادة ثم أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فتصرف فيه الراهن بطل الحوز بلا خلاف وإن أذن المرتهن الراهن في التصرف فيه فلم يتصرف فيه ولم يزل بيد …الخ . (1)
و قال ابن عرفة في قوله تعالى { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } (2)الآية تدل على أن جميع الأحكام الشرعية تعلل ، وذلك أنهم اختلفوا في التعبدات ، فذهب جماعة منهم الشيخ همام عز الدين ابن عبد السلام إلى أنها الأحكام التي لاعلة لها ، والآية تقتضي أن الأحكام كلها لاتكون إلا لمصلحة لأنها خرجت مخرج التبيين على كمال المبادرة إلى امتثال الأحكام الشرعية فدل على أن المراد والله أعلم ، مافي ذلك من المصلحة ، وأنتم لاتعلمون هذا فعليكم أن تأخذوها بالقبول . (3)
__________
(1) تفسير ابن عرفة 1/797
(2) آل عمران : 66 .
(3) ق51(8/31)
ويرد على ابن عطية الذي اعتبر تخصيص القرآن لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسخًا . وتفصيل ذلك ماذكره من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بصدقة فجاءه يهودي يطلب العطاء فرد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : “ليس لك من صدقة المسلمين شيء” . فذهب اليهودي غير بعيد ، فنزلت الآية ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أعطاه ، قال ابن عطية : نسخ الله ذلك بقوله: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } (1) ، قال ابن عرفة : هذا ليس بنسخ ، لكن المتقدمين يطلقون عليه نسخًا والمتأخرين يقولون العام إذا عمل به ، ثم ورد بعد ذلك خاص ، فهو نسخ له ، وإن ورد الخاص بعده ، وقبل العمل به ، فهو تخصيص لانسخ .(2)
وتعرض ابن عرفة إلى مسألة نسخ القرآن بخبر الواحد وهي مسالة خلافية ، حيث إن الجمهور على جواز هذا النوع من النسخ عقلا ، وأما وقوعه شرعًا ففيه خلاف بين العلماء . ذكر أبو المعالي أنه وقع في مسجد قباء ، وذلك عندما كان جمع من الصحابة يصلون صلاة العصر إلى القدس فمر بهم صحابي وأعلمهم بأن القبلة حولت إلى المسجد الحرام فتحولوا .(3)
وتعرض ابن عرفة إلى نسخ الحكم الأثقل بالأخف ، فأشار إلى ماأورده ابن عطية من إمكانية هذا النسخ ومثاله نسخ قتال الواحد للعشرة ، ونسخ الثبوت للعشرة بالثبوت لشخصين فقط .
ويبين ابن عرفة أن العبرة ، في الثقل والخفة بالمصلحة فقد يكون متعلق هذه المصلحة أرجح من متعلق المصلحة الأخرى أو مساويًا لها ولا شك أن وقوف الواحد للعشرة ثوابه يكون أعظم من ثواب ماهو أخف منه ، وأقل ثوابًا لكونه أكثر الوقوع ، فيتعدد ثوابه ويكثر بتعدد وقوعه .(4)
__________
(1) التوبة :60 .
(2) ق64
(3) ق28
(4) ق28(8/32)
كماعرض إلى موضوع نسخ القرآن بالقياس ، فمنع وقوعه كما منع النسخ بالإجماع وأشار إلى هذا بقوله ولا يصح نسخ النص بالقياس ، لأن النص المقيس عليه إما أن يكون موافقًا لذلك النص المنسوخ أو مخالفًا ، فإن كان موافقًا ، فلا نسخ ، وإن كان مخالفًا فهو الناسخ لا القياس ، ثم قال : ولا ينسخ النص بالإجماع لأنه إنما يكون في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والإجماع إنما هو بعد وفاته .(1)
ومن مواضع إطنابه في بعض المسائل قوله :
ولقد اختلف الأصوليون في واضع اللغة على تسعة مذاهب … فذكرها (2)
عاشرا : موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية :
لقد أعجب ابن عرفة بعلم المنطق وألف فيه (المختصر في المنطق ) وطبقة في دروسه الفقهية ، واعتمده كذلك في تفسيره فكان يورد تعاريف المناطقة ومصطلحاتهم أحيانًا يستعين بها لبيان المعاني القرآنية ، ومن ذلك :
في تفسيره لقوله عز وجل { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } (3) ، حيث تطرق إلى بيان التعبير بالنفي بحرف ليس . فقال : والنفي بليس لما يتوهم وقوعه ، والإثم كان متوهما وقوعه في سفر الحج للتجارة ، بخلاف النفي بلا حسبما ذكره المنطقيون في السالبة والمعدولة ، مثل الحائط لايبصر وزيد ليس يبصر أو غير بصير .(4)
ويفصل القول في إحدى قضايا المنطق ، وهي قضية القياس الشرطي ، فيبين علاقة اللزوم والمتابعة فيها ، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا … } إلى قوله تعالى : { فإن حزب الله هم الغالبون } (5).(6)
__________
(1) ق28
(2) تفسير ابن عرفة 1/240
(3) البقرة : 198 .
(4) ق47
(5) المائدة :55-56 .
(6) ق119(8/33)
كما تعرض ابن عرفة لبعض القضايا العلمية الطبيعية فاستدل ابن عرفة على كروية الأرض بقوله تعالى { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } (1)، وبقوله تعالى : { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } (2) ، حيث بين أن تعدد المشرق والمغرب ، دليل على أن الأرض كروية لأن كل مغرب وضع لقوم وكل مشرق وضع لآخرين .(3)
ورد على من ينكر كروية الأرض واعتبارها بسيطة ، وهو مايستفاد من قوله تعالى { وهو الذي مد الأرض } (4) ، فأوضح أن مد الأرض هو بسطها وأنها نظرًا لاتساعها وكبرها تبدو بسيطة في حين أنها كروية ، وأتى برأي إقليدس . (5)
كما يؤكد على كروية الأرض في قوله تعالى { ولله مافي السموات وما في الأرض } (6) . ويذهب إلى أن السماء كروية أيضًا (7)وهو مذهب المتأخرين واحتج بقوله تعالى { رفع السموات بغير عمد } (8) إذ قال : مذهب الجمهور أنها
مرفوعة بغير عمد والضمير عائد على السموات والصحيح عندهم أنها كروية .
وفي قوله { الصراط المستقيم } (9)قال : وصفه على هذا بالمستقيم لأن طريق الخير قسمان قريبة وبعيدة . فالمستقيم نص إقليدس على أنه أقرب خطين بين نقطتين فالخط المستقيم أقرب من المعوج فلذلك وصفه على هذا بالمستقيم .(10)
وحول مغرب الشمس أشار إلى أن الشمس أكبر من الأرض وأن غروبها لايقع في الحقيقة في العين الحمئة الواردة في قوله تعالى { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } (11) ، لأن الجرم الكبير لايغرب في الصغير فالمراد أن ذلك هو المحل الذي رآها منه حتى غربت ولا تغرب كل يوم فيه فإن لها مغارب ومشارق ، مع أنها تغرب على قوم وتطلع على آخرين .
__________
(1) البقرة 115 .
(2) المعارج 40 .
(3) ق29
(4) الرعد :3 .
(5) ق174
(6) البقرة :283 .
(7) ق68
(8) الرعد :2 .
(9) الفاتحة :6
(10) تفسير ابن عرفة 1/102
(11) الكهف : 86 .(8/34)
أما المواعظ والآداب فلم يكن لها في تفسير ابن عرفة حظ كبير بل تتضمنها بعض النقول التفسيرية التي نقلها المفسر وبعض تعليقاته .(8/35)
تفسير الثعالبي
من خلال كتابه الجواهر الحسان
***
مؤلف هذا التفسير هو عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجزائري ت875هـ وهو من أهل المنطقة ولد بوادي يسر بالجزائر وتوفي بعاصمتها(1) .
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى "الجواهر الحسان في تفسير القرآن" طبع أكثر من مرة فهو مطبوع في الجزائر سنة1327 طبعة قديمة في المطبعة الثعالبية دون عناية أو تحقيق ، وله معجم مختصر في شرح غريب بعض ألفاظ القرآن طبع بآخر التفسير .
وله طبعة أخرى قديمة بعناية محمد بن المصطفى ابن الخوجة بالجزائر سنة 1905م
وله طبعتان حديثتان الأولى بتحقيق عمار الطالبي – المؤسسة الوطنية للكتاب
والثانية بتحقيق محمد الفاضلي – المكتبة العصرية – بيروت سنة 1417هـ
ونظرا لكون هذا التفسير أو تفسير مطبوع أتعرض له في الدراسة فسوف أختصر فيه المقال عن سابقيه لسهولة الوصول إليه ، وأستعيض عن نقل النصوص الطويلة منه بالإشارة لأرقام الصفحات ، وهكذا سيكون المنهج مع غيره ممن هو مثله إن شاء الله تعالى .
وقد كتبت دراسة علمية بعنوان " عبد الرحمن الثعالبي ومنهجه في التفسير" كتبها عبدالحق عبد الدائم سيف القاضي وهي رسالة ماجستير مرقونة على الآلة الكاتبة بإشراف د. عبد الفتاح سلامة بالجامعة الإسلامية سنة 1405هـ .
وننقل هنا خلاصة ماتوصل له الباحث حول هذا التفسير ، قال :
جاء تفسير الثعالبي سديدا في منهجه وعذوبة مورده بعيدا عن الحشو والتطويل وفضول الكلام .
ويعد مرجعا مهما في بابه لأنه يعتبر عصارة تفسير ابن عطية الذي يعتبره ابن خلدون عصارة التفاسير المتقدمة عليه .
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 82(9/1)
فقام إلى تفسير ابن عطية ونحى منه وفرة وفيرة من الأقوال المتشعبة والاختلافات الكثيرة والروايات المتعددة واختار منها ماهو أقرب إلى الروح القرآنية السمحة… وهو بهذا يطمع أن ينتفع بذلك جمهرة كبيرة من العامة والخاصة كما نوه بذلك في مقدمة تفسيره وكان حريصا أثناء اختصاره لتفسير ابن عطية على تنقية الآراء وعلى إبقاء الطابع العام كما هو دون تغيير أو تبديل حتى تبقى شخصية ابن عطية ماثلة واضحة جلية إلا أنه أحيانا كانت تجذبه العاطفة الدينية كلما سنحت له الفرصة فيطلق لقلمه العنان في سرد الأحاديث والأقوال المتعلقة بالترغيب والترهيب والتذكير بأمور الآخرة والتزهيد في الدنيا والتقليل من شأنها … الخ (1).
وقد خلص الباحث إلى ملاحظات من خلال مقارنة الثعالبي بابن عطية تتلخص فيما يلي :
تفوق الثعالبي على ابن عطية في مجال الحديث .
تعقب الثعالبي ابن عطية في مسائل قال بها ثم عدل عنها .
استدراك الثعالبي على ابن عطية فيما يتعلق بمنزلة الأنبياء وعصمتهم .
ترجيح الثعالبي لغير آراء ابن عطية في فهم بعض الآيات القرآنية .
مناقشة الثعالبي لابن عطية في بعض القضايا المختلفة .
مخالفة الثعالبي لابن عطية في بعض الألفاظ اللغوية والنحوية .
المنهج العام للتفسير :(2)
وتفسير الجواهر الحسان يعتير في الجملة تفسيرا أثريا ذا نزعة صوفية وعظية يهتم بالقضايا الاجتماعية .
__________
(1) المقدمة (ز،ح)
(2) انظر الرسالة السابق ذكرها " الثعالبي ومنهجه في التفسير" ، وقد تكلم أيضا عن منهج الثعالبي الدكتور عمار الطالبي في مقدمة تحقيق التفسير (1/ط -ت) ، وكذا محمد الفاضلي 1/7-8 ، وتكلم عنه أيضا الفاضل ابن عاشور في التفسير ورجاله ص7-8(9/2)
كما يهتم بالمقارنة بين مختلف التفاسير ، وترجيح بعضها على الآخر ، وذلك في مواضع كثيرة من تفسيره كقوله مثلاً : "وأرجح الأقوال عندي قول هذه الطائفة وفي الحديث الصحيح …" وذلك باعتماده على حديث صحيح ، وكقوله : "وهي مع ذلك عند التأمل يلوح منها تأويل قتادة المتقدم فتأمله" ، وكقوله : "وهذا التأويل عندي أبين إذا لخص وإن كان قد استبعده ابن عطية" ، ويرجح أحيانًا تفسير الطبري فيقول : "وما قال الطبري عندي أبين" ويقول : "وهذا هو الراجح الذي تدل عليه الأحاديث وظواهر الآيات" ، " وأظهرها عندي قول أبي جعفر" .
ويرجح أحيانًا عند مقارنته تفسير أهل بلده مثل ترجيحه تفسير عبد الحق الخراطي أو البجائي فيقول : " وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى وهو تأويل صاحب العاقبة" ويميل أحيانا أخرى إلى تأويل الحديث ليخلص إلى رأى اجتهادي له كرأيه في عدم القيام للقادم لتحيته يقول : "وفي الاحتجاج بقضية سعد نظر لأنها احتفت بها قرائن سوغت ذلك ، والسلامة عندي ..." ، ويرجح أحيانا كثيرة تفسير البخاري كقوله مثلا : " والأول أبين وهو تفسير البخاري " .
ولم يخل منهجه من عنصر النقد ، فكما نقد كثيرا من الآثار والروايات سندا ومتنا نقد أيضا في مواضع متعددة جماعة من المفسرين وعلى رأسهم ابن عطية الذي اختاره المصنف ليكون أساس تفسيره فيصرح أحيانا ببعد تفسير أو لفظة عن السياق فيقول مثلا : "وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى" .
ويكشف أحيانا عما يسميه قلقا في التوجيه أو في التعبير ويبين أحيانا أخرى أن ابن عطية خصص بدل أن يعمم بدون دليل مثل قوله في تفسير قوله تعالى: { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } (1) " والصواب عندي أن يقال : أما ثقله باعتبار سائر الامة فهو ماذكر من ثقل المعاني" .
__________
(1) المزمل : 5(9/3)
كما ينبه في مواضع أخرى على تناقض ابن عطية فيقول مثلا : وماضعفه رحمه الله صححه في سورة البقرة ويقول : " وفي نظره رحمه الله نظر يمنعني من البحث معه ماأنا له قاصد من الإيجاز والاختصار دون البسط والانتشار " .
ونجده أحيانا أخرى ينبه إلى أخطاء وقع فيها ابن عطية فيقول : "وماذكره رحمه الله تعالى من البطلان لا يصح " ويشير في مواضع أخرى إلى أنه ترك عبارات من تفسير ابن عطية كلمات الواجب طرحها ولهذا أعرض عنها . أو أنه لم يتبع الأحسن في تفسير لفظة أو آية يقول : "فسر رحمه الله تعالى لفظ { خاوية } (1) في سورة الحج والنمل بخالية والأحسن أن تفسر هنا وفي الحج بساقطة وأما التي في النمل فيتجه أن تفسر بخالية وبساقطة" . كما خطأ ابن عطية في ادعائه الإجماع على معنى آية فقال: "وليس هذا الإجماع بصحيح" . ويصلح له بعض العبارات مثال ذلك قوله : "وصوابه أن يقول : عن بعض المقدورات لا عن كلها وهذا هو مراده ألا تراه قال في قوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه } (2) قال : يعني بشيء من معلوماته لأن علمه تعالى لا يتجزأ فافهم راشدا . "
ولكن الإنصاف جعل الثعالبي يدافع عن ابن عطية إذا انتقده من لم يكن محقا في نقده كالصفاقسي ، وأكثر من ذلك فإنه انتصر له في عدم موافقته الطبري في بعض مايذهب إليه .
والتزم في طريقته تجنب التكرار والإعادة فيقول مثلا : "فأغنانا عن إعادته وهذه هي عادتنا في هذا المختصر ."(3)
وبدأ الثعالبي بمقدمة لتفسيره جاء فيها :
__________
(1) الحج:45 ، النمل :52
(2) البقرة : 255
(3) انظر لما تقدم : مقدمة الجواهر الحسان للطالبي (1/ل – س)(9/4)
وماانفردت بنقله عن الطبري فمن اختصار الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد اللخمي النحوي لتفسير الطبري نقلت لأنه اعتنى بتهذيبه ...، وكل مافي آخره انتهى ، فليس هو من كلام ابن عطية ، بل ذلك مما انفردت بنقله عن غيره ومن أشكل عليه لفظ في هذا المختصر فليراجع الأمهات المنقول منها ، فليصلحه منها ولا يصلحه برأيه وبديهة عقله فيقع في الزلل من حيث لا يشعر ، وجعلت علامة "التاء" لنفسي بدلا من "قلت" ومن شاء كتبها "قلت" ، وأما "العين" فلابن عطية ومانقلته من الإعراب عن غير ابن عطية فمن الصفاقسي مختصر أبي حيان غالبا وجعلت "الصاد" علامة عليه ، وربما نقلت عن غيره معزوا لمن عنه نقلت وكل مانقلته عن أبي حيان فإنما نقلي له بواسطة الصفاقسي غالبا .
قال الصفاقسي : وجعلت علامة مازدته على أبي حيان وما يتفق لي إن أمكن فعلامته : قلت ، وبالجملة فحيث أطلق فالكلام لأبي حيان .
قال : ومانقلته من الأحاديث الصحاح والحسان عن غير البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي في باب الأذكار والدعوات فأكثره من النووي وسلاح المؤمن ، وفي الترغيب والترهيب وأحوال الآخرة فمعظمه من التذكرة للقرطبي والعاقبة لعبد الحق وربما زدت زيادات كثيرة من مصابيح البغوي وغيره كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى كل ذلك معزو لمحاله وبالجملة فكتابي هذا محشو بنفائس الحكم وجواهر السنن الصحيحة والحسان المأثورة عن سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - .
وبعد المقدمة جعل بابا في فضل القرآن ، ثم بابا في فضل تفسير القرآن وإعرابه ، ثم فصلا في الجرأة على التفسير ومراتب المفسرين ، ثم فصلا في المعرب من القرآن ، ثم بابا في أسماء القرآن ومعنى السورة والآية ، ثم شرع في تفسير البسملة ، ثم قال : تفسير الفاتحة بحول الله وقوته .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : يهتم المصنف بذكر المكي والمدني وأسماء السورة ومن ذلك قوله في فاتحة الكتاب(1) :
__________
(1) الجواهر 1/35(9/5)
قال ابن عباس وغيره : إنها مكية ويؤيد هذا أن في سورة الحجر { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } (1) والحجر مكية بإجماع وفي حديث أبي بن كعب أنها “السبع المثاني”(2) . ولاخلاف أن فرض الصلاة كان بمكة وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين وروي عن عطاء بن يسار وغيره أنها مدنية . وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها : فاتحة الكتاب . واختلف هل يقال لها : أم الكتاب ؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن وأجازه ابن عباس وغيره .
وقوله في سورة البقرة(3) :
هذه السورة مدنية نزلت في مدد شتى وفيها آخر آية نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وهي { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لا يظلمون } (4)
وهو يتعرض لعد الآي ومن ذلك قوله : وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية ، وقيل : وست وثمانون ، وقيل : وسبع وثمانون . (5)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
وأما من الناحية الكلامية فمنهجه منهج الأشعري يأول آيات العقائد تأويل الأشعرية ويوجهها توجيههم ، ولنأخذ مثالا على ذلك قال في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } (6)والمعتقد في هذا أنه سبحانه مستو على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته كان الله ولا شيء معه ، كان سبحانه قبل أن يخلق المكان والزمان وهو الآن على ماعليه كان .(7)
__________
(1) الحجر : 87
(2) أخرجه مالك في الموطأ 1/80 والحاكم في المستدرك – كتاب فضائل القرآن 1/557 وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت الذهبي .
(3) الجواهر1/48
(4) البقرة : 281 .
(5) الجواهر1/44.
(6) الرعد:2
(7) الجواهر 2/263(9/6)
وقوله : { العلي } (1): يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز (2)
وله ردود على المعتزلة وغيرهم وقد هاجم الزمخشري الذي ذهب إلى أن "لن" لتأبيد النفي لينفي رؤية الله سبحانه في قوله { لن تراني } (3) وهنا نرى أن الثعالبي ينقد تفسير الزمخشري(4) كما أنه لا يحبذ مطالعته متأثرا في ذلك ببعض شيوخه الأشاعرة الذين يرغبون عنه لاعتزاله(5) .
وفي قوله { ليس عليك هداهم } (6)قال : ثم أخبر سبحانه أنه يهدي من يشاء ، وفي الآية رد على القدرية ، وطوائف المعتزلة ، ثم بين تعالى أن النفقة المقبولة ماكان ابتغاء وجه الله ، وفي الآية تأويل وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون ابتغاء وجه الله سبحانه فهو خبر عنهم لهم فيه تفضيل .
وقال في قوله تعالى { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ماكسبت } (7)
ويومًا نصب على المفعول ، لاعلى الظرف ، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه : هو يوم القيامة والحساب والتوفية ، وقال قوم : هو يوم الموت ، والأول أصح ، وهو يوم تنفطر لذكره القلوب ، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان ، وهذا رد على الجبرية .
الجانب الصوفي في منهجه :
__________
(1) البقرة :255
(2) الجواهر1/244.
(3) الأعراف :143 وانظر الجواهر 2/52
(4) انظر أيضا الجواهر 4/226
(5) انظر : معجم الجواهر ص177
(6) البقرة: 272
(7) البقرة : 281 .(9/7)
وإذا كان منهج الثعالبي منهجا تحقيقيا في أساسه وطابعه العام فإنه لم يخل من جانب صوفي واضح إذ كان هو نفسه صوفيا سنيا لا يذهب مذهب الحلول والغوص في مذهب وحدة الوجود(1) ، وهو ينقل في تفسيره نصوصا عن القشيري والمحاسبي من رعايته ومن مختصرها للعز بن عبد السلام ومن كتاب سنن الصالحين لأبي الوليد الباجي ومن التنوير لابن عطاء الله السكندري وعن صاحب التشوف المغربي وعن أبي القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجائي الصوفي وعن أبي مدين البجائي التلسماني وعن أبي الحسن الشاذلي وغيرهم .(2)
ومفهوم الولي عنده مفهوم قرآني قال في تفسير قوله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } (3): وأولياء الله هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى الله فهو داخل في أولياء الله وهذا هو الذي تقتضي الشريعة في الولي .(4)
وقد انتقد ظاهرة التصنع والرياء لدى بعض المتصوفة المرائين المتصنعين فقال عند تفسير قوله تعالى { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين } (5):
__________
(1) انظر مايأتي في المبحث الثاني من هذا الفصل في تفاسير الصوفية المدروسة هناك .
(2) انظر مقدمة الطالبي (1/ع)
(3) يونس : 62 .
(4) الجواهر 2/183
(5) الزمر : 22(9/8)
وهذا كله تغليظ على المرائين والمتصنعين ولا خلاف أعلمه بين أرباب القلوب وأئمة التصوف أن المتصنع عندهم بهذه الأمور ممقوت وأما من غلبه الحال لضعفه وقوي الوارد عليه حتى أذهبه عن حسه فهو إن شاء الله من السادة الأخيار يطول تعدادهم كابن وهب ، وأحمد بن معتب المالكيين ذكرهما عياض في مداركه وأنهما ماتا من ذلك ، وكذلك مالك بن دينار مات من ذلك ذكره عبد الحق في العاقبة ومن كلام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله في قواعده الصغرى قال : وقد يصيح بعضهم لغلبة الحال عليه ، وإلجائها إياه إلى الصياح ، وهو في هذا معذور ، ومن صاح لغير ذلك فمتصنع ليس من القوم في شيء ، وكذلك من أظهر شيئا من الأحوال رياء أو تسميعا فإنه ملحق بالفجار دون الأبرار .(1)
ونعلق على ماذكره هنا بأن أولى الناس بالخشوع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صحابته الكرام وعلماء الأمة الصدور من التابعين ومن بعدهم كالأئمة الأربعة ومن في منزلتهم ولم يصدر ذلك عن أحد منهم مما يدلل على كون ذلك مدخلا من مداخل الشيطان وتلبيسا من تلبيساته كما أفاض في ذكر جمل من ذلك ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وأفرده الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل في رسالة مستقلة .
ومن صوفياته قوله تحت قوله تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } (2) وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء ليتوضأ لصلاة الليل وعنده ضيف فرآه لما أدخل إصبعه في أذن القدح أقام كذلك مفكرًا حتى طلع الفجر ، فقال له : ماهذا ياأبا سليمان ؟ فقال : إني لما طرحت إصبعي في أذن القدح تذكرت قول الله سبحانه { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم } (3)فتفكرت في حالي ، وكيف أتلقى الغل إن طرح في عنقي يوم القيامة ، فما زلت في ذلك حتى أصبحت .
__________
(1) الجواهر4/55
(2) آل عمران : 191 ، الجواهر 1/404-405.
(3) غافر : 71(9/9)
ونقل عن ابن عطية قوله : وحدثني أبي رضي الله عنه عن بعض علماء المشرق قال: كنت بائتًا في مسجد الأقدام بمصر فصليت العتمة فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له حتى أصبح ، وصلينا نحن تلك الليلة وسهرنا ، فلما أقيمت صلاة الصبح قام ذلك الرجل ، فاستقبل القبلة فصلى مع الناس فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء ، فلما فرغت الصلاة خرج فتبعته لأعظه فلما دنوت منه سمعته وهو ينشد:
منسحق الجسم غائب حاضر منتبه القلب صامت ذاكر
منقبض في الغيوب منبسط كذاك من كان عارفًا ذاكرا
يبيت في ليله أخا فكر فهو مدى الليل نائم ساهر
قال : فعلمت أنه ممن يعبد بالفكرة ، فانصرفت عنه .(1)
وهذا أيضا الذي ذكره لا محل له من أهل الصدر الأول وهم أخشى الناس وأتقاهم، وقد حرم المسكين من قيام الليل ومناجاة الخالق سبحانه وتعالى والاقتراب منه في السجود ، والتفكر في آيات الله وهو بين يدي الله ، ليس وهو نائم أو سارح ! غفر الله لنا تقصيرنا .
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
من الأمثلة على انتهاجه منهج تفسير القرآن بالقرآن في بعض المواضع ماذكره في قوله تعالى { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } (2)قال : (3)
أي نؤت من شئنا منها ماقدر له يبين ذلك قوله تعالى { من كان يريد العاجلة... } (4)
__________
(1) انظر المحرر الوجيز1/555 وقد عدلت بعض الألفاظ منه .
(2) آل عمران : 145 .
(3) الجواهر1/317 .
(4) الإسراء : 18 .(9/10)
ومن تفسير القرآن بالقرآن قوله { المغضوب عليهم } (1)اليهود و { الضالون } النصارى … وذلك بين من كتاب الله لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله { وباءوا بغضب من الله } (2) { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } (3)… والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما ورد ضلوا ، وأما غير متحققيهم فضلالتهم متقررة منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام وقد قال الله تعالى فيهم { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } (4) (5)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
ذكرنا فيما سبق منهجه في ذلك في كلامه الذي ختمه بقوله :
وبالجملة فكتابي هذا محشو بنفائس الحكم وجواهر السنن الصحيحة والحسان المأثورة عن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .(6)
وهو يقول أيضا : "وليس لأحد مع الحديث إذا صح نظر" .(7)
ويمكن القول بأن منهج الثعالبي في تفسيره يقوم على تحقيق النصوص ونقدها حيث يقول : " وقد تحرينا في هذا المختصر التحقيق فيما علقناه جهد الاستطاعة " .
__________
(1) الفاتحة:7
(2) آل عمران:112
(3) المائدة :60
(4) المائدة:77
(5) الجواهر 1/40
(6) الجواهر1/4.
(7) الجواهر 4/17 وانظر أيضا 4/383(9/11)
كما اعتنى فيه اعتناء عظيما بالسنة النبوية باعتبارها بيانا للقرآن وأساسا هاما لمنهج التفسير بالمأثور الذي اختاره لنفسه فالتزم تخريج الأحاديث التي يوردها أو يوردها غيره من المفسرين فينقد سندها أحيانا ومتنها أحيانا أخرى مثال نقده للمتن نقده للحديث الذي ذكره تحت قوله تعالى { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } (1)وأخرجه الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في شأن المرأة التي كانت تصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الثعالبي فيه : "والحديث المتقدم إن صح فلا بد من تأويل فإن الصحابة ينزهون عن فعل ما ذكر فيؤول بأن ذلك صدر من بعض المنافقين أو بعض الأعراب الذين قرب عهدهم بالإسلام ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وأما ابن عباس فإنه كان يومئذ صغيرًا بلا شك ، هذا إذا كانت الآية مدنيه، فإن كانت مكية فهو يومئذ في سن الطفولية وبالجملة فالظاهر ضعف هذا الحديث من وجوه"(2)
__________
(1) الحجر:24
(2) الجواهر 2/293 وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده رقم 2784 وصححه محققه أحمد شاكر وأخرجه أيضا الترمذي – كتاب التفسير – باب ومن سورة الحجر 5/296 والحاكم 2/353 وابن حبان (موارد الظمآن 1749) وصححه ابن حبان والحاكم وصححه أيضا الألباني (صحيح ابن ماجه 858) وعلقه الترمذي مرسلا وقال : وهذا أشبه أن يكون أصح ووصفه ابن كثير بأنه غريب جدا وقال : فيه نكارة شديدة وقال : فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء ليس فيه لابن عباس ذكر (التفسير 4/450) وروى ابن جرير 14/26 عن محمد بن كعب القرظي إنكار انها في صفوف الصلاة وبين أن المراد بالمستقدمين من مات وقتل والمستأخرين من لم يخلق بعد وهو التفسير المروي نحوه عن ابن عباس نفسه وعن جمهور السلف ومنهم تلاميذ ابن عباس كمجاهد وعكرمة وغيرهما وهو اختيار ابن جرير . والذي يؤكد عدم صحة هذا التفسير أن سورة الحجر مكية وشهود النساء الصلاة في جماعة إنما كان في المدينة ، ثم السياق لايساعد هذا التفسير فهو يتكلم عن الإحياء والإماتة ثم الحشر فلادخل هنا لصلاة جماعة ولانساء . ثم إن عمرو بن مالك النكري الراوي للحديث عن أبي الجوزاء له أوهام وأبو الجوزاء : قال البخاري : في إسناده نظر ويختلفون فيه ا.هـ وبإسناد عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس غرائب أخرى والله أعلم . وانظر مرويات الإمام أحمد في التفسير 3/4(9/12)
.
وكذلك نقده لما أورده النقاش ، قال الثعالبي : "وأما ما ذكره من الحبل [يعني حبل المرأة من الجن] فلا شك في ضعفه ، وفساد قول قائله ، ولم أر في ذلك حديثًا لا صحيحًا ولا سقيمًا ولو أمكن أن يكون الحبل من الجن - كما زعم ناقله - لكان ذلك شبهة يدرأ بها الحد عمن ظهر بها حبل من النساء اللواتي لا أزواج لهن ، لاحتمال أن يكون حبلها من الجن كما زعم هذا القائل ، وهو باطل" . (1)
وكتعليقه على حديث آخر في تفسير قوله تعالى : { كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه } (2) ، قال : "وهذا لين الإسناد والمتن كما ترى".(3)
ومن مواضع استدلاله بالحديث الصحيح :
قوله تعالى { وإن كان ذو عسرة ….. } (4)
قال : وفي الصحيحين(5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرًا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا قال : فلقي الله فتجاوز عنه” وفي صحيح مسلم(6) : “من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر ، أو يضع عنه ” وفي رواية “من أنظر معسرًا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة ” وفي رواية “من أنظر معسرًا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة ” وفي رواية “من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله”.
وهو في الواقع كما أنه يكثر من الأحاديث الصحيحة ففي نفس الوقت يكثر من الأحاديث الضعيفة ومن ذلك قوله :
__________
(1) الجواهر 2/293
(2) الفتح : 39.
(3) الجواهر 4/135
(4) البقرة 280 ، الجواهر1/273 .
(5) البخاري – كتاب البيوع - باب من أنظر معسرا 4/308، مسلم – كتاب المساقاة – باب فضل إنظار المعسر 3/1196 عن أبي هريرة .
(6) كتاب المساقاة – باب فضل إنظار المعسر 3/1196 عن أبي قتادة .(9/13)
وقد روى ابن المبارك في (رقائقه) قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد أن رجلا قال : يارسول الله كيف لي أن أعلم كيف أنا ؟ قال : “إذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة وابتغيته يسر لك ، وإذا أردت شيئا من الدنيا وابتغيته عسر عليك ، فأنت على حال حسنة ، وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة وابتغيته عسر عليك ، وإذا أردت شيئا من أمر الدنيا وابتغيته يسر لك ، فأنت على حال قبيحة” . انتهى فتأمله راشدا . (1) (2)
ومن ذلك أيضا قوله(3) :
خرج الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين عن معقل بن يسار- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “ اعملوا بالقرآن ، أحلوا حلاله وحرموا حرامه ، واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما أوتي النبيون من ربهم
وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ….الخ ”(4)
وهو يهتم بذكر أسباب النزول :
ومن ذلك قوله { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } (5)
__________
(1) الجواهر1/382-383 وانظر 1/140.
(2) هذا مرسل ضعيف لإرساله وللكلام المشهور في ابن لهيعة . وقال الألباني: ضعيف (ضعيف الجامع رقم 601)
(3) الجواهر 1/43
(4) المستدرك – كتاب فضائل القرآن 2/568 وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . فتعقبه الذهبي بقوله : قلت : عبيد الله قال أحمد : تركوا حديثه.ا.هـ وضعفه ابن قدامة في رسالة لطيفة في أحاديث متفرقة ضعيفة 1/82
(5) البقرة : 274 .(9/14)
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية .(1)
وفي قوله { قل ادعو الله أو ادعو الرحمن } (2)
قال : سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو “ياالله يارحمن” فقالوا : كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين . قاله ابن عباس ؛ فنزلت الآية مبينة أنها أسماء لشيء واحد .(3)
وقال :
وفي صحيح البخاري(4) بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } (5)قال : نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختف بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت به عن أصحابك فلا تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلا . (6)
وفي قوله { يحلفون بالله ماقالوا } (7)
__________
(1) الجواهر 1/268 والحديث أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/118 وفي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر ذكره ابن حبان في المجروحين 2/146 وقال : استحق الترك . وأخرجه أيضا الطبراني وغيره قال السيوطي : بسند ضعيف (انظر لباب النقول 1/66)
(2) الإسراء :110
(3) الجواهر 2/504 والحديث أخرجه ابن مردويه وغيره (انظر لباب النقول 2/16)
(4) كتاب التفسير – باب { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } 8/404
(5) الإسراء :110
(6) الجواهر2/504
(7) التوبة: 74(9/15)
قال : نزلت في الجلاس بن سويد وقوله : لئن كان مايقول محمد حقا لنحن شر من الحمر فسمعها منه ربيبه أو رجل آخر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء الجلاس فحلف بالله ماقال هذه الكلمة فنزلت الآية .(1)
…… وقال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي سلول وقوله في غزوة المريسيع مامثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ولئن رجعنا إلا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقفه فخلف أنه لم يقل ذلك فنزلت الآية مكذبة له . (2)
وهو يتعرض لذكر فضائل السور والآيات :
فذكر أحاديث فضل الفاتحة فقال : مثل حديث أبي سعيد بن المعلى إذ قال له - صلى الله عليه وسلم - : “ ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ؟ الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته”(3) انتهى من سلاح المؤمن تأليف الشيخ المحدث أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن همام رحمه الله .وقال أيضا : ويقال لسورة البقرة فسطاط القرآن وذلك لعظمها وبهائها وماتضمنت من الأحكام والمواعظ وفيها خمسمائة حكم ، وخمسة عشر مثلا وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : “ أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول ، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش ”(4)
__________
(1) الجواهر 2/188، أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس (انظر لباب النقول 1/202 ) وأخرج ابن جرير 10/185 عن عروة بن الزبير وابن إسحق ومجاهد نحوه . ولم يذكره صاحب الصحيح المسند من أسباب النزول .
(2) الجواهر2/189 وأخرجه ابن جرير10/186 وهو ضعيف لإرساله .
(3) أخرجه البخاري – كتاب فضائل القرآن – باب ماجاء في فاتحة الكتاب 8/156 .
(4) أخرجه ابن نصر في الصلاة (المختصر ص72) والحاكم 1/559 والطبراني 20/225 وغيرهم عن معقل بن يسار وفي إسناده عبيد الله بن أبي حميد قال الحافظ : متروك الحديث (التقريب 4285)(9/16)
كما ذكر أحاديث في الفضائل صحيحة ومعزوة لمخرجيها في آية الكرسي(1) وغيرها.(2)
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
وهو يقدم تفسير الصحابة فيقول في إحدى ترجيحاته مبررًا : " …ولأنه تفسير صحابي وهو مقدم على غيره" .(3)
ومن مواضع اهتمامه بتفسير السلف قوله :
قال ابن عباس : { كرسيه } (4)علمه . ..ومنه الكراسة .
قوله : { وتثبيتا من أنفسهم } (5) ، قال قتادة وغيره : وتثبيتا معناه : وتيقنا ، أي أن نفوسهم لها بصائر متأكدة فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتًا ، وقال مجاهد والحسن : معنى قوله وتثبيتا : أي أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم ، قال الحسن : الرجل إذا هم تثبت فإن كان ذلك لله أمضاه ، وإن خالطه شيء أمسك.(6)
قوله { فطل } (7): المستدق من القطر ، قاله ابن عباس وغيره . (8)
وفي قوله : { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } (9)، قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوع ، تفضل علانيتها ، يقال : بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها ، يقال بخمسة وعشرين ضعفًا ، قال : وكذلك جميع
الفرائض والنوافل في الأشياء كلها .(10)
وفي قوله { تعرفهم بسيماهم } (11) قال : السيما مقصورة العلامة واختلف المفسرون في تعيينها ، فقال مجاهد : هي التخشع والتواضع ، وقال الربيع والسدي : هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة وقال ابن زيد : هي رثة الثياب، وقال قوم وحكاه مكي : هي أثر السجود .(12)
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
قال تحت قوله : { ربنا وابعث فيهم رسولا } (13):
__________
(1) الجواهر 1/244
(2) الجواهر1/44.
(3) الجواهر 2/293
(4) البقرة : 255 .
(5) البقرة : 265 .
(6) الجواهر1/258 .
(7) البقرة : 265 .
(8) الجواهر1/259.
(9) البقرة : 271 .
(10) الجواهر 1/263
(11) البقرة : 273 ،الجواهر 1/267
(12) الجواهر 1/267
(13) البقرة : 129 .(9/17)
وقد تواترت أخبار نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبعثته في الكتب السالفة ، وعلم بذلك الأحبار ، وأخبروا به ، وبتعيين الزمن الذي يبعث فيه ، وقد روى البيهقي أحمد بن الحسين وغيره : عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - ، قال : حضرت سوق بصري ، فإذا راهب في صومعة ، يقول : سلوا أهل هذا الموسم ، أفيهم من هو من هذا الحرم ؟ قال : قلت أنا فما تشاء ؟ قال : هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت : ومن أحمد ؟ قال : أحمد بن عبدالله بن عبد المطلب ، هذا شهره الذي يخرج فيه ، وهو خاتم الأنبياء ، مخرجه من الحرم ، ومهاجره إلى نخل وسباخ ، إذا كان فلا تسبقن إليه ، فوقع في قلبي ماقال ، وأسرعت اللحاق بمكة فسألت هل ظهر بعدي أمر ؟ فقالوا : محمد الأمي قد تنبأ ، واتبعه أبو بكر ابن أبي قحافة ، فمشيت إلى أبي بكر ، وأدخلني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت . (1)
__________
(1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 2/166 من طريق محمد بن عمر الواقدي بسنده إلى طلحة بن عبيد الله به . والواقدي قال فيه الحافظ : متروك مع سعة علمه (التقريب 6175) وقد اتهمه جماعة بالكذب كما هو مشهور .(9/18)
قال : وقد روى العذري وغيره عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال : لقيت شيخًا باليمن ، فقال لي : أنت حرمي ؟ فقلت : نعم ، فقال : وأحسبك قرشيًا ؟ قلت : نعم . قال : بقيت لي فيك واحدة ، اكشف لي عن بطنك ! قلت : لاأفعل ، أو تخبرني لم ذلك ؟ قال : أجد في العلم الصحيح أن نبيًا يبعث في الحرمين يقارنه على أمره فتى، وكهلا ، أما الفتى فخواض غمرات ، ودفاع معضلات ، وأما الكهل فأبيض نحيف، على بطنه شامة ، وعلى فخده اليسرى علامة ، وما عليك أن تريني ماسألتك عنه فقد تكاملت فيك الصفة إلا ماخفي علي . قال أبو بكر : فكشفت له عن بطني ، فرأى شامة سوداء فوق سرتي ، فقال : أنت هو ورب الكعبة ... وخف الله فيما خولك وأعطاك ، قال أبو بكر : فلما ودعته قال : أتحمل عني إلى ذلك النبي أبياتا ؟ قلت : نعم ، فأنشأ الشيخ يقول :
ألم تر أني قد سئمت معاشري ونفسي قد أصبحت في الحي هاهنا
حييت وفي أيام المرء عبرة ثلاث مئين بعد تسعين آمنا
وقد خمدت مني شرارة قوتي وألفيت شيخا لا أطيق الشواحنا
وأنت ورب البيت تأتي محمدا لعامك هذا قد أقام البراهنا
فحيي رسول الله عني فإنني على دينه أحيا وإن كنت قاطنا(9/19)
قال أبو بكر : فحفظت شعره ، وقدمت مكة ، وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءني صناديد قريش وقالوا : ياأبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي ، قال : فجئت إلى منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأت عليه فخرج إلي ، فقلت : يامحمد فقدت من منازل قومك ، وتركت دين آبائك ، فقال : “ياأبا بكر إني رسول الله إليك ، وإلى الناس كلهم ، فآمن بالله ” فقلت : وما دليلك ؟ “قال الشيخ الراهب الذي لقيته باليمن” ، قلت : وكم من شيخ لقيت ؟ قال : “ليس ذلك أريد ، إنما أريد الشيخ الذي أفادك الأبيات ” قلت : ومن أخبرك بها ؟ قال : “الروح الأمين الذي كان يأتي الأنبياء قبلي ” قلت : مد يمينك أشهد أن لاإله إلا الله وأنك رسول الله ، قال أبو بكر : فانصرفت وما بين لابتيها أشد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحا بإسلامي . انتهى من تأليف ابن القطان في الآيات والمعجزات . (1)
وفي ذكر هذين الموضعبن دليل على إهمال المصنف منهج التحقيق تماما في جانب السيرة فكلا الخبرين موضوع وهل كان بمكة لابتان ؟؟ فما أسخف الوضاعين ! وهل أسلم أبو بكر بعد أن فشا خبره - صلى الله عليه وسلم - في مكة ؟ وهو أول من أسلم من الرجال فيما ثبتت به الأخبار الصحيحة المستفيضة .
كما ذكر طرفا من قصة غزوة بدر تحت قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } (2)
فقال : في هذه الآية قصص حسن محل استيعابه كتاب سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن هشام واختصاره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه ...الخ (3)
وكذا ذكر بعضا من مشاهد السيرة تحت قوله { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم } (4) (5)
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
__________
(1) الجواهر1/383 – 384 .
(2) الأنفال :7
(3) الجواهر 2/111
(4) التوبة :25
(5) الجواهر 2/163(9/20)
وقد نقد المصنف الإسرائيليات في عدة مواضع من تفسيره منها تعليقه على التفسير قوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان } (1) . قال : "قد أكثروا في قصص هذه الآية بما لا يوقف على صحته" (2)وتبنى نقد أبي بكر بن العربي في أحكامه ونقل نصه : "وقد قال ابن العربي في توهين هذا القول وتزييفه : وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره ، وفي الإسرائيليات التي ليس لها أساس ثابت ، ولا يعول عليها من له قلب" .(3)
إلا أن ذلك لا يعني أنه أهمل الإسرائيليات تماما بل إنه ذكر جملة منها ومن ذلك :
في قوله تعالى { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } (4)
__________
(1) ص: 34
(2) الجواهر 4/39
(3) الجواهر 2/73
(4) البقرة : 258 .(9/21)
قال : { ألم تر } (1)تنبيه وهي رؤية القلب ، والذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن كنعان ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة ، قاله مجاهد وغيره . قال قتادة : هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل قيل : إنه ملك الدنيا بأجمعها ، وهو أحد الكافرين ، والآخر بختنصر ، وقيل : إن النمروذ الذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن فالخ ، وفي قصص هذه المحاجة روايتان إحداهما : ذكر زيد بن أسلم أن النمروذ قعد يأمر للناس بالميرة ، فلما جاء قوم قال : من ربكم وإلهكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ، وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار ، فقال له : من ربك وإلهك ؟ قال إبراهيم : { ربي الذي يحيي ويميت } (2) فلما سمعها نمروذ قال : { أنا أحيي وأميت } فعارضه إبراهيم بأمر الشمس { فبهت الذي كفر } وقال : لاتميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء ، فمر على كثيف رمل كالدقيق ، فقال: لو ملأت غرارتي من هذا ، فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما ، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان ، وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ، ونام هو من الإعياء ، فقالت امرأته : لو صنعت له طعامًا يجده حاضرًا إذا انتبه ، ففتحت إحدى الغرارتين، فوجدت أحسن مايكون من الحواري ، فخبزته ، فلما قام وضعته بين يديه ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الدقيق الذي سقت ، فعلم إبراهيم أن الله يسر لهم ذلك .(3)
وقوله { أو كالذي مر على قرية } (4) :
__________
(1) البقرة : 258 .
(2) البقرة : 258.
(3) الجواهر 1/246-247
(4) البقرة : 259 .(9/22)
عطفت (أو) في هذه الآية على المعنى الذي هو التعجب في قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } (1) قال ابن عباس وغيره : الذي مر على القرية هو عزير ، وقال وهب بن منبه وغيره : هو أرميا . قال ابن إسحاق : أرميا هو الخضر ، وحكاه النقاش عن وهب بن منبه ، واختلف في القرية ماهي ؟ فقيل : المؤتفكة ، وقال زيد بن أسلم : قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف . وقال وهب بن منبه وغيره : المقدس لما خربها بختنصر البابلي .(2)
ثامنا : موقفه من اللغة :
وهو يهتم ببيان المفردات وذلك مثل قوله :
{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } (3)
الدين في هذه الآية هو المعتقد والملة ومقتضى قول زيد بن أسلم . (4)
{ وهي خاوية على عروشها } (5):
قال : والعريش : سقف البيت ، قال السدي : يقول هي ساقطة على سقفها أي سقطت السقف ، ثم سقطت الحيطان عليها ، وقال غيره : معناه خاوية من الناس ، وخاوية معناه خالية ، يقال : خوت الدار تخوي خواء وخويا ، ويقال : خويت ، قال الطبري : والأول أفصح .
{ الربا } (6): قال : هو الزيادة ، مأخوذ من ربا يربوا إذا نما وزاد عل ماكان وغالبه ماكانت العرب تفعله من قولها للغريم : أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه . (7)
وهو يتعرض للإعراب والنحو :
ومن ذلك قوله :
{ من سيئاتكم } (8)للتبعيض المحض لا أنها زائدة كما زعم قوم . (9)
{ كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } (10)الخطاب عام و { ما } بمعنى : الذي ، و { حلالا } حال من الضمير العائد على { ما } و { طيبا } نعت ، ويصح أن يكون حالاً من الضمير في { كلوا } تقديره مستطيبين .
ومن النكات التفسيرية قوله :
__________
(1) البقرة :258
(2) الجواهر1/248 .
(3) البقرة : 256 .
(4) الجواهر1/245.
(5) البقرة : 259 .
(6) البقرة 275 .
(7) الجواهر1/269 .
(8) البقرة: 271 .
(9) الجواهر1/264 .
(10) البقرة: 168(9/23)
{ عرضها السموات والأرض } (1) : وخص العرض بالذكر لأنه يدل متى ما ذكر على الطول ، والطول إذا ذكر لايدل على قدر العرض ، بل قد يكون الطويل يسير العرض ، كالخيط ونحوه .
{ ليغيظ بهم الكفار } (2) : والغيظ أصل الغضب ، وكثيرًا مايتلازمان ، ولذلك فسر بعض الناس الغيظ بالغضب ، وليس تحرير الأمر كذلك ، بل الغيظ حال للنفس لا تظهر على الجوارح ، والغضب حال لها تظهر في الجوارح وفعلٍ ما ، ولابد ، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله سبحانه ، إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند إليه تعالى الغيظ .
وهو يقدم الحقيقة على المجاز في التفسير فيقول : " حمل اللفظ على حقيقته أولى إن لم يمنع مانع "(3)
وهو لايكثر من الشعر :
ومن مواضع استدلاله به قوله تحت قوله تعالى { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } (4) :
ثم قال تعالى تسلية للمؤمنين { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } والأسوة مسلاة للبشر ومنه قول الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي(5)
تاسعا : موقفه من القراءات :
وهو يهتم بذكر القراءات المتواترة وتوجيهها وإعرابها ولا يذكر الشواذ وجل اعتماده في ذلك على ابن عطية والسفاقسي ومن ذلك قوله :
__________
(1) آل عمران : 133 .
(2) الفتح : 29 .
(3) الجواهر 3/124
(4) آل عمران: 140 .
(5) الجواهر1/495 .(9/24)
وقرأ ابن كثير وغيره : { ونكفر } بالنون ورفع الراء ، وقرأ ابن عامر : { ويكفر } بالياء ورفع الراء ، وقرأ نافع وغيره : { ونكفر } بالنون والجزم . فأما رفع الراء فهو على وجهين ؛ أحدهما : أن يكون الفعل خبر ابتداء ، تقديره : ونحن نكفر ، أو والله يكفر ، والثاني : القطع والاستئناف ، والواو لعطف جملة على جملة ، والجزم في الراء أفصح هذه القراءات ، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطًا إن وقع الإخفاء ، وإما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى . (1)
وقال أيضا : وقرأ ابن عامر { هو مولاها } (2)(3)
وقوله : { والأرحام } (4) أي واتقوا الأرحام . وقرأ حمزة { والأرحام } بالخفض عطفًا على الضمير كقولهم : أسألك بالله وبالرحم ، قاله مجاهد وغيره .
قال (ع) وهذه القراءة عند نحاة البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض إلا في ضرورة الشعر كقوله :
فاذهب فما بك والأيام من عجب
لأن الضمير المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، واستسهل بعض النحاة هذه القراءة . انتهى كلام (ع)
قال (ص) : والصحيح جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، كمذهب الكوفيين ، ولاترد القراءة المتواترة بمثل مذهب البصريين ، قال : وقد أمعنا الكلام عليه في قوله تعالى : { وكفر به والمسجد الحرام } (5) انتهى وهو حسن ، ونحوه للإمام الفخر . (6)
تاسعا : موقفه من الفقه والأصول :
ولم يرد الثعالبي أن ينهج منهجا فقهيا مبسوطا في تفسيره حيث يقول : "تركت ذلك خشية التطويل وإذ محل بسطها كتب الفقه" .(7)
__________
(1) الجواهر1/264.
(2) البقرة : 148 وقراءة ابن عامر بفتح اللام وألف بعدها اسم مفعول ، والباقون بكسر اللام وياء بعدها اسم فاعل . انظر إتحاف فضلاء البشر ص150
(3) الجواهر1/146 .
(4) النساء : 1 .
(5) البقرة :217
(6) الجواهر1/390 .
(7) الجواهر 2/323(9/25)
وعليه فهو يتعرض للفقهيات بدون الإطالة ويركز على قول مالك ومن ذلك قوله :
{ ولا تباشروهن ... } (1) قالت فرقة : المعنى ولا تجامعوهن ، وقال الجمهور : ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء و { عاكفون } أي ملازمون، قال مالك رحمه الله وجماعة معه : لااعتكاف إلا في مساجد الجماعات . وروي عن مالك أيضًا أن ذلك في كل مسجد ، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله . قال ابن العربي في (أحكامه) : وحرم الله سبحانه المباشرة في المسجد ، وكذلك تحرم خارج المسجد ، لأن معنى الآية ولا تباشروهن وأنتم ملتزمون للاعتكاف في المساجد ، معتقدون له . (2)
وقال أيضا :
قال ابن العربي : قال علماؤنا وفي الآية دليل على أن ملك اليمين لاحق لها في الوطء والقسم ، لأن المعنى { فإن خفتم أن لاتعدلوا } (3)في القسم { فواحدة أو ماملكت أيمانكم } (4)فجعل سبحانه ملك اليمين كله بمنزلة الواحدة ، فانتفى بذلك أن يكون للأمة حق في وطء أو قسم ، انتهى من الأحكام .
وقد أطال الكلام في النسخ وإثباته(5) تحت قوله : { ما ننسخ من آية } (6)ومن كلامه أيضا : فمن قال إن السنة المتواترة تنسخ القرآن جعل رجم الرسول دون جلد ناسخًا لجلد الثيب وهذا الذي عليه الأمة أن السنة المتواترة تنسخ القرآن ، إذ هما جميعًا وحي من الله سبحانه ، ويوجبان جميعًا العلم والعمل ، ويتجه عندي في هذه النازلة بعينها أن يقال : إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق على رفع لفظه، وبقاء حكمه ، في قوله تعالى : "والشيخ والشيخة فارجموهما البتة" وهذا نص في الرجم ، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة . والحديث بكماله في مسلم، والسنة هي المبينة ولفظ البخاري { أو يجعل الله لهن سبيلا } (7)الرجم للثيب والجلد للبكر .
__________
(1) البقرة : 187 .
(2) الجواهر1/180.
(3) النساء : 3 .
(4) النساء : 3 .
(5) الجواهر1/119-120
(6) البقرة : 106 .
(7) النساء : 15 .(9/26)
ويذهب إلى أن العقل لا مجال له في عالم الغيب وأن العبرة في ذلك بصحة النقل ففي صيرورة الحيوانات ترابًا يوم القيامة يقول : "واعلم أني لم أقف على حديث صحيح في عودها ترابًا … والمعول عليه في هذا : النقل ، فإن صح فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب اعتقاده ، وصير إليه ، وإلا فلا مدخل للعقل هنا" (1)
وهو مع ذلك يقول بالقياس وبالتأويل قال : "وفيه دليل على صحة القياس ، لأنه علمهم سبحانه الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى" .(2)
حادي عشر : موقفه من المواعظ والآداب :
لقد أولى المصنف هذا الجانب عناية ملحوظة تميز بها تفسيره فنجده يعلق تعليقات وعظية كثيرة دون أن يطيل فيها ويدعونا أحيانا للتأمل والتدبر في آيات القرآن كقوله مثلا :"ينبغي للمؤمن العاقل أن يتدبر هذه الآية ونظائرها ويقدر في نفسه أنه المقصود بها ".(3)
وقال تحت قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافا } (4) :
وينبغي للفقير أن يتعفف في فقره ، ويكتفي بعلم ربه قال الشيخ ابن أبي جمرة : وقد قال أهل التوفيق : من لم يرض باليسير فهو أسير انتهى . وذكر عبد الملك بن محمد ابن أبي القاسم ابن الكردبوس في الاكتفاء في أخبار الخلفاء قال : وتكلم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بتسع كلمات : ثلاث في المناجاة وثلاث في الحكمة وثلاث في الآداب أما المناجاة فقال : كفاني فخرا أن تكون لي ربا ، وكفاني عزا أن أكون لك عبدا ، وأنت كما أحب فاجعلني كما تحب . وأما الحكمة فقال : قيمة كل امرئ ما كان يحسنه ، وماهلك امرؤ عرف قدر نفسه ، والمرء مخبوء تحت لسانه . وأما الآداب فقال : استغن عمن شئت فأنت نظيره ، وتفضل على من شئت فأنت أميره، واضرع إلى من شئت فأنت أسيره انتهى .
__________
(1) الجواهر 4/383
(2) الجواهر 4/255
(3) الجواهر 4/105
(4) البقرة : 273 .(9/27)
ولما كانت السيما تدل على حال صاحبها ويعرف بها حاله أقامها الله سبحانه مقام الإخبار عن حال صاحبها فقال : { تعرفهم بسيماهم } (1)وقد قال الشيخ العارف بالله صاحب الكلم الفارقية والحكم الحقيقية : كل مادل على معنى فقد أخبر عنه ولو كان صامتا ، وأشار إليه ولو كان ساكتا ، لكن حصول الفهم والمعرفة بحسب اعتبار المعتبر ونظر المتأمل المتدبر . انتهى(2)
ومنه قوله :
حدثني من أثق به أنه جلس عند شيخ من الأفاضل يجود عليه القرآن ، فقرئت عليه هذه الآية فبكى عندها ثم بكى إلى أن فاضت نفسه ، ومال فحركوه فإذا هو ميت رحمه الله ، ونفع به .
ياهذا من صحا عقله من سكر هواه وجهله ، احترق بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه ، وتنكرت صورة حاله في عينه نفوس الأغبياء الجهال ، غافلة عن العظمة والجلال ، ولاهية عن أهوال العباد والمآل ، مشغولة برذائل الأموال ، ولا يعلمون أنها فتنة ووبال ، وطول حساب وبلاء وبلبال ، اغتنموا ياذوي البصائر نعمة الإمهال ، واطرحوا خوادع الأماني وكواذب الآمال ، فكأن قد فجأتكم هواجم الآجال . انتهى من (الكلم الفارقية في الحكم الحقيقية )(3)
وقال في سورة النساء :
__________
(1) البقرة : 273 .
(2) الجواهر 1/267-268
(3) الجواهر 1/274-275(9/28)
تأمل رحمك الله صدر هذه السورة ؛ معظمه إنما هو في شأن الأجوفين البطن والفرج مع اللسان ، وهما المهلكان ، وأعظم الجوارح آفة وجناية على الإنسان ، وقد روينا عن مالك في الموطأ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ، مابين لحييه وما بين رجليه ، مابين لحييه وما بين رجليه ، مابين لحييه وما بين رجليه ”(1) قال أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد : ومعلوم أنه أراد - صلى الله عليه وسلم - مابين لحييه : اللسان ، وما بين رجليه : الفرج” .والله أعلم(2)
__________
(1) الموطأ – كتاب الجامع - باب مايخاف من شر اللسان 2/253 عن عطاء بن يسار مرسلا وقال ابن عبد البر : ورد معناه متصلا من حديث جابر وسهل بن سعد وأبي موسى وأبي هريرة (انظر تنوير الحوالك 2/253) وحديث سهل أخرجه الترمذي –كتاب الزهد – باب في حفظ اللسان 4/606 وقال : حسن صحيح غريب .
(2) الجواهر 1/419(9/29)
وقال في قوله تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } (1) قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي في سراج الملوك : ولما ضرب ابن ملجم عليا- رضي الله عنه - أدخل منزله فاعترته غشية ، ثم أفاق فدعا أولاده الحسن والحسين ومحمدًا فقال : أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل على الصديق والعدو ، والعمل في النشاط والكسل ، والرضا عن الله في الشدة والرخاء ، يابني ! ما شر بعده الجنة بشر ، ولاخير بعده النار بخير ، وكل نعيم دون الجنة حقير ، وكل بلاء دون النار عافية ، من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره ، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على مافاته ، ومن سل سيف بغي قتل به ، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع فيها ، ومن هتك حجاب أخيه كشف عورات بنيه، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره ، ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبر على الناس ذل ، ومن أعجب برأيه ضل ، ومن جالس العلماء وقر ، ومن خالط الأنذال احتقر ، ومن دخل مداخل السوء اتهم ، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به ، ومن كثر كلامه كثر خطؤه ، ومن كثر خطؤه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه دخل النار ….الخ. (2)
وقد اهتم الثعالبي بموضوعات معاصرة لها صلة بحياة المسلمين :
__________
(1) النساء : 131 .
(2) الجواهر1/501 – 502 .(9/30)
منها الجهاد (1) وقد ذكر أسباب ضعف أحوال المسلمين وأنها تعود إلى حب الدنيا وكراهية بذل النفوس لله فيقول : ألا ترى إلى حال الصحابة رضي الله عنهم وقلتهم في صدر الإسلام وكيف فتح الله بهم البلاد ودان لدينهم العباد لما بذلوا لله أنفسهم في الجهاد ؟ وحالنا اليوم كما ترى عدد أهل الإسلام كثير ونكايتهم في الكفار نزر يسير . وأورد الحديث الذي أخرجه أبو داود(2) الذي أوله “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها …” ثم علق على ذلك ووصف حال ملوك زمانه وتركهم الجهاد فقال : فانظر رحمك الله فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه وتأمل حال ملوكنا إنما همتهم جمع المال من حرام وحلال وإعراضهم عن أمر الجهاد فإنا لله وإنا إليه راجعون على مصائب الإسلام وهذا موقف شجاع من مواقف الثعالبي .
كما تكلم عن الرباط في سبيل الله (3) والزكاة (4) واهتم بشئون المرأة (5) وبين أهمية الشورى (6)
أما موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية ونحو ذلك فلا نرى له اهتماما بهذا الجانب ، والله أعلم .
__________
(1) انظر الجواهر1/318،396،460 .
(2) السنن – كتاب الملاحم - باب في تداعي الأمم على الإسلام 4/111 وقال الألباني : صحيح .(صحيح الجامع رقم 8035)
(3) انظر الجواهر1/344-345،2/106-107.
(4) انظر الجواهر2/127 –128،137 .
(5) انظر الجواهر1/343،4/117 .
(6) انظر الجواهر1/327،4/114 .(9/31)
تفسير أبي بكر الجزائري
من خلال كتابه أيسر التفاسير وحاشيته نهر الخير
***
مؤلف هذا التفسير هو الشيخ أبو بكر جابر بن موسى بن عبد القادر الجزائري وهو واعظ بالمسجد النبوي الشريف ومن المعاصرين وقد التقيت به مرارا وهو من أهل المنطقة ولد بالجزائر سنة 1340هـ ولا زال على قيد الحياة نفع الله به(1).
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى "أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" من التفاسير المطبوعة وقد وضع عليه حاشية مكملة اسمها " نهر الخير على أيسر التفاسير "، والطبعة التي وقفت عليها تقع في خمس مجلدات كبار وهي الطبعة الثالثة للكتاب .
وقد ذكرت في ترجمة الشيخ الباعث على تأليفه هذا التفسير وأضيف هنا قوله :
وشاء الله تعالى أن أجلس في أواخر محرم عام 1406هـ ، إلى فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح بن العبيد رئيس الجامعة الإسلامية ويلهم أن يقول لي : لو أنك وضعت تفسيرا على الجلالين يحل محله في المعاهد ودور الحديث تلتزم فيه العقيدة السلفية التي خلا منها تفسير الجلالين فضرّ كثيرا بقدر ما نفع ، وصادف في النفس رغبتها فأجبته بأن سأفعل إن شاء الله تعالى وبهذا الوعد تعنيت واستعنت الله تعالى وشرعت . (2)
المنهج العام للتفسير :
أما عن المنهج العام في هذا التفسير فقد كفانا الشيخ حفظه الله استنباطه بذكره له في المقدمة وهو تفسير وعظي شامل .
قال الجزائري : هذا وإن مميزات هذا التفسير التي بها رجوت أن يكون تفسير كل مسلم ومسلمة لا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين فهي :
1- الوسطية بين الاختصار المخل ، والتطويل الممل .
2- اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات .
3- الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية .
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 53
(2) 1/5 .(10/1)
4- إخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها إلا ما لابد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث “ وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ”(1) .
5- إغفال الخلافات التفسيرية .
6- الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، وقد لا آخذ برأيه في بعض التوجيهات للآية .
7- إخلاء الكتاب من المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية
8- عدم التعرض للقراءات إلا نادرا جدا للضرورة حيث يتوقف معنى الآية على ذلك وبالنسبة للأحاديث فقد اقتصرت على الصحيح والحسن منها دون غيرهما ، ولذا لم أعزها إلى مصادرها إلا نادرا .
9- خلو هذا التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح والذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح حتى إن القارئ لا يفهم أن هناك معنى غير الذي فهم من كلام ربه تعالى ، وهذه ميزة جليلة وذلك لحاجة جمع المسلمين على فكر إسلامي موحد صائب سليم .
10- التزمت في هذا التفسير بالخطة التي مثلتها هذه المميزات رجاء أن يسهل على المسلمين تناول كتاب الله دراسة وتطبيقا وعملا، لا هم لهم إلا مرضاة الله بفهم كلامه والعمل به ، والحياة عليه عقيدة وعبادة وخلفا وأدبا وقضاء وحكما ، فلذا أخليته من كل ما من شأنه أن يشتت الذهن ، أو يصرف عن العمل إلى القول والجدل
ولذا فقد جعلت الكتاب دروسا منظمة منسقة فقد أجعل الآية الواحدة درسا فأشرح كلماتها ، ثم أبين معناها ، ثم أذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل وقد أجعل الآيتين درسا ، والثلاث آيات والأربع والخمس ولا أزيد على الخمس إلا نادرا ، وذلك طلبا لوحدة الموضوع وارتباط المعنى به .
__________
(1) أخرجه البخاري – كتاب أحاديث الأنبياء – باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/496 من حديث عبد الله بن عمرو .(10/2)
وقد جعلت الآيات مشكولة على قراءة حفص وبخط المصحف وإني أطالب المسلم أن يقرأ أولا الآيات حتى يحفظها ، فإذا حفظها درس كلماتها حتى يفهمها ،ثم يدرس معناها حتى يعيه ، ثم يقرأ هداياتها للعمل بها فيجمع بين حفظ كتاب الله تعالى وفهمه والعمل به ، وبذلك يسود ويكمل ويسعد إن شاء الله تعالى . (1)
وقد ذكر الشيخ أن كتابه هذا قد اعتمد فيه على مراجع أربعة وهي :
جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري
تفسير الجلالين المحلي والسيوطي
تفسير المراغي
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي
أما حاشية نهر الخير ؛ فقد ذكرت الغرض منها في ترجمة المؤلف وسوف نوقع هذه الدراسة على الكتاب وحاشيته إن شاء الله تعالى .
وهو لم يقتصر على المراجع المذكورة في المقدمة عندما صنف" نهر الخير" ولكن رجع إلى مصادر أخرى مثل :
تفسير ابن كثير : ومن ذلك قوله : ذهب ابن كثير إلى أن استوى هنا مضمن معنى قصد لتعديته بإلى إذ يقال:" استوى على كذا" إذا كان بمعنى العلو والارتفاع ، "واستوى إلى كذا " قصده ، ويكون المعنى ثم قصد إلى السماء أي السموات فخلقهن سبع سموات ، ولفظ السماء اسم جنس تحته أفراد لذا قال : { فسواهن } (2) بالجمع . (3)
تفسير القرطبي : ومن ذلك قوله : ذكر القرطبي في تفسيره أن السجود الذي أمرت به الملائكة هو أن يسجدوا لله تعالى مستقبلين وجه آدم وعليه فهو كصلاتنا خلف المقام ، الصلاة لله والاستقبال للمقام . (4)
وسيأتي غير ذلك من المراجع مثل التحرير والتنوير .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : أسماء السور وعدد الآيات والوقوف وبيان المناسبات :
يذكرالجزائري أسماء السور ومكية أم مدنية وعدد آياتها
__________
(1) 1/617 .
(2) البقرة :29
(3) 1/39 .
(4) 1/43 .(10/3)
كقوله : سورة الفاتحة وهي مكية وآياتها سبع ثم قال : ولها أسماء كثيرة منها أم القرآن والسبع المثاني وأم الكتاب ثم شرح تلك الأسماء في حاشيته نهر الخير . (1)
وهو يتعرض لذكر المناسبات بين الآيات ومن ذلك قوله عن تفسير { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } (2) وجه المناسبة أنه تعالى لما ذكر المؤمنين المفلحين ، والكافرين الخاسرين ذكر المنافقين وهم بين المؤمنين الصادقين والكافرين الخاسرين ، ثم على طريقة الالتفات نادى الجمع بعنوان الناس ، ليكون نداء عاما للبشرية جمعاء في كل مكان وزمان ، وأمرهم بعبادته ليقوا أنفسهم من الخسران ، معرفا لهم نفسه ليعرفوه بصفات الجلال والكمال فيكون ذلك أدعى لاستجابتهم له، فيعبدونه عبادة تنجيهم من عذاب وتكسبهم رضاه وجنته . (3)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
وهو يقرر عقيدة السلف في القدر عند قوله { سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم } (4) فقال في نهر الخير : قد يقال : ما دام قد علم الله تعالى أن بعضا لا يؤمنون فلم ينذرون ؟ إذ إنذارهم مع العلم بأنه لا ينفعهم ، تكليف بالمحال والجواب : أن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل أحد وهو - صلى الله عليه وسلم -لم يعلم من كتب الله تعالى عليه الشقاء ممن كتب له السعادة ؛ فلذا هو يدعو وينذر ، ومن كان من أهل السعادة أجاب الدعوة، ومن لم يكن من أهلها رفضها ولم يجب .(5)
ويقول : ذهب المعتزلة - أذهب الله ريحهم - إلى أن الجنة التي هبط منها آدم وحواء كانت بستانا في الأرض في مرتفع منها ، وهو قول باطل لا يسمع له ولا يلتفت إليه ، إذ كل سياق القرآن دال على أنها الجنة دار النعيم لأولياء الله في الآخرة .
__________
(1) 1/910 .
(2) البقرة : 21 .
(3) 1/33 .
(4) البقرة : 6 .
(5) 1/23 .(10/4)
ويقول في الشفاعة : الشفاعة ضم جاه إلى جاه ليحصل النفع للمشفوع له ، والشفعة ضم ملك إلى ملك، والشفع الزوج مقابل الوتر ، ولا تقبل شفاعة أحد يوم القيامة إلا بشرطين اثنين الأول : أن يكون الشافع قد أذن الله تعالى له في الشفاعة، والثاني : أن يكون المشفوع له ممن رضي الله قوله وعمله وهو المؤمن الموحد . (1)
ويقول في السحر : اختلف هل للسحر حقيقة أو هو مجرد خداع لا أصل له ؟ أهل السنة والجماعة على أن له حقيقة . وهو أنواع عديدة ، وحكمه : أن من تعاطاه إذا أضر به فأفسد عقلا أو قتل فإنه يقتل بذلك وإلا فإنه يعزر حتى يتوب منه ، ويشهد لمذهب الجمهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحره لبيد بن الأعصم وأنزل الله تعالى سورة الفلق فرقاه بها جبريل فشفي وقال : إن الله شفاني . والحديث في البخاري وغيره . (2)
ويقول في خلق القرآن : روي أن أحمد استدل على كفر من قال بخلق القرآن بهذه الآية: { من بعد ما جاءك من العلم } (3)وهو القرآن ، فمن قال بخلق القرآن قال بخلق علم الله تعالى وهو كفر صريح . (4)
ويقول في معية الله لخلقه في صلب الكتاب :
__________
(1) 1/52 .
(2) 1/92 . وانظر : صحيح البخاري – كتاب الطب – باب السحر 10/221 عن عائشة. وليس فيه الرقية بسورة الفلق إنما جاءت الرقية بها وبسورة الناس في رواية سفيان بن عيينة للحديث في تفسيره وقال ابن حجر : صحيح (انظر تلخيص الحبير 4/40)
(3) آل عمران : 61.
(4) 1/106 . وانظر في ذلك كتاب : "الرد على من يقول القرآن مخلوق" للنجاد .(10/5)
{ فثم وجه الله } (1): هناك الله تعالى ، إذ الله عز وجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا وجد الله تعالى، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها ويقرر هذا قوله إن الله { واسع عليم } ، إنه واسع الذات والعلم والفضل والجود والكرم عليم بكل شيء لأنه محيط بكل شيء . (2)
ويقول { وسع كرسيه السموات والأرض } (3)لكمال ذاته ثم ذكر في نهر الخير قوله : أورد ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنها قوله : الكرسي موضع القدمين ، والعرش
لا يقدر أحد قدره . رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .(4)
وفي بعض الآيات المشكلة مثل قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } (5)اكتفى فيها بقوله : ما ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وعند ذلك يؤمنون، ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاما بقضاء الله العادل . (6) ولم يذكر شيئا في الحاشية .
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
وهو غير مكثر في ذلك ويتعرض له في الحاشية مثل قوله { الذين أنعمت عليهم } (7) هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون . ثم قال في الحاشية : ورد هذا البيان في قوله تعالى من سورة النساء { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } (8)
__________
(1) البقرة : 115 .
(2) 1/102 .
(3) البقرة :255
(4) 1/245 . وانظر المستدرك – كتاب التفسير 2/282 وسكت الذهبي .
(5) البقرة :210
(6) 1/188 .
(7) الفاتحة :7
(8) النساء :69(10/6)
ومثل قوله : { ثم يقول للملائكة } وهم أمامهم تقريرا للمشركين وتأنيبا { أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } (1)فتتبرأ الملائكة من ذلك . ثم قال في الحاشية : هذا كقوله تعالى { وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } (2)…الخ .(3)
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
لا يذكر الأحاديث كثيرا في صلب الكتاب وربما يذكرها في الحاشية ومن ذلك قوله في صلب الكتاب : وفي الحديث“ الدعاء هو العبادة ” ثم ذكر في الحاشية قوله :رواه
أصحاب السنن وصححه الترمذي عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. (4)
وفي موضع آخر يقول عند قوله تعالى { بل أحياء ولكن لاتشعرون } (5) أما الآية فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين : إن من قتل في سبيل الله ميت إذ هو حي في البرزخ وليس بميت بل هو حي يرزق في الجنة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش” رواه مسلم .(6)
وقوله في في هداية الآيات : فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وفي الصحيح يقول - صلى الله عليه وسلم - : “ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له منها” . رواه مسلم(7)
ويقول تحت قوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } (8)
__________
(1) سبأ:40
(2) المائدة:116
(3) 4/328
(4) 1/15. وانظر سنن الترمذي – كتاب الدعاء – باب ماجاء في فضل الدعاء 5/456
(5) البقرة:154
(6) 1/134 وانظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة 3/1502
(7) 1/135، وانظر صحيح مسلم – كتاب الجنائز – باب ما يقال عند المصيبة 2/633
(8) البقرة :180(10/7)
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “فلا وصية لوارث”(1). ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثا فأقل فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدارقطني : “لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة”(2) ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث ، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديونا لازمة ، وحقوقا واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح : “ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده” (3)
أسباب النزول :
يكثر المصنف من ذكرها في الأصل والحاشية (4)، ومن ذلك قوله في نهر الخير : ذكر ابن كثير في سبب نزول قوله تعالى { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } (5) أن عكرمة قال : خاصمت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة وسيخلفنا فيها آخرون يعنون محمدا وأصحابه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده على رؤوسهم: “بل أنتم خالدون لا يخلفنكم فيها أحد” فأنزل الله عز وجل { وقالوا لن تمسنا النار الآية } .(6)
__________
(1) سبق تخريجه انظر ص855 .
(2) انظر سنن الدارقطني 4/97 وأخرجه أيضا البيهقي 6/263 من طريق عطاء عن ابن عباس وقال : عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره . وقال الألباني : منكر (ضعيف الجامع رقم 6211 ، إرواء الغليل 6/96)
(3) 1/158 . والحديث أخرجه البخاري – كتاب الوصايا – باب الوصايا وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - …الخ 5/355 ، ومسلم – كتاب الوصية 3/1249
(4) انظر أيضا 1/125 ، 126، 165،167 ، 195 ،198 .
(5) البقرة :80
(6) 1/75 . والأثر أخرجه ابن جرير 1/382 وهو ضعيف لإرساله .(10/8)
وقوله : روى الترمذي في سبب نزول { قل من كان عدوا لجبريل } (1)الآية أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي فمن صاحبك حتى نتبعك ؟ قال جبريل قالوا : ذلك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذلك عدونا لو قلت : ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك فأنزل الله الآية إلى قوله { للكافرين } . (2)
ويقول في الأصل : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } (3) هذه الآية نزلت في حيين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر فلذا يقتل الحر بالعبد ، والرجل بالمرأة تطاولا وكبرياء فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية تبطل ذحل(4) الجاهلية، وتقر مبدأ العدل والمساواة في الإسلام فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } فلا يقتل بالرجل رجلان ، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان، ولا بالعبد حر ولا عبدان . (5)
ويقول : روي أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلين : ما بال الهلال يبدو دقيقا ، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدرا ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { يسألونك عن الأهلة } (6)وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم : { هي مواقيت للناس } . (7)
__________
(1) البقرة :97
(2) 1/85 . وانظر سنن الترمذي – التفسير – سورة الرعد رقم3117 وقال : حسن غريب وقال الألباني : صحيح (صحيح سنن الترمذي2492)
(3) البقرة :178
(4) الذَّحْل : الثأر (لسان العرب 3/1490)
(5) 1/155 ، 156 . وقد أخرج ابن جرير معناه 2/103 من مرسل قتادة .
(6) البقرة:189
(7) 1/171 . أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس بمعناه وقال السيوطي : بسند ضعيف (الدر1/203)(10/9)
فضائل السور والآيات :
يتعرض لها في نهر الخير مثل قوله :
الحمد لله أعظم سورة في القرآن لحديث البخاري عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : “لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ، وقوله له ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها” . (1)
وقوله : ورد وصح في فضل سورة البقرة قوله - صلى الله عليه وسلم - : “اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة” (2)
ويقول : صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “ يا أبا المنذر _ أبي بن كعب _ أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟” قال : قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب في صدري وقال : “ ليهنك العلم يا أبا المنذر ”. (3)
وروى أحمد أن آية الكرسي تعدل ربع القرآن وأن الزلزلة والكافرون والنصر كل
واحدة تعدل ربع القرآن وأن الصمد تعدل ثلث القرآن . (4)
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
والمصنف لا ينسب شيئا من الأقوال للمفسرين من السلف في صلب الكتاب أما في الحاشية فربما نسب بعض ذلك مثل قوله :
قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول ليس علينا في ذلك بأس فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب { ليس علينا في الأميين سبيل } (5) إنهم إذا أدوا الجزية لا تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم .(6)
وقد مر وسوف يأتي في النقول الآتية روايات منسوبة لبعض الصحابة والتابعين .
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات
__________
(1) 1/13 . أخرجه البخاري – كتاب التفسير – باب ماجاء في فاتحة الكتاب 8/156 .
(2) 1/18 . والحديث سبق تخريجه ص728.
(3) 1/244 . والحديث أخرجه مسلم – كتاب صلاة المسافرين – باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي 1/556
(4) 1/244 . والحديث في المسند 3/221 وفي إسناده سلمة بن وردان قال الحافظ : ضعيف (التقريب رقم2514 )
(5) آل عمران: 75
(6) 1/334(10/10)
وهو يتعرض للسيرة أثناء الآيات المتعلقة بالغزوات مثل غزوة بدر وأحد وتبوك والأحزاب وغيرها .
ومن مواضع ذلك عند قوله تعالى { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } (1) ذكر قصة أبي لبابة ومن معه .(2)
وعند قوله تعالى { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا } (3)ذكر قصة مسجد الضرار وما كان من أبي عامر الفاسق .(4)
وعند قوله تعالى { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار } (5)ذكر قصة توبة كعب بن مالك ومن معه باختصار .(6)
ومن تحريره لبعض المسائل التاريخية قوله : ذهب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير إلى أن القائل لبني إسرائيل: { ادخلوا هذه القرية } (7)
الآية هو موسى عليه السلام وأنه أرسل جواسيس يكتشفون أمر العدو ويقدرون قوته قبل إعلان الحرب عليهم فرجعوا وهم يهولون من شأن العدو وقوته وينشرون الفزع والرعب في بني إسرائيل ما عدا اثنين منهم وهما : يوشع بن نون قريب موسى ، وطالب بن قته الذين ذكرا في سورة المائدة { قال رجلان } (8) الآية وخالف في هذا جمهور المفسرين وادعى الغلط لهم ، وما حمله على ذلك سوى أن السياق ما زال مع موسى وقومه مع أن الله تعالى لم يذكر موسى بل قال : { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } (9) والرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث البخاري قال : قيل لبني إسرائيل . ولم يقل : قال موسى لبني إسرائيل ونص الحديث :“ قيل لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا وقالوا : حنطة حبة في شعرة ”(10). والآمر لهم حقيقة هو الله تعالى على لسان يوشع ، إذ هو الذي قاد الحملة ونصره الله ، ودخل بيت المقدس ، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاهدة . (11)
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
__________
(1) التوبة :102
(2) 2/420
(3) التوبة:107
(4) 2/425
(5) التوبة:117
(6) 2/434
(7) البقرة:58
(8) المائدة: 23
(9) البقرة :58
(10) سبق تخريجه ص726.
(11) 1/58 .(10/11)
تقدم ما ذكره المصنف في المقدمة عن موقفه من الإسرائيليات لكنه لم يلتزم به وذكر منها طرفا في الحاشية ومن ذلك :
قوله : اشتهر بين علماء السلف أن ما تتلوه الشياطين على عهد سليمان كان سببه أن مردة من الشياطين كتبوا كتابا ضمنوه الكثير من ضروب السحر والشعوذة والأباطيل ونسبوه إلى كاتب سليمان - وهو آصف- ودفنوه تحت كرسي سليمان حين ابتلي بنزع ملكه، ولما مات سليمان أخرج الكتاب شياطين الجن بالتعاون مع شياطين الإنس، وأعلنوا في الناس أن سليمان كان ساحرا ، وما غلب الجن والإنس إلا بالسحر فصدقهم أناس وكذب آخرون، ولما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وكفر به اليهود وتنكروا للتوراة لاتفاقها مع القرآن أنزل الله تعالى قوله { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } (1) فبرأ سليمان وكفر اليهود .
وكذا قوله : الملكان - وهما هاروت وماروت - ذكر قصتهما علماء السلف ورواها مثل أحمد وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن جرير وخلق كثير ولم يصح فيها حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها مروية عن ابن عمر ، وابن عباس وعلي رضي الله عنهم ولعلها مروية عن كعب الأحبار ، وفي الآيات عبارة وإشارة ولا مانع شرعا ولا عقلا من هذه القصة، ومفادها أن الملائكة أنكروا على بني آدم ما يرتكبون من الذنوب والمعاصي ويعجبون من ذلك فأمرهم تعالى أن يختاروا ملكين منهم ويركب فيهم غرائز بني آدم ويكافئهم وينزلهم إلى الأرض يعبدون الله كبني آدم ثم ينظرون هل يعصون الله أولا يعصونه فلما نزلا إلى الأرض ارتكبا كبائر الذنوب فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في بابل يعلمان الناس السحر فإذا أتاهما من يريد ذلك نصحا له بأن تعلم السحر كفر فإذا أصر وجهاه إلى شيطان فأتاه فعلمه كيفية السحر وما يصل إليه إلا بعد أن يكفر أفظع أنواع الكفر .
__________
(1) البقرة:102(10/12)
وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } (1) قال : الشجرة شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرما أو تينا أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعا فلا ينبغي السؤال عنها . (2)
وقوله في الحاشية { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } (3) قال : ذكر القرطبي
أن اسم هذه القرية دارودان وهي من نواحي شرق واسط بينهما فرسخ . (4)
وقوله في الحاشية أيضا { إذ قالوا لنبي لهم } (5) قال : هو شمويل بن بال بن علقمة هكذا ذكره القرطبي في تفسيره ويقال فيه : شمعون أيضا ويعرف بابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد فوهبها إياه بعد عقم كبر سن . (6)
{ وقال لهم نبيهم } (7) شمويل (8)
وقال : وأما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذ ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ، ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لبني إسرائيل ، وساق الله أقدارا لأقدار ، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل فمشت العربة فساقتها الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني إسرائيل فكانت آية وأعظم آية وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت ، وبسم الله تعالى قادهم . (9)
وقال : لم يقص الله تعالى علينا شيئا عن كيفية قتل داود لجالوت لعدم الفائدة الكبيرة منها وخلاصتها كما يلي :
__________
(1) البقرة:35
(2) 1/45 .
(3) البقرة:243
(4) 1/231 .
(5) البقرة:243
(6) 1/234 .
(7) البقرة:248
(8) 1/235 .
(9) 1/236 ، 237 .(10/13)
كان والد داود في جيش طالوت وله ستة أبناء معه واسمه إيشا ، وكان داود أصغرهم وكان يرعى الغنم ، وكان لنبيهم درع وأوحى الله أن من استوت عليه درعك هو الذي يقتل جالوت ، فاستوت على داود . وقبل البراز قال طالوت : من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه ابنتي ، وكان داود قد مر بحجر فناداه أن خذني ياداود وقاتل بي، فجعله في مخلاته واحتفظ به ، فلما برز لجالوت جعل الحجر في مقلاعه وكان راميا فرمى جالوت فقتله . وهذه بداية أمره عليه السلام . (1)
ثامنا : موقفه من اللغة :
يهتم الجزائري بشرح المفردات في كل مجموعة من الآيات من غير تعرض لشواهد شعرية ثم يبين في حاشيته اشتقاق الكلمة ويسوق بعض الشواهد الشعرية ومثال ذلك قوله : السورة : قطعة من كتاب الله تشتمل على ثلاث آيات فأكثر .
ثم يقول في حاشيته : لفظ السورة مشتق إما من سور البلد لارتفاعها الخ ثم قال: ويشهد لذلك قول الشاعر :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب (2)
وكقوله : الرب السيد المالك المصلح المعبود بحق جل جلاله
ثم قال في نهر الخير : مما شهد لإطلاق لفظ الرب على المعبود قول الشاعر :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب (3)
ويتعرض في الحاشية إلى كثير من القضايا النحوية والبلاغية ومن ذلك قوله :
{ ومن الناس } (4) خبر، والمبتدأ : { من يقول } ، والسر في تقديم الخبر هنا هو إخفاء المخبر عنه لأنه ذو صفات ذميمة . (5)
وقوله في { أنؤمن كما آمن السفهاء } (6)الاستفهام هنا إنكاري . (7)
وقوله : أصل لقوا : لقيوا نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين .
وقوله : عدي فعل خلوا بـ إلى ولم يعد بالباء إذ يقال خلا بكذا لأن خلوا هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا . (8)
ومن مواضع تعرضه للمتشابه اللفظي :
__________
(1) 1/239 .
(2) 1/9 .
(3) 1/12 .
(4) البقرة :8
(5) 1/24 .
(6) البقرة:13
(7) 1/216 .
(8) 1/27 .(10/14)
قال في قوله { ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة } (1) يلاحظ : تقديم الشفاعة في النداء الثاني على أخذ العدل وتأخير الشفاعة في هذا النداء وتقديم العدل وما هو إلا
تفنن في الأسلوب إذهابا للسآمة . وهذا شأن الكلام البليغ . (2)
وقال في الإعجاز القرآن البياني :
بلاغة القرآن الكريم إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون : القتل أنفىللقتل ، فقال القرآن : { ولكم في القصاص حياة } (3) فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظا وواقعا . (4)
وقد يرجح الشيخ خلاف قول الجمهور في بعض الآيات ومن ذلك قوله : الجمهور على تفسير الضمير في { وإنها لكبيرة } (5)بالصلاة وخالفتهم في ذلك لوجود من قال: إنها ما أمروا به ونهوا عنه وهو أعم من الصلاة . (6)
تاسعا : موقفه من القراءات :
اعتمد قراءة حفص كما في ذكر في المقدمة وربما ذكر شيئا من القراءات في نهر الخير مثل قوله قرأ حفص { مالك } (7)باسم الفاعل وقرأ نافع { ملك } بدون ألف وهما قراءتان سبعيتان . والله حقا هو الملك المالك . (8)
قرأ نافع { يومنون } بتخفيف الهمزة جمعا وإفرادا في كامل القرآن وقرأها حفص مهموزة في كل القرآن . (9)
قرأ نافع والجمهور { وما يخادعون } (10) بألف بعد الخاء وقرأ حفص يخدعون بسكون الخاء (11)
ومن تعرضه للقراءات في أصل الكتاب قوله : { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } (12) ولا تسأل قرئ بالتاء للجمهور ولا نافية والفعل مرفوع ، وقرئ بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم (13) . ثم علق عليها في النهر بأن القراءة الثانية لنافع وحده .
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
كما أنه يتعرض لبعض الأحكام الفقهية كقوله :
__________
(1) البقرة:123
(2) 1/108 .
(3) البقرة :179
(4) 1/157 .
(5) البقرة :45
(6) 1/51 .
(7) الفاتحة:3
(8) 1/13 .
(9) 1/18 .
(10) البقرة:9
(11) 1/24 .
(12) البقرة:119
(13) 1/104 .(10/15)
حكم الاستعاذة : يسن لكل من يريد قراءة شيء من القرآن سورة فأكثر أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ثم يقرأ . ثم بين في نهر الخير الدليل فقال : لقوله تعالى { فإذا قرأت القران فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } (1) (2)
كما تكلم عن حكم البسملة فقال : مشروع للعبد ومطلوب منه أن يبسمل عند قراءة كل سورة من كتاب الله تعالى إلا عند قراءة سورة التوبة . (3)
وفي نهر الخير يستطرد أكثر فيقول مثلا عند قوله تعالى { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } (4) الآيات
استدل الجمهور بهذه الصفات المذكورة للبقرة على جواز بيع السلم في الحيوان كما استدلوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : “ لا تنعت المرأة المرأة لزوجها ، كأنه ينظر إليها ”(5) وخالف أبو حنيفة وقال بعدم صحة السلم في الحيوان (6) وعند قوله : { فقلنا اضربوه ببعضها } (7) وفي هذه الآية شاهد لمالك في أن الجريح إذا أخبر عن جرحه ومات أن إخباره يعد لوثا وتجري في الحادث القسامة وخالف الجمهور وقالوا : إخبار القتيل لا يكفي في وجود اللوث المقتضي للقسامة ولرأي مالك شاهد من السنة وهي الجارية التي رض اليهودي رأسها كما في البخاري . (8)
__________
(1) النحل:98
(2) 1/11 .
(3) 1/12 .
(4) البقرة:68
(5) أخرجه البخاري بنحوه –كتاب النكاح - باب لاتباشر المرأة المرأة 9/338 عن ابن مسعود .
(6) 1/69.
(7) البقرة:73
(8) 1/71 .(10/16)
وكقوله أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم السائل من فرجها ، فإن كان أسود خاثرا تعلوه حمرة فذلك الحيض ويحرم عليها الصوم والصلاة ويحرم وطؤها ، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وأكثر الحيض خمسة عشر يوما وأقله لا حد له على الصحيح وأقل الطهر أيضا خمسة عشر يوما ليكمل الشهر حيضا وطهرا ، وإن كان الدم زائدا على مدة الحيض فهو الاستحاضة وتصلي معه وتصوم وتوطأ أيضا والحكم الثالث دم النفاس وأكثره أربعون يوما وأقله يوم وليلة وحكمه حكم الحيض (1)
وقد يخالف قول الجمهور ومن ذلك :
قوله : { وعلى الوارث } (2): الوارث هو الرضيع نفسه إن كان له مال وإلا فعلى من يكفله من عصبته . ثم قال في النهر : الجمهور على أن المراد بالوارث ، ورثة الرضيع إذا هلك من نساء ورجال ذكره القرطبي في تفسيره وقال غيره : إن الوارث هو الرضيع إذا مات والده وترك مالا أجرة المرضع من ماله فإن كان لا مال له فمن مال وارثه هو ولا تضار هي في واجب نفقتها ولا الوالد أو وارثه في أدائها وما فسرنا به الآية واضح ومستقيم والحمد لله رب العالمين . (3)
وهو يتميز باختيار القول الراجح في مواضع عدة مع الإضراب عن القول المرجوح مثل قوله في هداية الآية : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } (4) حرمة نكاح المشركات أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة إذ قال { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } (5)
وفي هداية آية { فأتوهن من حيث أمركم الله } (6)
قال : حرمة نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى { فأتوهن من حيث أمركم الله } وهو القبل . (7)
__________
(1) 1/205 .
(2) البقرة:233
(3) 1/221 .
(4) البقرة:221
(5) المائدة :5
(6) البقرة:222
(7) 1/207 .(10/17)
وفي هداية آية { الشهر الحرام بالشهر الحرام } (1)يقول : نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة وهما من الأشهر الحرم (2)
كما أنه يتعرض للقضايا الأصولية تارة في الكتاب مثل تفصيله في قضية النسخ تحت قوله تعالى { ما ننسخ من آية } (3)فقال : يخبرنا تعالى رادا على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا : إن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدا ، أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكما شاقا على المسلمين إلى حكم أخف كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى اثنين ، أو حكما خفيفا إلى شاق زيادة في الأجر كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان ، أو حكما خفيفا إلى حكم خفيف مثله كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، أو حكما إلى غير حكم آخر كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلا عنه ، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة ويبقى حكمها كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم ، أو بنسخ الآية وحكمها وهذا معنى قوله : أو ننسها وهي قراءة نافع ، فقد ثبت أن قرآنا نزل وقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظا ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد ، وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية (4) .
وتارة في الحاشية مثل قوله عن تفسير { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } (5)في
الآية دليل على بطلان التقليد وهو قبول قول الغير بلا دليل وفي الآية أن من ادعى شيئا نفيا أو إثباتا يطالب بالدليل وإلا بطلت دعواه (6)
__________
(1) البقرة:194
(2) 1( )البقرة:106
( )1/96 .
( )البقرة:/199 .
(3) البقرة:106
(4) 1/96 .
(5) البقرة:111
(6) 1/99 .(10/18)
وقوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } (1) في هذه الآية دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لعدالة الأمة بشهادة ربها فإذا اجتمعت على أمر وجب الحكم به وفي أي عصر من العصور إلى قيام الساعة . (2)
وفي قوله: { وإذا قيل لهم اتبعوا } (3) استدل بهذه الآية على حرمة التقليد في العقائد مطلقا ، أما في الفروع فهو أهون والتقليد هو قبول الحكم بلا دليل ولا حجة . (4)
حادي عشر : موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية :
لم يظهر لي اهتمام للشيخ بهذا المجال ولعل السبب في ذلك ما شرطه على نفسه في مقدمة التفسير .
ثاني عشر : موقفه من المواعظ والآداب :
وقد تفرد كتاب الشيخ بذكر ما سماه هداية الآيات : ويسوق تحتها ما يستفاد من الآية بأسلوب دراسي وعظي وهو الغرض الأصلي من تفسيره كما بين في المقدمة مثل قوله في تفسير { إن الذين كفروا سواء عليهم } (5) من هداية الآيتين :
1- بيان سنة الله تعالى في أهل العناد والمكبرة والإصرار بأن يحرمهم الله تعالى الهداية وذلك بتعطيل حواسهم حتى لا ينتفعوا بها فلا يؤمنوا ولا يهتدوا .
2- التحذير من الإصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم .
3- تقديم السمع على البصر في عدة آيات من القرآن يفيد أن حاسة السمع أنفع من
حاسة البصر وهو كذلك والعقل أعظم من ذلك . (6)
ويقول : ومما يؤسف ويحزن أن المسلمين لما ابتلاهم الله باستعمار النصارى لهم كانوا كلما استقل شعب أو إقليم طلب قانون الكافرين فحكم به المسلمين ، وبنو إسرائيل لما استقلوا على يد موسى ذهب بقانون الرب ليحكم به . (7)
__________
(1) البقرة:143
(2) 1/125 .
(3) البقرة:170
(4) 1/145 .
(5) البقرة:6
(6) 1/23 .
(7) 1/55 .(10/19)
ويقول في نهر الخير : يتساءل البعض هل آدم أرتكب بأكله من الشجرة كبيرة وهل يجوز في حق الأنبياء ارتكاب الكبائر ؟ والجواب: أن آدم ما نبئ إلا بعد أن هبط إلى الأرض ، إذ هي دار التكليف أما وهو في السماء فما كان قد نبئ بعد وأكله من الشجرة لم يترتب عليه عقاب أكثر من الخروج من الجنة لأنها ليست دار إقامة لمن يخالف فيها أمر الله تعالى ، أما الأنبياء فلا يجوز في حقهم ارتكاب الكبائر ولا الصغائر لعصمة الله تعالى لهم لأنهم محل أسوة لغيرهم (1)
وبقول : مواطن الصبر ثلاثة : صبر على الطاعة فلا تفارق ، وصبر عن المعصية فلا ترتكب ، وصبر على المصائب فلا يجزع منها ولا يتسخط ، ولكن يصبر ، ويسترجع أي : يقول : إنا إليه راجعون .
ويقول : من الأوقات التي يرحى فيها استجابة الدعاء : ما بين الأذان والإقامة ، والسحر ، ووقت الفطر ، وحال السفر ، والمرض، وفي السجود ، ودبر الصلوات ، وعند اشتداد الكرب من ظلم وغيره ، فقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ويؤكده . (2)
__________
(1) 1/45 .
(2) 1/165 .(10/20)
تفسير ابن عربي الصوفي
من خلال التفسير المنسوب إليه
وكتابيه فصوص الحكم والفتوحات المكية
***
مؤلف هذا التفسير هو محيي الدين محمد بن علي بن محمد ابن عربي الحاتمي الأندلسي الصوفي ت 638هـ وهو من الوافدين على المنطقة ، دخل سبتة وبجاية وغيرهما(1) .
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المنسوب إليه تفسير باطني صوفي اتحادي فلسفي لا علاقة له بالتفسير ، وهو تفسير مطبوع باسم تفسير القرآن الكريم لابن عربي ويقع في مجلدين من منشورات دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر ط.ا بيروت 1387هـ ويؤيد اتجاهه فيه النقول التفسيرية التي سوف نذكرها من الفصوص والفتوحات المكية ، وكلاهما له بلا جدال .
المنهج العام للتفسير :
بذكر المصنف في هذا التفسير مجموعة من الآبات يقوم بتفسيرها بناء على فكرة وحدة الوجود وكل همه منصب على تقرير تلك الفكرة الإلحادية التي ليست بمعزل عن منهج ابن عربي العام ، لذا فإن الطعن في نسبة الكتاب له لا أرى لها وحها حيث إن المنهج واحد والأفكار متشابهة .
وربما ذكر حديثا أو تعرض لشيء من اللغوبات وأبيات الشعر .
وأنقل هنا نصا من الفتوحات قرر فيه ابن عربي عقيدته ومنها يكون الانطلاق للحديث عن النصوص التفسيرية :
يقول : فقلنا : العزة الإنسانية كالحضرة الإلهية لا بل هي عينها . (2)
وبعد أن ذكر عقيدة تقارب عقيدة المسلمين وأشهد على نفسه باعتقادها قال : فهذه عقيدة العوام من أهل الإسلام أهل التقليد وأهل النظر …. ثم أتلوها إن شاء الله بعقيدة الناشية الشادية …… ثم أتلوها بعقيدة خواص الله من أهل طريق الله _ من المحققين _ أهل الكشف والوجود …..
__________
(1) تقدمت ترجمته في الوافدين برقم 81
(2) الفتوحات1/241 .(11/1)
وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض … فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها … فإنها العلم الحق والقول الصدق ... ويستوي فيها البصير والأعمى تلحق الأباعد بالأداني وتلحم الأسافل بالأعالي والله الموفق لا رب سواه . (1)
وكما سبق في شبيهه النعمان بن حيون الباطني أقول هنا فلندع النصوص تحدث عن نفسها :
في الفتوحات يقول في قوله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان …….فبأي آلاء ربكما تكذبان } (2) :
هل بالبحر الذي أوصله به فأفناه عن الأعيان ؟ أو بالبحر الذي فصله عنه وسماه بالأكوان ؟ أو بالبرزخ الذي استوى عليه الرحمن ؟ { فبأي آلاء ربكما تكذبان }
يخرج من بحر الأزل اللؤلؤ ، ومن بحر الأبد المرجان ، { فبأي آلاء ربكما تكذبان } { وله الجوار } (3) الروحانية { المنشئات } من الحقائق الأسمائية { في البحر } الذاتي الأقدسي { كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان } (4)...
يسأله العالم العلوي على علوه وقدسه والعالم السفلي على نزوله ونجسه كل خطرة في شأن ….. الخ
ويقول : فهكذا لو اعتبر القرآن لما اختلف اثنان ولا ظهر خصمان ولا تناطح عنزان فتدبروا آياتكم ولا تخرجوا عن ذاتكم …. (5) .
ويقول :
واعلموا أن بسملة سورة براءة هي التي في سورة النمل فإن الحق سبحانه وتعالى إذا وهب شيئا لم يرجع فيه ولا يرده إلى العدم فلما خرجت رحمة براءة وهي البسملة حكم التبري من أهلها برفع الرحمة عنه فوقف الملك بها لا يدري أين يضعها فقال تعالى أعطوا هذه البسملة للبهائم التي آمنت بسليمان …. الخ (6)
ويقول تحت فصل بدو العالم ومناله الهباء والحقيقة المحمدية :
__________
(1) الفتوحات1/173 .
(2) الرحمن :19-21
(3) الرحمن : 24
(4) الرحمن 24-25
(5) 1/271-272 .
(6) 1/355 .(11/2)
فلما أراد تعالى وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية نقول انفعل عنها حقيقة تسمى الهباء ….. وهذا أول موجود في العالم وقد ذكره علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهل بن عبد الله التستري رحمه الله وغيرهما من أهل التحقيق أهل الكشف والوجود ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء …. أصحاب الأفكار الهيلولي الكلي ….. قال تعالى { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } (1) فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه تعالى قبولا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد - صلى الله عليه وسلم - …. بالعقل فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ومن الهباء والحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب وأسرار الأنبياء . (2)
ومن تفسيره ننقل هذه المقاطع :
قال :
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } (3)إشارة إلى أن الشقاوة العلمية الاعتقادية مخلدة لا تتدارك أبدا دون العملية أي لايستر بوجوده ولا يفنى بذاته من يثبت غيره في الوجود(4) .
قال :
{ ولو أنا كتبنا عليهم } (5)أي فرضنا عليهم { أن اقتلوا أنفسكم } بقمع الهوى الذي هو حياتها وإفناء صفاتها { أو اخرجوا من دياركم } مقاماتكم التي هي الصبر والتوكل والرضا وأمثالها لكونها حاجبة عن التوحيد كما قال الحسين بن منصور قدس الله روحه لإبراهيم بن أدهم رحمه الله لما سأله عن حاله وأجابه بقوله : أدور في الصحاري وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر هل يصح حالي في التوكل أم لا ؟ فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران بطنك فأين الفناء في التوحيد(6) .
قال :
__________
(1) النور :35
(2) 2/226-227 .
(3) النساء :48
(4) 1/264
(5) النساء :66
(6) 1/275(11/3)
{ وإذا ضربتم في الأرض….. } (1)وإذا سافرتم في أرض الاستعداد بالطريق العلمي لطلب اليقين فليس عليكم جناح أن تقصروا من الأعمال البدنية وأداء حقوق العبودية من الشكر والحضور لقوله عليه الصلاة والسلام “من أوتي حظه من اليقين فلا يبالي بما انتقص من صلاة وصوم” (2).
وقال :
{ فآمنوا بالله ورسله } (3)بالجمع والتفصيل ولا تقولوا ثلاثة بزيادة الحياة والعلم على الذات فيكون الإله ثلاثة أشياء ويكون عيسى جزء من حياته بالنفخ أو بالتفرقة بين ذات الحق وعالم النور وعالم الظلمة ويكون عيسى متولدا من نوره بل قولوا بالكل من حيث هو كل فيكون العلم والحياة عن الذات وكذا عالم النور والظلمة ويكون عيسى فانيا غير موجودا بوجوده حيا بحياته عالما بعلمه وذلك وحدته الذاتية المعبر عنها بقوله { إنما الله إله واحد سبحانه } (4)نزهه أن يكون موجود غيره فيتولد منه وينفصل ويجانسه بأنه موجود مثله بل هو الموجود من حيث هو موجود(5) .
وقال : { لن تراني } (6)إشارة إلى استحالة الاثنينية وبقاء الإنية في مقام المشاهد كقوله
إذا تغيبت بدا وإن بدا غيبني (7)
وعند قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل…… إلى قوله ……كأنهم لا يعلمون } (8) يقول :
والظاهر أن جبرئيل هو العقل الفعال وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها يقبضها بنفسه أو بالوسائط التي هي أعوانه ويسلمها إلى الله تعالى .(9)
قال :
__________
(1) النساء : 101
(2) 1/281 . وهذا الحديث لم أقف له على أصل .
(3) النساء :171
(4) النساء :171
(5) 1/301
(6) الأعراف :143
(7) 1/449
(8) البقرة : 87
(9) 1/51(11/4)
{ ق } (1) إشارة إلى القلب المحمدي الذي هو العرش الإلهي المحيط بالكل كما أن { ص } (2) إشارة إلى صورته على مارمز إليه ابن عباس في قوله : { ص } جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حيث لاليل ولا نهار . ولكونه عرش الرحمن قال : “قلب المؤمن عرش الله”(3) . وقال : “لايسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي
المؤمن” (4).
قال :
{ قل أعوذ برب الناس } (5) رب الناس هو الذات مع جمع الصفات لأن الانسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود فربه الذي أوجده وأفاض عليه كماله هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المعبر عنها بالله ولهذا قال تعالى { مامنعك أن تسجد لما خلقت بيدي } (6) بالمتقابلين من الصفات كاللطف والقهر والجمال والجلال الشاملين لجميعها(7)
وهذه أمثلة لبعض نقوله الأثرية خلا ماتقدم في كلامه :
قال :
__________
(1) ق :1
(2) ص :1
(3) موضوع . انظر الموضوعات للصغاني 1/70، كشف الخفا رقم 1886
(4) 2/526 . والحديث المذكور لا أصل له . انظر : سلسلة الأحاديث التي لا أصل لها 1/3، وانظر أيضا أحاديث القصاص 1/1
(5) الناس :1
(6) ص: 75
(7) 2/873(11/5)
{ واعتصموا بحبل الله جميعا } (1)ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا بد للناس من إمام بر أو فاجر . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة”(2) . وقال : “الله مع الجماعة”(3) . ولما نزل قوله تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما …. سبيله } (4) خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا فقال : “هذا سبيل الرشد ” ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال : “هذه سبل الشيطان يدعوه إليه”(5)
قال :
عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال “أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد ” . وهو معنى صمديته . (6)
ومن مواضع ذكره للشعر قوله :
لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه المستعين به لا بغيره ظافر في طلبته ….. الخ كما قال الشاعر
من استعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخذلان(7)
وقوله تحت قوله { وليمحص مافي قلوبكم } (8)وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانا لفضله : “ماأوذي نبي مثل ما أوذيت”(9) … ولقد أحسن من قال
لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار
__________
(1) آل عمران :103
(2) أخرجه الترمذي – كتاب الفتن – باب ماجاء في لزوم الجماعة 4/465 عن عمر مرفوعا بلفظ : من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة . وقال : حسن صحيح غريب .
(3) المرجع السابق عن ابن عباس مرفوعا بلفظ : يد الله مع الجماعة . وقال الترمذي : حسن غريب .
(4) الأنعام :153
(5) 1/208 والحديث أخرجه أحمد في مسنده رقم 4142،4437 عن ابن مسعود مرفوعا بنحوه . وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح .
(6) 2/871 والحديث لايصح انظر : أسنى المطالب 1/186 وهو مروي عن كعب الأحبار من قوله بنحوه رواه عنه ابن جرير 30/347 وغيره (انظر الدر 6/465)
(7) 1/216
(8) آل عمران :154
(9) أخرجه ابن حبان في صحيحه – باب ذكر البيان بأن المصطفى قد أوذي … 14/515 عن أنس بلفظ : لقد أوذيت في الله ومايؤذى أحد .(11/6)
وهذه النقول من الفصوص والفتوحات على نفس الأسلوب المتقدم في معالجة التفسير :
يقول في قوله تعالى في شأن إدريس عليه السلام : { ورفعناه مكانا عليا } (1)
وأعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك وهو فلك الشمس وفيه مقام روحانية إدريس وتحته سبعة أفلاك وفوقه سبعة أفلاك وهو الخامس عشر ثم ذكر الأفلاك التي تحته والتي فوقه ثم قال : وأما علو المكانة فهو لنا أعنى المحمديين كما قال تعالى : { وأنتم الأعلون والله معكم } (2)في هذا العلو وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة .
ويقول في قوله تعالى { ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } (3): وقوله عند ربه العامل في الظرف في طريقنا ، قوله ومن يعظم أي من يعظمها عند ربه ، أي في ذلك الموطن كان خيرا له … والمؤمن إذا نام على طهارة فروحه عند ربه ، فيعظم هناك حرمة الله ، فيكون الخير الذي له في مثل هذا الموطن المبشرة التي تحصل له في نومه أو يراها له غيره . والمواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيعظم فيها حرمات الله على الشهود .(4)
وفي قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } (5)يقول :
__________
(1) مريم:57
(2) محمد :35
(3) الحج: 30
(4) الفتوحات 4/115
(5) الإسراء : 23(11/7)
فعلماء الرسوم يحملون لفظ قضى على الأمر ، ونحن نحمله على الحكم كشفا …. وهو الصحيح ؛ فإنهم اعترفوا أنهم ما يعبدون هذه الأشياء إلا لتقربهم إلى الله زلفى ، فأنزلهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهية فنسبوها إليهم . ولهذا يقضى الحق حوائجهم إذا توسلوا بها إليه غيرة منه على المقام أن يهتضم ، وإن أخطأوا في النسبة فما أخطأوا في المقام ، ولهذا قال : { إن هي إلا أسماء سميتموها } (1)أي أنتم قلتم عنها : إنها ألهة ….. وإلا فسموهم ، فلو سموهم لقالوا : هذا حجر ، أو شجر ، أو ما كان ، فتتميز عندهم بالاسمية ؛ إذ ما كل حجر عبد ولا اتحذ إلها ، ولا كل شجر ، ولا كل جسم منير ، ولا كل حيوان. فلله الحجة البالغة عليهم بقوله : { قل سموهم } (2).
وإنما الخطأ في إثبات الغير وهو القول بالشرك ، فهذا القول بالعدم : لأن الشريك ليس ثم ، وذلك لا يغفره الله ، لأن الغفر الستر ، ولا يستر إلا من له وجود ، والشريك عدم فلا يستر … فهي كلمة تحقيق { إن الله لا يغفر أن يشرك به } (3) لأنه لا يجده . فلو وجده لصح وكان للمغفرة عين تتعلق بها ، وما في الوجود من يقبل الأضداد إلا العالم من حيث ما هو واحد ، وفي هذا الواحد ظهرت الأضداد ، وما هي إلا أحكام عين الممكنات في عين الوجود التي بظهورها علمت الأسماء الإلهية المتضادة وأمثالها . (4)
وفي تفسيره لقوله تعالى { فادخلي في عبادي وادحلي جنتي } (5)يقول :
__________
(1) النجم 23
(2) الرعد :33
(3) النساء : 48
(4) الفتوحات 3/117
(5) الفجر: 29،30(11/8)
وادخلي جنتي التي هي ستري وليست جنتي سواك فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلا بك كما أنك لا تكون إلا بي فمن عرفك عرفني أنا لا أعرف فأنت لا تعرف ، فإذا دخلت جنته دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها فتكون صاحب معرفتين معرفة به من حيث أنت ومعرفة بك من حيث هو لا من حيث أنت ، فأنت عبد أنت رب ، وأنت رب لمن فيه أنت عبد ، وأنت رب وأنت عبد لمن في الخطاب عهد …الخ(1)
ونختم تلك النقول بما ذكره في قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم ... } (2) يقول :
يا محمد ….. { إن الذين كفروا } ستروا محبتهم فيّ ….دعهم فسواء عليهم ءأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك فإنهم لا يعقلون غيري ، وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه ، وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري ، وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني ، وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي، فلا يبصرون سواي ، ولهم عذاب عظيم عندي .. أردهم بعد هذا المشهد السنى إلى إنذارك وأحجبهم عني ، كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى قربا … أنزلتك إلى من يكذبك ، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك ، وتسمع في ما يضيق له صدرك ، فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك ؟ فهكذا أمنائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم . (3)
وهذا التفسير الذي ذهب إليه ابن عربي في فتوحاته قد خالفه في كتاب آخر سلك فيه منهج التفسير الظاهر وهو إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وهو مخطوط منه نسخة مصورة على الميكروفيلم بالجامعة الإسلامية قد رجعت إليها وهي تقع في ثمانية أجزاء وخطها جميل واضح 158 ورقة تنتهي عند قوله { تلك الرسل …. } (4)منقولة من أصل بخط المؤلف 1323هـ فقال :
__________
(1) الفصوص1/191
(2) البقرة :6
(3) الفتوحات 1/115
(4) البقرة :253(11/9)
قوله : { إن الذين كفروا } (1) - الآية يقول : بكل ماتقدم ذكره ، الكافر هو الساتر للحق والساترون للحق على قسمين قسم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق فلا يمكن أن يستروه عن نفوسهم بل ستروه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره وهو قوله { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } (2) فهؤلاء جاحدون . والقسم الآخر هو الذي ستر الحق عن نفسه بما ظهر له من الشبه فقامت له سترا بينه وبين الحق فيسمى أيضا بهذا كافرا لأنه ماوفى النظر حقه في الأدلة فالأول معاند والثاني مفرط قال الله لنبيه عليه السلام : { سواء عليهم } (3) ولم يقل : عليك ، { ءأنذرتهم } يقول : خوفتهم وأعلمتهم بأسباب السعادة والشقاء { أم لم تنذرهم } يقول : أو سكت عنهم { لا يؤمنون } يقول : لا يصدقون إما عنادا وجحدا وإما جهالة …. الخ (4)
ويبدو أن الرجل متخبط أو متظاهر بموافقة أهل العلم في التفسير بالظاهر وقت الاحتياج إلى ذلك ، ويكتب مايكتب من القول بالباطن لمن هو على شاكلته وقد قدمت في ترجمته مايمكن أن يبرر له ذلك فقد كان علماء مصر قد أفتوا بإراقة دمه ولم ينج إلا بصعوبة .
__________
(1) البقرة :6
(2) البقرة : 146
(3) البقرة :6
(4) 12/أ(11/10)
الفصل الثالث
- - -
دراسة أمثلة للتفسير بالرأي بالمنطقة
- - - - - -
المبحث الأول : أمثلة الرأي المحمود
- - -
تفسير المهدوي
من خلال كتابيه التفصيل والتحصيل
***
مؤلف هذا التفسير هو أبو العباس أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي التونسي ت 431هـ وهو من أهل المنطقة ولد بالمهدية من بلاد القيروان(1) .
التعريف بالتفسير :
كتاب "التفصيل الجامع لعلوم التنزيل" من التفاسير المخطوطة(2) ، ولا يوجد منه إلا الجزء الأول وهو مصور عن المكتبة الوطنية بباريس برقم 594 ، ويبدأ من تفسير قوله تعالى { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } (3) الباب الرابع في شرح خفي إعراب سورة البقرة ووجوه قراءاتها ، وينتهي عند تفسير سورة التوبة الباب الأول في ذكر مافيها من الأحكام والناسخ والمنسوخ(4) .
وأما كتاب "التحصيل لفوائد كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل" فهو كتاب
مخطوط أيضًا ومنه عدة نسخ(5) ومنه نسخة مصورة غير كاملة على الميكروفيلم بمكتبة الجامعة الإسلامية برقم 1370،1317 عن دار الكتب الظاهرية قد رجعت لها .
وقد اشتغل المهدوي وهو بالأندلس بتأليف كتاب (التحصيل) ، الذي هو اختصار لكتابه ( التفصيل ) الذي أدخله معه الأندلس .
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 20 .
(2) ذكرت مواضع نسخه عند ترجمة المؤلف .
(3) البقرة: 35 .
(4) التفصيل1/291 .
(5) ذكرت مواضعها في ترجمة المصنف .(12/1)
ويبدو أن تأليف هذا المختصر كان بسبب عدم الإقبال عليه في الأندلس والتشكيك في علمه وخاصة مايتعلق بتفسيره الكبير . وفي رواية أخرى ذكر بعض المؤرخين أنه قدم كتابه هذا إلى الوالي فطلب إليه اختصاره ، وقد سجل المهدوي هذا في مقدمة (التحصيل ) فقال : أمر الموفق … باختصار كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل بمؤلف لخزانته العالية أدام الله فيها بدوام أيامه النعم المتوالية ، بعد حصوله لديه ، ووقوفه عليه ، ليكون هذا الاختصار ، قريب المتناول لمن أراد التذكار ، كما كان الجامع خزانة جامعة لمن أراد المطالعة فبادرت إلى امتثال أمره ولم أقصر .
المنهج العام للتفسير(1) :
وتفسير المهدوي تفسير فقهي نحوي مولع بالقراءات وتوجيهها ولا يغفل الاعتماد على المأثور .
أما المنهج العام الذي سار عليه المصنف في كتابه التفصيل فهو منهج غريب تفرد به ولم يرتضه ابن عطية إذ رأى فيه تشتيتا للنظر ومشعبة للفكر(2) . وهو كما قال حيث قام المهدوي بتقسيم الكتاب إلى خمسة أبواب فيأتي للسورة المعتزم تفسيرها فيجعل الباب الأول في أحكامها وناسخها ومنسوخها . (3)
والباب الثاني في تفسيرها ومعانيها وغريبها ومشكلها ومايتعلق بذلك . (4)
والباب الثالث في ذكر مافيها من الحروف التي اختلف القراء فيها . (5)
والباب الرابع في ذكر خفي إعرابها وشرح وجوه قراءتها . (6)
والباب الخامس في ذكر مواضع نزولها واختلاف العادين في عددها وتسمية رءوس آيها .(7)
__________
(1) ممن تكلم عن منهج المهدوي في تفسيره عبد السلام الكنوني في المدرسة القرآنية ص199-206 ووسيلة بلعيد في التفسير واتجاهاته ص126-165 ، 212-276
(2) انظر المحرر الوجيز 1/34
(3) انظر كمثال سورة النساء : التفصيل1/85 .
(4) انظر كمثال التفصيل1/111 .
(5) انظر كمثال التفصيل1/129 .
(6) انظر كمثال التفصيل1/138 .
(7) انظر كمثال التفصيل1/150 .(12/2)
وأما كتاب التحصيل فقد سلك فيه نفس المنهج تقربيا إلا أنه لم يطبقه على السورة بأكملها وإنما على مقاطع منها كل على حدة وفي ذلك يقول :
وأجعل ترتيب السور مفصلة ليكون أقرب متناول ، فأقول : القول من أول السورة كذا إلى موضع كذا منها ، فأجمع من آيها عشرين آية أو نحوها ، بقدر طول الآي، وقصرها ، ثم أقول الأحكام والنسخ ، فأقولهما ثم أذكر التفسير ، فأذكره ، ثم أقول القراءات ، فأذكرها ، ثم أقول الإعراب والتوجيه فأذكره ، ثم أذكر الجزء الذي يليه، حتى آتي إن شاء الله تعالى إلى آخر الكتاب على شرطه فيه ، فأذكر آخر كل سورة موضع نزولها واختلاف أهل الأمصار في عددها .(1)
فهو يذكر الآية أو الآيات ، ويبدأ خدمته لها بذكر النسخ والأحكام إن وجد :
ففي سورة مريم مثلاً قال :
القول من أولها إلى قوله تعالى : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } (2) لاأحكام فيها ولا نسخ .
وفي سورة الكهف قال : القول من أولها إلى قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } (3)
وصدر الكلام عليها بقوله ليس فيها نسخ وليس فيها من أحكام سوى قوله تعالى { ولاتقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت } (4)
فذكر مايتعلق بها من أحكام .
وبانتهائه بذكر مايتعلق في الآيات بالنسخ والأحكام يتابع المهدوي شرحه لها تحت عناوين ثلاثة :
التفسير ، القراءات ، الإعراب .
في التفسير يستهل الكلام على السورة بما ورد في فضلها .
ثم ينتقل مباشرة إلى تفسير السورة مقسمة إلى مجموع آيات يحددها ويفسرها ثم ينتقل إلى مجموعة آيات أخرى . لايفسر كل كلمة في الآية بل يقتصر منها على ما يراه في حاجة إلى التفسير ويقدمه بقوله : والمعنى .
القراءات : ثم يفرغ للقراءات التي يخصص لها عنوانا مستقلا بعد تفسير السورة
__________
(1) التحصيل1/2 .
(2) مريم :34
(3) الكهف :30
(4) الكهف :23-24(12/3)
الإعراب : يسير على خطته في التفسير والقراءات فيفرع له بعدهما بعنوان مستقل : الإعراب فلا يعرب إلا مايراه في حاجة إلى إعراب وما فيه اختلاف في القراءات لمقتضى الاختلاف في الإعراب .
إلا أن طريقته هذه في تقسيم الكلام في كل سورة إلى (مدخل – تفسير – قراءات– إعراب) لم يسر عليها في سور : الفيل- الكافرون- النصر – القارعة – الناس) حيث قال : ليس في حروفها اختلاف ولا إعراب مشكل .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : بالنسبة للمكي والمدني وعد الآي ونحو ذلك فهو يهتم به ومن ذلك :
قوله في آخر سورة البقرة : هذه السورة مدنية وعددها في الكوفي مائتان وست وثمانون وفي البصري سبع وثمانون وفي بقية العدد خمس وثمانون اختلافها إحدى عشرة آية .(1)
وقال : الأنعام : هذه السورة مكية وقد روي عن ابن عباس وغيره ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة من قوله تعالى { أتل } (2)إلى قوله { تتقون } (3) ونزلت جميعها سواهن جملة بمكة … عددها في المدنيين والمكي مائة آية وسبع وستون آية وفي البصري والشامي ست ، وفي الكوفي خمس اختلف فيها في أربع آيات … فذكرهن .
وفي سورة الانفطار قال : هذه السورة مكية تسع عشرة آية بإجماع .(4)
وفي سورة الكوثر : هي مكية وقيل إنها نزلت بالحديبية وعددها ثلاث آيات بإجماع .(5)
ثانيا : موقفه من العقيدة :
يلاحظ أنه يميل للتأويل في باب الصفات
قال المهدوي في تفسير قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } (6)
__________
(1) التحصيل1/155 .
(2) الأنعام :151 ويعني قوله تعالى { قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم … } الآية
(3) الأنعام :153
(4) التحصيل4/182 .
(5) التحصيل4/213 .
(6) البقرة :29 .(12/4)
قيل معناها : أقبل عليها ، وقيل : صعد أمره ، وقيل : قصد إلى خلقها بالإرادة ، وبعد إيراده لما روي في تفسير الآية أشار إلى تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الانتقال والحركة فقال : ولا يجوز أن يحمل شيء مما جاء في ذلك على انتقال ولا حركة ولا زوال ، وإنما يحمل ذلك على علو قدرته وأمره ، وما يجوز أن يوصف به تعالى.
وقال عند قوله سبحانه { مامنعك أن تسجد لما خلقت بيدي } (1)قال : اليدان صفة من صفات الله عز وجل .
وقيل : عبر باليدين عن القدرة
وقيل : عبر بهما عن القوة
وقيل : ذكرتا للتأكيد على ماتستعمله العرب من نحو قولهم : هذا جنته يداك ، فمعنى { لما خلقت بيدي } على هذا : لما خلقته .
وقال في قوله تعالى { بل عجبتُ ويسخرون } (2) في قراءة الضم : ويجوز أن يكون إخبار الله تعالى عن نفسه بالعجب محمولا على أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ؛ ما يقوم مقام العجب من المخلوقين ، كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن رضي عنه – على ماجاء في الخبر عن النبي عليه السلام - على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازا واتساعا .
ونقل المهدوي في تفسير قوله تعالى { وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم } (3)، عن الحسن البصري قال : اجتمع أربعة أملاك فقال أحدهم: جئت من الأرض السفلى . قالوا : فأين تركت ربنا ؟ قال : ثم . وقال أحدهم : جئت من المشرق . قالوا : فأين تركت ربنا ؟ قال : ثم وقال أحدهم : جئت من المغرب . قالوا : فأين تركت ربنا ؟ قال : ثم .
ثم علق المهدوي على هذا الخبر مؤكدًا على تنزيه الله تعالى عن المكان . قال : وهذا كله إنما يحمل على مايجوز أن يوصف به الباري سبحانه مما قدمناه في أول الكتاب، لا على وجه التحيز وشغل الأمكنة وغير ذلك مما يوصف به المخلوقون ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا .
__________
(1) ص :75
(2) الصافات :12
(3) الأنعام : 3 .(12/5)
واهتم المهدوي بمسألة الشفاعة وحللها ، وذكر مفهومها اللغوي وقرر مذهب أهل السنة والجماعة فيها وذلك عند تفسير قوله تعالى { واتقوا يومًا لاتجزي نفس عن نفس شيئا ولايقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة } (1).
قال المهدوي : سميت الشفاعة شفاعة لأن طالبها جاء بآخر معه يشفع ، والشفع هو : الزوج ، وهذا عام في اللفظ خاص في المعنى خوطب به اليهود لأنهم زعموا أن آباءهم يشفعون لهم ، ويبين ذلك قوله تعالى في موضع آخر { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (2)ثم أنهى المهدوي مبحث الشفاعة برأي بعض المعتزلة الذي أنكر الشفاعة إنكارًا كليا ، وبين أن في هذا ردا للكتاب والسنة .
كما ذكر مذهب أهل السنة والجماعة في قضية مرتكب الكبيرة عند تفسير قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } (3)
فقال : أعلم الله تعالى أنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الكبائر : أن تدعو لله ندًا وقد خلقك ، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك ، وأن تزني بحليلة جارك ، وتلا { والذين لايدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } (4) (5)
وذكر آثارا عن ابن عباس وابن عمر ثم ذكر حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة فأوضح أنها تغفر لمن أقلع عنها وتاب قبل الموت ، وأضاف أنها قد تغفر لمن مات عليها من المسلمين مستشهدًا بقوله تعالى { إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء } (6) .
ويقصد بذلك من مات على الذنوب ، فانتفاء الغفران مرتبط بالشرك ، وأما من لم يشرك ومات على ذنوبه فهو من أهل الغفران تحت المشيئة .
__________
(1) البقرة : 123 .
(2) الأنبياء :28
(3) النساء :31 .
(4) الفرقان: 68 .
(5) أخرجه البخاري -كتاب التفسير – باب { والذين لايدعون مع الله إلها آخر } رقم 4761، ومسلم -كتاب الإيمان – باب كون الشرك أقبح الذنوب رقم86 .
(6) النساء : 48 .(12/6)
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
ومن مواضع تفسيره القرآن بالقرآن قوله في تفسير قوله تعالى { إن الله لايستحيي أن يضرب مثلا ما } (1): لا يوصف الله تعالى بالاستحياء على حد مايوصف به المخلوقين ، والمعنى لا يخشى ، كما جاء يخشى بمعنى يستحيي ، كقوله { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } (2) ، قاله جماعة من المفسرين واختاره الطبري .(3)
وقال في قوله { وقالوا قلوبنا غلف } (4) أي قلوبنا مستورة عما تقول كقوله { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } (5) (6)
ويستدل على معنى اللفظة القرآنية بما جاء في مواضع القرآن ، ففي تفسير الإخوة من قوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس .. } (7) إلى قوله { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } (8)، يذهب إلى أن الإخوة في قول سائر العلماء ، اثنان فأكثر ، يحجبون الأم عن الثلث ويردونها إلى السدس . وقد قال إخوة ، لأن الاثنين جماعة ، بدليل قوله { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } (9) وكانا ملكين اثنين ، وقوله تعالى لموسى وهارون { إنا معكم مستمعون } (10)وقوله في داود وسليمان { وكنا لحكمهم شاهدين } (11)، وذلك كثير … (12) .
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
وهو يعتمد على الحديث في تفسير كتاب الله بجانب القرآن إلا أن منهجه فيه يقوم على حذف الأسانيد وإهمال التخريج بالإضافة إلى عدم اشتراط الصحة فربما ذكر حديثا ضعيفا .
قال في تفسير قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } (13)
__________
(1) البقرة: 26 .
(2) الأحزاب: 37 .
(3) التحصيل 1/17 .
(4) البقرة : 88 .
(5) فصلت:5 .
(6) التحصيل 1/47.
(7) النساء :11
(8) النساء:11
(9) ص:21.
(10) الشعراء:15 .
(11) الأنبياء: 78 .
(12) التحصيل1/212 .
(13) النساء : 31 .(12/7)
وروى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الكبائر : أن تدعو لله ندا وقد خلقك ، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزاني بحليلة جارك ، وتلا { والذين لايدعون مع الله إلها آخر ... } (1).(2)
وفي تفسير { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .. } (3) ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “باب التوبة مفتوح من قبل المغرب، عرضه مسيرة سبعين عاما ، فإذا طلعت الشمس منه لم تقبل لأحد توبة ” وتلا الآية السابقة .(4)
وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن العلامات التي لا ينفع الإيمان بعدها طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض(5) .
__________
(1) الفرقان : 68 .
(2) التحصيل 1/225 ، والحديث تقدم تخريجه من الصحيحين .
(3) الأنعام : 158 .
(4) التحصيل 2/10 ، أخرجه أحمد في مسنده 4/241 ، والترمذي – كتاب الدعوات – باب فضل التوبة والاستغفار 4/269 ، وعبد الرزاق في مصنفه 1/204 ، والحميدي في مسنده 2/388 ، والنسائي في تفسيره رقم 198 من حديث صفوان بن عسال المرادي ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
(5) أخرجه مسلم في صحيحه –كتاب الإيمان – باب بيان الزمن الذي لايقبل فيه الإيمان 1/138 ، والترمذي – كتاب التفسير سورة الأنعام 5/264 وغيرهما .(12/8)
وأورد في تفسير قوله تعالى { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } (1) عن أبي عبيدة بن الجراح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من أبناء بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهم الذين ذكر الله عز وجل في هذه الآية .(2)
وفي تفسير قوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } (3) ذكر أن الشافعي تأول هذه الآية بأن الإنسان يأخذ من مال من خانه بمقدار ما خانه من غير علم ، واستشهد على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهند زوج أبي سفيان : خذي من ماله ما يكفيك وولدك.(4)
وفي قوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } (5) ذكر أن أنس بن مالك روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول : { وأقم الصلاة لذكري } ” (6)
وهو من المهتمين بإيراد أسباب النزول ومن ذلك :
__________
(1) آل عمران : 21 .
(2) التحصيل 1/162-163 . أخرجه ابن جرير 3/216 ، وابن أبي حاتم 2/161 ، والبغوي في تفسيره 2/331 بأطول منه ، وضعف إسناده محقق تفسير ابن أبي حاتم وقد ذكره القرطبي ونسبه للمهدوي (الجامع 4/46) .
(3) الشورى : 40 .
(4) التحصيل 4/56 . أخرجه البخاري – كتاب الأحكام – باب القضاء على الغائب 9/89، ومسلم –كتاب الأقضية – باب قضية هند 5/129 من حديث عائشة .
(5) طه :14
(6) أخرجه البخاري – كتاب مواقيت الصلاة – باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها رقم 597 ، ومسلم – كتاب المساجد – باب قضاء الصلاة 1/477 .(12/9)
في قوله عز وجل { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } (1)قال : روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود إلى كتاب الله عز وجل فقال له نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يامحمد ؟ فقال له : “على ملة إبراهيم ودينه” ، قال : فإن إبراهيم كان يهوديا . فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : “فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم” فأبيا من ذلك فنزلت الآية (2) .
وفي قوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } (3)قال : عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر : “من أتى مكان كذا وكذا فله كذا” فأسرع الشباب وبقي الشيوخ فجاء الشباب يطلبون ماجعل لهم فنازعهم الشيوخ فنزلت(4) .
وفي قوله تعالى { ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } (5) قال : قال ابن عباس : نزلت في قوم من المسلمين مروا براع ، فقال : سلام عليكم ، فقالوا : إنما تعوذ ، فقتلوه(6).
__________
(1) آل عمران : 23.
(2) التحصيل1/163 . أخرجه ابن جرير 3/217 من طريق سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، وأخرجه ابن أبي حاتم 2/166 عن عكرمة مرسلا ولعله سقط منه ابن عباس وخرجه محققه بحسن إسناده إلى ابن عباس .
(3) الأنفال :1.
(4) أخرجه أبو داود-كتاب الجهاد-باب في النفل 3/29 ، وابن حبان (موارد الظمآن
ص431) ، والحاكم-كتاب قسم الفيء 2/132 ، وانظر أيضا2/221، 326 ، وصححه ابن حبان والحاكم وسكت الذهبي .
(5) النساء :94 .
(6) التحصيل1/247 . أخرجه البخاري –كتاب التفسير سورة النساء – باب { ولاتقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } رقم 4591 ، ومسلم - كتاب التفسير رقم 3025 بأطول منه .(12/10)
{ واذكر ربك إذا نسيت } (1)قال : روي أن ذلك إنما نزل بسبب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله اليهود عن ذي القرنين وعن خبر صاحب موسى وعن الروح قال : غدًا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عنه الوحي بضع عشرة ليلة ، ثم جاءته سورة الكهف(2).
وربما ذكر أكثر من رواية في سبب نزول الآية من غير ترجيح ومن ذلك :
في قوله تعالى { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } (3)ذكر أنها إما نزلت في عامر بن طفيل وأربد بن قيس حين أرادا الغدر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل الله على أربد صاعقة فمات ، وأصاب عامر الطاعون في عنقه فمات(4).
وقيل : نزلت في يهودي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أخبرني من أي شيء ربك ؟ أمن لؤلؤ أو من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأحرقته ، روي ذلك عن مجاهد وأنس(5) .
وهو يتعرض لفضائل السور والآيات ومن ذلك :
__________
(1) الكهف :24
(2) أخرجه ابن المنذر عن مجاهد مرسلا مطولا ، وهو ضعيف لإرساله . وأخرج ابن مردويه بعضه عن ابن عباس (انظر الدر 4/239) .
(3) الرعد :31 .
(4) التحصيل 4/44 . أخرجه ابن جرير 13/126 عن ابن جريح مرسلا وهو ضعيف لإرساله . وعزاه السيوطي أيضًا لأبي الشيخ (انظر الدر 4/60) وأخرجه ابن جرير 13/119 مطولا جدًا عن ابن زيد مرسلا وهو ضعيف أيضًا لإرساله .
(5) التحصيل 4/44 . حديث أنس أخرجه البزار (انظر كشف الأستار 3/54) ، والنسائي في التفسير رقم 279 وأبو يعلى في مسنده 3/54 ، وابن جرير 13/ 125 ، والواحدي في أسباب النزول ص204 وغيرهم . قال الهيثمي : رجال البزار رجال الصحيح غير دليم ابن غزوان وهو ثقة (مجمع الزوائد7/42) وقال الألباني : صحيح (وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول ص89) ورواية مجاهد أخرجها ابن جرير 13/125 .(12/11)
عند تفسيره لقوله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله.. } (1)قال : روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “كتب الله كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا تقرآن في دار ثلاث ليال ، فيقربها الشيطان” (2).
وقال : جاء في الخبر أن سورة الأنعام نزل معها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } (3)الآية ونزلت سورة الأنعام جملة(4) .
وقال في سورة الكهف :روى وهب بن منبه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “ألا أخبركم بسورة عظيمة ملأت مابين السماء والأرض وما جاء فيها من الأجر مثل ذلك؟” . قالوا : يانبي الله أي سورة هي ؟ قال : “سورة الكهف من قرأ بها يوم الجمعة أعطي نورًا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر”(5).
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :“من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له مابينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام”(6)
__________
(1) البقرة :285 .
(2) تقدم تخريجه ص629.
(3) الأنعام :59
(4) في نزولها جملة معها سبعون ألف ملك ماأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص340 ، والطبراني 12/210 عن ابن عباس وله شواهد كثيرة وأخرج الحاكم-كتاب فضائل القرآن 2/314 عن جابر - رضي الله عنه - قال : لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : “لقد شيع هذه السورة من الملائكة ماسد الأفق” . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . وانظر موسوعة فضائل سور وآيات القرآن (1/255-261)
(5) أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن 103/أ نحوه وفيه زيادة عن إسماعيل بن رافع مرسلا وهو ضعيف لإرساله وروي نحوه عن عائشة أخرجه ابن مردويه . انظر الدر المنثور 4/209 .
(6) جاء ذلك في حديث عائشة المتقدم ذكره ، ولم أقف عليه من حديث أنس . وفي مغفرة
مابين الجمعتين لقارئها ماأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر وفيه : وغفر له مابين الجمعتين . وقال المنذري : إسناده لابأس به (الترغيب 1/513) .(12/12)
.
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف
يلاحظ اهتمام المهدوي بإيراد الأقوال المختلفة عن علماء الصحابة والتابعين ومن ذلك :
قوله تعالى { كأنهن بيض مكنون } (1)
قال : قال ابن عباس : يعني اللؤلؤ المكنون .
وعن الحسن وابن يزيد : شبهن ببيض النعام يكن تحت الريش من الريح والغبار.
سعيد بن جبير والسدي : شبهن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي(2) .
قوله تعالى { طوبى لهم وحسن مآب } (3)
عن ابن عباس : طوبى شجرة في الجنة ، ونقل عنه أيضًا : أنها الجنة(4).
قوله { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } (5)
قال قتادة : يعني علانيته وسره . ابن جبير : الظاهر مانهي عنه من قوله : { ولاتنكحوا مانكح آباؤكم من النساء } (6) والباطن الزنا . ابن زيد : الظاهر التجرد في الطواف ، والباطن الأخدان .
قوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } (7) يعني أن إبليس يوصي إلى مشركي قريش يقول لهم : كيف تعبدون ربا لا تأكلون ما قتل ؟ قاله ابن عباس .
قوله : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيما } (8)
قال ابن عباس : أي لم يجعل له ملتبسًا . وعنه أيضًا : لم يجعله مخلوقًا .
وقيل : لم يجعل له اختلافًا . والعوج : العدول عن طرفي الاستقامة .
ومعنى قوله قيمًا في قول ابن عباس : عدلاً ، الضحاك : مستقيمًا ، ابن إسحاق : معتدلاً لااختلاف فيه . وقيل : معناه قيمًا على الكتب يصدقها .
قوله { واذكر ربك إذا نسيت } (9) قال ابن عباس : المعنى استثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت في حال اليمين قال : وله أن يستثني ولو بعد سنة . وقال أبو العالية : يستثني متى ذكر . عكرمة : المعنى واذكر ربك إذا غضبت .
__________
(1) الصافات :49 .
(2) التحصيل 4/8
(3) الرعد: 29 .
(4) التحصيل 2/151
(5) الأنعام :120
(6) النساء :22
(7) الأنعام :121
(8) الكهف :1
(9) الكهف :24(12/13)
قوله تعالى : { يغاثوا بماء كالمهل } (1) قال : المهل كل شيء أذيب حتى أماع .
ابن عباس : دردي الزيت(2) ، ومجاهد : الدم والقيح …سعيد بن جبير : هو الذي انتهى حره . وقيل : هو ماأذيب من الذهب والفضة والرصاص والنحاس . الضحاك : هو ماء جهنم ، هو أسود ، وشجرها أسود وأهلها سود . وقيل : هو عكر القطران يشوي الوجوه أي يحرقها .
قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك } (3)
عن ابن عباس وغيره قال : يعني بعد طلوع الشمس من مغربها .
قوله تعالى { ويمنعون الماعون } (4)
عن ابن عمر والحسن وغيرهما أن الماعون : هو الزكاة ، وعن ابن المسيب أنه المال بلغة قريش . وعن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : ما يتداوله الناس نحو الفأس والقدر(5).
قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون } (6)
عن ابن عباس وغيره : سمي صلصالا لأنه يصلصل أي يصوت .
مجاهد : هو مثل الخزف الذي يصلصل وعنه أيضا : هو المنتن(7).
وربما تعرض المهدوي إلى نقد بعض الآثار والتعليق عليها قال في تفسير قوله سبحانه { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } (8) : إن مجاهدا خالف جميع من سبقه من أهل التفسير عندما ذهب إلى القول بعدم المسخ المادي ، وتأول ذلك بأن المراد هو المسخ لقلوبهم، وظاهر الآية يشير إلى المسخ بدون تأويل وهذا ما يستفاد من تفسير ابن عباس الذي روي عنه أنهم مسخوا قردة فأقاموا ثلاثة أيام ثم ماتوا(9).
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
__________
(1) الكهف :29
(2) دُرْدي الزيت وغيره : مايبقى في أسفله . لسان العرب 2/1355
(3) الأنعام :158
(4) الماعون : 7 .
(5) التحصيل 4/212
(6) الحجر : 26 .
(7) التحصيل 2/162
(8) البقرة : 65 .
(9) التحصيل 1/39(12/14)
يلاحظ أن المهدوي يهتم بذكر حوادث السيرة وبعض التفاصيل الدقيقة للغزوات أثناء تفسيره ومن ذلك ماجاء في قوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } (1) قال : يعني بيعة الرضوان التي كانت في الحديبية بايع المسلمون النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة على الموت ، وكانوا ألفا وستمائة وقيل فيما زاد على الألف : إنه خمسمائة ، وقيل : ثلاثمائة ، وعن ابن عباس : ألف وخمسمائة وعشرون . ثم نقل الأخبار في تعيين الفتح القريب في قوله تعالى { وأثابهم فتحًا قريبا } (2)، يعني فتح خيبر ، عن أبي ليلى وغيره ، وقيل : هو فتح مكة(3).
وفي قوله تعالى { كمن مثله في الظلمات } (4)
قال : روي أن أبا جهل رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرث فأُخبر بذلك حمزة قبل إسلامه فغضب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فمر أبا جهل فعلاه بقوس كان في يده وأسلم حمزة- رضي الله عنه - ونزلت الآية في ذلك .
وقد تقدم في أسباب النزول طرف مما يتعلق بالسيرة أيضًا .
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
وليس المهدوي من المكثرين من ذكر الإسرائيليات في تفسيره إلا أنه ربما تعرض لها لاسيما عند تعيين بعض من أبهم ومن ذلك قوله تعالى : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } (5) حيث ذكر أن الرجل عند الحسن : قبطي ابن عم لفرعون، وأما السدي فيجعله إسرائيليًا يكتم إيمانه من آل فرعون ، وذكر بعض المفسرين أن اسم هذا الرجل حبيب ، وقيل : سمعان وقيل : حزقيل .
ثم يعلق المهدوي على هذه الروايات بقوله : ومن جعل الرجل قبطيًا فمن عنده متعلقة بمحذوف ، صفة لرجل ، والتقدير : وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون، ومن جعله إسرائيليًا فمن متعلقة بيكتم في موضع مفعول ثان ليكتم .
__________
(1) الفتح : 18 .
(2) الفتح: 18 .
(3) التحصيل 4/88
(4) الأنعام :122
(5) غافر : 28 .(12/15)
ويختار المهدوي التفسير الأول وهو تفسير الحسن محتجًا لذلك بقوله تعالى { ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } (1) ، قال : وفي قول الرجل ياقوم دليل على أنه قبطي(2).
ثامنا : موقفه من اللغة :
يتضح لدارس تفسير المهدوي أحاطته الواسعة بفنون اللغة وأساليبها واستعمالاتها ، وامتلاكه لقواعد اشتقاقها وتصريفها ، ومعرفة غريبها ، وقدرته الفائقة على توجيهه القراءات القرآنية ، وحل مشاكل الإعراب الخفية .
ويتسم منهج المهدوي في تناول شرح المفردات اللغوية في التفسير باعتماد علماء اللغة والنحو ، الذين سبقوه في الظهور ، وخاصة من اشتهر منهم بالعناية بالتفسير اللغوي للقرآن كسيبويه والفراء وأبي عبيدة والأصمعي والمبرد وغيرهم ….
قال في تفسير قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم } (3): وأصل اسم الله الذي هو "الله" عند سيبويه (لاه) دخلت عليه الألف واللام للتعظيم ، لا للتعريف ولسيبويه أيضا قول آخر : أن أصله (إله) فحذفت الهمزة .. الخ .(4)
وفي قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة } (5) ذكر أن اشتقاق آدم من الأدمة في اللون ، وهي السمرة فلا يصرف على هذا الوجه ، إذا سمي به ، ثم نكر عند سيبويه . وقيل : هو مشتق من أديم الأرض : وهو وجهها فيصرف إذا سمي به في المعرفة والنكرة(6).
وفسر السبات بأنه الراحة في قوله تعالى { وجعلنا نومكم سباتا } (7)، وقال : يقال: سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته . وقيل : إن أصل السبات الانقطاع عن العمل من أجل الراحة . ومنه يوم السبت(8).
وفي شرح قوله تعالى : { والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم } (9)قال ثعلب : التعس : الشر .
وقيل : هو البعد .
__________
(1) غافر: 29 .
(2) التحصيل 4/40-41
(3) الفاتحة :1
(4) التحصيل 1/5
(5) البقرة:31 .
(6) التحصيل 1/19
(7) النبأ : 9
(8) التحصيل 4/170
(9) محمد:9 .(12/16)
ابن السكيت : التعس ، أن يخر على وجهه ، والنكس أن يخر على رأسه . والتعس أيضا : الهلاك(1).
وقال في قوله تعالى { لافيها غول ولا هم عنها ينزفون } (2):
والغول في اللغة : الأذى والمكروه . يقال غاله الشراب واغتاله ، إذا أذاه وذهب بعقله ، والنزيف : السكران ، وهو المنزف أيضًا ، يقال : نزف الرجل : إذا ذهب عقله من السكر . وحكى أبو عبيدة : أنزف ، إذا سكر .
وقال في قوله تعالى { ولاتؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم } (3):إن (أو) عند الفراء تدل على حتى ، وتدل على (إلا أن) وذهب إلى نفس المعنى الكسائي واستدل بقول العرب : لا نلتقي أو تقوم الساعة .
أما عند الأخفش فهي عاطفة على { ولا تؤمنوا } أي ولا تصدقوا أن يحاجوكم عند ربكم(4) .
وفي قوله تعالى { وفتحت أبوابها } (5)، قال :
الواو إثباتها عطف جملة وحذفها للضمير العائد من الجملة الثانية .
وقيل : الواو في قصة أهل الجنة زائدة ، وقيل : زيادة الواو دليل على أن الأبواب، فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله عز وجل ، والتقدير : حتى إذا جاؤوها وأبوابها مفتحة . وحذف الواو في قصة أهل النار ، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم ، إذلالا وترويعا لهم وهو قوله تعالى { حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها } (6) ، ثم ذكر أن الواو زيدت في قصة أهل الجنة الذين فتحت لهم الأبواب { وفتحت أبوابها } ، لأن أبواب الجنة ثمانية . أما أبواب جهنم فهي سبعة ، ووقع التفريق بينهما – الجنة وجهنم – بزيادة الواو(7).
__________
(1) التحصيل 4/83
(2) الصافات :47
(3) آل عمران :73 .
(4) التحصيل 1/175
(5) الزمر : 73 .
(6) الزمر :71 .
(7) التحصيل 4/37(12/17)
وفسر قوله تعالى { وإذا العشار عطلت } (1) بأن العشار من النوق : الحامل التي بلغت عشرة أشهر في حملها وواحدها عشراء ، وقد تسمى بذلك إلى أن تلد ، وبعيد ذلك . والعشار أعز مايكون عند العرب، واهتمامهم بها أشد فأخبر أنها تعطل يوم القيامة(2).
وهو لا يكثر من الاستدلال بالشعر ففي قرابة ستين صفحة لم يذكر سوى بيتين من الشعر تقريبا .
ومن مواضع استدلاله بالشعر في قوله سبحانه { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من
الذل ينظرون من طرف خفي } (3)
قال : وقيل : إن الطرف هاهنا العين ، والمعنى ينظرون من عين ضعيف النظر ، والعرب تستعمل هذا في المريب ومنه قول الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير ………………
وقال في تفسير آية { ولتعرفنهم في لحن القول } (4)، أي في فحواه ومعناه ، ومنه قول الشاعر :
وخير الكلام ماكان لحنا ………………
أي ماعرف بالمعنى ولم يصرح به .
وقد ذكرنا أنه يفرد فصلا يقول فيه : الإعراب ويرتبه بناء على القراءات التي ذكرها ، ويمثل قسم الإعراب جانبا هاما من تفسير المهدوي .
والمهدوي في حل مشكل إعراب القرآن يعرض الوجوه المختلفة ، وينتقد بعضها أحيانا ، مع تعليل سبب الاعتراض ، ولا يكتفي بإعراب مشكل الآية بل يعلل الإعراب ويختار مايراه أسلم في الذوق العربي ، وأقرب إلى منطق القواعد النحوية .
__________
(1) التكوير : 4 .
(2) التحصيل 4/178
(3) الشورى : 45 .
(4) محمد :30 .(12/18)
ففي سورة الكهف بعد أن انتهى من ذكر فضلها والتفسير والقراءات قال : الإعراب : قوله : { قيما } (1) منصوب على الحال من الكتاب . وقوله : { ولم يجعل له عوجا } (2) اعتراض بين الحال وبين ذي الحال الذي هو الكتاب . وقيل إن { قيمًا } منصوب بإضمار فعل ، المعنى : ولكن جعله قيمًا فهو مفعول ثان لجعل المضمر فيوقف على هذا التقدير على الكتاب ولا يوقف عليه على التقدير الأول وقيل : انتصابه على تقدير : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا } (3) أنزله قيمًا . فهو منصوب على الحال من الهاء المضمرة في الفعل المضمر.
وسكوت حفص على { عوجا } إيذان بأن الجملة معترضة وفرار من أن يتوهم في وصله أن { قيمًا } وصف لعوج . وسكوته على { مرقدنا } (4) ليدل على أن هذا ماوعد الرحمن .
وفي سورة طه : بدأ بعد التفسير الإعراب فقال قوله : { إلا تذكرة لمن يخشى } (5): مفعول له على تقدير فعل مضمر ، التقدير : ما أنزلنا القرآن لتشقى ، ما أنزلناه إلا تذكرة، ولا يجوز حمله على الفعل الأول ، لأن ثم مفعولاً آخر ، فلا يكونان لفعل واحد .
وأجاز بعض النحويين أن يكون بدلاً من { لتشقى } (6) وأنكره أبو علي (يعني الكسائي) من أجل أن التذكرة ليست بتشقى . ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر على التقدير: أنزلناه به تذكرة .
وفي سورة المسد بعد أن تكلم عن التفسير والقراءات قال : الإعراب :
__________
(1) الكهف :2
(2) الكهف :1
(3) الكهف :1
(4) يس :52
(5) طه :3
(6) طه :2(12/19)
فتح الهاء وإسكانها من أبي لهب لغتان ، { وامرأته حمالة الحطب } (1) يجوز أن تكون ابتداء وخبره فيمن رفع { حمالة } يكون : { في جيدها حبل من مسد } (2) فيوقف على ماتقدم على { ذات لهب } ويجوز أن تكون "وامرأته" معطوفة على المضمر في { سيصلى } (3) فلا يوقف على { ذات لهب } ويوقف على { امرأته } وتكون { حمالة الحطب } خبر مبتدأ محذوف ومن نصب { حمالة } فعلى الذم كأنها اشتهرت بذلك فجاءت الصفة للذم لا للتخصيص .
وفي إعرابه لقوله تعالى { قل اللهم مالك الملك } (4)، نقل عن سيبويه أن الميم من { اللهم } هي عوض عن ياء النداء ، ولا توصف لفظة { اللهم } ، وقوله : { مالك الملك } منصوب على النداء . ونقل عن الزجاج والمبرد وغيرهما أنه صفة . وأشار المهدوي إلى أن أبا علي اختار رأي سيبويه لأنه أبين ولأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم ، فإذ خالف أصل ما عليه الأسماء الموصوفة ، ودخل في حيز الأصوات وجب ألا يوصف . ثم نقل المهدوي تعليل أبي علي لهذا الإعراب المتمثل في أن { اللهم } اسم منادى ، وأن الأصل عدم وصف المنادى المعرفة المفرد، فلما وصف بسماع كما حكى سيبويه عن العرب من قولهم : ياتميم أجمعين ، وضم إلى اسم الله تعالى صوت ، وصيغ معه ، وكان حكم الأصوات ألا توصف ، وكان قياس المضموم إليه هذا الصوت قبل ضمه ، ألا يوصف ، صار بمنزلة صوت مضموم إلى صوت ...(5)
وقال في إعراب قوله عز وجل : { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } (6) : في { مفتحة } ضمير الجنات ، والأبواب بدل منها ، بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال ، لأن الأبواب بعض الجنات ، وهي مشتملة عليها .
والفراء يذهب إلى أن { الأبواب } مرفوعة بلفظة مفتحة والألف واللام في مقام الضمير والتقدير : مفتحة لهم أبوابها .
__________
(1) المسد :4
(2) المسد :5
(3) المسد :2
(4) آل عمران : 26 .
(5) التحصيل 1/167
(6) ص: 50(12/20)
وأنكر أبو علي القولين معا وقال : لو جاز ماذهب إليه الفراء لم يقولوا : هند حسنة الوجه ، ولقالوا هند حسن الوجه . كما قالوا : هند حسن وجهها ، ففي ذلك دليل على أن الألف واللام لا تسد مسد الضمير في اللفظ ، وإن كان المعنى عليه ...الخ (1)
وهو لا يهتم كثيرا بالنكات البلاغية ، وإنما يشير إلى بعضها أثناء تفسيره بايجاز ، ففي أسلوب التمثيل تناول تفسير قوله تعالى { وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } (2)فأوضح أن هذا مثل ضربه الله للحق في ثباته ، والباطل في زواله ليعلم أن الباطل وإن قوي وعلا ، فإنه إلى اضمحلال واندثار كالزبد الذي يذهب جفاء والماء في الآية هو الحق والزبد الرابي هو الباطل ، والأودية مثل القلوب ...الخ (3)
وعني المهدوي بأسلوب الحذف في القرآن ، وأشار إلى ماورد في ذلك ، والحذف حسب رأي سيبويه وابن عطية والزركشي وغيرهم ، من مجاز القرآن ، وهو أنواع منه حذف المفعول ، وحذف المضاف ، وحذف الجواب(4).
ومن أمثلة الحذف ماذكره المهدوي في تفسير قوله تعالى { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض .. } (5)فأوضح أن الجواب محذوف ، كأنه قال : هذا القرآن ، ثم أورد رأي الفراء في تعيين الجواب المحذوف وهو : لو فعل لهم هذا لكفروا . كما نقل عن بعض النحاة رده لتعيين الجواب المحذوف الذي هو : هذا القرآن . وذلك لأن الآية لم تأت لتفضيل القرآن ، بل سيقت في معرض ذم الكفار، والدليل ما جاء قبلها في القرآن ، وهو قوله تعالى { وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي } (6) ، وما جاء بعدها { أفلم ييأس الذين آمنوا } (7) (8)
تاسعا : موقفه من القراءات :
__________
(1) التحصيل 4/29
(2) الرعد :17 .
(3) التفصيل 2/147
(4) انظر البرهان 3/103
(5) الرعد : 31 .
(6) الرعد :30 .
(7) الرعد :31 .
(8) التحصيل 1/151(12/21)
ورغم كثرة تآليف المهدوي في القراءات إلا أنه خصص لها بابا في التفسير بكتابيه التفصيل والتحصيل ، وهو الباب الثالث كما أدمجها مع الإعراب ، في الباب الرابع ثم جعل لها في آخر التفسير قسما خاصا بأصولها .
وقد قال في مقدمة كتابه :
وأذكر القراءات السبع في الروايات التي اقتصر عليها أهل الأمصار ، سوى من لم يبلغ مبلغهم في الاشتهار إلا مالا اختلاف بين السبعة القراء ، فإني أذكره منسوبا إلى بعض من روي عنه من القراء ، ليعرف من هذا الاختصار ما هو من القراءات المروية مما لم يقرأ بها قارئ ، وإن كان جائزا في العربية(1).
وإن القسم الخاص بالقراءات من تفسير المهدوي ليشكل كتابا بمفرد في القراءات واختلاف أوجهها يمكن أن يضاف إلى كتبه الأخرى التي أفردها للتأليف في القراءات خاصة إذا أضيف إليها ما ألحقه بآخر التفسير من عناية بأصول القراءات . وجاء في آخر كتابه قوله : قد أتيت في جميع سور القرآن على ما شرطته في صدر الديوان وأنا أذكر على أثر ذلك أصول القراءات وأجمل منها ما بسطته في الكبير(2).
وقد ذكرت صاحبة التفسير واتجاهاته خلاصة لخصائص معالجة المهدوي لفن القراءات في تفسيره وهي :
له اهتمام كبير بالقراءات ، إذ هو من أئمة هذا العلم .
ماذكره في التفسير بقسم القراءات يمثل كتابا خاصا منفردا فيها .
يعتمد منهجه في القراءات على قواعد أساسية ثابتة هي :
أخذ جملة آيات وعرض القراءات المختلفة فيها .
جمع القراءات وذكر الاختلاف بين القراء حول الحرف الواحد .
تعليل القراءة والاحتجاج لها بالشعر وأقوال العرب .
تفسير القرآن بحسب اختلاف القراءة .
رده بعض القراءات المخالفة للرسم القرآني .
التنصيص على القراءة الشاذة .
العناية بالوقف .
عدم التخلي عن ذكر تخلف القراء ، أو الإعراب في السورة ، والتنصيص على الاستثناءات في كل ذلك(3).
__________
(1) التحصيل 4/200
(2) التحصيل 4/218
(3) التفسير واتجاهاته ص253(12/22)
ومن الأمثلة التطبيقية على بعض ماتقدم قال :
سورة الأنعام :
تقدم القول في قوله { ميتا } (1) و { رسالاته } (2)
ابن كثير : { يجعل صدره ضَيْقا حرجا } بالتخفيف وشدد الباقون ، وكذلك الاختلاف في الفرقان(3).
نافع وأبوبكر : { حرِجا } بكسر الراء وفتح الباقون .
ابن كثير : { كأنما يَصْعَد في السماء } أبوبكر { يصّاعَد } الباقون { يَصَّعَّد } (4)
ابن هرمز والحسن : ….الخ وذكر فيمن ذكر من القراء : أبا رجاء وطلحة بن مصرف وأبا السمال وابن رئاب والنخعي .
ثم تكلم عن توجيهها جميعا
وقال : فيها عشر ياءات إضافة فذكرها وفيها محذوفتان فذكرهما .
وبعد أن انتهى من تفسير سورة الكهف قال : القراءات .
كان حفص عن عاصم يسكت على قوله { عوجا } (5)سكتة خفيفة وكذلك { مرقدنا } (6)
نافع وابن عامر : { مَرفِقا } ، والباقون : { مِرفَقا } (7) .
__________
(1) الأنعام :122
(2) الأنعام :124
(3) يعني قوله : { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقًا } آية: 15 ، وآية الأنعام رقمها125
(4) الأنعام :125وقراءة ابن كثير بإسكان الصاد المهملة وتخفيف العين بدون ألف وقراءة أبي بكر شعبة بتشديد الصاد والألف أصلها "يتصاعد" أدغمت التاء في الصاد (انظر إتحاف فضلاء البشر ص216)
(5) الكهف :1
(6) يس :52
(7) قراءة نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء والباقين بكسر الميم وفتح الفاء. وهما بمعنى واحد (انظر إتحاف فضلاء البشر ص288 ، الغاية في القراءات العشر ص194)(12/23)
ابن عامر : { تَزْورّ(1)عن كهفهم } (2) ، عاصم وحمزة والكسائي : { تَزَاوَر } بالتخفيف، والباقون : { تَزَّاور } بالتشديد ، وروى الجحدري : { تَزْوَارّ } (3) .
وفي سورة الأنبياء بعد أن انتهى من التفسير قال : القراءات .
معاذ بن جبل : "وبالله لأكيدن أصنامكم" (4) ، الكسائي : { فجعلهم جِذاذا } (5) بكسر الجيم ، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها .
أبو حيوة : " ثم نكِّسوا على رؤوسهم" (6)بتشديد الكاف .
وقال أيضا : القراءات الواردة في سورة (ص) من قوله تعالى { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } (7)إلى آخر آية من السورة .
ابن كثير { واذكر عبدنا إبراهيم } على التوحيد . والباقون { عبادنا } بالجمع .
الحسن وعيسى الثقفي والأعمش : "أولي الأيد والأبصار"(8) ، بغير ياء .
نافع وهاشم عن ابن عامر { بخالصةِ ذكرى الدار } (9)بالإضافة والباقون بتنوين خالصة .
ابن كثير وأبو عمرو { هذا ما يوعدون ليوم الحساب } (10)بياء(11) والباقون بتاء(12).
حفص وحمزة والكسائي { حميم وغسّاق } (13)بالتشديد ، وكذلك الذي في { عم يتساءلون } (14)، والباقون بالتخفيف .
__________
(1) بإسكان الزاي وتشديد الراء بدون ألف كتحمر (انظر إتحاف فضلاء البشر ص288)
(2) الكهف :17
(3) بألف بعد الواو على وزن تحمارّ ووافقه على ذلك أبو رجاء وأيوب السختياني وابن أبي عبلة وهي قراءة شاذة (انظر البحر المحيط 6/107 وإملاء مامن به الرحمن ص100)
(4) وهي قراءة شاذة وقرأ الجمهور { وتالله لأكيدن أصنامكم } الأنبياء :57
(5) الأنبياء :58
(6) وهي قراءة شاذة وقرأ الجمهور { ثم نكسوا } الأنبياء :65 بالتخفيف .
(7) ص :45
(8) قراءة شاذة والجمهور قرأها { أولي الأيدي والأبصار } ص:45
(9) ص :46
(10) ص :35
(11) يعني تحتية
(12) يعني فوقية
(13) ص :57
(14) يقصد قوله : { إلا حميما وغساقا } النبأ :25(12/24)
أبو عمرو : { وأُخر من شكله أزواج } (1)جمع أخرى . والباقون { وآخر } مفرد مذكر .
...الخ ماذكره من القراءات .
ثم ذكر بعد هذه القراءات المختلفة ، أن سورة ص تضمنت ست ياءات إضافة ، وقع الاختلاف فيها ، فأما حفص فقد فتح { وليَ نعجة واحدة } (2) { ما كان
ليَ من علم } (3)الخ
ثم أشار إلى أن في السورة يائين محذوفتين وهما قوله تعالى { بل لما يذوقوا عذاب } (4) وقوله { فحق عقاب } (5)وقد أثبت الياء سلام ويعقوب (6).
وفي سورة المسد قال : القراءات .
ابن كثير : { يدا أبي لَهْب } (7) بإسكان الهاء ، وفتح الباقون ، الأعمش : "وما اكتسب"(8) وهو خلاف المرسوم .
ومن مواضع اهتمامه بتوجيه القراءات :
قوله تعالى { بل عجبت ويسخرون } (9) قال : من فتح التاء فهو على الخطاب للنبي عليه السلام ، ومن ضم ، جاز أن يكون على معنى أن حالهم إذا تأملتموها كانت مما يقول القائل منكم : عجبتُ .
ويجوز أن يكون على إضمار القول كأنه قال : قل يامحمد : عجبت . وإضمار القول كثير(10) .
وقد رد المهدوي عدة قراءات لمخالفتها للمصحف ومن ذلك قراءة من حذف الكاف في قوله تعالى { ونادوا يا مالك } (11) ، وقراءة : "وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله" (12).
وربما أحال القارئ على القسم المخصص لأصول القراءات في آخر الكتاب ، فقد ذكر في إشباع كسرة الكاف في قراءة قوله تعالى { مالك يوم الدين } (13) ، أن أحمد بن صالح روى عن ورش عن نافع ، إشباع كسرة الكاف وقال : وذلك مذكور في باب في آخر الكتاب(14).
__________
(1) ص:58
(2) ص:23
(3) ص:69
(4) ص:8 .
(5) ص:14 .
(6) التحصيل 4/28
(7) المسد :1
(8) قراءة شاذة وقراءة الجمهور { وماكسب } المسد:2
(9) الصافات:12 .
(10) التحصيل 4/25
(11) الزخرف:48 .
(12) التحصيل 4/67 ، وقراءة الجمهور { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } الزخرف :84
(13) الفاتحة:4 .
(14) التحصيل 1/7(12/25)
ومن مواضع تناوله لموضوع الوقوف في القرآن :
ذكر في قوله تعالى { أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا … } (1) ، أن الوقف على { أفلا تبصرون } وقال : وروي عن عيسى الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على (أم) ، على أن يكون التقدير : أفلا تبصرون أم تبصرون؟، فحذف تبصرون الثاني . وقيل من وقف على (أم) جعلها زائدة ، وكأنه وقف على { تبصرون } من قوله { أفلا تبصرون } ، ولا يتم الوقف على { تبصرون } عند الخليل وسيبويه لأن (أم) تقتضي الاتصال بما قبلها(2).
عاشرا : موقفه من الفقه والأصول :
وكما ذكرنا فإن المهدوي يفرد الأحكام والنسخ بالقسم الأول عند تفسيره الآيات
وهو لايصرح باختياره لأحد الآراء الفقهية ، وهو المنهج الذي سلكه في تناوله لأغلب المسائل الخلافية . غير أنه يمكن ملاحظة ميله إلى مذهبه المالكي إذ كثيرا مايورد رأي مالك في الصدارة ثم يعقبه برأي الشافعي تلميذه قبل ذكر رأي أبي حنيفة .
في قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } (3) قال : يعني الأحرار خاصة في قول أكثر العلماء .
ولا تجوز شهادة العبد عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم .
وأجازها شريح وابن حنبل وإسحاق وغيرهم .
وأجازها الشعبي والنخعي في الشيء اليسير .
ثم أشار المهدوي إلى شهادة الصبيان واختلاف أئمة الفقه حولها فصدر ذلك برأي مالك ، الذي يجيز شهادتهم فيما بينهم في الجراح خاصة مالم يختلفوا ، ولا تجوز شهادة الواحد منهم على كبير أو لكبير على صغير .. ولم يجز الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه شهادة الصبيان .
ثم تعرض إلى الاختلاف حول شهادة القاذف إذا تاب ، وهي التي أجازها مالك والشافعي ، ولم يجزها أبو حنيفة وأصحابه ، وبين أن أكثر العلماء يجيزون شهادة من أتى حدا من الحدود كشرب الخمر وغيره إذا تاب وحسنت توبته .
__________
(1) الزخرف:51-52 .
(2) التحصيل 4/64
(3) البقرة: 282 .(12/26)
وبعد أن أورد المهدوي أقوال العلماء في تعيين من تقبل شهادتهم واختلافهم في ذلك ، انتقل إلى موضوع آخر له اتصال بالشهادة ، وهو شهادة أهل الأهواء ، وهل تقبل شهادتهم ومن يردها من الأئمة ، ومن يعمل بها منهم ، قال : ولم يجز مالك شهادة القدرية ، وأجاز الشافعي وأبو حنيفة شهادة أهل الأهواء .
ثم تكلم بعد ذلك عن نوع آخر من الشهود فقال : وتجوز شهادة لاعب الشطرنج في قول مالك ، والشافعي وغيرهما ، قال الشافعي : إلا أن تشغله عن الصلاة .
أما شهادة شاهد الزور فلا تقبل أبدا عند مالك ، وتقبل شهادته عند الشافعي وأبي حنيفة إذا تاب .
ولا تقبل عند مالك وأبي حنيفة والشافعي شهادة الولد للوالدين ولا الوالدين للولد.
وعقب المهدوي على ذلك بذكر من يقبل هذه الشهادة وهم أبو ثور وابن راهويه وغيرهما .
ثم تعرض إلى حكم شهادة أحد الزوجين لصاحبه فأوضح أن مالكا لا يقبلها ، في حين قبلها الشافعي وأبو ثور وغيرهما .
كما أورد القول في شهادة الأعمى التي أجازها مالك وغيره ولم يجزها الشافعي وأبو حنيفة(1).
وفي قوله تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } (2) ذكر اختلاف العلماء حول هذا الموضوع ، بعضهم لا يضبطه بمقدار ، يكثر ويقل بحسب ما تواصوا به ، وهو مذهب الحسن البصري وعمرو بن دينار والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المسيب ، ويجمعون على أنه لو أصدقها سوطا حلت به … وحدد مالك المهر بربع دينار ، وحدد أبو حنيفة وأصحابه أقل المهر بعشرة دراهم .
وذكر ابن جبير أنه يجب أن يكون خمسين درهما ، والأوزاعي يكتفي بمهر قدره درهم … .
وكل هذا يستفاد مما نقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وصحابته والتابعين من إكثار في المهر وإقلال وتوسط .
__________
(1) التحصيل 1/149
(2) النساء : 4 .(12/27)
وقد سأل أبو سلمة بن عبد الرحمن عائشة رضي الله عنها عن صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، الذي كان يقدمه لنسائه ، فقالت : اثنتي عشرة أوقية ونش(1) . قال مجاهد : الأوقية أربعون درهما ، والنش عشرون درهما .
وروي أن الحسن بن علي لما تزوج إحدى نسائه أرسل إليها مائة جارية ، ومع كل جارية ألف درهم .. .
وتزوج عمر بن الخطاب ابنة علي بن أبي طالب على أربعين ألف درهم .
وأصدق ابن عمر صفية عشرة آلاف درهم ، وكذلك كان يزوج بناته .
وتزوج ابن عباس شميلة على عشرة آلاف درهم أيضا … كما تزوج أنس بن مالك بنفس هذا المقدار … .
وروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله لرجل : “فالتمس ولو خاتما من حديد”(2).
وفي سورة طه الآيات من أولها إلى قوله تعالى : { وقد خاب من افترى } (3)حدد المهدوي مايتعلق بالأحكام في تلك الآية بقوله :
__________
(1) أخرجه مسلم –كتاب النكاح- باب الصداق …2/1042
(2) التفصيل 1/87 ، أخرجه البخاري مختصرًا بنحو هذا اللفظ –باب المهر بالعروض وخاتم من حديد 9/216 . وأخرجه البخاري بنحوه مطولا –كتاب النكاح – باب التزويج على القرآن ولو بغير صداق 9/205 ، ومسلم –كتاب النكاح- باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد 2/1040 .
(3) طه :61(12/28)
فيه ما يتعلق بها في موضعين : أحدهما قوله تعالى { فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى } (1)فظاهر هذه الآية يدل على وجوب نزع النعلين في المساجد . وذلك غير لازم . وإنما أمر موسى بخلع نعليه لأنهما كانتا من جلد حمار غير ذكي . وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(2)
وقال الحسن ومجاهد وغيرهما إنما أمر بخلعها ليباشر الوادي المقدس بقدميه تبركا به .
قال الحسن وابن جريح : كانت نعلاه من جلد بقر .
وقد تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في نعليه ولا ينزعهما(3) وكان يدخل بهما في مسجده والمسجد الحرام .
والآية الأخرى قوله تعالى : { وأقم الصلاة لذكري } (4)، ...الخ فذكر مافيها على نفس النهج .
وقال في سورة الأعراف : القول من أولها إلى قوله { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } (5)لا أحكام ولا نسخ فيها ثم قال : التفسير …
وتحت قوله تعالى : { يواري سوءاتكم } (6)أفاض في الكلام عن حد العورة وتطرق منه لصلاة المرأة وشعرها مكشوف أو شيء من بدنها ونقل أقوال المذاهب في ذلك على غرار ماتقدم .
__________
(1) طه :12
(2) يعني أن نعليه كانتا من جلد حمار غير ذكي روي ذلك فيما أخرجه الترمذي – كتاب اللباس - باب ماجاء في لبس الصوف 4/224 والعقيلي في الضعفاء رقم 97 والحاكم في المستدرك 2/379 وغيرهم عن ابن مسعود مرفوعا . وقال الترمذي : غريب . وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري فتعقبه الذهبي بقوله : بل ليس على شرط البخاري، وإنما غره أن في الإسناد حميد بن قيس كذا وهو خطأ إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمار أحد المتروكين فظنه المكي الصادق . وانظر السلسلة الضعيفة 3/389 ،
(3) من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب اللباس – باب النعال السبتية وغيرها 10/308 عن أنس .
(4) طه :14
(5) الأعراف :25
(6) الأعراف :26(12/29)
وأما موقف المؤلف من النسخ فهو يقول بوقوعه مثل الجمهور ، ويدل على هذا وضعه العناوين الخاصة بذلك مثل : الأحكام والنسخ ، لا أحكام ولا نسخ ، لا أحكام والنسخ كذا … الخ .
وقد قدم تعريفا موجزا للنسخ وأنواعه محيلا على كتابه الكبير لزيادة البيان والتفصيل ، وذلك أثناء تفسيره لقوله تعالى { ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } (1) حيث قال : أصل النسخ إبدال الشيء من غيره ، وهو على ضروب : نسخ الرسم وبقاء الحكم ، ونسخ الحكم وبقاء الرسم ، ونسخ الرسم والحكم جميعا ثم أشار إلى أن من معانيه تحويل الخط من كتاب إلى كتاب وختم بقوله : وقد بينت ذلك في الكبير(2).
وقال في تفسير بقية الآية وهو قوله تعالى { أو ننسها } ، يعني النسيان الذي هو ضد الذكر كما قال تعالى { سنقرئك فلا تنسى } (3) ثم قال { نأت بخير منها أو مثلها } ، يعني بخير منها لنا في العاجل ...
وقد ذكر نسخ أول الأنفال بقوله { واعلموا أنما غنمتم من شيء } (4)وقال : وممن روي عنه أنها منسوخة ابن عباس ومجاهد وغيرهما .
ومن الآيات التي رجح أنها منسوخة ، ما جاء في تفسيره لقوله تعالى { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } (5) قال : قال ابن عباس وعائشة وغيرهما : هي محكمة، والمعنى عندهما أن الله تعالى يحاسب خلقه على ماعملوه وما أسروه في أنفسهم فيغفر للمؤمنين ويؤاخذ الكافرين والمنافقين .
__________
(1) البقرة : 106 .
(2) التحصيل 1/59
(3) الأعلى :6
(4) الأنفال :41
(5) البقرة :284 .(12/30)
وعن عائشة رضي الله عنها أن محاسبة الله عز وجل خلقه على ما أسروه ولم يعملوه، إنما هو بالمصائب في الدنيا هذا معنى قولها . وروي معناه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - .(1)
وعن مجاهد وعكرمة وغيرهما أنها محكمة مخصوصة في كتمان الشهادة . وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهم أنها منسوخة بقوله { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (2) .
ويعقب المهدوي على كل هذا بقوله وأحسن ما يحمل هذا المذهب عليه أن تكون الآية إنما نسخت الشدة اللاحقة بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزولها ، فيكون من قولهم : نسخت الريح الآثار أي أزالتها ، ومن قولهم نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت محله فكأن اللين في الآية الأخرى أزال الشدة التي في الأولى وحل محلها ، فإن لم يحمل على هذا ففيه بعد ، لأنه خبر ، وإذا لم يكن في الخبر معنى الأمر والنهي استحال نسخه (3).
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب المرضى - باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى { من يعمل سوءا يجز به } 10/103 عن عائشة مرفوعا : “ ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها”
(2) البقرة : 286 .
(3) التحصيل 1/150-151(12/31)
ولا يجيز المهدوي نسخ القرآن بالسنة وقد عبر عن رأيه هذا عند تفسير قوله تعالى { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } (1) ، وتأول معنى الحديث الذي اعتبره البعض ناسخا للآية السابقة فقال : قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة أن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر وأنه منسوخ ، بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : “ولا صمات يوم إلى الليل”(2) . وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وعلى أن زكريا إنما منع من الكلام بآفة دخلت عليه منعته من الكلام ، وتلك الآفة عدم المقدرة على الكلام مع الصحة ، كذلك قال المفسرون . وذهب كثير من العلماء إلى أن قوله عليه الصلاة والسلام : “لا صمات يوم إلى الليل” إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهذر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك واجب(3).
كما لا يقبل نسخ الأخبار كما تقدم ويرى أنه مستحيل ولهذا فهو يرفض أن تكون آية النساء الواردة في وعيد القاتل ناسخة لآخر آية في سورة الفرقان المتضمنة حصول التوبة له(4).
ومن مواضع تعرضه لبعض الأصول الأخرى :
ماجاء في تفسيره لقوله عز وجل { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرا } (5) حيث فسر قوله تعالى { يتدبرون } بالتفكير في القرآن وفي معانيه وأوامره ونواهيه ثم قال : وفي الآية دليل بين على وجوب فهم معاني القرآن وفساد قول من قال لا يجوز أن يؤخذ التفسير إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها دليل على فساد التقليد والأمر بالنظر ، والاستدلال ، وفيها دليل على إثبات القياس(6).
__________
(1) آل عمران : 41 .
(2) أخرجه أبو داود – كتاب الوصايا- باب متى ينقطع اليتم 3/115 عن علي بن أبي طالب مرفوعا في حديث أطول منه ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الصغير ورجاله ثقات (المجمع4/334)
(3) التحصيل 1/162
(4) التحصيل 1/233
(5) النساء :82 .
(6) التفصيل 1/119(12/32)
ونظرا لتقدم هذا التفسير نراه لا يتعرض للعلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية .
أما موقفه من المواعظ والآداب فنراه سلبيا لا يظهر لها ذكر واضح وإنما تأتي ضمنا خلال سوق النقول التفسيرية .(12/33)
تفسير بقي بن مخلد
من خلال نقول من تفسيره وكتابه في الحوض والكوثر
***
مؤلف هذا التفسير هو بقي بن مخلد بن يزيد الأندلسي أبو عبد الرحمن القرطبي ت276هـ وهو من الوافدين على المنطقة دخل إفريقية وسمع بها من الإمام سحنون وجماعة من أهلها .(1)
التعريف بالتفسير :
وتفسير بقي بن مخلد من التفاسير المفقودة ويبدو أنه فقد فيما فقدته الأمة من تراث مع الهجمات الصليبية على الأندلس(2) ، والكتاب له مكانة كبيرة عند أهل العلم . قال الداوودي : ولبقي بن مخلد تفسير القرآن ، ومسند النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لأحد مثله.(3)
ووصفهما الذهبي بقوله : لانظير لهما .(4)
وقال الحميدي : قال لنا أبو محمد علي بن أحمد : فمن مصنفات أبي عبد الرحمن كتابه في تفسير القرآن فهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا استثناء فيه أنه لم يؤلف في الإسلام مثله ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره ومنها في الحديث مصنفه الكبير … ومنها مصنفه في فتاوى الصحابة والتابعين ومن دونهم …إلى أن قال : فصارت تواليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها .(5)
وقد اختصر تفسيره هذا عبد الله بن محمد بن حسن بن عبد الله بن عبد الملك أبو محمد القرطبي المتوفى سنة 318هـ ولم يصلنا هذا المختصر أيضا .
وتفسير بقي يرويه ابن عبد البر عن شيخه أحمد بن عبد الله بن محمد الباجي عن أبيه عن عبد الله بن يونس بن محمد المرادي القبري عن بقي به . (6)
وسوف أعطي عرضا موجزا عن تفسيره من خلال النقول التي وقفت عليها في كتاب التمهيد لابن عبد البر كما رواها عنه ، ومن خلال بعض الروايات التفسيرية التي رواها بقي في كتابه : ماروي في الحوض والكوثر .
__________
(1) تقدمت ترجمته في الوافدين برقم 20
(2) انظر بقي بن مخلد القرطبي ومقدمة مسنده ص50
(3) طبقات المفسرين 1/117
(4) انظر السير 13/285 .
(5) بغية الملتمس وجذوة المقتبس 1/301،302
(6) انظر جهود ابن عبد البر ص127(13/1)
منهج المؤلف العام في تفسيره :
يبدو من خلال ماوقفنا عليه من نصوص تفسيرية أن منهج بقي في تفسيره هو سرد الروايات التفسيرية المسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى الصحابة والتابعين ذات العلاقة بتفسير الآية ، ويسوق الطرق ومختلف الألفاظ أحيانا ولا يتدخل بتعليقات من عنده على نهج كتب الأئمة المتقدمين المقتصرين على التفسير بالمأثور أمثال عبد الرزاق وعبد ابن حميد والنسائي وابن أبي حاتم وغيرهم ، وتتضمن هذه الروايات نصوصا لغوية وأسباب نزول وناسخا ومنسوخا وغير ذلك .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : موقفه من العقيدة :
ذكر بقي بعض الروايات التي تخدم أبوابا من أبواب العقيدة ، وهي تدلل على عقيدة سلفية ومن ذلك مارواه في عذاب القبر :
قال(1) : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال حدثنا هشام بن يوسف عن ابن جريج قال أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } (2) لا إله إلا الله { وفي الآخرة } المسألة في القبر .(3)
ومارواه في إثبات الشفاعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
__________
(1) انظر التمهيد 22/249
(2) إبراهيم : 27
(3) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 2/432 وابن جرير في تفسيره 13/218 وذكره النحاس في معاني القرآن 3/530 والسيوطي في الدر 5/33 .
إسحاق : قال الحافظ ابن حجر : صدوق تكلم فيه لوقفه في القرآن (التقريب 338) . وهشام : قال الحافظ : ثقة (التقريب 7309) ، وابن طاوس : اسمه عبد الله قال الحافظ : ثقة فاضل عابد (التقريب 3397) ثقتان وابن جريج وطاووس مشهوران وقد صرح ابن جريج بالسماع فأمنا تدليسه فالإسناد حسن .(13/2)
حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدثنا قيس عن عاصم عن زر ، عن ابن مسعود { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } (1): الشفاعة (2).
كما قال ابن عبد البر(3) محيلا القارئ إلى أقاويل العلماء في قوله تعالى { فلما تجلى ربه للجبل } (4) : فلينظر في تفسير بقي بن مخلد ومحمد بن جرير وليقف على ما ذكرا من ذلك ففيما ذكراه كفاية .
وفي بعض القضايا المتعلقة بالروح :
قال ابن عبد البر(5) : … { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } (6) فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما قالا : تقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، تتعارف ماشاء الله أن تتعارف ؛ فيمسك التي قضى عليها الموت التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى . ذكره بقي بن مخلد عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير . وذكره أيضا عن يحيى بن رجاء عن موسى بن أعين عن مطرف عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعنى حديثهما واحد . (7)
ثانيا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
وتحت قوله تعالى { طوبى لهم وحسن مآب } (8) وقفت على رواية لبقي قال :
__________
(1) الإسراء :79
(2) في إسناده يحيى بن عبد الحميد الحماني قال الحافظ : حافظ إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث (التقريب 7591) وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود معناه مطولاً ، كما رواه أحمد والحاكم وغيرهما عنه مرفوعًا بمعناه (انظر الدر المنثور 4/218) .
(3) التمهيد 7/153
(4) الأعراف :143
(5) التمهيد 5/241
(6) الزمر :42 .
(7) أخرجه ابن جرير في تفسيره 24/9 وأبو الشيخ في العظمة 3/884 –885 كلاهما من طريق يعقوب القمي عن سعيد بن جبير به من قوله . ويعقوب : قال الحافظ : صدوق يهم (التقريب 7822) وجعفر : مثله (التقريب960) فالإسناد إلى سعيد حسن .
(8) الرعد : 29(13/3)
نا ابن ذكوان ، قال : حدثنا مروان ، قال : نا معاوية بن سلام ، قال : حدثني أخي زيد بن سلام أنه سمع جده أبا سلام قال : حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول : جاء أعرابي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ما حوضك هذا الذي تحدث عنه ؟ قال : “هو ما بين البيضاء إلى بصرى ، ويمدني الله فيه بكراع(1) لا يدري أحد ممن خلق الله أين طرفيه” . قال : فكبر عمر . فقال: أما الحوض فيرد عليه فقراء المهاجرين الذين يقتلون في سبيل الله ويموتون في سبيل الله ، وأرجو أن يوردني الله الكراع فأشرب منه . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “إن الله وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا من غير حساب ، ويشفع كل ألف لسبعين ألفا وحثا لي بكفه ثلاث حثيات” قال : فكبر عمر ، فقال : سبعون ألفا كلهم يشفعون في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم ، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الثلاث . فقال : يارسول الله وهل في الجنة شجر ؟ قال : “نعم ، فيها شجرة تدعى : طوبى ، بطنان(2) الفردوس .” قال : يارسول الله وأي شجرنا تشبه؟ قال : “شجرة بالشام يقال لها : الجوزة ، تنبت على ساق واحد وينتشر أعلاها .” قال : يارسول الله فما غلظها ؟ قال : “لو ركبت على جذعة من إبلك ما أحطت بها حتى يتكسر مشفرها(3) من السير” . قال : يارسول الله هل فيها عنب ؟ قال : “نعم .” قال : فما عظم العنقود ؟ قال : “مسيرة الغراب شهرا لا يفتر ، ولا يقع .” قال : فما عظم الحبة ؟ قال : “هل يجد أبوك تيسا عظيما فيسلخ جلده، فقال لأمك : أفرِ(4) لنا هذه الجلد نصنع به ما شئنا ” فقال :
__________
(1) الكُراع : طرف من ماء الجنة (انظر لسان العرب 5/3858)
(2) بُطْنان الجنة : وسطها (لسان العرب 1/304)
(3) المِشفَر للبعير كالشفة للإنسان (لسان العرب 4/2288)
(4) أفرى الشيء : أصلحه . وفرى المزادة يفريها إذا خرزها وأصلحها . (انظر لسان العرب 5/3407)(13/4)
يارسول الله إن هذه الحبة تشبعني وأهل بيتي ! قال : “نعم وعامة عشيرتك”(1).
وتحت تفسير سورة الكوثر وقفت على تلك الروايات لبقي بن مخلد قال :
نا أبو الأصبغ ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن جعفر بن عمرو ، عن عبد الله ابن مسلم الزهري ، عن أنس بن مالك ،
ونا الحزامي ، قال : نا معن بن عيسى ، عن ابن أخي ابن شهاب ، عن أبيه عبدالله ابن مسلم ، قال : أخبرني أنس ،
وقرئ على يحيى وأنا أسمع : عن الليث ، عن ابن الهادي ، عن عبد الله بن مسلم ، عن ابن شهاب ، عن أنس ،
ونا يونس بن عبد الأعلى ، قال : نا يحيى بن بكير ، قال حدثني الليث ، عن ابن الهادي ، عن عبد الوهاب ، عن عبد الله بن مسلم عن ابن شهاب ، عن أنس أن رجلا قال : يارسول الله ماالكوثر الذي أعطاك ربك ؟ قال: “نهر في الجنة أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، ما بين صنعاء إلى أيلة ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل” .
فقال عمر : والله يارسول الله إنها لناعمة ! قال :“ آكلها أنعم منها” (2).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/183،184عن طريق عامر بن زيد البكالي به مختصرًا . وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط وفي الكبير وأحمد باختصار عنهما وفيه عامر ابن زيد البكالي وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه ولم يوثقه وبقية رجاله ثقات . (مجمع الزوائد10/413) وأخرجه ابن جرير في التفسير 16/442(طبعة شاكر) من طريق أبي سلام عن عامر بن زيد وجود إسناده المحقق ، ثم صحح إسناد الإمام أحمد اعتمادًا على كون ذكر ابن أبي حاتم للرجل يعد توثيقًا وفيه نظر . وعزاه السيوطي في الدر 4/59 أيضًا لابن أبي حاتم وغيره . وعامر ذكره الحافظ وقال : هو معروف ، واعتبره ثقة عند ابن حبان (انظر تعجيل المنفعة ص204 وفيه تصحيف) .
(2) أخرجه أحمد 3/220 ، والترمذي – صفة الجنة - باب ما جاء في صفة طير الجنة 4/680 ، وابن جرير 30/324 من طريق ابن أخي ابن شهاب به وقال الترمذي : حسن غريب .(13/5)
قال أبو الأصبغ في حديثه : قيل : يارسول الله ، ولم يذكر : أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل .
وقال الحزامي في حديثه : “فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر” .
وقال : نا ابن فضيل عن المختار بن فلفل ، قال : سمعت أنسا يقول ،
ونا أبو بكر ، قال : نا علي بن مسهر عن المختار ، عن أنس قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما . فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : “نزلت علي آنفا سورة ” فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم ، إنا أعطيناك الكوثر ، فصل لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر } (1). ثم قال : “هل تدرون ما الكوثر ؟” . قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : “فإنه نهر وعدنيه ربي ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منه ، فأقول : يا رب هو من أمتي . فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك”(2) .
ولم يذكر يحيى في حديثه : "بينا رسول الله بين أظهرنا" ، وقال : فإما قال لهم ، وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ ، وقال : “وعدنيه ربي في الجنة ، عليه خير كثير ، عليه حوض” .
نا هدبة بن خالد، قال : نا همام ، قال : نا قتادة ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : “بينا أنا أسير في الجنة ، إذا بنهر حافتاه الدر المجوف . فقلت : “ما هذا يا جبريل ؟ ”قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك . قال : “فضرب الملك بيده ، فإذا طينته مسك أذفر(3)”(4).
ونا هدبة قال : نا حماد بن سلمة ، عن ثابت قال : أخبرني أنس في { إنا أعطيناك الكوثر } قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “الكوثر نهر في الجنة يجري على وجه الأرض،
__________
(1) سورة الكوثر 1-3
(2) أخرجه مسلم - كتاب الصلاة - باب حجة من قال البسملة آية 2/12–13 ، وأحمد 3/102 من طريق المختار به .
(3) أَذْفَر : أي طيب الريح (لسان العرب 3/1504)
(4) انظر الحديث الآتي .(13/6)
حافتاه قباب”(1).
نا يحيى بن عبد الحميد . قال : نا عبد العزيز بن محمد ، عن حرام بن عثمان ، عن الأعرج ، عن المسور بن مخرمة عن أسامة بن زيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتى بيت حمزة بن عبد المطلب إلى الباب ، فتبعته ، فسلم ، فردت عليه امرأته السلام – وكانت امرأة من بني النجار – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : “أثم أبو عمارة ؟” . قلت : لا والله يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، خرج الساعة عامدًا إليك ، فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار . أفلا تدخل يا رسول الله ؟ . فدخل ، فقدمت إليه حيسًا ، فأكل منه . فقالت : يا رسول الله هنيئًا لك ومريئًا ، لقد جئت وأنا أريد أن آتيك فأهنئك وأمرئك ؛ أخبرني أبو عمارة أنك أعطيت نهرًا في الجنة يدعى الكوثر . قال: “أجل، وعرصته ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ” . قالت : أحب أن تصف لي حوضك بصفة أسمعها منك ؟ قال : “هو ما بين أيلة وصنعاء، فيه أباريق مثل عدد النجوم ، وأحب واردها علي قومك يا بنت قهد ” - يعني الأنصار - (2).
ومن مواضع اهتمام بقي بأسباب النزول قوله تعالى : { ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } (3)
__________
(1) أخرجه البخاري – كتاب التفسير - سورة إنا أعطيناك الكوثر 6/219 ، ومسلم – الفضائل – باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - 4/1801 ط. فؤاد ، وأحمد 3/103،247 ، وابن جرير 30/323 من طرق عن أنس بألفاظ مختلفة .
(2) أخرجه ابن جرير 30/325 من طريق حرام بن عثمان عن عبد الرحمن الأعرج عن أسامة بنحوه ولم يذكر المسور ، وفي إسناده حرام بن عثمان ، قال مالك ويحيى : ليس بثقة ، وقال الشافعي : الرواية عن حرام حرام (انظر لسان الميزان 2/182) وعزاه السيوطي أيضًا لابن مردويه (الدر المنثور 6/450)
(3) آل عمران :169(13/7)
قال ابن عبد البر(1) في سبب نزول هذه الآية : ذكر بقي بن مخلد ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمرها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم ، فالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق ، لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد ؟ قال : فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } (2) الآية .(3)
وفي سبب نزول قوله تعالى { ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم } (4)
__________
(1) التمهيد 11/61
(2) آل عمران : 169
(3) أخرجه أحمد في المسند 1/256-266 وابن جرير في تفسيره 4/170 كلاهما من طريق ابن إسحاق عن إسماعيل بن أمية بهذا الإسناد . وجاء في المسند تصريح ابن إسحاق بالسماع .
وأخرجه أبو داود في السنن - كتاب الجهاد - باب فضل الشهادة 3/15 ، وأحمد في المسند 1/262 ، والحاكم في المستدرك – كتاب التفسير – سورة آل عمران 2/297 ، والواحدي في أسباب النزول ص128 كلهم من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن إسحاق به وعندهم في الإسناد (سعيد بن جبير) بين أبي الزبير وابن عباس وقد صححه الحاكم على شرط مسلم ، وسكت الذهبي . والحديث حسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/479 وذكره ابن كثير 1/403 من رواية المسند الأولى ، وأشار إلى زيادة (سعيد ابن جبير) في الإسناد عند أبي داود والحاكم ثم قال : وهذا أثبت .
(4) الأنفال :27(13/8)
قال ابن عبد البر (1)وذكر بقي بن مخلد ، قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي خالد قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة قال : نزلت في أبي لبابة : { ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمانتكم } قال سفيان : هكذا قرأ .(2)
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
قال ابن عبد البر(3) : روى بقي بن مخلد ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، قال : حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب ، عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود { واعتصموا بحبل الله جميعا } (4)قال : حبل الله : الجماعة .
قال بقي : وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن الحسن الأسدي ، عن هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن الشعبي ، عن عبد الله في قوله : { واعتصموا بحبل الله جميعا } قال : الحبل الذي أيد الله به : الجماعة(5) .
__________
(1) التمهيد 20/83
(2) أخرجه ابن جرير في تفسيره 9/222 من طريق ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد
الأحمسي به دون ذكر القراءة ، وذكره السيوطي في الدر 3/193وعزاه أيضًا لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وإسناده فيه ضعف لإرساله لأن عبد الله ابن أبي قتادة من التايعين إلا أن له شواهد كثيرة ذكرها السيوطي .
(3) التمهيد 21/272-273
(4) آل عمران : 103
(5) أخرجه سعيد بن منصور في سننه 3/1084 وابن جرير في تفسيره 4/30-31 والطبراني في الكبير رقم 9033 كلهم من طريق هشيم ، عن العوام – به نحوه . وذكره الهيثمي في المجمع 6/326 وحكم على سنده بالانقطاع ، وذلك لأن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود (انظر جامع التحصيل ص248) ويبدو أن الواسطة هو ثابت بن قطبة كما سيأتي .(13/9)
قال بقي : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن الشعبي عن ثابت بن قطبة قال : قال ابن مسعود في خطبته : أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة .(1)
وقال ابن عبد البر(2) : وقال بقي : وحدثنا ابن المسيب ، قال حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } (3) الآية ، قال : يرزقون من ثمر الجنة فيجدون ريحها .(4)
قال : وحدثنا محمد بن عبيد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة في قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } الآية ، قال : بلغنا أن أرواح الشهداء في صورة طير بيض ، يأكلون من ثمار الجنة .(5)
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره 4/32 من طرق تلتقي عند ثابت بن قطبة به ، وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره رقم 1102 من طريق ثابت به . وذكره السيوطي في الدر 2/60 ونسبه إليهما فقط وثابت بن قطبة ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/457، والبخاري في التاريخ 2/168 ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا ، وذكره ابن حبان في الثقات 4/92 وقال العجلي : ثقة ( تاريخ الثقات ص90 ) وروى عنه جماعة فالأثر صحيح .
(2) التمهيد 11/61
(3) آل عمران : 169
(4) أخرجه ابن جرير في تفسيره 2/39 من طريق عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد بنحوه . وإسناده صحيح رجاله ثقات كما في التقريب (2662، 5334 ) وذكره السيوطي في الدر 2/96 .
(5) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/139 وابن جرير في تفسيره 2/39 من طريقه عن معمر عن قتادة به ، وأخرجه ابن جرير أيضًا 4/172 من طريق يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة وإسناده صحيح رجاله ثقات مشاهير .(13/10)
وقال ابن عبد البر(1) : ذكر بقي بن مخلد قال : حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا جرير عن منصور ، عن مجاهد في قوله : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } (2) قال : صلاة الفجر يجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار . (3)
وذكر بقي قال : حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } قال : تدارك الحرسان ، اقرأوا إن شئتم : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } . قال : تنزل ملائكة الليل وتصعد ملائكة النهار . (4)
__________
(1) التمهيد 8/71 ، 19/51
(2) الإسراء : 78
(3) إسناده ضعيف فيه سفيان بن وكيع قال الحافظ : سقط حديثه (التقريب 2456) إلا أنه جاء من غير طريقه فقد أخرجه البخاري معلقًا 8/251 بلفظ قال مجاهد : صلاة الفجر . وأخرجه ابن جرير في تفسيره 15/141 من طرق عن مجاهد به ، وذكره السيوطي في الدر 5/322 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي شيبة .
(4) إسناده منقطع لأن الجمهور على أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه (انظر جامع التحصيل ص249) وقد قبل روايته عنه جماعة منهم الدارقطني وليس المجال هنا متسعًا للفصل في ذلك (وانظر تهذيب التهذيب 5/76 ) .
أخرجه ابن جرير في تفسيره 15/140 بالإسناد نفسه عن شيخه محمد بن المثنى . وذكره السيوطي في الدر 5/323 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني .(13/11)
وقال ابن عبد البر (1): ذكر بقي بن مخلد قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال: حدثنا غندر عن شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن في قوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } (2) قال : الحسد .(3)
رابعا : موقفه من القراءات :
وربما تعرض بقي للقراءات أثناء سوق الروايات وقد تقدم معنا في أسباب النزول مارواه بقي من طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي خالد في قراءة { وتخونوا أمانتكم } (4)، يعني : بالإفراد (5).
خامسا : موقفه من الفقه والأصول :
ومن مرويات بقي التي وقفت عليها مايتعلق بقضية النسخ ، قال ابن عبد البر(6) :
بقي بن مخلد قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : حدثنا سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد قال : لم ينسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان : { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } (7)نسختها : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } (8)وقوله : { ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } (9)نسختها : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } (10) .(11)
__________
(1) التمهيد 6/122
(2) الحشر : 9
(3) أخرجه البخاري معلقًا - كتاب التفسير – باب { ويؤثرون على أنفسهم } 8/500 وابن جرير في تفسيره 28/42من طريق شعبة وابن علية عن أبي رجاء به واسمه محمد بن سيف قال الحافظ : ثقة (التقريب 5948 ) فالإسناد صحيح .
(4) الأنفال :27
(5) قراءة الإفراد قراءة شاذة نقلها أبو حيان عن مجاهد وقال : روي ذلك عن أبي عمرو ا.هـ وقرأ العشرة { أماناتكم } بالجمع (وانظر البحر المحيط 4/486) .
(6) التمهيد 14/388
(7) المائدة :42
(8) المائدة:49
(9) المائدة :2
(10) التوبة : 5
(11) أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص136 رقم 247 وابن جرير في تفسيره 6/245 كلاهما من طريق يزيد بن هارون به نحوه .
وأخرجه أيضًا أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ 135رقم 244 والنحاس في ناسخه 2/295 رقم 455 وابن الجوزي في نواسخ القرآن ص312 من طريق هشيم عن منصور بن زاذان ، عن الحكم به مختصرًا والحكم هو ابن عتيبة قال الحافظ : ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس (التقريب 1453) وهو من الطبقة الثانية من المدلسين الذين اغتفر لهم تدليسهم (انظر تعريف أهل التقديس ص8،20) فالإسناد صحيح .(13/12)
هذا مااستطعت الوقوف عليه من مرويات بقي التفسيرية ، ولعل الله ييسر الوقوف على هذا التفسير العظيم فيخرج للنور بعد غيابه تلك القرون الطويلة .(13/13)
تفسير ابن حيون
الشيعي
من خلال كتابيه أساس التأويل وتأويل الدعائم
***
مؤلف هذا التفسير هو أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور ابن حيون القاضي المغربي الشيعي الباطني الإسماعيلي ت 363هـ ، ويعرف في تاريخ أدب الدعوة الإسماعيلية المستعلية بسيدنا قاضي القضاة وداعي الدعاة النعمان بن محمد ، وقد يختصره المؤرخون فيقولون ( القاضي النعمان ) تمييزا له عن أبي حنيفة صاحب المذهب الحنفي ، وهو من أهل المنطقة ولد بالقيروان ونشأ بها وتوفي بالقاهرة .
تعريف مختصر بالإمامية الإسماعيلية :
هي فرقة من فرق الشيعة الإمامية يرون أن الإمامة بعد جعفر الصادق انتقلت إلى ابنه إسماعيل نصا من أبيه ثم إلى ابنه محمد المكتوم وهو أول الأئمة المستورين وبعده تتابع أئمة مستورون إلى أن ظهر بالدعوة عبد الله المهدي رأس الفاطميين ، ولهم أسماء عدة منها الباطنية والقرامطة .(1)
وهؤلاء يبطلون الشريعة جملة وتفصيلا ، ويعتقدون أن لها بواطن غير هذه الظواهر، ويستحلون المحرمات . واعتقادهم في الله والأنبياء من أبطل الباطل وينكرون القيامة والمعاد ، ويعادون الإسلام وأهله أشد العداوة ، وقد قتلوا الحجيج وألقوهم في بئر زمزم ، وسرقوا الحجر الأسود . وهم دائما عون لأعداء الإسلام عليه ، واتفق العلماء على كفرهم وخروجهم من الملة .(2)
وأصول مذهبهم مبنية على :
القرآن : ويتأولونه حسب أهوائهم .
الحديث المروي عن رجالهم : وجله موضوع أو مؤول على غير وجهه .
اجتهاد الأئمة : فالإمام عندهم هو المصدر الثالث للتشريع ، وكما أن الرسول مختص بعلم الظاهر فالأئمة مختصون بعلم الباطن .(3)
والمصادر الرئيسية عند الفاطميين هي خمسة كتب :
__________
(1) انظر التفسير والمفسرون 2/9 .
(2) انظر لتفاصيل ذلك الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص77-101 ، كتاب الحركات الباطنية في العالم الإسلامي .
(3) انظر تفاصيل ذلك في المدارس الكلامية 219-292 ، مدرسة الحديث في القيروان 1/107 .(14/1)
أولا : دعائم الإسلام للنعمان بن محمد قاضي قضاة المعز لدين الله الفاطمي .
ثانيا : تأويل الدعائم للنعمان بن محمد أيضا .
ثالثا : راحة العقل لداعي دعاة الفاطميين أحمد حميد الدين بن عبد الله الكرماني في عهد الحاكم بأمر الله .
رابعا : الأنوار اللطيفة في الحقيقة للداعي اليماني طاهر بن إبراهيم الحارثي .
خامسا : المجالس المؤيدية ، وملخصها "جامع الحقائق" لداعي الدعاة الفاطميين هبة الله بن موسى المؤيد في عهد الخليفة المستنصر بالله .
ومن الكتب الهامة الأخرى كتاب الذخيرة وكنز الولد وأسرار النطقاء وسرائر النطقاء وقد نشر منها كتابان : دعائم الإسلام وراحة العقل .
أما أعلام الدعوة وأئمة المذهب عند الفاطميين فهم ثلاثة :
أولا : صاحبنا قاضي قضاة المعز لدين الله النعمان بن محمد المغربي .
ثانيا : أحمد بن عبد الله حميد الدين الكرماني .
ثالثا: داعي الدعاة الفاطميين في عهد الخليفة المستنصر بالله هبة الله بن موسى المؤيد الشيرازي .
ويدعي بعض المؤرخين أن الحركة الإسماعيلية نشأت سنة 128هـ في العراق وفاس كحركة دينية أوجدها الإمام جعفر الصادق 148هـ تحولت فيما بعد إلى حركة عقلية تدل على أصحاب مذاهب دينية مختلفة وأحزاب سياسية واجتماعية متعددة وآراء فلسفية وعلمية متنوعة(1) .
غير أن بعض الإسماعيليين يرجعون بحركتهم إلى ما قبل هذا التاريخ ، إلى عهد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ، ويستدلون على ذلك بنظريات فلسفية وعقائدية . واشتط بعضهم في الغلو فقال : إن دعوتهم قديمة قدم الوجود(2) .
التعريف بالتفسير :
وتفسير أساس التأويل تفسير شيعي باطني وهو مطبوع بتحقيق عارف ثامر بدار الثقافة بيروت ، وكذلك كتاب تأويل دعائم الإسلام مطبوع .
__________
(1) تاريخ الدعوة الإسماعيلية 1/12 .
(2) تاريخ الدعوة الإسماعيلية 1/15 .(14/2)
وكتاب " أساس التأويل " للنعمان يعتبر أساس المذهب الباطني ، كما أن كتاب دعائم الإسلام له يعتبر أساس للفقه والشريعة عند الإسماعلية (1).
وتأويل دعائم الإسلام هذا هو العنوان المتداول لهذا الكتاب ولكن اسمه : "تربية المؤمنين بالتوفيق على حدود باطن علم الدين" . وهو تأويل الدعائم المعروف والكتاب في جزأين في التأويل الباطني للأحكام التي جاءت في كتاب دعائم الإسلام نشرته دار المعارف بالقاهرة ، وإن كان النعمان لحقته المنية قبل إتمام الكتاب وهو يعد ثاني كتاب هام بعد الدعائم .
ولا يزال هذا الكتاب هو الوحيد الذي يسيطر على حياة طائفة البواهر : أتباع الخلفاء الفاطميين في شبه القارة الباكستانية الهندية ، واليمن وحضرموت في الهند والباكستان وغيرهما . وعليه المعول في أحوالهم الشخصية وأحكام الأسرة ، ومن عجب أن التشريع الإسلامي بالهند الآن يحافظ على شيء من القوانين التي كانت تطبق بمصر في عهد الفاطميين .
والتأويل عند الإسماعيلية كما قال عارف تامر في مقدمة تحقيقه للكتاب : هو باطن المعنى أو رمزه أو جوهرة ، وهو حقيقة مستورة وراء لفظة لا تدل عليها ، وما سمي التأويل عند الإسماعلية مقصور على أئمتهم دون غيرهم (2).
وقد جعلوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - صاحب التنزيل ، فالتنزيل اختص به الناطق في حياته . وهو علم الظاهر وأحكام الشريعة والعلم المصرح بتعليمه وتبيينه واعتناقه لطبقات العامة. والباطن اختص به الإمام أو الأساس ، وهو علم التأويل والحقيقة ومرموزاتها وتعاليمها التي لا يمكن الإفصاح عتها إلا لجنود الدعوة المخلصين الذين تدرجوا في مراتبها وتربعوا في مناصبها وهم طبقات الخاصة . (3)
__________
(1) انظر عن الاتجاه الباطني : التفسير واتجاهاته ص 401
(2) تاريخ الدعوة الإسماعيلية 1/12 .
(3) مقدمة المحقق 1/5 .(14/3)
المنهج العام للتفسير :(1)
لم يتناول ابن حيون في تفسيره القرآن كله ، بل أخذ بعض الآيات التي ظهر له أنها تؤيد المذهب الذي يدعو إليه .
وقد تعرض في كتابه تأويل الدعائم لتأويل كم هائل من الآيات والأحاديث .
وتجدر الإشارة إلى أن التأويل عند الإسماعيلية يختلف عن التفسير بمعناه الشرعي الصحيح لدى أغلب الفرق الإسلامية الأخرى ، فهو تأويل غريب لا يتلاءم مع مفهوم اللغة والشرع والعقل ، ولذا فسوف أكتفي بعرض بعض النماذج التي لا أزمة لها وهي تبين عن نفسها .
قال في أساس التأويل :
في قوله تعالى { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } (2)، قال :
الطريقة هي النبي الناطق في زمانه ، والإمام في أوانه من بعده ، والماء الغدق هو العلم الغزير(3) .
وفي تأويل قوله جل ذكره { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } (4) قال : فصاحب العصر سواء كان نبيا أو إماما يدعى ناطقا ، لأنه ينطق بالظاهر ، ويقوم به ، وحجته يدعى صامتا لأنه صامت عن الظاهر قائم بالباطن .
فالإمام والحجة يتعاقبان تعاقب الليل والنهار ... وفي ذلك قال الله تعالى : { وجعلنا الليل والنهار آيتين } (5) ، إن آيات الله في الباطن حجج على خلقه ، وهم الذين افترض عليهم طاعتهم .
وفي تأويل آيات الفاتحة قال :
{ اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } (6):
والصراط في اللغة : الطريق . ممثل هنا بالطريق لأن من لزم الطريق يصل ، وكذلك من لزم الإمام يصل ، والمراد ههنا بالطريق الإمام لا الطريق المسلوك في الأرض .
__________
(1) وممن تكلم عن منهج ابن حيون في تفسيره : عبد السلام الكنوني في المدرسة القرآنية 1/171-174 ، ووسيلة بلعيد في التفسير واتجاهاته ص402-404
(2) الجن : 16 .
(3) مقدمة المحقق ص39 .
(4) الأنبياء : 22 .
(5) الإسراء : 12 .
(6) الفاتحة : 7 .(14/4)
وقد أثبت النعمان وجود الظاهر والباطن في القرآن مستشهدًا بقوله تعالى { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } (1) وبقوله تعالى { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } (2) .
ويقول : إن من معجزات القرآن أن يأتي بالشيء الواحد ، وله معنى في ظاهره ومعنى في باطنة ، وبذلك كان ظاهره معجزة الرسول ، وباطنه معجزة الأئمة من أهل بيته(3) .
وقال في قوله تعالى { ألم نشرح لك صدرك } (4) قال : عنى به شرح الظاهر (5) .
ويؤول قوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه } (6) بأنهم الأئمة ، ثم قال : وقد بينا في غير موضع أن اسم الإيمان يقع على الرسول والأسس والأئمة وجميع المؤمنين المتصلين بهم . (7)
وذكر أنهم الذين اتبعوه بالحقيقة وآمنوا به وصدقوه بظاهره وباطنه وقاموا بأمره في حياته وبعد مماته من أسبابه الذين كانوا في عصره والأئمة من بعده منهم { معه } باتباعهم إياه وتمسكهم بأمره واتصالهم به لأنهم في نظام واحد معه ، فهم حبل الله المتصل طرفه بيد الله وطرفه بيد العباد كما وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرسول هو أول حدّ من الحبل في العالم السفلي والأساس متصل به ، والأئمة يتصلون بالأساس واحدا بعد واحد ، والطرف الأدنى الذي هو بيد العباد إمام كل زمان في زمانه فمن تمسك به فقد تمسك بحبل الله ، وكل واحد منهم في زمانه هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها ، كالسلسلة ، كل عروة منها متصلة بالأخرى فمن تمسك بأدناها فقد تمسك بها كلها وبعضها مع بعض وذلك قول الله عزّ وجلّ : { محمد رسول الله والذين معه } (8)
وذكر في تأويل قوله تعالى { فصلّ لربك وانحر } (9) أن معناها :
__________
(1) الذاريات : 94
(2) لقمان : 20
(3) أساس التأويل ص 33 .
(4) الشرح : 1
(5) أساس التأويل ص 343 .
(6) الفتح : 29
(7) أساس التأويل ص 345 .
(8) الفتح : 29
(9) الكوثر : 2(14/5)
أقم الدعوة لله باطنا ، وهي باطن الصلاة وأقمها في الظاهر ولا الظاهر دون الباطن { وانحر } أي خذ عهد الأساسية على أساسك ونصبه للبيان تتصل ذريتك الباطنة ويكثر المستجيبين لدعوتك وينبتر أمر شانئك وقائل ذلك فيك . فكان كما وعد الله جل ذكره ، والنحر إنما يكون للجمال وهي أمثال الأئمة ، والذبح للغنم وهي أمثال المؤمنين ، والبقر أمثال الحجج ، فضرب مثل أساس إبراهيم بالكبش وأساس موسى بالبقر وأساس محمد بالبعير وذلك الذي ذكره من قول إبراهيم لأساسه إسماعيل .(1)
وقال في قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } (2) أي الأئمة السبعة(3)، أئمة الإسماعيلية .
وقال في تأويل قوله تعالى { فإن مع العسر يسرا } (4) مع التنزيل الظاهر بيان باطني يوضحه وييسره لمن عسر عليه أمره بالبيان الذي هو التأويل (5).
وقال في تأويل قوله تعالى { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون والشهداء عند ربهم } (6)فالشهداء الأئمة والصدّيقون هم أيضا .
ومن ذلك قول الله عز وجل { وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون } (7)وقوله تعالى { أيها الصديق } (8) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ”(9) يعني الإمام(10)
ويقول في تأويل الدعائم :
__________
(1) أساس التأويل ص347 .
(2) الحجر : 87
(3) أساس التأويل ص268 .
(4) الشرح : 5
(5) أساس التأويل ص438 .
(6) الحديد : 19
(7) الزمر : 69 .
(8) يوسف : 46 .
(9) أخرجه الترمذي – كتاب التفسير- باب ومن سورة الحجر 5/298 وقال الترمذي : حديث غريب . وقال الألباني : ضعيف (ضعيف الجامع رقم 127) وانظر أيضا الموضوعات 1/74
(10) أساس التأويل ص341 .(14/6)
كذلك يرفض المؤمن المستجيب ما كان عليه من ظاهر أهل الباطن ويتمسك بظاهر أهل الحق وباطنهم ومثل ما يترك من سرته عند قطعها ويربط ويكوى طرفه إلى أن يجف ويسقط مثل ما يترك المستجيب عليه من توحيد أهل الظاهر الذي هو إلى الشرك أقرب كما قال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } (1) فيترك على ذلك في وقت الأخذ عليه إلا أنه يعرف أنه سيوقف على حقيقة توحيد الله وتنزيهه عن كل مثل وضد لئلا يعتقد ما كان عليه من ذلك من التشبيه والشرك وذلك مثل ربط السرة وحسمها فإذا عرف حقيقة توحيد الله وتبين له ذلك سقط عنه ما كان يعتقده من افتراء المبطلين على الله في ذلك وهذا مثل سقوط سرة المولود بعد أيام من ولادته .(2)
ويقول :
وقد سمعتم فيما بسط لكم من الأصول وقرئ عليكم من حد الرضاع في الباطن أن لكل جنس من الحيوان أمثالا من الناس يرمز في الباطن بهم لهم ويكنى عنهم بذكرهم في القرآن وفي الكلام ومن ذلك قول الله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء } (3) فأخبر تعالى جل من مخبر أن جميع الدواب والطير أمثال للعباد الآدميين فضرب من ذلك أمثالا كثيرة قد سمعتم بعضها وتسمعون من ذلك ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وقد سمعتم أن أمثال حشرات الأرض وخشاشها والهوام أمثال الحشو والرعاع من الناس وأن النحل أمثال المؤمنين .
__________
(1) يوسف :106
(2) تأويل الدعائم ص48
(3) الأنعام :38(14/7)
ومن ذلك الحديث المأثور(1) : "المؤمنون كالنحل لو علمت الطير ما في بطونها لأكلتها" كذلك المؤمن لو علم الكافر ما فيه من الفضل والعلم والحكمة لقتله حسدا له والزنابير أمثال حشو أهل الباطل الذين يتشبهون بأهل الإيمان كما أن الزنبور يشبه النحل ويحكي صنعة بيتها الذي تصنعه بالشمع فيبنيه الزنبور بالطين وليس فيه عسل كذلك أمثاله من حشو أهل الباطل لا خير عندهم وإن تشبهوا بأهل الحق ، والضب أحد الحشرات فضرب - صلى الله عليه وسلم - جحر الضب وخشرم الدبر والدبر جماعة الزنابير كما قلنا مثلا لدعوة أشرار الناس وأوباشهم وأخبر الأمة أنهم سيسلكون في أتباعهم أمثالهم مسلك من تقدمهم من الأمم وقد فعلوا واتبعوا السفلة والأشرار وأوباش الخلق وائتموا بهم وكذبوا عليه- صلى الله عليه وسلم - فزعموا أنه قال : “أطع إمامك وإن كان أسود مجدعا ” (2)فائتموا بالسودان والعبدان والأوباش والأشرار ونصبوهم أئمة من دون أولياء الله فهذا تأويل الحديث ومنه قول يعقوب ليوسف : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } (3)فأما جحر الضب وخشرم الدبر فليس مما يدخله الناس ولا يصح القول بذلك في الظاهر وقول الله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } (4) له تأويل سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .(5)
ويقول :
__________
(1) قد يكون مأثورا عن علي أو جعفر الصادق أو غيرهما ، وليس ذلك صريحا في نسبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يتبين من كلامه لمن تأمله .
(2) حديث صحيح أخرجه البخاري – كتاب الأذان – باب إمامة العبد والمولى 2/184 عن أنس بلفظ : اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة . وأخرجه مسلم – كتاب المساجد- باب كراهية تأخير الصلاة 1/448 عن أبي ذر بلفظ : إن خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أسمع وأطع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف .
(3) يوسف :6
(4) الأعراف :40
(5) تأويل الدعائم ص50(14/8)
والصلاة مثلها مثل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي بنى البيت الحرام ونصب المقام فجعل الله البيت قبلة والمقام مصلى وحكى قوله تعالى : { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } (1) وكان هذا القول هو افتتاح الصلاة للمصلين ، والزكاة مثلها مثل موسى { إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى } (2) فكان أول ما أمره الله أن يدعوه إليه أن يزكى ، والصوم مثله عيسى عليه السلام وهو أول ما خاطب به أمه أن تقول لمن رأته من البشر وهو قوله الذي حكاه تعالى عنه لها : { فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } (3)وكان هو كذلك يصوم دهره ولم يكن يأتي النساء كما لا يجوز للصائم أن يأتيهن في حال صومه والحج مثله مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أول من أقام مناسك الحج وسن سنته وكانت العرب وغيرها من الأمم تحج البيت في الجاهلية ولا تقيم شيئا من مناسكه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } (4) … وكان الحج خاتمة الأعمال المفروضة وكان هو- صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين فلم يبق بعد الحج من دعائم الإسلام غير الجهاد وهو مثل سابع الأئمة الذي يكون سابع أسبوعهم الأخير الذي هو صاحب القيامة …
__________
(1) الأنعام : 79
(2) النازعات : 16-18
(3) مريم :26
(4) الأنفال :35(14/9)
قال : ففضله الله بذلك على سائر من تقدمه من المرسلين وجعل له دونهم فضيلتين ومثلين الحج والجهاد وإذا كان الذي مثله مثل الجهاد من أهل دعوته وشريعته وأحد أولاده وأئمة دينه فلذلك قام هو أيضا بالجهاد مع إقامة الحج ، والجهاد ليس من أصل الأعمال إنما هو دعاء إلى اتباع الشريعة وقتل من امتنع من ذلك وكذلك مثله الذي هو خاتم الأئمة لا يكون في وقته عمل كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } (1)…
قال : وكذلك يجري هذه الأمثال في أسابيع الأئمة يكون أول كل أسبوع منهم مثله مثل الولاية لأنه أول من افترض الله منهم ولايته والثاني مثله مثل الطهارة والثالث مثله مثل الحج على ما تقدم من أمثال النطقاء والسادس منهم يسمى متما كما سمى محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ويكمل به أمر الأسبوع ويكون السابع أقواهم ويتم الأمر به ومثله مثل الجهاد على ما تقدم به القول . فهذه أمثال السبع الدعائم التي هي دعائم الإسلام وأمثالها الذين هم النطقاء والأئمة كذلك هم دعائم الدين التي استقر عليها فافهموا الأمثال أيها المؤمنون تكونوا من العالمين فإن الله يقول : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } (2) . (3)
__________
(1) الأنعام :158
(2) العنكبوت :43
(3) تأويل الدعائم ص51-53(14/10)
ويقول : وكل ما أظهر من الباطن على ألسنة الأنبياء والأئمة صار ظاهرا وكان قبل ذلك باطنا ولا يزال ذلك حتى يقوم آخر قائم من أئمة محمد صلى الله عليه وعلى آله الأئمة من ذريته الذي هو صاحب القيامة فيكشف الباطن كله ويرتفع الظاهر والعمل كما قال تعالى : { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } (1)وكما قال تعالى { يوم يكشف عن ساق } (2)والساق من الباطن لأنها مما يستر ولا يكشف { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } يعني أنه قد ارتفع العمل والانتفاع بالطاعة فلا يستطاع ذلك .(3)
ويقول :
والعرب في لغتها والمعروف من لسانها تسمى الشيء باسم ما صحبه ولاءمه وألفه ومن ذلك أيضا كان الكتاب مثل الإمام لأن القرآن هو أليف كل إمام وبه يعمل وعليه يعول وعنده علمه قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } (4)يعني وصية عليا صلى الله عليه الذي أودعه ذلك والأئمة من ولده الذين انتقل ذلك عنه إليهم ، والعرب تسمى الكتاب إماما قال أصحاب التفسير في قول الله : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } (5)قالوا : يعني في كتاب .(6)
ويقول :
__________
(1) الأنعام :185
(2) القلم: 42
(3) تأويل الدعائم ص55
(4) الرعد : 43
(5) يس :12
(6) تأويل الدعائم ص61(14/11)
قول الله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } (1) وإنما خاطب الله عز وجل بهذا الخطاب المؤمنين جميعا وكذلك قال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } (2)وقد ذكرنا أن الولاية دعامة من دعائم الإسلام وأمر الله في كتابه بطاعة أولي الأمر وقرن ولايتهم بولاية رسوله بقوله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } (3)وذلك فرض فرضه الله عز وجل على المؤمنين ، والولاية أصلها السمع والطاعة ، فلو كان القول في ذلك ما قالته العامة ؛ من أن المراد بالولاية ها هنا وبالمؤمنين جميع من آمن بالله ورسوله ، لم يدر من المأمور منهم بالسمع والطاعة ، ومن يجب ذلك له من جميعهم ، ولكانت طاعة جميعهم واجبة على جميعهم ، وأهواؤهم مختلفة وقلوبهم وآراؤهم شتى ، ومنهم المطيع والعاصي والمؤالف والمخالف . وقد علم الله ذلك منهم فلم يكن سبحانه ليوجب من ذلك ما لا يعرف حقيقته ولا يصح أمره ولا يثبت واجبه ، ولكن اسم الإيمان يقع على جميع من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من أنبيائه وأئمة دينه وجميع أوليائه وجميع من صدق بذلك وأصل الإيمان التصديق قال الله تعالى { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } (4) أي ما أنت بمصدق لنا وإن صدقنا ومعلوم في لسان العرب الذي نزل به القرآن وخوطبوا منه بما يعرفون في لغاتهم ولسانهم أن الخطاب قد يكون عاما عندهم ويراد به الخاص كما قال الله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } (5) فأراد أن بعض الناس قال ذلك وأنه أراد أن بعض الناس هم الذين جمعوا لهم وذلك ما لا يجوز غيره لأن القائلين ذلك والمخاطبين به هم من الناس فلا يجوز أن يراد بقوله { قال لهم الناس } جميع الناس والذين جمعوا
__________
(1) المائدة 55-56
(2) التوبة :71
(3) المائدة :55
(4) يوسف :17
(5) آل عمران :173(14/12)
لهم هم جميع الناس والذين جمعوا لهم من الناس فهذا مما ظاهره يقع على العموم وباطنه يراد به الخاص دون العام وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب وما يجري منه بين الناس ويتداولونه بينهم كما يقول القائل منهم لقيت العلماء ورأيت الملوك وسمعت كلام الناس وركبت الخيل وشاهدت الأعمال وأشباه ذلك من القول وهو لم يرد بذلك الجميع وإنما أراد البعض ممن لقيه ورآه وشاهده فكذلك قول الله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } (1) ولم يرد به جميع المؤمنين لأن الخطاب بذلك لمن أوجب عليه ولاية من أوجب ولايته منهم وإنما أراد بالمؤمنين ها هنا الأئمة الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله بقوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (2) كما قرن ولايتهم بولايته وولاية رسوله وقد تقدم البيان فيما سمعتموه أن اسم الإيمان يقع على جميع من آمن بالله ورسوله قال الله عز وجل حكاية عن موسى - صلى الله عليه وسلم - : { سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } (3) وقال: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } (4)وقال { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } (5)ومن ذلك قول الله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } (6)وقد أخبر الله أن الشهداء إنما هم واحد في كل أمة بقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } (7) وقال : { وجيء بالنبيين والشهداء } (8) فليس كل من آمن بالله وبرسوله يكون صديقا وشهيدا بل أكثرهم وإن آمنوا في الظاهر فقد أشركوا كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } (9) والمراد بالصديقين والشهداء من المؤمنين الأئمة منهم وكذلك قوله : { والمؤمنون
__________
(1) المائدة :55
(2) النساء :59
(3) الأعراف :143
(4) البقرة :285
(5) الشورى :15
(6) الحديد :19
(7) النساء :41
(8) الزمر : 69
(9) يوسف :106(14/13)
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } (1) فالأئمة أولياء من دونهم من المؤمنين ، وولايتهم مفترضة على سائر من دونهم من المؤمنين وهم أولياء المؤمنين الذين ولايتهم فرض عليهم ، وبعض الأئمة أولياء بعض لأنه لم يكن منهم إمام يستحق الإمامة إلا من بعد أن كان مأموما وكان من قبله إمامه والرسول إمام جميع الأئمة ووليهم فهذا معنى قول الله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وولاية من له الولاية منهم من يولي منهم عليه واسم الإيمان كما ذكرنا يجمعهم والخطاب وإن جمعهم في الظاهر فإنه يخص بعضهم دون بعض في الباطن وقوله تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } (2)وكل المؤمنين القائمين بما افترضه الله عليهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويركعون في الظاهر وقد نص الله على ولاية من وصفه بهذه الصفة ودل بها عليه فلو حمل ذلك أيضا على ظاهره لرجع إلى المعنى الذي بينا فساده ، ولكن الصلاة والزكاة كما بينا ذلك في كتاب الدعائم من الإيمان ومما يوجبه وهما مفروضتان مع سائر الفرائض على الأئمة وعلى كافة المؤمنين ، ولكن المراد ها هنا بالذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون الأئمة صلى الله عليهم وسلم لأنهم هم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة بالحقيقة ظاهرا وباطنا فأما في الظاهر فإن الصلاة الظاهرة التي هي الركوع والسجود والقيام والقعود والتشهد أفضلها ما كان في جماعة ومنها ما لا يجزى إلا كذلك كصلاة الجمعة والعيدين ، ولا تكون جماعة إلا بإمام ، فالأئمة هم الذين يقيمون الصلاة بالحقيقة وإيتاؤهم الزكاة هو أن العباد قد تعبدوا بدفع مايلزمهم منها إليهم وتعبدوهم بإيتائها من تجب له وصرفها في وجوهها فهم الذين يؤتون الزكاة بالحقيقة من يستحقها وركوعهم طاعتهم لله ولرسوله والصلاة في الباطن هي الدعوة فهم صلى الله عليهم وسلم يقيمونها والمال في
__________
(1) التوبة :71
(2) المائدة :55(14/14)
الباطن هو العلم وإخراج الزكاة منه في الباطن هو إخراج ما أوجب الله على أهله الذين هم أئمة دينه أن يبذلوه لمستحقه .
ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : “لكل شيء زكاة وزكاة العلم نشره ”(1) فهم المقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والراكعون بالحقيقة ظاهرا أو باطنا وإياهم عنى الله بذلك .
وقد روت العامة أن هذه الآية نزلت في علي - صلى الله عليه وسلم - وذلك قالوا : إنه تصدق بخاتمه على سائل مر به وهو راكع .
__________
(1) لم أجده كاملا والمشهور في كتب الأحاديث الضعيفة والموضوعة حديثان : لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم ، لكل شيء زكاة وزكاة البيت دار الضيافة . (انظر كمثال العلل المتناهية في الأحاديث الواهية رقم 825،885)(14/15)
وقد جاء في كتاب الدعائم عن محمد بن علي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن قول الله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } (1)من عنى بالذين آمنوا ؟ فقال : إيانا عنى بذلك وأنه سئل عن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } (2) في مواضع كثيرة من القرآن من مثل هذا مما لا يجوز أن يعنى بها جميع المؤمنين وقال : إيانا عنى بذلك . وقال في بعضها : وعلي - صلى الله عليه وسلم - أولنا وأفضلنا وأخيرنا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فكان ذلك من قوله مما يؤيد ما ذكرناه من أن الأئمة هم الذين عنى الله بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } فيما يرتفع من حدود المؤمنين دونهم وأن اسم الإيمان يجمعهم وإياهم وكذلك المعنيون صلى الله عليهم بكثير من القول في القرآن مما قد ادعته العامة لأنفسها مثل قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } (3) ومثل قوله : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } (4)ومثل قوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } (5)ومثل قوله { وكونوا مع الصادقين } (6) ومثل قوله { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج } (7) ومثل قوله : { الصديقون والشهداء } (8) ومثل قوله : { ولكل قوم هاد } (9) ومثل قوله : { والراسخون في العلم } (10) ومثل قوله { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } (11) ومثل هذا كثير .(12)
__________
(1) المائدة :55
(2) آل عمران :200
(3) البقرة :143
(4) العنكبوت :43
(5) النساء :58
(6) التوبة :119
(7) الحج :78
(8) الحديد:19
(9) الرعد :7
(10) آل عمران :7
(11) فاطر :32
(12) تأويل الدعائم ص61-65(14/16)
ويقول : فالمراد بالعلم في ذلك العلم المأثور عن أولياء الله وأنبيائه وأئمته صلى الله عليهم والمراد بالعلماء هم صلى الله عليهم ومن تعلم منهم فهو يعد من العلماء على سبيل المجاز باتباعه لهم وتوليه إياهم كقوله تعالى : { فمن تبعني فإنه مني } (1) وقوله: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } (2)فهم العلماء بالحقيقة صلى الله عليهم وقد يقع اسم العلماء على المجاز على كل عالم بشيء ما كان ، فليس أولئك وإن وقع عليهم اسم العلماء ممن يعني بالعلماء في الحقيقة …
قال : ومن ذلك قوله تعالى : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } (3) يعني أولياءه ولا يكون أهل العلم ها هنا كل من علم شيئا ما كان وكذلك قوله: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } (4) وإنما عنى بالعلم ها هنا العلم الحقيقي الذي قد قدمنا ذكره المأثور عن أولياء الله.(5)
قال : ومما ذكرناه من أن العلماء بالحقيقة هم أولياء الله ما جاء في كتاب الدعائم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “تعلموا من عالم أهل بيتي أو ممن تعلم من عالم أهل بيتي تنجوا من النار”.(6)
__________
(1) إبراهيم :36
(2) المائدة :51
(3) العنكبوت :49
(4) المجادلة :11
(5) تأويل الدعائم ص65-66
(6) تأويل الدعائم ص67 ، وهذا الحديث لم أقف له على أصل لا صحيح ولا ضعيف ولا موضوع .(14/17)
قال : ومنه قول نوح - صلى الله عليه وسلم - : { ولمن دخل بيتي مؤمنا } (1) وقد ذكرنا أن لسان العرب يسمى فيه الشيء باسم ما صحبه ولاءمه فمثل صلى الله عليه بيته الذي هو دعوته بأهل بيته القائمين بها والمعنى الذي أراد تمثيل دعوته بدعوة نوح هو أنه كما هلك من تخلف عنها ، كذلك يهلك من تخلف عن دعوته ، وكما نجا من دخلها كذلك ينجو من دخل دعوته ، لأن نوحا أول أصحاب الشرائع وأول أولي العزم ومحمد- صلى الله عليه وسلم - آخر أصحاب الشرائع وآخر أولي العزم .(2)
ويقول :
{ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون } (3)وقال : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } (4) فالكتاب في الظاهر هاهنا كتاب الله ، والحكمة مابينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء من عنده والكتاب في الباطن الإمام كما ذكرنا والحكمة في الباطن التأويل الباطن فعلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ظاهرا وباطنا على درجاتهم ومنازلهم والواجب لأهل كل طبقة منهم ومن ذلك قوله تعالى : { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } (5) وهذا من أعظم نعمه فلم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليعلمهم من ذلك ظاهرا دون الباطن ولا باطنا دون ظاهر بل أسبغ الله عليهم به كما أخبر نعمه ظاهرة وباطنة ، فعلمهم مما علمه الله تعالى ظاهر العلم وباطنه بأن علمهم تنزيل الكتاب وأخبرهم بواجب السنة وأوقفهم على إمام زمانهم من بعده وعلى واجب الإمامة للصفوة من ولده وأودع علم التأويل من أقامه مقامه لهم ليكون معجزة له وبأن ينقله كذلك واحد من بعد واحد منهم فيمن يخلفه للأمة ويقوم فيها مقامه من بعده .(6)
ويقول :
__________
(1) نوح :28
(2) تأويل الدعائم ص69
(3) البقرة :151
(4) الجمعة :2
(5) لقمان :20
(6) تأويل الدعائم ص71(14/18)
والطهارة في الباطن التطهر بالعلم وبما يوجبه العلم من أحداث النفوس قال الله : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } (1) وقال { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } (2) وقد تقدم القول بأن الماء مثله مثل العلم فكما يطهر الماء الظاهر من أحداث الأبدان الظاهرة ، كذلك يطهر العلم من أحداث النفوس الباطنة وأفاعيلها الردية الموبقة وكذلك يكون الطهور بما يوجبه العلم من الواجبات قال تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم } (3)…(4)
وقال :
__________
(1) الفرقان :48
(2) الأنفال :11
(3) التوبة :103
(4) تأويل الدعائم ص72(14/19)
وقال تعالى : { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } (1)فلم يسكنه إلا الصفوة من ولد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم - ولما تغيرت الأمور من بعده وسكن الحرم المشركون وبعث الله نبيه- صلى الله عليه وسلم - كان فيما أنزله عليه قوله : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } (2) فنفاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرم فكان طهور البيت إسكان أولياء الله فيه وإخراج أعدائه منه ولم يكن ذلك بالماء في الظاهر هو كما يكون الطهور الظاهر وقال الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - { ياأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر } (3) فكان أول ما افترض عليه بعد إنذاره أن يبدأ بتطهير ثيابه والثياب في التأويل الظاهر لأن الثياب ظاهرة فأمره الله بإقامة ظاهر الشريعة وتطهيره من أنجاس الكفرة الجاهلية وما كانت تعبده وتذهب إليه في ظاهر ماتتدين به وكذلك يجب كما ذكرنا على المؤمنين أن يبدأ ويبتدئ به من يعلمه الإيمان بإقامة ظاهره وتطهيره مما كان يذهب إليه من ظاهر أهل الباطن وقد فسر ذلك كثير من المفسرين من العامة على غير الطهر الظاهر المتعارف عندهم الماء فقال بعضهم قوله : { وثيابك فطهر } (4)أي طهر نفسك من الذنوب فكنى عنها بثيابه . وقال آخرون : أراد أن لا تلبس ثيابك على كذب ولا فجور ولا إثم ، البسها وأنت طاهر من ذلك . وقال آخرون : أي قصرها . وقال آخرون : العرب تقول ألبست فلانا ثوب خزية وعار، إذا ألبسته ذما ونقيصة . فكلهم تأولوا ذلك على غير الطهارة من أنجاس الأبدان في الظاهر بالماء ومن أنجاس الأرواح في الباطن بالعلم .(5)
ويقول :
__________
(1) الحج :26
(2) التوبة :28
(3) المدثر :1-4
(4) المدثر :4
(5) تأويل الدعائم ص72-73(14/20)
فالإيمان على ضربين براءة من الباطل وأهله ودخول في الحق وأهله ، وقد ذكرنا أن مثل الصلاة مثل البراءة من الباطل وأهله والصلاة تدعى إيمانا وقد جاء أن القبلة لما صرفت إلى جهة الكعبة قال المسلمون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يارسول الله أفيذهب ثواب صلاتنا من قبل ؟ فأنزل الله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } (1)يعني صلاتكم(2) فسمى صلاتكم إيمانا وكذلك هي في الباطن إيمان لأن الدعوة جماع الإيمان .(3)
ويقول :
__________
(1) البقرة :143
(2) لم يأت سبب النزول بهذا اللفظ والذي ورد في معناه أخرجه البخاري عن البراء – كتاب الإيمان – باب الصلاة من الإيمان 1/95
(3) تأويل الدعائم ص75(14/21)
وقد جاء أن عورة الرجل مابين السرة والركبتين وأن المرأة عورة كلها فباطن ذلك أن أمثال الرجال كما ذكرنا أمثال المفيدين وهم الذين يفيدون من دونهم من المؤمنين العلم والحكمة ، وهم في ذلك على طبقات بعضها فوق بعض فكل مفيد مثله مثل الذكر وكل مستفيد مثله مثل الأنثى ، والمستفيد يجب عليه ستر جميع مايفيده المفيد فمثله في ذلك مثل المرأة التي يجب سترها كلها والمفيد لا ينبغي له كشف جملة ماعنده من ذلك لمن يفيده وإنما ينبغي له أن يفيده أطرافا من الحكمة والعلم ويكشف من ذلك لكل من يفيده بقدره ويكون عنده من ذلك ما يستره عمن دونه ليستحق به الفضل عليه وكان الذي يجب ستره على الرجل ثلاثة أشياء من بدنه فخذاه وفرجاه وفكاه ومن ذلك قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم } (1)فعني بالذين آمنوا هاهنا : المفيدين ، وبالذين ملكت أيمانكم : المستفيدين منهم غير المأذون لهم ، وبالذين لم يبلغوا الحلم : المحرمين المستفيدين والمأذونين الذين لم يبلغوا حد الإطلاق . فأمر المفيدين أن يستروا عنهم من هذه الثلاث العورات كلها فلا يفاتحوهم بما في حدودها من العلم حتى يجب ذلك لهم.(2)
ويقول :
__________
(1) النور :58
(2) تأويل الدعائم ص83(14/22)
مثل الصلاة مثل أول قائم بالدعوة التي افترضت فيها وهو محمد- صلى الله عليه وسلم - وهذا مما ذكرنا أن الشيء يسمى باسم ماصحبه ولاءمه وأن الطهارة مثلها مثل أساسه وهو علي - صلى الله عليه وسلم - وقيل إن ذلك يدل عليه حروفهما فقيل صلاة أربعة أحرف ومحمد أربعة أحرف وطهر كذلك ثلاثة أحرف وعلي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحرف فلا يصح إقرار بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا لمن أقر بأن عليا - صلى الله عليه وسلم - وصيه من بعده وكذلك لا تكون صلاة في الظاهر من مصل إلا بطهارة ومن ذلك أيضا قولهم الوضوء مفتاح الصلاة كذلك لا يولي النبي إلا من قبل وصيه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : “أنا مدينة العلم وعلي - صلى الله عليه وسلم - بابها فمن أراد العلم فليأت الباب” (1) ومنه قوله تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } (2)…(3)
ويقول :
__________
(1) أخرجه الحاكم – كتاب معرفة الصحابة 3/126 وقال : صحيح الإسناد . فتعقبه الذهبي بقوله : قلت : بل موضوع وأبو الصلت قال : ثقة مأمون قلت : لا والله لا ثقة ولا مأمون . وقال : قلت : العجب من الحاكم وجرأته في تصحيحه هذا وأمثاله من البواطيل وأحمد هذا دجال كذاب . ا.هـ وقال الألباني: موضوع (انظر ضعيف الجامع رقم 1416) وذكره الذهبي في ترتيب الموضوعات 1/287
(2) البقرة :189
(3) تأويل الدعائم ص86(14/23)
فالقبلة في التأويل مثلها مثل الحجة لأهل دعوة الباطن وأساس الشريعة وهو وصي النبي - صلى الله عليه وسلم -ومن ذلك قوله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها } (1) يعني عليا - صلى الله عليه وسلم - ونصبه للحجة وأساسا لإمامة من بعده وأمر الناس بالتوجه إليه وأن يوليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شطر المسجد الحرام وهو وجهه الذي قال فيه { فول وجهك شطر المسجد الحرام } (2) وقد ذكرنا أن مثل المسجد الحرام مثل الناطق ودعوته وحجة الناطق وهو وجهه الذي يتوجه إلى الناس به في التأويل وتوليته شطر المسجد الحرام هو توليته باطن الدعوة وهي نصفها لأنها دعوتان ظاهرة وباطنة ، فظاهر الدعوة تكون للناطق يقيم بها ظاهر الدين وأحكامه. وباطنها وهي الدعوة الباطنة يقيم بها حجته ويقيم الحجة لها نقباءه ودعاته يدعون إليها فهذا تأويل قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي ول أمر وصيك أمر الدعوة الباطنة ثم قال لجميع المؤمنين : { وحيث ماكنتم فولوا وجوهكم شطره } أي حيث ما كنتم فاقبلوا على دعوة الحق .(3)
وقال :
الوفد في اللغة جمع وافد وهو الذي يأتي الملك عن القوم فكذلك الأئمة هم الذين يفدون إلى الله بأهل أزمانهم وهم الشهداء عليهم كما قال جل من قائل : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } (4) وقال : { وجيء بالنبيين والشهداء } (5) وقال: { أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } (6) وكذلك الدعاة هم وفود أهل زمانهم إلى أئمتهم عندهم عليهم بأعمالهم التي طلعوا فيها عليهم .(7)
__________
(1) البقرة :144
(2) البقرة :149
(3) تأويل الدعائم ص237
(4) النساء :41
(5) الزمر :69
(6) الحديد :19
(7) تأويل الدعائم ص239(14/24)
ويلاحظ فيما ذكرنا من النقول ما يقوم عليه تأويل هؤلاء من جعل كل شيء في الأئمة ودعوتهم وطاعتهم ومن هذا المنطلق يصلون لربط الشريعة ككل بما يمليه عليهم أئمتهم وهذا هو الأساس الذي هدموا به الدين وانسلخوا منه كلية والعياذ بالله ومن أراد الاستزادة عن المراحل التالية لتلك المرحلة وما وصل إليه الأمر عندهم عليه بمراجعة كتاب الحركات الباطنية في العالم الإسلامي .(14/25)
تفسير مكي بن أبي طالب
من خلال كتبه الهداية ومشكل الإعراب وتفسير المشكل
***
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد مكي بن أبي طالب حموش القيسي القيرواني ت435 هـ وهو من أهل المنطقة ولد بالقيروان ونشأ بها(1) .
التعريف بالتفسير :
وتفسيره المسمى "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه" تفسير مخطوط يوجد منه أربع مجلدات ، موزعة على مكتبات شتى في العالم ، سبق ذكر مواضعها في ترجمته .
ومنه نسخة تقتصر على السفر الثالث من أول سورة مريم إلى آخر سورة الزمر مكتوبة على رق الغزال بتاريخ 485 هـ تقع في 401 صفحة يوجد منها نسخة مصورة على ميكروفيلم بمكتبة الجامعة الإسلامية تحت رقم 1898 ، 3031 عن نسخة الخزانة العامة بالرباط رجعت إليها .
وأما كتابه مشكل إعراب القرآن فهو مطبوع طبعتان محققتان .
وأما كتابه تفسير المشكل من غريب القرآن على الإيجاز والاختصار ، فهو مطبوع في مجلد لطيف طبعة محققة .
وقد كتب د / أحمد حسن فرحات عن مكي دراسة هامة أحاط فيها بمختلف جوانب شخصيته التفسيرية وهي بعنوان : "مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن" طبعتها دار الفرقان بالأردن – ط1 سنة1404 هـ .(2)
وهذه الدراسة حواشيها نادرة جدا واعتمادها في النقد مبني على وجهات نظر الباحث مع نقول مجردة .
وتفسير مكي يعد مرحلة أساسية من مراحل التفسير بإفريقية ، إذ على يده تطور التفسير بالمأثور ، الذي مثله ابن سلام ، فاتجه به مكي نحو حذف السند والاكتفاء بإثبات الروايات ونقدها ، مع التعمق في علمي اللغة والقراءات اعتمادا على اللغويين الذين أسهموا بالتأليف في كتب معاني القرآن ، مثل الفراء ، وأبي عبيدة …واستناداً إلى ما لحق القراءات ، من نمو التأليف ، وتنوع البحث فيها .
__________
(1) تقدمت ترجمته في أهل المنطقة برقم 235
(2) وممن تكلم عن منهج مكي أيضا : عبد السلام الكنوني في المدرسة القرآنية ص207-217 ، ووسيلة بلعيد في التفسير واتجاهاته ص173-211(15/1)
المنهج العام للتفسير :
وتفسير مكي بن أبي طالب يعتبر تفسيرا نحويا لغويا يهتم بالأثر ويعنى كثيرا بالقراءات .
قال مكي في مقدمة الهداية : هذا كتاب جمعت فيه ما وصل إلي من علوم كتاب الله جل ذكره واجتهدت في تلخيصه وبيانه واختياره واختصاره ، وتقصيت ما وصل إلي من مشهور تأويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم في التفسير دون الشاذ على حسب مقدرتي ، وما تذكرته في وقت تأليفي له ، وذكرت المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وجدت إليه سبيلاً ، من روايتي ، أو ما صح عندي من رواية غيري(1) .
ثم أخذ مكي في تعداد الكتب التي اعتمدها ، قال : جمعت أكثر هذا الكتاب من كتاب شيخنا أبي بكر الأدفوي رحمه الله ، وهو الكتاب المسمى بكتاب (الاستغناء) والمشتمل على نحو ثلاثمائة جزء في علوم القرآن أفضيت في هذا الكتاب نوادره ، وغرائبه ومكنون علومه ، مع ما أضفت إلى ذلك من كتاب تفسير القرآن ، تأليف أبي جعفر الطبري ، وما تخيرته من كتب أبي جعفر النحاس ، وكتاب أبي إسحاق الزجاج ، وتفسير ابن سلام ، ومن كتاب الفراء ومن غير ذلك من الكتب في علوم القرآن والتفسير والمعاني والغريب والمشكل ، انتخبته من ألف جزء أو أكثر مؤلفة في علوم القرآن مشهورة مروية .
وقال : أعني بقولي : بلوغ النهاية إلى ماوصل إلي من ذلك لأن علم كتاب الله لايقدر أن يبلغ أحد إلى نهايته وفوق كل ذي علم عليم .
وقد تخفف في كل ماذكره من الأقوال والمأثورات من ذكر الأسانيد مصرحًا بذلك بقوله :
وأضرب عن الأسانيد ليخف حفظه على من أراد ، وليتفرغ إلى ماجمع فيه من علوم كثيرة ، وفوائد عظيمة من تفسير المأثور ، وذكر الأحكام والناسخ والمنسوخ وغيرهما من فنون علم كتاب الله من قراءة عربية أو إعراب غامض أو اشتقاق مشكل أو تصريف خفي أو تعليل نادر أو تصريف مسموع مع ما يتعلق بذلك من أنواع علوم يكثر تعدادها ويطول ذكرها .
__________
(1) الهداية ق 1(15/2)
وصرح في ختام مقدمته بأنه فيما قدم من علل النحو والغامض من الإعراب تخفف من نبذ جمعها لئلا يطول الكتاب وأنه أفرد كتابا مختصرا في شرح مشكل الكتاب بغية التفرغ لما ألف كتاب الهداية من أجله وهو تفسير التلاوة وبيان القصص والأخبار وكشف مشكل المعاني وذكر الاختلاف في ذلك وبيان الناسخ والمنسوخ وذكر الأسباب التي نزل فيها .
ووفاء بالأمانة العلمية أخبر أنه سيتصرف في أقوال العلماء المتقدمين فينقلها بأسلوبه _ على وجه التضمين _ بغية تقريب معناها وذهاب غامضها ، إلا إذا انتفى السبب الذي حمله على التصرف فيها قال : ذكرت ألفاظهم بعينها ، مالم يشكل .
وقد أفرد فرحات في دراسته الباب الثالث لمنهج مكي في تفسيره (1) وجعله في ثلاثة فصول : (انظر أيضا :كلام وسيلة على منهج مكي (2)
الفصل الأول : احتجاجه بالأثر 1-تفسير القرآن بالقرآن .
2-تفسير القرآن بالحديث الصحيح .
3-عنايته بأسباب النزول .
4-التفسير بأقوال الصحابة فمن بعدهم .
5-بيان القصص والأخبار .
6-موقفه من الإسرائيليات .
الفصل الثاني : اعتداده بالعربية :
1-بيان المفردات .
2-عنايته بالاشتقاق .
3-معاني الحروف .
4-اختلاف الإعراب وأثره في الأحكام .
5-علوم البلاغة .
6-النقد اللغوي .
7-التعليل اللغوي .
الفصل الثالث : احتفاله بالنظر :
1-بيان معنى النظر وحدوده .
2-مجالات النظر ودرجاته :
1-مجال النقد اللغوي . 2-الآيات المشكلة .
3-آيات العقيدة .
ردوده على الرافضة وعلى المعتزلة .
وفرق في هذا الفصل بين معنى النظر والرأي عند مكي ، إذا أن النظر عنده هو : التدبر والتفكر في مجموع النصوص ومقابلتها ببعضها ومحاولة الوصول إلى فهم صحيح يجلو الغوامض ويزيل الالتباس ، ويكشف مشكل المعاني .
كما أشار فرحات إلى المجال الذي يدور فيه النظر ، فبين أنه محدود بحدين : حد النصوص وحد اللغة ، أي التمييز والاختيار بين النصوص على ضوء المعاني.
__________
(1) ص227.
(2) ص173-211 .(15/3)
وبذلك أوضح أن النظر عند مكي لا يدخل في باب التفسير بالرأي المجرد لأنه ليس رأيا شخصيا له وإنما هو فهم على أصول وقواعد ، كما حدد مجالات النظر عند مكي ودرجاته ، فبين أنه يظهر في النقد اللغوي ، وتفسير الآيات المشكلة ، وآيات العقيدة حيث يستطرد للرد على الفرق المخالفة كالمرجئة والمعتزلة .
وفي الباب الخامس تكلم عن قيمة تفسير مكي فذكر كلام القاضي عياض وابن سعيد وابن عطية (1) .
ثم ذكر نماذج من استفادة ابن عطية منه (2)
ثم القرطبي (3)
ثم أبي حيان (4)
ومن أهم نتائجه لهذه الدراسة أنه بين ولأول مرة مكانة مكي العلمية وقيمة تفسيره، وأثره في المفسرين من بعده ، كما ظهر له أن تفسير مكي (يعتبر في جملته تلخيصا جيدا لتفسير الطبري ، لا يخل بجوهره لأنه لم يحذف منه إلا الأسانيد والمكررات) .
والمآخذ على هذه النتيجة ، أن الباحث اعتمد فيها على مثال وجده في تفسير الطبري يتفق وتفسير مكي وهذا لا يكفي للحكم على تفسير مكي بأكمله ، وفي دراسة حسن فرحات ما يفيد أن مكيًا ألف تفسيره في مدة طويلة استغرقت شبابه وكهولته ، ولو كان تلخيصا لكتاب الطبري ، لأتمه في مدة محدودة ، وقد ذكر مكي نفسه أن من مراجعه الأساسية تفسير الطبري وذكر غيره من المصادر وعلى وجه الخصوص كتاب الاستغناء مما يبعد تماما فكرة التلخيص هذه .
وطريقة مكي في تفسيره الهداية أنه يستهل تفسير السورة بالبسملة والتصلية ويقول: قوله تعالى ذكره ..ثم يذكر آية أو عدة آيات ثم يذكر قراءاتها وإعرابها وتفسيرها .
وقلما يهتم بذكر الروايات مسندة لأصحابها في أسباب النزول ، أما الإعراب والتصريف فكثيرًا ما يسند الأقوال فيهما إلى علماء اللغة إذا كان بينهم خلاف في التوجيه الإعرابي للآية .
__________
(1) ص540 .
(2) ص550 .
(3) ص557 .
(4) ص562 .(15/4)
وكذلك يذكر الأقوال مسندة إلى من رويت عنهم في تأويل غريب القرآن ، وكلما تقدم في التفسير استغنى عن خدمة الألفاظ التي سبق له أن فسرها في سورة قبلها .
وقد أفرد مكي كتابه "تفسير المشكل من غريب القرآن العظيم على الإيجاز والاختصار" لبيان معاني المفردات وتميز منهجه فيه بالأمور التالية(1) :
1-أنه جمع فيه غريب القرآن ممن تقدمه من مصنفي الغريب ، وكان أكثر اعتماده على كتاب "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة .
2-أنه اعتمد في ترتيب كتابه على نسق الآيات والسور في القرآن الكريم ، وهذا أحد منهجين سار عليهما العلماء الذين ألفوا في غريب القرآن ويقوم المنهج الآخر على ترتيب الكلمات حسب حروف المعجم كما فعل السجستاني والراغب الأصفهاني .
3-أنه يختار أولى الأقاويل في تفسير الغريب ويتجنب المنحول من التفسير والشاذ من الآراء ، ويعتمد في أسلوبه اللفظ الموجز ، والعبارة السهلة الواضحة ، والاختصار الشديد وعدم التفصيل اللغوي ، وذكر الآراء المختلفة ، والمسائل النحوية التي حفلت بها كتب الغريب ككتاب "معاني القرآن" للفراء و "معاني القرآن" للأخفش الأوسط .
أما كتاب مشكل إعراب القرآن :
فقد ذكر مكي في سبب تأليفه لهذا الكتاب أنه رأى أن كل من تكلم عن الإعراب أطال الكلام في الخفض وحروفه والجزم وحروفه وبما هو ظاهر من ذكر الفاعل والمفعول واسم إن وخبرها مما يستوي في معرفته العالم والمبتدئ وأغفلوا مشكلات الإعراب التي هي حرية بالبيان ، وهذا الإغفال دعاه إلى تفسيرها وذكر عللها وصعبها ونادرها حتى يسهل فهمها ويقرب تناولها لمن أراد حفظها .
__________
(1) انظر مقدمة تفسير المشكل ص71،72(15/5)
وقد بين أنه قد ألف كتابه هذا لمن بلغ مستوى عاليًا في معرفة النحو وقواعده وهو ما أشار إليه في مقدمة هذا الكتاب بقوله : ولم أؤلف كتابنا هذا لمن لايعلم من النحو إلا الخافض والمخفوض والفاعل والمفعول والمضاف والمضاف إليه والنعت والمنعوت في أشباه لهذه ، إنما ألفناه لمن شدا طرفا منه ، وعلم ظواهره وجملاً من عوامله ، وتعلق بطرف من أصوله(1).
ونبه في هذه المقدمة على أنه تحرى أن يوضح إعراب كل مشكل في الكلمات القرآنية لايترك إلا مايدخل في أشباه له أو نظائر سبق إيضاحها فيها تقدم من كتب تلافيا لآفة التكرار ورغبة في الاختصار مع نصه على موضع الكلام مما سبق كقوله مثلا في إعراب { وما أدراك ما يوم الدين } (2) في سورة الانفطار : قد تقدم الكلام فيه وفي نظيره في الحاقة والواقعة وغيرهما .
المنهج التفصيلي للمؤلف :
أولا : موقفه من أسماء السور وعدد الآيات والوقوف وبيان المناسبات :
يتعرض مكي لذكر السورة هل هي مكية أم مدنية فقط ولا يتعرض لعد الآي ولا المناسبات ونحو ذلك مثل قوله :
سورة طه مكية .
الأنبياء مكية .
وقال في سورة مريم بعد البسملة والتصلية :
وكان نزولها قبل أن يهاجر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة .
ثانيا : موقفه من العقيدة :
يلاحظ أن موقف مكي من قضية الصفات هو موقف السلف الصالح من إثباتها من غير تشبيه أو تأويل أو تحريف أو تعطيل :
__________
(1) مشكل إعراب القرآن 1/2-3
(2) الانفطار :17(15/6)
قال في قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } (1): أي على عرشه ارتفع وعلا قال أبو عبيدة : استوى : علا ، وقال غيره : استقر وقيل : معناه استولى وأحسن الأقوال في هذه : علا . والذي يعتقده أهل السنة ويقولونه في هذا أن الله جل ذكره فوق سماواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل مكان بعلمه وله تعالى ذكره كرسي وسع السموات والأرض كما قال جل ذكره وكذلك ذكر شيخنا أبو محمد ابن أبي زيد رحمه الله وقد سأل رجل مالكا عن هذا ….فذكر أثر مالك المشهور في الاستواء . (2)
وقال مكي في معرض تفسير قوله تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } (3): ما جاء في القرآن والأحاديث من النزول والمجيء غير ذلك مضافا إلى الله – جل ذكره – فلا يجب أن يتأول فيه انتقال ولا حركة على الله ، إذ لا يجوز عليه ذلك ، والحركة والنقلة إنما هما من صفات المخلوقين ، وكل ما جاء من هذا ، فإنما هو صفة من صفات الله لا كما هي من المخلوقين فأجرها على ما أتت ، ولا تعتقد ولا تتوهم في ذلك أمرا مما شاهدته في الخلق ، إذ ليس كمثله شيء .
ثم يقول : وقد قال جماعة من العلماء في وصف الله – جل ذكره – بالمجيء والإتيان والتنزل ، إنها أفعال يحدثها الله متى شاء ، سماها بذلك فلا تقدم بين يديه ، ولا تكيف ولا تشبه ، وتقول كما قال ، وتنفي عنه - جل ذكره – التشبيه ، ولا تعترض في شيء مما أتى في كتابه من ذلك ، وما روي عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - . (4)
وربما سلك مسلك التأويل فيما أشكل مثلما قال عند قوله { قدم صدق } (5)
__________
(1) طه :5
(2) الهداية 3/28
(3) الحاقة : 17
(4) الهداية ق226
(5) يونس :2(15/7)
ومعنى { قدم صدق } قال الضحاك : ثواب صدق ، وقال مجاهد : الأعمال الصالحات، وهو اختيار الطبري ، قال ابن عباس : أجرًا حسنا قدموا من أعمالهم وعن ابن عباس { قدم صدق } : ماتقدم لهم من السعادة في اللوح المحفوظ . وقال قتادة والحسن وزيد بن أسلم { قدم صدق } : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - شفيع لهم .
والقدم في اللغة : على أربعة أوجه :
1-قدم الإنسان مؤنثة .
2-والقدم : السابقة والعامل الصالح مؤنثة أيضًا .
3-والقدم : الشجاع مذكر .
4-والقدم : المتقدم ، مذكر أيضًا .
وفي الحديث “أن جهنم لاتسكن حتى يضع الجبار فيها قدمه” (1)
وفي رواية أخرى “حتى يضع الله فيها قدمه” قال الحسن : معناه حتى يجعل فيها الذين قدمهم لها ، فيمن قدم الله إلى النار . والمؤمنون قدمهم إلى الجنة . ومن رواه: “حتى يضع الجبار” فمعناه ماذكرنا إن جعلت الجبار اسمًا لله ، وقيل : الجبار اسم لجنس يدل على جميع الجبارين على الله ، فالمعنى حتى يضع الجبارون على الله فيها أقدامهم ، أي حتى يدخلوها فعند ذلك تقول : قط قط : أي كفى كفى . وفي هذا الحديث اختلاف روايات بألفاظ مختلفة لكنا فسرنا موضع الإشكال منه(2).
وأما موقفه من القدر فيظهر في تفسيره لقوله تعالى : { سواء عليهم ءأنذرتهم } (3) حيث قال : أعلمه الله عز وجل في هذه الآية ، أمر من سبق له في علم الله سبحانه، الكفر والثبات عليه إلى الموت ، لايؤمن ولا ينفعه الإنذار ، وأن الإنذار وتركه سواء عليه(4).
وهذا مما يدل على إثباته القدر بخلاف ماتقوله المعتزلة .
ثالثا : موقفه من تفسير القرآن بالقرآن :
__________
(1) أخرجه البخاري –كتاب التفسير سورة ق- باب { وتقول هل من مزيد } 8/594-595 ، عن أنس بلفظ : “حتى يضع قدمه فتقول : قط قط” . وعن أبي هريرة بلفظ : “فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول : قط قط” . وعنه أيضًا بلفظ : “حتى يضع رجله فتقول قط قط قط” .
(2) الهداية 2/1-2
(3) البقرة :6
(4) الهداية 1/15(15/8)
قال في قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم } (1) : … المنعم عليهم هم الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقون والصالحون بدلالة قوله { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } (2)
وقال في قوله تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } (3) : ومعنى تبيض : تشرق، كما قال { وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة } (4)فهي تشرق لما تصير إليه من النعيم ، وتسود وجوه من أجل ماتصير إليه من العذاب(5) .
وفي شرح مشكل الغريب يستشهد على تفسير الكلمات الغريبة بالآيات القرآنية ومن ذلك قوله { آنست نارا } (6) أي أبصرت ، و { آنستم منهم رشدا } (7) أي علمتم(8).
وقوله : { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } (9)أي : مخادعا . ومنه قوله تعالى :
{ فأنى تسحرون } (10)أي : من أين تخدعون (11).
رابعا : موقفه من تفسير القرآن بالسنة :
قال عند قوله تعالى { يرثني ويرث من آل يعقوب } (12) : وأنكر آخرون وراثة المال في هذا لقوله- صلى الله عليه وسلم - : “نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة”(13) وهذا الحديث يجب أن يكون حكمه مخصوصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر عن نفسه على لفظ الجماعة …ويحتمل أن تكون هذه شريعة كانت ونسختها شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فمنع وراثته .(14)
__________
(1) الفاتحة :7
(2) النساء :69
(3) آل عمران : 106.
(4) عبس 38-39 .
(5) الهداية 1/151
(6) طه :10 .
(7) النساء : 6 .
(8) تفسير المشكل ص247
(9) الإسراء :47
(10) المؤمنون :89
(11) تفسير المشكل ص228
(12) مريم : 6 .
(13) أخرجه البخاري – كتاب الفرائض – باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - “لانورث ما تركنا صدقة” 12/6،7 ، ومسلم كتاب الجهاد والسير باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - “لانورث ماتركنا فهو صدقة” 3/1379 .
(14) الهداية 3/2 .(15/9)
وقال : وروى أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : “يجاء بالموت فيوضع بين الجنة والنار كأنه كبش أملح” قال : “فيقال ياأهل الجنة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون : نعم هذا الموت” قال : “فيقال : ياأهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون : نعم هذا الموت ثم يؤمر به فيذبح” قال : “فيقول: ياأهل الجنة خلود بلا موت وياأهل النار خلود بلا موت ” ثم قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - { وأنذرهم يوم الحسرة } (1)الآية وأشار بيده في الدنيا يريد الغفلة في الدنيا”.(2)
وفي قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانًا حملته أمه كرهًا ووضعته كرها } (3) ذكر مارواه ابن مسعود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الأعمال أفضل ؟
قال: “إيمان بالله ، والصلاة لوقتها ، وبر الوالدين ، والجهاد في سبيل الله ” (4).
وذكر غيره من أحاديث في بر الوالدين وعقوقهما .
__________
(1) مريم :39
(2) الهداية 3/12 . أخرجه البخاري - كتاب التفسير – باب { وأنذرهم يوم الحسرة } رقم 4730 ، ومسلم – كتاب الجنة – باب النار يدخلها الجبارون رقم 2849 من حديث أبي سعيد .
(3) الأحقاف : 15.
(4) أخرجه البخاري – كتاب التوحيد – باب وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عملا 13/510 ، ومسلم – كتاب الإيمان – باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/89(15/10)
وريما تكلم عن الحديث من حيث الصناعة الحديثية مثل الحديث المروي في حل أكل ذبائح المجوس وهو قوله : “سنوا بهم سنة أهل الكتاب”(1) فأشار إلى أن سنده غير متصل ، وأن المراد به الجزية فقط .
وقد ذكرت صاحبة التفسير واتجاهاته تبعا لفرحات أن من أهم خصائص منهج مكي :
1-اقتصاره على رواية الصحيح من الحديث دون غيره ، وهو بهذا تقدم خطوة حاسمة بمنهج التفسير بالمأثور نحو تخليصه من الروايات الضعيفة والواهية والموضوعة.
2-حذفه الأسانيد وهو ماذكره في مقدمته بقوله : وأضربت عن الأسانيد ليخف حفظه على من أراده .
وقالت : واعتمد مكي في تفسير القرآن على الأحاديث الصحيحة دون غيرها ، بعد حذف أسانيدها ، قصد التخفيف على من يرغب في حفظ الكتاب . وهو منهج سلكه كثير من المفسرين والفقهاء ، خاصة بعد أن دونت الأحاديث وعرف رجالها ووضعت المجاميع والمسانيد .
قالت : ومما يؤكد اعتماد مكي على صحيح الحديث دون غيره ماقام بتحقيقه حسن فرحات إذا تتبع بعض الأحاديث الواردة في التفسير وقارنها مع ماخرجه ابن كثير في تفسيره فلاحظ التطابق بينهما في التفسيرين والمعلوم أن ابن كثير قد اشتهر بنقل الأحاديث الصحيحة مسندة ونقد رجالها جرحًا وتعديلاً(2).
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ – كتاب الزكاة – باب جزية أهل الكتاب والمجوس 1/278 عن محمد بن علي أن عبد الرحمن بن عوف قال : أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول “سنوا بهم سنة أهل الكتاب” . قال ابن كثير : روي مرسلاً وقال : لم يثبت بهذا اللفظ (التفسير 3/37) وقال ابن عبد البر : هذا منقطع (انظر تنوير الحوالك 1/205) وقال الألباني : ضعيف (انظر إرواء الغليل 5/88)
(2) التفسير واتجاهاته ص178(15/11)
وهذا الذي ذكرته بالنسبة لاعتماده ذكر الصحيح فقط ليس بصحيح ، كما أن تفسير ابن كثير به جملة من الأحاديث الضعيفة ، والغريب أنها أتبعت كلامها ببعض مواضع استدلال مكي بالحديث فكانت الأمثلة في أحاديث ضعيفة ومن ذلك قولها:
والمثال الأول منها : ماذكره مكي في تفسير قوله عز وجل { فويل لهم مما كتبت أيديهم } (1) قال سفيان وابن عباس : ويل ماء يسيل من صديد ، في أسفل جهنم ، وروى عثمان عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “الويل جبل في النار”(2) وروى عنه عليه السلام أبو سعيد الخدري أنه قال : “ويل وادي في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره”(3).
وكل من حديث عثمان وأبي سعيد غير صحيح .
__________
(1) البقرة : 79.
(2) أخرجه ابن جرير 1/378،379 مطولا من طريق كنانة العدوي عن عثمان به . وكنانة عده الحافظ من الرابعة (التقريب 5668) ولا يعرف بسماع من عثمان ، وفي الإسناد من لم أجد له ترجمة ، ولم يعزه السيوطي في الدر لغير ابن جرير .
(3) أخرجه الترمذي –كتاب صفة جهنم – باب ماجاء في صفة قعر جهنم رقم 2576 ، وابن حبان (انظر موارد الظمآن ص649) والحاكم 4/596 وقال الترمذي : غريب . وقال ابن كثير : منكر (التفسير 1/168) وقال الألباني : ضعيف (انظر ضعيف الترمذي 1/617، ضعيف الجامع 6/269)(15/12)
قالت : ومن أمثلة تفسيره للقرآن بالحديث ماجاء في بيان معنى قوله تعالى { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } (1)قال : معناه نعظمك بالحمد والشكر وقيل : التسبيح الصلاة . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : “إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون”. وإن عمر بن الخطاب قال له : يارسول الله ماصلاتهم ؟ فلم يرد عليه النبي عليه السلام شيئا ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : يانبي الله : سألك عمر عن صلاة أهل السماء . “قال : نعم” ، فقال له : اقرأ على عمر السلام وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت . وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت . وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لايموت(2).
وهذا أيضا حديث غير صحيح .
__________
(1) البقرة : 30 .
(2) أخرجه ابن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة 1/262 ، وأبو الشيخ في العظمة
3/1014، والحاكم في المستدرك 3/87 من حديث عبد الله بن عمر مطولا وأخرجه ابن نصر أيضًا من رواية سعيد بن جبير والحسن مرسلاً 1/264 ،266 ، وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري فتعقبه الذهبي بقول : منكر غريب وما هو على شرط البخاري عبد الملك ضعيف تفرد به .ا.هـ وقال ابن كثير : حديث غريب جدًا بل منكر نكارة شديدة (التفسير 4/445)(15/13)
وتحت قوله تعالى { أفمن شرح الله صدره للإسلام } (1) ذكر أن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سألوه بقولهم : أو ينشرح القلب ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : “نعم ، إذا أدخل الله فيه النور انشرح ، وانفسح” . قالوا : فهل لذلك من علامة تعرف ؟ قال : “نعم . التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل الموت” (2).
وهو حديث ضعيف كذلك .
أما الأمثلة على الأحاديث الصحيحة فقد تقدم جملة منها .
وبالنسبة لأسباب النزول فهو من المهتمين بها المعتنين بإيرادها
قال في قوله تعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } (3): أي صلاة من مات منكم ، وهو يصلي إلى بيت المقدس .
وقال المشركون من أهل مكة : تحير محمد في دينه ، فكان ذلك فتنة للناس ، واختبارًا وتمحيصًا للمؤمنين .
__________
(1) الزمر : 22 .
(2) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره 1/210 ، وابن جرير 8/26-27 وغيرهما عن ابن مسعود موصولا وعن غيره مرسلا (وانظر الدر المنثور 5/358) وقال ابن كثير : فهذه الطرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا والله أعلم . (التفسير2/175) وقال ابن الجوزي : روي من طرق كلها وهم والصواب عن عمرو بن مرة عن أبي جعفر عبد الله ابن المسور مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك قاله الثوري ، وابن المسور متروك . العلل المتناهية 2/318
(3) البقرة :143(15/14)
قال قتادة : صلت الأنصار حولين بين بيت المقدس قبل هجرة النبي ، ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى نحوها ستة عشر شهرًا ، ثم وجهه الله نحو الكعبة ، فقال قائلون من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . وقالوا : لقد اشتاق الرجل إلى مولده، فابتلى الله عباده بما شاء من أمره ، فأنزل الله في اليهود والمنافقين : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم } إلى { مستقيم } ، وأنزل في المؤمنين { وما كان الله ليضيع إيمانكم } إلى { رحيم } .(1) (2)
وقال في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } (3): هذه الآية نزلت في سبب أقوام سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مسائل امتحانا له ، فيقول له بعضهم إذا ضلت ناقته : أين ناقتي ؟ فنهى الله عز وجل عن ذلك .(4)
__________
(1) الهداية ق84 والآيتان من سورة البقرة برقم :142،143
(2) أخرجه ابن جرير 2/5 وهو ضعيف لإرساله ولكن روى البخاري نحو ذلك من حديث البراء – كتاب التفسير – باب { سيقول السفهاء من الناس } 8/171 .
(3) المائدة : 101
(4) أخرجه البخاري – كتاب التفسير- باب { لاتسألوا عن أشياء } 8/280 وابن جرير 7/80 عن ابن عباس به .(15/15)
قال أنس : سأل الناس النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر ذات يوم وقال : “لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم ” فألقى الناس ثيابهم على رؤوسهم يبكون ، فأنشأ رجل كان إذا لاحى دعي بغير أبيه ، فقال : يارسول الله ! من أبي ؟ قال : “حذافة ” فقام عمر فقبل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، أعوذ بالله من شر الفتن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : “أما والذي نفسي بيده ، لقد صورت مثل الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط ، فلم أر كاليوم في الخير والشر ” .(1)
قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارفت أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس؟ فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته .
وقال أبو هريرة : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان ، حتى جلس على المنبر ، فقام رجل فقال : أين أنا ؟ فقال : “في النار” ، وقال آخر : من أبي ؟ فقال : “حذافة” ، فقام عمر فقال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما . فنزلت الآية .(2)
وقال علي بن أبي طالب : لما نزلت هذه الآية { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا : يارسول الله ، أفي كل عام ؟ فسكت ، ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، ثم قال : “لا ، ولو قلت نعم ، لوجب ” فأنزل الله الآية .
__________
(1) أخرجه البخاري – كتاب التفسير- باب { لاتسألوا عن أشياء } 8/280 ، ومسلم – كتاب الفضائل – باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - 7/94 .
(2) أخرجه ابن جرير 7/82 وقال الوادعي : رجاله رجال الصحيح إلا محمد ابن علي شيخ
ابن جرير وهو ثقة . (الصحيح المسند من أسباب النزول ص63)(15/16)
وروي أنه قال – لما كرر عليه القول - : “والذي نفسي بيده لو قلت : نعم ، لوجبت ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم ” فأنزل الله { لا تسألوا عن أشياء } الآية . (1) وروي عنه أنه قال : “لو قلت لوجبت ، ولو وجبت ثم تركتم لهلكتم اسكتوا عني ما سكت عنكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ” فأنزل الله الآية .(2)
وفي شرح مشكل الغريب لم يكثر الاستشهاد بالحديث الشريف واقتصر على حديث واحد فقط في الكتاب كله وهو في تفسير قوله تعالى { فمن اعتدى بعد ذلك } (3) قال : أي قتل بعد أن أخذ الدية من الجاني روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - “لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية”(4).
خامسا : موقفه من تفسير القرآن بأقوال السلف :
قال : قوله تعالى ذكره { كهيعص } (5)
وهذه الحروف عند ابن عباس مأخوذة من أسماء دالة على ذلك . فالكاف يدل على
كبير . وقيل : الكاف يدل على كافٍ . قاله ابن جبير والضحاك ، وروى أيضا ابن جبير أن الكاف تدل على كريم .
قال ابن عباس وابن جبير : الهاء تدل على هاد . كذلك قول الضحاك .
قال ابن جبير : الياء من حكيم …
__________
(1) أخرجه الترمذي – كتاب تفسير القرآن – باب ومن سورة المائدة 5/256 وقال : حديث حسن غريب .
(2) الهداية 1/375-376
(3) البقرة : 178 .
(4) شرح مشكل الغريب ص108 ، أخرجه أحمد 3/363 وأبو داود –كتاب الديات – باب من قتل بعد أخذ الدية 4/646 عن جابر ، وقال المنذري : الحسن لم يسمع من جابر فهو منقطع . وأخرجه ابن جرير 2/112 عن قتادة مرسلاً وهو ضعيف لإرساله وعزاه السيوطي أيضًا لابن المنذر وذكر أن سمويه أخرجه في فوائده عن سمرة موصولاً (الدر 1/181) وضعفه الألباني (ضعيف الجامع 5/6173) والفريوائي (لحظ الألحاظ 1/767) .
(5) مريم :1(15/17)
وقال ابن عباس وابن جبير : العين من عالم . وعن ابن عباس أيضًا : العين من عزيز وقال الضحاك : العين من عدل . وقال ابن عباس وابن جبير : الصاد من صادق . وعنه أيضا : الكاف كافٍ والهاء هاد والياء يد من الله على خلقه والعين عالم والصاد صادق . وعنه أيضًا أنه كان يقول : كهيعص اغفر لي .
وعن ابن عباس أنه قال : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله . وقال أبو العالية : كل حرف على حدته ليس من أسماء الله . وقال قتادة : كهيعص من أسماء القرآن .
وقوله تعالى { نداء خفيا } (1) أي: دعاء سرًا كراهية الرياء قاله ابن جريح وغيره وقال السدي : رغب زكريا في الولد فقام يصلي ثم دعا ربه سرًا .
{ أولى الأيدي ... } (2)قال ابن عباس : أولى القوة والعبادة ، { والأبصار } : الفقه في الدين . قال مجاهد : { أولي الأيدي } القوة في أمر الله { والأبصار } العقول . وقال قتادة : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين . وقال السدي : { الأيدي } القوة في طاعة الله { والأبصار } التبصر بعقولهم في دينهم .
وقال في قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } (3) : قال علي بن أبي طالب دلوكها: غروبها . وهو قول ابن مسعود ، وروي عن ابن عباس : دلوكها : زوالها، وقاله ابن عمر وأبو هريرة .
{ وقرآن الفجر } صلاة الصبح ، وقال قتادة : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } (4)هي صلاة الفجر ، { وقبل غروبها } هي صلاة العصر ، { ومن آناء الليل } صلاة المغرب والعشاء الآخرة(5).
__________
(1) مريم :3
(2) ص: 45
(3) الإسراء : 78
(4) طه : 135
(5) الهداية 1/49(15/18)
وقال في تفسير قوله تعالى { اهبطوا مصرًا } (1): إن قتادة ومجاهد وغيرهما يرون أن ذلك يعني مصرًا من الأمصار بالتنكير . وأما أبو العالية فيرى أنها مصر التي بها فرعون وهو قول الكسائي أيضًا . وذكر مكي أن أبيا وابن مسعود قرءا اهبطوا مصر ، بغير صرف معرفة ، وأن بعضهم يقول بأنها الشام ، وروى أشهب عن مالك أنها بلاده مصر .
وختم مكي هذه الروايات بقوله : في رأيي هي بلاد فرعون(2).
وفي شرح مشكل الغريب يستشهد مكي بأقوال الصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم من المفسرين مع توسط في هذا الأمر وعدم الإكثار منه ، ومن الشواهد على ذلك قوله في تفسير أول سورة البقرة { الم } وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : الألف الله ، واللام جبريل ، والميم محمد ، روى ذلك عنه عطاء والضحاك قال : وكل ما ذكرنا من تفسير أوائل السور عن ابن عباس فهو مما رواه عنه عطاء والضحاك .(3)
سادسا : موقفه من السيرة والتاريخ وذكر الغزوات :
يتعرض مكي لذكر بعض حوادث السيرة أثناء تفسيره ومن ذلك قوله في قراءة { وكأين من نبي قتل معه ربيون } (4) بعد أن ذكر عدة أوجه في توجيهها :
والأول أحسن لأن كعب بن مالك قال : أول من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقتل يوم أحد ، أنا ، رأيت عينه من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي : هذا رسول الله . فأومأ إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اسكت ، وكان قد صاح الشيطان يوم أحد : قتل محمد فانهزم المسلمون خلا قليل منهم .
وهناك مواضع أطال فيها جدًا في ذكر أحداث السيرة ومن ذلك ماذكره تحت قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } (5)حيث ذكر تفاصيل غزوة الحديبية وقصة البيعة وقصة أبي جندل ثم ذكر المعجزات التي حصلت على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الغزوة .
__________
(1) البقرة : 61 .
(2) الهداية 1/31
(3) تفسير المشكل ص85
(4) آل عمران :146
(5) الفتح :1(15/19)
وتحت قوله تعالى { لتجدن أشد الناس عداوة } (1) ذكر قصة جعفر مع النجاشي بطولها من حديث ابن عباس وأم سلمة والسدي وغيرهم .
ولذا قال فرحات عن مكي : …فهو لايترك فرصة تمر دون أن يعلق على الآيات التي تتصل بالسيرة ، ويشرح تفاصيل حوادثها ويستنتج منها العبر ، مما يجعل كتابه غنيًا بالنصوص التاريخية التي توضح النص القرآني في نفس الوقت الذي تعطي فيه قارئها ثقافة لا بأس بها في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
سابعا : موقفه من الإسرائيليات :
__________
(1) المائدة :82
(2) مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن ص261 .(15/20)
لقد ذكر مكي في تفسيره كثيرًا من الإسرائيليات نظرًا لاهتمامه بالجانب الأثري ومن ذلك ماساقه من روايات كثيرة تحت قوله تعالى { واتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان …. } (1) ومنها قوله : وروي عن ابن عباس في قصة الملكين : أن الله تعالى أطلع الملائكة على أعمال بني آدم ، فقالوا : يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ؛ يعملون بالخطايا ؟ فقال الرب تعالى لهم : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم ، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا ذلك . فأمروا أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهم كل شيء إلا الشرك والسرقة والزنا وشرب الخمر وقتل النفس . قال : فما استقرا حتى عرض لهما بامرأة قد قسم لها نصف الحسن فلما أبصراها تعرضا لها قالت : لا ، إلا أن تكفرا بالله وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم ، قالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا ، فقال أحدهما للآخر : ارجع إليها فقالت لا ، إلا أن تشربا الخمر . فشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ، فدخل عليهما سائل فقتلاه فلما وقعا فيما وقعا من الشر أفرج الله لملائكة السماء لينظروا إليهما فقالوا : سبحانك إنك أنت أعلم ، فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا .
ونكتفي في بيان موقف مكي بن أبي طالب من الإسرائيليات بذكر النتيجة الني توصل لها فرحات من دراسته :
قال فرحات :
وإذا كان مكي قد انتبه بالنسبة لتفسير القرآن بالحديث فحرص على أن يفسر بالصحيح منه دون غيره(2)، فإنه لم يوفق في جانب القصص الإسرائيلية والروايات التاريخية الأخرى إلى تحقيقها ونقدها والإشارة إليها من قريب أو بعيد .(3)
__________
(1) البقرة :102
(2) سبق انتقاد هذه النتيجة التي توصل لها المؤلف .
(3) ص274 .(15/21)
قال : لقد ذكرت تلك المصادر حوادث وأخبار في قصة داوود وأوريا وشعيب وابنتيه وسليمان والجن مما يتعارض أشد التعارض مع ما ينبغي أن يكون عليه الأنبياء من صفات خلقية نبيلة وكان على علمائنا أن يردوا هذه الأخبار(1) وأن لا يستشهدوا بها في كتبهم وألا يجعلوها في تفاسير تشرح كتاب الله تعالى . (2)
ثامنا : موقفه من اللغة :
لقد أشار مكي في مقدمة التفسير إلى أنه سوف لايطيل القول في الناحية الإعرابية خاصة لأنه أفردها بالتأليف ، فقال : قدمت في أوله نبذًا من علل النحو وغامض الإعراب ، ثم خففت ذكر ذلك فيها ، لئلا يطول الكتاب ولأني قد أفردت كتابًا مختصرًا في شرح مشكل الإعراب خاصة(3).
وقد كان يؤكد على هذا المنهج الذي التزم به ، ويذكر به من حين إلى آخر أثناء تفسيره للآيات القرآنية ، ذكر في بيان قوله تعالى { هدى للمتقين } (4)، قال: وقد فسرنا إعراب هذا وما يشابهه في كتاب : تفسير مشكل إعراب القرآن ، فأخلينا هذا الكتاب من بسط لئلا يطول ، إلا أن يقع نادر من الإعراب ، فنذكره على شرطنا المتقدم فاعلم ذلك (5).
ومن أمثلة اهتمامه باللغويات :
تفسيره لقوله تعالى { وترى الملائكة حافين من حول العرش } (6)، أي وترى يامحمد يوم القيامة الملائكة محدقين من حول العرش والعرش : السرير ، وواحد حافين : حاف : قاله الأخفش ، وقال المبرد : لا يفرد .
__________
(1) بعض هذه الأخبار ثابت عن بعض الصحابة أو كبار مفسري التابعين الذين شهدت لهم الأمة بالفضل والمعرفة بما يجوز على الأنبياء وما لايجوز وهم أعرف بالاعتقاد الصحيح منا والذي ينبغي أن يقال : إنه يجب تنقيح تلك الروايات ومعرفة الصحيح منها ثم توجيهه وحمله على المحمل اللائق فإن بعضها لاغنى عنه في التفسير . والله تعالى أعلم .
(2) ص 275 .
(3) الهداية 1/1
(4) البقرة :2 .
(5) الهداية 1/9
(6) الزمر : 75 .(15/22)
ودخلت "من" في قوله : { من حول العرش } لأنه ظرف ، والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف ، ومثله قوله { وإلى الذين من قبلك } (1) ، وقال بعض البصريين : دخلت من في الموضعين توكيدًا (2).
كما بين مكي إعراب الباء في باسم الله فقال : والباء متعلقة بفعل مضارع ، والمعنى أبدأ باسم الله ، فإذا اختلفت الأفعال التي نريد أن يسمى الله عليها ، أضمرت لكل معنى فعلاً يشاكله ، فإذا أردت القيام فقلت : باسم الله ؛ أضمرت : أقوم باسم الله، وإذا أردت القعود ؛ قدرت : أقعد باسم الله ، وكذلك الركوب وشبهه …الخ .
وانتقل من بيان معنى الحروف ، إلى تقرير قاعدة نحوية تتعلق بعمل حروف الجر ، فقال : وإنما سميت الباء ، ومن ، وعن ، وشبهها بحروف الجر ، لأنها تجر الأفعال إلى الأسماء ، لأن معناها الإضافة ، تضيف فعلا إلى الاسم ، أو معنى إلى الإسم كقولك : مررت بزيد ، وعمرو كزيد ، وإنما كسرت الباء لتكون حركتها مثل عملها(3).
وبين الفرق بين الاستفهام والتسوية عند تفسير قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم ام لم تنذرهم لايؤ منون } (4)قال : ومعنى لفظ الاستفهام في { ءأنذرتهم } التسوية وهو في المعنى خبر لكن التسوية تجري في اللفظ مجرى لفظ الاستفهام . والمعنى على الخبر تقول : سواء علي أقمت أم قعدت . وإنما صار لفظ التسوية مثل لفظ الاستفهام للمعارضة التي بينهما ، وذلك أنك إذا قلت : قد علمت أزيد في الدار أم عمرو . فقد سويت علم المخاطب فيهما ، فلا يدري أيهما في الدار ، مع علمه أن أحدهما في الدار ، ولايدري بعينه ، فهذا تسوية .
__________
(1) الشورى :3 .
(2) الهداية 3/398
(3) الهداية 3/202
(4) البقرة : 6 .(15/23)
وتقول في الاستفهام : أزيد في الدار أم عمرو ؟ فأنت لاتدري أيهما في الدار ، وقد استوى علمك في ذلك ، وتدري أحدهما في الدار ، ولا تدري عينه منهما فقد صار الاستفهام كالتسوية ، في عواقب الأمور . غير أن التسوية إبهام على المخاطب وعلم يقين عند المتكلم ، والاستفهام إبهام على المتكلم ، ويجوز أن يكون المخاطب مثل المتكلم في ذلك ، ويجوز أن يكون عنده يقين ما سئل عنه ، فاعرف الفرق بينهما(1).
ومن مواضع تعرضه للإعراب قوله :
قوله جل ذكره : { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } (2) { ذكر } مرفوع عند الفراء على خبر { كهيعص } ثم رد معللاً إياه بقوله : لأن كهيعص ليس مما أثنى الله به على زكريا وليس كهيعص في شيء من قصة زكريا والتقدير : هذا الدين يدل على ذكر رحمة ربك عبده زكريا والتقدير فيما يتلى عليك يامحمد ذكر عبده زكرياء برحمته .
وأما شرحه للمفردات فمثل قوله :
ومعنى { وهن العظم } : ضعف ورق من الكبر وقوله { اشتعل الرأس شيبا } أي كثر الشيب في الرأس . ونصب شيبًا . على المصدر لأن معنى اشتعل شاب . وقال الزجاج : نصبه على التمييز أي اشتعل من الشيب .
وقال في قوله تعالى : { أولي الأيدي } (3) :
وقيل : { الأيدي } جمع يد من النعمة أ ي هم أصحاب النعم التي أنعم الله عليهم بها وقيل : هم أصحاب النعم والإحسان لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا وأصل اليد أن تكون للجارحة ولكن لما كانت العدة فيها سميت القوة يدا .
والبصر هنا عني به بصر القلب الذي ينال به معرفة الأنبياء .
أجاز الطبري أن يكون المعنى : أنهم أصحاب الأيدي عند الله بالأعمال الصالحة التي قدموها تمثيلاً باليد .
وقد أفرد مكي للغريب كتابه تفسير المشكل كما ذكرنا قبل ذلك .
واستدلاله بالشعر قليل فربما مرت عشرات الصفحات فلا يذكر فيها بيتًا واحدا .
__________
(1) الهداية 1/16
(2) مريم :2
(3) ص :45(15/24)
ومن مواضع استدلاله بالشعر في تفسير قوله تعالى : { فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } (1)في عطف المسح على الغسل قال :
ورأيت زوجك قد غدا متقلدًا سيفًا ورمحًا
قال: فعطف الرمح على السيف وليس الرمح مما يتقلد به ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في الحمل وفي أنهما سلاح .
أما في شرح مشكل الغريب فلم يستشهد إلا ببيت واحد من الشعر في الكتاب كله في الكلام على قوله تعالى { فيما طعموا } (2) أي ما شربوا من الخمر قبل التحريم يقال :لم أطعم خبزا ولا نوما قال الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا(3)
قال : النقاخ : الماء ، والبرد : النوم(4).
ومن كتاب مشكل إعراب القرآن ننقل تلك الأمثلة(5):
تكلم في البسملة على إعراب ثلاثة ألفاظ :
الباء من بسم الله :لم يتكلم عن المعروف من عملها بل عن اختصاص كسر بائها معللاً ذلك بأنها كسرت لتكون حركتها مشابهة لعملها ، أو كسرت فرقًا بين ما يخفض ولا يكون إلا حرفا نحو الباء واللام . وبين ما يخفض وقد يكون اسما نحو الكاف أما عملها الخفض فعلله بأنها لا معنى لها إلا في الأسماء . فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء وهو الخفض .
كما ذكر في تعليل حذف الألف من باسم الله خطا كثرة الاستعمال أو بسبب لزوم الباء لهذا الاسم أو حذفت لعلة تحرك السين في الأصل ، لأن أصل السين الحركة ، وسكونها لعلة دخلتها .
اسم : تكلم عن أصله ... وعند البصريين مشتق من سما يسمو أو من سمى يسمى . وجمعه أسماء . وجمع أسماء أسامي .
وعند الكوفيين مشتق من السمة . وأصله وسم .
وبعد أن حلل كلا المذهبين صرح بقوله : وقول الكوفيين أقوى في المعنى .
وقول البصريين أقوى في التصريف .
__________
(1) المائدة:6
(2) المائدة : 93 .
(3) البيت للعرجي وقوله نقاخا : هو الماء الطيب وبردًا هنا : الريق (انظر لسان العرب 6/4517)
(4) شرح مشكل الغريب ص155
(5) انظر دراسة فرحات له والأمثلة التي ذكرها ص355-381(15/25)
الله : حكى ثلاثة آراء في أصل الكلمة : أصله إلاه . دخلت الألف واللام . فصار الإلاه فحذفت الهمزة بعد أن ألقيت حركتها على اللام الأولى ، ثم أدغمت اللام في الثانية ، ولزم الإدغام للتعظيم والتفخيم وقيل : حذفت الهمزة وعوض منها الألف واللام ، ولزمتا للتعظيم .
وقيل : أصله لاه . دخلت الألف واللام ولزمتا للتعظيم ، ووجب الإدغام لسكون الأول من المثلين . ودل على ذلك قولهم : لهي أبوك ، يريدون : لله أبوك ...ويدل عليها أيضًا قوله : لاه ابن عمك . يريد : لله .
وذكر الزجاج في بعض أماليه عن الخليل : أن أصله : ولاه ، ثم أبدل من الواو همزة كإشاح ووشاح . والألف في لاه منقلبة عن ياء دل على ذلك قولهم : لهي أبوك . فظهرت الياء عوضًا من الألف تدل على أن أصل الألف الياء . وختم كلامه عن هذه الثلاثة بالتنبيه على القياس على ذلك فيما يغفله بعد من الأشباه والنظائر فقال: وإنما أشبعنا الكلام في هذين الاسمين لقياس عليهما شبههما مما لعلنا نغفله . وكذلك نغفل في كل ماهو مثل هذا .
وفي مشكل إعراب سورة الفاتحة :
تكلم عن كلمة سورة واشتقاقها ومعاني كل ، ثم عن كلمة الحمد وسبب رفعها وتعلق اللام في قوله : لله . ثم تكلم عن كلمة : إياك فأطال في بيان مشكل إعرابها.
وفي مشكل إعراب سورة الكوثر قال :
قوله تعالى : { إنا أعطيناك } (1) أصل إنا : إننا . فحذفت إحدى النونات لاجتماع الأمثال ، والمحذوف هي الثانية بدلالة جواز حذفها في أن تقول : إن زيدًا لقائم ، فحذفت الثانية وتبقى الأولى على سكونها ساكنة . ولو كانت المحذوفة هي الأولى لبقيت الثانية متحركة ، لأنها كانت كذلك قبل الحذف ، ولا يجوز حذف الثانية لأنها من الاسم .
تاسعا : موقفه من القراءات :
__________
(1) الكوثر :1(15/26)
لقد وقع حسن فرحات في خلل في دراسته حيث أغفل جانب القراءات في تفسير مكي مع أهميته القصوى واهتمامه بها وبتوجيهها على الرغم من حديثه عن القراءات عند مكي من خلال كتبه الأخرى في القراءات وننقل هنا بعضًا من مواضع ذكر مكي في تفسيره للقراءات وتوجيهه لها :
في قوله تعالى { بما كانوا يكذبون } (1) قال : أي بتكذيبهم الرسل ، وقيل بتكذيبهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا التفسير يدل على صحة قراءة من قرأ { يُكَذّبون } بالتشديد .
ويدل على قوة التشديد أن الكذب لايوجب العذاب الأليم ، إنما يوجبه التكذيب . وأيضًا فإنه تعالى أخبرهم بالشك في أول الكلام ، ومن شك في شيء فقد كذب به، فالتكذيب أولى بالآية على هذا القول .
ومما استدل به من قرأ { يَكْذِبون } بالتخفيف ، أن الله عز وجل أخبر أنهم يقولون آمنا وما هم بمؤمنين فأخبر عنهم بالكذب في قولهم آمنا وتواعدهم عليه بالعذاب الأليم، فهو من الكذب أولى من أن يكون من التكذيب ، إذ لم يتقدم في صدر الآية إلا الإخبار عنهم بالكذب لابالتكذيب .
والقراءتان قويتان متداخلتان حسنتان لأن المرض : الشك ، ومن شك في شيء ، فقد كذب به(2).
قوله تعالى { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم … } (3) قال : ومن قرأ { قُتِل } فالمعنى عند عكرمة أن القتل إخبار عما فعل بالأنبياء ، وأنهم قتلوا فيمامضى وأن من كان معهم لم يضعف بعدهم ولا تضعضع . ثم أخبر عن قولهم بعد نبيهم وثباتهم على دينهم ، فيكون التمام على هذا قتل وفيه بعد ، لأن مابعده من صفة نبي ويكون معنى الآية : إن الله وبخ بذلك أصحاب النبي الذين ضعفوا يوم أحد ، حين قيل : قتل محمد . فأخبرهم أن كثيرًا من الأنبياء قتلوا، فلم يضعف من كان معهم ليتأسوا بهم .
__________
(1) البقرة :10 .
(2) الهداية 1/13
(3) آل عمران : 146 .(15/27)
وقيل المعنى : أن الله أخبر أنه قد قتل مع الأنبياء ربيون كثير فما وهن من بقي ولا ضعف ، ولا ذل ، فيتأسى المؤمنون بهذا ، فلا يضعفوا لما أصاب أصحابهم من القتل يوم أحد فلا يكون التمام على هذا { قتل } ، لأن الربيين مرفوعون بقتل . والأول أحسن لأن كعب بن مالك قال : أول من عرف رسول الله أنه لم يقتل يوم أحد ، أنا ، رأيت عينه من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي : هذا رسول الله . فأومأ إلي النبي أن اسكت ، وكان قد صاح الشيطان يوم أحد : قتل محمد فانهزم المسلمون خلا قليل منهم ، فأنزل الله { وكأين من نبي قتل } (1)أي كثير من الأنبياء قتلوا ، ولم يضعف من كان معه بعده ولا ذل . فكيف أردتم أيها المؤمنون أن تضعفوا حين سمعتم الشناعة بأن محمدًا قد قتل ، فتأسوا أيها المؤمنون بمن كان قبلكم من أصحاب الأنبياء الربيين وعلى هذا التأويل اختار قوم من العلماء قراءة من قرأ { قتل } لأنهم عوتبوا على ضعف بعضهم لما سمعوا بقتل النبي عليه السلام ومن قرأ { قاتل } حمله على معنى أنهم وهنوا لقتل أصحابهم وجراحهم ، فأنزل الله عليهم يعلمهم أن كثيرًا من الأنبياء قاتل معه أصحابه وأتباعه فلم يضعفوا لما أصابهم من قتل وجراح فيتأسوا بهم ، واختار بعض أهل اللغة { قاتل } لأنه أبلغ في المدح للجميع(2) .
وقال : { كهيعص } (3) قرأ بعض القراء بإمالة الياء ، وعلة الإمالة أنها حرف مقصور ، فإذا ثنيت ثنيت بالياء فشابهت ما ثني بالياء من الأسماء . فأميلت لذلك . وسبب الإمالة فيها عند الخليل وسبويه أنها أسماء للحروف فجازت إمالتها لتفرق ههنا بينها وبين الحروف التي لا يجوز إمالتها نحو : ما ولا وإلا ...فإن سميت بشيء منها جازت الإمالة . ولا يحسن إمالة كاف ولا قاف وصاد لأن الألف متوسطة .
__________
(1) آل عمران :146
(2) الهداية 1/160
(3) مريم :1(15/28)
{ واذكر عَبْدَنا إبراهيم } (1)قال : أي اذكر إبراهيم وولده إسحاق وولده يعقوب. ومن قرأ { عبادنا } بالجمع أدخل الجمع في العبودية . وجعل ما بعده معطوفًا عليه .
وهو يتعرض في حديثه عن القراءات للشاذ أيضا :
ومن ذلك عند قوله عز وجل { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } (2) قال : قرأ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ماأصابهم . ثم قال مكي زاد خمس كلمات ولا يقرأ بذلك اليوم ، لأنه خلاف لخط المصحف المجمع عليه .
قال : وقرأ ابن مسعود "أكان للناس عجبٌ " (3)بالرفع جعل { أن أوحينا } في موضع نصب وهو بعيد ، لأن المصدر معرفة ، فهو أحق أن يكون اسم كان عجبا، لأنه نكرة .
وفي شرح مشكل الغريب اهتم بإيراد القراءات القرآنية لما لها من أثر في توجيه معاني الآيات ويبرز بوضوح في هذا الكتاب من كتب مفردات القرآن ، طغيان مسائل القراءات القرآنية على الجانب اللغوي الذي امتازت به كتب المتقدمين من أئمة اللغة :
ومن ذلك قوله في تفسير كلمة { فأزالهما } (4) بالألف من الزوال أي نحّاهما، وبغير ألف من الزلل أي استزلهما(5).
__________
(1) ص :45
(2) آل عمران: 104 .
(3) وهي قراءة شاذة والجمهور قرأها { عجبا } يونس :2
(4) البقرة :36 .
(5) والقراءة بدون ألف هي { فأزلهما } بتشديد اللام وهي لغير حمزة من العشرة . انظر إتحاف فضلاء البشر ص134(15/29)
وقوله في تفسير كلمة { يرتعْ } (1) من أسكن العين أراد يأكل ، ومن كسر العين فمعناه يحرس بعضنا بعضا ، ومنه رعاك الله أي حفظك الله(2).
وقال في مشكل الإعراب :
قوله تعالى : { إن هذان لساحران } (3)
على لغة بني الحارث بن كعب : يأتون بالمثنى بالألف على كل حال(4)، قال بعضهم : تزود منا بين أذناه طعنة
وقيل : { إن } بمعنى نعم ، وفيه بعد لدخول اللام في الخبر ، وذلك لا يكون إلا في الشعر كقوله :
أم الحليس لعجوز شهربة(5)
وكان وجه الكلام : لأم الحليس عجوز كذلك
وجه الكلام في الآية إن حملت "إن" على "معنى" نعم : إن لهذان ساحران كما تقول : نعم لهذان ساحران ، ونعم لمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي تأخير اللام مع لفظ إن بعض القوة على نعم .
وقيل : الهاء مضمرة مع إن ، وتقديره إنه هذان لساحران كما تقول : إنه زيد منطلق ، وهو قول حسن لولا دخول اللام في الخبر بعده .
فأما من خفف إن فهي قراءة حسنة لأنه أصلح أوجه الإعراب ولم يخالف بالخط لكن دخول اللام في الخبر يعترضه على مذهب سيبويه لأنه يقدر أنها المخففة من الثقيلة ارتفع مابعدها بالابتداء والخبر لنقص بنائها فرجع مابعدها إلى أصله فاللام لا تدخل في خبر الابتداء أى على أصله إلا في شعر كما ذكرنا .
__________
(1) يوسف : 12 .
(2) { يرتع } بالياء وسكون العين هي قراءة عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف ، وأما القراءة بكسر العين مع الياء أيضا فهي بنفس المعنى وهي قراءة نافع وأبي جعفر والخلاف في كون الفعل صحيحا أم معتلا ، أما القراءة بكسر العين مع النون { نرتع } فهي التي بالمعنى الذي ذكره مكي وهي قراءة ابن كثير وفي إثبات الياء في آخره خلاف من رواية قنبل ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون وسكون العين . انظر إتحاف فضلاء البشر ص262-263
(3) طه :63
(4) يعني على قراءة { إن } مشددة .
(5) الشَهْرَبة : العجوز الكبيرة (انظر لسان العرب 4/2352)(15/30)
وأما على مذهب الكوفيين فهو من أحسن شئ لأنهم يقدرون "أن" الخفيفة بمعنى ما واللام بمعنى إلا فتقدير الكلام ماهذان إلا ساحران فلا خلل في هذا التقدير إلا ما ادعو أن اللام تأتي بمعنى إلا(1).
موقفه من الفقه والأصول :
لم يفرد فرحات ولا وسيلة بلعيد لذلك فصلاً مستقلاً إلا مايأتي ذكره عن النسخ عند مكي وهذا مقصور واضح في دراسة منهج مكي بن أبي طالب .
وقد أطال مكي في بيان بعض الفقهيات :
ففي قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله…. } (2)قال : والطواف بين الصفا والمروة عند مالك والشافعي فرض ، فمن نسي ذلك رجع وسعى وإن بعد فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي بعد تمام سعيه إذا رجع . ومذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف أنه يجزيه دم إن نسي السعي بينهما ولا عودة عليه إلا أن يشاء ذلك .
وفي قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } (3)قال : قال ابن عمر : يؤكل (أي الصيد) وإن أكل (أي الكلب منه) ، وبه قال جماعة ومالك معهم . ومن أرسل كلبا غير معلم ، فأخذ فلا يؤكل ما أخذ ، إلا أن تدرك ذكاته . فإن أرسل معلما فأخذ ولحقه قبل أن يموت ، فاشتغل عن تذكيته حتى مات فلا يؤكل ، لأنه أدركه حيا وفرط في تذكيته .فإن كان أدركه وقد أنفذ الكلب أو البازي مقاتله - وهو لم يدركه حتى مات - أكل ، لأن الذكاة ليست بشيء إذ هو ميت لا محالة ، لو ترك مات .
فإن أرسل المعلم ، فوجد معه كلبا آخر معلما أو غير معلم فلا يؤكل ، لأنه لا يدري لعل الآخر قتله ، ولم يرسله ، ولا سمى الله عليه ، كذلك قال مالك والشافعي وغيرهما. وقال الأوزاعي : إن كان الثاني معلما أكل ، وإن كان غير معلم لم يؤكل ... الخ
ولا بأس عند مالك بلعاب الكلب الصائد يصيب ثواب الإنسان ، وقال الشافعي : هو نجس . وذكر كلاما كثيرا .
__________
(1) المشكل ص210
(2) البقرة :158
(3) المائدة :4(15/31)
وفي قوله : { فاقطعوا أيديهما } (1)قال : ولا قطع على السارق حتى يخرج المتاع من حرزه ، أو ما يشبه الحرز . وهو قول الشعبي والزهري وعطاء . وروي ذلك عن عثمان وابن عمر ، وهو قول مالك والشافعي وغيرهما .
ولو نقب بيتا فأدخل يده ، وأخذ متاعا فرمى به إلى الخارج ، ثم خرج وأخذه ، فعليه في ذلك القطع – عند مالك وغيره – لأنه قد أخذه من حرزه وهو الحائط ولو ناوله آخر خارجا من البيت كان القطع على الداخل ، ولم يقطع الخارج .
ولو دخل جماعة بيتا وأخذوا متاعا وحملوه على أحدهم ، وخرجوا به ، فقال ابن القاسم – عن مالك – لا يقطع إلا من حمله .
وفي قوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } (2)قال : وأجمع أهل العلم ، على أن أول وقت الظهر : الزوال . وقال مالك : آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الزوال. وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور . وقال عطاء : لاتفريط في الظهر حتى تصفر الشمس . وقال طاوس : لاتفوت حتى الليل . وقال النعمان : آخر وقتها مالم يصر الظل قامتين .
وبالنسبة للأصول أفرد مكي للناسخ والمنسوخ كتابين هما : الإيجاز لناسخ القرآن ومنسوخه ، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ، وقد خص فرحات فصلاً كاملاً للنسخ عند مكي جعل عمدته فيه كتاب الإيضاح وقد ذكر أمثلة كثيرة للنسخ عند مكي فلتنظر هناك(3).
أما موقفه من العلوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية فهو بطبيعة الحال لا يتعرض لها لتقدم عهده حيث لم يظهر الاهتمام بمعظم تلك الأمور .
وهو لا يتعرض في تفسيره لذكر شيء من المواعظ والآداب وإنما يأتي ذلك ضمنا في عرض الأقوال التفسيرية المنقولة حسب مايقتضيه المقام .
__________
(1) المائدة :38
(2) الإسراء :78
(3) انظر مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن ص459-506 .(15/32)