تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم
دراسة تأصيلية
(رسالة ماجستير)
إعداد
عبدالسلام المجيدي
الأستاذ المساعد بكلية التربية ـ جامعة ذمار ـ اليمن
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم فضيلة الشيخ العلامة/ عبد المجيد بن عزيز الزنداني (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } "آل عمران/102".
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } "النساء/1" .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } "الأحزاب/70-71".
أما بعد :
فيسرني أن أقدم لأبناء أمتنا الإسلامية هذا الكتاب الذي يتحدث عن تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لألفاظ القرآن الكريم عن جبريل - عليه السلام - عن رب العزة - سبحانه وتعالى - ، والذي قدم فيه الباحث –الذي أسأل الله - عز وجل - له التوفيق وأن يجعله من العلماء الأتقياء العاملين- فصولاً شيقة، وبحوثاً رصينة، جمع فيها ما تفرق في الكتب المتخصصة في بحث هذه القضايا ... .
__________
(1) - رئيس جامعة الإيمان، ورئيس هيئة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية برابطة العالم الإسلامي سابقاً .(1/1)
فبدأ الباحث بحثه في فصله الأول عن أول سلسلة البلاغ عن الله -جل ذكره- المتمثلة بجبريل - عليه السلام - ومؤهلاته التي هيأته لنقل كلام الله - عز وجل - بأعلى درجات الحفظ، ثم واصل في فصله الثاني البحث في كيفية اتصال جبريل - عليه السلام - بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتهيئة جبريل - عليه السلام - والرسول - صلى الله عليه وسلم - لتحقيق ذلك الاتصال بين مُعَلِّم من عالم الملائكة ورسول من عالم البشر، وقرَّب ذلك بالأمثلة المفيدة ... ثم فصل في الفصل الثالث كيفية تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لألفاظ القرآن الكريم، والهيئة التي تم بها ذلك التلقي، وكيفية مجيء جبريل - عليه السلام - ، وكيفية إلقاء الوحي على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وضرب لذلك الأمثلة التي تقرب للأذهان فهم ما نقل لنا من كيفية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - لألفاظ القرآن الكريم عن جبريل - عليه السلام - .
ثم ناقش ما يتصل بذلك مما يتعلق بحالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت التلقي، وحرصه على الحفظ، وما كان يعالج من الشدة من التنزيل، ويتعجل فيه من الحفظ، وتولي الله - سبحانه وتعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإمداده بالقدرة على تلقي ألفاظ القرآن، وحفظه، وتفاصيل ترتيله، وهيئات أدائه، والمدارسة التي كان يتعهد بها جبريل - عليه السلام - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل عام .
وعرض لنا في الفصل الرابع ما كان بين جبريل - عليه السلام - والرسول - صلى الله عليه وسلم - من صحبة وألفة، وهما يقومان بمهمة نقل كلام الله إلى خلقه وعباده.
واستعرض الباحث في الفصل الخامس بعض جهالات الجاهلين، وشبهات المبطلين التي ... ما فتئت تلقي بها قلوب الشياطين في قلوب الكافرين والمفتونين ... ودحضها بما فتح الله عليه من حجج وبراهين .(1/2)
وقد تضمن هذا البحث لفتاتٍ جديدةً تثري هذا الموضوع، وتستفيد من معطيات العصر، في تقريب حدوث الوحي بين عالم الملائكة وعالم البشر، وفي رصد الوقائع العملية التي تم بها حفظ ذلك الوحي .
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا البحث طلاب العلم والمهتمين بعلوم القرآن، وقضايا الإيمان والعقيدة، وأن يجزي صاحبه خير الجزاء .
والحمد لله رب العالمين .
تقديم فضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد بن علي الإمام (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا بالقرآن الكريم ذي الذكر، وجعل قُرَّاءه أهل الله وخاصته، { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } "يونس/58"، وصلوات الله المباركات، وتسليماته الزاكيات على سيدنا محمد عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، من نزل عليه القرآن العظيم فتلقاه لفظاً وأداءً، فأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعَلَّم أصحابه، فاتصل سند التعليم بهم في الأجيال، وسيبقى محفوظاً بحفظ الله تعالى أبداً { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9" .
ثم أما بعد:
فلقد سعدت في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية بمعرفة الباحث عبد السلام مقبل المجيدي من خلال إشرافي على بحثه لنيل درجة التخصص الأولى (الماجستير) في التفسير وعلوم القرآن الكريم بعنوان (تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم)، وهي دراسة تأصيلية لكيفية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم عن جبريل - عليه السلام - عن الله - عز وجل - .
__________
(1) - مستشار رئيس جمهورية السودان لشؤون التأصيل والتخطيط الاستراتيجي، ومدير جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في أمدرمان سابقاً .(1/3)
وقد ساعد الباحث حفظه للقرآن الكريم وتجويده، وإتقانه، وجمعه للقراءات القرآنية، ومقدرته البحثية، وهمته العالية، وجده في التحصيل، وتفرغه لذلك في حبٍّ، وشوقٍ، وأدبٍ ... { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } "الحديد/21،الجمعة/4".
أما الدراسة فقد خلصت إلى توثيق النص القرآني، وذلك داخل فيما ضمن الله تعالى من حفظ كتابه العزيز: لا يصيبه تحريفٌ في لفظه، ولا في أدائه .
كما تناول البحث مراتب اللفظ القرآني، وتوقيفية نقل ألفاظ القرآن الكريم أصلاً وأداءً، وأحسن الباحث استخدام مصادر بحثه في دوائر واسعة من العلوم في أصول الدين، والتفسير، وعلوم القرآن، والسنة، وأصول الحديث، والفقه وأصوله، واللغة العربية ... .
هذا وقد أُجيز البحث، ونال درجة الامتياز، مع التوصية بطباعته .
ونسأل الله تعالى أن ينفع بالكتاب وكاتبه المسلمين، ويوفقه لما يستقبل من عمل، وأن يجعل عملنا وإياه صالحاً، ولوجهه خالصاً متقبلاً عنده .
إِهْداءٌ وشُكْرٌ
إلى:
الربيين من أهل القرآن ... يتصدر محرابهم القانت: شيخي/ الشيخ المجاهد المجدد: عبد المجيد بن عزيز الزنداني، وشيخي/ شيخ الإقراء: إسماعيل عبد العال أحمد الشرقاوي (1) ، وشيخي/ الأستاذ الدكتور: أحمد علي الإمام (2) ...
__________
(1) شيخ الباحث الذي تلقى منه ألفاظ القرآن الكريم بقراءاته العشر من طرق الشاطبية والدرة والطيبة .
(2) أحسبهم كذلك، والله حسيبهم... ولا أزكي على الله أحداً .(1/4)
جعل نور السموات والأرض في قلوبكم نوراً ... تقتفون به آثار رسولكم - صلى الله عليه وسلم - : نبيلاً إثر نبيلٍ، على صراط عليٍّ مستقيم، تغدق عليكم بينات الصحف المطهرة هداها، فإذا سيركم قد حُسم بحسام الفرقان،وسيف العزم، فبارك الله ذلك المسعى، فهدى، ثم بارك فيه فزاد فيه زيداً صالحاً مُحَمَّداً طيباً مباركاً فيه كرتين، في زمن قرحٍ وبأساء وضراء، يُتَرَبَص فيه بدينكم الدوائر ... فما وهنتم لما أصابكم في سبيل الله، وما ضعفتم، وما استكنتم ... فارتقيتم أوج الربانية؛ إذ كلٌ منكم عبد الله، فإذا أنتم عباده المخلصون، تَسْعَون في كمال النعمة بعد إذ تمت بكمال الدين ... رياضُكم: دمعةٌ في محراب الماجدين من المتهجدين، ونغمتُكم: تهاليلُ السفائن الفاتحة للمدائن،وسميرُكم: تراتيل التنزيل،وغوثُكم المساعِد: السكينةُ المنزلةُ –دوماً- على المؤمنين، وسائقُكم ابتسامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخترقةً الحجب الساترة ... أمَّا أمينُ القافلة، ورقيبها،وعاصمُها: فحبٌ هو ... وليدُ الهيام بالعودة لأيام الفاروق ... وفقه النعمان (1) ، وشوقٌ إلى مَيَسانٍ في أفنان الجنان... وإن لقيتم في سفر الدنيا نصباً، ففيصل رؤاكم الكلية –جلال الدنيا وجمالها-:
{ وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمانَكُم } "البقرة /143" .
مقدمة الشكر:
إلى:
__________
(1) أبو حنيفة –رحمه الله تعالى-، وهو إشارةٌ إلى أئمة السلف عموماً، والنعمان أقدم الأربعة –رحمهم الله تعالى- .(1/5)
شيخي الشيخ إسماعيل عبد العال أحمد: أُشربت منك حب التعلق بكل ما اتصل بكتاب الله - جل جلاله - فصرت إمام المتقين الذي جعله الله - سبحانه وتعالى - سبباً في أن يكون القرآن شعوراً فياضاً يملأ جسدي، وروحاً تسري في جوانحي، وعواطفي، وأحاسيسي...وأنبت في نفسي أن القرآن هو القول الثقيل ... فمن رام التشرف بالدخول في زمرة حفاظه فهو رائمٌ أن يكون أمين كلام الله - عز وجل - غير أنه لا يُوحَى إليه ... وأن استظهار امرئٍ لآيات الكتاب هو المنة العظمى؛ إذ قد آتاه الله - جل جلاله - السبع المثاني والقرآن العظيم، فلا يمدن عينيه إلى ما سواه من متاعٍ زنيمٍ ... وما يكون ذا إلا وليد مجاهدةٍ ، تستصحب صبر أولي العزم ... فإذا صاحبها ماجدٌ ... قد استمد عنوان مجده من رياض القرآن ... وما رأيت منك على طول المدى إلا أن أسقامك تزداد فيكون القرآن سميره غير المفارق ... شفاءً لما في صدره، وهدىً، وموعظةً، وزيداً في إيمانه، ورقيباً ... وُهِبَ بذلك رحمةً من ربه يرجوها؛ إن فضله كان عليه كبيراً ... فله من ربه الأمان يوم الفزع الأكبر، والخلد في الفراديس العلى يوم الفوز الأعظم .
شكر
إلى: الذين سارعوا في الخيرات، وسابقوا إلى مغفرةٍ من ربهم ... بإزجاء أفنان المساعدة، للباحث في بحثه، فازدانت بميسان الإحسان، وارتفعت بعز التواضع:
يتصدر محرابهم القانت شيخي: الشيخ المجاهد المجدد عبد المجيد ابن عزيز الزنداني: أويتُ به إلى ركنٍ شديد؛ إذ نشر لي حقائق إيتاء الإيمان قبل القرآن، وعَلِمْتُ منه تأويل (الصبر، واليقين، والإمامة في الدين)، وتعلقت بأهدابه علماً، وإيماناً؛ إذ كان من الذين أوتوا العلم والإيمان، وداعي صحبته يهتف بي: (يا بني! إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً) .(1/6)
ويؤمهم شيخي الشيخ المبجل: الأستاذ الدكتور /أحمد علي الإمام، إذ حفَّتني بنعمة صحبته رحمةٌ من ربي أرجوها، فرأيت فيه معنى { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا } قد تجسدت بشراً سوياً، وتوسمت فيه معنى الصدِّيقية، هاتُفها: (اتبعني على أن أعلمك مما علمتُ رشداً)، وأحاطت بي عنايته: أباً متابعاً لي في أدق أموري، وأهونها، وشيخاً مرشداً بذر فيّ معاني: (ربِّ علمني الكتاب والحكمة، وعلمني ما لم أكن أعلم، واجعل فضلك عليَّ عظيماً)، وعالماً خُلُقُه القرآن: آتاني من لدنه حناناً، وزكاة، وأنبت فيَّ بصائر سبيل من كان تقياً، وأما مكتبته، وبيته، ووقته، وتواضعه، وآفاق علمه، وفتحه للبصائر في طرح المسائل، فذاك ما يتوارى الوصف خجلاً عن ذكر حقه، وحقيقته .
ويمضي -حثيثاً- في قافلتهم: شيخي: الشيخ محجوب أحمد طه: والدي بعد والدي، أغدق على فؤادي حنان الأب، وإخبات الإيمان، وزكاة النفس، وقذف في قلبي أن بهارج الدنيا-علماً كانت، أو متاعاً- لا تدخل معي القبر، ولا تنجي من تبعة الوِزر، ولا ترفع الإصر.
وشيخي: الشيخ عبد الله الزبير: لولا أن تداركتني به رحمة من ربي لنُبِذْتُ بعراء الجهالة المتعالمة، وأنا مذموم، ثم زاد فأتبعني سبباً بالتعاهد والاستدراك، ثم زاد فأكمل، ثم زاد فأجمل، فإذا أنوار الله تحيط بي، ولطفه يتتابع عليّ بسببه: صابراً على جفائي، رافعاً عني ما أجده من أنوائي .
وإلى: أساتذتي: الشيخ محمد الآنسي، والشيخ علي مقبل الجابري، والشيخ سعد حنتوس،وإلى ... أبي عبد الله ... إذ عرفت منهم النور في بصائر القرآن حين يشرق على تفكير الإنسان، ولمست منهم إعانة لي على حمل أعباء الحياة، ورأيت منهم صدق التعبد لله .(1/7)
وإلى: مساعدٍ ... هو أمينٌ علا بمتابه ... فرؤيت فيه حقائق الإيمان، فسما بيقين القرآن في الدنيا إلى روح وريحان ... فأجال الطرف الحائر فيما وراء ذلك من رضوان ... حتى أشرقت بأبي الشروق شمس الخير، ولهفة الظمآن إلى مشارع الفرقان ... تنبئ الدنيا عن حقيقة الإخلاص للرحمن الودود ... فأوتيت بمدد القرآن عطاء غير مجذوذ .
وإلى: الشيخ عبد الهادي والقائمين على دار الطلاب اليمنيين ...
إليهم: إذ رفعوا عني بسيف العزم ضعف اليقين، ووعثاء الطريق، وقلة الصدق، وفرادة الصديق ... تعلي جمعنا منائر العودة لأعلى رفيق ... تذكر بالفاروق آن أن يلتهب المضيق ... والله على رجع أيام الصِّدِّيق لقادر ... فهو المعتصَم سبحانه خير واهبٍ وناصر .
وإلى: آخرين ممن يستحيي القلم أن يسطر أسماءهم، للفضيلة المدخرة لهم عند ربهم:
شكر الله لكم، ووهب لكم من رحمته، وجعل لكم لسان صدقٍ علياً .
المقدمة
"اللهم إنا نحمدك أقصى مدى الحامدين، ونعترف بآلائك كما أوجبت على المطيعين، من عبادك المعترفين، ونسألك أن تصلي على نبيك المرتضى محمد وآله الطاهرين، وصحبه الراشدين، وأن تحسن العون والتسديد على ما أُجمع فيه القربة إليك، بما يحظي بالزلفة لديك، وأن تجعل العمل لك، والاتصال بك، والمطالب مقصورةً على مرضاتك، وإن قصرت الأفعال عن مفروضاتك، وصلتها برأفتك، وجعلتها مما شملته بركات رحمتك" (1) .
وبعد:
__________
(1) بتصرف من استهلال الإمام أبي الفتح بن جني في كتابه ( المحتسَب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها ) تحقيق : علي النجدي ناصف وآخرون ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – لجنة إحياء كتب السنة – القاهرة 1415هـ - 1994م .(1/8)
فقد تمت كلمات الله صدقاً وعدلاً (1) ، وكان مما تم أنه: { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } "الأنعام/115"تأكيداً على أهمية الحفاظ على لفظ القرآن؛إذ هو المعبر الوحيد، والسبيل الفريد لتأويل معناه، وسبر غوره، وإدراك مغزاه ... وأي تبديلٍ في لفظه، أو تحريف في أدائه، مُلْبِسٌ لمعناه بما اكتنفته عقول البشر من معانٍ.
وإذا كانت الآية جاءت على سبيل الخبر؛ فإن الفهم العملي القائم على أسس البناء الفقهي ارتكازاً على تقريرات أصول الفقه في باب الخبر والأمر– يحتم جعل هذه الحقيقة الإلهية في إطارها الواقعي، ومن ثم تكوين أدوات التنفيذ لإحالة هذه الحقيقة إلى واقع، مع اليقين بأن حدوث ذلك أمر قدر كوني ... للضمان الإلهي الظاهر في الآية السابقة ... فتكوين الأدوات الواقعية لحفظ ألفاظ القرآن الكريم إنما هو تناغم مع الحقيقة الإلهية الحتمية ... كما يجتمع النفي في آية الأنعام المتقدمة مع الإثبات في آية الحجر { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9" ليظهر السياج الإلهي المتين الذي حفظ لفظ القرآن الكريم من أن يطرأ عليه أدنى تغيير، أو أن تعتريه شائبة تطوير من ساهٍ أو من متعمد .
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ... } " الأنعام /115".(1/9)
... وإذا كان اللفظ هو سبيل المعنى فإن أداء اللفظ هو سبيل إخراجه، وإبانتُه هو طريق إدراكه، فالقدح في اللفظ قدح في المعنى، والخلل في أداء اللفظ خلل في اللفظ ذاته. فقد اجتمع من هذا الارتباط: أهمية كل واحد من الثلاثة (المعنى، اللفظ، أداء اللفظ) للآخر، وشدة تعلق كل بالآخر، والمُطَلُّعُ على مفاهيم اللغة، ودلالات الألفاظ، يعلم اعتراء التغير فيها بمجرد تغير أدائها، فكيف تغير لفظها؟ (1) .
... وكانت الجهود الكثيفة التي وجهت للاعتناء بلفظ القرآن الكريم ، وطريقة أدائه مكونة الإطار الواقعي لحقيقة الحفظ الإلهي قد بدئت من لدن جبريل - عليه السلام - الذي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أضرب الوحي يقدمها الوحي القرآني، وبقيت هذه الجهود متتابعة إلى أيامنا، نقلاً للفظ القرآن، وطريقة أدائه، وهيئات ضبطه، وسبل رسم ألفاظه، ودروب الوقف والابتداء في آياته، وعدد تلك الآيات، وأزمنة حفظه، ومراجعته، وقراءته، وإقرائه ... وهذه ونحوها جهود من حيث المحافظة على اللفظ .
__________
(1) وهذا على تفصيل في أنواع الأداء؛ إذ منه ما يرجع إلى الصفات الذاتية للفظ، فلا يستقيم اللفظ بدونها كالاستعلاء، والاستفال، والجهر، والشدة ... ومنه ما يرجع إلى الصفات العارضة كالتفخيم، والترقيق، والفتح، والإمالة؛إذ هي راجعة إلى الاستعلاء، والاستفال ... فلا يتأثر أصل اللفظ بأدائه هنا، بل إن الدراسات الصوتية، والملاحظات العابرة لهيئات أداء الكلمات، ونطق الجمل، قد أثبتت تغير المعنى بتغير الهيئات الفرعية للأداء، كتغير النبر، وهو من الهيئات الموغلة في الفرعية من حيث نطق الألفاظ، انظر: د. يوسف الخليفة أبو بكر: البحث التربوي واللغوي في مجال تعليم القرآن الكريم، بحث منشور في مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، العدد الأول، ذو القعدة 1415هـ .(1/10)
وأساس الأسس في الأدوات الواقعية للمحافظة على اللفظ وأدائه هو المشافهة (التلقي) ... وما زال المسلمون يقررون –لذلك- أن القراءة سنة يتلقاها الآخر عن الأول (1) ، لا يدخلها اجتهاد بشري، ولا قياس عقلي، ورسخ فيهم ذلك حتى صار معلوماً من الدين بالضرورة، فاتفقوا على أن أول شروط نقل القرآن التلقي المسنِد من الشيخ إلى الطالب، وإن اختلفوا في بقية الشروط بعد ذلك، وأصل أصول هذا التلقي: هو التلقي الذي نقل القرآن من السماء إلى الأرض، وهو تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - عليه السلام - ، ودراسته تضع الدارس على أصل أصول الأسس المنهجية في الهيئة التعليمية لألفاظ القرآن الكريم، وتمكنه من تحليل ما يتناقله المسلمون من تلك الهيئات .
__________
(1) انظر لمعرفة بعض الآثار الدالة على ذلك: (ابن الجزري) أبو الخير محمد بن محمد بن محمد: منجد المقرئين ومرشد الطالبين ص20-دار زاهد المقدسي، تفضل بقراءته بعد طبعه: الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ أحمد محمد شاكر .(1/11)
... لذا استحق هذا الموضوع الجليل إفراده بالبحث والدراسة ليُعْلم من خلاله كيف كان تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - ، وكيف كان أداء جبريل - عليه السلام - لتلك الألفاظ عند تعليمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "النمل/6" (1) ؛ ومن أهم دواعي ذلك غير الاطمئنان السابغ على حقيقة الحفظ الإلهي لألفاظ القرآن الكريم أن تُتَخَذ التفصيلات المنهجية في طريقة تلقين جبريل - عليه السلام - سبيلاً منهجياً في الخطة التعليمية لألفاظ القرآن يُرْجَعُ إليها، ويُتَحاكَمُ عند الاختلاف إلى مُتَضَمَناتِها، ما دامت موضوعة ضمن دائرة الأسوة والطاقة البشرية.
__________
(1) راجع: (الطاهر بن عاشور): التحرير والتنوير 19 / 223، لم تذكر الطبعة، ولا الناشر، و (الآلوسي) محمود شكري البغدادي ت1270هـ: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 19/237، دار الفكر، بيروت، 1417هـ 1997م– قرأه وصححه: محمد حسين العرب؛ إذ رجحا ككثير من المفسرين أن المُلْقِي المراد في الآية هو جبريل - عليه السلام - وأن صفتي العلم والحكمة إليه ترجع .(1/12)
ويصبح طرق هذا الموضوع في حيز الضرورة في آنٍ تعالت فيه أصوات الانهزام أمام الضغط الثقافي المستعلي الوافد، فنادت بعدم التزام اللفظ، وأنكرت التزام الأداء من حيث الأصل (1) ، بل حاولت فيها أن تجعل القرآن كأي بناء لغوي منطوق يُكَوِّن صورة أدائية، تتغير بتغير الزمن، ولا يعوق هذا التغيير عوامل التقديس (2) ... .
فهاهنا أصلان استلزما البحث في هذا الموضوع:
إيجابي: وهو معرفة أصل أصول الأسس المنهجية في الخطة التعليمية لألفاظ القرآن الكريم، والتأكيد الواقعي لحقيقة الحفظ الإلهي لألفاظ القرآن الكريم وأدائه .
سلبي: وهو التأكيد على المتَضَمَنات الذاتية التي ضمتها عملية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - مما يظهر معها تهافت أي طرح غريب في ميدان تلقي اللفظ القرآني .
__________
(1) انظر: مثال ذلك في كتاب: الفرقان لمن رمز لاسمه بابن الخطيب، وهو محمد محمد عبد اللطيف، الطبعة لم تذكر –دار الكتب العلمية – بيروت، وقد طبع هذا الكتاب، ومما زعمه أن القرآن حفظ بمعناه لا بلفظه، وأن القرآن لا يجب تلقيه من القراء، فأصدر شيخ الأزهر بعد طبعه قراراً بتشكيل لجنة من ثلاثة من العلماء لمناقشة ما جاء فيه، فوضعت اللجنة تقريرها المتضمن ذكر أباطيله عام 1948م، وصودر الكتاب، واختفى من أيدي الناس على أن مصيره كان الإهمال قبل ذلك، وهو كذلك بعد ذلك . وانظر: غانم قدوري الحمد: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية، ط1، 1402هـ – 1982 م، ص212 .
(2) انظر: (عرجون) الشيخ محمد الصادق (عميد كلية أصول الدين):بحث علمي لنقد مزاعم حول قراءات القرآن في رسالة: (أصوات المد في القرآن الكريم) بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية،، جامعة الأزهر، اتحاد الطلاب بكلية أصول الدين، اللجنة الاجتماعية 1386هـ – 1966م .(1/13)
... اقتضى ذلك كله أن تُدْرَسَ –بالتفصيل- هيئة إلقاء جبريل - عليه السلام - ألفاظ القرآن الكريم، وهيئة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وتُقَعَّدَ قواعِدُها، وتُبَيَّين محكماتُها؛ إذ ذلك أصل أصول الكليات العلمية الإسلامية، كما هو قاطع لمختلف الأقوال، ومتنازَع التأويلات في الجوانب التي تُتَعلم في القرآن الكريم من حيث لفظه، ودخول طريقة أدائه في ذلك التعليم.
ويلاحظ في منهج البحث ما يلي:
1-الجمع بين الأقوال المختلفة في اللفظ عند عدم التنافي، مع دلالة السياق، أو غيره على إرادة الجمع (1) ، وذلك عند بحث مسائل الكتاب العلمية ... وما حال كثير من الأقوال الواردة في المسألة الواحدة إلا كما قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي-رحمه الله تعالى-: "إذا تعددت الجهات زال التدافع، وذهب التنافي، وأمكن الجمع" (2) .
2-قد يسمي الباحث بعض النصوص بتسمياتٍ خاصة من حيث تعلقها بالبحث نسبة وتمييزاً واختصاراً، اجتهاداً منه لا لنص خاص ورد فيها، كالتسمية بآية طه، فيرجع عند الإحالة إلى الآية المخصوصة التي وردت في ثنايا البحث من سورة طه، ولا تكون التسمية إلا لما تكرر دورانه في البحث .
__________
(1) وهو نهج المحققين من العلماء، انظر مثلاً: (ابن القيم) أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُرعي (691هـ -751هـ): تهذيب مدارج السالكين1/ 39، عند الكلام على قوله تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ... } " النحل /76"، ط5، 1414-1994م، وهذبه: عبد المنعم صالح العلي العزي - مؤسسة الرسالة، بيروت .
(2) (الشاطبي) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الللخمي ت790هـ: الموافقات في أصول الشريعة 1/313، توزيع عباس أحمد الباز، الطبعة لم تذكر .(1/14)
3-يكرر الباحث استعمال عبارة: (كما هو المعمول به عند المسلمين) في أدق الدقائق في نقل لفظ القرآن الكريم، وتلاوته كمسألة كيفيات الترتيل، أو الوقت المستغرق للمد أو الغنّ ... تحقيقاً لأمرين:
أ ليكون دليلاً عملياً متواتراً عاماً يأخذ صفة نقل الأمم عن الأمم، ويقمع زَبَدَاً من الأفكار التي تحاول الطفو في واقع المسلمين، زاعمة أن أسلوب نقل القرآن إنما هو اجتهاد من بعض القراء لا غير؛ إذ إيقاف المتقول أمام هذه الحقيقة الصارخة يجعله أمام أمرين لا بد له من أحدهما:
... إما التسليم بذلك ونبذ فكرته، وإما معارضتها بدليل يبرزه، وهو أسلوب في الحوار مأخوذ من مفهوم قوله تعالى { ... قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم إن كنتم صادقين } "النمل/64" ... .
ب ليستبين به مقدار الحفظ الإلهي لكتاب الله الكريم على هيئة إجماعية للأمة في كل ما يتعلق باللفظ القرآني، حتى في أدق التفاصيل، وهو أمر يدعو للدهشة ليس له تفسير إلا أن الحفظ للكتاب الكريم إلهي .
4-ولأن الكلام في هذا البحث دائر حول أمر سمعي لا عقلي، فالشأن فيه يرجع إلى النقل، ومجال العقل الاستنباط وفق قواعد وأصول الاستنباط، ولذا يلتزم الباحث بإيراد نصوص القرآن الكريم وصحاح عند الاستدلال للحقيقة أو تقعيد القاعدة فيما يتعلق بالموضوع، ولكن قد يرد –في النادر-حديث ضعف عند بعض صيارفة الحديث فيما كان سبيله الاستئناس لا التقعيد والتأصيل ... وهذا منهج مقبول على تفصيل معلوم عند علماء الحديث وأصول الفقه .
الهيكل العام للبحث:
يتكون البحث من خمسة فصول:(1/15)
ووجه هذه القسمة: أن (تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن) يستلزم الإحاطة العلمية بـ (التلقي)، و(المتلقي) وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و(المُلْقِي) وهو جبريل - عليه السلام - ، و(المُلْقَى) وهو القرآن، و(الخاص من ذلك، وهو ألفاظ القرآن) ... فتلك خمسة محاور، تُفَصَّلُ في خمسة فصول إيماء وإشارة، أو تبيناً بالقصد الأصلي، وصريح العبارة، وبيان ذلك أن يقال:
لما كان البحث دائراً حول كيفية تعليم جبريل - عليه السلام - ؛ فقد لزم أن تعرف مؤهلات المعلم من حيث هو معلم خاص من عالم غيبي؛ فتظهر من خلال ذلك صورة تفرغه لهذه المهمة الجليلة، وجدارته القائمة على إعداده الإلهي، واستعداده الخَلْقِي، والخُلُقِي (المهاري)؛ فكان الفصل الأول منعقداً لهذه الغاية، وعنوانه: مؤهلات المعلم.
ولأن المعلم الملقي ينتمي من حيث جنسه إلى عالم الغيب بالنسبة للبشر، وذا يقتضي عدم قدرة الإنسان في أحواله الطبيعية على الالتقاء بعالم غيبي أو الاتصال به؛ فقد لزم أن يُعْلَمَ تفصيل السبل التي جعلت الاتصال بين المعلم جبريل - عليه السلام - والمتعلم وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - ميسوراً بل أكثر يسراً من اتصال البشر بالبشر ... فتخبت عند ذاك قلوب الذين أوتوا العلم بأن جبريل - عليه السلام - كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل لحظة زمانية، في أي حيز مكاني ليؤدي مهمته التعليمية إنشاءً، أو متابعة ... وذلك مفصل في الفصل الثاني، وعنوانه: اتصال جبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي القرآني .(1/16)
ولما كان ما سبق تقدمةً لغاية البحث الأساسية: وهي بيان أوجه تعليم جبريل - عليه السلام - لفظ القرآن، ومتعلقات ذلك؛ وتلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن منه، فقد كان الفصل الثالث منعقداً لتلك الغاية، وعنوانه: هيئة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - بما يحتويه من مباحثه التسعة .
وإذ توجد في كل موضوع جوانب تقرب من محور البحث عَرَضَاً أو غَرَضَاً؛ فقد كان الفصل الرابع منعقداً لهذه الغاية، وعنوانه: الأصول العامة في تعليم جبريل - عليه السلام - القرآن من حيث اللفظ، وهو يرمي لتحقيق هذا الهدف لا لغيره، كما أن فيه بيان لمظاهر الصحبة المتميزة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والارتباط الوثيق بينهما، والعلاقة الحميمة التي تمثل أوج الروابط بين مقرئ ملقي، وقارئ متلقي .
ولأن محور البحث وهو (التلقي) قد يجابه بجملة انتقادات في دقته، أو بقدحٍ في هيئته، ويُرَشِّح ذلك غرابة الاتصال بين مخلوقين من مستويين فيزيائيين مختلفين، وخصوصيته بين طرفي العملية التعليمية التلقينية؛ فقد انعقد الفصل الأخير لمعالجة جانب السلب في موضوع البحث، بعد أن سبقته الفصول الأربعة بمعالجة جوانب الإيجاب فيه، ولذا كان الفصل الخامس، وعنوانه: دمغ الباطل، وفيه يذكر الباحث بعض الشبهات المقدوح بها في دقة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم، دامغاً باطلها بحقائق التلقي اليقينية التي حفت العملية التعليمية بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبريل - عليه السلام - ، ولذا فتناولها سيكون من هذه الزاوية لا غير.(1/17)
ولأن البحث دائر حول منهج يُعلَّم ويُتعلم تلقياً فقد أُلحق بالبحث مناقشة علمية حول ماهية المنهج المتلقى (القرآن الكريم) من حيث حدوده اللفظية كنوع من المعرفة لمذاهب العلماء حول الحدود الفاصلة في تعريف القرآن الكريم، وللتأكيد على أن اختلاف ألفاظهم في تعريفه ... إن هو إلا زيادة تأكيد منهم على بدهية حدوده اللفظية عند المسلمين، والمنهج التلقيني في تعلمه وتعليمه ليُعلَم أن التلقي صفة ذاتية للقرآن الكريم .
وقد حذف الباحث من هذه الطبعة بعض المباحث، والتراجم، والحواشي التي لم يرها ضرورية في النشر العام (1) ، وكانت من أصل الرسالة، كما أن الباحث يعتذر عن الطبيعة الجدلية التي كانت تسوق إليها طبيعة المسألة المبحوثة سوقاً، كما عمد إلى تزكية الجو العلمي للبحث بجمل أدبية في آخر كل مرحلة من مراحل البحث التي عبرت عنها الفصول والمباحث .
ومن الله –وحده-يُلتمس التوفيق والسداد،
والحمد لله رب العالمين .
الفصل الأول
مؤهلات المعلم المُلقي
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }
يتألف هذا الفصل من مقدمة وأربعة مباحث:
فالمقدمة لبيان جلية الأمر في ألفاظ القرآن الكريم وأنها ألفاظ رب العزّة - سبحانه وتعالى - وكلامه، وليس لجبريل - عليه السلام - فيها سوى صفة المُرْسَل المُعلِّم، وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها سوى صفة المُرْسَل المبلِّغ .
والمبحث الأول يتكلم عن أهمية الحديث عن موضوع جبريل - عليه السلام - في بعده التاريخي وأهدافه المنهجية .
__________
(1) أصل هذا البحث رسالة علمية قدمت لنيل درجة التخصص الأولي (الماجستير) من قسم التفسير وعلوم القرآن في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في السودان تحت إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور/أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم سابقاً ومستشار الرئاسة لشؤون التأصيل، ونالت درجة ممتاز مع التوصية بطباعتها .(1/18)
والمبحث الثاني يفصل صفات جبريل - عليه السلام - التي صار بموجبها جديراً بتحمل الوحي القرآني، وتعليمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - في طبيعته الخَلقية، وسجاياه الخُلقية .
والمبحث الثالث يتحدث عن كون جبريل - عليه السلام - هو المختار الوحيد من بين الملائكة ليكون أمين وحي الله - عز وجل - لأهل السماء .
والمبحث الرابع يتحدث عن نتيجة ذلك وهو أن جبريل - عليه السلام - هو الأمين على وحي الله - عز وجل - لأهل الأرض، كما يتكلم هذا المبحث عن المقتضى المنهجي لذلك، وهو سد ذريعة القدح في الوحي .
مقدمة:
مَن الموحِي بالقرآن ؟ مَن المتكلم به ؟:
وهي أهم مسالة منهجية يرتكز عليها البحث على الرغم من صغر الحيز المحدد لها، ولن تجيب الدراسة على هذا السؤال بل إن الإجابة التي في القرآن الكريم كافية بعد اطراح ما اعترى علماء الكلام من خلل ودخل؛ إذ يقول الله تعالى: { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } "الشورى/3"، وحسبك عظمة أن المتكلم بالقرآن هو الله الذي من عظمته { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } "الشورى/5"، فليس لأعلى رجل في البشر وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار قطمير فيه { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } "الشورى/52"، ويبقى بعد ذلك تحديد أطر المحافظة على القرآن بعد وصوله إلى البشر ليبقى متلواً كما تكلم به الله، ومقروءاً كما أنزله الله، بما أنزله الله لفظاً وأداء، لم يطرأ عليه تغيير لفظي، ولم يشبه زيف من تطوير لغوي، أو تحريف لهجي إلا في الحدود التي أرادها الله –تعالى ذكره-.(1/19)
وأول هذه الأطر: أن الذي تولى أمر المحافظة عليه هو الله - سبحانه وتعالى - منزِله كما قال تعالى مثبتاً الحفظ { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9"، وقال - عز وجل - نافياً طروء أدنى تغيير { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } "الأنعام/115"، فهذا في كلامه من حيث هو كلام مقول، وأما فيه من حيث هو كلام مكتوب فقد قال –جل ذكره- إثباتاً للحفظ ونفياً لإمكان التغيير: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } "فصلت/41-42".
والحفظ هنا ينصرف انصرافاً أولياً إلى حفظ الألفاظ؛ لأنه قد عُلم أن المعنى غير منضبط إلا بضبط لفظه له، فحفظ اللفظ مقتضٍ لحفظ المعنى، وحفظ المعنى مستلزِم لحفظ اللفظ. ٍ
وإذا كان ذلك كذلك، فما نوع نسبة القرآن في قوله-تعالى ذكره- { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم } "الحاقة/40، التكوير/19" ؟ .(1/20)
لا يشك من له علم في كلام العرب، وتصاريف أنواع خطابه، بل من يعاصر الأقوام في عاداتهم الكلامية أن النسبة إلى جبريل - عليه السلام - نسبة أداء، لا نسبة إنشاء، وهو لازم وصفه بالرسالة؛لأنه واسطة فيه، وناقل له عن مُرْسِله، وهو الله – تعالى ذكره -؛إذ إضافة القول إلى الرسول إنما هو لأدنى ملابسة لأن جبريل - عليه السلام - يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحكيها كما أمره الله - عز وجل - ، فهو قائلها أي صادرةٌ منه ألفاظُها، لا أنه منشئ ألفاظِها، لذا قال القرطبي -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة التكوير: "وأضاف الكلام إلى جبريل - عليه السلام - ثم عداه عنه بقوله { تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } "الحاقة/43"؛ ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله - عز وجل - " (1) ، وبذلك صرح سائر العلماء (2) ،
__________
(1) (القرطبي) أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/240، 1405هـ - 1985م، دار إحياء التراث العربي - بيروت .
(2) انظر: تفسير الجلالين، وبهامشه حاشية الصاوي 4/389، دار الفكر بيروت1414 هـ - 1993م، قدم له وأشرف على تصحيحه: صدقي محمد جميل، والتحرير والتنوير 30/155، مرجع سابق، وروح المعاني30/104 ..(1/21)
فقوله تعالى { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } "التكوير/19" معناه لقول الرسول أي لقوله المبلغ له عن الله - سبحانه وتعالى - ، فقرينة ذكر الرسول تدل على انه إنما يبلغ شيئاً أرسل به؛ فالكلام كلام الله - سبحانه وتعالى - : ألفاظه، ومعانيه، وجبريل - عليه السلام - مبلغ عن الله، وبهذا الاعتبار نسب القول له (1) .
فنسبة كلام الله –تعالى ذكره- لجبريل - عليه السلام - نسبة أداء (أي تبليغ الرسول ما أمره الله - سبحانه وتعالى - بتبليغه) لا نسبة إنشاء.
وكذلك يقال في آية الحاقة بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فالنطق نطق القارئ، والكلام كلام الباري، كما يُقال هذا قرآن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أو قرآن على بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، أو قراءة فلان ... عنوا به أنه خارج بصوته لا أنه كلامه .
المبحث الأول:
أهمية موضوع تعليم جبريل - عليه السلام - :
... يتحدث هذا المبحث عن أهمية موضوع تعليم جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - في إطاره التاريخي، وتعلق ذلك بألفاظ القرآن الكريم، وما تحققه دراسة هذا الموضوع من أهداف؛ ذاك بأن هذا الموضوع هو الوجه الآخر لموضوع تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - .
ويتألف هذا المبحث من مطلبين:
المطلب الأول: البُعد التاريخي والموضوعي للاهتمام بهذا الموضوع .
المطلب الثاني: أهداف دراسة هذا الموضوع .
__________
(1) (الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد المختار الجكني: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 7 /703، عالم الكتب - بيروت، فالقول الذي ينزل به على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس قوله من حيث الحقيقة كما تقدم، بل يأخذ فيه صفة الرسالة، قال في التحرير والتنوير 30/155، مرجع سابق: " وفي التعبير عن جبريل يوصف رسول إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي " .(1/22)
المطلب الأول: البُعد التاريخي والموضوعي للاهتمام بهذا الموضوع:
إذا كان جبريل - عليه السلام - هو الذي بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم، وعلمه إياه فإن جبريل - عليه السلام - قد جُعل بأمر الله شيخاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعلماً له بصريح قوله - سبحانه وتعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/ 5"، فقد بات حتماً على متتبعي علوم القرآن الكريم أن يتتبعوا تفصيلاً كيفية تعليم جبريل - عليه السلام - القرآن الكريم؛ إذ يأخذ حيز الأهمية الأولى في دراسة العلوم الإسلامية الشرعية، ومن هاهنا اهتم العلماء بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً، فإن كان الأمر كذلك؛ فليس الباحث بدعاً في اهتمامه بذا الموضوع، بل كان هذا الموضوع كما لم يزل على رأس قائمة المفردات العلمية والشرعية التي يمارس درايتها أولوا النهى من المسلمين فضلاً عن أرباب الحجى من العلماء.
وأول من أثاره: الصحابة تعبدًا وازدياداً في طمأنينة قلبٍ، فقد روت عائشة-رضي الله تعالى عنها- أن الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله، فقال: يا رسول الله ! كيف يأتيك الوحي؟ ... الحديث (1) .
قال السندي-رحمه الله تعالى-:"ظاهره أن السؤال عن كيفية الوحي نفسه، لا عن كيفية الملك الحامل له، ويدل عليه أول الجواب، لكن آخر الجواب يميل إلى أن المقصود بيان كيفية الملك الحامل، فيقال يلزم من كون الملك في صورة الإنسان كون الوحي في صورة مفهوم مُتَبَيَّن أول الوهلة، فبالنظر إلى هذا اللازم صار بياناً لكيفية الوحي، فلذلك قوبل بصلصلة الجرس، ويحتمل أن المراد للسؤال عن كيفية الحامل أي كيف يأتيك حامل الوحي" (2) .
__________
(1) يأتي بتمامه -إن شاء الله تعالى- في الفصل الثاني- المبحث الثالث .
(2) (السندي) أبو الحسن نور الدين عبد الهادي ت 1138هـ: حاشية السندي 2/150، مراجعة: عبد الفتاح أبو غدة، 1406هـ –1986م، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب .(1/23)
ولم تنقله عائشة-رضي الله تعالى عنها-ثم من بعدها إلا لجلالته عندهم، فليست المسألة فضول قول، ونافلة كلم .
وقد قال الواقدي -فيما حكاه عنه ابن سعد-: "حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فورد المدينة فقال ليحيى بن خالد: ارتد لي رجلاً عارفاً بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أي وجه كان يأتيه ... " (1) .
وجعل ابن حبان -رحمه الله تعالى-مسألة بدء الوحي وكيفية تلقيه أول أنواع يحتاج إلى معرفتها من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قال: "وأما أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عما احتيج إلى معرفتها، فقد تأملت جوامع فصولها، وأنواع ورودها، لأسهل إدراكها على من رام حفظها، فرأيتها تدور على ثمانين نوعاً: النوع الأول: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن بدء الوحي وكيفيته ... " (2) .
بل هو رأس المفردات الأصولية، ويظهر هذا في صنيع الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه؛ إذ جعل كتاب بدء الوحي أول كتب الصحيح، وإنما فعله دليلاً على المنهج العلمي المسلوك عند المسلمين في عد العلوم النافعة، مما يُطَمْئِنُ إلى صواب هذا الفقه في أهمية موضوع جبريل - عليه السلام - . وفي وصف ابن عباس - رضي الله عنه - لقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - إثر تعليم جبريل - عليه السلام - له بأنه (قرأه –أي القرآن- كما قرأه) داعٍ للعلماء عموماً، وللمتخصصين في علوم القرآن خصوصاً ليتعرفوا على كنه تعليم جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من حيث لفظه؛إذ يتوقف عليه معرفة هيئة نقل أصل الأصول الإسلامية.
__________
(1) (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168هـ - ت 230هـ): الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت .
(2) (ابن حبان) محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي ت354هـ: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 1/131، مراجعة: شعيب الأرناؤوط، 1399هـ- 1979م، مؤسسة الرسالة، بيروت .(1/24)
وما للتعليل لأهمية هذا المبحث يذهب هذا المذهب في الاستدلال على أمر وضوحه جلي كالشمس، وقد كان كافياً ما يظهر من كثرة الآيات التي تتحدث عن جبريل - عليه السلام - وتعليمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن دليلاً على صحة هذا المرام ؟ .
المطلب الثاني: أهداف دراسة هذا الموضوع:
تحقق دراسة تعليم جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الأهداف التالية:
1- غرس الاهتمام بالأصول الكلية في هذه الشريعة المطهرة؛ إذ عنها تنبثق بقية جزئياتها، ولذا تكرر موضوع تعليم جبريل - عليه السلام - ألفاظ القرآن في القرآن، حتى ذكر إنزال القرآن على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرتين، وهي جزئية صغيرة من جزئيات هذا الموضوع، مع أن الوضوء بجميع متعلقاته من حيث هو وضوء لأهم ركن عملي في الإسلام لم يذكر في القرآن إلا مرة واحدة .
2- بيان الطريقة المنهجية التي علم بها جبريل - عليه السلام - ، وتعلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن، وتأصيلها، ثم اتخاذها منهجاً في تعلم ألفاظ القرآن، ما دامت في حدود الطاقة البشرية الفردية، وتوزيعها على الأمة إن استدعى صبغها بالجماعية .
3- الاستشعار النفسي لما اعترى عملية نقل الكلام الإلهي القرآني من السماء إلى الأرض من مُثَبِتاتٍ للحفظ، ومؤيدات لمنع شوائب الدخل، وهذا يكون مقدمةً لرفع الإجلال الذاتي المصبوغ بالصبغة العقائدية في نفس المسلم لكلام الله - عز وجل - .
4- أن تحاول الأمة بمجموعها جعل جهودها لحفظ كتاب الله أداة من الأدوات الواقعية لحقيقة الحفظ الإلهية تقارب ما بذله طرفا الاتصال السماوي والأرضي لأجل ذلك، وكما رعى الله –تعالى ذكره- طرفي الاتصال في هذا السبيل سيرعى الله - عز وجل - الأمة في السبيل ذاته ... وقد فعل - سبحانه وتعالى - .
المبحث الثاني:
صفات جبريل - عليه السلام - :(1/25)
سيقتصر الباحث هاهنا على الصفات التي ترتبط بموضوع البحث، وهي الصفات التي حبا الله بها جبريل - عليه السلام - ليقوم بهذه المهمة الجليلة، وهي ما أعده الله - عز وجل - فيه من السجايا الخَلْقِية والخُلُقية من حيث أنه الرسول الذي يحمل الوحي، ويعلمه للرسول الذي يعلمه لأهل الأرض، وكلامنا عن هذه الصفات مقتصرٌ عليها من حيث أن جبريل - عليه السلام - هو الناقل للقرآن من السماء إلى الأرض، وينقسم هذا المبحث إلى مطلبين من حيث عودة هذه الصفات إلى الطبيعة الخَلقية، أو إلى السجايا الخُلُقية، وقد يتداخلان:
المطلب الأول: صفاته من حيث طبيعته الخَلْقية:(1/26)
1-عظمة الخلقة: فعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: يا محمد كيف يأتيك الذي يأتيك ؟ يعني جبريل - عليه السلام - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر) (1) ، ويؤيده: ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (رأيت جبريل - عليه السلام - عند سدرة المنتهى وعليه ستمائة جناح ينثر من ريشه تهاويل الدر والياقوت) (2) .وتهاويل الدر والياقوت قال ابن الأثير –رحمه الله تعالى- في تفسيرها: "أي الأشياء المختلفة الألوَان، ومنه يقال لما يخرج في الرِّياض من ألْوان الزَّهر التَهَاويل، وكذلك لما يُعَلَّق على الهَوادِج من ألوان العِهْنِ والزِّينة، وكأن واحِدُها تَهوال، وأصلها مما يهول الإنسان ويُحيّره" (3) .
__________
(1) (ابن أبي عاصم) أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني ت287هـ: الآحاد والمثاني 3/456، مراجعة: د. باسم فيصل أحمد الجوابرة، 1411هـ –1991م، دار الراية الرياض.
(2) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان14/337، مرجع سابق، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: " إسناده حسن " .
(3) (ابن الأثير) المبارك بن محمد بن محمد بن عبدالكريم أبو السعادات الجزري ت606هـ: النهاية في غريب الأثر 5/282، النهاية في غريب الأثر تحقيق: طاهر أحمد الزاوي و محمود محمد الطباخي، 1399 هـ – 1979م، دار الفكر -بيروت.(1/27)
ولجبريل - عليه السلام - القدرة على التشكل إلى أجسام أخرى، ولكنه كان أكثر ما كان يأتيه في صورة الصحابي الجليل (دِحْية الكلبي) ... فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (عرض علي الأنبياء ... ورأيت جبريل، فإذا أقرب من رأيت شبهاً دحية بن خليفة) (1) ، وإنما جُعِلت هذه الصفة أول الصفات لارتباطها بالقدرة التي أودعها الله في جبريل - عليه السلام - ليأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعلمه القرآن بإطلاق الزمان والمكان، وعلى أي هيئة كان، وتأتي أمثلة على ذلك -إن شاء الله تعالى- (2) .
وهل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى جبريل - عليه السلام - في خلقته الأصلية دائماً ؟ .
__________
(1) صحيح مسلم 1/153، مرجع سابق، وراجع: (الدينوري) عبد الله بن مسلم بن قتيبة ت276 هـ: تأويل مختلف الحديث، مراجعة: محمد زهري النجار، 1972م – 1393هـ، دار الجيل –بيروت، ففيه ردٌ على من استنكر وجود خلق له قدرة على التشكل، وقد أُتِيَ هذا المستنكِر مِنْ كِبْرٍ في نفسه ما هو ببالغه، وأول كلام ابن قتيبة –رحمه الله تعالى-: "ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه، إلا لردهم الغائب عنهم إلى الحاضر عندهم، وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم، ومن الحيوان، والموات، واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين ... " .
(2) انظر: الفصل الثاني- المبحث الثاني.(1/28)
الجواب: لم يره كذلك إلا مرتين فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة-رضي الله تعالى عنها- مرفوعاً: (لم أره يعني جبريل - عليه السلام - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين) (1) ، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خُلِق عليها، والثانية عند المعراج (2) .
والأمر لا يستدعي البحث بدقة في عدد المرات التي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها جبريل - عليه السلام - ؛ إذ المراد بيان أن رؤيته لجبريل - عليه السلام - مرة تحقق جملة أمور من حيث نقل القرآن:
منها: إيقاع الطمأنينة في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - برؤيته لعظيم قدرة الله - عز وجل - تتجلى في جبريل - عليه السلام - من جهة، ومن جهة أخرى لطمأنته، وتثبيت قلبه على قدرة جبريل - عليه السلام - على نقل القرآن، وتبليغ رسالة ربه دون توانٍ، وزادت هذه الطمأنينة تأكيداً برؤيته له مرة أخرى .
ومنها: دفع توهم أن الذي يأتيه شيطان لا من قلبه فقط، بل من قلب غيره .
__________
(1) مسلم 1/153، مرجع سابق .
(2) (ابن حنبل) أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ت241 هـ: مسند الإمام أحمد 3/120 ـ مؤسسة قرطبة- مصر . وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة -رضي الله تعالى عنها -: (لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد) .(1/29)
2- أنه مَلَك: والمَلَك واحد الملائكةُ، وهو في الأصل جمع مَلأكٍ ثم حُذفَتْ همزتُه لكثرة الاستعمال فقيل مَلَكٌ، وقد تحذفُ الهاء فيقال مَلائِك، وقيل أصلُه مَأْلَكٌ بتقديم الهمزة من الألُوك الرسالة، ثم قدِّمَت الهمزة وجُمع (1) ، فالرسالة طبيعة ذاتية ملازمة لكون الملك ملكاً، وهذه الرسالة هي ما يصدر إلى الملائكة من أوامر فيؤدونها أدق أداء، وأتمه؛ لأن الرسالة طبيعة ذاتية فيهم، وليس يخفى أن هذه هي أولى وسائل اليقين في نقل القرآن، إذ كون الرسالة طبيعة ذاتية في الملائكة يستلزم: الأمانة في نقلها، وإتقان النقل، ويعضد هذا أنهم المختارون ليكونوا وسائط بين الله - عز وجل - وخلقه، ولذا فقوله تعالى { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } "الأنبياء/27" إيضاحٌ لحال الملائكة، وليس بتأسيس لصفة جديدة بعد نعتهم بالملائكية، واقتضى هذا الإيضاحَ دحضُ تخرصات الشرك وأهله في طبيعة الملائكة .
__________
(1) النهاية في غريب الأثر 4/358، مرجع سابق، وفيه: "وفي حديث جرير: عليه مَسْحَةُ مَلَكٍ، أي أثَرٌ من الجمال لأنهم أبداً يصِفُون الملائكَةَ بالجَمالِ". وهذه صفة خَلْقية أخرى إلا أنه لا يتعلق بها كبير أمر هنا .(1/30)
3- الروح: وقد وردت هذه اللفظة على خمس معانٍ في القرآن الكريم (1) ، ولا خلاف ين المفسرين وغيرهم في أن المراد بها في قوله تعالى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ } "الشعراء/194" هو جبريل - عليه السلام - (2) ، ويسمى جبريل - عليه السلام - روح القدس لأنه خُلِق من طَهارة (3) .
وهذه الصفة الجليلة لجبريل - عليه السلام - ورد مدحه بها في معرض التأكيد على سلامة نقل القرآن، وبيان خصائص لفظه من سورة الشعراء، وذلك دالٌ على مبلغها من جلالة القدر في نقل القرآن من السماء إلى الأرض، ولعل من أسرارها في هذا الباب أن الروح فيه معنى الحياة والحركة، ويومئ ذلك إلى أن تلقي جبريل - عليه السلام - للقرآن من الله - سبحانه وتعالى - تلقٍ حي لا يعروه شائبة كسل، أو موات؛ إذ كون الناقل مخلوقاً واحداً وهو جبريل - عليه السلام - مدعاة لأن يشكك في نقله أقوام اعتادوا الجدل وألفوه .
__________
(1) (ابن القيم) شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي، الروح لابن القيم ص206 - عالم الكتب بيروت، وذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- نقلاً عن ابن التين في معنى لفظ الروح حيث ورد في القرآن الكريم تسعة معان، وأما حقيقتها فقد ذكر أنهم اختلفوا فيها على أكثر من مائة قول، وذا تكلف جلي فيما لا طائل من تحته .
(2) وعند (ابن سعد) أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري الزُّهري (168- 230): الطبقات الكبرى 194/1، دار صادر -بيروت: عن قتادة في قوله تعالى { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } "البقرة/87" قال: "هو جبريل".
(3) النهاية في غريب الأثر 4/23، مرجع سابق .(1/31)
ويزيد هذا المعنى إيضاحاً أن لفظة (روح) لا ترد في القرآن الكريم إلا للأمور التي استأثر الله - عز وجل - بها بأحد أنواع الاستئثار علماً (كروح الإنسان)، أو قولاً (كالقرآن) ... ولذا ذكر الله - سبحانه وتعالى - خلق آدم، وعَظَّم خلقه عندما بين أنه نفخ فيه من روحه { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } "ص/72" وهي المنقبة التي يذكرها له الناس يوم القيامة في حديث الشفاعة الكبرى ... وهذا يثبت ما ذُكِرَ من علاقة سلامة نقل القرآن من السماء إلى الأرض، ودقة نقله كما قاله الله - عز وجل - ، بوصف جبريل - عليه السلام - بالروح .
كما أن من أهم مقتضيات كونه روحاً: إمكانية الاتصال المطلق، مع خفاء ذلك على من حوله، وذاك يمكنه من المجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يشعر به أحد، وذلك لأن الروح تطلق على ما خفي (1) .
4- السرعة والفورية في النزول بالوحي القرآني: حتى لو كان جبريل - عليه السلام - نازلاً بهيئته الشديدة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك عند الاقتضاء إنشاء أو استدراكاً، وهذه الصفة إحدى التطبيقات للصفات الأخرى كالقوة، والأمانة، وليُذكر ها هنا نموذجان عن هذه السرعة من حيث البلاغ العام، والبلاغ القرآني:
__________
(1) انظر: المبحث الثاني من الفصل الثاني .(1/32)
فنموذج البلاغ العام: ما قاله صهيب - رضي الله عنه - :(يا رسول الله! ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل) (1) .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين3/452، مرجع سابق، عن صهيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة، فإما أن تكون هجراً، أو تكون يثرب) .قال: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وخرج معه أبو بكر - رضي الله عنه - ، وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه، ولم أكن شاكياً. فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريداً ليردوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلون سبيلي وتفون لي؟. فتبعتهم إلى مكة فقلت لهم: احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواق واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين. وخرجت حتى قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتحول منها –يعني قباء- فلما رآني قال: (يا أبا يحيى ربح البيع) ثلاثاً. فقلت: يا رسول الله! ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل - عليه السلام - . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" .(1/33)
وهذا في الأحداث الواقعية، فكيف يكون الشأن في أمر يتعلق بالوحي القرآني الإلهي، وقد اتُخِذَت له كل الوسائل الإلهية المحضة، والبشرية المُعانة إعانة إلهية ليقرأه كما أنزله الله وهو البلاغ الخاص ؟، ونموذج ذلك: ما رواه سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أنه قال: رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه { ... لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } "النساء/95" –قال-: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ، فقال: يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض فخذي، ثم سُرِّي عنه ... فأنزل الله - عز وجل - { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } (1) .
5- القوة: كما قال تعالى { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } "النجم/6" أي هو صاحب جسمٍ "في قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به، والطاقة لحمله في غير آية النشاط والحدة، كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة (2) ، فهو صعب المراس، ماضٍ في مرارته، على طريقة واحدة على غاية من الشدة لا توصف" (3) .
ويأتي تفصيلها في المطلب الثاني -إن شاء الله تعالى- .
__________
(1) صحيح البخاري 3/1042، مرجع سابق .
(2) المراد الجد والقوة، وليس الغضب .
(3) انظر: (البقاعي) برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر (ت885هـ): نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 19/44، 1413هـ، 1992م، ط3، المكتبة التجارية، مكة المكرمة .(1/34)
على أنه ينبغي التنبيه من خلال الاستعراض لمظاهر قوة جبريل - عليه السلام - الخلقية أن هذه الخلقة العظيمة التي هيأه الله -تعالى ذكره- بها تحمل في طياتها تهيئته بحمل الأجهزة التكوينية المناسبة لحفظ كلام الجبار - سبحانه وتعالى - عند استماعه، ثم نقله له كما هو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسرعة المطلوبة في الوقت المعين ... ولذا كان جبريل - عليه السلام - أول من يقوم من الصعق عندما يتكلم الله - عز وجل - بالوحي –كما سيأتي إن شاء الله تعالى- (1) .
المطلب الثاني: صفاته - عليه السلام - من حيث سجاياه الخُلُقية:
1) كريم: كما في قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } "التكوير/19"، وهي صفة تقتضي نفي المذام كلها، وإثبات صفات المدح اللائقة به (2) ، وفي تفسيرها يقول الآلوسي -رحمه الله تعالى-: "عزيز على الله سبحانه وتعالى" (3) ، وقال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "ملك حسن الخلق بهي المنظر" (4) ، وفي التحرير والتنوير في معنى كريم أنه: "النفيس في نوعه" (5) .
... فقد جمعت له كلمة "كريم" كل المحامد، كما أظهرت تميزه بخصائص لا توجد لسواه من الملائكة، فهو نفيس بين الملائكة .
2) ذو قوة:"أي شديد، وقيل: المراد القوة في أداء طاعة الله - سبحانه وتعالى - ، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف، وقيل: لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ، والبعد عن النسيان، والخلط" (6) .
__________
(1) انظر: المبحث الثالث من هذا الفصل .
(2) البحر المحيط 8/434، مرجع سابق .
(3) روح المعاني 30/104، مرجع سابق .
(4) ابن كثير4/409، مرجع سابق .
(5) انظر: التحرير والتنوير30/153، مرجع سابق .
(6) روح المعاني 30/104، مرجع سابق .(1/35)
ولا يستبعد شمول وصف { ذِي قُوَّةٍ } "التكوير/20" لذلك كله؛ إذ يقتضي ذلك إطلاقُها، وعدم تقييد النكرة { قُوَّةٍ } بشيء! بل ذلك هو الأظهر، ويُستظْهَرُ هذا المعنى حتى يصير في حيز الحقيقة المقررة: بمجيء كلمة (قوة) مجموعة في قوله - عز وجل - { ... شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، ومن حيث خصوص مناط البحث فإنه يظهر من خلال هذا الوصف قوته في أداء هذه الأمانة الشاملة لكل أنواع القوة .
والمراد الكلي من هذا الوصف: قدرته على أداء مهمته التعليمية، فـ { ذِي قُوَّةٍ } يعني أن جبريل - عليه السلام - ما كُلِّف به من أمر غير عاجز (1) .
ويدخل في هذه القوة دخولاً أولياً:
أ- قوة الحفظ .
ب- وقوة الوصول إلى الرسول من البشر .
ج- وتلطف المجيء، له بما يحتاج من خصال يحتاجها الملك، ليعوض بها ضعف البشر عن إدراك الملأ الغيبي؛ لذا قال الشوكاني: "ذي قوة شديدة في القيام بما كلف به" (2) .
د- وقوة البدن المتعددة المناحي لازمة للتنقل بين هذه المسافات الهائلة في وقته الذي أمر بالتبليغ فيه بشكل دقيق، قال الصاوي –رحمه الله تعالى – ذاكراً بعض قوته: "فكان من قوته: أن اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود (3) ، وحملها على جناحه فرفعها إلى السماء، ثم قلبها، وأنه صاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض، ثم يصعد في أسرع من رد الطرف" (4) .
__________
(1) انظر: تفسير الطبري 30/80، مرجع سابق .
(2) فتح القدير 5/481، مرجع سابق .
(3) لعله يعني البحر الميت؛ إذ هو موضعهم ... أو النفط الأسود؛ إذ أن موضعه غائر في الأرض أكثر من الماء ... فعبر بموضعه دلالة على اجتثاث القرى من أصلها في الأرض .
(4) حاشية الصاوي 4/389، مرجع سابق .(1/36)
... وهذا الأخير الذي ذكره الصاوي هو المراد، وما قبله خادم للإيراد، وتناقل المفسرون هذا المعنى في أداء الرسالة التي كلف بها جبريل - عليه السلام - على أتم وجه وأتقنه، بل جعل ذلك الإتقان هو طبيعة جبريل - عليه السلام - ، فقوله { كَرِيمٍ } يحتمل أن تكون الصفة المشبهة تدل على الطبيعة والسجية الذاتية لا المتكلفة (1) ،"فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها غالباً، وتطلق مجازاً على ثبات النفس على مرادها، والإقدام على رباطة الجأش قال - عز وجل - { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } "مريم/12" { خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } "البقرة/63"، فوصف جبريل - عليه السلام - بـ { ذِي } قوة يجوز أن يكون شدة المقدرة، كما وصف بذلك في قوله { ذُو مِرَّةٍ } ، ويجوز أن يكون من القوة المجازية، وهي الثبات في أداء ما أرسل به، كما قال - سبحانه وتعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"؛ لأن المناسب للتعليم هو قوة النفس، ولذا وصف في النجم بـ { شَدِيدُ الْقُوَى } ، والمراد بـ { الْقُوَى } استطاعته تنفيذ ما أمر الله - سبحانه وتعالى - به من الأعمال العظيمة القلبية والجسمانية، فهو الملك الذي ينزل على الرسل بالتبليغ، وقوته شملت قوة العقل، إضافة إلى قوة الجسم وقوة أداء المهمة، وإتقانها؛ولذا وصف بقوله { ذُو مِرَّةٍ } ، والمرة تطلق على الذات، وتطلق على متانة العقل، وأصالته، وهو المراد هنا، واتفق المفسرون على أن المراد جبريل - عليه السلام - " (2) .
__________
(1) كما في فقيه من فقُه بضم القاف .
(2) التحرير والتنوير 30/155، مرجع سابق، وانظر: البحر المحيط 8/154، مرجع سابق، وقد ذكر فيه عن الحسن أن "شديد القوى" هو الله، واستبعده، وكذا تفسير الشوكاني5/130، مرجع سابق، وأورد ابن كثير 4/210 قولاً لابن عباس وقتادة: "منظرحسن"، ثم قال: "ولا منافاة بين القولين" .(1/37)
فإذا جُمِعَ هذا مع ما قرره أبو حيان -رحمه الله تعالى- في معنى صفة { كَرِيمٍ } وهو أنها صفة تقتضي نفي المذام؛ اتضحت إصرارية تثبيت قوة الحفظ وشدة الملكة التي بها يبلغ وحي ربه، وتعليمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم تفصيلاً لكل حرف، وتبياناً لكل كلمة، من غير أن يقال أن ذلك مبالغ فيه، أو أنه ليس في مقدرة جبريل - عليه السلام - من حيث الحركة، أو من حيث الحفظ.
3) { مُطَاعٍ } "التكوير/21": فهو مطاع في ملائكة الله المقربين يصدرون عن أمره، وهو مؤكد لحقيقة ائتمارهم بأمره، ومن أسباب ذلك أنه أمين الوحي في السماء لأهل السماء -ويرد تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى- (1) ... ، ومن صور طاعة الملائكة لجبريل - عليه السلام - طاعة خازن السماء له، كما في حديث الإسراء (2) ، وذلك كله مؤثر في الشعور بمقدرة هذا المعلم .
4) { أَمِينٍ } "التكوير/21": فهو أمين الأمانة التي تقتضي القيام بالتبليغ الذي يصل إلى درجة من الدقة حتى في هيئات الألفاظ الداخلية والخارجية، وقد اتخذت هذه الأمانة طابعين:
أ- طابع العموم في كل ما أؤتمن عليه: قال الطبري: "أمين عند الله على وحيه، ورسالته، وغير ذلك مما ائتمنه عليه" (3) .
ب- طابع الدقة والتفصيل: إذ يتسع أُفق فهمها ليشمل هيئات الألفاظ الداخلية فذلك مقتضى الإطلاق في وصفه بالأمانة هنا .
وأمانته من حيث الأصالة تتسم بسمتين:
__________
(1) في المبحث الثالث من هذا الفصل .
(2) ففيه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فلما جئت إلى السماء الدنيا، قال جبريل - عليه السلام - لخازن السماء: افتح . قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل - عليه السلام - قال: هل معك أحد ؟ قال: نعم ! معي محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرسل إليه ؟. قال: نعم . فلما فتح علونا السماء الدنيا ... ) الحديث ... صحيح البخاري 1/300، مرجع سابق .
(3) تفسير الطبري30/80، مرجع سابق .(1/38)
فهي ملكةٌ دائمةٌ ثابتةٌ، وسجيةٌ متجددةٌ: إذ الأمين هو الذي يحفظ ما عُهِدَ له به حتى يؤديه دون نقص، ولا تغيير .
وأمين (فعيل) إما بمعنى مفعول: أي مأمون من أمنته على كذا، وإما صفة مشبهة من أمُن بضم الميم، إذا صارت الأمانة سجيته (1) .
وسر الإتيان بقوله تعالى { ثَمَّ } بين هاتين الصفتين (مطاع، أمين) في قوله - عز وجل - { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } : أن { ثَمَّ } ظرف مكان للبعيد، والمراد أنه موصوف بذلك في السماء، وهو يوحي بلزوم اكتفائكم بهذه الأوصاف المطمئنة القاذفة لليقين بسلامة الرسالة، ودقتها، وأنها كما أرادها الله - سبحانه وتعالى - ، وكما قالها فهي قرآن لم تطرأ عليها بارقة تغيير من أحد من المخلوقين؛ إذ الكلام عن غيب ما أدراكم به أنتم؟ فلتسمعوا وصفه من مرسله، وخالقه، وحسبكم أنه بهذه المكانة في ذلك المكان الأعلى، ولو شاء الله - عز وجل - ما تلا عليكم ما أُمر بتبليغه، ولذا قال الآلوسي: "والمقام يقتضي تعظيم الأمانة؛ لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول" (2) ... كيف وقد قال - عز وجل - : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا ... } "الحاقة/44"؟، وقرئ ثُم (بالضم) تعظيماً لوصف الأمانة، وتفضيلاً على سائر الأوصاف (3) ، فالعطف بها للتراخي في الرتبة؛ لأن ما بعدها أعظم مما قبلها (4) ، وقال الزمخشري:"وقرئ ثُم تعظيماً للأمانة وبياناً؛ لأنها أفضل صفاته المعدودة" (5) .
ولهذه الأمانة مقتضاها العملي الهام في جهتين:
__________
(1) التحرير والتنوير 30/157، مرجع سابق، وكذا روح المعاني30/104، مرجع سابق .
(2) روح المعاني30/105، مرجع سابق .
(3) انظر: تفسير أبي السعود 5/489، مرجع سابق، والقراءة المذكورة قراءة شاذة .
(4) انظر: فتح القدير 5 /481، مرجع سابق .
(5) الكشاف 4/191، مرجع سابق .(1/39)
-جهة في ذاته: بأن يكون في أعلى درجات الخشية لله تعالى، والمراقبة له: وهذه وإن كانت سجية دائمة ملازمة للملك من حيث هو ملك، إلا أنها في جبريل - عليه السلام - ظاهرة التميز، فعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل - عليه السلام - كالحلس البالي من خشية الله تعالى) (1) .
-جهة في غيره: وهو أن يكون جبريل - عليه السلام - إذ اتصف بها: مقبول القول، يصدق فيما يقول، مؤتمن على ما يرسل به من وحي، وامتثال أمر، مؤدياً لما أؤتمن عليه أحسن الأداء، وأدقه فدخل في ذلك أن يؤدي لفظ القرآن أحسن أداء، وأتقنه ... بل أن ينقله على أقوم هيئة أُمر بها ... فأعظم ما أؤتمن عليه تأدية ألفاظ القرآن .
5) { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } "التكوير/20": أي هو ذو مكانة رفيعة عند الله العظيم جل جلاله، فـ { مَكِينٍ } (فعيل) من مكن إذا علت رتبته عند غيره، يعني هو ليس من أفناد الملائكة، بل هو من السادة الأشراف معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وعدل عن اسم الجلالة إلى (ذي العرش) بالنسبة لجبريل - عليه السلام - لتمثيل حال جبريل - عليه السلام - ومكانته عند الله - سبحانه وتعالى - بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك، وهو بمحل الكرامة لديه (2) .
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط 2/134، (الطبراني)مسند الدنيا أبوالقاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ت360:المعجم الأوسط، مراجعة: محمود الطحان، 1405-1985، مكتبة المعارف -الرياض، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 5864، انظر: (الألباني) محمد ناصر الدين: صحيح الجامع الصغير وزيادته، أشرف على طبعه: زهير الشاويش، ط3 1408هـ – 1988م، المكتب الإسلامي – بيروت .
(2) التحرير والتنوير 30/ 156، مرجع سابق .(1/40)
ومما يُتَفَطَن للتأمل فيه في قوله - عز وجل - في وصف جبريل - عليه السلام - : { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } "التكوير/20": تَوَسُطُ { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ } بين { ذِي قُوَّةٍ } و { مَكِينٍ } ، وسر ذلك: ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز، أي هو ذو قوة عند الله - عز وجل - ، أي جعل الله - سبحانه وتعالى - مقدرة جبريل - عليه السلام - تخوله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله - عز وجل - به مما يحتاج إلى قوة القدرة، وقوة التدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى .
6) اقتصار مهمته في المحتوى العام على أنه رسول: فليس له من أمر مضمون الرسالة شيء، بل هو مبلغ له، كما أمر قال القرطبي: "إنه لقول رسول عن الله، كريم على الله" (1) .
أفيحل لقائل أن يقول: يمكن أن يجتهد البشر في قول الله - عز وجل - ، وقد منع منه جبريل - عليه السلام - ؟!.
7) تمرسه على الرسالة التي تماثل هذا النوع: إذ يظهر من وصفه بقوله: { رَسُول } هذا التمرس على الرسالة، وذلك بدلاً من أن يقول لقول ملك كريم، ويتأكد هذا بأنه هو الذي كان ينزل على الأنبياء، كما قال ورقة بن نوفل: "هذا الناموس الذي أنزل على موسى" (2) ، وكما قال - سبحانه وتعالى - { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } "مريم/17"، ولا خلاف أنه جبريل - عليه السلام - هنا، ولذا جاء في تفسير التحرير والتنوير عند الكلام على سورة النجم: "وتخصيص جبريل - عليه السلام - بهذا الوصف يشعر بأنه المَلَك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء، ولذلك لما ناول الملك رسول الله ليلة الإسراء كأس لبن وكأس خمر، فاختار اللبن قال له جبريل - عليه السلام - : (أخذت الفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك)" (3) .
__________
(1) تفسير القرطبي19/240، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 1/4، مرجع سابق .
(3) التحرير والتنوير26/95، مرجع سابق، والحديث المذكور أخرجه الشيخان: البخاري 6/308، مرجع سابق، ومسلم 1/125، مرجع سابق .(1/41)
فإن اعتُرض معترض بالقول: قد وُصِفَ بهذا الوصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في سورة الحاقة وبالصيغة ذاتها، ولمّا يكن متمرساً على الرسالة -بعد-، فلا يستقيم هذا الاستنباط .
فالجواب: لا نسلم أنه لم يكن متمرساً، إذ ما غشيه من تهيئة لتبليغ الرسالة، قائم مقام ذلك، وسيأتي من هذه التهيئة ما يجلي ذا المعنى (1) .
ويقال تنزلاً: هناك فرق بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث قيام القرينة الحالية في كلٍ على هذا التمرس أو عدمه .
ومن أجل هذا التمرس يعهد لجبريل - عليه السلام - بالمهمات الجليلة، ومنها -بعد الوحي- نقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم السماء ليلة الإسراء: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل - عليه السلام - ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا، قال جبريل - عليه السلام - لخازن السماء: افتح . قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل - عليه السلام - قال: هل معك أحد ؟ قال: نعم! معي محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرسل إليه ؟. قال: نعم . فلما فتح علونا السماء الدنيا ... ) الحديث (2) .
8) حكيم عليم: كما قال - سبحانه وتعالى - : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "النمل /6"؛ إذ الأكثر على أنها في نعت جبريل - عليه السلام - فالمعلم المُلْقِي لا يلقي شيئاً إلا بعلمه، وليس دوره دوراً آلياً في النقل، بل يعلمه من حيث الجملة والتفصيل، ويعلمه من حيث الأداء، وأصل اللفظ، كما يتسم بالحكمة التي بها يضع الأمور في مواضعها، ومن ذاك وقت تعليم الألفاظ ومكانه .
__________
(1) انظر: الفصل الثاني –المبحث الأول .
(2) صحيح البخاري 1/300، مرجع سابق .(1/42)
فهذه صفات جبريل الخَلْقية والخُلُقية التي تمنحه القدرة الأمينة الدقيقة على تعليم ألفاظ القرآن في وقتها الذي أمر الله - سبحانه وتعالى - به بأمانة ودقةٍ وحسن تأتٍ .
فإن اعتُرض معترض على الاستطراد في ذكر صفات الرسول الذي حمله وليس يرجع ذا إلى لب البحث؛ فالجواب: في ذلك من الحكم:
الثناء على الرسول المُلْقِي للقرآن، والمبلِّغ له إلى الأرض أولاً، وفيه تنويه بالقرآن، وتأكيد لصدقه وعظمته من حيث عظمة من قام بتبليغه ثانياً، وفيه تأكيد على الصفات التي جعلت هذا الرسول المتحمل أهلاً لأدائه لفظاً وأداء ثالثاً، وفيه تحديد لحجم الاجتهاد البشري فيه من حيث حجم اجتهاد المَلَك فيه رابعاً، وبيان لأصلية التوقيف في لفظه وفرعيته من حيث مؤهلات هذا الرسول المعنوية، وإمكاناته الحسية على نقل القرآن، ومتابعته بدقة؛ إذ منعه من إدخال اجتهاده مع عظيم مكانته من الله - سبحانه وتعالى - ، منعٌ لغيره من ضَعَفَة المخلوقين من باب أولى، وهذا خامساً.(1/43)
ولذا كان قسم الله - سبحانه وتعالى - في سورة التكوير بقوله { فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15) الْجَوَارِي الْكُنَّسِ ... } "التكوير/15 ... " لبيان صدق الوحي القرآني، وتمت هذه الغاية صدقاً وعدلاً بالثناء على طرفي الاتصال، والنقل القرآني بين السماء والأرض { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ... } "التكوير19- ... "، فإجراء أوصاف الثناء على الرسول للتنويه به أيضاً، وللكناية على أن ما نزل به صدق؛ لأن كمال القائل يدل على صدق القول (1) ، وانظر كيف زاد في ذكر صفات جبريل - عليه السلام - إذ هو خبر عما عنده سبحانه وهو غيب عنهم، فكثرة صفاته أدعى لطمأنتهم، ثم أخبرهم عمن عندهم بما يوفونه فلا يحتاج إلى مزيد كلام ... ومما جاء في حواشي الكشاف تعليقاً على تأويل آيات التكوير: "إنما ذكر جبريل - عليه السلام - بتلك الصفات واقتصر على نفي الجنون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن جبريل - عليه السلام - مجهول" (2) أي عند البشر .
المبحث الثالث:
أمين الوحي في السماء لأهل السماء:
... في هذا المبحث تتضح المكانة الخاصة لجبريل - عليه السلام - من ربه - سبحانه وتعالى - ، بعد أن اتضحت المكانة العامة له من خلال المبحث السابق، إذ هو أمين الوحي الإلهي مطلقاً، وأول ذلك أنه أمين الوحي في السماء لأهل السماء، وتلك من أسباب جدارته الفائقة لأمانة الوحي النازل لأهل الأرض .
__________
(1) التحرير والتنوير 30/175، مرجع سابق .
(2) محمد عليان المزروقي الشافعي: حاشيته على الكشاف 4/691، دار المعرفة - بيروت .(1/44)
فعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الله إذا أراد أن يأمر بأمر تكلم به، فإذا تكلم به أخذت السماء رجفة، أو قال رعدة شديدة فإذا سمع بذلك أهل السماء، صعقوا فيخرون سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل - عليه السلام - فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمر به جبريل - عليه السلام - على الملائكة، فكلما مر بسماء سألته ملائكتها: ماذا قال ربنا ؟. قال جبريل - عليه السلام - :قال ربكم الحق وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم كما قال جبريل - عليه السلام - فينتهي جبريل - عليه السلام - بالوحي حيث أمر من سماء وأرض) (1) .
__________
(1) (الطبراني) أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، مسند الدنيا، ت 360 هـ: مسند الشاميين 1984م – 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، مراجعة: حمدي بن عبد المجيد السلفي، وأصل هذا الحديث عند ابن حبان 1/224، مرجع سابق، بلفظ: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذاجاءهم جبريل، فزع عن قلوبهم - قال - فيقولون: يا جبريل ! ماذا قال ربك ؟ فيقول: الحق . فيقولون: الحق الحق) .(1/45)
فجبريل - عليه السلام - هو أمين الوحي الإلهي سواء كان هذا الوحي أرضياً، وموضوع (تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) يشكل أنموذجه، أو سماوياً كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (إن العبد ليلتمس مرضاة الله، ولا يزال بذلك فيقول الله - عز وجل - لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم تهبط له إلى الأرض) (2) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/1175، مرجع سابق .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/279، مرجع سابق .(1/46)
وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه: (إذا تكلم الله بالوحي يسمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون ويرون أنه من أمر الساعة وقرأ { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِم ... } الآية) (1) ، وقد وقع في بعض روايات حديث النواس ابن سمعان السابق ما نصه: (أخذت أهل السماوات منه رعدة خوفا من الله وخروا سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله بما أراد، فيمضي به على الملائكة، من سماء إلى سماء)، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند ابن خزيمة وابن مردويه: (كمر السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل السماء إلا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم إلى آخر الآية، ثم يقول: يكون العام كذا، فيسمعه الجن ... )، وعند ابن مردويه من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - : (ما نزل جبريل بالوحي، فزع أهل السماء لانحطاطه، وسمعوا صوت الوحي، كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا فيقولون: يا جبريل بما أمرت ... ) (2) الحديث.
__________
(1) فتح الباري 8/ 721، مرجع سابق، وقال: "وأصله عند أبي داود وغيره، وعلقه المصنف موقوفاً".
(2) انظر هذه الروايات وغيرها: في فتح الباري 8/721، مرجع سابق .(1/47)
وقد لا يكون الوحي أمراً إلهياً لأحد من المخلوقين، بل هو حديث بين الجبار جل جلاله وبين جبريل - عليه السلام - ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب، فانظر إليها. فذهب، فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب، وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل اذهب، فانظر إليها. فذهب، فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد . -قال- فلما خلق الله النار، قال: يا جبريل اذهب، فانظر إليها . فذهب، فنظر إليها، ثم جاء . فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب، فانظر إليها . فذهب، فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب وعزتك، لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها) (1) .
وقد أُريد من التفصيل السالف أن تُبَيَّن مكانة جبريل - عليه السلام - من الملك جل وعز، ويربط بين ذلك وبين قوله تعالى { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، فيستبين جلالة تعليم لفظ القرآن، وأنه ليس مجرد لفظ يرمى من فم لفم، بل لو ادعى مدعٍ أن تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - للفظ القرآن من جبريل - عليه السلام - اعتراه من التوقيف، ومنع الاجتهاد أكثر مما اعترى معناه لما بعد عن إصابة سهم فكره لعين الحقيقة، وذلك واضح من حيث أن عتاب الله - عز وجل - لنبيه في القرآن الكريم إنما هو لصواب في أمر غير ما ذهب إليه في فهم معنى معين، بخلاف اللفظ، فليس له فيه إلا ما لُقِّنَه، وقد حاول الاجتهاد في هيئة التلقي فمنع من ذلك (2) .
وما سبق من أدلة توصلنا إلى نتيجة على قدر جليل من الأهمية هي: أن جبريل - عليه السلام - هو الوسيط بين الله - سبحانه وتعالى - وأنبيائه، وهو المبحث التالي:
__________
(1) صحيح ابن حبان 16/406، مرجع سابق، والمستدرك 1/79، مرجع سابق .
(2) انظر: حديث المعالجة: الفصل الثالث –المبحث السادس .(1/48)
المبحث الرابع:
اختيار جبريل - عليه السلام - ليكون الوسيط بين الله - عز وجل - ورسله: ويتفرع هذا المبحث إلى ثلاث جهات:
جهة من حيث عموم الرسالات السماوية، وجهة من حيث خصوص رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجهة من حيث خصوص الخصوص وهو كون جبريل - عليه السلام - هو مقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلك الجهات تُشكل ثلاثة مطالب للمبحث:
المطلب الأول: من حيث عموم الرسالات السماوية .
المطلب الثاني: من حيث خصوص رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الثالث: من حيث خصوص الخصوص وهو الإقراء .
المطلب الأول: من حيث عموم الرسالات السماوية:
ومن أدلتها غير ما تقدم قول الله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } "النساء/ 163 "، ومن ذلك حديث عائشة - رضي الله عنه - في بدء الوحي: فقال له ورقة: (هذا الناموس الذي نزل الله على موسى) (1) .
__________
(1) صحيح البخاري 1/4 مرجع سابق .(1/49)
فقد قال البخاري في معناه :"الناموس صاحب السر الذي يطلعه بما يستره عن غيره" (1) ، وقال ابن الأثير: "في حديث المَبْعَث (2) : (إنه لَيأْتيه النَّامُوس الأكبر) الناموسُ صاحبُ سرِّ المَلِك، وهو خاصُّه الذي يطلعه على ما يطويه من غيره من سرائره ... وأراد به جبريل - عليه السلام - ؛ لأن الله تعالى خصَّه بالوحي والغيب اللذَّين لا يَطَّلِعُ عليهما غَيره" (3) ، وقال شارح الطحاوية في قوله - عز وجل - { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ } "النجم/194" "هو جبرائيل - عليه السلام - ، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين" (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/1241، مرجع سابق .
(2) يعني الحديث الذي رواه البخاري عن عائشة عن أول بعثته وفيه: قال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ... .
(3) النهاية في غريب الأثر 5/119، مرجع سابق .
(4) شرح العقيدة الطحاوية 315، مرجع سابق .(1/50)
وأهمية هذه النتيجة في هذه الدراسة: كامنةٌ في: أن انفراد ملك واحد من عالم الغيب ليكون الوسيط بين الله - سبحانه وتعالى - وبين نبيه - صلى الله عليه وسلم - في نقل كلام الله - عز وجل - يزيل كل وسوسة يقذفها الشيطان في نفس الإنسان، تشكك في أنه يحتمل أن أحد الشياطين المتصورة في صورة معينة قد ألقى كلاماً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحياً، وهو ما يدفع عاملاً خطيراً ومنطقياً من عوامل التشكيك في نقل كلام الله - سبحانه وتعالى - ، وقد أدرك الإمام السيوطي أهمية هذا المسألة، فألف رسالة بعنوان "لبس اليَلَب في الجواب عن إيراد أهل حلب"، قال: "لما وصل كتاب الأعلام إلى حلب -وقف عليه واقف فرأى فيه قولي أن جبريل - عليه السلام - هو السفير بين الله - سبحانه وتعالى - وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره، فكتب على الهامش، بل قد عرف ذلك لغيره من الملائكة، فأجاب فأجبت ... الخ" (1) .
المطلب الثاني: من حيث خصوص رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) (حاجي خليفة) مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي ت 1067هـ : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2/1547، 1992م - 1413هـ، دار الكتب العلمية – بيروت - .(1/51)
يكفي دليلاً في التصريح بأن جبريل - عليه السلام - هو الوسيط بين الله تعالى وبين نبيه - صلى الله عليه وسلم - قوله - عز وجل - { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقِّاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } "البقرة/97"، وقوله - سبحانه وتعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، فإن ادُعي أن إطلاقها قد يُخَصُّ بنزول جبريل - عليه السلام - بنوع من الوحي دون غيره، اكتفي بالقول رداً على ذلك: ذاك عارض يفتقر الدليل، فإن وُجِدَ، وإلا فهو عليل، فلا يُرتضى بمجرد التخمين، ومن احتج بالعموم للملائكة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأحياناً يتمثل لي الملك ... ) (1) الحديث، يُجاب عليه: بأن أداة التعريف فيه للعهد لا للاستغراق، بقرينة التصريح بجبريل - عليه السلام - في رواية ابن سعد (2) . وقد كان جبريل - عليه السلام - معلم الدين أصولاً وفروعاً؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (هذا جبريل - عليه السلام - يعلمكم دينكم) ثم ذكر مواقيت الصلاة (3) ، ونحوه حديث جبريل - عليه السلام - المشهور عن عمر ابن الخطاب عند البخاري ومسلم (4) ، ومثله عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم (5) .
ومما يدل على قرب جبريل - عليه السلام - ، ومتابعته، وكونه الواسطة التعليمية للنبي - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) انظر: تخريجه في الفصل الثاني-المبحث الثالث.
(2) طبقات ابن سعد 1/197، مرجع سابق، وانظر فتح الباري 12/442، مرجع سابق .
(3) (البيهقي) أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (384هـ -ت458هـ): سنن البيهقي الكبرى، مراجعة: محمد عبد القادر عطا، 1994م-1414هـ، مكتبة دار الباز – مكة المكرمة 0 .
(4) رواه البخاري 1/15، مرجع سابق، ومسلم 1/4، مرجع سابق .
(5) رواه مسلم 1/49، مرجع سابق .(1/52)
ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأتاه، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ؟، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (خبرني بهن آنفا جبريل - عليه السلام - ) فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة ... الحديث (1) .
كما أن جبريل - عليه السلام - هو واسطة النبي - صلى الله عليه وسلم - التعليمية الوحيدة إلى عالم الغيب: فلا يتعرف على العالم الغيبي إلا بواسطة جبريل - عليه السلام - .
ومن ذلك أن جبريل - عليه السلام - واسطته التعليمية إلى أهم عالمين غيبين يوازيان عالم البشر: عالم الملائكة، وعالم الجن:
فأما عالم الملائكة: فعن عائشة - رضي الله عنه - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ذهابه إلى ثقيف: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل - عليه السلام - فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت . إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) (2) .
ومن ذلك تعرفه على ملائكة السماء وخزنتها في حادثة الإسراء فقد كانت واسطته هي جبريل - عليه السلام - .
__________
(1) صحيح البخاري 3/1211، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 3/1180، مرجع سابق .(1/53)
وأما عالم الجن: فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن وهو مع جبريل - عليه السلام - وأنا معه، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، وجعل العفريت يدنو، ويزداد قرباً، فقال جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (ألا أعلمك كلمات تقولهن فيكب العفريت لوجهه، وتطفئ شعلته؟ قل أعوذ بوجه الله الكريم، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.فكب العفريت لوجهه وانطفأت شعلته) (1) .
ولهذا التفريع فائدة منهجية بديعة فيما نحن بصدد جمع شتاته، من حيث واقع وجود عالمين معروفين غير مرئيين من عوالم الغيب هما: عالم الملائكة، وعالم الجن، تتمثل في حمايته من أن يتطرق إليه الشك عندما يبلغه غير جبريل - عليه السلام - من الملائكة الوحي، فيلقي الشيطان أنه ليس ملكاً، وحمايته من الشياطين أن يفكروا بالتلبيس عليه (2) .
كما هو أيضاً واسطته إلى غيب خارج ذلك: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أتاني جبريل - عليه السلام - فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي) (3) .
__________
(1) (النسائي) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب ت303 هـ: السنن الكبرى 6/237 مراجعة: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي حسن، 1411ه-/1991م دار الكتب العلمية - بيروت، وقد جاء في رواية: (علمنيهن جبريل وزعم أن عفريتاً يكيدني) .
(2) ونقل القاضي عياض الإجماع على عصمته - صلى الله عليه وسلم - في الشفاء 2 /141، ولكن ذلك إجماع يفتقر إلى المستند، فليكن ذا في طريق ذاك المستند .
(3) المستدرك 3/77، مرجع سابق .(1/54)
وبناء على أن جبريل هو الوسيط بين الله ورسله: فهل كانت هيئات الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما كانت إلى الأنبياء السابقين على ما يظهر من قوله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } "النساء /163" ؟ والجواب: لا! فلا ريب في اشتراكهم في أصل الوحي، أما ما بعد ذلك فليس عندنا ما يشير إلى الهيئات التفصيلية لوحي الأنبياء السابقين حتى تتم المقارنة، ولا دليل في الآية على ترجيح أحد الأمرين إذ لو كانت تشبيهاً، فإن التشبيه لا يقتضي أن يكون المشَبَّه مساوياً للمشَبَّه به، وإن كانت إخباراً فهل المراد التفصيل أو القبيل، ولا دليل ثم على أحدهما، وما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، وعلى ضوء هذا التقرير يفهم قول ابن حجر-رحمه الله تعالى- في شرح هذه الآية: "ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي، وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه" (1) .
__________
(1) فتح الباري 1/5، مرجع سابق .(1/55)
وإنما أورد هذا الكلام هاهنا لئلا يُفترَض أن القرآن نزل كما نزلت التوراة وحياً مكتوباً، لم تحتج إلى تلقين استدلالاً بهذه الآية، فيجاب بما سبق، ويضاف إليه أن ليس ثم تفصيل عن الهيئة التي تم بها إيحاء التوراة بدقة إلا قوله - عز وجل - : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ } "الأعراف/145" وهي لا تنفي التلقين صراحة، على أنها تبين المقدار الكبير في التغاير بين إيحاء التوراة والقرآن من حيث أن التوراة كتبت لموسى - عليه السلام - كتابة ولم تتلقن تلقيناً، والقرآن سمي قرآناً علماً عليه أشهر من اسم كتاب مع كونه الاسم الثاني له في الشهرة ، دلالة على اجتماع القراءة والكتابة في الحفاظ على القرآن الكريم، لكن التلقين يسبق الكتابة عند ذكر أساليب تعلم القرآن الكريم كما يسبق اسم (القرآن) اسم (الكتاب)، وهو الجاري عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وجماع القول أن جبريل - عليه السلام - قد بلغ أخص مبلغ في مكانته عند الله - سبحانه وتعالى - من بين الملائكة، ولذا أسند إليه تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ القرآن، فصار كل ما سبق خادماً لنقل القرآن الكريم .
المطلب الثالث: من حيث خصوص الخصوص: أي من حيث كون جبريل - عليه السلام - هو المقرئ الوحيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الملائكة، فإن أبا حيان يُعَرِّفُ جبريل - عليه السلام - فيقول: "جبريل اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة" (1) .
وجبريل - عليه السلام - هو المقرئ له صراحة: فعن ابن عباس - رضي الله عنه - حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف) (2) .
__________
(1) البحر المحيط 1/316، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 4/1909، مرجع سابق .(1/56)
ولأنه الملقي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ لقرآن الكريم: فقد باتت مسألة التلقي منه مصدر مرجعي بدهي في أوساط الأمة: يُرْجَعُ إلى طرقها عند الاختلاف، ويُحْتَجُ بثبوت النقل عنها عند التعليم، فعن الأعمش قال: سمعت الحجاج بن يوسف يقول وهو يخطب على المنبر: ألفوا القرآن كما ألفه جبريل - عليه السلام - السورة التي تذكر فيها البقرة، والسورة التي تذكر فيها النساء، والسورة التي يذكر فيها آل عمران، قال: فلقيت إبراهيم (1) ، فأخبرته بقوله، فسبه، ثم قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد الله بن مسعود، فأتى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي، فاستعرضها، فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يرمونها من فوقها، فقال: هذا - والذي لا إله غيره - مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (2) .
و(التأليف) في قول الحجاج: هل هو الترتيب كما هو أصل معنى الكلمة، أم أنه تسمية السور كما يظهر من السياق ؟ وعلى كلٍ فإن كان هذا في محله، أو في تسمية سوره، فكيف في وضعه وهيئات نطقه ؟ والشاهد واضح من الإسناد إلى جبريل - عليه السلام - .
فإن اعتُرض معترض بآيتي خاتمة البقرة؛ إذ أنزلهما ملك غير جبريل - عليه السلام - ؟فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: بينما جبريل - عليه السلام - قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: (هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) (3) .
__________
(1) يعني: إبراهيم النخعي .
(2) رواه مسلم 2/942، مرجع سابق .
(3) السنن الكبرى للنسائي 5/ 12، مرجع سابق .(1/57)
فالجواب: إما أن يكون أنزلهما بعد نزولهما، أي تكرر النزول للاهتمام أو لأمر آخر، وإما أن النزول كان للفضل لا للإنزال ذاته، ويدل لهذا أنه لا مراء في نزول الفاتحة قبل ذلك في مكة، وواضح أن الحادثة في المدينة إذ قد صرح متتبعوا النزول بأن نزول البقرة كان في المدينة (1) .
ووجه ثالث هو أن الواسطة بين الملك والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان جبريل - عليه السلام - فيرجع الوحي هنا إليه، كحادثة الإسراء، وهذا الوجه يتعدى هذه الحادثة إلى كل حادثة جاء فيها ملك آخر مع جبريل - عليه السلام - كحديث طوفانه - صلى الله عليه وسلم - في ليلة على بعض المعذبين من أمته (2) .
عداوة جبريل - عليه السلام - مقياس مطلق لعداوة الله –تعالى ذكره-:
ولما سبق كان التشديد، والإفزاع الأكيد للعقل والعاطفة من مجرد التفكير في الكلام على جبريل - عليه السلام - ، أو عدائه؛ إذ صار مقياساً مطلقاً لعداوة الله ورسله وملائكته، ولذا كان قوله - عز وجل - { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } "البقرة/98" عقب قوله - سبحانه وتعالى - { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } "البقرة/97"، فعداوتهم لله - عز وجل - بمنزلة المقدمة الكبرى؛ لأنها العلة في المعنى عند التأمل، وعداوتهم لرسوله جبريل - عليه السلام - بمنزلة المقدمة الصغرى لأنها السبب الجزئي المثبت (3) .
__________
(1) انظر: الإتقان 1/20، مرجع سابق، إتقان البرهان في علوم القرآن 1/378، مرجع سابق .
(2) رواه البخاري 6/3122، مرجع سابق، ونحو ما رواه البخاري في صحيحه 3/1182 عن سمرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (رأيت الليلة رجلين أتياني ... قالا: الذي يوقد النار مالك خازن النار، وأنا جبريل وهذا ميكائيل) . وظاهرٌ أن المُعَرِّفَ هو جبريل - عليه السلام - .
(3) انظر: التحرير والتنوير 1/623، مرجع سابق .(1/58)
وقوله تعالى { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } لا يظهر فيها أن قوله { نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } جواب الشرط، لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، وقوله { نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } ليس فيه ضمير يعود على من، وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري وهو خطأ لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمعنى فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، والتقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه (1) ، كذا قال أبو حيان –رحمه الله تعالى-، ولو كان التقدير: فهو عدو لله أو فهو كافر بالوحي ... لكان أظهر، وأولى، وأنسب لقوله { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } فأشار بأن إنزال الله جبريل - عليه السلام - بالقرآن قامعٌ لكل من تسول له نفسه عداوة جبريل - عليه السلام - . وقد صرح أبو حيان بتقديرين قريبين من هذا –بعد-، وهو إنما أورد أولاً عين ما قاله الزمخشري في التقدير (2) ، وقال الآلوسي: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } : "جواب الشرط إما نيابة، أو حقيقة، والمعنى من عاداه منكم فقد خلع ربقة الإنصاف، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي" (3) .
__________
(1) انظر:البحر المحيط 1/319، مرجع سابق .
(2) الكشاف 1/84، مرجع سابق، وكذا فعل الشوكاني في فتح القدير1/150، مرجع سابق .
(3) روح المعاني 1/220، مرجع سابق .(1/59)
وموضع الاستشهاد من هذا الإيراد ربط جبريل - عليه السلام - بإنزال القرآن الكريم (1) ، وقد ذكر عبارة { عَلَى قَلْبِكَ } ، وهو ينصرف انصرافاً أولياً للقرآن الكريم، وجعل هذا كله خادماً للاطمئنان على نقل القرآن، وإيصال كلام الله إلى الأرض، وهو زاجر بالإشارة، وبصريح العبارة عن الطعن فيه بعد ذلك أيضاً .
إنه جبريل - عليه السلام - ... إنه القرآن الكريم ... إنه رسول الله الأمين - صلى الله عليه وسلم - ... فأين أنت ياحافظ الذكر المبين؟ ... :
أيها الشادي بقرآن كريم! ... ... ... ... وهو في ركن من البيت مقيم
قم! وأبلغ نوره للعالمين ... ... ... ... قم! وأسمعه البرايا أجمعين
من له من ثروة الهادي نصيب ... ... ... ... فهو من جبريل في الدنيا قريب
الفصل الثاني
اتصال جبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
لتلقينه الوحي القرآني
وفيه ثلاثة مباحث
يبحث هذا الفصل عن هيئة اتصال جبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومدى ذلك الاتصال زماناً ومكاناً، ووقت امتناعه، وكيفية مجيء جبريل - عليه السلام - بالوحي القرآني من حيث عموم المجيء، لا من حيث تفصيل هيئة المجيء، واقتضى ذلك أن ينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تهيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي القرآني والاتصال بالملَك .
المبحث الثاني: إمكانية الاتصال المطلق .
__________
(1) إذ إن الضمير المنصوب في { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } عائد للقرآن: إما لأنه تقدم في قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } "البقرة /91 "، وإما لأن الفعل لا يصلح إلا له هنا على حد { ... حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } "ص/32 " { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ } " الواقعة /83"، انظر: التحرير والتنوير 1/621، مرجع سابق، وإليه ذهب الكشاف1/84، مرجع سابق، وقال: " إضماره فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ... " .(1/60)
المبحث الثالث: هيئات مجيء المَلَك بالوحي القرآني (من حيث العموم) .
المبحث الأول:
تهيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي، والاتصالِ بالملَك:
اقتضت بشرية الرسول، وملكية الملك أن يهيأ النبي - صلى الله عليه وسلم - لإمكانية لقاء الرسول الملك في أي وقت، على أي حال من حيث اختلاف الطبيعة في كل منهما، وقصور قدرة البشر طبيعةً عن إدراك الملَك أو غيره من العوالم الغيبية، كما أن من أهم أهداف هذه التهيئة إعداد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستوعب كلام الله - سبحانه وتعالى - ، ويصير في مقام حمله وتبليغه، وليكون جهده لوحده في ذلك مساوياً لجهد الأمة في حفظ كلام الله - عز وجل - بحفظ الله - سبحانه وتعالى - له، كما سيأتي في حادثة شق الصدر الأولى، وتفرعت هذه التهيئة إلى فرعين هما مطلبا هذا المبحث، وهما:
المطلب الأول: التهيئة الإلهية للوحي .
المطلب الثاني: التهيئة البشرية للوحي .
المطلب الأول: التهيئة الإلهية للوحي:
تمثلت فيه هذه التهيئة في ستة مظاهر، وأولها:
الممهدات التي قيضها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :وممن صرح بأن ثمت ممهدات للوحي ابن حجر -رحمه الله تعالى- حيث قال: وبدئ بذلك ليكون تمهيداً، وتوطئة لليقظة ثم مهد له في اليقظة أيضاً برؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر (1) ، ومن أهم مظاهر هذه التهيئة:
__________
(1) فتح الباري 1/ 23، مرجع سابق .(1/61)
1-حادثة شق الصدر: وقد وقعت مرتين: أما المرة الأولى: فعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق قلبه فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (1) ، وفي لفظ [قلبه فاستخرج القلب ثم شق القلب فاستخرج ... ].
وأما المرة الثانية عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، وذكر يعني رجلاً بين الرجلين، فأتيت بطست من ذهب ملئ حكمة وإيماناً، فشق من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيماناً، وأتيت بدابة أبيض دون البغل، وفوق الحمار يقال له: البراق فانطلقت مع جبريل حتى أتينا السماء الدنيا ... ) (2) الحديث.
وفي معنى الحكمة يقول النووي-رحمه الله تعالى-: "العلم المشتمل على المعرفة بالله، مع نفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق للعمل به، والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك" (3) .
وعقب عليه ابن حجر-رحمه الله تعالى- قائلاً: "وقد تطلق الحكمة على القرآن، وهو مشتمل على ذلك كله، وعلى النبوة كذلك، وقد تطلق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط" (4) ، ويدل على صحة وجهة ابن حجر -رحمه الله تعالى- في دلالة الحكمة على القرآن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن ... ، وفي لفظ: رجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها) (5) .
__________
(1) صحيح مسلم 1/147، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 3/1173، مرجع سابق .
(3) فتح الباري 1/461، مرجع سابق .
(4) فتح الباري 1/461، مرجع سابق .
(5) البخاري 6/3212، مرجع سابق .(1/62)
فقد وقعت حادثة الشق مرتين، لتحقيق غرضين مختلفين:
فالمرة الأولى: كان هدفها نزع حظ الشيطان:
وبين ذلك أبو حاتم بن حبان -رحمه الله تعالى- بقوله: "شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صبي يلعب مع الصبيان، وأخرج منه العلقة، ولما أراد الله - عز وجل - الإسراء به أمر جبريل - عليه السلام - بشق صدره ثانياً، وأخرج قلبه فغسله، ثم أعاده مكانه مرتين في موضعين، وهما غير متضادين" (1) .
وفي الديباج على صحيح مسلم: " فإن قيل: إنما وقع شق الصدر وهو صغير ؟ فالجواب كما قال السهيلي: إنه وقع مرتين، الثانية عند الإسراء تجديداً للتطهير" (2) .
قال ابن حجر-رحمه الله تعالى-:" قوله ففَرَج صدري هو بفتح الفاء والجيم أيضاً أي شقه، ورجح عياض -رحمه الله تعالى- أن شق الصدر كان وهو صغير عند مرضعته حليمة، وتعقبه السهيلي بأن ذلك وقع مرتين وهو الصواب، ومحصله إن الشق الأول كان لاستعداده لنزع العلقة التي قيل له عندها هذا حظ الشيطان منك، والشق الثاني: كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة" (3) .
__________
(1) صحيح ابن حبان 14/242، مرجع سابق .
(2) الديباج على صحيح مسلم 1/ 206، مرجع سابق .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، مرجع سابق .(1/63)
والظاهر أن الشق الأول تعدت أهدافه ما ذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- إلى استعداده - صلى الله عليه وسلم - للقاء الملك، وإيداع قلبه كلام الله، والنفي المبكر لحظ الشيطان من قلبه حتى لا يشوش وجوده على تحقيق هذه الأهداف، ويدل على أن هذا التقرير هو التحقيق في المسألة بقية حديث الشق الأول ففيه: مسألة الوزن، فعن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله ! كيف علمت أنك نبي حين استنبئت ؟ فقال: (يا أبا ذر! أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة فوقع أحدهما على الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو ؟ قال: نعم ! قال: فزنه برجل، فوزنت به فوزنته، ثم قال: فزنه بعشرة فوزنت بهم، فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة فوزنت بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف، فوزنت بهم، فرجحتهم كأني انظر إليهم ينتثرون علي من خفة الميزان، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لو وزنته بأمته لرجحها) (1) .
وهذا يدل على أن جهده - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي القرآني وحفظه، ينبغي أن يساوي جهد الأمة في ذلك، وقد ساواه وزاد بحمد الله - سبحانه وتعالى - .
... أما المرة الثانية: فمن أهدافها: استعداده للتلقي الحاصل في تلك الليلة من حيث عظم ما أخذ إليه - صلى الله عليه وسلم - من الصعود إلى السموات، ورؤية الآيات الكبرى في سرعة لا تخطر على قلب بشر، وذاك أمر بحاجة إلى تهيئة لا تكفي فيها التهيئة الأولى .
__________
(1) (الدارمي) أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن ت255هـ: سنن الدارمي 1/21، تحقيق: أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407هـ، دار الكتاب العربي - بيروت . وقد جاء التصريح بأن الوزن جاء عقب الشق الأول في عدد من الروايات منها ما أخرجه ابن سعد 1/150، مرجع سابق .(1/64)
وقد ورد ما يدل على أن شق الصدر وقع أكثر من مرة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (فأردت أن أرجع، فإذا أنا به وبميكائيل، قد سدا الأفق فهبط جبريل - عليه السلام - فبقي ميكائيل بين السماء والأرض فأخذني جبريل - عليه السلام - فسلقني بحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي، فاستخرجه، ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه، ثم أكفأني كما يكفأ الأديم أو الآنية، ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، ثم قال: اقرأ ! قلت: ما قرأت كتابا قط . فلم أدر ما اقرأ! ثم قال:اقرأ .فقلت ما أقرأ؟ فقال { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) ... } حتى انتهينا إلى خمس آيات منها، فما نسيت شيئاً بعد، ثم وزنني برجل، فوزنته ثم وزنني بآخر فوزنته، حتى وزنت بمائة رجل، فقال: ميكائيل من فوقه: أمة ورب الكعبة، ثم أقبلت فجعلت لا يلقاني حجر، ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله !حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك، يا رسول الله!) (1) .
__________
(1) (الهيثمي) الحافظ نور الدين: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ص 23، للحارث بن أبي أسامة، تحقيق د.حسين أحمد صالح الباكري، 1413هـ-1992م، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية – المدينة المنورة .(1/65)
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "ومناسبته ظاهرة" (1) . ولم يتكلم على إسناده فيكون حسنًا أو صحيحاً عنده على ما شرطه في المقدمة (2) .
والمقتضى الفعلي لهذا الإعداد للقلب قد ترتب عليه أمور جليلة، بعد أن كانت هذه التهيئة له، لعل أهمها: نزول القرآن على قلبه، وقدرته على استيعابه وتحمله، ومن صورها المحسوسة أن قلبه لا ينام وإن كانت عينه تنام .
2- ثم بدأ يتعدى القوى البشرية القاصرة: فكان يرى ما لا يستطيع البشر رؤيته، ويسمع مالا يستطيعون سماعه، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أصبع إلا ملك ساجد ... ) الحديث (3) .
__________
(1) قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- 1/464، مرجع سابق: "وقد روى الطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها -أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء، والله أعلم . وروى الشق أيضا وهو ابن عشر، أو نحوها في قصة له مع عبد المطلب أخرجها أبو نعيم في الدلائل، وروى مرة أخري خامسة ولا تثبت".
(2) (ابن حجر) أحمد بن علي حجر العسقلاني: هدي الساري مقدمة فتح الباري ص5، حقق أصولها: عبد العزيز بن باز رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط1، 1410هـ –1989م، دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان .
(3) مسند أحمد 5/173، مرجع سابق، المستدرك 2/554، مرجع سابق .(1/66)
ومن ذلك: أنه يمكن أن يرى بعض العوالم الغيبية في حدود ما أتاح الله - سبحانه وتعالى - له كالملائكة والجن، فأما الملائكة فظاهر من هذا الحديث، ومن الحديث عن جبريل - عليه السلام - وأما الجن فنحو حديث كلامه ورؤيته لجن نصيبين (1) ، وقبضه على الشيطان الذي مر بين يديه (2) .
وأما السماع فكسمعه - صلى الله عليه وسلم - للمعذبين في القبر، كما قال: (لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) (3) ، وهذا الحديث دال على أنه أوتي قوى أخرى كالصبر على تحمل سماع عذاب القبر، وذلك كله في حدود معينة، لا أنه قد خرج عن طبيعته البشرية خروجاً كلياً، ومن أهم ثمار ذلك مما له تعلق بموضوع البحث: ترسيخ اليقين في نفسه بوحي ربه - عز وجل - بصفة خاصة، وتأكده بأن الذي يأتيه ملَك لا شيطان .
__________
(1) وردت روايات في جن نصيبين منها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، قال: (من هذا)، فقال: أنا أبو هريرة . فقال: (أبغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة)، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعت إلى جنبه، ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة ؟ قال: (هما من طعام الجن، وإنه قد أتاني وفد جن نصيبين -ونعم الجن- فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً) أخرجه البخاري 3/1401، مرجع سابق، وانظر: قصةً أخرى في جن نصيبين: المستدرك للحاكم 1/751، مرجع سابق .
(2) البخاري 2/900، مرجع سابق .
(3) المستدرك على الصحيحين 1/98، مرجع سابق .(1/67)
وابتدأ ظهور إحساسه مادياً بالعوالم الغيبية، وبدايات تمييزها لكن دون يقين قبيل الوحي إليه تمهيداً لنزول الوحي عليه، ولأنه لم يأته الوحي صراحة فقد خاف من هذه الظواهر على نفسه: فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة: (يا خديجة ! إني أرى ضوءاً، وأسمع صوتاً، لقد خشيت أن أكون كاهناً فقالت: إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله، إنك تصدق ... ) الحديث (1) ، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا خديجة ! إني أسمع صوتاً، وأرى ضوءاً، وإني أخشى أن يكون في جنن) (2) .
3-وكان جبريل - عليه السلام - يأتيه في المنام: كنوع من التدريج في اعتياد الطبيعة البشرية لرسول الله عليه؛ ففي حديث عائشة –رضي الله تعالى عنها –في بدء الوحي قالت: أول ما بدئ به رسول الله الرؤيا (3) ... قال ابن حجر –رحمه الله تعالى-: "(ما) في الحديث نكرة موصوفة، أي أول شيء، ووقع صريحاً في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند ابن عائذ، ووقع في مراسيل عبد الله بن أبي بكر بن حزم عند الدولابي ما يدل على أن الذي كان يراه - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل، ولفظه: أنه قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل - عليه السلام - { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } : (أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام، فإنه جبريل - عليه السلام - استعلن)" (4) .
__________
(1) الطبقات الكبرى 194/1، مرجع سابق .
(2) الطبقات الكبرى 194/1، مرجع سابق .
(3) البخاري 1/3، مرجع سابق .
(4) فتح الباري 1/14، مرجع سابق .(1/68)
4-الرؤيا الصادقة: فقد جاء في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-عند البخاري:(أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة ... وفي لفظ له: الرؤيا الصادقة) ... وقد ذُكِرَ في الحديث تفسيرها حيث قالت عائشة: (فكان لا يرى رؤيا إلا وقعت مثل فلق الصبح) (1) ، فالرؤيا الصادقة: "هي التي ليس فيها ضغث، قال ابن المرابط: هي التي ليست ضغثاً، ولا من تلبيس الشيطان، ولا فيها ضرب مثلٍ مُشْكِل (2) ، أي في أول المبتدءات من إيجاد الوحي الرؤيا (3) ... وإنما شبهها بفلق الصبح دون غيره-كما قال ابن أبي جمرة- لأن شمس النبوة كانت الرؤيا مبادى أنوارها، فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقت الشمس (4) .
وعن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود - رضي الله عنه - : (إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي في اليقظة) (5) .
وأكثر ما سبق من الممهدات في المنام، وذاك في ذاته تمهيد لليقظة .
__________
(1) البخاري 1/3، مرجع سابق .
(2) قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- تعقبياً: "وتعقب الأخير بأنه إن أراد بالمشكل ما لا يوقف على تأويله، فمسلم
وإلا فلا".
(3) والعلاقة بين الرؤيا الصالحة والصادقة أنهما بمعنى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كلها صادقة، وقد تكون صالحة، وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا كما وقع في الرؤيا يوم أحد، وأما رؤيا غير الأنبياء: فبينهما عموم وخصوص، إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقاً، وقيل: الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه، أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به ما لا يكذب، والصالحة ما يسر .
(4) فتح الباري 8/717، مرجع سابق .
(5) قال في فتح الباري 8/ 719، مرجع سابق: "روه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن".(1/69)
5- الآيات التي كانت تظهر له: مثل تسليم الحجر؛ كما ثبت عن جابر ابن سمرة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن) (1) .
وأول ذلك مطلقاً ما سمعه من بحيرى الراهب، ثم ما سمعه عند بناء الكعبة حيث قيل له اشدد عليك إزارك وهو في صحيح البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - (2) .
6-التحنث: فقد جاء في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (ثم حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء ... ) (3) .
فقولها (حبب): لم يسم فاعله؛ لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو ليُنَبَه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.
والخلاء بالمد الخلوة، والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له (4) . وقد فُسِرَ في الحديث معنى التحنث من بعض رواته، فقال: (وهو التعبد الليالي ذوات العدد) .
وقد قيل في تأويل التحنث أنه من الحنفية إذ تبدل الثاء من الفاء كثيراً، أو من إلقاء الحنث وهو الإثم (5) .
__________
(1) صحيح مسلم 4/1782، مرجع سابق .
(2) فتح الباري 3/443، مرجع سابق، وقال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في حديث بحيرى الراهب: "وهو عند الترمذي عن أبي موسى بإسناد قوي" .
(3) البخاري 1/3، مرجع سابق .
(4) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/13، مرجع سابق .
(5) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/13، مرجع سابق .(1/70)
... وحتى لا يتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاتصال بالشياطين، أو بالفيض الفلسفي الذاتي من خلال الاستيحاش بالناس، والاستئناس بالخلوة؛ إذ ذاك مظنة لهما – فإن من أبرز الحقائق التي صاحبت خلوته - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن مبتدعها في قريش، بل كانت تلك عادة متأصلة فيهم، فإن الزمن الذي كان يخلو فيه كان شهر رمضان (1) ، وكانت قريش تفعله، كما كانت تصوم عاشوراء، وهم لم ينازعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء، مع مزيد الفضل فيه على غيره؛ لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكان يعظمونه لجلالته، وكبر سنه، فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان - صلى الله عليه وسلم - يخلو بمكان جده، وسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم (2) .
وهل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - متوقعاً للوحي بعد ظهور هذه العلامات كما يدل له كلام البلقيني، أم لا لشاهد فزعه، ولقول عائشة-رضي الله تعالى عنها-: فجئه الحق، وأيده النووي ... ؟. قال ابن حجر: الظاهر أن الأولى: ترك الجزم بأحد الأمرين (3) ، ولكن قوله تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } "القصص/86" ظاهرٌ في نفي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوقع شيئاً من الوحي .
المطلب الثاني: التهيئة البشرية للوحي:
__________
(1) رواه ابن إسحاق كما قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-في فتح الباري 12/361، مرجع سابق .
(2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/ 13، مرجع سابق .
(3) انظر: فتح الباري 12/356، مرجع سابق .(1/71)
فكما أن الله - عز وجل - أمر جبريل - عليه السلام - ومن أعانه من الملائكة بتهيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - تهيئة إلهية مما هو خارج عن نطاق القدرة البشرية، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهيئ نفسه ومحيطه تهيئة يلهمها الله - عز وجل - له بطريق من طرق الوحي لكيما يتلقى الوحي الذي يأتيه متتابعاً قرآناً كان أو غيره وهذه التهيئة نوعان:
أ - التهيئة الذاتية: ويشير إليها ملمحان:
أولهما: معالجته الشدة في تلقي القرآن كما سيأتي في حديث المعالجة (1) ؛ وما تلك المعالجة إلا لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبذله من طاقة مستطاعة لحفظ القرآن الكريم، بعد أن أخبر بثقله في قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاَ } "المزمل/5 "، فكأن هذه الآية كانت داعية تهيئته لتلقي لفظ القرآن الكريم .
وثانيهما: اجتنابه - صلى الله عليه وسلم - للثوم ونحوها، مما تتأذى منه الملائكة، وعندما يخاف أن تظن أمته حرمتها يبين لهم العلة، وجاء بعض الصحابة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بمرقة بقر فيها ثوم، فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ريح الثوم فقال:(أخرجها) قال: لم يا رسول الله ؟ ! أحرام ؟ فقال: (لا، ولكن جبريل - عليه السلام - يناجيني) (2) .
وعلل الشافعي-رحمه الله تعالى- ذلك بقوله:" ... امتنع من أكل الضب؛ لأنه عافه، لا لأنه حرمه، وقد امتنع من أكل البقول ذوات الريح لأن جبريل - عليه السلام - يكلمه" (3) .
ب-التهيئة البيئية: لمحيطه الذي يتلقى فيه الوحي:
__________
(1) انظر: الفصل الثالث -المبحث السادس من هذه الدراسة .
(2) (الطبراني) أبو القاسم مسند الدنيا سليمان بن أحمد بن أيوب: المعجم الكبير 2/456، مراجعة: حمدي عبد الحميد السلفي، 1404 هـ – 1983م، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، أصله في صحيح مسلم 3/200، مرجع سابق، دون ذكر جبريل .
(3) تأويل مختلف الحديث 310، مرجع سابق .(1/72)
وأنموذجه ما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أتاني جبريل - عليه السلام - فقال أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام سترٍ فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: إما أن تقطع رؤوسها، أو تجعل بسطاً توطأ) (1) .
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - فقال: (إنا لا ندخل بيتاً، فيه صورة، ولا كلب) (2) .
وهكذا كانت التهيئة الإلهية والتهيئة البشرية لاتصال أمين الوحي في السماء - عليه السلام - بأمين الوحي في الأرض - صلى الله عليه وسلم - ... وتمضي هالات التعليم النورانية بين أشرف الخلق في السماء - عليه السلام - ، وأشرف الخلق في الأرض والسماء - صلى الله عليه وسلم - ،لتَعلُّم وتعليم خير الكلام في الأرض والسماء:
محمد في فؤاد الغار مرتجفُ ... ..في كفه الدهر والتاريخ والصحفُ
مزمل في رداء الطهر، قد صعدت ... أنفاسه في ربوع الكون تأتلفُ
جبريل يروي لنا الآيات في حُلَلٍ ... من القداسات والأفلاك قد دلفوا
من السموات تهمي كل غادية ... ... . على ديارٍ بنوها بالهدى شغفوا
المبحث الثاني:
إمكانية الاتصال المطلق بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) (الترمذي) أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي 279هـ : الجامع الصحيح سنن الترمذي 3/381، مراجعة: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، وقال الترمذي: "حسن صحيح" وقال الشيخ الألباني: "صحيح" .
(2) صحيح البخاري3/1179، مرجع سابق .(1/73)
يدرس هذا المبحث مسألة الإطلاق في اتصال جبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً ومكاناً، فلا يحول دون لقائه به حائل، وذلك حتى تطمئن قلوب المؤمنين بدقة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم؛ إذ إن إمكانية الاتصال المطلق من أهم سمات اتصال جبريل - عليه السلام - به، ولقائه له، ومن سمات هذا الإطلاق:(1/74)
1- الالتقاء الخفي، والكلام الخفي: فلا ضير في وجود بشر من حوله، أو عدم وجودهم لخفاء اتصاله، حيث كان مجيء جبريل - عليه السلام - دون أن يشعر به الناس، وحديثه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامهم، ولا يسمعونه، ليدل بذلك على إمكانية الاتصال به في أي وقت دون عائق تثيره بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو غيره؛ إذ الاتصال به أمر خارج عن نطاق البشر، وكان هذا من أسباب التهيئة الإلهية للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم (1) ، ومما يدل على ذلك ما في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كنت مع أبي عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل يناجيه، وفي لفظ: وهو كالمعرض عن العباس - رضي الله عنه - فخرجنا من عنده، فقال: ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني؟، فقلت: إنه كان عنده رجل يناجيه، وفي لفظ: فقال: أو كان عنده أحد ؟ قلت: نعم! قال: فرجع إليه، فقال: يا رسول الله! هل كان عندك أحد؟؛ فإن عبد الله أخبرني أن عندك رجلاً تناجيه. قال: (هل رأيته يا عبد الله ؟) قال: نعم ! قال: (ذاك جبريل، وهو الذي شغلني عنك) (2) ،
__________
(1) انظر: المبحث السابق من هذا الفصل- المطلب الأول .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/293، مرجع سابق، وإنما لا يرى جبريل - عليه السلام - لأنه الروح، والروح: قال في النهاية: "ومنه الحديث الملائكة الرُّوحانِيُّون، يروي بضم الراء وفتحها، كأنه نسْبة إلى الرُّوح، أو الرَّوح وهو نسيم الرّيح، والألفُ والنونُ من زيادات النَّسَب، ويريد به أنهم أجسامٌ لَطيفةٌ لا يُدرِكها البصر، ومنه: حديث ضماد: "إني أعَالِجُ من هذه الأرْواح: الأرواحُ هاهنا كِنايةٌ عن الجنِّ، سُمُّوا أرْواحاً لكونهم لا يُرَوْن فهُم بمنزلة الأرْواحِ"..(1/75)
وكما في حديث عائشة-رضي الله تعالى عنها-أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: (يا عائشة! هذا جبريل يقرأ عليك السلام) فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى تريد النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
2- ويناديه ويكلمه دون أن يشعر أحد من حواليه غالباً سماعاً، كما هو رؤية: فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي انقلب، فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً، وانتعل رويداً، وفتح الباب، فخرج، ثم أجافه رويداً، فجعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف، فانحرفت، فأسرع، فأسرعت ... قال: (فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم ... ) الحديث (2) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/1177، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم 2/669، مرجع سابق .(1/76)
وغاية ما كانت تصل إليه قدراتهم، أن يظنوا وجود جبريل - عليه السلام - معه، أو يعتادوا على بعض علامات محسوسة تدل عليه فقط، مع كثرة معاشرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وممارستهم لخبره عن مجيء الوحي له: فعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو غضبان، ونحن نرى أن معه جبريل - عليه السلام - حتى صعد المنبر-إلى أن قال أنس- ثم التفت نحو الحائط فقال: (لم أر كاليوم في الخير والشر، أريت الجنة والنار وراء هذا الحائط) (1) .
وقد عبر أنس - رضي الله عنه - عن الظن بالفعل (نرى) (2) .
وكما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله فقال: (إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) فقال رجل:يا رسول الله ! أويأتي الخير بالشر ؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ما شأنك تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكلمك، فرأينا أنه ينزل عليه . قال: فمسح عنه الرحضاء فقال: (أين السائل)، وكأنه حمده، فقال: (إنه لا يأتي الخير بالشر ... )الحديث (3) .
__________
(1) (الموصلي) أبو يعلي أحمد بن علي بن المثنى التميمي (210 -ت307هـ): مسند أبي يعلى 4/65، مراجعة: حسين سليم أسد، 1404هـ –1984م، دار المأمون للتراث – دمشق، وقال حسين أسد: "إسناده على شرط مسلم" .
(2) وهو يدل على الظن حيث كانت القرينة، كما قال تعالى: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا } "المعارج/6"، وهم إنما يظنون ظناً بدليل قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } "الجاثية/32".
(3) صحيح البخاري 2/532، مرجع سابق، وهو يدل على مجيء الوحي غير القرآني شديداً .(1/77)
ومما يدل على رؤيتهم أو اعتيادهم لبعض العلامات الحسية المصاحبة لمجيء الملَك: علامات الكرب المصاحبة للوحي كما سيأتي –إن شاء الله تعالى- (1) .
... ومن هذه العلامات ما جاء عن عائشة -رضي الله تعالى عنها-أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الأحزاب دخل المغتسل ليغتسل، فجاء جبريل - عليه السلام - فقال: أو قد وضعتم السلاح؟، ما وضعنا أسلحتنا بعد . انهد إلى بني قريظة، فقالت عائشة –رضي الله تعالى عنها-:كأني أنظر إلى جبريل - عليه السلام - من خلل الباب قد عصب رأسه من الغبار (2) ، وعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل (3) .
فالأذن المعتادة لا تسمع جبريل - عليه السلام - ، والعين المعتادة لا تراه، وذلك لأنه يصل إلى مركز الإبصار، ومركز السمع مباشرة ... ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : (هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم) فلما أراد جبريل - عليه السلام - أن يعلمهم كان لا بد من أن يتمثل لهم بشراً تدرك عيونهم صورته، وتدرك أسماعهم صوته .
ولا يستطيع البشر أن يروا الملك إلا إذا تمثل لهم بشراً، فقرر النووي (في حديث أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- حيث رأت جبريل على صورة دحية): أن "فيه جواز رؤية البشر غير الأنبياء للملائكة، ووقوع ذلك، ويرونهم على صورة الآدميين؛ لأنهم لا يقوون على رؤيتهم على صورهم" (4) ، ويشير إلى ذلك قوله تعالى { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } "الأنعام /9"، وأوضح دليل على ذلك : كلام الملائكة مع مريم بنت عمران –عليها السلام- حيث تمثل لها الملك بشراً سوياً.
__________
(1) انظر: الفصل الثالث- المبحث الخامس .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 131/6، مرجع سابق .
(3) صحيح البخاري 3/1176، مرجع سابق .
(4) فتح الباري 4/235، مرجع سابق .(1/78)
3-الإطلاق من حيث النداء والوقت: فعن أنس - رضي الله عنه - :احفظوا هذا فإنه من كنز الحديث، قال: غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسار ذلك اليوم إلى الليل، فلما كان الليل نزل وعسكر الناس حوله ونام هو، وأبو طلحة زوج أم أنس، وفلان، وفلان، أربعة، فتوسد النبي - صلى الله عليه وسلم - يد راحلته، ثم نام، ونام الأربعة إلى جنبه، فلما ذهب عتمة من الليل، رفعوا رؤوسهم فلم يجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند راحلته، فذهبوا يلتمسون النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يلقوه مقبلاً، فقالوا: جعلنا الله فداك، أين كنت ؟ فإنا فزعنا لك؛ إذ لم نرك . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - :(كنت نائماً حيث رأيتم، فسمعت في نومي دوياً كدوي الرحى، أوهزيزاً كهزيز الرحى، ففزعت في منامي، فوثبت، فمضيت فاستقبلني جبريل فقال: يا محمد ! إن الله عز وجل بعثني إليك الساعة لأخيرك، فاختر إما أن يدخل نصف أمتك الجنة، وإما الشفاعة يوم القيامة ... ) الحديث (1) .
__________
(1) المعجم الأوسط 2 /233، مرجع سابق .(1/79)
ولنداء جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - علامات لا يحس بها الآخرون غالباً، فإن أحسوا بها كان إحساساً غير متميز: فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أبصر يعني أحداً قال: (ما أحب أنه يحول لي ذهباً يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث إلا ديناراً أرصده لدين - ثم قال-: إن الأكثرين هم الأقلون إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم) وقال: (مكانك) وتقدم غير بعيد، فسمعت صوتاً، فأردت أن آتيه، ثم ذكرت قوله مكانك حتى آتيك، فلما جاء، قلت: يا رسول الله! الذي سمعت -أو قال-:الصوت الذي سمعت، قال: (وهل سمعت ؟) قلت: نعم قال:(أتاني جبريل فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة .قلت: وإن فعل كذا وكذا؟قال: نعم) (1) .
4- الإطلاق من حيث المكان: وكان يجيئه حيث كان عند اقتضاء المجيء، ووجود الأمر الإلهي بالنزول: فعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: دخلت المسجد فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجاً من المسجد، فاتبعته أمشي وراءه، ولا يشعر حتى دخل نخلاً، فاستقبل القبلة، فسجد فأطال السجود، وأنا وراءه حتى ظننت أن الله - عز وجل - قد توفاه فأقبلت أمشي حتى جئته فطأطأت رأسي أنظر في وجهه، فرفع رأسه، فقال: (ما لك يا عبد الرحمن؟) فقلت له: لما أطلت السجود يا رسول الله !خشيت أن يكون الله عز وجل قد توفى نفسك، فجئت أنظر، فقال:(إني لما دخلت النخل لقيت جبريل - عليه السلام - فقال:إني أبشرك أن الله عز وجل يقول: من سلم عليك سلمتُ عليه، ومن صلى عليك صليتُ عليه) (2) .
__________
(1) صحيح البخاري 2/841، مرجع سابق .
(2) سنن البيهقي الكبرى9/285، مرجع سابق .(1/80)
بل يأتيه إلى أخص أماكنه: فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع يوم الخندق، ووضع السلاح، واغتسل فأتاه جبريل - عليه السلام - وقد عصب رأسه الغبار، فقال:(وضعت السلاح ؟ فوالله ما وضعته) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فأين؟. قال: هاهنا، وأومأ إلى بني قريظة) قالت: فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . وما سبق من أدلة تدل على هذا الإطلاق في المكان، في معسكره، وسفره، قاعداً أو قائماً أو مضطجعاً أو مقاتلاً ...
__________
(1) صحيح البخاري 3/1035، مرجع سابق .(1/81)
وبعد : فلا إشكال ولا لبس في حدوث عملية الوحي بين عالم الملائكة متمثلاً بجبريل - عليه السلام - وبين عالم البشر متمثلاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تتلقف من قبل بعض الألسنة بالغمز أو اللمز ... تلك كانت شنشنة المستكبرين من قبل إذ قالوا { أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } "ص/8" ... فلقد رأينا في عصرنا صوراً من الوحي الخفي الذي يقع بين الناس بعد أن يتوافر فيه شرطان: وسيلة الإرسال المناسبة، ووسيلة الاستقبال الخاصة ... فترى شخصاً في قرية أو مجتمع يتلقى المعلومات من شخص آخر بعيد، يملك جهاز الإرسال المناسب، فيسمعه بأدق ما يكون السماع ... ومن لا يملك جهاز الاستقبال بجواره لا يسمع شيئاً ... بل يتعدى الأمر من السماع إلى الرؤية، فبواسطة الهاتف المرئي تستطيع أن تسمع بجهازك كما تستطيع أن ترى لكلام وصورة تبعد عنك آلاف الأميال وتحادثها ... فالشرط هو وجود جهاز الإرسال والاستقبال ... فإذا كان هذا صنع الإنسان، وهو ما يزال يعد بالمزيد مستقبلاً ... فإن الذهن يتقبل بتلقائية شديدة أن يكون خالق الإنسان قد زود المصطفين من رسله من الملائكة ومن الناس بما يمكنهم من الاتصال المباشر ... وقد تقدمت مظاهر الإعداد الإلهي لجبريل - عليه السلام - في الفصل الأول ليكون أمين وحي الله - عز وجل - ، كما سبقت آنفاً مظاهر من التهيئة الإلهية الخاصة للنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - فهي لمحات تبين أن الاتصال بين المستويين الفيزيائيَين لعالمي الملائكة والبشر أيسر –حتى- من الاتصال بين البشر والبشر.(1/82)
ولذا فإن الاتصال المباشر بين مستويين من عالم الوجود الملائكي والبشري دون واسطة آلات لا شك يتطلب قدرة خاصة ليتم التلقي، وقدرة أخرى عند الاثنين (جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - )ليتم الوحي ... ولذلك كنا نرى الآثار الشديدة للاتصال بينهما تظهر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلقى الوحي بعد أن هيأه الله لذلك الاتصال ... كما سيرد في المبحث الخامس من الفصل الثالث –إن شاء الله تعالى- .
المانع من قرب جبريل - عليه السلام - :
ويأتي جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث هو زماناً ومكاناً إلا أن يوجد مانع، كأن تكون امرأته - صلى الله عليه وسلم - خلعت ثيابها، أو وجد في البيت ما يمنع الملك من الدخول (1) ، وتقدم ما يدل على ذلك، ولا يعني أنه لا يكلمه إن وجد المانع، بل يكلمه، ولكن من مكان بعيد عن مكان المانع فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها-أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك ... )الحديث (2) .
المبحث الثالث:
هيئات مجيء الملك بالوحي القرآني (من حيث عموم الوحي):
__________
(1) انظر: المطلب الأول- المبحث الأول- من هذا الفصل .
(2) صحيح مسلم 2/669، مرجع سابق .(1/83)
تعددت الوسائط التي يأتي بها الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هما المذكورتان في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-أن الحارث بن هشام - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهوأشده علي، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول) قالت عائشة-رضي الله تعالى عنها-:ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً (1) ، وفي لفظ له: (كل ذاك: يأتي الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس ... ) .
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "فقوله (كيف يأتيك الوحي) يحتمل أن يكون المسئول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك، وقوله: (كل ذلك يأتي الملك): أي كل ذلك حالتان" (2) .
وهل مجيء الوحي منحصر في الحالتين ؟ظاهر الحديث يشير إلى ذلك، خاصة مع قوله: (يأتيني على نحوين) في رواية ابن سعد (3) ، وقوله (كل ذاك يأتي الملك)، وفيه فائدة جليلة من حيث مجيء الوحي في صورة معلومة محسوسة لا يمكنه الشك فيها، بخلاف ما لو كان إلهاماً مثلاً، وليس المراد هنا نفي الإلهام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو ثابت، لكن لا لتبليغ الوحي المأمور بتبليغه؛ إذ هذا يرجع إلى هاتين الصورتين لذا الدليل، ومن قال بالعكس فضمان الدليل عليه .
... والمقتضى المنهجي لذلك: غرس الاطمئنان على دقة نقل الوحي القرآني من حيث مجيئه في صورة محسوسة، فلا لبس فيها أولاً، ولا يتطرق القادح إليها بسبب الخفاء ثانياً، بخلاف الإلهام في كل ذلك حيث يمكن ادعاء ذلك فيه لخفائه.
__________
(1) صحيح البخاري 1/4، مرجع سابق .
(2) فتح الباري 1/22، مرجع سابق .
(3) الطبقات الكبرى 1/197، مرجع سابق، وقال عنها ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "مرسل مع ثقة رجاله" .(1/84)
وقد أُورِد على هذا الحصر أنه قد ثبت مجيئ الوحي في غير هاتين الصورتين، وقد ذكر ذلك ابن حجر-رحمه الله تعالى-وأجاب عليه (1) ، والجواب الجامع أن يقال: ما ذكر من هيئات أخرى للوحي في ذاته، أوفي حامله لا تخلو من أحد أمرين:
أن تكون عامة في الأنبياء وغيرهم، كالإلهام، والرؤيا الصادقة، فليس حولها كلام، وليس السؤال واقعاً عنها (2) .
أو أنها ترجع إلى أحد الصورتين كالنفث في الروع، ودوي النحل، فهو كصلصلة الجرس، أو تكليمه - صلى الله عليه وسلم - لربه تعالى في المعراج فذاك كان بواسطة نقل جبريل - عليه السلام - له إلى السماء ابتداء، وقد قرر الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- ذلك -بعدُ- حيث قال: "وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعاً، فذكرها، وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر" (3) .
والمراد من هذا الاستطراد تثبيت مجيء الملك بصورة محسوسة حال الوحي بصورة عامة ليغدو مسلماً في الذهن: أن الوحي كان يأتيه - صلى الله عليه وسلم - بطريق محسوس، فلا يطرأ عليه احتمال التخييل (4) ... وأما الوحي القرآني فقد كانت الاحتياطات فيه أشد من حيث إنزاله على القلب (5) .
__________
(1) انظر: فتح الباري 12 /436، مرجع سابق .
(2) لكن قد قال البعض بالفرق بين رؤيا الأنبياء وغيرهم، فرؤيا الأنبياء وحي لا يدخله خلل . انظر: فتح الباري 12/439، مرجع سابق، وعلى كلٍ فالوحي القرآني قد كان أكثر احتياطاً من أن يكون رؤيا منام، كما يلاحظ في عرض هذا الفصل وفيما يليه .
(3) فتح الباري 1/24، مرجع سابق .
(4) انظر: الفصل الخامس- المبحث الأول من هذه الدراسة .
(5) انظر: الفصل الثالث- المبحث الثاني- المطلب الثاني من هذه الدراسة .(1/85)
وليس الداعي ملحاً للاسترسال في ذكر أنواع الوحي الشرعية، واستقصاء متعلقاتها، إذ المراد معرفة نوع خاص منه هو الوحي القرآني، تعرفاً على الطريقة المنهجية المتخذة من قبل جبريل - عليه السلام - ، التي صاحبت تعليمه ألفاظ القرآن للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتطميناً على هيئة نقله من حيث اللفظ ... ولتُؤَسَسْ هذه القاعدة إذ قد أُشرعت مراكب الخوض في عمق البحث: بما أن الوحي القرآني نوع خاص من عموم الوحي، فسيذكر ما يتعلق به خاصاً من حيث اللفظ، كما سيذكر ما يتعلق به عاماً من حيث شدة ارتباطه بالخاص، فلا يرد على الباحث بعض أمور تتعلق بعموم الوحي قد ذكرت في ثنايا البحث ... .
وقد آن أوان الخوض في المقصود الأساسي من البحث بعد هذه التهيئة، بيد أن كل ماسبق وما سيتلو مبينٌ لعالم الضباب والتيه اليوم كيف حفظ الله - سبحانه وتعالى - كلامه من كل شوائب الدخل، أو لوامع الدخن، ليبقى هدى الحيارى في أزمنة استعار الضلال ...
هدى سيبقى وما عشر وأربعة من الزمان سيبقى ما الزمان بقي
الله أنزله، والله حافظه، والله ينجي به الدنيا من الرهقِ
الفصل الثالث
هيئة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام -
وفيه تسعة مباحث
إننا ندلف إلى هالات موكبٍ تعليمي تتضآل الكلمات عن وصفه ... يرسم لعوالم الاغتراب: أيُ شيءٍ كان قادة هذه الأمة، وأيُ نورٍ كانت هذه الأمة من بعد ...
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى ... ... محمد يرويها، وجبريل يكتب
وكعبتي الغراء بيتي وقبلتي.. ... .وبستاني المعمور بالحب يثرب(1/86)
وهذا الفصل يشكل لُبَّ البحث ومداره، كما هو واضح من عنوانه، وما سبق من الفصول كان تقدمةً له من حيث إثبات العوامل الإيجابية التي تخدمه، وتلاه فصلان: الرابع مكملٌ له، خادمٌ لغرضه، والخامس خاتم له من حيث نفي العوامل السلبية ... ولذا قُسِمَ هذا الفصل إلى تسعة مباحث يحاول الباحث من خلالها إعطاء صورة نموذجية واقعية لتلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم بأمر الله - عز وجل - من جبريل - عليه السلام - منذ أن يأمر الله -تعالى ذكره- جبريل - عليه السلام - بتعليم الوحي القرآني للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحتى تمام ذلك التعليم، وبلوغه الكمال بالمتابعة، والمراجعة والتعاهد ... ولذا فمباحث هذا الفصل هي:
المبحث الأول: كيفية مجيء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند تعليمه الوحي القرآني.
المبحث الثاني: هيئة إلقاء الوحي القرآني من جبريل - عليه السلام - على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المبحث الثالث: نزول جبريل - عليه السلام - توقيفي .
المبحث الرابع: مظاهر اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي القرآن الكريم قبل نزول التوقيف الإلهي .
المبحث الخامس: سمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نزول الوحي القرآني عليه .
المبحث السادس: حديث المعالجة .
المبحث السابع: التلقي والتلقين .
المبحث الثامن: كيفية قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جبريل - عليه السلام - من حيث الأمر الشرعي، والواقع التطبيقي.
المبحث التاسع: حديث المدارسة .
المبحث الأول:
كيفية مجيء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند تلقينه الوحي القرآني (1) :
__________
(1) المراد المجيء الخاص لأجل الوحي القرآني، فليُلحظ هذا الاختلاف بين ما ذكر هنا وما ذكر في المبحث الثالث من الفصل الثاني .(1/87)
... يدرس هذا المبحث هيئة مجيء جبريل - عليه السلام - ليلقي الوحي القرآني من أول أمر الله - سبحانه وتعالى - له بالنزول حتى إلقائه القرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد وصف القرآن الكريم هيئة مجيء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند إبلاغه الوحي القرآني وصفاً دقيقاً، وكان جل ذلك الوصف في سورة النجم (1) ،
__________
(1) ولا ينكر منكر على البحث إظهارَ كيفية تعليم الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - عليه السلام - من خلال هذه الآيات فقد ذكر ذلك عدد من أرباب التفسير، قال أبو السعود في تفسيره (5/43)، مرجع سابق: "في قوله تعالى { فَاسْتَوَى } عطف على { عَلَّمَهُ } بطريق التفسير، فإنه إلى قوله تعالى { مَا أَوْحَى } بيان لكيفية التعليم"، فإن اعتُرض بأن هذا وصف للوحي في حالين فقط كان فيهما جبريل - عليه السلام - بخلقته الأصلية، وليس وصفاً للوحي بصورته الدائمة، فالجواب: فليكن كذلك، وكما وصف اتصال جبريل - عليه السلام - بذلك في حالين، هو دأبه في اتصاله به دائماً، ما خلا صورته الأصلية؛ إذ قام الدليل على حصرها، ولا دليل على حصر بقية الأوصاف في هذه السورة في الحالين، على أن الوحي القرآني النازل على القلب، يأخذ صورة غير الصورة التي يأتيه فيها الملك بصورة رجل، كما هو ظاهر من وصف نزوله بالقرآن بأنه (على القلب) ..(1/88)
التي صُدِّرت آياتها بإعلاء شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً للإرادة الإلهية في اختياره للنبوة، وإبلاغ كلام الله للناس، والهجوم على قادحٍ في ذلك يلقيه شياطين الإنس والجن ... فلما قال - عز وجل - { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } "النجم/4"، استؤنف الكلام استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: فكيف يأتيه هذا الوحي؟، ومن يأتيه به؟، وكيف يلقيه إليه فيعيه، ولا يفارقنا؟، وكيف يأتيه الوحي القرآني وهو كلام الله - عز وجل - ، فيطيقه وهو بشر؟، فقال الله - سبحانه وتعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... } "النجم/5"، فسورة النجم: "مقصودها ذم الهوى، لإنتاجه الضلال والعمى ... والحث على اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذارته التي بينتها سورة (ق)، وصدقتها سورة الذاريات، وأوقعتها وعينتها الطور" (1) .
ومن ثم فلا إنكار على سائل على كيفية اتصال الملك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، للتفاوت في الخِلْقَة بين عالم الملائكة الذين هيأهم الله - سبحانه وتعالى - بقوى بها يكونوا عنده، وبين البشر الذين الذين يضعفون عن مشاهدة عالم الملائكة أو الجن فضلاً عن تحملهم للوحي الإلهي، فاحتاجوا إلى الواسطة لنقل هذا الوحي"ولما كان الوحي ظاهراً في كونه بواسطة المَلَك، تشوف السامع إلى بيان ذلك؛لأن ذلك أضخم في حقه - صلى الله عليه وسلم - وأعلى لمقداره" (2) .
__________
(1) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 19/40، مرجع سابق .
(2) انظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 19/40، مرجع سابق .(1/89)
... فلنتتبع هذا الوصف القرآني (1) لتلقي جبريل - عليه السلام - الوحي القرآني من الله - عز وجل - (2) ، وكيفية نزوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - :
1- يسمع من الله - سبحانه وتعالى - جبريل - عليه السلام - الوحي الذي ينزل به: كما في حديث النواس بن سمعان السابق (3) ، وفيه(فينتهي جبريل إلى حيث أُمر من سماء أو أرض) . وجبريل - عليه السلام - هو الذي يُلقي على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي القرآني، وهو أمين الوحي في السماء والأرض، ورسول الله - عز وجل - إلى رسله من البشر .
2- وهو معلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذي الصفات البالغة في قدرة حاملها على أداء هذه الرسالة على أتم وجه وأحسنه، فليس مُعَلِّم النبي - صلى الله عليه وسلم - مخلوقاً عادياً بل لقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - { شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ } "النجم/5-6" وقد تقدمت صفاته (4) .
3- لكن أبرز صفاته التي يشار إليها في هذا المقام -إذ أظهر الغَفَلَةُ تعجبهم من اتصال الملأ الأعلى بالبشر، وسرعة وصول الرسول السماوي إلى الرسول البشري مع وجود هذه المسافات الهائلة بينهما-أنه { ... شَدِيدُ الْقُوَى(5) ذُو مِرَّةٍ ... } ، وقد تقدم شرحها (5) .
__________
(1) ففيه كما قال في التحرير والتنوير (27/95): "تمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس؛ لقصد بيان إمكان تلقي الوحي عن الله تعالى؛ إذ كان المشركون يحيلونه، فبين لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالاً وهذه كيفية من صور الوحي" .
(2) وقد أعرض البحث عن الأقوال الواردة في كيفية تلقي الملك للوحي، لأنها محض تخمين في أمر غيبي، لا يظهر فيه للتحقيق العلمي أثر إلا بالتسليم لظاهر النصوص الدالة على السماع ... .
(3) انظر: الفصل الأول-المبحث الثالث .
(4) انظر: الفصل الأول- المبحث الثاني .
(5) انظر: الفصل الأول- المبحث الثاني .(1/90)
4- عندما يريد الله - عز وجل - من جبريل - عليه السلام - الوصول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لتبليغه الوحي-إرادة أمر وإذن (1) -فإنه يستعد للقيام بأمر الله، وهو بالأفق الأعلى، فاستعداده هنا فعليٌ بعد أن كان استعداداً فطرياً؛ ذلك بأن الأفق هو اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طرف منتهى النظر من الأرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب،ووصفه بالأعلى ليفيد أنه من ناحية السماء (2) ، ويومئ لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنما ذلك جبريل، ما رأيته في الصورة التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض) (3) .
__________
(1) تفصيل هذه الإرادة الإلهية: في المبحث الثالث من هذا الفصل .
(2) وقيل هي رؤيته له بحراء قد سد الأفق . انظر: (أبو حيان)محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي ت754 هـ: البحر المحيط 8/157، ط2 1411هت –1990م، دار إحياء التراث العربي–بيروت، وقوله { دَنَا } تبعد ذلك، وقيل فيها دنا: أي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل - عليه السلام - . انظر: تفسير أبي السعود 5/218، مرجع سابق، وواضح وهن هذا القول من حيث سياق الآيات، ومن حيث طبيعة قصة الإسراء .
(3) سنن الترمذي 5/ 262، مرجع سابق .(1/91)
فإن اعتُرض بأن: هذا دال على رؤيته له، لا على استعداده للنزول ... فلا يستقيم الاستدلال! فالجواب:نعم !يدل على رؤيته له، ولكن تبقى الآية محتملة للأمرين إن كان بقية الحديث منقطعاً عما قبله، كأنه قال: المراد في الآيات هو جبريل - عليه السلام - ، ثم استأنف فقال: ما رأيته ... ، والأقرب هو ما استدل به عليه هاهنا من حيث أن سياق الآيات وسببها بصدد تقرير صدق الوحي، وإمكانية اتصال الملك بالرسول (1) .
واستعداده لأداء هذه الرسالة والنزول بها إلى العالم الأرضي كما قال - سبحانه وتعالى - { فَاسْتَوَى } في سورة النجم مفرع على ما تقدم من قوله { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم /5"، والفاء لتفصيل { عَلَّمه } والمستوي هو جبريل - عليه السلام - .
ومعنى استوائه: قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله - سبحانه وتعالى - ، كما يقال: استقل قائماً، ومثل بين يدي فلان، فاستواء جبريل - عليه السلام - هو مبدأ التهيؤ لقبول الرسالة من عند الله، وكذلك قيد هذا بجملة الحال في قوله { وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى } "النجم/ 7 "، والضمير لجبريل - عليه السلام - لا محالة، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي (2) .
__________
(1) وسورة النجم أول أغراضها تحقيق: أن الرسول صادق فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه منزه عما ادعوه، وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل - عليه السلام - ، وتقريب صفة نزول جبريل - عليه السلام - بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة . انظر: التحرير والتنوير 27/96، مرجع سابق .
(2) التحرير والتنوير 27/96، مرجع سابق .(1/92)
5- بعد استعداده لتنفيذ الأمر يبدأ بالنزول بسرعة يعلم مقدارها من أودع فيه القوة الهائلة لتبليغ الوحي القرآني إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان، فلا يبالي بمكانه في بيت أوفي فراش أو بين أصحابه أوفي جهاده كما تقدم (1) ، { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } "النجم/8"، والدنو: هو القرب، والمراد إلى حيث يبلغ الوحي وذلك إلى مكانه المحدد من الأرض "وإذ كان فعل الدنو، قد عطف بـ { ثُمَّ } على { اسْتَوَى } { بِالأُفُقِ الأَعْلَى } علم أنه دنا إلى العالم الأرضي، أي أخذ في الدنو بعد أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و { فَتَدَلَّى } انخفض من علو قليلاً، أي ينزل من طبقات إلى ما تحتها، كما يتدلى الشيء المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدلياً، وهو ينزل إلى السماء غير منقضٍ" (2) .
6- يزداد اقترابه من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يصبح على مسافة قوسين منه أو أدنى { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } "النجم /9" .
وفائدة قوله { أَوْ أَدْنَى } بيان دقة وصف المسافة بينهما؛ إذ { أو } فيه للتخيير في التقدير، وهو مستعمل في التقريب، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخير بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى أي لا أزيد، إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه .
__________
(1) في الفصل الثاني- المبحث الثاني .
(2) انظر: التحرير والتنوير 26/96، مرجع سابق .(1/93)
وفي قوله - سبحانه وتعالى - : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } "النجم/ 11"، تأكيدٌ على أن القُرْبَ قرب حسي لا مجرد اتصال روحاني، على قول من تأوله بأنه رد لتكذيب المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - الملك جبريل - عليه السلام - (1) ، ويؤيده ما رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي إسحاق الشيباني قال: سألت زر بن حبيش عن قوله - عز وجل - { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } "النجم /10-11" (2) ، قال: حدثنا ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه (3) رأى جبريل - عليه السلام - له ستمائة جناح (4) ،
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 26/98، مرجع سابق .
(2) قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "كلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى عبده محمد ... "، وقد ظهر أن الراجح في نظر الباحث أن الكلام عن جبريل - عليه السلام - لوجوه منها: سبب الآيات وسياقها وقد مضى في المبحث الأول من هذا الفصل، ومنها ما يشعر بذلك نحو قوله تعالى { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } " النجم /13"، ومنها: قدم سورة النجم في النزول فهي السورة الثالثة والعشرون، نزلت بعد سورة الإخلاص، وقبل سورة عبس (انظر: التحرير والتنوير 26/88، مرجع سابق)، وفي الأثر الذي رواه ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس - رضي الله عنه - : أنها الحادية والعشرون بين هاتين السورتين، انظر: الإتقان في علوم القرآن1/11، مرجع سابق، على أنه لا تعارض بين أن يكون الموحي هو الله تعالى، وأن يكون ما قبله في جبريل - عليه السلام - ، بل كون ما قبله في جبريل - عليه السلام - هو قول أكثر المفسرين .
(3) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - كما معلوم .
(4) صحيح البخاري 3/ 1181، مرجع سابق ..(1/94)
وعن مسروق قال: قلت لعائشة: فأين قوله { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ؟. قالت: ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق (1) .
__________
(1) صحيح البخاري 3/1181، مرجع سابق، وروى أبو يعلى في مسنده 8/ 304، مرجع سابق: عنها قالت: " أنا أعلم هذه الأمة بهذه، وأنا سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك قال: (رأيت جبريل) ثم قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الكذب على الله"، وعند مسلم 1/159، مرجع سابق عن مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة -رضي الله تعالى عنها-فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن ؟. قالت: من زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً، فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين! انظريني، ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل { ولقد رآه بالأفق المبين } "التكوير/23" { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } "النجم/ 13"؟. فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض) . ومن فوائد هذه الروايات: إسناد عائشة قولها للرسول - صلى الله عليه وسلم - صراحة، وقوله منهبطاً دال على رؤية النبي لجبريل - عليه السلام - حال نزول جبريل - عليه السلام - عليه منهبطاً من السماء لتبليغه الوحي .(1/95)
والاستدلال هاهنا فيه الكلام السابق الوارد عند ذكر هذا الحديث آنفاً (1) .
__________
(1) * فائدة: قد تأول أكثر المفسرين آيات النجم والتكوير في جبريل - عليه السلام - ، واختلافهم في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه إنما هو بأمر خارجهما، وليس ذا المعترك الكلامي ميداناً للبحث، إنما أُريد هاهنا بيان ضعف قول النووي في شرح مسلم 2/321، مرجع سابق: "لم تنف عائشة -رضي الله تعالى عنها- وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولاً، وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقاً، والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة وذلك لا ينافي الرؤية" إذ قد ثبت الحديث المرفوع الوارد في تأويل الآيتين في مسلم، حتى تعجب ابن حجر -رحمه الله تعالى- من هذا الذهول فقال: "وجزمه بأن عائشة -رضي الله تعالى عنها-لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة، فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علماً، ولم تحك عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنه لم ير ربه، وإنما تأولت الآية انتهى، وهو عجيب! فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق في الطريق المذكورة، قال مسروق وكنت متكئاً ... - ثم ذكر طريقاً آخر، وفيه: فقلت: يا رسول الله! هل رأيت ربك فقال: لا إنما رأيت جبريل منهبطاً " فتح الباري 8/ 610، مرجع سابق .
ورابط هذا الإيراد المعترض سبيل البحث بالبحث هو التأكيد على ما قُرِّر أعلاه من أن آيات النجم جاءت موضحة أنموذج الاتصال بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/96)
وعلى هذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى جبريل - عليه السلام - رؤيا حقيقية، لكنها رؤيا فؤاد كما أن العين ترى ضوءاً فترسل إشاراتها الضوئية إلى المخ فيتم وعيها في المخ ... فهل كانت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - تصل مباشرة إلى مركز الإبصار في المخ، كما أن استماعه لقراءته يصل إلى مركز السمع في المخ ... والمخ متصل بالمركز العقلي المتحكم المسمى بالفؤاد ... ؟ قد يكون الأمر كذلك؛ إذ لو كانت رؤيا جارحة لرآها كل من له الجارحة ذاتها ممن يكون موجوداً مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكان تلقي الوحي، وقد يقال باختلاف جارحة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جارحة غيره، ولذا تمت تهيئته - صلى الله عليه وسلم - لتلقي الوحي القرآني كما سبق في الفصل الثاني، ويُقَرِّبُ هذا: أننا نعلم أن الحيوانات تشترك في جارحة السمع والبصر مع تفاوتها في دقتهما، ومدى تركيزهما ... ولكن ذكر الفؤاد (1)
__________
(1) ويزيد الأمر جلاء ظهور الفرق بين { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } "النجم/11"، و { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } "النجم/17" إذ الأولى لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - عند نزوله بالوحي عليه بصفة دائمة، والثانية لرؤيته له عياناً في خلقته الأصلية في المرة الثانية من المرتين اللتين شاهد فيهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - في خلقته الأصلية ... هذا إن جُعلت كلمة البصر واردة في معناها الحقيقي المباشر وهو الجارحة المعروفة، وهو الظاهر، كما أنه الذي يدل عليه السياق ... ويحتمل أن يكون المراد مركز البصر في الدماغ أو الفؤاد ... وعلى كلا الاحتمالين فإن ذكر الفؤاد في الآية الأولى مع علمنا أنه لم يكن الصحابة يشاهدون جبريل - عليه السلام - إن جاء في الصورة الشديدة للوحي ... يؤكد أن الاتصال كان بالمركز الأصلي المباشر للإدراك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ... والأمر –بعد- بحاجة لمزيد تفصيل ... لعله يكون في طبعات قادمة –إن شاء الله تعالى-.(1/97)
يجعل الاحتمال الأول أرجح وأوقع، وإن كلن التفصيل غير مجزوم به؛ إذ قد يكون الاتصال بالمراكز الأساسية للسمع والبصر، والوعي في الفؤاد دون المرور بالمراكز التي في المخ، وقد يكون الأمر بصورة تفصيلية غير ذلك، ولكن لا شك أن الواقع العلمي الذي نعيشه اليوم قد قرب تصور هذه العملية كثيراً، وما ظَهَر يُقَرِّبُ فهم ما لم يظهر { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } "ص/88" ... ويزيد هذا الاحتمال رجحاناً ما تم من إعداد خاص لفؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق التكلم عن ذلك في أول الفصل الثاني .
فإن اعتُرض بالقول: إذا كان جبريل - عليه السلام - عند نزوله على قلب النبي لتلقينه الوحي القرآني على مسافة قاب قوسين أو أدنى- أفما كان يقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك، أو ينأى عنه أكثر ؟. فالجواب: إما أن يكون هذا تصويراً للحالة الغيبية غير المشاهدة لغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنزول الملَك عليه بالوحي، وهي أشدها عليه، فتكون في غاية الدقة في وصف مكان الملَك،والمسافة التي تبعده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحالة، وإن كان من حواليه لا يراه، وإما أن يكون تصويراً لحالة المجيء المشاهد للملَك، وهو كائن عند تمثل الملَك رجلاً، فقد كان يتم للملَك القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر كحديث عمر المشهور في مجيء جبريل - عليه السلام - يعلمهم أمر دينهم حيث جعل ركبتيه عند ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ولكن هذا المجيء المشاهد للملَك لا يتعلق به وحي قرآني؛ إذ هاهنا حقيقة تتعلق بهيئة الملَك عند الوحي القرآني هي أن الوحي القرآني لا يأتي الملَك فيه إلا بالصورة الأشد .(1/98)
فإن اعتُرض بأنه قد جاء: الوحي القرآني في غار حراء والملَك متجسدٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهرٌ بارز ؟. فالجواب: بل كان الوحي في غار حراء من أشد ما لقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي القرآني وذلك ظاهر، حتى رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ترجف بوادره (1) ، ثم قد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شُقَّ صدره هناك، وحسبك بذاك تهيئةً وشدةً لو صح، على أن تجسد الملَك له في غار حراء كان في بدايات الوحي تمهيداً لأن يعتاد الاتصال بالملَك دون أن يعتريه ضعف جسماني، ولا شك عقلي في أن الذي يتصل به ليس إلا ملك، ولذا قال صاحب التحرير والتنوير: "فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة، فكان ذاك –يعني التجسد– رفقاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه" (2) .
7- وبعد ذا القرب تكون مرحلة الإلقاء والتعليم: حيث يلقي الملَك
__________
(1) البخاري 1/4، مرجع سابق .
(2) التحرير والتنوير 26/97، مرجع سابق .(1/99)
على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله - عز وجل - به أن يلقيه { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } "النجم/ 10"، وليس إلقاء الملَك من فمٍ إلى فمٍ فحسب، بل يلقيه على قلبه - صلى الله عليه وسلم - ... كأن جبريل - عليه السلام - يصل رأساً إلى مركز السمع والبصر والوعي الكامل في الفؤاد ... إذ إن جارحة البصر(العين)، وجارحة السمع (الأذن) ما هما إلا تحويل وترجمة لما يُشاهَد ويُسْمَعُ من العالم الخارجي إلى مراكز وعيها في الدماغ ومنه إلى المركز الأصلي للوعي (الفؤاد) ... أما الملَك فيصل مباشرة بكلام مسموع، كما أن صورته تصل مباشرة إلى مركز الفؤاد، فيلقي بالوحي الإلهي على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - سماع أذن وفؤاد بدليل تحريك لسانه بعد الملَك –وسيُفصَل ذلك في المبحث الذي بعد هذا إن شاء الله - عز وجل - ، في حين يرى الصحابة آثار ذلك من الشدة التي تعتري النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتي سموها (بُرحاء الوحي) ... فيلقي الملَك الوحي حال كون هذا المُلْقَى بلسان عربي مبين، فيقرؤه جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمره الله - سبحانه وتعالى - أن يقرأه؛ ولذا نسب الفعل إلى ذاته العلية سبحانه في قوله { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } مبالغة في التأكيد على أن ما قرأه جبريل - عليه السلام - هو اللفظ الذي أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يقرأه، وبالهيئة ذاتها التي أرادها - عز وجل - ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حال قراءة جبريل - عليه السلام - مطرق مستمع لا يحرك لسانه –بعد تعليمه ذاك– حتى يقضي جبريل - عليه السلام - قراءة الوحي عليه، فإذا قضى انطلق جبريل - عليه السلام - ، وقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه جبريل - عليه السلام - ، فلا يعترض معترض على هذا الموضع بالقول: إنا لا نراه يحرك لسانه ترديداً، إذ الإلقاء على قلبه، ومعلوم أن عدم تحريك لسانه كان بعد نزول(1/100)
سورة القيامة (1) .
ويدل لما سبق تفصيله من مراحل حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء بيته بمكة جالس؛ إذ مر به عثمان بن مظعون فكشر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ألا تجلس ؟) قال: بلى ! قال فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبله، فبينما هو يحدثه، إذ شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، وأخذ ينفض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته، واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء كما شخص أول مرة، فاتبعه بصره حتى توارى في السماء فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى، قال: يا محمد! فيم كنت أجالسك، وآتيك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة . قال: (وما رأيتني فعلت ؟) قال: رأيتك تشخص ببصرك إلى السماء، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحركت إليه، وتركتني فأخذت تنفض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك، قال: (وفطنت لذاك ؟)، قال عثمان: نعم . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أتاني رسول الله آنفاً، وأنت جالس) قال: رسول الله؟. قال: (نعم) .قال: فما قال لك ؟ قال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } "النحل/90"، قال عثمان فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً (2) .
__________
(1) وبأتي مزيد تفصيل لذلك –إن شاء الله تعالى-عند ذكر حديث المعالجة: المبحث السادس من هذا الفصل .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/318، مرجع سابق .(1/101)
... وهكذا كان جبريل - عليه السلام - ينزل بالوحي على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - ... فتنزل معه على المؤمنين كلُ سكينة، وكل عزة، وكل نصر ... كيف ترى البشائر التي تنزل مع أول معلمٍ لألفاظ القرآن الكريم من الخلق طراً - عليه السلام - لأشرف متعلمٍ لألفاظ القرآن الكريم من الخلق طراً - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
وقد قال عتيبة بن عتيبة بن مرداس التميمي الذي شهد حنيناً مع المشركين، فلما رأى المسلمين انفضوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم نُصر برغم ذلك علم أنه جبريل - عليه السلام - النازل –بإذن الله –بالنصر، فثمَّ أعلن إسلامه:
فضاربوا الناس حتى لم يروا أحداً حول النبي إلى أن جَنَّهُ الغسقُ
ثمة نزل جبريل ينصرهم من السماء، فمهزومٌ ومعتنقُ
منا، ولو غير جبريل يقاتلنا لمنعتنا إذن أسيافنا العُتُقُ
المبحث الثاني:
هيئة إلقاء الوحي القرآني من جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
... يدرس هذا المبحث هيئة إلقاء الوحي القرآني بعد أن يكون جبريل - عليه السلام - قد دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلته الأولى، أي مرحلة ما قبل إلقاء الوحي القرآني كلاماً، ولذا انقسم هذا المبحث إلى مطلبين:
المطلب الأول: الهيئة العامة لإلقاء الوحي القرآني .
المطلب الثاني: النزول على القلب .
المطلب الأول: الهيئة العامة لإلقاء الوحي القرآني: فلنبن الكلام الآن ترتيباً على ما سبق في المبحث الأول:
1- ... وإذ قد دنا جبريل - عليه السلام - من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وآن أن يُلْقي عليه الوحي القرآني، ويقرؤه عليه فيجب استصحاب أمرين:
أولهما: أن جبريل - عليه السلام - هو المقرئ الوحيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقدم تقرير ذلك (1) .
__________
(1) انظر: الفصل الأول- المبحث الرابع- المطلب الثالث .(1/102)
وثانيهما: أن جبريل - عليه السلام - ليس ملكاً عادياً، بل هو الروح (1) كما أن القرآن روح... فتجتمع الحياة الحقة منهما، وإذا كانت الحياة تسري في الجسد الميت عندما ينفخ فيه الروح، فما ظنك بروحٍ يُلَقِّنُ النبي - صلى الله عليه وسلم - روحاً، وجبريل - عليه السلام - هو الأمين الذي يتسم بأمانة الأداء فلا يخرم مما يؤديه حرفاً، زيادة ولا نقصاً، كما لا يخرم المكان، ولا الزمان، ولذا استهلت آيات وصف كيفية إنزال جبريل - عليه السلام - بالقرآن بقوله تعالى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ } "النجم/194"، ويضاف إلى هذا أن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نُزع منه حظ الشيطان، وتم إعداده إعداداً إلهياً (2) ، فلا مجال فيه لمانعٍ ذاتي يمنع أو يشوش على تلقي ألفاظ القرآن الكريم .
__________
(1) انظر: الفصل الأول- المبحث الثاني- المطلب الثاني .
(2) انظر: الفصل الثاني- المبحث الأول .(1/103)
2- ينخلع النبي - صلى الله عليه وسلم - من قدرته البشرية عند رؤيته الملَك، وسماعه الوحي مع بقائه على خلقته البشرية، فالمراد انخلاع القوى الباطنة، لا الخلقة الظاهرة (1) ، فالرؤية والسماع يكونان من المركزين المباشرين للسمع والبصر في الفؤاد؛ إذ { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } "النجم/ 11" (2) ؛ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الوحي شديداً عنيفاً؛ إذ يتوجب عليه بذل قُوى فوق الطاقة البشرية للسماع غير المعتاد بشرياً، والرؤية غير المعتادة بشرياً، والملكة القوية في الحفظ مما لا يعتاد بشرياً، زيادة في التأكيد على المحفوظ إذ كان ذلك من لوازم جمعه في صدره، وليتمكن من رؤية جبريل - عليه السلام - وسماعه، وهو ما لا يراه من حوله، ولا يستطيعون سماعه (3) ،
__________
(1) فلا يَرِدُ على هذا الكلام القول بالتناسخ، أو قدرة البشر على التشكل؛ إذ ذاك ليس لهم، ولا في إمكانهم، وينبغي أن يفسر كلام العلماء الذين سينقل عنهم –بعد قليل- في هذا الموضوع بهذا التفسير؛ إذ إن بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلقته البشرية آن نزول الوحي عليه ثابت تواتراً كما يُلاحظ ذلك في النصوص التي ترد في هذا البحث .
(2) وما علاقة ذلك بمركزي السمع والبصر الكائنين في الدماغ ؟، محل نظر وبحث بدأت بعض الإشارات العلمية بالتلميح إليها، والمستقبل واعد بمزيد تجلية لهذا الموضوع .
(3) وقال الأصفهاني في أوائل تفسيره: "اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله - سبحانه وتعالى - منزل، -إلى أن قال مبيناً أن الله - عز وجل - عَلَّم جبريل - عليه السلام - كيفية قراءة كلامه في السماء وهو ما سبق في المباحث الماضية- ثم جبريل - عليه السلام - أداه في الأرض وهو يهبط إلى المكان، وفي ذلك طريقتان:
إحداهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انخلع من صورة البشرية، إلى صورة الملكية، وأخذه من جبريل - عليه السلام - ، وثانيهما: أن الملك نخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، والأولى أصعب الحالين" فتح الباري 3/123، مرجع سابق، ولا شك أن الصورتين واردتان كما في حديث الحارث بن هشام المتقدم ص68 .(1/104)
وعبر عن ذلك ابن خلدون-رحمه الله تعالى- فقال: "وصنفٌ مفطورٌ على الانسلاخ من البشرية جملة، جسمانيتها وروحانيتها إلى الملائكة من الأفق الأعلى، ليصير في لمحة من اللمحات ملكاً بالفعل، ويحصل له شهود الملأ الأعلى في أفقهم، وسماعُ الكلام ... (1) ، والخطاب الإلهي في تلك اللمحة، وهؤلاء الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- جعل الله - عز وجل - لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، وهي حالة الوحي فطرةً فطرهم الله - سبحانه وتعالى - عليها، وجِبِّلَةً صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن، وعوائقه، ما داموا ملابسين لها بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد، والاستقامة التي يحاذون بها تلك الوجهة، وركز في طبائعهم رغبةً في العبادة، تكشف بتلك الوجهة، فهم يتوجهون إلى ذلك الأُفق بذلك النوع من الانسلاخ متى شاءوا، بتلك الفطرة التي فطروا عليها، لا باكتساب، ولا صناعة، فلذا توجهوا، وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك عن الملأ الأعلى ما يتلقونه عاجوا (2) به على المدارك البشرية منزلاً في قواها لحكمة التبليغ للعباد" (3) .
__________
(1) في الأصل: الكلام النفساني ... والبحث قائم على ما قرره محققو أهل السنة والجماعة من أن الكلام حقيقي لا نفساني .
(2) أي مالوا وعادوا به بعد سماعه في طبيعة البشر .
(3) عبد الرحمن بن خلدون ت 808 هـ: مقدمة ابن خلدون 98، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة، مراجعة: د. سهيل زكار، ط 1417هـ، 1996م - دار الفكر - بيروت، وإن كان التعبير عن هذه الحالة الدقيقة التي يكون فيها الرسول متصلاً بالملَك بحاجة إلى حذر في الكلمة خشية التزيد أو الإيهام، ولذا فقول ابن خلدون: "متى شاءوا " فيه نظر كبير بل متى أذن الله - عز وجل - لهم، فجاءهم الملَك لا أنهم هم يذهبون ... ولعل من حكم ذلك بقاء صبغتهم البشرية أغلب حتى لا تكون حجة في عدم الاقتداء ...(1/105)
- وغير خافٍ أن المقتضى المنهجي هنا يجب أن يتركز في أن جهود الحفظ البشرية الضخمة للقرآن الكريم خلال القرون، المؤيدة بالرعاية الإلهية إنشاء، وإعداداً، وإمداداً، ومتابعة، يجب أن تساوي في وزنها وتركيزها هذه اللحظات التي يتلقى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - .وبعد ذلك يكون النزول بالقرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المطلب الثاني .
المطلب الثاني: النزول على القلب (1) : إن إلقاء جبريل - عليه السلام - ألفاظ القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون خطاب فمٍ لفم، بل قراءة فمٍ على قلب { عَلَى قَلْبِكَ } ، فلا يكون ثم أي ضعفٍ للبشر، ولا نقصٍ يتسم به البشر، ولا لجلجةٍ تصحب إدراك البشر؛ إذ القراءة موجهة إلى مركز إدراك البشر مباشرة، وهو المركز الذي نزع منه جبريل - عليه السلام - حظ الشيطان، وملئ حكمة (2) ... فينخلع النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها من بشريته، وهو بشر! أي ينخلع من القدرات البشرية المحدودة مع بقائه على خلقته البشرية ... وذلك لإزالة أدنى خاطر يخطر على حائم حوله الشياطين، من أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد يفقد حرفاً من هول الموقف، أو من تأثير الطبيعة، ولذا كان هذا التصوير الدقيق لنزول القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - { عَلَى قَلْبِكَ } ، وأُكِّدَ عليه في القرآن مرتين: في "سورة البقرة/97"، وفي "سورة الشعراء /194".
المعنى: لم تخرج أقوال المؤولين فيها على أمرين:
__________
(1) أفرد بالعنونة لجلالته، وعظيم خطره .
(2) انظر: الفصل الثاني - المبحث الثاني .(1/106)
أ - على روحك: لأن الروح إحدى إطلاقات القلب كما قال الراغب -رحمه الله تعالى-، وقال الآلوسي -رحمه الله تعالى-: "وكون الإنزال عليه؛ لأنه المدرك، والمكلف دون الجسد، وقد يقال: لما كانت له - صلى الله عليه وسلم - :جهتان: جهةٌ ملكيةٌ يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها – جعل الإنزال على روحه - صلى الله عليه وسلم - لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين، وللإشارة إلى ذلك قيل { عَلَى قَلْبِكَ } دون عليك الأخصر، وقيل: إن هذا لأن القرآن لم ينزل في المصحف كغيره من الكتب" (1) .
ب - على العضو المخصوص:
وتخصيصه بالإنزال عليه قيل: للإشارة إلى كمال تعقله - صلى الله عليه وسلم - وفهمه ذلك المنزل، حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل العقل ... وقيل: للإشارة إلى صلاح قلبه - صلى الله عليه وسلم - وتقدسه حيث كان مَنْزِلاً لكلامه تعالى؛ ليعلم منه حال سائر أجزائه - صلى الله عليه وسلم - ، فإن القلب رئيس جميع الأعضاء، وملكها، ومتى صلح الملك صلحت الرعية" (2) .
فلم تخرج أقوال المؤولين في معنى (القلب) عن هذين الأمرين:
1- الروح .
2- العضو المخصوص ... وعلى كل منهما فقد أُريد من الإنزال على القلب: المكان الناسب الذي هُيأ التهيئة المناسبة لجهود الحفظ، ثم القراءة والإقراء؛ ليخرج إلى عالم البشر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمعها، ويعيها بقوة إلهية قدسية، لا كسماع البشر منه - صلى الله عليه وسلم - ، وتنفعل عند ذلك قواه البشرية، ولهذا تظهر آثارها على جسده الشريف ما يظهر، ويقال لذلك (بُرَحاء الوحي) حتى يُظَنَّ في بعض الأحايين أنه أُغمي عليه - صلى الله عليه وسلم - وقد يُظَن أنه - صلى الله عليه وسلم - أَغفى (3) .
__________
(1) روح المعاني 19/181، مرجع سابق .
(2) روح المعاني19/182، مرجع سابق .
(3) انظر: روح المعاني/182، مرجع سابق .(1/107)
وقد فتح الله –تعالى ذكره- أذهان البشرية في عصرها الحاضر على حقائق علمية ضخمة تقرب لنا سر نزول جبريل - عليه السلام - بألفاظ القرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن جبريل - عليه السلام - تعدى أداة التوصيل السمعي لدى البشر وهي الأذن الخارجية إلى مركز السمع مباشرة، وأداة التوصيل البصري لدى البشر وهي العين الخارجية إلى مركز البصر مباشرة ... ويزيد هذا تقريباً أن يقال: لما كان القلب يتلقى الصوت كما يرى الصورة في المنام ... والجارحة المباشرة من عين وأذن نائمة مغطاة ... ثم إذا استيقظ تذكر كله في اليقظة ... وقد جاء التشريح الطبي مؤكداً حقيقة مراكز السمع والبصر، وأنها مراكز في المخ تعي ما يصل إليه عن طريق الجوارح كما تعي ما يصل إليها عن طريق الرؤى المنامية، وما قد كُشف يقرب لنا ما لم يكشف مما قد غاب عنا، وقد كانت أُولى مراحل الوحي التي هيأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلقي الوحي المباشر هي الرؤى المنامية الصادقة، ثم رؤيته للملَك في منامه كما سبق تفصيل ذلك في الفصل الثاني، وحالة الوحي في النوم مقربةٌ لحالة الوحي في اليقظة ... مما قد يقرب لنا فهم كيفية الوحي وحدوثه، واستيعاب كيفية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي بواسطة الاتصال بعالم الملائكة ... بطريقة يرى الصحابة آثارها في النبي - صلى الله عليه وسلم - من تصبب العرق في اليوم الشديد البرد، وترجيع اللسان، وثقل جسم النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) دون أن تشاهد أبصارهم صورة الملك، أو تسمع آذانهم صوته ... لأن الاتصال كان في مستوى لا يدركونه، ولكنهم يسمعون قرآناً معجزاً لا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد .
__________
(1) انظر: المبحث الخامس من هذا الفصل .(1/108)
وذكر أبو حيان -رحمه الله تعالى- سبعة أقوال في تخصيص ذكر القلب (1) حاصلها راجع إلى قولين:
أ- فالأول والثاني كالشيء الواحد مجموعهما: أن القلب محل التلقي (2) لهذا الأمر الخطير لا سواه، وإليهما يؤول السادس .
ب- والثالث والرابع والخامس تؤول إلى معنى واحد هو: كونه أشرف عضوٍ في الجسد، وإليه ما يرجع السابع .
وكلاهما متفرع عن القول الثاني الذي ذكره الإمام الآلوسي-رحمه الله تعالى-(العضو المخصوص)، بيد أنه لا فائدة في الثاني من حاصل أقواله، لو كان مجرد تكنية عن الجملة الإنسانية، وخُصَّ لشرفه؛ إذ لقائلٍ أن يقول: (عليك) أخصر وأظهر، وإذ الأمر كذلك فلا بُدَّ لتخصيصه من مغزى: هو ما ذكر في الأول من الحاصل، كما يلوح للباحث أمر آخر:
__________
(1) أبو حيان في البحر المحيط 1/320، مرجع سابق، ونص قوله: "خص القلب ولم يأت بعليك الأخصر، لأن القلب هو محل العقل، وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفته التي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد، أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاً للمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية؛ إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } "طه/2" { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } " النساء/113"، أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله" .
(2) فقد نزل جبريل بالقرآن على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - [فتلقاه تلقياً مباشراً، ووعاه وعياً مباشراً] سيد قطب: في ظلال القرآن 5/2617، 1410هـ –1990م، دار الشروق – بيروت .(1/109)
هو أن ما أظهره اليهود من عدواة جبريل - عليه السلام - وادعاؤهم مجيئه بالخراب (1) غمز في أمانته، أو لمز في دقة نقله؛ إما لأن الوحي ليست مهمته، أو لشدته على البشر أو غير ذلك، فأثنى عليه أبلغ الثناء، وبَيَّنَ أن اللمز فيه أو إظهار العداء له هو لله - عز وجل - ولملائكته ولرسله عداء، وأنه وميكال قرينا إخاء، وسبق ذلك كله ببيان دقة نقله للوحي على فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه { بِإِذْنِ اللَّهِ } "البقرة/97" .
الكاف في { عَلَى قَلْبِكَ } :
وأما سبب التعبير عن ذلك بالكاف في قوله { عَلَى قَلْبِكَ } دون الياء الدال على المتكلم فهو التأكيد المطرد على المصدرية الإلهية للقرآن الكريم، ففيه إيماء إلى الحفظ للفظ والمعنى، وصرح به في آية الحجر، وتفصيل ذلك في المبحث الثامن من هذا الفصل: كيفية قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الحرف { عَلَى } :
وأتى بلفظ { عَلَى } لأن القرآن مُسْتَعْلٍ على القلب،، والقلب سامعٌ له مطيعٌ يتمثل ما أمر به ويجتنب ما نهى عنه، وكانت أبلغ من (إلى)؛ لأن (إلى) تدل على الانتهاء فقط، و { عَلَى } تدل على الاستعلاء، وما استعلى على الشيء يتضمن الانتهاء إليه (2) .
ويلوح للباحث ثلاثة أمور في حرف الجر { عَلَى } :
__________
(1) انظر في ذلك: صحيح البخاري 3/1211، مرجع سابق .
(2) انظر: البحر المحيط1/320، مرجع سابق .(1/110)
أولها: أن الاستعلاء مستغرق للملكية، مهيمن على المحل، فارض لسلطانه، واضح ثقله وسيطرته في مكانه، وكأنه أُريد بذلك أن القرآن عندما ينزله جبريل - عليه السلام - على قلبك قد تتام قبضهُ على القلب، وسيطرته عليه، فهو مهيمن على القلب في لفظه، لا يستطيع القلب أن يفلت منه مثقال ذرة، وفيه: الإشعار بأن ألفاظه مفروضة على القلب فرضاً، فلا مجال لزيغ حروفها عنه، ولا لتحريف هيئتها، مع حب قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها كما سيأتي (1) ، ولم تبق فيه ذرة تتأثر إلا به، ولا تحتفل إلا له، فهو خلي عن غيره، وفي هذا تمام الحفظ والفهم والاهتمام، ولذا قال الصاوي –رحمه الله تعالى-: "عبر بـ { عَلَى } لتمكنه، وانصبابه، ورسوخه؛ فإن الشيء إذا صب من أعلى لأسفل رسخ وثبت" (2) .
__________
(1) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
(2) حاشية الصاوي 1/72، مرجع سابق .(1/111)
وثانيها: أن على مؤكدة للإنزال من أعلى إلى أدنى: كما قال تعالى في آل عمران { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ... } "آل عمران /84" فالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - مُوَجَه، والمُنْزَل إنما هو مُنْزَلٌ عليه من السماء إلى حيث هو، بخلاف آية البقرة { قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ... } "البقرة/136" فإن الخطاب لصحابته، ثم لأمته –من بعد- والإنزال إنما يكون إليهم؛ إذ يتضمن حرف { إلى } معنى المجاورة، ويجعل فعله يتضمن معنى الإيصال، فليس ثم أعلى ولا أدنى، كأنهم قالوا: آمنا بالله وما أنزل على رسوله مما وصل إلينا ... لأنه إنما وصل إليهم من محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو بجوارهم لا فوقهم، ولكن لارتباطه بأنزل أفاد أمراً آخر -لاقتضاء الإنزال أعلى وأدنى- هو أن الوحي أُنزل على غير المخاطبين ثم وصل إليهم ... فقد تضمن الفعل: أنزل، والحرف { إلى } ذلك ببلاغة بديعة، وإعجاز عظيمٍ ...ومن أسراره أنهم جعلوا -بهذا التعبير- ما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ذاته ما وصل إليهم دون ريب ... ومعلوم أن التضمين عند العلماء مُقَدَّمُ على تبادل الحروف (1) .
وثالثها: أنه قال على ولم يقل (في) لئلا يتوهم أن جبريل - عليه السلام - ألقى القرآن في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سماع، وسيأتي مزيد تفصيل له -إن شاء الله تعالى– (2) .
إعداد القلب مسبقاً:
__________
(1) (ابن تيمية)أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ت 728هـ، شيخ الإسلام: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية 13/330، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، 1421 - 1991م، دار عالم الكتب الرياض .
(2) انظر: المبحث السابع من هذا الفصل .(1/112)
وجهت لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - عناية فائقة، وكان جبريل - عليه السلام - هو الذي هيأ محمداً - صلى الله عليه وسلم - واعتنى بقلبه خاصة في كل مرة يأمر الله ويأذن بذلك كما سبق في حديث شق الصدر (1) ، وقد كان قلبه يحس ويعقل حتى إن نامت عيناه، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً، فاضربوا له مثلاً، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن أطاع محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله ومن عصى محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقد عصى الله، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الناس) (2) ، وفي رواية الترمذي عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: (إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ... )الحديث (3) .
فقد اشتمل النزول على قلبه - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) انظر: الفصل الثاني –المبحث الأول-المطلب الأول .
(2) صحيح البخاري 6/2655، مرجع سابق .
(3) الجامع الصحيح سنن الترمذي 5/145، مرجع سابق .(1/113)
1-على التحفيظ والتفهيم والتثبت: كما قال الزمخشري –رحمه الله تعالى-:"أي حَفَّظَكه، وفَهَّمَك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله - عز وجل - { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } " (1) ، وخص القلب، والمعنى عليك لأنه محل الوعي والتثبت، وليعلم أن المنزل على قلبه - عليه السلام - محفوظ لا يجوز عليه التبديل، ولا التغيير، وحرف { على } مستعار للدلالة على التمكن مما سمي بقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل استعارته في قوله - سبحانه وتعالى - { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } "البقرة/5" (2) ، وقد تقدم التوضيح بأن إرادة القلب حقيقية وليست مجازية ... وأن المراد الوصول إلى محل الوعي المباشر بعد تهيئته سابقاً لذلك .
2-كما اشتمل النزول على قلبه - صلى الله عليه وسلم - على اللفظ كما هو على المعنى تصريحاً لا تلويحاً: كما قال الزمخشري:"ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك، دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروفٍ لا تفهم معانيها ولا تعيها" (3) .
واستدل أبو حيان -رحمه الله تعالى- على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يسمع من جبريل - عليه السلام - الأحرف بقوله - عز وجل - : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } "الشعراء/195"، فقال: "الظاهر تعلق { بلسان } بـ { نزل } ، فكان يسمع من جبريل - عليه السلام - حروفاً عربية"، قال ابن عطية -رحمه الله تعالى-:"وهو القول الصحيح، وتكون صلصلة الجرس صفة لشدة الصوت، وتداخل حروفه، وعجلة مورده، وإغلاظه" (4) .
... وبذا تم حفظ الألفاظ من زواياه الكلية (5) .
3-التمكن من حفظ الألفاظ وجمعها، دون أن ينخرم منها شيء أصلاً أو أداء .
__________
(1) الكشاف3/126، مرجع سابق .
(2) التحرير والتنوير 19/889، مرجع سابق .
(3) الكشاف3/127، مرجع سابق، وانظر: تفسير القرطبي 13/138، مرجع سابق .
(4) تفسير ابن عطية 11/148، مرجع سابق .
(5) كما قال أبو حيان في البحر المحيط 7 /40، مرجع سابق .(1/114)
اعلُ موكب الوحي على كل رائمٍ طمس النور بفمه ... .اعلُ موكب الوحي..أو ما يكفي: جبريل - عليه السلام - في قيادتك، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في ريادتك؟..اعلُ موكب الوحي..يتراءى لنا خبرُك..حتى ترتفع أعلام الحب فداءً بالمهج ...
طرقتك زائرة، فحي خيالها ... ... ..بيضاء، تخلط بالحياء دلالها
قادت فؤادك، فاستقاد، وقبلها ... ... ..قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
هل يطمسون من السماء نجومها ... ..بأكفهم؟ أم يسترون هلالها؟
أم يدفعون مقالة عن ربه؟ ... .....جبريل بلغها النبي فقالها.
المبحث الثالث:
نزول جبريل - عليه السلام - توقيفي:
يراد من هذا المبحث التأكيد على حقيقة هامة في نقل القرآن من السماء إلى الأرض هي: التوقيفية في ذلك النقل، ذلك بأن جبريل - عليه السلام - ليس له من أمر الوحي القرآني شيء، فنزوله كان بأمر الله - عز وجل - ، وبعد صدور أمره - سبحانه وتعالى - ، يكون نزول جبريل - عليه السلام - بإذنه، وعليه فإن نزول جبريل - عليه السلام - بأمر وإذن إلهي قبل النزول، مستصحبان مع النزول: كما هو ظاهر من قوله تعالى { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } "البقرة/97"؛ ولذا قال أبو السعود-رحمه الله تعالى-: { بِإِذْنِ اللَّهِ } "بأمره، وتيسيره، وفيه تلويح بكمال توجه جبريل - عليه السلام - إلى تنزيله، وصدق عزيمته - عليه السلام - ، وهو حال فاعل نزله " (1) ، وقال الصاوي -رحمه الله تعالى-: "المراد بالإذن الأمر لا العلم" (2) .
__________
(1) تفسير أبي السعود1/ 220، مرجع سابق .
(2) حاشية الصاوي 1/72، مرجع سابق، ولا مانع من إرادة الأمرين، بل هو الظاهر، وبلاغة القرآن تشير إليه .(1/115)
فاجتمع في قوله { بِإِذْنِ اللَّهِ } : نزول جبريل - عليه السلام - بالقرآن عن أمر الله السابق، ثم تيسيره له ذلك وتسهيله، وهو مؤكد للمصدرية الإلهية للقرآن الكريم، فما كان لجبريل - عليه السلام - من هوى شخصي، ولا إرادة ذاتية في أن ينزله على قلبك، لأنه لا يعدو أن يكون منفذاً لإرادة الله - عز وجل - ، وإذنه في تنزيل القرآن على قلبك، ومنه نستنتج أمراً بالغ الأهمية هو: التوقيفية في نزول الملَك:
فعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا جبريل!ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فنزلت { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } "مريم/64" إلى آخر الآية، قال: كان هذا الجواب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - (1) ، فقد تجذرت صفة الحق في كل أجزاء الإنزال والتعليم:الحق هو المُنْزٍِل، والحق في المنْزَل، الحق في النزول، كما في قوله - سبحانه وتعالى - { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَل } "الإسراء/105" .
فإذا كانت التوقيفية صفة ذاتية للنزول، فكيف المنزَل به؟ .
__________
(1) صحيح البخاري 6/2713، مرجع سابق .
فائدة: قال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في فتح الباري 8/429، مرجع سابق: " تنبيه: الأمر في هذه الآية معناه الإذن، بدليل سبب النزول المذكور، ويحتمل الحكم أي نتنزل مصاحبين لأمر الله عباده بما أوجب عليهم أوحرم، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك عند من يجيز حمل اللفظ على جميع معانيه " .(1/116)
وفي حرف الباء في قوله تعالى { بإذْنِ الله } يظهر معنى المصاحبة والملابسة لأمر الله في نزوله، لا معنى التجاوز والاجتهاد، ثم أخذ الإذن، فهو أمر الله - سبحانه وتعالى - وإذنه الذي اختاره؛ إذ معلوم أن هذا التعبير يفيد أن الفعل تم بعد الإذن، كما قال - عز وجل - { لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلا بِإِذْنِهِ } "هود/105" { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } "البقرة/255"، مع أن الباء تفيد الملاصقة، وهي من أهم معاني الباء (1) ، فقد كان الإذن الإلهي أمراً وإذناً واقعَيَن قبل النزول، ملاصقَين للنزول، مُسْتصحبَين حتى تمام أداء الوظيفة التعليمية .
وما سبق كان وصفاً لعمل المُعَلِّمِ المُلْقي - عليه السلام - ، فلننظر في عمل طالبه المتلقن - صلى الله عليه وسلم - ، وهو المبحث التالي:
المبحث الرابع:
مظاهر اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي القرآن من جبريل - عليه السلام - قبل نزول التوقيف الإلهي:
اجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تطبيق هيئات تمكنه من حفظ القرآن عند إلقاء الملك له، بيد أن جلالة الأمر، وعظمة قضية التلقي من السماء للأرض منعته من الاجتهاد حتى في مثل هذه الجزئية بل صار فعله توقيفياً، فلم يقر على اجتهاد، وبين له هيئة تلقيه، ولعل أهم حكم تأخير إنزال الأمر له بكيفية تلقي القرآن أن يعلم المسلمون من بعده ضرورة الوقوف عند التوقيف الإلهي في تلقي القرآن، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُهي عن بعض اجتهاداته المخالفة للتوقيف الإلهي في طريقة التلقي فكيف غيره ؟ .
__________
(1) قال ابن هشام -رحمه الله تعالى- في مُغني اللبيب 1/101 متكلماً عن معاني الباء: "الإلصاق، قيل: وهو معنىً لا يفارقها فلهذا اقتصر عليها سيبويه" انظر: ابن هشام الأنصاري ت 761هـ: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، طبعة بدون 1407هـ – 1987م .(1/117)
فمن مظاهر اجتهاده الأولى:
1- تحريك اللسان بالقرآن قبل فراغ جبريل - عليه السلام - منه: وهو ظاهر آية سورة طه { ... وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... } "طه/114"، وآيات سورة القيامة { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } "القيامة/16" فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملَك في قراءته، ولهذا قال - عز وجل - { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } كما قال { وَلا تَعْجَلْ ... } " (1) .
وهذه الحركة تأخذ طابع العجلة لاستذكار السابق ودراك اللاحق، وفي رواية لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - في المعالجة: (كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره .. الحديث (2) ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن: كان يحرك به لسانه يتذكره فقيل له: إنا سنحفظه عليك (3) ، وللطبري من طريق الشعبي:
(كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبه إياه) (4) .
وظاهر أنه كان يتكلم بما يلقي إليه منه أولاً فأولاً من شدة حبه إياه، وخوفه من تفلته، فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النزول (5) .
2- دراسته بحيث يشق عليه (وهذا أعم من السابق)كما قال الضحاك:"السبب أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخاف أن ينسى القرآن، فكان يدرسه متى غلب ذلك عليه وشق فنزلت" (6) .
__________
(1) تفسير ابن كثير4/383، مرجع سابق .
(2) انظر: تفسير ابن كثير 4/450، مرجع سابق، وقد بحثت عن هذا النص بلفظه في مظانه من كتب الحديث فلم أجده، والألفاظ الأخرى تدل على معناه، وانظر فتح الباري 1/ 30، مرجع سابق .
(3) تفسير الطبري 28/188، مرجع سابق، وانظر: فتح الباري 8/682، مرجع سابق .
(4) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
(5) انظر: فتح الباري 8/638، مرجع سابق .
(6) البحر المحيط 8 /387، مرجع سابق .(1/118)
3- التعجل في السؤال عن معانيه:كأنه كان يعجل في الحفظ، والسؤال عن المعنى جميعاً كما يُظهر بعض المتحمسين من طلبة العلم ونحوه { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } "طه/114" (1) .
4- القول القلبي والاستفزاز العاطفي بالإضافة إلى حركة اللسان خشية انفلات القرآن، وهو مستلزم لشدة اهتمام الفؤاد بالمُلْقَى؛ إذ أنه يُلمح بازاء عجلة اللسان عجلة الفؤاد المسببة لاضطراب القلب .
والمراد أن شغل اللسان كان بحركة السابق، والقلب بتثبيت اللاحق .
عند ذاك نزلت آيات سورة القيامة فقيل له { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } بالقرآن قبل فراغ جبريل - عليه السلام - منه { لِتَعْجَلَ بِهِ } أي بقراءته، وحفظه خوف أن ينفلت منه (2) فنُهِيَ عن اجتهاده، وبُيِّنَ له كيف يتلقى القرآن، وآيات سورة القيامة تصف ذلك بدقة؛ إذ إن هذه الآيات ونحوها دائرة حول تلقي الوحي من الملَك، ففيها"تعليم من الله - عز وجل - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية تلقيه الوحي من الملَك" (3) .
فقد استبان أن التوقيف في الوحي القرآني قد شمل هيئة الاستماع لتلاوة الملَك .
المبحث الخامس:
سمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نزول الوحي القرآني عليه:
... إذا كان المبحث السابق قد تحدث عن مظاهر اجتهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي القرآني، وعن نهيه عن ذلك؛ فقد لزم معرفة سماته - صلى الله عليه وسلم - حين تلقى الوحي القرآني، التي أبان بها عن خصائص التوقيف الإلهي في تلقي الوحي القرآني، وهو المراد من هذا المبحث.وهذه السمات تتلخص في الآتي:
__________
(1) البحر المحيط 8/388، مرجع سابق .
(2) تفسير الصاوي 45/353، مرجع سابق .
(3) تفسير ابن كثير 4/383، مرجع سابق .(1/119)
1- تفريغ قلبه - صلى الله عليه وسلم - وحسه، وتخلية فكره إلا في المُتَلَقى: ولذا كانت الغطة في أول نزول جبريل - عليه السلام - عليه (1) ، كما كان الوحي القرآني يأتيه في مثل صلصلة الجرس.
__________
(1) كما رواه البخاري 1/3، مرجع سابق، وفي النهاية في غريب الأثر 2/327، 3/342، مرجع سابق: "في حديث المَبْعث: (فأخذَ جِبريلُ بحلْقي فسأَبني حتى أجْهَشْتُ بالبُكاء): السَّأْب العَصْر في الحَلْق كالخَنق ومثله غتت ففي حديث المَبْعَث (فأخذَني جبريل فَغَّتني حتَّى بلَغ مِنّي الجَهْد): الغَتُّ والغَطُّ سواء كأنه أراد عَصَرني عَصْراً شديداً حتى وجَدْت منه المَشقَّة كما يَجِد مَن يُغْمَس في الماء قَهراً"، وفي فتح الباري 1/10، مرجع سابق: "قوله (فغطنى) بغين معجمة وطاء مهملة وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمنى وعصرني، والغط حبس النفس، ومنه غطة في الماء، أو أراد عمني ومنه الخنق، ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن (فأخذ بحلقى)" .(1/120)
... وصلصلة الجرس (1) : هو صوت متدارك لا يدرك في أول الوهلة كصوت الجرس، أي أن الوحي يجيء في صورة وهيئة لها مثل هذا الصوت، فنبه بالصوت غير المعهود على أنه يجيء في هيئة غير معهودة فلذا قابله بقوله في صورة الفتى (وفي لفظ: الرجل)، فصلصلة الجرس مثال لصوت الوحي، والصلصلة -بصادين مهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة- في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس: الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدواب واشتقاقه من الجرس (2) بإسكان الراء (3) .
والحكمة في تقدم هذا الصوت الشديد: أن يقرع الوحي سمعه - صلى الله عليه وسلم - فلا يبقى فيه مكان لغيره (4) .
__________
(1) كما في حديث الحارث بن هشام الذي تقدم في الفصل الثاني- المبحث الثالث ص68 .
(2) ومنه قيل للهمزة الحرف الجرْسي لشدته وجلادته . انظر: (ابن الجزري) شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد ابن محمد بن علي ت 833هـ: التمهيد في علم التجويد ص46، تحقيق غانم قدوري الحمد، ط3، 1409هـ -1989م، مؤسسة الرسالة - بيروت .
(3) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/35، مرجع سابق، ونحوه نقل السندي في حاشيته على سنن ابن ماجة 2/146، مرجع سابق .
(4) فتح الباري 1/37، مرجع سابق .(1/121)
... ولا بد من الإشارة هنا إلى أن السلسلة (أو الصلصلة) ظاهرةٌ صوتيةٌ قويةٌ مهابةٌ تظهر مع كل إنزال للوحي الإلهي، وقد تقدم حديث النواس بن سمعان: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة) (1) ، وفي قصة حنين حين رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجوه العدو التراب، فأخذ كفاً من تراب، يضرب به وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه)، فهزمهم الله - عز وجل - ، فحدث أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا:لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست (2) .
فقد كانت هذه الظاهرة الصوتية تدل على جلالة الخطب، وعظم الأمر، وتصاحب نزول الملَك وفعله القوي الشديد، وهي لا شك داعية إلى تفريغ القلب وانشغاله بما صاحبها دون غيره .
2-المعاناة في تلقي الوحي: فقد كان نزول الوحي القرآني، يستلزم أمراً زائداً على الطباع البشرية؛ وذلك ليتم التأهل لاستماع الوحي القرآني، ثم لحفظه ووعيه ومن ثم تبليغه، وهي مسألة تستدعي النظر مع ما عرف عن العرب في ذلك الوقت من الحفظ المفرط والذاكرة القوية، لكأن هذه الخاصة التي تميز بها العرب لا تكفي للمحافظة على نص القرآن، أو تكفي، لكن لمزيد التأكد والتأكيد وتوثيق النص القرآني .
__________
(1) انظر: الفصل الأول- المبحث الثالث .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/286، مرجع سابق، ومعناه في: (أبو داود)سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ت275هـ: سنن أبي داود 4/32، مراجعة: محمد محيي الدين عبد الحميد، وقال الشيخ الألباني: "حسن" .(1/122)
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج عن حقيقته البشرية، مع زيادة الاختصاص عنهم في كونه المصطفى من الله للرسالة { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً } "الإسراء/ 93"؛ فقد اقتضى ذلك أن يكون في طبيعة أقوى من مجرد كونه بشراً حال تلقيه الوحي مع المحافظة على حقيقته البشرية، ولذا كان يعاني شدة هائلة من الوحي القرآني بصفة خاصة؛ لأنه النازل على قلبه، وفيه يقول ابن حجر-رحمه الله تعالى-: "معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق فإنه يشعر بوجود أمر طارئ على الطباع البشرية" (1) ، على أن هذه المعاناة دليل حسي على إتمام عملية الوحي.
وعلى الرغم من التهيئة الإلهية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليستطيع قبول الوحي، فقد كان يعاني شدة عند نزوله مصداقاً لقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } "المزمل /5 "، وكانت الشدة تحصل له عند نزول الوحي لثقل القول" (2) .
واتخذت هذه الشدة مظاهر متعددة، منها:
1- ... ما يؤدي إلى تغير ملامح وجهه: فعن عبادة بن الصامت:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه (3) .
__________
(1) انظر: فتح بشرح صحيح البخاري 1/30، مرجع سابق .
(2) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/683، مرجع سابق .
(3) مسلم 3/1316، مرجع سابق .(1/123)
2- ومنها ما يؤدي إلى شعوره بشدةٍ في نَفْسِهِ ونَفَسِهِ حتى يظنه الموت، وهذا يذكر بحديث الغطة في أول الوحي: فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (نعم أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحي إلى إلا ظننت أن نفسي تفيض) (1) .
3- ... ومنها ما يُخرِج ملامح جسده عن تأثير بيئته من حيث ظهور شدة الإجهاد عليه: فعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - :(كان إذا نزل عليه الوحي ثقل لذلك، وتحدر جبينه عرقاً كأنه جمان، وإن كان في البرد) (2) .
4- ... ومنها ما يؤدي إلى ظهوره بمظهر تذلل العبد بياناً لضعفه: فعن عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه - :(كان إذا أنزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم، فإذا أقلع عنه رفع رأسه) (3) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 2/222، مرجع سابق، وفيه: حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا قتيبة ثنا بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمروبن الوليد وقد تقرر في قواعد المصطلح قبول رواية قتيبة عن ابن لهيعة .
(2) رواه الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 4793، مرجع سابق .
(3) رواه مسلم 4/ 1817، مرجع سابق .(1/124)
5- ... بل يُؤَثِّر على ما لامسه - صلى الله عليه وسلم - من بشر أو حيوان: فعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: (كنت أكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا نزل عليه أخذته بُرحاء (1) شديدة، وعرق عرقاً شديداً مثل الجمان، ثم سري عنه، فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف، أو كسرة، فأكتب، وهو يملي علي، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن، وحتى أقول لا أمشي على رجلي أبداً، فإذا فرغت، قال: (اقرأه)، فأقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس (2) ، وعند البيهقي: (وإن كان ليوحى إليه، وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يُوحى إليه) (3) .
__________
(1) في مختار الصحاح ص19، مرجع سابق: "بُرَحاءُ الحمى وغيرها بالضم والمد شدة الأذى تقول منه بَرَّحَ به الأمر تَبْريحاً أي جهده".
(2) المعجم الأوسط 2/544، مرجع سابق .
(3) دلائل النبوة 3/4، وعند ابن سعد 1/197، مرجع سابق من مراسيل عكرمة: (كان إذا أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقذ-أي ضعف وسكن- لذلك ساعة كهيئة السكران)، وعنده 1/197عن أبي أروى الدوسي قال: (رأيت الوحي ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه على راحلته فترغو وتفتل يديها، حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت، وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه من ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان) .(1/125)
وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جِرانها، فلم تستطع أن تتحرك، وتلت قول الله - عز وجل - { إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } "المزمل/4" (1) ، وفي لفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته لا تستطيع أن تتحول حتى سرَى عنه (2) .
6- ... وهذه المظاهر ليست عوارض تأتي مع الوحي القرآني أحياناً، بل هي سمته الدائم، وعادته المستمرة عند نزول الوحي القرآني: فعن عائشة:(فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء ... ) (3) ، وهذا دال على الاعتياد.
__________
(1) المستدرك على الصحيحين2/549، مرجع سابق، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" . وقال الذهبي في التلخيص: "صحيح" .
(2) (ابن راهويه) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي ت 238هـ: مسند إسحاق بن راهويه 2/ 254 مراجعة: عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي 1412هـ –1991م، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة .
(3) البخاري 2/945، مرجع سابق .(1/126)
... فإذا أُضيف إلى هذا حقيقة أن الوحي ثقيلٌ على الملائكة يعانون منه وهم الملائكة ... وإذا كان ثقل الوحي أمر طبعي بالنسبة للملائكة، وهم من هيأهم الله - سبحانه وتعالى - ليكونوا عنده، فكيف بالبشر الموصوفين بالضعف؟، وقد تقدم حديث السلسلة على الصفوان (1) ، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند ابن مردويه (فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا)، وعند مسلم عنه عن رجال من الأنصار أنهم كانوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فرمى بنجم، فاستنار، فقال: (ما كنتم تقولون لهذا إذا رمى به في الجاهلية؟) قالوا: (كنا نقول مات عظيم، أو يولد عظيم . فقال: (إنها لا يرمي بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح سماء الدنيا، ثم يقولون لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ ... ) الحديث (2) .
ولثقل الوحي ومعاناة النبي - صلى الله عليه وسلم - دلائل عدة من حيث موضوع البحث:
فأولها: التأكيد على توثيق النص القرآني حال إنزاله، برفع مستوى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المستوى البشري مع بقائه خارج هذه اللحظات على بشريته فهي الأغلب عليه، وهو ما يدعوه إلى تحمل ما يترتب على ذلك، كما أن وجود شدة العَرَق في اليوم الشديد البرد، وثقل الجسد يدل على طاقة جبارة هائلة يبذلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وهو ما يؤدي إلى غرس المُلْقَى إليه من القرآن الكريم في فؤاده غرساً، ونقشها في قلبه نقشاً .
__________
(1) قال الخطابي: "السلسلة صوت الحديد إذا تحرك وتداخل" كما في فتح الباري 8/533، مرجع سابق، وقد تقدم الكلام على الصلصلة في ص96.
(2) فتح الباري 8/538، مرجع سابق .(1/127)
... ومن المعلوم أنك عندما تضرب شخصاً ضرباً شديداً، أو تضغط بعض أعضائه ضغطاً موجعاً وتقول إثر ذلك كلمة فإنه لا ينساها ... ولذا كان الغت أو الغط في أول الوحي، وبُرحاء الوحي بعد ذلك في مظاهرها المتعددة ... وثمة ملحوظة أخرى: هي تنوع مظاهر هذه البُرحاء بين صلصلة جرسٍ ودوي نحلٍ، وثقل جسد لتحقيق هدف النقش بأساليب مفاجئة مختلفة لا تعتادها النفس .وهو ما يعطي آفاقاً كبيرة في الأسلوب التربوي الذي ينبغي أن يُتَبع في حياتنا التعليمية .
وثانيها: وجود العلامة الحسية المشعرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنزول الوحي، وهو ما يدفع تطرق التوهم إليه فيطمئن قلبه –بعد- إذا استيقن، ويدفع تطرق التوهم إلى غيره، فيعلمون سبل الاتصال الرسول الملَك والرسول البشر، فيغدو ما يستنكرونه من هذا الاتصال كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف .
وثالثها: أن العلامة الحسية على الرغم من شدتها إلا أنها غير مشاهدة لغيره، ولا محسوسة من أحد سواه ممن حوله، إنما يشاهدون أعراضها في جسده مما لا يدخل تحت نطاق القدرة البشرية (1) ، فلا وجه لنفي قراءة جبريل - عليه السلام - ما أنزله حرفاً حرفاً حال إنزال الوحي القرآني على قلبه، فعدم الشعور بذلك داخلٌ في أن أمر الوحي برمته غير محسوس أو غير معلوم لمن حوله، بصفة دقيقة إلا ما يرونه من علامات ظاهرية صارت قرائن على وجود الوحي .
__________
(1) أي أنهم اعتادوا ذلك من بعد بما يرونه من تأثر يظهر عليه على هيئة معينة ... سموها (بُرحاء الوحي) .(1/128)
... وفي عصرنا يمكن للإنسان أن يسمع إنساناً، ويرى آخر عن طريق الهاتف المرئي دون أن يشترك معه غيره من المحيطين به في زمان التكلم والرؤية إذا توافر الجهاز المرسِل عند من يتكلم، والمستقبِل عند من يسمع ... وهكذا نقرر بأن الله –تعالى ذكره- قد هيأ القدرة لجبريل - عليه السلام - للاتصال برسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهيأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمستقبلات لما يُوحى إليه تدرك آثارها، ولا ترى حقيقتها وكيفيتها .
ورابعها: أن المقتضى المنهجي لهذه الشدة التي يعانيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند إنزال الوحي القرآني: أن يستشعر ذلك من يَحْفَظُ ألفاظ القرآن، ويُحَفِّظُها، ولا يتعامل مع لفظ القرآن بتساهلٍ يذهب بركة القرآن ... .
فإن اعتُرض بأنه: قد ورد ما يدل على يسر الوحي، وسهولة تأتيه ففي رواية الطبراني لحديث الحارث بن هشام: (ويأتيني أحيانا في صورة رجل يكلمني كلاماً، وهو أهون علي)الحديث (1) فهذا يدل على أن ثم هيناً في الوحي وأهون منه، فالجواب: يوضح أمر هذه الرواية الروايات الأخرى، وذلك أولى من العكس، لطبيعة الشدة المصاحبة للوحي بالنسبة لمن وصفوا بأنهم عند الله - عز وجل - فضلاً عمن سواهم ... فقد أراد بقوله: (أهونه)، الأمر النسبي أي بالنسبة إلى الهيئة الأخرى من الوحي، قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها" (2) .
__________
(1) المعجم الكبير 1/ 345، مرجع سابق .
(2) فتح الباري 8/567، مرجع سابق .(1/129)
ولذا فإن الهيئة الأخرى -وهو المجيء في صورة رجل- ليست خاصة بالأنبياء بل يشترك فيها غيرهم، وقد كلمت الملائكة مريم بنت عمران، وليست بنبية عند الجمهور (1) ، كما كلم الملَك هاجر أم إسماعيل: فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - : (فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه -أو قال- بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا ... فقال لها الملَك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن هاهنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله ... ) (2) .
وهل يتنافى هذا مع كون القرآن ميسراً للذكر كما في قوله - عز وجل - { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } "القمر/17"؟ لا؛ لوجوه:
أولها: أن الحديث آتٍ عن كيفية إيصاله من الملأ الأعلى إلى الأرض لا ما بعد ذلك، إذ قد يقال يُسر عند انتقاله من بشر إلى بشر، على أن التيسير المذكور في الآية ينصرف إلى المعنى قبل اللفظ، بدليل ذكر علة التيسير (للذكر) .
وثانيها: قد يُنازع في الأول، فالثاني واضح وهو: أن أعظم الكلام قد صيغ بأيسر الأساليب المفهومة، وإذا قورن بما ورد في معلقة امرئ القيس عُلِمَ مقدار تيسيره، مع أنه لا يستطاع مثله فذا وجه ثانٍ في توجيه الآية .
وثالثها: أن ما ذكر من المقتضى المنهجي قد صُرِّح فيه أن مراده استشعار ثقل القول، لا أنه عند حفظه ثقيل، ويدل له أنه لا يعرف كتاب سماوي، ولا أرضي تيسر حفظه كالقرآن، بل المقارنة هنا لا تتم لشدة البون بين المقارن بينهما (3) ، وهو قوله - سبحانه وتعالى - { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } "الدخان/58" .
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي 4/41، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 3/1227، مرجع سابق، وقد صرح برفعه في أثناء الحديث .
(3) وانظر في معنى الآية: روح المعاني 27/129، مرجع سابق، والتحرير والتنوير 27/179، مرجع سابق .(1/130)
على أنه ينبغي تقرير أن وصف الله - سبحانه وتعالى - لكلامه بأنه (قول ثقيل) مع أنه كلام، وكلامه –تعالى ذكره، وجَلَّ عن التشبيه والتمثيل-عندما ييسره للمخلوق لينقله بلسانه مع أن المعروف أنه يكون عبارة عن اهتزازات هوائية فلا يكون قولاً ثقيلاً إلا لأنه قول آخر غير قول البشر، ويُلْقى بطريقة خاصة حتى تكاد فخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تَرُضَّ رِجْلَ كاتب الوحي، وتضع الناقة له جِرانها، ويتفصد له جبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عرقاً، فالثقل المراد قد يكون في العملية التلقينية الأولى بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - ،ثم يكون ميسراً بعد ذلك على الألسنة، وقد يكون الثقل هو في القيام به، وتطبيق معناه، وقد يكون الثقل بالنظر إلى أنه كلام الجبار العظيم - عز وجل - كيف يطيق المخلوق حمله، أو فهمه ... لا شك أن حدوث ذلك يدل على تيسير عظيم ... مع أن عظمة كلام الله - سبحانه وتعالى - تجعله ثقيلاً على المخلوق ... لكن الله - عز وجل - يسره، وبهذا يُجمع بين آية المزمل وغيرها كآية الدخان، وآية القمر.
3-التكلف الطَبَعي في حفظ الوحي: والبند السابق كان يتكلم عن التكلف غير الطبعي، وهنا الإشارة إلى التكلف الطبعي الذي كان في ابتداء الوحي، وقد وصفه ابن عباس - رضي الله عنه - بقوله: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك به لسانه، وكان ذلك يعرف منه ... الحديث (1) .
__________
(1) يأتي تفصيله إن شاء الله في المبحث الخامس من هذا الفصل .(1/131)
فقوله (كان مما يحرك به لسانه) أي كان كثيراً يفعل ذلك، وكرر (كان) لطول الكلام، (يعالج) المعالجة المحاولة للشيء، والمشقة في تحصيله، وكان ذلك يعرف منه، أي يعرفه من رآه لما يظهر على وجهه وبدنه من أثره (1) .
4-تلقي الوحي القرآني تلقي استماع لصوت متكلم بأحرف: إذ الوحي القرآني ليس إلقاء محضاً فجائياً في النفس (كالإلهام)، بل حركة وصوت مقطع حرفاً حرفاً متتابع على هيئة التعليم، ويدل له صريحاً قوله - سبحانه وتعالى - : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } "القيامة/16" { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } "طه/114" { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، وفي لفظ للبيهقي لحديث الحارث ابن هشام (فيعلمني) (2) ، وهي تطبيق واقعي لحقيقة { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، ويدل لها قوله في الرواية المشهورة (فيكلمني) وعند أحمد (فيخبرني) (3) ، ولذا كان النبي
__________
(1) انظر: (السيوطي) أبوالفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (849 - 911 هـ): الديباج على صحيح مسلم 2/158 مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري، دار ابن عفان - الخبر- السعودية .
(2) وقال ابن حجر في فتح الباري 1/ 18، مرجع سابق: "هي تصحيف"، مع أنها لا تستبعد كما هو واضح .
(3) أحمد 6/163، مرجع سابق .(1/132)
- صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه عند تلقي الوحي القرآني، وما ذاك إلا لمتابعة الحرف الحرف (1) ، كما يدل له:حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في قصة عثمان بن مظعون، وفيه: (إذ شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره، حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، وأخذ ينفض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له..) (2) ، وفي حديث المعالجة (3) ، وحديث المعارضة (4) من البحث ما يزيد ذا الكلام تفصيلاً .
5-جمع القرآن في صدره - صلى الله عليه وسلم - :إذ الوحي القرآني كله إنزال على القلب، ولما في قوله تعالى { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } "القيامة/17" ويرتبط بهذه الحقيقة مفهومان:
الأول: أن ذلك لا ينافي أن تعليم جبريل - عليه السلام - هو إقراء لكلمات من حروف متتابعة، وتقدم في البند السابق .
الثاني: أنه لم ينزل من القرآن الكريم شيء فيلقيه إليه الملَك وهو على صورة الرجل على مجيئه الأسهل (5) ، بل جاء على الصورة الأشد، وهذه حقيقة لم تُعَر كبير اهتمام لتقريرها، ولا في تقريرها، لعل ذلك لأنها بدهية قرآنية، ومن أدلتها:
__________
(1) وانظر الدلالة الثالثة من بند المعاناة في المبحث الخامس، من هذا الفصل .
(2) سبق تخريجه في المبحث الأول من الفصل الثالث .
(3) انظر: المبحث السادس من هذا الفصل .
(4) انظر: المبحث التاسع من هذا الفصل .
(5) وصرح صاحب التحرير والتنوير 19 /189، مرجع سابق أن حديث الحارث خاص بوحي القرآن .(1/133)
1- { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } "البقرة/97"، فهذا عام في كل أنواع الموحَى به من قرآن وغيره، وإن كان جل المفسرين يذهب إلى أن الضمير يعود على القرآن الكريم عود شهرة لا تستدعي سبق الذكر، ولكن قوله تعالى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (194)عَلَى قَلْبِكَ ... } "الشعراء/194-195" -وهو خاص بالقرآن الكريم- قد أظهر معنى الضمير الوارد في سورة البقرة، فإن نوزع في ذلك فحسبه أن يكون دليلاً مستقلاً .
2-حديث التفلت الآتي ذكره بعد قليل (1) ؛ إذ قد ضمن الله - سبحانه وتعالى - جمعه في فؤاده .
3- ما ذكر لنا من حوادث إنزال القرآن كلها تخدم هذه الحقيقة، ومنها ما ذكره زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في كتبه للقرآن (2) ، إذ وصفه يدل على العادة المستمرة .
فلتنضم هذه الحقيقة الجليلة إلى حقائق تلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من جبريل - عليه السلام - فتعطي بعداً أعظم لمن عمي بصره عن حقائق تلقي القرآن، فزعم دخول الاجتهاد البشري المحض فيه، ولتثبت أن حفظ القرآن هو الحفظ الكامل الذي لا يطرقه شك في تفلت أو نقصان؛ إذ مجيء جبريل - عليه السلام - كان على غير الهيئة المعتادة للبشر.
... وثم حقيقة موازية تلوح في هذا الباب، وهي: أن هذا المجيء بهذه الشدة لا يستطيعه الجن في التسلط على بني آدم، إذ مَبْلَغ فعل الشيطان الإغواء والوسوسة والإغراء، والتلبس على قول من يثبته، أما هذه الشدة التي يسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا سبيل للشيطان لإحداثها .
فإن اعتُرض بأن: ظاهر آية سورة البقرة أن جبريل - عليه السلام - ألقى القرآن في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير سماع قراءة كما هو كذلك في سورة الشعراء { عَلَى قَلْبِكَ } .
__________
(1) انظر: ص107 .
(2) انظر: ص99.(1/134)
فالجواب: قد بُيِّن في مواضع أُخَر أن معنى ذلك أن الملَك، يقرؤه عليه حتى يسمعه منه فتصل ألفاظه ومعانيه إلى قلبه بعد سماعه، وذلك هو معنى (نزوله على قلبه)، ويُلاحظ أنه لم يقل (في قلبه) -كما سبق في المبحث الثاني- وذلك كما في قوله - عز وجل - { لا تُحَرِّك بِه لِسَانَك ... بَيانَه } "القيامة/16 ... "، وقوله { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } "طه/114" .
وليس المراد من النزول على القلب ما استدل به قوم راموا أمراً ما هم ببالغيه، فادعوا أن القرآن إلهامُ وقذفُ روحاني بدليل الآيتين المذكورتين؛ إذ العرب تستعمل النزول على القلب، وتكليم القلب، وتكليم الصدر، وحفظ الصدر ... ونحو ذلك في الحفظ والضبط والوعي والفهم لا في نفي السماع، كما قال أبو ذر - رضي الله عنه - :(ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً مما صبه جبريل وميكائيل عليهما السلام في صدره، إلا قد صبه في صدري، وما تركت شيئاً مما صبه في صدري، إلا قد صببته في صدر مالك بن ضمرة) (1) .
__________
(1) المعجم الكبير2/149، مرجع سابق .(1/135)
... ولعل من أعظم أسرار قوله تعالى { عَلَى قَلْبِكَ } غير ما تقدم، أن القرآن الكريم لا ينساه النبي - صلى الله عليه وسلم - نسياناً كلياً كما روى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقي الرجل على الرجل فذلك ينفلت مني، ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا يتفلت مني) وقال ابن حجر-رحمه الله تعالى-: "وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله - سبحانه وتعالى - { لا تُحَرِّك بِه لِسَانَك } ، فإن الملَك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحيح" (1) .
وباعتبار أن الوحي القرآني كان شديداً، والنوم راحة لا شدة فيه، يُطْرَحُ سؤال على ميدان البحث:
هل أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من القرآن مناماً ؟ والجواب: أن الظاهر من السمات العامة التي تقدمت أن ذلك لم يحدث، لما يتطلبه الوحي القرآني من استعداد وشدة .
فإن اعتُرض بأن: سورة الكوثر نزلت مناماً كما رواه أنس - رضي الله عنه - قال: (بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا - إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله ؟ ! قال: (أنزلت علي آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر } "الكوثر/1-3") الحديث (2) ، إذ ظاهره أن سورة الكوثر نزلت مناماً ؟.
__________
(1) فتح الباري 1/19، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم 1/300، مرجع سابق .(1/136)
فالجواب: ذكر العلماء عدداً من الأجوبة، ولكن الآلوسي –رحمه الله تعالى– ارتضى: أن معنى أغفى في الحديث منصرف إلى ظن بعض الرواة أن ذلك حدث له، وليس كذلك في واقع الأمر، وإنما اعترته برحاء الوحي حتى توهم بعض من حوله أنه أغفى فقال: "وقد يُظَن أنه - صلى الله عليه وسلم - أغفى، ولا يحتاج من قال إن الأشبه أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى تأويل هذا الخبر بأنه - صلى الله عليه وسلم - خطر له في تلك الإغفاءة سورة الكوثر التي نزلت قبلها في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي أنزلت فيه السورة فقرأها عليهم، ثم إنه على ما قيل أن بعض القرآن نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم استدلالاً بهذا الخبر، يبقى ما قلناه من سماعه - صلى الله عليه وسلم - ما ينزل إليه، ووعيه إياه بقوى إلهية قدسية ونومه - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع من ذلك، كيف وقد صح عنه أنه قال (تنام عيني ولا ينام قلبي)" (1) .
__________
(1) روح المعاني/182، مرجع سابق، والحديث المذكور أخرجه البخاري 1/ 385، مرجع سابق .(1/137)
وهذا الذي مال إليه الآلوسي، هو ما ذهب إليه الرافعي (1) ، حيث نقل عنه السيوطي قوله: "والأولى أن تفسر الإغفاءة بالحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، ويقال لها بُرَحاء الوحي؛ فإنه كان يؤخذ عن الدنيا، والأشبه أنه لم ينزل شيء من القرآن في النوم" (2) ، ومال إليه السندي في حاشيته على سنن النسائي فقال: "(إذ أغفى) الإغفاء –بالغين المعجمة-: النوم القليل، وفي المجمع: الإغفاء السِنَة، وهي حالة الوحي غالباً، ويحتمل أن يريد به الإعراض عما كان فيه" (3) ، وقال ابن خلدون: "أن توجد لهم-أي الأنبياء- في حال الوحي غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط، كأنها غشيٌ، أو إغماءٌ في رأي العين، وليست منهما في شيء، وإنما هي في الحقيقة استغراق في لقاء الملك الروحاني، بإدراكهم المناسب لهم الخارج عن مدارك البشر بالكلية، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية، إما بسماع دوي من الكلام، فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه، بما جاء به من عند الله ثم تنجلي عنه تلك الحال وقد وعى ما ألقى إليه" (4) .
ويكفي في الرد على هذا الوجهة قول الله - عز وجل - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"؛ إذ التعليم منافٍ للنوم إن أُريد يالنوم ما يعتاد البشر، لا إن أُريد به نوم الأنبياء .
__________
(1) كبير فقهاء الشافعية المناظر للإمام النووي ... وليس الأستاذ مصطفى صادق الرافعي أديب العصر .
(2) الديباج على صحيح مسلم 2/132، مرجع سابق .
(3) (السندي) أبو الحسن نور الدين بن عبد الهادي ت 1138هـ: حاشية السندي على النسائي 2/134، مراجعة: عبد الفتاح أبو غدة 1406هـ – 1986م، مكتبة المطبوعات الإسلامية – حلب .
(4) مقدمة ابن خلدون ص92، مرجع سابق .(1/138)
كما يظهر للباحث أن ما ذُكِرَ في الحديث من نزول سورة الكوثر ليس بنزول حقيقي لاتفاق أهل التفسير ومتتبعي النزول أن هذه السورة مكية، وسياقها مثبتٌ لمكيتها، وكلام أنس - رضي الله عنه - مشعر بوجوده حال الحديث وهو مدنيٌ كما هو معلوم، وقد قال البيهقي:"والمشهور فيما بين أهل التفسير والمغازي أن هذه السورة مكية" (1) ، وما ذكره الآلوسي يصلح وجهاً عند التنزل للرد على نفي المعاناة في المنام من حيث أن قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام .
وإذ انتهت هذه المسألة؛ فهل معنى ما قرر هنا أن الوحي غير القرآني لم يكن يأت النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصورة الأشد ؟ والجواب: لا! إذ لا يعني ما قرر هاهنا، أن الوحي غير القرآني لم يكن يأتيه بالصورة الشديدة، بل قد يأتيه كذلك كما في حديث عبادة ابن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل الوحي عليه كرب لذلك، وتربد وجهه، فأُوحي إليه ذات يوم، فلقي ذلك، فلما سرى عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ثم رجماً بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ثم نفي سنة) (2) . وهو دال على مجيء الوحي غير القرآني بالصورة الأشد .
إنما المراد من البحث السابق نفي أن يأتيه الوحي القرآني بصورة نبذ الرجل، وإلقاء الفتى، ولذا تكاد لا ترى حديثاً فيه ذكر لوحي قرآني إلا وصفة إنزاله هي الشديدة إن ذُكِرت، حتى صار ذلك سيماء الوحي القرآني التي يذكرها كتابه عند وصفه، كما في حديث زيد ابن ثابت - رضي الله عنه - المتقدم.
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى 2/43، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم 3/1316، مرجع سابق .(1/139)
6- ارتقاء القوى البشرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - :لتسد كل ثغرة ضعف فيها عند التلقي حتى وقت الإبلاغ، كما قال تعالى { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } "القيامة/17" { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } "الأعلى/6"، وقد قال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في قوله - سبحانه وتعالى - { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } "العلق/1": "أي لا تقرؤه بقوتك، ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته" (1) .
7- الاستماع والإنصات: وهذا متجلٍ في الأمر العام { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } "الأعراف/204"، فإن نوزع فيه فالأمر الخاص { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } "القيامة/18"، أي: فاستمع له وأنصت: كما في تفسير ابن عباس - رضي الله عنه - (2) ، ويجعله نصاً في هذه المسألة نهيه عن تحريك لسانه .
والفرق بين الاستماع والإنصات: أن الاستماع أخص من الإنصات؛ لأن الاستماع الإصغاء، والإنصات السكوت، ولا يلزم من السكوت الإصغاء (3) .
8- الوعي لما يقوله الملَك: وذا أمر قد تكفل الله به { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } "القيامة/17" { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } "الأعلى/6"، وسيأتي تحليل هذين الموقفين القرآنيين -إن شاء الله تعالى- (4) ، وحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - إسقاطه الواقعي في قوله: (فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال).
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/35، مرجع سابق .
(2) انظر: حديث المعالجة المبحث السادس من هذا الفصل .
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/683، مرجع سابق، ومثله: الديباج على صحيح مسلم 2/158، مرجع سابق .
(4) انظر: حديث المعالجة المبحث السادس من هذا الفصل، وآية الأعلى في الفصل الخامس -المبحث الثاني .(1/140)
... وقوله: (فيفصم) يضرب أي فيقطع عني حامل الوحي "يقلع، وأصل الفصم القطع" (1) (وقد وعيت عنه) أي حفظت عنه أي أجده في قلبي مكشوفاً مُتَبَيَّناً بلا التباس، ولا إشكال (2) .
9- تطبيق هيئات التلقي التوقيفية: وهذا ينبني على توقيفية هيئات التحمل، ويأتي ذلك في تحليل حديث المعالجة (3) ، ومن الملاحظات التي تقال هاهنا أن سورة القيامة من أول ما نزل في مكة، وذاك دالٌ على التربية المبكرة على الطرق الصحيحة لتحمل القرآن الكريم .
ويرد بسط مفهوم التلقي والتلقين عقب حديث المعالجة (4) .
10-استعداد الملكات النفسية في النبي - صلى الله عليه وسلم - للحفظ:حيث اقترن تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بكمال الرغبة في الحفظ وحب المحفوظ، ففي رواية الطبري عن الشعبي: (عجل يتكلم من حبه إياه)، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، فأُمِرَ بأن ينصت حتى يقضي الله - سبحانه وتعالى - وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله - سبحانه وتعالى - { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } "طه/114" أي بالقراءة (5) .
وعدم التنافي بين الحب والخوف لأن الحب ولد الخوف فكان ما هو معلوم (6) .
__________
(1) (السيوطي) أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، ت911هـ : تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ص160، 1389-1969م المكتبة التجارية الكبرى - مصر .
(2) حاشية السندي على النسائي 2/150، مرجع سابق .
(3) انظر : حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
(4) انظر: في المبحث السابع من هذا الفصل .
(5) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/44، مرجع سابق، وانظر: تفسير القرطبي 19/106، مرجع سابق .
(6) تفسير الطبري29/187، مرجع سابق، وانظر: روح المعاني 29/243، مرجع سابق .(1/141)
والمقتضى المنهجي لذلك: غرس الإجلال لحفظ القرآن في نفس المتقدم لحفظه من حيث شرف الحفظ، ومن حيث رهبة ادعاء الانتساب إلى زمرة الحفاظ إن لم يكن قائماً بالقرآن تقويماً لألفاظه، وقياماً بأحكامه، وتمثلاً لأخلاقه ... (1) .
ومازال حادي الشوق يأرز إلى الحرم المطهر والمسجد النبوي حيث آثار جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - ... إذ ثم كان مركز تَعَلُّم ألفاظ القرآن الكريم من أمين الوحي في السماء - عليه السلام - لأمين الوحي في الأرض - صلى الله عليه وسلم - ...
ما لمطايانا تميل مالها؟ ... ... ..أظن رملَ رامة بدا لها (2)
لا تحسِبنَّ ميلها من مللٍ ... ..وإنما سكرُ الهوى أمالها
تجدُّ وجداً في الحُزون كلما ... ... .تذكرت من يثرب أطلالها (3)
وإن حدا الحادي بذكر طيبةٍ ... ... هيج ذكر طيبةٍ بَلبالها (4)
فشوقُها يدفعُها حتى ترى ... ...آمَالها هناك، أو آجالها
المبحث السادس:
حديث المعالجة ودلالاته العامة:
__________
(1) إذ يُلاحَظ تساهلٌ بالغٌ في حفظ القرآن من قبل المتقدِّم له ... فلا هيبة له، ولا إجلال يعتريه ... لكأنما يشربه شربَ الماء، غيرَ مصطحبٍ معه في مسيرة حفظه حباً أو خوفاً .
(2) رامة: موضع في البادية، وأراد به التكنية عن البلد التي هواها فؤاده، كما هوتها القلوب ... وصَرَّحَ بأنها طيبة –بعد-.
(3) الحُزون: جمع حزْن، وهي ما غلظ من الأرض ... يكني عن مشقة السفر .
(4) البَلْبال: شدَّة الهم والوَسْواس في الصدور وحديث النفس، فأَما البِلْبال، بالكسر، فمصدر انظر: لسان العرب 11/ 69 .(1/142)
... يبسط هذا المبحث حديث المعالجة المشهور في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - ، حيث ظهر فيه اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا التلقي قبل نزول التوقيف الإلهي، والتزامه بمفردات التوقيف الإلهي بعد ذلك ... وقد دل هذا الحديث على دلالات هامة في مسألة تلقي القرآن من جبريل - عليه السلام - ، ولذا فإن هذا المبحث سينقسم إلى خمسة مطالب:
المطلب الأول: متن حديث المعالجة برواياته المختلفة .
المطلب الثاني: تحليل الموقف في حديث المعالجة .
المطلب الثالث: تحليل آيات سورة القيامة الورادة في حديث المعالجة .
المطلب الرابع: من فوائد حديث المعالجة .
المطلب الخامس: من الدلالات الخاصة لحديث المعالجة .
المطلب الأول: متن حديث المعالجة برواياته المختلفة:(1/143)
... عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة [وفي المعجم الكبير: إذا نزل عليه القرآن تلقاه بلسانه وشفتيه] وكان مما يحرك به [لسانه و]شفتيه [وفي السنن الكبرى للنسائي مخافة أن يفلت منه] [فيشتد عليه وكان يعرف منه] فقال ابن عباس - رضي الله عنه - :فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس - رضي الله عنه - يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله تعالى { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال: جمعه له في صدرك وتقرأه، { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } ، قال: فاستمع له وأنصت، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل - عليه السلام - استمع [وأطرق]، فإذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه [كما وعده الله] (1) ،
__________
(1) صحيح البخاري 1/6، مرجع سابق، والزيادات غير المعزوة هي للبخاري من طرق أخرى ..(1/144)
وفي لفظ للبخاري: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي حرك به لسانه -ووصف سفيان يريد أن يحفظه- فأنزل الله { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ، وفي لفظ له: فقيل له { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } يخشى أن ينفلت منه { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } أن نجمعه في صدرك، وقرآنه أن تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } يقول أنزل عليه { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أن نبينه على لسانك، وفي السنن الكبرى للنسائي: إذا نزل القرآن عليه يعجل بقراءتها ليحفظه (1) ، وفي لفظ: كان يعالج من ذلك شدة فأنزل الله - عز وجل - { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } يقول: لتعجل بأخذه، يقول: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } يقول: جمعه أن نجمعه في صدرك، وأن تقرأه، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } فإذا أنزلناه، { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } يقول: فاستمع وأنصت، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : أن نبينه بلسانك فاستراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
المطلب الثاني: تحليل الموقف في حديث المعالجة:
__________
(1) ونحوه في: (الحميدي) أبو بكر عبد الله بن الزبير ت219هـ: مسند الحميدي، مراجعة: حبيب الرحمن الأعظمي، 1381هـ، دار الكتب العلمية –بيروت .
(2) المعجم الكبير 11/458، مرجع سابق .(1/145)
سبب المعاناة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاني عند إنزال القرآن عليه، وتلقيه له من صوت الملَك من مشكلة استيعاب قواه البشرية للفظه؛ إذ يخاف من ضعفها مع عظم المُنْزل، فيتعجل أخذه من الملَك متلقياً إياه بلسانه وشفتيه (1) ، لا لصعوبة حفظه؛ إذ هو من قوم اشتهروا بالحافظة المدهشة حتى أقاموها مقام الكتابة، وإنما كان سبب المعاناة متمثلاً فيما يلي:
1) علمه أنه قد كُلِّفَ في حدود ما تطيقه قواه البشرية؛ إذ تلك من أساسات الشريعة، وتحديد مقدار هذه الطاقة عائدٌ إلى مراقبة العبد لربه الذي يعلم السر وأخفى، ولذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يستنفر -عند نزول الوحي عليه- جميع قواه خوفاً من التقصير، وهذا واضح عند تحليل النص للوهلة الأولى .
2) إشفاقه من أن يعتريه القصور البشري، فينفلت بعض القرآن منه، خاصة أنه لا يعلم الغيب - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يدري كمية المنزل من حيث القلة والكثرة .
3) حبه للقرآن الكريم، ولا تنافي بينه وبين السابق إذ الحب مولد الإشفاق .
__________
(1) وفيه دليل على وجوب حفظ القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لو كان يريد حفظ المعنى لما احتاج لبذل هذا الجهد، كما أن فيه دليلاً على أن القرآن ليس بإلهام .(1/146)
فنُهِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع أساليبه الخاصة في تلقي القرآن وحفظه من العجلة بأخذه، وتحريك اللسان لأجل ذلك في موضعين من القرآن الكريم، هما موضعا طه والقيامة، وأُخبر أن هيئة تلقي القرآن توقيف، وليست اجتهاداً، وبُيِّن له الأساليب التي يتلقى بها القرآن، وَوُعِدَ بثلاثة أمور (من حيث اللفظ حيث أُمِرَ بذلك، وضُمِنَ له تحقيقه): جمعه في صدره (حفظ أصل اللفظ)، وقراءته بعد ذهاب الملَك كما قرأه عليه الملَك(أداء اللفظ بالهيئة التجويدية والأدائية ذاتها) ، وتبيينه بلسانه أي أداؤه كما أنزل إليه (1) ، فقد نهُي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتباع أساليبه الاجتهادية في تلقي الوحي القرآني وتعلمه، والموضعان اللذان فيهما النهي:
أحدهما: قوله - عز وجل - { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } "طه/114"، والآخر: { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... } "القيامة/16-18".
__________
(1) وتفصيل ذلك يأتي في المطلب الثالث من هذا المبحث: تحليل آيات سورة القيامة .(1/147)
فأما الأول: وهو قوله - عز وجل - : { ... وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... } "طه/114"، فقد قرر المفسرون أنه يجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل - عليه السلام - آياته، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - :كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبادر جبريل - عليه السلام - فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل - عليه السلام - حرصاً على الحفظ وخشية من النسيان، فأنزل الله - سبحانه وتعالى - { ... وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... } "طه/114"، فيكون المراد بقضاء وحيه: إتمامه وانتهاؤه، أي انتهاء المقدار الذي هو بصدد النزول" (1) .
وأما الثاني فهو في سورة القيامة: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } "القيامة/16-19" .
المطلب الثالث: تحليل آيات سورة القيامة الورادة في حديث المعالجة:
? { إنّ عَلَيْنَا جَمْعَه } :
ورد فيها معنيان (2) :
1- علينا أن نجمعه في صدرك: وهو عن ابن عباس - رضي الله عنه - وهو في الصحيح كما في متن الحديث، وعن قتادة تفسيره بالحفظ (3) ... وهما تعبيران آيلان إلى معنى واحد .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 19/317، مرجع سابق، ونحوه في تفسير الجلالين وحاشية الصاوي عليهما 3/80، مرجع سابق، وكذا في تفسير ابن كثير 3 /495، مرجع سابق .
(2) وأورد الآلوسي في ررح المعاني 29/244، مرجع سابق: قولين آخرين في معنى جمعه وقرآنه وضعفهما، ولا يستحقان الاشتغال بهما .
(3) انظر: فتح الباري 8/637، مرجع سابق .(1/148)
2- الجمع هو التأليف: وهو ما رواه الطبري عن قتادة (1) ، ورواه البخاري معلقاً عن ابن عباس - رضي الله عنه - فقال: قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } : تأليف بعضه إلى بعض (2) .
... وكلا المعنيين يكونان حقيقة الجمع، وهي: جمعه في الصدر محفوظاً كما أنزله الله - عز وجل - بلفظه ونظمه وتأليفه ... ولئن كان تأليفه (ترتيب الآيات للاختلاف في ترتيب السور) من الله، فلأن تكون أوجه الأداء منه - جل جلاله - أولى .
?? { وَقُرْءَانَهُ } : وقع في رواية الطبري في معناها: وتقرأه بعد، أي: قراءتك إياه، أي جريانه على لسانك، فقرآنه مصدر مضاف إلى المفعول (3) .
?? { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } : ورد في هذه الآية أربعة معانٍ عن ابن عباس - رضي الله عنه - (4) :
الأول: أي قرأه عليك الملك، وهو مما ورد في متن الحديث .
والثاني: رواه عنه البخاري: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } : فإذا جمعناه وألفناه، { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي ما جمع فيه، فاعمل بما أمرك، وانته عما نهاك الله (5) .
__________
(1) تفسير الطبري 29/188، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 4/1770، مرجع سابق .
(3) حاشية الصاوي بهامش تفسير الجلالين 4 /353، مرجع سابق .
(4) أما ابن حجر-رحمه الله تعالى- فقال: "والحاصل أن لابن عباس - رضي الله عنه - في تأويل قوله تعالى { قَرَأْنَاهُ } وفي قوله { فَاتَّبِعْ } قولين" انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/683، مرجع سابق .
(5) صحيح البخاري 4/1770، مرجع سابق .(1/149)
والثالث: رواه عنه البخاري فقال: "باب قوله { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } ، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : { قَرَأْنَاهُ } بيناه { فَاتَّبِعْ } اعمل به" (1) .
والرابع: أي: (فإذا أنزلناه) معلقاً، رواه عنه البخاري موصولاً في خلق أفعال العباد، وفيه: " { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فاتبع مجمله، وتفهم ما فيه" (2) .
وعند الطبري من طريق قتادة في قوله { فَاتَّبِعْ } ما يؤيد التأويل الثاني لابن عباس - رضي الله عنه - إذ قال فيه:"اتبع حلاله واجتنب حرامه" (3) .
والتفسير الأول عن ابن عباس - رضي الله عنه - أشهر .
__________
(1) صحيح البخاري 4/1877، مرجع سابق، وقال ابن حجر-رحمه الله تعالى-: "هذا التفسير رواه على بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما - أخرجه بن أبي حاتم" انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/682، مرجع سابق .
(2) (البخاري) أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجعفي ت256هـ: خلق أفعال العباد 84 مراجعة: د. عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية- الرياض 1398هـ –1978م.
(3) تفسبر الطبري 29/188، مرجع سابق .(1/150)
ولا تنافي بين هذه التأويلات؛ إذ يصبح المعنى عند الجمع بين الوارد فيها: فإذا أنزلناه فبيناه، بأن قرأه عليه الملَك مجموعاً مؤلفاً فاستمع له وأنصت، فإذا انتهت قراءة جبريل - عليه السلام - فاقرأ أنت، ثم اتبع ما فيه من حلال، واجتنب ما فيه من حرام ... فكانت ألفاظ التفسير مختلفة بحسب بدايات نزول القرآن ونهاياته؛ إذ البدء يكون بنزول الملَك، ثم التبيين بقراءة الملَك أيضاً، وهو مستدعٍ لإنصات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم تكون مرحلة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم مرحلة العمل به...فقد اتفقت في حقيقتها (1) ، ويدل لهذا أن ابن عباس - رضي الله عنه - فسر قوله تعالى { أنزلناها } "النور/1"، كما روى عنه البخاري: بيناها (2) ، وقال ابن حجر:"كذا في النسخ، والصواب (أنزلناها وفرضناها) بيناها" (3) ، فجعل معنى بيناها لفرضناها لا لأنزلناها، وهو غريبٌ من حيث أنه صرح بأن النسخ اجتمعت على أن بيناها معنى لأنزلناها، فكان النظر داعياً إلى التأمل في المناسبة بينهما قبل صرفه بادئ الرأي إلى معنى آخر، وقد ظهرت للباحث مناسبة معنى الإنزال للبيان من خلال تأويل ابن عباس - رضي الله عنه - لقوله { قَرَأْنَاهُ } بأنه أنزلناه تارة، وبمعنى بيناه تارة أخرى، فقد جعل ابن عباس - رضي الله عنه - البيان لازم الإنزال، وما أحسن ذاك بالنظر إلى الذات الإلهية، فتخطئة النسخ جميعاً عارض يفتقد القرينة فنبقى على الأصل .
?? { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } (4) : ورد فيها أربعة معانٍ:
__________
(1) وهذا التأويل للآيات هو الموافق لتأويل ابن عباس - رضي الله عنه - كما سبق . وقد قال عنه صاحب التحرير والتنوير 29/349، مرجع سابق: "هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأئمة التفسير" .
(2) صحيح البخاري 4/1770، مرجع سابق .
(3) فتح الباري 8/433، مرجع سابق .
(4) روح المعاني29/244، مرجع سابق .(1/151)
أولها: فاستمع له وأنصت: "أي أنصت إلى قراءتنا" (1) ، وقال الزمخشري:"فكن مصغياً له فيه، ولا تراسله، وطمئن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ؛فنحن في ضمان تحفيظه".
وقال الآلوسي:"فكن مصغيأً له لا مبارياً، وقيل: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } فاتبع بذهنك وفكرك { قُرْآنَهُ } أي: فاستمع وأنصت، وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنه - " (2) .
... وثانيها: أن الضمير في قوله { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } لجبريل - عليه السلام - ، والتقدير: فإذا انتهت قراءة جبريل - عليه السلام - فاقرأ أنت (3) .
... وثالثها: فاعمل ما أمرك .
ورابعها: اتبع مجمله وتفهم ما فيه .
... ولا تنافي بينها، بل حال هذه الآية كما سبق فيما قبلها .
?? { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : ورد فيه معنيان أيضاً:
__________
(1) التحرير والتنوير 29/349، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 29/244، مرجع سابق .
(3) فتح الباري 8/683، مرجع سابق .(1/152)
أن نبينه بلسانك (1) ، والآخر: العمل، وذكر ابن جرير القولين (2) ، ولا تنافي بينهما كما يظهر (3) ، والقول فيهما كالقول في الآية السابقة، مثلاً بمثل، وذلك أن بيان مجمله، أو تفصيل مشكله غير كائن إلا بتحقيق لفظه، وقد يقف الراسخون في العلم حيارى أمام لفظة محرفة، أو مصحفة حتى يتيقنوا لفظها أو يقاربوا، ثم يسبروا غور معناها بعد، والأمر هاهنا كذلك إذ ينصرف معنى البيان انصرافاً أولياً إلى معنى البيان اللفظي، وهو آيل في كلام الله -بعد- إلى البيان المعنوي، فمن فسره بالبيان المعنوي فهو
باعتبار نهاية الأمر، ولذا قُدِّمَ تأويل الآية بالبيان اللفظي عند العلماء:
__________
(1) وعند البخاري في خلق أفعال العباد84، مرجع سابق: " أن نثبته على لسانك " ولا يعترض بأنه يحتمل أن يكون قد اعتراها التصحيف؛إذ قد ورد في قوله تعالى { فَتَبَيَّنُوا } "الحجرات/6" القراءة الأخرى { فتثبتوا } والمعنى مرتبط بينهما؛ إذ التثبت ثمرة التبين.
(2) تفسير الطبري29/189، مرجع سابق .
(3) كما لا منافاة بين الأقوال الثلاثة التي أوردها ابن جرير 29/189، مرجع سابق في تأويل { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } وهي: فاستمع قرآنه، فاتبع معانيه من الشرائع والأحكام، فاعمل به .(1/153)
فقال الآمدي:"يجوز أن يراد بالبيان الإظهار، لا بيان المجمل: يقال بان الكوكب إذا ظهر -قال- ويؤيد ذلك أن المراد جميع القرآن، والمجمل إنما هو بعضه، ولا اختصاص لبعضه بالأمر المذكور دون بعض" (1) ، ومعنى الجملتين { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } : "إن علينا جمع الوحي، وأن تقرأه، وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك، أي عن ظهر قلبك لا بكتابة تقرؤها، بل أن يكون محفوظاً في الصدور، مبيناً لكل سامع لا يتوقف على مراجعة، ولا على إحضار مصحف من قرب أو بعد، فالبيان هنا بيان ألفاظه، ليس بيان معانيه؛ لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه" (2) ..، وقال الآلوسي:"يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل، وقد صح من رواية الشيخين وغيرهما وجماعة عن الحبر أنه قال في ذلك:ثم إن علينا أن نبينه بلسانك، وفي لفظ: علينا أن تقرأه، ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع القرآن، والمجمل بعضه" (3) .
وهذا عند التقديم لشيء على شئ، وإلا فإن الآية محتملة لجميع أنواع البيان يقدمها بيان اللفظ إذ الكلام فيه، وغيره بُيْنَى عليه، ويقوي ذلك العموم لأنواع البيان: أن قوله بيانه جنس مضاف فيعم جميع أصنافه من إظهاره، وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص، وتقييد، ونسخ، وغير ذلك .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/637، مرجع سابق .
(2) انظر: التحرير والتنوير 29/350، مرجع سابق .
(3) روح المعاني 29/244، مرجع سابق .(1/154)
ففي هذه الآيات: تكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له، ويفسره، ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته وبيانه في مخارج لفظه حق بيانه، والثالثة تفسيره، وإيضاح معناه (1) .
__________
(1) انظر: (ابن كثير) أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ت774هـ: تفسير القرآن العظيم 4/383، تقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، إعداد: مكتب تحقيق دار إحياء التراث العربي، أعد فهارسها: رياض عبد الله عبد الهادي ط1، 1417- 1997م، دار إحياء التراث العربي-بيروت .(1/155)
وتلخيصاً للمعالم السابقة مع ما ورد في الفصل الأول يقال: انطلاقاً من قاعدتي الإثبات والنفي الحاصرتين المانعتين لأي تدخلٍ من الخلق في أداء كلام الله - سبحانه وتعالى - ، وهما الوارتان في قوله –تعالى ذكره-: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9" إثباتاً، { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } "الأنعام/115" نفياً، فإن الحفظ الإلهي للكتاب الكريم في عالم المخلوقين قد بدأت أدواته الواقعية بالتشكل مذ تكلم به الخالق –تعالى ذكره-: فقد اختار الله - عز وجل - حافظاً قوياً أميناً لنقل كلامه، وتعليمه للخلق بدقة متناهية، ونحن نعرف من وسائل العصر ما يتمكن به الإنسان من حفظ كلامه بلا تغير، بل بنفس المؤثرات التي تحف بكلامه ... كالمُسَجِلة التي إذا وجهت رسالة بواسطتها لشخص، أمكنك أن تقول له: قد قلت لك كذا وكذا مع أنك قلته في وقت آخر، ومكان آخر ... ولا تكون كاذباً بذلك، وإن كان لم يسمع منك مباشرة ... بل سمع من المسجل، لكن المسجلة لدقة حفظها، وضبطها نقلت نقلاً أميناً ... ولله المثل الأعلى، فقد جعل الله –تعالى ذكره-جبريل - عليه السلام - أميناً على الوحي قوياً على نقله لدرجة يكاد من دقتها أن يصح القول بأن الذي اقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الله –تعالى ذكره-، ولذا جاز نسبة إقراء جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام الله إلى الله –تعالى ذكره- لشدة ضبطه وإتقانه ودقته ... وهذا هو سر إسناد الفعل إلى الله في قوله - سبحانه وتعالى - { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } مع أن القائم به هو جبريل - عليه السلام - ... فكانت قراءة جبريل - عليه السلام - مطابقة أمينة تماماً كما تلقاه عن الله –جل وعلا- .
المطلب الرابع: من فوائد حديث المعالجة (1) :
__________
(1) عدا ما تقدم في المطالب السابقة .(1/156)
أول فائدة تتعلق بلفظ القرآن: هي أن الالتزام بجمع القرآن في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جريانه على لسانه كما قرأه جبريل - عليه السلام - .. لم يقف عند قراءة الألفاظ كما هي، بل تعدى ذلك إلى (بيان الألفاظ) بياناً واضحاً مستمداً من عربية اللسان من حيث العموم، وهيئة تلاوة القرآن من حيث خصوص كونه قرآناً، فتأويل { ثُمَّ إنّ عَلْينَا بَيانَه } "بتفهيم ما أشكل عليك من معانيه" (1) قصرٌ لعامٍ بغير دليل، وتخصيص للمعنى بغير مخصص، على أن الأنسب والأوفق للمقام الكلام على اللفظ قبل المعنى "فإن الكلام له لفظ ومعنى، وله نسبة إلى الأذن والقلب ومتعلق بهما، فسماع لفظه حظ الأذن، وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب" (2) ، وكلاهما مراد بيانه، والأول أولى لأنه طريق إلى الثاني الذي هو الغاية من الأمرين، قال ابن كثير في قوله - سبحانه وتعالى - { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : "أي بعد حفظه وتلاوته، نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا" (3) .
__________
(1) حاشية الصاوي 3/354، مرجع سابق .
(2) تهذيب مدارج السالكين1/70، مرجع سابق .
(3) تفسير القرآن العظيم 4/383، مرجع سابق .(1/157)
وثاني فائدة تؤخذ من هذه الآيات مما يتعلق باللفظ: أن الحفظ للألفاظ مقدم على استلهام المعنى وبيانه (1) ، وهي القاعدة المستنتجة من قوله - عز وجل - { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ، فليس المعنى سابقاً للحفظ، والمراد ليس إيجاد المعنى إذ هو قبل اللفظ في حيز العدم والخفاء، وليس المراد استحضاره في الذهن، وهو يدل من جهةٍ أخرى على أهمية ضبط اللفظ، لا على ما زُعِمَ من أن المعاني الأولية هي المقصودة بقطع النظر عن قالبها، وهي ما سمي أصولياً بالمعاني الثانوية (2) ، ثم كانت هذه التسمية، وذا التقسيم سبباً في التهوين من الجانب اللفظي للكلمات ... وبذا استبان غرور من ادعى سبق الاهتمام بالمعنى، وقد يُسَّلم في أن المعنى يسبق اللفظ من حيث الوجود النفسي، ولكن الكلام هنا عن معنى موجود في الخارج عُبّر عنه بلفظٍ ... فأنّى له أن يُعرف دون عبور ممره الموصل إليه وهو اللفظ؟، وهذا هو حال ألفاظ القرآن الكريم؛ إذ لا يُعرف المعنى الذي يُريده الله - سبحانه وتعالى - في كلامه إلا بمعرفة لفظه، ولفظه هو - سبحانه وتعالى - لا لفظ غيره، وهذا على القول بأن { ثُمَّ } في قوله - سبحانه وتعالى - { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } للتراخي الزمني، إما على القول بأنها للتراخي الرتبي ... فلا تنخرم القاعدة كلياً لكنها تعدل بحيث يقيد بيان المعنى بملازمة إتقان اللفظ إذ هو طريقه .
ولعل هذا المعنى هو الذي يسوغ تعليم الصبيان ألفاظ القرآن، وتحفيظهم إياها، وإن لم يتقنوا معناها .
__________
(1) وهو ما رجحه العلماء في فهم الآية كما سبق، على أن الترجيح فرع التضاد، ولا تضاد بحمد الله ...
(2) واستنتج البعض هذا من فهم خاطئ لكلام الإمام الشاطبي في الموافقات 2/ 66، مرجع سابق، فإنه إنما مهد بكلامه ذاك عن مسألة الترجمة للقرآن .(1/158)
... كما لا ينافي هذا التأويل ما أورده ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنه - :"كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه فقال الله { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أن نجمعه لك { وَقُرْءَانَهُ } أن نقرئك فلا تنسى" (1) ؛ فإنها مؤيدة لما سبق مكملة له ففيها التأكيد على تكفل الله - عز وجل - بحفظ كتابه من حيث العموم، بالإضافة إلى ما نبأت به الروايات الأولى في هيئات حفظ كتابه من حيث الخصوص (خصوص التلقي في كل مرة) وانظر ما سيأتي في بند تكرار المحفوظ (2) .
المطلب الخامس: من دلالات الحديث الخاصة:
1- تحريك الفم: فالقراءة النفسية لا وجود لها، أو لا تسمى قراءة عند الإطلاق (3) . ولا يعترض على هذا بأنه: منتقضٌ بأن القرآن ذِكْرٌ، فيكون في النفس، كالقول؛ إذ قال الله - سبحانه وتعالى - : { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } "المجادلة/8"، لأن القراءة مرتبة أعلى من القول من حيث تحريك الفم
__________
(1) تفسير الطبري 29/190، مرجع سابق .
(2) انظر: المبحث الثامن من هذا الفصل .
(3) ولذا بوب الإمام البيهقي في سننه الكبرى 7/350، مرجع سابق: "باب الرجل يطلق امرأته في نفسه ولم يحرك به لسانه".(1/159)
(الشفتين واللسان)، ولذا قال الله - سبحانه وتعالى - { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } "الأعراف/204"، ولم يقل (وإذا قيل)، ويدل له: أنه كان يمكن أن لا ينازع الصحابة رسول في القراءة في الصلاة لو قرأوا في أنفسهم، وسمي فعلُهم قراءة، ولكنه أبى عليهم، إذ القراءة لا بد فيها من تحريك الفم، بل وإسماع النفس على الأقل عند بعض الفقهاء (1) ... وقد يقال كل ما ذكر معارَض ... فيجاب حينئذ بأن القراءة النفسية -إن وجدت- لابد من تقييدها بذلك، ولا يكفي فيها الإطلاق.
وقوله: (فأنا أحركهما) دلالة على أن القراءة لا تسمى كذلك إلا بتحريك الشفتين، ويدل على ذلك آية القيامة { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } وآية طه { ... وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... } ؛ إذ يُلمَحُ منها ضرورة تحريك اللسان في حفظ القرآن إذ النهي مؤقت بقراءة المعلم .
ونأخذ منه أيضاً أفضلية استجماع القلب والإنصات التام للسماع الأول من الشيخ، لتكون خطوات لازمة من خطوات تلقي القرآن، وقراءته، وحفظه.
__________
(1) انظر: (المهدي)أحمد بن يحيى المرتضى ت840هـ: البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، وبهامشه: جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للعلامة محمد بن يحيى بن بهران الصعدي ت957هـ، أشرف عليها:عبد الله محمد الصديق، وعبد الحفيظ سعد عطية، دار الكتاب الإسلامي - القاهرة، وانظر: د. مصطفى ديب البغا: التحفة الرضية في فقه السادة المالكية ص40، شرح وأدلة وتكملة متن العشماوية، ط1، 1412هـ – 1992م، دار ابن كثير، دمشق– بيروت .(1/160)
ومن بواعث تحريك الفم عند قراءة القرآن: الحفظ، وخشية النسيان، وحب القرآن ... ومن أسرار ذلك: تهييج اللسان لإظهار استسلامه لله، وحركته في طاعة الله - عز وجل - - سبحانه وتعالى - ومبادرته في المشاركة في إظهار كلام الله - عز وجل - ... فيشترك القلب، واللسان، ثم الجوارح بالعمل في إجلال كلام الله - سبحانه وتعالى - ، وقال ابن حجرفي تجلية عمل اللسان في إحياء البواعث المذكورة: "قوله: (فيشتد عليه) ظاهر هذا السياق أن السبب في المبادرة حصول المشقة التي يجدها عند النزول فكان يتعجل بأخذه لنزول المشقة سريعا، وبين في رواية إسرائيل: (أن ذلك كان خشية أن ينساه، حيث قال: فقيل له { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } تخشى أن ينفلت)، وأخرج بن أبي حاتم من طريق أبي رجاء عن الحسن: (كان يحرك به لسانه، يتذكره، فقيل له: إنا سنحفظه عليك)، وللطبري من طريق الشعبي: (كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبه إياه)، وظاهره أنه كان يتكلم بما يلقى إليه منه أولا فأولاً من شدة حبه إياه فأمر أن يتأنى إلى أن ينقضي النزول، ولا بعد في تعدد السبب" (1) .
وتعدد السبب مع اتحاد المقتضَى (التحريك) موجب منهجياً اعتماد تحريك الفم عند إرادة تحقيق أحد تلك البواعث(الخوف، والإشفاق،والحب) .
2- أخذ النفس بالشدة في قراءة القرآن وحفظه:
أما في القراءة فحديث التعتعة: عن عائشة-رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهوعليه شاق له أجران) (2) ، والماهر لا تظهر مهارته إلا بعد الدُربة، فينهار بناء من بنى سهولة أخذ القرآن على عربيته أي أن حفظه سهل لمجرد كونه عربياً، وعدم الحاجة إلى الكلفة في تعلمه؛ إذ قد اتضحت ضرورة الكلفة للقسمين المذكورين في حديث التعتعة .
__________
(1) فتح الباري 8/ 682، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم 1/549، مرجع سابق .(1/161)
وأما في الحفظ فظاهر ذلك في حديث المعالجة.
وأما في المراجعة ففي أحاديث التفلت (1) . فلا بد من أخذ النفس بشيء من الشدة في قراءة القرآن، وحفظه، ومراجعته .
والمقتضى المنهجي لهذه الشدة: إعطاء قراءة القرآن، وحفظه، وتلاوته، ومراجعته، حجمها الحقيقي دون هضم، أو تقليل من حجمها، إذ معظم الحالات الواقعة في حياة حفاظ القرآن فضلاً عن بقية أمة القرآن التهوين من ذلك إما تكاسلاً، أو تهاوناً، أو هروباً من الإغراق في مفهوم البركة! فيقلل البعض من العزيمة في معالجة الوحي القرآني قراءة، أو حفظاً، أو مراجعة، لئلا يهول مفهوم البركة على مفهوم بذل الأسباب، أو الاطلاع على بقية كتب أهل العلم، أو التوسع في معرفة الثقافات العصرية ... وهذه مسألة بحاجة إلى مزيد تدبر دون شطط .
ولا ينافي هذا قوله - سبحانه وتعالى - { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } "القمر/17" كما تقدم (2) ، ولما هو ظاهر أن القرآن مُيَسَرٌ للذكرى، ولا علاقة لذا مع موضوع الحفظ، وحديث التعتعة المذكور آنفاً صريح في هذا التقرير .
3-مخارج الحروف هي الخمسة المشهورة: فلا يستدل بآية القيامة { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } على أن اللسان هو المخرج الوحيد، ولذا ذكر في حديث المعالجة (الشفتين)، قال ابن حجر:"قوله: (وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه) اقتصر أبو عوانة على ذكر الشفتين، وكذلك إسرائيل، واقتصر سفيان على ذكر اللسان، والجميع مراد إما لأن التحريكين متلازمان غالباً، أو المراد يحرك فمه المشتمل على الشفتين واللسان لكن لما كان اللسان هو الأصل في النطق اقتصر في الآية عليه" (3) .
ويقال على السياق نفسه: واقتصر على الشفتين واللسان لأنهما الظاهران للعيان، بخلاف الحلق والجوف والخيشوم .
المبحث السابع:
__________
(1) انظر: المبحث الخامس من هذا الفصل .
(2) انظر: المبحث الخامس من هذا الفصل .
(3) فتح الباري 8/684، مرجع سابق .(1/162)
التلقي (والتلقين):
... يحلل هذا المبحث مصطلح (التلقي)، ولذا فهو يتكون هذا المبحث من خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريفه .
المطلب الثاني: القرآن تلقين وليس إلهاماً .
المطلب الثالث: حكم التلقين .
المطلب الرابع: قواعده .
المطلب الخامس: المقتضى المنهجي لأسلوب تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المطلب الأول: تعريفه:
التلقي في الوضع اللغوي: مأخوذ من الإلقاء، ويظهر في الإلقاء كونه حسياً مشاهداً سواء كان قولاً يلقى باللسان، أو شيئاً يلقى باليد، أو بغير ذلك، فقد ذكر ابن الأثير في النهاية للإلقاء عشرة معانٍ: خمسة منها صريحة في الإلقاء الحسي، ومنه قولهم: مالي أراك لقاً بَقاً؟، فاللقى: المُلْقَى على الأرض، وما بعده إتباع له، ومعنيان صريحان في عودته للخطاب حين مجيئه من جهة لأخرى، وثلاثة معانٍ منها تعود إلى الإلقاء الحسي من حيث كون أصلها واقعاً بالقول، وهو فعل محسوس، ومنه قولهم: ما يلقي لها بالاً: أي ما يحضر قلبه لما يقوله منها، والبال: القلب (1) .
وتحصل من مفاهيم الإلقاء في الوضع اللغوي الدلالات التالية:
1) أنه حسي، فليس أمراً معنوياً، وهو ما يضاد الإلهام من حيث الأصل، فالإلهام شيء معنوي اعتباري .
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/266، مرجع سابق، وكذلك: مختار الصحاح 603، مرجع سابق .(1/163)
2) أنه يعتمد على القول المحسوس عند كون الإلقاء إلقاء لكلام، كما في قوله - عز وجل - { ... فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } "النحل/86"، فيكون كذلك من المُلْقي، وهو كذلك من المُتَلَقِي، كما في قوله تعالى { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ. ... } "النور/15"، فلا يعقل أن يكون إلقاء الكلام، ولا تلقيه أمراً معنوياً محضاً لغة ... هذا خلفٌ من القول تأباه طبيعة الوضع اللغوي، فإذا ورد ما يدل على أنه معنوي، فإما أن يكون ذلك على سبيل المجاز، أو هو معتمد على إلقاء حسي، كقولهم: نُعي إليه فلان فما ألقى لذلك بالاً؛ فإن المراد: ما استمع له، ولا اكترث به (1) ، وذلك صريح استعماله مجازاً لا يعلم معناه دون العلم بالإلقاء الحسي، فهو أصله .
3) يستعمل إلقاء القول استعمالاً لغوياً خاصاً في التعليم، وتلقيه في التعلم، والتواصي ... وهما حسيان من حيث الأصل، ومنه قوله تعالى { وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ } "القصص/80"، أي ما يعلمها، ولا يُنَبَهُ عليها، ومنه قوله - سبحانه وتعالى - { فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ... } "البقرة/37" (2) .
4) يُصاحِب الإلقاء والتلقي عرفاً لغوياً حضور القلب، فلا يكون مباغتاً، غير مُتَهَيئِ له، وذلك واضح مما سبق من سرد لبعض الاستعمالات اللغوية المختلفة للإلقاء ... وذلك يعني الفهم وحسن الأخذ .
والتلقين هو الإلقاء في كل ذلك إلا أنه خاصٌ لغةً بالكلام المُتَعَلَم.
ولا بد من الحُسن في الإلقاء والتلقي، وإلا لم تطلق عليه هذه الكلمة؛ولذا يقال: فلانٌ لَقِن إذا كان حسن التلقي لما يسمعه (3) .
__________
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/266، مرجع سابق .
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/266، مرجع سابق .
(3) انظر: (الزمخشري) جار الله محمود بن عمر: الفائق في غريب الحديث 3/325، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، ط2، توزيع دار الباز .(1/164)
وهذه المعاني كلها تجتمع في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - ، فهو إلقاء وتلقٍ محسوسين، بين جهتين اعتمدتا القول، حال كونهما حاضري القلب، يعتمد الأخذ بينهما على القول لا غيره من أنواع الإيحاء، مطبقَينِ في ذلك ضوابط العملية التعليمية والتعلُّمية .
ويظهر ذلك بيناً بلا خفاء عند الجمع بين الوصف العام لأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - بأنه تعلم كما في قوله - سبحانه وتعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، وبين الوصف الخاص لذلك بأنه تلقٍ كما في قوله - عز وجل - { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "النمل/6" .
ولا بد من التأكيد على ملاحظة بارزة في العرف القرآني لدلالة الإلقاء والتلقي، هي أن الإلقاء لم يستعمل في العرف القرآني إلا للأمر المحسوس، وهذا يعطي التصور الأولي لمفهوم إلقاء ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتذهب الظنون العلمية التي تنافي ذلك في مكانها من التوهمات المحضة .
التلقي في الوضع الاصطلاحي: هو عبارة عن الهيئة المنهجية الشرعية لتعليم الألفاظ القرآنية بأن يقرأ الشيخ الآية، ويتلقاها الطالب عنه بسمعه وفؤاده، فالتلقي بهذا هو العملية المكملة لعملية التلقين إذ التلقين من الشيخ، والتلقي من الطالب، كما قال البخاري -رحمه الله تعالى-:" قال معمر (1) : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "النمل/6" أي يلقى عليك وتلقاه أنت أي تأخذه عنهم، ومثله { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ... } "البقرة/37" (2) .
__________
(1) عنى بمعمر هنا أبا عبيدة معمر بن المثنى اللغوي، انظر: مجاز القرآن، لا معمر بن راشد شيخ عبد الرزاق .
(2) صحيح البخاري 6/ 2721، مرجع سابق .(1/165)
وقال أبو عبيدة: "وتلا علينا أبو مهدي آية فقال: تلقيتها من عمي، تلقاها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - تلقاها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال في قوله - عز وجل - { وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلآّ الصَّابِرُونَ } "القصص/80": أي لا يُوفَق لها، ولا يُلَقَنُها، ولا يُرْزَقُها، وحاصله أنها تأتي بالمعاني الثلاثة، وأنها هنا صالحة لكل منها، وأصله اللقاء، وهو استقبال الشيء، ومصادفته" (1) .
فإذا قيل (الهيئة الشرعية لتعليم القرآن الكريم)، أو أُطلق أحدهما (التلقي أو التلقين) دخل فيه الآخر ضمناً .
فإن اعتُرض بالقول: لم لا يُستخدم مصطلح التعليم بدل التلقين؟ .
فالجواب: أن التلقين أخص من التعليم، ووجه خصوصيته في غاية الأهمية في تعليم ألفاظ القرآن الكريم؛ إذ: الفرق بين التعليم والتلقين:
1- أن التلقين يكون في الكلام فقط، والتعليم يكون في الكلام وغيره، تقول: لقنه الشعر، ولا تقول لقنه التجارة والنجارة، والخياطة، كما يقال علمه في جميع ذلك .
2- التعليم يكون في المرة الواحدة، والتلقين لا يكون إلا في المرات .
3- التلقين هو مشافهتك الغير بالتعليم، وإلقاء القول إليه ليأخذه عنك، ووضع الحروف مواضعها، والتعليم لا يقتضي ذلك، ولهذا لا يقال: إن الله يلقن العبد، كما يقال إن الله يعلمه (2) .
__________
(1) (أبو عبيدة) معمر بن المثنى ت 210 هـ: مجاز القرآن عند ذكر سورة البقرة 1/38، وسورة النمل 2/91، حققه د. محمد فؤاد سزكين، ط1، الخانجي الكتبي بمصر 1954م .
(2) انظر: (العسكري) أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد ت بعد 395هـ:الفروق في اللغة ص75 .(1/166)
وقد ورد تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم موصوفاً بالأمر العام،وهو التعليم في قوله - عز وجل - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } "النجم/5"، وموصوفاً بالأمر الخاص وهو(التلقي) { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "النمل/6"لغاياتٍ لن يكون من أهمها: نفي الإلهام في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإثبات المشافهة صيغةً وحيدةً للتعليم القرآني من حيث اللفظ .
المطلب الثاني: القرآن تلقين وليس إلهاماً (1) :
__________
(1) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .(1/167)
فهو تعليم مباشر (تلقين) وليس إلهاماً: إذ قد تنوعت وسائل الوحي كما قال ابن قتيبة -رحمه الله تعالى-:"كل شيء دللت به عن كلام، أوكتاب، أو إشارة أو رسالة، وذكر له معان في القرآن: الإشارة، والإيماء، والإلهام، والإعلام في المنام، والإعلام بالوسوسة من الشيطان، والأمر ... ثم قرر أن معناه في خصوص الوحي بالقرآن التلقين من جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونص قوله في قوله - سبحانه وتعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } "الأنعام/19": "فهذا إرسال جبريل - عليه السلام - بالقرآن" (1) زاد في فتح الباري من معاني الوحي: الإعلام في خفاء، والكتابة، والمكتوب، والتصويت شيئاً بعد شيء -قال-وقيل أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام، أو كتابة، أو رسالة، أو إشارة فهو وحي، وشرعاً: الإعلام بالشرع، وقد يطلق ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى، وهو كلام الله المنزَل على النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) فمدار الحديث في هذا المبحث حول حالة خاصة من الوحي بمعناه المصدري هو الإعلام والتفهيم بالتصويت شيئاً بعد شيء، وذلك أعم من أن يتمثل له الملك رجلاً، وحول حالة خاصة الوحي بمعنى اسم المفعول وهو القرآن والمراد كيفية تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لألفاظه .
__________
(1) (ابن قتيبة) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276هـ): تأويل مشكل القرآن ص489، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر - المكتبة العلمية .
(2) فتح الباري 1/15، مرجع سابق .(1/168)
ويلاحظ أن المدلول اللغوي للوحي يوضح طبيعته: فلا تراه عين غير الموحى إليه، ولا تسمعه أذن غيره كذلك ... ويمكن أن يُدرك ببساطة أن المدلول اللغوي للوحي يشير إلى أن ثم نوعاً منه لا تسمعه الأذن المعتادة، ولا العين المعتادة، ويصل إلى مركز الإبصار، ومركز السمع مباشرة،ويمكن التعبير عنه من خلال المعاني السابقة للوحي بالقول: التفهيم والإعلام بالتصويت شيئاً بعد شيء، ولذا لما أراد جبريل - عليه السلام - أن يستعلن للناس كان لا بد من تمثله بصورة البشر، بخلاف الصورة الأشد للوحي، فإنه لا يستعلن، بل يكون خفياً،ولكنه محسوس للنبي - صلى الله عليه وسلم - ،والصحابة إنما يرون آثاره –كما سبق- ... فلذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم) فلما أراد جبريل - عليه السلام - أن يعلمهم كان لا بد من أن يتمثل لهم بشراً تدرك عيونهم صورته، وتدرك أسماعهم صوته كما تقدم في الفصل الثاني مفصلاً.
... وليس تعليم جبريل - عليه السلام - الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتصويت شيئاً بعد شيء مسألة فرعية، بل هي مسألة من مسائل الأصول، يذكرها العلماء في كتب العقائد، فقد جاء في العقيدة الطحاوية عند قول الإمام الطحاوي-رحمه الله تعالى-: "نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين" قال الشارح: "تصريحٌ بتعليم جبرائيل إياه إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاماً" (1) .
ومن أدلة كون الوحي القرآني تلقيناً:
1- قوله - سبحانه وتعالى - : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "النمل/6".
2- قوله - عز وجل - : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } "القيامة/18"؛ ففيها الأمر بالاستماع والانصات؛ إذ الاستماع والإنصات للملًك ينافي الإلهام الذي يقع في النفس دون استماع لأحد،ويُنظر المبحث السابق في معنى الآية .
__________
(1) شرح الطحاوية 315، مرجع سابق .(1/169)
3- قوله - سبحانه وتعالى - : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } "الأعلى/6"؛ إذ الإقراء ينافي الإلهام منافاة لغوية وشرعية .
4- أول لقاء لجبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء؛ إذ أقرأه ولم يُلْهِمْه، بل أكد له الإقراء بضمه إليه .
5- حديث الحارث بن هشام المتقدم (1) ؛ إذ حالتا الوحي المذكورتان تنافيان الإلهام .
6- ويدل على ذلك الباء في قوله - سبحانه وتعالى - { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ } "الشعراء/194" إذ هي: للملابسة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال، كأنه قال: نزل في حال ملابسة له على حد خرج زيد بثيابه (2) ، ولو كان إلهاماً لما احتيج للنزول به.
7- حديثا المعالجة (3) والمدارسة (4) .
المطلب الثالث: حكم التلقين:
__________
(1) انظر: الفصل الثاني - المبحث الثالث .
(2) حاشية العلامة الصاوي على تفسير الجلالين 3/224، مرجع سابق .
(3) انظر: المبحث السادس من هذا الفصل .
(4) انظر: المبحث التاسع من هذا الفصل .(1/170)
يجب التزامه منهجاً وحيداً في تعليم ألفاظ القرآن الكريم، ونبذ ما سواه من حيث التقعيد العام (1) ، ويؤكد هذا الحكم أسلوب أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن عن جبريل - عليه السلام - ؛ إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل - عليه السلام - القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ ... قاله الحسن وغير واحد (2) ، وقد جاء في رواية ابن أبي حاتم: يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره، وتفصيل الاستدلال أن يقال:
كان الوعد بجمع القرآن في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً، ثم بقراءته كما أُنزل إليه، وكما سمعه من جبريل - عليه السلام - ثانياً في قوله –تعالى ذكره- { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ(17)فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ(18)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } "القيامة/17-19"، وعداً من الله - عز وجل - ، فقد صار حقاً على الله - سبحانه وتعالى - فعل ذلك ...فليس للقدرة الملائكية التي يتمتع بها جبريل - عليه السلام - دخل في ذاك، ولا أسند الأمر للقدرة البشرية، وهذا دالٌ على مقدار الاعتناء وعظمة الاهتمام وشدة التوقيف في تلقي لفظ القرآن الكريم .
__________
(1) ولم يكن استدلال صاحب كتاب الحلقات القرآنية على وجوب التلقين وسيلة وحيدة في تعليم القرآن الكريم، وتعلمه موفقاً؛ إذ حصر الأمر في دائرة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وذلك مما يُضْعفُ الحكم، ويجعل الاستدلال على أصل القضية مضيعاً لها . انظر: عبد المعطي محمد رياض طليمات: الحلقات القرآنية، دراسة منهجية شاملة، ط1، 1417هـ -1997م، إصدار برنامج تحفيظ القرآن الكريم-جدة .
(2) فتح الباري 8/633، مرجع سابق .(1/171)
- وإن كان الوعد إلهي كذلك: فما فائدة إقراء جبريل - عليه السلام - له ؟ أما كان كافياً جمع الله - سبحانه وتعالى - القرآن في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلهاماً أو قذفاً إلى قلبه بالقدرة الإلهية التي وسعت كل شيء ؟.
والجواب: هاهنا أعظم دليل على وجوب التزام منهج التلقي والتلقين كأساس للمنهجيات التعليمية في إقراء ألفاظ القرآن الكريم ... فلا وزن لرسم "خط" المصحف، ولا للغة، ولا لتعلم فردي أحادي دون شيخ(سند) ... في تلقي لفظ القرآن الكريم ... ولو لم تكن هذه الحكمة، فما كان فائدة إلقاء جبريل - عليه السلام - القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - قراءتَه،ونزوله بالقرآن (على) –وليس في- قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ مع أن الإلهام لا يستدعي النزول.
ومنه نأخذ جلالة الركن الأعظم في تعلم القرآن وقبول قراءة لفظ لتعد قرآناً، وهو السند المقبول قرائياً الضامن للمشافهة .(1/172)
- ويتضح من هنا أمر آخر هو: أن جبريل - عليه السلام - لم يُعَلِّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلاوته عليه الهيئات الخارجية للأحرف (والمراد تركيب الحروف المعروف)، والهيئات الداخلية (الهيئات الصوتية للحرف الواحد)، والهيئات اللازمة عند تركيب كلمة بكلمة وحرف بحرف، وهيئات الوقف والابتداء، ونحو ذلك من أحكام التلاوة، وتفصيلات علم القراءة والتجويد (1)
__________
(1) المراد هنا التقعيد العام، لا التفصيلي، وإلا فثَمَّ تفاوتٌ في مقدار التوقيف بين ما ذكر من حيث التفصيل، ففي الوقف والابتداء لا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلاحظ جبريل - عليه السلام - فيه، وكذا الصحابة مع نبيهم، والعادة جاريةٌ بذلك كما يلاحظ في حفظة القرآن مع مشايخهم، والدواعي متوافرةٌ عليه، وقد كانوا يلاحظون ما دونه ... ولكن التوقيف فيه عامٌ لا تفصيلي ..(1/173)
... لم يفعل جبريل - عليه السلام - ذلك إلقاءً وقراءةً وإقراءً للفظ القرآني إلا ليقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه والناس أجمعين كذلك، ثم تتناقلها الأجيال كذلك، فلا يأتي متقولٌ بعد ذلك فيركب من كلمتين أو أكثر لفظاً جديداً أو معنى جديداً فيقرأ به ما دام الإجماع السابق في التلقي، والفهم عند السابقين لمعنى الآية ينافيه ( بخلاف ما إذا دخل ضمنه أو وضحه)، وذلك كمن يركب معنى جديداً في قوله -تعالى ذكره- { وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } "الممتحنة/1"، ويستحل قراءتها كذلك زاعماً أنه لا يوجد دليل ملزم لقراءتها كما تلقيت، أو كمن يركب من قوله - عز وجل - { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } "النساء/7" معنى جديداً؛ بأن يقرؤها: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ } ويسكت، ثم يقول { وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } ؛ إذ التلقي مفسدٌ لهذه القراءة المبتدَعة .
ويبين ما سبق من تفصيلٍ ما تقدم من معنى قوله - سبحانه وتعالى - { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } (1) : أي: عليك بقراءة جبريل - عليه السلام - ... فكان وعداً إلهياً بأن يُكرره النبي - صلى الله عليه وسلم - كقراءة جبريل - عليه السلام - .
فإن اعتُرض بأنه: قد يعتري قراءة جبريل - عليه السلام - الخلل ... فلماذا ارتكاب تأويل { قَرَأْنَاهُ } أي بقراءة جبريل - عليه السلام - .. ولمَ لا يكون الإلهام الرباني بديلاً عن استماع جبريل - عليه السلام - ؟ .
__________
(1) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .(1/174)
فالجواب: تظهر حكمةٌ بالغةٌ من التعبير عن قراءة جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ { قَرَأْنَاهُ } ؛ إذ لم يقل قرأه جبريل - عليه السلام - ، وذلك ليكون من قبيل إسناد ما هو للمأمور للآمر (1) ، فقوله: " { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي إذا قرأه جبريل - عليه السلام - عنا فأسندت القراءة إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي والقرنية واضحة" (2) ... نفياً لأي حدسٍ، أو تخمينٍ، أو بارقةٍ تتلجلج في الصدور عن عدم إتقان جبريل - عليه السلام - للقراءة كما أرادها الله - سبحانه وتعالى - من حيث هيئاتها الصوتية المصاحبة (الداخلية والمشتركة) (3)
__________
(1) حاشية الصاوي، وبهامشه تفسير الجلالين 3/354، مرجع سابق .
(2) انظر: التحرير والتنوير 29/349، مرجع سابق .
(3) المراد بالمشترَكة الصوت المصاحب للحرف عند التقائه حرفاً آخر في كلمته أوفي كلمة أخرى، كالإدغام مثلاً ..(1/175)
فضلاً عن الألفاظ في ذاتها فأوجز لنا في { قَرَأْنَاهُ } إخباره - عز وجل - بإزالة دخل شيطانٍ قد يطرأ عند تحليل الموقف القرآني بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كان القارئ هو الله - سبحانه وتعالى - بإسناد القراءة إليه ... ويُقَرِّبُ هذا بأن يقال: كأن أداء جبريل - عليه السلام - لألفاظ القرآن الكريم عبارة عن مسجلةٍ تعيد ما تكلم الله - عز وجل - به، وجبريل - عليه السلام - كأنه مسجل يعيد ما تكلم الله –تعالى ذكره- به ... دون زلل أو خطل في أدق الهيئات الأدائية للحرف فيما خلا الصفة الإلهية المنزهة عن التمثيل والتخيل ... فيقرأه جبريل - عليه السلام - كما نقله عن الله –تعالى ذكره- كما تنقل المسجلة، فجعل الله –تعالى ذكره- إقراء جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم - إقراء من الله –تعالى ذكره- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لشدة دقة جبريل - عليه السلام - في بيانه للأحرف؛ إذ هو الواسطة بين الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ينقله كما أقرأه الله - عز وجل - له تماماً لكل حرف، وأحسن تفصيلاً لكل كلمة .(1/176)
... وفي هذا يقول ابن كثير: "وأن ييسره على الوجه الذي ألقاه إليه" (1) ، وقال الزمخشري:"جعل قراءة جبريل - عليه السلام - قراءته" (2) ، وقال الآلوسي:"أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل - عليه السلام - المبلغ عنا" (3) ، وفي المقابل فقد ضمن الله - عز وجل - قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن كما أنزله الله - سبحانه وتعالى - ، وبالهيئة التي سمعها من جبريل - عليه السلام - ، كما قال في الجلالين: "فكان - صلى الله عليه وسلم - يسمع ثم يقرؤه" (4) ، ولذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - كما في البخاري: "فكان إذا أتاه جبريل - عليه السلام - أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله - عز وجل - " (5) .
وهاهنا مسألة مهمة: إذ الآية حوت الأمر الإلهي بإعادة المقروء كما قرأه جبريل - عليه السلام - ، كما حوت الضمان الإلهي بذلك أيضاً، والثاني وهو الضمان تقدم ما يثبته من فهم العلماء للآية، والأول قال عنه ابن كثير: " { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى { فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك" (6) ، وقد يسر الله - عز وجل - ذلك عليه .
المطلب الرابع: قواعد التلقي والتلقين:
... من خلال ما سبق يمكن إجمال قواعد التلقي والتلقين في:
1-قراءة الشيخ على الطالب، وهو ما كان جبريل - عليه السلام - يفعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (السماع من لفظ الشيخ) .
2-إنصات الطالب لشيخه عند استماعه قراءته، وهو ما أُمِرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
3-استماع الطالب من شيخه، استماع أُذن وفؤاد، وهو ما أُمِرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ابن كثير 4/383، مرجع سابق .
(2) الكشاف 4/165، مرجع سابق .
(3) روح المعاني 29/117، مرجع سابق .
(4) الجلالين4/254، مرجع سابق .
(5) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
(6) تفسير ابن كثير4/282، مرجع سابق .(1/177)
4-إعادة الطالب المقروء الذي قرأه الشيخ على الطالب، وهو ما أُمِرَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهاهنا سؤال متعلق بهذه القاعدة:إذ نرى نبينا - صلى الله عليه وسلم - يؤمر بإعادة المقروء كما قرأه الملك مع أن لا حاجة لذلك ما دام قد وعد بجمع القرآن في صدره وإجرائه على لسانه فلم يكرره بعد استماعه للملك ؟ .
والجواب: لتثبيت القاعدة الثالثة والرابعة من قواعد التلقي، وَلِمَ يكرره - صلى الله عليه وسلم - إلا لتبيان أسلوب التلقي؟ ... ولرسم خطواته بدقة فائقة النظير تؤذن بتوقيفية تلقي اللفظ القرآني من جميع زواياه ... وما ظن أنه اجتهاد فهو إلى التوقيف يعود في أصله ... إذ التكرار لأمور منها: تثبيت تلاوة القرآن بالهيئة ذاتها، وتنغيماتِها التي سُمِعَتْ من الشيخ، بغض النظر عن الصوت من حيث الملاحة ونقيضها، ومنها تثبيت المحفوظ أو المقروء .
5-أن يكون المُعاد موافقاً لقراءة الشيخ ومطابقاً لها، والمراد من الموافقة: الموافقة في أصل الألفاظ وأدائها، وهو ما تراه عند عامة الناس من المقرئين والقارئين ... ويبقى تفاوتهم بعد ذلك من حيث الملاحة في الصوت، والاختلاف في العوامل النفسية إلى تؤدي إلى اختلاف المشاعر والأحاسيس، ويظهر أثرها في القراءة، وقد ترى أن هذه العوامل التي يسمح فيها الاجتهاد في أداء لفظ القرآن ليس مما كلف بها العبد عموماً إذ هي تعود إلى أمر خارج عن نطاق قدرته، وإن كان ثم قدرٌ من الحث على التزام مسلك معين في هذه الناحية: كتدبر القراءة، وقراءة القرآن بحزن .(1/178)
وهذا مأخوذ مما سبق في قول ابن عباس - رضي الله عنه - : كما قرأه، ويدل له قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) (1) .
6-أن يصحب القراءة تحريك للشفتين، وهو ما يعني نوعاً من الجهر بالقراءة، ويدل له فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في هذا الحديث؛ إذ النهي مؤقت حتى يقضي جبريل - عليه السلام - الوحي، فالإنكار عليه ليس لتحريك لسانه وشفتيه، بل لكون هذا التحريك حاصلاً حال قراءة جبريل - عليه السلام - ، فيبقى التحريك هو الأصل عندما ينتهي توقيت النهي، كما يدل له ما سيرد في المقتضيات اللغوية لتعريف القرآن الكريم في مُلحق الكتاب، على أن التلقين لا يتأتى وجوده إلا بالجهر بالقرآن الكريم على ما هو بديهي .
لكن هل يشترط استماع الشيخ لطالبه عند إعادة المقروء؛ إذ في المعالجة: (فكان إذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه كما قرأه ... ) ؟ .
الظاهر أن ذلك بحسب حالة الطالب من حيث اطمئنان شيخه لقدرته على إعادة المقروء باقتدار أو عدم قدرته، وأما أن جبريل - عليه السلام - لم يكن يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - لصريح قول ابن عباس - رضي الله عنه - : فإذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه كما قرأه ... فالجواب من وجهين:
أولهما: لا نُسَلِّم أن جبريل - عليه السلام - لا يسمع لعدم إحاطتنا علماً بقدرة جبريل - عليه السلام - على السماع من حيث تعديها لمكان حضوره أولاً .
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي 5/71، مرجع سابق، (ابن ماجة) أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ت275هـ: سنن ابن ماجه 1/49، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر - بيروت، صحيح ابن حبان 15/ 543، مرجع سابق، مستدرك الحاكم 2/247، مرجع سابق، مسند أحمد 4/278، مرجع سابق .(1/179)
وثانيهما: أن ذلك كائنٌ لضمان الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إعادة المقروء كما قرأه عليه جبريل - عليه السلام - ، ومن هنا أُخذ نظر الشيخ في مدى مقدرة الطالب ... فلولا وعد الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقراءته على لسانه كما قرأه لما انصرف، ثم إن الوحي يحميه ظاهراً كان أو غائباً، وبذلك يخضع الأمر الواجب في هذه المسألة لمعرفة الشيخ .
وهل يشترط أداء هذه القواعد كلها في التلقي والتلقين ؟ الظاهر عدم الاشتراط للأول؛ إذا استبدل به قراءة الطالب على شيخه، إما ابتداء، وإما حفظاً مباشراً عن ظهر قلب، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الطالب) كان يعرض القرآن على جبريل - عليه السلام - في رمضان، وأما قراءة جبريل - عليه السلام - في أول نزول الآيات فسببه عدم معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها ابتداء؛ ولذلك عامل العلماء قراءة العالم معاملة عرض الطالب كما سيأتي تفصيله في حديث المعارضة (1) ، وقد يترجح أحدهما (السماع من لفظ الشيخ، أو عرض الطالب على الشيخ) لعارض يراه الشيخ في تلميذه من نجابة أو بلادة ... وهو المعمول به عند المسلمين إلى اليوم .
__________
(1) انظر: المبحث التاسع من هذا الفصل .(1/180)
وهاهنا مسألة في غاية الأهمية من ناحية دراسة وسائل المعرفة المُكْسِبَة لليقين في المنهج الإسلامي وهي: أن ثَمَّ نوعاً من التواتر الذي يفيد اليقين الضروري أو النظري، وهو التواتر العملي بأن يتناقل المسلمون العمل في العبادة جيلاً جيلاً دون نكير، فيأخذ حكم المتواتر، ولو كان مستنده آحاداً كأركان الصلاة ومقادير الزكاة، وألفاظ الأذان، ورمي الجمار في مناسك الحج، وكثير من مثل ذلك ... ووجود جزئياتٍ في هذا النوع مختلف فيها أمرٌ لا يخرم هذه القاعدة ... فاضمم إلى هذه الأمثلة أداء القرآن تجده أولى منها جميعاً، من حيث ثبوت اليقينية له، وهذا تكرار لأمرٍ سبق ذكره في المنهج، أوجبه الاعتناء بالمقام، كما أن تفصيله ليس هنا .
المطلب الخامس: المقتضى المنهجي لما سبق:
وتقرير هذه المسألة له ما بعده، إذ ينبني عليها ثلاثة أمور منهجية:(1/181)
أولها: التزام هذه الطريقة(التلقي) منهجاً لتعليم القرآن الكريم: إذ إن توافر الدواعي للطرق الأخرى في إنزال القرآن الكريم وحياً (1) ، مع عدم استعمالها، وتخصيص طريقة التلقين مع عدم الحاجة إليها إذ أن الله قد تكفل بأن يلهمه القرآن بقوله { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } ، وبقوله { سنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } ، قال الشوكاني-رحمه الله تعالى-: "أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة، فلا تنسى ما تقرؤه" (2) ، وهذا وَسْمٌ لاستخدام غيرها بالبدعية، ومن ثم فاستعمال أسلوب القراءة المباشرة من المصحف دون تلقين بدعة، أو أنه تَعَلِّمٌ للقرآن على غير الطريقة التي شرعها القرآن، وهو ما قرره الصاوي-رحمه الله تعالى- في قوله: "والحكمة في تلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - ظاهراً أنه يكون سنة متبعة لأمته، فهم مأمورون بالتلقي من أفواه المشايخ، ولا يُفْلِح من أخذ العلم أو القرآن من السطور، بل التلقي له سر آخر" (3) ، وهذا أمر مقرر في أذهان المسلمين لم تَمِلْ دائرة تعليمهم عنه مثقال ذرة (4) ، وهذا ما يعطي تصوراً عن مدى الواقعية الحقيقة قوله - عز وجل - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9".
__________
(1) ككونها أسهل وأسرع، وهي بالنظر إلى قدرة الله - عز وجل - ليست أعسر إذ هي لا تعجز كلمة { كن } مع وقوعها في أمور أخرى أقل شأناً من القرآن، ومثالها النفث في الروع، أو الإلهام .
(2) فتح القدير 4/522، مرجع سابق .
(3) حاشية الصاوي 3/80، مرجع سابق .
(4) وقد أسهب في الكلام عن ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات، المقدمة الثانية عشرة 1/91، مرجع سابق .(1/182)
وثانيها: في التزام هذه الطريقة دفع لإيهام إلقاء الشيطان في ما يتلقنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من حيث واحدية الملك الملقن وعدم تغيره، ومن حيث تعليمه تعليماً تلقينياً، لا تتطرق إليه شبهة الوسوسة، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك في فصل دمغ الباطل (1) .
... وثالثها: شمول التوقيفية في أداء الوحي القرآني، ومن ثم تبليغه وتناقله لأصل اللفظ، ولهيئة أدائه.
رابعها: بيانٌ أوليٌ لحجم الاجتهاد في نقل القرآن الكريم من حيث تظاهر جوانب التوقيف في النقل، فبقي الاجتهاد محصوراً فيما تتفاوت فيه قدرات البشر في الأداء مما هو خارجٌ عن نطاق قدرتهم كالصوت، أو عدم الإتقان ويدل له حديث التعتعة (2) .
فإن اعتُرض بالقول: ما شأن مقالة البحث: ومقدار الاجتهاد فيه ؟ وأين مكمن الاجتهاد فيا وصف ؟ .
__________
(1) انظر: الفصل الخامس - المبحث الأول .
(2) انظر: المبحث السادس من هذا الفصل .(1/183)
فالجواب: هذا مبحثٌ واسعٌ من حيث تحديدُ أطره حتى لا يُشَطَّ في فهمها، وليُشَر هاهنا إلى ما يتعلق بالجزئية مناط البحث: فمكمن الاجتهاد مع هذا التشديد في التوقيف في تلقي القرآن الكريم–حتى في هيئة استماعه – كامنٌ في الصوت الممنوح من الله - عز وجل - للإنسان من حيث الملاحة والحسن فقد يكون ندياً، أو أقل نداوة، وفي الصوت من الجهر والمخافتة وفي النفس الممنوح من الله - سبحانه وتعالى - ، على أن التوقيف ضابطٌ حتى لموضوع الجهر والمخافتة؛إذ وردت نصوصٌ تقيد ذلك (1) ، ومما يُشار إلى دخول الاجتهاد فيه جزئياتٌ نادرة لم يرد التنصيص على كيفية النطق الجزئي لها، فترجع إلى الإحالة العامة فيها على اللغة العربية، كمثل الوقف على أواخر الكلم، وإدخال الروم والإشمام فيه عند من يزعم أن لا نص ورد روايةٌ فيها (2) ، ونحو الوقف والابتداء إذ أمر الاجتهاد فيه واسعٌ ما دام مراعىً فيه القواعد العامة التي وضعها علماء الإقراء مستقاةً من هيئات التلقين، فهو علمٌ توقيفي في الجملة، ومثله علم العدد(الفواصل) ففيه نوع اجتهاد فيما لم يرد نصٌ على عده، أو ورد فيه نصان موهمان للعد وعدمه، فاختلف فيه علماء العدد، لكنه قليل جداً بل نادر إذا ما قورن بالمتفق عليه (3) ،
__________
(1) كآية الإسراء { ... وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ... } "الإسراء/110" مثلاً .
(2) وفي هذا نظر كبير من حيث أن القراء منعوا أشياء تجوز عربية كالإشمام والروم في المفتوح والمنصوب .
(3) انظر: الشيخ عبد الفتاح القاضي: بشير اليُسر شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل للإمام الشاطبي ص5، ط1397هـ-1977م، مطبوعات الأزهر -مصر ..(1/184)
لكن الشأن هنا أعلى من الشأن في بقية العلوم النقلية، فلئن كانت تلك العلوم "كلها مستندةً إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل وهو نقليٌ فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه" (1) فإن القياس هاهنا -لشدة ضبط التلقين للجوانب المختلفة للفظ القرآن الكريم، ولعدم كون الجزئيات حادثة ولا متعاقبة إذ كلها موجودة -كامنٌ في قياس مثالٍ على مثال ضمتهما قاعدةٌ كلية، وهو المعنى الذي أشار إليه الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى- في قوله في نفي القياس العام في تلقي القراءة:
وما لقياسٍ في القراءة مدخلٌ ... ... .فدونك ما فيه الرضا متكفلاً
مع قوله في إثبات نوعٍ مخصوصٍ من القياس: "فاقتس لتنضلا" (2) ؛ ولذا ترى كثرةً غامرةً من الجزئيات اللفظية القرآنية آتية على غير القياس المخصوص دلالة على أصلية النقل فيها، ولذا احتاج الدارس للقرآن إلى التلقين لزاماً، وأكد تلك الحاجة أن المصحف لم يُكْتَبْ ليوافق الخط اللفظ تماماً كما هو مقرر في علم الرسم بل لا بد من التلقي، وهو ما يجعل العمدة الأولى للقرآن من حيث هو قرآنٌ لا من حيث هو كتاب ... .
__________
(1) المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون 549، مرجع سابق .
(2) انظر: (متن الشاطبية): باب الفتح والإمالة، وباب الراءات، مرجع سابق . وانظر: (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المقدسي: إبراز المعاني من حرز الأماني، دار صادر - بيروت، والشيخ عبد الفتاح القاضي ت 1403هـ: الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع، ط5 -1414هـ –1994م، مكتبة السوادي – جدة، مكتبة الدار – المدينة المنورة .(1/185)
وفي خصوص الفعل العملي لتلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - عليه السلام - فقد تقدم ذِكْرُ لمظاهره في صفات جبريل - عليه السلام - في الفصل الأول كما يظهر ذلك بارزاً في ثنايا البحث بما يجعل هذا الأمر قطعياً معلوماً من الدين بالضرورة .
وفي خاتمة هذا المبحث يقال:
قد جاءت آيات القيامة مفصلةً لمدلول قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9" (1) ، ومن هذه الآيات المؤكدة المفصلة لآية الحجر نأخذ: تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن: وحياً وحفظاً وجمعاً وبياناً، وهيئة تعليم { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } ، وإسناده إليه - عز وجل - بكليته ليس للرسول من أمره إلا حمله وتبليغه (2) ، وحتى تبليغه بكيفيةٍ هي الكيفية ذاتها التي سمعها من الملَك كما تقدم مراراً .
المبحث الثامن:
كيفية قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن على جبريل - عليه السلام - من حيث الأمر الشرعي، والواقع التطبيقي (3) :
__________
(1) وبينٌ شدة وضوح هذه الآية في دورانها حول اللفظ، وفي ذلك ردٌ على من زعم أن الحفظ المضمون للقرآن الكريم منصرفٌ لمفهوم اللفظ لا للفظ ... فإن زال اللفظ فأنى لنا بمفهومه؟ .
(2) وانظر: في ظلال القرآن 6/3770، مرجع سابق .
(3) أُريد بالأمر الشرعي: مجموع التوجيهات الشرعية التي أمر الله - سبحانه وتعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتطبيقها وأن يقرأ القرآن بها من حيث انتماؤها إلى الأحكام الخمسة، وأُريد بالواقع التطبيقي: واقع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث التزامه بتلك التوجيهات، والهدف من ذلك كما سيُذكر أعلاه التأكيد على التوقيفية في لفظ القرآن وأدائه، بالإضافة إلى الأهداف المنهجية الأخرى .(1/186)
... وبعد أن ذُكِرَتْ المباحث المتعلقة بنزول الوحي، وكيفية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وسماته حين ذلك، كان لابد من وصفٍ لما يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عملٍ عند قراءته القرآن على جبريل - عليه السلام - مذ ينزل عليه الوحي القرآني حتى تمام العملية التعليمية، من حيث الأمر الشرعي والواقع التطبيقي ... ليُعَلَمَ أي شيء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأي شيء كان تعلمه لألفاظ القرآن الكريم، وتعليمه ... وأي قوم –بعد- هم المسلمون:
أناسٌ علي الخير منهم، وجعفرٌ ... ... .وحمزة، والسجاد ذو الثفناتِ
إذا افتخروا يوماً أتوا بمحمدٍ ... ... .وجبريل، والقرآن، والسورات
وقد تلخص ذلك فيما يلي:(1/187)
1 - تبدأ باستشعار المصدرية الإلهية للقرآن الكريم دائماً عند قراءة القرآن الكريم: ويظهر أنموذج هذا في قوله - عز وجل - : { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا(113)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ، ثم قال بعد: { ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } "طه/114" فأكد على المصدرية الإلهية في عدة ألفاظ: { أَنزَلْنَاهُ } على الرغم من أن المباشر للإنزال هو جبريل - عليه السلام - ، { وَصَرَّفْنَا } ، { نقضي } في قراءة يعقوب على الرغم من أن المباشر للقراءة هو جبريل - عليه السلام - ، وأشار إلى تفرده بهبة المنح الإلهية، ورأسها القرآن الكريم { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ، ثم وسط بين الآيتين بقوله { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } وهي جملة اعتراضية، وفي تفريع الجملة الاعتراضية على إنزال القرآن إشارةٌ أيضاً إلى أن القرآن قانون ذلك الملك، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة (1) ، وفي هذا السبيل ترى التعبير عن إنزال القرآن يرجع إلى هذه المصدرية عند الكلام على النازل، والمنزَل به، والمنزَل عليه .
__________
(1) التحرير والتنوير 16/316، مرجع سابق، وراجع روح المعاني 16/391، مرجع سابق، والبحر المحيط لأبي حيان 6/281، مرجع سابق .(1/188)
ومن الإشارة إلى هذه المصدرية: { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } : لم يقل فإنه نزله على قلبي مع أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بإخبار اليهود عن نفسه؛ لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلاً أن يحكي ما له عن نفسه أن تخرج فعل المأمور مرة مضافاً إلى كناية نفس المخبر عن نفسه إذا كان المخبر عن نفسه، ومرة مضافاً إلى اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب؛ لأنه وإن كان مأموراً بقيل ذلك فهو مخاطبٌ مأمورٌ بحكاية ما قيل له (1) ، كما قال الزمخشري موضحاً لذلك: "جاءت على حكاية كلام الله - عز وجل - كما تكلم به كأنه قيل: قل ما تكلمت به من قولي: من كان عدواً لجبريل - عليه السلام - " (2) .ولهذا حكمة عظيمة من حيث التأكيد على المصدرية الإلهية للقرآن، والدقة المتناهية في نقله من السماء إلى الأرض، فحكاية كلام الله - سبحانه وتعالى - اقتضت { عَلَى قَلْبِكَ } بالخطاب ... ولو قال (على قلبي) لقيل هذه دعوى، لم يبينها لنا ربك، ولم يقلها ... ثم فيه تثبيتٌ لقلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وطمأنةٌ له من أن تزعزعه كثرة تشكيكات أهل الكتاب ومن والاهم، فكأن الخطاب من الله - عز وجل - للرسول - صلى الله عليه وسلم - قصداً له، لا لخصومه من أهل الكتاب ... وهم مقصودون تبعاً لا استقلالاً، وذا يوائم قوله - سبحانه وتعالى - { ... كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ... } "الفرقان/32" { وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } "هود/120" .
والكلام في الباء في قوله - سبحانه وتعالى - : { بِإِذْنِ اللَّهِ } "البقرة/97" مؤكد لما ذُكِر
هنا، وقد تقدم (3) .
__________
(1) الطبري1/436، مرجع سابق .
(2) الكشاف 1/84، مرجع سابق .
(3) انظر: المبحث الثالث من هذا الفصل .(1/189)
... ولتأكيد التقرير هنا فلتُتَأمّل هذه المصدرية في أول سورة نزلت في قوله - عز وجل - { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } "العلق/1"، فالباء لها ثلاثة أوجه من التفسير:
1- إما أن تكون للاستعانة، والجار والمجرور متعلقان بالفعل (اقرأ)، أي اقرأ مستعيناً بذكر اسم ربك.
2- وإما أن تكون للمصاحبة، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير اقرأ الثاني مقدماً على عامله للاختصاص، أي اقرأ ما سيوحى إليك مصاحباً قراءتك اسم ربك، فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله - عز وجل - بالإلهية .
3- وإما أن تكون بمعنى على كقوله - سبحانه وتعالى - { مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ } "آل عمران/75" أي على قنطار، والمعنى اقرأ على اسم ربك، أي على إذنه، أي أن الملك جاء على اسم ربك أي مرسلاً من ربك (1) .
... ثم تتجلى هذه المصدرية في موقف تعليمه الإقراء في إضافة اسم إلى الاسم الظاهر (ربك) المضاف إلى الكاف، ثم تجلت تارة أخرى في قوله - سبحانه وتعالى - { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ... } الثلاث الآيات كالاستئناف البياني، كأنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: وكيف اقرأ، ولست بقارئ ؟ فأجيب: الذي علم القراءة بالقلم، يعلمك ما لم تعلم، ولا عجب في أن تقرأ، إذ العلم يحصل بوسائل أخرى مثل الإملاء والتلقين والإلهام، وتأمل في وصفه - عز وجل - في هذا الموقف بالأكرم ... .
واستشعار المصدرية الإلهية للقرآن له مقتضياته الهامة، وفيما يتعلق بمدار البحث هنا تبرز المقتضيات التالية:
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 30/436، مرجع سابق، وانظر: تفسير الثعالبي4/ 427، مرجع سابق .(1/190)
أ- يقذف في قلب الإنسان كل ما تصل إليه مشاعره الداخلية وانفعالاته العاطفية وحركات أركانه الخارجية من التعظيم لله - سبحانه وتعالى - ، وبذل الوسع في تحقيق كلامه، وقد نقل الآلوسي عن الطيبي ما يؤكد هذا من حيث اللفظ، فمما قاله: " { ولا تَعْجَلْ ... } عطف على قوله - عز وجل - { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } لما فيه من إنشاء التعجب، فكأنه قيل: حيث نبهت على عظمة جلالة المنزِل، وأرشدت إلى فخامة المنزَل، فعَظِّمْ جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت، واقبل بكلك على تحفظ كتابه، وتحقق مبانيه، ولا تعجل به" (1) ، وقال سيد قطب:"فتعالى الله الملك الحق الذي تعنو له الوجوه، ويخيب في حضرته الظالمون، ويأمن في ظله المؤمنون الصالحون، هو منزٍل هذا القرآن من عليائه، فلا يعجل به لسانك، فقد أنزل القرآن لحكمة ولن يضيعه، إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم، وأنت مطمئن إلى ما يعطيك، لا تخشى عليه الذهاب، وما العلم إلا ما يعلمه الله؛ فهو الباقي الذي ينفع ولا يضيع، ويثمر ولا يخيب" (2) .
__________
(1) روح المعاني 16/393، مرجع سابق .
(2) في ظلال القرآن 4/2353، مرجع سابق .(1/191)
ب- استمداد العون والتوفيق في تحقيق لفظه، وإتقان مبناه (1) ، وعدم نِسِيِّه أو تفلته من قائله - عز وجل - ، ومنزله جل شأنه ولذاك كانت خاتمة آية طه بالدعاء، ومما يعضد هذا المفهوم ما أعقب الله –جل ذكره- لآية طه من ذِكْرٍ لقصة آدم - عليه السلام - ، حيث قال: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } "طه/115"، ونسيان آدم - عليه السلام - هنا كان لأمرٍ واحدٍ محسوسٍ، وذلك عندما وُكِل إلى نفسه في المراقبة، فكيف سيكون النسيان لمتعددٍ ملفوظٍ؟، ولذا فليرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه فيستعين على تحمل القرآن وحفظه وأدائه، فكأنه لما مدح - عز وجل - القرآن، وحرض على استعمال التؤدة والرفق في أخذه، وعهد على العزيمة بأمره، وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم مثلاً للنسيان وترك العزيمة (2) ، وذكر ابن عطية: أن في ذلك مزيد تحذير للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن العجلة لئلا يقع فيما لا ينبغي، كما وقع آدم - عليه السلام - (3) .
كان ذلك فحوى الأمر الإلهي .
والصورة التطبيقية لهذا قبل التوقيف القرآني على هيئة تلقي القرآن لاستشعار هذه المصدرية: تعجل النبي - صلى الله عليه وسلم - نزول القرآن واستكثاره منه، إذ ورد في تفسير قوله تعالى { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيهُ } ثلاث تفسيرات:
أحدها: أنها كقوله تعالى { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } .
__________
(1) لم يُتَكلم عن المعنى؛ إذ ليس مدار البحث، كما سبق .
(2) انظر: روح المعاني 16/393، مرجع سابق .
(3) (ابن عطية) أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 10/99، تحقيق وتعليق: عبد الله ابن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، ط1، 1406هـ – 1985م .(1/192)
والثاني: أنها نهيٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن استعجال نزول القرآن، لأنه ما يتنزل إلا بأمر ربه - عز وجل - ، وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمر شيء، ويدل له حبه - صلى الله عليه وسلم - للوحي، وتشوقه إليه، قال صاحب التحرير والتنوير:"لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على صلاح الأمة شديد الاهتمام بنجاتهم؛ لا جرم خطرت بقلبه الشريف عقب سماع تلك الآيات رغبةً، أو طلبةً في الإكثار من نزول القرآن، وفي التعجيل به إسراعاً بعظة الناس وصلاحهم، فعلمه الله - سبحانه وتعالى - أن يكل الأمر إليه" (1) .
والصورة التطبيقية بعد التوقيف القرآني على هيئة تلقي القرآن: هو استراحة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) من خوف تفلت القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - بعد تكفل الله - سبحانه وتعالى - بعدم ذلك، والإكثار من دعاء { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ، واتباع ما أوقفه القرآن من هيئات في حفظه، وعدم استعجال نزول القرآن عليه إذ لكل أجل كتاب، وإرجاع كل فضل ينزله الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لمنزِله - عز وجل - ، وقد قال أبو حيان -رحمه الله تعالى- في قوله - سبحانه وتعالى - { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } : "وهذا القول متضمن للتواضع لله، والشكر له على ما علم من ترتيب العلم، أي كما علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي فزدني علماً" (3) .
__________
(1) التحرير والتنوير 19/316، مرجع سابق، ونقل الآلوسي -رحمه الله تعالى- نحوه عن الماوردي، وتراجع هذه المصادر لمعرفة التفسير الثالث .
(2) كما عبر ابن عباس - رضي الله عنه - في حديث المعالجة، انظر: المبحث السادس من هذا الفصل .
(3) البحر المحيط 6/281، مرجع سابق، ولعله ناقل عن الكشاف 2/448، مرجع سابق .(1/193)
ج- على أن من أهم مقتضيات المصدرية الإلهية التي حفت بالحقائق السابقة تؤدي إلى حقيقة الحق في إنزال القرآن وتلقينه للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتلقيه من جبريل - عليه السلام - وهو معنى قوله تعالى { وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } "الإسراء/105"، وحقيقة الحق هي أولى دعائم التوقيف في نقل القرآن الكريم .
2-الاستماع والإطراق عند تلاوة جبريل - عليه السلام - عليه: وذلك تنفيذاً لقوله - عز وجل - { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } "القيامة/18" على ما تقدم (1) .
والصورة التطبيقية لذلك ما قاله ابن عباس - رضي الله عنه - :فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل - عليه السلام - استمع [وأطرق] .
وهذا هو الأساس الشرعي والمنهجي في جعل القراءة الابتدائية من الشيخ أو عليه مع نظر الطالب في المصحف هي أول خطوات حفظ القرآن (2) كما تقدم في التلقين والتلقي (3) .
والاستماع والإنصات يحقق نتائج ترفع من مستوى الاستيعاب المنهجي لألفاظ القرآن الكريم، ومنها:
أ- أن ذلك ترسيخٌ لاستشعار المصدرية الإلهية، من حيث الطمأنينة وعدم الجزع، أو الخوف على فوات شيء من القرآن لعموم الوعد الإلهي بالحفظ لكتابه، ثم لخصوص الوعد الإلهي بجمع القرآن في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدم نسيه له إلى أن يبلغه، ثم عدم نسيه له نسياناً كلياً .
ب- أن ذلك أقوى في استيعاب لفظ الآية، ومن ثم حفظها أصلاً، ومحلاً، ووضعاً، وأداءً .
__________
(1) انظر: المبحث السادس من هذا الفصل .
(2) وقد تُغْتَفَرُ هذه الخطوة عند من يوثق به من الطلاب فتكون قراءته على الشيخ هي قراءة الحفظ مباشرة كما تقدم في المبحث السابع .
(3) انظر المبحث السابع من هذا الفصل .(1/194)
ج- أن ذلك أقوى في استيعاب معنى الآية، وفَهْمِها بعكس الترديد خلف جبريل - عليه السلام - فإنه باعث على الاضطراب والارتباك، وخاصةً إن اقترن الترديدُ لموضع سبق بالاستماع لموضعٍ يلحق، قال الآلوسي -رحمه الله تعالى-:"إنه ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها" (1) ، وقال أبو السعود -رحمه الله تعالى-: "إن استقرار الألفاظ في الأذهان تابع لاستقرار معانيها فيها، وربما يشغل المتلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها" (2) .
3-ترديد القرآن بعد انتهاء جبريل - عليه السلام - من قراءته، ليطمئن القلب بتحفظه: وهو صريح في الأمر القرآني، والوعد الإلهي { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } كما تقدم (3) ، وقال الزمخشري -رحمه الله تعالى- في قوله - سبحانه وتعالى - { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... } "طه/114":"لما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: "وإذا لقنك جبريل - عليه السلام - ما يُوحى إليك من القرآن، فتأنَّ عليه ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولاتكن قراءتك مساوقةً لقراءته، ونحوه قوله - عز وجل - { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } " (4) .
والصورة التطبيقية لذلك ما وصفه ابن عباس - رضي الله عنه - في حديث المعالجة: فإذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - ... .
__________
(1) روح المعاني 16/392، مرجع سابق .
(2) تفسير أبي السعود 3/668، مرجع سابق، وانظر: تفسير أبي حيان 6/281، فتح القدير 3/487، أضواء البيان 4/518، تفسير القرطبي 11/250، تفسير ابن كثير 3/148، مراجع سابقة، وذكر ابن كثير حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - [اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، والحمد لله على كل حال] .
(3) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
(4) الكشاف 2/488، مرجع سابق .(1/195)
4-تحريك فمه وشفتيه عند الحفظ أو القراءة: وهذا مأخوذٌ من منطوق آيات القيامة، ومن مفهوم حديث المعالجة وقد مضى، ومن الحديث الآتي في الجهر بالقرآن .
5- (الترتيل) (1) تبيين الحروف: التَّرْتِيلُ، في القراءة الترسل فيها، والتبيين بغير بغي (2) ، وقد عرفه مجاهدبقوله في قوله - سبحانه وتعالى - : { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } قال: "بعضه أثر بعض على تؤدة" (3) ، وعن قتادة قال: "بينه بياناً" (4) .
فالترتيل يتضمن عنصرين يشكلان ماهيته الذاتية، هما: التأني (التؤدة)، وتبيين الحروف وهما متلازمان، وهما يقتضيان أمراً ثالثاً: هو إشباع الحركات، ويستلزم الترتيل أمراً رابعاً هو: السكينة والوقار التي تميز قارئ القرآن عن مطرب الألحان، فاجتمعت في الترتيل أربع متضَمَنات: التأني والتؤدة، وتبيين الحروف، وإشباع الحركات، والسكينة والوقار (5) .
وللطبيعة التفصيلية لهذا المبحث من حيث معرفة كيف علم جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من حيث اللفظ فإنه سيُفْرَدُ لكل من العنصرين الأولين بند مستقل من خلال تحليل قوله - سبحانه وتعالى - { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } "المزمل/4"، وأما الأخيرين فالإشارة العابرة لهما في مقامٍ كذا المقام كافية، ويُلاحَظ التصريح بها جميعاً آتياً في كلام العلماء مما سيرد في البحث عند الكلام عن العنصرين الأولين .
__________
(1) حكم الترتيل، وتحليل عناصره الذاتية والطارئة ليس من ميدان البحث، ولذا لن يكون توسع في ذلك .
(2) مختار الصحاح ص98، مرجع سابق .
(3) رواه الطبري قال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/89، مرجع سابق: "بسند صحيح" .
(4) تفسير الطبري 28/ 127، مرجع سابق .
(5) وذا موضح التأصيل الشرعي لمراتب القراءة المعروفة في علم التجويد .(1/196)
فأما تبيين الحروف فهو لازم التؤدة والتأني؛ إذ من غايات التأني: تفصيل الحروف، قال الآلوسي-رحمه الله تعالى-: "اقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف، بحيث يتمكن السامع من عدها، من قولهم (ثغر رَتِل) إذا كان مفلجاً لم تتصل أسنانه بعضها ببعض، وأخرج العسكري عن علي في المواعظ أن رسول الله سئل عن هذه الآية فقال: بينه تبييناً، ولا تنثره نثر الدقل، ولا تهذه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة" (1) ، وعند الشوكاني: "اقرأه حرفاً حرفاً"، قال الزجاج: "هو أن يبين الحروف، ويوفيها حقها من الإشباع، وأصل الترتيل: التنضيد والتنسيق وحسن النظام، وتأكيد المصدر بالفعل يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق من مخرجه المعلوم، مع استيفاء حركته المعتبرة" (2) ، وقال الطبري: "بينه تبييناً، وترسل فيه ترسلاً" (3) ، وقال ابن حجر:"قوله - سبحانه وتعالى - { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا } أي اقرأه مترسلاً بتبيين الحروف، وإشباع الحركات" (4) .
__________
(1) روح المعاني 29/178، مرجع سابق، ونحوه عند أبي السعود 5/412، مرجع سابق .
(2) تفسير الشوكاني 5/387، ونحوه القرطبي 19/36، مرجع سابق، وقال سيد قطب –وهو المعروف قدره في اللغة العربية-:"وترتيل القرآن وهو مد الصوت به، وتجويده بلا تغنٍ ولا تطرٍ، ولا تخلعٍ في التنغيم" .
(3) تفسير الطبري 29/126، مرجع سابق .
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/23، مرجع سابق، وقال في 9/89: "تبيين حروفها والتأني في أدائها، ليكون أدعى إلى فهم معانيها " .(1/197)
وفي القرآن الكريم تذكر لنا صورة تطبيقية ملائكية (1) لمبدأ الترتيل في قول الله - سبحانه وتعالى - { ... وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } "الفرقان/32" فهو خبر عن الملأ الأعلى، ولأن القراءة توقيفٌ؛ فإن هيئة قراءة القرآن يجب أن تتماثل، ولم يأخذها جبريل - عليه السلام - في الملأ الأعلى إلا عن الله - عز وجل - ، فحكى الله - سبحانه وتعالى - كيفية قراءة جبريل - عليه السلام - ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن على الهيئة ذاتها فقال - سبحانه وتعالى - : { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } وصلة ما بين خبر الملأ الأعلى، والأمر الإلهي الكريم مضمرٌ تدل عليه الأخبار الأخرى والتقدير: { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ ... } ، وذلك على نسق ما سمعته من جبريل - عليه السلام - إذ قد رتلناه على لسانه ترتيلاً، وفي أضواء البيان: "هذه الآية نصٌ بترتيل القرآن ترتيلاً، وأكد بالمصدر تأكيداً لإرادة هذا المعنى (2) كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - :لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة" (3) .
__________
(1) واغتفرت النسبة إلى الجمع خوفاً من اللبس .
(2) واستدل صاحب التحرير والتنوير 29/ 316، مرجع سابق: بالمصدر على تأكيد إرادة المعنى، وفي هذا رد على من يتوهم الترتيل هنا بمعنى التنجيم .
(3) أضواء البيان 8/610، مرجع سابق .(1/198)
والصورة التطبيقية لذلك: ما وصف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلام نبي الله - سبحانه وتعالى - حيث كان يرتل كلامه، ويترسل فيه فجابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: (كان في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترتيل أوترسيل) (1) ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث حديثاً لوعده العاد لأحصاه لم يكن يسرد الحديث كسردكم) (2) ، وأنكرتْ على أبي هريرة - رضي الله عنه - سرعة حديثه، وقالت: (ولو أدركته لرددت عليه) (3) ، أي لأنكرتٌ عليه، وبينتْ له أن الترتيل في التحديث أولى من السرد، فقولها "لم يكن يسرد الحديث كسردكم أي يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض لئلا يلتبس على المستمع، زاد الإسماعيلي من رواية بن المبارك عن يونس: (إنما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلاً فهماً تفهمه القلوب)" (4) ، وقال في موضع آخر: "قولها (لو عده العاد لأحصاه) أي لوعد كلماته، أو مفرداته، أو حروفه لأطاق ذلك، وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهيم" (5) .
وإذا كان ذا في حديثه المعتاد، فكيف في تلاوة كلام الله - سبحانه وتعالى - ؟ .
__________
(1) سنن أبي داود 4/ 260، مرجع سابق، قال الشيخ الألباني: صحيح .
(2) صحيح البخاري 3/1307، مرجع سابق .
(3) صحيح البخاري 3/ 1307، مرجع سابق، صحيح مسلم 3/ 1940، مرجع سابق .
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6/579، مرجع سابق .
(5) فتح الباري شرح صحيح البخاري 6/578، مرجع سابق .(1/199)
وإنما ابتدأ البحث بحديث جابر - رضي الله عنه - حتى لا يَرِدَ على جوهر التقرير هاهنا أن الترتيل قد يراد به التفريق في الإنزال (التنجيم)، فحديث جابر - رضي الله عنه - يرده، وإن كان المعنى الذي قيل واردٌ، لكن في غير ذا المكان (1) .
__________
(1) وصار الترتيل مستعملاً في عرف العلماء في هذا المعنى لا في معنى التفريق (التنجيم) ففي سنن البيهقي الكبرى1/427، مرجع سابق، أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك، فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌ ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة -قال أبوسعيد -:سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري، قال الشافعي: والترغيب في رفع الصوت، يدل على ترتيل الأذان" وفيها أيضاً 2/52، مرجع سابق: "باب كيف قراءة المصلى قال الله - عز وجل - { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة" . وتبيين الحروف، وإشباع الحركات مقتضٍ نوعاً من التفريق بين الحروف تضبطه المشافهة ليُعطى كل حرفٍ حقه ومكانته .(1/200)
وتصف أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- الصورة التطبيقية لترتيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - (بأن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين يعني كلمة كلمة) (1) ، وعن ابن أبى مليكة أن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلمها إلا حفصة سئلت عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (إنكم لا تطيقونها قالت: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تعني الترتيل (2) ، وقد صرح متتبعو سننه بأن الترتيل عادته في قراءته، ويقرنون ذلك بعادته في اعتدال أركانه في الصلاة (3) ، قال ابن حجر-رحمه الله تعالى-:"ومن المعلوم من عادته - صلى الله عليه وسلم - ترتيل القراءة، وتعديل الأركان" (4) .
وقد كان ترتيله - صلى الله عليه وسلم - للسورة يصيرها أطول من أطول منها، وهو الموافق لقراءة معتدلي قراء المسلمين في هذه الأيام، فقد روى مسلم من حديث حفصة -رضي الله تعالى عنها- أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها (5) .
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى2/44، مرجع سابق .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/286، مرجع سابق .
(3) وفيه بيان ماهية الترتيل في عرفهم، وأنه ليس التنجيم الزمني .
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري 2/27، مرجع سابق .
(5) صحيح مسلم 6/3352، مرجع سابق، ولا مكان لما ادعاه ابن حبان -رحمه الله تعالى- أن الركعة الأولى من صلاة الظهر إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما، إذ ما الدليل على استواء المقروء؟وما الدليل على ترتيله في الأولى دون الثانية، مع أن عادته المستمرة هي الترتيل ؟ .(1/201)
... وعن يعلى بن مملك: أنه سأل أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلاته، فقالت: (وما لكم وصلاته؟، كان يصلي وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى، حتى يصبح)، ونعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءته حرفاً حرفاً (1) .
... وفي معنى قولها(ثم نعتت قراءته) يقول السندي: "أي وصفت وبينت بالقول، أو بالفعل بأن قرأت كقراءته - صلى الله عليه وسلم - . وقوله: (حرفاً حرفاً)، وقال أبو البقاء: نصبهما على الحال أي مرتلة" (2) .
وقوله (حرفاً حرفاً) يبين العلاقة بين أصل الوضع اللغوي والاستعمال العرفي لكلمة ترتيل .
وكان ترتيله في الصلاة نموذجاً عملياً يسمعه الصحابة ثلاث مرات يومياً على الأقل، ولم يكن ترتيله مقتصراً على الفرائض بل ذلك شأنه في النوافل؛ ومن ذلك بوّب ابن حبان في صحيحه:"ذكر ما كان يرتل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قراءته في صلاة الليل" (3) .
... وإنما كان الإكثار من هذه الأوصاف لتطبيق النبي - صلى الله عليه وسلم - للترتيل، والاستزادة منها في البحث، لأهميتها البالغة في إثبات أمر جوهري هو:
تحري صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنقل الهيئة الداخلية لقراءته (الأداء)، كتحريهم لنقل أصل ألفاظه .
6- التأني في تلاوة القرآن: وهو جوهر الترتيل الذي أمر الله - عز وجل - به في قوله { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } .
__________
(1) سنن أبي داود 2/ 73، مرجع سابق، وقال الألباني: " ضعيف " .
(2) حاشية السندي على النسائي 2/181، مرجع سابق .
(3) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 6/318، مرجع سابق .(1/202)
... فحقيقة ترتيل القرآن: "قراءته على ترسل، وتؤدة بتبيين الحروف، وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، ولا يهذه هذاً ولا يسرده سرداً، كما قال عمر: شر السير الحقحقة، وشر القراءة الهذرمة، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر، وقوله - عز وجل - { تَرْتِيلاً } تأكيدٌ في إيجاب الأمر به، وأنه ما لابد منه للقارئ" (1) ، فليس هذا الأمر تحسينياً في القراءة، بل هو مندرجٌ ضمن الطلب الشرعي .
__________
(1) الكشاف 4/152، مرجع سابق، والكلام المنسوب لعمر لم أجده بعد لأيٍ، وإنما ذُكِرَ (شر السير الحقحقة) على لسان الهواتف قبل النبوة، انظر: (الأصبهاني) إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي ت 535هـ : دلائل النبوة 2/169، تحقيق: محمد محمد الحداد، 1409هـ، دار طيبة - الرياض، وجاءت على لسان الحسن البصري، انظر: (ابن المبارك) أبو عبد الله عبد الله بن المبارك ابن واضح المروزي ت 181هـ : كتاب الزهد ص468، تحقيق: حبيب الحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية - بيروت .(1/203)
والتصريح بالتأني ظاهر في قوله - سبحانه وتعالى - { ... وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ... } { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ؛ إذ في كلٍ منهما زجرٌ عن الاستعجال في حفظ الكتاب الكريم، وذاك في معنى الاستعجال في تلاوته، ولذا قال الزمخشري في قوله - سبحانه وتعالى - { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } : " { كَلاَّ } زجرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عادة العجلة، وإنكارٌ لها عليه، وحثٌ على الأناة، والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله { بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عَجَلٍ، وطُبِعْتُمْ عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة" (1) ، وقال الآلوسي:" { كَلاَّ } إرشاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأَخْذٌ به عن عادة العجلة، وترغيبٌ له في الأناة، وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه بإتباعه قوله - سبحانه وتعالى - { بَلْ } -ثم سرد الآلوسي غير ذلك المعنى، وعَقَّبَ باستحسان كلام الزمخشري – قال-: واللائق بجزالة التنزيل، ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار الله تجاوز الله عن تقصيراته" (2) ، وتفصيل الاستدلال مبسوطٌ في تحليل الموقف القرآني الذي تثيره كل من الآيتين (3) .
وقد بين الله - سبحانه وتعالى - مدى هذا النهي، ومدة هذه العجلة المنهية: في قوله { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } "طه/114".
والغاية من التأني: التدبر، فقد قال ابن كثير: "اقرأه على تمهلٍ؛ فإنه يكون عوناً على تدبره" (4) .
__________
(1) الكشاف 4/165، مرجع سابق، وكذا أبو السعود 5/431، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 29 /245، مرجع سابق .
(3) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل .
(4) ابن كثير 4/370، مرجع سابق، ونحوه عند الشوكاني في فتح القدير 5/387، مرجع سابق .(1/204)
والتأني يستلزم السكينة والوقار، ولذا ففي تفسير الجلالين: "ورتل القرآن: تثبت في تلاوته"، وقال الصاوي:" اقرأ بترتيلٍ، وتؤدةٍ، وسكينةٍ، ووقار" (1) .
والتأني يقتضي إشباع الحركات كما سبق في كلام الزمخشري آنفاً، وفي التحرير والتنوير: "وأُريد بترتيل القرآن: ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحةً، مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع" (2) .
وقال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في حديث المعالجة (3) : "وشاهد الترجمة منه: النهي عن تعجيله بالتلاوة؛ فإنه يقتضي استحباب التأني فيه، وهو المناسب للترتيل" (4) .
وتذكر حفصة –رضي الله تعالى عنها-الصورة التطبيقية لهذا التأني في قولها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، ويزيد هذا إيضاحاً حديث أبي وائل قال: غدونا على عبد الله فقال رجل: قرأت المفصل البارحة فقال: (هذّاً كهذ الشِعر؟، إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم) (5) .
وإنما قال: (هذّاً كهذ الشِعر)؛ لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة، أسرعوا ليظهر ميزان بحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع، والهذ: إسراع القطع (6) .
__________
(1) حاشية الصاوي 4/338، مرجع سابق .
(2) التحرير والتنوير 29/316، مرجع سابق .
(3) انظر: المبحث السادس من هذا الفصل .
(4) فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/90، مرجع سابق .
(5) صحيح البخاري 4/1924، مرجع سابق .
(6) التحرير والتنوير 29/316، مرجع سابق .(1/205)
فإذا حُلِلَ هذا الكلام ملياً من حيث تعريف الترتيل اللغوي، ومتضَمَّناته في الاستعمال العرفي حتى يتم الوصول إلى تقريبٍ لمقدار هذه التؤدة، وضبطٍ لذاك التمهل (1) ؛ إذ غير خافٍ أن إنشاد الشعر في المحافل عادةً لا يخلو من ترتيبٍ وتفاعلٍ بين المعنى والمبنى، وتريثٍ مع إسراعٍ يُعْرَفُ عند سماع الشعر، كما لا يخلو من نوع محاولة إلصاقٍ بآخر البيت لتتناغم أوزانها وكلماتها، وذاك حالةٌ بين السرعة المفرطة المُشَبَّهةِ بقراءة نشرات الأخبار، أو إلقاء خطب المنابر المُهَيِّجةِ للسامع، وبين الإبطاء الممل ... فإذا كان هذا الإلقاء للشعر مذموماً، وهو بهذه المنزلة غير المتعجَلة الإلقاء نسبياً من حيث واقعُه، ظهر أن ترتيل القرآن الكريم يستلزم تأنياً أكثر، وتؤدةٌ أعظم، ومحاولة إظهارٍ للمبنى أجمل، تتكفل بإبداءٍ للمعنى أكمل، لا على حسابه كما هو معلوم، من غير مبالاة بإدراك نهايات الآيات، وخواتيم السور ... وهذا الضبط لتلك التؤدة هو ما تسمعه من مهرة القراء في عصرنا كما في كل عصر، وهو ما عليه غالب حال المسلمين حتى الأميين منهم الذين لا يعرفون إلا بعض آيات يرددونها، فإنه يظهر تغير طريقة قراءتهم، ونبرات صوتهم إن كانت للقرآن الكريم (2) .
__________
(1) وليس في تفاوت ضبط ذلك حجةٌ لمنكر التواتر في الأداء، إذ أصل الأداء كالمد مثلاً: ثابتٌ عند عامة المسلمين، فضلاً عن عامة القراء، وهو ما يدور الكلام حوله، أما مراتبه فقد يُسَلَّم بالنظر في تواترها، ولا ضير في ذلك .
(2) وهذا من أعظم أدلة التواتر، وهو ظاهرةٌ ليست بغريبة على المناهج المعرفية لدى المسلمين تدل على مقدار الحفظ الإلهي للكتاب الكريم .(1/206)
وليضبط هذا التأني من الجهة المقابلة: إذ إن الاهتمام باللفظ على حساب المعنى، أو الغلو في التؤدة، أو الإفراط في التغني بالقرآن مداً، وابتداء، ووقفاً ... يضاد غاية الترتيل، ويصبح اللفظ غاية بعد أن كان وسيلة، ويكون القرآن كتاباً للاستمتاع الموسيقي المجرد فحسب، وهو كتاب الهداية ... فلا يَرِدُ على ما قُرِّرَ آنفاً ما انحدر إليه بعض متزعمي الإقراء، ومتصدريه في هذا الباب .
فإن اعتُرض بأن الرابط بين ما يرومه هذا المبحث من بيان متعلقات تعليم جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث اللفظ وبين موضوع الترتيل غير واضح، ولا نص صريح في علاقة جبريل - عليه السلام - بالترتيل ؟ .
فالجواب: كان الأمر بالترتيل مبكراً على سنن نزول الوحي، فقد كان جملة ما نزل من القرآن حين نزول أوائل سورة المزمل سورتين أو ثلاث على أصح الأقوال (1) ، ويشير قوله - سبحانه وتعالى - فيها { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } "المزمل/4" (2) إلى أن القرآن بادئ بالنزول، وهذه بدايةٌ إضافية لا حقيقية أوجب تقريرها الكثرة الكاثرة لما سينزل من الوحي بعدها مقارنة بما سبق ... ولما كان جبريل - عليه السلام - هو المقرئ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينزل من القرآن، كما أنه الذي يعارضه به تعاهداً، ومراجعة، وتثبيتاً، فقد لزم أن يكون جبريل - عليه السلام - هو الذي يقرئه بالترتيل ابتداء، وهو ما صرح به في قوله - سبحانه وتعالى - { ...وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } "الفرقان/32" .
__________
(1) انظر: الإتقان 1/20، مرجع سابق .
(2) والقول الثقيل هو القرآن كما تقرر عند أئمة التفسير، انظر: التحرير والتنوير 29/260، مرجع سابق .(1/207)
... ولا يُرتضَى القول بأن المراد بالترتيل في هذه الآية هو التفريق الزمني في الإنزال لقرينة سياق الآية، فأولها قوله - سبحانه وتعالى - { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ... } "الفرقان/32"؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد (1) ، وقد تقدم في سياق الآية التنبيه على تفريق القرآن زمنياً في إنزاله إلى الأرض من كلام الكفار مع إقرارهم على ذلك وبيان الحكمة منه، فصارت نهاية الآية دالةً على معنى آخر هو هيئة تلاوة القرآن، على أن العُرف الشرعي قاضٍ بأن لفظة (رتل) مستعملةٌ في هيئة أداء القرآن (2) لا في تنجيمه، وقد تقرر في الأصول تقديم الحقيقة الشرعية والعرفية على اللغوية (3) ، فتحرر من هذا أن جبريل - عليه السلام - كان يقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن بالترتيل .
ويختم هذا بالقول:
إن سورة المزمل قد نعتت بدقة الطبيعة الذاتية للقرآن الكريم { قَوْلا ثَقِيلا } ، وكيفية وصولها من السماء إلى الأرض { سَنُلْقِي } ، ووسيلة الاستعانة على تلقيه { قُمِ اللَّيْلَ } ، وهيئة النطق به، والوقت المختار لمراجعته، وبيان الأوقات التي تصرف في أمورٍ أخرى غير مراجعته وتعاهده ... وإذ قد كانت هذه العناية الكثيرة الدقيقة ... عُلِمَ مقدار التوقيفية في نقل لفظ القرآن الكريم .
__________
(1) انظر مثلاً في علم أصول الفقه:نثر الورود 1/225، مرجع سابق .
(2) كما في قوله - عز وجل - { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } "المزمل/3"، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ... اقرأ وارق ورتل ... ) ويأتي تخريجه بعد قليل في هذا الفصل .
(3) انظر مثلاً في علم أصول الفقه: نثر الورود 1/120، مرجع سابق، المستصفى 1/341، مرجع سابق، نهاية السول 2/145، مرجع سابق .(1/208)
فإن اعتُرض بأن: الإلقاء هو هيئة أداء القرآن من جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا دليل أصرح فيه من آية المزمل { إِنَّا سَنُلْقِي } ، والإلقاء هو رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيءٌ لقىً: أي مطروح، وإذا كان كذلك فهو لا يفيد التمهل .
فالجواب: عن هذا الإيراد:
1- غاية ما يدل عليه أصل الوضع اللغوي لمادة ألقى هو الطرح، فأين اقتران السرعة معه أو عدم اقترانها؟، على أن الحقيقة العرفية مقدمةٌ على الوضع اللغوي .
2- لا يضرب دين الله - سبحانه وتعالى - بعضه ببعض، بل يؤخذ هذا الدليل مجموعاً إليه بقية الأدلة السابقة والمقترنة، فيكون النقل محققاً، والتقرير مصدقاً .
3-الإلقاء في آية المزمل مستعارٌ لمعنى الإبلاغ الذي يأتي دفعة واحدة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متوقعاً له، ولا مترقباً حدوثه، فأُريد تنبيهه على كمية المُلقى عليه من خلال ما يشعر به لفظ (نلقي) ليقدر الأمر حق قدره، فاستعير الإلقاء للإبلاغ دفعةً على غير ترقب (1) .
ويدل على أنه ليس المراد بالإلقاء القذف دون تمهلٍ: ورود التعبير عنه في السنة بالنبذ (فينبذه إلي) وذلك عندما يتمثل الملك له رجلاً، وهذا الوصف يضاد معنى القذف السريع؛ إذ أن الرجل عندما ينبذه إليه إنما ينبذه في لغة البشر ولا يقتضي ذاك السرعة، وقد ورد التعبير عن الكلام بالإلقاء في قوله - سبحانه وتعالى - { فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمْ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } "النحل/86"، ومنه قوله - عز وجل - { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } "طه/87"، وتقدم تفصيل ذلك في المبحث السابع .
على أن هذا الإيراد غريبٌ في مدخله، من حيث أن الوحي يستلزم السرعة وإلا لا يسمى وحياً، ويرد فيه ما سبق، ثم إن السرعة واضحٌ معناها في النسبية (الإضافية) مقارنةٌ بفعل البشر، لا من حيث أنها سرعة مطلقة .
__________
(1) التحرير والتنوير29/317، مرجع سابق .(1/209)
وهنا أمرٌ ينبغي التنبه له هو أن الإلقاء إنما يكون للأمر الحسي كالحجر والكلام، وقد يستعار للأمر غير المشاهد كالوسوسة كما في قوله - سبحانه وتعالى - { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } "الحج/52" (1) .
7- التغني بالقرآن، والجهر به: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لم يأذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى (2)
__________
(1) انظر: تحليل هذه الآية في الفصل الخامس، وكان هذا التنبيه حتى لا يُظَنَّ أن الإلقاء معنوي فقط، فيجوز أن يكون إلهاماً .
(2) قال ابن حجر في الفتح 9/70، مرجع سابق: "قال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله (يتغنى) على أربعة
أقوال: أحدها: تحسين الصوت، والثاني: الاستغناء، والثالث: التحزن، قاله الشافعي، والرابع: التشاغل به، تقول العرب: تغني بالمكان أقام به، وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في الزاهر قال: المراد التلذذ والاستحلاء له، كما يستلذ أهل الطرب بالغناء، فأطلق عليه تغنياً من حديث {أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء}، وهو كقول لنابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلاً مفجعةٍ على فَنَنٍ تغني،
أَطْلَق على صوتها غناءً؛ لأنه يطرب كما يطرب الغناء، وإن لم يكن غناء حقيقة".(1/210)
بالقرآن)، وقال صاحبٌ له: يريد يجهر به (1) ، زاد في لفظ له: قال سفيان: تفسيره يستغني به (2) ، وفي لفظ: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به)، وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يأذن الله لشيء إذنه لأذان المؤذنين، والصوت الحسن بالقرآن) (3) ، وعند ابن حبان (ما أذن الله لشيء كأذنه للذي يتغنى بالقرآن يجهر به) (4) .
والمعنى: "ما أذن الله لشيء كأَذَنِه لنبي يتغنَّى بالقرآن أي ما استمع الله لشيء كاسْتماعه لنبي يَتَغنَّى بالقرآن أي يْتلُوه يَجْهَر به" (5) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/1918، مرجع سابق .
(2) وفي سنن الدارمي 1/765، مرجع سابق: وقال: "يريد به الاستغناء"، ولا شك في ضعف هذا الرأي إن أُريد به نفي الآخر، وليس المقام بمتسعٍ لتفصيل ذلك، فيُكتفَى بالإشارة العابرة أعلاه .
(3) المعجم الكبير 20/216، مرجع سابق .
(4) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 3/30، مرجع سابق .
(5) النهاية في غريب الأثر 1/33، مرجع سابق .(1/211)
وقال أبوحاتم بن حبان: "قوله - صلى الله عليه وسلم - يتغنى بالقرآن يريد يتحزن به، وليس هذا من الغُنية، ولوكان ذلك من الغنية لقال (يتغانى به)، ولم يقل (يتغنى به) وليس التحزن بالقرآن وطيب الصوت، وطاعة اللهوات بأنواع النغم بوفاق الوقاع، ولكن التحزن بالقرآن هو: أن يقارنه شيئان: الأسف والتلهف: الأسف على ما وقع من التقصير، والتلهف على ما يؤمل من التوقير، فإذا تألم القلب، وتوجع، وتحزن الصوت، ورَجَّع، بدر الجفنُ بالدموع، والقلب باللموع، فحينئذٍ يستلذ المتهجد بالمناجاة، ويفر من الخلق إلى وكر الخلوات، رجاء غفران السالف من الذنوب، والتجاوز عن الجنايات والعيوب، فنسأل الله التوفيق له" (1) ، فقوله (ما أذن الله): يريد ما استمع الله لشيءٍ (كأَذَنِه) كاستماعه للذي يتغنى بالقرآن يجهر به يريد يتحزن بالقراءة (2) .
وفي سنن البيهقي: "قال أبو عبيدة: في قوله (كأذنه) يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن، ولم يرض ومن رواية من روى كإذنه قال وقوله (يتغنى بالقرآن) إنما مذهبه عندنا تحزين القراءة" (3) .
والمعنى المتَحَصَل من أقوال أئمة الشأن: أن لفظ (أذن) بفتحة ثم كسرة في الماضي، وكذا في المضارع مشترك بين الإطلاق، والاستماع تقول: أذنت آذن بالمد، فإن أردت الإطلاق فالمصدر بكسرة ثم سكون، وإن أردت الاستماع فالمصدر بفتحتين، كما قال عدي بن زيد:
أيها القلب تعلل بِدَنْ ... ... إن همي في سماع وأذَنْ
أي في سماعٍ واستماع، فأصل أَذَن بتفحتين أن المستمع يميل بإذنه إلى جهة من يسمعه (4) .
وهو ما قرره العلماء، وشهد له الاشتقاق اللغوي، وممن قرر ذلك:
__________
(1) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 3/27، مرجع سابق .
(2) انظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 3/30، مرجع سابق .
(3) سنن البيهقي الكبرى10/229، مرجع سابق .
(4) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/2769، مرجع سابق .(1/212)
قال السيوطي: " قال النووي: معناه عند الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء من الطوائف وأصحاب الفنون: تحسين صوته به، والصحيح أنه من تحسين الصوت ويؤيده الرواية الأخرى يتغنى بالقرآن يجهر به" (1) .
وقال السندي:"يتغنى بالقرآن: أي يحسن صوته به حال قراءته أو هو الجهر، وقوله (يجهر به) تفسير له أو يلين، ويرقق صوته ليجلب به إلى نفسه والى السامعين الحزن والبكاء، وينقطع به عن الخلق إلى الخالق جل وعلا " (2) .
وواضحٌ أن هذه مرتبة فوق مرتبة الترتيل ... .
8- الترجيع في القرآن: هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله الترديد، وترجيع الصوت: ترديده في الحلق (3) .
والصورة التطبيقية لذلك: ما رواه معاوية بن قرة عن عبد الله بن المغفل المزني - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح - قال -: فرجع فيها، قال: ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل، وقال: لولا أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت لمعاوية كيف كان ترجيعه قال آ آ آ ثلاث مرات (4) .
__________
(1) الديباج على صحيح مسلم 2/393، مرجع سابق .
(2) حاشية السندي على النسائي 1/ 180، مرجع سابق .
(3) فتح الباري 9/92، مرجع سابق .
(4) صحيح البخاري 6/2742، مرجع سابق .(1/213)
فهذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن ذلك حدث من هز الناقة، والآخر: أنه أشبع المد في موضعه، فحدث ذلك، والثاني هو الصحيح بقرينة السياق؛ فإن في بعض طرقه (لولا أن يجتمع الناس لقرأت لكم بذلك اللحن) أي النغم .قال ابن حجر:"والذي يظهر أن في الترجيع قدراً زائداً على الترتيل، فعند ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن علقمة قال: بت مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في مسجد حيه لا يرفع صوته، ويسمع من حوله، ويرتل، ولا يرجع" (1) ، ويدل لهذا الكلام ما جاء عن أم هانئ –رضي الله تعالى عنها-: كنت أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ وأنا نائمة على فراشي يُرَجِّعُ القرآن (2) .
كما يدل هذا الحديث على أن الترجيع غالب فعله في تلاوة القرآن الكريم .
فقد تحصل من هذا أن أداء القرآن يستلزم: تحريك اللسان والشفتين(القراءة)، والترتيل، والتغني، والترجيع .
... ويتضح مما سبق أن أداء القرآن ينقسم إلى قسمين:
أ الأداء الأصلي، ويمثل الترتيل بعناصر حقيقته، وهو المسمى في علم التجويد: حق الحروف .
ب- الأداء الفرعي: ويمثل التغني والترجيع حقيقة، ويسمى في علم التجويد مستحق الحروف .
... واللفظ يستحيل معناه بتغير الأداء الأصلي، أو تركه، وقد يحدث ذلك بترك الأداء الفرعي .
فالمراتب في أداء لفظ القرآن الكريم أربعة من حيث الماهية اللغوية، والمدلول الشرعي (وترجع هيئات الترتيل من تحقيقٍ، وحدرٍ، وتدويرٍ إليها):
__________
(1) فتح الباري 9/92، مرجع سابق .
(2) (الطحاوي) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة 321هـ: شرح معاني الآثار 1/344، مراجعة محمد زهري النجار - ط1، 1410 هـ – 1990م، دار الكتب العلمية –بيروت .(1/214)
أ- القراءة: ولا تكون إلا بإخراج كل حرفٍ من مخرجه، وهي جنسٌ عامٌ للقرآن وغيره، وأصبحت القراءة تنصرف إلى قراءة القرآن عن ظهر قلبٍ عندهم، وهو المفهوم من كلمة (القرآن) أي المقروء من الصدر، في مقابل لفظ الكتاب أي المكتوب، ويقتضي هذا المفهوم أن يُقْرَأ من الصحف التي كُتِبَ فيها، أو من الصدور التي حُفظ فيها بالتلقي من الأفواه .
ب- الترتيل: وهو هيئةٌ خاصةٌ بالقرآن الكريم، فهو مرتبةٌ أعلى من القراءة، وعلى هذا فإن الترتيل يحتوي مراتب القراءة الثلاثة الشهيرة: التحقيق، والحدر، والتدوير بحسب تفاوت درجات الترتيل ليكون أحدها .
ج- التغني: وهو هيئةٌ خاصةٌ بالقرآن الكريم، فهو مرتبةٌ أعلى من
الترتيل، ففيه تنغيمٌ للصوت على القواعد المتلقاة، فلا يَرِدُ عليه الغناء المعروف عند البشر .
د- الترجيع: وهو ترديدٌ للفظ المقروء المرتَل المُتَغنى به، أو زيادة تحبيره وتحسين أدائه بزيادة تحقيق المد ونحوه .(1/215)
وعلى هذا التقرير: فلا يمكن إطلاق القول بنفي تواتر الأداء حتى يُسأل عن ماهيته المقصودة من هذه المراتب، وتواترها(اليقين في ثبوتها) بدهيٌ واضح، وإن تفاوتت مراتبها في التواتر، فما ورد على ألسنة بعض العلماء (1) من نفيٍ لتواتر الأداء يُحْمل على الأداء الذي لا ينضبط بالتلقي، وهو ما صرَّح به ابن خلدون، وذلك كتحديد مراتب المد بالدقة المتناقلة بعدد الحركات، فإن أصل المد راجعٌ إلى ذات الحرف (وهو المسمى بالمد الطبيعي)، وهذا يندرج في (القراءة)، ومده فوق ذات الحرف راجعٌ إلى عربيته الصِرفة من لقائه للهمز أو السكون، على ما هو مقررٌ في علوم العربية، وذا عائدٌ للقراءة أيضاً، وترديده بتأنٍ وتبيينٍ أظهرُ للحروف يرجع إلى الترتيل، وتواترُه بين المسلمين أبين من أن يُتكلم عليه، وتنغيمه على هيئةٍ معينةٍ يرجع إلى التغني والترجيع، وتواتره بين المسلمين معلوم أيضاً، وبقي التحديد الأكثر دقةً من أربع حركات، أو ست، أو نحو ذلك قد يُسَلم بعدم تواتره (2) ، ولا ضائر يضير القرآن من عدم تواتره، فمثله كمثل إنسانٍ كُسي أنواع الثياب، فقائلٌ يقول: كمُّ ثوبه إلى رسغه، وآخر يقول بل إلى خنصره، وثالثٌ يقول بل بين ذلك ... مع اتفاقهم جميعاً على أنه اكتسى ... فأين من يقول بأن الزاعم قِصَرَ الكمِّ قد أنقص في طبيعة الرجل الأصلية؟، وبأن الزاعم طول الكم قد زاد في خلقة الرجل الأصلية؟ فكذلك القرآن لا يضيره تفاوت مراتب المد ونحوها حتى يقال بأن الذي زاد دون تواترٍ قد زاد في كلام الله ... ونحو ذلك، ولا يتسع المقام لأكثر من هذا .
__________
(1) انظر إشارة إلى كلام بعضهم في هامش ص170، من هذا المبحث .
(2) وهو ما صرَّح به ابن الجزري -رحمه الله تعالى- في منجد المقرئين ص 43، على الرغم من إنكاره الشديد على ابن الحاجب -رحمه الله تعالى- .(1/216)
9- مماثلة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقراءة جبريل - عليه السلام - : ويدخل في ذلك مماثلة أصل اللفظ، وهيئة أدائه الداخلية، وذلك تطبيقاً لأمر الله، وتحقيقاً لوعده في قوله - عز وجل - { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } فتكفل سبحانه بجمع لفظ القرآن وهيئة أدائه في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - (الحفظ)، وبأن يقرأه بعد كما سمعه من جبريل - عليه السلام - أصلاً وأداء، والاختلاف كائنٌ في الصوت فحسب، إذ صوت جبريل - عليه السلام - يختلف عن صوته - صلى الله عليه وسلم - ، ونفَسُه يختلف عن نَفَسهِ .
وأُكِد شمولُ هذا الوعد لأصل اللفظ ولأدائه بقوله - سبحانه وتعالى - { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } "القيامة /19"، والبيان هو إظهار الكلمة حرفاً حرفاً، دون دمجٍ، أو تداخل فلذا يُسَمَّى (الإظهار) -وهو حكمٌ من أحكام النون والميم الساكنتين في علم التجويد- البيان لأن فيه تبيين للنون والحرف الذي بعدها دون إخفاءٍ، أو قلبٍ، أو إدغامٍ، وتقدم الكلام عن ذلك (1) .
والصورة التطبيقية لهذا عبر عنها ابن عباس - رضي الله عنه - بقوله: (فإذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه [كما وعده الله] (2) .
والضمير في قوله { فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } لجبريل - عليه السلام - والتقدير: فإذا انتهت قراءة جبريل - عليه السلام - فأقرأ أنت ، وتقدم تفصيل ذلك في المبحث السابع من هذا الفصل .
__________
(1) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل ص113 .
(2) صحيح البخاري 1/6، مرجع سابق .(1/217)
10- قراءته - صلى الله عليه وسلم - على الناس كما أقرأه جبريل - عليه السلام - من حيث أصلُ اللفظ وأداؤه: ويختلف عن البند السابق في أنه أخص منه مطلقاً من حيث أنه مأمورٌ بتلاوته على الناس لقوله - سبحانه وتعالى - { ... لأُنْذِرَكُمْ بِهِ ... } "الأنعام/19"، وقوله: { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ... } "النمل/91"، والسابق أعم من حيث أنه يقرؤه لنفسه أو للناس .
وإنما أُفْرِدت هذه النقطة بالذكر مع دخولها فيما سبق لأهميتها في إحداث اليقين القطعي بحقيقة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ ألفاظ كما أقرأه جبريل - عليه السلام - لا يَخْرِمُ منها حرفاً، ولا هيئةً لعموم قول ابن عباس - رضي الله عنه - :(كما أقرأه)، ولقوله - عز وجل - { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ... } "يونس/15" .
فإذا اجتمع –كما سبق-:
1- الأمر الإلهي الموجب اتباع هيئةٍ معينةٍ للنطق بالقرآن (الأداء)، وهو قوله - سبحانه وتعالى - { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } "المزمل/4" ونحوها،
2- والتطبيق الملائكي (جبريل) - عليه السلام - لذلك الأمر مبالغة في اتباع تلك الهيئة كما في قوله - عز وجل - { ... وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } "الفرقان/32" (1) ،
3- والنص النبوي عليها (اقرأ وارق ورتل) (2) ... ونحوه،
4- والتطبيقُ النبويُّ لها،
5- ودقة وصف الصحابة لتلك الهيئة،
6- مع تناقل هذه الهيئة عبر الأجيال ...
__________
(1) ويُلاحَظ بعين التأمل أن إيراد هذه الجملة كان أثناء حجاج الخصماء فيه، ليظهر بالغ أهميتها .
(2) صحيح ابن حبان 3/43، مرجع سابق؛ إذ مفهومه دال على مراد التقرير، وكأحاديث التغني بالقرآن .(1/218)
كانت النتيجة التلقائية لهذه المقدمات هي: التوقيفية المحضة في نقل هيئة أداء القرآن، كنقل أصل ألفاظه ... .
... فإذا أُضيف إلى هذا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه كما قرأه، وأن الصحابة حفظوه وكتبوه كما أقرأهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... وأن حلقات الحفظ هذه قد توالت من الله –جل وعلا- إلى رسوله من أهل السماء - عليه السلام - إلى رسوله من أهل الأرض - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إلى صحابة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إلى الأمة باختلاف مكانها وزمانها ... بأعلى درجات الحفظ والضبط ... كما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوم بالعرض اليومي للصحابة عند نزول القرآن، وفي الصلوات الجهرية، وفي نوافله الليلية التي كان يصل وردُه فيها إلى سدس القرآن الكريم في كل ليلة غالباً ... فقد ضمن الله - عز وجل - للقرآن حفظه: كتابةً بالقلم، وأداءً بالصوت الذي حُفِظَتْ حروفه في أدق صفاتها ومخارجها من حيث مقاطعُ الأداء( أماكن الخروج) وما يصاحبه من غنةٍ، أو مدٍ، أو ترقيقٍ، أو تفخيمٍ، أو استعلاءٍ، أو استفالٍ ... كما حُفِظَتْ أماكن الوقف والابتداء، والسكتات الواجبة والجائزة ... .
فحفظ الله –تعالى ذكره- ألفاظ القرآن في هذه الأمة بالأدوات الواقعية الإنسانية التي تتسم بأعلى قواعد الحفظ، وأدق مقاييس الضبط .
ولا يعترض معترضٌ على هذه النتيجة الحتمية بأنها منخرمةٌ بما يُشاهد من اختلاف أداء القرآن، لأنه هذا الاختلاف مرده إلى أمورٍ خارجيةٍ أخرى كالاختلاف الفطري في أصوات الناس، والاختلافِ النفسي من حيث التذوق لنغمة التصويت، والاختلافِ العقلي من حيث تقدير البطء والسرعة ... وهذا كله لا يقدح في التوقيف في الأداء، حذوَ التوقيف في الصلاة، إذ لا جدال في أنها عبادةٌ توقيفية، وترى الاختلاف فيها وارداً من حيث البطء والسرعة في أداء أركانها ... وما يشبه ذلك مما يرجع إلى البشر .(1/219)
وهذه، وما سبقها توطئةٌ لإثبات ما هو عند المسلمين بَدَهي من أن هيئة قراءة القرآن صفةٌ ذاتيةٌ للفظ، وليست صفةً عارضة، أو أمراً تتميمياً (1) ،
__________
(1) فتبيين الحروف هو ما يعبر عنه علماء التجويد بقولهم: إخراج الحرف من مخرجه مع إعطائه حقه ومستحقه، إذ منعه من الصفات الذاتية إعدامٌ لذاته، كمن أراد إخراج الدال غير مجهورةٍ فهو مُخْرِجُها تاءً، ومنعه من الصفات العارضة هضمٌ له وعدم بيانٍ لحقيقته، وإزراءٍ به يستنكره أهل اللغة كإنسانٍ بدون ساترٍ له من ملبس، والإعراب النحوي من صفاته العارضة، فهذا هو المقياس في دحر فكر من توسوس له نفسه التهاون في صفات الحروف العارضة، ومن هاهنا يمكن إرساء قاعدة قوية في منع التطوير المزعوم في الأصوات اللغوية العربية، وذلك لوجوب التزام بيان الحرف في القرآن الكريم على ما تلقاه لاحقٌ من سابق ..(1/220)
كما أن في هذا التقرير إشارةٌ إلى منبع الوهم الزاعم عدم تواتر أوجه الأداء، وهو ما صرح به ابن الحاجب وابن خلدون -رحمهما الله تعالى- (1)
__________
(1) أما ابن الحاجب: فصرَّح بذلك في مختصر الأصول له، وقد نفى عنه قومٌ ذلك بأن عبارة الاستثناء من التواتر لم ترد في النسخ المشورة من المختصر، وأما ابن خلدون فقد رجح ذلك في المقدمة ص552 - تاريخ ابن خلدون - تأليف: عبد الرحمن بن خلدون ت808 هـ ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة – مراجعة الدكتور: سهيل زكار – دار الفكر بيروت الطبعة الثالثة 1417هـ –1996م: حيث قال: "وقد خالف بعض الناس في تواتر طرقها -يريد القراءات –؛لأنها عندهم كيفياتٌ للأداء، وهو غير منضبطٍ، وأباه الأكثر وقالوا بتواترها، وقال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد والتسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع وهو الصحيح" ولعله عنى بالبعض الذين رجَّح كلامهم ابن الحاجب فهو عنه ناقلٌ، ولو نفي التواتر عن الأداء كما قيل، لنفاه عن أصل اللفظ، وهو ما لا يقول به ابن الحاجب، ولا يرضاه، وهو الأصولي المقرئ الكبير؛ إذ الأداء يتضمن النطق بأصل اللفظ (وهذا المسمى مخارج الحروف)، وصفاته الأصلية، ويتضمن الصفات العارضة الناشئة عن الصفات الأصلية، ونفي تواتر الأداء نفي لأصل اللفظ سواءً أُريدَ به المتضَمن الأول أو الثاني، إذ لا يستقيم نفي الصفة العارضة بدون نفي أصلها، ولا تستطيع تصنيف التأني في القراءة صفةً أصلية، فلا جرم أنها إلى الصفات العارضة تنتسب بسببٍ، وأما الأول فأمره بينٌ، وقد تقدم في المتن تحليلٌ، والتكرار هنا هو في أسلوب طرح الكلام ... فكلام ابن الحاجب-رحمه الله تعالى- حال ثبوته عنه، يُشير إلى ما صرَّح به من بعد ابن خلدون من أن المراد هو ما لا يتوقف ضبطه على السمع كمراتب المد ..(1/221)
... وحسب ذا القول أن يكون مناقضاً للمقتضى اللغوي لمادة الترتيل، ولما تراه من اجتماع الأمة على تفاصيل تطبيق الترتيل، الذي ينصرف مفهومه في أول وهلة إلى الصفات العارضة للقراءة وحروفها .
11- تكرار المحفوظ: ليرسخ فيه، فقد قال الزمخشري -رحمه الله تعالى- : "فأمر أن يستنصت له، ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه، ثم يقضيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه" (1) ، وهو من معاني في قوله - عز وجل - { فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } قال الآلوسي-رحمه الله تعالى-: "اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك" (2) ، وأورد ابن جرير (3) عن ابن عباس - رضي الله عنه - :"كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال الله - سبحانه وتعالى - : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16)إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } "القيامة/16-17" أن نجمعه لك { وَقُرْءَانَهُ } أن نقرئك فلا تنسى"؛ وهذا دالة على تكرار المحفوظ، والمعارضة والمدارسة نموذج للصورة التطبيقية لهذا التكرار .
12- تركيز المراجعة في قيام الليل: فقيام الليل له عدة تعلقات من حيث لفظ القرآن الكريم:
أ- هو محل استمداد عون الله، ولذا أُمِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل ليكون السبيل الذي يستعين به على تلقي هذا القول الثقيل .
ب- جعل قيام الليل محلاً للصورة التطبيقية في مراجعة القرآن الكريم
تثبيتاً للألفاظ، وتبييناً للأصوات، ففي قيام الليل تكون "مواطأة القرآن أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه" (4) ، وله بالقرآن تعلقان:
__________
(1) الكشاف 4/165، مرجع سابق، ومثله: أبو السعود 5/340، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 29/244، مرجع سابق .
(3) تفسير الطبري 29/190، مرجع سابق .
(4) صحيح البخاري 1/382، مرجع سابق، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: "وهذا وصله عبد بن حميد من طريق مجاهد" .انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/23، مرجع سابق .(1/222)
عامٌ: فهو { أَشَدُّ وَطْئًا } أي: "أثبت في الخير"، وخاصٌ فهو { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي:"أبلغ في الحفظ" (1) .
وكونه أبلغ في الحفظ: مجمل فصله الشوكاني بقوله: " { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي أشد مقالاً، وأثبت قراءةً لحضور القلب فيها، وهدوء الأصوات ... " .
... ولا يتوقف ذلك عند مجرد الحفظ، بل يتعداه إلى تبيين اللفظ فقد نقل الشوكاني عن قتادة ومجاهد: "أي أصوب للقراءة، وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم، وقال الكلبي: أبين قولاً بالقرآن" (2) .
والمقصود أن قيام الليل هو محلٌ لتكون مواطأة القرآن بين القلب واللسان أشد، كما أنه أجمع للتلاوة أي أرسخ للحفظ، ولهذا قال - عز وجل - { هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً } "المزمل/6"، أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها ... (3) .
__________
(1) تفسير الطبري 29/ 170، مرجع سابق .
(2) فتح القدير 5/388، مرجع سابق، وراجع: تفسير أبي السعود 5/412، مرجع سابق .
(3) انظر: تفسير ابن كثير 4/370، مرجع سابق .(1/223)
وعلاقة قوله - عز وجل - : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً } بما قبلها { ... وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا(4)إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً } "المزمل/4-5" أنها تعليلٌ لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه، والمراد: إن في قيام الليل تزكيةٌ وتصفيةٌ لسرِك، وارتقاءٌ بك إلى المراقي الملكية، فالمعنى: إن صلاة الليل أعود على تذكر القرآن، والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر، قال ابن عباس - رضي الله عنه - :"أدنى من أن يفقهوا القرآن"، وقال قتادة: "أحفظ للقرآن"، وقال ابن زيد:"أقوم قراءة لفراغه من الدنيا" (1) ، وقد اشتهر حديث حذيفة - رضي الله عنه - في قيامه - صلى الله عليه وسلم - بسورة البقرة وآل عمران والنساء (2) أنموذجاً لورده - صلى الله عليه وسلم - في المراجعة في قيام الليل .
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل ورداً للمراجعة اليومية؛ ولذا جعله البحث نموذجاً للوقت النموذجي لها (3) ، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ما يُلْقَى إليه في الليل أثناء قيامه في الصلاة .
ولمراجعة القرآن في صلاة الليل أثرٌ في تثبيته بل ذلك أحد أهم قواعد حفظه. وفي موضوع تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجد دليلان: عامٌ وخاصٌ في مراجعته - صلى الله عليه وسلم - في الليل:
__________
(1) التحرير والتنوير 29/163، مرجع سابق، وقال في قوله تعالى { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } متعلقةٌ بقيام الليل أي: رتل قراءتك في القيام، ويجوز أن تكون أمراً مستقلاً متعلقاً يكيفية قراءة القرآن، جرى ذكره بمناسبة قيام الليل، وهذا أولى لأن الصلاة تدخل في ذلك وانظر: البحر المحيط 8/363/ مرجع سابق .
(2) رواه مسلم 3/342، مرجع سابق .
(3) لا يعني هذا نفي الغايات الشرعية الأخرى لقيام الليل .(1/224)
فأما الدليل العام فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه) (1) ومن أحق منه - صلى الله عليه وسلم - بوصف صاحب القرآن؟ .
__________
(1) رواه مسلم 1/536، مرجع سابق، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقوله (لم يقم به) تحتمل معنى قيام الليل، وتحتمل معنى العمل به، وقد قال المباركفوري في معنى قول الصحابي يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أن لا أقوم بها): كما في تحفة الأحوذي 150/8: "أي في صلاة الليل"، انظر: (المباركفوري) أبو العُلا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم، ط 1، 1410هـ – 1990م، دار الكتب العلمية – بيروت .
... ويؤكد هذا المعنى الحديث الذي وردت فيه هذه العبارة ما روى الترمذي 156/5 عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثاً، وهم نفر فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ماذا معكم من القرآن ؟) فاستقرأهم، حتى مرَّ على رجلٍ منهم هو من أحدثهم سناً، فقال : ( ماذا معك يا فلان ؟) قال: معي كذا، وكذا، وسورة البقرة . قال: (معك سورة البقرة؟) . قال: نعم!. قال: (اذهب، فأنت أميرهم) فقال رجلٌ –هو أشرفهم-: والذي كذا وكذا يا رسول الله !ما منعني أن لا أتعلم القرآن إلا خشيت أن لا أقوم به . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (تعلم القرآن، واقرأه، وارقد، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه، وقام به كمثل جراب محشو مسكاً تفوح ريحه كل مكان، ومن تعلمه، فرقد وهوفي جوفه كمثل جراب وكىء على مسك) حسنه الترمذي، وضعفه الألباني، وصححه ابن حبان، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على ابن حبان: "رجاله ثقات رجال الصحيح غير عطاء مولى أبي أحمد" .(1/225)
وأما الدليل الخاص الذي فيه: أنَّ قيامُه في صلاته كان بما يُلْقَى إليه فما حدثت به عائشة –رضي الله تعالى عنها– أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة من الليالي فقال: (يا عائشة !ذريني أتعبد لربي) قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ لقد نزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... } ) الآية (1) ، ولا يعترض على النصِّ بأنه غير صريحٍ في الدلالة على المراد؛ لأن قرائن الحال، واقتران الوصف بالحكم في الحديث مقتضيان المطلوبَ من إيراده، وهو مراجعته لما أُنزِل عليه، والذي أُنزل عليه هنا الآيات العشر من سورة آل عمران .
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه 2/386، مرجع سابق، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 68 .(1/226)
بل كان يؤكد على المراجعة ببيان وسائل التدارك عند الفوات فعن عبد الرحمن ابن عبد القاري:قال سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من نام عن حزبه، أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) (1) ، وقد شمل قوله (حزبه) الصلاة والقرآن، وهو إلى القرآن أقرب؛ إذ مصطلح الحزب على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - يختص بالقرآن (2) .
كما جعل - صلى الله عليه وسلم - شدة الحض على قيام الليل مع الاهتمام فيه بقراءة القرآن مقترناً ببيان الحد الأدنى للقراءة أمراً لازماً لتكون دافعاً إلى الترقي المستمر في زيادة كمية المقروء كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين) (3) ، وفي الحديث إشارةٌ برمي الذي لم يقم بعشر آيات بالغفلة، وفي ذلك تهييجٌ نحو القيام، وقراءة هذا المقدار، وما الحكم هنا إلا غير تحريمٍ لترك قيام الليل ما أشبهه بالتحريم .
__________
(1) صحيح مسلم 1/515، مرجع سابق .
(2) ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل 4/9: عن أوس بن حذيفة أن رسول الله قال: (طرأ على حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه) -قال- (فسألنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبحنا -قال- قلنا: كيف تُحَزِبون القرآن؟ قالوا: نُحَزِبه ثلاث سورٍ، وخمس سورٍ، وسبع سورٍ، وتسع سورٍ، وإحدى عشرة سورةً، وثلاث عشرة سورةً، وحزبَ المفصل من قاف حتى يختم) . وهو في سنن ابن ماجه 1/427 وقال الألباني: ضعيف .
(3) صحيح ابن حبان 6/ 310، مرجع سابق، وصحيح ابن خزيمة 2/ 181، انظر: (ابن خزيمة) إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي ت 311هـ: صحيح ابن خزيمة، مراجعة: د.محمد مصطفى الأعظمي 1390هـ-1970م، المكتب الإسلامي-بيروت .(1/227)
بل شُرِعت الوسائل البديلة لقيام الليل لمن فتر أو كسل متضمنة الارتباط الدائم بالقرآن، والاستفزاز الشعوري بقيام الليل، وإن لم يقمه فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :(من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة) (1) ، وسواءً كان معنى الحديث القراءة المجردة، أو القراءة مع قيام الليل الذي أَشْعَرَ به تعدية الفعل بالباء، فإطلاق القراءة فيه كافٍ في الاستدلال على المطلوب .
على أن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على استذكار القرآن ومراجعته أوضح من أن يُدَلل عليه، ولئن كان قد قال في حرفةٍ عادية: (من علم الرمي ثم تركه فليس منا فقد عصى) (2) ، لهو قائلٌ ثم فاعلٌ أكثر من ذلك في أصل أصول الشريعة الإسلامية .
13- التعاهد السنوي: وذلك بمراجعة القرآن على جبريل - عليه السلام - سنوياً في كل رمضان، ويأتي تحليل هذا الموقف التعليمي (3) ، وهذا هو الأصل الشرعي المنهجي في العرضة الثانية أو الثالثة تأكيداً وتثبيتاً للمحفوظ، وهذا التعاهد غير التعاهد الدائم (المراجعة الدائمة)؛ إذ كلامنا عن اتصال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعليمي بجبريل - عليه السلام - في القرآن الكريم من حيث اللفظ، والمراجعة الدائمة عملٌ ذاتي .
فإن اعتُرض بأنه: لم يتم عرض الجزء الذي نزل بعد آخر رمضان قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
__________
(1) (المقدسي) أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي ت 634هـ : الأحاديث المختارة 8/ 278، تحقيق: عبد الملك ابن عبد الله دهيش، 1410هـ، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة .
(2) رواه مسلم 3/ 1522، مرجع سابق .
(3) في المبحث التاسع من هذا الفصل ص177 .(1/228)
فالجواب: ليس عدم العلم علماً بالعدم، بل إنّ القواعد العامة للموضوع هي التي تجعل الباحث يميل إلى الحكم بالنفي أو الإثبات عند عدم وجود النص الصريح في مدار النزاع، وما عُرِضَ في خصوص موضوعنا يجعل الناظر فيها يميل إلى ترجيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عَرَض القرآن قبل وفاته، وذلك لما رأيتَه من الاهتمام المؤكَّد بذلك من خلال ما سبق، ولقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شهداء أحد قبل وفاته فصلى عليهم بأمر ربه (1) ، فكيف يكون الأمر له في خصوص القرآن الكريم، على أنه لو لم يتم العرض فلا ضير للتكفل بالحفظ أو لما قاله ابن حجر-رحمه الله تعالى-: "وكأن الذي نزل في تلك الأيام لما كان قليلاً بالنسبة لما تقدم اغْتُفِرَ أمر معارضته" (2) .
... ... وفي آخر هذا المبحث: فهل أتاك نبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يتلقى ألفاظ ألفاظ القرآن الكريم؟، وجبريل - عليه السلام - إذ يعلمه لفظ القرآن المجيد؟ ... فيا حاديَ الشوق أشعل سُرَجَ العزيمة ... وأمط عنا –بذاك-في الظلماء ذلَ الهزيمة ... .ويا رسول الله:
قد كنت بدراً ونوراً يُستضاء به ... .عليك تَنزِل من ذي العزة الكتبُ
وكان جبريل بالآيات يحضرنا ... . فغاب عنا، وكلُ الشوق ينسكبُ
المبحث التاسع:
تحليل حديث المدارسة (المعارضة):
... قد تكررت -فيما سبق- الإشارة إلى حديث المعارضة، ولأنه يُمَثِّل أنموذج المراجعة السنوية للقرآن الكريم من جهةٍ، ولما يتضمنه من دلالاتٍ متميزةٍ من حيث تلقين جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جهةٍ أخرى؛ فقد لزم إبرازه بالبحث والتحليل، لذا عُقد هذا المبحث، وينقسم إلى خمسة مطالب:
المطلب الأول: متن الحديث برواياته المختلفة .
المطلب الثاني: الدلالات العامة لحديث المعارضة .
المطلب الثالث: متضَمَّنات المعارضة .
__________
(1) كما ثبت في البخاري 1/576، مرجع سابق .
(2) فتح الباري 9/44، مرجع سابق .(1/229)
المطلب الرابع: إيرادٌ على ما سبق ودفعه .
المطلب الخامس: المقتضى المنهجي لحديث المعارضة .
المطلب الأول: متن الحديث برواياته المختلفة:
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل - عليه السلام - ،وكان جبريل - عليه السلام - يلقاه كل ليلة في [وفي لفظ من] رمضان، حتى ينسلخ، [كان يلقاه في كل سنة في رمضان] (1) ، يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) القرآن،[فيدارسه القرآن] (3) ،فإذا لقيه جبريل - عليه السلام - كان أجود بالخير من الريح المرسلة[وروي أبو هريرة وفاطمة -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل كان يعارضه القرآن] (4) ، ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث:لا يسأل شيئاً إلا أعطاه (5) . وحديث فاطمة الذي أشار إليه البخاري هو ما روته عائشة -رضي الله تعالى عنها-
__________
(1) صحيح مسلم 4/1803، مرجع سابق .
(2) ومثل هذا التصريح في مسلم 4/1803، وعند أحمد 1/230، مرجع سابق: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض الكتاب على جبريل - عليه السلام - في كل رمضان، فإذا أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلة التي يعرض فيها ما يعرض ... .
(3) ما بين الأقواس ألفاظٌ أخرى للبخاري .
(4) صحيح البخاري 3/1177، مرجع سابق .
(5) مسند الإمام أحمد 1/326، مرجع سابق .(1/230)
قالت: إنا كنا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده جميعاً، لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة -عليها السلام-تمشي، ولا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رآها رحب وقال:مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم سارها فبكت بكاء شديداً، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسر من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتها: عم سارك؟، قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سره .فلما تُوفي، قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني . قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني (أن جبريل - عليه السلام - كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله، واصبري، فإني نعم السلف أنا لك) قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جَزَعي سارني الثانية، قال: (يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أوسيدة نساء هذه الأمة) (1) .
المطلب الثاني: الدلالات العامة لحديث المعارضة:
والدلالات المأخوذة من هذا الحديث هي:
__________
(1) صحيح البخاري، 5/2317، مرجع سابق .(1/231)
1- اعتماد مبدأ المدارسة في مفردات التعليم المنهجي لألفاظ القرآن الكريم: فقد تنوعت روايات الحديث في وصف هذا الموقف التعليمي بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوصفه بعضها بأنه (مدارسة)، وبعضها بأنه (معارضة)، وبعضها (يعرض عليه القرآن)، وبعضها أبهم الفاعل، وصرَّح البعض بأن الفاعل للعرض هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والبعض أن الذي كان يعرض هو جبريل - عليه السلام - ومنه استنباط الإمام النسائي: أن جبريل - عليه السلام - هو الذي كان يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما أشار إليه البخاري في قوله: وروى أبو هريرة وفاطمة -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل - عليه السلام - كان يعارضه القرآن ... وهذه الأوصاف مستلزمةٌ سبرَ معانيها اللغوية والاصطلاحية، للتمكن من تحليل هذا الموقف التعليمي المتميز، والخروج بنتائج حقيقيةٍ تترتب عليه .
ومن ذلك:(1/232)
أ- أن المدارسة تستلزم الفقه الدقيق، ولا بد من أن يُجْمَع ذاك إلى حسن المعنى وتركيزه، صحةَ اللفظ وعذوبته وقوته، كما جاء عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة ابن جابر: (ألا أخبركم عن من صحبت؟! صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله، ولا أحسن مدارسةً منه ... ) (1) . فليس المعنى فقط هو المعتبر في المدارسة، وظاهرٌ أنه لا يستطاع الوصول إليه إلا عبر اللفظ، فإن كان هذا اللفظ هو كلام الله - عز وجل - كان من البدهي أن لكل حرفٍ فيه دلالته التي لا يقوم غيره فيها مقامه ... .
ب- والمدارسة الرمضانية هي الأساس الشرعي المنهجي للعرضة الثانية، والثالثة للقرآن الكريم من الطالب على شيخه ... كما هو معمول به عند المسلمين، تدقيقاً للفظ وتأكيداً للحفظ، وتثبتاً من الأداء .
__________
(1) (المزي) أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن ت 742 هـ: تهذيب الكمال 23/472، مراجعة: بشار عواد معروف، 1400هـ -1980م، مؤسسة الرسالة -بيروت، وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير 7/ 175، ومما يلزم إضافته في سياق تقرير المعنى المشار إليه: أن قبيصة قد تأثر بصحبة هؤلاء الأساتذة، فكان كما قال عبد الملك ابن عمير إذا ذكر الفصحاء: "فصحاء الناس ثلاثة: الحسن البصري، وموسى بن طلحة القرشي، وقبيصة بن جابر الأسدي ... " تهذيب الكمال 23/472، مرجع سابق .(1/233)
2- التأكيد على الحفظ في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ليس بعده: والمراد بذلك مقتضياته التعليمية في حق الأمة، ذلك أن الله قد تكفل بإقراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على هيئة قراءة جبريل - عليه السلام - لفظاً وأداء أولاً، ثم تكفل بعدم نِسِّيه من صدره ثانياً، ثم بحفظ كتابه ثالثاً ... وعلى الرغم من ذلك فقد كانت المعارضة السنوية للقرآن الكريم تأخذ مجراها الدوري، مع جملة تأكيدات فيها على غايتها وفحواها (1) ، كتكرار المعارضة مرتين في العام الذي توفي فيه، واستمرارها في كل ليلة من شهر رمضان مع أنه كان يمكن الاكتفاء ببعض المجالس سواء كرر جميع القرآن كل ليلة، أو فرقه على الليالي وهو الأظهر وهو ما أكده الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث حيث قال: "واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار؛إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفُعِلا، فإن اعتُرض بأن المقصود تجويد الحفظ، قلنا: الحفظ كان حاصلاً، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس " (2) .
__________
(1) ولذا قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم، وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ، وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم، لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية ".
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري 31/1، مرجع سابق .(1/234)
... وهل للاعتكاف علاقة بعرض القرآن ؟ ذاك ما لا يمكن نفيه أو إثباته، ولكن العلاقة طردية بين الاعتكاف وعرض القرآن (1) ، ومتضَمَّن الاعتكاف الذي يجعل تلاوة القرآن من أساساته، والانقطاع لله - عز وجل - من أوصافه الذاتية (2) ... قد يوحيان بهذه العلاقة .
__________
(1) حيث كان يعرض القرآن مرة، ويعتكف عشرة أيام، فلما عرضه مرتين اعتكف عشرين يوماً ... ولقائلٍ أن يقول: ليست هذه العلاقة مؤثرة، بل اتفق الاطراد لعارض .
(2) حتى أن اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تصاحبه شدةٌ في التبتل، قال ابن حجر-رحمه الله تعالى-في الفتح 4/285، مرجع سابق: "وقد روى ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول:عجباً للمسلمين ، تركوا الاعتكاف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله "، وقال مالك: " أنه لم يعلم أن أحداً من السلف اعتكف إلا أبا بكر بن عبد الرحمن، وأن تركهم لذلك لما فيه من الشدة" .(1/235)
3- تأكيد المعارضة السنوية، وتعويضها عند فواتها لعارض: فقد اختلف في سبب معارضته - صلى الله عليه وسلم - مرتين في العام الذي توفي بعده، ولا شك أن مجرد العلم الإلهي بوفاته سبب كافٍ في التأكيد على أصل أصول الدين، ويجعل ذلك كالمقطوع به استنباطه - صلى الله عليه وسلم - حيث قالت ابنته فاطمة: (أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة وإنه قد عارضني به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب)، لكن هذا لا يفسر اعتكافه مرتين على المستوى ذاته من القوة ... وقد عرض ابن حجر-رحمه الله تعالى- اختلاف العلماء في سبب اعتكافه في العام الذي توفي بعده عشرين يوماً فقال: "قيل: السبب في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - علم بانقضاء أجله، فأراد أن يستكثر من أعمال الخير؛ ليبين لأمته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمل ليلقوا الله - عز وجل - على خير أحوالهم (1) ، وقيل: السبب فيه أن جبريل - عليه السلام - كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة، فلما كان العام الذي قُبِضَ فيه عارضه به مرتين؛ فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين، ويؤيده أن عند ابن ماجة: (وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرةً، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين) (2) ،
__________
(1) يُضَعِّف هذا أنه أخبر عن نفسه بعدم العلم باقتراب أجله إلا بعد أن رأى جبريل - عليه السلام - عارضه القرآن مرتين، وذاك كائنٌ في منتهى رمضان فكذلك الاعتكاف فيقوى من هنا أن يكون للاعتكاف علاقة في معارضة القرآن، ولكن يقوي الاستنباط الأول النعي العام له - صلى الله عليه وسلم - في سورة النصر وكانت بعد فتح مكة، فلقائل ذاك القول أن يقول: استكثر من الخير بعدما نزلت عليه هذه السورة ومن ذلك الاعتكاف، وأما المعارضة فكانت تحديداً أدق من النعي العام .
(2) سنن ابن ماجة 2/345، مرجع سابق ..(1/236)
وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون سببُ ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه، واعتكف بدله عشراً من شوال –اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقق قضاء العشر في رمضان انتهى، وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين لأنه كان العام الذي قبله مسافراً، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي وللفظ له وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من حديث بن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عاماً فلم يعتكف فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين، وقال في موضع آخر: ويحتمل أيضاً أن يكون السر في ذلك أن رمضان من السنة الأولى لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان ثم فتر الوحي، ثم تتابع، فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة مرتين ليستوي عدد السنين والعرض، ويحتمل تعدد هذه القصة بتعدد السبب، فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السفر، ومرة بسبب عرض القرآن مرتين" (1) .
وقد ظهر أن من بين الأقوال الخمسة المذكورة في التعليل لاعتكافه عشرين يوماً قولان يرجعان إلى علاقة الاعتكاف بالقرآن الكريم .
وهل كانت المعارضة تتم قبل أن يُفرض صيام رمضان ؟ الظاهر من قول ابن عباس - رضي الله عنه - : (وكان جبريل - عليه السلام - يلقاه كل ليلةٍ في رمضان حتى ينسلخ [كان يلقاه في كل سنة في رمضان]) (2) –أن المعارضة كانت تتم في كل رمضان حتى قبل أن يفرض صيامه، ويقوي ذلك رواية (من)؛ فإن (من) هاهنا إما لابتداء الغاية الزمانية على قول من يجيزها أي من ابتداء شهر رمضان فيه بعد نبوته إلى آخر رمضان قبل وفاته، وفيه إدماج معنى الحرفين في التقدير، أو أن (من) لبيان الجنس فيصدق على جميع رمضانات النبوة (3) .
__________
(1) فتح الباري 4/285، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم4/1803، مرجع سابق .
(3) انظر: في معاني (من): مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/319، مرجع سابق .(1/237)
قال ابن حجر-رحمه الله تعالى-: "وهذا ظاهرٌ في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن، ولا يختص ذلك برمضانات الهجرة، وإن كان صيام شهر رمضان إنما فُرِض بعد الهجرة؛ لأنه كان يسمى رمضان قبل أن يفرض صيامه" (1) .
4- التركيز في عنصر الوقت لتثبيت ومراجعة لفظ القرآن الكريم: وذلك باعتماد الدرس الليلي: إذ كانت المعارضة تتم ليلاً، ليتم الوصول إلى الكمال في الإحاطة بالدرس القرآني إذ يتم حفظ، أو مراجعة ما يراد تثبيته من الليل، ثم يعقبه نومٌ، ثم تجري مراجعته سحراً أو بكرة؛ لأنه إذا تساوى زمن الحفظ واليقظة بين التعلم والتذكر؛ فإن زمن النوم أقل ضرراً على الحفظ من زمن اليقظة؛ لعدم التعرض لخبراتٍ جديدة خلال النوم يحصل بسببها النسيان؛ فإن النسيان إنما يحدث من جراء حصول خبراتٍ جديدة، يفسح لها الدماغ مجالاً، فيطمس أشياء قبلها (2) ، ولذا قال ابن حجر-رحمه الله تعالى: "اختيار الليل لأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم، لأن الليل مظنة ذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية". وقد مر نحو هذا في فوائد آيات المزمل (3) .
5- التركيز في عنصر الوقت:اعتماد رمضان زماناً للمعارضة، ولا يخفى مدى ملاءمة ذلك .
__________
(1) فتح الباري 4/285، مرجع سابق .
(2) المهارات الدراسية ص124 بواسطة: مقال ظاهرة النسيان، مجلة البيان، عدد 105، مرجع سابق .
(3) تكرر في أكثر من موضع ، انظر (مثلاً): ص172 من هذا البحث .(1/238)
6- التركيز في عنصر الوقت: تعويض المعارضة عند فواتها لعارض: وتقدم (1) ، وتجدر الإشارة إلى استبعاد الغرض التعبدي المحض من تعويض المعارضة؛ لأن الأجر يُكْتَبُ لدائم العمل إن حجب عنه لعارضٍ معتبرٍ كسفرٍ أو مرض على ما تقرر في التقعيد الأصولي (2) ، فقد ثبت النص بذلك فعن أبي بردة –واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة- في سفرٍ، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: سمعت أبا موسى-يعني أباه هو الأشعري - رضي الله عنه - مراراً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً) (3) .
وكل ما سبق يجعل الحكم بإلزامية المراجعة السنوية على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً بالغ الوضوح .
ويجب إبراز ملاحظةٍ هي: أن ما تفرع عما تقرر أعلاه من تعويض المعارضة تأسس على تحتم المراجعة عليه - صلى الله عليه وسلم - ، ولقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّمُ تعويض المعارضة، بل ما يُحْجَبُ جبريل - عليه السلام - عن معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في سفره، وكونه لم يُنْقَل فلأن عدم العلم ليس علماً بالعدم، ويكفي قرائن الأحوال الأخرى، أما المعارضة مرتين في آخر رمضان فتأكيداً على القرآن الكريم لا للتعويض، وهو الذي يظهر من الحديث .
7- تثبيت الحفظ بالعمل، والعبادات التي تباركه: ويُلْمَحُ هذا من الحالة النفسية التي تتعاظم عندها الطاعة بعد تلقي القرآن الكريم أو مدارسته مع جبريل - عليه السلام - ، وتلك مسألةٌ واضحةٌ في نص الحديث:
في زيادة الإنفاق من حيث الشكر،
وقيام الليل من حيث المراجعة والذكر،
__________
(1) انظر ص174 من هذا البحث .
(2) انظر: الموافقات 1/342، مرجع سابق .
(3) صحيح البخاري 3/1092، مرجع سابق .(1/239)
وتمام القول أن خلقه القرآن، وذاك كافٍ في الإقامة عليه، والحفاظ على نصه؛ إذ قد استحالت الألفاظ بمعانيها إلى جسدٍ متحرك، قال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في شرح هذا الحديث:"قيل الحكمة فيه: أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات، لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر متابعة سنة الله في عباده فبمجموع ما ذكر من الوقت، والمنزول به، والنازل، والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عن الله تعالى" (1) .
ففي هذا الحديث أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير (2) .
المطلب الثالث: متضَمَّنات المعارضة: تتضمن المعارضة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - المفاهيم التالية:
1- الإراءة: إذ: "عرض الشيء عليه يعرضه عرضةً أراه إياه" (3) ... فعَرْضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن على جبريل - عليه السلام - يتضمن نظر جبريل - عليه السلام - في لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدائه تصويباً، وتفهيماً، وتعبداً، وعرض جبريل - عليه السلام - يتضمن نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في لفظ جبريل - عليه السلام - تعلماً، وتفهماً، وتعبداً، إذ كلٌ منهما يُرِي الآخر لفظه، وأداءه، ويحتمل أيضاً: ومعناه، ولذا جاء في مادة عرض: "وعرضت الكتاب، وعرضت الجند عرض العين إذا أمررتهم عليك، ونظرت في حالهم" (4) .
__________
(1) فتح الباري 1/31، مرجع سابق .
(2) انظر: فتح الباري 1/46، مرجع سابق .
(3) لسان العرب 9/137، مرجع سابق .
(4) لسان العرب 9/138، مرجع سابق .(1/240)
2- المقابلة: من قولهم عارض الكتاب بالكتاب قابله به (1) ، ويشترط أن يكون ثَمَّ أصلٌ مقابَلٌ عليه، وفرعٌ مقابَلٌ به، فيظهر من ذلك أرقى ما يمكن أن يصل إليه التدقيق، مما هو خارجٌ عن نطاق البشر في مقابلة حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما أُمِر جبريل - عليه السلام - بحفظه من ربه، وأهم صفةٍ ذاتيةٍ لجبريل - عليه السلام - عند نزوله من السماء أنه ما ينزله ربه - سبحانه وتعالى - إلا بالحق (2) .
__________
(1) مختار الصحاح ص270، مرجع سابق، النهاية في غريب الأثر 3/133، مرجع سابق
(2) من قوله - عز وجل - { مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } "الحجر/8"، بل إن مجرد النزول لا يكون إلا بأمر من الله، لقوله: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } "مريم/64"، وليس للملك الاجتهاد في إنشاء أمر، أو تنفيذه كما في قوله - عز وجل - : { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } "الأنبياء /27"، فالحق صفة ذاتية في النزول والنازل والمنزَل به، فلا مس من باطل يعتريه، ولا اجتهاد من مخلوق يأتيه .(1/241)
3- الظهور: ففي مختار الصحاح: "عرض له كذا أي ظهر، وعرضته له أظهرته له وأبرزته إليه" (1) ... فإظهار القرآن، وإبرازه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - ، والعكس يعني إظهار ألفاظ القرآن لفظاً لفظاً من الشيخ لتلميذه ومن التلميذ على (2) شيخه، ويؤكد هذا العرض الدقيق ما جاء في معنى مادة عرض: "عرض الجند إذا أمرهم عليه ونظر في حالهم" (3) ، وهذه غايةٌ في الدقة في وصف تثبيت ألفاظ القرآن الكريم في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يَرِدُ على هذا التقرير احتمالية أن يكون ما كان يعرضه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو ما كان يعرض عليه هو معاني القرآن وأمور الشريعة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لقيل يعرض عليه الشريعة أو نحوها من العبارات، ولا يخصص القرآن بالذكر .
فإن اعتُرض بأن: القرآن هو الشريعة كلها نصاً أو تضمناً، فعبر به في الحديث عنها، فالمعروض هو أحكام الشريعة لا ألفاظ القرآن .
فالجواب: الدليل صحيحٌ، والاستدلال غير صحيحٍ؛ لأن تخصيص القرآن بالذكر في جميع الروايات يدل على اقتصار الكلام عليه، ولو أراد الكلام عن الشريعة أو الدين ونحوها لما عدل عن لفظها أو ما يدل عليه كما في قوله - عز وجل - { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ... } "الجاثية /18"، وكما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم)، لم يقل قرآنكم ... فتقرر بهذا أنه أراد لفظ القرآن بخصوص مفهومه .
ويمكن القول على طريقة السبر والتقسيم الأصولية:
__________
(1) مختار الصحاح 178، مرجع سابق .
(2) تضمن الفعل إظهار الطالب ما عنده معنى التصويب على ما عند الشيخ، لذا عُديَ فعُدي بـ(على) .
(3) لسان العرب 9/138، مرجع سابق .(1/242)
إما أن يكون المعروض هو ألفاظ القرآن، وإما معانيه، وإما شيءٌ آخر، ولا جائزٌ أن يكون شيئاً آخر، لأن الكلام على القرآن، ولا جائزٌ أن يكون معاني القرآن لأنه لا يطلق عليها قرآنٌ عُرْفاً، فتعين أن المعروض هو ألفاظ القرآن .
فإن اعتُرض بالقول: فهل معنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرض معانيه على جبريل - عليه السلام - ؟ .
فالجواب: بل يحتمل أنه كان يعرضها، ولكن دلالة الحديث على عرضها بالتبع أو بالإشارة، لا بالقصد الأصلي ... ولقد تمسك المسلمون بذلك في ظاهرة مذهلة تقدم التواتر العملي والعلمي المفيد للعلم الضروري في أن المعروض كان في المقام الأول هو ألفاظ القرآن (1) ، وذلك كتمسكهم بشعائر الإسلام الضرورية كرمي الجمار على الرغم من آحادية نصوصها ... فتقرر أن المعروض هو ألفاظ القرآن، وذاك مؤشرٌ على مقدار الحراسة التي كانت تحف ألفاظه .
فإن اعتُرض بأن: المعروض إنما هو القرآن من حيث النسخ وعدمه (2) ويقويه حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، فالجواب: ذاك بعض المعروض لا كله عند التنزل في إثباته ... وإلا فمن ذا يعقل أن يعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - آياتٍ مبتورةً على جبريل - عليه السلام - هي الناسخة، دون عرض مواضعها وسورها ؟ على أن تصريح الصحابة، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض القرآن مرتين في العام الذي توفي بعده واضح في عرضه القرآن كله لا بعضه من أوله إلى آخره ... ولا يعرف للعرض معنى غير هذا عند إطلاقه، وأجيال المسلمين تتوارث هذا المعنى فهماً وتطبيقاً، ولينبئهم بعلمٍ زاعمٌ غير ذلك .
__________
(1) ويمكنك استخدام أسلوب الأصوليين: تخريج المناط ثم تنقيحه للوصول إلى هذه النتيجة .
(2) على قول من يثبت النسخ .(1/243)
4- العَرَضية اللفظية: إذ إن استخدام لفظة يعرض في أغلب الروايات عند الراوي الواصف لما حدث، ثم مجيئها على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) دالٌ على فحواها، وهو عرض الألفاظ واستعراضها، ومعلومٌ أن العرض ضد الطول (2) ... فهل يكون أثر إيقاع هذه اللفظة الدقيقة الوصف إلا عرض الألفاظ واحداً واحداً، واقتضاء لفظة العرض سبر الجوانب الداخلية في اللفظة أداءٌ ومعنى ؟ .
فيعرض "من العرض وهو بفتح العين وسكون الراء، أي يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه" (3) بل قد صرح بعض شراح الحديث أثناء شرحهم لحديث المعالجة بأن العرضية تشمل الحروف حرفاً حرفاً، قال السندي –رحمه الله تعالى-:" يحرك شفتيه أي لكل حرفٍ عقب سماعه من جبريل - عليه السلام - " (4) .
__________
(1) راجع متن الحديث في المطلب الأول من هذا المبحث ص177.
(2) لسان العرب 9/137، مرجع سابق، مختار الصحاح 178، مرجع سابق، وفيه: "وعَرَضَ الشيء فأَعْرَضَ، أي أظهره فظهرن فهو كقولهم كبَّه فأكبَّ، وهو من النوادر وقوله - عز وجل - { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ... } "الكهف/ 100" أي أبرزناها حتى نظروا إليها، فأعْرَضَتْ هي أي استبانت وظهرت، ورآه في عُرْض الناس أيضاً أي فيما بينهم، وفلانٌ من عُرْض الناس أي من العامة، وفلان عُرْضَةٌ للناس أي لا يزالون يقعون فيه، وجعلت فلاناً عرضة لكذا أي نصبته له، وقوله - سبحانه وتعالى - { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ... } "البقرة/224" أي نصباً، ونظر إليه من عُرْضٍ" وهذا كله مقررٌ مبدأ (العرضية اللفظية)، والقصد من استخدام هذه اللفظة لبيان جعل ألفاظ القرآن عرضة للمقابلة والإظهار في (عُرْض) الألفاظ أي فيما بينها من (عُرْض) الألفاظ أي من عامتها .
(3) فتح الباري 9/43، مرجع سابق .
(4) حاشية السندي 2/34، مرجع سابق .(1/244)
ولا يُعترض بأن هذه بديهة! وتحصيل حاصل، إذ لا يمكن عرض الألفاظ دون حروفها؛ لأن التصريح بمتابعة الحروف دليلٌ على شدة الاعتناء بها، وفيه ردٌ على زاعمٍ التكلف في حق من يخوض غمار علم الصوتيات، على أنه قد يُعْنى بالحرف غير ذلك، وهو اللفظ فيدخل ما ذكر ضمناً .
... ومما جاء دالاً على أن لفظة (يعرض) تتضمن سبر الجوانب الداخلية قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لئن كنت أقصرت الخطبة، فقد أعرضت المسألة) (1) . قال ابن منظور: "أي جئت بالمسألة واسعةً كبيرةً" (2) ، وذاك بما تضمنته جوانبها الداخلية من معنى، ولذا يقال فيمن يطيل العبارات أي الألفاظ الخارجية: أطلت الخطبة، ولا يقال أعرضت ... .
__________
(1) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 2/98، مرجع سابق: عن البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه - قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! علمني عملاً يدخلني الجنة . قال: (لئن كنت أقصرت الخطبة، فقد أعرضت المسألة: أعتق النسمة، وفك الرقبة) قال: أو ليستا بواحدة ؟ قال: (لا عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعطي في ثمنها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم القاطع، فإن لم تطق ذاك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، ومر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من خير).
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على ابن حبان: إسناده صحيح، وهو في مستدرك الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي في التلخيص(لمستدرك الحاكم): صحيح .
(2) لسان العرب 9/137، مرجع سابق، وفي النهاية 3/ 323: "ومنه الحديث (فإذا عُرْضُ وجْهِه مُنْسَح) أي جانِبُه" .(1/245)
فإن اعتُرض بالقول: ذاك ما نبغ! فالمعروض-على ذلك-هو المعنى لا اللفظ، فالجواب: أما تنزلاً فليس أحدهما بأجلى من الآخر في الدخول الأولي في اللفظة، وأما حقيقةٌ فإن دخول الأداء الداخلي للفظ أقرب، وأسرع تبادراً إلى الذهن (1) من دخول المعنى في العرض، وهو المستخدم اصطلاحاً في سائر العلوم، وهذا من نوادر اصطلاحات العلوم الإسلامية، وقد قال ابن الأثير في معنى حديث جبريل - عليه السلام - :" أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن، من المعارضة المقابلة " (2) .
وما أسهل تصور هذا لكل مسلم يقرأ القرآن الكريم؛ إذ ما زال عرض الألفاظ القرآنية هو لب عملية تعليم القرآن الكريم تتواتر بالمعنى الاصطلاحي واللغوي في جميع الأمصار كما هي في سائر الأعصار (3) .
__________
(1) فمن اشتقاقات عرض كما في مختار الصحاح ص178، مرجع سابق: "والعِرْضُ أيضا الجسد، وفي صفة أهل الجنة (إنما هو عَرَقٌ يسيل من أَعْرَاضِهم) أي من أجسادهم" وقد سمى المناطقة وعلماء الكلام العرض في مقابلة الجوهر، وهذا قريبٌ في مقارنته باللفظ والمعنى .
(2) النهاية في غريب الأثر 3/324، مرجع سابق .
(3) قال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في فوائد عرض القرآن في رمضان بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - :"وفي ذلك حكمتان: إحداهما تعاهده، والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفاً لإنزاله جملة وتفصيلاً وعرضاً وأحكاماً".(1/246)
5- المعارضة هي الغاية في تحقيق اللفظ والتثبت منه: فالعرض هو قراءة التلميذ على شيخه، ويقابله السماع وهو قراءة الشيخ وسماع تلميذه منه، وقد يستعمل أحدهما في معنى الآخر، والقراءة أعم منهما، ولذا بوب البخاري:"باب القراءة والعرض على المحدث" (1) ... قال ابن حجر:" إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص، لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة؛ لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه، أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة " ... (2) ، وهذا معناه بالمفهوم الحديثي، ولا بد فيه من القراءة، فلا تسمى المناولة (3) عرضاً إلا تقييداً .
وقد ذكر العلماء الاختلاف بين العرض والسماع من حيث الأفضلية في التحقيق العلمي للنص: على ثلاثة أقوال:
الأول وهو المشهور: الذي عليه الجمهور أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبةً من القراءة عليه ما لم يعرض عارضٌ يصير القراءة عليه أولى، ومن ثم كان السماع من لفظه في الإملاء أرفع الدرجات لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب .
والثاني: القراءة على الشيخ أرفع من السماع من لفظه، ونقله الدارقطني في غرائب مالك عنه، ونقله الخطيب بأسانيد صحيحة عن شعبة وابن أبي ذئب وغيرهما، واعللوا ذلك: بأن الشيخ لو سها لم يتهيأ للطالب الرد عليه، وعن أبي عبيد قال: القراءة علي أثبت وأفهم لي من أن أتولى القراءة أنا (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 1/60، مرجع سابق .
(2) فتح الباري 1/150، مرجع سابق .
(3) هي أن يناول الشيخ كتابه الأصل لطالبه، ويجيزه فيه...على تفصيلٍ في ذلك، انظر: فتح الباري 1/150، مرجع سابق، تدريب الراوي 2/170، مرجع سابق .
(4) انظر: فتح الباري 1/135، مرجع سابق .(1/247)
والثالث: وهو المعروف عن مالك وعن سفيان الثوري: كلاهما سواء، وروى البخاري معلقاً عن الحسن البصري: "ما أبالي قرأت عليك، أو قرأت علي" (1) .
وهذا كله في الحديث، وأما القرآن فإن قراءة الطالب على شيخه (العرض) هو الأصل، وهو المعروف عن السلف كما هو المعمول به إلى الآن، ولذا احتج مالك على من لم يُجْز العرض في الحديث بجوازه في تلاوة القرآن "فيما رواه الخطيب في الكفاية من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكاً، وسئل عن الكتب التي تعرض عليه: أيقول الرجل حدثني ؟ قال: (نعم! كذلك القرآن، أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان؟)، وروى الحاكم في علوم الحديث من طريق مطرف قال: صحبت مالكاً سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ الموطأ على أحد، بل يقرأون عليه -قال-: وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول: لا يجزيه إلا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزيك هذا في الحديث، ويجزيك في القرآن، والقرآن أعظم ؟" (2) .
وأما معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن على جبريل - عليه السلام - فقد اتسمت بسمتين:
السمة الأولى: أنها أتت بعد خطوات الحفظ التي أولها خطوات التلقين ... والمقتضى المنهجي لذلك جعل المعارضة مرتبة تالية للمتقنين لتأكيد الحفظ، وتثبيت مخارج الحروف، والتأكد من وجوه الأداء، وبقاء كل ذلك على الدوام دون تطرق خللٍ له بفعل الأمد، فالمعارضة هي غاية التحقيق .
والسمة الثانية: أنها جمعت بين السماع والعرض، فأزالت قوادح كل طريقةٍ على حدة:
أما العرض (من النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبريل - عليه السلام - عرض الطالب على شيخه) : فقد جاء في رواية البخاري: (يعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وعليها أغلب الروايات .
__________
(1) الأثر: رواه البخاري 1/ 35، وانظر: فتح الباري 1/150، مرجع سابق .
(2) انظر: فتح الباري 1/152، مرجع سابق .(1/248)
وأما السماع (من النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - سماع الطالب لشيخه) : فقد جاءت بقية الروايات مبهمة فاحتملت العرض والسماع، وتأكد ذلك بروايات المفاعلة (يعارض، يدارس ونحوها)، والمفاعلة لا تكون إلا من طرفين غالباً (1) ، ووردت روايات مصرحة بالسماع، منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (كان يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عامٍ مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه) (2) .
ويزيد الأمر تأكيداً أن القراء والمحدثين لا يستخدمون إلا لفظ (يعرض) للتعبير عن المراد لتصل أعلى درجات الاحتياط في نقل ألفاظ القرآن الكريم، وذا ما فهمه الإمام النسائي فبوب في سننه الكبرى: "باب عرض جبريل - عليه السلام - القرآن" (3) ، ومن قبله الإمام
__________
(1) وقد تستخدم في فاعل واحد مثل عاقب وداوى وسافر ... ولكن هذا استثناء، وذاك أصل .
(2) صحيح البخاري 4/1911، مرجع سابق، وعند الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري بلفظ: "كان جبريل - عليه السلام - يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في كل رمضان".
(3) ورواية صحيح ابن خزيمة 3/ 193، مرجع سابق، فيها إجمال يؤيد هذا الاستنتاج، ففيها: (يأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن)، ... فيستأنس بذلك على المطلوب، ويصير هذا في حيز الثبات بحديث عائشة -رضي الله تعالى عنها -عن فاطمة في المعارضة، حيث قالت: (إن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به مرتين) قال ابن حجر-رحمه الله تعالى- في فتح الباري (9/ 43): "والمعارضة مفاعلة من الجانبين، كأن كلاً منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع" .(1/249)
البخاري حيث بوب: "باب كان جبريل - عليه السلام - يعرض القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1) .
... وينبغي أن يلاحظ أنه لم يوجد مثل هذا (العرض أكثر من مرة) في الأساليب العلمية التعليمية التي تتبع في ديار المسلمين إلا في خصوص مادة القرآن الكريم، وكان ذلك مقتضى منهجياً من مقتضيات هذه الطريقة التي اتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعلمه على يد جبريل - عليه السلام - ، ووجودها في بقية العلوم الشرعية مقارنة بالقرآن الكريم في حكم النادر .
6- عرض القرآن بالحروف المأذون بالقراءة بها (2) :
__________
(1) صحيح البخاري 4/1911، مرجع سابق، وهو ما رجحه ابن حجر-رحمه الله تعالى-فقال: "فيحمل على أن كلاً منهما كان يعرض على الآخر".
(2) لا يمكن لنطاق البحث أن يتوسع في شرح مدلول حديث الأحرف السبعة؛ ولكن يقال على سبيل الإجمال: محصِّل ما ورد في هذا الموضوع من أقوال يرجع إلى: أن المراد من الأحرف السبعة من حيث العموم ومراد الحديث، لا من حيث التحديد هو "ما يشمل اختلاف اللهجات، وتباين مستويات الأداء الناشئة عن اختلاف الألسن، وتفاوت التعليم، وكذلك ما يشمل اختلاف بعض الألفاظ، وترتيب الجمل، بما لا يتغير به المعنى المراد "، أو يتغير المعنى بما لا يتضاد به المعنيان الواردان في القراءتين، ويكون الجميع مراداً، دون تكرار للآية، أو تطويلٍ للمصحف، وفي ذلك تيسير ظاهر، "وهذا دون محاولة حصر تلك الوجوه في سبع لغات، أو وجوه من الخلاف، ويظل معنى الحديث بعد ذلك يشير إلى الرخصة التي جاءت تيسيراً وحلاً لمشكلة واجهت الجماعة المسلمة، دون تحديد لأبعاد تلك الرخصة، لكنها لا تخرج عن إطار وجوه القراءات المروية " .
وما بين علامتي التنصيص الأوليين هو من كلام الدكتور عبد الصبور شاهين، انظر: تاريخ القرآن 61، دار القلم 1966م، وما بين علامتي التنصيص الأُخريين هو من كلام غانم قدوري الحمد، انظر: رسم المصحف 144، مرجع سابق، وانظر أيضاً: (الباقلاني) محمد بن الطيب ت 403هـ: نُكت الانتصار لنقل القرآن، تحقيق د. محمد زغلول سلام، الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية، الطبعة بدون لكل ما سبق .(1/250)
إذ قد حُسِمَ أمر عرضه للقرآن كله (لكل ما نزل منه) في كل رمضان بحديث العرضتين الثابت عن ابن عباس، وفاطمة، وأبي هريرة - رضي الله عنه - رضي الله تعالى عنهم، وفي ذلك دلالة على أمرين:
... أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض كل ما نزل، وأنه كان يقسم ذلك العروض على ليالي رمضان (1) ، ويدل لذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقرأني جبريل على حرف فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف) (2) .
كما لم تُبْقِ روايات العرض مجالاً لما احتمله ابن حجر-رحمه الله تعالى- (3) من أن العرض محتملٌ أن يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان؛ إن أراد به أنه لا يقرأ إلا ما نزل في تلك السنة، أما إن أراد به أنه يخصص لكل ما نزل ليلة فذاك أبعد من حيث زيادة عدد الليالي على عدد سنوات النزول، ومن حيث أن أهداف العرض تأكيد تأليف آياته على ما أراد الله - سبحانه وتعالى - ، لا على ترتيب نزولها، وهما مختلفان كما هو معلوم ... فيظل احتمالاً بعيداً، وإن افترض ... وبذا يُحْسَمُ أمر عرضه - صلى الله عليه وسلم - لكل ما نزل من القرآن (4) .
__________
(1) وقد صرح ابن حجر-رحمه الله تعالى- ببعض ذلك في فتح الباري 9/45، مرجع سابق، فقال: "ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة، وفي السنة الأخيرة مرتين -لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة، ثم يعيده في بقية الليالي".
(2) البخاري 3/1177، مرجع سابق .
(3) فتح الباري 9/45، مرجع سابق .
(4) لم يتكلم الباحث عن العرضة الأخيرة كلاماً مستقلاً؛ لاستحقاقها تأليفاً مستقلاً في حقيقتها، وإثبات بعض أحكام الألفاظ بها، وخطورة بناء حكم عليها، وذلك مُخْرِجٌ البحث عن مرامه، وإنما وردت الإشارة إليها في ثنايا الكلام .(1/251)
... وبقي أمر عرضه القرآن بجميع حروفه المأذون في القراءة بها فهل كانت العرضة كذلك؟ والجواب: لا نص في ذلك، بيد أن المؤشرات العامة تجعل ذلك محتمَلاً احتمالاً راجحاً، لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقول للمختلفين في القراءة: ( أقرأني جبريل) (1) ، أو (هكذا أُنزلت) (2) قال ابن حجر-رحمه الله تعالى-: "ولعله كان يعيد ذلك الجزء مراراً، بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها، ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر" (3) .
المطلب الرابع: إيرادٌ على ما سبق ودفعه:
__________
(1) رواه البخاري 4/ 1909،و3/1177، مرجع سابق .
(2) رواه البخاري4/2340، مرجع سابق .
(3) في فتح الباري 9/45، مرجع سابق .(1/252)
وقد يعترض معترضٌ بأن ما سبق مما يُفهم منه تفخيم الاعتناء باللفظ ينافي ما رواه الإمام مالك عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال لإنسان: "إنك في زمان كثيرٌ فقهاؤه، قليلٌ قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليلٌ من يسأل، كثيرٌ من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثيرٌ من يسأل، قليلٌ من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم" (1) ، وقد أورد أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله تعالى- هذا الأثر في معرض الاستدلال (2) .
والجواب من وجوه:
1. أن الشأن أولاً في صحة هذا الأثر من حيث السند، ثم من حيث المتن، فأما سنده فمنقطع حيث جاء في الموطأ:
وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود، فقد ضَعُفَ من حيث السند .
2. ومن حيث المتن -على فرض صحة السند واتصاله- فإن نكارة موضع الشاهد منها واضح؛ حيث لم تَرِد في بقية طرق الأثر، فقد ورد في موضعٍ آخر من الموطأ والمعجم الكبير دون موضع الشاهد، كما أنها فاسدةٌ معنى عند أخذها على ظاهرها؛ إذ كيف تحفظ حدود القرآن، وحروفه مضيعة.
__________
(1) (إمام دار الهجرة) أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي ت 179هـ: موطأ الإمام مالك 1/173، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربي، مصر، وقد جاء هذا الحديث مرفوعاً فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير 3/ 197، مرجع سابق، عن حزام بن حكيم بن حزام عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنكم قد أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير معطوه، قليل سؤاله، العمل فيه خيرٌ من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه، العلم فيه خير من العمل) .
(2) انظر: الموافقات 2/173، مرجع سابق .(1/253)
فإن اعتُرض بأن روح القرآن باقية -أي مقاصده الكلية- وإن ذهبت ألفاظه .
فالجواب: في إطلاق هذا القول نظر إن أطلقنا القول بضياع حروفه، وهل نعرف روحه دون تأكدنا من حروفه؟، فإن سُلِّم ذلك فمقاصده المزعوم بقاؤها حروفٌ في ذاتها فيعاد الكلام عليها جَذَعَةً .
على أن حروفه تلك:
إما أن تكون متغيرة، وإما أن تكون منعدمة وإما أن تكون قائمةً بالنفس، وإما أن تكون ثابتة:
فالأول: وهو ما كانت حروفه متغيرة لا يعتبر شرعاً صالحاً للبشر لعدم انضباطه، أو ظهور معالمه فضلاً عن أن يكون شرعاً إلهياً .
والثاني: وهو ما كانت حروفه منعدمةً، أو قائمةً بالنفس فلا يتعلق به حكم؛ لأنه معدوم .
والثالث: متعينٌ بعد ما سبق، وهو المراد .
ولو صح هذا الزعم القائل بأن"الألفاظ مجرد وسائل فلا تقدس في ذاتها، بل الأمر متجه إلى روح القرآن ومقاصده"، لصح أن يقال من بابٍ أولى: فلا داعي لتقديس جميع الوسائل العلمية والعملية في الحياة، فتعطل دراسة اللغة العربية للحجة ذاتها، ومثلها سائر علوم الوسائل، ولا يحتاج لدراسة العلوم الطبية؛ لأن المقصد شفاء المريض! ولا يُدْرَى كيف سيُشفى؟!، ولا داعي لاستخدام أداةٍ لارتقاء السقف؛ لأن الهدف الوصول إلى السقف؟!، ولا تدري كيف سيصل؟!، لتحدث -بعدُ- فوضى ضاربة في الحياة العلمية والعملية .(1/254)
3. عند التسليم بصحة موضع الاستشهاد في الحديث، فإن وضعه في موضعه الصحيح هو الحكمة ذاتها ... إذ إن مراد ابن مسعود - رضي الله عنه - منه ترك التعمق في السعي وراء الألفاظ، وحتمية إعطائها القدر المناسب لها دون إيغالٍ شاغلٍ بها عن المراد منها، والنهي عن التنطع، والتعمق ... والنهي عن الإيغال والغلو ليس خاصاً بالوسائل بل هو عام في كل شيء مقاصداً ووسائلاً ... وذا من بدهيات دلالات سبيل القصد، والوسطية في الشريعة، بل في سائر جوانب الحياة المختلفة (1) ... وهذا الفهم لمنطوق كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - هو ما نص على مثله السيوطي -رحمه الله تعالى- في تنوير الحوالك حيث قال: "(قليل قراؤه) أي الخالون من معرفة معانيه، والفقه فيه، (وتضيع حروفه) أي أن المحافظين على حدوده أكثر من المحافظين على التوسع في معرفة أنواع القراءات" (2) .
ومن الأدلة على أن الإمام أبا إسحاق الشاطبي -رحمه الله تعالى- لا يريد ما ذهب إليه هؤلاء، أنه قال -بعد- معدداً القواعد التي تنبني على الأصل الذي ذكره، وورد الاستدلال بكلام ابن مسعود - رضي الله عنه - ضمنه: "اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنةٌ لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه" (3) ، وهذا دالٌ على أن كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - ينبغي أن يُفهم في إطاره، فلا يتخذ مطية لهدم الشريعة التي هي أصل أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - ، ولذا فإنه كان يُقَعِّدُ لقراءته أقوى تقعيد، ويعتمد على أوثق الأسانيد وهو قوله: (أخذتها من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (4) .
__________
(1) انظر: الموافقات 2/120، مرجع سابق .
(2) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ص144، مرجع سابق .
(3) الموافقات2/176، مرجع سابق .
(4) المعجم الكبير للطبراني 3/ 197، مرجع سابق .(1/255)
ومن أحسن أدلة التوقيفية في أداء القرآن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ما أنا بقارئ)؛ إذ كررها ثلاثاً وبين أبو شامة –رحمه الله تعالى- بأن قوله أولاً (ما أنا بقارئ) دالٌ على الامتناع، وثانياً على الإخبار بالنفي المحض، وثالثاً على الاستفهام، "ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: (كيف أقرأ)، وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق: (ماذا اقرأ) وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي: (كيف أقرأ)، وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية" (1) .
المطلب الخامس: المقتضى المنهجي لدلالات حديث المعارضة، ومفردات تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم:
إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كُفي مؤنة الحفظ والمراجعة لتكفل الله - سبحانه وتعالى - له بذلك، على ما سبق في حديث المعالجة (2) ، فإن خطواته البشرية لتثبيت الحفظ، ودوام المراجعة، إن هي إلا إشاراتٌ واضحةٌ لتحويل مقتضاها إلى قواعد منهجية في الإحاطة بالدرس القرآني حفظاً، وتلاوةً، ومراجعةً، واستدعاءً، وبيان معنى، وعملاً، وصنيع البحث هنا مجرد الإشارة العابرة إلى بعض ذلك بغية الإثارة، والاستفزاز البحثي لمن يعتريه طيف التوهم في المفردات الشرعية الأساسية، أو يقذف الشيطان في قلبه وسواس الشك، لا التحليل والإطناب؛ إذ ليس مجال البحث ... وقد تقدم في المطالب الأربعة السابقة بعض المقتضيات المنهجية لدلالات الحديث، والأمر الجامع لها: أن يكون لحفظة القرآن معارضة سنوية للقرآن الكريم على مشايخهم، أو معارضة ثانية بعد ختم القرآن حفظاً على الأقل، وتزداد عدد مرات المعارضة بحسب حالة الطالب ... وتكون للمسلمين عموماً عرضة للقرآن الكريم نظراً أو غيباً عن ظهر قلب على شيخٍ متقن، وأفضل أوقات ذلك في رمضان ... مع ظهور التعبد والتبتل عند قراءة القرآن في العرضة ... خاصةً الإنفاق .
__________
(1) انظر: فتح الباري 1/ 24، مرجع سابق .
(2) انظر: المبحث السادس من هذا الفصل.(1/256)
وعلى ما سبق: تكون مفردات تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - :
1. إلزامية حفظ الألفاظ، وقد تكفل الله - سبحانه وتعالى - بجمعه لنبيه في صدره (الحفظ).
2. إتقان الحفظ، وقد كان إنزال القرآن الكريم على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر أنواع الوحي، وهو أشده على النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الغرض في المقام الأول .
3. إلزامية المراجعة العامة للمحفوظ، وقد تكفل الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن لا ينسى منه شيئاً على سبيل النسيان الكلي (1) .
4. إنزاله منجماً؛ليكون أثبت في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - حفظاً، وأداءً، وتبليغاً .
5. بيان لفظ القرآن الكريم، وقد تكفل الله - سبحانه وتعالى - بأن يقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه جبريل - عليه السلام - ، حذو القذة بالقذة، وذا شاملٌ لأصل اللفظ ولأدائه .
6. العناية بأداء ألفاظ القرآن، وقد تكفل الله - عز وجل - بإظهاره على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبيينه.
7. إنزال القرآن الكريم وتلقينه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرتَلاً (مجوَّداً مُنَجَّماً)، ووجوب ترتيله على النبي - صلى الله عليه وسلم - على الهيئة ذاتها التي رتله بها جبريل - عليه السلام - .
8. تهيئة مراجعةٍ يوميةٍ للقرآن الكريم في قيام الليل أو غيره (2) .
9. تهيئة مراجعةٍ سنوية للقرآن الكريم في كل رمضان يعارض فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبريل - عليه السلام - كلٌ منهما الآخر- ألفاظ القرآن الكريم متضمنةً النظر في ألفاظه من حيث أصل اللفظ ومن حيث الأداء .
الفصل الرابع
الأصول العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم -
ألفاظ القرآن الكريم
__________
(1) انظر: دلالات حديث المعالجة في المبحث السادس من هذا الفصل ص113 ، وما سيأتي –إن شاء الله تعالى- في الفصل الخامس .
(2) انظر: المبحث الثامن من هذا الفصل ص171 .(1/257)
وفيه خمسة مباحث
... تظاهرت الأدلة على إلزامية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - وحفظها ومراجعتها، وحفها بالعوامل التي تجعل الاعتناء بها واجباً يومياً لا يُترك ولا يُنسى، وجعل تلقيها، ثم تبليغها في غاية الدقة تحقيقاً لألفاظها، وبياناً لمخارج حروفها، وإتقاناً لأدائها؛ وقد عُقد هذا الفصل ليدرس الأصول العامة التي توضح ما سبق، وتعضده، في أمور حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بموضوع التلقي من قريب أو من بعيد؛ ولبيان العلاقة بين معلم النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والصحبة الحميمة بينهما، ولذلك ينقسم هذا الفصل إلى خمسة مباحث:
المبحث الأول : اللمحات العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - .
المبحث الثاني : دقة جبريل - عليه السلام - في النقل العام .
المبحث الثالث : العلاقة العامة(الصحبة) بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأثرها في تلقي ألفاظ القرآن الكريم .
المبحث الرابع : التوقيفية في غير أداء القرآن .
المبحث الخامس: الواجبات التي كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى تلقي لفظ القرآن الكريم .
المبحث الأول:
اللمحات العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - :
يدرس هذا المبحث اللمحات العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - ، والمراد بذلك جملة حقائق تجلت بها عملية التلقي، تُجمل في مطلبين:
المطلب الأول: من حيث مصدر التلقي .
المطلب الثاني: من حيث مؤشرات في طريقة التلقي .
المطلب الأول: من حيث مصدر التلقي:(1/258)
والمراد به تثبيت بدهية الإسناد في بيان مصدر تلقي القرآن الكريم؛ حيث صار إسناد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - عن رب العالمين في نقل ألفاظ القرآن الكريم بصفة خاصة من بين سائر أنواع الوحي بديهة (1) يذكرها الصحابة، لبيان أقصى درجات علم اليقين في نقل نصوص ألفاظ المعلومات التي تصل إلى البشر، وإبرازاً لدليل الصدق في النقل وتطميناً، ومحافظة على الإسناد، وبياناً للطريقة التعليمية الصحيحة في تلقي القرآن، وتصييراً لتوقيفية المتلقى مسلمة لا تناقش في أذهان المسلمين ... وهذه المواقف تجلي هذه الحقيقة:
1- فعن زاذان أبي عمر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال له: يا أخي! إن لنا مجلساً فائتنا فأقبلت إليه في مجلسه، فتعلمت منه سبعين سورة . فقال لي عبد الله: أخذتها من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بها جبريل - عليه السلام - من عند رب العالمين - عز وجل - (2) .
__________
(1) ولعل ذلك عائد إلى ما يشير إليه الأصوليون من مسألة ورود اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في السُنّة النبوية لا وضعاً، بل اجتهاداً في أحوالٍ خاصة كما هو معلوم، انظر: نهاية السول 4/437، مرجع سابق .
(2) المعجم الكبير 9/77، مرجع سابق .(1/259)
2- مر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - برجلٍ وهو يقول: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه إلى آخر الآية، فوقف عليه عمر، فقال: انصرف! فلما انصرف، قال له عمر: من أقرأك هذه الآية ؟ قال: أقرأنيها أبي بن كعب. فقال: انطلقوا بنا إليه! فانطلقوا إليه، فإذا هو متكئ على وسادة، يرجل رأسه، فسلم عليه، فرد السلام، فقال: يا أبا المنذر! قال: لبيك! قال: أخبرني هذا إنك أقرأته هذه الآية، قال: صدق تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال عمر: أنت تلقيتها من رسول الله . قال: نعم! أنا تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، كل ذلك يقوله وفي الثالثة وهو غضبان: نعم! والله لقد أنزلها الله على جبريل - عليه السلام - ، وأنزلها على محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه . فخرج عمر وهو رافع يديه وهو يقول: الله أكبر الله أكبر (1) .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين 3/345، مرجع سابق . ويُنْتَبه فيها إلى أمور:
* التلقي والتأكيد عليه، والتسليم به عند ثبوته عند أهله ومراجعه، وهذا لا يعني عدم انتشاره بين الأمة ...
* أن هذه الروايات لا يثبت بها قراءة؛إذ كثير منها مروي بالمعنى، وانظر – مثلاً – إلى حديث : (لو كان لابن آدم واديان ... ) البخاري 5/ 2364، مرجع سابق، مسلم 2/ 725، مرجع سابق ... ففيه تباينٌ في ألفاظ ما قيل أنها آية، ولعل رواتها تساهلوا في نقل القراءة الواردة فيها بدقة لهذه العلة، أي لعدم ثبوت القراءة بها، ولا يعترض على ذلك باستنكار أن يقرأ أُبي بما لا نقرأ به الآن؛ لأن هذا يرجع إلى الاكتفاء بقراءةٍ واحدةٍ في المصر ونحوه كما هو مشاهدٌ الآن، على تفصيل في مسألة ما تطلق عليه بعض الروايات (آية) أو (قراءة) ... وهذه كلمة عابرة لا مكان ها هنا لتفصيلها .(1/260)
3- وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن أُبياً قال لعمر: يا أمير المؤمنين! إني تلقيت القرآن ممن تلقاه أو ممن يتلقاه من جبريل - عليه السلام - وهو رطب (1) .
4- وعن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ؟ فقال: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرني أن جبريل - عليه السلام - قال له: قل أعوذ برب الفلق فقلتها، فقال: قل أعوذ برب الناس فقلتها فنحن نقول ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) .
5- وعن ثابت قال: قال لي أنس بن مالك:يا ثابت!خذ عني؛فإنك لم تأخذ عن أحد أوثق مني، إني أخذته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - ، وأخذه جبريل - عليه السلام - عن الله تعالى (3) .
6- وعن زر قال: قرأ رجل على عبد الله طه مفتوحة، فأخذها عليه عبد الله طه مكسورة، فقال له الرجل: إنما يعني مفتوحة . فقال عبد الله: هكذا قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا أنزلها جبريل - عليه السلام - ، وفي لفظ: فقال عبد الله: والله لهكذا علمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/117، مرجع سابق .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/129، مرجع سابق .
(3) سنن الترمذي 5/682، مرجع سابق، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب"، وقال الألباني تعليقاً: "ضعيف الإسناد".
(4) المستدرك على الصحيحين 2/268، مرجع سابق، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، قال الذهبي في التلخيص: "صحيح" .(1/261)
ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يصرح أحيناً بواسطته عن ربه في الوحي مع أنها معلومة ضرورة كما في مسند الشهاب سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :قال جبريل - عليه السلام - :قال الله - سبحانه وتعالى - : (هذا دينٌ ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه) (1) .
وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أن تصير هذه الحقيقة ضرورةً في حياة الأمة؛ لتغدو في قلبها، وعلى ألسنة أبنائها بدهيةً لا تحتاج إلى نظر أو استدلال، وهو ما يُلْمَس من النصوص السابقة .
المطلب الثاني: من حيث مؤشراتٌ في طريقة التلقي:
أولاً: التعليم المباشر للبدايات والنهايات ومواضع الآيات: ومسلك جبريل - عليه السلام - في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الناحية يأتي على وجهين:
وجهٌ خاصٌ: بالتنصيص على مكان الآية، ونهاية السورة، كحديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً، إذ شخص ببصره، ثم صوبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض -قال-: ثم شخص ببصره، فقال: (أتاني جبريل - عليه السلام - فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } "النحل/90") (2) .
__________
(1) (القضاعي) أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر ت454هـ: مسند الشهاب 2/ 329، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط2، 1407هـ - 1986م، مؤسسة الرسالة . ونحوه ما في المعجم الأوسط 9/139، مرجع سابق عن أنس بن مالك عن - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن الله - سبحانه وتعالى - قال: (من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ... )، وأصله في صحيح مسلم 1/432، مرجع سابق .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 4/218، مرجع سابق .(1/262)
وجهٌ عامٌ: بأن يضع له علامةً لابتداء السورة، أو انتهائها، أو الفصل بين السورتين؛ كما في حديث ترجمان القرآن ابن عباس (1) - رضي الله عنه - قال: كان جبريل - عليه السلام - ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي فإذا قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، افتتح سورة أخرى (2) .
وعنه - رضي الله عنه - قال:إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل جبريل - عليه السلام - فقال:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، علم أنها سورة (3) .
ثانياً: التوسط في كمية المنزل: الذي يعلمه جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويوضح ذلك الحديث الذي رواه الحاكم: عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل - عليه السلام - ينزله على النبي - صلى الله عليه وسلم - ورتلناه ترتيلاً) قال سفيان -أحد رجال إسناد الحديث-: خمس آيات، ونحوها (4) .
__________
(1) كَثُرَتْ الأحاديث عن ابن عباس في كتب علوم القرآن، وقد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب بخصوصه كما ذكر في ترجمته، وقال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس، وقال: لو أدرك ابن عباسٍ أسناننا ما عشره منا أحد، وروي ابن أبي خيثمة بسند فيه جابر الجعفي أن ابن عمر كان يقول: ابن عباس أعلم أمة محمد بما أنزل على محمد، وروى ابن سعد بسند صحيح: أن أبا هريرة قال لما مات زيد بن ثابت: مات اليوم حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس خلفاً منه ... تهذيب التهذيب7/67، مرجع سابق .
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/ 82، مرجع سابق .
(3) المستدرك على الصحيحين 2/668، مرجع سابق، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" .
(4) المستدرك علىالصحيحين2/667، مرجع سابق، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" .(1/263)
وعن أبي العالية قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :(تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن جبريل - عليه السلام - نزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم - خمس آيات خمس آيات) (1) . ولا يخفى أن هذا وصف لحال الغالب، وإلا فقد ينزل ما هو أكثر من ذلك، وما هو أقل .
ثالثاً: مقارنة التلقين بالأمر بكتابة الوحي القرآني على سبيل الفورية: فقد جاء في فضائل الصحابة: عن فاطمة بنت عبد الرحمن قالت: حدثتني أمي أنها سألت عائشة، وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام، ويسألك عن عثمان بن عفان؛ فان الناس قد شتموه . فقالت: لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعداً عند نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمسندٌ ظهره إلي وإن جبريل - عليه السلام - ليوحي إليه القرآن، أنه ليقول له: (اكتب يا عثيم)، فما كان الله - عز وجل - لينزله تلك المنزلة إلا وهو كريمٌ على الله ورسوله (2) .
وكحديث عثمان بن أبي العاص المتقدم آنفاً، وهذا مقتضٍ تلقائي لوصف القرآن بالكتاب .
__________
(1) (الخطيب البغداي) أبو بكر أحمد بن علي 463هـ:تاريخ بغداد 31 /288 –دار الكتب العلمية، بيروت .
(2) أخرجه (ابن أبي عاصم) أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت 287هـ): كتاب السنة
2/ 592، حققه محمد ناصر الدين الألباني، ط3، 1413هـ - 1993م، المكتب الإسلامي - بيروت، وعبد الله ابن أحمد في فضائل الصحابة 1/498 .(1/264)
رابعاً: التركيز: من حيث توقيف الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على الأوقات التي ينزل عليه الوحي فيها، والأوقات التي يراجع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن (قيام الليل، رمضان)؛ إذ الاهتمام بهذا الموضوع بلغ حد بيان الأوقات التي ينشغل فيها قلب المرء وجوارحه بما لا يتعلق بالقرآن؛حتى تُهْتَبل الأوقات الأخرى المحددة في مراجعة القرآن كما قال - سبحانه وتعالى - : { إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً } "المزمل/7"، قال ابن زيد: "فراغاً طويلاً لحوائجك، فافرغ لدينك بالليل" (1) ، ولا يعني التوقيف هنا نفي ما عدا هذه الأوقات للقراءة أو المراجعة، بل المراد الوقوف على مدى العناية بالقرآن الكريم .
المبحث الثاني:
الدقة في النقل العام:
وإنما أُورد هذا الفصل بعد حديثي المعالجة والمعارضة على سبيل الاستئناف البياني، للرد على مستكثرٍ على الشريعة أن تتضمن ألفاظها تلك الدقة التي جعلتنا نستخرج منها تلك المعاني، التي قد تخفى على عابر النظر؛ وأنى يستكثر ذلك ... والكلام هو كلام الله - سبحانه وتعالى - المتلو المحفوظ بحفظه - عز وجل - له، والمُعَلِّم له هو جبريل - عليه السلام - ، والمُتَعَلِّمُ له هو محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل؟ . فقد تميز نقل جبريل - عليه السلام - بالدقة في غير القرآن، فيُسْتَصْحَب هنا بين يدي هذا المبحث سؤالٌ: فكيف إن كان المنقول كلام الله المتلو - سبحانه وتعالى - ؟ .
ومن صور هذه الدقة:
1- الدقة في نقل الأحداث الواقعية: كان جبريل - عليه السلام - يأتيه بأدق التفاصيل والأوصاف للأحداث الواقعة الحاضرة والمستقبلية، حتى ما لا يترتب عليه حكم شرعي:
__________
(1) التحرير والتنوير 29/265، مرجع سابق .(1/265)
ومن ذلك ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا، قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أَمَّنوني حتى أبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا كنتم مني قريباً، فتقدم، فأَمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أومأوا إلى رجلٍ منهم، فطعنه، فأنفذه، فقال: الله أكبر! فزت ورب الكعبة . ثم مالوا على بقية أصحابه، فقتلوهم إلا رجلاً أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم...الحديث (1) .
وعن جابر - رضي الله عنه - :غزونا مع رسول الله قوماً من جُهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلةً لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله بذلك ... الحديث (2) .
وخرج معاوية - رضي الله عنه - على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟، قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على حلقة من أصحابه فقال: (ما أجلسكم؟) قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا. قال: (آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: (أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) (3) .
__________
(1) صحيح البخاري 1031/3، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم 1/575، مرجع سابق .
(3) صحيح مسلم 4/2075، مرجع سابق .(1/266)
فإذا تأمل القارئ نقل جبريل - عليه السلام - هاهنا، وشغل ذهنه بكيفية نقله للقرآن -أخبت قلبه لما سبق ذكره من الدقة البالغة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - ، وتعليم جبريل - عليه السلام - إياه ذلك .
2- الدقة في نقل أحداث المستقبل: فقد روت أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اضطجع ذات ليلة للنوم، فاستيقظ وهو حائرٌ، ثم اضطجع، فرقد، ثم استيقظ وهو حائرٌ، دون ما رأيت به المرة الأولى، ثم اضطجع فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقلبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ قال: (أ خبرني جبريل - عليه السلام - أن هذا يقتل بأرض العراق) –للحسين- فقلت لجبريل: أرني تربة الأرض التي يقتل بها فهذه تربتها) (1) .
وهل التربة الحمراء أهم من نقل أداء ألفاظ القرآن؟ .
غير أن الدقة هي السمة الدائمة لعمل جبريل - عليه السلام - وتعليمه، حتى اتسعت لتعليم الصلاة عملياً: فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أَمَّني جبريل - عليه السلام - عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي يعني المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد! هذا وقت لأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين) (2) .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين4/440، مرجع سابق، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ... " .
(2) سنن أبي داود 1/107، مرجع سابق، قال الشيخ الألباني: "حسن صحيح"، وأصله في صحيح البخاري 1/195 مرجع سابق .(1/267)
فكيف تعليمه القرآن؟، وظاهرٌ أن تعليم الصلاة عملياً يقرب أن تطلق عليه وجهاً أدائياً، فلأداء القرآن أعلى شأناً من بيان الهيئات التفصيلية للصلاة بأسلوب عملي، فما الذي يستنكره من شذ عن سائر المسلمين وقال: إن الأداء ليس متواتراً، أو لم يعلمه جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على أن أهل المآرب اتخذوا ذلك ذريعةً ليبطلوا أصل اللفظ .
وأقل الأحوال أن يكون أداء لفظ القرآن شأنه كشأن الهيئات التفصيلية للصلاة، فيظهر عند ذاك برهان عدم المبالغة في ذلك عندما تجد القرآن ذاته يتكلم عن الهيئات التفصيلية لتلقي القرآن وتلقينه وأدائه، ولا يوجد ذلك لتفصيل أمور الصلاة .
المبحث الثالث:
العلاقة العامة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها في تعليم ألفاظ القرآن:
وهذا المبحث كالاستعراض لمظاهر صحبة جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان العلاقة الحميمة التي تربط المُعَلِّم المُلْقي - عليه السلام - بالمتَعَلِّم المتلقي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أن هذه المعاني قد بُثَّتْ ثناياها فيما سبق، فما أُورِدَ هنا فهو لزيادة التبيين في هذه الناحية الخاصة، وينقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب متدرجاً من العموم إلى خصوص المتابعة التعليمية:
المطلب الأول: صلة هذا المبحث بموضوع البحث العام .
المطلب الثاني: نماذج من العلاقة العامة .
المطلب الثالث:التعاهد والاستدراك .
المطلب الأول: صلة هذا المبحث بموضوع البحث العام:
إن بحث هذه المسألة يستلزم الاستقلال في الدراسة عن غيرها، لكنها ذُكرت في هذا المكان مختصرة، لا نافلة قولٍ، بل لتحقيق غاياتٍ خادمةٍ لموضوع البحث، ومن ذلك:(1/268)
أ - التنبيه بالأدنى على الأعلى: وعليه اعتمد الباقلاني-رحمه الله تعالى- في الرد على من نسب إلى ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - إنكار المعوذتين، فقال: "ولو كان قد أنكر -يعني عبد الله ابن مسعود- السورتين على ما ادعوا -لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا، أمرٌ يوجب التكفير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه" (1) .
وإذا كان التكليف بالأمور العبادية الفرعية مثلاً قد بلغ مستوىً من الدقة في التوقيف تعجم كل من يريد التهوين من اللفظ القرآني، فتحيل ما أعجمه مهملاً، فكذلك نقل كلام الله - عز وجل - ... ومن نماذج ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل - عليه السلام - في أول ما أُوحِيَ إليه فأراه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء، فنضح بها فرجه (2) .
__________
(1) (الباقلاني)أبو بكر بن الطيب: إعجاز القرآن ص365، قدم له وشرحه وعلق عليه: الشيخ محمد شريف سكر، بيروت دار إحياء العلوم، ط1، 1408هـ – 1988م . وهذا الدليل من أعظم الأدلة التي تبين فقه المتفقه ودقيق بصره ... وتراه يُذْكَرُ مبثوثاً في كتب أصول الفقه بأسماء متعددة منها: القياس الأولوي، والعموم المعنوي، ونحو ذلك ... ومن أجل هذه الأهمية التي يكتسبها هذا الدليل نبه عليه ابن رشد -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه الفقهي الفريد: بداية المجتهد، انظر: (ابن رشد) القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد ت 595 هـ: بداية المجتهد ونهاية المقتصد - المقدمة 1/5، تحقيق وتعليق: محمد صبحي حسن حلاق، الطبعة الأولى 1415 هـ مكتبة ابن تيمية – القاهرة .
(2) (الكسي) أبو محمد عبد بن حميد بن نصر ت 249هـ : المنتخب من مسند عبد بن حميد، مراجعة: صبحي البدري السامرائي ـ محمود محمد خليل الصعيدي، 1408هـ - 1988م، مكتبة السنة - القاهرة، ورواه ابن ماجة 1/157، مرجع سابق . وقال الألباني: "صحيح" .(1/269)
ولا يُعَلِّمه هذا المستوى من الدقة في الأمور العبادية التي اصطلح على تسميتها بالفرعية، ويُفْقِرَ أصل أصول الشريعة من المماثلة في دقة التعامل، بل كان مستوى الدقة في لفظ القرآن بالغاً غاية لا يصدقها عقلٌ بشري، لولا أنها نقلت ... وإنما قيل: لا يصدقها عقلٌ بشري؛ لأنها لا تخطر على باله من حيث هذه الضخامة في تتبع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - حرفاً حرفاً، كنقلهم عدد شعرات النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ولَنَقْلُ حروف القرآن أخطر وأجل .
ب - بيان رُقي الصحبة بين المُعَلِّم - عليه السلام - والمتعلم - صلى الله عليه وسلم - التي تؤدي إلى المتابعة المتميزة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحظى بها من جبريل - عليه السلام - بأمر الله - عز وجل - ، وذي المتابعة تعطي خصوصيةً للمُعَلِّم - عليه السلام - والمتعلم - صلى الله عليه وسلم - هنا، لا توجد بين غيرهما، لا جرم أن قول الله - سبحانه وتعالى - { ... فَإنَّكَ بِأعْيُنِنَا ... } "الطور/48" مُفَسِّرٌ لتلك العلاقة التي بلغت ذروتها، حتى يكاد جبريل - عليه السلام - لا يفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فيما ندر أمراً من ربه - عز وجل - ، مع المعية العامة والخاصة لله - سبحانه وتعالى - ... وذا كله يعطيك مؤشراً واضحاً على المتابعة التي كانت ألفاظ القرآن تحظى بها، واستحالة تطرق الخلل لأداء اللفظ، بله اللفظ ... .
ج - تثبيت ما سبق من تحليل في تعليم جبريل - عليه السلام - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفظ القرآن، وأن ما ذُكِرَ ليس مبالغةً استهوتها الزخارف اللفظية، والعاطفة المجردة مما قد يزعم زاعمٌ أن البحث صدر منها .
__________
(1) إشارة إلى حديث أنس - رضي الله عنه - عند الترمذي 4/435، مرجع سابق .(1/270)
ولْيُشْرِع الحديث عن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - أشرعته ... وحُقَّ لحديثٍ كهذا الحديث أن تعروه هزة الذكرى، وحُمْرة الحياء ... فلتغتفر زلة التقصير فيه بداية ...
حَدِّثْ عن القوم، فالألفاظ ساجدةٌ ... ... ..خلف المحاريبِ، والأوزانُ تبتهلُ
المطلب الثاني: نماذج من العلاقة العامة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - :
أولاً: في المسائل الشخصية: يظهر جبريل - عليه السلام - غادياً رائحاً في أمورٍ تتعلق بخصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسرية، ومن ذلك:
1-زواجه من عائشة -رضي الله تعالى عنها-:وفيها يظهر أن جبريل - عليه السلام - قد يستخدم وسائل متعددة وربما غير معهودة لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليمه، فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتك في المنام يجيء بك الملك في سرقة من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب، فإذا هي أنت، فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه) (1) ، والتصريح بأن الملَك هو جبريل - عليه السلام - قد وقع عند ابن حبان عنها قالت: (جاء بي جبريل - عليه السلام - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خرقة حرير، فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة) (2) .
فإن كان ذا في أمرٍ غير ذي بال عند مقارنته بأداء القرآن الكريم، فكيف بالقرآن الكريم؟.
__________
(1) البخاري 2/900، مرجع سابق .
(2) صحيح ابن حبان 3/ 324، مرجع سابق .(1/271)
2-مراجعته لحفصة –رضي الله تعالى عنها-: فقد طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة بنت عمر، فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت، وقالت: والله ما طلقني عن شبعٍ . وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( قال لي جبريل - عليه السلام - راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة) (1) .
3-زواج ابنته: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهو مغموم فقال: (ما شأنك يا عثمان؟) قال:بأبي أنت يا رسول الله وأمي!هل دخل على أحد من الناس ما دخل علي؟ توفيت بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمها الله، وانقطع الصهر فيما بيني وبينك إلى آخر الأبد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أتقول ذلك يا عثمان وهذا جبريل - عليه السلام - يأمرني عن أمر الله عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عدتها فزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها) (2) .
4-إخباره بأسرار بيته: كان - صلى الله عليه وسلم - لا يدرك بعض أموره العائلية مما غيبها واقع في الأرض، كخبر ابنه إبراهيم حتى يأتيه جبريل - عليه السلام - بالوحي، كما في المستدرك عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما ولد إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل فقال:(السلام عليك يا أبا إبراهيم) (3) . فذا في خبر الأرض، فكيف يكون في خبر السماء؟ وإنما يكثر البحث من الأمور الدقيقة؛ لاستقلال البعض أن يكون ثَمَّ اهتمامٌ شرعي بأمور الأداء في اللفظ القرآني، فيُقرَن هذا بهذا ليُعلَم الأمر .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين 4/16، مرجع سابق، وفي صحة الحديث نظرٌ بائن، وقد بين الباحث في المقدمة أنه قد تُذكر بعض الأحاديث الضعيفة استئناساً لا استدلالاً للأحكام .
(2) المستدرك على الصحيحين4/54، مرجع سابق .
(3) المستدرك على الصحيحين660/2، مرجع سابق .(1/272)
ثانياً: في المسائل البدنية: مما يعود على الناس بمصالح في أبدانهم: فقد روى أبو الحكم البجلي وهو عبد الرحمن بن أبي نعم قال: دخلت على أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يحتجم فقال لي: يا أبا الحكم احتجم -قال- فقلت: ما احتجمت قط . قال: أخبرني أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - (أن جبريل - عليه السلام - أخبره أن الحجم أفضل ما تداوى به الناس هذا) (1) .
فكيف يبلغ الظن بمتابعة جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل الوحي عامة، ثم فيه حين يكون قرآناً بصفة خاصة؟.
__________
(1) المستدرك على الصحيحين4/232، مرجع سابق، وقال: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "على شرط البخاري ومسلم " .(1/273)
ثالثاً: الوزير: فقد كان جبريل - عليه السلام - وزير رسول الله الأول من أهل السماء؛ إذ روى الحاكم: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر) (1) ، ولئن اشترك مكائيل - عليه السلام - في وزارته مع جبريل - عليه السلام - ، فإن جبريل - عليه السلام - يتميز في علاقته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور أخرى ... حسبه منها أن يكون المُكَلَّفَ بإبلاغه وتعليمه وحي السماء، ولئن كان في الحديث نظرٌ فإن قرائن الحال السابقة والتالية مما ذُكِرَ في البحث شاهدةٌ بصدق معناه، قال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: "وفيه (أميري من الملائكة جبريل - عليه السلام - ) أي صاحبُ أمْرِى، وَوَلِيِّى، وكل من فَزِعتَ إلى مُشاورته ومُؤامَرتِه فهو أَميرك" (2) .
__________
(1) سنن الترمذي 5/616، مرجع سابق، قال الترمذي: "حسن غريب"، قال الألباني: "ضعيف"، المستدرك على الصحيحين، قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" . وقد تمثلت هذه الوزارة في مظاهر كثيرة: منها: اشتراكهما في تغسيل قلبه، ومعالجته من مرضه، والسياحة به في عالم البرزخ ... .
(2) النهاية في غريب الأثر1/65، مرجع سابق .(1/274)
... وكونه كان في مقام الوزير، لا يعني أنه الوزير المنفذ المتلقي للأوامر، بل كان كان كثيراً ما يكون المشير الآمر شأن المعلم مع المتعلم، فقد كان ابن عباس - رضي الله عنه - يحدث أن الله-تبارك وتعالى- أرسل إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ملكاً من الملائكة ومعه جبريل، فقال الملَك: (إن الله يخيرك بين أن تكون عبداً نبياً، وبين أن تكون ملكاً، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جبريل - عليه السلام - كالمستشير فأشار جبريل بيده أن تواضع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (بل أكون عبداً نبياً، قال فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئاً) (1) .
رابعاً: الناصح ابتداء: فلم يقتصر دور جبريل - عليه السلام - على المتابعة، بل كان يقوم بنصحه ابتداء: فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:(يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، ثم قال: يا محمد! شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) (2) .وهذه نصائح ابتدائية، كما هي متابعةٌ في أبواب الزهد والرقائق توضح العلاقة المثالية للمعلم بتلميذه .
خامساً: وتجري بينهما المناقشة والمباحثة: عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه - رضي الله عنه - وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين –أو كلمة نحوها – قال وكذلك من شهد بدر من الملائكة) (3) .
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي 4/171، مرجع سابق .
(2) المستدرك على الصحيحين4/360، مرجع سابق، وقال: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وقال الذهبي: "صحيح" .
(3) صحيح البخاري 4/1467، مرجع سابق .(1/275)
سادساً: علاقة حب: وجبريل - عليه السلام - رفيقه الأثير، كما قال في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - : (مع الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء إلى قوله رفيقاً) (1) ، وفي رواية: فقال: (أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل) (2) ... فبدأ بجبريل - عليه السلام - .
وعلاقة الحب علاقةٌ متبادلةٌ بينهما، فقد روى عبد بن حميد من طريق عكرمة-رحمه الله تعالى- قال: (أبطأ جبريل - عليه السلام - في النزول أربعين يوماً فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - يا جبريل ما نزلت حتى اشتقت إليك قال: أنا كنت أشوق إليك) (3) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - ينقبض ويضيق إذا تأخر عليه جبريل - عليه السلام - حتى اشتد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روته عائشة -رضي الله تعالى عنها- وفي يده عصا فألقاها من يده وقال: (ما يخلف الله وعده ولا رسله) (4) ، وفي حديث ميمونة عند مسلم نحو حديث عائشة، وزاد فيه ابن حبان: (أنه أصبح واجماً) (5) .
__________
(1) مسند أحمد 6/ 74، مرجع سابق، وأصله في صحيح البخاري 3/1341، مرجع سابق .
(2) في رواية أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عند النسائي في السنن الكبرى 5/23، مرجع سابق .
(3) المنتخب من مسند عبد بن حميد 345، مرجع سابق، وانظر: فتح الباري 8/429، مرجع سابق .
(4) صحيح مسلم 3/1664، مرجع سابق .
(5) ابن حبان 12/465، مرجع سابق .(1/276)
وتجري بينهما المناقشة والأخذ والرد دون أن يكون مكان جبريل - عليه السلام - عائقاً عن ذلك رد فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله - سبحانه وتعالى - في إبراهيم: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } "إبراهيم/36": وقال عيسى - عليه السلام - { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } "المائدة/118" فرفع يديه، وقال: (اللهم أمتي أمتي)، وبكى، فقال الله - عز وجل - : (اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟) فأتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - فسأله فأخبره –والله بما قال أعلم- فقال الله: (يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) (1) .
ونحو ما في البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (عُرِضت عليَّ الأمم، فأجد النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سوادٌ كثيرٌ، قلت: يا جبريل! هؤلاء أمتي؟ ... ) (2) .
ويرقيه - صلى الله عليه وسلم - : فقد روى مسلم عن عائشة-رضي الله تعالى عنها- زوج النبي قالت: كان إذا اشتكى رسول الله رقاه جبريل، قال: (باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين) (3) ، وعنده: عن أبي - رضي الله عنه - أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا محمد! اشتكيت؟ قال: نعم! قال: باسم الله أرقيك ... ) (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم 1/191، مرجع سابق .
(2) أخرجه البخاري 5/2396، مرجع سابق .
(3) أخرجه مسلم4/1718، مرجع سابق .
(4) أخرجه مسلم4/1718، مرجع سابق .(1/277)
ويقاتل عنه - صلى الله عليه وسلم - : فقد روى مسلم في باب: (قتال جبريل وميكائيل-عليهما السلام-عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد) ... عن سعد - رضي الله عنه - :رأيت عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل –عليهما السلام-وفي لفظ له:يقاتلان عنه كأشد ما يكون القتال (1) ... ." ولا غرو! فتقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف - عليه السلام - .
وكان يواسيه - صلى الله عليه وسلم - :
فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل - عليه السلام - ذات يوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، الحديث سيأتي (2) .
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينشغل عمن سواه: فعن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - قال: كنت مع أبى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل يناجيه، فكان كالمعرض عن أبى، فخرجنا من عنده، فقال لي أبى: أي بني! ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت: يا أبت! إنه كان عنده رجلٌ يناجيه. قال: فرجعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبى: يا رسول الله! قلت لعبد الله كذا وكذا، فأخبرني أنه كان عندك رجلٌ يناجيك فهل كان عندك أحدٌ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (وهل رأيته يا عبد الله؟) قال: قلت: نعم! قال: (فإن ذاك جبريل وهو الذي شغلني عنك) (3) .
__________
(1) مسلم 4/ 1802، وفي الديباج5/317، مرجع سابق: قال النووي: "فيه: أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء، بل يراهم الصحابة والأولياء".
(2) انظر: الحديث بتمامه ص219 .
(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/293، مرجع سابق .(1/278)
سابعاً: وهو صاحبه في الدنيا والآخرة: فعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكي قول عيسى - عليه السلام - : ( ... ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة انطلقوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل، قال: فينطلق فيأتي جبريل - عليه السلام - ربه فيقول الله - عز وجل - : ائذن له وبشره بالجنة . قال: فينطلق به جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة، ويقول الله - عز وجل - : ارفع رأسك يا محمد! وقل يسمع واشفع تشفع قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه - عز وجل - خر ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله - عز وجل - : ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع. قال: فيذهب ليقع ساجداً فيأخذ جبريل - عليه السلام - بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئا لم يفتحه على بشر قط) (1) الحديث.
ويمكن أن يجري بينه وبين ربه الكلام والنقاش بواسطته: فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول لك: كيف رفعت ذكرك؟ قال:الله أعلم قال:إذا ذكرت ذكرت معي) (2) .
وقد يأتيه بوسيلةٍ غير معتادةٍ في ذلك الوقت للتعليم:
__________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/4، مرجع سابق .
(2) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان8/176، مرجع سابق، صححه ابن حبان، وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده ضعيف" .(1/279)
فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أُريتكِ في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سرقة حرير فيقول هذه امرأتك فأكشفها فإذا هي أنت فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه) (1) .
ويداعب المُعَلِّم - عليه السلام - المتعلم - صلى الله عليه وسلم - : فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: نزل جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحسن صورة لم ينزل في مثلها قط ضاحكاً مستبشراً فقال: (السلام عليك يا محمد! قال: وعليك السلام يا جبريل . قال: إن الله بعثني إليك بهدية كنوز العرش أكرمك الله بهن قال: وما تلك الهدية يا جبريل؟ فقال جبريل؟ قل يا من أظهر الجميل ... ) (2) الحديث .
ويقعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - : فقد روى ابن حبان عن ابن عباس - رضي الله عنه - :بينما جبريل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً من فوق، فرفع رأسه فقال: (هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم. فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) (3) .
ـ ويتخلف عنه لغرضٍ منافٍ لمقتضيات الوحي كتخلفه عنه لوجود كلبٍ (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 5/1953، مرجع سابق، وفي رواية للبخاري 5/1969، يجئ بك الملك، وفي رواية لابن حبان -رحمه الله تعالى-:"جاء بي جبريل"، وذلك كله يؤكد ما قرر سابقاً من أن جبريل واسطته الوحيدة من الملائكة، وأنه لو كنى عن الموحِي إليه بقوله (رجل)، أو (ملك) فقد عنى به جبريل - عليه السلام - .
(2) المستدرك على الصحيحين 1/729، مرجع سابق .
(3) وفي صحيح ابن حبان3/57، مرجع سابق، وقوله: (أبشر بسورتين): دالٌ على إطلاق السورة على ما دونها .
(4) انظر: المبحث الثالث من الفصل الثاني .(1/280)
وكان لجبريل - عليه السلام - مكان مميز عرف باسمه (مقاعد جبريل):
... فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه، ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد ... الحديث (1) ، وورد التصريح بالاسم في حديث أنس ابن مالك - عليه السلام - قال:صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الظهر بالمدينة ثم أتى المقاعد التي كان يأتيه عليها جبريل فقعد عليها - صلى الله عليه وسلم - فجاء بلال فنادى بالعصر (2) ، وعن حارثة ابن النعمان - رضي الله عنه - قال: مررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - جالس في المقاعد فسلمت عليه ثم أجزت، فلما رجعت وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هل رأيت الذي كان معي؟). قلت: نعم قال:(فإنه جبريل وقد رد عليك السلام) (3) .
ومن ذا العرض يُفْهَمُ سر نعي فاطمة-رضي الله تعالى عنها- أباها إلى جبريل - عليه السلام - دون غيره من الملائكة وسائر الخلق:
__________
(1) صحيح مسلم 2/668، مرجع سابق .
(2) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 14/481، مرجع سابق، وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم" .
(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/433، مرجع سابق، وواضحٌ أنه ما قال: معه جبريل إلا بعد أن أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/281)
فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه، فقالت: فاطمة –رضي الله تعالى عنها- واكرب أبتاه!، فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، فلما مات، قالت: (يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه)، فلما دفن قالت فاطمة –رضي الله تعالى عنها-: (يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب؟) (1) .
لا! ... -يا ابنت رسول الله!لم تطب ... وإنما نعته إلى جبريل - عليه السلام - لأنه مُعَلَّمه وصاحبه، وخليله، ووزيره ... فإليه يُنعى ... وأما الله –جل ذكره- فقدر موته، وإليه المرجع والمآب .
المطلب الثالث:التعاهد والاستدراك:
أولاً: التعاهد: من حيث ارتباطه بموضوع البحث، فإن نماذجه تنقسم إلى قسمين: عامٍ وخاصٍ:
1- التعاهد العام، وهو من حيث كون جبريل - عليه السلام - شيخ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعلمه:
يصل تعاهد جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حد المواساة والتثبيت له في شخصه، فكيف في أصل رسالته؟ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو حزينٌ جالسٌ، قد ضربه بعض أهل مكة، فقال: (فعل بي هؤلاء وفعلوا) قال: تحب أن أريَك آيةً؟ فنظر إلى شجرةٍ من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة . فدعاها. فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه فقال لها: ارجعي . فرجعت حتى عادت إلى مكانها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبي) (2) .
__________
(1) صحيح البخاري 4/1619، مرجع سابق .
(2) مسند أبي يعلى6/358، مرجع سابق، وقال المحقق: "إسناده على شرط مسلم"، وأخرجه ابن ماجة 2/1336، مرجع سابق، وصححه الألباني .(1/282)
... بل يبلغ أن يسمع من الأمور الغيبية مما لا يترتب عليه كبير أمرٍ عند عامة الأمة، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوتاً هاله، فأتاه جبريل - عليه السلام - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما هذا الصوت يا جبريل؟ فقال: هذه صخرة هوت من شفير جهنم من سبعين عاماً، فهذا حين بلغت قعرها فأحب الله أن يُسْمعك صوتها فما رؤي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك اليوم ضاحكاً ملء فيه حتى قبضه الله) (1) .
فهذا لأمرٍ غيبيٍ ... فكيف ترى الاهتمام كائناً في أصل أصول الشرع الإسلامي؟ بل في أصل معناه وهو اللفظ، مع شدة انتشاره، وعظيم احتياج الناس إليه .
ومن ذلك: التعاهد من حيث حفظه من الأخطار الغيبية: فعن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أجد فزعاً بالليل فقال: (ألا أعلمك كلمات علمنيهن جبريل - عليه السلام - وزعم أن عفريتاً من الجن يكيدني: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل وفتن النهار، ومن شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن) (2) .
2- التعاهد الخاص، وهو من حيث استكمال متعلقات القرآن الكريم -لفظاً -التتميمية: فلئن تمثلت متعلقاته الضرورية والحاجية في إنزاله، وإقرائه على الهيئة التي أمر الله - عز وجل - ، والمراجعة الدورية له خلال فترة الإنزال لتثبيت اللفظ، وتقويم هييئة أدائه، وغير ذلك ... فقد تمثلت متعلقاته التتميمية في عدة مظاهر، منها:
__________
(1) المعجم الأوسط 1/248، مرجع سابق .
(2) المعجم الكبير4/114، مرجع سابق .(1/283)
إعداد مراجع الإقراء: في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده؛ إذ بلغ الحفظ الإلهي للقرآن الكريم أن تعاهد جبريل - عليه السلام - مراجعَ الإقراء من الصحابة الكرام، والمراد من متصدريهم في هذا الباب، ومن ذلك:
- إعداد أبي بن كعب - رضي الله عنه - :كما جاء في البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } قال: وسماني؟ قال: (نعم!) فبكى، وفي لفظ له: (أن أقرئك القرآن)، قال: آلله سماني لك؟. قال: (نعم!) قال: وقد ذُكِرْتُ عند رب العالمين؟ (1) ، والتصريح باسم جبريل - عليه السلام - عند أحمد عن أبي حبة البدري - رضي الله عنه - قال: لما نزلت { لَمْ يَكُنِ } قال جبريل - عليه السلام - : (يا محمد إن ربك يأمرك أن تقرئ هذه السورة أبي بن كعب) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (يا أُبي إن ربي عز وجل أمرني أن أقرئك هذه السورة) فبكى، وقال: ذكرت ثمة؟ قال: (نعم!) (2) ، واتخذ هذا الأمر طابع العموم لكل القرآن: فعند أحمد عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله تبارك وتعالى أمرني أن أعرض القرآن عليك) قال: وسماني لك ربي تبارك وتعالى؟ قال: (نعم!) الحديث (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري3/1385، مرجع سابق .
(2) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 3/489، مرجع سابق .
(3) أخرجه أحمد 3/490، مرجع سابق .(1/284)
وصار هذا الإسناد مشتهراً، فعن عبيد بن ميمون التبان المقرىء قال: قال لي هارون بن المسيب: بقراءة من تقرأ؟ فقلت: بقراءة نافع . قال: فعلى من قرأ نافع؟ فقلت: خبرنا نافع أنه قرأ على الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وأن الأعرج قال: قرأت على أبى هريرة، وقال أبو هريرة: قرأت على أُبي ابن كعب، وقال أبي - رضي الله عنه - : عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن فقال: (أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن) (1) .
- إعداد ابن عباس - رضي الله عنه - : فعند أبي نعيم عن عبد الله بن بريدة - رضي الله عنه - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبريل - عليه السلام - ، فقال له جبريل - عليه السلام - : (إنه كائنٌ حبر هذه الأمة فاستوص به خيراً) (2) .
وهذان النموذجان يدلان دلالةٌ واضحةٌ على خلفية انتخاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعددٍ من أصحابه ليكونوا مراجع للإقراء .
__________
(1) المعجم الأوسط 2/88، مرجع سابق ..وفيه فوائد:
أولها: عدم إرادة التحديد عند ذكر الإسناد، إذ قد بات من المعلوم أن نافعاً قرأ على سبعين من التابعين، على أن قراءته هي قراءة المدنيين، فليس هو مدارها، ولا هو مبتدعها، أو منشؤها، إنما أُريد المحافظة على الإسناد، ثم اشتهرت به .
وثانيها: مرجعية القراءة إلى الله - عز وجل - المتكلم بالقرآن المجيد، فليس ثم اجتهاد بشري، بل ولا غيره في نقل ألفاظ القراءة .
وثالثها: التأكيد على الإسناد بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) تهذيب التهذيب 5/244، مرجع سابق .(1/285)
ومن ذلك حديث (خذوا القرآن من أربعة ... ) (1) ، وحديث (من أحب أن يقرأ القرآن ... ) (2) .
ثانياً: متابعة الاستدراك: إذ كان الرسول تحت سمع الله - عز وجل - وبصره حافظاً له، ومعيناً ومؤيداً، فأول أشكال الحفظ: حفظه - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ في الفروع بَلْهَ الأصول، ومُعَلِّمُ رسول الله جبريل - عليه السلام - يتابعه في صغائر أموره ودقائقها، فكيف جلائلها؟ فاستدراكه عليه بعد الإخبار، كإخباره بالوحي ابتداء، وقد كانت هذه المتابعة –من حيث الناسُ-خاصةً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعامةً للأمة، -ومن حيث الأمر الشرعي المتابَع عليه-خاصةً في ألفاظ القرآن الكريم، وعامةً في سائر أمور الشرع:
أ - الخاصة من حيث المستدرَك عليهم:
فمن ذلك: ما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - استدراكاً له على مجانبة الصواب الشرعي في المسائل الحربية (أسرى بدر نموذجاً) (3) ، والمسائل الدعوية (قصة ابن أم مكتوم نموذجاً) (4) ، والمسائل السياسية (العفو عن المنافقين في عام العسرة نموذجاً) (5) ، ومسائل الفقه العملي (الصلاة على المنافق نموذجًا) (6) ، ولكن منهج البحث يرمي إلى ما فيه التصريح بوجود جبريل - عليه السلام - ونزوله بالوحي، فلتُذكر نماذج من ذلك:
__________
(1) أخرجه البخاري 3/1385، مرجع سابق، مسلم 4/ 1913، مرجع سابق .
(2) السنن الكبرى للنسائي 5/71، مرجع سابق، سنن ابن ماجه 1/49، مرجع سابق، صحيح ابن حبان 15/ 543، مرجع سابق، مستدرك الحاكم 2/247، مرجع سابق، مسند أحمد 4/278، مرجع سابق .
(3) انظر تفصيلها في صحيح مسلم 3/1383، مرجع سابق .
(4) انظر تفصيلها في: سنن الترمذي 5/432، مرجع سابق، وقال الترمذي: "حديث غريب"، قال الألباني: "صحيح الإسناد" .
(5) انظر: سورة التوبة: عند قوله - عز وجل - : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ... } "التوبة /43" .
(6) انظر: صحيح البخاري 1/459، مرجع سابق .(1/286)
1 – استدراك جبريل - عليه السلام - في الدلالة على ليلة القدر: فعن أبي سلمة قال: انطلقت إلى أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث؟ فخرج، فقال: قلت: حدثني ما سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً صبيحة عشرين من رمضان فقال: (من كان اعتكف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فليرجع فإني أريت ليلة القدر، وإني نسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طينٍ وماءٍ)، وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئاً، فجاءت قزعةٌ، فأُمْطِرْنا، فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرنبته تصديق رؤياه (1) .
2 - استدراك جبريل - عليه السلام - في هيئة الأكل: فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل متكئاً، فنزل عليه جبريل - عليه السلام - فقال: انظروا إلى هذا العبد كيف يأكل متكئاً! فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وعند البخاري: (لا آكل متكئاً) (3) .
__________
(1) صحيح البخاري1/280، مرجع سابق .
(2) (الطحاوي) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة ت321هـ: شرح معاني الآثار 4/275، مرجع سابق .
(3) صحيح البخاري 5/ 2062، مرجع سابق .(1/287)
3 - استدراك جبريل - عليه السلام - في الإفتاء: فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه سمعه يحدث عن رسول الله: أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله تُكَفَّرُ عني خطاياي! فقال له رسول الله: (نعم! إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غيرَ مدبرٍ) ثم قال رسول الله: (كيف قلت؟) قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله: (نعم! وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غيرَ مدبرٍ إلا الدين فإن جبريل - عليه السلام - قال لي ذلك) (1) .
4 - استدراك جبريل - عليه السلام - في اللباس: فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً قِباءً من ديباجٍ أُهدِيَ له، ثم أوشك أن نزعه، فأرسل به إلى عمر بن الخطاب فقيل: له قد أوشك ما نزعته يا رسول الله! فقال: (نهاني عنه جبريل) فجاءه عمر يبكي... الحديث (2) .
5- استدراك جبريل - عليه السلام - في الفروع: وذلك إن لم تستدرك عليه - صلى الله عليه وسلم - الأمة بعد أن يكون قد أبلغها:
__________
(1) صحيح مسلم3/1501، مرجع سابق .
(2) صحيح مسلم 3/1644، مرجع سابق .(1/288)
فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن جبريل - عليه السلام - أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا وقال إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما) (1) ، وعن خلاد بن السائب الأنصاري - رضي الله عنه - عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتاني جبريل - عليه السلام - فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) أو قال (بالتلبية) يريد أحدهما (2) .
6- استدراك جبريل - عليه السلام - لتكرار العمل الفرعي فكيف القرآن فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (3) ، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما جاءني جبريل - عليه السلام - قط إلا أمرني بالسواك لقد خشيت أن أحفى مقدم في) (4) .
__________
(1) سنن أبي داود 1/175، مرجع سابق، قال الشيخ الألباني: "صحيح" .
(2) سنن أبي داود 2/162، مرجع سابق، وأصله في صحيح البخاري، وقال الألباني: "صحيح".
(3) صحيح البخاري 5/2239، مرجع سابق .
(4) مسند الإمام أحمد بن حنبل5/ 263، مرجع سابق .(1/289)
7 - استدراك جبريل - عليه السلام - في هيئة الوعظ:أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رهطٍ من أصحابه وهم يضحكون، فقال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)، فأتاه جبريل فقال: (إن الله يقول لك لم تقنط عبادي؟) –قال- فرجع إليهم، فقال: (سددوا وقاربوا وأبشروا) (1) .
ب - العامة من حيث المستدرَك عليهم:
والمراد المتابعة والاستدراك على الأخطاء التي تقع فيها أمته: فعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: اجتمع أربعون رجلاً من الصحابة ينظرون في القدر والجبر، فيهم أبو بكر وعمر فنزل الروح الأمين جبريل - عليه السلام - فقال: (يا محمد! أخرج على أمتك فقد أحدثوا) . فخرج عليهم في ساعةٍ لم يكن يخرج عليهم فيها، فأنكروا ذلك منه، وخرج عليهم ملتمعاً لونه متوردةً وجنتاه كأنما تفقأ بحب الرمان الحامض، فنهضوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاسرين أذرعهم ترعد أكفهم وأذرعهم فقالوا: تبنا إلى الله ورسوله. فقال: (أولى لكم، إن كدتم لتوجبون، أتاني الروح الأمين فقال أخرج على أمتك يا محمد فقد أحدثت) (2) .
بل يتولى جبريل - عليه السلام - تصويب المسلمين وتسديدهم أحياناً، نحو ما قالت عائشة: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: (إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله) (3) .
__________
(1) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 1/319، مرجع سابق، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وقال ابن حبان -رحمه الله تعالى-: "(سددوا)يريد به: كونوا مسددين، والتسديد: لزوم طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، وقوله (وقاربوا) يريد به لا تحملوا على الأنفس من التشديد ما لا تطيقون، (وأبشروا)، فإن لكم الجنة إذا لزمتم طريقتي في التسديد، وقاربتم في الأعمال".
(2) المعجم الكبير2/95، مرجع سابق .
(3) صحيح مسلم 4/1936، مرجع سابق .(1/290)
ج - الخاصة من حيث الأمر الشرعي: وهو متابعة ألفاظ القرآن الكريم، فقد تجلى في المعارضة السنوية، وهو أنموذجه البارز، وتقدم (1) .
د - العامة من حيث الأمر الشرعي: فكما سلف .
فإن جُمِعَ ما ذُكِرَ هاهنا إلى ما ذكر في الاتصال المطلق لجبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وَوُضِع في المسلمات أن الغاية من ذلك كله تلقي كلام الله - سبحانه وتعالى - ، والمحافظة عليه وتبليغه للأمة، علمتَ أن كلام الله - عز وجل - أعلى من أن يتطرق إليه قول البشر، واجتهاد البشر، ولذا تفرد رب البشر - سبحانه وتعالى - بالمحافظة عليه، فيثبت في الذهن بذا كلِه أن الأداء للفظ القرآني لا يتطرق إليه اجتهادٌ بشري، وإلا فما فائدة هذه المتابعة الدقيقة الهائلة؟، ويحصل اليقين باستحالة تطرق الوهم، أو الضياع، أو التضييع لكلام الله العظيم، فأين متابعةٌ كهذه المتابعة؟! فإن جُمِعَ إلى هذا ما هو مسلم من المتابعة الربانية وأنه كما قال ربه عنه { ... فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ... } "الطور/48" ... فلا يكون للخطأ مدخلٌ لأدائه - صلى الله عليه وسلم - لكلام ربه - عز وجل - .
وقد كان جبريل - عليه السلام - يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الهيئات الجانبية التي لا تعلق لها بالقراءة لا وضعاً، ولا محلاً، ولا أداء، فيحافظ عليها ... فكيف ما له تعلق بها؟، ومن ذلك ما اشتهر في علم المصطلح بالأحاديث المسلسلة بالأفعال المختلفة .
__________
(1) انظر: المبحث التاسع من الفصل الثالث ص177 .(1/291)
ومن بعيدٍ نراك –يا نبيَ الأمة وسيدها - صلى الله عليه وسلم - ... نراك هائمين محبين ... ليس الهيام بك وجبريل لشخصيكما فحسب –وإن كان ذلك الهيام هو الشرف الأرفع-، ولا الحب لصحبتكما –وإن كان ذلك الحب هو السنى الأعلى- ... إنما الهيام والحب –مع ذلك-لاتصال أهل الأرض بخبر السماء ... فيا لوعتاه على انقطاعه –وإن كان الرؤوف الرحيم لم يتركنا بعدكما عالة- ... فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال أبو بكر - رضي الله عنه - –بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها، فلما انتهينا إليها بكت . فقالا لها: ما يبكيك؟! ما عند الله خيرٌ لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . قالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ... فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (1) .
أرقت فبات ليلي لا يزولُ ... ..وليل أخي المصيبة فيه طولُ
وأسعدني البكاء، وذاك فيما ... ..أصيب المسلمون به قليلُ
فقد عظمت مصيبته، وجلت ... ..عشية قيل قد قُبِضَ الرسولُ
وتصبحُ أرضنا مما عراها ... ... تكاد بنا جوانبُها تميلُ
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... .... يروح به ويغدو جبرئيلُ
لمبحث الرابع:
التو قيفية في غير أداء القرآن:
يرمي هذا المبحث إلى ذكر نماذج من التوقيفية الإلهية في غير أداء القرآن الكريم، مما هو أقل شأناً من أداء اللفظ القرآني، أو مماثلٍ له في أقل الأحوال؛ وذلك تأييداً للتوقيفية في أداء اللفظ:
واشتد حرص البحث هاهنا على ما سبق من منهج البحث من أنه لا يورد إلا ما فيه ذِكْرٌ لجبريل - عليه السلام - بجامع أن كلاً من الأمرين (أداء اللفظ القرآني، وغيره من أمور الدين) معلمه هو جبريل - عليه السلام - :
__________
(1) مسلم 4/ 1907،مرجع سابق .(1/292)
أولاً: التوقيفية في تفسير آي القرآن: ومع أن حياته كلها قولاً، وفعلاً، وهيئة تفسيرٍ للقرآن، إلا أن ذلك كله بإلهام من الله وتوفيق، وتوقيف إلا فيما ندر مما يتبعه الوحي استدراكًا، أو تأييدًا (1) ... وعلى الرغم من هذا كله؛ فإن تأويله للقرآن لم يكن إلا تعليمٌ من جبريل - عليه السلام - له فعن عائشة –رضي الله تعالى عنها– (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يفسر شيئاً من القرآن برأيه، إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل) (2) .
وروى الطبري مرسلاً، وابن مردويه موصولاً من حديث جابر - رضي الله عنه - :لما نزلت { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } "الأعراف/199" سأل جبريل - عليه السلام - فقال: (لا أعلم حتى أسأله) ثم رجع، فقال: (إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك) (3) .
فإن كان ذا في التفسير، فكيف يكون الأمر في ما يتوقف عليه التفسير وهو تلقي اللفظ الذي يُراد تفسيره؟.
ثانياً: التوقيفية في الدعاء: بل تعدى الأمر ذلك إلى التوقيفية في طريقة
__________
(1) وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم - :أكتب عنك ما سمعت ؟، قال: (نعم !)، قال: قلت: في الغضب والرضى ؟ قال: (نعم !فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقاً)، انظر: صحيح ابن خزيمة 4/ 26، مرجع سابق .
(2) مسند أبي يعلى 8/23، مرجع سابق، وقال محقق الكتاب سليم حسين أسد: "إسناده ضعيف".
(3) فتح الباري 8/306 و13 /259، مرجع سابق .(1/293)
الدعاء، فعن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (احضروا المنبر)، فحضرنا، فلما ارتقى درجة، قال: (آمين)، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: (آمين)، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: (آمين)، فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: (إن جبريل عرض لي فقال: بعداً لمن أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعداً لمن ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، قلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعداً لمن أدرك أبواه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، قلت: آمين) (1) .
ثالثاً: التوقيفية في المسائل العملية الفرعية: ... فعن الحارث بن عبد الله - رضي الله عنه - أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ميراث العمة والخالة فسكت، فنزل عليه جبريل - عليه السلام - فقال: (حدثني جبريل أن لا ميراث لهما) (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! إذا توضأت فانتضح) (3) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب به ليريه المناسك، فانفرج له ثبير (4) فدخل منى، فأراه الجمار، ثم أراه عرفات، فتتبع الشيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجمرة، فرماه بسبع حصياتٍ حتى ساخ، ثم تبع له في الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ، ثم تبع له في جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ، فذهب (5) .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين4/170، مرجع سابق، وقال: "هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" .
(2) المستدرك على الصحيحين4/381، مرجع سابق .
(3) الجامع الصحيح سنن الترمذي1/71، مرجع سابق، وقال الترمذي: حديث غريب"، قال الشيخ الألباني: "ضعيف".
(4) اسم جبل .
(5) صحيح ابن خزيمة 4/315 مرجع سابق .(1/294)
بل كان لا يحدث شيئاً يتصل بالدين من تلقاء نفسه، حتى فيما يمكن دخوله في النصوص العامة، فعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخرة إذا اجتمع إليه أصحابه، فأراد أن ينهض قال: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك، عملت سوءاً، وظلمت نفسي، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) –قال- فقلنا:يا رسول الله!إن هذه كلماتٍ أحدثتهن؟ قال: (أجل! جاءني جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد! هن كفارات المجلس) (1) ، فإحداثه لهن ليس أمراً من عند نفسه كما ظهر .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يأبى الإجابة على سؤال فرعي حتى يستأمر جبريل - عليه السلام - فيه، كما سبق، وعن جبير ابن مطعم - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أي البلدان شر؟ فقال: (لا أدري)، فلما جاءه جبريل - عليه السلام - قال: (يا جبريل! أي البلدان شر؟ قال: لا أدري حتى أسأل ربي - عز وجل - ، فانطلق جبريل، فمكث ما شاء الله، ثم جاء، فقال: يا محمد! إنك سألتني أي البلدان شر، فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي - عز وجل - : أي البلدان شر، فقال: أسواقها) (2) .
فإن كان يأبى أن يفسر القرآن إلا بوحيٍ وهو فرع اللفظ، فليكن كذلك فيما هو فرع أقرب للفظ من المعنى، وهو أداء ذلك اللفظ .
وإن كان يأبى إحداث ذكرٍ يناسب الحال، وهو فرع تعقل المعنى في النصوص العامة، فكيف بفرع ألفاظ هذه النصوص العامة مما لا مجال فيه للعقل، وهو أداؤها؟.
وإن كان لا يحدث شيئاً من تلقاء نفسه في التكليفات الفرعية، فليكن الأمر كذلك في فروع الألفاظ، وجامع كل أنه فرع .
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي 6/113، مرجع سابق .
(2) مسند أبي يعلى 13/400، مرجع سابق .(1/295)
وهذا عند فقدان نصوص توقيفية الأداء، فكيف وقد اتسعت هذه النصوص حتى شملت الهيئة الشخصية للمتلقي؟ (1) .
ولا يعترض بأن هذا تهويلٌ لما يجانبه التهويل؛ إذ ليس خطب أداء اللفظ كخطب ما قيس عليه، لأنه يجاب بأن أداء اللفظ يحيل المعنى غالباً، إذ إن إدغام النون في الصاد من (صنوان) لتصير صوان محيلٌ لمعناها من الصنو إلى غيره، وإبدال الهمز في رئياً لتصير رياً ملبسٌ معناها بري الظمآن، بعد أن كانت صريحة في الرؤية، وكلها وجوهٌ أدائية كما هو مقرر عند علماء القراءات ... ؟ فلا تهويل ثَمَّ، بل هو وضعٌ للأمور في نصابها (2) .
المبحث الخامس:
الحفظ في الصدر:
للأهمية البالغة التي نالها حفظ القرآن في الصدر من بين مفردات تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن على جبريل - عليه السلام - ؛ فقد لزم إفراد هذا الموضوع بمبحثٍ مستقلٍ يسبر غوره، ويحلل بعض جوانبه، ولذا انعقد هذا المبحث متألفاً من مقدمة وثلاثة مطالب:
المقدمة: الواجبات التي كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى لفظ القرآن .
المطلب الأول: تأصيل لفظة (الحفظ) .
المطلب الثاني: متضَمَّنات الحفظ .
المطلب الثالث: هل كان الحفظ واجباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
المقدمة: الواجبات التي كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى لفظ القرآن: هي كما يلي بناءً على ما سبق:
1 - سماعه - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - .
2 - قراءته - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه جبريل - عليه السلام - (لفظاً وأداء) .
__________
(1) انظر: تحليل حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص113 .
(2) وقد ذُكِرَ في المبحث الثامن من الفصل الثالث ص165 أن أداء اللفظ ينقسم إلى قسمين: أصليٌ، وفرعيٌ فالأصلي يحيل تغيره المعنى قطعاً، والفرعي قد يحيل المعنى كما في الأمثلة المذكورة أعلاه، وقد لا يحيل كتعاقب الفتح والإمالة على الكلمة .(1/296)
3 - الحفظ للفظ القرآن الكريم.
4 - العرض السنوي (أن يعرض هو - صلى الله عليه وسلم - على جبريل - عليه السلام - ألفاظ القرآن).
5 - المراجعة (التعاهد) .
6 - التبليغ: كما قال - سبحانه وتعالى - { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ } "الشورى/48".
7 - الإقراء: وهو أخص مطلقاً من التبليغ، ومثاله ما ثبت عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة (1) ، وتقدم حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - :(أُمرت أن أقرأ عليك) ... ، وذلك تطبيقاً لقول الله - سبحانه وتعالى - { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } "النمل/91"، { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ } "العنكبوت /45"، { ... حَتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ... } "التوبة /6".
وبعض هذه الواجبات قد تقدم تفصيله وذلك الواجب الأول، والثاني، والرابع، والخامس، وبعضها ليس من مدار البحث تبيينه، وذلك التبليغ والإقراء (2) ... فليقتصر كلام البحث هنا على الحفظ:
المطلب الأول: تأصيل كلمة (الحفظ):
__________
(1) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/288: "هو في الصحيح" .
(2) انظر: هيئة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبريل - عليه السلام - من حيث الأمر الشرعي والواقع التطبيقي المبحث الثامن من الفصل الثالث ص144، ففيها تفصيلٌ لما ذُكِرَ إلا الحفظ والتبليغ، فأما الحفظ فمحل ذكره هاهنا، وأما التبليغ فليس داخلاً في نطاق البحث، وأما الإقراء فأُشيرَ إليه هناك إشارة؛ إذ ليس مداراً للبحث .(1/297)
إن أول أسس نقل القرآن الكريم هو الرواية القرائية التي تعتمد في ثبوتها ثم في قبولها على أصلين: الحفظ في الصدر (قرآن)، والحفظ في السطر (كتاب) ... مع أن الثاني تابعٌ للأول، لا يستقل بذاته بخلاف الأول، ولذا كانت تسمية القرآن بالقرآن أشهر من تسميته بالكتاب .
وهذا الأساس في نقل القرآن الكريم هو غاية الأسس المنهجية لتعليم جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن، ثم أضحى حفظ القرآن في الصدر يعد الأساس الأول قي جواز نقل القرآن الكريم وإقرائه، ولذا قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - : (احفظوا عنا؛ كما حفظنا) (1) .
وقد ورد لفظ الحفظ صريحاً موصوفاً به إيداع القرآن في الذاكرة في حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) (2) .
وورد موصوفاً به الغاية من عملية تلقي القرآن في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في نزول آيات القيامة (3) ، وهو معنى الجمع الوارد في سورة القيامة؛ إذ تفسيره بالحفظ هو قول جميع المفسرين حقيقةً أو حكماً، واستخدم المسلمون هذه اللفظة فيما يثبت في الذاكرة، فعن عمر - رضي الله عنه - قال: (قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه) (4) .
__________
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/282، وصحح محققه إسناده .
(2) صحيح مسلم1/555، مرجع سابق .
(3) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص113 .
(4) رواه البخاري 3/1166، مرجع سابق .(1/298)
وقد صار الحفظ يطلق على ذلك، فصار حقيقةً عرفية لدى العلماء، ولذا بوب ابن حبان -رحمه الله تعالى- فقال: "ذكر استحقاق الإمامة بالازدياد من حفظ القرآن على القوم، وإن كان فيهم من هو أحسب وأشرف منه" (1) ، ثم شاع بعد ذلك حتى صار حقيقةً عرفيةً عند عامة المسلمين، فإن أطلق لفظ (حافظ) أو (حفظ) لم ينصرف لغير حفظ القرآن، وإن أُريد به غير القرآن لم يرد على ألسنة الخاصة والعامة إلا مقيداً، فرسخ بذلك مفهوم الحفظ في الصدر عندهم كمرادف للقراءة من الذاكرة في خصوص القرآن الكريم، ولذا دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حضهم على القراءة من المصحف التي أُطلِقَ عليها مؤخراً مصطلح (القراءة نظراً)، فقال: (من سره أن يحب الله ورسوله؛ فليقرأ في المصحف) (2) .ولعل إطلاق الحفظ على القرآن المودع في الذاكرة للربط حفظ الله للقرآن بحفظ العبد له، وأن حفظ العبد له بالمفهوم السالف الذكر مستقى منه .
ولأجل ما يحتويه مصطلح (حفظ)في هذا الباب من مُتَضَمَّناتٍ ربما لم يلتفت إليها قومٌ، وربما قلل من شأنها آخرون؛ فقد وجب أن نخوض غمارها لنعلم سر الاختيار القدري لها لترتبط بألفاظ القرآن؛ ففيه يتضح لنا دقة نقل ألفاظ القرآن إلينا، وتعليم جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الرابط بين استقصاء هذه المسألة وبين غاية البحث، على أن تحليلنا لها إنما هو كائنٌ من حيث مُتَعَلَّقها البشري لا من حيث مُتَعَلَّقها الإلهي، كما سبق في تأصيلها من حيث اللفظ .
المطلب الثاني: متضمنات الحفظ:
يتضمن (الحفظ) من حيث حقيقته اللغوية والاصطلاحية مجموعة دلالاتٍ تنحصر في التالي:
__________
(1) صحيح ابن حبان 5/499، مرجع سابق .
(2) (أبو نعيم) أحمد بن عبد الله الأصبهاني ت 430 هـ : حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 7/ 209، 1405هـ، دار الكتاب العربي - بيروت، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/234، مرجع سابق .(1/299)
1 - الاستظهار (1) : وهي المرحلة الأولى من مراحل الحفظ، وتكون بوعي النص من حيث اللفظ، واستبطانه بإيداعه في الذاكرة، وينطوي الاستظهار على أمرين:
أ-التدرج في الاستظهار: ففي (مختار الصحاح): "تَحَفَّظَ الكتاب: استظهره شيئاً بعد شيء" (2) .
ب - استظهاره كما هو: فلا يعتريه خللٌ في محلِّه، ولا ترتيبه، وإلا لم يصدق عليه الحفظ له، بل لغيره .
2 – الحراسة (3) : وهي المرحلة الثانية من مراحل الحفظ، وتكون بتثبيته و حمايته من التفلت، وهي تقرب من المراجعة للمحفوظ، إلا أنها تعتبر بينها وبين مرحلة الاستظهار، والحراسة تقتضي المراقبة، والمراقبة جزءٌ من الحقيقة اللغوية لمادة حفظ، والحراسة والمراقبة ترتبط أعظم الارتباط بمفهوم الأمانة، ولأن القرآن المحفوظ بالصدر أمانةٌ؛ فإن لفظ (الحفظ) قد اتسع مفهومه ليشمل كلَّ أمانةٍ، ولذا بوب الإمام البخاري –رحمه الله تعالى-: "باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة" (4) .
__________
(1) مختار الصحاح ص178، مرجع سابق، ففيه: وحفظه أيضا استظهره، وانظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/567، مرجع سابق .
(2) مختار الصحاح ص178، مرجع سابق .
(3) مختار الصحاح 178، مرجع سابق ففيه: حَفِظَ الشيء بالكسر حفظا حرسه .
(4) صحيح البخاري 5/2052، مرجع سابق، وبوَّب أيضاً: باب حفظ السر .(1/300)
وارتبط مفهوم الحفظ بحراسة المحفوظ من أن يعتريه خللٌ، أو يلج إليه دخلٌ صغر أو كبر؛ ولذا بوب البخاري –رحمه الله تعالى-: "باب حفظ اللسان" (1) ، وأورد أبو داود –رحمه الله تعالى– مجموعةُ أحاديث في ذلك، ومن حيث لفظ القرآن، فإن حفظه بهذا المعنى(الحراسة) يعنى التثبت من دقائق اللفظ، ومن ذلك ما رواه عروة بن الزبير –رحمه الله تعالى– في حديث قبض العلم: فقالت –عنى عائشة– يا ابن أختي! انطلق إلى عبد الله فاستثبت لي منه الذي حدثتني عنه، فجئته، فسألته، فحدثني به، كنحو ما حدثني، فأتيت عائشة، فأخبرتها، فعجبت، فقالت: (والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو) (2) .
3 - شموله للكلي والتفصيلي من حيث اللفظ: ففي قوله - سبحانه وتعالى - { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } "الانفطار /10-12"، فضمّن { يَعْلَمُونَ } معنى يكتبون؛إذ تلك مهمتهم الأساسية (3) ، ومُسَلَّمٌ شمول ذلك للتفصيلي والإجمالي من الاسم الموصول الدال على العموم في قوله { مَاا } ، واستقرار هذا العموم مقتضٍ أن يشمل هذا الحفظ أصلَ اللفظ وطريقة أدائه، وما خرج عن هذا فالمفتاح في المُخْرِج له، ومن ثم فادعاء خروج الأداء عن الحفظ، أو عن تبليغ القرآن ادعاءٌ يفتقر إلى الدليل .
__________
(1) صحيح البخاري 5/2376، مرجع سابق، ومن ذلك حديث سنن أبي داود 1/127، مرجع سابق: (فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم)، وكذلك حديث سنن أبي داود 3/298، مرجع سابق: (فقضى أَنَّ حِفْظَ الحوائط بالنهار على أهلها، وأَنَّ حِفْظَ الماشية بالليل على أهلها، وأَنَّ على أهل الماشية ما أَصابت ماشيتهم بالليل).
(2) صحيح البخاري 6/2665، مرجع سابق .
(3) لمعنى في غاية الأهمية هو أنهم يعلمون ما يكتبونه من مثقال الذر من خيرٍ أو شرٍ، فليست كتابتهم كتابةً عمياء يمكن معها خداعهم .(1/301)
المطلب الثالث: هل كان الحفظ واجباً على - صلى الله عليه وسلم - ؟:
ويبقى بعد ما تقدم من تحليل لمدلول الحفظ: أن يجاب عن سؤال في هذا الباب هو: هل كان الحفظ لألفاظ القرآن واجباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
الجواب:
نعم، كان واجباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوباً مقطوعاً به، والدليل على ذلك:(1/302)
1 - أول سورة نزلت عليه هي سورة اقرأ باسم ربك (1) :فبدايتها { اقْرَأْ } ، فأنى له بالقراءة وقد قال ربه - عز وجل - عنه: { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ } "الشورى/52"، وذاك موجبٌ قراءته من حفظه، فقوله - سبحانه وتعالى - : { اقْرَأ } أمر بالقراءة، والقراءة نطقٌ بكلامٍ معينٍ مكتوب، أو محفوظٍ عن ظهر قلبٍ، والأمر بالقراءة مستعملٌ في حقيقته من الطلب لتحصيل فعلٍ في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب أن يقرأ ما سيُقرأ عليه، وفي حديث عائشة –رضي الله تعالى عنها– في بدء الوحي : (فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده) (2) أي فرجع بالآيات التي قُرِئَتْ عليه ليحفظها لا ليكتبها أي رجع متلبساً بها، أي بوعيها، وهذا يدل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلقى ما أوحي إليه، وقرأه حينئذٍ، ويزيد ذلك إيضاحاً قولها في الحديث ذاته (فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك) أي: اسمع القول الذي أُوحي إليه، وهذا ينبئ بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قيل له بعد الغطة الثالثة { اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ } الآيات الخمس كان قد قرأها ساعتئذٍ، كما أمره الله - سبحانه وتعالى - ، أو حفظها على الأقل، ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها، وعلى هذا يكون قول الملك له في المرات الثلاث { اقْرَأ } إعادةٌ للفظ المنزل من الله - عز وجل - ، إعادةَ تكريرٍ للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل (3) ، ولم يُذْكَر لفعل { اقْرَأ } مفعولٌ؛ إما لأنه نُزِّل منزلة اللازم، وأن المقصود أوجد القراءة، وإما لظهور المقروء من المقام، وتقديره: اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن (4) .
__________
(1) هذا هو الاسم المشهور عند علماء التفسير، وكذلك على ألسنة الصحابة .
(2) صحيح البخاري 1/3، مرجع سابق .
(3) وهذا المعنى لا ينافي غيره من المعاني التي لا تتضاد .
(4) انظر: التحرير والتنوير 30/434، مرحع سابق .(1/303)
فإن اعتُرِض بأن: القراءة تتحقق القراءة بكلمةٍ وكلمتين، وآيةٍ وآيتين، وسورةٍ وسورتين، فأين وجوب قراءته عليه كله، ومن ثم فأين وجوب حفظه عليه كله؟ .
فالجواب مما سيأتي:
2 – أميته - صلى الله عليه وسلم - : فهو { الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ... } "الأعراف/157"، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (إنا أمةٌ أميةٌ لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين) (1) ومن كان ذا شأنه فهو يحفظ، فلو لم يؤمر بالقراءة لكانت أميته كافيةً في وجوب الحفظ عليه .
ولذا كانوا يعتمدون على حفظهم للسنن النبوية؛ فقد دخل زيد بن ثابتٍ - رضي الله عنه - على معاوية - رضي الله عنه - فسأله عن حديث، فأمر إنساناً يكتبه، فقال له زيد: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه فمحاه) (2) ، فما هم فاعلون في كلام رب البرية - عز وجل - ؟.
3- مقتضى إرساله، وحقيقة وظيفته - صلى الله عليه وسلم - وهو التبليغ، ورأس ما يبلغه - صلى الله عليه وسلم - القرآن، وقد قال ربه - سبحانه وتعالى - : { ... بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... } "المائدة /67" { ... إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ... } "الشورى/48 "، ولا يكون مبلغاً رسالة ربه وهو لم يُحِط بالقرآن حفظاً، أنى، وقد قال ربه - عز وجل - : { ... وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... } "المائدة /67" ... وقول الله - سبحانه وتعالى - : { ... وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ... } "الأنعام/19" قاطعٌ لكل خطيب في هذه المسألة .
__________
(1) صحيح البخاري 2 /675، مرجع سابق .
(2) سنن أبي داود 3/318، مرجع سابق، وفي مسألة النهي عن كتابة حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، انظر: تدريب الراوي 2/234، مرجع سابق .(1/304)
4 - قوله - عز وجل - : { ... وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ... } "التوبة / 6":وبين هذا الدليل وبين الدليل الثاني عمومٌ وخصوصٌ مطلق، فلا يَرِدُ عليه التكرار .
5 - قوله - سبحانه وتعالى - { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } "الأعلى /6 "، فإنه مقتضٍ إعانة الله - عز وجل - له على الحفظ، المستلزم وجوبه عليه، وتزداد قوة الحفظ كلما ازدادت أهمية المحفوظ، وليس هناك ما هو أكثر أهميةً في حياة المسلم من أهمية القرآن الكريم بَلْهَ المسلم الأول بَلْهَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - :(إنما يحفظ الرجل على قدر نيته) (1) ، فكيف لو جمعت هذا إلى ما تكفل الله - سبحانه وتعالى - به من جمع القرآن في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأي حافظةٍ تلك التي ستُرى؟ .
6 – قوله تعالى { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } "القيامة /17 ": ومعنى الجملتين { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } : إن علينا جمع الوحي، وأن تقرأه، وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك، أي عن ظهر قلبك لا بكتابةٍ تقرؤها، بل أن يكون محفوظاً في الصدور، مبيناً لكل سامع، لا يتوقف على مراجعةٍ، ولا على إحضار مصحفٍ من قرب أو بعد . فالبيان هنا بيان ألفاظه ليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه (2) ... .
__________
(1) الجامع لآداب الراوي والسامع2/312، مرجع سابق .
(2) انظر: التحرير والتنوير 29/350، مرجع سابق، وانظر: تحليل آيات القيامة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص116.(1/305)
فبعد إلقاء جبريل - عليه السلام - القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حفظه في صدره، ويسهل إدراك أن قوله - سبحانه وتعالى - { فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } بمعنى أن تقرأه (1) ، لا يراد منه القراءة من الأوراق، ولا من المصحف بل يعني القراءة من المحفوظ في الصدر؛ إذ لم يقرأ النبي كتاباً، وليس بقارئ، وما كان يدري ما الكتاب، وكذلك فإن جمعه في صدره يعني الحفظ في الصدر .
وهذه حقيقةٌ من حقائق الاصطلاح الشرعي في هذا الباب: أن القراءة في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعني قراءته من محفوظه، كما يظهر مما سبق .
فإن اعتُرض بأن: ذا كان جائزًا أول الأمر قبل التبليغ، أما استمرار حفظه بعد فلا؟.
فالجواب: إن لم يجب استمرار الحفظ، فكيف يكون التذكير الذي هو جزءٌ من ماهية التبليغ؟وقد قال الله-تعالى ذكره-في معرض حصر مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } "الغاشية /21" .
وعند النظر في الشريعة يستبين أن من أهم أسماء القرآن (الذكر)، والذكر عامٌ للناس كلهم { ... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ... } "النحل/44"، وخاصٌ للمؤمنين { ... فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } "ق/45"، وذلك كله مستلزمٌ للتذكير بما يريده الله - سبحانه وتعالى - المقتضي لاستمرارية الحفظ ... ولذا كان جبريل - عليه السلام - يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عام، فإن لم يكن هذا دليلاً على وجوب الاستمرار لحفظ القرآن فعلى ماذا يدل هذا؟.
7 - قوله - عز وجل - : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } "ق/9":والحفظ لا يتم للقرآن خارج النواميس الإلهية، وذلك أمران:
__________
(1) تقدم شرح الآية في حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص116 .(1/306)
أ - ما يتم بالقدرة الإلهية المحضة، وهو مشاهدٌ ملموسٌ؛ إذ قد أحاط بالكتاب الكريم من المكر الكبار ما كادت أن تميد منه الجبال، ولا تكفي القدرة الإسلامية المتمحض بشريتها لصده، خاصة في فترات الاستضعاف ... وعلى الرغم من ذلك يظل الكتاب الكريم محتفظاً بثبات لفظه، وازدياد رسوخ نصه .
ب - ما شرفت الأمة بالتكليف به؛ إذ هي وارثة الكتاب، وقد قال الله - سبحانه وتعالى - : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... } "فاطر/32"، ولئن استُحْفِظَ أهل الكتاب السابقين على ما نزل إليهم، لذاك كائنٌ أوجب في حقنا، وقد قال الصاوي –رحمه الله تعالى-: " ... سيما، وقد جعل الله له خَدَمَةً من البشر يحفظونه" (1) ، وقال صاحب التحرير والتنوير: "حتى حفظته الأمة عن ظهور قلوبها من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - " (2) ، بيد أن هذه الأمة المشرفة قد ميزها الله - سبحانه وتعالى - بتوليه حفظ الكتاب بذاته، وواضحٌ عدم المنافاة بين ذلك وإيجاب حفظه على الأمة، بل وجوب حفظه على الأمة هو أول أدلة واقعية الحفظ الإلهي له ... .
وقد اتضح وجه الدلالة: من الآية على وجوب حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن هو: دخوله في الأمة دخولاً أولياً (3) .
8 - قوله تعالى: { ... وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } "طه/114".
وجه الدلالة: حرصه - صلى الله عليه وسلم - على حفظ القرآن، مع تكليفه بالرسالة، يستلزم وجوب حفظ القرآن عليه ...
__________
(1) حاشية الصاوي وبهامشه تفسير الجلالين 2/314، مرجع سابق .
(2) التحرير والتنوير 14/20، مرجع سابق .
(3) وذلك بغض النظر عن الخلاف في القاعدة الأصولية في دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطاب أمته، وتأتي الإشارة إليها بعد ق ليل .(1/307)
9 – بقاؤه - صلى الله عليه وسلم - أمياً (1) :
__________
(1) وما ذهب إليه البعض من تعلمه الكتابة بعد نبوته فشذوذٌ قد نُهِيَ أولوا النهى من طلبة العلم عن تتبعه، على أن كثيراً من الشذوذ لا يُروى على وجهه، بل ينقل على الهوى العقلي أو العاطفي لناقله . ويوضح ذلك من حيث خصوص موضوعنا ما قاله ابن كثير في تفسيره 3/4، مرجع سابق: "وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائماً، إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة، ولا يخط سطراً، ولا حرفاً بيده بل كان له كُتَّابٌ يكتبون بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم، ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه - عليه السلام - كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخارى: "ثم أخذ فكتب"، وهذه محمولة على الرواية الأخرى: "ثم أمر فكتب"، ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرءوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالاً، وخطبوا به في محافلهم، وإنما أراد الرجل -أعني الباجي- فيما ظهر عنه أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يُحْسِن الكتابة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - إخباراً عن الدجال (مكتوب بين عينه كافر)، وفي رواية (ك ف ر يقرؤها كل مؤمن)، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت - صلى الله عليه وسلم - حتى تعلم الكتابة فضعيفٌ لا أصل له، قال الله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو } "العنكبوت/48" أي تقرأ { مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ } لتأكيد النفي { وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } تأكيد أيضاً، وخرج مخرج الغالب، كقوله تعالى { ولا طائر يطير بجناحيه } "الأنعام/38"، وقوله تعالى { إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس، فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله، مأثورة عن الأنبياء، مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } "الفرقان/5" قال الله - سبحانه وتعالى - { قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } "الفرقان/6" الآية، وقال هاهنا: { بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } "العنكبوت/49 " أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمراً ونهياً وخبراً، يحفظه العلماء، يسره الله عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً، كما قال - عز وجل - { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } "القمر /17"، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ما من نبيٍ إلا وقد أُعْطيَ ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً ... )". والحديث الأخير رواه البخاري 6/1607، مرجع سابق .(1/308)
وذا دالٌ على وجوب ملازمة حفظه لكتاب الله - سبحانه وتعالى - ، للزوم استظهاره، واستدعائه متى لزم الأمر، لأداء رسالة الله - عز وجل - تبليغاً أو تذكيراً، حتى لو كان مخدعه أو مرتعه، أو مدخله أو مطلعه، أو مسكنه، أو مَرْبَعه ... ولا يُعْتَرَضُ على هذا بأن الله - سبحانه وتعالى - قد كفاه ذلك بالكتاب الذي كان يكتبه صحبه من كتبة الوحي؛ إذ محال أن يصطحب الكِتاب والكُتَّاب في كل مكان ... يريد فيه التبليغ والدعوة ... لا لعزتها آنها، بل لخصوصية احتياجه إلى الدعوة والتبليغ ضرورة كونه نبياً ... ومن يفترضها هنا، يفترض المحال ... .
10-قوله - سبحانه وتعالى - : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48)بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ الظَّالِمُونَ } 0000، يعني أنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل ثم نفى الكتابة عنه، والمقصود نفي حالتي التعلم (بالقراءة والكتابة) استقصاءً في تحقيق وصف الأمية، وقوله - عز وجل - { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } " أي بل القرآن آيات في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ولا يُعْتَرَضُ بأنه قد ورد في تفسير الذين أوتوا العلم: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن أول الذين أوتوا العلم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 21/12، مرجع سابق .(1/309)
11- حديث عياض بن حمارٍ المجاشعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا:كل مالٍ نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً ... )الحديث (1) .
قال ابن كثير:" أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه، لما احتيج إلى ذلك المحل، لأنه قد جاء في الحديث الآخر: (لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار)، ولأنه محفوظٌ في الصدور، ميسرٌ على الألسنة، مهيمنٌ على القلوب، معجزٌ لفظاً ومعنى، ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة أناجيلهم في صدورهم" (2) .
وقال النووي:"أي محفوظاً في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على ممر الزمان، (تقرؤه نائماً ويقظاناً): أي يكون محفوظاً لك في حالتي النوم واليقظة، وقيل تقرؤه في يسر وسهولة" (3) .
وهذا نصٌ في أنه - صلى الله عليه وسلم - يحفظه أمراً وإخباراً عن الواقع .
__________
(1) صحيح مسلم 4/ 2179، مرجع سابق .
(2) تفسير ابن كثير 3/48، مرجع سابق .
(3) شرح صحيح مسلم 17/189، ونقلها السيوطي في الديباج 6/ 222، مرجع سابق .(1/310)
12 - ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُجْهِدُ نفسه فيه عند تلقيه الوحي: كما تقدم في روايات حديث المعالجة (1) ، وفيها:(يحرك لسانه) يريد أن يحفظه ... يعجل بقراءته ليحفظه، ولابن أبي حاتم: (يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله، قبل أن يفرغ من آخره)، وفي مسند الحميدي: (يعجل به يريد أن يحفظ)، والحفظ منصرفٌ هنا للفظ إذ لو كان المراد المعنى لما احتاج لذاك الإجهاد .
13 - ومما يدل على وجوب حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن، حفه بالعوامل المساعدة على الحفظ، مثل تنجيم القرآن، وترتيله؛ وهو ما صرح به صاحب التحرير والتنوير حيث قال في فوائد الترتيل:"وفائدة هذا: أن يرسخ حفظه، ويتلقاه السامعون، فيعلق بحوافظهم، ويتدبر قارئه، وسامعه معانيه، كي لا يسبق لفظ اللسان عمل الفهم" (2) ، وهو تصريحٌ بأن عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ضبط الاثنين: لفظ اللسان، وعمل الفهم .
__________
(1) انظر: المبحث السادس من الفصل الثالث ص113.
(2) التحرير والتنوير 29/ 317، مرجع سابق .(1/311)
ومن هذه العوامل المساعدة على الحفظ: التنبيه ابتداءً على صعوبة المحفوظ من حيث اشتماله على معانٍ غير متوقعة، ولا معتادةٍ في تفاصيلها، لئلا يدور بخلد الذي يريد الحفظ وهو (النبي) - صلى الله عليه وسلم - أولاً أنها معتادة فاللسان لن يضيعها؛ فيتأهب له، ويقدره حق قدره، كما قال - عز وجل - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } "المزمل /5"، والثقل الموصوف به القول ثقلٌ مجازي لا محالة مستعارٌ لصعوبة حفظه؛ لاشتماله على معانٍ ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه، فيكون حفظ ذلك عسيراً على الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمي، تنوء الطاقة عن تلقيه، فقد مهد لهذه الحقيقة بأوامر هي وسائل لتحقيق مقتضاها: من قيام ليلٍ، وترتيل قرآنٍ، فقوله - سبحانه وتعالى - : { إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً } "المزمل /5" تعليلٌ للأمر بقيام الليل (1) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير29/164، مرجع سابق، ولا ينافي هذا تيسير القرآن للذكر؛ إذ هو كذلك بالنظر إلى أنه الحق الصالح برغم صغر حجمه لكل زمانٍ ومكانٍ هادياً في كل مجال، وهو كذلك بالنظر إلى من اتبع قواعده في أسلوب حفظه، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعاهده فهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها .(1/312)
12 - الترهيب من نسيان القرآن: وإن لم يصح في عقوبةٌ ذلك حديث مرفوع (1) ، فقد دخل في عموم قوله - سبحانه وتعالى - : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } "طه/124-125" (2) ، وقال ابن حجر في قول البخاري-رحمه الله تعالى-: "باب نسيان القرآن، وهل يقول نسيت آية كذا وكذا": "كأنه يريد أن النهي عن قول نسيت آية كذا وكذا ليس للزجر عن هذا اللفظ، بل للزجر عن تعاطي أسباب النسيان المقتضية لقول هذا اللفظ" (3) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يدخل في الخطاب بذلك على راجح أقوال الأصوليين (4) .
__________
(1) لكن قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/86، مرجع سابق: "قد أخرج بن أبي داود من وجهٍ آخر مرسل نحوه ولفظه: ( ... أعظم من حامل القرآن وتاركه) -في معرض التهديد بأكبر الذنوب- ومن طريق أبي العالية موقوفاً: (كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه) وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسنادٍ صحيح في الذي ينسى القرآن: (كانوا يكرهونه، ويقولون فيه قولاً شديداً)، ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعاً: (من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم) وفي إسناده أيضاً مقال، وقد قال به من الشافعية أبو المكارم الروياني، واحتج بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به، والتهاون بأمره ... " .
(2) وانظر في هذا الموضوع: تفسير ابن كثير 4/ 118، والقرطبي 16 /30، مرجعان سابقان، وبين أن المراد " النسيان الكامل" واصلاً حد الترك لا النسيان الذي يغلب، ومصنف ابن أبي شيبة 6/124، والترغيب والترهيب 2/232، وفتح الباري 9/80، مرجع سابق، ونيل الأوطار 2/ 160.
(3) فتح الباري 9/85، مرجع سابق .
(4) انظر: نثر الورود على مراقي السعود 1/ 188، مرجع سابق عند قول الناظم في باب الأمر:
وآمرٌ بلفظةٍ تَعُمَّ هلْ دخل قصداً،أو عن القصد اعتزل،
وفي 1/261 عند قول الناظم في باب العام:
وما يَعٌمُّ يشمل الرسولا وقيل لا، ولنذكر التفصيلا
حيث ذكر الشارح في المسألة ثلاثة أقوال .(1/313)
وبعد هذا الاستعراض لبعض أدلة وجوب حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لألفاظ القرآن الكريم، فإن الكلام على هذه المسألة غمطٌ لها، والتعريف بوجوب الحفظ على النبي - صلى الله عليه وسلم - لألفاظ القرآن تعريفٌ بما هو كالضرورة، بل إنَّ هذه المسألة مما تصورها كافٍ في بدهية الحكم عليها، والاستدلال عليها تضييعٌ لها ... إنما أُريد الإشارة المجردة؛ ليعلم الذين آمنوا كم أُحيط بألفاظ هذا الكتاب الكريم من رعاية .
الفصل الخامس
دمغ الباطل
وفيه مبحثان
وفيه يذكر الباحثُ بعضَ العوامل المقدوح بها في دقة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - من منظور البحث وزاويته، فبعدما توافرت عوامل الإيجاب على تحرير متعلقات موضوع تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - ، وجبت الإشارة إلى نفي عوامل السلب عن ذلك التلقي من حيث خصوص هذا الموضوع، فكان هذا الفصل منعقداً لهذه الغاية .
... ودَحْضُ ما يقدح به في هذا الموضوع داخلٌ ضمن ما سبق، فبمجرد معرفة طبيعة الوحي القرآني، وإنزاله، وتعليمه، وتَعَلُّمِه بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبريل - عليه السلام - تُدْحضُ كل شبهةٍ، ولكن مرضى العقول، وسَقَمَة القلوب قد تعتريهم نفثات الشياطين، فيورون زَنْدَ الشبهة، ليوقعوا غيرهم في البلبلة والاضطراب التصوري لحقائق القضايا الاعتقادية، وليس الأمر مع الصنف الأول مستلزماً النقاش لفساد الأصل الذي يتكئون عليه، إلا أن النقاش يكون مع من يتأثر بعقابيل أقوالهم، وخبال زللهم ... ومجموع الشبه الواردة في باب تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام - مَرَدُّها إلى جهتين:(1/314)
جهة تأثير العوامل الخارجية: على تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث أن جبريل - عليه السلام - ينتمي إلى العالم الغيبي، فقد يُزْعَم أن الموحِي له قد يكون ساحراً، أو جناً، أو يؤثر هذان في النبي - صلى الله عليه وسلم - حال تَلَقِّيه الوحي، فيحسب الكلمة من جبريل - عليه السلام - وهي من غيره، فجماع هذه العوامل هو الاتهام بالتخيل لعدم الثقة بكون المُلْقِي بالوحي هو جبريل - عليه السلام - لاحتمالية كونه غيره .
وجهة تأثير العوامل الداخلية: ويُراد بها ما يعتري الإنسان من ضعفٍ، وقصورٍ يؤثران على استيعابه للفظ القرآن الكريم؛ إذ لم يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طبيعته البشرية وهو يتلقى الوحي القرآني، والنسيان والقصور البشري أنموذجان لهذا النوع من العوامل . فيتألف هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: العوامل الخارجية .
المبحث الثاني: العوامل الداخلية .
على أن شرط البحث في الكلام عن هذا الموضوع ألا يتطرق للعوامل الأخرى التي قذف بها المشركون، ولا تعلق لها بالتلقي من جبريل - عليه السلام - ، كالاتهام بكونه - صلى الله عليه وسلم - شاعراً (1) ، أو كذاباً، تنزه عما يقول الظالمون، أو اتهام المسلمين بضياع شيءٍ من القرآن (2) ... ؛ إذ الخوض في ذلك مُخْرِجٌ للبحث عما هو له ... ولذا فإن حركة البحث هاهنا ستنحصر في هذا الشرط دون غيره .
المبحث الأول:
دفع العوامل الخارجية:
__________
(1) ولأن الشِعْر لا يعود إلى التخيل المُلْبٍس لشخصية جبريل - عليه السلام - بغيره، وكذلك لم يُتَكَلم عن الكهانة لأنها ترجع إلى التخيل بسبب الجن أو السحر، فتُكُلِّم عن أصلها .
(2) انظر في هذا الباب: نكت الانتصار للباقلاني، مرجع سابق، فقد أنشأه مؤلفه لمثل ذلك .(1/315)
يجمع العوامل الخارجية المقدوح بها في صحة تلقي اللفظ (التخيل)، وتنقسم إلى خمسة أقسامٍ من حيث درؤها عن صحة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ،ويمكن إرجاعُها إلى أمرين: عامٍ وخاصٍ من حيث درؤها عن دقة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن صحة تلقيه، يكونان مطلبي المبحث:
المطلب الأول: دفع تهمة التخيل في تلقي ألفاظ القرآن بصفة عامة .
المطلب الثاني: دفع تهمة التخيل في تلقي ألفاظ القرآن من حيث تفصيل العوامل المظنون إحداثها التخيل .
المطلب الأول: دفع تهمة التخيل في تلقي ألفاظ القرآن بصفة عامة:
يرجع هذا الدفع إلى جميع أركان تلقي اللفظ القرآني: من اللفظ في ذاته، وطرفي الاتصال، وطبيعة الدين الإسلامي، وينحصر ذلك الدفع فيما يلي:
1 - بالضمان الإلهي بالحفظ لكتابه: وهذا ضمانٌ عامٌ، إثباتاً للقرآن، ونفياً لما عداه عنه، ومستنده قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر /9" .
... وتقدم أن الحفظ يقتضي الحراسة والمراقبة (1) ، وهو مدلوله هنا ... وفي هذه الآية جيء بالجملة الاسمية مؤكدةً بتوكيدين، ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلَّقه إفادةً للعموم إلى ضمير العظمة، وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه (2) .
__________
(1) انظر: المبحث الخامس من الفصل الرابع ص235 .
(2) انظر: روح المعاني 14/12، مرجع سابق .(1/316)
2 - بالضمان الإلهي بعدم تطرق شائبةٍ من الباطل إليه: وهذا ضمانٌ خاصٌ يدحر عوامل السلب، بعد الضمان العام بالمحافظة الشاملة لإثبات كلام الله - سبحانه وتعالى - في كتابه، ونفي أن يتطرق إليه غيره، فكان هذا الضمان تأكيداً ثانياً على نفي عوامل السلب من أن تتطرق لكتاب الله - عز وجل - ، كما قال - سبحانه وتعالى - { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } "فصلت /41 -42"، والمراد استمرار النفي، لا نفي الاستمرار (1) .
... وإثبات هذا النفي يعتمد على إحدى مقدمتين:
إما أن يثبت للمدعو صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوى الرسالة بغير بينة القرآن الكريم، لِيُصَدَّق -بعدُ- في هذا الضمان،
وإما أن يثبت للمدعو كون القرآن بلفظه، أو بمعناه، أو بهما معاً ليسا من بشرٍ، بل من الله - عز وجل - من خلال بضعٍ حديثٍ من القرآن يُتْلَى، فَيُصَدَّقَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بقية القرآن ... . وقد تحققت كلا المقدمتين (2) .
__________
(1) انظر: روح المعاني 17/271، مرجع سابق .
(2) راجع مثلاً: القاضي عياض بن موسى اليحصبي: الشفا تعريف حقوق المصطفى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، وغيرها من كتب السيرة أو الإعجاز القرآني البياني والعلمي والتشريعي ... .(1/317)
3 - بمعرفة طبيعة الوحي القرآني: إذ حقيقته كلام الله - عز وجل - الذي أنزل إلى الأرض لينذر به من حضر، ومن بلغ، وهذا يقتضي الديمومة والبقاء والهيمنة ... وإذا كانت هذه ماهيته، فيستحيل طروء تغيير فيه من خارج مكان إنزاله، ولذا ورد في سورة التكوير الربط بين نفي ما وجه إلى الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - وبين طبيعة الوحي { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } "التكوير/27"، وكذلك في سورة النجم حيث نفى طعن الطاعنين في الوحي الذي يتلوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله - سبحانه وتعالى - { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى*وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى } "النجم /2-3"، ثم بَيَّنَ طبيعة الوحي بقوله - عز وجل - { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } "النجم/4"، فدعوى التخيل فيه مضاد لطبيعته، وهذا التقرير يكون لمن يُسَلَّمُ بالوحي ابتداء، ثم يعتريه إرجاف المرجفين؛إذ لو استجاب للشبهة لوصل إلى خُلْفٍ من القول: بأن يُسَلَّمَ بالوحي القرآني ويعرف طبيعته، ثم ينقضه بقبول المرجفات حوله .
وما سبق كان حفظاً للمُنْزَل، ونفياً لأي دخل من خلال القرآن المُلْقَى، فتصوره كافٍ في نفي ما يظنه المتخرص رجماً بالغيب، وثَمَّ حفظٌ للنازل به، والمُنْزَل عليه، ونفيٌ لأي قدحٍ في صحة تلقي اللفظ القرآني، ودقته من خلال ذلك، وهو ما يأتي:
4 - بتأكيد الاتصال الحسي بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما تراه في قوله - سبحانه وتعالى - : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } "النجم /11-12" .(1/318)
فالكذب يطلق على التخيل والتلبيس من الحواس، كما يقال: كذبته عينه (1) ، وهم ولجوا له من باب التخيل مجادلة أو جحوداً، إذ قراءة { تُمَارُونَهُ } (2) من المراء وهي المجادلة، وقراءة { تُمْرُونَهُ } من مراه إذا جحده، كأنه قال: بعضكم يجادله، وبعضكم يجحده، كما هو المعتاد في توزيع الأدوار المخطط أو التلقائي في عالم المعاندين .
فالأظهر أن قوله تعالى { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } "النجم/11"، تدور حول معنيين:
أحدهما: أن هذا ردٌ لتكذيبٍ من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - الملَك جبريل - عليه السلام - ، وهو الذي يؤذن به قوله -بعد- { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } و { ال } في قوله { الْفُؤَاد } عوضٌ عن المضاف إليه، أي فؤاده، وعليه فيكون تفريع الاستفهام في قوله { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } استفهاماً إنكارياً لأنهم ماروه .
والآخر: أن يكون { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } تأكيداً لمضمون قوله { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } لرفع احتمال المجاز في تشبيه العرب، أي هو قربٌ حسيٌ، وليس مجرد اتصالٍ روحاني، فيكون الاستفهام في قوله { أفَتُمَارُونَهُ } مستعملاً في الفرض، والتقدير: أفستكذبونه فيما يرى بعينيه، كما كذبتموه فيما بلغكم عن الله - سبحانه وتعالى - (3) .
__________
(1) التحرير والتنوير 26/99، مرجع سابق .
(2) قرأ (تمارونه) بإثبات الألف أبو عمرو وابن كثير ونافع وابن عامر وأبو جعفر وعاصم من العشرة، والبقية بحذف الألف. انظر: طيبة النشر في القراءات العشر، مرجع سابق، عند قول الناظم في سورة النجم: (تمروا تماروا حبر عم نصنا) .
(3) انظر: التحرير والتنوير 26/99، مرجع سابق .(1/319)
والمعنى: رآه بعينه، وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق (1) ،
__________
(1) انظر: البحر المحيط 8/158، مرجع سابق، وقد قيل: إن المرئي هو الله - عز وجل - ، ويكفيه ضعفاً حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- المتقدم لفظه في المبحث الأول من الفصل الثالث ص77 وما قبلها-، والحديث في صحيح مسلم 1/159، مرجع سابق .
لا جرم أن نقدم خبر عائشة على تأويل ابن عباس؛ فترجيحه ظاهرٌ من حيث أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أما ابن عباس فظاهر كلامه أنه مجرد استنتاج، فتطرق الاحتمال إلى روايات غيرها لا إلى حديثها كما هو ظاهر، وانظر: البحر 8/158، مرجع سابق، تفسير ابن كثير 4/210، مرجع سابق، وانظر: المبحث الأول في الفصل الثالث .(1/320)
ويمكن للباحث أن يقول: إن قراءة التشديد { كَذَّبَ } تفيد يقينه مما رآه، وقراءة التخفيف { كَذَبَ } تفيد صدقه فيما نقل (1) ... وفي ذلك تنويهٌ بمدى الدقة، وطمأنينةٌ بحقيقة الواقع المحكي ... وتعدية الفعل بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى الغلبة أي: هبكم غالبتموه على عبادتكم الآلهة، وعلى الإعراض عن سماع القرآن، ونحو ذلك، أتغلبونه على ما رأى ببصره (2) ، فهذا المقطع يؤكد تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤيةٍ، وتمكنٍ ودقةٍ، لا رؤية قلبٍ، وعينٍ فحسب، وخص الفؤاد؛ لأن رؤية الفؤاد لا يتأتى معها تخيل، بخلاف رؤية العين التي قد تخدع خداع نظر (3) ، وقد تقدم مراراً (4) أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - وسماعه له حال إلقاء الوحي يكون متصلاً بمركز السمع والبصر في الفؤاد مباشرة .
__________
(1) قرأ بالتثقيل هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر من العشرة، وبقية العشرة بالتخفيف ... انظر: (ابن الجزري) محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833هـ: طيبة النشر في القراءات العشر ص97، مرجع سابق، عند قول الناظم: (كذب الثقيل لي ثنا) .
(2) انظر: حاشية الصاوي 4/ 175، مرجع سابق، التحرير والتنوير 26/99، مرجع سابق، وقيل: إن المراد أمر الإسراء والمعراج، والسياق وسبب السورة يُبعدان ذلك، وتقدم نوع إشارة لذلك، انظر : المبحث الأول من الفصل الثالث ص72 .
(3) انظر: ظلال القرآن 6/3405، مرجع سابق .
(4) انظر –مثلاً-: المبحث الأول من الفصل الثالث ص77 .(1/321)
5- برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في صورته التي خلقه الله - عز وجل - عليها عياناً كما قال - سبحانه وتعالى - : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفق الْمُبِينِ } "التكوير/23"، وقال: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } "النجم/13": أي إن كنتم تجحدون رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في الأرض، فلقد رآه رؤية أعظم من حين يأتي إليه للوحي إذ رآه في العالم العلوي ... وأكد ذلك بالقسم، فضمير الرفع في رآه عائد إلى صاحبكم، وضمير النصب عائد إلى جبريل - عليه السلام - ، وأكد ذلك بقوله { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } "النجم/17"، أي: رأى جبريل - عليه السلام - رؤية لا خطأ فيها، ولا زيادة على وصف، أي لا مبالغة فيها (1) .
ومن حكم رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في هيئته التي خلق عليها: أن يَطْمَئِنَّ في ذاته إلى ملائكية جبريل - عليه السلام - فرآه على هيئته الحقيقية مرتين، وأكد ذلك بالقسم؛ إذ اللام في قوله { وَلَقَدْ } موطئةٌ للقسم، أي: وبالله لقد رآه (2) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 26/100، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 3/106، مرجع سابق .(1/322)
فالمرة الأولى: بالأُفق المبين، قيل: بعد أمر غار حراء، حين رآه على كرسيٍ بين السماء والأرض له ستمائة جناح (1) ، والأُفق: الفضاء الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب، وهو يلوح كأنه قبة زرقاء، والمعنى: رآه بين السماء والأرض، وقيل في معنى الأُفق غير ذلك (2) ...وأياً كان فوصفه بـ { الْمُبِينِ } أي الأُفق الواضح البين، والمقصود: نعت الأُفق الذي تراءى فيه جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أُفقٌ واضحٌ بينٌ لا تشتبه فيه المرئيات، ولا يتخيل فيه الخيال، وجعلت تلك الصفة علامةً على أن المرئي ملك، وليس بخيالٍ؛ لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانين إنما يتخيلونها على الأرض تابعةً لهم على ما تعودوه من وقت الصحة (3) ، وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الملَك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسيٍ بين السماء والأرض (4) ، ولهذا تكرر ذكر ظهور الملَك بالأُفق في سورة النجم في قوله - سبحانه وتعالى - { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى } -إلى أن قال- { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ... المأْوَى } "النجم/5-18" .
والمرة الأخرى عند سدرة المنتهى (5) ، وتكرار الرؤية للتأكيد؛ لئلا يكون للوهم سبيل إلى نفسه وسائر من بلغ من الخلق أجمعين، وقد كانت الأخرى في مكانٍ لا يُشَكُّ فيه، ولا يزيغ البصر عنده، ولا يطغى .
__________
(1) انظر: البخاري 1/3، مرجع سابق .
(2) انظر: التحرير والتنوير 26/100، مرجع سابق، والغير المذكور ليس المراد منه المغايرة الكلية (التباين) بل من حيث الخصوص، أي اختلف في تحديد مكان جهة الأُفق .
(3) التحرير والتنوير 30/159، مرجع سابق .
(4) انظر: البخاري 1 / 3، مرجع سابق .
(5) راجع: البحر المحيط 8/435، مرجع سابق .(1/323)
6 – عصمته - صلى الله عليه وسلم - من التقول على الله - سبحانه وتعالى - عمداً، أو خطأ، أو سهواً، وكل ذلك محالٌ في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اجتمعت الأمة على عصمته فيما طريقه البلاغ من الأقوال، وأنه معصومٌ عن الإخبار عن شيءٍ منها بخلاف ما هو به لا قصداً ولا عمداً، ولا سهواً، ولا غلطاً (1) ، ولذا قال الحلبي -رحمه الله تعالى- في سيرته: "عُلِمَ وتقرر في النفوس من عصمة الأنبياء من الشيطان، واختص نبينا - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-بالختم (2) في المحل المذكور مبالغةً في حفظه من الشيطان، وقطع أطماعه" (3) .
__________
(1) الشفا تعريف حقوق المصطفى ينظر 2/20 وما بعدها، مرجع سابق .
(2) يعني الخاتم الذي كان بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم - المعروف بخاتم النبوة .
(3) (الحلبي) علي بن برهان الدين ت 1044هـ: السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون 1/161، دار المعرفة – بيروت 1400هـ، وقد ألف في عصمة الأنبياء: الإمام شمس الأئمة الكردري الحنفي المتوفى سنة 642هـ، ببخارى
كتاب: "تأسيس القواعد"، قال حاجي خليفة: "وهو كتاب عصمة الأنبياء" انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة 1/333، مرجع سابق، وفي 2/1141: "عصمة الأنبياء" لفخر الدين الرازي، و "عصمة الأنبياء وتحفة الاصفياء" للشيخ أحمد بن الشيخ مصلح الدين الشهير بالمركز وابن السيف الكرميانى مبوبةً على أبوابٍ ثلاثة، ومفصلةً على ستين فصلاً، كل بابٍ يحتوى عشرة فصول .(1/324)
ولا يعني ذلك نفي سهوه، أو نسيانه مطلقاً، بل يحدث ذلك منه لمكان الاقتداء بما يترتب على سهوه، أو نسيانه، لكنَّ المنفي بقاء ذلك بما لا تُحْكَمُ معه كلمات الله - سبحانه وتعالى - ، وذا شبيهٌ بما كان يصدر منه - صلى الله عليه وسلم - من السهو في الصلاة، فكذلك سهوه في قراءة القرآن بعد الإبلاغ، ومكان التفصيل في ذلك بعد قليل -إن شاء الله تعالى- (1) .
7 - تدخل القدرة الإلهية مباشرةً عند حصول تقولٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم - سهواً، أو عمداً مع عدم من يستطيع إثبات ذلك التقول، وهذا تنزلاً وإلا فهو غير واقعٍ، ولا متوقعٍ، ودليله قوله - سبحانه وتعالى - { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ... } "الشورى/24" . وقد شمل قوله - عز وجل - { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } "الحاقة /44-47"، حالة التقول عمداً، أو سهواً، وهو ما عبر عنه الشيخ إبراهيم الكوراني-رحمه الله تعالى-بقوله: "السلطان المنفي عن العباد المخلصين، هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين، وهو الذي الإجماع على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ منه".
__________
(1) انظر: المبحث الثاني من هذا الفصل ص275.(1/325)
8 - استحالة تغيير هيئةٍ من هيئات أدائه - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن حرف من حروفه؛ لقوله - سبحانه وتعالى - { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } "يونس/15"، وللأمر الإلهي المقترن بالوعد في قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } "القيامة/17"، كما تقدم (1) .
9-بحراسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن يأتيه عدوٌ غيبيٌ يناله بسوءٍ في نفسه أو وحيه: هذه الحراسة تُثَبِّتُ قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتزيد المؤمنين إيماناً، وتدحر تخرصات المشركين، وذلك كما قال - سبحانه وتعالى - : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إلاّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } "الجن /26- 28".
فقوله - سبحانه وتعالى - : { فَإِنَّهُ } عائد إلى الله - عز وجل - ، { يَسْلُكُ } وهو لا محالة عائد إلى الله - عز وجل - ، كما عاد إليه ضمير { فَإِنَّهُ } ، والثالث والرابع ضميرا { مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } وهما عائدان إلى { رَسُولٍ } ، أي فإن الله يسلك، أي يرسل للرسول { رَصَدًا } من بين يدي الرسول ومن خلفه، أي ملائكةٌ يحفظون الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله - عز وجل - عليه من غيوبه، والمراد بـ { مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } الكناية عن جميع الجهات، والمراد من تلك الكناية السلامة من التغيير والتحريف .
__________
(1) انظر: المبحث السادس من الفصل الثالث ص113.(1/326)
والرصد: اسم جمعٍ، ونصب على أنه مفعولٌ به للفعل { يَسْلُكُ } ، ويتعلق { لِيَعْلَمَ } بقوله { يَسْلُكُ } أي يفعل الله - سبحانه وتعالى - ذلك ليبلغ الغيب إلى الرسول، كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يُلْبِسُ عليه الوحي، ويعلم الله - سبحانه وتعالى - أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم، كما بعثه دون تغيير .
وفُهم من قوله { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } أن الغيب المتُحدَث عنه هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء، ورأس ذلك الوحي القرآني، وقوله - عز وجل - { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } الواو واو الحال فالجملة حاليةٌ، أو أن الجملة اعتراضية؛ لأن مضمونها تذييلٌ لجملة { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره، وأحاط بكل شيءٍ مما عدا ذلك، فقوله - عز وجل - { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } تعميمٌ بعد تخصيص ما قبله بعلمه، وتبليغهم ما أُرسِل إليهم، وقوله { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } تعميمٌ أشمل بعد تعميم .وعبّر عن العلم بالإحصاء على طريقة الاستعارة تنبيهاً بعلم الأشياء بمعرفة الأعداد، وذلك دالٌ على دقة وشمول العلم الإلهي (1) .
وهذا الحفظ يشمل الرسول الملَكي، والرسول البشري لعموم { مِنْ رَسُولٍ } ، والضمير في { لِيَعْلَمَ } صالحٌ لمعنىً آخر: هو العودة على الرسل، أي ليعلم الرسل، والمراد هنا زيادة اطمئنانهم بأن ما أمروا بتبليغه هو ذاته ما بلَّغوه لم يستطع أحدٌ أن يزيد فيه أو ينقص للحراسة الغيبية من العالم الغيبي المعادي، كما يصلح الضمير لمعنىً ثالث هو العودة على المشركين، والتقدير: ليعلم أهل الشرك أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم ... (2) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 29/154، مرجع سابق .
(2) انظر: تفسير ابن كثير 4/ 367، مرجع سابق .(1/327)
10 - (وهو كليةٌ لما قبله) بتفصيل صفات الرسول الذي يحمله، والرسول الذي يُبَلِّغه والتأكيد عليها: إذ يلزم عنها لذاتها نفي تسرب الخلل وهماً، أو تخيلاً، نقصاً أو زيادة، وقد تقدمت مؤهلات المعلم التي يلزم عنها لذاتها نفي كل ريبٍ، ودحر كل وسواسٍ (1) ، كما تقدمت التهيئة الخاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) .
11 - (وهو كليةٌ لما قبله أيضاً)إكمال الدين، فقد قال - عز وجل - { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } "المائدة /3 "، وهو كافٍ في منع الزيادة أو النقصان في اللفظ، ومن ثم فلا مجال لزيادة آيةٍ أو نقصانها في القرآن إلا ما جاء من قائل هذه الآية، أي من الله - سبحانه وتعالى - مما نزل بعد تلك الآية، والتعبير بالإكمال للدين دون الإتمام فيه مزيد مزيةٍ لأنه يعني الإكمال المطلق، أما التمام فهو التمام الإضافي النسبي .
12- إجمالٌ لنفي جميع العوامل: بأن يقال: الخللُ المقدوح به في تلقي اللفظ القرآني: إما أن يكون تخيلا دائماً، أو طارئاً،
فالأول وهو التخيل الدائم باطلٌ برؤية المشركين وشهادتهم؛ إذ لم ير المشركون له نداً في عقله أفيتهمونه بعد إذ بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة؟ (3) .
__________
(1) انظر: الفصل الأول من هذه الدراسة ص14
(2) انظر: المبحث الأول من الفصل الثاني من هذه الدراسة ص50 .
(3) وفي ذلك قال النضر بن الحارث –وهو من ألد المشركين عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - : "يا معشر قريش! قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلةٍ بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً: أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة ... حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر! لا والله ما هو بساحر، وقلتم كاهن! لا والله ما هو بكاهن! وقلتم شاعر! لا والله ما هو بكاهن، وقلتم مجنون! لا والله ما بمجنون ... يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم، فإنه قد نزل بكم أمر عظيم" . انظر: أنساب الأشراف للبلاذري 1/139 .(1/328)
والثاني وهو التخيل الطارئ: إما أن يكون غير متعمدٍ، وإما إن يكون متعمداً،
فالأول وهو الطارئ غير المتعمد فليس إلا الجنون، أو الضلال في التفكير، فأما الجنون فهو ما قالوه { مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ } "الدخان /14" نفاه الله - سبحانه وتعالى - عنه في سورة التكوير، ويأتي ذكره بأكثر من هذا بعد قليل (1) ، وأما الضلال في التفكير فنفاه عنه في سورة النجم؛ إذ قال: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } ، وبينهما تقارب؛ لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب، وهو معنى { ضَلَّ } ،
والثاني وهو الطارئ المتعمد: فإما أن يكون الشعر؛ كما قالوا { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } "الطور /30"، وإما أن يكون السحر؛كما قالوا { إن هذا إلا سحر يؤثر } "المدثر /24"، وإما أن يكون الكذب؛كما قالوا { إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } "ص /7"، وكلها زعمه المشركون المبطلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنفاها الله - سبحانه وتعالى - صراحةً على وجه الخصوص في غير ما موضع كما قال - عز وجل - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } "الحاقة /40-42"، وعلى وجه العموم بإرجاعها إلى أصلها؛ إذ السحر والكذب ضلالٌ وغوايةٌ فنفاه في سورة النجم، والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال - عز وجل - { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ } "الشعراء / 224" أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية (2) ...فقد نفى عموماً وخصوصاً، وشرد بهم آراءهم، وقَذْفَ الشياطين في عقولهم .
__________
(1) انظر ص 260 من هذه الدراسة .
(2) انظر: التحرير والتنوير 26/93، مرجع سابق .(1/329)
... ثم دحض أساس المتعمد بأنواعه بالتزكية له ولما ينطق به، فقال: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى } "النجم/3"؛فإن المراد استمرار نفي النطق لا نفي استمرار النطق (1) ، وهنا نأخذ صراحة التوقيف في القراءة؛ فقد قال قتادة -رحمه الله تعالى- في معناها: "أي ما ينطق بالقراءة عن هواه" (2) .
والهوى ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن تقتضيه العقل السليم... ونفى النطق عن هوىً يقتضي نفي جنس ما ينطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم (3) .
المطلب الثاني: دفع تهمة التخيل في تلقي ألفاظ القرآن من حيث تفصيل العوامل المتهمة بإحداث التخيل:
وهي أربعة عوامل:
أولاً: دفع تهمة التخيل بسبب الضلالية التفكيرية:
إذ ربما قال قائل: إن اعتكافه وتحنثه - صلى الله عليه وسلم - ، ثم اعتزاله لعوائد قريش قد أوصله إلى خطوطٍ ضالةٍ في التفكير، وإن قصد الخير ورام الحُسْنَ، فيبدأ بكلامٍ حسنٍ لينتهي بعده إلى ما لا يُرْتضى، أو ربما سولت له عُزْلَته طَرْقاً غوياً يُحَسِّنُ ابتداءه بما يقول من بديع الكلم، ثم يستبين عِوَجُ سيره بعوج قصده ... لذا كان القسم في سورة النجم كالاستئناف البياني بعد أن ذكر في سورة الطور اتهامهم إياه بما تصوره كافٍ في إبطاله، فكأن بعض القلوب قد مالت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم اعتراها التفكير المُسَطَّر قبل قليل، فكان الجواب على وسوستها:
__________
(1) انظر: تفسير أبي السعود 5/218، مرجع سابق .
(2) انظر: الشوكاني5/130، مرجع سابق .
(3) التحرير والتنوير 26/93، مرجع سابق .(1/330)
1 - { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } : فالضلالة عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المقصود، وهو مجازٌ في سلوك ما ينافي الحق، والغواية: فساد الرأي وتعلقه بالباطل (1) ، وفي تفسير الجلالين: "الغوى جهل عن اعتقاد فاسد" (2) .
2 - ببيان طبيعة الوحي: كما في سورة التكوير وسورة النجم، ففي سورة التكوير بَيَّن طبيعة الوحي ببيان غايته، فقال: { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } "التكوير / 27"، وفي سورة النجم بين طبيعته من حيث أن الذكر الحق مطلقاً الذي لا شائبة ضلال فيه، ولا غواية تعتريه لا يكون إلا عن وحي { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } "النجم/4"، وهو استئنافٌ بيانيٌ لجملة { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } "النجم / 3 "؛كأنه قيل بعد نفي الضلال، والغواية، ونفي النطق عن الهوى: فما هو الإثبات؟ ماذا هو كائنٌ إن لم يكن مفترىً، أو سحراً، أو اختلاقاً، أو أساطير الأولين ... ؟ فقال: { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } ، فالضمير في { هُوَ } عائدٌ إلى المنطوق به المأخوذ من فعل ينطق كما في قوله - عز وجل - { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي العدل المأخوذ من فعل { اعْدِلُوا } (3) ، ووضح الشوكاني -رحمه الله تعالى- ذلك بقوله: " { يُوحَى } صفةٌ لـ { وَحْيٌ } تفيد الاستمرار التجددي، وتفيد نفي المجاز، أي هو وحيٌ حقيقةٌ لا مجرد التسمية" (4) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 26/92، مرجع سابق .
(2) تفسير الجلالين، وبهامشه حاشية الصاوي 4/175، مرجع سابق، وقال الشنقيطي 7/701: "الضلال يقع من الجهل بالحق، والغي هو العدول عن الحق مع معرفته، أي ما جهل من الحق، وما عدل عنه، بل هو عالمٌ متبعٌ له " .
(3) كما في التحرير والتنوير 26 /94، مرجع سابق .
(4) انظر: الشوكاني5/130، مرجع سابق .(1/331)
وقد حدث نوعُ تكرارٍ هاهنا لما سبق في رقم (3) من المطلب الأول، فإنما ارتكب ذلك للأهمية ... على أن المكرر هو فحوى الفكرة، لا تفصيلها .
ثانياً:دفع تهمة التخيل بتأثير الجنون:
شهادة الخصم للرسول - صلى الله عليه وسلم - كافيةٌ لدحض هذه التهمة: حيث قال - عز وجل - نافياً لهذه التهمة { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } "التكوير /22 ": ففي التعرض لعنوان الصحبة مضافةً إلى ضميرهم تكذيب لهم بألطف وجه؛ إذ هو إيماءٌ إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - نشأ بين أظهرهم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - أتم الخلق عقلاً، وأرجحهم قيلاً، وأكملهم وصفاً، وأصفاهم ذهناً، فلا يسند إليه الجنون إلا من رُكِّبَ من الحمق والجنون، وبهذا أبطل قولهم إبطالاً مؤكداً ومؤيداً، فتأكيده بالقسم وزيادة الباء بعد النفي، وتأييده بما أومأ الله - سبحانه وتعالى - إليه، ووصفه بأنَّ الذي بلَّغه صاحبُهم - صلى الله عليه وسلم - ، والصاحب حقيقته ذو الصحبة، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة، والموافقة، ومنه قيل للزوج: صاحبة، وللمسافر مع غيره: صاحب ... وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالط في أحوال كثيرة، ولو في الشر (1) ، ولما سبق عدل عن اسم العلم إلى وصفه - صلى الله عليه وسلم - بـ { صَاحِبُكُمْ } ، وقد تقرر هذا أيضاً في مقام إثبات طبيعة القرآن المجيد، وأنه منزلٌ من عند الله - عز وجل - في سورة النجم، حيث قال تعالى عنه { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } "النجم /2" .
__________
(1) انظر: روح المعاني 30/105، ونحوه عند أبي السعود 5/489، والشوكاني5/481، والتحرير والتنوير 30/157، مراجع سابقة .(1/332)
ثم نفى أن تكون وسوسةً ذاتيةً لأن الخلل إما من الرسول الذي حمله، أو الذي تلقاه، أو من أمرٍ خارجيٍ قذفه غيرهما بينهما، وهو الشيطان لا غير، أومن تخيلاتٍ ذاتيةٍ طرأت على التلقي من البشر، فنفى كل ذلك، وفي قوله { وَمَا صَاحِبُكُمْ... } والمعنى: ليس القرآن من وساوس المجانين، فسلامة مُبَلِّغه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وسوسةً (1) .
ودُفِعت هذه التهمة ببيان طيبعة الوحي؛كما قال - سبحانه وتعالى - عنهم { مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ } "الدخان /14 "، فأجاب - عز وجل - { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } "الطور/34"، فالمجانين يمكن تقليد كلامهم حتى على الصبيان .
ثالثاً:دفع تهمة التخيل بتأثير الجن:
وأصل هذه الشبهة في عقول أصحابها: عائدٌ إلى أمرين:
1 - أن الجن عالم غيبي كالملائكة، فيحتمل عندهم أن يكون ملك الوحي من الجن لا من الملائكة لاستواء الاحتمالين؛ إذ هما غيب بالنسبة للبشر، ولذا أورد ابن الأثير –رحمه الله تعالى– رواية لحديث بدء الوحي، قالت فيها خديجة –رضي الله عنها-: (أخاف أنْ يكون عُرِض له: أي عَرَض له الجِنّ، أو أصابَه منهم مَسٌّ) (2) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 30/157، مرجع سابق .
(2) النهاية في غريب الحديث 3/211، ولم يعثر الباحث على مخرج الحديث بهذا اللفظ بعد لأيٍ .(1/333)
2 - تشبيه حالة الوحي الشديدة بحالة الكهان، قال ابن خلدون -رحمه الله تعالى-: "ولأجل هذه الغاية في تَنَزِّل الوحي كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون له رئيٌ أو تابعٌ من الجن، وإنما لبس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال، ومن يضلل فما له من هاد" (1) .ولذا فبعد وصف القرآن الكريم للرسول المُلْقِي، والرسول المُلْقَى عليه القرآن بصفاتهما اللائقة التي تزيل وطأة الشبهة المستحكمة لكل ذي عقل – نفى طروءَ تدخلٍ خارجيٍ يُضَيِّعُ على الملَك - عليه السلام - تأدية أمانته، وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبليغ وحي ربه، ولا يكون ذلك في الإنس لأنهم أضعف من أن يحصل منهم التدخل؛ إذ حوكموا إلى قوانينهم ومواضعاتهم فعجزوا، وذاك إذعانٌ للقرآن الكريم (2) ، فالتدخل الخارجي لا يكون إلا من الجن . ودفع هذا العامل يكون بما سبق، بالإضافة إلى الآتي:
1 - التأكيد على صدق الرؤية والاتصال الحسي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلمه الملائكي جبريل - عليه السلام - : وقد تمثل هذا التأكيد في عدة مظاهر تثبيتاً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودرءاً لتكذيب المكذبين، ووسوسة المتخرصين، وهذه المظاهر تُجْمَلُ في الآتي:
أ-ببيان مكانة جبريل - عليه السلام - عند الله - سبحانه وتعالى - ، واستعداده الفطري والفعلي لأداء رسالة الوحي، وقد مضى تفصيل ذلك (3) .
__________
(1) مقدمة ابن خلدون ص92، مرجع سابق .
(2) ولما نسبوا شبهتهم إلى وضع البشر، أتوا بما أضحك عليهم الصبيان { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } "النحل/103" .
(3) انظر: الفصل الأول ص14، فهو معقودٌ لذلك .(1/334)
ب - النفي المؤكد المتكرر لأن يكون الوحي القرآني كلام شيطانٍ، ذلك بأن تدخل العالم الغيبي المقابل للملائكة -وهو الشياطين- آتٍ من كونهم عالماً غيبياً، ولأنهم كذلك فطريق علمهم مصدر العلم الغيبي لا ريب-وهو النقل-حيث قال - سبحانه وتعالى - : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } "التكوير/25 "، وقال في الشعراء: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } "الشعراء/210 -211".
وكما في قوله - عز وجل - : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... } "الحج/52-54"، ولتؤخذ هذه الآيات في سورة الحج نموذجاً لبيان عناصر هذا النفي، المزيل للشبهة المثبت لفؤاد المبلغ، ومن ثَمَّ لفؤاد أتباعه وطالبي الحق من بعده، وذلك بعد إكمال بقية بنود الدفع لهذه الشبهة حتى لا تنفصم عرى الأفكار المتسلسلة .
2- بقوله تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } "الشعراء /210-211": وفيها منعهم منعاً جازماً من قربان الإلقاء في القرآن، ونحو قوله - عز وجل - : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } "التكوير/25" أي: إنما هو ملَك لا مثل الذي يتراءى للكهان (1) .
__________
(1) انظر: البحر المحيط 8/430، مرجع سابق .(1/335)
3- قوله - صلى الله عليه وسلم - :(من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي) (1) ، وليس منع الشيطان أن يأتي بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لمكان خصوصية كونه مصدر نقل الوحي من بين البشر، فمصدر نقل الوحي السماوي أولى بالمنع، ولذا قال الآلوسي-رحمه الله تعالى-: "وإذا لم يتمثل مناماً؛ فلأن لا يتمثل يقظةً من بابٍ أولى، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل" (2) .
__________
(1) صحيح البخاري 1/52، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 17/274، مرجع سابق، وهو بحثٌ طويل الذيل محله أصول الفقه، ومنه قرر العلماء أن الإلهام ليس مصدراً للأحكام عند غير النبي - صلى الله عليه وسلم - . راجع نهاية السول 4/457، مرجع سابق، قسم الأدلة المختلف فيها، وكذلك: نثر الورود 2/ 225، مرجع سابق .(1/336)
4- ما قاله القاضي عياض –رحمه الله تعالى-:"لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملَك ويُلبس عليه، واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشيطان وكفايته منه ... " (1) ، وقيده الشيخ إبراهيم الكوراني –رحمه الله تعالى-:بأن لا يلبس عليه تلبيساً قادحاً (2) ، ولم يقع استقراءً، وقال ابن العربي:"تصور الشيطان في صورة الملَك ملبساً على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتصوره في صورة النبي ملبساً على الخلق" (3) ، وقيده الكوراني بما قيد به كلام القاضي عياض، ولا يظهر لتقييد الكوراني وجه نظر؛ إذ من البدهي إن كان الشيطان لا يستطيع التصور بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يستطيع التصور بصورة من هو أعلى منه من حيث مكان تلقي الوحي لا من حيث الأفضلية (4) ، ولذا لا يتصور أن يأتي الشيطان بصورة ملَك؛ إذ لا تعرف حقيقة صورة الملَك، فضلاً عن رب العزة - جل جلاله - (5) .
فإن اعْتُرِض بأنه: قد عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - الهيئة الحقيقية لجبريل - عليه السلام - ، فلا يمتنع مجيء الشيطان بها، فالجواب: يمتنع مجيئه من باب القياس الأولوي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق .
__________
(1) الشفا 2/117، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 17/265، مرجع سابق، وأراد أن غير القادح مثله كالنسيان الطارئ كما سيأتي تقريره -إن شاء الله- في المبحث الثاني من هذا الفصل ص275.
(3) (ابن العربي) أبو بكر محمد بن عبد الله: أحكام القرآن 3/ 1299، تحقيق: علي محمد البجاوي - دار الجيل- بيروت.
(4) فلا يرد على الكلام هنا بحث مسألة تفضيل الملائكة والبشر، وانظرها في: شرح العقيدة الطحاوية ص301، مرجع سابق .
(5) ويكثر في أحاديث القُصَّاص المتأخرين عن القرون الفاضلة ذكرٌ لرؤية الله - جل جلاله - ... وليس القَصَّاص مصدراً من مصادر المعرفة في هذا الباب، وانظر كلام الكوراني بإسهاب في: روح المعاني 17/269، مرجع سابق .(1/337)
5-ومما يُدْفَع به توهم الإلقاء الشيطاني في لفظ القرآن الكريم: فردانية الملَك الموكل بالوحي، وهو جبريل - عليه السلام - ، فليس ثم ملك آخر يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عبره . وقد تقدم هذا (1) .
... ومن أعظم مقتضياته المنهجية: أَمْنُ أن يأتي الشيطان متقمصاً شخصية
الملَك، ويزعم أنه ملك ... فيصدق لعدم اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على كامل العالَمَين الغيبين الآخرين، ولذا فالصحيح الذي لا لبس فيه أنه لم يقترن به ملكٌ آخر غير جبريل - عليه السلام - كما مضى (2) .
__________
(1) راجع: المبحث الرابع من الفصل الأول ص40.
(2) وتذكر بعض الأخبار أنه قد قُرِن به ملكٌ آخر غير جبريل - عليه السلام - ، ففي الطبقات الكبرى 190/1، مرجع سابق، عن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُنزِلت عليه النبوة، وهو ابن أربعين سنة، وكان معه إسرافيل ثلاث سنين، ثم عُزِل عنه إسرافيل، وقُرِن به جبريل عشر سنين بمكة، وعشر سنين مهاجره بالمدينة، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين سنة .قال محمد بن سعد –رحمه الله تعالى-:"فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر – يعني الواقدي -، فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قُرِن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن علماءهم، وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل - عليه السلام - من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض - صلى الله عليه وسلم - " .
ويكفي في الدلالة على بطلانها: قصة عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - حين سأل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صاحبه من الملائكة، فأخبره أنه جبريل - عليه السلام - ، ولو كان ثم متسعٌ لذكر غيره لذكره لنفرة يهود من جبريل - عليه السلام - ، ولا يعني هذا أن لا زائر له من الملائكة سوى جبريل - عليه السلام - ، بل تأتيه الملائكة لكن وسيطه في التعرف عليهم جبريل - عليه السلام - كما تقدم في الفصل الأول من هذه الدراسة ص43، ونفى الآلوسي –رحمه الله تعالى- في روح المعاني19/263، مرجع سابق صدق اقتران إسرافيل - عليه السلام - في روح المعاني، فقال: "وذلك لم يثبت أصلاً ".(1/338)
... فإن اعْتُرِض بما أورده ابن الأثير -رحمه الله تعالى- في النهاية؛ إذ قال: "وفيه –أي في الحديث-(يَأتينِي أنْحاءٌ من الملائكة) أي ضُروبٌ منهم، واحدُهم نَحوٌ يعني أن الملائكة كانوا يَزُورُونه سِوى جبريل - عليه السلام - " (1) ، فهذا يدل على تعدد الملائكة الذين يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) النهاية في غريب الأثر 5/30، مرجع سابق .(1/339)
فالجواب: هذا الحديث رواه ابن خزيمة من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - وفيه: " ... وقعنا في تلك البقلة الثوم، فأكلنا أكلاً شديداً -قال- وناس جياع، ثم قمنا إلى المسجد، فوجد رسول الله الريح، فقال: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا في مسجدنا) فقال الناس: حرمت حرمت . فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرة أكره ريحها، وإنه يأتيني أنحاءٌ من الملائكة فأكره أن يشموا ريحها) (1) ، فالشأن أولاً في صحته، وقد سكت عليه ابن حجر في التلخيص الحبير مع أن أورده عَرَضَاً لا غَرَضَاً، وثانياً: لا مراء في أنه كان يأتيه غير جبريل - عليه السلام - لكن مدار النزاع في أنه كان يأتيه من يأتيه من الملائكة دون واسطة جبريل - عليه السلام - فمن زعم ذلك فليبرز الدليل، فإنه قاطعٌ للتأويل، وتقدم ما يشير لتعريف جبريل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالملائكة الذين يأتونه (2) ، كقوله (فنزل منه ملك لم ينزل ... )، وقوله (وأنا جبريل، وهذا ميكائيل) (3) ... وسِرُّ هذا الامتناع عن مجيء الملائكة دون تعريف جبريل - عليه السلام - بهم: أن الملائكة عالمٌ غيبيٌ كذلك الشياطين، وقد جعل الله - عز وجل - لكلٍ قدرةً على التصور والتشكل، وما قامت الدلائل على ملائكية غير جبريل - عليه السلام - عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ استقر في قلبه العلم اليقيني على مَلَكيته بعد أن لم يكن كذلك أول لقاء، فصار وسيطه إلى العالم الغيبي حتى لا يختلط عليه الملَك بالشيطان .
فرع: تحليل آيات سورة الحج:
__________
(1) رواه ابن خزيمة 2/345، مرجع سابق .
(2) راجع: الفصل الأول من هذه الدراسة خصوصاً ص43 .
(3) صحيح البخاري 1/466، مرجع سابق .(1/340)
وهي قوله - جل جلاله - { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } "الحج /52 -54".
تتجلى العناصر التي تؤخذ من هذه الآيات رداً لشبهة قذف الجن بما يلي:(1/341)
أ - سُننية هذه الشبهة في الأمم: فهي سنةٌ ماضيةٌ من سنن الله - عز وجل - فيمن خلا ومن تلا، وذلك أنه لم يسلم نبيٌ من الأنبياء، ولا رسولٌ من الرسل من محاولة قذف الشيطان في سعيه الحثيث لأسلمة الأمة لرب العالمين، فهي شنشنة الأمم الظالمة، وعادة فعل الشيطان، وذا معنى قوله - عز وجل - { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، فقوله { نَبِيٍّ، رَسُولٍ } نكرةٌ في سياق النفي فأفادت العموم، ثم أُكِّد عمومها ثانياً بحرف الجر الزائد، فـ (من) مزيدةٌ لاستغراق الجنس، فصارت نصاً مؤكِّداً للعموم، ثم أُكِّد ذلك ثالثاً من حيث شمول ذلك لأصناف المكلفين من الله - جل جلاله - بإصلاح أمور قومهم سواء كانوا أنبياء أو رسل (1) ، ثم أُكِّد ذلك رابعاً من القصر المستفاد من النفي والاستثناء، فهو قصر موصوفٍ على صفةٍ، وهو قصرٌ إضافيٌ، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره (2) ، والآية مسوقةٌ لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود، وأنه لسعي مردود (3) .
__________
(1) اخْتُلِفَ في الفرق بين النبي والرسول على أقوال: من أظهرها أن الرسول من جاء بشريعة جديدة ناسخة، والنبي من جاء مجدداً للشريعة السابقة . راجع: التحرير والتنوير 17 /296، روح المعاني 17/256، تفسير أبي السعود 4/35 فتح القدير 3/577مجموع فتاوى شيخ الإسلام3/365، مراجع سابقة .
(2) التحرير والتنوير 17/299، مرجع سابق .
(3) انظر: التحرير والتنوير 17/299، مرجع سابق، وروح المعاني 17/257، مرجع سابق .(1/342)
ويرى المتأمل في الآية أن هذا التتابع للمؤكدات من أعظم وسائل ترسيخ اليقين بكلام رب العالمين؛ إذ يقع في فؤاد المتحمس استلزام أن تنقطع أفئدة المعاندين عن إظهار العناد على الأقل في كلام الله - سبحانه وتعالى - ، إما لضرورة غِيرة الله - سبحانه وتعالى - على كلامه، أو لضآلة مكرهم بالغاً ما بلغ إزاء جبروت الله - عز وجل - ... فتتالت المؤكدات إمعاناً في ترسيخ سنن الله - جل جلاله - الخاصة بهذه الدار التي لا تزن عند الله - سبحانه وتعالى - جناح بعوضة (1) .
__________
(1) إشارةً إلى الحديث المشهور، أخرجه: البخاري 4/1759، مرجع سابق، ومسلم 4/2147، مرجع سابق .(1/343)
ب- الوصف الدقيق لهيئة إفساد الشيطان عقول القوم وقلوبهم عندما يريد الأنبياء إصلاحهم: إذ إن إصلاح الناس أمر عزيزٌ عسير المنال فسماه الله - عز وجل - أمنية (1) ، ثم إن الأنبياء عند ممارسته يضادهم الشيطان في سعيه الحثيث لإعدام الخير، أو الحيلولة بينه وبين الناس يلقي وسوسة في نفوس الناس تفسد محاولة الإصلاح، ورشح استعارة الإلقاء -ويكون للأمر المحسوس- للأمر غير المشاهد شِدَّةُ فعله، وقوة تأثيره حتى كأنه أمرٌ محسوسٌ، وتقدير الآية: أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالاتٍ تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد، ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول: إلقاء ما يضادها، كمن يمكر فيلقي السم في الدسم، فإلقاء الشيطان بوسوسته: أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان، ويلقي في قلوب أئمة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم، ويروج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البرهان، وذلك هو الصبر على الآلهة المذكور في قوله - جل جلاله - { وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } "ص/6"، وقال الآلوسي-رحمه الله تعالى-: "إذا قرأ شيئاً من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أوليائه ليجادلوه بالباطل، ويردوا ما جاء به كما قال - سبحانه وتعالى - { ... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ... } "الأنعام/121"، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... } "الأنعام/112" (2) .
__________
(1) عند الآلوسي17/257: "التمني نهاية التقدير"، قال: "والأمنية الصورة الحاصلة في النفس من التمني" .
(2) روح المعاني 17/257، مرجع سابق .(1/344)
جـ- الإلقاء الشيطاني معنويٌ وليس لفظياً: وذلك ببث الشبهات، وتضخيم الوساوس، وينفى الإلقاء اللفظي لضعف مقدرة الجن في حالتهم الغيبية عن إظهار ألفاظ يسمعها البشر في الحالات المعتادة (1) ، لا إذا تمثلوا في هيئة إنسية، فإن فعلوا فالإلقاء اللفظي عليهم أعز وأعسر من حيث خضوعهم لقوانين الطبيعة البشرية، وهاهم أشد الناس عناداً لرسول الله - جل جلاله - لم يستطيعوا فعل ذلك مع حرصهم كل الحرص .
وإذ قد تقرر أن الإلقاء معنويٌ، فلا مكان له في القدرة على الخلط في ألفاظ القرآن، ويُرَشَحُ هذا بقوله - جل جلاله - { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } "الحاقة /44-45".
د- الوسائل الوقائية والاجتثاثية لإلقاء الشيطان المعنوي في عقول الناس:
1- المعية العلمية الإلهية الحاكمة: إذ ليست الساحة للشيطان ليصول فيها كما يشاء، بل وجوده فيها طارئٌ نسبيٌ إذا ما قورن بعلم الله - عز وجل - ، ثم إن الأمر كله لله - جل جلاله - فهو بحكمته وتدبيره - سبحانه وتعالى - مَكَّن الشيطان من إلقاء تلك الشبهة، ثم في حكمته في أسلوب إزالة آثاره، ومن هنا يظهر سر التذييل بقوله - عز وجل - { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } "الحج/52"، كما أن إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار دالٌ على التأكيد على إرادة ذلك، ووصفه - جل جلاله - بوصف (فعيل) مبالغة في العلم بكل ما من شأنه أن يُعْلَم، ومن جملته ما صدر عن العباد من قول وفعل، عمداً أو خطأ (2) .
__________
(1) أما في غير الحالات المعتادة فقد يستطيع الشيطان إسماع الإنسان، انظر: رفاعي سرور: عندما ترعى الذئاب الغنم ص114، ط61412هـ-1992، مكتبة الحرمين للعلوم النافعة .
(2) تفسير أبي السعود 4/34، مرجع سابق .(1/345)
2 - إزالة آثار الشبهة الشيطانية بالقدرة الإلهية المباشرة: وذلك إذا تعلق الأمر بكتاب الله - عز وجل - ، فالله - جل جلاله - بهديه وبيانه ينسخ ما يُلْقي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله - سبحانه وتعالى - الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه (1) ، قال الآلوسي -رحمه الله تعالى-: "فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه، ويذهب به بتوفيق النبي - صلى الله عليه وسلم - لرده، أو بإنزال ما يرده" (2) .
3- إحكام الله - جل جلاله - آياته: فيزيد - عز وجل - آيات دعوة رسله بياناً،، وإحكام الآيات أهم من نسخ ما يلقي الشيطان؛ إذ بالإحكام يتضح الهُدى، ويزداد ما يلقيه الشيطان نسخاً، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي .
4 - بيان حكمة الله - جل جلاله - من تمكين الشيطان من ترويج شبهاته، حتى يبقى المؤمنون على ثقةٍ بمعية الله - سبحانه وتعالى - ، وذلك ما بينه في قوله - جل جلاله - { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ؛ مما يزيد إيمان المؤمنين، وإخبات المخبتين .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 17/299، مرجع سابق، وراجع لتفصيل خارطة عمل الشيطان: عندما ترعى الذئاب الغنم ص23، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 17/257، مرجع سابق .
فائدة: واستبعاد كثيرٍ من العلماء وقوع الشبهة اللفظية في القرآن الكريم دالٌ على مدى أهمية الألفاظ في مقابل المعاني في القرآن الكريم، وذلك لأن التحريف إن وقع في اللفظ فقد وقع في أصل المعنى .(1/346)
5 – تكفل الله - جل جلاله - بالهداية الدائمة للمؤمنين، وبعصمة نبيهم من الخطأ في الأمر المعنوي الحال فضلاً عن الأمر اللفظي الدائم التلاوة، وعصمة مجموع الأمة عن الخطأ ... يُبْعِد التَمَكِّنِ من قذف أي تخيلٍ يحاوله الشيطان في ما يتلوه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي؛ ومن هنا كان التذييل بقوله - جل جلاله - { ... وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، ولا يقدح في ذلك بقاء الشبهة تفعل فعلها في نفوس الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم؛ إذ لا يزال ترددهم باقياً إلى أن تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، ولا يخل شكهم هذا بالوثوق بالقرآن عند الذين آمنوا والذين أوتوا العلم .(1/347)
وبهذا التأويل يظهر مقدار جلالة السلك البديع الذي انتظمت فيه هذه الآيات (1) ، ووَهَى ما أُولِع به بعض المفسرين الذين يميلون إلى الإكثار من الغرائب من إيراد قصة الغرانيق ... مع أنَّ ضعفها واضح سنداً ومتناً (2) ، فلا يشتغل البحث بإيرادها، مكتفياً بالإحالة على موارد ذلك في الهامش (3) .
__________
(1) وهو التفسير الذي رجحه بل فسر به هذه الآيات عددٌ من المفسرين منهم :الطاهر بن عاشور 17/299، مرجع سابق، والآلوسي 17/257، مرجع سابق، وأبو حيان 6/382، مرجع سابق، ونحوه أبو السعود 4/34، مرجع سابق .
(2) على أنه يقال تنزلاً: لو صحت هذه القصة فإنه يسري عليها ما ذكر هاهنا من وسائل الاجتثاث للأمر المعنوي، إذ سريانه على الأمر اللفظي أولويٌ، كما يكون الجواب عنها بما ذكر قبل وبعد، وبما أجاب به عنها من قالوا بصحتها.
(3) انظر: التحرير والتنوير 17/306، مرجع سابق، وردها البيهقي وقال: "هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل"، ورده القاضي عياض في الشفا 2/117، مرجع سابق، وقال: "وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيحٍ وسقيم"، وقال الآلوسي 17/263، مرجع سابق: "وفي كتاب (الأتقياء) لأبي منصور الماتريدي: أن قوله (تلك الغرانيق العلى) من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين، ليرتابوا في صحة الدين، وحضرة الرسالة بريئةٌ من هذه الرواية"، وذكر الآلوسي أوجه ردها، بعد أن فسرها بما يشبه التفسير الذي ارتضاه الباحث، وأورد هذه القصة: ابن حجر في فتح الباري 8/441، مرجع سابق كالمؤيد لثبوت أصلها؟! وقال: "وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيفٌ، وإما منقطعٌ، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً"، ... ..ورد على عياض وابن العربي إبطالهما لأصل القصة، وقال في نقدهما لها: "وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن لها ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض ... ثم تأول من ظاهِرِها –بعد أن سلم بأن لها أصلاً- ما يستحيل كقولهم فيها: ألقى الشيطان على لسانه ... وهذا فيه غرابةٌ من حيث عدم تطبيق موازين المتن بعد تطبيق موازين السند، والقصة أوردها ساكتاً بل مقرراً السيوطي –الذي يجعل ابن حجر مثله الأعلى- في شرح سنن ابن ماجة، وابن الأثير في النهاية 3/364، وابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص179، مرجعان سابقان، قال الآلوسي –رحمه الله تعالى-: "وذهب إلى صحة القصة أيضاً خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني"، ثم قال تعقيباً على كلام الكوراني: "لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد ... وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمةٍ قليلةٍ بصحة الخبر المنافي لها مع قول جمٍ غفيرٍ بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم ... -ثم قال-:وتوسط جمعٌ في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني، ولم ينفوها بالكلية، وإليه أميل" وقال ابن كثير3/204، مرجع سابق: "ولم أرها مسندةٌ بوجهٍ صحيحٍ" . وقال الشوكاني في فتح القدير 3/577، مرجع سابق: "ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجهٍ من الوجوه، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال تعالى { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } "الحاقة/44-46"، وقوله { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } "النجم/3-4"، وقوله { وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } "الإسرا/74"، فنفى المقربة للركون فضلاً عن الركون، وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة "، وقال أبو حيان 6/382، مرجع سابق ناقداً إيراد المفسرين لها: "وقد ذكر المفسرون في كتبهم ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوباً إلى المعصوم صلوات الله عليه ... وهي قصةٌ سئل عنها محمد بن إسحاق جامع السيرة فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنف في ذلك كتاباً"، وقد ألف الشيخ الألباني كتاباً في هذا الباب هو: "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق".(1/348)
وليس في هذا اتهامٌ للمفسرين الذين أوردوا هذه القصة؛ لأنه ليس كلهم أورد هذه القصة، ووقوع بعضهم في الغلط
يوجبه النظر الشرعي والعقلي، ووَلَعُ البعض في فترةٍ بالغرائب أمرٌ متقررٌ لدارسي علم تأريخ العلوم، ومحاولة العدو الدسَّ في عقائد المسلمين فضلاً عن تراثهم في المجالات الأُخَر، قد بدأ في فجر الإسلام، على أنه لم يستطع أن يمس لفظ القرآن، ولذا حاول الإكثار من وضع الآثار، والأخبار التي يتلقفها فاضلٌ وغيره، ثم تٌتَناقَل في حدود الغفلة الأصلية أو الطارئة عن موازين نقل الأخبار الصارمة (1) .
رابعاً: دفع التخيل بشبهة السحر:
... هذه مجموعة أسس بين يدي هذه المسألة:
1 - لم ترتفع صبغة البشرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نبوته بل ظلت هي الأصل فيه، ولكنه كان يرتفع عن الصبغة البشرية في أوقات محدودة بتهيئة خاصة من الله - سبحانه وتعالى - له فيما يتميز فيه عن البشر وهو الوحي، وهذا معلومٌ من الدين بالضرورة، ومن أدلة ذلك قوله - عز وجل - { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } "الكهف/110"، ثم بين الجزئية التي تميز بها { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (فمن رغب عن سنتي فليس مني) (2) في معرض الإنكار على من عد طبعه مختلفاً عن طباع البشر . ولولا هذه الحقيقة لما كان محطاً للاقتداء - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) وأنى يستغرب ذلك وقد درجت مجموعةٌ غير قليلةٍ من أفاضل المفسرين على إيراد خبر فضائل القرآن الشهير المنسوب إلى أبي ابن كعب رفعه، مثل: الكشاف للزمخشري، وكتفسير البيضاوي، والخازن .
(2) صحيح البخاري 5/1949، مرجع سابق .(1/349)
2 - وإذا كانت هذه مسَلَّمةً دينية؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتريه ما يعتري البشر من المرض والنصب والوصب والهم والحزن، بما لا يقدح في نبوته، ولا يمس ما أمر به أن يبلغه، وهذا داخل في عموم قوله - جل جلاله - : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ } "المائدة/67" .
3 - ليس مقام البحث مقاماً صالحاً لمناقشة مسألة سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث الإثبات والنفي، وقصارى القول في هذا المقام أن تُدحض شبهة تأثير السحر في الوحي القرآني على قول من يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سحر (1) .
4 - من أثبت ذلك يتفق مع النفاة في عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يلقي الوحي الإلهي قرآناً كان أو غيره من تطرق تأثير السحر عليه، واستدلوا بما رواه البخاري:عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سُحِر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى كان ذات يومٍ دعا ودعا، ثم قال: (أشعرتِ أن الله أفتاني فيما فيه شفائي، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب . قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم . قال: في ماذا؟ قال: في مشطٍ، ومشاطةٍ، وجَفَّ طَلْعَةِ ذَكْرٍ . قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان). فخرج إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رجع، فقال لعائشة حين رجع: (نخلها كأنه رؤوس الشياطين . فقلت:استخرجته؟ فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً ثم دفنت البئر) (2) .
__________
(1) انظر في هذا الباب: تأويل مختلف الحديث ص182، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 3/1192، مرجع سابق، وانظر: تفسير ابن كثير 4/575، مرجع سابق .(1/350)
وذكر الإسماعيلي مدة ذلك فروى: أنه أقام أربعين ليلة، وعند أحمد: ستة أشهر، ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوماً من استحكامه (1) .
5 - السحر الذي وقع عليه - صلى الله عليه وسلم - تسلط على جسده فقط، كما كانت الحمى تتسلط عليه، والسم الذي سمته به يهود ... وتَسَلُّطِ السحر على جسده ظهر في عدة مظاهر، منها:
أ - كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله: كما في هذه الرواية، وصُرِّح بمدلول ذلك في رواية أخرى للبخاري، ولفظها: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن)، وفي لفظ: (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) (2) ، قال المازري: "وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة".
ومعنى (يرى)، قال الداودي: (يرى) بضم أوله: أي يظن، وقال ابن التين: ضبطت يرى بفتح أوله، وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن (3) .
ب - التسلط على بصره: ففي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق: سُحِر النبي - صلى الله عليه وسلم - : (حتى أنكر بصره)، وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: (حتى كاد ينكر بصره) (4) . قال عياض -رحمه الله تعالى-:"فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده" (5) .
__________
(1) فتح الباري 10/223، مرجع سابق .
(2) صحيح البخاري 5/2175، مرجع سابق .
(3) انظر ما سبق في: فتح الباري 10 /227، مرجع سابق .
(4) انظر في تخريج الآثار السابقة: فتح الباري 10 / 226، مرجع سابق .
(5) الشفا 2/147، مرجع سابق .(1/351)
جـ – نوع مرضٍ جسدي: فإن صون النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده فقد جاء في الصحيح: (أن شيطاناً أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله - جل جلاله - منه)، فكذلك السحر لم ينله من ضرره ما يدخل نقصاً على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعفٍ عن الكلام، أو عجزٍ عن بعض الفعل، أو حدوث تخيلٍ لا يستمر، بل يزول ويبطل الله - سبحانه وتعالى - كيد الشياطين، واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: (أما أنا فقد شفاني الله)، وفي الاستدلال بذلك نظر لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل: (فكان يدور، ولا يدري ما وجعه)، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند ابن سعد: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان ... لحديث، قال المازري: "أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل - عليه السلام - وليس هو ثم، وأنه يُوحَى إليه بشيءٍ، ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردودٌ؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله - عز وجل - ، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطلٌ، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضةٌ لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيدٍ أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين" (1) .
__________
(1) فتح الباري 10/227، مرجع سابق .(1/352)
وقال ابن قتيبة: "وأما قول الله - سبحانه وتعالى - { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } "فصلت/42" فإنه - جل جلاله - لم يرد بالباطل أن المصاحف لا يصيبها ما يصيب سائر الأعلاق والعروض، وإنما أراد أن الشيطان لا يستطيع أن يُدْخِلَ فيه ما ليس منه قبل الوحي وبعده (1) .
... هذا كلام الله الحق ... وذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبلغ لكلامه ... وذا حفظ الله -تعالى ذكره- لكلامه ... وروح القدس جبريل - عليه السلام - هو الواسطة؟ فأين –في الدنيا- كهذا، وذا، وذا ... ؟
وقال الله: قد أرسلت عبداً ... .. يقول الحق ليس به خفاءُ
وقال الله: قد يسرت جنداً ... .. هم الأنصار عرضتها اللقاءُ
وجبريل رسول الله فينا ... ..وروح القدس ليس له كفاءُ
المبحث الثاني:
دفع العوامل الداخلية (الذاتية):
عالج القرآن الكريم العوامل الإنسانية الذاتية التي تؤدي إلى تغيير اللفظ كإجراء ضروري للحفاظ على نصه سالماً من يمسه التغيير في أدائه فضلاً عن جوهر لفظه ... ، وكانت معالجة الكتاب الكريم لهذه المشكلة مُبَكِّرَة، تناسب تبكيرها مع حدوث التلقي الأول للقرآن الكريم في الأرض من جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأخذ المبحث نموذجين ينتميان لهذه العوامل، للنظر في كيفية معالجة القرآن الكريم لهما في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل ألفاظ القرآن الكريم، ويشكل النموذجان مطلبي هذا المبحث، وهما:
المطلب الأول: معالجة مشكلة النسيان .
المطلب الثاني: معالجة مشكلة التهمة بقصور العاطفة البشرية والتفكير البشري .
المطلب الأول: معالجة مشكلة النسيان:
__________
(1) تأويل مختلف الحديث310، مرجع سابق .(1/353)
النسيان: ضد الذكر والحفظ (1) ، وهو عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة، أو زماناً طويلاً (2) ، وقال الزركشي -رحمه الله تعالى-: "قيل السهو: الذهول عن المعلوم، وظاهر كلام اللغويين ترادفه مع النسيان" (3) ، وقال ابن قتيبة -رحمه الله تعالى-: "النسيان ضد الحفظ، كقوله تعالى: { ... فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ... } "الكهف/63"، وقال: { ... لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ... } "الكهف/73"، والنسيان الترك، كما قال - جل جلاله - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَم فَنَسِي ... } "طه/115" أي فترك، وقوله { فَذُوقُوا بِمَا نَسِيْتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ... } "الجاثية/34" أي بما تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم { ... إنّا نَسِينَاكُم ... } أي تركناكم، وقوله { ... وَلا تَنْسَوا الفَضْلَ بَيْنَكُم ... } "البقرة/237" أي ولا تتركوا ذلك (4) .
... فقد جعل ابن قتيبة النسيان في حقيقته اللغوية نوعين بعد الشيوع:
ضد الحفظ، وهو المعنى الأصلي، والترك (5) الذي يجعل المتروك كالمنسي، فهو تركٌ كليٌ فقد صار في حقيقته نسياناً بعلاقة الغياب، إلا أن الغياب في النسيان مؤقتٌ، والغياب في الترك كليٌ من حيث التذكر للمنسي لا من حيث الوجود في الحافظة، وعند إضافة مفهوم كلام اللغويين إلى ذلك نجد أن النسيان لا يكون إلا في شيءٍ معلومٍ .
ويكمن دفع هذا العامل في لفظ القرآن، وأدائه عن تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما تلقاه من جبريل - عليه السلام - في البنود التالية:
__________
(1) انظر: لسان العرب14/132، مرجع سابق .
(2) التحرير والتنوير 30/280، مرجع سابق .
(3) البحر المحيط 1/80، مرجع سابق .
(4) تأويل مشكل القرآن ص390، مرجع سابق .
(5) وانظر فتح الباري 9/80، مرجع سابق .(1/354)
1 - قد اتضح من خلال ما سبق أن معالجة هذه المشكلة ظهر من أول نزول القرآن الكريم، كما مر ذلك عند تحليل حديث المعالجة وغيره، فقد كانت المعالجة لقضية النسيان في المرحلة المكية ... ولبدهية هذه الحقيقة استدل على أن سورة الأعلى مكية بورود ما يدل على معالجة مشكلة النسيان فيها، وهو قوله - جل جلاله - { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } "الأعلى/6"؛إذ إن ما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية، "وحسبك بقوله تعالى { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } " (1) ، فقد صارت الآيات المعالِجة لهذه المشكلة مقياساً لمعرفة المكي والمدني .
2 - من أبرز الآيات التي عالجت هذه المشكلة آيات سورة الأعلى، وكتقريرٍ للحقيقة السابقة فسورة الأعلى ثامنةٌ بحسب ترتيب النزول عند جابر بن زيد، وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن –رضي الله تعالى عنهم– أنها سابعة (2) .
__________
(1) التحرير والتنوير 30 /272، مرجع سابق .
(2) انظر: الإتقان ص21، مرجع سابق .(1/355)
3 - لأن مشكلة النسيان مشكلة فطريةٌ تتعلق بخلق الإنسان فقد ربط القرآن الكريم بينها وبين القوانين التي وضعها خالق الإنسان في الكون، ثم في الإنسان، ومن هنا ندرك سراً من أسرار الاستهلال في سورة الأعلى بجذب النظر إلى الآيات الكونية، وخلق الله - سبحانه وتعالى - لها، ثم تحكمه بها، فمتى ما شاء اطردت تلك القوانين، ومتى ما شاء منعها من الاطراد، وعطلها عن السريان؛ فإذا أراد الإنسان التخلص من مشكلة النسيان، فليسبح باسم ربه الأعلى الذي بيده مقاليد أمر الخلق، وأسبابه، وقوانينه، والذي تعالى عن أن يحكمه شيء، أو يعجزه أمر؛ إذ يغدو القضاء على مشكلة النسيان آيةٌ في ذاته تخالف قوانينها، القوانين المألوفة عند البشر، وإن كانت تسير وفق قوانين أخرى في ذاتها (1) ؛ وإذ هي كذلك آية فلا بد لتحقيقها من إذن الله - جل جلاله - الذي يشمل أمره الابتدائي وإذنه المستمر { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأتِي بِآيةٍ إلا بِإذْنِ الله ... } "غافر/78"، والافتتاح بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يسبح اسم ربه بالقول، يؤذن بأنه سيلقي إليه عقبه بشارةً وخيراً له، وذلك قوله - عز وجل - { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى } الآيات، ففيه براعة استهلال (2) ، وفيه قال القرطبي:"وهذه بشرى من الله تعالى، بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل - عليه السلام - ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أميٌ لا يقرأ، ولا يكتب، فيحفظه ولا ينساه" (3) ،
__________
(1) قرر الإمام الشاطبي في الموافقات أن الخوارق ليست خارجةً عن جملة قوانين الكون، وإن كانت خارجةً عن مألوف القوانين المعروفة لنا، انظر الموافقات 1/374، مرجع سابق عند كلامه على الأحكام الوضعية .
(2) انظر: التحرير والتنوير 30 /272، مرجع سابق .
(3) تفسير القرطبي20/18، مرجع سابق، ونحوه في الكشاف4/204، مرجع سابق ..(1/356)
"وهي بشرى لأمته من ورائه، تُطَمْئِنُّ بها إلى أصل هذه العقيدة؛ فهي من الله - عز وجل - ، والله كافلها وحافظها في قلب نبيها" (1) .
وفي هذا تأكيدٌ على المصدرية الإلهية .
4 - ولإزالة أي آثارٍ تشكيكيةٍ نابعةٍ من احتمال نسيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشيءٍ من الوحي، فقد قُطِّعتْ أنواط هذه المشكِّكِات بتقعيدين: عامٍ وخاصٍ:
فأما العام فهو: عصمة الشرع الإسلامي المطهر من غوائل النقص، والتغيير، والنسيان، من حيث كونه شرعاً إلهياً خاتماً تكفل منزله بالحفاظ عليه، ثم من حيث كونه شرعاً ميسراً، ومن أهم أوجه تيسيره: تيسير المحافظة عليه، ولذا قال - جل جلاله - : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } "الأعلى /8"، فاشتمل الكلام على تيسيرين:
... تيسير ما كُلِّفَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أي جعله يسيراً مع وفائه بالمقصود، فمما ذكره القرطبي في تأويلها قوله: "أي نهون عليك الوحي، حتى تحفظه وتعمل به" (2) .
وتيسير النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيام بما كُلِّفَ به، حيث قال الآلوسي:"نوفقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل بابٍ من أبواب الدين، علماً، وتعليماً، واهتداء، وهداية، فيندرج فيه تيسير تلقي طريقي الوحي" (3) ... .
فقوله - سبحانه وتعالى - : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } "الأعلى/8":
مستعارٌ للتهيئة، والتسخير، أي نهيئك للأمر اليسير في أمر الدين، وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك، وتيسير الشريعة ... .
أو يكون المعنى: ونيسر لك اليسرى على القلب، وفي وصفها باليسرى إيماءٌ إلى أنها يسرى من حيث ذاتها، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى ... .
__________
(1) ظلال القرآن 6/3892، مرجع سابق .
(2) تفسير القرطبي 20/18، مرجع سابق .
(3) روح المعاني 30/192، وانظر الكشاف 4/204، مرجع سابق .(1/357)
5 - وأما التقعيد الخاص فهو الوسيلة التي تقضي قضاءً مبرماً على مشكلة نسيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - للقرآن الكريم بعد أن يلقيه علي جبريل - عليه السلام - قبل أن يبلغه، إذ تكفل الله - سبحانه وتعالى - بتعطيل قانون النسيان في ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه المرحلة، وفي المعجم الكبير للطبراني ما يزيد حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في المعالجة إيضاحاً في هذا الموضوع، فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - : (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه جبريل - عليه السلام - بالوحي لم يفرغ حتى يَزْمُل (1) من الوحي، حتى يتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوله مخافة أن يغشى عليه)، فقال له جبريل:لم تفعل ذلك؟ قال:مخافة أن أنسى فأنزل الله - عز وجل - { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } "، ولذا قرر الشوكاني أن: "السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز" (2) ، وقد سبق تعميم هذه الجزئية في عصمته - صلى الله عليه وسلم - (3) .
وفي قوله - عز وجل - { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } "، الفاعل ضمير مستتر تقديره نحن يعود على الله - عز وجل - ، وفي ذلك فوائد:
أولها: التكفل بإقرائه - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك ضمان بأن يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أراد الله - جل جلاله - أن يصل لا كما تتحمله قوى البشر، فإيثار وصف { الأعْلَى } في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه .
__________
(1) زمل يزمل زمالاً: عدا وأسرع معتمداً على أحد شقيه رافعاً جنبه الآخر، انظر: لسان العرب 6/81، مرجع سابق .
(2) فتح القدير 3/579، مرجع سابق .
(3) انظر: المبحث الأول من هذا الفصل ص253.(1/358)
وثانيها: دفع فطرة النسيان الخلقي في الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فترة إلقاء القرآن عليه إلى أن يبلغه، فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يقرئه، فيبلغه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه (1) .
وثالثها: أن التكفل بالأمرين تكفلٌ إلهيٌ مباشِرٌ ليس لجبريل - عليه السلام - فيه شيءٌ إلا قراءة القرآن عليه لحكمةٍ عظيمةٍ هي تثبيت مبدأ التلقين في نقل القرآن الكريم، وقد مضت الإشارة إليها (2) ، أما إقراؤه بمعنى جمع القرآن في صدره، ودفع النسيان عنه في الفترة المذكورة فأمرٌ إلهيٌ محضٌ، ودليله ما سبق (3) ، والضمير في قوله - جل جلاله - { سَنُقْرِئُك } ، وما ذكر في تحليل آيات سورة القيامة (4) ، ومبدأ استشعار المصدرية الإلهية .
__________
(1) انظر: التحرير30/ 279، مرجع سابق .
(2) انظر: المبحث السابع من الفصل الثالث ص135 وما بعدها .
(3) انظر: حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث ص113.
(4) انظر: المبحث السادس من الفصل الثالث ص116 .(1/359)
فقد تعين أن قوله - جل جلاله - { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } "الأعلى/6" وعد من الله - عز وجل - بعونه على حفظ جميع ما يُوحَى إليه (1) ، وافتتاح سورة الأعلى بقوله { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } "الأعلى/2-3" مُؤْذِنٌ بتقرير الحقيقة السابقة من حيث كمال التقرير؛ "لأن لهذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه السورة، فإن الذي يسوي خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - تسويةٌ تلائم ما خلقه لأجله من تَحَمُّلِ أعباء الرسالة، لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه، وتيسيره عليه، وإعطائه شريعةً مناسبةً لذلك التيسير" (2) ، وقال الإمام الآلوسي: " { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } بيانٌ لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله، إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته سبحانه، وهي هدايته لتلقي الوحي وحفظ القرآن" (3) ... أي سنقرئك فلا تنسى أصلاً من قوة الحفظ والإتقان، مع أنك أميٌ لم تكن تدري ما الكتاب، وما القراءة، ليكون ذلك لك آيةً مع ما في تضاعيف ما تقرأه من الآيات البينات" (4) .
__________
(1) انظر: التحرير30/ 279، مرجع سابق .
(2) التحرير30/ 279، مرجع سابق .
(3) وقريبٌ من هذا قرر الإمام الشوكاني في فتح القدير 4/522، مرجع سابق، والصاوي في حاشيته4/411، مرجع سابق، وتفسير أبي السعود 5/517، مرجع سابق .
(4) روح المعاني 30/188، مرجع سابق، ولعله نقل هذه العبارات من أبي السعود 5/518، مرجع سابق .(1/360)
6- إذا كانت آيات سورة القيامة قد أرست أساس جمع القرآن في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يلقيه عليه جبريل - عليه السلام - ، وحددت له قواعد التلقين؛ فإن هذه الآيات ترسي أساس بقاء ذلك المُلْقَى إلى حين أدائه تبليغاً للناس، وإنما ابتدئ بقوله { سَنُقْرِئُكَ } تمهيداً للمقصود الذي هو { فَلاَ تَنسَى } ، وإدماجاً، للإعلام بأن القرآن في تزايدٍ مستمرٍ، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قلته؛ فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخشى نسيانه، فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده ... والسين علامة استقبال مدخولها ... فهي دالةٌ على أن الإقراء يستمر، ويتجدد ... وقوله { ... فَلاَ تَنسَى } خبرٌ مرادٌ به الوعد والتكفل له بذلك (1) .
على أنه يُلمَحُ من خلال الوعد بذلك الأمر بما تضمنه الوعد، ولعل هذا هو مراد من فسر الآية بالنهي، إذ الوعد لا ينفي الأمر بفعل الأسباب التي تؤدي إلى عدم النسيان بل هو مقتضٍ له .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 30/280، مرجع سابق، وانظر: روح المعاني 30/188، مرجع سابق، فقد ذكر قولاً غريباً في معنى { سَنُقْرِئُكَ } هو تعلم النبي القراءة دون كتابة، ثم رده ... وقيل: إن قوله تعالى { فَلاَ تَنسَى } نهي، أو خبر أريد به النهي وهو قول ضعيف مردود، انظر: القرطبي20/19، مرجع سابق، وروح المعاني 30/188 مرجع سابق .(1/361)
7 - وحتى لا يخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صفاته البشرية بهذه الكفالة الإلهية، فقد أُخِذتْ هذه الكفالة الإلهية قدرها الضروري، وذلك من وقت سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن من جبريل - عليه السلام - إلى الانتهاء من تبليغه، وحفظه بوسائل الحفظ من قراءة، وكتابة بحيث لا يمكن نسيانه من مجموع الأمة لكفالة الله - عز وجل - لها بالعصمة عن الخطأ، فإذا ما تم ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعود إلى حالته الطبيعية البشرية فيعتريه النسيان، وهذا هو معنى الاستثناء في قوله - سبحانه وتعالى - : { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ... } أي أن بعض القرآن ينساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا شاء الله أن ينساه، ويدخل في هذا: نوعان يرجعان إلى الحقيقة اللغوية لمادة "نسي":(1/362)
أولهما: النسخ في العمل: وسماه الآلوسي: (نفي نسيان المضمون)، فقال: "أي سنقرئك القرآن فلا تغفل عنه، فتخالفه في أعمالك" (1) ، وقال القرطبي:"وقيل: النسيان بمعنى الترك، أي يعصمك من أن تترك العمل به، لا ما شاء الله أن تتركه لنسخه إياه، فهذا نسخ في العمل" (2) ، وقال به الجنيد، وأقره ابن كيسان النحوي (3) ، ويجعل هذا المفهوم للنسيان في حيز الثبات ما قرره أحمد بن يحيى ثعلب في قول الله - عز وجل - { ... نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم ... } "التوبة/63": "لا ينسى الله عز وجل، إنما معناه تركوا الله فتركهم، فلما كان النسيان ضرباً من الترك وضعه موضعه، وقوله تعالى { ... فَنَسِيْتَها وَكَذِلِكَ اليَومَ تُنْسَى } طه/126" أي تركتها فكذلك تترك في النار" (4) ، ومثله قوله تعالى { ... نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ... } ، وقوله-تعالى ذكره- { ... وَلاَ تَنْسَوا الفَضْلَ بَيْنَكَم ... } "البقرة/237" .
... ويُرَسِّخ هذا المفهوم في معنى النسيان المستثنى مطابقته، لقوله -تعالى
__________
(1) تفسير روح المعاني30/188، مرجع سابق، وانظر: تفسير الطبري 30/154، مرجع سابق، فإنه أورد أسماء القائلين بالنسخ العملي .
(2) تفسير القرطبي 20/19، مرجع سابق .
(3) لسان العرب14/132، مرجع سابق .
(4) لسان العرب14/132، مرجع سابق .(1/363)
ذكره-: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } "البقرة/106"، قال ابن منظور:" { نُنسِهَا } أي نأمركم بتركها، يقال أنسيته أي أمرت بتركه، ونسيته تركته، ثم نقل عن الفراء نحواً من التقرير السابق" (1) .
وثانيهما: ما يعرض نسيانه للنبي - صلى الله عليه وسلم - نسياناً مؤقتاً: كشأن عارض الحوافظ البشرية، ثم يقيض الله - عز وجل - له ما يُذَكِّرُه به، ففي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال: (يرحم الله فلاناً! لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن، أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا) (2) ، وفيه أيضاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقط آيةً في قراءته في الصلاة فسأله أبي بن كعب: أَنُسِخَتْ؟ فقال: (نسيتها) (3) .
__________
(1) لسان العرب14/132، مرجع سابق، وذهب إلى أن معنى الآية يشير إلى النسخ قتادة والحسن وغيرهما، انظر روح المعاني 30/188، مرجع سابق، وحكاه صاحب الكشاف قولاً 4/204، مرجع سابق، وارتضاه في تفسير الجلالين وأيده الصاوي في حاشيته عليهما 4/411، مرجع سابق، وكذا في البحر المحيط 7/458، مرجع سابق، وانظر تفصيل تلك الأقوال في: فتح القدير 4/523، مرجع سابق .
(2) رواه البخاري 5/2345، مرجع سابق .
(3) رواه البخاري 5/2346، مرجع سابق .(1/364)
فدخل في هذا قول من قال: "الاستثناء بمعنى القلة" (1) ، وتظهر بذلك مناسبة قوله - عز وجل - { إنّهُ يَعْلَمُ الجَهْر ومَا يَخْفَى } "الأعلى/7" تذييلاً للجملة السابقة في أن ما يقرؤه النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن هو من قبيل الجهر فالله - جل جلاله - يعلمه، وما ينساه فيسقطه هو من قبيل الخفي، فيعلم الله - عز وجل - أنه اختفى في حافظته حين القراءة، فلم يبرز إلى النطق به (2) ، وقال القرطبي:"الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، وما يخفى هو ما نسخ من صدرك" (3) .
__________
(1) راجع: التحرير والتنوير 30/281، مرجع سابق، وروح المعاني 30/190، مرجع سابق، وانظر: ابن كثير 4/428، مرجع سابق .
(2) انظر: التحرير والتنوير 30/ 282، مرجع سابق .
(3) تفسير القرطبي 20 /21، وأشار الزمخشري إلى نحو من ذلك 4/204، مرجع سابق .(1/365)
وعدم جواز نسيانه على مجموع الأمة، هو ما عبر عنه القرطبي بعدم النسيان الكلي في قوله:"وقيل إلا ما شاء الله أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك، فإذاً قد نسي، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسياناً كلياً" (1) ، وقال عنه الآلوسي:"ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على نسيانه القليل أيضاً، بل يذكره الله تعالى أو يُيَسِّرُ من يُذَكِّرُه، ثم إن المراد من نفي نسيان شيءٍ من القرآن:نفي النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وقرر الإمام النووي ذلك فقال: "قوله - صلى الله عليه وسلم - (كنت أنسيتها) دليل على جواز النسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - فيما قد بَلَّغه إلى الأمة، وقال القاضي عياض:"جمهور المحققين: جواز النسيان عليه ابتداءً، فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوَّز قال: لا يُقَر عليه، بل لا بد أن يتذكره، أو يذكره" (3) ،
وقال الإسماعيلي:"النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء من القرآن يكون على قسمين:
__________
(1) تفسير القرطبي 20/19، مرجع سابق، وبهذا التقرير يُجْمَعُ بين الأقوال المختلفة في معنى قوله - جل جلاله - : { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ... } حال كون هذه الجملة القرآنية تتسع لكل تلك التآويل، وتحتملها من حيث الأصيل الشرعي واللغوي، وبذا لا يكون مبررٌ لاستظهار الإمام الطاهر بن عاشور -رحمه الله تعالى- لكون معنى الاستثناء ينصرف إلى النسخ في التلاوة، انظر: التحرير والتنوير 30/280، مرجع سابق . وثَمَّ قولان ضعيفان ذكرهما القرطبي في آخر تأويل هذه الجملة 20 /19، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 20/190، مرجع سابق .
(3) شرح صحيح مسلم 6/323، مرجع سابق .(1/366)
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قرب، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في السهو: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون) (1) ،
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه (2) ...
فأما القسم الأول فعارض سريع الزوال لظاهر قوله - جل جلاله - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر/9"، " (3) ، وقال ابن حجر:"وفي الحديث حجة لمن أجاز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس طريقه البلاغ مطلقاً، وكذا فيما طريقه البلاغ، لكن بشرطين: أحدهما أنه بعدما يقع منه تبليغه، والآخر أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره ... إما بنفسه، وإما بغيره، فأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً، وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه نسيان أصلاً، وإنما يقع منه صورته ليُسَنَّ -أي ليُشَرِّع لمن بعده من المسلمين ما يصنعون إن وقع لهم النسيان-، قال عياض: لم يقل به من الأصوليين أحدٌ إلا أبو المظفر الاسفراييني، وهو قولٌ ضعيفٌ" (4) .
فقد تضافرت (5) عبارات العلماء على جواز النسيان غير الكلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أُكثر من إيرادها للأهمية .
__________
(1) البخاري 2/900، مرجع سابق .
(2) يعني كنسخ العمل المذكور .
(3) فتح الباري 9/86، مرجع سابق، والذي قرأ بضم أوله من غير همزة هم الكوفيون وابن عامر ونافع من السبعة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح أوله بهمزة { ننسأها } انظر: متن الشاطبية في القراءات السبع، مرجع سابق عند قول الناظم في فرش سورة البقرة: (وننسخ به ضم وكسر كفى ... وننسها مثله من غير همز ذكت إلى) .
(4) فتح الباري 9/86، مرجع سابق .
(5) فائدة: تضافر وتظافر وتظاهر بمعنىً واحد هو التعاون والاجتماع . انظر: لسان العرب 8/71، مرجع سابق .(1/367)
وبهذا التقرير يُجْمَعُ بين الأقوال المختلفة في معنى قوله - جل جلاله - : { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } حال كون هذه الجملة القرآنية تتسع لكل تلك التآويل، وتحتملها من حيث الأصيل الشرعي واللغوي، وبذا لا يكون مبرر لصاحب التحرير والتنوير -رحمه الله تعالى- لكون معنى الاستثناء ينصرف إلى النسخ في التلاوة (1) .
__________
(1) انظر: التحرير والتنوير 30/280، مرجع سابق . وثم قولان ضعيفان ذكرهما القرطبي في آخر تأويل هذه الجملة
20/19، مرجع سابق .(1/368)
وعلى هذا التقرير يحمل قول الفراء-رحمه الله تعالى- في وجه الاستثناء:" { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ... } "الأعلى/7" وهو لم يشأ أن تنسى شيئاً، كقوله - جل جلاله - : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ ... } "هود/107"، ولا يشاء (1) ، ويقال في الكلام: لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية على أن لا يمنعه شيئاً، فعلى هذا مجاري الأيمان، يستثنى فيها، ونية الحالف التمام" (2) ؛
__________
(1) أظهر منه قوله تعالى: { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } "الإسراء/86"، ولم يشأ -سبحانه- ذلك، وصرَّح بذلك من أئمة اللغة أبو إسحاق، ثم ذكر في توجيه الآية قريباً مما قُرِّر هاهنا فقال: "ويجوز أن يكون (إلا ما شاء الله) مما يلحق بالبشرية، ثم يتذكر بعد، ليس أنه على طريق السلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أوتيه من الحكمة" . انظر: لسان العرب 14/132، مرجع سابق، وانظر في ورود كلام مستثنى منه ولا يقتضي التحقق: شرح العقيده الطحاوية ص425، مرجع سابق .
(2) (الفراء) أبي زكريا يحي بن زياد ت 207هـ: معاني القرآن 3/256 دار السرور – تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار، وقريبٌ منه قول من قال: "الاستثناء بمعنى القلة، وأريد بها النفي مجازاً، وقيل الكلام عليه من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم..." انظر: روح المعاني 30/190، مرجع سابق ..(1/369)
إذ لا وجه لنفي النسيان مطلقاً (1) ، وقد ثبت من طريقٍ صحيحٍ، إلا على سبيل نفي النسيان الكلي كما سبق تقريره، وكما يُحْمَلُ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بدء الوحي الذي رواه الحارث في مسنده: (فما نسيت شيئاً بعد) (2) .
ومن أعظم فوائد الاستثناء ومقتضياته المنهجية في تعليم القرآن الكريم ما قرره الآلوسي من:"أن الله –تعالت قدرته– يُعْلِمُ عباده بضعفهم وقدرته، حتى يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عدم النسيان من فضله تعالى، وإحسانه لا من قوته، أي حتى يتقوى على ذلك جداً، أو ليعرف غيره ذلك" (3) .
وهو تأكيدٌ على المصدرية الإلهية، ومقتضياتها .
المطلب الثاني: معالجة مشكلة التهمة بقصور العاطفة البشرية، والتفكير البشري:
أما العاطفة البشرية التي يحتمل اتهام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها فيمكن أخذ التهمة بالخوف من عدم قبول الكفار لبعض القرآن نموذجاً؛ إذ قد يُتهم بأن ذلك دفعه إلى كتم بعض القرآن، وهو ربما الذي دفع بعض القُصَّاص المتأخرين ليدبجوا مهازيل من الأحاديث بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يود ألا ينزل ما ينفر الكفار منه.
فيؤخذ هذا النموذج في نفي هذه التهمة:
__________
(1) حتى أن الإمام أبا حيان -رحمه الله تعالى- في البحر المحيط 8/458، مرجع سابق، نعى على من زعم أن الاستثناء غير مراد، وقال: "يجعل الاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كتاب الله، ولا في كلام فصيح"، وهو كلامٌ فصيحٌ، ولكن يسَّاقط تثريبه، ثم تثريب الآلوسي -رحمه الله تعالى- عليه بما جُمِع به بين تلك الأقوال في التقرير أعلاه .
(2) مسند الحارث 2/867، مرجع سابق .
(3) انظر: روح المعاني 30 /191، مرجع سابق، وانظر: البحر المحيط 8/430، مرجع سابق .(1/370)
حيث يقول الله - سبحانه وتعالى - { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } "التكوير/24"، وقد ورد في هذه الآية تأويلان بحسب القراءتين الواردتين فيها (1) ، وكل قراءةٍ تتضمن معنىً ثانياً بحسب النظر إلى حرف الاستعلاء (على)، فصارت هذه الكلمة نافية لأربعة معانٍ، ترجع إلى الشبهة المذكورة في المطلب بأعظم الأساليب إعجازاً:
فالقراءة الأولى { بِضَنِينٍ } أي ببخيلٍ، بل هو مُبَلِّغٌ الوحيَ كله، و { بِظَنِينٍ } بمتهمٍ، فنفى الله - جل جلاله - عنه النقص، واعتوار الشك في الأمانة، تأكيداً لقوله { أَمِينٍ } إن كان المراد (2) جبريل - عليه السلام - ، وإن كان المراد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذلك، لا يبخل بالوحي، ولا يقصر في التبليغ والتعليم .
__________
(1) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد . انظر: طيبة النشر، مرجع سابق، عند قول الناظم: (بظنين الظا رغد حبر غنا ... ) .
(2) انظر: تفسير القرطبي 19/242، مرجع سابق، فقد ذكر أن أهل التأويل اختلفوا في صاحب هذه الآية { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } جبريل - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم - .(1/371)
أما الصفة الثانية المنفية في قراءة الضاد فهي الحرص، وتلوح من بين ثنايا التعبير عن عدم التقصير بقوله { بِضَنِينٍ } أي ببخيل ... مع أنه أمكن أن يقول بمقصر؛ إذ إن البخيل إنما يبخل بما عنده نظير ما يزعمه مصلحةً له إلى وقت الحاجة، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُصَرِّح لهم بجميع الوحي بقصد المصلحة، فيتأول تأخير بعض الوحي لعدم حلول وقته كالبخيل، ومما يمكن التمثيل به: ما فيه تبكيتٌ لهم، أو توبيخٌ له مما قد يشينه في قلوبهم (كما في سورة عبس) ... ، فقد يقال: للمعرفة بأن المصلحة الدعوية تقتضي كتم هذه الآيات خوف الفتنة-كما يطرأ على تفكير بعض الدعاة- فسيكتمها لذلك بفعل عاطفته البشرية ... ، ولكن الله - جل جلاله - نفى عنه هذه العاطفة القاصرة ... فلا يبخل بالوحي لأجل المصلحة الظاهرة، فكيف لو عدمت؟.سواءً كان هذا تتابعاً في وصف جبريل - عليه السلام - أو كان وصفاً للرسول الجليل - صلى الله عليه وسلم - ... ويؤيد ما قُرِّر هاهنا: أن فعل البخل لا يتعدى بـ { عَلَى } إلا على تضمينه معنى الحرص ونحوه (1) ، ولذا قال ابن زيد في هذه الآية: "الغيب القرآن الذي لم يضن به على أحدٍ من الناس ... أداه وبلغه، بعث الله به الروح الأمين جبريل - عليه السلام - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأدى جبريل - عليه السلام - ما استودعه الله - عز وجل - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وأدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ما استودعه الله - سبحانه وتعالى - وجبريل - عليه السلام - إلى العباد ليس أحدٌ منهم ضنَّ، ولا كتم، ولا تخرص" (2) .
__________
(1) وهو ما قال به الآلوسي -رحمه الله تعالى-، انظر: روح المعاني 30/107، مرجع سابق، ومثله قرر صاحب التحرير والتنوير 30/162، مرجع سابق، في إحدى المعاني التي وجه بها الآية .
(2) فيما خرجه ابن جرير في تفسيره عنه 30/82، مرجع سابق .(1/372)
... والقراءة الثانية: { بِظَنِينٍ } بالظاء المشالة معناها: ما هو على الغيب بمتهمٍ، تأكيداً لقوله { أَمِينٍ } ، والتهمة مطلقةٌ، ونفيها مطلقٌ، فتشمل ما قيل في معنى الظنة به: تقصيراً، أو ضعف قوةٍ على التبليغ (1) ، فكل ذلك منتفٍ عنه.
... والصفة الثانية المنفية بقراءة الظاء هي التجرؤ: حيث يظهر تضمين { بِظَنِينٍ } "بالظاء المشالة" معنى المتجرئ عند عدم الرضا بالقرآن المنزَل، بقرينة قيام { عَلَى } مقام
في، والمعنى: ليس بمتهمٍ في أمر الغيب –وهو الوحي- ولا متجرئٍ عليه، فيقول من عند نفسه شيئاً فيدعي أنه الوحي، بل ما بلغه هو الغيب لا ريب فيه، ولذا فعكسه يتعدى بعلى كقولك: ائتمنه على كذا .
وعلى ما ذكر في تأويل القراءتين لا يظهر مُسَوِّغٌ لترجيح الآلوسي هذه القراءة الأخيرة على الأولى بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له - صلى الله عليه وسلم - (2) ؛ إذ قد ظهر ما في القراءة الأولى من حِكَمٍ بالغةٍ بادي الرأي ... وربما يظهر للمتأمل –بعدُ– أيضاً في هذه، وفي غيرها – ما لا تنقضي معه عجائب القرآن – على أن الطبري رجح القراءة الأخرى بالضاد (3) .
كما يظهر في هذه الآية: نفي تسرب شكٍ في ذات الملَك من حيث التهمة أو من حيث الخلل"النقص" على قراءة { بِظَنِينٍ } ، أو تسرب شكٍ في ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحيثية ذاتها، وهو الأقرب أن يكون المراد، لأن الملَك معروفٌ بطاعته لربه بلا دخلٍ ولا خللٍ فطرةً قد فُطِر عليها، وهذا معلومٌ حتى عند كفرة العرب، وكذلك من حيث سياق السورة .
وسبحان الله بحمده، سبحان الله العظيم،
والحمد لله رب العالمين .
ملحق
مناقشة علمية لتعريف القرآن الكريم:
__________
(1) انظر: روح المعاني 30 /106، مرجع سابق .
(2) روح المعاني 30 /106، مرجع سابق .
(3) انظر: تفسير الطبري 30/83، مرجع سابق .(1/373)
... يرمي هذا الملحق إلى بيان ماهية القرآن من حيث أصله اللغوي، وبيان حدوده في الوضع الشرعي، من حيث لفظه؛ إذ إن القرآن هو موضوع تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - عليه السلام - ، ولذا يتألف هذا الملحق من مبحثين:
المبحث الأول: القرآن في الوضع اللغوي، ومقتضياته .
المبحث الثاني: القرآن في الوضع الاصطلاحي، ومقتضياته .
المبحث الأول:
"القرآن" في الوضع اللغوي، ومقتضياته:
... يهدف هذا المبحث إلى استخراج معطيات وذاتيات الحقيقة اللغوية لمادة (قرأ) في أصل الوضع اللغوي، ومقتضيات ذلك، ولذا فهو ينقسم إلى مطلبين:
المطلب الأول: أقوال العلماء في الوضع اللغوي للقرآن .
المطلب الثاني: مقتضيات مادة (القرآن) لغة .
المطلب الأول: أقوال العلماء في الوضع اللغوي للقرآن:
اختُلِفَ في أصل هذه اللفظة على قولين عامين:
قولٍ جعله علماً شخصياً غير مشتق، وقولٍ جعله مشتقاً، ثم اختلف القائلون باشتقاقه على أقوالٍ خمسةٍ في أصل ذلك الاشتقاق، وتفصيل ذلك مبسوط فيما يلي (1) :
__________
(1) وسيلمس القارئ نوع تطويلٍ في هذا الملحق، وعذر الباحث أن ذلك مما استلزمه سبيل التحقيق العلمي في هذه المسألة لربط ذلك بمحور البحث، وهو لفظ القرآن الكريم وكيفية تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - له .(1/374)
1 - فقيل: هو اسمٌ غير مشتقٍ خاصٍ بكلام الله - سبحانه وتعالى - ، فهو غير مهموزٍ، والراء محركةٌ بالفتح، وبه قرأ ابن كثير (1) ، وهذا مروي عن الشافعي -رحمه الله تعالى- (2) ، قال الشافعي: "وقرأت على إسماعيل بن قسطنطين، وكان يقول: القرآن اسمٌ، وليس بمهموزٍ، ولم يؤخذ من قرأت، ولو أُخِذَ من قرأت كان كلما قُرِئَ قرآناً (3) ، ولكنه اسمٌ للقرآن مثل التوراة والإنجيل" ويهمز قرأت ولا يهمز القرآن، واختار هذا القول الإمام السيوطي -رحمه الله تعالى- في الإتقان (4) ... ؛ فالقرآن على هذا قد وُضِعَ علمًا مرتجلاً (5) ،
__________
(1) وحمزة وقفاً .
(2) (الحاكم) أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن البيع النيسابوري (321 هـ، ت405 هـ): المستدرك على الصحيحين 2/250، مراجعة: مصطفى عبد القادر عطا، 1411هـ -1990م، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة لم تذكر . وفيه عن: محمد بن إدريس الشافعي حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين قال: قرأت على شبل، وأخبر شبل أنه قرأ على عبد الله بن كثير، وأخبر عبد الله أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس - رضي الله عنه - وأخبر ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قرأ على أبي بن كعب، وقال ابن عباس - رضي الله عنه - :قرأ أبي على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) ليست هذه النتيجة مستلزَمة للمقدمة ... إذ يصح أن يؤخذ من قرأت، ولا يسمى كل ما قُرِئ قرآناً من حيث تخصيص الشرع، أو العرف للعام، وإن بقي اسمه عاماً .
(4) الإتقان في علوم القرآن 1/51، مرجع سابق . وانظر: لسان العرب11/78، مرجع سابق .
(5) العلم المرتجل: ما لم يسبق له استعمال قبل العلمية في غيرها كسعاد وأُدَد . انظر: (ابن عقيل) بهاء الدين عبد الله ابن عقيل العقيلي (698 هـ، 769 هـ): شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 1/100، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشيته عليه المسماة: منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل، لم تذكر الطبعة ولا الدار ..(1/375)
على هذا الكتاب الكريم كما أن التوراة علمٌ على الكتاب الذي أنزل على موسى - عليه السلام - ، والإنجيل علمٌ على الذي أنزل على عيسى - عليه السلام - .
- وذهب الجمهور إلى أنه مشتق، ثم اختلفوا في أصل اشتقاقه:
... 2- فرجح الأشعري -رحمه الله تعالى- أنه مشتقٌ من قرنت الشيء بالشيء: إذا ضممت أحدهما للآخر، وسُمي القرآن بذلك لأنه تضم حروفه وكلماته بعضها إلى بعض، كما تضم أحكامه في العلم والعمل فلا تجزأ (1) .
... وهذا هو القول الاشتقاقي الأول (2) ، ويومئ له حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : (إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم) (3) ... وقد ينازَع في هذا الاستدلال .
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 1/51 ،مرجع سابق، وانظر: (أبو البقاء) أيوب بن موسى الحسيني الكفوي الكليات 721، 1412هـ – 1992م، قابله على نسخة خطية، وأعده للطبع، ووضع فهارسه: د. عدنان درويش – محمد المصري – مؤسسة الرسالة –بيروت ط1، تفسير التحرير والتنوير1/71، مرجع سابق . ثم انظر إلى ذم القرآن لمن يجزئه في قوله تعالى { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ } "كالحجر/91". راجع فيها: فتح القدير 3/180، (الشوكاني) محمد بن علي ابن محمد الشوكاني 1250 هـ: فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من التفسير ط1، 1415 - 1995م، اعتنى به، وراجع أصوله: يوسف الغوش - دار المعرفة بيروت .
(2) ويظهر من صنيع البخاري -رحمه الله تعالى- في الصحيح تأييده، إذ أورد في معنى القرآن: "سمي القرآن لجماعة السور، وسميت السورة لأنها مقطوعة من الأخرى، فلما قرن بعضها إلى بعض سمي قرآناً" . انظر: صحيح البخاري 4/1770، مرجع سابق .
(3) صحيح البخاري 4/1924، مرجع سابق .(1/376)
3- وقيل: أنه مشتقٌ من القرينة، وأنه اسم جمعٍ لها، والقرينة العلامة، قالوا: لأن آياته يُصَدِّقُ بعضها بعضًا، فهي قرائن على الصدق (1) ، ونسبه السيوطي للفراء -رحمه الله تعالى (2) .
وهذا هو القول الاشتقاقي الثاني .
وعلى كل الأقوال المتقدمة فإن [قرآن] وزنه فُعال، ونونه أصلية .
وعلى القولين الاشتقاقيين السابقين: فإن أصلهما واحد هو القَرْن (3) ؛ إذ القرينة ترجع إليه، ومنه: صدق فلانٌ بقرينة كذا أي بضميمة كذا، والمراد ما اقترن بصحة صدقه، وهذا هو المطلوب الأول (4) .
- وقيل بل هو مشتقٌ من قرأ ... ثم اختلف القائلون بذلك في أصل المدلول اللغوي لكلمة قرأ ...
4- فقال قومٌ منهم الزجاج -رحمه الله تعالى-:"تدور كلمة (قرأ) على معنى الجمع والضم. ومنه قرأت الماء على الحوض أي جمعته (5) ... قال ابن منظور-رحمه الله تعالى-: "قرأه يقرَؤه ويقرُؤه، الأخيرة عن الزجاج قرءاً وقراءة، وقرآناً، الأولى عن اللحياني فهو مقروء" .
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير1/71، مرجع سابق .
(2) الإتقان1/51، مرجع سابق
(3) ومنه اقترن قراناً ومقارنة . انظر لسان العرب 11/134، مرجع سابق .
(4) في اصطلاح الباحث .
(5) الإتقان1/51، مرجع سابق(1/377)
قال أبو إسحاق النحوي -رحمه الله تعالى-:"يسمى كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وقرآناً وفرقاناً، ومعنى القرآن معنى الجمع، وسمي قرآناً؛ لأنه يجمع السور فيضمها" (1) ، وإلى نحو ذلك مال ابن فارس –رحمه الله تعالى-، وقال أبو عبيدة: "لأنه جمع السور بعضها إلى بعض" (2) ، وقال الراغب:" لأنه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة، وقيل لأنه جمع أنواع العلوم كلها" (3) .
وهذا هو القول الاشتقاقي الثالث .
وعلى هذا فالقرآن مصدرٌ بمعنى اسم الفاعل، أي الجامع (4) .
... وقد غَلَّطَ الزجاج القول السابق: باشتقاق القرآن من قَرَن، وقال:"هو سهوٌ" (5) ، مع أن التأمل قاضٍ بأن الخلاف لفظي بين هذا القول، والقول الذي جعل اشتقاق القرآن من القَرْن من حيث أن حاصل كل منهما الضم والجمع: فضم حرفٍ إلى حرفٍ، وضم كلمةٍ إلى كلمةٍ، وضم سورةٍ إلى سورةٍ ... يصدق عليه أن يُجعل المصدر (قَرْن) مكان المصدر (ضم)، فإذا المعنى واحد، وهذا هو المطلوب الثاني .
__________
(1) لسان العرب11/78، مرجع سابق، وانظر: (ابن فارس) أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي: معجم المقاييس في اللغة 2/78، بتحقيق وضبط عبد السلام هارون، ط1، 1411هـ – 1991م، دار الجيل .
(2) (أبو عبيدة) معمر بن المثتى التيمي: مجاز القرآن3، ط1، الخانجي الكتبي بمصر1954م . حققه د. محمد فؤاد سزكين.
(3) (الراغب) أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ت 502هـ: المفردات في غريب القرآن 398، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة - بيروت .
(4) (الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي: نثر الورود على مراقي السعود1/88 - تحقيق وإكمال تلميذه الدكتور: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي - الناشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي - دار المنارة جدة ط1، 1415 - 1995م .
(5) الكليات1/721، مرجع سابق .(1/378)
فقد تحصل من المطلوب الأول والثاني: أن القرآن مأخوذ من القَرْن أو الجمع، وهما آيلان إلى معنى واحد .
5- وقال قومٌ: قرأ بمعنى تلا، والقرآن مصدر بمعنى اسم المفعول (المقروء أو المتلو) زيدت فيه الألف والنون، كما زيدتا في الغفران والرجحان (1) . وإلى هذا المعنى مال رأيُ الإمام عبد الرحمن الثعالبي -رحمه الله تعالى-، وقدمه على المعنى الأول، قال:"ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... ... يقطع الليل قرآنا وتسبيحاً
أي قراءة" (2) .
وقد أيد هذا المعنى إمام المفسرين الطبري -رحمه الله تعالى-، فقال:"والواجب أن يكون تأويله على قول ابن عباس - رضي الله عنه - :التلاوة والقراءة" (3) ، وكذا رجح هذا المعنى صاحب كتاب "النبأ العظيم" (4) .
ويؤيده أن أول ما بدئ به الرسول من الوحي القرآني { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... } الآية، وقد قال تعالى { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ ... } "الإسراء /106"، فهمزة (قرآن) همزةٌ أصلية (5) .
... وهذا هو القول الاشتقاقي الرابع .
__________
(1) نثر الورود1/88، مرجع سابق، وانظر الكليات ص720، مرجع سابق .
(2) (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسيرالقرآن1/32، دار القلم، بيروت .
(3) (الطبري) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310): تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تأويل القرآن 1/41، ط3 1388هـ –1968م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر .
(4) د. محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم ص5، اعتنى به وخرج أحاديثه: عبد الحميد الدخاخني ط1 1417هـ-1997م، دار طيبة الرياض .
(5) المراد بالأصلية هنا أنها ليست ساقطة سقوطاً كاملاً من الكلمة، لا المراد الصرفي؛ إذ يصدق على كونه مأخوذاً من قراءة لا من القرن، وغاية البحث منصبة على جمع أصل التفكير في أصل الكلمة على القولين .(1/379)
وقد جمع بعض العلماء المعاصرين (1) بين المعنيين السابقين (القرن، أو الضم وهو ما ذكر في حاصل المطلوب الأول والثاني، والتلاوة والقراءة) في معنى واحد: هو الجمع ذاته، فيكون أصل كلمة (قرأ) هو الجمع، ثم صار استعمال مصدر (القرآن) -بعد- مُشْتَهَراً في التلاوة، وهي ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في النطق، كما أن استعمال الكتاب في خصوص الرسم، وهو ضم الألفاظ بعضها إلى بعض في الخط، ومادتا (كتب) و(قرأ) تدوران على معنى الجمع والضم مطلقًا، وبلمح هذا الأصل الأول يكون كل من اللفظتين ملاحظًا فيه وصف الجمع، إما على معنى اسم الفاعل فيكون معناه (الجامع)، أو اسم المفعول فيكون معناه (المجموع)، وهذا اللقب لا يعني فقط أن هذا المسمى جامع للسور والآيات، أو أنه مجموع تلك السور والآيات من حيث هي نصوص مؤلفة في صفحات القلوب، أومن حيث هي نقوش مصفوفة في المصحف والألواح، أو من حيث هي أصوات مرتلة منظومة على الألسنة، بل يعني شيئًا أدق من ذلك كله، وهو أن هذا الكلام قد جمع فنون المعاني والحقائق، وأنه قد حشدت فيه كتائب الحكم والأحكام؛ كما قال - عز وجل - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } "النحل / 89" .
__________
(1) هو الدكتور محمد عبد الله دراز ذاته في كتابه النبأ العظيم ص6، مرجع سابق .(1/380)
وأكد أبوبكر الأنباري -رحمه الله تعالى- ذلك بقوله - سبحانه وتعالى - { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } "القيامة / 18"، إذ قال في معناه:"إذا ألفنا منه شيئاً،فضممناه إليك، فخذ به، واعمل به، وضمه إليك" (1) ؛ إذ إن التأليف هو جمع كائن هاهنا بالألفاظ وهو التلاوة، وبالنقوش وهو الكتابة (2) . وهذا هو المطلوب الثالث .
واستلزام الجمع التلاوة في مادة (قرأ) كاستلزام الجمع الكتابة في مادة (كتب)، وبذا اجتمع على سلكٍ واحدٍ المعنى الذي ارتضاه الطبري للقراءة وهو التلاوة، والمعنى الآخر الذي نسبه إلى قتادة،وهو التأليف فلا يكون-بعد- لقوله -رحمه الله تعالى-:"ولكلا القولين، أعني قول ابن عباس - رضي الله عنه - وقول قتادة اللذين حكيناهما وجهٌ صحيحٌ في كلام العرب، غير أن أولى قوليهما بتأويل قول الله تعالى { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } "القيامة / 17-18 "، قول ابن عباس - رضي الله عنه - " (3) -مكانٌ في قوانين الترجيح؛ لأن أقل أحوال الترجيح أن يكون فرع التغاير؛ إذا كان الترجيح ترجيحاً أولوياً ولا تغاير هنا .
فقد التقت المعاني الأربعة (القرن، القرينة، الضم، التلاوة) في الجمع، لكنه قرن، وضم، وجمع خاص بالحروف القرآنية وهو معنى التلاوة، فالمعاني الأولى باعتبار المعنى العام، والتلاوة باعتبار المعنى الخاص . وهذا واضح من المطلوبات الثلاثة .
__________
(1) (الأنباري) أبو بكر محمد بن القاسم: الزاهر في معاني كلمات الناس 1/71، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، اعتنى به: عز الدين البدوي النجار - ط1 ن 1412هـ – 1992م، مؤسسة الرسالة – بيروت .
(2) هذا استطرادٌ -لا يذم-في معنى كتب بجانب قرأ ليتضح معنى الكتاب إلى جانب القرآن من حيث دلالة قرأ على الجمع القرائي، ودلالة كتب على الجمع الخطي .
(3) تفسير الطبري 1/42، مرجع سابق .(1/381)
وقد تحصل مما سبق أن القرآن يعني في ذاته الجمع، وقد أُريد به جمعٌ مخصوصٌ هو جمع الحروف في النطق، وهو الذي اصطلح على تسميته بالتلاوة، وهي حالةٌ خاصةٌ من القراءة ترتبط غالباً بالقرآن الكريم، ولهذه النتيجة أهميتها البالغة كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- في المطلب الثاني من هذا المبحث .
6- وقال قطرب -رحمه الله تعالى-:"إنما سمي القرآن قرآناً لأن القارئ يظهره، ويبينه، ويلقيه من فيه أخذاً من قول العرب:ما قرأت الناقة سلى قط، أي:ما رمت بولد (1) ، قال حميد ابن ثور:
أراها غلاماها الخلى فتشذرت مراحًا، ولم تقرأ جنينًا ولا دماً" (2)
وهذا هو القول الاشتقاقي الخامس (القرآن:البيان، والإظهار).
المطلب الثاني: مقتضيات مادة (القرآن) لغة:
بالعودة المتأملة إلى المقررات اللغوية في المطلب السابق يمكن استخراج ذاتيات ومعطيات مادة (قرأ)؛ فما كان اختيارٌ قدريٌ لها لتقترن بكلام رب العالمين علماً عليه إلا لدلالات تضمنتها مادتها:
فأما أولاً: فإن قاعدة التفكير في الأصل اللغوي لكلمة (قرآن) هي:
أ- من حيث القولان العامان: أن لفظ (قرآن) هو مصدرٌ (وصفٌ مهموزٌ) (3) ، من (قرأ) على ما ذهب إليه الجمهور، ولكنه نُقِل وجُعِل علماً شخصياً على الكتاب الكريم، ومن باب الاشتراك اللفظي فإنه يطلق على بعضه، أو على جميعه، وكونه صار علماً شخصياً هو عين ما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين (4) .
__________
(1) (التبريزي) الإمام الخطيب أبي زكريا يحي بن علي التبريزي (ت502): شرح القصائد العشر ص380 - علق عليه: السيد أحمد الخضر - مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة . وانظر: الإتقان في علوم القرآن1/51، مرجع سابق .
(2) الزاهر في معاني كلمات الناس1/72، مرجع سابق .
(3) المراد شبيه بالوصف، لا أنه وصف حقيقي وذلك بمشابهة المصدر للوصف في عمل الفعل ونحوه .
(4) روح المعاني1/62، مرجع سابق، النبأ العظيم ص7، مرجع سابق .(1/382)
... وبذا لا يتعارض القولان العامان الواردان في الأصل اللغوي للفظ (قرآن) من حيث أصل فكرتهما، بعد سلوك هذه السبيل التوفيقية في الجمع بينهما .
فالقرآن على وزن فُعلان، وزنة فعلان وردت في المصادر مثل غفران، وشكران، وبهتان، كما وردت زيادة النون في أسماء الأعلام، مثل عثمان وعدنان، وحسان. واسم (قرآن) صالح للاعتبارين؛ إذ هو مشتقٌ من معنى الضم والجمع سواء كان أصل الاشتقاق قراءة، أو قَرْناً ؛لذا اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ (قرآن) مهموزاً أنى وقع في التنزيل، ولم يخالفهم إلا ابن كثير،وحمزة وقفاً، حيث قرآه بفتح الراء بعدها ألف وإسقاط الهمز على تخيف المهموز، وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلفة قراءته (1) ، ويؤكد هذا المعنى أن الإمام أبا عمروٍ المقرئ قد قرأ على ابن كثير، فهو من جملة شيوخ أبي عمرو في القراءات، لكن اختياره المنقول إلى يومنا هو قراءة لفظ (القرءان)بالهمز (2)
__________
(1) التحرير والتنوير1/71، مرجع سابق . وإنما مال الشافعي إلى أنه علمٌ خاصٌ بالقرآن غير مشتقٍ لأن سنده في القراءات يتصل بابن كثير -رحمه الله- انظر: الكليات ص720، مرجع سابق، ولسان العرب11/78، مرجع سابق .
(2) خلافاً لما نقله في لسان العرب11/78، مرجع سابق من أنه لا يهمز ... انظر: (الشاطبي) أبو القاسم أو أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي ت 590 هـ: حرز الأماني ووجه التهاني (متن الشاطبية)، ط1، 1412هـ - 1992م، المكتبة الثقافية - بيروت، عند قول الناظم في فرش سورة البقرة: (ونقل (قرآن) والقرآن دواؤنا)، وانظر: (ابن الجزري) محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833هـ: طيبة النشر في القراءات العشر ص97، عند قول الناظم في باب نقل الهمز: (كيف جا القرآن دف)، ضبطه وصححه وراجعه: محمد تميم الزعبي، توزيع مكتبة دار الهدى، المدينة المنورة ..(1/383)
... ومعلومٌ مكانه من النحو واللغة،كما هي في الإقراء، فلو لم يستقر عنده اتحاد المعنيين مهموزًا، أو مخففًا لكان أجدر أن ينقل الوجه الذي ارتضاه شيخه .
فقد تقرر أن لفظة (قرآن) مصدرٌ مشتق من (قرأ، أو قرن) صار علمًا شخصيًا على ذلك الكتاب الكريم (1) ، وهما القولان العامان .
كما تقرر على القول الاشتقاقي الأول، والثاني، والثالث، والرابع أن القرآن مأخوذ في أصل معناه من الجمع والضم (2) (وهو القرن)، لكنه جمعٌ مخصوصٌ لجملة أصواتٍ خارجةٍ من مخارجها، تصير بضمها وجمعها لبعضها قرآناً، ويسمى النطق بها تلاوة، فهي نوعٌ خاصٌ من القراءة، صارت مقترنة بالقرآن، وهذه الأحرف تخرج مُظْهَرَة، مُبَيَّنة، مُحْدَدة كما حددها الشارع (3) ، وهو القول الاشتقاقي الخامس .
__________
(1) هاهنا إشكالان: أولهما: متعلقٌ بصحة التعبير في هذه الجملة؛ إذ لا يقال مصدرٌ مشتقٌ على مذهب البصريين السائد، مع اتفاقهم على أن المصدر جامد، وهو أصل المشتقات . قال الحريري في ملحة الإعراب:
والمصدر الأصل وأي أصل ومنه يصح اشتقاق الفعل
إلا أن يراد بالاشتقاق هنا معنى أعم من الاشتقاق الاصطلاحي، وهو رد لفظة إلى لفظة ...
وثانيهما: إن قررنا أن القرآن علم فكيف يجتمع ال والعلمية في كلمة ... ويجاب عليه بأنه لا إشكال فقد قال ابن مالك: وبعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنه نقلا.
كالفضل والحرث والنعمان فذكر ذا وحذفه سيان .
انظر: نثر الورود1/88-89، مرجع سابق .
(2) وصرح ابن الأثير في النهاية بذلك فقال: "قد تكرر في الحديث ذِكر القَراءة، والاقْتراء، والقارِئ، والقُرآن، والأصل في هذه اللَّفظة الجمعُ، وكلُّ شيء جَمعْتَه فقد قَرَأتَه ... "، انظر: (ابن الأثير) المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن الأثير الجزري: النهاية في غريب الأثر 3/358 مراجعة طاهر أحمد الزاوي + محمود محمد الطباخي، 1399هـ - 1979م، دار الفكر - بيروت .
(3) هذا هو أصل فكرة التوقيف .(1/384)
... وبهذا يكون أصل التفكير في الأصل اللغوي لكلمة (قرآن) قد اتحد، وإن اختلفت عبارات المعبرين عنه، وهو معنى الجمع والضم، ولكن بعضهم عبر عن ذلك بما يؤول إليه جمع الحروف، وقَرْنِها ببعضها عند نطق القارئ بها في خصوص القرآن فسماه تلاوة، وبعضهم نظر إلى أن حروف القرآن لا تكون كذلك حال التلفظ بها إلا أن تخرج محددة مُبَيَّنة مُظْهَرة، فجعل الاشتقاق آتياً من ذلك .
ولمعرفة الأصل التفكيري في اشتقاق هذه الكلمة أهمية بالغة، كان ما سبق أول ملامحها .
وأما ثانياً: فإن كون الخطاب الشرعي وارداً بأصل الوضع العربي، فتفهم مفرداته من خلال مقتضيات الدلالة في اللغة العربية (1) ... يسوغ لنا -إن لم يحتم علينا- أن ننظر في مقتضيات الدلالة اللغوية لمادة (قرأ)، ونعتمد تلك الدلالات كحقائق ما لم يخصصها -تعديلاً أو إلغاء- قرين شرعي .
فمن ذلك:أن كون (قرآن) قد صارت علماً شخصياً يحتم قراءة ألفاظها، وفق خصوصيتها، ولا تصح فيها كل قراءة يطلق عليها قراءة .
__________
(1) انظر: الموافقات في أصول الشريعة 2 /89، مرجع سابق، عند الكلام على مقاصد الشريعة في وضع الشريعة للإفهام .(1/385)
وأما ثالثاً: فإن كلمة (قرآن) تدل في أصل معناها على الجمع كما سبق، وهذا يقتضي أن تكون الحروف مجموعة في كلمتها حال النطق، فلا يجوز نطق كل حرف في الكلمة مستقلاً عن قرينه في الكلمة ذاتها، كما لا بد من قدر من اجتماع الكلمات أثناء التلاوة، ويُحَدِّد هذا القدرَ التلقينُ الشرعي الذي هو أساس الأداء القرائي، ويُبْنى على هذا أن قراءة القرآن حرفاً حرفاً -على معنى الحرف الهجائي- أي لكل حرف على حدة باطلة، وكذا القراءة لكل كلمة على حدة باطلة -من حيث هي قراءةٌ للقرآن- إلا أن تصح لصارف خارجي (1) ؛ إذ لا يسمى ذلك قرآناً لمنافاته المقتضى اللغوي لمادة (قرآن) . وصرح بما يشبه هذه النكتة الإمام التفتازاني –رحمه الله تعالى- فقال: "يدخل في الحد –يعني تعريف القرآن– الحرف، أو الكلمة، ولا يسمى قرآناً في عرف الشيوع" (2) ، ذلك بأنه لم يجمع إلى غيره .
__________
(1) كأن تكون الكلمة آية بأكملها { مُدْهَامَّتَانِ } "الرحمن/64"، والمراد بالكلمة هاهنا: الكلمة العرفية، وهي ما التصقت حروفه، لا المعنى النحوي ... .
(2) (التفتازاني) سعد الدين مسعود بن عمر الشافعي - ت792 هـ: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه - ضبطه، وخرج آياته، وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات ط1، 1416هـ -1996م، دار الكتب العلمية، بيروت، وتزيد الثقة بصحة هذا المستَنْتَج بتصريح العلماء بنظيره في الناحية المعنوية، حيث قالوا: لم يسم قرآناً إلا لجمعه ثمرات الكتب السالفة، وقال ابن الأثير: لأنه جمع القصص، والأمر، والنهي، والآيات، والسور بعضها، إلى بعض ... فإن كان هذا في الناحية المعنوية، فليكن كذلك من حيث اللفظ .(1/386)
ومن جهةٍ أخرى فإن لفظة الجمع، ومعنى (الجامع) و(المجموع) على ما تقرر سابقاً يقتضي بطلان قراءة الآيات أو الكلمات معكوسة حروفها إذ لم تنزل -من حيث هي قرآن- إلا بهذه الهيئة المعينة من الجمع فجمعها على غير ذلك مبطل لكونها قرآناً، وجاز تقديم بعض السور على بعض لأنها قد أُنزلت كذلك مقدماً بعضها على بعض، ثم تُلقيت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع جواز تقديم بعضها على بعض نقلاً، بخلاف الآيات أو الكلمات .
وأما رابعاً: فإن قراءة القرآن غير كائنةٍ في حقيقتها قراءة للقرآن إلا إذا اقترنت باللفظ ... وذا يستلزم الصوت، فكان لابد من الصوت في قراءة القرآن سواء كان خفياً أو جهرياً. وأُخِذَ هذا المستَنْتَج مما أورده ابن منظور في لسان العرب، حيث قال: "معنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعاً أي ألقيته" (1) . ...
وأما خامساً: فالقراءة الحقيقية للقرآن من حيث هي قراءةٌ للقرآن هي التي يكون الصوت فيها مجهورًا مسموعًا، ولا يرد على هذا الأصل ورود القراءة السرية في الشرع؛ ذلك أنه لا إشكال في تسميتها قراءة، لكن لا يطلق عليها هذا الإطلاق إلا وهي مقيدة به، أما مطلق القراءة دون قيد فتصرف إلى القراءة المجهور بها، ويدل على هذا الأصل حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أُمِر، وسكت فيما أُمِر
{ ... وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } "مريم / 64" { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
__________
(1) لسان العرب22/78، مرجع سابق، وفي 11/80 منه: "قال أبو إسحاق النحوي: وقرأت القرآن لفظت به مجموعاً " .(1/387)
حَسَنَةٌ ... } "الأحزاب/ 21"، وأوله: (سمع قوماً يتقارؤون) (1) ، معناه:أنه كان لا يجهر فيها، أو لا يُسْمِعُ نفسه قراءته، وقال ابن منظور:"كأنه رأى قوماً يقرؤون فيسمعون نفوسهم ومن قرب منهم" (2) .
فأشعر الكلام بمنطوقه أن المخافتة في قراءة القرآن ليست هي الأصل، بل تكون مقيدة بالمخافتة عند طلبها لتكون كذلك ... ويبقى هذا الاستنتاج بحاجة إلى غربلة وقوة بحث ليكون كسابقيه (3) ، من حيث قوة الثبوت (4) .
وأما سادساً: فمن المقتضيات اللغوية الهامة لمادة قرأ من حيث هي متعلقة بألفاظ القرآن الكريم: حتمية البيان ليعتد بالخارج من الفم قرآناً، فلا يكفي اللفظ (مجرد التصويت) حتى يقترن بالبيان في القراءة، وهذا يستفاد لغةً من القول الاشتقاقي الخامس، ونقلاً من قول ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - جل جلاله - { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }
"القيامة/18 ": "فإذا بيناه لك بالقراءة فاعمل بما بيناه لك" (5) .
__________
(1) صحيح البخاري 1/268، مرجع سابق، والذي عند ابن منظور لفظه: (كان لا يقرأ في الظهر والعصر) .
(2) لسان العرب11/79، مرجع سابق، وهو ما قرره ابن الأثير في معناها، انظر النهاية 3/123، مرجع سابق .
(3) لعل في قوله - سبحانه وتعالى - { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } "الإسراء/ 110" إشارةٌ إلى هذه المسألة . وغير خافٍ أن الجهر المتحدَث عنه هو المعتدل لا المزعج المستقبَح، ثم هو في كل حالٍ بحسبه . انظر: روح المعاني15/278، مرجع سابق .
(4) وتقدم في الفصل الرابع ص232 أن أول أسس حفظ القرآن حفظه في الصدر، وقد تقرر أن القراءة المجهورة هي المناسبة للفظ والفهم، في حين تقتصر القراءة الخفية على قدر من الفهم فحسب غالباً . انظر: مقال (ظاهرة النسيان) مجلة البيان، العدد 105، جمادى الأولى1417 هـ .
(5) انظر حديث المعالجة في المبحث السادس من الفصل الثالث، وانظر: لسان العرب1/79، مرجع سابق .(1/388)
وهذا تقعيدٌ حسنٌ للتجويد من حيث أنه مخارجٌ وصفاتٌ ذاتية، أي من حيث إعطاء الحرف حقه، كما أنه رافد لاقتضاء لفظة (القرآن) ذاتياً لأداء محدد من قبل الشارع، وقد تظاهرت عبارات أهل العلم على دلالة لفظ (القرآن) على هذا المعنى، فأورد ابن القيم - رحمه الله تعالى- ذلك في الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن (1) ، وقال في زاد المعاد: "وأما المهموز -عنى مادة قرأ- فإنه من الظهور والخروج على وجه التوقيت والتحديد، ومنه قراءة القرآن؛ لأن قارئه يظهره ويخرجه مقدارًا محدوداً لا يزيد ولا ينقص، ويدل عليه قوله - سبحانه وتعالى - { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } "القيامة/17"، ففرق بين الجمع والقرآن، ولو كان واحدًا لكان تكريرًا محضًا، ثم استدل بقول ابن عباس - رضي الله عنه - السابق (2) ،
__________
(1) انظر: (ابن القيم) شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر: الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن 333، 1987م، دار مكتبة الهلال، بيروت . لكنه خص الإظهار والبيان لشيء معنوي ههنا حيث قال: "البيان لأنه أظهر سائر العلوم المحتاج إليها في أمر الدين والدنيا وجمع بينهما ... " فليكن ذلك اللفظ حيث خصه بالمعنى دون مخصص ... .
(2) (ابن القيم) شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر : زاد المعاد في هدي خير المعاد5/635، حقق نصوصه وخرج أحاديثه، وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، ط8، 1405هـ –1985م، مؤسسة الرسالة، بيروت. ويُلاحَظُ أنه عتب على أبي عبيدة -قال -: "لزعمه أن القرآن مشتقٌ من الجمع"، ولا عتب على أبي عبيدة ولا ملامة؛ إذ إن تفريق ابن القيم بين (قرى) المعتل و(قرأ) المهموز فيه نظر؛ فإن ابن فارس قد قال بعد كلامه عن المعتل: "فإذا همز هذا الباب فهو والأول سواء" . انظر: معجم المقاييس2/78، مرجع سابق،ولا شك في تقديم كلام ابن فارس -رحمه الله تعالى- من حيث هو فارس هذا الميدان في هذا الشأن ..(1/389)
وهو الذي ختم عليه الآلوسي –رحمه الله تعالى- بطابع التصديق، فقال: "فمعنى القرآن: المقروء المتلو، أو المُظْهَر المُبْرَز" (1) ، وقرره في (نثر الورود) بنحو هذه العبارة (2) .
وأما سادسًا: فإن القراءة تستلزم حبس النفس، ورياضة الفك، قال أبوعمرو ابن العلاء -رحمه الله تعالى-: "دفع فلان جاريته تُقَرِّئُها: أي تمسكها حتى يتحقق الاستبراء" (3) .
وقبل الانتقال إلى التعريف الاصطلاحي للقرآن الكريم، فإن الناظر فيما سبق يتضح له سبب الاختيار القدري والشرعي للفظة (قرآن) لتقترن بكلام الله - عز وجل - ؛ إذ كان بسبب تضمنها لمقتضيات ذاتية تجعل لفظها وهيئة أداء هذا اللفظ توقيفية، وهو ما قام جبريل - عليه السلام - بتعليمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من الله - سبحانه وتعالى - ، لا فرق في ذلك بين أصل اللفظ، ولا هيئة أدائه، وقد رأيت أن أول أدلة ذلك هو المقتضيات اللغوية للفظة (قرآن) .
المبحث الثاني:
"القرآن" في الوضع الاصطلاحي، ومقتضياته:
... يرمي هذا المبحث إلى بيان المراد بالقرآن من حيث الوضع الاصطلاحي، ومقتضيات ذلك من حيث ألفاظه تحديداً وتبييناً لهيئة القراءة ... وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: بواعث تعريف القرآن اصطلاحاً .
المطلب الثاني: أقوال العلماء في الوضع الاصطلاحي لكلمة (قرآن) .
المطلب الثالث: إشارات عامة حول علاقة التعريف الاصطلاحي بألفاظ القرآن الكريم.
المطلب الأول: بواعث تعريف القرآن اصطلاحاً:
تناول العلماء تعريف القرآن لا بسبب الجهل به، أو عدم وضوحه للناس، بل لأمور:
أولها: ضبط ما تعبد به تلاوةً .
ثانيها: ضبط ما تجوز به الصلاة وأقله، وما لا تجزئ قراءته فيها .
ثالثها: ضبط الأدلة الشرعية الكلية، والتفصيلية التي يستدل بها على مواضعها من علوم الشرع، وجزئيات الحياة العلمية، والعملية .
__________
(1) روح المعاني 1/88، مرجع سابق .
(2) انظر نثر الورود: 1/89، مرجع سابق .
(3) لسان العرب11/81، مرجع سابق .(1/390)
رابعها: تحديد القطعي ثبوتاً ودلالة، وغيره من الوحي المنزَل ليُبْنى عليه تفصيلات الاجتهاد العلمي، وطرائق التعادل والترجيح .
خامسها: بيان الحدود التي أذن للعقل البشري التصرف فيها من لفظة بحسب ما أنزل وجوبًا أو جوازًا، إلزامًا أو اختيارًا (1) في مادة اللفظ القرآني وهيئته الصوتية .
سادسها: بيان ما يُكَفَّر به جاحده من لفظه، وما لا يكفر بجحده .
سابعها: تحديد المعجز من لفظه ومعناه، وغيره؛ إذ هو المعجزة التي لم تزل حجة قائمة على العباد إلى قيام الساعة (2) .
__________
(1) وجوباً: كأداء لفظ السور في هيكله الصوتي الأصلي، وجوازاً كالاختيار بين الإتيان بالبسملة أو عدمها، إلزاماً كالتزام مد تقوم به ذات الحرف في المد الأصلي، وإلا أخل بطبيعة الحرف، واختياراً كاختيار أحد القراءات لأداء لفظ القرآن أو أحد الأوجه من ثلاثة العارض للسكون مثلاً .
(2) أشار إلى بعض هذا صاحب التفسير المنير1/14، لكن بغير هذا البيان، انظر: د. وهبة الزحيلي: التفسير المنير، ط1، دار الفكر .(1/391)
ولشهرة القرآن الكريم، ووضوح حدوده اللفظية الظاهرة لعامة الناس؛ فقد رأى البعض أنه من غير المستساغ اللهث وراء الحدود المنطقية لتبيان الماهية، أو المميزات الشخصية في القرآن للجمهور، ولذا يكفي للتعريف بالقرآن آنئذ أن يقال: هذا المصحف، أو أن يقال: القرآن الكريم هو القرآن الكريم ... حذوَ كل الواضحات التي يزيدها التعريف خفاء، والحد المنطقي إلباسًا، ولذا أعرض البعض عن تعريفه أوحَدِّه (1) ، وحَدَّه البعض بما لا حاصل تحته للمتخصص فضلاً عن الجمهور إلا زيادة التأكيد على المعنى الذي يتبادر إلى ذهن المسلم فور سماعه لفظ (قرآن) (2) ، لكنه يستدرك على هذا الرأي: بأن هذه الدراسة ترتبط ارتباطاً لا يخفى بمسألة تعريف القرآن الكريم من حيث معالجتها المتخصصة لقضايا مصادره اللفظية، وهيئات أدائها عند هذه المصادر، ومن ثم وجب أن يسير البحث في سبيل التعريف بالحدود المنطقية دون إيغال ... حتى يتحقق المراد، وتنجلي الأهداف المستقرأة من ذكر علماء علوم القرآن وأصول الفقه للتعريف المنطقي للقرآن الكريم (3) المحدد لماهيته، ولذا فإن الطبيعة العلمية للبحوث بصفة عامة، والمنهجية لهذا البحث بصفة خاصة تفرض أن تذكر أقوال العلماء السابقين في المسألة مناط البحث، ثم تُحَلَّل وتُنَقَّح، ثم تحقق .
المطلب الثاني: أقوال العلماء في الوضع الاصطلاحي لكلمة (قرآن):
__________
(1) انظر الدراسات القرآنية المتكاثرة حول القرآن الكريم التي لم تُعِر الحد المنطقي للقرآن الكريم بالاً ... وفي مقدمتها: تفسير الطبري 1/40، مرجع سابق؛ إذ اكتفى بتأويل اسم القرآن من حيث اللغة .
(2) كما عرفه أبو زهرة في كتاب أصول الفقه ص30 - والأصل في هذا الكتاب ونحوه أنه كتاب متخصص - بقوله: "هذا الكتاب الذي نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ". تأليف: محمد أبو زهرة: أصول الفقه، دار الفكر العربي .
(3) سبق الإشارة إليها آنفاً .(1/392)
... ويتضمن هذا المطلب بعض الإشارات التفصيلية لعلاقة التعريف الاصطلاحي بألفاظ القرآن الكريم، وذلك فيما يلي:
عرف الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- القرآن الكريم بقوله: ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلاً متواترًا (1) .
شرح التعريف: ما: اسم موصول بمعنى الذي .
النقل: هو تحويل الشيء من موضع إلى موضع (2) ، وهو مطلق فيشمل النقل بالشفاه، والنقل بالكتابة، وإليه يشير تسمية القرآن باسم القرآن، وباسم الكتاب، ولكن النقل بالشفاه هو المراد الأول من النقل هنا، وقد يعبر عنه بالسند القرائي، وعلى هذا فالمشافهة هي سبيل إقراء القرآن، وفي تحليل آيات سورة القيامة –كما تقدم-يتضح أن هذا المعنى هو السبيل الوحيد الذي قرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - على جبريل - عليه السلام - .
__________
(1) (الغزالي) حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: المستصفى من علم الأصول 1/101، دار الفكر - بيروت .
وهذا الحد هو الحد ذاته الذي أورده صدر الشريعة في التنقيح1/46، بيد أنه لم يذكر قيد (على الأحرف السبعة المشهورة)، وهذا الأخير هو عين التعريف الذي أورده (ابن قدامة) موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي (ت620هـ): روضة الناظر وجنة المناظر، مكتبة المعارف – الرياض . وهو قريب من تعريف التفتازاني الآتي، وهو التعريف الرابع عند (الشوكاني) محمد بن علي بن محمد (ت 1255هـ): إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص26 - دار المعرفة - بيروت .
(2) لسان العرب 14/246، مرجع سابق .(1/393)
الدفتان: الدَّف والدفة: الجنب من كل شيء بالفتح لا غير، والجمع دفوف، ودفتا الرحل والسرج والمصحف: جانباه وضمامتاه (1) ، ويقال: بات يتقلب على دفيه، وعلى دفتيه، وهما جانباه، ومنه: رماك الله بذات الدف: أي ذات الجنب (2) .
المصحف: هو الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين، كأنما أُصحف أي جعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدفتين . قال أبو عبيدة: "تميم تكسر الميم، وقيس تضمها، ولم يذكر من يفتحها" (3) .
والصحف: جمع صحيفة وهي: التي يكتب فيها، وتجمع على صحائف وصحف أيضاً. وتخالف الورقة في أنها وجه؛ ولذا قيل فيها هي ما أقبل عليه منه، وجعل الزمخشري –رحمه الله تعالى-من المجاز قولهم: صن صحيفة وجهك (4) .
والفرق بين المصحف والكتاب: استلزام المصحف للدفتين، بخلاف الكتاب فهو حقيقة لغوية صادقة على كل ما يكتب فيه صفحة كان أو أكثر؛ ولذا قال أبو عمرو ابن العلاء:"قال بعض العرب –وذكر إنساناً-: فلان لعوب، جاءته كتابي فاحتقرها؟ فقلت: أتقول جاءته؟ قال:نعم! أليس بصحيفة؟" (5) .
__________
(1) والضمامة: ما تضم به شيئاً إلى شيء . انظر : لسان العرب8/88، مرجع سابق .
(2) لسان العرب4/374، مرجع سابق، وجعل الزمخشري -رحمه الله تعالى- (دفتي المصحف) من المجاز، مع أن الدف الجنب من كل شيء مصحفًا، أو غيره، فهو فيه حقيقة لغوية، لا مجاز مستعمل، انظر: (الزمخشري) جار الله أبي القاسم محمود بن عمر: أساس البلاغة ص190، دار الفكر بيروت 1415-1994م .
(3) لسان العرب 7/291، مرجع سابق .
(4) أساس علم البلاغة ص349، مرجع سابق .
(5) لسان العرب 7/291، مرجع سابق .(1/394)
فقد استبان أن لفظة (المصحف) عربية صريحة (1) .
على الأحرف السبعة المشهورة: عنى الأحرف المذكورة في حديث (أقرأني جبريل على حرف فلم أزل استزيده حتى أقرأني مع سبعة أحرف) .
متواتراً: التواتر هو الخبر الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب (2) . وخرج به ما نقل بطريق الآحاد كقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - )والذكر والأنثى)، أو بطريق الشهرة العرفية كقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - )فاقطعوا أيمانهما) وقد خرجتا بما سبق من قيد، لكن استلزام مساواة المعرِّف للمعرَّف أوجب إيراده .
فإذا اعْتُرِض على ذلك بأن علماء الأصول خاصة قد اعتدوا بتعريف الكتاب لا القرآن، فهل من فرق؟.
فيُجاب: لا فرق، إنما هو تقليدٌ درجوا عليه، فبعضهم يُعَرِّف الكتاب تعريفاً لفظياً بالقرآن، ثم يُعَرِّف القرآن بعد؛ من باب تعريف الشيء بما هو أشهر منه (3) ، وبعضهم يجعل تعريف الكتاب هو القرآن و ما بعده؛ لأن القرآن علم أشهر من الكتاب .
وبناءً على ذلك: فهل يجوز إطلاق لفظ القرآن أو الكتاب علماً على غير الكتاب الكريم؟ .
__________
(1) إنما أَورد هذا ليكون بياناً أولياً دالاً على ضعف الروايات الواردة في استيراد لفظة (مصحف)من الحبشة، وقد اتكأ بعض الكتاب عليها مصاحباً أسلوبه العلمي المزعوم بتجاهلٍ مريب لضعف هذه الروايات، ثم ألزم الصحابة باستيراد هذه اللفظة من الحبشة . وسترد لفظة المصحف على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويعني بها القرآن .
(2) (الجرجاني) علي ين محمد بن علي: التعريفات ص94، حققه، وقدم له، ووضع فهارسه: إبراهيم الأبياري - دار الكتاب العربي - بيروت ط1، 1405هـ – 1985م، تدريب الراوي 2/43، مرجع سابق .
(3) انظر مثلاً: شرح التلويح1/46، مرجع سابق .(1/395)
أما مطلقاً فلا يجوز ... ولذا يظهر نوع حصرٍ أظهره القصر (1) في قوله - عز وجل - { ذَلِكَ الْكِتَابُ } "البقرة /2"؛ إذ تعريف الطرفين مفيدٌ للقصر، لكأنه قال: ذلك الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس (2) .
- أما إطلاق لفظة (الكتاب) مقيدةً بقيدٍ لفظيٍ أوحالي (3) فجائز ... وقول ابن منظور: "إذا أطلق الكتاب فالمراد به التوراة لقوله تعالى { ... نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ... } "البقرة /101"" (4) يُصرَف إلى إرادة نطق لفظة (كتاب) مقيدةً بقيدٍ حاليٍ، هو كلام المسلمين عن غير المسلمين ... أو نحو ذلك من القيد الحالي .
فالكتاب من حيث الأصل صادقٌ على كل ما كتب فيه، ثم صار علماً شخصياً حال الإطلاق على القرآن الكريم، ولذا قال أبو البقاء:"والكتاب قد غلب في العرف العام على جمع من الكلمات المنفردة بالتدوين " (5) ، فإيقاع اللبس مانع من إطلاق الكتاب على غير القرآن إلا بقرينة مذكورة أو مقدرة . فإن كان هذا في الكتاب، فهو في القرآن أولى بالتفصيل ذاته .
إيرادات على التعريف:
__________
(1) في تعريف (القصر) في علم المعاني وطرقه، انظر مثلاً: العلامة أحمد الدمنهوري: حلية اللب المصون104، مكتبة اليمن الكبرى - صنعاء، الطبعة لم تذكر .
(2) روح المعاني 1/174، مرجع سابق، وما بعدها .
(3) كنحاة يذكرون الكتاب، عنوا به "كتاب سيبويه" .
(4) لسان العرب12/23، مرجع سابق .
(5) الكليات ص610، مرجع سابق .(1/396)
فإن اعْتُرِض على التعريف السابق بأنه: يلزمه الدور (1) ، لأنه عَرَّف القرآن بما نقل في المصحف، فإذا سئل عن المصحف قالوا هو القرآن، فتوقف المعرِّف على المعرَّف، وهو الدور ذاته (2) .
والجواب: لا دور ... ذلك لأن المصحف معلوم عرفاً، فلا يحتاج إلى تعريف . وقال التفتازاني -رحمه الله تعالى-: "معرفة المصحف إنما تتوقف على القرآن، بمعنى المجموع المشخص، وهو معلومٌ معهودٌ بين الناس يحفظونه ويتدارسونه، فلا يشتبه عليهم فلا دو" (3) ، ويمكن القول بأن اللام في (المصاحف) للجنس، ولا يضر تعميمه لغير القرآن، لأن القيد الأخير يخرجه للعهد، والمعهود مصاحف القراء (4) .
__________
(1) الدور هو: توقف الشيء على ما يتوقف عليه، وهو نوعان: مصرحٌ، ومضمر، والفرق بين الدور، وبين تعريف الشيء بنفسه هو: أنه في الدور يلزم تقدمه عليها بمرتين إن كان صريحاً، وفي تعريف الشيء بنفسه يلزم تقدمه على نفسه بمرتبة واحدة . انظر: التعريفات ص140، مرجع سابق .
(2) أورد هذا الاعتراض الآلوسي -رحمه الله تعالى- في روح المعاني1/19-20، مرجع سابق، إرشاد الفحول ص26 مرجع سابق، (المحبوبي) عبد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي: التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، 1/46، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، ط1، 1416- 1996م، دار الكتب العلمية - بيروت، (المهدي) أحمد بن يحي بن المرتضى (764 هـ- ت840 هـ): منهاج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول ط1 1412هـ - 1992م، دار الحكمة اليمانية - صنعاء، (الطبري الزيدي) علي بن صلاح بن علي بن محمد: شفاء غليل السائل عما تحمله الكافل ط1، 1408هـ – 1988م، مكتبة اليمن الكبرى – صنعاء .
(3) شرح التلويح1/46 مرجع سابق .
(4) (ملاجيون) أحمد بن أبي سعيد بن عبيد الله الحنفي الصديقي الميهوي (ت1130هـ): نور الأنوار وبهامشه كشف الأسرار 1/18، ط1 1406هـ- 1986م، دار الكتب العلمية – بيروت .(1/397)
وقال ابن قدامة: "وقيدناه بالمصاحف لأن الصحابة -رضي الله عنهم- بالغوا في نقله، وتجريده عما سواه، حتى كرهوا التعاشير والنقط لكيلا يختلط بغيره، فنعلم أن المكتوب في المصاحف هو القرآن، وما خرج منه فليس منه؛ إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظ القرآن أن يُهْمَل بعضه، فلا ينقل، أو يخلط ما ليس منه" (1) .
فإن اعْتُرِض بالقول: لم اقتصر على ذكر النقل في المصاحف تواتراً دون غير ذلك من الخصائص؟ .
فالجواب: لأن ذلك لحصول الاحتراز به عن جميع ما عدا القرآن؛ إذ سائر الكتب السماوية وغيرها، والأحاديث الإلهية والنبوية (2) لم ينقل منها شيءٌ بين دفتي المصاحف؛ لأنها أسم لهذا المعهود عند الناس حتى الصبيان (3) .
فإن سئل عن هذا التعريف: هل هو حد أم رسم؟ .
__________
(1) روضة الناظر 1/43، مرجع سابق .
(2) ومنسوخ التلاوة على قول من يثبه .
(3) (الأسنوي) جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الشافعي: نهاية السول في شرح منهاج الأصول 2/3 - للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، عالم الكتب .(1/398)
فالجواب: قد كاد منظرو المناطقة أن يجمعوا على أن تعريف القرآن لا يكون إلا رسماً، ويتعذر حده؛ لأنه علم شخص فيمكن تشخيصه ببيان سماته المميزة لا ببيان ذاتياته (1) . ولذا لا سبيل إلى حده على طريقة الحدود المنطقية إلا بالإشارة إليه، أو باستحضاره معهوداً في الذهن، فيقال القرآن: هو هذا، أو يقال: القرآن هو بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ... إلى أن يصل إلى الجنة والناس، فما يعرفه العلماء به إنما هو رسم (2) لا حد .
__________
(1) سبب كونه علماً شخصياً أحد أمرين: إما لأن جبريل - عليه السلام - نزل به مشخصاً، وإما لأنه عبارة عن هذه الكلمات المركبة تركيباً خاصاً، سواء قرأه جبريل - عليه السلام - أو زيد أو عمرو، والمركب تركيباً خاصاً كالعلم الشاخص . انظر شرح التلويح 1/46، مرجع سابق .
(2) الرسم: هو الذي لم يشتمل التعريف فيه على شيء من الذاتيات، أو اشتمل على شيء ولكن لم يكن به فصل الشيء المعرّف، وتمييزه عن غيره، وإنما اشتمل على عرضيات بها كان تعريف الشيء وتمييزه عن كل ما سواه، وينقسم إلى: رسمٍ تام: وهو ما كان تعريفاً للشيء بذكر جنسه القريب مع خاصته اللازمة الشاملة، ورسم ناقص: وهو ما كان تعريفاً للشيء بذكر خاصته اللازمة الشاملة وحدها .
تعريف الحد: هو الذي يشتمل على الذاتيات، ويكون شرح المفرد التصوري بها، وينقسم إلى: حدٍ تام: وهو ما كان تعريفاً للشيء بذكر تمام ذاتياته، أي بذكر جنسه وفصله القريبين،وحدٍ ناقص: وهو ما كان تعريفاً للشيء بذكر البعض الذي بفصله عن غيره من ذاتياته، وسُمي الحد حداً لأن الحد في اللغة المنع، والحد المنطقي يمنع من دخول غيره فيه . انظر: ضوابط المعرفة ص143، مرجع سابق، وانظر: جمال الدين الحسن بن الحسين بن القاسم بن محمد: شرح التهذيب في علم المنطق ص40 مع الحاشية، ط1، 1405هـ – 1985م، مركز الدراسات والبحوث – صنعاء .(1/399)
... وقد جرى على التعريف السابق ثلةٌ من العلماء، وعليه دارت عباراتهم، وثم تعاريف أخر ارتضاها ثلة أخرى من العلماء، ولكن أشهر تعريفٍ يغاير التعريف السابق في صيغته هو تعريف الإمام الطبري الزيدي في شرح الكافل؛ إذ قال : هو الكلام المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - للإعجاز بسورة منه (1) .
شرح التعريف: الكلام: جنس دخل فيه سائر الكلام .
المنزل: فصل أول، خرج به الكلام غير المنزل في السماء كالباقي في اللوح المحفوظ، أو كلام الملائكة، أوفي الأرض ككلام الناس، أو الأحاديث النبوية على القول بأن لفظها لم ينزل، وكذا خرج الكلام النفسي عند القائلين به .
ويجوز في هذه اللفظة (المنزل) التخفيف أي المنزل دفعة واحدة؛لأن القرآن نزل دفعة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا أولاً، ويجوز أن يقرأ مشدداً على أن نزوله في الواقع قطعاً قطعا، في أزمنة مختلفة مدة النبوة (2) .
وقد يعترض بأن: الألفاظ لا تنزل؟ .
__________
(1) انظر شفاء غليل السائل1/30، مرجع سابق، وعلى هذا التعريف دارت عبارات جماعة من العلماء فهو التعريف الذي أورده الإمام المهدي في معيار العقول وشرحه ص239، مرجع سابق، وهو الذي أورده الإمام الزركشي في البحر إلا أنه قال: "بآية منه"، ولم يذكر لفظ (نبينا)، وزاد المتعبد بتلاوته، وهو الذي أورده الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد في هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الأصول1 /432، إلا أنه قال: "بسورة من جنسه"، وهو الذي أورده صاحب مراقي السعود في منظومته، إلا أنه قال: لفظٌ منزلٌ على محمد ... لأجل الإعجاز وللتعبد، انظر: نثر الورود1/90، مرجع سابق، وهو تعريف (الأسنوي) جمال الدين عبد الرحيم ابن الحسين الأسنوي (704 هـ- 772 هـ): زوائد الأصول ص202، ط1 1413- 1993م، دراسة وتحقيق: محمد سنان سيف الجلالي، مكتبة الجيل الجديد-صنعاء .
(2) نور الأنوار1/18، مرجع سابق .(1/400)
فالجواب: لا تقبل الألفاظ حقيقة النزول حساً، ولكن المراد المجاز
الصوري (1) ؛ لأنه نزل بها روح القدس بالحق من ربك .
على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - : خرج ما نزل على غيره الأنبياء والتوراة والإنجيل .
__________
(1) (الزركشي) بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي: البحر المحيط1/ 440، قام بتحريره عبد القادر عبد الله العاني، راجعه: د. عمر سليمان الأشقر - ط2، 1413هـ – 1992م، دار الصفوة .(1/401)
للإعجاز بسورةٍ منه: خرج ما نزل عليه لا للإعجاز،كالأحاديث النبوية والقدسية، وقال البعض: بآية منه بدل بسورة منه لأن مقتضى قوله تعالى { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ... } "الطور/34" حاكمٌ بأن التحدي واقع بأقل من السورة (1) ، لكن الخطاب هاهنا محمولٌ على العرف، فالتنوين في قوله - سبحانه وتعالى - { بِحَدِيثٍ } إما عوض عن كلمة، أو جملة أي بحديث يصح أن يسمى حديثاً، أو حديث معهود بينكم تسميته حديثاً؛ إذ لا إعجاز بالكلمتين يقينياً مع صحة إطلاق لفظة حديث عليه، فتحصل أن مقتضى الآية ما يصح تسميته حديثاً كانت آية أو أكثر صدق عليها ذا اللفظ . كما أوردوا هذا القيد "سورة" لدفع إيهام أن الإعجاز بكل القرآن فقط (2) .
فإن اعْتُرِض بأن: الإعجاز ليس من خصائص المعرف لأنه علامة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا على كون هذا الكلام من عند الله - عز وجل - ؛ إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكتاب الله - جل جلاله - (3) .
__________
(1) هكذا جاء في: الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد، حواشي هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الأصول1/431 -لم تذكر بقية المعلومات .
(2) السورة :"كلامٌ مترجمٌ من أوله وآخره توقيفاً مسمىً باسمٍ خاصٍ يتضمن آيات قرآناً كان أو غيره" فخرجت آية الكرسي بقوله يتضمن آيات، ويندفع ما قيل بأن السورة موقوفة على معرفة القرآن فيدور؛ إذ السورة عامة، وقد ذكر في الكشاف أن في الإنجيل سورة الأمثال، انظر: شفاء الغليل 1/30، مرجع سابق، كذا قال وهو ناقل عن شرح غاية السؤل 1/433، لكن آية الكرسي قد اختلف في عدها إذ من علماء العدد من عدها آيتين، وهو العدد المكي، فتخرج على كلامه بشرط إرادة الجمع الحقيقي في قوله "آيات". . ويمكن اختصار ذلك بأن الحديث المراد السورة العرفية، فلا دور .
(3) هذا إيراد الغزالي على التعريف في المستصفى1/101، مرجع سابق .(1/402)
... فالجواب: ظاهرٌ أنه لا يكون علامة على صدق الرسول إلا لكونه من عند الله - سبحانه وتعالى - ؛ إذ هذه خاصة الإعجاز فيه، وبيان هذا أن يقال: قد ادعى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن علامة صدق كون هذا الكلام من عند الله - جل جلاله - ، وبرهانه عجز العالمين عن معارضته، فصحت الدعوى، ولم يكن القرآن علامة على صدقه إلا لكونه من عند الله - عز وجل - ، فالإعجاز دال على خاصة هي أهم خصائص القرآن، وكون الإعجاز قد يحصل من غير القرآن غير قادحٍ في كون الإعجاز صفة ذاتية للقرآن، إذ الاشتراك العام لا ينفي الخصوصية الذاتية، ومن أجل ذلك جيء بالجنس، ثم الفصل في التعريفات .
فإن اعْتُرِض: بأن التعريف إنما يكون بالأجلى لا بالأخفى (1) ، ويخفى على العامة معرفة كونه معجزاً، فتطرح هذه الصفة من التعريف (2) .
فالجواب: بل الإعجاز من أوضح خصائص القرآن التي يجب ألا يعرى تعريف القرآن عنها؛ ذلك لأن كون القرآن معجزاً إما لازم بين بالمعنى الأعم؛إذ من تعقل القرآن علم لزوم الإعجاز له قطعاً، أو لازم بين المعنى الأخص؛ إذ من تعقل حقيقة الإعجاز علم لزوم الإعجاز للقرآن قطعاً (3) ، فهذا أقل أحواله، وتمام هذا القول أن يقال: يوضح ذلك أن التحدي لعموم الثقلين لا استثناء فيه فقد صار عاماً لا خاصاً، فيكون من لوازمه التي يعرفه بها من بعد ومن قرب .
ربط ما سبق بموضوع البحث:
__________
(1) انظر شرح التهذيبص 43، وقد أصر على هذا الإيراد الآلوسي -رحمه الله تعالى- في روح المعاني 1/30 .
(2) انظر: شرح الغاية 1/ 433، مرجع سابق، شفاء الغليل 1/30، مرجع سابق .
(3) انظر: هداية العقول 1/433، مرجع سابق، شرح الكافل1/30، مرجع سابق .(1/403)
وإنما كانت هذه الإطالة في مناقشة ذاتية وصف الإعجاز للقرآن، ليعلم منه أن النقل بالمشافهة في أداء لفظ القرآن أحق بتثبيت كونه ذاتياً للقرآن، إذ هو متفق عليه بين العلماء، بل يُذْكَرُ في أول التعريف، ولأن هذه بدهية عند العلماء، بل عند عامة المسلمين، فإن المراد هو تثبيت مقتضياتها من دخول النقل في أصل اللفظ، وهيئة
أدائه ... وهو ما يتجلى أكثر بدراسة كيفية تعليم جبريل - عليه السلام - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن، وتلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - لها .
فهذان هما التعريفان المشتهران عند العلماء ... (1) ،
__________
(1) وثم تعريفاتٌ أخر تجمل فيما يلي:
فمنها تعريف الإمام التفتازاني في التوضيح شرح التلويح 1/ 40، مرجع سابق: الكتاب هو القرآن المنزل على الرسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلاً متواتراً بلا شبهة .
وقوله "الكتاب" هو القرآن، تعريف للكتاب بالمرادف الأشهر وهو المسمى التعريف اللفظي، فما بعده تعريف للقرآن لأن المجموع تعريف الكتاب، وهذا على جعل القرآن علماً وإلا فإن كان بمعنى المقرون، أو المقروء فهو جنس وما بعده فصل بلا تكلف . انظر: شرح الأنوار1/17، مرجع سابق .
... وذكر الشوكاني جملة تعريفات، تقدم بعضها، ومنها: "أنه اللفظ العربي المنزل للتدبر والتذكر المتواتر"، وعرفه بعضهم: "بأنه كلام الله العربي في اللوح المحفوظ للإنزال"، ثم ذكر تعريفه المختار، فقال: "والأولى أن يقال: هو كلام الله المنزل على محمد المتلو المتواتر". انظر: إرشاد الفحول ص26، مرجع سابق، وذكر بأن تعريفه المختار لا ترد عليه الاعتراضات المنطقية التي وردت على سابقيه . وهو محط نظرٍ فإن إيراد الدور عليه بين؛ إذ يقال ما هو المتلو فيرد: القرآن، فاستلزم الدور فالنَصَفُ أن يجاب على هذا الدور كما أجيب على السابق، وعرفه الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير 16/314، مرجع سابق: القرآن صار علماً الغلبة على الوحي المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ معنية، متعبداً بتلاوتها، يُعْجَز الإتيان بمثل سورة منها .(1/404)
ويمكن الاستدراك على ما سبق من كلامٍ بالآتي:
1- لابد في التعريف من مساواة المعرِّف للمعرَّف، ولا مساواة هنا؛ إذ ثم خصائص للقرآن بارزة لم تذكر فيه،فقد أغفل البعض بيان الغاية من إنزال القرآن بشكل صريح، مع أنه قد جاء صريحاً في قوله تعالى: { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ } "الشعراء /194"؛ إذ قدم بيان الغاية من إنزال القرآن على اللسان الذي نزل به، وهو دال على الاعتناء به، وقد يقال قد أشير إلى ذلك ضمناً في قولهم للإعجاز، أو أن هذه غاية وهم يتكلمون عن الأعراض الذاتية في التعريف، وذا الأخير مستبعد إذ يرد عليه إيراد غير الأعراض الذاتية كما هو واضح، كما يرد عليه عدم التسليم بأن الإنذار ليس عرضاً ذاتياً ... والأمر ضائقٌ عن الاسترسال في ذا المجال .
وكما أغفل البعض الغاية التي يحملها القرآن في ذاته، وهي جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنذرين، فقد أغفل البعض وسيلتها، وهي التدبر وكلاهما صفتان ذاتيتان للقرآن (1) .
__________
(1) ولم ترد إلا فيما أورده الشوكاني من تعريف .(1/405)
2- لم يستبن من التعريف كيفية قراءة هيئات اللفظ القرآني؛ إذ لا يُلْمَح من التعريف إلا مادة اللفظ لا هيئته، وغير خافٍ الفرق بينهما؛ إذ المادة (1) هي جوهر اللفظ المحسوس، والهيئة هي حليته الخارجية الذاتية والعرضية، وبتعبير آخر: لم يظهر من التعريف تحديد مدى الاجتهاد السائغ في أداء اللفظ المتواتر (2) . إلا أن يقال: إن تقييد الغزالي -رحمه الله تعالى- بقوله "على الأحرف السبعة المشهورة"يشير إلى ذلك . لكن السمة البارزة في التعريف -عند العمل بعمومه وظاهر لفظه -أنه جعل القرآن الكريم مقيد اللفظ في مادته وهيئته بالنقل، وهو ما يعطي الفكرة العامة عن النقل، كما أنه يمنع عنه تسرب الاجتهاد البشري، وللأهمية البالغة لهذا الوصف الذاتي في القرآن فقد ابتدأ التعريف بذكره .
المطلب الثالث: إشاراتٌ عامة حول علاقة التعريف الاصطلاحي بألفاظ القرآن الكريم:
وبعد هذه الجولة في أقوال العلماء الواردة في تعريف القرآن، تذكر جُمْلَة إشارات يُخْتَم بها هذا الملحق مما يتعلق بموضوع البحث:
__________
(1) ولينطق بتخفيف الهمز مثالاً موضحاً: فقوله - عز وجل - { السَّمَاءِ } نطقها المعتاد من مخارج الحروف هي المادة، أما الهمز ففيه لحمزة وقفاً خمسة أوجه: ثلاثة أوجه الإبدال، والتسهيل بالروم مع المد والقصر ... فهل هي متواترةٌ بالنقل أم جائزة القراءة من حيث إحالة القرآن ما لم يرد في نطقه نص إلى العربية، فيعمل فيه بقواعدها .
(2) فاللفظ متواتر قطعاً بموجب هذا القول، وبقيت الهيئة "الأداء"محل نظر ... وهذا الإيراد تمهيد لإقرار مدى أهمية إضافة قيد العربية في التعريف .(1/406)
أولاً: تُعْقَدُ في هذا الملحق مسألةٌ أصوليةٌ علمية بحتة لا يراد منها إلا وضع الأسس العلمية التي تحدد معايير التعامل مع كتاب الله - عز وجل - في نقل ألفاظه، وتحديد ما يطلق عليه كلام الله من غيره، ومن ثم لزم بيان ماهية ألفاظه في مادتها وهيئتها بدقة تضطر الباحث إلى نبذٍ الإلمام التقريبي الجماهيري بعيداً، متى ما كان عائقاً عن الدقة المتوخاة (1) للمتخصصين .
ثانياً: أرادت هذه الدراسة - بعد التسليم بتواتر (يقينية) نقل كتاب الله ديناً وواقعاً -أن تكون مقدمة للوصول إلى تحقيق هذا الهدف -تحديد كيفية نقل كتاب الله - عز وجل - من حيث مادته "اللفظ"، ومن حيث صورة هذه المادة "خط اللفظ"، ومن حيث هيئة المادة الصوتية "صوت اللفظ"، وهذه هي الصفات الأصلية للفظ، ومن حيث الهيئة الصوتية الداخلية للحرف، وهذه هي صفاته العارضة مفردة أو مركبة، والأخيران يشكلان ما يعرف بالأداء، ومن ثم تحديد ماهيته بشكل دقيق، وهذا يحتم على الدراسة بذل جهد مضنٍ مصحوب باليقين بالله - سبحانه وتعالى - ، متمسكٍ بأهداب الحذر العلمي والعملي في نقاش جزئيات المسائل المتعلقة بالتعريف، وبعبارة أخرى أكثر إيضاحاً وتحديداً: هل القرآن الكريم هو المقروء بقراءة واحدة أو رواية واحدة، أو هو مجموع القراءات والروايات؟ فهذا الجهد المبذول في هذه الرسالة هو مقدمةٌ للجواب على ذلك السؤال الكبير، من حيث أن أول مقامات الجواب: معرفة كيف علم جبريل - عليه السلام - الذي نقل القرآن من السماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن، لينقله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كل الثقلين .
__________
(1) قيل هذا إشارة إلى التقعيد البديع الذي وضعه الإمام أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته حول طرائق وضع التعاريف1/56، المقدمة السادسة .(1/407)
ثالثاً: إن الهيئة العامة لنقل القرآن وهي المشافهة، وصفٌ ذاتيٌ لمدلول القرآن أو لازمٌ له، فلا يتصور إقراء القرآن بغير هذه الهيئة، فالخط تابع للمشافهة، والإجازة العامة تابعةٌ لها أيضاً، ومن ثَم فالاعتماد على خط المصحف لمعرفة قراءة هيئة ألفاظ القرآن باطل إن لم يقترن بالمشافهة . ولعل من أسرار بقاء المصحف على خطٍ مطورٍ تطويراً داخلياً فرعياً لا أساسياً لخطه الأول، ولكنه مخالفٌ نوع مخالفة ظاهرة للإملاء الحديث الإصرار على جعل النقل مشافهة هو أساس إقراء القرآن أو تعلمه (1) ، وتأكيداً لهذه المسألة فقد صرح العلماء أن السند القرائي الذي يقتضي النقل مشافهة - شرط في أن يسمى ما يقرؤه القارئ قرآناً، وهو ما عبّر عنه الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- بقوله : "المتلو" (2) ؛ إذ ينصرف هذا اللفظ انصرافاً أولياً إلى تلاوة الشيخ على تلميذه أو التلميذ على شيخه .
__________
(1) انظر: د. فضل حسن عباس: إتقان البرهان في علوم القرآن 1/481، ط1 - 1997م، دار الفرقان .
(2) انظر تعريفه المذكور قبل قليل .(1/408)
رابعاً: لا نستطيع الآن -كنتيجة لما سبق- وضع التعريف العلمي الدقيق للقرآن الكريم من حيث مادة لفظه، وصورتها، وهيئتها الصوتية، ولا يعترض على هذا البيان بأنه كلام من يريد ركوب صعب دونه قوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } "الحجر /9"؛ إذ القرآن أشهر من أن يعرف، والتعريف له تنكيرٌ بل ظلمٌ، واتهامٌ، وطمسٌ بالفم لشعاع الشمس الساطع، وتنطعٌ، قد أتت محذِّرات النهي عنه ؛ لأن الباحث إنما عنى صياغة تعريفٍ يُحَدِّد معالم الاتصال بين القرآن الكريم وقراءته باعتبارها وجهه الناطق، ولفظة المسموع، وخطه المكتوب، وصفاته الممثلة لذاته، وأعراضه الناتجة عن صفاته، وقد سبق بين يدي القارئ ذكر لأشهر تعاريف العلماء للقرآن الكريم، وفيها إشارةٌ إلى كيفية صورته اللفظية نطقاً وخطاً بعبارات مختلفة (مثل: النقل، المتواتر وهو يستلزم النقل، المتلقى، المكتوب في الصحف)، وزاد الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- ذلك تحديداً، فذكر اشتراطه النقل على الأحرف السبعة المشهورة، وفيه أنه تعريفٌ للأجلى بالأخفى؛ إذ القراءات أشهر من الأحرف السبعة، وأوضح وأكثر ذكراً لو ذكرها حتى انغرس في ذهن العامة أنها هي القراءات السبعة المشهورة، وفي قول القائل "الأحرف السبعة" في علوم القرآن نوع إبهامٍ ما زال محارةً العلماء إلى يومنا (1) ،
__________
(1) والمحارة ليست في مراد الحديث بل في تحديده، أما مراده العام فأوضح من أن يوضح، ولكن تحديد مفهوم العدد في حديث الأحرف السبعة هو المحارة لا تحديد مدلوله العام، وهذا أشبه بمسألة الصفات في علم العقيدة (الإيمان)؛ إذ مفهومها واضح وإن كان تحديد كيفيتها غير ممكن، ومعلوم أن التشبه لا يقتضي تساوي طرفيه في وجه الشبه، وعلى هذا التفصيل يحمل مراد السيوطي في تصريحه بأن الحديث مشكل في ألفيته في مصطلح الحديث ص32، وابن سعدان النحوي كما ذكره عنه أبو شامة، انظر: (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل ابن إبراهيم المقدسي: المرشد الوجيز إلىعلوم تتعلق بالكتاب العزبز، حققه: طيار آلتي قولاج 1395ه- -1975م، دار صادر، بيروت .
وبناءً على ذلك يمكن القول بقبول التعريف بالأحرف السبعة على إرادة المراد منها بغض النظر عن تحديدها؛ إذ تدخل القراءات فيها دخولاً أولياً .(1/409)
ومن ثم فغير سائغٍ أن تكون الأحرف السبعة في قائمة مشخصات القرآن الكريم؛ إذ إن التعبير بقول القائل (بقراءاته المنقولة بين المسلمين تواتراً) أوضح .
ولا يُعترض على ما حدث في هذا الملحق من إطالةٍ غير معتادة (1) في بحث مثال هذه المسائل، إذ الخوض في تعريف القرآن الكريم من المنظار القرآني أو الأصولي ليس ترفاً ثقافياً مستهلكاً للوقت غايته إبراز العضلة الكلامية، والقدرة التنظيرية، بل هو ذو خطرٍ لا يقبل مروراً حذوَ عابر السبيل؛ إذ به تحدد معلم شخصية أصل الإسلام الأعظم من حيث توقيف نقله، وتواتر تلقيه، وأُسس ذلك توقيفاً أو اجتهاداً، ويستدعي ذلك كله مكانته التي جعلته أعظم مركز تدار حوله البحوث، وتتجدد في سبيل التبصير بحقائقه الدراسات .
خامساً: اشتراط التواتر يستلزم جملة أمور على ما هو معلوم في كتب علوم القرآن (2) ، ومنها:
أ- النقل بالمشافهة: ولذا ينقطع التواتر الحديثي بمجرد تدوين كتاب الحديث غالباً؛ إذ يعتمد بعد ذلك على ثبوت الكتاب لمؤلفه، بخلاف أداء القرآن فباقٍ تواتره أمة عن أمة لا يُغني وجود المصحف عنه، كما هو معمول به عند جميع المسلمين .
ب- اليقين في النقل: حيث تُجمع الأمة خلفاً عن سلف، ولا مجال للانفراد في ذلك، مما يجعل كل ما يثبت بهذا الطريق متيقناً مجزوماً به .
وهذا يقتضي من حيث موضوع البحث أن يُثْبَتَ أن الله تعالى قد حفّ نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بسمات جعلت تلقيه ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام - وتعلمه عليه قائماً مقام جهد الأمة بأسرها، كما تجلى ذلك في الفصول السابقة .
__________
(1) وقد تكرر الاعتذار لاحتياج الأمر لذلك .
(2) انظر -مثلاً-: الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي (1268هـ – 1328هـ): التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان ص102، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية -حلب .(1/410)
(وإلى الله -تعالى ذكره- جزيل الضراعة والمنة بقبول ما منه لوجهه، والعفو عما تخلله من تزين وتصنع لغيره) (1) .
وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
والحمد لله رب العالمين .
فهرس المصادر
أبرز المراجع والمصادر الواردة في هذا البحث بعد القرآن الكريم، هي:
1- (أبو حيان) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي (654 -754 هـ): البحر المحيط، ط2 1411هـ -1990م، دار إحياء التراث العربي-بيروت .
2- (أبو البركات) كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري (513هـ-577هـ): نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 1967م، دار نهضة مصر-القاهرة .
3- (أبو البقاء) أيوب بن موسى الحسيني الكفوي الكليات، 1412هـ - 1992م، قابله على نسخة خطية، وأعده للطبع، ووضع فهارسه: د. عدنان درويش - محمد المصري - مؤسسة الرسالة -بيروت ط1 .
4- (أبو بكر) محمد بن القاسم بن بشار الأنباري (271هـ-328هـ): كتاب إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عزّ وجل، تحقيق محي الدين عبد الرحمن رمضان، 1971م، مجمع اللغة العربية - دمشق .
5- (أبو داود) سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (202هـ-275هـ): سنن أبي داود، مراجعة: محمد محيي الدين عبد الحميد .
6- (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المقدسي: إبراز المعاني من حرز الأماني، دار صادر-بيروت .
7- (أبو شامة) شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي: المرشد الوجيز إلىعلوم تتعلق بالكتاب العزبز-حققه: طيار آلتي قولاج 1395هـ –1975م، دار صادر، بيروت .
8- (أبو عبيدة) معمر بن المثتى التيمي: مجاز القرآن، ط1، الخانجي الكتبي بمصر 1954م-حققه د. محمد فؤاد سزكين . ... ...
9- (أبو العرب) محمد بن أحمد بن تميم: الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، القاهرة 1310هـ .
__________
(1) من خاتمة كتاب الشفا للقاضي عياض 2/312، مرجع سابق .(1/411)
10- (أبو الفتح) بن جني: المحتسَب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها تحقيق: علي النجدي ناصف وآخرون، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1415هـ - 1994 م، لجنة إحياء كتب السنة – القاهرة .
11- (أبو نعيم) أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ): حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 1405هـ، دار الكتاب العربي -بيروت.
12- أحمد بن شرف الدين، من علماء اليمن (لم تعرف ترجمته، لكن الكتاب متداول عند الأقدمين من علماء اليمن): حقائق علم العربية، نسخة خطية لدى الباحث.
13- (ابن هشام) عبد الله بن يوسف الأنصاري النحوي(ت 761هـ): مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، طبعة بدون 1407هـ - 1987م .
14- (ابن أبي داود): أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 316هـ): كتاب المصاحف، ط1، 1936م، صححه آرثر جفري، المطبعة الرحمانية بمصر .
15- (ابن أبي العز) صدر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محمد الحنفي ت 792 هـ: شرح العقيدة الطحاوية، ط9، 1408هـ - 1988م، خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - بيروت .
16- (ابن أبي عاصم) أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك الشيباني ( 206 - ت287هـ): الآحاد والمثاني، مراجعة: د. باسم فيصل أحمد الجوابرة، 1411هـ –1991م، دار الراية الرياض .
17- (ابن أبي عاصم) أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ( ت 287هـ ): كتاب السنة، حققه: محمد ناصر الدين الألباني، ط3، 1413هـ - 1993م، المكتب الإسلامي - بيروت .
18- (ابن الأثير) المبارك بن محمد بن محمد بن عبدالكريم بن الأثير الجزري: النهاية في غريب الأثر، مراجعة طاهر أحمد الزاوي + محمود محمد الطباخي، 1399هـ – 1979م، دار الفكر – بيروت .
19- (ابن الأثير) عز الدين علي بن محمد الجزري، أبو الحسن (555هـ - 630هـ): أسد الغابة في معرفة الصحابة 2/435، دار الفكر .(1/412)
20- (ابن الجزري) شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن محمد: منجد المقرئين ومرشد الطالبين -دار زاهد المقدسي، تفضل بقراءته بعد طبعه: الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ أحمد محمد شاكر .
21- (ابن الجزري) شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833هـ: التمهيد في علم التجويد، تحقيق غانم قدوري الحمد - ط3، 1409هـ -1989م مؤسسة الرسالة - بيروت .
22- (ابن الجزري) محمد بن محمد بن محمد بن علي ت 833هـ: طيبة النشر في القراءات العشر، ضبطه وصححه وراجعه: محمد تميم الزعبي، توزيع مكتبة دار الهدى، المدينة المنورة .
23- (ابن الجزري) أبو الخير محمد بن محمد بن محمد: غاية النهاية في طبقات القراء، بعناية ج . برجستراسر، دار الكتب العلمية – بيروت.
24- (ابن العربي) أبو بكر محمد بن عبد الله: أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البجاوي - دار الجيل - بيروت .
25- (ابن القيم) أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُرعي (691هـ -751هـ ): تهذيب مدارج السالكين، ط5، 1414-1994م، وهذبه: عبد المنعم صالح العلي العزي - مؤسسة الرسالة، بيروت .
26- (ابن القيم) شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر : زاد المعاد في هدي خير المعاد، حقق نصوصه وخرج أحاديثه، وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، ط8، 1405هـ -1985م، مؤسسة الرسالة، بيروت .
27- (ابن القيم) شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر: الفوائد المشوق إلى علوم القرآن، 1987م، دار مكتبة الهلال، بيروت .
28- (ابن القيم) شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي: الروح، عالم الكتب - بيروت .
29- (ابن المبارك) أبو عبد الله عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي
(118 - 181هـ): كتاب الزهد، تحقيق: حبيب الحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية - بيروت .
30- (ابن تيمية) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ت 728هـ، شيخ(1/413)
الإسلام: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن ابن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، 1421 - 1991م، دار عالم الكتب الرياض .
31- (ابن جني) أبو الفتح عثمان (ت 392هـ): سر صناعة الإعراب، تحقيق مصطفى السقا، 1954م، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
32- (ابن حجر) أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني: تهذيب التهذيب، 1404هـ-1984م ـ دار الفكر - بيروت .
33- (ابن حجر) أحمد بن علي حجر العسقلاني: هدي الساري مقدمة فتح الباري، والفتح،حقق أصولها: عبد العزيز بن باز رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي ط1،1410هـ -1989م، دار الكتب العلمية - بيروت،لبنان . الطبعة الأولى 1410هـ -1989م.
34- (ابن حجر) شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ت 852هـ: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة . حققه وقدم له: محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة.
35- (ابن حجر): المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق المحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي .
36- (ابن خزيمة) إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي
(223-311هـ): صحيح ابن خزيمة، مراجعة: د.محمد مصطفى الأعظمي (1390هـ-1970م)، المكتب الإسلامي -بيروت، عدد الأجزاء 4 .
37- (ابن خلكان) أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان 608هـ - 681هـ: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، حققه د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت .
38- (ابن راهويه) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي
(161، ت 238هـ): مسند إسحاق بن راهويه، مراجعة: عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي 1412هـ -1991م، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة .
39- (ابن سعد) محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (168هـ – ت 230هـ): الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت، عدد الأجزاء 8 .(1/414)
40- ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق وتعليق: عبد الله ابن إبراهيم الأنصاري، السيد عبد العال السيد إبراهيم، ط1، 1406هـ - 1985م.
41- (ابن عقيل) بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي (698 هـ-769هـ): شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد في حاشيته عليه المسماة: منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل، لم تذكر الطبعة ولا الدار .
42- (ابن فارس) أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي: معجم المقاييس في اللغة، بتحقيق وضبط عبد السلام هارون، ط1، 1411هـ - 1991م، دار الجيل .
43- (ابن فارس): الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، 1910م، المكتبة السلفية - القاهرة .
44- (ابن القاصح) أبو البقاء علي بن عثمان بن محمد (ت 801هـ): تلخيص الفوائد وتقريب المتباعد في شرح عقيلة أتراب القصائد، مراجعة الشيخ عبد الفتاح القاضي، ط1، 1949م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر .
45- (ابن قتيبة) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري
ت 273هـ: في كتابه (تأويل مشكل القرآن)، شرحه ونشره السيد: أحمد صقر، الطبعة لم تذكر، المكتبة العلمية .
46- (ابن قتيبة) عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ت276 هـ: تأويل مختلف الحديث، مراجعة: محمد زهري النجار، 1972م - 1393هـ، دار الجيل -بيروت .
47- (ابن قدامة) موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الدمشقي (ت620هـ): روضة الناظر وجنة المناظر، مكتبة المعارف-الرياض .
48- (ابن كثير) أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت774): تفسير القرآن العظيم، تقديم: محمد عبد الرحمن المرعشلي، إعداد: مكتب تحقيق دار إحياء التراث العربي، أعد فهارسها: رياض عبد الله عبد الهادي ط1، 1417- 1997م، دار إحياء التراث العربي -بيروت .(1/415)
49- (ابن ماجة) أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (207 –275هـ): سنن ابن ماجه، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر - بيروت، عدد الأجزاء 2 .
50- (ابن منظور) محمد بن مكرم بن علي، الإمام العلامة، (ت 711هـ): لسان العرب، اعتنى بتصحيحها: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، ط1، 1416هـ- 1995م، دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي - بيروت .
51- العلامة أحمد الدمنهوري: حلية اللب المصون، مكتبة اليمن الكبرى - صنعاء، الطبعة لم تذكر .
52- (الأزهري) أبو منصور محمد بن أحمد (282هـ-370هـ): تهذيب اللغة، 1964م - القاهرة .
53- (الأسنوي) جمال الدين عبد الرحيم ابن الحسين الأسنوي ( 704 هـ- 772 هـ): زوائد الأصول، ط1 1413- 1993م، دراسة وتحقيق: محمد سنان سيف الجلالي، مكتبة الجيل الجديد - صنعاء .
54- (الأسنوي) جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الشافعي: نهاية السول في شرح منهاج الأصول - للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، عالم الكتب.
55- (الأصبهاني) إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي (ت457هـ – 535هـ): دلائل النبوة، تحقيق: محمد محمد الحداد، 1409هـ، دار طيبة - الرياض .
56- (الألباني) محمد ناصر الدين: صحيح الجامع الصغير وزيادته، أشرف على طبعه: زهير الشاويش، ط3 1408هـ - 1988م، المكتب الإسلامي - بيروت .
57- (الآلوسي) محمود شكري البغدادي، ه127هـ : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - دار الفكر - بيروت، 1417هـ -1997م - قرأه وصححه: محمد حسين العرب .
58- (الأنباري) أبو بكر محمد بن القاسم : الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، اعتنى به: عز الدين البدوي النجار - ط1 ن 1412هـ – 1992م، مؤسسة الرسالة – بيروت .
59- (الأهدل) محمد بن أحمد بن عبد الباري: الكواكب الدرية، شرح: الشيخ محمد بن أحمد الرعيني الشهير بالحطاب، ط1، 1410هـ-1990م - مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت .(1/416)
60- (الباقلاني) محمد بن الطيب ت 403هـ: نُكت الانتصار لنقل القرآن، تحقيق د. محمد زغلول سلام، الناشر: منشأة المعارف بالإسكندرية .
61- (الباقلاني)أبو بكر بن الطيب: إعجاز القرآن، قدم له وشرحه وعلق عليه: الشيخ محمد شريف سكر، بيروت دار إحياء العلوم، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م .
62- (البخاري) أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجعفي (194، 256هـ): خلق أفعال العباد، مراجعة: د. عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية - الرياض 1398هـ -1978م .
63- (البخاري) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن المغيرة الجعفي،
(194هـ - ت256 هـ): صحيح البخاري،مراجعة د. مصطفى ديب البغا، 1407هـ -1987م، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت.
64- (البقاعي) برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر (ت885هـ): نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، 1413هـ، 1992م، ط3، المكتبة التجارية، مكة المكرمة .
65- (البيهقي) أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى (384هـ –ت458هـ): سنن البيهقي الكبرى، مراجعة: محمد عبد القادر عطا، 1994م-1414هـ، مكتبة دار الباز - مكة المكرمة.
66- بلاشير: القرآن: نزوله، تدوينه، ترجمته، وتأثيره، نقله إلى العربية: رضا سعادة، ط1، 1974م، دار الكتاب اللبناني - بيروت.
67- (التبريزي) الإمام الخطيب أبي زكريا يحي بن علي التبريزي
(ت502): شرح القصائد العشر، علق عليه: السيد أحمد الخضر، مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة .
68- (الترمذي) أبو عيسى محمد بن عيسى السلمي (209هـ – 279هـ): الجامع الصحيح سنن الترمذي، مراجعة: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي-بيروت .
69- (التفتازاني) سعد الدين مسعود بن عمر الشافعي - ت792 هـ: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه - ضبطه، وخرج آياته، وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات ط1، 1416هـ -1996م، دار الكتب العلمية، بيروت .(1/417)
70- (الثعالبي) عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري: الجواهر الحسان في تفسير القرآن، دار القلم، بيروت .
71- (الجرجاني) الإمام عبد القادر بن عبد الرحمن الجرجاني: دلائل الإعجاز في علم المعاني، صحح أصله الأستاذ محمد عبده، والأستاذ محمد محمود التركزي، وقف على تصحيح طبعه: السيد محمد رشيد رضا - 1402هـ - 1982م، دار المعرفة - بيروت .
72- (الجرجاني) علي بن محمد بن علي: التعريفات، حققه، وقدم له، ووضع فهارسه: إبراهيم الأبياري، ط1، 1405هـ - 1985م، دار الكتاب العربي - بيروت .
73- (جولد تسهير): مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة عبد الحليم
النجار، 1956م، مكتبة الخانجي - مصر .
74- (الجلالين) جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي: تفسير الجلالين، وبهامشه حاشية الصاوي، دار الفكر بيروت1414 هـ - 1993م، قدم له وأشرف على تصحيحه: صدقي محمد جميل.
75- جمال الدين الحسن بن الحسين بن القاسم بن محمد:شرح التهذيب في علم المنطق مع الحاشية، ط1، 1405هـ – 1985م، مركز الدراسات والبحوث – صنعاء.
76- (حاجي خليفة) مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الرومي الحنفي (1017هـ – ت 1067هـ): كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، 1992م - 1413هـ، دار الكتب العلمية – بيروت.
77- (الحاكم) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري (321 هـ، ت405 هـ ): المستدرك على الصحيحين، مراجعة: مصطفى عبد القادر عطا، 1411هـ -1990م، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة لم تذكر .
78- الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد: حواشي هداية العقول إلى غاية السؤل في علم الأصول.
79- حسن ضياء الدين عتر: المعجزة الخالدة، ط2، 1409هـ - 1989م، مكتبة الطالب الجامعي - مكة .
80- (الحلبي) علي بن برهان الدين ت 1044هـ: السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون، دار المعرفة - بيروت 1400هـ .(1/418)
81- (الحميدي) أبو بكر عبد الله بن الزبير (ت219هـ): مسند الحميدي، مراجعة: حبيب الرحمن الأعظمي، 1381هـ، دار الكتب العلمية -بيروت.
82- (دكتور) عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، دار القلم 1966م .
83- (دكتور) عبد الهادي الفضلي: القراءات القرآنية، ط2، دار القلم- بيروت .
84- (دكتور) فضل حسن عباس: إتقان البرهان في علوم القرآن، ط1، 1997م، دار الفرقان .
85- (دكتور) محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، اعتنى به وخرج أحاديثه: عبد الحميد الدخاخيني، ط1، 1417هـ –1997م، دار طيبة – الرياض .
86- (دكتور) مصطفى ديب البغا: التحفة الرضية في فقه السادة المالكية 40، شرح وأدلة وتكملة متن العشماوية، ط1، 1412هـ - 1992م، دار ابن كثير، دمشق - بيروت .
87- (دكتور) وهبة الزحيلي: التفسير المنير، ط1، دار الفكر .
88- (دكتور) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ط4، 1971م، مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة .
89- (دكتور) عبده الراجحي: اللهجات العربية في القراءات القرآنية، 1969م، دار المعارف بمصر .
90- (دكتور) صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن، ط3، 1964م، دار العلم للملايين - بيروت .
91- (دكتور) عبد الفتاح إسماعيل شلبي: الإمالة في القراءات واللهجات العربية ط1، مكتبة نهضة مصر، القاهرة 1957م .
92- (الخطيب البغداي) أبو بكر أحمد بن علي ـ ميلاده 393، وفاته463 هـ: تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت.
93- (الدارقطني) أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد: ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايتهم عن الثقات عند البخاري ومسلم، دراسة وتحقيق: بوران الضناوي، وكمال يوسف الحوت، ط1، 1406هـ - 1985م، مؤسسة الكتب الثقافية .
94- (الدارمي) أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (181هـ-255هـ): سنن الدارمي، تحقيق:أحمد فواز زمرلي، خالد السبع العلمي، 1407هـ،دار الكتاب العربي – بيروت .(1/419)
95- (الداني) أبو عمر وعثمان بن سعيد ت 444هـ: الأحرف السبعة، تحقيق د. عبد المهيمن الطحان 1408هـ، مكتبة المنارة، مكة المكرمة .
96- (الداني): التيسير في القراءات السبع، صححه أوتوبرتزل .
97- (الداني): المحكم في نقط المصاحف، تحقيق د. عزة حسن، 1960م، مديرية إحياء التراث القديم، وزارة الثقافة والإرشاد - دمشق .
98- (الداني): المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار، تحقيق محمد أحمد دهمان، 1940م، مكتبة الدراسات الإسلامية - دمشق .
99- (الدمياطي) الشيخ أحمد بن محمد الشهير بالبنا (ت 1117هـ): إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، صححه علي محمد الضبّاع، 1359هـ مطبعة عبد الحميد أحمد حنفي بمصر .
100- (الذهبي) الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان: طبقات القراء للذهبي، تحقيق: د . أحمد خان 1418هـ – 1997م، دار الفيصل .
101- (الذهبي) شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ): سير أعلام النبلاء، إشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ط2، 1404هـ -1984م، مؤسسة الرسالة .
102- (الرازي) محمد بن أبي بكر بن عبد القادر ت 721هـ: مختار الصحاح، مراجعة: محمود خاطر، مكتبة لبنان بيروت 1415هـ - 1985م .
103- (الراغب) أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ت 502هـ: المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة- بيروت .
104- رفاعي سرور: عندما ترعى الذئاب الغنم، ط61412هـ-1992، مكتبة الحرمين للعلوم النافعة .
105- (الزرقاني) الشيخ محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، ط3،1943هـ،دار إحياء الكتب العربية .
106- (الزركشي) بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الشافعي: البحر المحيط1/ 440، قام بتحريره عبد القادر عبد الله العاني، راجعه: د. عمر سليمان الأشقر - ط2، 1413هـ - 1992م، دار الصفوة .(1/420)
107- (الزركشي): البرهان في علوم القرآن،تحقيق محمد أببو الفضل إبراهيم،ط1، 1957م، دار إحياء الكتب العربية - القاهرة .
108- (الزركلي) خير الدين الزركلي: الأعلام، الطبعة العاشرة 1992م .
109- (الزمخشري) أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الخوارزمي (467 - ت538هـ): الكشاف، دار المعرفة، بيروت .
110- (الزمخشري): الفائق في غريب الحديث، تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، ط2، توزيع دار الباز .
111- (الزمخشري): أساس البلاغة، 1922م، دار الكتب المصرية - القاهرة .
112- (الساعاتي) أحمد عبد الرحمن البنا: الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، مصر 1374هـ .
113- (السندي) أبو الحسن نور الدين بن عبد الهادي (1138هـ): حاشية السندي على النسائي، مراجعة: عبد الفتاح أبو غدة 1406هـ - 1986م، مكتبة المطبوعات الإسلامية- حلب .
114- (السيوطي) أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر،
(849هـ - ت911هـ): تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، 1389- 1969م، المكتبة التجارية الكبرى - مصر .
115- (السيوطي) أبوالفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (849 - 911 هـ): الديباج على صحيح مسلم، مراجعة: أبو إسحاق الحويني الأثري- دار ابن عفان - الخبر - السعودية، عدد الأجزاء 5 .
116- (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر الشافعي، ت911هـ: الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، بيروت .
117- (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911هـ: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، الطبعة لم تذكر، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت .
118- (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911هـ: تدريب الراوي في تقريب النووي، ط4، حققه وراجع أصوله: عبد الوهاب عبد اللطيف الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين- جامعة الأزهر، دار نشر الكتب الإسلامية .(1/421)
119- (السيوطي) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911هـ: طبقات الحفاظ، ط1، 1403هـ - 1983م، دار الكتب العلمية - بيروت .
120- (السيوطي): لباب النقول في أسباب النزول، ط6، 1408هـ -1988م، دار إحياء العلوم العربية - بيروت .
121- (الشاطبي) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي ت 790 هـ: الموافقات في أصول الشريعة، المقدمة الثالثة، توزيع عباس أحمد الباز، الطبعة لم تذكر .
122- (الشاطبي) أبو القاسم أو أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي ت 590 هـ:حرز الأماني ووجه التهاني (متن الشاطبية)، ط1، 1412هـ - 1992م، المكتبة الثقافية - بيروت .
123- (الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي: نثر الورود على مراقي السعود- تحقيق وإكمال تلميذه الدكتور: محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي- الناشر: محمد محمود محمد الخضر القاضي-دار المنارة جدة ط1، 1415- 1995م .
124- (الشنقيطي) محمد الأمين بن محمد المختار الجكني: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، عالم الكتب - بيروت .
125- (الشوكاني) محمد بن علي بن محمد الشوكاني 1250 هـ: فتح القدير الجامع بين الرواية والدراية من التفسير ط1، 1415 – 1995م، اعتنى به، وراجع أصوله: يوسف الغوش - دار المعرفة بيروت .
126- (الشوكاني) محمد بن علي بن محمد (ت 1255هـ ): إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار المعرفة - بيروت .
127- (الشوكاني) محمد بن علي ت1250هـ: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة -بيروت .
128- (الطاهر بن عاشور): التحرير والتنوير، بدون ذكر للدار ولا للطبعة.
129- طاهر الجزائري الدمشقي (1268هـ - 1328هـ ): التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب .(1/422)
130- (الطبراني) أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب، مسند الدنيا، ميلاده 260 هـ، ت 360 هـ: مسند الشاميين، 1405 هـ -1984م، مؤسسة الرسالة، بيروت، مراجعة: حمدي بن عبد المجيد السلفي .
131- (الطبراني) أبو القاسم مسند الدنيا سليمان بن أحمد بن أيوب: المعجم الكبير، مراجعة: حمدي عبد الحميد السلفي، 1404 هـ – 1983م، مكتبة العلوم والحكم، الموصل .
132- (الطبراني)مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب (260هـ ت360): المعجم الأوسط، مراجعة: محمود الطحان، 1405-1985، مكتبة المعارف -الرياض .
133- (الطبري) محمد بن جرير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن، ط3، 1388هـ-1968م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
134- (الطبري الزيدي) علي بن صلاح بن علي بن محمد: شفاء غليل السائل عما تحمله الكافل، ط1، 1408هـ - 1988م، مكتبة اليمن الكبرى - صنعاء .
135- (الطحاوي) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة 229 هـ – 321هـ: شرح معاني الآثار، مراجعة محمد زهري النجار، ط1، 1410 هـ – 1990م، دار الكتب العلمية –بيروت .
136- عبد الرحمن بن خلدون ت 808 هـ: مقدمة ابن خلدون، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: خليل شحادة، مراجعة: د. سهيل زكار، ط 1417هـ، 1996م - دار الفكر - بيروت .
137- عبد الوهاب حمودة: القراءات واللهجات، ط1، 1948م، مكتبة النهضة المصرية- القاهرة .
138- عبد المعطي محمد رياض طليمات:الحلقات القرآنية، دراسة منهجية شاملة،ط1، 1417هـ –1997م، إصدار برنامج تحفيظ القرآن الكريم – جدة .
139- عياض بن موسى اليحصبي: الشفا تعريف حقوق المصطفى، دار الكتب العلمية،بيروت- لبنان .
140- عياض بن موسى اليحصبي السبتي، أبو الفضل: ترتيب المدارك، وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق د. أحمد بكر محمود، الطبعة لم تذكر، دار مكتبة الحياة، بيروت .(1/423)
141- عبد الفتاح القاضي: بشير اليسر شرح ناظمة الزهر في علم الفواصل للإمام الشاطبي، 1397هـ –1977م، مطبوعات الأزهر – مصر .
142- عبد الفتاح القاضي ت 103هـ: الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع، ط5 -1414هـ -1994م، مكتبة السوادي - جدة، مكتبة الدار - المدينة المنورة .
143- (العزي) عبد المنعم صالح العلي: أقباس من مناقب أبي هريرة، ط3، 1412هـ - 1991م، دار المنطلق - الإمارات العربية المتحدة .
144- (العسكري) أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد ت بعد395هـ: الفروق في اللغة .
145- غانم قدوري الحمد: رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية – ط1، 1402هـ – 1982 م .
146- (الغزالي) أبو حامد محمد ت505 هـ: المستصفى من علم الأصول، دار الفكر - بيروت .
147- (الفراء) أبي زكريا يحي بن زياد ت 207هـ: معاني القرآن، دار السرور - تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار .
148- (الفارسي) أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار (ت 377هـ): الحجة في علل القراءات السبع، تحقيق علي النجدي ناصف، ود. عبد الحليم النجار، ود. عبد الفتاح شلبي، دار الكتاب العربي، 1965م، المجلد الأول .
149- (القرطبي) أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 1405هـ – 1985م، دار إحياء التراث العربي – بيروت .
150- (القضاعي) أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر ت454هـ: مسند الشهاب، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط2، 1407هـ - 2986م، مؤسسة الرسالة .
151- (الكسي) أبو محمد عبد بن حميد بن نصر ( ت 249هـ ): المنتخب من مسند عبد بن حميد، مراجعة: صبحي البدري السامرائي ـ محمود محمد خليل الصعيدي، 1408هـ – 1988م، مكتبة السنة – القاهرة .
152- (الكيا الهراسي) عماد الدين بن محمد الطبري (ت 504هـ): أحكام القرآن، ط1، 1403هـ – 1983م، دار الكتب العلمية – بيروت .
153- لبيب السعيد: الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، دار الكتاب العربي–القاهرة .(1/424)
154- الإمام مالك بن أنس: موطأ الإمام مالك، مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي- دار إحياء التراث العربي، مصر.
155- (المباركفوري) أبو العُلا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، ط 1،1410هـ - 1990م، دار الكتب العلمية - بيروت.
156- (المحبوبي) عبد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي: التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، ضبطه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، ط1، 1416- 1996م، دار الكتب العلمية - بيروت .
157- محمد محمد عبد اللطيف (يلقب نفسه بابن الخطيب): الفرقان، الطبعة لم تذكر – دار الكتب العلمية - بيروت .
158- محمد الصادق عرجون عميد كلية أصول الدين، جامعة الأزهر: بحث علمي لنقد مزاعم حول قراءات القرآن في رسالة: (أصوات المد في القرآن الكريم) بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية،، اتحاد الطلاب بكلية أصول الدين، اللجنة الاجتماعية 1386هـ – 1966م .
159- محمد أبو زهرة: أصول الفقه، دار الفكر العربي .
160- محمد عليان المزروقي الشافعي: حاشيته على الكشاف، دار المعرفة - بيروت .
161- محمد بخيت المطيعي (ت 1354هـ): الكلمات الحسان في الحروف السبعة وجمع القرآن، ط1، 1323هـ، المطبعة الخيرية - القاهرة .
162- (المزي) أبو الحجاج جمال الدين يوسف بن الزكي عبد الرحمن (654هـ – 742 هـ): تهذيب الكمال، مراجعة: بشار عواد معروف، 1400هـ –1980م، مؤسسة الرسالة –بيروت.
163- (مسلم): أبو الحسين بن الحجاج النيسابوري: صحيح مسلم، (206هـ – ت261هـ) مراجعة: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت 1374هـ-1954م .
164- (ملا جيون) أحمد بن أبي سعيد بن عبيد الله الحنفي الصديقي الميهوي (ت1130هـ): نور الأنوار وبهامشه كشف الأسرار، ط1 1406هـ- 1986م، دار الكتب العلمية – بيروت.(1/425)
165- (المقدسي) أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي (567هـ - 634هـ): الأحاديث المختارة، تحقيق: عبد الملَك بن عبد الله دهيش،1410هـ، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة .
166- (المهدي) أحمد بن يحي بن المرتضى (764 هـ- ت840 هـ): منهاج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول، ط1، 1412هـ - 1992م، دار الحكمة اليمانية - صنعاء .
167- (المهدي) أحمد بن يحيى المرتضى ت840هـ:البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، وبهامشه:جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للعلامة محمد بن يحيى بن بهران الصعدي ت957هـ،أشرف عليها: عبد الله محمد الصديق، وعبد الحفيظ سعد عطية، دار الكتاب الإسلامي - القاهرة .
168- (الموصلي) أبو يعلي أحمد بن علي بن المثنى التميمي (210 -ت307هـ): مسند أبي يعلى، مراجعة: حسين سليم أسد، 1404هـ -1984م، دار المأمون للتراث - دمشق .
169- (الميداني) عبد الرحمن حسن حبنكة: ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، ط4، 1414هـ - 1993م، دار القلم - بيروت .
170- (النسائي) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب ( 215-303 ): السنن الكبرى مراجعة: د. عبد الغفار سليمان البنداري - سيد كسروي حسن، 1411هـ -1991م، دار الكتب العلمية - بيروت.
171- (الهيثمي) الحافظ نور الدين: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، للحارث بن أبي أسامة،تحقيق د.حسين أحمد صالح الباكري، 1413هـ-1992م، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية - المدينة المنورة .
172- (الوزير) محمد بن إبراهيم الوزير ت 840هـ: ترجيح أساليب القرآن على أساطير اليونان، وما بعدها ط1، دار الكتب الثقافية -بيروت .
173- (الواحدي) أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري (ت 468هـ)، تعليق وتخريج: د. مصطفى ديب البغا، ط1، 1408هـ – 1988م، دار ابن كثير – دمشق .(1/426)
174- (اليماني) عبد الباقي بن عبد المجيد: إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، تحقيق د. عبد المجيد دياب، ط1، 1986م، الدار لم تذكر .
المجلات :
175- مجلة: جريدة الدستور 8/10/1997م .
176- مجلة: مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، العدد الأول، ذو القعدة 1415هـ: د. يوسف الخليفة أبو بكر: البحث التربوي واللغوي في مجال تعليم القرآن الكريم .
177- مجلة: مجلة البيان، العدد 105، جمادى الأولى1417هـ.
178- مجلة: مجلة العربي، نوفمبر 1998م .
الفهرس الموضوعي
أ- الإجمالي:
الصفحة ... الموضوع
أ ... التصدير والاستهلال
1 ... التقديم للكتاب
1 ... تقديم فضيلة الشيخ العلامة المجاهد/ عبد المجيد بن عزيز الزنداني
3 ... تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ أحمد بن علي الإمام
5 ... شكر
6 ... مقدمة
14 ... الفصل الأول/ مؤهلات العلم المُلقي
15 ... مقدمة: من الموحي بالقرآن؟من المتكلم به؟
18 ... المبحث الأول/ أهمية موضوع تعليم جبريل - عليه السلام -
22 ... المبحث الثاني/ صفات جبريل - عليه السلام -
37 ... المبحث الثالث: أمين الوحي في السماء لأهل السماء
40 ... المبحث الرابع: اختيار جبريل - عليه السلام - ليكون الوسيط بين الله - جل جلاله - ورسله
49 ... الفصل الثاني/اتصال جبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي القرآني
50 ... المبحث الأول: تهيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي، والاتصال بالملَك - عليه السلام -
61 ... المبحث الثاني: إمكانية الاتصال المطلق بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم -
68 ... المبحث الثالث: هيئات مجيء الملَك بالوحي القرآني ( من حيث عموم الوحي )
71 ... الفصل الثالث/ تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام -
72 ... المبحث الأول: كيفية مجيء جبريل - عليه السلام - إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - عند تلقينه الوحي القرآني(1/427)
82 ... المبحث الثاني: هيئة إلقاء الوحي القرآني من جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم -
92 ... المبحث الثالث: نزول جبريل - عليه السلام - توقيفي
94 ... المبحث الرابع: مظاهر اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي القرآن من جبريل - عليه السلام - قبل نزول التوقيف الإلهي
96 ... المبحث الخامس: سمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نزول الوحي القرآني عليه
113 ... المبحث السادس: حديث المعالجة ودلالاته العامة
127 ... المبحث السابع: التلقي (والتلقين)
144 ... المبحث الثامن: كيفية قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن على جبريل - عليه السلام - من حيث الأمر الشرعي، والواقع التطبيقي
177 ... المبحث التاسع: تحليل حديث المدارسة (المعارضة)
199 ... الفصل الرابع/ الأصول العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم
200 ... المبحث الأول: اللمحات العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام -
206 ... المبحث الثاني: الدقة في النقل العام
209 ... المبحث الثالث: العلاقة العامة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها في تعليم ألفاظ القرآن
228 ... المبحث الرابع: التوقيفية في غير أداء القرآن
232 ... المبحث الخامس: الحفظ في الصدر
246 ... الفصل الخامس/ دمغ الباطل:
248 ... المبحث الأول: دفع (دمغ) العوامل الخارجية
275 ... المبحث الثاني: دفع (دمغ) العوامل الداخلية
289 ... ملحق: مناقشة علمية لتعريف القرآن الكريم
289 ... المبحث الأول: "القرآن" في الوضع اللغوي، ومقتضياته
303 ... المبحث الثاني: "القرآن" في الوضع الاصطلاحي، ومقتضياته
319 ... فهرس المصادر
340 ... الفهرس الموضوعي
ب-التفصيلي:
الصفحة ... الموضوع
أ ... التصدير والاستهلال
1 ... التقديم للكتاب
1 ... تقديم فضيلة الشيخ العلامة المجاهد/ عبد المجيد بن عزيز الزنداني
3 ... تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ أحمد بن علي الإمام
5 ... شكر
6 ... مقدمة
14 ... الفصل الأول:(1/428)
مؤهلات العلم المُلقي
15 ... مقدمة: من الموحي بالقرآن؟من المتكلم به؟
18 ... المبحث الأول/ أهمية موضوع تعليم جبريل - عليه السلام -
18 ... المطلب الأول: البعد التاريخي والموضوعي للاهتمام بهذا الموضوع
20 ... المطلب الثاني: أهداف دراسة هذا الموضوع
22 ... المبحث الثاني/ صفات جبريل - عليه السلام -
22 ... المطلب الأول: صفاته من حيث طبيعته الخَلْقية
22 ... 1-عظمة الخلقة
23 ... أسباب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في خلقته الأصلية مرتين
24 ... 2-أنه ملك
24 ... 3-الروح
25 ... 4-السرعة والفورية في النزول بالوحي القرآني
27 ... 5-القوة
27 ... المطلب الثاني: صفاته - عليه السلام - من حيث سجاياه الخُلُقية
27 ... 1-كريم
28 ... 2-ذو قوة
30 ... 3-مطاع
31 ... 4-أمين
32 ... جهتا المقتضى العملي للأمانة
33 ... 5-عند ذي العرش مكين
33 ... 6-اقتصار مهمته في المحتوى العام على أنه رسول
33 ... 7-تمرسه على الرسالة التي تماثل هذا النوع
35 ... 8-حكيم عليم
35 ... علاقة هذا الموضوع بالموضوع العام
37 ... المبحث الثالث: أمين الوحي في السماء لأهل السماء
40 ... المبحث الرابع: اختيار جبريل - عليه السلام - ليكون الوسيط بين الله - جل جلاله - ورسله
40 ... المطلب الأول: من حيث عموم الرسالات السماوية
41 ... المطلب الثاني: جهة من حيث خصوص رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -
43 ... جبريل - عليه السلام - هو واسطته التعليمية الوحيدة إلى عالم الغيب
45 ... المطلب الثالث: من حيث خصوص الخصوص
47 ... عداوة جبريل - عليه السلام - مقياس مطلق لعداوة الله - سبحانه وتعالى -
49 ... الفصل الثاني:
اتصال جبريل - عليه السلام - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي القرآني
50 ... المبحث الأول: تهيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - للوحي، والاتصال بالملَك - عليه السلام -
50 ... المطلب الأول: التهيئة الإلهية للوحي
50 ... 1-حادثة شق الصدر، وأهدافها في كل مرة
54 ... 2-ثم بدأ يتعدى القوى البشرية القاصرة
56 ... 3-وكان جبريل - عليه السلام - يأتيه في المنام
56 ... 4-الرؤيا الصادقة(1/429)
57 ... 5-الآيات التي كانت تظهر له
58 ... 6-التحنث
59 ... المطلب الثاني: التهيئة البشرية للوحي
59 ... أ-التهيئة الذاتية
60 ... ب-التهيئة البيئية
61 ... المبحث الثاني: إمكانية الاتصال المطلق بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم -
61 ... 1-الاتصال الخفي والكلام الخفي
62 ... 2-ويناديه ويكلمه دون أن يشعر أحد من حواليه غالباً
64 ... 3-الإطلاق من حيث النداء والوقت
65 ... 4-الإطلاق من حيث المكان
67 ... المانع من قرب جبريل - عليه السلام -
68 ... المبحث الثالث: هيئات مجيء الملَك بالوحي القرآني (من حيث عموم الوحي)
69 ... المقتضى المنهجي لذلك
71 ... الفصل الثالث:
تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام -
72 ... المبحث الأول: كيفية مجيء جبريل - عليه السلام - إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - عند تلقينه الوحي القرآني
73 ... آيات النجم تصور تصويراً دقيقاً هذه اللحظات، وتفصيل ذلك
80 ... حديث عثمان بن مظعون يؤكد التفصيل السابق
82 ... المبحث الثاني: هيئة إلقاء الوحي القرآني من جبريل - عليه السلام - على النبي - صلى الله عليه وسلم -
82 ... المطلب الأول: الهيئة العامة لإلقاء الوحي القرآني
83 ... انخلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هيئته البشرية عند سماع الوحي، وحدود ذلك
84 ... المقتضى المنهجي لذلك على مستوى الأمة العام
84 ... المطلب الثاني: النزول على القلب
85 ... المعنى
88 ... الكاف في { عَلَى قَلْبِكَ }
90 ... إعداد القلب مسبقاً
90 ... مشتملات النزول على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -
92 ... المبحث الثالث: نزول جبريل - عليه السلام - توقيفي
94 ... المبحث الرابع: مظاهر اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلقي القرآن من جبريل - عليه السلام - قبل نزول التوقيف الإلهي
96 ... المبحث الخامس: سمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين نزول الوحي القرآني عليه
96 ... 1-تفريغ قلبه وحسه، وتخلية فكره إلا في المُتَلَقَى
الظاهرة الصوتية الشديدة المصاحبة للوحي القرآني، والحكمة منها(1/430)
97 ... 2-المعاناة في تلقي الوحي
98 ... مظاهر الشدة المصاحبة للوحي القرآني
101 ... دلائل ثقل الوحي القرآني، والمقتضى المنهجي لذلك ... لا يتساهل من يحاول حفظ القرآن في الحفظ
103 ... هل يتنافى ذلك مع كون القرآن ميسراً للذكر؟
104 ... 3-التكلف الطبعي في حفظ الوحي
104 ... 4-تلقي الوحي القرآني تلقي استماع لصوت متكلم بأحرف
105 ... 5-جمع القرآن في صدره
106 ... حقيقة هامة: مجيء جبريل - عليه السلام - للوحي القرآني كان على الصورة الأشد، ومقتضى ذلك
107 ... النزول على القلب لا يدل على الإلهام، بل هو مؤيد لقوة الإفهام
107 ... من أسرار { عَلَى قَلْبِكَ }
107 ... هل أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من القرآن مناماً؟ والجواب عن حديث سورة الكوثر
109 ... هل معنى ذلك: أن الوحي غير القرآني لم يكن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - مناماً؟
110 ... 6-ارتقاء القوى البشرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
110 ... 7- الاستماع والإنصات
111 ... 8-الوعي لما يقول الملَك
111 ... 9-تطبيق هيئات التلقي التوقيفية
111 ... 10-استعداد الملَكات النفسية في النبي - صلى الله عليه وسلم -
112 ... المقتضى المنهجي لذلك
113 ... المبحث السادس: حديث المعالجة ودلالاته العامة
113 ... المطلب الأول: متن حديث المعالجة برواياته المختلفة
114 ... المطلب الثاني: تحليل الموقف في حديث المعالجة
114 ... سبب المعاناة
115 ... ما وعد به من حيث اللفظ
116 ... المطلب الثالث: تحليل آيات سورة القيامة الورادة في حديث المعالجة
116 ... { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }
117 ... { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }
118 ... هل (بيناها) هو معنى { أنزلناها } في سورة النور؟ .
119 ... { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }
120 ... تقدم البيان اللفظي على البيان المعنوي في الوجود الخارجي
121 ... المطلب الرابع: من فوائد حديث المعالجة
121 ... ومن فوائده أن الحفظ للألفاظ مقدم على استلهام المعنى
123 ... المسوغ الشرعي لتعليم الصبيان ألفاظ القرآن(1/431)
123 ... المطلب الخامس: ومن دلالات الحديث الخاصة
123 ... 1-تحريك الفم، وبواعثه
125 ... 2-الشدة في قراءة القرآن وحفظه
126 ... 3-مخارج الحروف هي الخمسة المشهورة
127 ... المبحث السابع: التلقي (والتلقين)
127 ... المطلب الأول: تعريفه
127 ... حاصل مفاهيم الإلقاء في الوضع اللغوي
129 ... التلقين في الوضع الاصطلاحي
130 ... الفرق بين التعليم والتلقين
131 ... المطلب الثاني: القرآن تلقين وليس إلهاماً
132 ... ليست هذه المسألة مسألة فرعية
132 ... من أدلة كون الوحي تلقيناً
133 ... المطلب الثالث: حكم التلقين
134 ... المقتضى المنهجي لتلقين جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - الهيئات الخارجية والداخلية للحرف والتركيبية للحروف
135 ... التلقي مفسدٌ للقراءة المبتدعة
136 ... الأمر الإلهي بإعادة المقروء يحوي الضمان الإلهي بإعادته
137 ... المطلب الرابع: قواعد التلقي والتلقين
137 ... لم يكرر النبي - صلى الله عليه وسلم - المقروء بعد ذهاب الملَك؟
139 ... هل يشترط استماع الشيخ لطالبه عند إعادة المقروء؟
139 ... هل يشترط أداء هذه القواعد كلها في التلقي والتلقين؟
140 ... المطلب الخامس: المقتضى المنهجي لما سبق
141 ... هل ثم اجتهاد في أداء القرآن؟ وأين الاجتهاد فيما سبق من خلال تحليل حديث المعالجة
144 ... المبحث الثامن: كيفية قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرآن على جبريل - عليه السلام - من حيث الأمر الشرعي، والواقع التطبيقي
144 ... 1-تبدأ باستشعار المصدرية الإلهية للقرآن الكريم
146 ... نموذج ظهور التأكيد على هذه المصدرية من خلال أول آيات نزلت
147 ... مقتضيات استشعار هذه المصدرية الإلهية
148 ... الصورة التطبيقية لهذا البند قبل التوقيف القرآني على هيئة تلقي القرآن
149 ... الصورة التطبيقية لهذا البند بعد التوقيف القرآني على هيئة تلقي القرآن
149 ... حقيقة الحق في إنزال القرآن وتلقينه للرسول - صلى الله عليه وسلم -
149 ... 2-الاستماع والإطراق عند تلاوة جبريل - عليه السلام -
149 ... الصورة التطبيقية لذلك(1/432)
149 ... الأساس الشرعي والمنهجية في جعل القراءة الابتدائية من الشيخ أو عليه
150 ... النتائج المترتبة على ذلك
150 ... 3-ترديد القرآن بعد انتهاء جبريل - عليه السلام - من قراءته ليطمئن القلب بتحفظه
151 ... الصورة التطبيقية لذلك
151 ... 4-تحريك فمه وشفتيه عند الحفظ أو القراءة
151 ... 5-الترتيل (تبيين الحروف)
151 ... عنصرا الترتيل،ومقتضاهما، ومستلزمهما
153 ... الصورة التطبيقية الملائكية للترتيل
153 ... الصورة التطبيقية لذلك
155 ... وهذه الصورة هي الصورة الموافقة لقراءة معتدلي المسلمين هذه الأيام
156 ... 6-التأني في تلاوة القرآن
157 ... الغاية من التأني
157 ... التأني يستلزم السكينة والوقار
158 ... التأني يقتضي إشباع الحركات
158 ... الصورة التطبيقية لهذا التأني
159 ... محاولة لضبط مقدار هذا التأني
159 ... علاقة تعليم جبريل - عليه السلام - ألفاظ القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالترتيل
160 ... هل المراد بالترتيل في الآية الترتيل الزمني أي التفريق في الإنزال؟
160 ... وصف آيات المزمل لتفصيلات دقيقة في هذا الموضوع
162 ... 7-التغني بالقرآن والجهر به
163 ... معنى التغني الوارد في الحديث
164 ... 8-الترجيع في القرآن
164 ... الصورة التطبيقية لذلك
165 ... أقسام أداء القرآن
166 ... مراتب أداء اللفظ القرآني
167 ... 9-مماثلة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقراءة جبريل - عليه السلام -
168 ... الصورة التطبيقية لذلك
168 ... 10-قراءته على الناس كما أقرأه جبريل - عليه السلام - من حيث أصل اللفظ وأدائه
169 ... الدليل اليقيني القاطع للتوقيفية في نقل ألفاظ القرآن الكريم أصلاً وأداء
169 ... هل يؤثر على هذه النتيجة الاختلاف الصوتي المشاهد بين المسلمين؟
170 ... هيئة قراءة القرآن صفة ذاتية للفظ عند المسلمين وليست صفة عارضة
171 ... 11-تكرار المحفوظ
171 ... 12-تركيز المراجعة في قيام الليل
171 ... تعلقات قيام الليل بلفظ القرآن الكريم
173 ... قيام الليل ورد للمراجعة اليومية للنبي - صلى الله عليه وسلم -(1/433)
174 ... مفهوم (حزب) على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -
175 ... 13-التعاهد السنوي
177 ... المبحث التاسع: تحليل حديث المدارسة (المعارضة)
177 ... المطلب الأول: متن الحديث برواياته المختلفة
178 ... المطلب الثاني: الدلالات العامة لحديث المعارضة
178 ... 1-اعتماد مبدأ المدارسة في مفردات التعليم المنهجي لألفاظ القرآن الكريم
179 ... 2-التأكيد على الحفظ بما ليس بعده في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -
180 ... 3- تأكيد المعارضة السنوية ،وتعويضها عند فواتها لعارض
182 ... هل كانت المعارضة تتم قبل أن يفرض صيام رمضان؟
182 ... 4-التركيز في عنصر الوقت لتثبيت ومراجعة ألفاظ القرآن الكريم ...
183 ... 7-تثثبيت الحفظ بالعمل
184 ... المطلب الثالث: متضمنات المعارضة
184 ... 1-الإراءة
185 ... 2-المقابلة
185 ... 3-الظهور
186 ... فهل معنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرض معانيه؟
187 ... 4-العرضية اللفظية
189 ... 5-المعارضة هي الغاية في تحقيق اللفظ والتثبت منه
189 ... اختلاف العلماء في أفضلية العرض والسماع
190 ... سمات معارضة النبي - صلى الله عليه وسلم -
192 ... 6-عرض القرآن بالحروف المأذون في القراءة بها
194 ... المطلب الرابع: إيرادٌ على ما سبق ودفعه
197 ... من أحسن أدلة التوقيفية في نقل ألفاظ القرآن الكريم أصلاً وأداء
197 ... المطلب الخامس: المقتضى المنهجي لدلالات حديث المعارضة، ومفردات تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم
199 ... الفصل الرابع
الأصول العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم
200 ... المبحث الأول: اللمحات العامة في تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن من جبريل - عليه السلام -
200 ... المطلب الأول: من حيث مصدر التلقي
203 ... المطلب الثاني: من حيث مؤشرات في طريقة التلقي
203 ... أولاً:التعليم المباشر للبدايات، والنهايات،ومواضع الآيات
204 ... ثانياً: التوسط في كمية المنزل
204 ... ثالثاً: مقارنة التلقين بالأمر بكتابة الوحي القرآني على سبيل الفورية(1/434)
205 ... رابعاً: التركيز
206 ... المبحث الثاني: الدقة في النقل العام
206 ... 1-الدقة في نقل الأحداث الواقعية
207 ... 2-الدقة في نقل أحداث المستقبل
207 ... أقل أحوال أداء اللفظ القرآني أن يكون كأداء الصلاة عملياً
209 ... المبحث الثالث: العلاقة العامة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها في تعليم ألفاظ القرآن:
209 ... المطلب الأول: صلة هذا المبحث بموضوع البحث العام
211 ... المطلب الثاني: نماذج من العلاقة العامة بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم -
211 ... أولاً: في المسائل الشخصية
213 ... ثانياً: في المسائل البدنية
213 ... ثالثاً: الوزير
214 ... رابعاً: الناصح ابتداء
214 ... خامساً:وتجري بينهما المناقشة والمباحثة
214 ... سادساً: علاقة حب
217 ... سابعاً: وهو صاحبه في الدنيا والآخرة
218 ... مقاعد جبريل - عليه السلام -
219 ... المطلب الثالث: التعاهد والاستدراك
219 ... أولاً: التعاهد
219 ... 1- التعاهد العام من حيث كون جبريل - عليه السلام - شيخاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -
221 ... 2-التعاهد الخاص من حيث استكمال متعلقات القرآن الكريم لفظاً التتميمية، إعداد مراجع الإقراء
223 ... ثانياً: متابعة الاستدراك
223 ... أ-الخاصة من حيث المستدرك عليهم
223 ... 1-الاستدراك في الدلالة على ليلة القدر
224 ... 2-في هيئة الأكل
224 ... 3-في الإفتاء
224 ... 4-في اللباس
225 ... 5- في الفروع
225 ... 6-في تكرار العمل الفرعي
225 ... 7-في هيئة الوعظ
226 ... ب- العامة من حيث المستدرك عليهم
226 ... ج-الخاصة من حيث الأمر الشرعي
226 ... د-العامة من حيث الأمر الشرعي
228 ... المبحث الرابع: التوقيفية في غير أداء القرآن
228 ... أولاً: التوقيفية في تفسير آي القرآن
229 ... ثانياً: التوقيفية في الدعاء
229 ... ثالثاً: في المسائل الفرعية
232 ... المبحث الخامس: الحفظ في الصدر
232 ... المقدمة: الواجبات التي كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى لفظ القرآن
233 ... المطلب الأول: تأصيل كلمة (الحفظ )(1/435)
235 ... المطلب الثاني: متضمنات الحفظ
235 ... 1-الاستظهار
235 ... 2-الحراسة
236 ... 3-شموله للكلي والتفصيلي من حيث اللفظ
236 ... المطلب الثالث: هل كان الحفظ واجباً على - صلى الله عليه وسلم - ؟
241 ... ما ذهب إليه البعض من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب في آخر حياته شذوذٌ، وكثيرٌ من الشذوذ لا يروى على وجهه
246 ... الفصل الخامس:
دمغ الباطل، وفيه:دفع العوامل المقدوح بها في دقة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ القرآن الكريم من جبريل - عليه السلام -
248 ... المبحث الأول: العوامل الخارجية
248 ... المطلب الأول: دفع تهمة التخييل في تلقي ألفاظ القرآن بصفة عامة
248 ... 1-بالضمان الإلهي بالحفظ لكتابه
248 ... 2-بالضمان الإلهي بعدم تطرق شائبة باطل إليه
249 ... 3-بمعرفة طبيعة الوحي القرآني
250 ... 4-بتأكيد الاتصال الحسي بين جبريل - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم -
252 ... 5-برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في صورته عياناً
253 ... 6-عصمته - صلى الله عليه وسلم -
254 ... 7-تدخل القدرة الإلهية مباشرة عند حصول التقول
254 ... 8-استحالة تغيير هيئة من هيئاته
255 ... 9-بحراسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرصد
256 ... 10-بتفصيل صفات الرسول الأرضي والسماوي ؛ إذ ينتج عنها لذاتها دفع هذه التهمة
256 ... 11-إكمال الدين
257 ... 12-دفع إجمالي لتلك العوامل على طريقة الأصوليين
258 ... المطلب الثاني: دفع تهمة التخييل في تلقي ألفاظ القرآن من حيث تفصيل العوامل المتهمة بإحداث التخييل
258 ... أولاً: دفع التخييل بسبب الضلالية التفكيرية
260 ... ثانياً: دفع التخييل بتأثير الجنون
261 ... ثالثاً: دفع التخييل بتأثير الجن
261 ... أصل هذه الشبهة
262 ... دفع هذا العامل
262 ... 1-التأكيد على صدق الرؤية والاتصال الحسي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلمه جبريل - عليه السلام -
262 ... النفي المؤكد المتكرر لأن يكون الوحي القرآني كلام شيطان(1/436)
262 ... 2-بقوله - سبحانه وتعالى - { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ }
263 ... 3-قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من رآني في المنام فقد ... )
263 ... 4-عدم جواز أن يتمثل الشيطان بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم -
264 ... 5- فردانية الملَك الموكل بالوحي
264 ... هل اقترن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ملك آخر غير جبريل - عليه السلام -
266 ... فرع: تحليل آيات الحج
266 ... أ- سننية هذه الشبهة في الأمم
267 ... ب-الوصف الدقيق لهيئة إفساد الشيطان عقول القوم وقلوبهم
268 ... ج-الإلقاء الشيطاني معنوي وليس لفظياً
268 ... د- الوسائل الوقائية والاجتثاثية لإلقاء الشيطان المعنوي في عقول الناس
268 ... 1- المعية العلمية الإلهية الحكيمة الحاكمة
268 ... 2 - إزالة آثار الشبهة الشيطانية بالقدرة الإلهية المباشرة
269 ... 3- إحكام الله - جل جلاله - آياته
269 ... 4 - بيان حكمة الله - سبحانه وتعالى - من تمكين الشيطان من ترويج شبهه
269 ... 5 - تكفل الله - سبحانه وتعالى - بالهداية الدائمة للمؤمنين، وبعصمة نبيهم من الخطأ في الأمر المعنوي الحال فضلاً عن الأمر اللفظي الدائم التلاوة
270 ... الإشارة إلى تهافت قصة الغرانيق
271 ... رابعاً: دفع التخييل بشبهة السحر:
271 ... هل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطبيعة البشرية خروجاً مطلقاً؟
273 ... مظاهر السحر الذي وقع على النبي - صلى الله عليه وسلم - على قول من يثبته، وهي لم تتعد التسلط على جسده
275 ... المبحث الثاني: دفع العوامل الداخلية
275 ... المطلب الأول: معالجة مشكلة النسيان
275 ... النسيان في حقيقته اللغوية نوعان بعد الشيوع:
ضد الحفظ، وهو المعنى الأصلي، والترك
276 ... 1-معالجة هذه المشكلة ظهر من أول نزول القرآن الكريم
276 ... 2 - من أبرز الآيات التي عالجت هذه المشكلة آيات سورة الأعلى
276 ... 3-ربط القرآن الكريم بينها وبين القوانين التي وضعها خالق الإنسان في الكون(1/437)
277 ... 4-قطعت أنواط هذه المشككات بتقعيدين: عام وخاص:
278 ... العام هو: عصمة الشرع الإسلامي المطهر من غوائل النقص، والتغيير، والنسيان، من حيث كونه شرعاً إلهياً خاتماً مهيمناً
278 ... التقعيد الخاص: تكفل الله - سبحانه وتعالى - بتعطيل قانون النسيان في ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ...
280 ... 6-هذه الآيات ترسي أساس بقاء المُلْقَى إلى حين أدائه تبليغاً للناس
281 ... 7-أخذت هذه الكفالة الإلهية قدرها الضروري، فإذا ما تم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعود إلى حالته الطبيعية البشرية
281 ... الاستثناء في قوله تعالى: : { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ }
281 ... يدخل في هذا: نوعان يرجعان إلى الحقيقة اللغوية لمادة
"نسي": أولهما: النسخ في العمل
282 ... وثانيهما: ما يعرض نسيانه للنبي - صلى الله عليه وسلم - نسياناً مؤقتاً
285 ... فوائد الاستثناء ومقتضياته المنهجية في تعليم ألفاظ القرآن الكريم
286 ... المطلب الثاني: معالجة مشكلة التهمة بقصور العاطفة البشرية، والتفكير البشري
286 ... تضمن قوله - سبحانه وتعالى - { بِظَنِينٍ } أربعة أوجه تبين الإعجاز البياني لهذه الآية
289 ... ملحق: مناقشة علمية لتعريف القرآن الكريم
289 ... المبحث الأول: "القرآن" في الوضع اللغوي، ومقتضياته
289 ... المطلب الأول: أقوال العلماء في الوضع اللغوي للقرآن
296 ... المطلب الثاني: مقتضيات مادة (القرآن) لغة
303 ... المبحث الثاني: "القرآن" في الوضع الاصطلاحي، ومقتضياته
303 ... المطلب الأول: بواعث تعريف القرآن اصطلاحاً
305 ... المطلب الثاني: أقوال العلماء في الوضع الاصطلاحي لكلمة "قرآن"
315 ... المطلب الثالث: إشارات عامة حول علاقة التعريف الاصطلاحي بألفاظ القرآن الكريم
319 ... فهرس المصادر
340 ... الفهرس الموضوعي: أ-الإجمالي
343 ... ب-التفصيلي(1/438)