حقيقة التأويل
عبد الرحمن المعلمي اليماني
مقدمة في الصدق و الكذب
اعلم أن أعظم نعم الله على عباده تيسيره لهم الكلام الذي يتفاهمون به , ولولاه لكانوا كالأنعام أو أضل سبيلا , ألا ترى أن الإنسان إذا نشأ منفردا عن أبناء جنسه لا يدرك إلا ما وقعت عليه حواسه , و الحواس لا تهتدي إلى حقائق الأشياء , فإذا رأى مثلا شجرة لم يهتد إلى معرفة نفعها من ضرها إلا بتجربة , و التجربة قد تودي بحياته , ثم لا يهتدي إلى صفة استنباتها, والقيام عليها و إصلاحها إلا بتجربة قد يفوز فيها و قد لا يفوز, و لعله يقضي عمره كله في بضع تجارب , و لا يتفرغ مع ذلك للنظر في غير قوته , فلا يمكنه تحصيل علم , و لا إتقان صناعة , ولا معرفة ما لم يقع عليه بصره من الأرض . فأما الدين فلا صلة له به إلا بعض الأمور الكلية إذا قضي له أن ينتفع لها , و رزق عقلا سليما ,و ذكاء مرهفا .
... ثم إذا اجتمع هذا بأمثاله , و لم يكن هناك كلام يتفاهمون به ,فقد يتعاونون على تحصيل القوت و نحوه تعاون النحل و النمل , و لكنه لا يستطيع احدهم أن يطلع الآخر على ما اطلع عليه , إلا بان يذهب إلى ذلك الشيء حتى يوقفه عليه , فإذا كان الذي اطلع عليه الأول معنى من المعاني تعذر اطلاعه الآخر عليه
... نعم ؛ هناك الإشارة, و لكنها ضئيلة الفائدة عسرة الفهم , وأنت ترى الأخرس وما يعانيه من مشقة الحياة و ترى الغريب إذا دخل بلد قوم لا يعرفها و لا يعرف لغتهم و لا يعرفون لغته ما تكون حاله !
... فيسر الله للناس بالكلام أن يطلع احدهم على جميع ما اطلع عليه ألوف منهم بأيسر وقت .
... فالقضية التي لا يمكن أن يفهمها بالإشارة , أو يمكن أن يفهمها بعد صرف ساعة أو ساعتين بكلمة واحدة, وبذلك بلغ الإنسان إلى ما تراه من العلم و المدنية .
... إذا فلولا الكلام لكان الناس كالأنعام.
فنعمة هذا شانها وخطرها ما عسى أن يكون حال من استعملها في نقيض مقصودها ؟!
(1/1)
...(1/1)
ألا ترى لو أن امرأة سافرت برضيعها , فنزلت في بيت من مدينة, ثم تركت طفلها و خرجت , ولما أرادت الرجوع إلى البيت لإرضاع طفلها لم تهتد إلى الطريق , فسألت شخصا – وذكرت له اسم المحلة – فأرشدها إلى الطريق فرجعت إلى طفلها , فوجدته يكاد يموت , وعلمت أنها لو تأخرت ساعة مات , فأرضعته . ثم تدبرت نعمة الكلام , أليست تعلم أنها لو كانت بكماء لمات ابنها ؟!
... فافرض أن الذي سألته كذب عليها , فأراها طريقا تؤدي إلى محلة أخرى فذهبت منها , فمشت ساعة أو أكثر , ثم تبين لها الأمر فسألت آخر فأرشدها , فلم تبلغ البيت إلا وقد مات طفلها , أليست تتمنى أن الذي كذب عليها لم يخلق , أو أنه كان أصم لا يسمع سؤالها , أو نحو ذلك ؟ بلى و كل إنسان يتمنى معها ذلك .
... ثم افرض أن الذي أخبرها أولا ورّى خبره في خبرة , كأن قال لها: هذا القطار يذهب إلى تلك المحلة , و أومأ إلى قطار ذاهب إلى جهة أخرى , و عنى أنه عند رجوعه يذهب إلى تلك المحلة , ألا تكون النتيجة واحدة و المفسدة واحدة ؟ و سواء أورى أم لم يورّ؟.
تشديد الشارع في الكذب
أما الكذب على الله - عز وجل - ، بأن تخبر عن الله ما لا علم لك به,ومنه الكذب على رسوله في أمور الدين , فقد نص القرآن على أنه من أشد الكفر , و قد أوضحنا هذا في رسالة "العبادة" , بما لا مزيد عليه.
... وأما الكذب في غير ذلك , ففي الصحيحين عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان " .
... زاد مسلم – بعد قوله : "ثلاث" – " وإن صام و صلى و زعم أنه مسلم " .
... و فيهما : عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا , ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان , وإذا حدث كذب , وإذا عاهد غدر , وإذا خاصم فجر " .
(1/2)
...(1/2)
و روي من حديث أبي أمامة , و سعد بن أبي وقاص , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يطبع المؤمن على الخلال كلها , إلا الخيانة و الكذب".
... وإذا تدبرت وجدت الأمور المذكورة كلها تدور على الكذب , فمن كان إذا وعد أخلف فإنه يكذب في وعده , فيقول : سأفعل و هو يريد أن لا يفعل ! و الخائن موطن نفسه على الكذب , يقال له : عندك كذا أو فعلت كذا ؟ فيقول : لا .
... ومن كان إذا عاهد غدر فهو كالوعد , بل لو كانت نيته عند المعاهدة أن يفي ثم غدر لكان كاذبا , لأن حقيقة المعاهدة أنه سيفي حتما , بخلاف الوعد , فإن العادة كالقاضية بأن مراده أنه سيفعل إذا لم يعرض له ما يغير رأيه .
... وأما الفجور في الخصومة فمعناه : أنه يفتري على خصمه و يبهته بما ليس فيه , وذلك هو الكذب
... و حسبك أن الإنسان المعروف بالكذب قد سلخ نفسه من الإنسانية فإن من يعرفه لم يعد يثق بخبره , فلا يستفيد الناس منه شيئا ومن لم يعرفه يقع بظنه صدقه في المفاسد و المضار , فأنت ترى أن موت هذا الرجل خير للناس من حياته وهبه يتحرى من الكذب ما لا يضر فإنه لا يستطيع ذلك , ولو استطاعه لكان إضراره بنفسه إذ أفقدها ثقة الناس به, على أن الكذبة الواحدة كافية لتزلزل ثقة الناس به .
الترخيص في بعض ما يسمى كذبا
في الصحيحين من حديث أم كلثوم بنت عقبة , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس و يقول خيرا أو ينمي خيرا ".
قال الحافظ في الفتح : قال العلماء : المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير و يسكت عما علمه من الشر , و لا يكون ذلك كذبا , و زاد مسلم في رواية : " قال ابن الشهاب : ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب , إلا في ثلاث : الحرب , الإصلاح بين الناس , و حديث الرجل امرأته و حديث المرأة زوجها ".
ثم ذكر أن بعض الرواة أدرج هذا الكلام , فجعله من قول أم كلثوم بلفظ "وقالت : و لم أسمعه يرخص ... " .
(1/3)(1/3)
وبيّن الحافظ في الفتح أن الذي أدرجه في الحديث وهم ,والصواب أنه من قول الزهري , و نقل الحكم بالإدراج عن النسائي و موسى بن هارون و غيرهما , ثم قال : " قال الطبري : ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح , وقالوا : إن الثلاث المذكورة كالمثال , و قالوا : الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مفسدة , أو ما ليس فيه مصلحة . وقال آخرون : لا يجوز الكذب في شيء مطلقا , و حملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض, كمن يقول للظالم : دعوت لك أمس , وهو يريد قوله : اللهم اغفر للمسلمين ".
ثم قال الحافظ : " و اتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار , كما لو قصد ظالم قتل رجل – وهو مختف عنده – فله أن ينفي كونه عنده , و يحلف على ذلك , ولا يأثم , و الله أعلم ".
أقول : مهما خلا الكذب عن المفسدة , فلا يكاد يخلو عن إفقاد صاحبه ثقة الناس بكلامه , و حرمانهم الاستفادة من خيره بقية عمره , فهو يستفيد من أخبارهم , و لا يثقون به فيستفيدوا من خبره , و لعل سقوط ثقتهم بخبره يوقعهم في مضار و يصرف عنهم مصالح مما يخبرهم به صادقا فلا يصدقونه .
و لو أبيح الكذب في الإصلاح , فكذب المصلح يوشك أن يعرف كذبه فتسقط الثقة به .
و افرض أنه علم عذره , فإنها على ذلك تسقط الثقة به في الإصلاح , فإذا قال خيرا أو نمى خيرا بعد ذلك لم يصدق و إن كان صادقا, لأنه عرف استحلاله الكذب في ذلك و مع هذا فإنها تزلزل الثقة بخبره في غير الإصلاح أيضا , إذ يقول الناس : لعله يرى خبره هذا إصلاحا فيستحل الكذب فيه !
(1/4)(1/4)
و قريب من هذا حال الكذب في الحرب ,و كذب كل من الزوجين على الآخر, وأنا نفسي كانت إذا سألتني زوجتي ما لا أريد أقول لها: أفعل إن شاء الله ! قاصدا التعليق , فلما قلت ذلك ثلاث مرات أو أزيد فطنت للقضية ! فصارت لا تثق بوعدي إذا قلت سأفعل إن شاء الله , فوقعت في مشكلة , لأنني أحتاج إلى أن أقول : " إن شاء الله " في كل وعد وإن أردت الوفاء به , للأمر الشرعي بذلك .
و قولك للظالم " دعوت لك أمس " فيه مفاسد, لأنه إن كان يحسن الظن بك , و حمل قولك على ظاهره جرّأه ذلك على الظلم قائلا: إن دعاء الصالح ليدل على أنه يراني من أهل الخير , و أن ما يخطر لي من التأويل في هذه الأمور التي يزعم الناس أنها ظلم هو تأويل صحيح ! و ما من ظالم إلا والشيطان يوسوس له بتأويل ما يبرر به صنيعه .
وإن استبعد دعاءك له اعتقد كذبك و مداهنتك له ,وطمع منك في غيرها , وزالت من قلبه هيبته لك في الله , و أوشك أن تنالك منه مضرّه لسقوطك من عينه , و يتجرأ مع ذلك على المظالم قائلا: الناس سواسية , هذا الذي يقال صالح يكذب و يداهن الظلمة ! فلو استطاع لظلم !!
و إذا تنبه لاحتمال كلامك التورية لم تأمن أن يحمل قولك : "دعوت لك " على " دعوت عليك ", يقول : كأنه أراد " دعوت لأجلك", أي : دعوت الله - عز وجل - أن يريح الناس من شرك , أو نحو ذلك .
و الحاصل : أن الكذب لا يخلو من المفاسد , و لكن إذا تعين طريقا لدفع مفسدة عظيمة ـ كالقتل ظلما ـ جاز على قاعدة تعارض المفسدتين .
و المنقول من هذا إنما هو في التورية , كقول إبراهيم لزوجته : هي أختي , لعلمه أنه لو قال : زوجتي , لقتلوه .
وقوله: { إني سقيم } , لأنه أراد أن يتوصل إلى تكسير أصنامهم , و في ذلك دفع مفسدة عظيمة .
(1/5)(1/5)
و قوله : { بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون } , لأنه أراد أن يتوصل بذلك إلى إنقاذهم من الشرك ـ والشرك أعظم المفاسد ـ, مع أنهم إذا خلصوا من الشرك خلص هو من القتل , و ظني أن هذه كلها كانت قبل أن ينبأ إبراهيم - عليه السلام - , كما قررته في رسالة " العبادة" .
و كل من هذه الثلاث فيها تورية قريبة , و الحال التي كان عليها شبه قرينة تشكك في حمل كلامه على ظاهره , فيصير بها الكلام كالمجمل .
وإيضاح هذا : أنه قد علم أنه لو تبين للظلمة أنها امرأته لقتلوه , وإذا عرف ذلك فيبعد أن يعترف بأنها امرأته , و مثل هذه الحال توقع عادة في الكذب المحض . و لهذا لا يثق الناس بخبر من وقع في مثلها , فإذا عرفوا منه التحفظ من الكذب , قالوا لعله ورّى , فهذا شبه قرينة .
أولا ترى الناس لا يرتابون في قول الغني لبعض المال الذي تحت يده: هذا مال امرأتي ؟ و يرتابون في مثل هذا القول إذا وقع من مفلس أو معوز .
ومع هذا كله ,فقد سمى الشارع هذه الثلاث الكلمات كذبات, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات , كلهن في ذات الله....." , و الحديث في الصحيحين .
و جاء في الشرع ما يدل أن مثل هذا الكذب لا يخلو من مخالفة , ففي الصحيحين في حديث الشفاعة : " فيأتون آدم فيقولون : اشفع لنا عند ربك , فيقول : لست هناكم ـ و يذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة و قد نهي عنها ـ , فيأتون نوحا , فيقول لست هناك ـ و يذكر خطيئته التي أصاب بسؤاله ربه بغير علم ـ , فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هناكم , و يذكر ثلاث كذبات كذبهن ......".
و هناك ثلاث أنواع دون ما ذكر :
أولها : الإيهام : كأن يريد غزوة جهة الشرق , فيسأل عن الطريق في جهة الغرب , حتى إذا كان جاسوس يرى الاستعداد للغزو , و يسمع ذلك السؤال , فيتوهم أن القصد جهة الغرب , فإذا رجع إلى العدو الشرقي أخبرهم بذلك , فيكفون عن الإستعداد.
(1/6)(1/6)
و بهذا أو نحوه فسر ما جاء في الصحيح , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها . و ليس ذلك بكذب , على أن من شأن من يريد غزوة أن يكتم قصده , و يحرص على إيهام العدو أنه لا يقصدهم , و هذا شبه قرينة تشكك في الإيهام المذكور,
ثانيها: الكلام الموجه : و هو الذي يحتمل معنيين فأكثر على السواء , و ليس هذا أيضا من الكذب في شيء البتة .
ثالثها: أن يكون الكلام ظاهرا في المعنى المراد , و لكنه صيغ مصاغا يستخف المخاطب , فإذا استعجل فهم خلاف المقصود .
و قد نقل شيء من هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , كان ربما تعمده تأديبا للمخاطبين , و تعليما لهم أن لا يستعجلوا في فهم الكلام قبل التروي فيه , فمن ذلك :
ما روي أن رجلا سأله أن يحمله على بعير , فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لأحملنك على ولد ناقة ", فاستعجل الرجل و قال : و ما أصنع بولد ناقة ؟! فقال - صلى الله عليه وسلم -: " و هل تلد الإبل إلا النوق ؟" .
العرف قد صير الظاهر من ولد ناقة , أو ولد بقرة , أو نحو ذلك هو الصغير و لكن قوله : " لأحملنك " قرينة واضحة أنه لم يرد الصغير لأن الصغير لا يحمل عليه .
و مثله ما يروى : أن امرأة مرت تسأل عن زوجها ـ و قد كان خرج من عندها قبل قليل ـ فقال لها ( :" هو ذاك في عينيه بياض "
فالعرف قد جعل الظاهر من قولنا : " في عيني فلان بياض " هو البياض العارض , و لكن العادة قاضية بأن البياض العارض لا يحدث في ساعة .
و منه ما يروى أنه قال ـ لامرأة من المسلمات قد قرأت القرآن و فهمته ـ : " لا تدخل الجنة عجوز! "فلما فزعت قال لها : " أما تقرئين القرآن : : { إنا أنشأنهن إنشآء * فجعلنهن أبكارا } ؟"[الواقعة:35–36]
(1/7)(1/7)
فقد علمت فيما تقدم حقيقة الكذب و قبحه , و أنه غير محمود حتى في حال الضرورة , كما في قول إبراهيم - عليه السلام - :"هي أختي", و تعلم أن الله - عز وجل - سمى نفسه الحق , و بعث الرسول بالحق , و أنزل الكتاب بالحق , وأنزل الكتاب هدى للناس , وبعث الرسول هدى للناس , و هو سبحانه و تعالى الغني عن العالمين , فكيف يجوز عليه ـ تبارك و تعالى ـ أن يكذب , أو يأمر رسوله بالكذب , أو يقره على الكذب , و كيف يجوز على رسوله الكذب وقد جعل الله تعالى الكذب عليه من أشد الكفر , فقال : { فمن أظلم ممن كذب على الله } و قال لرسوله : { و لا تقف ما ليس لك به علم } .
فأنى يجوز مسلم أن يكذب رب العالمين , أو يكذب رسوله الصادق الأمين ؟!.
الباب الأول
في معنى التأويل
التأويل في اللغة :مصدر أوّل يؤوّل , و أوّل فعّل ـ بتشديد أوسطه ـ ثلاثية آل يؤول أولا.
قال أهل اللغة : الأوْل الرجوع . و هذا تفسير تقريبي .
وأغلب ما تستعمل في الرجوع الذي فيه معنى الصيرورة .
ومن أمثلة اللغويين : "طبخ الشراب ؛ فآل إلى قدر كذاو كذا ". و لذلك وضع بعض النحاة "آل" في الأفعال التي تجيء بمعنى "صار",و تعمل عملها .
و "آل" قريب من معنى "حال" , أي : تحول من حال إلى حال , وأكثر ما يقال : استحال . و في الحديث : "فاستحالت غربا" , إلا أن "حال" و "استحال" يختص بما تحول إلى حالة غير ناشئة عن الحالة الأولى ؛ و "آل" تكون حاله الثانية ناشئة عن الأولى ـ كقولك : "ربما تؤول البدعة إلى الكفر " ـ , أو ناشئة عما جعل "آل" غاية له , كقولهم : "طبخ الشراب حتى آل إلى قدر كذا و كذا " .
(1/8)(1/8)
و فرق ثان , و هو أن "حال " و "استحال" قد يكون بسرعة , كما في الحديث : "فاستحالت غربا" .و "آل" يقتضي أنه بعد مدة , كما في "طبخ الشراب" , أو ما هو كالمدة , و ذلك يكون في رجوع الشيء إلى الشيء بغموض و خفاء , كقولك : إن إخراج النصوص الشرعية عن ظواهرها بمجرد الرأي و الهوى يؤول إلى الكفر ؛ تريد أنه كفر, إلا أن كونه كفرا إنما يعلم بعد ترو و تدبر ؛ و لذلك لا يكفر كل من فعل ذلك ؛ لأنه قد يكون معذورا .
و التأويل مأخوذ من هذا , فهو أن يجعل الكلام يؤول إلى معنى لم يكن ظاهرا منه , فآل الكلام إلى أن حمل على ذلك المعنى بعد أن كان غير ظاهر فيه .
و التأويل قد يكون للرؤيا , وقد يكون للفعل , وقد يكون للفظ :
فأما تأويل الرؤيا : فالأصل فيه أنه مصدر أوّل العابر الرؤيا تأويلا, أي : ذكر أنها تؤول إلى كذا , و يذكر ما يزعم أنه رمز بها إليه, و كثيرا ما يطلق على المعنى الذي تؤوّل به : و منه ـ و الله أعلم ـ قول الله- عز وجل - حكاية عن جلساء ملك مصر : { و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } . ومواضع أخرى من سورة يوسف .
ويطلق على نفس الواقعة التي كانت الرؤيا رمزا إليها,ومنه- والله أعلم – قول الله - عز وجل - حكاية عن يوسف - عليه السلام -: { هذا تأويل رءيى } . فجعل نفس سجود أبويه و إخوته له هو تأويل رؤياه التي ذكرها بقوله : { إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي سجدين } .
و أما تأويل الفعل : فهو توجيهه بذكر الباعث عليه والمقصود منه؛ فيتبين بذلك أنه على وفق الحكمة بعد أن كان متوهما فيه أنه مخالف لها,ومنه ما حكاه الله - عز وجل - عن الخضر: { سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } .
و قد يطلق على العاقبة التي يؤول إليها الفعل ؛ و به فسر قتادة وغيره قول الله - عز وجل - : { ذلك خير و أحسن تأويلا } .
(1/9)(1/9)
و أما تأويل اللفظ : فالأصل فيه أن يحمل على معنى لم يكن ظاهرا منه , فالكلام الذي لا يظهر معناه غير ذلك الظاهر تأويلا . و يطلق على نفس المعنى الذي حمل عليه , ويطلق على نفس الحقيقة التي عبر عنها باللفظ
فإذا قال المفسر في قوله تعالى : { و غدوا على حرد قدرين } , { ويل يومئذ للمكذبين } , { فسوف يلقون غيا } , { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } { سأرهقه صعودا } .
الحرد :المنع . ويل وغي و أثام : أودية في جهنم . صعود جبل فيها
فحمله إياها على هذه المعاني هو التأويل بالإطلاق الأول , و نفس تلك المعاني هي التأويل بالإطلاق الثاني .
يقال : ما تأويل الحرد ؟ فيقال : المنع . و ما تأويل صعود ؟ فيقال تأويله أنه جبل في جهنم .
و نفس المنع , و تلك الأودية , و ذلك الجبل : هي التأويل بالإطلاق الثالث .
و يحتمل الأول و الثاني دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس "اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل" .
و في رواية : "اللهم علمه الحكمة و تأويل الكتاب" .
و قد ذكر الحافظ طرق الحديث في الفتح , في كتاب العلم , في شرح باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم علمه الكتاب" .
و يحتمل أن يكون المراد : علمه كيف يؤول , فيكون من الإطلاق الأول , و يحتمل أن يكون المراد : علمه المعاني التي يؤول إليها ألفاظ الكتاب , فيكون الإطلاق الثاني , و الله أعلم
و من الثالث : قوله تبارك و تعالى : { و لقد جئناهم بكتاب فصلنه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون - هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } , وقوله - عز وجل - { وما كان هذا القرآن أن يفترى .... بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله }
الباب الثاني
في حكم التأويل
قد تقرر في الأصول أنه لا تكليف إلا بفعل , و الفعل إنما يتأتى في التأويل بالإطلاق الأول , فأقول :
(1/10)
اللفظ الذي يراد تأويله لا يخلو عن ثلاثة أحوال :(1/10)
الأول : أن يكون في العقائد .
الثاني: أن يكون إخبارا عما قد وقع -كخلق السموات والأرض- أو عن أمر كوني , فإنه واقع - كأحوال الشمس و القمر - , أو أنه سيقع - كخروج يأجوج و مأجوج - .
الثالث : أن يكون فيما عدا ذلك من الأحكام , ونحوه .
- الفصل الأول -
في تأويل النصوص الواردة في العقائد
النصوص في العقائد على ضربين :
الأول : ما ورد في عقيدة كلف الناس باعتقادها .
و الثاني : بخلافه .
فالأول هو : الإيمان بالله , وملائكته , وكتبه , ورسله , والبعث بعد الموت , والقدر. والنصوص على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة شهيرة
و المقصود من هذا الإيمان هو تحقيق ما أنشئ الإنسان هذه النشأة في الدنيا لأجله , و هو الإبتلاء ؛ { ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيّ عن بينة }
و الهلاك هو العصيان , والحياة هي الطاعة , و بتفاوت الهلاك والحياة يتفاوت العصيان و الطاعة, ولا يتصور عصيان و طاعة إلا ممن علم الأمر و النهي , ولا يتصور العلم بأمره و نهيه إلا بعد الإيمان بأنه موجود حي ـ كما هو واضح ـ وبأنه قادر , إذ لا يعلم استحقاقه الطاعة إلا بذلك , وبأنه عالم , إذ لا تنبعث النفس على الطاعة و تنزجر عن المعصية إلا بذلك , وبأنه حكيم , إذ لا يعلم صحة النبوة و يوثق بالجزاء إلا بذلك .
وبأن الملائكة حق ؛ لأنهم الوسائط بين الله و أنبيائه , و المبلغون لكتبه , فلا يعلم صحة الأمر والنهي , وأنه من عند الله إلا بعد الإيمان بهم .
وبأن كتب الله حق ؛ لأنها هي الجامعة للأمر والنهي , فلا يعلم صحة ذلك إلا بالإيمان بها .
وبأن الأنبياء حق ؛ لأنهم المبلغون للأمر والنهي , فلا يعلم صحة ذلك إلا بالإيمان بهم .
وثم تفاصيل ترجع إلى ما ذكر , كالإيمان بعصمة الملائكة المبلغين , والأنبياء بعد البعثة ؛ لأن حكمة الله - عز وجل -تقتضي ذلك , و لا يتم الوثوق بالأمر و النهي إلا بذلك .
(1/11)
و بالبعث بعد الموت ؛ لأنه لا يوثق بالجزاء إلا بذلك .(1/11)
و بالقدر ؛ لأنه لا يسلم الإيمان بقدرة الله تعالى وعلمه وحكمته إلا به , و قد اشتهر عن الشافعي ـ رحمه الله ـ أنه قال : "إذا سلم القدرية بالعلم حجوا" . و لهذا القول غور أبعد مما فهموه منه , و قد لوحت إليه , و عسى أن ألم به في موضع آخر.
وعامة ما ذكر يمكن إدراكه بالعقل , ولا سيما بعد تنبيه الأنبياء , فآيات الآفاق و الأنفس تدل على وجود الله , إذ لا بد للأثر من مؤثر , فأي أثر تحس به في الكون لا بد له من مؤثر , فإذا فرض مؤثر حادث كان هو أيضا محتاجا إلى آخر , و هكذا حتى ينتهي الفكر إلى مؤثر غني بنفسه هو الله - عز وجل -
و الآثار في الآفاق و الأنفس تدل على حياة المؤثر الأعظم , وقدرته , وعلمه , وحكمته , وما تدل عليه الآثار من حكمته يوجب العلم بأنه لم ينشئ الناس هذه النشأة عبثا , و لا يدعهم سدى و هملا , ولا يكلهم إلى عقولهم المحدودة المختلفة , بل لا بد أن يرشدهم , و لا توجد في الكون صورة للإرشاد إلا النبوة , وبذلك تثبت النبوة , والملائكة و الكتب أيضا, وأما العلم بنبوة رجل معين فتعلم بالمعجزات ,وبالعلم بطهارة سيرته وحرصه على العمل بما جاء به سرا و علنا , وباستقراء ما جاء به , وظهور أن عامته مطابق للحق و العدل و الحكمة , و لا يخدش في ذلك الجهل بوجه الحكمة في بعض ذلك , فإن ذلك ضروري ؛ لأن الدين من شرع الحكيم العليم الذي أحاط بكل شيء علما , و عقل المخلوق و علمه محدود , وأنت ترى عقول الناس مختلفة , فكم من أمر يجزم كثير من الناس بأنه خلاف الحكمة , فيجيء من هو أعقل أو أعلم منهم فيبين لهم وجه الحكمة , و قد قال الله - عز وجل - { وفوق كل ذي علم عليم } .
وكثير من الأحكام يحصل المقصود بالعمل بها , ولا يحتاج إلى العلم بوجه حكمتها , وقد يكون العلم بوجه الحكمة يفتقر إلى صرف م
دة طويلة من العمر.
(1/12)(1/12)
و مثل ذلك مثل الطبيب و المريض ؛ فإن الطبيب يعلم من طبائع الأمراض و الأدوية ما لا يعلمه المريض , و من ذلك ما لا يدرك إلا بعد صرف مدة طويلة في التعلم , وقد يكون المريض ضعيف الفهم لا يتهيأ له معرفة ذلك ولو أتعب نفسه فيه , ففي مثل هذا ليس على الطبيب إلا إعطاء المريض الدواء المناسب , وليس عليه أن يشرح له حقيقة المرض , وأسبابه , وسبب تأثير الدواء ؛ لأن هذا يطول و يتعب في غير فائدة , و بحسب المريض أن يعلم أن الذي أعطاه الدواء طبيب ناصح , و العلم بذلك لا يحتاج إلى استقراء مستغرق.
و لو قال المريض : لا آخذ الدواء حتى تشرح لي حقيقة المرض , و أسبابه , وحقيقة الدواء , وتأثيره , لعد أحمق الناس ! و لطرده الطبيب قائلا له : أنا أعالجك رحمة و شفقة , وقد قام عندك من الدلائل ما يكفي في علمك أني طبيب ناصح , و تعلم أن معرفة ما تريد أن أعرفك به يفتقر إلى علوم ليست عندك , ولعل فهمك لا يبلغها , و اشتغالي بذلك إضاعة لوقتي ووقتك فيما لا حاجة إليه , وصرف الوقت في مداواة العقل أولى بي من التحامق مع الحمقى !!
هذا كله مع أن الطبيب بشر يجوز عليه الغش و الخطأ .
و بالجملة ؛ فالعلم بنبوة النبي له طرق بعضها أكمل من بعض , ولست الآن في صدد الإستيفاء .
و المقصود: أن الإيمان بما ذكر هو الذي يتوقف عليه معرفة الأمر و النهي , وقد بقي معنى مهم , وهو الإيمان بالوحدانية , فالوحدانية في الربوبية قد تكلم فيها أهل الكلام , ولا حاجة للإطالة فيها , وأما وحدانية الألوهية , فقد حققتها في رسالة العبادة, و الحمد لله.
واعلم أن هذه الأمور الضرورية في الإيمان معلومة في الدين بالضرورة , فمن أراد أن يتأول بعض نصوصها تأويلا ينافي ما علم بالضرورة فلا نزاع في كفره .
المبحث الأول
في بيان جناية التأويل الفاسد على أهله
(1/13)(1/13)
و اعلم أنه يتصل بالأمور الضرورية للإيمان تفصيلات لا يتوقف الإيمان على العلم بها, مثل : كيفية الحياة , والعلم , وغير ذلك, وهناك أمور أخرى لا يتوقف الإيمان على العلم بها أصلا, و إنما وجب الإيمان بها بخبر الصادق المصدوق , و على هذين تدور رحى التأويل .
فمن قائل: هي حياة كحياتي , ويد كيدي ,ووجه كوجهي ....إلى غير ذلك .
و من قائل :هذا يستلزم حدوث الرب,ونقصه تعالى عن ذلك , فلا بد من تأويله!
ومن قائل : حياة تليق به - عز وجل - , ويد تليق به سبحانه , ولا أؤول .
ويحتج الأول بأن الله - عز وجل - قد وصف نفسه بذلك ,ووصفه به رسله, وقد قام البرهان على وجوب حمل النصوص على ظواهرها , إذ لو كان المراد بها غير ظاهرها لكانت كذبا ! ـ على ما حققناه في الفصل الثاني ـ وذلك محال .
و أجاب الثاني عن هذا بأجوبة :
أحدها : أن اللفظ إنما يبقى على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة تصرفه إلى معنى آخر , و تحقيق هذا : أن اللفظ قد يكون له ظاهر في نفسه, و لكنه اقترن به ما صار الظاهر معنى آخر , فقولك : "إن زيدا رجع اليوم" ظاهره أنه رجع هو نفسه .
و قولك : "إن أمس رجع اليوم " لا يظهر منه ذلك , بل يظهر منه أن اليوم مشابه لأمس في كونه صحوا أو غيما أو نحو ذلك , وهذا حق في نفسه , ولكن لما سئل المؤولون عن القرينة ذكروا أمورا , منها العقل ,فقيل: إن العقل لا يصح أن يكون قرينة إلا إذا كان بديهيا حاصلا للمخاطبين , وفي المعني العقلية التي تجعلونها هي القرينة [مع] اعترافكم أنه لا يحصل للإنسان إلا بعد ممارسته المعقولات من المنطق و الفلسفة و غير ذلك . وهذه النصوص الدالة على أن الله ه- عز وجل - في جهة العلو تؤولونها لمخالفتها العقل زعمتم !
و أنتم تعترفون أن الإيمان بموجود ليس في جهة لا يتهيأ للإنسان حتى يمارس المعقولات , ويوغل فيها , فعند ذلك تأنس نفسه بالتصديق بذلك ! ذكر هذا الغزالي في كتبه , و غيره.
(1/14)(1/14)
وإذا كان الحال هكذا , لأن القرينة التي يعلم المتكلم أن المخاطب لا يدركها لا تخرج الكلام عن الكذب , كما تقدم.
قالوا: هناك قرينة أخرى ,وهي قول الله - عز وجل - : { ليس كمثله شيء } وقوله - عز وجل - : { ولم يكن له كفوا أحد }
قيل لهم : هاتان الآيتان غير ظاهرتين في المعنى الذي تريدون .
أما الأول : فلو قلت لرجل : عندي شيء ليس كمثله شيء , لما فهم أنه ليس في الكون ما يشبهه من بعض الوجوه شيء , وقريب من هذا يقال في الآية الثانية ,فكيف يجوز أن يكتفى في هذا المطلب العظيم بقرينة ظاهرها أنها ليست قرينة ؟!
و فوق هذا : فقد تقرر في الأصول أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة , والحاجة في النصوص الإعتقادية هي وقت الخطاب , فلو كان المراد جعل هاتين الآيتين قرينة لوجب قرنهما , أو إحداهما , أو ما يقوم مقامهما بكل آية أو حديث يتعلق بالصفات , و إلا لزم الكذب .
فإن قالوا : إذا سمع الإنسان القرينة الواضحة أولا أغنى ذلك عن إعادتها مع كل آية من آيات الصفات .
قيل لهم : بعد فرض تسليم الوضوح لم يكن العمل على هذا , أي : أن لا يتلو النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من آيات الصفات على أحد حتى يتلو عليه الآيتين المذكورتين أو أحداهما , بل قد نزل قبلهما كثير من القرآن , و قد كان الرجل يسلم ثم يصلي مع النبي- صلى الله عليه وسلم - فيتلو في صلاته من القرآن ما شاء الله , ولا يبدأ بإحدى الآيتين , و لعل كثيرا من الأعراب الذين أسلموا لم يسمعوا الآيتين و لا إحداهما , و لم يقل أحد من العلماء : إنه يجب على قارئ القرآن أن لا يقرأه بمحضر من العامة إلا بعد أن يذكر لهم الآيتين أو إحداهما , أو ما يقوم مقام ذلك .
(1/15)(1/15)
فإن قالوا : فإنه يلزم مثل هذا في آيات التحليل العامة التي دلت آيات أخر على تخصيصها , و ليست في سياقها , فيمكن أن يكون بعض الأعراب سمع الآية العامة فذهب يستحل كل ما تناولت , مع أن بعضه محرم بآية لم يسمعها , و مثل هذا يقال في الأحاديث , و هكذا ما يشبه العموم من كل دليل ظاهره تحليل شيء , و قد بينه دليل آخر .
فالجواب أن الخطأ في التحليل و التحريم سهل , فلا يكون المخطئ كافرا و لا فاسقا ؛ بل هو معذور مأجور , كما سيأتي إيضاحه.و ليس الخطأ في الكفر كذلك , بل قال جم غفير : إن كل مجتهد في الأحكام مصيب , وله غفور .
و قد أوضحنا ذلك في موضع آخر .
حاصله : أن كثيرا من القوانين لا يكون مطابقا للحكمة في كل فرد من الأفراد , وإنما روعي مطابقته في الأعم الأغلب , ومثلناه بحد الزنا , فرب شيخ غني ضعيف الشهوة قادر على التزوج فتركه , واحتال لاجتماعٍ بامرأة قبيحة يستطيع التزوج بها و لا يعشقها , فزنى بها , ولما كان غير محصن فحده الجلد , وآخر شاب فقير شديد الشهوة لا يقدر على التزوج صادفته امرأة جميلة يعشقها , و لا يستطيع زواجها , فلم يتمالك نفسه حتى وقع عليها , و كان قد تزوج امرأة , و بات معها ليلة واحدة ثم ماتت , ولما كان محصنا فحده الرجم , فأنت ترى الثاني أحق من الأول بالتخفيف , ولكن الشارع لم يخفف عنه.
و إنما كان ذلك لأن الجرأة على المعصية أمر يخفى و لا ينضبط فأناط الشرع الأمر بصفة واضحة منضبطة , و هي الإحصان , و عرفه ؛ لأن الغالب في الزاني المحصن أن يكون أرغب عن الزنا من غير المحصن , فإذا زنى مع ذلك كانت جرأته أشد من غير المحصن.
و لكن الحكم العدل تبارك و تعالى يجبر ما يستلزمه القانون العام من خلل في بعض الجزئيات بقدره الذي لا يعجزه علم الحقيقة , و لا تقدير ما يوافق الحكمة .
(1/16)(1/16)
و لذلك صور قد ذكرت بعضها في غير هذا الموضع , و الذي يختص بهذا الموضع هو أن الله - عز وجل - قد يعلم أن هذا الشيء الذي دلت الآية بعمومها على أنه حلال , و بينت آية أخرى أنه حرام , يعلم سبحانه أن الحكمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص , فيسره سبحانه قدر له أن يسمع الآية العامة , ولا يسمع الآية الأخرى , وهو وإن كان مخطئا بالنظر إلى الحكم الشرعي , فهو مصيب بالنظر إلى الحكم الذي علم الله - عز وجل - أنه أنسب به , و لا يأتي مثل هذا في الكفر .
و اعلم أن المؤولين يكابرون , و المكابرة لا علاج لها إلا الكي , ولكن جماعة من متبحريهم أنفوا من المكابرة ووقعوا في شرمنها ؛ لأنهم أصروا على شبهاتهم الفلسفية , ثم قال بعضهم : إن المقصود من الشريعة هو الإصلاح حال البشر حتى يمتثلوا الأمر و يجتنبوا النهي ,و إنما ضمت من العقائد ما يتوقف ذلك عليه , و أما ما عدا ذلك فإنما جاءت بما يتوافق اعتقاد غالب الناس و إن كان خطأ في نفسه ! و إنما فعلت ذلك لئلا تصد الناس عن قبول الشريعة إذا جاءت بما يخالف عقائدهم !
قالوا: فجاءت بأن الله - عز وجل - مستو على عرشه فوق سماواته , و بأن له وجها , و يدا , وقدما , وغير ذلك مما هو عندهم من خواص الأجسام!
قالوا : لأن غالب الناس ـ بل كلهم إلا من تغلغل في المعقولات ـ لا يصدقون بموجود قائم بذاته ، ليس بجسم ، و لا في جهة !
وعند هؤلاء أن عامة الصحابة و التابعين , وغالب الأمة مخطئون في اعتقادهم , يلزمهم القول بحدوث الحق - عز وجل - ونقصه تبارك وتعالى , و لكن الشريعة أقرتهم على ذلك ؛ فليسوا بكفار , ولا فساق في حكم الشرع .
(1/17)(1/17)
وأنت ترى أن هؤلاء أدنى من الكافرين إلى العقل في بادئ الرأي, ولكنهم أخبث منهم , فإنهم يقولون : لا ريب أن آيات الصفات و أحاديثها ظاهرة في الباطل ، ولم تكن هناك قرينة كافية لصرفها عن ذلك , و عامة الصحابة و التابعين و غالب من بعدهم فهموا منها المعنى الباطل, وهي نفسها سيقت سياقا يفهم منه المعنى الباطل , و ذلك كذب لا محالة , و لكن الكذب لإصلاح الناس حسن !!
فجوز هؤلاء ـ بل نسبوا ـ الكذب إلى الله وكتابه و رسوله { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } .
ثم يقال لهم : لو سلم أن الكذب قد يكون حسنا , فإنما ذلك من الإنسان العاجز المحتاج , ولو لم يستحل أن يقع من الله - عز وجل - ورسوله شيء من هذا الكذب فقد كان يجب أن لا يكون إلا عند الحاجة , و لا حاجة إلى تلك الآيات و الأحاديث , فكان يكفي أن يثبت لله - عز وجل - ما لا بد منه , ويعرض عما عدا ذلك مما يخطئ الناس فيه من الإعتقاد , فلا يرده عليهم .
فأما أن يصرح بما يوافق اعتقادهم الخاطئ , و يؤكده , و يكرره في مواضع لا تحصى , فهذا ما لا يتوهم جوازه ؛ لأن الإصلاح المقصود لا يتوقف عليه .
و قد حكم الله - عز وجل - بكفر من نسب إليه الولد , و قال في ربه بألوهية ابنه ! و غير ذلك , قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - و بعدها .
وإذا تدبرت ما قدمناه في تشديد الله و رسوله في الكذب ازددت بصيرة في هذا إن شاء الله تعالى .
(1/18)(1/18)
ووجه آخر ,وهو : أنه كان في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أهل الذكاء و الفطنة , و سلامة العقل يلازمون النبي - صلى الله عليه وسلم - حضرا و سفرا , ويصدقونه في كل ما يقول ؛ أفما كان ينبغي أن يبوح لهم بالحقيقة , ويأمرهم أن يبوحوا بها لمن وثقوا بذكائه و فطنته , وهكذا يتسلسل هذا الأمر في كبار العلماء في كل قرن , فما بالنا نجد كبار العلماء ـ من الصحابة و التابعين فمن بعدهم ـ هم أشد الناس بعدا عن هذا الإعتقاد , وعامة من خاض في ذلك هم ممن لم ينشأ على العلم , ولا لازم العلماء , ولا تبحر في الكتاب والسنة , وإنما اعتمد الجعد بن درهم , وجهم بن صفوان , و أشباههم ممن لا تعرف له عناية بالعلوم الدينية , و لا ملازمة لأئمتها , فقام الأئمة المشهورون بالعلم وملازمة أهل العلم فبدعوا هؤلاء , وضللواهم , وكفروهم , كما هو معروف .
فإن قال قائل : لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاهم بالكتمان ! قيل له ـ مع العلم ببطلان قوله ـ : وهل كان الكتمان فرضا , حتى إذا سمعوا من يذكر الحق ضللوه , وكفروه ؟
فإن قال : نعم!
قيل : فهل كان ذلك حقا أم باطلا ؟
فإن قال : بل حقا!
قيل له : فأنت و أئمتك على هذا مبطلون , ضالون , مضلون , محاربون لله و رسوله !
و اعلم أن من هؤلاء من كابر أيضا, و منهم من رأى أن المكابرة لا تجدي ففر إلى ما هو أخبث و أخبث , فقال : إن الأنبياء أناس فضلاء أخيار أرادوا إصلاح البشر , و صفت نفوسهم إلى درجة أنهم صاروا يتوهمون أنهم يسمعون كلام الله تعالى و ملائكته , و إنما ذلك تخيلا محضا!! غير أن نفوسهم لما كانت طاهرة كانت تتخيل ما يناسب ما يريدونه من الإصلاح بحسب معرفتهم , و كانوا يعتقدون ما أخبروا به , و يرون أ،ه الحق !!
(1/19)(1/19)
و لما رأى بعض هؤلاء أن ما تواتر من صفات الأنبياء – مما يدل على نهاية العقل و الفطنة و المعرفة – يأبى ذلك قال : هم أناس عقلاء اخترعوا لأممهم ما يصلحونهم به في دنياهم !!
و رأى غير هؤلاء أن ما تواتر عن الأنبياء مما يبرهن على ملازمتهم للصدق و العبادة و شدة الخوف من الله - عز وجل - , و تقديم طاعته على كل ما عداه , مع ما جاؤا به من الحكمة التي تبهر العقول و تحيرها.
قال قائلهم:
نهاية إقدام العقول عقال ... ... و أكثر سعي العالمين ضلال
و أرواحنا في وحشة من جسومنا ... و غاية دنيانا أذى ووبال
و لم نستفد من بحثا طول عمرنا ... سوى أن جمعنافيه قيل وقالوا
ومنهم من تداركته رحمة الله تبارك و تعالى , فرضي من العناية بالآيات,على أنه لم يرجع سالما من كل عيب,وإلى الله المآب,وعليه الحساب.
و أما من قال : حياة تليق به , و يد تليق به تعالى , و نحو ذلك , ولا تؤول , فهم فرق :
الفرقة الأولى : من يسلم أن ظواهر آيات الصفات و أحاديثها تقتضي المحال , وأن التأويل سائغ و لكنه خطر . و قال قائلهم : مذهب السلف أسلم و مذهب الخلف أعلم!.
الفرقة الثانية : كالأولى , إلا أنها تقول لا يجوز التأويل أصلا .
الفرقة الثالثة : من يقول : كل ما أثبته الله - عز وجل - لنفسه , و أثبته له رسوله عليه الصلاة و السلام فهو حق و صدق على ظاهره .
أما الفرقتان الأوليان فيلتحقان بالمؤولين ,وقد تقدم ما لهم و عليهم
و أما الفرقة الثالثة فإنها نسبت إلى موافقة من قال : حياة كحياتي , و يد كيدي و هي أبعد الناس عن ذلك , و هاك الإيضاح :
غالب الصفات يختلف تصورها تبعا لاختلاف تصور الموصوف بها , فيقال للصبي الغر و الأعرابي الجلف : يد إنسان ؛ فيتصور شيئا , ثم يقال يد فرس ؛ فيتصور شيئا آخر , ثم يقال له :يد طائر؛فيتصور شيئا ثالثا ,وهكذا.
(1/20)(1/20)
فإذا قيل له : يد الله , فقد يتخيل شيئا ما , فإذا رجع إلى عقله علم أن ذلك التخيل خرص و تخمين , ثم يقول : ما رأيت الله - عز وجل - , و لا رأيت ما يماثله فكيف يتهيأ لي تصور يده ؟!
وهذه حقيقة متفق عليها بين العقلاء , و هي أن الإنسان لا يدرك إلا ما أحس به , أو أحس بفرد أو أفراد مماثلة له , و لا يدرك ما أحس به أو أحس بما يماثله إلا ما تناوله الإحساس , و لا يدرك مما أحس بما يماثله إلا ما يعلم أنه قدر مشترك بينهما ؛ فلسنا ندرك من صفات الله - عز وجل - إلا ما يتصف المخلوق بما يشبهه في الجملة , فاستدللنا بآثاره على وجوده ؛ لأننا نعرف الوجود في الجملة بوجود الخلق الذين نحس بهم , و نعلم أن الأثر يدل على وجود مؤثر , و هكذا بقية الصفات التي تقدم ذكرها , مع العلم بأن صفات الرب - عز وجل - واجبة كاملة مبرأة , و أن صفات المخلوق فانية ناقصة معيبة , و لكن ذلك يمنع وجود اشتراك في الجملة يتهيأ به الإدراك , على أننا إنما ندرك صفات الله - عز وجل - على وجه إجمالي .
فأما اليد مثلا فإننا لا نجد ذاتا تشبه ذات الرب - عز وجل - في الصورة – تفصيلا و لا إجمالا – حتى ندرك يده تعالى بالقياس على يد تلك الذات التي نعرفها .
هذا في الإثبات ؛ و أما في النفي فلم ندرك ذاتا تشبه ذاته - عز وجل - و ليس لها يد حتى ندرك بالقياس عليها أنه ليس له سبحانه يد , غاية الأمر أننا ندرك أنه سبحانه منزه عن النقص , و لكننا لا ندرك أنه لو كان له يد تليق به لكان ذلك نقصا , و من زعم أنه يدرك هذا فإنه تخيل يدا كيد المخلوق , فلذلك جزم بأنها نقص.
(1/21)(1/21)
و الإنسان إذا حاول أن يتصور شيئا ؛ إن كان قد أدركه بواسطة الحواس فذاك , و إلا فإن كان قد أدرك ما يشابهه فإنه يتصوره بتلك الصورة , و لكن العقل إذا علم أنها لا تشابهه في كل شيء جرد الصورة المتخيلة من بعض الأوصاف , و إذا كانت الصورة مشابهه لما يحاول تصوره كغيره قاس القياس بتصور صورة على قدر المشترك بين تلك الصورة التي أدركها مجردة عن الحواس التي تختلف , و ربما ضم إليها صفة , أو نقص منها صفة إذا قام لديه ما يوجب ذلك .
فإذا سمعت برجل انكليزي لم تره , و لا رأيت صورته , و لا وصف لك , و كلفت ذهنك أن يتصوره , و كنت رأيت جماعة من الإنكليز ؛ فإن ذهنك يتخيل صورة على قدر المشترك بين الذين رأيتم حتى يتخيل القياس .
و لو أردت تصور رجل حبشي لا تختلف الصورة التي تخيلتها , فإذا وصف لك الرجل أنه أعور , أو أعرج ,أو طويل , أو قصير , أضفت هذه الصفة إلى تلك الصورة , و لكن بحسب القدر المشترك بين العور والعرج , و الطول و القصر الذين قد أدركتهم , على أنك لو كلفت نفسك تصوره كبيرا جدا كالجبل , أو صغيرا جدا كالذرة ؛ لأمكنك ذلك .
و إذا تدبرت وجدت الذهن إنما يستمد التصور من القياس على الصور المخزونة في الحفظ , و لكنه يركب و يقسم , و بهذا يمكنه أن يتصور شق رجل , و يتصور رجلا له وجه فرس ...... و هكذا ,
فإذا كلفته أن يتصور ما لم يحس به , و لا بما يشبهه ؛ فإنه يفرض عليك صورا يستمدها من خزانته , و قد يركب و يقسم , ويزيد و ينقص , و كلما عرض عليك صورة , فقال العقل : ليس هذا أريد , عاد فاستمد من الخزانة صورة أخرى
(1/22)(1/22)
فإذا كلف الذهن تصور يد الله - عز وجل - فأول ما يفرض يد إنسان ؛ لأنها أقرب الأيدي حضورا بالذهن لكثرة تكرر إحساسه بها , فإذا لم تقبلها أخذ يزيد في تلك الصورة و ينقص , و يستمد الزيادة و النقص من الأجرام التي قد أدركها , فإنه يجعلها نورا على صفة ما قد أدكه من نور الشمس والقمر و غيرها ,و يعظمها – لإدراكه صفة العظمة – حتى يجعلها كالجبل أو أعظم منه , و غي ذ1لك .
و العقل يحكم كل مرة أن تلك الصورة فيها نقص و عيب , وأن الله - عز وجل - مبرأ من ذلك , فإذا يئس من وجدان صورة تليق برب العزة فهو بين أمرين :
إما أن يعترف بعجزه , و قصوره ، و أن الموجودات لا تنحصر فيما يمكنه تصوره و تخيله , فهذا يجوز أن يكون لله - عز وجل - يد تليق به , فإذا علم أن الصادق المصدوق قد أخبر بذلك آمن به .
و إما أن يغلب عليه الغرور و الدعوى , و يزعم أنه ما من موجود إلا و يمكنه تصوره , فهذا ينكر أن تكون لله - عز وجل - يد , و يزعم أن من أثبت لله - عز وجل - يدا يلزمه أن يثبت له يدا من تلك الأيدي التي تخيل صورها العقل .
فلو أن رجلا خلق أكمه و كبر , وعلم الكلام ما عدا الألوان , و لم يخبر بأن الناس يبصرون , ثم قال له رجل بصير – ذات يوم - : هذا شيء أبيض , فإنه يقول : ما معنى أبيض , أكبي ؟ فيقال : لا , فيقول : فصغير ؟ فيقال : لا , فيقول: فأملس , فخشن , فجامد , فمائع ؟ إلى غير ذلك من المعاني التي قد عرفها و أحس بها .
فإذا قيل له – في كل ذلك - : لا,لا ! قال : فهذا عدم ! و إن كان قد أخبر بالألوان , و تواتر عنده أن الناس يبصرون , و أن للأشياء ألوانا فإنه يصدقهم , و لكنه لا يستطيع تصور ذلك .
فهذا مثل الإنسان إذا أخبر بصفات الرب - عز وجل - , و كأنه لهذا المعنى زعم بعض المتكلمين أ، رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - في الآخرة إنما تكون بحاسة سادسة يخلقها لهم !
و لبيان خطئه أضرب مثلا ثانيا :
(1/23)(1/23)
افرض أنه لا يوجد في الدنيا من الألوان إلا السواد و البياض , ثم أخبر إنسان بأن هناك شيئا يرى , أليس يقول : أسود ؟ فإذا قيل : لا ! فيقول : أبيض ؟ فيقال : لا فيقول فليس في الوجود شيء يرى إلا أبيض أو أسود !
فهذا مثل القوم ؛ فإنهم لما لم يعرفوا في المرئيات إلا هذه المحسوسات قالوا : لو أمكن رؤية الله - عز وجل - لكان من جنس هذه المحسوسات !
و المقصود من المثال التفهيم , و إلا فلا يخفى أن الحمرة من جنس الألوان , و ليس الله - عز وجل - من جنس الخلق , و لو فرض أن إنسانا لم ير ..... (عبارة غير واضحة) تنطبع فيه صورته , ثم أخبر بأن الإنسان يمكنه أن يدرك بمعونة حاسة بصره لون حدقته , فيعلم أنها سوداء أو زرقاء أو غير ذلك بدون أ، يخرج إحدى عينيه من موضعها , و لا يتغير شكله , أليس يبادر فيقول : هذا محال !
و المقصود من هذه الأمثلة تقريب الذي ذكرناه : من أن الإنسان يجحد ما لا يحس به , و لا بما يشبهه .
و لو قلت لبدوي – لم يسمع بالآلات المخترعة - : إنه يمكننا أن نسمع كلام أهل أمريكا و نحن بحضر موت بدون معجزة , و لا سحر و لا كرامة , لقال : هذا كذب ! و لو لم يكن قد سمع بالمعجزات و الكرامات والسحر ما احتجت أن تقول له : بدون كذا و كذا .
إذا علمت هذا ؛ فإنا نقول :
كان الصحابة – و من بعدهم ممن يتحكك بالبدع – يعلمون حق العلم أنه لا سبيل للعقل إلى تصور يد الله - عز وجل - و لا سبيل للعقل أن يدرك أنه سبحانه ليس له يد تليق به , فلما أخبرهم الله و رسوله بأن لله يدا آمنوا وصدقوا , فليس في تلك النصوص بحمد الله - عز وجل - لا كذب و لا إضلال , وليس في عقيدة السلف جهل و لا ضلال , فإن الجهل بما ليس في قدرة الإنسان العلم به لا يعد نقصا , و إنما الجاهل من يجهل ذلك و يجهل أنه جاهل , و يخيب و يطمع فيما ليس فيه مطمع , و يؤول به الأمر إلى ما سمعت , و تسمع .
و اعلم أن سبب ضلال القوم أمور :
(1/24)(1/24)
الأول : قلة حظهم من معرفة الكتاب و السنة .
الثاني : تقديسهم للفلاسفة فوق تقديس الأنبياء بدرجات .
الثالث : ما في فطرة الإنسان من دعوى أن عقله يستطيع إدراك كل شيء , فطره على ذلك لئلا يكسل و يتوانى عن المعارف و العلوم , كما فطره على طول الأمل ليبقى في عمارة الدنيا , و عدل ذلك بالعقل ليكبحه عن تجاوز الحد في ذينك الأمرين , و هؤلاء القوم نشأوا على التطلع و التعمق , فاعتضدت الفطرة بالعادة , فأغفلهم ذلك عما يقررونه من أن الإدراك لا يكون إلا بإحساس أو قياس كما سلف , فكلفوا عقولهم أن تدرك ما ليس من شأنها إدراكه , فصارت تتقيهم بالتخيلات , و قد أثر عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال : " إن للعقل حدا ينتهي إليه , كما أن للبصر حدا ينتهي إليه , كما أن للبصر حدا ينتهي إليه" .
أقول : وقد جربنا أن من كلف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يخيل إليه أنه يدرك ذلك , فكم مرة تراءى الناس الهلال فتراءيته معهم , فإذا حدقت و أمعنت في النظر يخيل إلي أني قد رأيته , و لكنها خطفة لا تثبت , ثم أيأس من ذلك الموضع فأنظر إلى موضع آخر , فيخيل إلي مثل ذلك ؛ فعلمت أن تلك الخطفة هي صورة خيالية هي صورة خيالية لما أتخيله تبرز إلى العيان ؛ لقوة التخيل و كد البصر .
...... فكثيرا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كلف إدراك ما لا يدرك, و الفرق أن خطأ البصر ينتبه له العقل , و لا يكاد ينتبه لخطأ نفسه .
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصار
و كثيرا ما يدرك العقل خطأ ما تصوره و لكنه لا ييأس , فلا يزال في أخذ ورد إلى أن يكل و يمل ؛ يسمع بذهاب تعبه سدى فيقنع بالشبهة التي وقف عندها , و مثله مثل مسافر يأبى أن ينزل ليستريح إلا في موضع حسن جميل , و ليس أمامه موضع كذلك , فلا يزال كلما أتى على موضع لم يره على الشرط حتى يعقله التعب و الاعياء ؛ فينزل و يسلي نفسه و يغالطها , يزعم أن ذلك الموضع حسن و جميل .
(1/25)(1/25)
و أنت إذا كنت قد وقفت على بعض الكتب المطولة في الفلسفة وتدبرتها تحققت هذا المعنى , و لا تكاد تجد شبهة عقلية قد قررها أحدهم على أنها برهان قاطع إلا وجدت غيره قد نقضها , ثم يجيء ثالث فيدفع هذا النقض , فيجيء رابع فيرد ذلك الدفع , و هكذا .
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... ... حقا و كل كاسر مكسور
ثم اعلم أن أعظم ما يستندون إليه هو الاستقراء ؛ فيستقرئون ما يدخل تحت حواسهم حتى تنتظم لهم مقدمة كلية بالنسبة إلى ما استقرؤوه , ثم يزعمون أنه لا يخرج موجود عن تلك الكلية , و ذلك أمر بديهي البطلان ؛ فإنهم يقولون : الحيوان كله يحرك فكه الأسفل إلا التمساح , فلو فرضنا أنهم لم يروا التمساح و لا سمعوا به – كأن كان في أمريكا فبل اكتشافها – فهذا الاستقراء يكون في زعمهم برهانا قاطعا على أنه لا يوجد حيوان يحرك فكه الأعلى ! و هم يبالغون بزعمهم في نفي مشابهة الرب - عز وجل - لشيء من خلقه , ثم يحكمون عليه بما استقرؤوه من خلقه .
و من أعظم بلايا العقل دعواه أنه لا يتعالى عن إدراكه شيء, فكثيرا ما ينظر فإذا لم يدرك جحد , و لاسيما عقول هؤلاء القوم الذين تسرب إليهم تقديس الفلاسفة و أهل الريب في النبوة على تفاوتهم فبه , و مثل ذلك مثل نفر من الناس فيهم رجل يرى أنه أحدهم نظرا , فيرى آ خر منهم فيخبر أصحابه , فيترآه ذلك الرجل فلا يراه , فيبادر بتكذيب القائل "إني أراه" , قائلا : لو كان الهلال طالعا لرأيته ؛ لأنني أحد الجماعة نظرا !
و هذا من أعظم غلط العقل , فتراه ينفي وجود بعض الأشياء , وينكر بعض الأحكام , و يرد كثيرا من الأخبار ؛ لأنه لم يدركها , أو لم يدرك وجه صحتها أو مطابقتها للحكمة , ولولا هذا الخطأ و مثله لم يكد يغلط عاقل و لا يضل , و لا استحل مسلم أن يذم المعقولات , و يحذر من شدة الاعتماد , عليها فإن الدين لا يقوم إلا على العقل كما قدمنا .
(1/26)(1/26)
و مما يتقى به خطأ العقل – إذا زعم أن إدراكه قاطع – أن يفرض صاحبه أنه اجتمع بمن هو أكمل منه و أعقل , فأخبره برأيه في تلك القضية, فقال له الأكمل : أخطأت ! فإن أحس في نفسه أثرا لقول الأكمل : "أخطأت" فليعلم أن إدراكه ذلك ليس بقاطع .
و قد بحث معي مسلم في مسألة معروفة , فزعم أن العقل القاطع يدل على نفيها , فقلت له : لو فرضنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزال حيا , و أننا سألناه عن هذه المسألة فقال : هي حق ثابت , فهل تصدقه ؟
فقال : و كيف لا أصدقه ؟
فقلت له : فأين العقل القاطع ؟
فإن قلت : إنهم يجيبون عن مثل هذا بأنه يستحيل أن يقوله النبي- صلى الله عليه وسلم -.
فقلت : فإنهم يردون النصوص الصريحة من القرآن بنحو ذلك .
فإن قلت : و لكنهم يتأولونها.
قلت : قد تقدم أن حملها على التأويل معناه نسبة الكذب إلى الله ورسوله .
و بعد ؛ فالمكابرة لا دواء لها , و المقصود إرشاد من في قلبه خير إلى أن يفرض ما تقدم , ثم ينظر فلعله يتبين له خطؤه في توهم القطع .
فإن قال قائل : إنما استقامت لك الحجة لأنك مثلت بالحياة و اليد , و من الصفات الأخرى ما لا يظهر استقامة تلك الحجة فيه , و من ذلك كون الله - عز وجل - على عرشه فوق السموات , و كونه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا , و يجيء يوم القيامة , و غير ذلك .
أقول : الحجة مثبتة في هذه كلها ؛ لأن الفلاسفة مقلديهم أثاروا شبها ليست مما فطرت عليه العقول , و لا كان يعرفها العرب الذين تلقوا الشريعة غضة , و قد كنت أحببت أن أوضح ذلك مفصلا , ثم ضربت عن ذلك لمعنى سأذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى , فلأكتف بجواب إجمالي :
(1/27)(1/27)
قد علمت أن الإخبار بكلام له معنى ظاهر , و ليس عند المخاطب قرينة توجب صرفه عن ظاهره يكون كذبا , و لا تغني تورية المتكلم في نفسه , أو ملاحظته قرينة يعلم أن المتكلم لا يشعر بها , كأن يقدم رجل من اليمن إلى الحجاز , فيسأله رجل عن أبيه , فيقول : إنه قد مات , و يريد في نفسه أنه نائم , و يزعم أن وجود الأب في اليمن حيا يرزق قرينة !
و علمت أن الكذب محال أن يقع من الله - عز وجل - و رسوله , و الله - عز وجل - إنما أنزل الكتب و أرسل الرسل لهداية الناس إلى الصراط المستقيم لا لإضلالهم .
فإذا أحطت بهذا ؛ فكل نص في كتاب الله - عز وجل - أو في السنة المقطوع بها – يخبر بصفة من صفات الله - عز وجل - , و له معنى ظاهر يعلم أن العرب الذين دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفهمون غيره – فلا مفر للمسلم من الإيمان به.
ثم اعلم ، من الصفات ما لا شبهة لمن أنكره أصلا , كما قد قدمنا في الحياة و اليد مفصلا .
و منها ما لم تكن فيه شبهة و لكن نشأت الشبهة فيه لمن اطلع على كلام الفلاسفة , و هذا لا بد للمسلم من الإيمان به و تكذيب الفلاسفة , علما بأن العقل الإنساني قاصر , و أن إدراكه يتفاوت , و أنه كثيرا ما يتوهم أنه قد أدرك إدراكا قطعيا و هو مخطئ .
و من تأمل اختلاف الفلاسفة و المتكلمين من كل أمة , و تخطئة آخرهم لأولهم – مع زعم كل منهم أن عقله أدرك ما قاله إدراكا خاطئا – تبين له هذا , و لو اطلعت على آراء فلاسفة العصر لرأيت من ذلك كثيرا جدا .
و منها ما تعرض الشبهة فيه لكل أحد , وهذا لا بد للمسلم من الإيمان به , و صرف نفسه عن استرسالها في الفكر .
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يأتي الشيطان أحدكم ,فيقول :من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله و لينته" .
(1/28)(1/28)
و فيهما من حديثه أيضا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا : خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا ؛ فليقل آمنت بالله و رسله" .
وفي رواية لأبي داوود : "يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا : خلق الله الخلق فمن خلق الله ؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا : الله أحد الله الصمد لم يلد و يولد و لم يكن له كفوا أحد , ثم ليفل عن يساره ثلاثا و ليستعذبالله من الشيطان الرجيم " .
و ذلك أن الفكر إذا أراد أن يتصور أن الله - عز وجل - لم يزل و لا نهاية لأوليته تاه و تحير .
المبحث الثاني
في تفسير قوله تعالى :
{ هو الذي أنزل عليك الكتب منه ءايت محكمت .... }
قال الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتب منه ءايت محكمت هن أم الكتاب و أخر متشبهت فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله و الرسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا و ما يذكر إلا ألوا الألبب }
اختلف الناس في هذه الآية حتى كادت تصير هي نفسها من المتشابه , و قد يسر لي في فهم معناها سبيل واضح إن شاء الله تعالى , فأقول :
قد ثبت أن القرآن كله محكم ؛ لقوله تعالى : { كتب أحكمت ءايته } , و أنه كله متشابه ؛ لقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتبا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم .... } .
و ثبت بالآية المصدّر بها أن منه ما هو محكم غير متشابه , و منه ما هو متشابه غير محكم .
و اتفق على أن المراد بالإحكام في قوله تعالى : { أحكمت ءايته } عدم الخلل في الحسن و الصدق و مطابقة الحكمة , و بالتشابه في قوله تعالى: { كتبا متشابها } أن بعضه يشبه بعضا في الحسن و الصدق و مطابقة الحكمة , فلا منافاة بين هذا الإحكام و هذا التشابه .
(1/29)(1/29)
وأما الإحكام و التشابه في الآية المصدر بها فهي صريحة في تنافيهما , و بذلك يعلم أن لكل منهما معنى غير المعنى المتقدم , فبحثا عن ذلك فوجدنا المحكم محكما لا يحتمل إلا ذلك المعنى الواحد , و أنه لا خلل فيه , و القرآن كله محكم لا خلل فيه البتة , و لكن يمكن أن يقال : الخلل المنتفي عن القرآن البتة هو الخلل الحقيقي , فأما ما يتوهم خللا و ليس في الحقيقة بخلل فهو موجود في القرآن , فيجوز أن يقال : أحكمت آياته في الحقيقة , فمنه آيات محكمات ليس فيها خلل و لا ما يتوهم خللا , و أخر فيها ما يتوهم خللا فهي المتشابهات .
و قبل أن نبت الحكم في هذا ننظر في معنى { متشبهت } , فنجد المعنى المتبادر أن كل آية منها تشبه الأخرى , و هذا عام في آيات القرآن كلها , كما قال تعالى : { كتبا متشبها } .
فإن قيل : إن هناك وجها تتشابه فيه الآيات التي يكون فيها ما يتوهم خللا مختصة به , و هو توهم الخلل في كل آية منها .
قلت : و لكن هذا لا يكفي لتخصيصها بلفظ : { متشابهت } , فإن المحكمات أيضا فيها وجه تتشابه فيه , و هو خاص بها , و هو أنه ليس في كل منها خلل , و لا ما يتوهم خللا .
و يمكن أن يقال : كل آية من المتشابهات في نفسها , على أن يكون المعنى : متشابهات معانيها , أي : يتشابه فيها معنيان , أو معان , كما يقال : اشتبه علي الأمر , أي : اشتبه صوابه بخطئه , و يقال : اشتبه علي الأمران, أي : لم تميز بينهما .
فإن قلت : و لكنه لا يقال : تشابه علي الأمر !
قلت : لا أستحضر شاهدا لذلك , و لكن "اشتبه" و "تشابه" بمعنى, قال تعالى : { مشتبها و غير متشابه }
و قد قال المولد :
رق الزجاج و راقت الخمر ... ... تشابها فتشاكل الأمر
الشاهد في قوله : " و تشاكل الأمر" .
(1/30)
فلنترك هذا ههنا , و لننظر في بقية الآية , لعلنا نجد فيها ما يبين المقصود : قال تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشبه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله } .(1/30)
دلت الآية أن المتشابه من شأنه أن يتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
ومن المعقول أن الآية التي تتشابه معانيها يتبعها الزائغ ابتغاء الفتنة ؛ ليحملها على المعنى الذي يوافق هواه ,ولكن قوله تعالى : { و ابتغاء تأويله } يدل أن ابتغاء تأويل المتشابه زيغ .
فإن قيل : إنما يكون زيغا في حق الزائغين ؛ لأنهم يبتغون الفتنة . قلت : لا أرى هذا شيئا, إذ لو كان كذلك لكان المدار على ابتغاء الفتنة , و لما ظهر معنى لزيادة : { و ابتغاء تأويله } , بل و لا تخصيص المتشابه ؛ لأن مبتغي الفتنة يبتغيها في كل آية من القرآن , و إن كان ابتغاؤه إياها فيما تشابهت معانيه أكثر .
فإن قيل : فإنما يكون زيغا في حق الزائغين ؛ لأنهم يبتغون الفتنة .
قلت : لا أراه كذلك ؛ لأن من ليس براسخ في العلم قد يخطئ في فهم المحكم أيضا .
و أوضح من هذا كله قوله تعالى : { و ما يعلم تأويله إلا الله } , فقصر علم تأويل المتشابه على الله - عز وجل - .
فإن قلت : فقد قال : { و الراسخون في العلم } ؟
قلت :ليس هذا عطفا البتة , وإنما هو معادل قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ,
فكأنه قال : و أما الراسخون في العلم ...
فالآية كقولك : أما زيد ففي المسجد و عمرو ذهب إلى السوق , اختار هذا المعنى ابن هشام " في المغني , و هو المختار ؛ لأن "أما" للتفصيل , و ذكر القسمين أو الأقسام بعدها هو الأصل , و الحذف خلاف الأصل .
(1/31)
فلما كان قوله : { و الراسخون } يحتمل أنه القسم الثاني , ويحتمل خلافه , فحمله على أنه القسم الثاني هو الظاهر حتما , و يؤيد ذلك أن القائلين بالعطف قالوا : إن قوله : { يقولون } خبر مبتدأ محذوف , أي : هم يقولون , و لا يخفى أن الأمر إذا دار بين الإضمار و عدمه فالأصل عدمه .(1/31)
و منهم من جوز أن يكون حالا , و هو باطل ؛ لأن الحال قيد في عامله , فيصير المعنى : و ما يعلم تأويله في حال قول الراسخين كذا و كذا إلا الله و الراسخون قد يعلم تأويله في غير تلك الحال ! و لا وجه لهذا .
و إن قدر أنه حال من ضمير محذوف , و التقدير : يعلمونه حال كونهم يقولون . و هذا تعسف بتكثير الإضمار , و يلزم أن الله و الراسخين لا يعلمون تأويله إلا في تلك الحال , و هناك مصارعات و مقارعات , انظرها في "روح المعاني " إن أحببت .
و أوضح من هذا كله : أنه صح – كما في المستدرك و غيره – عن ابن عباس – وهو المدعو له بتعلم التأويل – كان يقرأ : { و ما يعلم تأويله إلا الله } و يقول الراسخون .. .
و حكي مثله عن أبي بن كعب . وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : "أقرؤكم أبي" .
و جاء عن ابن مسعود – وهو هو – أنه كان يقرأ : { وإن تأويله إلا عند الله و الراسخون في العلم [يقولون ] } .
فلو كان المعنى على العطف لقال : و الراسخين كما لا يخفى .
وقد رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه آثار كثيرة تصرح بأن المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى وحده . انظرها في الدر المنثور
وسياق الآيات يدل على ذلك , فإن قول الراسخين : { ءامنا به كل من عند ربنا } ظاهر في عدم علمهم بتأويله , و إنما علموا أنه حق لأنه من عند ربهم , فكأنهم قالوا : أما ما علمنا تأويله فقد علمنا أنه حق بعلمنا بتأويله .
(1/32)
و قولهم بعد ذلك : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ظاهر في أن المتشابه مظنة لأن يكون سبب الزيغ , فتحمله هذه الأشياء على الجهل بحقيقة حاله , و بأن العقل له حد ينتهي إليه , كما أن للبصر حدا ينتهي إليه , و ربما حملته على الخوض و الكلام و النقض و الإلزام فيما نعلم أنه لا سبيل له إليه , و كم من راسخ يرميه الناس بالكفر و الضلال ! و كم من زائغ يتخذونه إماما في الدين !(1/32)
فالحق أن هذه الآيات أفادت علامة الزائغ , و آية الراسخ :
فعلامة الزائغ اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله , و إذا خفي علينا ابتغاء الفتنة لم يخف ابتغاء التأويل .
وآية الراسخ الكف عن ذلك و الإكتفاء بقوله : { ءامنا به كل من عند ربنا } .
و في الصحيحين و غيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآيات , ثم قال : " إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم " ..........
ولو كانوا قد علموا تأويله لكان بالنظر إليهم كالمحكم , و تعليل إتباع الزائغين للمتشابه بقوله : { ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله } ظاهر في أن ابتغاء تأويله زيغ , إذ لو كان الزيغ إنما هو في إتباعه ابتغاء الفتنة لما كان لقوله : { و ابتغاء تأويله } معنى !
فإن قيل : سلمنا أن ابتغاء تأويله زيغ , و لكن لغير الراسخين .
قلت : الرسوخ في العلم أمر خفي , ليس هو كثرة العلم , فكم من رجل كثير العلم ليس براسخ . قال تعالى { و اتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءايتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين - ولو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الارض و اتبع هواه ج فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } .
و قال - عز وجل - : { أفرءيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم }
و في الحديث :" إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان " .
(1/33)
و قال الحسن البصري : "العلم علمان : فعلم في القلب , فذلك العلم النافع , و علم في اللسان , فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم " سنن الدارمي (ج1 ص107).
و الأحاديث و الآثار في هذه كثيرة .(1/33)
وقد كان عبد الملك بن مروان و أبو جعفر المنصور العباسي من كبار العلماء و هما طاغيتان , وكذلك الواقدي و الشاذكوني , و محمد بن حميد الرازي , و هؤلاء رماهم أئمة الحديث بأنهم كانوا يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , و أمثالهم كثير , و من العلماء من هو دون هؤلاء في العلم و لكنه معدود من الراسخين .
فالرسوخ إذن حال قلبية ؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغنى : " ليس الغنى عن كثرة العرض , و لكن الغنى غنى النفس " ؛ فكذلك تقول : ليس الرسوخ عن كثرة العلم , ولكن الرسوخ رسوخ الإيمان في القلب, ويوشك أن يكون هو اللب كما في قوله تعالى : { و ما يتذكر إلا أولو الألباب }
و إنه ليشم روائح الرسوخ من قوله : { ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب - ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد } .
فالراسخ دائم الخوف و الخشية من ربه - عز وجل - , مسيء للظن بنفسه , فكم من راسخ لا يرى أنه راسخ , و كم من زائغ يرى أنه من أرسخ الراسخين ؟
فالخائف الخاشع المسيء الظن بنفسه جدير بأن لا يستخفه ما عنده من العلم على الخوض فيما ليس له به علم , و على البحث فيما لم يكلف البحث فيه , و هو من موارد الخطر , و مزالق النظر .
(1/34)
هذا لو كان يمكن العلم به ؛ فكيف إذا كان مما لا سبيل إلى العلم به ؟! و إنما الزائغ الجريء على ربه , المتكل على عقله , الفرح بما عنده من العلم هو الجدير بأن يتعاطى الخوض في كل شيء , و تحمله ثقته بنفسه , وأمنه مكر ربه , و دعواه أنه لا يتعانى عن فهم شيء , و حرصه على أن يطير ذكره في الناس , و كبره عن أن يعترف بالجهل .(1/34)
فأطلق الحديث و لم يقيده ؛ لكنه قد علم إخراج الإتباع على معنى التلاوة و الإيمان , و بقي الإتباع على ابتغاء التأويل زيغ , كما أن ابتغاء الفتنة زيغ , و لم يقيده - صلى الله عليه وسلم - بعدم الرسوخ , فعلم أن كلا من ابتغى تأويله فهو زائغ و ليس براسخ , و أكد هذا بما يفهم من الحديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واثقا بأصحابه الذين خاطبهم أنهم لا يتبعون المتشابه , و إنما حذرهم ممن نشأ بعده , و هم - رضي الله عنهم - أولى بالرسوخ من غيرهم ؛ فعلم أن الراسخ لا يتبع المتشابه أصلا إلا على معنى تلاوته و الإيمان به .
فإن قلت : المتشابه في اختيارك هو ما اشتبه معناه , بأن يتساوى المعنيان أو الثلاثة في الإحتمال , و هذا هو المجمل ؛ فهل يدخل فيه ما اشتبه معناه أو معانيه ، و لكنه يمكن ترجيح أحدها بدليل آخر ؟
قلت : كلا , ليس هذا بمتشابه , بل هذا مما يعلم تأويله الراسخ وغيره , و مما أمرنا بالتدبر فيه و النظر في تأويله .
فإن قلت : فالمتشابه عندك ما اشتبه معناه , بحيث لا يوجد دليل يبينه ؟
قلت : نعم !
فإن قلت : و ما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن , و القرآن إنما نزل هدى للعالمين , و أمرنا بتدبره مطلقا ؟!
قلت : ينبغي أولا أن تعين المتشابه , ثم أجيب عن هذا السؤال إن شاء الله تعالى .
فأقول : مشتبه المعنى على أنواع , كما فصله في "المفردات " :
الأول : المتشابه من جهة اللفظ , و ذكر له خمسة أضراب :
الكلمة الغريبة , كالأب.
المشتركة , كالقرء.
(1/35)
ما اختصر فيه الكلام , نحو : { و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } .
ما بسط فيه , نحو { ليس كمثله شيء } .
ما يشتبه في نظم الكلام , مثل : { أنزل على عبده الكتب و لم يجعل له عوجا - قيما } , فيتوهم السامع أن { قيما } نعت لـ { عوجا } , و إنما هو حال من { الكتب } .(1/35)
و منه قوله : { و الراسخون في العلم } , إلا أن المتبادر في هذه الآية هو الصواب كما قدمنا , بخلاف قوله : { عوجا - قيما } .
الثاني : المتشابه من جهة اللفظ و المعنى جميعا , و ذكر له خمسة أضرب أيضا :
من جهة الكمية ,كالعموم والخصوص ,نحو: { فاقتلوا المشركين }
من جهة الكيفية , كالوجوب و التحريم في قوله : { اعملوا ما شئتم } .
من جهة الزمان , كالناسخ و المنسوخ .
من جهة المكان و الأمور التي نزلت فيها الآيات , نحو : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } , و قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر } .
قال : فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية .
من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد , كشروط الصلاة و النكاح .
الثالث : ما ذكره بقوله : " و المتشابه من جهة المعنى كأوصاف الله تعالى , و أوصاف يوم القيامة , فإن تلك الصفات لا تتصور لنا , إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو لم يكن من جنس ما تحسه" .
أقول : و أنت – إذا كنت قد تدبرت ما تقدم – تعلم أن النوعين الأولين لا يصح تفسير المتشابه في الآية بها , فإن الأب و القرء و سائر ما ذكر في النوعين الأوليين ليست مما يتبع ابتغاء , الفتنة , و لا مما يتبعه الزائغون ابتغاء تأويله , و لا غير ذلك مما تقدم , بل في ذلك ما يخفى على الراسخ و لا يخفى على الزائغ , و فيه ما يخطئ فيه الراسخ و يصيب الزائغ , و لم يزل العامة يسألون عما يشبه ذلك و لم يتفهمهم أحد بالزيغ .
(1/36)(1/36)
و الحاصل : أن ذلك يصدق على المتشابه الذي وردت به الآية و الأحاديث و الآثار , بل و لا يصدق عليه أن معانيه مشتبهة ؛ لأن الاشتباه فيه يزول بالتدبر , فالأب مثلا يعرف معناه بسؤال أهل اللغة , و النظر في القرائن , و هكذا , و ليس في القرآن شيء من ذلك يتوقف العلماء عن اتباعه و النظر ي تأويله , مع أن الجمهور يقولون في الآية بما قلناه , و هو : أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله , و قد تقدم حديث الصحيحين , و نحن نعلم أن الصحابة عملوا بمقتضاه , و نعلم أنهم تكلموا في النوعين الأولين , واختلفوا في بعضها كثيرا , ثم رأوا من بعدهم يتبعون ذلك و يبتغون تأويله فلم ينكروا عليهم ذلك
فما بقي إلا النوع الثالث , فهو الذي لم يكن يؤوله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه , و لا كانوا يبتغون تأويله , و لا يختلفون فيه , و لما رأوا من يتبعه من بعدهم و يتكلم في تأويله حذروهم , و حذروهم , وحذروا الناس منهم .
فإن قلت : فإنكم تتكلمون في معنى ذلك فتقولون : لله - عز وجل - حياة تليق به ,و يد تليق به , و تقولون : إن لوجوده و حياته و قدرته و علمه و حكمته مناسبة ما لهذه الصفات في المخلوق , و لذلك أمكننا تصورها إجمالا!
قلت : الآن حصحص الحق , و ارجع إلى معنى كلمة "تأويل" فقد قدمنا أن تأويل اللفظ قد يطلق على المعنى , وقد يطلق على نفس ذلك المعنى, و قد يطلق على الحقيقة المعبر عنها باللفظ .
و قلنا : إن قوله تعالى : { ويل يومئذ للمكذبين } ,فإذا قال قائل: ويل واد في جهنم , فقد أوله , و يطلق على قوله تأويل , و يطلق على نفس ذلك المعنى أنه تأويل , يقال : ما تأويل { ويل } ؟
فيقال : تأويله واد في جهنم , و يطلق على تلك الحقيقة – و هي عين ذلك الوادي – أنها تأويل . و لم نجد في القرآن مثالا للطلاقين الأولين , و فيه ثلاثة أمثلة جاءت على الإطلاق الثالث , كما ذكرنا هناك .
(1/37)(1/37)
إذن ؛ فالتأويل في آية المتشابه من الإطلاق الثالث , فقولنا في حياة الله - عز وجل - : صفة ثابتة له سبحانه لها مناسبة ما بحياة المخلوق .
قولنا ذلك تأويل للفظ على الإطلاق الأول , و هذا المعنى تأويل بالإطلاق الثاني , و تلك الصفة نفسها هي تأويله بالإطلاق الثالث , و التأويل بالإطلاق الثالث هو الذي لا يعلمه إلا الله , و ابتغاؤه زيغ , و لم يكن الصحابة و الراسخون في العلم يبتغونه , و لما رأوا من يبتغيه حذروه , و حذروا منه .
و قد عرفت أقسام متبعيه مما سبق :
فمن قال : يد كيدي , فقد حكم على الحقيقة المعبر عنها باليد بأنها كيده , و تصورها هذا التصور المحدود .
و من قال : إنما هي القدرة أو النعمة , فقد حكم عليها هذا الحكم و زعم أنه قد أدرك حقيقتها .
ومن قال لله - عز وجل - يد تليق به لا يمكنني تصورها , ولا العلم بكنهها , و لكن لما أخبر الله - عز وجل - عن نفسه أن له يدا آمنت بأن له يدا تليق به , فهذا هو القائل : { ءامنا به كلًّ من عند ربنا } .
و هذا أوان الجواب عن سؤالك بقولك : و ما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن و القرآن إنما نزل هدى للعالمين و أمرنا بتدبره مطلقا ؟!
(1/38)(1/38)
فأقول : أما الصفات التي ندركها إجمالا لمناسبة ما بينها و بين صفاتنا – مع العلم بأنها في حقه - عز وجل - كاملة كما يليق به , و في حقنا ناقصة كما يليق بنا , كالقدرة و العلم و نحوها – فلا إشكال في إنزالها في القرآن , إذ يقال : المقصود منه الإيمان بها مع العلم الإجمالي , و هو كاف في ذلك , وقد علمت أن من تلك الصفات ما يتوقف ثبوت الشريعة على العلم بها , ويتبعها صفات أخرى مثلها في إمكان العلم بها إجمالا , و في العلم بها تثبيت للشريعة و تأكيد للإيمان , و دونها صفات أخرى تذكر في القرآن في صدد تقرير معنى من المعاني لا يتوقف فهمها على العلم بكنهها , و لكن ذكرها معه يفيدها قوة لا تحصل بدونها , كقوله تعالى : { قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديَّ } .فأصل المقصود إظهار زيادة الإعتناء بآدم - عليه السلام - وتشريفه على ما سواه , و هذا المعنى معروف من الكلام , لا يتوقف على العلم بكنه اليدين , و لا نقول كما يقول بعضهم : هذا الكلام تمثيل لليد في إظهار العناية و التشريف ! و ليس هناك يدان , و إنما هو تخيل ! كما قالوه في قول الشاعر :
... ... إذا أصبحت خذ الشمال ما لها
لا و الله ؛ لانقول ذلك , فإنه من الزيغ , بل نقول : إن لله - عز وجل - يديد خلق بهما آدم - عليه السلام - , و لكننا لا نعلم كنههما , و جهلنا بكنههما لا يمنع من فهم معنى الكلام , و لا يلزم منه إن ذكرها أنه لا فائدة له! بل له أعظم الفائدة كما علمت .
و مع هذا فلا نقول : إن فائدة ذكر الصفة مقصورة على ما ذكر , بل هناك فائدة أخرى , و هي الإبتلاء ؛ { ليستيقن الذين أوتوا الكتب و يزداد الذين ءامنوا إيمنا و لا يرتاب الذين أوتوا الكتب و المؤمنون و ليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } .
(1/39)(1/39)
و أما التدبر فقد أمرنا به مطلقا , و لا يتوقف فائدة التدبر على العلم بكنه اليدين مثلا , إذ لا يتوقف العلم بمعنى الكلام على ذلك , ألا ترى أنك إذا أخبرت الأكمه بأنك ترى ولده مقبلا فإنه يعلم معنى هذا الكلام تحقيقا , و إن كان لا يدري كنه الإبصار .
- الفصل الثاني -
في تأويل الإخبار عن الوقائع
أما الوقائع المتعلقة بالرب - عز وجل - من حيث تعلقها به من العقائد , فقد مر الكلام عليها .
و أما ما عدا ذلك ؛ فإن كان يتعلق بما لا نحس به و لا هو من جنس ما نحس به ,فحكمه حكم العقائد , وذلك كالملائكة والجن ,والأرواح, و الجنة و النار , و نحو ذلك, لا أن للملائكة مثلا صفات .... عليهم بالنظر إليها ؛ لأنهم من جنس ما نحس به ,ككونهم موجودين مخلوقين مربوبين , فمن هذه الجهة يكون حكمهم كحكم غيرهم مما نحسبه ,أو نحس بما هو من جنسه
و الوقائع المتعلقة بما نحس به أو هو من جنس ما نحس به هي موضوع هذا الفصل , فنقول :
يزعم كثير من الناس أن في الكتاب و السنة أخبارا عن أشياء من هذا القبيل , و العقل أو الحس أو الخبر المتواتر يدل على خلاف ذلك الخبر , فغالبهم يذهبون إلى تأويل تلك الأخبار بحملها على معان خلاف ظاهرها , ولكنها موافقة للمعقول أو المحسوس أو المتواتر , و حجة هؤلاء أنهم إذا تركوا تلك الأخبار على ظاهرها يلزم من ذلك في حق الله - عز وجل - و رسوله - صلى الله عليه وسلم - الكذب أو الجهل ! و إذا كان من المعلوم امتناع ذلك ؛ يجعل الخصم هذا حجة على بطلان دين الإسلام !
و أقول : هذا القول قد أرعب غالب المسلمين , و زلزل قلوبهم , فخضعوا لوجوب التأويل , و لكن هذا لا يغنهم شيئا , فإن أهل الكفر والإلحاد قالوا : إن هذه التأويلات التي تبدونها خلاف ظاهر الكلام !
فإن قلت : إن الدليل العقلي , أو الحسي , أو التواتري قرينة تجعل ظاهر الكلام هو المعنى الذي حملناه عليه .
(1/40)(1/40)
قيل لكم : هذا الدليل لم يكن معلوما للمخاطبين , بل لم يكن معلوما لأحد من أهل الأرض حينئذ , و لا يكفي أن يقال : كان الله يعلمه , أو كان رسوله يعلمه ؛ فإن الاعتماد على قرينة يعلمها المتكلم , و يعلم أن المخاطبين لا يعلمونها لا يجوز و لا يخرج الكلام بذلك عن الكذب ؛ فظهر أن ما تبدونه من التأويل لا ينفي لزوم الكذب أو الجهل في قرآنكم و نبيكم !!
لعل أكثر الناس ينكر علي تقرير هذا المعنى ؛ فأقول له :
اعلم أن الكفار و الملحدين يقررون ذلك , و يسيطرون به على علماء المسلمين فضلا عن غيرهم , و لا سيما الشباب الذين سيقوا إلى أن يكونوا في مدارس معلموها من هؤلاء الملحدين أو الكفار .
و الدين الحق إنما يقر تقرير الشبه لإزالتها ,وإنما يحظر على العلم أن يثير شبهة لا يزال أهل الكفر و الضلال غافلين عنها , فأما مثل هذه الشبهة – مما قد أثاروه و أضلوا به – فلا بد للعالم من ذكره و إقامة البرهان بما يزيله
المبحث الأول
حل شبهة
اعلم أن عامة شبهات الكفار و الملحدين في هذا العصر تدور على هذه الشبة , فيجب الاعتناء بحلها و إيضاح الحق , و أسأل الله - عز وجل - التوفيق و الهداية , لعله يطلع على هذا ملحد فيقول : إن هذا الكاتب و أمثاله مقلدون متعصبون , ليس لهم من حرية الفكر نصيب , يرد عليهم البرهان الذي يدمغ دينهم فيفرون إلى المعاذير ! و كان عليهم أن يتدبروا ذلك البرهان و يعترفوا بمقتضاه , هذا مقتضى الحرية و الشجاعة الأدبية و طلب الحق من حيث هو حق , فهم يزعمون أنهم يتبعون الحق , ويدعون إلى الحق, و هم أبعد الناس منه !!
فأقول له : أنت تعلم أن لثبوت الحقائق طرقا مختلفة , فلمعرفة أن فلانا حاضر مثلا قد تحصل بواسطة الإبصار ,وبواسطة سمع كلامه ,وبواسطة أخبار متواترة , و غير ذلك , و الإدراك بواسطة البصر لا يحصل للأعمى , و بواسطة سماع كلامه لا يحصل للأصم , و قس على ذلك .
(1/41)
... ...(1/41)
و قد يحصل الإدراك اليقيني لحقيقة بطريق صحيح , و إذا نظرت من طريق أخرى وجدت شبهات تنفي تلك الحقيقة , فأما من حصل له الإدراك بذلك الطريق الصحيح فإنه – إذا عرضت عليه تلك الشبهات – لا يلتفت إليها , ولا يبالي بها , إلا أنه إّذا عجز عن إطلاع المعترض على ذاك الطريق الصحيح فقد يحاول حل تلك الشبهات , و ربما يعجز عن حلها , وهو مع ذلك غير متزلزل فيما قد تيقنه , بل هو مؤمن أن لتلك الشبهات حلا لم يتيسر له , و من شككته الشبهات فيما قد علمه يقينا يعد عند العقلاء أحمق !
... ... فمن ذلك قول علماء الطبيعة : إن تقرير كيفية الإبصار يقتضي أن ترى الصور معكوسة , وهو خلاف المشاهد , فيا ترى من يشاهد الصور – ويعلم أنه يشاهدها مستقيمة – إذا عرضت عليه تلك الشبهة هل يتزلزل عما يشاهده من أنه يرى الصور مستقيمة ؟!
... ... و في الفلسفة الحسية العصرية أمثلة كثيرة من هذا .
... ... فهكذا نحن قد قام عندنا البراهين ما تيقنا به أن القرآن كلام الله , و أن محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله , فهذا اليقين هو الذي جعلنا نبادر إلى رد الشبهات , و بها حصل لنا ذلك اليقين , و هي تحتاج إلى ممارسة و عناية , فلا يمكننا أن نحصلها لمن لم تحصل له في مقالة أو رسالة , فلذلك نحتاج إلى حل الشبهات .
... ... و المقصود تقرير عذرنا , و دفع تهمة التقليد و التعصب عنا , على أننا لا ندعي أننا نستطيع حل جميع الشبهات حلا يقنع الخصم , و لكننا ندعي أننا نستطيع حل جميع الشبهات حلا يقنع الخصم , و لكننا ندعي أنه لو سلك الطرق التي سلكناها , و تحرى إصابة الحق , و تخلى عن التقليد و التعصب لوصل إلى ما وصلنا إليه , و لعلم أن تلك الشبهات التي أثارها أولا باطلة , سواء أعلم وجه حلها أم لا .
(1/42)
... ...(1/42)
فمثلنا و مثل الخصم مثل رجل قال لآخر : إن الأرض تدور , فعارضه ذاك بأنها لو كانت تدور لتساقطت الأجرام التي عليها , و كان كذا و كذا ! و لنفرض أن المخبر قد كان وقف على الدلائل التي تثبت دوران الأرض, و لم يقف على جواب الشبهة , فإنه يقول للخصم : تعال معي و انظر و تفكر لتقف على ما وقت عليه , فأبى هذا مصرا على الإنكار بحجة أنها لو كانت تدور لكان كذا و كذا ! أفلا يكون من واجب المعترض إذا كان طالبا للحق أن يجيب الأول بما يدعوه إليه من النظر , و إن كان في ذلك مشقة و تعب ؟
... ... و بعد هذا التمهيد نشرع في حل الشبهة :
المبحث الثاني
أقوال العلماء
رأيت كتابا لبعض الفضلاء يكذب صاحبه أهل الطبيعة و الفلك والجغرافية و غيرها في كل ما يقولونه مما يراه المؤلف الكتاب مخالفا لظاهر القرآن أو السنة , و في كلامه مؤاخذات :
... منها دعواه في مواضع ظهور دلالة القرآن , وليس كذلك , ومنها في السنة كذلك , و منها الإستناد إلى أحاديث غير ثابتة , و غير ذلك . وغالب العلماء يذهبون إلى هذا التأويل كما قدمنا , و فيه ما عرفت من الإشكال .
... و سمعت بعض العلماء يقول : إن القرآن لم ينزل لتعلم الطبيعة والفلك و التاريخ و التشريح و الطب و نحو ذلك من العلوم الكونية , وإنما نزل لبيان الدين عقائد و أحكاما , و إنما يذكر بعض ما يتعلق بالطبيعة و الفلك و التاريخ و نحوها لمغزى ديني , كالتنبيه على آيات الله و آلائه , و التذكير بالعبر و المثلات , هكذا السنة , فالأنبياء إنما بعثوا لتعليم الدين
... و مقصود هذا العالم – على ما فهمته – أنه لا يصح الإستناد إلى ظاهر آية من القرآن أو حديث من السنة في تقرير أمر من تلك العلوم الكونية , كما هو بالنسبة إلى غالب الناس غيب .
(1/43)
...(1/43)
فأما قوله : إن الشريعة إنما جاءت لتعليم الدين عقائد و أحكاما , و لم تجئ لتعلم العلوم الكونية , فحق . و الحكمة في ذلك أن العلوم الكونية منها ما لا فائدة في علمه فائدة , و لكن علمه لا يتوقف على الوحي , بل يعلم بالبحث و النظر , و قد قضى الله - عز وجل - أن يكون ظهور ذلك في أوقات متراخية , كما وقع نمن اكتشاف الكهرباء والهاتف والمذياع و غير ذلك .
... على أن الناس محتاجون إلى كثرة الحكام , و ليس كل حاكم كاملا في العقل والفهم والنظر حتى يدرك جميع الأحكام بنظره , و اجتماع جماعة من العقلاء لوضع القوانين لا يكفي ؛ لقصر نظرهم , و احتمال ميلهم و تعصبهم ؛ و لأن غالب القوانين تختل الحكمة المقصودة منها في كثر من الجزئيات الداخلة فيها , فأما القوانين الشرعية فإنها تؤمن الغلط والميل , و العصبية فيها يمتثلها المتدينون تدينا , و يقبلونها طيبة أنفسهم منشرحة صدورهم ؛ لأنهم يرون القبول خيرا لهم في دينهم و دنياهم , ويلزمونها غالبا بدون إلزام حاكم , لا فرق في ذلك بين قويهم وضعيفهم , وافية منها على الغالب بحيث يمكن تخلف الحكمة في بعض الجزئيات , فإن الله - عز وجل - يجبره بقدره .
... و المقصود : أن الخلق مفتقرون إلى تلقي الأحكام من طريق الرب - عز وجل - و ليسوا مفتقرين إلى تلقي العلوم الطبيعية و نحوها .
(1/44)
...(1/44)
و قد قيل في تفسير قول الله - عز وجل - : { يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للنا سو الحج و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها و لكن البر من اتقى و أتوا البيوت من أبوابها } :"إن القوم إنما سألوا عن الأهلة ما بالها تبدو صغارا ثم تكبر , ثم تعود فتصغر ثم تكبر , وهكذا ؟ فنزل الجواب عن هذا المعنى الطبيعي , وأجيبوا بما يتعلق بالأهلة من الأحكام الدينية ,ثم أمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها فإذا سألوا النبي – المبعوث لتعليم الدين – فليسألوه عما يتعلق بالدين , و لا يأتوا البيوت من ظهورها بأن يسألوه عما لم يبعث من لأجله , و لا تتعلق به ضرورة دينية .
... و لما ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة و رآهم يؤبرون النخل , فظن أن لا حاجة لذلك ؛لأنه كان قد رأى كثيرا من الأشجار تؤتي ثمرها بدون تلقيح, فقال لهم : "ما أظن يغني ذلك شيئا " , فتركوه , قال فخرج شيصا ... فمر بهم فقال : "ما لنخلكم ؟" , قالوا : قلت كذا وكذا ! قال: "أتم أعلم بأمور دنياكم" .
... و في رواية : "إنما ظننت ظنا , فلا تؤاخذوني بالظن , و لكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به , فإني لن أكذب على الله - عز وجل - " .
... و في رواية :"إنما أنا بشر ؛ إذا أمرتكم بشيء ن دينكم فخذوا به , و إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " .
... و الحديث في "صحيح مسلم " و غيره من حديث أم المؤمنين عائشة ,و طلحة بن عبيد الله , و ثابت بن قيس , و رافع بن خديج رضي الله عنهم .
... و صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة , فنظرت في الروم و فارس فإذا هم يغيلون لأولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا" .
... و جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن ظهر فرسه " .
(1/45)
...(1/45)
قال الطحاوي : "إن الحديث الثاني يظهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله أولا لما كان يظن أن الغيل يضر , ثم لما تبين له أنه لا يضر قال : "لقد هممت ....إلخ .
... و الظاهر خلاف هذا ؛ لوجوه :
... الأول : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - التي يبنيها على الظن بين أنه إنما قالها بناء على الظن ، و الحديث الثاني جزم .
... الثاني : أن قوله : "إن الغيل يدرك الفارس فيدعثره" مما لا يظهر بناؤه على الظن .
الثالث : أن قوله – في الحديث الأول - : "لقد هممت ..." ظاهر في أنه لم يكن قد نهى , فالظاهر أنه أراد أن ينهى أولا بناء على ما كان مشهورا بين العرب من أن الغيل يضر , ثم في حال فارس و الروم فقال الحديث الأول , ثم أعلمه الله - عز وجل - بأن الغيل يضره , و لو بعد حين , فقال الحديث الثاني .
و قد يجيء في الشريعة ما يشير إلى مسائل طبيعية , إذا دعت ضرورة , و لكنها تعرض بمعرض ديني , أو ينبه عليها إجمالا .
فمن الأول : النهي عن الشرب قائما , و قوله : إن الشيطان يشرب معه .
و من الثاني : النهي عن النفخ في الطعام و الشراب , و غي ذلك.
و المقصود : أن قول ذلك العالم : إن الشريعة إنما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكاما , و أما ما جاء فيها مما يتعلق بشيء من العلوم الطبيعية و التاريخ و نحوها فليس المقصود من ذكره التعريف بكنهه و حقيقته و كيفيته مفصلا , و إنا يذكر تنبيها على الآيات و المثلات . كل هذا صحيح , و لكن هل يقتضي هذا جواز أن يكون الواقع في تلك الأمور خلاف ظاهر الخبر الشرعي ؟
قد كنت أنكر هذا أشد الإنكار , وأقول :إن الظاهر حجة قطعية, و إنه إذا كان الواقع خلاف ظاهر الخبر كان الخبر كذبا , و إن لم يكن المقصود من الخبر بيان ذلك الأمر .
ثم رأيت في أصول الفقه مسألة تعضد ما قاله ذلك العالم , و هو قول بعضهم : إن النص إذا سيق لمعنى غير بيان الحكم , و كان عاما لا يحتج بعمومه في الحكم .
(1/46)(1/46)
و يمكن أن يطّرد ذلك في سائر الدلالات الظاهرة , ووجه ذلك أن المتكلم إنما يعتني بالمعنى المقصود بالذات , و أما ما ذكر عرضا فإنه لا يعتني به , كأنه يكل تحقيق حكمه إلى موضعه .
و يقرب من هذا ما يقوله الفقهاء و غيرهم : إن المسألة إذا ذكرت في غير بابها استطرادا , ثم ذكرت في بابها مع مخالفة , فالمعتمد فيها ما في بابها .
وههنا معنى آخر يعضد ذك أيضا , و هو : أن المتكلم في علم قد يذكر في أثناء كلامه مسألة من علم آخر , فربما ذكر قاعدة يكون ظاهر كلامه أنها كلية , و مع ذلك فلا يعتد بهذا الظاهر , و لا ننسب إلى المتكلم أنه ادعى كليتها , و لا يعترض عليه بذكرها على ذلك الوجه .
كأن يقول المفسر في قوله تعالى : { هدى للمتقين } أصل { هدى } هدي , والقاعدة الصرفية أنه إذا تحركت الياء و انفتح ما قبلها قلبت ألفا, و القاعدة الأخرى أنه إذا التقى الساكنان حذف الأول . و هاتان القاعدتان ليستا على إطلاقهما , بل لكل منهما قيود و شروط معروفة في علم الصرف , و مع ذلك لا ينسب إلى ذلك المفسر قصور و لا تقصير , و لا دعوى خلاف ما تقرر في علم الصرف ؛ لأنه يقال : ليس هو في صدد الكلام في علم الصرف حتى ينسب إليه ذلك , و إنما هو في صدد التفسير , و لكن انجر الكلام إلى هاتين القاعدتين فذكرهما على قدر ما دعا إليه الحال , و هكذا في القواعد النحوية و البيانية و غيرها .
و أبلغ من هذا : أن أصحاب الكتب المختصرة في العلوم يذكر أحدهم كثيرا من قواعد ذلك العلم , بحيث يكون ظاهر الكلام أنها كلية , و مع ذلك لا ينسب إليهم قصور و لا تقصير و لا دعوى كليتها , بل يقال : هذا المختصر وضع للحفظ و لتعليم المبتدئين , و كل يستدعي الإجمال و ترك التفصيل بذكر القيود و الشروط , بل يوكل ذلك إلى الشروح و المطولات .
(1/47)(1/47)
و أبلغ من هذا : أن الكتب الموضوعة للمبتدئين قد يذكر فيها ما ليس بصحيح في نفسه , و لكن سلكه المؤلف لأنه أقرب إلى فهم المبتدئ , فيقول النحوي مثلا : الكلام قد يركب من كلمتين , من اسم و فعل , مثل : قام الرجل , والرجل قام ,أو اسمين , مثل زيد قائم , أو القائم زيد , مع أن "قام الرجل" ثلاث كلمات , و الرجل قام أربع كلمات : فعل وحرف و اسمان , و "زيد قائم" ثلاث أسماء , و "القائم زيد" أربعة أسماء .
ومن كان له ممارسة للنحو و الصرف وجد فيها كثيرا من هذا , ومن عالج التعليم يعلم يقينا أنه لا غنى به عن سلوك هذه الطريق في كثير من المسائل .
و كما أن المعلم الناصح يتجنب أن يخرج بالطالب في الدرس عن ذلك العلم , فهكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتجنب أن يشغل الناس بما لم يبعث لأجله , بل كثيرا ما يقرهم على ما يعلم أنه خطأ و غلط ؛ لأن ذلك لا يضرهم في دينهم , فإذا دعت المصلحة إلى ذكر ما يتعلق بشيء من الأمور الطبيعية ذكره على وجه لا يجر إلى إيقاع السامعين في الخوض في أحوالها الطبيعية , فيشتغلوا بذلك عن المقصود , و من ضرورة هذا المعنى أن لا يذكر لهم في الأمور الطبيعية خلاف ما يعرفون , أو يذكر لهم مما لا يعرفون شيئا فيه دقة و غرابة , فلا يذكر لهم مثلا : الأرض كروية , أو أنها تدور.
فإن قلت : فهل يجوز أن يخبر عن شيء من الطبيعيات بكلام ظاهره مخالف للحقيقة ؟
هذا هو موضوع السؤال !
قلت : أ ما إذا ثبت أن الظاهر في مثل ذلك لا يعتد به , بل يحتمل أنه مراد , و يحتمل أنه ليس بمراد , فلا مانع من ذلك إذا لم يبق ذلك الظاهر ظاهرا , فتدبر!0
(1/48)(1/48)
وقد أجاز جمهور العلماء تأخير البيان إلى وقت الحاجة , فأجازوا أن يرد نص في الحج مثلا يكون وروده في شهر محرم , و لذلك غير عام , أو مطلقا وهو في علمه - عز وجل - مقيد , أو فيه كلمة مستعملة في علم الله - عز وجل - في غير ما وضعت له , و لم تصحب النص قرينة , ثم حين حضور الحج يبين الله - عز وجل - الخصوص و التقييد .
و الوجه في ذلك : أن المخاطبين لما علموا من عادة الشريعة أنها قد يقع فيها صار ذلك الظاهر غير ظاهر عندهم , بل هو محتمل فقط , فإذا جاء وقت العمل , و لم يبين ما يخالف ذلك الظاهر علما حينئذ أنه مراد .
بل قد يقال : لا حاجة إلى علم المخاطبين بعادة الشريعة في ذلك , و يكفي أن ذلك جار في العادة مطلقا , فلو كان لرجل خمسة من الولد صغار , فقال لخادمه : اذهب بالأولاد يوم الخميس إلى المستشفى للتطعيم ضد الجدري و ندما تريد الذهاب أخبرني , فإن الخادم إذا تدبر هذا الكلام قال نفسه : كلمة "الأولاد" تشمل الخمسة كلهم , و يمكن أن يكون أراد الخمسة كلهم , و يمكن أن يكون أراد ثلاثة أو أربعة منهم , على كل حال فحين أريد الذهاب أخبره فيظهر ما هو مراده .
و إنما أوردت في المثال : "وعندما تريد الذهاب أخبرني " ؛ لأنه لو لم يقل ذلك لضعف احتمال الخصوص جدا ؛ لأن الإنسان يعلم أنه ربما ينسى , أو يغفل أو ينام أو يمرض أو يموت أو يغيب , وإذا عرض له شيء من ذلك عند حضور الوقت فإن الخادم يذهب بالأولاد الخمسة , فلو كان يريد الخصوص لاحتاط .
فأما الرب - عز وجل - فإنه منزه عن تلك العوارض , فأمره على الإحتمال حتى يحضر وقت العمل بدون حاجة إلى ما يقوم مقام قول الإنسان " :و عندما تريد الذهاب أخبرني " , و كذلك أمر نبيه عليه الصلاة و السلام ؛ لأنه مبلغ عن الرب , و الرب تعالى متكفل بحفظه أن يعرض له شيء من تلك العوارض يمنع من البيان قبل وقت الحاجة
(1/49)(1/49)
و الحاصل : أن النص على الحكم – وقد بقيت مدة إلى حضور وقته – إذا كان لذلك النص ظاهر من جهة اللفظ , ولكنه غير ظاهر من جهة المعنى , بل هو محتمل فقط , فإذا جاء الوقت و لم يبين علم أن ما ظهر من اللفظ هو المراد من جهة المعنى أيضا . فإذا أطلق الشارع نصا في حكم لم يحضر وقته , و للنص ظاهر لفظي , ثم بين عند الحاجة ما يرفع ذلك الظاهر , لم يلزم من إطلاق النص كذب و لا شبه كذب , فتدبر و أمعن النظر !
ثم نقول : معرفة صفات الأمور الطبيعية ليس لها حاجة في البيان عندما يطلع الإنسان على صفة فعل الشيء , فيتبين له حينئذ المعنى المراد من النص , و لا يلزم كذب و لا شبه كذب إذا تبين أن الواقع خلاف الظاهر اللفظي من النص .
فلو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل : اذهب إلى فلان فستجده يأكل لحم إنسان , فذهب إليه فلم يجده يأكل لحما , و لكن وجده يغتاب إنسانا , لقال : صدق الله و رسوله , إن اغتياب الإنسان كأكل لحمه.
و لو قال - صلى الله عليه وسلم - لرجل : أتحب فلانا ؟ فقال : نعم ! فقال : أما إنك ستقتله , فلما كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - سقطت من الرجل كلمة كانت سببا لقتل صاحبه , لقال : صدق الله و رسوله , أنا قتلته بكلمتي .
و في هذا نص واقع ,وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه – لما سألنه أيتهن أسرع لحوقا به - : "أسرعكن أطولكن يدا" .
قالت عائشة : " فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نمد أيدينا في الجدار نتطاول , فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش , و كانت امرأة قصيرة , و لم تكن أطولنا ,فعرفنا حينئذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بطول اليد الصدقة , و كانت زينب امرأة صانعة باليد , و كانت تدبغ و تخرز و تصدق في سبيل الله" .
(1/50)(1/50)
هذا لفظ رواية الحاكم في المستدرك , كما حكاها الحافظ في "الفتح" . و الحديث في الصحيحين , و لكن وقع في رواية البخاري اختصار ووهم نبه عليه الحافظ في الفتح
قال الحافظ : "و في الحديث علم من أعلام النبوة ظاهر , وفيه جواز إطلاق اللفظ المشترك بين الحقيقة و المجاز بغير قرينة , وهو لفظ "أطولكن " إذا لم يكن محذورا . قال الزين بن المنير : "لما كان السؤال عن آجال مقدرة لا تعلم إلا بوحي أجابهن بلفظ غير صريح , و أحالهن على ما لا يتبين إلا بأخرة , و ساغ ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفية"
وقد يقال : إن في الحديث قرينة , بل قريتين :
الأولى :وقله : "أطولكن يدا" , ولم يقل : أطولكن ,مع أنه أخصر, ففي العدول إلى ذكر طول اليد إشارة إلى المعنى المراد .
الثاني : أن سرعة اللحوق به فضيلة , و الفضيلة إنما تدرك بعمل صالح , و الطول الحسي ليس بعمل صالح.
و يمكن أن يجاب بأن الأولى مبنية على أن الطول الحسي في اليد ملازم لطول القامة , و ليس كذلك و لكنه الغالب , و أما الثانية فليست بظاهرة ؛ لأن الموت عند تمام الأجل ,فليس بمرتبط بالفضيلة ارتباطا ظاهرا, إذ لا مانع من طول عمر الفاضلة ارتباطا ظاهرا , إذ لا مانع من طول عمر الفاضلة و قصر عمر المفضولة .
وعلى كل حال ؛ استنبط هذا بعد العلم بحقيقة الحال , و أما قبل ذلك فقد كان الظاهر هو طول اليد الطول الحسي , كما فهمته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن , و لم يلن على ذلك حتى تبين خلاف ذلك بموت زينب .
فإن قيل : كيف هذا و قد تقدم في كلمات خليل الله إبراهيم - عليه السلام - تتعلق بوقائع عادية وقعت له , و ليست متعلقة بما هو غيب عند عامة الناس أو غالبهم , و البحث المتقدم إنما هو فيما كان غيبا مطلقا , أو بالنظر إلى غالب الناس .
(1/51)(1/51)