بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , و أشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى 0
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميع العلوم تفيء إلى القرآن الكريم
نذكر بأمور وهي أن القرآن أم العلوم كلها وأن الإنسان إذا قدر له أن يفقه كتاب الله أصبح بيده مقاليد العلم كلها ذلك أن جميع العلوم تفيء إلى القران على أننا ونحن نشرح قد نطيل الوقف عند آية ونتجاوز أية أخرى على هيئة أسرع والمقصود أن الآيات تتفاوت فيما نريد إيصاله لك كطالب علم في المقام الأول .
وقد نقل الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله عن شيخه الإمام الشنقيطي صاحب كتاب أضواء البيان رحمه الله نقل عنه انه سئل الشيخ "أي الشيخ عطية سأل الشيخ محمد الأمين عندما كان يفسر القران في مسجد رسول الله صلى الله علية وسلم قال له: إنك رجل ذو باع عظيم في العلم فلماذا اخترت التفسير دون سائر العلوم مع قدرتك على إتيان كثير من المسائل وشرحها ؟(1/1)
فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ وهو العارف بكتاب الله قال : إن العلوم كلها تفيء إلى القران أو نحو ذلك من المعنى والمقصود إن هناك مسائل في العقيدة ومسائل في الفقه ومسائل في التربية ومسائل في الدعوة متنوعة متعددة نقف عند كثير منها قدر المستطاع ونحاول أن نكثر من بعضها ونقلل من بعضها بحسب ما يمليه الموقف وبحسب ما تمليه الآية كما أننا نخاطب في المقام الأول طلبة العلم فلذلك قد لا يغلب الوعظ على الدرس كله وإن كان لابد منه ولكن المقصود أن مما يعين طالب العلم على طلب العلم بعد الاستعانة بالله إن يجد مادة علمية يعقد عليها خنصره وبنصره فإذا وجد شيء يعقد عليه وزاد الكم الذي يأخذه مع مراجعته إياه استمر في الطريق ولكن إن وجد طالب العلم نفسه يقول ويكرر مسائل معدودة بعينها تمر عليه الشهور والأيام وهو مازال رهين مسائل معدودة أصابه سآمة وملل من العلم نفسه وهذا ما نحاول قدر الإمكان تلافيه .
هذا التأصيل أحببت أن أبينه قبل الشروع في التفسير ....
حقيقة البعث والنشور
يبين الله جل وعلا في قوله في سورة البقرة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{22} "
قلنا المناسبة :. إن الله لما ذكر أصناف الخلق الثلاثة ( المراد بهم المؤمنون , الكفار , المنافقون ) خاطبهم أجمعين بعبارة " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ . . . إلى آخر الآيتين " أراد الله من هذا أن يبين حقيقة البعث والنشور.
و ذكر في هذه الآيتين ثلاثة براهين على وجود البعث والنشور(1/2)
البرهان الأول: هو ( الإيجاد و الخلق الأول ) وهذا بقوله " اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " ومعلوم قطعاً أن من قدر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني وهذا بينة الله في غير سوره .
وقلنا نحن نبين لك كيف تفسر كتاب الله لا نريد أن نلقن وتحفظ كيف تفسر كتاب الله , هذه الطريقة بينها الله في أشياء عدة قال الله جل وعلا في سورة يس : " وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ " وقال أيضاً في سورة الإسراء : " فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ " فالاتكاء في الدليل على الإيجاد الأول هذا أول البراهين على أن هناك بعث ونشور .
البرهان الثاني:( ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان) , وفائدة الذكر أن من قدر على خلق الأعلى قادر على أن يخلق ما هو دونه , والله جل وعلا خلق السموات والأرض فمن باب أولى هو قادر على أن يحي الناس بعد موتهم ودليل هذا في القران في سورة فاطر " لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ " وقوله في سورة يس : "أَوََلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ "(1/3)
البرهان الثالث :( القياس ) و أن الله جل وعلا قال " وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ " فالأرض كونها ميتة وينزل عليها من السماء "أي من السحاب "مطراًً فتحيى من جديد هذا يدل على أن من أحياها قادراً على أن يكون على يديه البعث والنشور وهذا يفسره القرآن قال الله جل وعلا في سورة فصلت : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فبين سبحانه بأنه القادر على أن يحي الأرض بعد موتها قادر بقدرته وعظمته وجبروته وعزته وسلطانه على أن يحي الناس ويعيدهم بعثاً ونشوراً بعد أن كانوا أمواتاً .
فاجتمعت في هاتين الآيتين ثلاثة براهين على إثبات حقيقة البعث والنشور
هذا التفسير المجمل للآيتين.
أما التفسير التفصيلي مما يتعلق بالمفردات وغيرها فقوله جل وعلا " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " هذا تلازم مابين العبادة والتقوى فالعبد إذا عبد الله فقد اتقاه وإذا اتقاه فقد عبده " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً " أي تطئون عليها ممهدة ميسرة وهذا ظاهر لكل ذي عينين " وَالسَّمَاء بِنَاء" الأصل أن السماء في اللغة كل ما أضلك فهو سماء
وأرضك كل مكرمة بنتها *** بنو تيم وأنت لها سماء
أي وأنت لها سقف , كل ما أضلك فهو سماء لكن المقصود بالآية هنا السماوات السبع وسيأتي تفصيلها في آيات أخرى ,(1/4)
" وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ " السماء هنا ليس المقصود بها السموات السبع المقصود به السحاب بالقرينة الموجودة وهو أن المطر ينزل من السحاب , " وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ " الباء هنا سببية أي فأخرج لك بسبب الماء من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعمون لما قال الله جل وعلا هذه البراهين الثلاثة التي تدل على قدرته وعلى ربوبيته وعلى أنه لا ريب غيره ولا إله سواه قال مطالباً عباده بقوله " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً " .
الند هو الشريك ـ المثيل ـ النظير ولا يوجد لله شريك ولا ند ولا مثيل ولا نظير" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " لذلك ما بني الدين إلا أنه لا يعبد إلا الله وما أرسلت الرسل وما أنزلت الكتب وما أُقيمت الموازين ولا نصبت البراهين إلا ليعبد الله وحده دون سواه من أجل هذا خلق الله جلا وعلا الخلق كلهم قال سبحانه في سورة الذاريات : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ " .
أكبر الكبائر(1/5)
** " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " قبل أن تتلوها لا تفهم أن " وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " هذه متعلقة " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً " لأنك إذا علقت " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " ونسيت أن هناك محذوف يصبح مفهوم الآية في ذهنك لا تجعل لله أنداداً وأنت تعلم كأنك تقول يجوز أن تجعل لله نداً وأنت لا تعلم , قطعاً ليس هذا المقصود لكن المعنى " ولا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس له أنداداً " فهناك مفعول به للفعل تعلمون حذف لدلالة المعنى عليه وهذا كثير في القرآن هناك مفعول به محذوف دل عليه المعنى أي لا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس لله جل وعلا نداً ولا شريك ولا نظير ولا ظهير ولا نصير ولا أي شيء من ذلك أبداً بل الله واحد أحد فرد صمد ليس له شريك ولا ند ولم يكن له كفواًً أحد " فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ " يفهم من هذا أن الشرك والعياذ بالله أعظم الكبائر وهو الذنب الذي لا يغفره الله أبدا والناس قد لا يكون الشريك الذي اتخذوه صنم يعبد ولا يعبد عزرائيل ولا المسيح ولا غيرهما مما عبده غيره في الجاهلية لكن قد يعبد المرء هواه وقد يعبد المرء شيء آخر لا حاجة للتفصيل وقد يعبد المرء شيء آخر بحيث يصبح هذا الشيء يتعلق به القلب حتى يصرفه عن طاعة الله جل وعلا فهذا قد جعل لله ندا سواء علم أو لم يعلم ولكن لا يقال بكفره كفراً أكبر لأن مسألة التكفير سيأتي الكلام عنها أمر يحتاج إلى تفصيل وإلى تأني وتبين ,
آيات التحدي(1/6)
ثم قال سبحانه " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ{24} " هذه الآيات تسمى في لغة القرآن آيات التحدي وهي أول آيات التحدي في القرآن حسب ترتيب المصحف وآيات التحدي في القرآن خمس , ومعنى آيات التحدي أن الله جلا وعلا تحدى العرب على فصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بمثل هذا القران وقلنا إن آيات التحدي في القرآن خمس هذه الآية من سورة البقرة وقوله الله جلا وعلا في آية 38من سورة يونس " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " و الآية 13من سورة هود وهي قوله جلا وعلا " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{13} "
و الآية 88 من سورة الإسراء قوله جلا وعلا " قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً{88} " والتحدي الخامس جاء في سورة الطور في الآيتين 33 و 34قال جلا وعلا " أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ{33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ{34} " اجتمع بهذا خمس آيات حسب ترتيب المصحف توالى بعضها بعضاً في تحدي كفار قريش .
لماذا التحدي ؟(1/7)
مسألة التحدي هذه نقول فيها أن العرب كانوا ليس لهم هماً ولا بضاعة إلا بضاعة الكلام نُصبت على ذلك أسواقهم وقامت على ذلك أنديتهم وكانوا أهل بلاغة وفصاحة وشعر وخطابة ليس لهم تباري و لا تنافس ولا نقد إلا في الشعر والخطابة على هذا قامت حياتهم فجاء نبينا صلى الله علية وسلم بالقرآن من عند ربه وهو يقول إن هذا القرآن من عند الله وهذا الكلام كلام الله فكذبوه قائلين إن هذا الكلام من عندك إن هذا إلا أساطير الأولين فلما كذبوه أخبره الله جلا وعلا إن كان هذا القرآن من عندي كما تقولون فأنا بشر مثلكم وعربي مثلكم وأنتم أهل فصاحة وأهل بلاغة فأتوا بمثله أن كنتم صادقين فاستفزهم الله أيما استفزاز وتحداهم أيما تحدٍ قال الله عنهم " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ " ثم قال " وَلَن تَفْعَلُواْ " ثم ساوهم بالحجارة فقال " فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " وأخبر أن وقودها الناس والحجارة كل ذلك ليلهب مشاعرهم ويوقظ الهمم فيهم حتى يتحدوا القرآن ومع ذلك أثبتوا عجزهم وأنهم غير قادرين على أن يأتوا لا بآية ولا بجزءْ من آية فضلاً عن سورة أو عشر سور أو عن القرآن كله فهذا معنى التحدي في الآيات , واختلف الناس لماذا لم يستطيع العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن ؟
- قيل لإعجاز في ذاته. هذا الذي لا ينبغي أن يقال في غيره.(1/8)
- قيل لمفهوم الصرفة، ومفهوم الصرفة مسألة بلاغية لا نحب أن نطيل فيها، ولكن نقولها على سرعة، قالها رجل معتزلي اسمه إبراهيم بن سيار النظام، قال: إن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لكن الله صرفهم لحكمة أرادها على أن يأتوا بمثله. وهذا قول باطل حتى مشايخ المعتزلة خالفوه على هذه المسألة، و إلا أجمع المسلمون على أن العرب عجزت على أنه تأتي بمثل هذا القرآن لنظمه لأمور عديدة لا تحصى، ومن أراد أن يرجع في مثل هذه المسألة، في كتاب اسمه ( النبأ العظيم ) لرجل عالم اسمه محمد عبد الله دراز من أئمة الدنيا له قدره بلاغية، لكنه مات قبل أن يكمل الكتاب، لكن الكتاب موجود يطبع ويباع كثيراً، اسم الكتاب: النبأ العظيم، وهذا الكتاب مزيته الكبرى أن الرجل أعطاه الله جل وعلا بلاغة وفصاحة عز نظيرها وقل مثليها فمن أراد أن يستزيد في البيان، والقدرة على الكتابة، والقدرة على الخطابة فليكثر من القراءة في هذا الكتاب، فهذا الكتاب ألهم الله جلا وعلا كاتبه قدرة بيانية يعجز الناس في هذا القرن أن يأتوا بمثلها , وله أسلوب غريب وعجيب في قضية أنه يتأسى بالقرآن كثيراً، فلما ذكر قضية الإعجاز مثلاً قال: نحفظ بعض كلامه.[أي كلام دراز ـ رحمه الله ـ ]
قال: فما كان جوابهم، إلا أن ركبوا متن الحتوف ، واستنطقوا السيوف بدل الحروف لما عجزوا عن الإتيان بالبرهان وهذا حيلة كل عاجز يعجز عن الدفاع عن نفسه بالقلم واللسان !!
إلى غير ذلك مما قال والمقصود نحن في مجلس علمي ندل على ما ينفع الناس، قلنا الكتاب اسمه النبأ العظيم، واسمه عبد الله دراز، وأحياناً يكتب محمد عبد الله دراز كما يفعل إخواننا المصريون، يضعون اسم محمد قبل أسمائهم من باب التبرك، نعود للآيات هذه أول ما دلت عليه الآيات.
معاني كلمة عبد في اللغة والشرع(1/9)
دلت الآيات أيضاً على صدق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم كما أن في قوله جلا وعلا " وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا " أن مقام العبودية أرفع مقام وأجل منزلة , وكلمة عبد تأتي في الشرع واللغة على ثلاثة معاني:
العبودية الأولى : عبد" بمعنى مقهور: وهذا يستوي فيه المؤمن والكافر.
كل الناس المؤمنون والكافرون عبيد لمن ؟
عبيد لله والدليل في سورة مريم : " إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً " . هذه عبودية مطلقة يستوي فيها المؤمن والكافر والملائكة والجن والإنس.
العبودية الثانية: وهي عبودية بالشرع، وهي ضد كلمة حر، قال الله جل وعلا في سورة البقرة " الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ " . هذا الذي يسترق في الجهاد ويؤخذ كأسير بصرف النظر عن لونه فيسمى عبد بالشرع.
العبودية الثالثة: عبد بالطاعة والإتباع: وينقسم إلى قسمين:
1 ـ طاعة لله، وهذا الذي يتنافس فيه عباد الله الصالحون.
2ـ عبد لغير الله أعاذنا الله وهذا بابه وساع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم )) ، أي: الذي يطيع هواه يطيع ديناره، يطيع درهمه وهذا مصيره الضلالة والخسران .
" وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين {23} فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُوا ْ" قمة الإعجاز لأنه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن ,اتقوا النار التي وقودها من الحجارة .
أما وقودها الناس: فمعروف.
وأما وقودها الحجارة للعلماء فيها قولان :
قوم قالوا: أن الحجارة هنا حجارة من كبريت في النار .
هذا عليه الأكثرون وهو فيما نرى أنه رأي مرجوح.(1/10)
وقوم قالوا: إن الحجارة هنا: هي الأصنام التي كانوا يعبدونها في الجاهلية فتقرن معهم في النار.وهذا هو الراجح إن شاء الله ودليله من القرآن في سورة الأنبياء " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " .
ثم قال جلا وعلا " فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " اتقوا النار بماذا :
بالإيمان والعمل الصالح .
قال العلماء: في قول الله جلا وعلا : أن النار أعدت للكافرين دليل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد .
من مات على لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وجاء بأركان الإيمان الست، فهذا لا يخلد في النار.
قال العلامة السفاريني وغيره : وتحقيق المقال أن خلود أهل التوحيد في النار محال .
فإن من مات من أهل التوحيد مهما عذب في النار على قدر ذنبه، مصيره أن يخرج منها لأن الله قال: " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " والموحد غير كافر. والله جل وعلا قال في سورة الليل " لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى{16}" فما دام كذب وتولى هذا كافر فمن لم يكذب ولم يتولى فيعذب في النار إن كان عاصياً، إن لم تدركه رحمة الله من قبل أمداً محدوداً، ثم يخرج منها إلى الجنة، أعاذنا الله وإياكم من النار على العموم.
ثم من أسلوب القرآن أنه يجمع ربنا ما بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد بعد أن ذكر أهل النار، قال جلا وعلا."وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{25} " .
هذه الآية فيها مبشّر وفيها مبشر وفيها مبشّر به وفيها سبب للبشارة.(1/11)
أما المبشِر: فهو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يقوم مقامه بعده من أمته في الدعوة إلى الدين من أمته.
وأما المبشَّر : فهم المؤمنون .
وأما المبشَّر به : فهي الجنات، على ما وصفها الله جلا وعلا.
وأما أسباب البشارة فهي الإيمان والعمل الصالح.
البشارة للمؤمنين/
" وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وهذه البشارة يا أخي، تأخذ طرائق تأخذ مسالك . ومن أعظمها أن الإنسان إذا وفق في الدنيا وهو حي يرى نفسه موفق للخيرات،
أول البشارة: أن توفق للإيمان والعمل الصالح.
وثاني البشارة أن تبشر بالجنة عند موتك على يد الملائكة .
وأما تحقيق البشارة : فيكون بعد الموت، وقلنا أن هذا جرى مجرى البشارات بعد أن ذكر الله جلا وعلا الترهيب، ذكر الترغيب.
أما التفصيل في الآية: " وَبَشِّر " أي يا نبينا : صلى الله عليه وسلم.
" وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ". وجاءت جنات مجرورة لأنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة. لأنه وقع اسماً للحرف الناسخ أن وأصل الكلام، أن جنات لهم.
ثم ذكر الله جلا وعلا وصف الجنات.
أنهار الجنة/
فقال في أول وصفها: " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ " لم يذكر الله جلا وعلا هنا ما هي الأنهار، وقلنا أن القرآن يفسر بالقرآن.
لكنه ذكر الأنهار في سورة محمد، وهي أنهار من ماء، وأنهار من لبن، أنهار من خمر وأنهار من عسل مصفى.
وتجري من تحتها الأنهار: أي أنهار الماء وأنهار اللبن وانهار الخمر وأنهار العسل.
ثم إنه جلا وعلا ذكر أن تجري من تحتها الأنهار أول صفاتها لأن القاعدة كلما كان الأمر ملتصقاً بذات الشيء كان تقديمه أولى بمعنى: الله قال بعدها: " كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ " ، يتكلم عن أهلها، لكن لما قال: " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ " يتكلم عن الجنة نفسها فقدم هذه الصفة لأنها متعلقة بالجنة، مثلاً تأخذها من باب العبارات .(1/12)
الطواف حول الكعبة عباده، وكلما أقترب الإنسان من الكعبة كان أولى، لكن عندما يأتي الإنسان، في طواف القدوم، وطواف القدوم من سننه الرمل، أن الإنسان يسرع في الخطوات، فإذا كلما اقترب الإنسان من الكعبة يفوت عليه أن يسرع، نقول هنا: ابتعد عن الكعبة، وآت بالإسراع خير من أن تقترب من الكعبة ولا تأتي بالإسراع، لماذا ؟
لأن الرمل من ذات العبادة، أما القرب من الكعبة ليس من ذات العبادة، أمر منفك عن العبادة .
إنسان قبل أن يسكن في هذا الحي، وأقيمت الصلاة، ثم حرك سيارته ليدرك الصلاة في الحرم، نقول إن إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في حيك أفضل من إدراك بعض الصلاة في الحرم.
لأنه إدراك تكبيرة الإحرام فضل يتعلق بذات الصلاة، لكن الصلاة في الحرم يتعلق بمكانها لا بذاتها، واضح،لا يتعلق بذاتها إنما يتعلق بمكانها، وكلما كان الفضل يتعلق بذات العبادة كان أكمل وأفضل وأولى.
لذلك الله جلا وعلا، قدم الأنهار على ذكر غيرها من الصفات لأن ذكر الأنهار يتعلق بذات الجنة، قال جلا وعلا : " تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ".
نحو ياً نقول : كلمة " كُلَّمَا " لا تتكرر كما هو مشهور ، الناس يقولون كلما أتيتني كلما أطمعتك هذا خطأ، يؤتي بـ كلَّما في أول الكلام ولا تكرر، كما قال الله: " كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ " . ولم يقل: كلما قالوا وأكمل، هذا ناحية نحوية .
ناحية المعنى : للعلماء في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
فريق يقولون: " قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ " . أي في الدنيا، لأنه قبل جاءت مضمومة منقطعة عند الإضافة فلم يذكر الله جلا وعلا المضاف إليه، فوجب إحرازه قدر الإمكان، هذا قول:(1/13)
فيصبح أن هؤلاء المؤمنين جعلنا الله وإياكم منهم يرون ثمار الجنة، فإذا رأوها قالوا: هذه الثمار تشبه الثمار التي كنا نأكلها في الدنيا هذا قول.
القول الثاني: أن الثمار إذا أخذوا منها تبدل غيرها، أن الثمار إذا قطفوا منها تبدل بغيرها، فإذا رأوا الثاني قالوا: هذا مثل الأول الذي قطفناه من قبل لتشابه ثمار الجنة، ما بين هذين يدور أكثر المفسرين،
لكننا نقول والله أعلم إن المعنى :أن أهل الجنة إذا قطفوا ثمرة في أول النهار تبدل بغيرها تشبهها في آخر النهار فإذا جاءوا يقطفونها - مثلاً لما تأتي لإنسان يأكل طعام متكرر، يقول بالعامية ما في جديد العشاء مثل الغداء مثل الفطور – فإذا جاءوا يقطفونها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل يعني هذا نفس طعام الصباح فإذا أكلوها وجدها تختلف عن الطعم الأول.
وأظن الشوكاني رحمه الله في الفتح القدير مال إلى هذا القول ولست متأكداً، ولكنه قول مذكور.
" وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا " ، واللام هنا للملكية، ولهم فيها أي في الجنة " أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ " ولم يقل الله مطهرة من ماذا.
لم يقل الله مطهره من ماذا ؟ لفائدة عظيمة، أنها مطهره من كل شيء مطهرون في خلقهم ومطهرون في أخلاقهم.
هؤلاء الأزواج أي النساء مطهرات في خلقهن و في أخلاقهن، في الخلق الخُلُق.
مطهرات من كل عيب ونقص لا يشينهن شيء , وأزواج مطهرة وهم فيها : ( أي في الجنة ). خالدون وهذا الخلود خلود أبدي لانقطاع منه أبداً دل عليه القرآن والسنة.(1/14)
أما ما دل عليه القرآن، فقد قال الله جل وعلا في أكثر من سورة " خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً " . وأما دلت عليه السنة في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار أوتي بالموت على صورة كبش أملح فينادي يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا، فيظرون فزعين خوفاً أن يقال لهم أخرجوا منها ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا، فيظرون فرحين علهم أن يقال لهم: أخرجوا منها.
فيقولون جميعاً: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، وينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، قالت عائشة: فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة فرحاً، ولو أن أحداً مات حسرة، لمات أهل النار، حسرة، وفي رواية البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا بعدها " وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{39} إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" . تحرر من هذا أن دخول الجنة أعظم الأماني وأجل الغايات وأن الإنسان ما يناله من نصب أو تعب أو جهد أو إنفاقه من ماله أو بدله أو وقته في سبيل تحقيق إيمان وعمل صالح، إذا دخل الجنة نسي كل بؤس وجده في الدنيا، وقد قيل للإمام أحمد متى يستريح المؤمن، قال: إذا خلف صراط جهنم وراء ظهره، وفي رواية أخرى أنه سئل فقال: إذا وضع قدمه في الجنة , والمقصود أن أهل الجنة لا يعبدون، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عنهم: لا يفنى شبابهم، و لا تبلى ثيابهم، والإنسان إذا أراد أن يقوم من الليل فأضجعته نفسه ودعته نفسه الأمارة بالسوء إلى أن يخلو إلى الفراش يتذكر يوم الحشر ويوم الحساب ويوم يقال لأهل الجنة: كلوا وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.(1/15)
يتذكر يوم أن يطرق النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الجنة، فينادي الخازن من أنت ؟ فيقول: أنا محمد، فيقال: أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها عليه الصلاة والسلام، ثم يدخلها بعده الأخيار والمؤمنين الأنقياء الأبرار من أمته.
يتذكر المؤمن وهو يرى ما يثبطه عند العمل الصالح ويدعوه إلى الشهوات، ويدعوه إلى أن يعصي الله جل وعلا، خروج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً بهماً أشد ما يكونون إلى ماء يروي ظمأهم، فإذا خرجوا وجدوا النبي عليه الصلاة والسلام على حوض يسمى : الحوض المورود، فيقبل عليه صلوات الله وسلامه عليه المؤمنون الأنقياء من أمته، فيردون من حوضه ويشربون من يده شربة لا يعطشونه بعدها أبداً.
إذا تذكر الإنسان حال أهل الجنة و ما فيها من نعيم وتذكر حال أهل النار عياذاً بالله وما فيها من جحيم، دعاه ذلك إلى زيادة الإيمان في قلبه والمسارعة في الخيرات والإتيان بعمل الصالحات، ولم تلقي الله جل وعلا بشيء أعظم من سريرة صالحة وإخلاص في قلب ومحبة للمؤمنين، وعدم بغض لهم لا في قلبك حسد ولا غل على مؤمن كائناً من كان ترى من ترى من أفضل الله عليه فتسأل الله من فضله ولا يخلوا إنسان من عثرة ولا من زلل ولا من خطأ، لكن المؤمن إذا آب إلى الله كفل الله جل وعلا به قال الله جل وعلا في نعت خليله إبراهيم في سورة التوبة " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ". وقال الله جل وعلا عنه في آية أخرى في سورة هود " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ " . أي: كثير الرجعة إلى الله، فكثرة التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله، مع الإيمان والعمل الصالح وهما مندرجتان فيه كل ذلك يهيئ للمؤمنين أن يدخل جنات النعيم، رزقنا الله وإياكم إياها بأمن وعفو وعافية منه، ثم قال جل وعلا:(1/16)
" إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " . لما ذكر الله جلا وعلا الأمثال السابقة عن المنافقين، استنكروا أن يضرب الله أمثالاً بهذا الوضع، فرد الله جل وعلا، عليهم بقوله: " إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " . شيء عظم أم شيء حقر ، لأنه العبرة بما ينجم عن المثل لا بعين المثل.
والناس في تلقيهم للمثل القرآني فريقان : قال الله : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ " . أي المثل : " الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ " . لأن قلوبهم مؤمنة تتلقى ما عند الله جل وعلا " وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ً" أسلوب التشكيك والظلمات التي في قلوبهم ، تبقى على ألسنتهم كما هي موغلة في قلوبهم.
ثم أخبر الله أن المثل كالقرآن يظل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً. وقد قلنا في الدرس الماضي أن القرآن كالمطر المعطي، لا ينبت في كل أرض ينزل عليها، وقال الله في سورة الإسراء : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ " . لمن ؟ " لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ً " . وقال في سورة فصلت : " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء " .
وذكر الذين كفروا فقال: " وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى " . كذلك الأمثال التي يضربها الله جل وعلا في القرآن ينتفع بها المؤمنون ولا ينتفع بها أهل الفسق والكفر والفجور.
" يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً " . ثم قال الله " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ " .(1/17)
معنى الفسق/
الفسق: يأتي على معنيين:
- يأتي بمعنى الكفر، ويكون مخرجاً من الملة ومنه قول الله جل وعلا في سورة السجدة " أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ " .
- ويأتي بمعنى الكبيرة أو العصيان الذي لا يخرج من الملة ومنه قول الله جل وعلا في سورة الحجرات " إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا " .
فهذا فسق لا يخرج من الملة، وأصل الفسق الخروج، فكل من خرج عن طاعة الله فهو فاسق والناس في هذا بلا شك درجات عدة.
" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ "
صفات الفاسقين /
ثم ذكر الله صفات الفاسقين، "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" وأعظم عهد لله توحيده والإيمان به.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ " والذي أمر الله به أن يوصل كثير، ولكن أعظمه صلة الرحم .
" وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ " . أي بالمعاصي وأنا قلت أجمل أحياناً في التفسير، لأن القرآن مثاني يعني يتكرر فأطنب في مجالات وأتوقف في مجالات عمداً حتى يأتي البيان في سورة ثانية.
" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ " .
ثم ذكر الله جل وعلا خطاباً موجهاً لأهل الكفر خاصة، على هيئة أسلوب استفهامي إنكاري توبيخي فقال سبحانه: " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
الموتتان والحياتان /
يتحرر من هذا كم موت ؟ موتان، وكم حياة ؟ حياتان.
الموت الأول: المقصود به العدم، قبل الخلق، قال الله تعالى في سورة الإنسان : " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً " .(1/18)
والحياة الأولى : هي نفخ الروح في الجنين في بطن أمة وهي الحياة التي نعيشها الآن .
والموت الثاني: مفارقة الروح الجسد.
والحياة الثانية: عودة الروح للجسد.
وهذا ينجم منه أن الروح لا تموت، وإنما موتها خروجها من الجسد.
والروح تخرج من الجسد، بعد أن تكون قد دخلت فيه، ودخول الروح إلى الجسد ليس وضعاً اختيارياً لها، فلا يوجد إنسان اختار جسده، ولا جسده اختار روحه، لكن ينجم مع الأيام تآلف ما بين الجسد والروح، فإذا جاء نزع الروح، يكون نزع الروح صعب على الإنسان لما وجد من تآلف ما بين الجسد والروح :
هبطت إليك من المحل الأرفعِ …ورقاء ذات تعزز وتمنعِ
هبطت على كره إليك وربما كرهت…فراقك وهي ذات توجُّعِ
يعني يصبيها تمنع وتوجع وعندما تريد أن تفارقك، هذا معنى قول الله في " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم ثم إليه ترجعون" .
والمقصود أن من كان وليي هذا وربه وهو القادر عليه وجب أن لا يكفر به، فمن كفر به استحق التوبيخ والإنكار.
الأصل في الأشياء الإباحة/
ثم قال الله جل وعلا " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا " هذه مسألة يقول عنها الأصوليون دلت على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة،و أكدها الله جلا وعلا بقوله "جميعا ً" فالمخلوقات الأصل فيها الطهارة والإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو على حرمته.
فالناقل عن الأصل وهذه المسألة أصولية هو الذي يحتاج إلى دليل .
فالأصل في البيوع مثلاً الحل، قال الله جل وعلا : " وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ " . فمن جاء قال هات دليل على أن هذا البيع حلال، نحن لا نحتاج إلى دليل أنت إن قلت إنه حرام تحتاج إلى دليل، والعبادات الأصل فيها المنع إلا ما دل الدليل على شرعيته، قال الله تعالى في سورة الشورى : " أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ " .(1/19)
" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
معنى ((استوى))/
نأتي في الفعل استوى لأنه هذا المسألة تحتاج كطالب علم إلى تحريرها، اسمع يا أخي: العرب تقول هناك فعل لازم وفعل متعدي .
يعني على مهل: تقول: أكل الرجل الطعام.
يقولون: هذا أكل فعل، والرجل فاعل، هذا الفعل أكل تعداه إلى مفعول به الذي هو ماذا ؟ الطعام.
- المتعدي، يقولون هذا المتعدي يتعدى بأحد طريقين:
إما أن يتعدى مباشرة، مثل: أكل الرجل الطعام. وإما أن يتعدى بحرف جر، تقول جلس الرجل على الكرسي. جلس ، فعل، والرجل: فاعل: وعلى الكرسي: جار ومجرور، تعدي بها الفعل ما هو ؟ جلس... جار ومجرور.
أما الفعل استوى، جاء في القرآن على ثلاثة أحوال: جاء لازماً غير متعدي، وجاء متعدياً بحرف الجر على. وجاء متعدي بحرف الجر إلى .
وفي كلا الثلاثة أحوال، في كل حال له معنى ، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى في سورة القصص : " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى " . هل بعد استوى شيء ؟ ما في شيء.
إذا جاءت استوى وليس بعدها شيء معناه: الكمال والتمام.
أي: موسى هنا تمت وكمل عقله ورجولته. هذا إذا لم يتعدى بشيء،
بقينا في الحالة الثانية التي تنقسم إلى قسمين، إذا تعدى بحرف، قال الله جل وعلا في سبع مواضع من القرآن " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " . فتعدى بحرف الجر على . إذا تعدى بحرف الجر على يصبح معناه العلو والارتفاع ، " لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ " إذا تعدى بحرف الجر إلى يصبح معناه القصد يعني قصد من شيء إلى شيء آخر، وهو الذي بين أيدينا .
قال الله جل وعلا " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء " . حتى تفهم الآية جيداً.(1/20)
خلق الله الأرض قبل السماء .
خلق الأرض في يومين ، ثم قبل أن يتمها جل وعلا وهو القادر قصد السماء ، فخلقها في يومين ، " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ " .
فخلق الأرض في يومين، بعد أن خلق الأرض في يومين عاد جل وعلا وهو القادر على كل شيء فأكمل خلق الأرض ، فأصبح خلقت السموات والأرض جملة في كم يوم ؟ في ستة أيام، لكن السماء خلقت في يومين والأرض في أربعة أيام.
بدأ الله بالأرض خلقها في يومين، ثم استوى إلى السماء أي قصد السماء، تعدى بحرف الجر إلى ، ثم لما أكمل خلق السماء عاد جل وعلا وأكمل خلق الأرض ولذلك قال جل وعلا في سورة النازعات " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا " . ولم يقل والأرض بعد ذلك خلقها، لأن خلقها تم من قبل، لكن تركها جل وعلا غير منتهية لحكمة أرادها ثم أكمل خلقها.
نقول: يتحرر من الآية أن استوى فعل يأتي على ثلاث صيغ يأتي غير متعد فيصبح، معناه الكمال والتمام.
ويأتي متعدي بحرف الجر على، فيصبح معناه العلو والارتفاع.
ويأتي متعدياً بحرف الجر إلى ، فيصبح معناه القصد، وهذا المقصود به في الآية هنا.
السماوات السبع /
" ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " . ذكر الله في القرآن أن السموات سبع، ولم يذكرا في القرآن نصاً صريحاً كلمة سبع أراضين ، لكنها جاءت في السنة ، ودل عليها القرآن.
دل عليها القرآن، في سورة الطلاق، لما قال الله تعالى في آخر الآية " وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ " .
وجاءت به السنة أن من اغتصب شبراً طوق من سبع أراضين، ولا يوجد جواب شافيٍ لماذا لم يذكر الله كلمة سبع أراضين في القرآن فيما نعلم.(1/21)
هذه السموات السبع بعضها فوق بعض أدنى سماء إلينا، تسمى السماء الدنيا، وأعلى سماء تسمى السماء السابعة، ولكل سماء خزنة وأبواب وسكان , أما الأبواب فإن الله يقول في سورة الأعراف " لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء " , وأما السكان فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( أطت السماء وحق لها أن تئط والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ) , وأما خزنتها فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج أن جبريل كان يستفتح فيسأله الخزنة من أنت فيقول أنا جبريل ومعي محمد وهؤلاء القائمون على شؤون السماوات . هذه السماوات تفتح لأقوام وتسد في وجه أقوام , تفتح للإيمان والعمل الصالح و الدعوات الصالحات ودعوة المظلوم هذه كلها تفتح لها أبواب السماء قال الله جل وعلا في سورة فاطر " إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " .
وتسد عياذاً بالله في وجه أرواح أهل الكفر وأهل الفسق " لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء " وتسد في وجه الأعمال التي يخل الإنسان فيها كمن ضيع الصلاة أو فرط فيها وفي الدعوات كقطيعة الرحم والبغي وفي كل ما نهى الله عنه لا تفتح لهم أبواب السماء فتح الله لنا ولكم أبواب السماء .
ثم قال جل وعلا " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " الباء هنا للإلصاق , وعليم اسم من أسمائه الحسنى . هذا ما تيسر إيراده والفضل لله في أوله و آخره .سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(1/22)
تأملا ت في سورة البقرة
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له , خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى , وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهاجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
قال الله تعالى في سورة البقرة : " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " .
هذه الآية جاءت بعد قول الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم " تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ " فناسب الله بعد أن ذكر المرسلين في ختام الجزء الثاني أن يبدأ بالرسل , وقال الله تلك ولم يقل هؤلاء كما قال في أول القرآن " ذَلِكَ الْكِتَابُ " بياناً لعلو قدرهم ورفيع مكانتهم وجليل منازلهم , أشار الله جلا وعلا إليهم بقول " تِلْكَ الرُّسُلُ " جم غفير أخبر الله نبيه أنهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً أرسلهم الله جلا وعلا .
يتنزل على الآية التي ذكرناها مسائل عدة أولها :.
الفرق بين الرسول والنبي:
أكثر المصنفين في كتب العقيدة وغيرها يقول : أن النبي والرسول بينهما فرق , فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول , ويقولن أن الفرق :(2/1)
أن الرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه والنبي من أوحي إلية وحي ولم يؤمر بتبليغه , قلنا هذا علية أكثر من صنف لكنه خلاف الحق خلاف الصحيح لأن الله عز وجل أعز وأجل من أن يوحي إلى عبدٍ علماً ويكون هذا العبد سرير الكتمان في صدر ذلك الرجل يموت بموته ولا يؤمر ببلاغة وهذا أمر يتنافى مع الشرع , إذن نقول :
إن هذا التعريف غير مستقيم ولابد من تعريف مستقيم , فنقول :
إن الرسول من أوحي إليه شرع جديد و أما النبي من بعث على تقرير شرع من قبلة. حتى يتضح المثال :
موسى وعيس عليهم السلام , موسى جاء بالتوراة وجاء بعده أنبياء لا يسمون رسل لأنهم كانوا يحتكمون إلى التوراة فهم أنبياء وليسوا رسل , وعيسى عليه السلام لما جاء بالإنجيل خرج عن كونه نبي إلى كونه نبي رسول لأن الإنجيل فيه شريعة غير الشريعة التي جاء بها موسى عن ربه والمدونة في التوراة مع اتفاقهم عليهم الصلاة والسلام أجمعون على أنهم كلهم بعثوا بالتوحيد وباتفاقهم على البعث والنشور واليوم الآخر , فهذا اتفقت علية كلمة النبيين اتفقوا جميعاً أنهم جاءوا بدين واحد و إنما الإختلاف كان اختلافاً في الشرائع فإذا جاء نبي وقرر شرع الذي قبلة فهذا نبي وإذا جاء رسول وجاء بشرع جديد فهذا رسول هذه المسألة الأولى في الفرق بين النبي والرسول.
الرسل بشر لكنهم تميزوا عن البشر بخصائص منها :(2/2)
أولها وأعظمها : الوحي , وثانيها أنهم يخيرون عند الموت وثالثها أنهم يدفنون حيث يموتون , ولذلك النبي كان يخير وسمعته عائشة وهو يقول : " بل الرفيق الأعلى " لأنه كان يخير ودفن في نفس موطن موته في حجرة عائشة كما هو الظاهر اليوم لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون , و رابعها أن الأنبياء لا تأكل الأرض أجسامهم قالوا يا رسول الله كيف نصل عليك وقد أرمت قال إن الله أوحي إلى الأرض أن لا تأكل أجساد الأنبياء فالأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم . الخصيصة الخامسة أنهم أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بها , وقد مر الرسول صلى الله علية وسلم بموسى وهو يصلى في قبره كما أخبر بذلك صلوات الله وسلامه علية .
قال الله في الآية " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " هذا قول الله فضلنا بعضهم آية محكمة صريحة واضحة أن التفضيل قائم بين من؟ بين الأنبياء لكنه ثبت عن نيبنا صلى الله علية وسلم في الصحيحين عن حديث أبي سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهم وغيرهم أنه قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء" وقال عليه السلام " لا تخيروا بين الأنبياء " إذن يوجد ما يسمى بالنطاق العلمي (( إشكال )) لابد من حل ذلك الإشكال , قلنا الإشكال ما بين منصوص الآية وأن الله يقول " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وبين منطوق الحديث " لا تخيروا بين الأنبياء " أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا بأجوبة من أشهرها أن هذا كان قبل أن يعلم علية السلام أنه قال ذلك القول قبل أن يعلم بأن هناك تفاضل وهذا أضعف الأقوال في حل الإشكال أنه قال هذا الحديث قبل أن تنزل عليه الآية وقلنا هذا أضعف الأقوال في حل الإشكال .(2/3)
القول الثاني : قال بعض العلماء انه التفاضل يكون ممنوعاً في حالة أن يكون معتمداً على عصبة وحمية أن يأتي كل مسلم يناصر الرسول الذي من الأمة التي هم منها وينتسب إليها عرقاً أو غير ذلك قالوا إذا كان التفاضل مبنياً على حمية وعصبية هذا ممنوع ويجوز فيما سواء ذلك وهذا القول مال إليه كثير من العلماء وعندما نقول كثير غير كلمة أكثر عندما نقول كثير لا يعني الغلبة لكن قال عدد غير محدود من العلماء أما الأكثر فإننا نوازي بين الطرفين .
القول الثالث : ممن أجاب هذا من العلماء الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان قال أن حل الإشكال أن يقال أن الأنبياء يتساوون في أصل النبوة ويكون التفاضل في الأعطية التي خص الله بها بعضهم على بعض .
والقول الرابع : قول ابن عطية رحمة الله كما نقله عن القرطبي وهو الآن موجود ومطبوع وهو أصوب الآراء فيما نعتقد أنه قال رحمه الله أن التفاضل يكون ممنوعاً إذا كان مخصوصاً بين نبياً بعينه ونبي آخر , ويكون مخصوصا يعني بين نبي ونبي , تقول موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم وموسى ونوح قال هذا ممنوع لأن هذا يورث شيئاً في الصدور ولكن أن تبين فضل الله على نبي بخلاف ما علية غيره من الأنبياء هذا هو الذي أراده الله في قوله : " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وإلى هذا الرأي نميل والله تعالى أعلم , هذا أجوبة العلماء تبين الإشكال القائم بين الآية وبين قول النبي " لا تفضلوا.." و في رواية كما في الصحيحين "لا تخيروا بين الأنبياء" قال الله " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ " منهم عائدة على من؟ عائدة على الرسل , من كلم الله إذا أطلق التكليم ينصرف إلى موسى عليه السلام لأن الله قال له في سورة الأعراف : " قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ " .(2/4)
وقال الله جلا وعلا في سورة النساء " وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً " لكن الذين كُُلموا أكثر من واحد , الثابت منهم ثلاثة ( آدم علية السلام ؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بسند صحيح أنه سُئل عن آدم أنبي هو قال " نعم نبي مكلَّم " ) وهذا نص في المسألة نفسها سُئل عن آدم فقال نبي مكلم ( وموسى بنص القرآن) و (محمد في ليلة الإسراء والمعراج) فهؤلاء الثلاثة منصوص على أن الله كلمهم , والتكليم من أرفع المنازل وأجل العطايا و أسخى الهبات من الرب جل وعلا :
" مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ " , فإن الله رفع الأنبياء وميز بعضهم على بعض , كلم موسى وقال في إدريس في سورة مريم : " وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً " وأعطى داود الزبور وكان نديَّ الصوت به , وجعل نوح أول الرسل إلى الأرض وجعل إبراهيم خليلا , فكل منهم صلوات الله وسلامه عليهم وهبه الله جل وعلا مزية أو فضيلة مع الاتفاق على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء جميعاً بل أفضل الخلق كلهم جناً وإنساً صلوات الله وسلامة علية .(2/5)
يتحرر من المسألة أن أفضل الأنبياء جملة أُلوا العزم , قال تعالى في سورة الأحقاف : " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ " وأُلوا العزم هم خمسة قال أكثر العلماء على أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ورَتَّبتُهم حسب ظهورهم حسب أزمنتهم , هؤلاء قال الله عنهم في سورة الأحزاب : " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " , فهذا النص على أنهم أُلوا العزم وأنهم أرفع الأنبياء مقاماً , أهل السنة متفقون على أن الأنبياء جملة أفضل البشر وأنه لا يوجد أحد من البشر أبو بكر فمن دونه لا يرقى أبداً إلى أي نبي من الأنبياء فالنبوة منزلة لا تعدلها منزلة ولا يعدلها شئ , ذهب الشيعة الأمامية إلى أن أئمتهم أفضل من الرسل بخلاف أُلوا العزم من الرسل على قول وعلى قول آخر أنهم أفضل من أُلوا العزم بخلاف نبينا محمد وهذا نقوله من باب العلم وإلا هو قول باطل بلا شك ولا يحتاج إلى دليل لنقضه لأن النبوة مسألة منتهية ثابتة بالكتاب و السنة وأما الإمامة التي يزعمون فلم تثبت بالكتاب ولا بالسنة قال الله : " فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " ذكر عيسى بعد الأنبياء عموماً يسمى ( ذكر خاص بعد عام ) لأن عيسى ابن مريم يندرج في الأولين يندرج في قوله تعالى " تِلْكَ الرُّسُلُ " لكن الله خصه بالذكر هنا لحكمة هي أن أهل الكتاب ( اليهود،النصارى)اختلفوا فيه ما بين إفراط وتفريط , فالنصارى بالغوا فيه حتى جعلوه إلهاً مع الله , واليهود ذموه حتى حاولوا قتله وكلا الفريقين أخطأ السبيل ولذلك حدد الله جل وعلا ذكره هنا قال سبحانه " وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ " و(2/6)
البينات جمع بينه وهي الأمارة والدلالة والبرهان والوضوح وقد منَّ الله على عيسى بعدت بينات منها انه تكلم في المهد وأنه يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراَ بإذن الله هذا بعض ما من الله به على عيسى .
" وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ " جمهور العلماء على أن روح القدس المقصود به هنا هو جبرائيل ويؤيده من السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم " اهجوهم وروح القدس معك " أي جبرائيل وذهب بعض العلماء كابن السعدي رحمة الله في تفسيره إلى أن المقصود بروح القدس الإيمان واليقين في قلب عيسى عليه السلام .
ثم قال " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ " الأنبياء لما جاءوا أتوا بالحق فطبيعي أن يختصم الناس فيما جاء به الأنبياء فلما اختصم كل قوم فيما جاء به النبي انقسموا إلى فريقين مؤمن وكافر, كونهم مختلفين يولد بينهم الحرب الاقتتال والحرب فلما جاء الأنبياء والرسل بالعلم من الله بالوحي بالتوحيد بالإسلام أثار ذلك الناس فانقسموا إلى فريقين سواء كانوا قلة أم كثره هذان الفريقان أصبح بينهم اقتتال لعلة الاختلاف ثم أخبر الله جل وعلا أن منهم فريقان منهم من آمن ومنهم من كفر ثم أراد الله أن يبين أن السبب قد يوجد أحياناً ولا يعمل حتى لا تنصرف أذهان الناس أن السبب قد ينفع أحياناً ويضر من غير الله .(2/7)
قال الله بعدها " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " هذا التكرار فهمه بعضهم أنه توكيد وقد نتسامح ونقول أنه توكيد لكنه ليس توكيد لمجرد التكرار وإنما المقصود من الآية البيان التالي: الله أخبر أن وجود الإختلاف سبب للقتال ثم كرر وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا ليبين انه قد يوجد خلاف ولكنه لا يوجد قتال بإذن من الله بمعنى أن الله يلغي السبب تماماً مثل النار جعلها الله سبحانه للإحراق وقد يدخل إنسان النار ويخرج منها كما حصل لإبراهيم دون أن تؤثر فيه لأن الله لم يرد للنار أن تعمل . أبو مسلم الخولاني تابعي أدرك عمر رضي الله عنه لما ظهر الأسود العنسي في اليمن أمر بنار ليحرق أبو مسلم وهو رجل تابعي من أهل اليمن فأدخله في النار فخرج منها أبو مسلم دون أن يصيبه أي شيء , الأصل أن النار سبب للحرق لكن من الذي جعلها لا تعمل وعطل سببها الرب سبحانه ولذلك كرر الله قوله " وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " فنحن كمؤمنين نأخذ بالأسباب وبعلمنا أن الذي بيده كل شيء هو الله فنحن وإن أخذنا بها أخذنا بها لأننا مأمورون أن نسلكها لكننا متفقون على أنها لا تضر ولا تنفع إلا بيد الله , سبحانه وتعالى وقد يسقي إنساناً زرعاً فيحصده غيره وقد يجمع إنساناً المال ليأكله فيموت ويأكله غيره وهذا أمر كل عاقل يدركه ليلاً ونهاراً بكرةً وعشياً فيما يراه وينظر إليه , وأنا قلت مراراً إن هارون الرشيد الخليفة العباسي أوكل الخلافة من بعده لابنه الأمين والمأمون وثالثاً آخر منهم وترك المعتصم , وكان له أكثر من أربعة عشراً ابناً , وكان المعتصم في العدد الأخير من أبنائه أي في الثامن أو التاسع ثم أخذ الوثيقة و علقها على الكعبة أخذ فيها العهد من العلماء والمسلمين على أن الخلافة من بعده لابنه الأمين ثم المأمون ثم الثالث وحجبها عن المعتصم لأن أمه لم تكن عربيه(2/8)
فشاء الله أن يموت الأمين والمأمون يقتتلان فيقتل المأمون الأمين على يد طاهر الخزاعي ثم يرث المأمون الخلافة ويموت الثالث في خلافة أخيه المأمون ثم يطول المأمون قليلاً يموت مابين المأمون والمعتصم ثم في ذروة مجده يموت المأمون ثم تأتي الخلافة منقادة إلى المعتصم بخلاف ما أراد والده ولم يأتي بعد ذلك خليفة عباسي إلا وهو من ظهر المعتصم ولم يبقى للأمين والمأمون ولا غيرهم أبناء ولا أحفاد يتولون الحكم انصبت كلها في المعتصم , فأنت تريد وهذا يريد والله يفعل ما يريد , العاقل لا يعطل الأخذ بالأسباب لكنه يتوكل على الملك الغلاب وهذه أمور تجري بقدر الله والله جلا وعلا الملك ملكه والأمر أمره يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد .
ثم قال سبحانه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ " .
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " يسميه العلماء نداء كرامه لأن الله تعالى نعت فيه عباده بوصف , ونعت الإيمان أحبُ وصف ونعت إلى قلوبهم , ثم طالبهم بالإنفاق وجعله مبهماً لأن المقصود منه الإنفاق الفرضي والإنفاق النفل على الصحيح مجرد إنفاق إن كان قرضاً أو كان نفلاً هذه تفسره السنة يعتبر في كتب الفقهاء , لكن الله بين هنا سبب الإنفاق وأن الإنسان ينفق في الدنيا حتى يهون عليه الموقف يوم القيامة .
قال سبحانه " مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ " وسنبين لماذا قال الله البيع والخلة والشفاعة وقلنا دائماً ضرب الأمثال من الواقع يقرب , لو أن إنسان إي إنسان عليه ذمه عليه حق يريد أن يسدده لغيره هذا الحق حتى تتخلص منه لن تتخلص منه إلا بأحد طرائق ثلاث :(2/9)
الطريقة الأولى : أن تشتريه _تدفع ثمن_ وينتهي الحق مثلاً عليك ألف ريال من فلان صدمت سيارته فإما أن تبيع شيءً أو تشتري منه هذا كم تقدر العطل يقول بألف تعطيه ألف ريال وتنتهي القضية
الطريقة الثانية : تعجز أنت عن الألف فتعمد إلى صديق يعينك على دفع الألف _صديق أو قريب أو أي إنسان آخر _ .
الطريقة الثالثة : لا تجد أحد يُدينك أو يعطيك ولكن تعرف شخص ذو وجاهه يعرف هذا الرجل يذهب إليه كشفيع يتشفع عند هذا أن يتنازل عن الحق ولا يوجد حل ثالث .
هذه الثلاثة كلها منتفية يوم القيامة أنت لا تستطيع أن تشتري ذنوبك بأي ثمن ولا تستطيعُ أن تذهب إلى أحد ليحملها عنك ولا يوجد شفيع ذو وجاهه من غير الله يستطيع أن يشفع يومئذ إلا ما أذن الله جل وعلا أن يشفع لذلك قال الله " البَيْعٌ " يفسر بالشراء وقال "الخُلَّة" وهي الصداقة و المعرفة وقال "الشَفَاعَةٌ " وهي الوجاهة وكلها منتفية إلا الشفاعة المثبتة شرعاً وسيأتي بيانها .
" لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" لأنهم عدلوا مع الله غيره وهذا من أعظم الظلم .
ثم ذكر الله الآية الشهيرة المعروفة بـ (( آية الكرسي )) وهي أعظم آية في كتاب الله ثبت عنه عليه السلام أنه سأل أُبي ابن كعب الصحابي المعروف قال " يا أبي أي آية في كتاب الله أعظم فقال أُبي الله لا إله ألا هو الحي القيوم " فضرب الرسول على صدر أُبي بن كعب وقال " ليهنك العلم يا أبا المنذر "
يتحرر من الحديث أن آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله وهذا لا خلاف فيه بين العلماء , يتحرر من الآية نفسها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما رواه ابن حبان بسند صحيح "أن من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" هذا ما جاء في فضلها أما في معناها فإنا نقول على هيئة نقاط حتى لا نطيل :(2/10)
صدرها الله بلفظ الجلالة " الله " وهو علم على الرب سبحانه وتعالى ولم يطلق على غيره , ثم نعت الله سبحانه وتعالى نفسه باسمين من أعظم أسمائه وهي قوله جل وعلا " الحي القيوم " والحي القيوم قال أهل العلم كل أسماء الله الحسنى مردها إلى معنى هذين الاسمين و يقال أن معنى الحي أن حياة الله جلا وعلا حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال حياة الله حياة تامة كاملة , ومعنى القيوم أنه جلا وعلا مستغن عن كل أحد وكل أحد مفتقر إليه , فلا قوام لأحد إلا بالله , والله جلا وعلا غني كل الغنى عن جميع خلقة " اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ " .
ثم قال سبحانه " لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ " بما أن الله جلا وعلا قائم على كل أحد فإن من كمال قيموميته على كل أحد أنه لا تأخذه سنه ولا يأخذه نوم قال صلى الله علية وسلم "أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام بيده القسط يخفضه ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه منتهى إليه بصره من خلقة" فكل من يخطر ببالك فالله غير ذلك " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " .
" لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ " اللام هنا لام الملكية المطلقة وقد قلنا أن هناك ملك حقيقي وملك صوري هذه اللام لام الملكية أي جميع من في السموات ومن الأرض عبيد مقهورون للرب تبارك وتعالى .
" مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ " هذا استفهام إنكاري أي لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعلم مابين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء .(2/11)
العلوم أربعة : علم ماضي وعلم حاضر وعلم مستقبل وعلم لم يكن كيف يتصور كونه . وهذه الأربعة كلهن يعلمهن الله تعالى قال تعالى في هذه الآية " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ " يشمل كل شيء يشمل كل علم , أما العلم الرابع قلنا يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فيدل عليه قول الله تعالى " لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً " الله يتكلم عن المنافقين أن هؤلاء المنافقين لو خرجوا مع المسلمين ما زادوهم إلا خبالا مع أن المنافقين لم يخرجوا لكن الله أخبر لو كان منهم خروج كيف سيكون الوضع وقال الله عن أهل النار في سورة الأنعام " وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " ومعلوم أن أهل النار لن يخرجوا من النار ولن يعود إلى الدنيا , لكن الله يخبر حتى لو عادوا على أي حال سيتصرفون وهذا معنى قولنا أن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون .
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء " كل من لديه علم فالذي علمه هو الله ولا يمكن لأحد أن يأتي بعلم لم يشاء الله له أن يعلمه(2/12)
" وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً " فإذاً أول طرائق طلب العلم ما هو ؟ أن تطلبها ممن ؟ من الله لا يأتي العلم بمداد ولا بصحيفة ولا بالتتلمذ ولا بأي شيء أكثر مما يأتي بالاستعانة بالرب عز وجل فمن أخلص لله النية واستعان بربه على الوجه الأتم علمه الله جل وعلا وساق إليه العلم ماء زُلالا ومن والعياذ بالله ساءت نيته أو اعتمد على قلم ومحبرة وصحيفة ومداداٍ وزيدٍ وعمرٍ وشريط وشيخ اعتماداً كلياً واغفل جانب الاعتماد على الله لم ينل من العلم إلا بقدر ما يريده الله جلا وعلا فمن قرة عينه بالله قرة به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات أعاذنا الله و إياكم من ذلك .(2/13)
" يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " اختلف في معنى الكرسي فقيل أنه العرش وهذا بعيد وهو قول الحسن البصري , وقيل أنه موضع القدمين للرب عز وجل وهذا فيه حديث صححه بعض العلماء , وقيل أن الكرسي معناه العلم معنى الكرسي أي العلم وسع كرسيه السموات والأرض يصبح معنى الآية وسع علمه السموات والأرض وهذا المشهور عن ابن عباس واختاره الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله في تفسيره , وبعض العلماء يقولون أن الكرسي شيء ولا يقتحم لجج معرفة معنى الكرسي , الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان تجاوز الآية والعلامة ابن السعدي لم يعرج عليها تعريجاً يبين فيه معنى الكرسي , وابن جرير كما قلت اختار طريق ابن عباس انه العلم , وبعض العلماء كابن كثير وغير مال إلى تصحيح الحديث وقال أن الكرسي موضع القدمين للرب عز وجل وقال بعض العلماء منسوب إلى أبو هريرة أنه موضع أمام الرب عز وجل وقيل غير ذلك وهذا مجمل ما تبناه أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم .
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ " الذي نريد أن نبينه أن الكرسي شيء عظيم وعظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق وهذا هو الأمر المهم عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق .
تأمل في نبات الأرض و انضر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات على ورق هو الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ " أي لا يعجزه ولا يثقل عليه حفظهما .
" الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " العلي العظيم اسمان من أسماء الله الحسنى , الله جلا وعلا علي في ذاته وعلي في مكانه وعلي بقهره لسائر خلقه وله العلو من الوجوه جميعها بالجر توكيد الوجود .(2/14)
" وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ " هذه آية الكرسي على وجه الإجمال وهي من أعظم آيات كتاب الله كما صح الخبر وبينا عن الرسول صلى الله علية وسلم , لا أظن مسلم يخلوا من انه يحفظها , تحفظ للأبناء للأمهات الكبار التي لا يقرأن ولا يكتبن ينبهن على أنها تقرأ كل دبر صلاه حتى ندخل في قوله صلى الله علية وسلم: " من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاه لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت " جاء في الصحيح عن أحاديث أبي هريرة عند البخاري وغيره " أنها حفظاً وحرزاً من الشيطان" يقرأها المؤمن صباحاً ومساءً غدواً ورواحاً فهي من أعظم آيات كتاب الله المبين .
ثم قال سبحانه : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "(2/15)
العقائد والشيء القلبي لا يأتي بالقوة أنت الآن تريد أن تجبر إنسان على أن يأكل تستطيع من خلال الضرب أن يأكل أو تريد أن تسقيه شيء لا يريد أن يشربه , بالعقاب تستطيع أن تجعله يشرب لكن الشيء القلبي لا يمكن أن يأتي بالإكراه لأنك لا تدري هل وقع في قلبه أو لم يقع , مثل معلم يأتي بعصا يجبر طلابه أن يحبوه حتى لو قال أحد الطلاب: أنا أحبك لا يستطيع أن يتبين هذا لأن هذا شيء قلبي فلا يمكن الإكراه في المسألة القلبية حتى لو أن الإنسان يتظاهر أمامك أنه يفعلها قد لا يفعلها فالله يقول" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ " , العقائد ما تأتي بالإكراه ومن معنى الآية كذلك أن دين الإسلام دين فطره لا يحتاج أن يُكره الناس عليه , وما يحصل في بغداد أعظم شاهد كانت بغداد تحت رهينة الحكم البعثي وعقائدهم الكافرة , ثم جاء الأمريكان وهم أسوأ حالاً بعقائدهم الضالة وتجبرهم على المسلمين فلما لم يستطع أهل بغداد أن يتكلموا أمام حاكمهم الأول جاء هؤلاء المغفلون وأعطوهم الحرية , خرج الناس بعد صلاة الجمعة يطلبون الإسلام وهذا الذي لا إكراه فيه والفطر لا تريد إلا الإسلام , وكم من بلد عربي مقهور تحت سلطانه يمنع فيه كثيراً من الطاعات لو قُدر لشعوبه أن تتكلم لطالبوا بالإسلام , فالإسلام دين الفطرة ولذلك موسى وإخوانه من النبيين عليهم السلام كانوا يقولون لفرعون وأمثاله نحن لا نريدك أن تسلم ولكن خلي بيننا وبين الناس نحن إذا دعونا الناس واثقون أنهم سيدخلون في الإسلام , موسى عليه السلام يقول في سورة الدخان " أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ " ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يحارب أبو جهل وأمثاله لأنهم كفار وحتى اليهود كانوا هنا كفار لكن حاربهم لأنهم كانوا يمنعونه أن يبلغ رسالة ربه وإلا لو حال هؤلاء الطغاة المعاندون في كل زمان ومكان مهما تلبسوا لو حاولوا وتركوا أن يكون حائلاً بين الدعاة و بين لناس(2/16)
لآمن الناس وقبل الناس دين الله جلا وعلا ولكن الطغاة والمعاندون والكفرة والظلمة وعلى اختلاف منازلهم في كل عصر يحولون بين العلماء والدعاة وبين عباد الله فتصبح الدعوة مخنوقة فلا يهتدي الناس لأن فيه حائل بينه وبين الدعوة , وبلادنا مثلاً أمثل شاهد على النقيض لما لم يوجد منع للدعوة كما في هذا الدرس مثلاً يأتي الناس طواعية وكراهيةً , لماذا لا توجد مثلاً في تونس وغيرها من الدول العربية لا لأننا أحسن منهم لكن لأن الناس حيل بينهم وبين دعوة ربهم جل وعلا وإلا لو تُرك الناس على حالهم لما ابتغوا غير صراط الله والله يقول " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ " , الرشد الإيمان , والغي هو الكفر والباطل , وقال بعض العلماء كما نُقل عن الشعبي أن تفسير الآية مخصوص بالنصارى واليهود أهل الكتاب والمعنى أنهم لا يكرهون على الدين إذا دفعوا الجزية لكن الأول اشمل واظهر والله تعالى أعلم ثم قال سبحانه" قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ " العروة الوثقى قيل معناها لا إله إلا الله وقيل الإسلام ولا تعارض بينهما , الطاغوت كل ضال يدعو إلى غير دين الله كل ما عُبد برضاه من غير الله .
والإيمان بالله واضح فمن كفر بالطاغوت وآمن بالله يخبر الله أنه استمسك بالعروة الوثقى المؤدية إلى جنات النعيم التي هي مطلب كل مؤمن ,(2/17)
ثم قال الله بعد ذلك : " لاَ انفِصَامَ لَهَا " يا أُخي فيه فصم وفيه قصم , الفرق بين الفصم والقصم كلاهما يعني النزع ولكن الفرق يمثل بشيء محسوس لو أخرجنا هذه الحديدة بالكلية من هذا فهذا يسمى قصم لأنها بانت بالكلية لكن لو أخرجناها وبقي شيء يسير منها معلق بالأصل يسمى انفصام فالشيء إذا بان عن أصله لكنه بقي متعلقاً بخيط ولو رفيع بالأول يسمى انفصام فإذا قضمته بالكلية وصار بينونة منتهية يسمى فصم فالله يقول إن الذي يفعل هذا استمسك بالعروة الوثقى دون انفصام فإذا نفي الانفصام من باب أولى أن ينفى القصم بالكلية .
" َقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " سميع بالأقوال عليم بالأفعال .
ثم قال سبحانه" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ "
قبل إن نشرح الآية وعظياً نشرحها بلاغياً يوجد في اللغة إفراد وجمع غالب استعمال القرآن إذا وجدَ مفرد مقابل جمع فإن الله يوازن بين فاضل و مفضول أو بين حق وباطل وتأمل القرآن , الله سبحانه يقول " الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ _جمعها _ وَالنُّورَ " _ أفردها _ وقال في النحل " أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ _أفرد اليمين _ وَالْشَّمَآئِلِ _جمعها _ سُجَّداً لِلّهِ " جمع الشمائل لأن اليمين أفضل من الشمال .(2/18)
هنا قال " يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ "_ جمع الظلمات وأفرد النور _ وقال سبحانه " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي _مفرد_ مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُل _جمع سبيل_ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ " دائم الحق واحد والكفر أجناس متعددة يجمعها الباطل فالله يقول في هذه الآية : " اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " الله يا أخي يجيب من سأله ويعطي من طلبه ويأوي من التجأ إليه ومن حسن الظن بالله أن تعلم أن الله لا يضيع من لجأ إليه , الإكثار من صلاة الليل والدعاء في ثلث الليل الآخر والتضرع بين يدي رب العالمين والتماس رحمة الله تبارك وتعالى مع عدم اليأس والقنوط والإلحاح على الله تعالى من أعظم ما ينال به الإنسان خيري الدنيا والآخرة فإن جعلت الله وليك بحق تولاك الله تبارك وتعالى ومن تولاه الله لا يضيع وأنت حينما تردد مع أئمتك أو مع نفسك قول المؤمنين في دعائهم " اللهم إنه لا يعز من عاديت ولا يذل من واليت "رددها وأنت تفقه معناها ولا يعجبك آخر التاءات والسجع وتنشغل به أو بلحن الكلام إنما انشغل بمعنى الكلام اللهم لا يعز من عاديت من عادى الله لا يمكن أن تكتب له العزة مهما بلغ ومن تولى الله فإنه عزيز ولو أراد أن يذله الناس, اللهم لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت قلها في وترك في سجودك في أدبار الصلوات وأنت موقن بها والتمس من الله الرحمة والغفران أن يكون الله وليك فإن كان الله وليك فاعلم أنه لا يقدر على غلبتك أحد وليس غلبتك أن تظهر منتصرا على أقرانك ولكن العبرة بالمآل العبرة بالعاقبة العبرة بالوقوف بين يدي الله تعالى العبرة أن لا تعض يديك يوم القيامة يقول الله في(2/19)
سورة الفرقان : " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً " زوال الحسرة يوم القيامة من أعظم المكاسب وأعظم المفاوز وأعظم الهبات وأعظم العطايا وهذه لا يعطاها إلا من تولاه الله تعالى " يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ " يكون الإنسان حيران مبهم مدلج عليه الأمر فإذا لجأ إلى الله أنار الله له الطريق وأظهر الله له السبيل وأنت لا تعلم الغيب وقد يختار لك الله شيئاً لا تريده ولكنه يظهر لك بعد مرور الأيام وتوالي الأعوام أن ما اختاره الله لك خيرا مما اخترته لنفسك .
قال الله جلا وعلا بعدها : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "
إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء وإليه تنسب الملة قال الله جلا و علا :
" مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ " فيه لفته قبل أن نذكر المحاجه , كلمة حنيف في اللغة معناها الميل والإنسان الأعرج يقال له أحنف فكيف يوسم الدين بأنه مائل وكيف يوسم رجلاً كإبراهيم بأنه يميل والجواب عن هذا أن الرسل عليهم السلام بُعثوا والناس معوجون عن الطريق أي مائلون عن الحق فلما جاء إبراهيم أو أي رسول بعده جاء والناس معوجه فلوا سار معهم سيصبح معوج فلم اعوج عنهم أصبح مستقيم .
فحنيف معناها الميل عن الميل إستقامة , فبان من هذا إن مخالفة المعوجين يصبح اعتدال و استقامة هذا معنا الحنيفية في اللغة .(2/20)
نعود إلى القصة قال العلماء أن هذا الرجل اسمه النمرود بالذال وقيل النمرود بالدال النمرود ابن كنعان ولا يهمنا اسمه والمُؤرخون نقلاً عن مجاهد يقولون أن الذين حكموا الأرض من المشرق إلى المغرب أربعه اثنان مسلمان والآخران كافران فالمؤمنان سليمان بن داود والثاني ذو القرنين والكافران بختنصر والنمرود ابن كنعان , هذا النمرود كان الناس يمرون عليه أيام الجدب يأخذون منه الميره يعني المؤونه فكل ما يمر عليه شخص يسأله من ربك فيقول ذلك الضال أنت فيعطيه المؤونه ويمشي فلما مر عليه إبراهيم قال النمرود لإبراهيم من ربك قال ربي الذي يحي ويميت وإبراهيم يقصد الذي أحيا الناس من إماتتهم ويفنيهم إذا شاء فقال هذا النمرود فرارا من الإجابة أنا أحيي وأميت , وفي رواية أنه جاء باثنين محكوم عليهما بإعدام قال أنت سامحتك , قال هذا أحييته وجاء بشخص ماله ذنب فقتله وقال أمته وإبراهيم ما قصد هذا والنمرود يعرف أن إبراهيم ما قصد هذا لكن توارياً منه فبقي إبراهيم على نفس المجادلة فيأتي بما هو أعظم منها , وقلت من يتولى الله يتولاه , قال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب قال الله فبهت الذي كفر ولم يقل الله فبهت الكافر لو قال فبهت الكافر يصبح مجرد نعت عام للرجل الذي مر ذكره لكن لما قال فبهت الذي كفر بين الله أن خذلانه في الإجابة كان بسبب كفره , ولذلك الإنسان يصلي الفجر في الجماعة فيخرج وهو مستعين ويردد" لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله " جاء في الحديث الصحيح "إذا قال الإنسان لا إله إلا الله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا إلا أنا وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقول الرب عز وجل صدق عبدي لا حول ولا قوة إلا بي " فإذا خرج الإنسان في حياته اليومية وهو يردد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يعقد عليها أصابعه فيأتيه موقف مفاجىء هو نفسه لم يستعد له فيلهم إجابة لو جلس عشرين سنه يستعين(2/21)
بالناس لا يعطاها , و يأتي إنسان لم يصلي الفجر ولم يعرف الله إلا قليلا ولا يذكره . فيأتي في موقف يجيب عنه الطفل الصغير فيبهت ولا يستطيع الإجابة لماذا ؟ لعدم الإستعانة بالله , فهذا الرجل ما بهت لأن إبراهيم أفصح ولكن لأن إبراهيم موحد وهذا كافر قال الله " فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ " والدليل أن الله قال بعدها " وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " من ظلم وجعل لله ندا ولم يجعل لله تبارك وتعالى قدرا ولا معرفه ولا مكانه لا يمكن أن يوفقه الله ويهديه لأن الهداية مردها إلى الأيمان والعمل الصالح .
ثم قال الله تعالى : " أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(2/22)
القرية هي بيت المقدس والذي هدمها وخربها بختنصر والذي مر عليها أختلف فيه قيل إنه عزير وهو بعيد والشاهد أن رجلا مر على تلك القرية وقد خربت فلما رءاها قد خربت وسقطت سقوفها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فهم البعض أن مقصود هذا الرجل أن الله يعيد هذه البلاد تعود من جديد هذا بعيد , لأن أي ديار على ما ترى وأنت في سفرك كثير من الديار تمر عليها قد خربت ثم تعود عاديه , وكم من ديار مبنية عاديه ثم تعود خربه كما في بغداد لكن هو لم يقصد القرية كبنيان لكن هو يقصد أهل القرية كيف يحيون بعد أن يموتون أنى يحيي هذه الله بعد موتها , فالله جلا وعلا رحمة به ورحمة بالناس بعده جعله هو آية فأماته الله بعث إليه ملك الموت قبض روحه مكث مئة عام ميت ثم عاد إليه ملك الموت فأحياه ثم سأله ملك الموت كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس لم تغيب قال لا بل لبثت بعض يوم فأخبره ملك الموت بل لبثت مئة عام ثم أنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه لم يتغير.
لم يتغير هذا يردنا إلى القصة الأولى لما قلنا أحيانًا الله يعطل السبب لأن مرور الأيام سبب في تغيير الطعام والماء ولكن الله أبقاه وعطل السبب وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه .(2/23)
وانظر إلى حمارك لأنه كان ميتا وأحياه الله , ولنجعلك أية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها وقرئت ننشرها ولا خلاف في المعنى لأن النشر هو الإحياء والإنشاز هو الرفع وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال الكلمة التي يقولها كل مؤمن " أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ولو أن الناس وثقوا بهذه الآية لأراهم الله من عجائب قدرته قالوا أن المنصور أبي عامر أحد الملوك الطوائف في الأندلس كان يعمل حمّاراً يسوق الحمير ومعه اثنين على نفس صنعته قال لهم يوماً ماذا تودون مني لو أصبحت أمير للمؤمنين فأخذوا يسخرون منه قال أنتم تمنوا فقال أحدهم وكان عاقلاً أنا أريد قصور وجواري , قال الثاني أنا أريد أن تحملني على حمار وتجعل وجهي عكس الحمار ويطوّف بي على القرية ويقال إني مجنون , ترك هذه الصنعة والتحق جندياً ثم مازال يترفع حتى صار حاجباً للخليفة يعنى الذي يجلس على الباب مثل قائد الحرس الملكي في عصرنا , وكان لهذه المكان منزلة عظيمة عند الناس قديماً بعد ذلك مات الخليفة وكان له ابناً صغيراً لا يصلح للخلافة أُعطي ولاية العهد فصنع له مجلس وصاية مثل ما يقال في عهدنا ولي العهد من عدة مجموعة الوزير والأمير والحاجب منهم المنصور بن أبي عامر , مع الأيام بقدرته وشطارته وبإرادة الله تغلب على الجميع فأصبح هو الأمير قال ائتوني برفيقي فوجدوهما في نفس المكان فأتى بهم فقال الأول ماذا قلت قال قلت قصور وجواري قال أعطوه قصور وجواري قال لثاني ماذا قلت قال أعفني يا أمير المؤمنين أنا نسيت فألح عليه فقال فأمر أن يوضع على حمار ويطوف به على البلاد , تشفع الناس وقالوا أنت حقق الله أمنيتك ماذا تستفيد أن يحمل هذا على حمار مخلوف قال لشيء واحد حتى يعلم أن الله على كل شيء قدير.(2/24)
فا أعلم يا أخي أن الله على كل شيء قدير هؤلاء الذين ترونهم الأمريكيون في ارض بغداد وغيرها نعم ظاهرهم الطغيان وهم ما جاؤوا إلا ليفسدوا في الأرض لا يمكن أن يبيت بوش وأقرانه خيراً لأمة محمد لكن هذا الذي يريدونه هم والذي يريده الله بهذه الأمة من خير عظيم والله ثم والله ثم والله لا يمكن أن يرده بوش ولا غيره قال الله عز وجل في سورة الطور : " أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ " فنصر الله قادم شاءوا أم أبوا رضوا أم غضبوا كيف سيكون لا نعلمه لكن الذي نعلمه يقيناً أنه سيكون كيف سيكون لا نعلمه ؟ متى لا نعلمه ؟ وأرجوا الله أن يكون قريباً لكن ثقوا أنه كم من محنه في طياتها منحة وعطية من الله والأمور كلما ضاقت دل ذلك على أول الفرج .
قال شاعر مسلم :.
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غاية الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً خزائنه بعد الخلاص من السجن
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين .(2/25)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الأول ))
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا و نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كنا قد بدأنا بسورة البقرة وبعد أن أخذنا مقاطع من آيات منها ننتقل بكم إلى سورة آل عمران . ونبين لماذا اتخذنا هذا المنهج ــ للملاحظة هذه المادة هي من درس الشيخ الأسبوعي في مسجد السلام بالمدينة النبوية ــ قلنا أن السبب في هذا المنهج أن بعض طلاب العلم الفضلاء قالوا لو أننا أخذنا القرآن آية آية لطال بنا الأمد والوقت ــ بحمد الله الآن للشيخ في قناة المجد العلمية برنامج يسمى " محاسن التأويل " يفسر القرآن فيه آية آية ــ وبعضنا دارسون لا يمكن لهم الاستمرار لسنوات عديدة والدرس أسبوعي فيكون التحصيل فيه رتيباً لأنه هناك فترة طويلة , فقال الفضلاء من باب المشورة أنه لو اتخذنا لكل سورة من سور القرآن درسين أو ثلاثة ننم على أعظم ما فيها كان أولى حتى نخرج جميعاً بفائدة جمة , فيكون الطالب قد مر على شيء من سورة البقرة وعلى شيء من سورة آل عمران وعلى النساء وهكذا . ثم إننا نقول ونكرر أن الإنسان كلما زادت حصيلته العلمية ومعارفه كان ذلك أدعى لارتباطه في العلم . ثم إن في بعض السور مسائل فقهيه وهذه في الغالب لا نعرج عليها قلنا حتى لا يكون هناك نوع من التكرار بين درسنا ودروس الآخرين من فضلاء العلماء في الحرم النبوي أو في غيره .
على هذا بعد أن اتضح المنهج نقول أن الآيات المختارة من سورة آل عمران هي :(3/1)
من قوله تعالى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) إلى قوله تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) . والحديث عن ذلك كله على النحو التالي :
أولاً : قال العلماء : " إن من أعظم علوم القرآن أن يعلم أن القرآن نزل لدفع شبه الظالمين وإبطال عناد المعاندين وإثبات البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية . وقالوا أن هذا الفن لا يدركه إلا الجهابذة العلماء المستبصرون الذين من الله عليهم بإدراك مغازي كتابه " . جعلنا الله وإياكم منهم وألحقنا بهم وإن لم نكن لذلك بأهل .
هذا السبب هو الذي جعلنا نختار هذه الآيات للتفسير .
أما هذه الآيات فالحديث عنها كالتالي :
مناسبة الآيات لما قبلها : أن الله جل وعلا ذكر قبلها قصة عيسى ابن مريم عبدالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فذكر جل وعلا قصة الصديقة مريم وكيف أنها حملت بعيسى عليه الصلاة والسلام وكيف وضعته و ما كان له من آيات وبراهين وكيف أنه دعا قومه وكيف أن الله جل وعلا آتاه المعجزات الظاهرة والبراهين التي تدل على نبوته حتى رفعه الله جل وعلا إليه وسينزل في آخر الزمان بعد أن ذكرها جل وعلا . ثم ذكر قوله تعالى : (( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ{58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ )) إذن هذه مناسبة الآيات لما قبلها .(3/2)
أما سبب نزول الآيات : فالمشهور عند العلماء أن عام الوفود كان العام التاسع للهجرة وهو بعد أن فتح الله لنبينا صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت ثقيف وانتهت غزوة تبوك أتى الناس على هيئة وفود من كل شق إلى نبينا صلى الله عليه وسلم . من جملة الوفود التي حضرت وفد نجران وكانوا على الديانة المسيحية ومنهم السيد والعاقب وهم من رؤوسهم , هؤلاء النفر لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مالك : " تشتم صاحبنا ". قال ( وما ذاك ) صلى الله عليه وسلم , قالوا : " تقول إن عيسى عبدالله ورسوله " قال : ( نعم هو عبدالله ورسوله ) فجادلته النصارى بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لا أب له , قالوا : فقل لنا من أبو عيسى عليه الصلاة والسلام وأتنا بأحد له أب غير عيسى عليه الصلاة والسلام ؟ فأمهلهم حتى ينزل القرآن عليه في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام , فأنزل الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام قوله هذه الآيات التي نريد أن نشرحها : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) فهذا هو سبب النزول .
بعد هذا نبدأ في تفسير الآيات :
قال الله جل وعلا : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ )) ليس كلمة مثل هنا المقصود بها المثل المعروف الذي يضرب للأشياء , وإنما كلمة مثل هنا بمعنى حاله أو صفه . فيصبح معنى الكلام حالة و صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عند الله كحال آدم عليه الصلاة والسلام .(3/3)
ما حال ادم عليه الصلاة والسلام ؟ قال الله تعالى : (( خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) النصارى تقول : إن من أدلة أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أنه لا أب له باتفاق أهل الأرض والرد عليهم , وقلنا هذا من علوم القرآن الرد على كشف شبه الظالمين , أن آدم عليه الصلاة والسلام لا أب له ولا أم زيادة على عيسى عليه الصلاة والسلام . أي إن كان عيسى لا أب له فآدم لا أب له ولا أم , وإن كان عيسى خلق بكلمة كن بعد أن نفخ جبرائيل في رحم الصديقة مريم وكان بأمر الله فإن آدم كذلك قال الله له كن فكان كما أخبر الله في كتابه . فإذن مقارنة عيسى بآدم عليهما الصلاة والسلام ضربها الله جل وعلا دليلاً على بطلان حجج النصارى . لأنه لو كان قولهم إن مجرد أن عيسى لا أب له دليلاً على أنه ابن الله فمن الذي أولى بالبنوة ؟ آدم لأنه لا أب له ولا أم . والنصارى وغير النصارى كل أهل الأرض لا يقولون إن آدم ابن الله . فلما اعترفتم أن آدم ليس ابن الله يجب أن تعترفوا أن عيسى ليس ابن لله . وان الله لم يلد ولم يولد فدمغت حجة النصارى .(3/4)
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ )) والهاء في خلقه عائدة على آدم خلقه من تراب ثم قال له أي قال لآدم كن فيكون , أي كن فكان . واختلف العلماء لماذا عبر الله بالمضارع بدلاً من الماضي يعني كان السياق أولى أن يقال : خلقه من تراب ثم قال له كن فكان . قال بعضهم ــ من الأجوبة ــ إن العرب تجري المضارع مقام الماضي إذا عرف معنى الحال . هذا جواب ربما فيه شيء من الركاكة . وقال بعضهم ولعل هذا أظهر أن الله أراد أن يبين تمثل المعنى لمن يسمع , بمعنى أن عيسى عليه الصلاة والسلام حتى عندما نفخ جبرائيل عليه الصلاة والسلام في رحم مريم عليه السلام لم يخرج مباشرة يمشي على قدميه وإنما تكون لحماً وعظاماً حتى حملت به تسعة أشهر على الصحيح , ثم ولدته صبياً رضيعاً ثم كان عيسى ابن مريم . فلم يقل الله كن فكان مباشرة إنما قال كن فيكون ليبين التدرج الذي مر به خلق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
(( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )) هذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على الوجه الصحيح .
قال تعالى : (( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ )) يعنى هذا الحق الذي أتاك من ربك . وإضافة الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً للنبي صلى عليه وسلم .
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ )) أي لا تكن من الشاكين . وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ممترنٍ أو شاك , فهذا منتفٍ أبداً . إنما المقصود من هذا الأسلوب إثارة الأريحية فيه صلى الله عليه وسلم لأن يقبل الحق من ربه ويعض عليها بالنواجذ هذا تخريج . وقال بعض العلماء تخريج آخر إنه وإن كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإن المخاطب الحق هو أمته وكل من يسمع القرآن . لكن لا تعارض بين هذين التخريجين .(3/5)
(( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ )) الهاء عائدة على من ؟ عائدة على عيسى وخلقه .
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ )) العلم أي البيان الذي أظهره الله لك في شأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
يزعم النصارى أنهم مسلمون من قبل ويمنعهم من ذلك :
(( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وفد النصارى نصارى نجران بالأمر لم يقبلوا , قالوا : نحن مسلمون من قبل فقال صلى الله عليه وسلم :
( يمنعكم من الإسلام ثلاث :
1ـ أكلكم لحم الخنزير .
2ـ وسجودكم للصليب .
3ـ وزعمكم أن لله ولد . )
هذه الثلاث منعت ما يزعمونه من أنهم مسلمون . فلما طال الأمر بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم احتكم إلى المباهلة .
ما معنى المباهلة ؟(3/6)
والمباهلة أصلها مأخوذ من الابتهال وهو الدعاء ويكون غالباً لإظهار الحجة . وقد ربما يخصص كما في الآية في نزول اللعنة وأصل المسألة أنه لما طال الجدال لا هم يقتنعون ولا هم قادرون على أن يقنعوا لأنهم على باطل , احتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الابتهال قائلاً لهم كما أمر الله : (( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ )) أي ندعوا ونقول : اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى ابن مريم . فلما كان من الغد قدم صلى الله عليه وسلم ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين , وقال : ( إذا أنا دعوت فأمنوا ) . قبل أن نكمل اعترض النصارى وخافوا من المباهلة . وخوفهم من المباهلة دليلٌ على أنهم يعلمون أنه رسول الله حقاً لأنهم لو كانوا على يقين لقبلوا المباهلة .
العلة من جلب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين :
وكون النبي عليه الصلاة والسلام يأتي بابنته وعلي والحسن والحسين دليل على ثقته فيما يدعوا إليه , لأنه كان بالإمكان أن يباهلهم لوحده ويقول أنا وأنتم ندعوا على بعض أهلك أنا أو تهلكون أنتم , لكن لما أتى بابنته وهي أحب بناته إليه عليه الصلاة والسلام وزوجها علي والحسن والحسين ثم بعد ذلك يدعوا على الجميع دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واثقاً من حفظ الله له وكان على برهان ويقين أن ما عند الله هو الحق .
(( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) الاستطراد هنا وأنا قلت أن الدروس ليس المقصود منها الحرفيات وإنما المقصود منها الفوائد العلمية .
وآية المباهلة تدل على أمور عدة :(3/7)
الأمر الأول : فضل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم , وهؤلاء الأربعة مع النبي صلى الله عليه وسلم يسمون أصحاب الكساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم جللهم أي غطاهم ذات مرة بكساء وقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هؤلاء بيتي فإذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) . فهؤلاء آل بيته صلى الله عليه وسلم . وعلي ابن عمه نسباً وهو زوج ابنته فاطمة تزوجها بعد منقلب النبي صلى الله عليه وسلم من معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة , قيل تزوجها في شوال وقيل تزوجها في أول ذي القعدة . وتعيين التاريخ هنا تحديداً لا يهم , وأنجب منها عليٌ الحسن والحسين . أراد علي أن يسمي ابنه حرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسن ) , ولما ولد الحسين أرادوا أن يسموه حرباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الحسين ) . فالذي سمى الحسن والحسين من ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم .
والحسن رضي الله عنه عاش حتى كانت خلافة معاوية رضي الله عنه , فتنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه ليحقن دماء المسلمين . ثم سكن المدينة ومات فيها أيام معاوية . أما الحسين رضي الله عنه فامتد به العمر حتى مات معاوية رضي الله عنه , وولي من بعده ابنه يزيد فخرج من مكة إلى العراق حتى وصل إلى كربلاء المدينة العراقية المشهورة , فلما وصل إليها سأل عنها ؟ قيل له كربلاء قال بل كرب وبلاء , أخذ اشتقاقها من اسمها فكان ما كان . قتل رضي الله عنه في يوم عاشوراء العاشر من محرم , ولذلك الشيعة يحيون هذا اليوم كما هو معلوم .
وإحيائهم لهذا اليوم باطل من عدة أوجه :
باطن بالنقل : لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعه ولا يقوم دين إلا إذا شرعه الرسول لأنه أعلم الخلق بشرع الله .(3/8)
وباطل بالعقل : لأنهم لو كانوا صادقين في المناسبة العقلية لكانوا أقاموا مأتم على مقتل علي أبي الحسين رضي الله عنهم , وهم يقولون أن علياً أول أئمتهم والحسين الثاني فلو كانوا صادقين عقلياً لأقاموا مأتم على مقتل علي كما قتل الحسين قتل من قبله علي . فهم يمرون على مناسبة علي رضي الله عنه دون ذكر مع أنه مات مقتولاً كما قتل ابنه الحسين رضي الله عنه , ثم يأتون عند مقتل الحسين رضي الله عنه فيقيمون ما يقيمونه . فهذا من الدلائل العقلية والأول دليل نقلي على بطلان ما يصنعه الشيعة في يوم عاشوراء .
الذي يعنينا أن الحسين رضي الله عنه قتل في يوم عاشوراء وقتل معه أكثر من ثمانين من آل بيته ولم ينجوا إلا النساء وابنه علي الملقب بزين العابدين قتل ابنه علي الأكبر وقتل ابنه عبدالله معه وإخوانه الأربعة وبعض آل بيته . وبقى ابنه علي كان مريضاً لم يستطع أن يحارب مع أبيه , فأبقى الله جل وعلا ذرية الحسين رضي الله عنه بنجاة علي هذا الصغير المريض , فكل من ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الحسين فهو من ولد علي زين العابدين كل الحسينية ينتسبون إلى علي الملقب بزين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة ابن محمد صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء كما قلت آله ولهم في الشرع حق عظيم وينبغي لا إفراط ولا تفريط قال تعالى : (( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )) . الشورى23. وقال عليه الصلاة والسلام لما شكا إليه العباس رضي الله عنه أن بعض قريش يجبوا بني هاشم قال عليه الصلاة والسلام : ( والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ثم لقرابتي ) .
الأمام أحمد رحمه الله و دليل فقهه في الدين :(3/9)
والمعتصم الخليفة العباسي , عباسي أي من ظهر العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ليس من ظهر النبي وإنما من ظهر العباس . والعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وليس ابنه . المعتصم سجن العالم السني المشهور أحمد بن حنبل رحمه الله . فلما سجنه أُخرِج أحمد بعد موت المعتصم وكان أحمد بعد خروجه يجتهد في الدعاء للمعتصم ويسأل الله أن يعفو عنه , فلما كلمه الناس قال رضي الله عنه وأرضاه ورحمه " لا أريد أن أقف بين يدي الله وبيني وبين أحد من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة " . وهذا من فقه الدين في أن الإنسان يتجنب أن يكون بينه وبين قرابة النبي صلى الله عليه وسلم خصومة كما بينا في قضية الإمام احمد .
الأمر الثاني : في الآية أن الله قال في القرآن على لسان نبيه : ((َ قُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بعد هجرته ابنٌ من صلبه , يعني ليس له ابن ذكر من صلبه ومع ذلك قدم الحسن والحسين رضي الله عنهم , استدل بها فريق من العلماء على أن أولاد البنات في منزلة أولاد الأبناء . يعني مثلاً نفرض رجل اسمه محمد وله بنت اسمها سلمى وله ولد اسمه خالد فأولاد خالد هم أولاده باتفاق الناس لم يخالف في هذا أحد , لكن الخلاف في أولاد البنت هل يعتبرون أبناء أو لا يعتبرون ؟ المسألة خلافية لكن من أدلة القائلين بأن أولاد البنت يعتبرون أبناء هذه الآية فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ((َ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُم )) , والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الحسن والحسين رضي الله عنهم , وقال في حديث آخر ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة ) . يقصد الحسن رضي الله عنه . فهذا قول من قال من العلماء .(3/10)
وهذه المسألة بالنسبة لطالب العلم متى تظهر ؟ تظهر في الميراث وتظهر في الوقف وكلاهما متقارب فهل ينزل الجد منزلة الأخوة في الميراث ؟ من يقول أن ابن البنت ابن أعتبر الجد كالأب . وعندما يوقف الإنسان حديقة أو مزرعة أو بيتاً فيقول هذه لأبنائي وأبناء أبنائي ولا يحدد فإن قال أبناء أبنائي بمقتضى الآية يدخل من؟ يدخل أولاد الأبناء وأولاد البنات , وقال بعض العلماء بخلاف هذا وهذه المسائل تنظر في المحاكم , لكن أنا أردت أن أبين كيف يستنبط طالب العلم الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
((َ فقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )) أي نقول اللهم العن الكاذب منا في أمر عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . الذي حصل أن النصارى خافوا من المباهلة تشاوروا ثم تراجعوا , قال قائلهم والله إنكم لتعلمون إنه نبي ولو باهلتموه لاضطرم عليكم الوادي ناراً , فقالوا ما الأمر بيننا وبينك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( واحدة من ثلاث : الإسلام ـ أي تدخلوا الإسلام ـ أو الحرب أو الجزية ) فاختاروا الجزية فصالحوا النبي عليه الصلاة والسلام على ألف حلة صفراء تقدم له في شهر صفر وألف حلة تقدم له في شهر رجب . فقالوا ابعث لنا رجلا أميناً من أصحابك فقال عليه الصلاة والسلام : ( لأبعثن معكم أميناً حق أمين ) فاستشرف لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , فقال عليه الصلاة والسلام : ( قم يا أبا عبيدة ثم قال لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه ) .
ولذلك ورد أن عمر رضي الله عنه لما طعن وطلب منه أن يستخلف قال : " لو كان أبا عبيدة حياً لوليته هذا الأمر فإذا سألني الله عن ذلك قلت سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) " .(3/11)
نأتي للآية التي بعدها قال الله عز وجل بعدها : (( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا قوله وأعرضوا عن الدخول في الإسلام فإن الله عليم بالمفسدين . وقوله تعالى : (( فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) يجري مجرى التهديد لأنه إذا كان الله عليم بهم وهو قطعاً عليم بهم فإنه سيعاقبهم جل وعلا , وهذا معنى قول الله تعالى : ((فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ )) .
ثم قال الله جل وعلا : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) .
هذه الآية قبل أن نفصل معناها يتعلق بها فائدتين :
الفائدة الأولى : أن هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتبها في كتبه التي يبعثها إلى ملوك العرب والعجم وهو يدعوهم إلى الإسلام كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم .(3/12)
الفائدة الثانية : في حياتنا العملية جميعاً وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح كان يقرأ بها أي بهذه الآية في ركعة الصبح الأخيرة من سنة الفجر , ومعلوم أن لصلاة الفجر سنة قبلية والسنة فيها أن تخفف , النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيها فاتحة الكتاب وبقول الله تعالى : (( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )) . البقرة136. ويقرأ بالثانية بهذه الآية : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) . إذاً يتحرر من هذا من الناحية العملية أن هذه الآية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في الركعة الأخيرة من سنة الفجر ويقرأ بغيرها ولو قرأ أي مسلم بأي سور القرآن أو آياته جاز ذلك , لكن أوفق للسنة أن تقرأ هاتان الآيتان .
أما معناها : (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ )) أهل الكتاب يندرج فيها اليهود والنصارى لأنهما أنزل عليهما الكتاب . على اليهود التوراة على موسى عليه السلام وعلى النصارى الإنجيل على عيسى عليه السلام .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء )) سواء هنا بمعنى عدل وإنصاف .
(( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ )) هذا إجمال . هذا الإجمال فسرته ما بعدها : (( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) .
إذاً ما الكلمة السواء ؟(3/13)
هي : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) . فقول ربنا جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هي الكلمة السواء التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى إليها .
اليهود يقولون عزير ابن الله والنصارى تقول المسيح ابن الله وكلا الفريقين على خطأ معلوم , فدعاهم النبي إلى كلمة يتفق عليها الجميع وهذه الكلمة لابد أن تكون كلمة عدل (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) .
(( وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً )) تأكيد للآية التي قبلها لقوله جل وعلا : (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) لأن المعنى واحد (( أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ )) أسلوب حصر فيه نفي واستثناء . (( أَلاَّ نَعْبُدَ )) هذا نفي , (( إِلاَّ اللّهَ )) هذا استثناء .
(( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) هذا من بديع أسلوب القرآن لأنه عندما قال سبحانه : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً )) دلالة على أننا كلنا من جنس واحد , فكيف يعقل ونحن متفقون على أننا من جنس واحد أن يصبح بعضنا آلهة خارقة وبعضنا مخلقون , هذا لا يستقيم لا بالعقل ولا بالنقل .(3/14)
(( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) والاتخاذ هنا ليس معناه ولم يقع أنهم كانوا يعبد بعضهم بعضاً بالسجود والركوع والصلاة وإنما كان يعبد بعضهم بعضاً بطريقة أخرى وهي أن أحبارهم ورهبانهم يحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع ويحلون ما حرم الله فيحلُه الأتباع , وهذه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( تلك عبادتهم ) . قال سبحانه : ((اتخذوا احبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله )) . وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعدي ابن حاتم : ( أليسوا يحلون ما أحل فتحرمونه قال بلى قال فتلك عبادتهم ) . فهذا معنى قول الله : (( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ )) .
من هنا نعلم أن التشريع لله والرسول مجرد مبلغ صلوات الله وسلامه عليه . فمن الله التشريع وعلى الرسول البلاغ وعلينا السمع والطاعة لأننا عبيد مخلوقون لله تبارك وتعالى .
(( فَإِن تَوَلَّوْاْ )) أي فإن لم يقبلوا هذا الذي عرضته عليهم (( فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )) أي نحن باقون على ما نحن عليه من الإسلام واتخاذ الله جل وعلا آله واحد لا رب غيره ولا آله سواه .
ثم قال الله جل وعلا : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{65} هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) ثم قال (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) .(3/15)
مناسبة الآيات عموماً : من العقل والنقل يا أخي أن الإنسان إذا كان متقناً في شيء ما يتبناه الجميع وكلٌ ينتسب إليه وينسبه إلى نفسه . إذا كان الشخص محسن متقن جيد في أمره كل من حوله يتبناه وينتسب إليه ويقول إنه مني وأنا منه لأنه مصدر فخر . إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة كما أخبر الله جل وعلا . فاليهود تقول إن إبراهيم منا والنصارى تقول إن إبراهيم على ملتنا وحتى كفار قريش كما سيأتي يقولون منا والمسلمون يقولون منا , في أول الآية الله عز وجل يقول لما اختصمت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه الصلاة والسلام , قال الله لليهود والنصارى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ )) . لمَ تجادلون وتخاصمون في إبراهيم (( وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ )) . بين إبراهيم وموسى عليهم الصلاة والسلام مئات السنين وبين إبراهيم وعيسى عليهم الصلاة والسلام أكثر لأن عيسى بعد موسى عليهم الصلاة والسلام . فمحمد عليه الصلاة والسلام عند اليهود والنصارى خبر منه لأنه مذكور في التوراة والإنجيل . فكون اليهود والنصارى عندهم خبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هذا حق , لكن الحق أيضاً أن ليس عندهم علم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم جاؤوا بعده وما أسست اليهودية وهي محرفة في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ولا أسست النصرانية وهي محرفه من شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام إلا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكيف يكون عندهم علم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا لا يمكن عقلاً , ولذلك قال الله عز وجل : (( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) معنى يعلم : يعلم حال إبراهيم وأنتم لا تعلمون عن إبراهيم شيئاً .
العقل مكتشف للدليل وليس منشىء له .(3/16)
وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي عليه أن يستخدم عقله . وقد يقول قائل أن العقل ليس له علاقة بالنقل .
يجب أن تفهم يا أخي ملحظ دقيق يميز من يتبع منهج العقل عن غيره . المسلمون مدركون من أهل السنة أنه لا يمكن للعقل أن ينشىء دليلاً . والدليل في النقل لكن العقل يكتشف الدليل . بمعنى تأتي بمصحف وتأتيه لرجل ذي باع في العلم أعطاه الله عقل , فهو إذا قرأ المصحف يستنبط الأدلة من المصحف . لا يأتي بدليل من عقله لكن قدرته العقلية تمكنه من أن يستنبط الأدلة من القرآن . إنسان ليس عنده حظ من عقل حتى لو نظر في المصحف لا يستطيع بأن يأتي بأدلة يكتشفها من المصحف هذا الفرق . لا يوجد عقل يسير الناس , الوحي هو الذي يسير الناس لكن العقل يكتشف الدليل الموجود الذي في الوحي . ولذلك قال تعالى للنصارى : (( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )) أي لو عرضتم هذا الأمر على عقولكم الحقة لما قبلته لكن لأنه ليس لديكم عقول تقولون بغير هذا .
الشافعي رحمه الله كيف بعقله اكتشف الدليل ؟(3/17)
الشافعي رحمه الله وهو صبي في السادسة عشر وكان من أذكى الناس مر في السوق فوجد رجلان يختصمان فتدخل لثقته برأيه , قال : ما بالكما ؟ قال أحدهما : هذا كان يبيع طيراً ـ ببغاء ـ ويقول وهو يبيعه : هذا الطائر لا يسكت يتكلم طوال الليل والنهار , قال الذي اشتراه : فأنا اشتريته بناءً على هذا الشرط فلما ذهبت به إلى البيت إذا هو يتكلم أكثر الوقت لكنه يسكت أحياناً فأنا أريد أن أرده . والذي باع يقول : لا ترده أنا لم أقصد الليل والنهار أنه لا يسكت , تخاصما والشافعي رحمه الله كان في السادسة عشر من عمره , فقال للمشتري : ليس لك حجة عليه . فأستصغره قال من أين لك هذا ؟ قال لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لإحدى نساء المؤمنين لما أخبرته أن فلاناً خطبها , قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أما فلان فلا يطرح عصاه من كتفه ) . والمقصود إما كثرة الضرب وإما طول السفر ـ لكن لا يوجد إنسان يضرب أربع وعشرون ساعة ولا يوجد إنسان يسافر أربع وعشرون ساعة وإنما المقصود غلبة الأمر والكثرة ـ , فاقتنع المشتري فأخذ الطائر وذهب . فالشافعي هنا لم يأتي بدليل من عقله لكن عقله مكنه من أن ينظر في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام . وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم لأنه إن لم تكن لديه آله عقلية في النظر في كتاب الله لا يمكن أن يكون قادراً على أن يفقه أو يفهم أو يستنبط من كتاب الله شيئاً كثيراً .(3/18)
ثم قال سبحانه وتعالى : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) قلنا إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إماماً وإليه تنسب الملة وهو أعظم النبيين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام . اليهود تقول إننا على ملة إبراهيم وقالوا لنبينا عليه الصلاة والسلام : " إنك تعلم أن اليهود أولى بإبراهيم ولكن الحسد منعك أن تجهر بهذا " , والنصارى تقول نفس العبارة , حتى عباد الأوثان وعباد النار يقولون " إن إبراهيم منا " . وذلك لأن إبراهيم يشرف كل إنسان أن ينتسب إليه والمسلمون يقولون " إبراهيم منا " . ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة عندما نظر إلى الكعبة قبل أن يدخلها وجد كفار قريش على كفرهم وضعوا صورة لإبراهيم صنعوها من عقولهم وهو يستقسم بالأزلام , وهي الطريقة التي كانوا يفعلونها مع آلهتهم حتى يخرج أحدهم لسفر أو لغيره , فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام وقد جعلوا صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام قال عليه الصلاة والسلام : ( قاتلهم الله والله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام ) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : ( ما لشيخنا وللاستقسام بالأزلام ) . المقصود أنه حتى عباد الأوثان نسبوا إبراهيم أنه منهم . فلما كانت المسألة خلاف نزل الحكم من الله والله عليم .
قال الله جل وعلا : (( مَا كَانَ )) وهذا نفي . (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً )) كما تزعم اليهود ولا نصرانياً كما تزعم النصارى . (( وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً )) كما يزعم محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه . (( وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) كما يزعم عبدة الأوثان .
من الذي هو أولى بإبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟(3/19)
ثم بين الله بعد أن بين منهج إبراهيم عليه الصلاة والسلام . بين من الذي هو أولى بإبراهيم قال سبحانه : ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . ذكر كم فئة ؟ ثلاثة .
وهذا الظهور حسب الترتيب الزمني لأن الذين اتبعوا إبراهيم من قومه كان ظهورهم قبل النبي عليه الصلاة والسلام , قال تعالى ((ِ إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ )) حسب تسلسلهم الزماني ((ِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ )) الذين ءامنوا به وقت نبوته ورسالته صلوات الله عليه . (( وَهَذَا النَّبِيُّ )) ذكره مفرداً . قال العلماء : " هذا تعظيم وتشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام " . (( وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ )) من أي أمة ؟ من أمة محمد عليه الصلاة والسلام على الصحيح من أقوال العلماء .
فأصبح إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يتولاه ثلاثة :
المؤمنون الذين معه , ونبينا عليه الصلاة والسلام , والمؤمنون من هذه الأمة .
لكن النبي عليه الصلاة والسلام أفرد قلنا تعظيم له لأنه عليه الصلاة والسلام أولى بإبراهيم من جهتين :
الأولى : لأنه من ذريته .
والثانية : لأنه موافق له في ملته .
لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذريته .
إبراهيم عليه الصلاة والسلام من إكرام الله له لم يبعث نبي بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم , قال تعالى في آية حصر : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ )) العنكبوت27. فما بعث نبي ولا رسول بعده عليه الصلاة والسلام إلا وهو من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام .(3/20)
(( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) . قال العلماء : " دلت الآية أيضاً على أن المؤمنين مهما تباينت أقطارهم المكانية وتفاوت ظهورهم الزماني فإنهم أولياء بعضهم لبعض لأنهم جميعاً يفيئون إلى ملة واحدة , وهي ملة إبراهيم القائمة على توحيد الله تبارك وتعالى . واليوم أعداء المسلمين لا يحاولون شيئاً أن يثيروه بين المسلمين أكثر من تفريق الكلمة وإيثار النعرات القائمة إما على عرق أو على مذهب أو على مكان أو على ظهور زماني حتى يتشتت شمل الأمة , فإذا تشتت شملها انشغل بعضها ببعض , وأرادت كل فئة منها أن تقيم لواءها , فاقتتلوا وكفوا غيرهم مهمة القتال فأصبح غيرهم قادراً على أن يحتلهم بيسر وسهولة . وفي مواضع الفتن العظمى كما هي في عصرنا هذا وفي الأحداث الأخيرة في العراق فإن جمع الكلمة وتوحيد الصف وغض الطرف عن كثير من الخلافات مقدم على أكثر الأمور , لأن الدين قائم على جلب المصالح ودرء المفاسد . ولكل مرحلة من مراحل عمر الأمة ما يتماشى مع أوامر ونواهي وتطبيقات وأحكام شرعية تختلف من حال إلى حال ومن زمان إلى زمان , والمعيار في ذلك كله مصلحة الأمة وعدم تمكين عدوها منها .
(( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) طائفة تطلق على الجماعة من الناس . والود هنا بمعنى الرغبة .(3/21)
(( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ )) يعني كان مراد بعضٍ من اليهود و بعضٍ من النصارى أن يردوكم عن إسلامكم لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الإسلام حق , لكن الإنسان إذا حسد غيره لا يتمنى الخير له . جرت سنة الله في خلقه أن الهالك يتمنى أن يهلك الناس معه . فالذي واقع في سلك المخدرات , والواقع في سلك النساء , والواقع في سلك كذا و كذا من المعاصي والجرائم هو لا يريدك أن تكون معه حباً فيك أو يريد لك الخير , ولكن يدفعه إلى ذلك أن كثرة الناس في الشر تهون الشر على نفسه .
وأنت خذها بمثال واقعي بسيط لو أن ابنك أخبرك أن نتيجته في الامتحان غير موفق لَلُمْتَهُ كثيراً , ولكن لو أن هذا الابن أخبرك أن الفصل كله على هذا النحو لخف لومك على ابنك . وهذا من سنة الله في خلقه ولذلك إبليس لما غوى وتمت عليه اللعنة هَمَّ أن يعصي بني آدم كلهم . يريد ويرغب في ذلك حتى لا يقع في الهلاك لوحده . فأهل الإشراك وأهل الكفر من أهل الكتاب لما وقعوا فيما وقعوا فيه ومنعهم الحسد أن يتبعوا نبينا عليه الصلاة والسلام رغبوا في أن يضلوا المؤمنين , والله جل وعلا يقول : (( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) لأن الله تبارك وتعالى يحمي أولياءه وينصرهم ويمنع عنهم كيد الأعداء .
ثم قال الله جل وعلا (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ )) أي تشهدون . ومفعولها هنا محذوف . والمعنى : أنكم تشهدون البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله جل وعلا حق . وكفركم مع كونكم تشهدون الآيات من أعظم الدلالة على العناد والمرض المستقر في قلوبكم . لأن كون الإنسان يكفر ولما تظهر له الأدلة بعد . أمر هين لكن إذا ظهرت له الأدلة و تتابعت وتظاهرت ومع ذلك أصر على كفره فذلك دلالة على الران الذي في قلبه وعلى أنه أبعد إلى الحق منه إلى الباطل .(3/22)
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(3/23)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا , وأشهدا أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد . أيها الإخوة المؤمنون , السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
في هذا اللقاء المبارك يسر الله إتمامه نواصل تفسير كتاب ربنا جلا وعلا واقفين عند قول الله جلا وعلا في سورة آل عمران : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) إلى قول الله جلا وعلا : (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) .
من أساليب تسمية كتاب الله جل وعلا سور القرآن :(4/1)
وهذا الذي كنا فيه قلنا إن سورة آل عمران سورة مدنيه , ونبين إن من أساليب تسمية كتاب الله جلا وعلا سور القرآن يسمى الشيء باسم بعضه . وهذا أمر كانت العرب تستخدمه في كثير من الأمور . فسميت سورة البقرة بسورة البقرة لأنه جاء ذكر قصة البقرة فيها , وسميت سورة آل عمران بسورة آل عمران لأن الله جل وعلا ذكر فيها عمران وآله وعلى هذا يقاس كثير مما في كتاب الله وهو ظاهر بين . وإنما الخلاف بين العلماء هل إن تسمية سور القرآن كان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه رضي الله عنهم أو غير ذلك , والذي يظهر والله جل وعلا أعلم أن تسمية سور القرآن تسمية توقيفية بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم سموها بإشارة وأمر وإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم .
وسورة آل عمران تكلمت كثيراً عن أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وبحثتْ كثيراً في مواضيعهم . وسبب ذلك أمران :
الأمر الأول : قدوم وفد نجران كما بينا في الأسبوع الماضي قدوم وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما حصل بينهما من مجادله انتهت إلى الإقرار بالصلح بينهما وكانت تلك الأسئلة التي طرحها وفد نجران سبب في نزول كثير من آيات سورة آل عمران .
الأمر الثاني : ما كان من أحداث من أهل الكتاب من اليهود المجاورين للنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة فكان القرآن ينزل ليبين كثيرا من أمورهم ومعايبهم وما يكون بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام من أحداث . فجل ما في السورة من ذكر أهل الكتاب كان هذا سببه وفي السورة آيات أخر لا علاقة لها بأهل الكتاب كغزوة بدر وغزوة أحد وغيرهما مما هو معروف في مظانه . لعل الله جل وعلا أن ييسر شرحه .(4/2)
أما الآية التي بين أيدينا فإن الله يقول : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) حب المال أمر مفطور في النفوس قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) الفجر ( 20 ) . وقال جل وعلا عن بني آدم : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) العاديات ( 8 ) . والأمانة في إنفاذها وفي إعطاءها لا علاقة لها بالإيمان والكفر إلا شيء يسير . فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كذب أعداء الله ـ يقصد اليهود ـ كل أمور الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى بر و فاجر) تؤدى إلى البر والفاجر فلو قدر أن لأحد من الناس له أمانة عندك وإن كان فاجراً فإن فجوره لا يمنعك من تأدية الأمانة إليه فمسألة كونه كافر أو فاجر أو فاسق لا علاقة له بأحقية الأمانة التي له عندك هذا كمفهوم عام للآية .
الآية فيها وقفات عدة منها:(4/3)
إنصاف الرب تبارك وتعالى . وأن الله جل وعلا حكم عدل فبرغم أن اليهود قوم بهت نعتوا ربهم بأقبح المعايب تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيرا , ومع ذلك فإن الله جل وعلا يقرر في هذه الآية أن من هؤلاء اليهود على ما فيهم من معايب منهم من لو أمنته وضعت عنده قنطار والقنطار آلاف من الدنانير يعني مبلغاً كثيراً من المال لو وضعت عنده قنطار آلاف من الدنانير ثم طلبتها منه يردها إليك رغم أنه يهودي . وإخبار الله بهذا دلالة على إنصاف الرب جل وعلا وأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة فقول الله جل وعلا : (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ )) إن وضعت عنده قنطار أمانه رده إليك كما هو تام رغم أنه كتابي إما يهود وإما نصارى وهذا كفر لكن كفره لم يمنعه من تأدية الأمانة .
سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة :
ثم قال سبحانه : (( وَمِنْهُم )) و (( مَّنْ )) في الحالتين بعضيه .
وقلنا إننا سنقف كثيرا في اللغويات حتى تفهم كلا م الله لكن لا تستعجل إتيان الثمرة . العلم يا أخي كالبنيان . والبنيان لا يعرف من أول يوم وإنما يعرف بعد تمامه . فما تأخذه من علم في هذه الحلقة أنت لوحدك به , وإنما تقوم على علم تأخذه من هاهنا ومن غير هذه الحلقة , وشيء تقرأه و شيء تسمعه وآخر تدونه حتى يجتمع لديك علم جم . لكن لا تحسبن أن أحدا يمكن أن يعطي الناس العلم كاملاً لوحده هذا لن يقع ولم يقع لأن الله عز وجل قسم العلم وفضله بين الناس . لكن أنت تأخذ أمور ترشدك بعضها على بعض .
أقول إن ( من ) هنا بعضيه وحتى يتم المعنى وحتى تعرف الفرق بين ( من ) البعضيه و( من ) أخرى .
( من ) أخرى بيانيه , معنى الكلام لو جاء إنسان ضفته أنت في بيته فأعطاك فاكهة , الفاكهة هذه منوعه ثم غاب عنك ثم جاء يسألك من أي الفاكهة أكلت قلت من كذا , نفرض قلت من البرتقال هذه ( من ) ما هي ؟(4/4)
بيانيه فأنت بينت أي نوع من الفاكهة أكلت .
أما ( من ) التي بين أيدينا (( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) هذه ( من ) بعضيه , بمعنى بعض من أهل الكتاب وليس الكل .
(( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ )) لا يساوي شيء (( لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) ما دمت عليه قائماً هذا كناية , كناية عن الإلحاح والمواجهة وشدة الطلب وأنت تتعقبه من مكان إلى آخر حتى يؤدي إليك ماذا ؟ الدينار والذي قبله يؤدي إليك القنطار رغم انه أضعف وأكبر من الدينار مرات عديدة لكن الأول أمين والثاني خائن . وقلنا أن الأمانة تؤدى لكل أحد يستحقها إن كان باراً أو إن كان فاجراً , (( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً )) كناية عن الإلحاح كثره المواجهة كثره الطلب تنتقل معاه من مكان حتى يؤدي إليك حقك .
(( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) هذه (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))
جملة تعليليه ينجم عن الآية ما يلي :
أن في اليهود قوم مؤتمنون وهم قلة وقم خائنون وهم كثرة . وهؤلاء الخائنون علتهم في الخيانة يعنى إذا قيل لهم لماذا لا تؤدوا الأمانات ؟ قالوا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) .
(( الأُمِّيِّينَ )) جمع أمي وهو في اللغة من لا يقرا ولا يكتب .
أما المقصود بها هنا فهم أمة العرب من يقرأ ومن لا يقرأ قال الله عز وجل وقلنا إن القران يفسر بعضه بعضاً (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ )) الأميين من ؟(4/5)
أمة العرب فقول اليهود : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) اليهود يقولون إن هؤلاء العرب قوم أميون لا دين لهم ولا يرونهم شيئاً لأن اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار , ويقسمون الناس غيرهم طبقات فلا يرون العرب شيئاً ويقولون إن المال الذي في يد العرب أصله لنا فإن حصل بيننا وبينهم تقاضي بيع وشراء وأمانه فلا حاجه أن يرد إليهم المال لأن المال أصلاً لنا .
فالمعنى الحرفي لقول الله جل وعلا : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) أي ليس علينا إثم ولا حرج ولا وزر أن نأكل أموال الأميين فما من طريق يصل إلينا بها المحاسبة (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )) وقلنا أن الأميين يطلق على العرب لأن الأصل أن العرب أمة لا تقرأ ولا تكتب . قال صلى الله عليه وسلم : ( إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب , الشهر هكذا وأخذ يشير صلى الله عليه و سلم بأصابع يديه ليفهم من حوله ) , والنبي عليه الصلاة والسلام نعت في القرآن بأنه نبي أمي قال شوقي :
يا أيها الأمي حسبك ربتة فالعلم أن دانت بك العلماء
أما لماذا بعث النبي أمي ؟(4/6)
فليقطع الله جل وعلا ألسنه المشككين وشبه المعاندين فإن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن من عند ربه أبلغ كتاب وأعظم عبارات وأجل كلام فلو كان عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب من قبل لقال عنه الكفار إن هذا الكتاب الذي أتى به أخذه عن من ؟ أخذه عن غيره لأنه يقرا ويكتب فما زال يطالع أربعين سنة ثم بعد أربعين سنة من المطالعة والقراءة والكتابة والاستكتاب خرج إلينا بهذا القرآن فبعث الله جل وعلا نبيه أمي لا يقرأ ولا يكتب , قال سبحانه : (( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ )) يعني لو كنت تقرأ وتكتب (( إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )) العنكبوت ( 48 ) . لكنه النبي عليه الصلاة والسلام كان أمي لا يقرأ ولا يكتب وهذا من فضل الله جل وعلا عليه .
نعود إلى مسألة مهمة فالأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم منقبة وفي حق غيره مثلبة .
يحسن بالرجل أن يقرأ ويكتب ولذلك قال الله جل وعلا : (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )) العلق ( 1 ) . فلا يأتي إنسان ويقول نحن ننتسب إلى أمة أميه فلا حاجه لأن نقرأ ولا نكتب , هذا النبي عليه الصلاة والسلام أمي حتى يقطع الله على يديه ألسنة المعاندين أما نحن ففي حاجة ملحة لأن نقرأ ونكتب ونزداد علماً .
وليس الأمي المقصود بها النبي عليه الصلاة والسلام عدم العلم وإنما قلت القراءة والكتابة وإلا العلم شيء آخر , فقد يكون من العلماء من لا يقرأ و لا يكتب يأخذ علمه بالتحصيل ويعطيه بالتلقين .
ثم قال سبحانه : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يعلمون أنه لهم وعليهم في الأميين سبيل ثم قال سبحانه : (( بَلَى )) هذه (( بَلَى )) جواب من الرب سبحانه على دعوى أهل الكتاب ليصبح المعنى بلى عليكم في الأميين سبيل .(4/7)
ثم قال سبحانه : (( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) هذه من (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى )) جملة استئنافية و (( بَلَى )) منقطعة عنها جواب من الرب سبحانه لما قبلها . أما معنى قول الله جل وعلا : (( مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) أي من عاهد إنساناً على أمانة وردها وأتم العهد فإنه قد أتم الشيء الذي عليه واتقى ربه ,
وهذا من أسباب حصول محبة من ؟ محبة الله سبحانه وتعالى قال الله جل وعلا : (( فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) .
ينجم عن الآيات كلها فوائد عدة لأن القرآن إنما أنزل ليكون منهجاً يسير عليه الناس :
الفائدة الأولى : ينبغي أن تفر في عباراتك وكلامك من ألفاظ العموم لأن ألفاظ العموم تجمع ما بين البر والفاجر والمخطئ والمصيب وليس هذا من العدل في شيِ . فقلنا هؤلاء يهود ومع ذلك لما تكلم الله عنهم سبحانه فصل ولم يقل جل وعلا إن اليهود كلهم لا يؤتمنون , وهذا أسلوب قرآني يعرفه كل من تدبر القرآن وسيأتي في آل عمران أن الله قال : (( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )) . فالإنسان العاقل عندما يتكلم أو يحكم على قوم أو على جماعة أو على دار أو على مدرسة أو على أي شيء أو على أمة لا يحكم حكماً عاماً ولا حكماً جماعياً وإنما يفر من ألفاظ العموم على منهج القرآن الذي بينه الله جل وعلا للناس .(4/8)
الفائدة الثانية : الحق من قول أو فعل يقبل من أي أحد . دل على هذا هذه الآية عن طريق التلميح ليس عن طريق التصريح , ودلت آيات أخر عن طريق التصريح أن الحق يقبل من أي أحد , بلقيس كانت تحكم اليمن وكانت تعبد الشمس كما قال الهدهد : (( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ الله )) النمل ( 24 ) .لما حصل ما حصل من بعث سليمان عليه السلام الخطاب لها وأخذت تستشير قومها قالت لهم : (( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً )) هذا كلام من ؟ كلام بلقيس في كتاب الله قال الله بعدها : (( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون )) فالله جل وعلا صدقها على قولها رغم أنها عابدة ماذا ؟ عابدة شمس . الكفار القرشيون قال الله عنهم : (( وإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا )) الأعراف ( 28 ) . فذكروا سببين لفعل الفاحشة فلما رد الله عليهم قبل الله الأولى ولم يردها رغم أنهم عباد وثن يعبدون اللات والعزى لكن الله قبل قولهم أنهم وجدوا عليها آباءهم فلم يرد عليهم لكن رد في الثانية جاءت الآية (( قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )) الأعراف ( 28 ) . لأنهم كذبوا في قولهم أن الله أمرهم بها لكن عندما قالوا (( قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا )) كانوا صادقين فلما كانوا صادقين أن آباءهم ورثوا هذا الشيء من آباءهم لم يرده الله جل وعلا عليهم .
فالحق يا أخي يقبل بصرف النظر عن قائله , وأما الخطأ فانه يرد بصرف النظر عن قائله .
فالخطأ يرد لكن إن كان قائله معروف بالعلم والصلاح والتقوى فانه يعتذر له ولسْتَّ ملزم بقبول القول لكنك لا تقع في عرضه .(4/9)
الفائدة الثالثة : أنه يجب تأدية الأمانات إلى أهلها فالدَّين شأنه عظيم عند الله تبارك وتعالى ومن يستدن ليأكل أموال الناس يضيعه الله جلا وعلا كما يريد أن يضيع أموال خلقه , ومن استدان ليسد ثغرة وإنما منعه العجز عن رد الدين فهذا يسدد الله جل وعلا عنه ولا يأثم . وكيف نعرف أن فلاناً يستدن من أجل تضييع أموال الناس أو من أجل الرد ؟ هذا يظهر من طبيعة المعاملة , فمثلاُ لو أن إنساناً تاجراً احتاج إلى مئة ألف ثم اقترض من رجل ما مئة ألف وقامت تجارته ثم انكسرت تجارته ثم لم يبقى في يديه إلا أموال يسيره ألف , ألفين , ثلاثة , فجاء اشترى بهذه الألف أو الألفين شيئاً لبيته فلا نقول له يجب أن تسدد المائة ألف , لأن هذه الألف والألفين ريال مثلاً لا تنفع صاحبها , وإنما تنفع الرجل في بيته وهي لا تنفع صاحبها الأول , لأن المبلغ زائد عن الحد عن قدرة هذا المستدين , لكن إذا كان الإنسان ينفق في شيء زائد عن حاجته بمقدار أكثر قليلا أو أقل مما هو مستدينه يدخل في من لم يفي بحق الأمانة بينه وبين الناس . وإذا كانت الشهادة ترفع بها كل إثمٍ إلا الدين كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أخبرني به جبريل آنفاً ) فهذا يبين أن الأمانات بين الناس شأنها عظيم ومن حاول وجاهد في تأدية الدَّين عن نفسه أدى الله جل وعلا عنه وأعانه ربه تبارك وتعالى .
ثم قال الله سبحانه في الآية التي تليها : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(4/10)
المناسبة بين الآيتين السابقة واللاحقة : الآية السابقة بيان للمعايب المالية وأما الآية التي بعدها بيان للمعايب الدينية في اليهود في عقائدهم . قال الله جل وعلا : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) اللي هو الميل تقول لوا فلان يدا فلان أي أمالها . (( يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ )) أي يحرفون الكتاب لفظاً ومعنى وينطقونه على هيئة من يغررك أنه من كلام الله .
(( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ )) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وأصل الكلام تحسبونه بالنون لكن حذفت النون لدخول لام التعليل . (( لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) إذاً (( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ )) ( ما ) هذه ما نوعها ؟ نوعها نافيه .
(( ومَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ )) المعنى أنهم لم يكتفوا فقط بأنهم يحرفون في الكلم حتى يلبسوا على الناس أن ما يقولونه من عند الله بل زادوا على ذلك إثماً فلم يكفيهم التلميح وإنما لجؤوا إلى التصريح وصرحوا كفراً وكذباً بأن ما يقولون هو من عند الله وهم يعلمون يقيناً أنه ليس من عند الله , قال سبحانه : (( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) أي يفعلون ما يفعلون من كذب وخداع وتمويه على الناس وهم يعلمون حقيقة أنهم يأتون الباطل بعينه فلا يرتدعون عنه وهذه نعت مما نعت الله جل وعلا به اليهود .
فتَحَصَّل من الآيتين معيبان : المعيب الأول مالي والمعيب الثاني ديني (( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )) .(4/11)
ثم قال سبحانه : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) نعود لقضية المال الناس يتعاملون بالمال , حب الدنيا العاجل يدفع البعض والعياذ بالله لأن يحلف كذباً حتى ينال شيء من حطام الدنيا الزائلة وهذا أكثر ما يكون في التجار وهو وإن كان في اليهود يظهر إلا أنه ليس مختص بهم وحدهم وإنما يكون في كل صاحب سلعه في الغالب يريد أن ينفقها ويكون في غير أصحاب السلع . والمعنى أن الحلف بالله شيء عظيم وإعطاء العهد بالله تبارك وتعالى شيء أعظم .
فإذا كان الإنسان يبيع هذين العهد والحلف بالله من أجل أن يشتري شيئاً من الدنيا يعلم انه زائل كذباً وميلاً وزوراً فهذا توعده الله جل وعلا برواعد وزواجر عدة من أهمها :
أن الله جل وعلا لا يجعل له في الآخرة حظاً ولا نصيباً وهذا معنى قول الله جل وعلا : (( لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ )) فالخلاق هنا بمعنى الحظ والنصيب فلا حظ لهم ولا نصيب , (( وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ )) وهذا والعياذ بالله منتهى الحرمان , (( وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وهذا اشد , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ )) أي لا يطهرهم وتطهير الله لعباده يكون بغفران ذنوبهم وستر معايبهم , (( وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .
ويتحصل من هذا فقهياً ما يلي :
أن الأيمان ثلاثة :(4/12)
الأولى : يمين اللغو : تجري على ألسنة الناس لا يتعمدونها ولا يقصدونها فهذه قال الله جل وعلا عنها : ((لاَّ يُُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )) , يقول الرجل " بلا والله " , " كلا والله " , " اجلس والله " فهذه تجري على اللسان لم يتعمدها العبد فهذه أسماها الله جل وعلا لغواً وأخبر جل وعلا أنه لا يؤاخذ عليها .
اليمين الثانية : تسمى اليمين المنعقدة : وهي التي قال الله جل وعلا عنها (( وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )) وهذه تكون في الأمور المستقبلية " تفعل أو لا تفعل " , " تترك أو لا تترك " , فهذه إن وقعت على خلاف ما قلت يلزم منها كفاره اليمين .
وكفارة اليمين : واحد من ثلاث على التخيير إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة . فإن أعتق رقبة أو أطعم عشرة مساكين أو كسا إنساناً ما يكفيه لأن تقام بلباسه الصلاة يستر عورته في الصلاة . هذه الثلاثة على التخيير فإن لم يستطع أن يحرر رقبة ولم يستطع أن يطعم عشرة مساكين ولم يستطيع أن يكسوهم ينتقل في حالة العجز عن هذه الثلاثة بالتخيير ينتقل إلى الصيام , والمشهور عند العامة أن الصيام مواز لهذه الثلاثة وهذا خطأ . فإن هذه الثلاثة بينها التخيير قال الله جل وعلا : (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ )) أي واحد من هذه الثلاثة (( فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ )) المائدة ( 89 ) . فلا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن واحدة من هذه الثلاث .
هذان الاثنان لا علاقة له بالآية , الأخير هو الذي له علاقة بالآية .(4/13)
اليمين الثالثة : التي يحلفها الإنسان على شيء قد مضى , " يحلف على شيء لم يكن على أنه كان وعلى شيء قد كان على أنه لم يكن " هذه تسمى يمين غموس ولأنها من كبائر الذنوب لم يجعل الله جل وعلا لها كفارة , فتسمي يمينٌ غموس يمينٌ فاجرة , يلزم فيها التوبة النصوح والتخلص من المظالم والأوبة إلى الله جل وعلا . قال صلى الله عليه وسلم كما عند الستة من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( من حلف على يمين فاجرة وهو كاذب ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله جل وعلا وهو عليه غضبان ) عياذاً بالله . وكفى بالمرء إثماً أن يلقى الله جل وعلا وربه تبارك وتعالى غضبان . وبالاستقراء أي في النظر في أحوال الناس عبر التاريخ أن كل من يحلف على يمين كاذبة يعاقبه الله جل وعلا قبل أن يموت . وهذا في محلات السيارات وأمثالها كثير خاصة إذا كان في قسمه وأيمانه مضرة على إنسان مسلم , كشهادة الزور تودي بأخيه المسلم وتضر به في الدنيا فهذه اليمين تبقى ملتحقة به وينتقم الله جل وعلا منه .(4/14)
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أبو إسحاق أحد العشرة المبشرين بالجنة . بعثه عمر رضي الله عنه أميرا على الكوفة فمكث فيها ما شاء الله , ثم جاء وفد من الكوفة فسألهم عمر رضي الله عنه عن سعد ؟ فكأن بعضهم ألمح على أنه لا يريده ,فبعث عمر رضي الله عنه و كان حاكماً عادل أشبه ما يسمى في أيامنا هذه بلجنة تتقصى الحقائق , فجاءت هذه اللجنة إلى الكوفة فأخذت تسأل الناس عن سعد في المساجد فيأتون المسجد يقولون كيف أميركم سعد ؟ فيدلي الناس بإجاباتهم حتى دخلوا مسجداً لبني عبس اللذين سكنوا الكوفة من بني عبس فلما دخلوا فيه سألوهم عن سعد ؟ فقام رجل قال : أما وقد سألتنا عنه فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية فقال كلمة أخرى كلها يرى أنها عيوب في سعد رضي الله عنه , وكان سعد رضي الله عنه حاضراً مع اللجنة فلما سمعه سعد رضي الله عنه وكان سعد رضي الله عنه يعلم أن هذا كاذب وقد حلف قال رضي الله عنه " اللهم إن كان عبدك هذا قد قال ما قال كذباً ورياءً فاللهم أطل عمره وعرضه للفتن " . فعاش هذا الرجل ما شاء الله له أن يعيش حتى طال عمره وأصبح رجلاً أبيض الحواجب مع بياض الشعر حتى تساقطت حاجباه على عينيه من شدة الهرم وكبر السن ومع ذلك في هذا السن التي يعقل فيها كل ذي خبل كان يقف في شوارع الكوفة وأحياءها وأسواقها يتعرض للنساء ويغمزهن ويلمزهن وهو قد تجاوز المئة فإذا قال له الناس يا رجل اتق الله يقول شيخٌ مفتون أصابته دعوة سعد . فلا يجد في نفسه قدره على أن يمتنع عن هذا . موضع الشاهد إن اليمين الفاجرة من أعظم ما حرمه الله ومن كبائر الذنوب وقد دلت الآية عليها : (( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) .(4/15)
ثم قال سبحانه : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) هذا عود على بدء . والمعنى قلنا في الدرس السابق إن آية المباهلة نزلت بسبب وفد نجران وقلنا إن وفد نجران يقولون إن المسيح ابن الله فيعبد كما يعبد الله حسب زعمهم , هنا الله جل وعلا يقول رداً عليهم أنه لا يمكن أن يقع ولا ينبغي أن يقع أن الله جل وعلا يعطي بشراً الحكم أي الحكمة والكتاب المنزل ويجعله نبيا ثم هذا العبد يقول للناس اجعلوني رباً من دون الله , هذا لا يمكن أن يقع شرعاً ولا قدراً , لسبب بسيط وهو أن (( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )) الأنعام ( 124 ) . هؤلاء الأنبياء الجم الغفير الله جل وعلا قبل أن يبعثهم علم تبارك وتعالى ما في قلوبهم . ولذلك لا يمكن أن يقع منهم خلاف ما أراده الله جل وعلا أن يكونوا عليه , لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية القدرية , من الناحية القدرية كل الناس في هذا سواء ولكن لا يقع منهم لا شرعا ولا قدرا . ولذلك قا ل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ )) طيب ما الذي يقع ؟ جاء الجواب ولكن أي الذي يقع والذي يقوله النبي (( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) كلمة رباني نسبة إلى الرب فزعم بعض العرب أنها لفظ غير عربي وأنها غير مسموعة بلغة العرب والأكثرون على أنها عربيه .
والمعنى اختلف العلماء فيه في معنى (( رَبَّانِيِّينَ )) وجميع ألفاظ العلماء تدل على معناً متقارب فمجملها أن يقال :(4/16)
إن الرباني هو : العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمه ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره .
إن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم . والحوادث المعاصرة ميزت كثيراً من الربانيين عن غيرهم . فالربانيون من العلماء لا يلقون الناس في المهالك . والشاطبي رحمة الله في الاعتصام وفي الموافقات وهي كتب في التأصيل العلمي بين كثيراً في معنى الربانية وتكلم على ما ينبغي أن يكون عليه العالم الحق الذي يسوس الناس في أيام الفتن العالم . الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال وإنما يهمه أن ينظر في المآل . أعيد العالم الرباني الذي يسوس الناس في أيام الفتن لا يهمه أن يجيب على السؤال حتى يقال عالم ويتخلص منها وإنما يهمه أن ينظر في المآل قبل أن يتكلم . فينظر مآل قوله مآل فتواه وعاقبتها على عامة الناس قبل أن يتفوه بها حتى يكون الناس على بينه من أمرهم في دين الله جل وعلا وتلك منازل الكل يطلبها وقليل من يحصل عليها بلغنا الله وإياكم إياها .
(( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )) الباء في الحالتين سببيه . والمعنى بما أنكم رزقتم الكتاب تعلمونه وتَدرسونه وتُدرسُونه فإنه ينبغي عليكم أن تكونوا ربانيين وأنتم تسوسون الناس .(4/17)
ثم قال سبحانه (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الواو هنا عاطفة على الصحيح . والمعنى إن هذا النبي يقول لقومه إن الله لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً , ذلك أن لب دعوة الرسل هي إقامة التوحيد , فلو جاء نبي وطلب من الناس أن يعبدوا الملائكة ويعبدوا النبيين لخالف هذا جوهر الرسالة التي بعث من أجلها . فما أنزل الله الكتب ولا بعث الله الرسل ولا نصب الله الموازين ولا أقام البراهين إلا ليعبد وحده دون سواه . فعلى هذا كان بدهياً أن الأنبياء والمرسلين يأمرون الناس أن يفروا من الربوبية العبودية إلا أن يعبدوا الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه .
(( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) الناس إذا علموا الكتاب وعلموا الحكمة تحركت الفطرة التي في أنفسهم وأصبحت مقبلة على الله , فكيف يعقل أن هذا النبي بعد أن أسلم الناس وأصبحوا مقبلون على ربهم جل وعلا يطلب منهم أن يعبدوا الملائكة أو أن يعبدوا النبيين هذا لا يمكن أن يقع كما بينا كما قال الله : (( مَا كَانَ )) أي ما ينبغي ولا يمكن أن يقع . (( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ{79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون )) .(4/18)
ثم قال سبحانه : (( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
اختلف العلماء في تفسير هذه الآية على طريقين :
فريق يرى وهم الأقل من العلماء أن هذه الآية شاملة لجميع الأنبياء , والمعنى عندهم أن الله جل وعلا بعث النبيين بغاية واحده هي عبادته سبحانه فيأخذ الله جل وعلا من كل نبي أن يبين هذا للناس وأن يعينه من بعده على هذا الطريق هذا ما فهمه بعض العلماء . والفريق الثاني وهم الأكثرون من العلماء وهم المحفوظ المنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن هذه الآية منقبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ,
ويصبح معنى الآية على النحو التالي : إن هناك ميثاق وهناك من أخذ الميثاق , وهنا ك من أُخذ عليهم الميثاق . فأما الذي أخذ الميثاق فهو من؟ الرب جل وعلا وهذا واضح .
(( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ )) . والذين أحذ منهم الميثاق النبيون وأتباعهم وإنما ذكر النبيين فقط وأن من درج فيهم الأتباع لأن الأنبياء رؤوس الناس . مالذي أخذه الله منهم ؟ أخذه الله منهم أنه متى ظهر نبينا صلى الله عليه وسلم في زمانهم يجب عليهم أن يتبعوه (( ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ )) المقصود به نبينا صلى الله عليه وسلم (( مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) والإصر بمعنى العهد (( قالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) .
ينجم عن هذا أمور فهو المقصود من درس التفسير اليوم :(4/19)
النبي صلى الله عليه وسلم حضنا من النبيين ونحن حظه من الأمم ولا نبي بعده ولا أمة بعدنا , وهذا النبي خصه الله جل وعلا بأمور منها ما يشترك مع إخوانه من النبيين ومنها ما هو خصيصة له صلوات الله وسلامه عليه .
فمما يشترك فيه مع النبيين مر معنا أن النبي تنام عينه ولا ينام قلبه وأنه يخير عند الموت وأنهم يدفنون حيث يقبضون وأنهم مؤيدون بالوحي هذا كله يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره من الأنبياء .
ثم خصه الله جل وعلا بخصائص عده صلوات الله وسلامه عليه , منها هذه الخصيصة وهي أن الله أخذ العهد والميثاق من النبيين من قبل أنه متى ظهر صلوات الله وسلامه عليه في زمانه أن يتبعوه . وهو صلى الله عليه وسلم ظهر و ليس هناك نبي وآخر الأنبياء قبله عليه الصلاة والسلام عيسى ابن مريم عليه السلام وبين عيسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام قرابة ستة قرون وهو آخر الأنبياء أي عيسى عليه السلام قبل نبينا عليه الصلاة والسلام , يقول عليه الصلاة والسلام : ( لو أن موسى ابن عمران كان حياً لما وسعه إلا أن يتَّبِعني ) .
ولذلك الذين قالوا إن الخضر حي ـ الخضر صاحب موسى المعروف ـ في قول للعلماء أنه حي هذا وإن كان مرجوحاً نقول من أعظم الأدلة على أن الخضر غير حي أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف في لواء يوم بدر ويوم بدر جمع الله جل وعلا فيه على تلك الأرض على أرض بدر خيرة الله جل وعلا من خلقه تحت اللواء في يوم بدر , وذلك اللواء كان تحته النبي عليه الصلاة والسلام وجبرائيل . فلو أن الإنسان صنع ما صنع من الدين والمناقب والعطايا و الإمامة وغير ذلك لا يمكن أن يصل إلى الدرجة التي أعطاها الله جل وعلا أهل بدر يوم بدر , فإن الله جل وعلا أخرجهم من بيوتهم ليكونوا مع نبيه عليه الصلاة والسلام . وحسان بن ثابت قال مفتخراً في شطر بيت لم تعرف العرب فخراً أعظم منه أنه قال :
و جبريل تحت لوائنا ومحمد(4/20)
موضع الشاهد لو كان الخضر حياً لوجب عليه شرعاً أن يكون مع نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يومها في أعظم الحاجة إلى النصرة . ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى أهل بدر من أصحابه : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ) . وقال عليه الصلاة والسلام لعمر في قصة حاطب : ( أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم ) . فلا يعدل مقام النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر وأصحابه أي مقام لأي أحد بعدهم من أهل الدنيا لا من الصحابة ولا من غير الصحابة فإن لم يكن من الصحابة فمن باب أولى كل ما يصنعه الناس بعد الجيل الأول للصحابة لا يمكن أن يرقى لصنيع المسلمين الثلاث مئة والأربعة عشر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر . موضع الشاهد كنا نتكلم على أن الخضر يجب أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم . هذا العهد أول خصائص أو واحد من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم .(4/21)
من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الرسول يبعث إلى قومه خاصة وهو عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة . من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن الجن كذلك بعثه الله جل وعلا إليهم , ولما عاد عليه الصلاة والسلام في وادي نخله بعد خروجه من الطائف وأخذ يقرأ القرآن ويقوم الليل يتلوا آيات ربه جاء الجن فاجتمعوا عليه قال الله جل وعلا : (( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ))عبدالله يعني من ؟ نبينا صلى الله عليه وسلم يدعوا من ؟ يدعوا ربه (( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً )) الجن ( 19 ) . اللبد الشيء إذا تجمع . فالجن لما سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم وتوسله إلى ربه في ظلمة الليل في وادي نخله أقبلت رغم شدة جبروتها وأنها مخلوقه من نار أحاطت به صلى الله عليه وسلم وأخذت تسمع ما يقوله وأخذت تسمع ما يتلوه ويقرؤه صلى الله عليه وسلم في ظلمة الليل رغم أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ولم يرى الجن وهم يستمعون إليه ولذلك قال الله له : (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ )) أي أنا لا أدري (( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً )) الجن ( 1 ) . وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه اجتمعوا حوله وسمعوا قراءته وتلاوته وتهجده وتعبده لربه ودعائه لله وهو لا يعلم عنهم شيئا , فلما مضى صلوات الله وسلامه عليه أخبره ربه بان الجن كانت تستمع إليه . من خصائصه صلى الله عليه وسلم رحلة الإسراء والمعراج وهذه أشهر من أن تُعرف . ومن خصائصه صلوات الله وسلامه عليه أن الله يعطيه يوم القيامة مقام الوسيلة وهو المقام المحمود قال عليه الصلاة والسلام : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزله في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد صالح وأرجوا أن أكون أنا هو ) صلوات الله وسلامه عليه , فالوسيلة حق له صلوات الله وسلامه(4/22)
عليه من ربه وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام . والمقام يطول لكن الذي يعنينا أن يكون الفرد محبا متبعا لنبيه صلى الله عليه وسلم . وفي عصرنا هذا كثر المشاهير من أهل الحق ومن أهل الباطل وبالغ الناس فيهم بالذات مبالغات الناس في أهل الباطل , والمؤمن التقي العاقل الذي يعلم ويتلو كتاب الله حقا لا يقبل أن يعظم في قلبه إلا من ؟ إلا الله .
القلب يا أخي مثل الكعبة فالكعبة لا يليق أن يكون عليها صور لأنها بيت الله وقلب المؤمن لا ينبغي أن يعلق بأحد إلا بمن ؟ إلا بربه جل وعلا أو من أمرنا الله جل وعلا أن نحبه كنبينا صلى الله عليه وسلم فنحن نحبه صلوات الله وسلامه عليه لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه , ولا يمكن أن يرقى حبنا له كحبنا لربنا تبارك وتعالى .
كما أن المبالغة في مدح أهل الحق يخرج بهم كذلك , قد يدخلهم في الفتن وهذا حاصل في عصرنا فإن الإنسان من طلبة العلم يحمد له حبه للعلماء وحبه للدعاة وهذا شئ من فضائل الأمور ولكن لا يحصل المبالغة في تعظيم الدعاة ولا العلماء ولا المدرسين ولا غيرهم مبالغة يتجاوزون بها عن الحد لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن , وربما أعجبت الإنسان نفسه من كثره مبالغة الناس في تعظيمهم له وثنائهم عليه وتقبيلهم لرأسه يوم بعد يوم مرحله بعد مرحله فيدخله والعياذ بالله ما يدخله ما يكون سبب في هدم دينه وهدم دين أتباعه , وقد ذكر بعض العلماء الثقات رحمه الله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعلم كيف يبلغ الناس أحياناً بهم الضلال إلا ما لا نهاية ,(4/23)
أن رجلاً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يضن نفسه أنه من أولياء الله من أصحاب الطرائق المذمومة فرءاه رجل من العامة كان يجلس بجانب هذا العالم المتوفى الذي كتب هذا بيده وأنا قرأته كان يجلس بجواره فلما جاء هذا الرجل قام هذا العامي وأجلس هذا الرجل مكانه , فلما فرغت الصلاة وهذا في الحرم النبوي قال هذا العالم وهو من أساطير العلماء قال له : يا هذا مرة أخرى لا تقم من مقامك في الحرم لأحد ولو كان القادم أبو بكر وعمر قالها للعامي والرجل يسمع فما ذا أجاب العامي وانظر إقرار الرجل قال العامي هذا أفضل ممن ذكرت أفضل من أبي بكر وعمر , قال الشيخ رحمه الله يقول وهذا يسمع ولا ينكر شيئاً عياذاً بالله , هذا الذي قال هذا عامي جاهل وهذا الذي قبل هذا رُبي يومياً عياذا بالله تدريجيا من مبالغات الناس وثنائهم حتى وصل إلى هذه المرحلة فصدق كذب الناس . من هذا يفهم أن أحياناً بعد الدرس بعض الطلاب جزاهم الله خيرا يسلمون ويقبلون الرأس لا داعي لهذا إذا كانت ولا بد أن تسلم على الشيخ صافحه . إذا قدم الإنسان من سفر لا بأس , لكن أن يقبل كل شيخ بعد كل درس على رأسه أو على غير ذلك هذا لا يحسن , فتنة للمحاضر وذلة للمتبوع والعاقل من حرر نفسه وحرر الناس من رقة أحد إلا لمن ؟ إلا الله جل وعلا .(4/24)
انتهينا من خصائصه صلى الله عليه وسلم كما بينا وقلنا إن محبته عليه الصلاة والسلام مندرجة في حبنا لربنا تبارك وتعالى . ثم إن هذه المحبة ينبغي أن تنقلب إلى سلوك فكما ينبغي أن تستقر في القلب ينبغي أن تنقلب إلى سلوك كيف تنقلب إلى سلوك ؟ إن الإنسان ينظر أين هديه من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وليس الدين أن تأخذ من الدين ما يناسبك وتترك ما لا يناسبك ولكن الدين أن تعلم أنه مبنيا على قاعدة واحده , القاعدة هذه قالها صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإن أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) . القدرات تختلف أما النهي الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم يجب أن تنتهي عنه نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الزنا عن شرب الخمر عن إيذاء المؤمنات عن أمور عده من المحرمات هذه لا مجال للأخذ والعطاء فيها ينتهي المؤمن . أما ما أمرنا الله به فالناس يختلفون لا يمكن أن نطالب الناس بالأمر الكلي ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( فاتوا منه ما استطعتم ) . فمثلا صيام ثلاثة أيام من كل شهر .صيام يوم وإفطار يوم هذا أمر محمود لكن ليس كل الناس يطيق الصيام , الأمر بالإنفاق أمر محمود لكن ليس كل الناس يملك المال وعلى هذا قس أمورك أن ما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم افعل منه ما تستطيع أن تفعله , أما ما نهاك النبي صلى الله عليه وسلم عنه فانتهي عنه بالكلية حتى يكون اتباعك لنبينا صلى الله عليه وسلم طريقاً لك إلى رحمه الله جل وعلا ومغفرته ثم في جناته جنات النعيم .(4/25)
ثم قال الله تبارك وتعالى : (( وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{80} وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ{81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) أي بعد أن بين الله هذه الحجج وأوضح الله تلك الطرائق وأقام الله جل وعلا تلك البراهين فجاء من الناس من أعرض وتولى ولم يقبل نداء الله تبارك وتعالى له , فلا ريب أنه من الفاسقين .
وقد قلنا في الدرس السابق أن الفسق ينقسم إلى كم قسم ؟ إلى قسمين :
قلنا فسق يخرج من الملة كقول الله : (( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ )) وفسق غير مخرج من الملة قال الله جل وعلا : (( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )) الحجرات ( 7 ) . ومن القواعد العلمية " أن العطف يقتضى المغايرة " . والله عطف الكفر والفسوق والعصيان بعضها على بعض فدل على أن الكفر غير الفسوق والفسوق غير العصيان (( فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )) .
ثم قال سبحانه : (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) .(4/26)
(( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ )) الهمزة للاستفهام ونوع الاستفهام هنا استفهام إنكاري أي المعنى : كيف يبغون ديناً غير دين الله . من عرف هذه الحجج وعرف هذه البراهين واستبانت له لا يمكن أن يقبل ديناً غير دين الله تبارك وتعالى . ثم ذكر الله جل وعلا أن مما يدلهم على أنه ينبغي أن يتبعوا الله أن الله جل وعلا قال : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) اللام هنا للملكية وقد جاءت معنا في آية الكرسي لما قلنا إن الله يقول : (( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )) .
وقلنا أن الملك كم قسم ؟ قسمان : ملك حقيقي وملك صوري .
وقلنا إن ما يجري في الدنيا اليوم هو ملك صوري وأن الملك الحقيقي أصلاً لله وقلنا أن ما تملكه اليوم إما أن تذهب عنه و إما أن يذهب عنك , ولذلك قال الله جل وعلا : (( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ )) الفرقان ( 26 ) . مع أن الملك يومئذ واليوم لله وقال الله جل وعلا في آخر الانفطار : (( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )) ولاشك أن الأمر كل يوم لله لكن المقصود حتى الحالة الصورية تغيب وتذهب (( أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ )) أي انقاد وخضع واستسلم لله تبارك وتعالى (( طَوْعاً وَكَرْهاً )) هذا من الأضداد ويسميه البلاغيون طباق إذا جاءت الكلمتان متضادتان يسميه البلاغيون طباق مثلاً الليل والنهار, طوعا وكرها .
طوعا معروفه وكذلك كرها .
ولكننا نفرق ما بين كَرها بفتح الكاف وكُرها بضم الكاف وهذه من اللغويات وهذه شرحناها في دروس متفرقة :
نقول أن الكَره هي المشقة الخارجة عنك التي لا تريدها الأمر الذي تجبر عليه وأنت لا تريده هذا يعبر عنه بماذا؟ بالكَره .
وأما الكُره بضم الكاف فهي المشقة التي تريدها رغم أن فيها مشقه , المشقة التي تطلبها أنت لأن فيها منفعة رغم مشقتها .(4/27)
وبالأمثال يتضح الحال : الحال الكَره مثل قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية : (( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )) وقول الله تبارك وتعالى : (( لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً )) أي وهن غير راضيات . أما الكُره بضم الكاف فإن الله كتب الحمل على بنات حواء وقال سبحانه وتعالى : (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً )) الأحقاف ( 15 ) . فالمشقة التي تأتي للمرأة مشقة الحمل مشقة مرغوبة أو غير مرغوبة ؟ مرغوبة طبعاً ما من امرأة إلا وهي تريد أن تلد وتحمل فهذه مشقة مرغوبة لذلك عبر الله عنها بالكُره . أما عند ما تكون غير مرغوبة تسمى كره بفتح الكاف . قال الله جل وعلا عن الجهاد في سبيله : (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ )) البقرة ( 216 ) . بضم الكاف والجهاد فيه مشقة لأنه فيه ذهاب أرواح وذهاب أبدان وذهاب أموال ويرى الناس فيه من العناء والمشقة الشيء العظيم لكن ما فيه من أجر ما يتعلق به من ثواب ما ينال المسلم فيه من قربات عند الله هذا يجعله محبوباً إلى النفوس , لذلك عبر الله جل وعلا بضم الكاف .
ثم بين سبحانه وتعالى دلالة ملكه وعظيم عطائه فقال جل ذكره : (( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) أي أن مآبهم ومردهم إلى الله تبارك وتعالى وهذه آية من مثاني القرآن سيأتي عنها الحديث تفصيلاً .
هذا ما أردنا بيانه ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق . وفي الأسبوع القادم بإذن الله تبارك وتعالى نواصل ما تيسر من تفسير سورة آل عمران .
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(4/28)
تأملا ت في سورة
آل عمران
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثالث ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فهذا درس متواصل في تفسير كتاب الله جل علا ومازلنا وإياكم في سورة آل عمران في تفسير قول الله عز وجل (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) إلى قوله جل وعلا : (( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) ( 92 – 97 ) .
نقول مستعينين بالله عز وجل , قال ربنا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه : (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) المعنى الإجمالي للآية : أن الله جل وعلا يخبر أن معالي الأمور والجوامع لكل خير التي هي رأس كل غاية وأمل كل مؤمن لا تنال إلا بإنفاق الإنسان لأشياء يحبها , والله جل وعلا جبل القلوب على حب المال قال سبحانه : (( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً )) سورة الفجر( 20 ) وقال جل ذكره : (( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )) سورة العاديات ( 8 ) .
والمال هنا ليس وقفا على النقدين الذهب و الفضة وإنما المال كل ما يتمنى الإنسان ويملكه من نقدين أومن عقار أو أراض أو من غير ذلك كعروض التجارة , هذا كله يدخل تحت مسمى المال كالخيل والفرس وما أشبه ذلك مما يملكه الإنسان .
فالله جل وعلا يقول إن النفوس جبلت على حب المال فإذا بلغ الإنسان مرتبة يتخلى فيها عما يحب لشيء أعظم وهو حبه لله جل وعلا كان ذلك موصل لطريق الخير والبر .(5/1)
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) لن تحصلوا عليه لن تدركوه . (( حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) أي حتى يتخلى الإنسان عن محبة الدنيا والتعلق بها ويصل بنفسه إلى مرحلة يتخلى عن ما يحب من أجل ما عند الله جل وعلا من ثواب وعطاء وجزاء .
ثم قال سبحانه : (( وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) كل ما أنفقه الإنسان مهما عظم أو حقر فإن الله جل وعلا يعلمه ويكتبه له إن خيراً فخير وإن كان غير ذلك فغير ذلك .
جيل الصحابة أعظم جيل بلا شك :(5/2)
هذه الآية لما نزلت كان جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أعظم جيل بلا شك , ناصروا نبينا صلى الله عليه وسلم وأيدوه ووقفوا معه , هم شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام رضي الله عنهم وأرضاهم , لما نزلت هذه الآية تسابقوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم في الإنفاق مما يحبون , ومما نقل نقلاً صحيحاً ما في الصحيحين من حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما روى عنه أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة هذا الصحابي الجليل كانت له نخلٌ في مقدمة المسجد النبوي تسمى بئر بالنبر وبير بالياء " بئر حاء " كانت في مقدمة المسجد وكان ماؤها عذب طيب كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ذلك النخل ويشرب من ذلك الماء الطيب , فلما نزلت هذه الآية عمد هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه وأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا النخل صدقة في سبيل الله فقبلها عليه الصلاة والسلام وقال له : من باب الإرشاد ( اجعلها في أقربائك ) , فجعلها أبو طلحة رضي الله عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاده في اثنين من الأنصار هما حسان بن ثابت وأبي بن كعب وكانا ذا قرابة من أبي طلحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه . كما نقل من وجه آخر أن زيد بن حارثه الذي جاء ذكره في القران أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت له فرس تسمى" سَبَل " وكانت أثيرة عنده مقربةً لديه فلما أنزل الله جل وعلى قوله : (( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) جاء زيد رضي الله عنه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وقال : يا نبي الله إن فرسي سبل أحب مالي إلي وقد أشهدتك أني جعلتها صدقة في سبيل الله وأعطاها النبي عليه الصلاة والسلام ليتصدق بها فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أسامه بن زيد وأعطاه الفرس فلما أعطاه الفرس قال صلى الله عليه وسلم : ( اقبضه يا أسامه ) تغير وجه زيد لأنه ما كان يريد أن يأخذها ولده حتى يشعر أنه أنفق بعيداً , فلما رأى(5/3)
النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه زيد قال : ( يا زيد إن الله جل وعلا قد قبل صدقتك منك ) . موضع الشاهد أن المقصود إخراج حب المال من القلوب , أما أين يقع المال مسألة لا تهم إذا اجتهد الإنسان وبذل جهده , قد يقع في قرابة قد يقع في غير قرابة يجتهد الإنسان , والإنسان مأمور أن يجتهد أين يضع ماله لكن المهم إخراج الدنيا من القلوب .
ينبغي على الإنسان أن يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو :
وليس معنى ذلك أن يأتي الإنسان لشيء يتقوت به وينفق به على عياله ولا يملك غيره ثم ينفقه كما نسمع بين الحين والآخر فإن هذا قد يكون في بعض الأحايين مخالفاً للصواب قال الله جل وعلا : (( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً {29} إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً{30} )) سورة الإسراء . فالإنفاق أن ينفق الإنسان من أحب ما لديه نعم , ولكن ينظر نظرة توازن في أهله وذويه وأبناءه ومن لهم حق عليه , والناس في هذا يختلفون اختلافاً جذرياً , ليس معنى أنهم يختلفون في الإيمان , نعم هم كذلك لكن في هذا الشأن لا , إنما يختلفون في قضية أن من الناس من يستطيع أن يعوض ومن الناس من لا يستطيع أن يعوض , ولو ذهب ليقترض لا يقرضه أحد . فهذا لو أنفق ماله كله أصبح أشد ممن أنفق عليه وأشد ممن طلبه مالاً فأعطاه ولا يقول بهذا عاقل لكن يوجد إنسان له جاه و له قدره أن يستدين يحبه الناس و معروف , إمام مسجد , خطيب , مدير , موظف كبير هذا لو أعطى ماله كله يستطيع أن يعوضه , أو رجل تاجر حتى لو أنفق اليوم ماله كله غداً يكسب شيء آخر . على هذا يحمل ما فعله الصحابة , لا يأتي إنسان يقول أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله . نعم أبو بكر رضي الله عنه أنفق ماله كله لكن أبو بكر رضي الله عنه كان تاجراً ما ينفقه(5/4)
اليوم يعوضه غداً, لكن لا يأتي الإنسان كما نسمع في بعض الحملات في بعض المناسبات كحملة الانتفاضة أو غيرها يأتي الإنسان سمعت هذا بأذني لا يملك إلا السيارة التي ينقل عليها الماء يسميها العامة " وايت " , فلما تبرع بها قال : يعلم الله أنني لا أملك غيرها وبها أقتات لأبنائي , ثم قال : جعلتها في سبيل الله , هذا ليس بحق ولا برشد وليس بعقل نسأل الله أن يتقبل منه نعم , لكن هذا أمر لا يقبل لماذا ؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ) . هذا الرجل إذا أمسى وأبناءه لا يجدون طعاماً وبناته في ظل هذا الزمن الذي يحتاج فيه الناس إلى الدينار والدرهم كره أبناه الدِّين لأنهم يشعرون أن الدين هو السبب في إنفاق المال كله , المقصود أن الإنسان يتبع السنة بفهم للسنة لا بفهمه هو , إنما كما فهمها الصحابة رضي الله عنهم , أبو طلحه رضي الله عنه رجل غني رجل ثري من ماله المحبب إليه مزرعة بجوار المسجد أحب ماله إليه معنى أن ماله كثير ولكن هذا أحب ماله إليه . كإنسان عنده مزرعة وعنده قصر أفراح وعنده عمائر وعنده أبناء يقوتهم . وأحب ماله إليه المزرعة أو قصر الأفراح فتصدق بقصر الأفراح تصدق بالبناية تصدق بالمزرعة هذا طبق السنة .
أما أن يأتي إنسان وهذا يمر علينا بحكم مخالطتنا للناس يأتي شاب لا يملك إلا راتبه وقد يأتيه الراتب أحيانا أو موظف في شركه مرة يثبت ومرة لا يثبت ثم يأتي ويقول : أنفقت مالي كله لمؤسسة كذا أو جمعية كذا أو لسبب كذا , هذا يا بني الإنسان يكون راشداً عاقلاً لا يتكلف مفقود ولا يرد موجود يمشى بخطى والله أعلم بما في صدور العالمين , ولا حاجة لأن يرى الناس ماذا تصنع .(5/5)
نقول : عموماً أن الإنفاق من أعظم أسباب حصول الخير , لكن كما قلت بضوابطه الشرعية . وكلما كان في السر كان أعظم وأبلغ قال عليه الصلاة والسلام لما ذكر السبعة : ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) و ليست العبرة بالكثرة بقدر ما العبرة أن يصيب مال الإنسان ذا فاقة يحتاجها وكلما كان ذا قرابة كان أولى و أحرى لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أبا طلحه أن يضعها في قرابته فوضعها كما ذكرنا عند حسا ن وعند وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم أجمعين .
هذا المعنى الإجمالي للآية أما ما يتعلق بها علمياً :
فإن " لن " : حرف ناصب يفيد نفي المستقبل كما أن " لم " : حرف جازم يفيد نفي الزمن الماضي , وأنت طالب علم ستمر عليك " لن و لم " كثيراً , " لن " ينفى بها المستقبل و " لم " ينفى بها الماضي وكلاهما يؤثر في الفعل بعده .
فـ " لن " تنصب الفعل و " لم " تجزمه . وإذا طبقتها على الآية الله عز وجل يقول : (( لَن تَنَالُواْ )) أصل الفعل تنالون بنون زائدة في آخر الفعل و تسمى نون علامة ثبوت النون من الأفعال الخمسة .
لما دخلت " لن " حذفت النون فأصبحت (( لَن تَنَالُواْ )) بدون نون ثم توضع ألف للدلالة على أن هذه الواو " واو الجماعة " .
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ )) اختلف العلماء في المقصود بالبر قيل إنه الجنة وهذا رأي ابن مسعود وابن عبا س رضي الله عنهم والسدي رحمه الله وغيرهم من أئمة التفسير , وإذا قلنا أنه الجنة يصبح تقدير الآية : لن تنالوا ثواب البر الذي هو الجنة . فوضع المقدر مكان ما قدر به . وقيل إن البر اسم جامع لكل خير واختاره ابن السعدي في تفسيره على أن المعنى أن يصل الإنسان إلى الاسم الجامع لكل خير .
والغاية أن يقال إن البر سواءً قلنا إنه الجنة أو الطريق إلى الجنة فالمعنى متقارب لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الصدق قال : ( وإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ) ,(5/6)
(( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ )) " حتى " هذه يقول عنها بعض النحاة , والنحاة معروفون جمع نحوي وهم مشتغلون بعلم النحو مثل سيبويه و أقرانه , أحدهم قال قبل أن يموت : " أموت وفي نفسي شئ من حتى " .
والمعنى أن " حتى " حرف غريب في تأثيره فيما بعده , وذلك أنهم لما نظروا إلى الأحرف وجدوا أن عملها واضح جلي بعضها ينصب و بعضها يجزم و بعضها عطف وبعضها استئنافيه ولها طرائق . ولما جاؤا عند "حتى " وجدوا أنها تقبل الجميع ويمثلون ــ وأنا قلت أني مضطر أن أتكلم هكذا لأنك ستفسر القرآن بعدنا فلابد أن تتضح عندك الطرق ــ يقولون مثلاً : " أكلت السمكة حتى رأسها " أكلت فعل وفاعل والسمكة مفعول به , وبعدها " حتى رأسها " قالوا : إن قلت أكلت السمكة حتى رأسُها بالرفع صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب صح وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر صح . هذا الذي أشكل على النحاة وقال قائلهم : " أموت وفي نفسي شيء من حتى " .
فعلى القول أكلت السمكة حتى رأسُها تصبح " حتى " حرف استئناف و يصبح المعنى أكلت السمكة حتى رأسها أكلت , فتعرب رأسها مبتدأ وأكلت المقدر المحذوف خبر . وإن قلت أكلت السمكة حتى رأسَها بالنصب جعلت " حتى " حرف عطف فعطفت كلمه رأس على السمكة . وإذا قلنا أكلت السمكة حتى رأسِها بالجر تصبح " حتى " حرف جر وما بعدها اسم مجرور .(5/7)
(( حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) وهذا أحد معاني كلمة " ما " وقلنا فيما سبق أن " ما " تتكرر في القرآن ولها بحسب سياقها معاني عده فتأتي نافية وتأتي استفهامية , وهنا أتت شرطيه (( مَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) إذن الجملة جملة شرط . أداة الشرط : ما , وفعل الشرط : تنفقوا , وجواب الشرط : الجملة الاسمية (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) , على هذا " الفاء " في قول الله : (( فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )) واقعة في جواب الشرط .
قصة بني إسرائيل ومن هو إسرائيل ؟
ثم قال تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) .
نبين قصة إسرائيل ثم ندخل في مناسبة الآية :
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء ورزقه الله بعد ما كبر ذريه نص الله على اثنين من هؤلاء الذرية الأكبران الأجلان إسماعيل وإسحاق عليهما السلام , إسماعيل من هاجر وإسحاق من سارة , ومن إسماعيل جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ومن إسحاق جاء يعقوب عليهما السلام .
إلا أن يعقوب عليه السلام الأظهر أنه كان توأماً لأخ له يقال له " العيس " لما ولدتهما أمهما على ما يقول جمهرة المؤرخين ولدت العيس أولاً ثم أعقبه يعقوب فسمي يعقوب لأنه جاء في عقب أخيه . والعيس كان محبباً إلى إسحاق أكثر من يعقوب وكان يعقوب محبب إلى أمه أكثر من العيس .(5/8)
من يعقوب هذا ؟ بعدما كبر بفترة قابله مََلَك , المَلَك هو الذي سمى يعقوب إسرائيل على معنى أن كلمه إسرائيل عابد الرب ككلمه عبدالله أو حولها . إذن يعقوب عليه السلام له اسمان : يعقوب الاسم الذي سماه به أبوه والاسم الثاني إسرائيل . وبهما جاء القرآن قال الله عز وجل : (( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )) سورة هود ( 71 ) . وقال الله عز وجل : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) .
من ذريه إسرائيل هذا جاء بنو إسرائيل الذين من هم اليوم ؟ هم اليهود .
ومن ذريه إسماعيل جاء العرب المستعربة الذين هم نحن , ومن ذريه العيس جاء الروم الذين هم الأوربيون والأمريكيون اليوم ـ أغلب من هاجر إليها من الأوربيين ـ . إذن الأمريكيون و الأوربيون واليهود والعرب كلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام , إلا أن إسحاق وإسماعيل كانا نبيين بنص القران أما العيس فلم يكن نبياً وإنما كان محبباً لوالده ودعا له كما يقولون أبوه أن يملك غلاض الأرض وأن يرزقه من الثمرات وهذا حاصل كل من يرى ما هم فيه من الثمرات يتذكر دعوة إسحاق عليه السلام لابنه العيس . إلا أن من ذرية إسحاق جاء يعقوب الذي اسمه إسرائيل . فعندما يقال بنو إسرائيل ينسبون إلى جدهم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام . هذا إسرائيل " يعقوب " تخاصم مع أخيه العيس فخرج , عندما خرج بعد ما تخاصم مع أخيه العيس لم يكن له ذرية ثم رزقه الله ذرية , لما رزقه الله ذرية بارك الله له في ذريته حتى حصل ما حصل من قصة نبي الله يوسف عليهم السلام . ولم يكن يوسف وحيداً ليعقوب وإنما كانوا جملة أخوه ثم تاب الله على إخوة يوسف عليهم السلام .(5/9)
وعلى الصحيح أن إخوة يوسف هم الأسباط , فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب قال الله جل وعلا : (( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً )) سورة الأعراف ( 160 ) . أي : قبائل متفرقة كلهم يفيئون إلى الأسباط الإثنى عشر ولد الذين هم من ذرية إسرائيل . من هذه الذرية جاء أنبياء لا يعدون ولا يحصون منهم أيوب واليسع وذو الكفل سليمان وداود حتى وصلوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام . فبين موسى وإسرائيل نفسه أمم لا تعد ولا تحصى أو فتره زمنية طويلة أكثر من ستمائة عام .
موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي خرج ببني إسرائيل من أرض مصر , وهم سكنوا أرض مصر عند ما جاء يعقوب إلى ابنه يوسف عليهم السلام (( وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ )) سورة يوسف ( 100 ) .
أنا أريد أن أصل إلى قضية وهي قضية أنه توجد مسافة زمنية طويلة بين بني إسرائيل وبين موسى عليه السلام . التوراة أنزلت على موسى عليه السلام .
الآن نرجع للآية الله جل وعلا يقول : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) اختلف في سببها لكن جملة يقال :(5/10)
إن اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إن النسخ هذا شيء باطل , إذ ليس من المعقول أنت تأتي تنسخ شريعة موسى عليه السلام وشريعة عيسى عليه السلام وتقول : أنا أتيت بشريعة جديدة , و قالوا إنك تقول أن الله جل وعلى حرم علينا لأن الله في القرآن قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً )) سورة النساء ( 160 ) , و جاء قوله تعالى في سورة الأنعام الآية ( 146 ) : (( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ )) فقالوا : أنت تقول هذا الكلام وهم يقولون ـ وناقل الكفر ليس بكافر ـ يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم قولك هذا كذب هذه الأشياء محرمة علينا منذ إسرائيل بل هي محرمة منذ نوح وإبراهيم , ـ وهذا زعمهم ـ هنا الله جل وعلى يقول القول الفصل ولذلك قال بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .(5/11)
الله يقول لهم : إن الطعام كله كان مباحاً طيباً ليعقوب إلا جزئية بسيطة لم يحرمها الله . من الذي حرمها ؟ حرمها يعقوب على نفسه . لماذا حرمها ؟ ولم يذكر الله لما ذا حرمها , لكن ورد في السنن وفي الآثار أن يعقوب عليه السلام اشتكى عرق النساء ـ مرض معروف ـ فلما اشتكى عرق النساء نذر إن الله إذا شفاه من عرق النساء أن يحرم على نفسه أحب شيء إليه فكان يحب لحوم الإبل وألبانها , فلما شفاه الله حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها . إذاً تحريم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبانها كان باجتهاد شخصي منه, ولم يحرم الله على إسرائيل ولا من بعده شيء من الطعام إنما حرمه على قوم موسى لما بغوا حرم الله عليهم ما ذكره الله جل وعلا لنبيه , فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن ربه : (( كُلُّ )) وهي من ألفاظ العموم في القرآن , (( كُلُّ الطَّعَامِ )) أي : أي مطعوم كان حلاً أي حلالاً وجاءت منصوبة لأنها خبر كان . (( كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) . كذبتم فيما تزعمون (( إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ )) . قلنا لحوم الإبل وألبانها لأمر عارض .
(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا)) إذا أتيتم بالتوراة ستجدون فيها أن الله لم يحرم على إسرائيل شيئاً لأن التوراة أنزلت في عهد موسى وإنما المحرم فيها ما حرمه الله على بني إسرائيل وفق ما نصه الله جل وعلا في كتابه .
قال الله بعدها : (( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )) وهذا منتهى التحدي . و لم يأتوا بالتوراة وإنما بهتوا وألجموا ولم يقبلوا أن يعرضوها على النبي صلى الله عليه وسلم .(5/12)
ثم قال الله جل وعلا وهذا قول فصل وكلام رب العالمين لا يقبل الرد : (( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ )) من قال وتَّزعم كذباً بعد أن بينه الله (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) وقطعاً هم ظالمون لأنه قد ظلم نفسه وجاوز حده وافترى على الله من رد على الله جل وعلا كلامه وكذب قوله لذلك قال الله بعدها : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) .
بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم :
وعندما يقول الله (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) يأتي إنسان في هذه (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وفي (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) ويسأل : لماذا النبي صلى الله عليه وسلم قرأها : ((قل صدق الله )) ؟ ألم يكن من المفترض أن يقرأها (( صَدَقَ اللّهُ )) و (( يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و (( هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و ((أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) وهذا سؤال يرد بلا شك على الذهن .
و الجواب عليه : أن هذا فيه بيان عظيم لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يأتي بشيء من عنده وإنما هو مجرد مبلغ , ولله المثل الأعلى . يأتي إنسان عظيم ويبعث بشخص عزيز عليه مقرب لديه إلى قوم و يقول لهم : يقول لكم مثلاً الوالد تفضلوا عندنا على الغداء , أيهما أوقع على نفس المدعوين ؟ لو قال هذا تفضلوا على الغداء يأتي في قلوب الناس شك الدعوة هل هي من الولد أو من الوالد ؟ ولكن عندما يقول لهم : يقول والدي تفضلوا على الغداء , فإنه سوف يعرف المدعوين أن الابن ليس عليه إلا البلاغ وأن الدعوة فعلاً من الوالد .
فعندما يقول الله جل وعلا (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) وينقلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا بيان أنه بشر لا علاقة له بالأمر والنهي والأمر والنهي والبلاغ من عند الله و إنما هو عليه الصلاة والسلام ليس أكثر من مبلغ بشيراً ونذيراً لقوم يؤمنون .(5/13)
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) صدق بلا شك بكل ما يقول لكنها هنا تبنى على خصوص وعموم , تبنى على الخصوص (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) في قوله تعالى : (( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )) و تبنى على العموم في أن الله صادق بكل ما يقول .
ولذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المكنى بأبي عبدالرحمن إذا حدث غالباً يقول : " أخبرني الصادق المصدوق " , أو يقول : " سمعت الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم " , كما في الصحيحين من حديث الخلق النطفة والعلقة . فقوله صادق أي : فيما يقول . ومصدوق أي: فيما يقال له .
وهو عليه الصلاة والسلام لما بعث علي وجمع من الصحابة رضي الله عنهم إلى روضة خاخ عندما يدركوا الخطاب الذي بعثه حاطب بن بلتعه مع المرأة لتبعث به إلى كفار مكة , بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً و المقداد و جمعاً من الصحابة قال : ( ائتوا روضة خاخ تجدون فيها امرأة معها كتاب من حاطب إلى قريش فائتوني بالكتاب ) , لما ذهب علي رضي الله عنه وقبض على المرأة أنكرته , فقال علي : " والله ما كَذبنا ولا كُذبنا " بمعنى : نحن ما افترينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا الكلام وهو صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكذب علينا ويقول لنا إن معك كتاب وليس معك كتاب . وهذا هو معنى " ما كذبنا ولا كذبنا " .
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ )) فلما ظهر الصدق لم يبقى إلا الإتباع , قال الله جل وعلا : (( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً )) والخطاب لليهود على وجه الخصوص وعلى كل من يقرأ القرآن ويصله البلاغ على وجه العموم .(5/14)
(( قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) ومن الذي ما كان من المشركين ؟ عائدٍ على إبراهيم عليه السلام ولماذا جاء به قلنا في سياق سابق أن الله جل وعلا نزه إبراهيم عليه السلام عن كل إثم لأن جميع الأمم ادعت أن إبراهيم منها وهي تنتسب إليه ولذلك قال الله جل وعلا فيما مر معنا : (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) آل عمران ( 67 ) .
يتحقق من هذا كله أمور بيناها فيما سبق ونربطها فيما لحق وهي :
أن هذه السورة سورة آل عمران لها علاقة قوية باليهود فأغلبها رد على مزاعم اليهود فكل ما زعمه اليهود يفنده الله جل وعلا و يبين لنبيه صلى الله عليه و سلم مكمن الصواب فيه .
تحرر من ذلك كله أن بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني العيس كلهم يفيئون إلى رجل واحد هو إبراهيم . وما زال الناس بذلك ينتسبون ويلتقون في سام وحام ويافث أبناء نوح عليه السلام ثم يلتقون في نوح ثم في الإثنى عشر الذين كانوا مع نوح ثم يلتقون في أبيهم آدم عليه السلام . ولهذا عنصر التفضيل القبلي مرفوض وإنما كما قال الله جل وعلا : (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )) سورة الحجرات ( 13 ) , كلكم لآدم و آدم من تراب .
ثم قال الله عز وجل : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ{96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .
أول بيت وضع للعبادة :(5/15)
(( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) وضع لماذا ؟ وضع للعبادة وإلا البيوت قديمة . وليس الكلام عنها سواء كانت قديمة أو حديثة , وإنما يتكلم الله جل وعلا عن أول بيت وضع للعبادة . هذه الآيتان فيها كلام طويل نحاول قدر الإمكان أن نجمله :
أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض للعبادة قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه لما سأله : يا رسول الله أي بيت وضع في الأرض أول ؟ قال : ( المسجد الحرام ) , قال ثم أي ؟ قال : ( المسجد الأقصى ) , أو بيت المقدس , قال : كم بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ) . من الذي قال بينهما أربعون سنة ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم . والمشهور أن الذي بنى بيت المقدس هو سليمان بن داود عليهما السلام والمشهور الذي بنى البيت الحرام هو إبراهيم عليه السلام . و إذا أخذنا بهذا المشهور فلن يتفق الحديث مع الآية , لأن بين إبراهيم وسليمان ثلاثة قرون تقريباً والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أربعون سنة ) .
إذاً فالصحيح إن شاء الله : أن آدم عليه السلام هو أول من وضع الكعبة وبيت المقدس . ولا يمكن أن ينطبق الحديث إلاّ على آدم , ويصبح الكلام أن الله جل وعلا أمر آدم أو ملائكةً قبله أن يبنوا الكعبة ثم أمره بعد أربعين سنة أن يبنى بيت المقدس , ثم بين الله لإبراهيم مكان الكعبة ولذلك قال الله : (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ )) سورة الحج ( 26 ) , أي: مكان الكعبة فأعاد بنائها , ثم بين لداود وسليمان عليهما السلام مكان بيت المقدس فأعادا بنيانه .
المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي هي الثلاثة التي تشد إليها الرحال ـ وأنا أتكلم هنا بلا ترتيب لأنني قلت أن ما يتعلق هنا من الفوائد كثير ـ .
المسجد الأقصى وقصة مسجد قبة الصخرة :(5/16)
المسجد الأقصى فيه صور تنقل كثيرة , هناك مسجد اسمه قبة الصخرة و هناك مسجد اسمه المسجد الأقصى , فالمسجد الأقصى هو الذي ليس عليه قبة وهو الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم و ربط فيه دابته البراق , أما قبة الصخرة فالصخرة هذه كانت تعظمها اليهود وتصلي إليها في غابر الأزمان , ولما جاء بختنصر من بابل من العراق وأهلك اليهود أعانه النصارى , ولذلك فالعداوة بين اليهود و النصارى عداوة قديمة .
الصخرة كانت تعظمها اليهود في حين أن النصارى يعظمون كنيسة القيامة وما حولها بيت المقدس عموماً . إذاً فبيت المقدس متفق عليه بين اليهود والمسلمين والنصارى على أنه أرض مباركة وكل منهم له فيه غاية . وبيت المقدس كانت فيه الصخرة لما فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس و خرج من المدينة صلحاً وسلمت إليه مفاتيح بيت المقدس كانت النصارى مسيطرة على المدينة وكان اليهود أذلة , كانت هذه الصخرة يجعلها النصارى نكاية في اليهود مجمع للنفايات , وكان مع عمر رضي الله عنه كعب الأحبار ـ يهودي أسلم في المدينة ـ فسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار فقال : " أين تراني أصلي؟ " فقال : " أرى أن تصلي خلف الصخرة " , حتى يصبح عمر رضي الله عنه مستقبل الكعبة وأيضا مستقبل الصخرة , فقال له عمر رضي الله عنه : " ما فارقتك يهوديتك تريدني أن أستقبل الصخرة حتى يرتفع شأن اليهود " , فتقدم و جعل الصخرة خلفه . وهو يعلم عمر رضي الله عنه أن الصخرة معظمة وأخذ يمسح النفايات عنها ولكنه لم يرد أن يصلي فيجعلها في قبلته فتفتخر بها اليهود . فالصخرة في بيت المقدس و بيت المقدس كله مبارك بلا شك لكن عمر رضي الله عنه لم يرد أن يجعل للصخرة خصوصية تزيد على خصوصية بيت المقدس فتقدم وجعل الصخرة خلفه .
السياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته :(5/17)
بقيت الصخرة على هذه الحالة حتى كان عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي وكان الذي ينازعه الخلافة خصمه عبدالله بن الزبير رضي الله عنه في مكة , والعرب كانت تحج إلى مكة فيلتقون بابن الزبير رضي الله عنه .
والسياسة لا تدخل في شيء إلا أفسدته . ولذلك العاقل لا يأخذ آراء السياسيين حتى لو كان أتقى خلق الله . فلا تكن إمعة كل من يحمل راية سياسية تعتقد أنها راية دينية , أصبح الناس يأتون ابن الزبير رضي الله عنه خصيم عبد الملك بن مروان ثم يعودون راجعين إلى الشام يقولون لعبدالملك بن مروان : " أن الناس وأمراء القبائل يحجون و يقابلهم ابن الزبير " . فأمر عبدالملك بن مروان أن يبنى على الصخرة قبة تكسى مثلما تكسى الكعبة وزينها لعل الناس أن يأتوها لسبب سياسي واحد هو أن ينصرفوا عن ابن الزبير رضي الله عنه .
ففهم الأمور في سياقها يريحك كثيراً عندما تستمع إلى أي خطاب سياسي . السياسة فيها شيء اسمه مراحل فالورقة هذه تنفع اليوم ما تنفع غداً , فلما انتهت القضية هذه بقتل عبد الله ابن الزبير رضي الله عنه على يد الحجاج بن يوسف واحتل العراق , عبد الملك لم يبالي بالصخرة ولم يكسها ولم يهدمها وإنما تركها على حالها الذي هي عليه اليوم , وجاء بعده ملوك لم يفهموا لماذا بناها وأخذوا يزينوها . هذه قصة بيت الصخرة , في قول الله تعالى : (( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) هذه الفائدة الأولى .
الفائدة الثانية : قال تعالى : (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ )) والاسم الآخر مكة .
فهل هما بمعنى واحد أم المعنى يختلف ؟
القول الأول : قال بعض العلماء إن " الباء والميم " في اللغة كثيرة الإبدال بعضها عن بعض , فيقولون هذا طين لازب وطين لازم بالميم والمعنى واحد , على هذا القول تصبح مكة وبكة معناهما واحد ويصبح الباء والميم بينهما بدل .(5/18)
القول الثاني : أن بكة المقصود بها المسجد الحرام نفسه , ومكة يقصد بها الحرم كله , هذا قول وكلا القولين لا يمكن أن يكون تنافي بينهما ولا يتعلق به كثير اختلاف .
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً )) ولاشك أنه مبارك بدليل أمور لا تعد منها : ))
أن الله جل وعلا يضاعف فيه الحسنات . 1ـ
أن من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه . 2ـ
أن الله شرع فيه الطواف ولا يشرع إلا فيه . وغيرها كثير . 3ـ
والله نعته بأنه مبارك (( لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )) .
(( فِيهِ )) أي : المسجد الحرام (( آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ )) لم يذكر الله الآيات وإنما ذكر واحدة فقال : (( مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) إذاً يصبح تقدير الكلام فيه آيات بينات كثيرة منها مقام إبراهيم . هذا أرجح ما قيل في إعرابها أنه مبتدأ لخبر محذوف مقدم تقديره منها مقام إبراهيم , وقيل غير ذلك لكن هذا الذي نراه والله اعلم .
من هذه الآيات الموجودة في الحرم المكي مقام إبراهيم .
والسؤال ما مقام إبراهيم ؟(5/19)
إبراهيم عليه السلام قلنا هو الذي رفع جدار الكعبة بناه وساعده ابنه إسماعيل عليه السلام . لما ارتفع البنيان وهذا مشهور قدم إسماعيل حجراً لأبيه ليرتقي عليه , حتى يبقي الله هذه المزية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أصبح الصخر رطباً فآثار قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقيت في الصخرة ظاهرة بينةً على مر الزمان . حتى إن قبيلة في العرب تسمى بني مدلج معروفة بالقفاية ـ يعرفون الأقدام والأرجل ـ وكانوا يطوفون بالبيت ويرون أقدام إبراهيم عليه السلام , وذات يوم عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم صغير في حجر جده عبدالمطلب خرج يلعب رآه أحدهم فحمله إلى جده وقال له : من هذا منك , قال هذا ابني , فقال : حافظ عليه فإنه أقرب شبهاً إلى قدمي من في المقام , يقصدون إبراهيم عليه السلام . ولما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى إبراهيم عليه السلام قال : ( ما رأيت أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم ) .
المقصود أن مقام إبراهيم حجر وطئ عليه إبراهيم لما أراد أن يبني الكعبة بعد أن ارتفع بنائها بقيت آثار قدميه إلى يومنا هذا , وقد شرع الله الصلاة عند هذا المقام قال تعالى : (( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )) سورة البقرة ( 125 ) .
(( فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ )) ثم قال تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) دخله عائدة على المسجد أو على مكة عموماً .
(( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) ما المقصود من الآية ؟
واختلف العلماء في معنى قول الله تعالى : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) مكمن الخلاف أنه قد يدخل الإنسان الحرم ويؤذي فقد يأتي الحرم مجرم يخرج خنجر أو مسدس ويستطيع أن يقتل الناس في الحرم وهذا مر عبر التاريخ كله , فالتوفيق ما بين الآية وما بين الواقع مشكلة لأن الله تعالى قال : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) لذلك اختلفت كلمة العلماء في المعنى :(5/20)
القول الأول : إن هذا خبر عن الماضي بمعنى أن أهل الجاهلية قديماً كانوا يدخلون الحرم فلا يؤذي بعضهم بعضاً لحرمة البيت التي وضعها الله في قلوبهم وهذا معروف وإن كان ليس بصحيح على إطلاقه لأنه قد وقع في الجاهلية أذىً وسط الحرم والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي وسط الحرم .
القول الثاني : قول ابن عباس واختاره الأمام ابن جرير الطبري إمام المفسرين وغيره أن الإنسان إذا جنى جناية خارج الحرم ثم دخل استجار بالحرم فإنه لا يقام عليه الحد ولا يقبض عليه ولكن يضيق عليه في المعاملة لا يبتاع معه ولا يشترى ولا يطعم حتى يضطر إلى الخروج فيقام عليه الحد . هذا قول وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
القول الثالث : (( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً )) أي آمناً من عذاب النار أي جعل الحج والعمرة سببان في النجاة من النار .
القول الرابع : وهو اختيار المظفر السمعاني رحمه الله في تفسيره أن المعنى أن الله جل وعلا أمَّن قريش في جاهليتهم لأنهم أهل الحرم قال تعالى : (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )) سورة العنكبوت ( 67 ) , فلم يكن يؤذون لأنهم أهل حرم الله , وكل من رامهم بأذى قسمه الله كما حصل لإبرهه وجنده , وهذا في ظني أقرب الأقوال إلى الصحة والله تعالى أعلم .
ثم قال الله جل وعلا : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) .(5/21)
اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك كنت تصلي إلى بيت المقدس , ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس وهو في مكة ويصلي إلى بيت المقدس وهو في المدينة , أما في مكة فكان عليه الصلاة والسلام يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس يصلي في جهة بحيث تكون الكعبة أمامه وبيت المقدس وراءها ويصبح استقبل بيت المقدس و الكعبة في آن واحد , هذا المشهور عن ابن عباس رضي الله عنه .
لما قدم المدينة هذه ما يمكن أن تجتمع لأن الكعبة في الجنوب وبيت المقدس في الشمال فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً كما في رواية البراء بن عازب رضي الله عنه عند البخاري وغيره ثم أنزل الله جل وعلا : (( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) سورة البقرة ( 144 ) , فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الكعبة إلى وقتنا هذا .(5/22)
اليهود قالوا : هذا أكبر دليل أنك مضطرب في عبادتك . فبين الله جل وعلا لهم في جواب قرآني قال تعالى : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ )) سورة البقرة ( 142 ) , كل الجهات ملك لله والله جل وعلا يختص منها ما يشاء ويتعبد عباده بما يريد , حتى لو تعبده كل شهر من جهة هو ربهم وهم عبيده والجهات جهاته والملك ملكه وليس لليهود ولا لغيرهم قول ولا برهان : (( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) .فالله جل وعلا ابتلاءً للناس وتمحيصاً واختباراً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى بيت المقدس وهو يعلم جل وعلا أزلاً أنه سينقلهم إلى الكعبة , في هذه الفترة يمحص الله جل وعلا عباده يبتلي خلقه من يثبت ومن لا يثبت كما قال الله جل وعلا : (( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ )) سورة البقرة ( 143 ) , أي هذا الأمر عظيم إلا على من يسره الله جل وعلا إليه .
المقصود أن بيت المقدس كان معظماً , مبالغةً في تعظيم الكعبة أمر الله جل وعلا في رده على اليهود أن يكون الحج إلى الكعبة لما كانت الكعبة تفضل على بيت المقدس بوجوه كثيرة كان اختيارها مكان للحج أمر لا مناص منه قال تعالى : (( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )) " اللام " في (( وَلِلّهِ )) من حيث النحو حرف جر , من حيث المعنى للإيجاب والإلزام . فأوجب الله وألزم عباده حج البيت , ولم يكتف الله باللام بل جاء بحرف " على " , أتى بمؤكدين " اللام و على " وكلاهما تدل على الإيجاب والإلزام . تقول لفلان عندي كذا , على فلان عندي كذا , أي يجب علي له .
كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه :(5/23)
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة (( النَّاسِ )) عامة ثم جاء التخصيص (( مَنِ اسْتَطَاعَ )) فمن لم يستطع الوصول إلى البيت سقط عنه فريضة الحج .
الله جلا وعلا لم يحدد كيفية الاستطاعة وهذا من بلاغة القران لأنه لا يمكن عقلاً تحديد الاستطاعة بشي واحد من كل الأزمنة . ومن قال من العلماء رحمهم الله أن الزاد والراحلة فهذا قول مرجوح لا يمكن أن يكون صحيح لأنه قد يقع عارض أشد من الأول . ونأتي بعارض عصري لو أن المرض كفانا الله وإياكم شره المعروف بـ " سارس " انتشر في أمة مسلمة في بلاد ما حتى أهلكهم , ثم رغب أناس من هذه الأمة أن يحجوا إلى البيت يملكون زاداً ويملكون وراحلة .
هل من الحكمة أن يؤذن لهم بالحج ؟ قطعاً لا , لأنه قد يأتي منهم من يحمل المرض فيفتك بالحجاج كلهم . فلذلك من الحكمة منعه والحج يعتبر ساقط عنه ومعذور شرعاً , لأنه لا يستطيع الوصول إلى البيت فيمنع . هذا المنع لا علاقة له لا بالزاد و لا بالراحلة , فتبقى (( مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) كلمة مفتوحة كل من استطاع الوصول إلى البيت يجب عليه الحج ومن لم يستطع فقد أعذره الله جل وعلا في كتابه .
(( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )) أي طريقاً .
(( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) هذه (( وَمَن كَفَرَ ))للعلماء فيها ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن الآية على ظاهرها , والمعنى أن من لن يحج وهو قادر فهو كافر بظاهر الآية وهذا مذهب الحسن البصري رحمه الله ووافقه عليه بعض العلماء .
الوجه الثاني : أن من أنكر فريضة الحج فهو كافر وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وعليه جماهير العلماء .(5/24)
الوجه الثالث : أن الآية جرت مجرى التهديد والتغليظ والوعيد والزجر في بيان أهمية الحج إلى بيت الله وأنه كالكافر وهذا القول اختاره بعض العلماء وهو الذي إليه نميل والله أعلم .
و هذا له قرائن في الكتاب والسنة :
أما في القرآن : قال تعالى : (( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً )) سورة النساء ( 93 ) , مع اتفاقنا أن هذه الآية تحمل على أنها مبالغة في التهديد وإلا من قتل نفس ومات على التوحيد لا يخلد في النار .(5/25)
ومن السنة : قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل : ( عبد بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة وقاتل نفسه في النار ) وما إلى ذلك مما جاء في قصة الانتحار , والصحيح أن من مات منتحراً ولم يأتي بناقض شرعي ومات على لا إله إلا الله فإنه لا يخلد في النار ويُحمل هذه الأحاديث والآية (( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) النساء (29 ) , وغيرها على المبالغة في التهديد والزجر والوعيد وإلا قاتل نفسه لا يخلد في النار وإنما يسن لإمام المسلمين أو نائبه أن لا يصلي عليه , أما أنه يخلد في النار فلا يخلد في النار لما روى مسلم في الصحيح أن رجل من الصحابة اشتد عليه مرض ما فعمد إلى عروقه فقطعها فسال الدم فلما سال الدم أخذ ينزف حتى مات فرءاه ابن عم له في المنام وعليه ثياب بيض و قد غلت يداه أي أحكمت , قال : ما صنع بك ربك ؟ قال : عفا عني . قال : فما بال يديك ؟ قال : إن الله قال لي : (( إننا لا نصلح منك ما أفسدته من نفسك )) ـ لأنه قطع يديه ـ بعد ذلك الرجل لما استيقظ قص الرؤيا على الرسول عليه الصلاة و السلام فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( اللهم وليديه فاغفر , اللهم و ليديه فاغفر , اللهم وليديه فاغفر ) قالها ثلاثاً . قال النووي رحمه الله في شرح مسلم وغيره من العلماء في الآية دليل واضح على أن قاتل نفسه لا يخلد في النار .
لكن هذا يخاطب به طلبة العلم فقط ولا يقال للعامة حتى لا يستهينوا بقتل النفس لا بقتل غيرهم ولا قتل أنفسهم .
طالب العلم والتفريق في الخطاب :(5/26)
وطالب العلم ينبغي أن يفرق بين الخطاب إلى العامة و الخطاب إلى طلبة العلم , وبيان الحكم الشرعي غير الوعظ , ولذلك عندما تقرأ في كتب ابن قدامه رحمه الله أو غيره من أئمة الدين الفقهاء لا يتكلمون مع بعضهم بـ " اتقي الله , وخاف الله , واخش الله " هذا كلام وعظ ليس له علاقة بالأحكام الشرعية . وعندما يتكلم بالوعظ لا يتكلم عن تفسيرات اختلافات العلماء .
يعني ما يأتي إنسان مثلاً في مسألة يخالف فيها آخر ويقول : " اتق الله خاف الله كيف تقول بهذا " الكلام العلمي أنت تقول له : " اتق الله " هو لم يتق الله ما يقول هذا الكلام لأنه يعتقد أنه صحيح , فلأنه يتق الله يقول هذا الكلام لا علاقة له بالتخويف من الآخر لأنه يعتقد أن هذا صحيح فهو يقوله لأنه يتقي الله فما في مجال لكلمة اتقي الله وخاف الله , لكن في إنسان يعلم شيء أنه معصية تقول له اتقي الله لأنه يعلم أنه معصية ويعصي الله جل وعلا , يعني مثلاً : " بسم الله الرحمن الرحيم " قلنا في درس سابق أنه يوجد اختلاف بين العلماء هل هي آية من الفاتحة أو ليست بآية ما تأتي لإنسان يعتقد أنها ليست بآية وتقول له اتق الله وخاف الله خاف عذاب النار قول : " بسم الله الرحمن الرحيم " , هو لأنه يخاف الله لم يقولها لأنه لا يعتقد أنها آية والعكس . هذا أهم شئ تفهمه في قضية النزاع العلمي . ولذلك أنت اقرأ مناضرات العلماء كلام ابن قدامه وغيرهم من أئمة العلم في كتب الفقهاء وغيرهم لا تجد فيها الأسلوب الوعظي ولا ذكر الجنة والنار لأن كل فريق يعتقد صحة ما يقوله , إنما يبنى الكلام على الأدلة . كلٌ يحاج الآخر بالأدلة .ولذلك يشتهر ما بين صغار طلبة العلم تقول له ما رأيك في أبو فلان ؟ يقول لك هذا ما يخاف الله . لماذا لا يخاف الله يفتي بكذا وكذا ويقول بكذا , هذا ليس بكلام رجل عاقل لأنه هو يخاف الله يقول ما يعتقده . وهذه أهم ما في الدرس وإلا لو طبقت هذا الكلام الذي يتناقله اليوم البعض(5/27)
لو طبق على الصحابة لهلكنا جميعاً , فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادلون الرأي ويقول كل منهم بقول , لا يأتي إنسان لآخر ويقول له اتقي الله لأن كلاً منهم يقول ما يعتقد أنه صواب , لكن كل منهم يقارع الآخر بالحجة وبالنظر وبالدليل ثم إذا المسألة استبانت لك لم تكن لتستبين لأخيك والعكس صحيح .
هذا ما تيسر إيراده والفضل لله في أوله و آخره , سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(5/28)
تأملا ت في سورة
النساء
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الأول ))
إن الحمد لله ، نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد .
أيها الإخوة المؤمنين : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
في هذا اللقاء بعون الله وتوفيقه سننتقل إلى سورة النساء بعد أن أنهينا مواقف ثلاث مع سورة آل عمران والمناسب في الانتقال واختيار آيات اليوم قبل أن نشرع في بيان أحكام عامة من سورة النساء أن نبين أننا تحدثنا فيما مضى في سورة آل عمران عن بعض من جرائم اليهود وتكلمنا عن مسجد الصخرة وما إلى ذلك , واليوم ننتقل إلى إتمام الحديث لكن من سورة أخرى هي سورة النساء .
وننتقي بعضها للعلم ببعض من عقائد النصارى بعد أن بينا شيء من عقائد اليهود ثم نُعرج على بعض الأحكام الفقهية التي يستلزم الحديث عنها في الآيات .
فنقول مستعين بالله عز وجل .
مقدمة عن السورة وسبب تسميتها :
سورة النساء سوره مدنية ، جاءت متنوعة الأغراض كأكثر سور القرآن . ذكر الله فيها جل وعلا جملة من العقائد وجملة من الآداب وجملة من الأحكام . ولأن السورة من أكثر سور القران حديثاً عن أحكام النساء ، نُعتت بسورة النساء . وقد سبق أن بينا أن تسميت سور القران الراجح أنه توقيفي ، فعله الصحابة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم . وهناك سورة أخرى تنعت بأنها سورة النساء الصغرى وهي سورة الطلاق .
فإذا قيل عن سورة النساء إنها سورة النساء الكبرى فإن المقصود بسورة النساء الصغرى هي سورة الطلاق لأن كلا السورتين تحدثتا كثيراً عن أحكام النساء وما يتعلق بهن .
أما الآيات التي سنتكلم عنها تفصيلاً فهي :(6/1)
قول الله جل وعلا : (( يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )) إلى قول الله عز وجل :
(( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً )) سورة النساء 153ـ162 .
فقد سبق أن بينا شيئا من جرائم اليهود في سورة آل عمران , وفي هذا السياق يُخبر الله جل وعلا عن تاريخ اليهود إجمالاً , لا يختص هذا السياق بمرحلة دون عينها , فالجرائم التي سيذكرها القرآن الآن وسنفسرها إجمالاً، لا تتعلق بمرحلة زمنية معينة , فمنذ موسى عليه الصلاة السلام أنزلت عليه التوراة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قرابة أكثر من ألف عام , خلال الألف عام هذه كان اليهود يعيشون بُعث إليهم مابين موسى وعيسى عليهم السلام أنبياء ، ثم بعث إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وأعطاه الله الإنجيل . ولم يبعث أحد بعد عيسى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
عبر هذا التاريخ يذكر الله جل وعلا جملة من الخُبث الملازم لليهود في تعاملهم مع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .(6/2)
(( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً{153} )) سورة النساء .
فالله يقول لنبيه هؤلاء المعشر الذين يعاصرونك الآن اليهود يطلبون منك كتاباً ينزل جملة قالوا أن موسى عليه السلام جاءته التوراة جملة واحدة ، فنحن يا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن نؤمن بك حتى تنزل علينا كتاباً جملة واحدة كما أُنزلت التوراة على موسى جملة , فرد الله جل وعلا عليهم لنبيه أن يقول لهم : (( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ )) من باب التعزية , (( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ )) . فلا تعجب يا نبينا ولا تستغرب من هذا الطلب ، لأنهم قد طلبوا طلباً أكبر منه، وهو طلبهم من موسى عليه السلام يوم قالوا له (( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً )) . وهذا وقد قلنا أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ذكره الله مفصلاً في سورة البقرة قال الله جل وعلا : (( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ{55} ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{56} )) . فهذا أول وأعظم طلبهم ، وفيه من الجرأة على الله جل وعلا مالا يخفى .(6/3)
(( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ )) . لما طلبوا هذا الطلب أهلكهم الله بالموت ثم رحمهم تبارك وتعالى وأحياهم بعد ما أماتهم كما قال جل وعلا في سورة البقرة : (( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) وهذا صريح بأن الله أماتهم ثم أحياهم .
وقد قال بعض العلماء من المفسرين : أن إماتتهم وإحيائهم كان في يوم وليلة .
(( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )) . " اتخذ " هذه الكلمة تنصب مفعولين ، ذكر الله واحداً منهما ولم يذكر الآخر لدلالة المعنى عليه بمعنى (( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )) يظهر من السياق واضح أنهم اتخذوا العجل إلهً , فإلهاً هي المفعول الثاني الذي لم يذكره الله ولأن هذا سبب نقمة الله عليهم وإلا لو أنهم اتخذوا العجل كدابة يركبونها ، أو دابة ينحرونها ليأكلوها ، أو لأعلافهم أو لأي شيء آخر لكان هذا أمر مشروع ، لكن القرآن يفسر بعضه بعضاً
والعجل اتخذوه في الفترة التي ذهب فيها موسى عليه الصلاة والسلام ليكلم ربه وجعل عليهم أخاه هارون ففي تلك الفترة لما أبطأ عليهم موسى لأن الله وعد ه ثلاثين ليلة ثم جعلها الله أربعين ليلة , فلما جعلها الله أربعين أبطأ موسى عليهم ، فلما أبطأ عليهم ملوا فصنع لهم السامري عجلاً من ذهب وجعل له طريقين يدخل منهما الهواء ، فأخذ الهواء والريح إذا دخلت من القبل وخرجت من الدبر أحدثت صوتاً فخدعهم بقوله : (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ))( طه : 88 ) كما أخبر الله .(6/4)
هذه من جملة ما نقم الله عليهم .
الأول : أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يروا الله جهرة (( فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً )) .
الثاني : أنهم اتخذوا العجل إلهاً من بعد ما جاءتهم البينات (( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )) .
ثم قال سبحانه : (( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{154} )) سورة النساء .
فهذه ثلاث وقعوا فيها .
أما رفع الطور، فالطور يطلق على الجبل الذي به نبت ، فإن لم يكن عليه نبات يسمى جبلاً فقط ولا يطلق عليه طور .
وهل هو الطور الذي كلم الله عنده موسى عليه الصلاة و السلام أو أي جبل أخر ؟
الجواب :
كلا الأمرين محتمل .
لما أعطاهم الله التوراة رفضوا أن يقبلوها ، فرفع الله عليهم الجبل تهديداً بأن يلقيه عليهم فقبلوا . قال الله تعالى في سورة الأعراف : (( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ )) (171) . فهذا من جملة ما اعترضوا عليه وهي النقيصة الثالثة .
ثم أمرهم الله أن يدخلوا باب المدينة سجداً معترفين لله بالفضل وطلب المغفرة , فدخلوا يزحفون على مقاعدهم كما أخبر الله جل وعلا وهذه النقيصة الرابعة .(6/5)
والنقيصة الخامسة : أن الله جل وعلا قال : (( وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ )) . السبت المقصود به يوم السبت . وهذه قصة القرية التي كانت على الشاطئ . عبر الله عنها بقوله : (( حَاضِرَةَ الْبَحْرِ )) . وهذه ذكرها الله في سورة الأعراف . وأنه كانت هناك قرية من بني إسرائيل حاضرة البحر أمرهم الله أن لا يصطادوا يوم السبت فكانت الحيتان تأتيهم شُرعاً ظاهره تدعوهم فتنة لهم يوم السبت ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا يلقون أشرعتهم يوم الجمعة ويأتون يوم الأحد ليجمعون فيحتالون على الله جل وعلا و بئسما فعلوا.
وهذا كله حدث في فترات زمنية متفاوتة ، وفي أماكن متفرقة ، وعبر تاريخ طويل لكن المقصود من هذا كله ، سياق بعض من جرائم اليهود بياناً وشفاءً لقلب نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال سبحانه بعدها : (( وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً )) .
ثم قال سبحانه : (( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً{155} وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً{156} )) .
الآن السياق القرآني يأتي يبين هذه المعاصي ما الذي نجم عنها . يذكر القرآن المعصية إجمالاً ثم يأتي بها تفصيلا .
(( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ ))
عدنا للباء السببية , أي بسبب نقضهم للميثاق , ما أخذه الله عليهم عن طريق أنبيائه ورسله من مواثيق وعهود نقضوها وهذا دأبهم في كل آن وحين .
(( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ )) .(6/6)
وهذا يسميه البلاغيون مجاز مرسل , ومعلوم أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء كلهم ، لكنهم لما استباحوا دم واحدٍ منهم كأنهم استباحوا دم الجميع . وأي إنسان يستبيح دم شخص واحد فإنه يستبيح الدماء التي توازيه . فالله عبر عن قتلهم لنبي بقتل الأنبياء جميعاً , هم قتلوا يحي وقتلوا زكريا عليهم السلام فهنا عبر الله عنه بقتل الأنبياء جميعاً لأن الأنبياء جميعاً يجمعهم دين واحد .
(( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ )) .
هنا (( وَقَوْلِهِمْ )) لمن ؟ لنبينا . (( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ )) و الغلف جمع أغلف ، وهو الشيء المطبوع المختوم الذي فيه حجاب يحول بينه وبين وصول المعرفة إليه .
(( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً )) .
هذه الأخيرة (( فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً )) لها وجهان في التفسير :
الوجه الأول : أنه أسلوب تستخدمه العرب في كلامها بمعنى عديم الأيمان .
الوجه الثاني : أنهم لم يؤمنوا ألا بقليل من أنبيائهم . فلما لم يؤمنوا بالكل كأنهم لم يؤمنوا , لأن الشرع يوجب الإيمان بالأنبياء جميعاً بلا استثناء ، ولعل هذا أظهر .…
(( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
كرر الله الكفر ثم ذكر شيء من جرائمهم وسننتقل بعدها للنصارى .
(( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .
القول الذي قالوه في مريم هو إنها زانية ، وبرأها الله جلا وعلا كما هو معلوم في كتابه .
(( وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بهتناً عظيماً )) .(6/7)
البهتان هو الكذب والإفك والقول بلا حق ولا علم ولا بينة كله يمكن تسميته بالبهتان . أما مريم فهي سيدة نساء العالمين ولم يذكر الله جلا وعلا في القرآن اسم امرأة باسمها الصريح إلا هي عليها الصلاة والسلام ، رغم أنها ليست بنبيه لأن الله جل وعلا قال في سورة يوسف : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم )) فلا يوجد نبي امرأة , ما بعث الله امرأة قط ، لكنها الوحيدة من النساء عبر التاريخ كله التي ذكرت باسمها الصريح في القرآن وهي سيده نساء العالمين كما جاء ذلك في صحيح السنة مريم البتول العذراء اسمها مريم بمعنى عابدة أو خادمة الرب . و قصتها أشهر من أن تعرف (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً )) (مريم : 16 )) . شرقي بيت المقدس . جاءها روح القدس جبريل عليه الصلاة والسلام و نفخ في جيب درعها فحملت بعيسى , وبعد أن وضعته أتت به قومها فكذبوه واختلفوا فيه ، منهم من صدقها ومنهم من كذبها وكان مولد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام .
فالله هنا يقول من جرائم اليهود رميهم لمريم المبرئة بالزنا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتناً عظيماً .
(( وقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) (النساء : 157-158 )) .
هذا يقودنا للحديث عن النصارى، كما تحدثنا عن اليهود والتفصيل كالتالي :(6/8)
ولد عيسى ابن مريم فحملته أمه ، وأتت به للملأ من بني إسرائيل فأنكروه , وقالوا يا مريم لقد جئتِ شيئاً فرياً فأشارت إليه فأنطقه الله في المهد : (( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً )) سورة مريم (30) . وما اختلف الناس في رجل كما اختلفوا في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . أخذ يدعو إلى ربه ، فأسلم على يديه أقوام سُموا في القرآن بالحواريين وهم خاصة أصحابه عليه الصلاة و السلام , ثم لما ظَهُر أمره خاف خصومه وأعدائه من اليهود
فتآمروا على قتله فبعضهم يعرفه بعينه وبعضهم يعرفه باسمه , فلما أجمعوا أمرهم على قتله ، أخذوا معهم شخصاً يدلهم على مكانه ، فلما دخلوا عليه ليقتلوه رفعه الله جل وعلا إليه ، وألقى شَبَهَهُ على غيره .
مع اختلاف بين العلماء فيمن أُلقي عليه الشبه ، فقيل أنه عبد من الحواريين صالح ألقى الله عليه الشبه غير عيسى . وقيل أن الرجل الذي دلهم عليه وهو يهوذا عند بعض المفسرين هو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى فقتله اليهود ظناً منهم أنه عيسى عليه الصلاة والسلام .
و جملة الأمر أن الله جلا وعلا شَبَّهَ لهم شخصاً غير عيسى ورُفِع عيسى إلى السماء ، كما قال ربنا في صريح القران : (( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ )) . وهذا الذي شبه بهِ اختلفوا فيه . فلما أخذوه قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وان كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟
فأخذوه وصلبوه وقتلوه اعتقاداً منهم أنهم ينتقمون منه . وكان هذا في بيت المقدس في المكان المسمى اليوم بكنيسة القيامة وتعظمه النصارى وسيأتي لماذا تعظمها النصارى .(6/9)
رفع الله عيسى إلى السماء , فالله جل وعلا يقول إن اليهود تزعم أنها قتلت عيسى ، فالله أنكر ورد على اليهود قولهم أن عيسى قتل أو صلب، بل أنه سبحانه رفعه إليه فهو حيٌ جسداً وروحاً في السماء الثانية كما قابله النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج . وسينزل كأمارة وعلامة من علامات الساعة .
معتقدات النصارى في عيسى :
نرجع للنصارى وعيسى . فبعد رفعه النصارى صدقوا اليهود في أن عيسى صلب وقتل , وقالوا إن الله جل وعلا ـ وعلى هذا تقوم عقيدة النصارى ـ يقولون إن الله عدل ومن عدله ألا يترك الخطيئة بلا عقوبة . فيقولون أن آدم أكل من الشجرة فارتكب الخطيئة فلما أكل من الشجرة وارتكب الخطيئة واهبطه الله ، كل ذريته ترث خطيئته . وقالوا لابد أن تُكفر الخطايا عن الذرية . ولما كان الله من صفاته مع العدل الرحمة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، بعث ولده الذي هو عيسى . وأنزله إلى الأرض وأحله في الناسوت بدل اللاهوت ، يعني أنسي . وصلب هذا وقتل حتى يكفر عن البشر كلهم خطيئة أبيهم آدم . فمن آمن أن عيسى ضحى من أجل البشر أصبح مؤمناً ينجوا يوم القيامة ، ومن لم يؤمن أن عيسى ضحى من أجل البشر لا يعتبر مؤمن .
كيف يُؤمِنون الناس ؟ عندهم ما يسمى بالتعميد . وصفته أن يأتوا بالطفل على خلاف في المذاهب عندهم ، لكن قد يأتوا بطفل شباب لكن غالب المذاهب عندهم يأتون بالطفل الصغير . إما أن يضعونه في مكان فيه ماء كحوض أو يرشون عليه الماء . ويقولون باسم الأب والابن وروح القدس . فإذا قالوا هذه الثلاثة يعتقدون أن هذا الابن عُمِّد وإذا عُمِّد طهُر من الذنوب والخطايا فأصبح قابلاً للنجاة يوم القيامة . وهم عندهم جنة ونار وعندهم حساب ، لكن بناء على هذا الاعتقاد . ثم يختلفون هؤلاء النصارى على ثلاث طوائف رئيسية وهي الأرثوذكس وهؤلاء انفصلوا في عام 1054م عن الكاثوليك ، والكاثوليك هي الكنيسة الأم والبروتستانت هي الكنيسة الثالثة .(6/10)
فأصبحت ثلاث كنائس رئيسيه . نفصل فيهم على النحو التالي :
1ـ الكاثوليك:
وهي الكنيسة التي في روما اليوم ، والتي تتبع البابا يوحنا بولس الثالث وجل كنائس العالم في النصارى تابعة للكاثوليك .
2- الأرثوذكس :
وهؤلاء أقل منهم ومعناها مستقيم المعتقد حسب ظنهم . و هذه خرجت عن الكنيسة الأم ويتبعها بعض الكنائس؛ كالتي في مصر تتبع البابا شنوده الثالث ، و هذا تابع لهذه الكنيسة .
3-حركة إصلاحية :
وقد خرجت من الكاثوليك في القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً على يدي مارتي لورثر و اسمها الكنيسة البروتستانت ، وهذه تؤمن بأن لليهود منّة على النصارى وهذه الكنيسة الثالثة هي التي يدين بها الرئيس الأمريكي المعاصر ورئيس الوزراء البريطاني المعاصر تورن بلير الذي يجمع بينهما ارتباطهماً حالياً بهذه الكنيسة . أما الكنيسة التي في روما فهي منفكة عنهم ولا علاقة لها بهم .
إذن ينجم عن هذا أن النصارى غالباً هم ثلاث فرق ، ويوجد فرق شتى غير هذه لكن هذه الفرق الثلاثة هي الأم يجتمعون في أمور ويختلفون في أمور أقل منها لكن جميعهم يتفقون على أن الأقانيم ثلاثة وهم الأب والابن وروح القدس تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا , وقد رد الله على الجميع في كتابه وسيأتي في الدرس القادم كيف رد الله جل وعلا عليهم اليوم فقط العرض .
أصل الصليب :
نأتي لقضية الصليب الأصل أن عيسى بعث لبني إسرائيل مثل موسى عليهما السلام . وقد قلنا في التأملات في سورة آل عمران أن بني إسرائيل يعودون إلى إسرائيل الذي هو يعقوب ؛ وقلنا أن يعقوب له أخ اسمه العيس وقلنا إن من ذرية العيس الروم . وأن هذا العيس كان فيه صُفرة ولذلك يسمون ببنوا الأصفر . فأبو سفيان لما رأى هرقل يخشى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد أصبح ملك محمد عظيماً فقد خافه بنوا الأصفر " .(6/11)
فأصبح الروم الأصل ليس لهم علاقة بعيسى عليه الصلاة والسلام , إذن الآن الدين النصراني في بني إسرائيل أكثر أم في الروم ؟ في الروم في أوربا أكثر وكذلك في أمريكا فالنصرانية أكثر من اليهود . وهذا جاء بعد ثلاث قرون من رفع عيسى عليه الصلاة والسلام حدثت حروب مابين الرومان وأشياعهم؛ فآمن ثلة من الرومان بعيسى عليه الصلاة السلام أي بالنصارى بما بقي من دين عيسى عليه الصلاة والسلام من المؤمنين الذين معه . وكانت اليهود كما قلنا تزعم أنها قتلته ويأتون للموطن والذي قلت لكم أن اسمه الآن كنيسة يوم القيامة فيأتون لهذا الموطن الذي قتلوا فيه عيسى عليه الصلاة والسلام فيرمون فيه القاذورات والقمامة حتى تجمعت . فجاء قسطنطين الثالث فآمن بدين عيسى عليه الصلاة السلام مع التحريف . فجاءت أمه واسمها هيلانه بعد أن جاء رجل يبحث في تلك القمامات حتى وصل إلى الصليب أي وصل إلى الخشبة التي صلب فيها من يعتقد اليهود أنه عيسى . فالصلب وقع لكنه ما وقع على عيسى . ولكن اليهود صلبوا رجلاً وقتلوه على هذه الخشبة . و لما أخذوا يفتشون هذا الرجل وجد تلك الخشبة وعليها حركة الصليب المعروفة الآن . وحصل هذا بعد عيسى بثلاث قرون .
ولما أخذ هذا الرجل هذا الصليب زعم أنه كان مريض فلما تمسح بها برئ . فلما علم الناس بذلك أخذوا يصنعون الصليب ويتبركون به ويعتقدون به إلى يومنا هذا . وهذا أصل فكرة خروج الصليب للناس .
ولما علمت تلك المرأة ــ هيلانه ــ بهذا أمرت بمحو القاذورات وما كان موضوعاً , وبنت عليها كنيسة أسمتها كنيسة القيامة .
ومعنى كنيسة القيامة هو : أنهم يعتقدون جهلاً أن عيسى بما أنه مات فإنه سيبعث من هذه الكنيسة . وهي موجودة في بيت المقدس . وإن لم أنسَ السادات ـ رئيس مصر المتوفى ـ لما زار إسرائيل ، تكلم أو ألقى خطاب في هذه الكنيسة المقصود سواءً ألقاها أو لم يلقيها أن هذه الكنيسة قائمة وتعظم إلى اليوم .(6/12)
وهذا سبب تسميتها بكنيسة القيامة وأحيانا تسمى بكنيسة القمامة بالنسبةً لما كان عليها .
هذه المرأة لما أمرت بإزالة هذه النفايات وضعوها على الصخرة التي تعظمها اليهود . وكان يصلي إليها موسى عليه الصلاة السلام وقلنا في الدرس الماضي أن هذه الصخرة من الذين محو القاذورات عنها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكنه صلى أمامها وجعلها خلفه. فأصبح بيت المقدس يضم الكنيسة التي يعظمها النصارى؛ ويضم الصخرة التي تعظمها اليهود ويضم المسجد الأقصى الذي يعظمه المسلمون .
و هذا مجمل ما يمكن أن يقال عن عقيدة النصارى والتي ذكرنا أنها قائمة على سر التعميد والإيمان بأن الله كفر عن البشر خطاياهم ببعث ابنه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
والآن نعود للآية الله جل وعلا يقول : (( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) .
(( عَزِيزاً )) أن يقتل نبي من أنبيائه وهو جل وعلا غير مريد .
(( حَكِيماً )) بسبب رفعه لعيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء الثانية . والمحفوظ عندنا في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ظاهر القرآن أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل في آخر الزمان واضع يديه على أجنحتي ملك يخرج منه مثل بقايا الوضوء ؛ ويقتل الدجال بحربة تكون معه قال الله عز وجل : (( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )) (الزخرف : 61 ) .
قال الله جل وعلا بعدها :
(( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً{159} )) سورة النساء .(6/13)
هذه الآية إحدى معضلات القرآن لأن تفسيرها غير واضح .
هذه الآية تحتمل عدة تفاسير لكن نكون معكم صريحين هذا درس علمي إلى الآن لم أقف على تفسير مقنع .
لكن نقول جملة ما قاله أهل العلم :
الله جل وعلا يقول : (( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) . المعنى لا أحد من أهل الكتاب , (( إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ )) الآن يوجد ضميرين الهاء في (( بِهِ )) والهاء في (( مَوْتِهِ )) على من تعود ؟ هذا موضع الإشكال .
تحتمل الآية أن يكون معنى الآية أن الله يقول : ما من أحد من أهل الكتاب ألا يؤمن به أي بعيسى قبل موته أي قبل موت الكتابي . فيصبح الضمير في (( بِهِ )) عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام والثانية عائده على الكتابي . فيصبح معنى الآية أن ما من يهودي ولا نصراني تغرغر روحه إلا وهو مؤمن أن عيسى عبد الله ورسوله لكنه لأنه يؤمن في ساعة الاحتضار فلا يقبل منه . وهذا مروي عن ابن عباس وقاله به كثير من العلماء , لكن يصعب تصوره وهذا الأمر الأول .
الأمر الثاني : قالوا أنه ليس من أحد من أهل الكتاب ألا ويؤمن بعيسى قبل موت عيسى أي ينزل مرة أخرى فيؤمنون به . لكن يأتي الإشكال أن الله قال : (( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) أي لا أحد من أهل الكتاب وقد مات جمع غفير من أهل الكتاب قبل أن يرى عيسى عليه الصلاة والسلام وقد نموت نحن قبل أن ينزل عيسى . وهذا هو الإشكال على التفسير الثاني .
الأمر الثالث : يبقى تفسير آخر و لعله يكون أقربها إلى الصواب يصبح معنى الآية إنه ما من كتابي يحضر ويبقى حياً إلى يوم عيسى إلا ويؤمن به وهذا تحدث إشكالية أخرى وهي أن اليهود من أهل الكتاب ولا يؤمنون بعيسى حتى بعد نزوله .
فيبقى تفسير الآية إلى يومنا هذا في علمنا غير واضح . إنما نقلنا ما ذكره أهل التفسير فإذا أوقفنا الله على شيء آخر سنخبركم به في حيينه .(6/14)
(( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً{160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{161} لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً{162} )) سورة النساء .
الكلام في هذه الآيات بوجوه عدة :
أولها : أن المعاصي من أعظم أسباب الحرمان ولذلك الله جل وعلا قال : (( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ )) .
فإذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فما أعظم أسباب العطاء ؟
الطاعات إذا كانت المعاصي من أعظم أسباب الحرمان فإن الطاعات من أعظم أسباب العطاء قال الله جل وعلا : (( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) (الطلاق : 3 ) . فالله يخبر أن ما حل على اليهود من تحريم كثير من الطيبات إنما كان بسبب معاصيهم .
)) فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )) .
كذلك الآية تتكلم عن بعض من مظالم اليهود . ومنها الصد عن سبيل الله ومنها أكل أموال الناس بالباطل ومنها أكل الربا .(6/15)
قول الله جل وعلا : (( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )) من الناحية العلمية هذا عطف عام على خاص . لأن أكل أموال الناس بالباطل يدخل فيه الربا .
نتكلم الآن عن الربا :
الربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
ومن الفوائد أن يقال إن هناك معصيتين حرمها الله على جميع الأمم ولم يبحها الله في أي شريعة قط , هما الربا والزنا . وهذا قول بعض أهل العلم .
والربا ينقسم إلى ثلاث أقسام وهي :
ربا الفضل وربا النسيئة وربا القرض .
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف الربوية فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر, والملح بالملح ، سواء بسواء يداً بيد . فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . معنى الحديث : أن هذه أصناف ربوية مابين مكيل وموزون إن كان مطعوماً يدخلها الربا .
القسم الأول: ربا الفضل
الفضل في اللغة : الزيادة .
سنأتي بصورة له حتى تفهمه :
إنسان يأتي مثلاً بالتمر والتمر كما ذكرنا صنف ربوي والتمر في بلادنا موزون ، يباع بالوزن بالكيلو . فلو جاء إنسان ومعه 3 كيلو من التمر، وآخر معه أربعة كيلو من التمر .
وهذان الصنفان ربويان فالتمر صنف ربوي كما ذكرنا ونقصد به أنه يدخله الربا وليس لأنه صنف ربوي يعني أنه محرم .
والأربعة زيادة على الثلاثة . فلا يصح التبادل ولو كان أحدهما أفضل من الآخر . كأن يكون هذا تمر عجوة أو أعلى منه أو اقل . أو نقول هذا برني ـ أسماء أنواع للتمور ـ أو هذا رديء وهذا جيد فأعطيني أربع كيلو بثلاث كيلو أو كيلوين بخمس كيلو . فهذا لا يجوز ، وإذا وقع فهو ربا فضل .
ما معنى ربا فضل ؟
أي زيادة . لأنهما اتفقا في الصنف و اختلفا في الزيادة . وهذا هو معنى ربا الفضل وهو محرم .
القسم الثاني : ربا النسيئة(6/16)
النسيئة تعني التأجيل و التأخير . قال الله جل وعلا في سورة التوبة : (( إِِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ )) أي التأجيل زيادة بالكفر .
كيف يقع ربا النسيئة ؟
تأتي بصنف ربوي واحد وبصنف ربوي آخر . والرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) لكنه قال : ( يدا بيد ) . هم يلغون ( يداً بيد ) فيؤخر واحد عن الآخر .
مثال:
الآن 375 ريال سعودي تساوي 100 دولار أمريكي , الدولار يعتبر صنف ، والريال يعتبر صنف . فلو قايضتهما بعضهما ببعض الـ100 دولار ليست مثل الـ375 , فـ 375 أكثر من الـ100 .حتى لو أخذتها بـ500 , أو لو أخذتها بـ 200 , أي لو كان واحد زائد والآخر ناقص أي أقل منه فإنه لا يضر . لأن الصنفين مختلفين فالدولار غير الريال ولكنها كلاهما صنف ربوي لأنها ذهب وفضه .
كيف يدخل الصورة السابقة ربا النسيئة ؟
الجواب أنه لو أتى للصراف فقال : أنا أعطيك 500 ريال سعودي بس أنا أبغى أسافر أعطيني 100دولار أمريكي فيعطيك 100 دولار ولا تعطيه الـ 500 . تقول الـ 500 بعدين ، أنا ما عندي الآن . فأنت تأخرت! فيكون هذا ربا النسيئة . أو هو لا يعطيك وأنت تعطيه . أي أحدكما يدفع والآخر لا يدفع . فهذا ربا النسيئة وهو محرم ، لكن إذا أخذ منك 100 وأعطاك 500 أو 375 أو قدرها أو أعلى أو أو ، حيثما اتفقتم بالحال يداً بيد فهذا ليس ربا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) . يعني كله ناجز ولا يباع ناجز بغائب .
القسم الثالث : ربا القرض
وهو أصل الربا ، وهو الذي كانت تتعامل به العرب في الجاهلية . وهو يدخل في ربا الفضل والنسيئة ، ولكن ميزناه لوحده أفضل حتى يتضح .
وهو أن يأتي إنسان فيقرض إنساناً آخر شيء يجوز قرضه . ليس فقط ذهب وفضه بل أي شيء يجوز قرضه ، ثم يشترط عليه منفعة مقابل هذا القرض . وأكثر ما يقع في الأموال .
مثال :(6/17)
شخص يأتي إنسان يطلب منه مال . فيعطيي10 آلاف إلى ثلاث شهور . فإذا انتهت المدة يأتي الدائن للمدين يقول أريد الـ 10 آلاف . فيقول له : لا أملك . فيقول له : إما أن تأتي بها في الحال وإما أؤخرها أنا لك شهر على أن تردها لي أكثر من 10 آلاف ريال ولو ريال واحد . فالريال الواحد مثل الـ 100 ألف في الحكم . هذا يسمى ربا القرض . وهو الذي قال الله جل وعلا فيه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) (آل عمران : 130 ) . وهو الذي قال فيه أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ) وقال ( هم سواء ) أي هم في الإثم سواء . أخرجه مسلم من حديث جابر وأخرجه البخاري من طريق آخر لكن المعنى في الصحيحين . هذا ربا القرض .
و ينجم عن ربا القرض مسائله تسمى عند العلماء قلب الدَّين وهو من كبائر الذنوب.
قلب الدَّين :(6/18)
إنسان يعطي إنسان قرض1000 ريال ويقول إلى شهر . ثم جاء بعد شهر و هذا ليس عنده الـ 1000 ريال فهو رجل مستور الحال الذي عنده شيء لا ينفك عن قوته يعني شيء تقوم به حياته . يعني مثلاً سيارة يذهب بها ويغدو على قدر مستواه الاجتماعي , أو بيت صغير مثلاً يسكنه . يعني أشياء خاصة لا يمكن أن يستغنى عنها لا فقير ولا غني . فيأتي هذا الذي له المال له الـ 1000 ريال وهو ليس معه الـ 1000 ريال فيأتي هو بالـ1000 ريال. ويقول له بيعني هذا الألف , ويأتي لشيء خاص عند هذا الرجل يحتاجه فيقول له بيعني إياه بـ 1000 ريال . فيأخذ الشيء الخاص ويعطيه ألألف , ثم يقول له رد لي هذه ألألف التي لي عندك ولأنه يعرف أنه لا يملك ألألف ريال يأتيه بالألف ويشتري منه مثلاً ثوبه وعمامته وساعته بالألف ريال أو السيارة التي يغدو بها ويذهب ويوصل بها أبنائه للمدرسة . قال هاتها أنا اشتريها منك بـ1000 على أنك تعطيني الألف لأن لي عندك 1000 ريال .
هذا يسمى قلب الدين وهو من كبائر الذنوب كما نص عليه العلماء ونقل العلامة الشيخ عبد الله بن البسام رحمة الله عن شيخه العلامة عبد الرحمن السعدي القول أنه من كبائر الذنوب .
هذه أصناف الربا وكلها محرمة ولا يوجد أحد ولله الحمد فيما نعلم من علماء المسلمين أباح الربا في أي قطر كان .
فلما تفهم أو تسمع أن أحد أباح الربا من علماء المسلمين ، فلا تصدقه .
هذا ليس بعالم .
لا يوجد أحد يتجرأ فيبيح الربا . لكن قد تفهم أنت المسألة خطاء , فهذه مسألة ثانية ، لكن الربا لا يحتاج أن تقول مسألة خلافية ويمكن ويأخذ و ما يعطى ما فيه . فالربا محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
مسائل :
نرجع للآية . ينجم عن الآية مسألة لها وضع خاص في عصرنا .(6/19)
نحن نعلم أن اليهود هم من أكلت الربا ، بنص القران قال الله تعالى : (( فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا )) . هذا كلام رب العالمين ، ومع ذلك ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى شعيراً من يهودي وليس عنده مال . فرهن درعه صلوات الله وسلامه عليه عند اليهودي ؛ بعد أن اشترى منه . إذن النبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود بيعاً وشراءً . رغم أنهم أكلت ربا .
إذن ينجم عن هذا : أنه إذا سألت هل يجوز التعامل مع البنوك الربوية بيعاً وشراءً ؟
الجواب يكون نعم .
لأن اليهود أكلت ربا والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى منهم وباع إليهم وقَبِل هداياهم . وذلك مالم تعلم أن عين ما تتعامل به محرم . يعني رأيت إنسان يسرق سيارة أمام عينيك ثم يبيعك إياها فهذا لا يجوز .
لكن لو أن إنسان اشترى من أي بنك بماله شراء وبيعاً شرعيا فالبيع جائز باتفاق المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود ولأن الله قال في كتابه وهو يعلم أن اليهود حرفوا والنصارى حرفت قال جل وعلا في سورة المائدة : (( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ )) . ولن يكون طعامهم حلٌ لنا حتى يكون بالشراء . فطعامهم لن يأتينا هدية . بل لابد من الشراء . فأباحه الله لنا أكله , فإذا أباح الله لنا أكله إذن من باب أولى أن يبيح شرائه . وهذه المسألة تحتاجها كثيراً في العصر الحالي .
حتى لو كان محارباً ؟ هذه مسألة عصرية .عنون الإمام البخاري في الصحيح باب " الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب " وساق حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم في سفر له اشترى قطيع غنم من رجل مشرك وكان النبي صلى الله عليه وسلم في خارج المدينة في حربه مع أهل الشرك .(6/20)
ولو جاء إنسان بما يسمى اليوم بالمقاطعة . فما حكمها ؟
لا شك أن المقاطعة إذا تبناها الإنسان قربة لله . وأراد بها قطيعة من يعين أهل الباطل وتعبد الله بها . فإنها قربة يثاب عليها بلا شك . لكن نحن لا نتكلم عن القربة من عدم القربة . نحن نتكلم عن صحة البيع وصحة الشراء . وأنت تُنَزِّل الأشياء على منازلها .
لكن الكلام بالحِّل أو الكلام بالحرمة هو توقيع عن رب العالمين . قال ابن القيم : " أعلام الموقعين عن رب العالمين " . والكلام عن رب العالمين بالحل والحرمة لابد أن يكون على بينةٍ وهدي من الكتاب والسنة ، ولا علاقة للعواطف به . ولن تكون أعظم ورعاً من رسولنا صلى الله عليه وسلم .
فاليهود يقول الله عنهم في سورة التوبة : (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ )) ويذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يشتري من يهودي ، رغم أن أسواق المدينة مليئة بمن يبيعون الشعير ؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين للأمة جواز البيع .
مادمنا في قضايا العصر نأتي لقضية الاقتراض من البنوك .
الاقتراض بفائدة لا نحتاج لدليل لأنه حرام بإجماع علماء المسلمين وقد بيناه . لكن أحياناً البنوك تقول أنت إلى ثلاث أشهر إذا رددتها لا نطلب منك فائدة . ولكن إذا لم تستطع ردها نأخذ منك فائدة هذا يعود كالأول سواءً بسواء بمجرد توقيع العقد ولو كنت قادراً على السداد قبل نهاية العقد فإنه يعتبر عقد ربوي يدخل في اللعن الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه .
فالتعامل مع البنوك قرضاً أو إيداع الأموال عندهم وتعود إليك بفائدة هي من الربا الملعون صاحبه على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم والمحرم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين كما بينا .(6/21)
(( فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ))
أكل أموال الناس بالباطل عام ، وقلنا أنه عطف عام على خاص . وكل شيء تتوصل إليه بالباطل فهو محرم . سواءً بالرشوة أو بالسرقة أو بالاختلاس أو بالنهب فأي طريق من طرائق الباطل تصل بها إلى أموال الناس يعتبر مالاً محرماً قد لا يكون رباً لكن أي طريقة حرمها الله فإنه يأثم صاحبها .
ثم قال سبحانه : (( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً{162} )) سورة النساء .
هذه (( لَّكِنِ )) الأصل عند النحويين أنها حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر , لكنها هنا خففت لأن الأصل أنها مشدده " لكنَّ " فلما خففت جاز فيها عدم الإعمال . فأصبحت تعني الانتقال من جملة إلى جملة و تسمى باب الإضراب . أي الانتقال من حال إلى حال . فلا تعمل ولا تؤثر فيما بعدها عملاً . فيصبح الراسخون على أنها مبتدأ .
(( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ )) مِن مَن ؟
هم من أهل الكتاب وهذا يدخل فيه عبد الله بن سلام رضي الله عنه ومن آمن من اليهود والنصارى .
(( وَالْمُؤْمِنُونَ ))
والمؤمنون المقصود بها المهاجرون والأنصار , أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
(( يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ))
أي القرآن .
(( وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ))
أي بجميع الكتب
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ))(6/22)
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ )) نحوياً مفروض تكون والمقيمون مثل المؤتون والمؤمنون لكنها جاءت (( وَالْمُقِيمِينَ )) ويوجد قراءة (( والمقيمون )) لكن نحن نتكلم عن القراءة التي بين أيدينا وهي (( وَالْمُقِيمِينَ ))
وهذه للعلماء فيها ست تخريجات :
سنترك خمسة ونبقى على واحد وهي : أنها منصوبة على الاختصاص ، لبيان التعظيم والتفخيم . فيصبح المعنى وأخص المقيمين بالصلاة . وهذا تخريج إمام النحويين سيبويه وعليه أكثر العلماء . ونصب الصلاة على الاختصاص يبين أهميتها من الدين وعلى أنها أمر عظيم .
(( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ))
نّكر الله كلمة (( أَجْراً )) هنا لبيان التفخيم . لأنه لا يعلم مالهم من أجر إلا الله . قال تعالى : (( فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (السجدة : 17 )
هذا ما أردنا الوقوف عنده . يصبح من هذا كله إجمالاً تكلمنا عن اليهود وتكلمنا عن النصارى في سورتين سورة آل عمران وسورة النساء . وقلنا إجمالاً إن اليهود يزعمون أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم ويفخرون بذلك ويفرحون به . وأن النصارى تقبل هذا وتدعيه لكنها تقول أن هذا خلاصاً للبشرية . وكلا الفريقين ضال ، فإن عيسى ابن مريم لم يقتل ولم يصلب بل رفعه الله جل وعلا إليه وكان الله عزيزاً حكيماً . وقلنا إنه سينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً مقسطا .
هذا ما انتهى إليه الدرس والله تعالى أعز وأعلا وأعلم وصلى الله وسلم على محمد .(6/23)
تأملا ت في سورة
النساء
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق فسوى وقدر فهدى ، وأخرج المرعى ،فجعله غثاءً أحوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلي عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد . أيها الأخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
حديثنا اليوم إكمال لما فسرناه من كتاب ربنا في الدرس الماضي من سورة النساء , ووقفنا عند قول الله عز وجل : (( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً{163} وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً{164} رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً{165} )) .
هذه الثلاث الآيات هي التي سيدور عنها الحديث في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تعالى .
ومبدئياً نقول :
إن الإنسان وهو يسير إلى ربه لابد له منهج يسير عليه ولابد له من نفس الوقت من أئمة يقتدي بهم , وحتى يكون المسير إلى الله جل وعلا حقاً على بينةٍ وعلى صراط مستقيم لا بد أن يكون المنهج مِن مَن ؟(7/1)
مادمنا نعبد الله لا بد أن يكون المنهج الذي نسير به إلى ربنا يكون من لدن ربنا وإلا لن نستقيم في السير على صراطه ولا في الطريق إليه .
الأمر الثاني : ينبغي أن يكون القدوة والإمام الذي نضعه نصب أعيننا لابد أن يكون معصوماً حتى لا تختلف علينا الأهواء والزيغ . ولا معصوم إلا أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ولذلك عندما يكون الإنسان وهو يتحدث وهو يعمل وهو يقول وهو يفعل يحتج بفعل الأنبياء والمرسلين لا تجد لأحد طريقاً عليه لأن الله جل وعلا عصم الأنبياء والمرسلين من الزيغ ومن الضلال فهم عليه الصلاة والسلام لا يصدرون من آرائهم إنما يصدرون من وحي الله جل وعلا إليهم , فإذا اجتهدوا في أمر ليس فيه وحي لا يقرهم الله جل وعلا على خطأ إذا أخطؤا .
كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام أعرض عن عبد الله بن مكتوم رضي الله عنه نزل القران يعاتبه : ((عَبَسَ وَتَوَلَّى{1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى{2})) . أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له أسرى يوم بدر واستشار أصحابه أنزل الله جل وعلا : (( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ )) الأنفال 67. إلى غير ذلك من الدلائل التي لا تحتاج إلى كثير شواهد ،وعظيم قرائن .
المقصود قص الله جل وعلا في كتابه الكريم بعض من أخبار رسله وبعضا طواه عن نبينا صلى الله عليه وسلم وعنا .
وفي الآيات التي تلوناها التي بين أيدينا التي هي موضوع درس اليوم يتكلم الله جل وعلا عن جملة من أنبياء الله ورسله ممن اصطفاهم الله وأنبأهم , وكل المذكورين في هذه الآية هم رسل وليسوا أنبياء فقط . بمعنى بعثوا إلى أقوام ودعوا إلى الله جل وعلا بشرع جديد .
هؤلاء الرسل أوحى الله جل وعلا إليهم قال سبحانه : )) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) .(7/2)
الوحي : هو الفارق الأعظم بين الأنبياء وبين المصلحين من البشر . نحن نعترف أن البشرية شهدت علماء ومصلحين وقادة عبر تاريخها الطويل في كل الأمم ولكن هؤلاء القادة والمصلحين والأئمة في أي ملة لن يسلموا من خطأ لأنهم غير موحى إليهم وليسوا بمعصومين , لكن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الوحي كفل لهم العصمة فهذا هو الفارق العظيم بين أنبياء الله ورسله وبين من شهدتهم البشرية عبر تاريخنا الطويل .
نسمع بسقراط وأرسطو وغيرهم وأفلاطون في الحضارة اليونانية وغيرهم , نعم كان كثير منهم أجلاء فيهم عقل فيهم حكمه أسسوا حضارة لكنها لم تسلم ولن تسلم من زلل ما دامت جهداً بشرياً . أما جهد أنبياء الله ورسله فهو فرقان ووحي ينزل من الله لا يقبل أنصاف الحلول لأنه (( مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ )) هود 1, قال الله جل وعلا في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} )) النجم .
نأتي لهؤلاء الأنبياء سنقف على مجمل سيرتهم عبر ما سردهم الله جل وعلا , منهم من مر معنا ومن مر معنا في دروس لاحقة لا حاجة للتكرار ومن لم يمر معنا سنقف عنده لنتبين بعض سيرة حياته وكيف نقتدي به , مع البيان الشافي أنهم جملة بعثوا بدين واحد وهذه أهم قضية ولذلك قال الله : (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا )) البقرة 285.(7/3)
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا )) " إن " هذا كلام رب العزة . والنون للتعظيم " نا " الدالة على الفاعلين لتعظيم الرب جل جلاله , تسمع في الأوامر الملكية في السعودية مثلا : " نحن فهد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية " ثم يأتي الأمر هذه " نحن " للجماعة لكنها تقال في السياق اللغوي للتعظيم . ويجوز إطلاقها على البشر ويجوز إطلاقها على الله , لكنها في حق الله بلا شك أعظم منها في حق البشر كما تقال فلان حكيم والله جل وعلا حكيم , لكن فرق ما بين حكمة العباد وحكمة رب العباد جل جلاله , إن اتفقا في المسمى لا يتفقان في دقائق الوصف .
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) وأوحينا الفعل" أوحى " كذلك أسند إلى " نا " الدالة على الفاعلين لبيان العظمة الإلهية .
(( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) المخاطب هنا النبي صلى الله عليه وسلم نبينا محمد مع اليقين أنه عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء لكنه قدم هاهنا لعلو شرفه وجليل منزلته وعلى أنه أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا شك .
وحتى يستفيد الإنسان فالإنسان إذا خطب أو ألقى محاضرة أو أرد أن يقول درساً كطالب علم مثلا يحاضر أو شيء من هذا يقول : " وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأولهم يوم القيامة شأنا وذكرا " .
يقول : " وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا ـ من حيث الزمن هو آخر الأنبياء ( أنا آخر النبيين وأنتم آخر الأمم ) ـ آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأولهم يوم القيامة وأرفعهم شأنا وذكرا صلوات الله وسلامه عليه .(7/4)
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ )) ثم جاء الله بكاف التشبيه " كما " أي كالذي (( كَمَا أَوْحَيْنَا )) ثم ذكر الله جملة من الأنبياء على ما سيأتي بيانهم على التفصيل . (( كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) نوح عليه الصلاة والسلام أول رسل الله جل وعلا إلى الأرض , وقد أثنى الله جل وعلا عليه في القرآن وأسماه ((عَبْداً شَكُوراً )) الإسراء 3 . والأصل أن الله خلق الناس على فطرة واحدة منذ أن كان أبوهم آدم عليه السلام , مكثوا على هذا الحال كما يقول ابن عباس وجمهرة المؤرخين عشرة قرون ثم اجتالتهم الشياطين صرفتهم عن طاعة الله فبعث الله جل وعلا وأرسل أول ما أرسل أرسل إليهم مَن ؟
نوح عليه الصلاة والسلام والدليل على أنه أول الرسل ثابت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر قيام الناس وحديث الشفاعة قال : ( إن الناس يأتون نوحاً ويقولون يا نوح أنت أول رسل الله إلى الأرض وسماك الله في كتابه عبدا شكورا ) . فهو أول رسل الله إلى الأرض بالاتفاق , وهو أطول الأنبياء عمراً عاش ألفا وتزيد قيل إنها ألف ومائه وخمسين , وما ذكره الله جل وعلا في كتابه أن الله قال : (( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً )) العنكبوت 14 . هذا العمر الدعوي وليس عمر حياته كلها قول الله جل وعلا : (( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً )) يدعو إلى الله بدليل أن الله قال بعدها : (( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ )) . (( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ )) و (( فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ )) هذه كلها دلالة على أن نوحاً عاش بعد هذه المدة ويحسب معها المدة التي كانت قبل أن ينبأ صلوات الله وسلامه عليه , والمقصود أنه شيخ المرسلين وهو الأب الثاني للبشر بعد آدم والأب الأول للأنبياء صلوات الله وسلامه عليه .(7/5)
(( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )) ولم يذكر الله جل وعلا من النبيين الذين بعد نوح عليه الصلاة والسلام .
ثم قال سبحانه : (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ))
بيان هؤلاء على النحو التالي :
ذكر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد مرت معنا سيرته وهو الأب الثاني للأنبياء ويطلق عليه أبو الأنبياء من باب التجوز إذا أطلقت أبو الأنبياء يراد بها إبراهيم وإذا قيل شيخ الأنبياء يراد بها نوح عليهم الصلاة والسلام , وإذا قيل كليم الله يراد بها موسى مع أن الله كلم محمداً وكلم آدم لكن إذا قيل كليم الله تنصرف إلى موسى عليهم الصلاة والسلام , وإذا قيل شيخ المرسلين تنصرف إلى نوح لأنه الأبُ الأول للأنبياء ولأنه أطولهم عمراً , وإذا قيل أبو الأنبياء تنصرف إلى إبراهيم لأن إبراهيم ما بعده جميع الأنبياء كانوا من ذريته قال الله تعالى : (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب )) هذا يفيد الحصر إلا أنه يشكل أن لوطاً ابن أخي إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .(7/6)
(( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ )) إسماعيل الابن الأكبر لمن؟ لإبراهيم من زوجته هاجر وهاجر كانت جارية عند من ؟ عند سارة فجارية أمه وسارة حرة . لما لم تنجب سارة أهدت إبراهيم هاجر فلما ولدت إسماعيل أصابها ما يصيب النساء من الغيرة فما طاقت أن تمكث هي وسارة في مكان واحد , فهاجر إبراهيم بزوجته هاجر وابنه إسماعيل إلى واد غير ذي زرع أي إلى مكة ووضعها في مكة بأمر الله في القصة المشهورة ومضى عنهما , رجع إلى أين ؟ رجع إلى مصر إلى زوجته سارة . لما رجع إلى سارة أنجبت له سارة إسحاق وجاء في الآية : (( إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ )) . فصار إسحاق الابن الثاني لمن ؟ لإبراهيم .(7/7)
لما ترك إبراهيم إسماعيل في واد غير ذي زرع التي هي مكة اليوم تركه ولم يترك معهم إلا شيئا يسيراً من زاد وماء ثم فني الإثنان فلما فني الإثنان والقصة المشهورة أن بعثت ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل . وجود الماء يجلب القبائل جاءت قبيلة جرهم وهي قبيلة قحطانية من العرب العاربة تزوج منهم إسماعيل بعدما شب وبلغ مبلغ الرجال تزوج منهم , بعدما تزوج منهم ماتت أمه قبل أن يأتي أبوه ماتت أمه هاجر بعد أن تزوج من قبيلة جرهم ثم مكث ما شاء الله ,جاء إبراهيم يبحث عن زوجته وابنه , لما جاء عرف أن الوالدة توفيت أي والدة إسماعيل , فسأل عن ابنه كان إسماعيل وقتها في الصيد فلما دخل على المرأة الجرهمية التي تزوجها إسماعيل في أول الأمر سألها عن إسماعيل قالت : " خرج يصطاد لنا " فسألها عن حالهم فذكرت شيئا عسيراً ولم تحسن الخطاب وقالت : " نحن في ضيق وشدة كرب ولم تذكر شيئا حسنا " فقال لها إذا جاء إسماعيل فأقرئيه مني السلام وقولي له : " غير عتبة بابك " . جاء إسماعيل من الصيد كأنه آنس شيئا , قال لزوجته : " هل من خبر ؟ " أخبرته القصة رجل كبير أخذت تصف إبراهيم وهي لا تدري أنه والد إسماعيل . هل قال شيئاً أخبرك بشيء ؟ أخبرته بالقصة , قال : " ذاك أبي وقد أمرني أن أطلقك فالحقي بأهلك فطلقها " , ثم تزوج امرأة أخرى من نفس جرهم لأنه ما كان فيه قبيلة إلا جرهم , فلما تزوج وافق أن جاء إبراهيم بعدها بفترة وكان إسماعيل في الصيد فقابل المرأة الزوجة الجديدة سألها عن حالهم أين إسماعيل قالت : " في الصيد " سألها عن حالهم أخبرته بأنهم : " بأحسن حال " فدعا لهم بالبركة وقال : " إذ جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له ثبت عتبت بابك " , لما جاء إسماعيل سأل زوجته وأخبرته الخبر قال : " ذاك أبي وقد أمرني أن أبقي عليك " , ثم جاء في المرة الثالثة وحصل ما حصل من بناء الكعبة .
هذا من؟ هذا إسماعيل عليه الصلاة والسلام .(7/8)
حث الأبناء على الصلاة من هدي الأنبياء
نعته الله جل وعلا في القرآن بأنه : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً{54} وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً{55} )) مريم . المقصود أن إسماعيل كان يحث أهله على الصلاة وهذا أعظم الفوائد في هدي الأنبياء .
حث الأبناء على الصلاة من هدي مَن؟ من هدي الأنبياء هذه الغاية من ذكر الأنبياء . نأخذ من كل نبي الفائدة المرجوة . حث الأبناء على الصلاة من هدي الأنبياء . فالإنسان وهو يعمل يوقظ أهل بيته يتذكر هذه الآية يتلوها : (( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ )) ويأمر أهله بالصلاة وينادي علَّ الملكين أن يكتباها له .
إسحاق عليه الصلاة والسلام تكلمنا عنه وقلنا إنه والد يعقوب ويعقوب هو مَن ؟ هو إسرائيل .
(( وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ )) الأسباط أبناء يعقوب على الأظهر . اختلف فيهم : جمع سبط والأظهر أنهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام , إذا قلنا إنهم أولاد يعقوب فهم إخوة مَن ؟ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام وقيل إن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب هذا أظهر ما قيل في أن الأسباط وهم أخوة يوسف تاب الله جلا وعلا عليهم وهناك أقوال غير ذلك .
(( وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى )) الأصل أن عيسى عليه الصلاة والسلام في الترتيب ليس بعد يعقوب والأسباط وإنما عيسى آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وفي هذا فائدتان :(7/9)
الفائدة الأولى : أن الله ذكر عيسى مقدماً هنا لأن الخطاب هنا أصلا موجه للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب بني إسرائيل لأن مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجادل من ؟ نصارى نجران قلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجادل نصارى نجران والآيات قريبة مما قبلها تتكلم عن النصارى فتقديم عيسى هنا لمناسبة الآية بما قبلها هذا واحد .
الفائدة الثانية : بما أن عيسى ليس الأول فهذا دليل على أن " الواو العاطفة " لا تفيد الترتيب . وإن كان في المسألة أقوال للعلماء لكن " الواو العاطفة " لا تفيد الترتيب .(7/10)
ثم قال الله جل وعلا : (( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ )) أيوب عليه الصلاة والسلام من ذرية يعقوب أي من بني إسرائيل . وقد جعله الله جل وعلا قدوة ومثالاً وموعظة للصابرين . وهو عبد صالح ونبي مرسل بنص القرآن كما في هذه الآية , هذا النبي ابتلاه الله جل وعلا بعد أن كان حسن الخلقة ابتلاه الله بمرض في الظاهر والباطن , ومكث في المرض عليه الصلاة والسلام ثمانية عشر عاماً وهو صابر محتسب حتى كان ذات يوم فقد أبناءه طبعاً في الفترة هذه فقد بعض أهله تخلى الناس عنه لم يبقى له إلا صاحبان وزوجته . وكانت بارة فيه وغضب عليها مرة فحلف بالله أن يضربها إن شفاه الله مائة جلدة , إذ أن الإنسان مع المرض يحدث منه أشياء عاجلة , بقي له صاحبان خرجا من عنده ذات يوم وأخذا يتحدثان فيه , رواه أبو يعلى والحاكم في مستدركه بسند صحيح وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة , خرجا من عنده ثم أخذا يتحدثان عنه فقال أحدهما للأخر : " ألا ترى أن أيوب قد أذنب ذنباً عظيما وإلا يمكث ثمانية عشر عاماً ولم يشفه الله ؟ ـ حتى تعلم أن الناس في تقبلها للآخرين يبقى مهما بقي تصورها ماذا ؟ تصور ضيق والأمور مردها إلى الله تنظر حسب ما ترى , ولا يمكن أن يعطى إنسان العلم كله , هذان صاحبان حميمان ومع ذلك يقولان عنه هذا القول وهو نبي مرسل ـ لما رجعا إليه ما صبرا أخبراه قالوا : " إننا تحدثنا في شأنك وقلنا إنك أذنبت ذنباً عظيماً وإلا لا يعقل أن تمكث في البلاء ثمانية عشر عاما لا يشفيك الله " , فقال عليه السلام : ( لا أدري ما تقولان إلا أنني أمر على الرجلين ـ وهنا تأمل كيف يعظم أنبياء الله ربهم ـ أمر على الرجلين يتنازعان فيحلفان الإثنان بالله فأعلم أن أحدهما كاذب ـ لأنه لا يعقل أن يصدق الاثنان وهما متنازعان ـ فأذهب إلى بيتي فأكفر عن أحدهما كراهية أن يذكر الله إلا بحق ) , فخرجا من عنده , وكان عندما يقضي حاجته تذهب معه زوجته , أخذته ليقضي(7/11)
الحاجة وأوصلته إلى منتهى المكان الذي تريد أن يقضي فيه الحاجة وتركته يتكئ عليها لضعفه , ثم انتظرته كالعادة , وهو في الطريق أصابه ما أصابه من الهم فسأل الله جل وعلا كما قال الله جل وعلا عنه : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )) الأنبياء 83 , وفي الآية التي في سورة " ص" : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ )) 41. ففجر الله من تحته عيناً وقال له اشرب واغتسل (( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ )) فركض (( هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ )) فشرب فبرئ باطنه كل وجع داخلي انتهى , واغتسل فبرئ ظاهره . فأصبح تام الخلقة حسن الوجه فرجع معافى إلى من ؟ إلى زوجته , لكنها لم تعرفه , فقالت : " يا فلان أمر معك هذا النبي المبتلى فوالله إنه عندما كان غير مريض من أشبه الناس بك " فقال لها : ( أنا نبي الله أيوب ) . رجع معها صلوات الله وسلامه عليه .
مكثه ثمانية عشر عاما من أعظم وأجل أنواع الصبر ولذلك لما نعته الله جل وعلا في القرآن قال : (( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) .
قال العلماء الربانيون :
" إن نِعم الثناء من الله ليس بالأمر الهين " . أن يقول الرب الجليل جل جلاله عن أحد عباده (( نِعْمَ الْعَبْدُ )) إلا لعلم الله بسريرة ذلك العبد وأنه أهل لهذا الثناء والمدح الإلهي . وقد من الله على أيوب عليه الصلاة والسلام بهذا العطاء .
زيادة في الخير كان له أندران يعني بيادر كبيرة فيها قمح وشعير , فجاءت سحابتان ـ وهذا حديث صحيح ـ فأفرغت إحداهما على مكان القمح ذهبا وعلى مكان الشعير فضة فضلاً من الله جل وعلا عليه وإكراما لصبره صلوات الله وسلامه عليه . من مات من ذريته وأولاده وأهله أحياهم الله جل وعلا إكراماً له .(7/12)
فالله جل وعلا إذا أعطى لا يسأله أحد عما يفعل تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا .
قال سبحانه : (( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا )) هذه لأيوب (( وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ{84} )) أي لمن صنع في صبره صنيع من ؟ صنيع أيوب . هذا أيوب عليه الصلاة والسلام .
قال الله جل وعلا : (( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ )) أما يونس عليه الصلاة والسلام فهو يونس ابن متى عليه الصلاة والسلام بعثه الله جل وعلا إلى أرض نينوى من أهل الموصل من بلاد الموصل في أرض العراق حالياً . هذا النبي خرج مغاضباً في قصة مشهورة مرت معنا مراراً لا حاجة لذكرها لكن الذي يعنينا أنه عليه الصلاة والسلام قال الله جل وعلا عنه : (( وَذَا النُّونِ )) أي وصاحب الحوت (( إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )) الأنبياء 87 .
وجاء في السنة كما في البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم أنا خير من يونس ابن متى ) هذا الحديث مشكل لأن له مفهومين :
المفهوم الأول : أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام لا يقل أحدكم ( أنا خير ) " أنا " هذه عائده على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا بها يصبح المعنى لا يفضل أحد بيني أي النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء . وهذا بعيد في ظني لأن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من كل الأنبياء ولا حاجة لتأكيد يونس لوحده وإن قال به فريق من العلماء .(7/13)
أما المفهوم الثاني : وهو الأرجح معناه لا يقل أحد من الناس عن نفسه يرى صلاحه وتقواه وصلاته و صيامه أنه أفضل من يونس . طيب ما لذي يدفع الناس لأن يقول أحدهم أنا أفضل من يونس . ما ذكره الله جل وعلا عن يونس من نوع عتاب فإن الله قال في كتابه : (( وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) القلم 48 , فقالوا هذه الآية تشعر أن يونس ليس بذلك الكمال , فيأتي إنسان يرى في نفسه الكمال العظيم فيظن أنه خير من يونس . فقال عليه الصلاة والسلام حسماً للباب : ( لا يقل أحدكم أنا خير من يونس ابن متى ) . فيونس عليه الصلاة والسلام نبي مرسل قلنا أرسله الله إلى أرض نينوى من أرض الموصل من أرض العراق حالياً .
(( وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ )) أما يونس بيناه أما هارون فهو الأخ الأكبر لموسى عليهم الصلاة والسلام وكان فرعون لما اشتكاه الأقباط أنه إذا أفنى بني إسرائيل لا يبقى لهم خدم أصبح يقتل عاماً ويبقي عاماً , فولد هارون في العام الذي لا قتل فيه وولد موسى في العام الذي فيه قتل .
هارون كان أكبر من موسى وجعله الله جل وعلا رسولاً نبياً بشفاعة موسى قال الله جل وعلا : (( وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً{53} )) مريم . وقال الله عن موسى (( وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً )) الأحزاب 69.
جاء في حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنه رأى في السماء الخامسة : ( ورأيت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته قلت من هذا يا جبرائيل قال : هذا المحبب في قومه هارون ابن عمران ) .
كان هارون سمحاً ليناً ولذلك كان محبباً في بني إسرائيل .
وافترقت بني إسرائيل على ولايته لمّا ذهب موسى يكلمه ربه كما سيأتي . هذا هارون ابن عمران عليه الصلاة والسلام .(7/14)
ثم قال الله : (( وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ )) سليمان ابن داوود وسيأتي بيان داوود عليهم الصلاة والسلام ، أما سليمان قلنا إنه ابن داوود وقد منّ الله جل وعلا عليه بأن استجاب دعائه عندما قال : ((رب اغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أنك أنت الوهاب )) إذا جئت تسأل الله فلا تسأل الله على قدر ما تظنه في الناس ولكن اسأل الله على قدر ما تظنه في ربك . الله جل وعلا أعظم مسؤول .هذا سليمان يفقه هذه جيداً فلما سأل ربه سأل ربه على قدر ما يعلمه عن ربه لا ما قدر ما يستحقه , فنحن لا نستحق شيئا لكننا نسأل الله على قدر علمنا بعظمة ربنا وجلال قدرته وأن خزائنه لا تنفد سبحانه وتعالى .
فهذا النبي الصالح قال : (( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )) ص 53 , فمن الله جل وعلا عليه وأعطاه ما سأل فسخر الله تعالى له بعدها (( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ )) ص 36 .
حتى أصبح في الأمثال يقال : " ملك سليمان " كناية عن الملك العظيم الذي لا يعطى لأي أحد وهذا فضل من الله جل وعلا له .
ثم قال سبحانه : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) داوود والد من ؟ والد سليمان وهذا دلالة كذلك على أن الواو لا تعني الترتيب وإن كانت هذه : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) ممكن أن تكون واو استئنافيه .
داوود عليه الصلاة والسلام أحد أنبياء بني إسرائيل وهو الذي يسمى عند النصارى اليوم : " ديفيد " . وكلمة " كامب ديفيد " معناها مخيم داوود . داوود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل وعلى يديه قتل جالوت (( وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ )) البقرة 251 , كما قال جل وعلا .(7/15)
هذا النبي لما مسح الله جل وعلا كما عند الترمذي بسند صحيح على ظهر آدم وخرج من ظهر آدم ذريته رأى آدم كل نسمة كائنة من ذريته إلى يوم القيامة . فرأى فيما رأى منهم غلاما أزهر فيه " وبيص " نور بين عينيه , قال : ( يا رب من هذا ؟ ) ـ طبعاً هو أبو البشر لكن لا يعرفهم هذا عالم الأرواح الأول ـ قال له ربه : (( هذا رجل من ذريتك يكون في آخر الزمان يقال له داوود )) ، قال : ( كم جعلت عمره ) قال : (( ستين عاماً )) فقال : ( يا رب زده أربعين ) فقال الله : (( إلا أن يكون من عمرك )) فوافق آدم , وكان الله قد أعطى آدم ألف عام , فلما جاء ملك الموت ليقبض آدم نسي آدم أنه أعطى ابنه داوود أربعين عام . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته ) فأتم الله الألف لآدم والمائة لداوود عليهم الصلاة والسلام .
هذا النبي قال الله عنه : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) ص 17 , كلمة (( ذَا الْأَيْدِ )) جمع الله له قوة القلب وقوة البدن في الطاعة .
الإنسان أحيانا يكون عنده رغبة في الطاعة لكن الكسل يكون بدني مثلاً مهدود ، رجل كبير، شاب مريض ،قادم من عمل مضني متعب فالرغبة لا يطيقها البدن , وأحيانا يكون في الإنسان عافية وقدرة لكنه نائم يعني ما كان وراءه تعب لكن ما عنده قلب يريد أن يقوم الليل , فاجتمع في داوود قوة القلب على الطاعة وقوة البدن . وهذا من أفضال الله جل وعلا على عباده .
لو أراد شخص في يوم واحد أن يطبق سنة داوود عليه الصلاة والسلام ما لذي يلزمه ؟(7/16)
(( ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )) منّ الله عليه بخصلتين حسن الصلاة وحسن الصيام قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( أحب الصلاة إلى الله صلاة داوود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ) . الآن آذان المغرب يؤذن الساعة السابعة وصلاة الفجر تكون الساعة الرابعة أي أن الليل تسع ساعات بالضبط ، لو أراد شخص في يوم واحد أن يطبق سنة داوود عليه الصلاة والسلام ما لذي يلزمه ؟
ينام بعد صلاة العشاء إذا اعتبرنا الليل من بعد صلاة العشاء تصبح سبع ساعات لأنه ما فيه قيام ليل إلا بعد صلاة العشاء فكان ينام نصف الليل،هذه السبع ساعات ثلاث ساعات ونصف فإذا نام الساعة التاسعة يقوم الساعة الثانية عشر والنصف ويصلي إلى كم يبقى من السدس؟ الآن إذا وصل إلى الساعة الثانية عشر والنصف هذا نصف الليل في أيامنا هذه إذا اعتبرناه من اثنا عشر ونصف إلى أربعه كم ساعة ؟ ثلاث ساعات ونصف إذا قسمت على ستة ثلاثة في ستين مائة وثمانين ونصف ثلاثين مائتان وعشره ، مائتان وعشره دقيقه لو قسمت على ستة يصبح فيها حوالي أربعين أو خمسه وثلاثين دقيقه فتبقى الخمسة وثلاثين دقيقه قبل أربعه يصبح يبدأ يقوم اثنا عشر ونصف وينتهي الساعة الثالثة وخمسه وعشرين دقيقه . هذه قل ما يطيقها أو يفعلها أحد في عصرنا مرة في العمر هذا النبي كان يصنعها كل ليلة وقال صلى الله عليه وسلم : (وأحب الصيام إلى الله صيام داوود كان يصوم يوما ويفطر يوما ) وتمام الحديث وهو في الصحيحين : ( وكان لا يفر إذا لاق ) لأنه كان يجاهد في سبيل الله ولا يفر صلوات الله وسلامه عليه .(7/17)
أعطاه الله جل وعلا حسن الصوت ولذلك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال : ( أعطي مزمارا من مزامير آل داوود ) . كان إذا قرأ الزبور , والزبور هو الكتاب الذي أعطاه الله داوود عليه السلام والزبور كله مواعظ , وقال بعض العلماء ليس فيه أي حكم شرعي وإنما كله رقائق ومواعظ تذكر بالله ، كان يتلوها بصوت حسن فتجتمع الطير تنجذب إلى صوته وقراءته للزبور فتمكث إذا طال بعضها يموت جوعا ينسى الأكل وهو مؤتلف منسجم مع ترتيل داوود .
قال الله: (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) والزبر في اللغة : الكتاب المجموع بعضه إلى بعض . (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) الزبور الكتاب الذي أنزله الله جل وعلا على داوود عليه السلام وقلنا إنه مواعظ كله وحكم . الآن أنظر إلى التفكير ما بين أهل الدنيا وأهل الآخرة .
سنأتي بفائدة أدبية حتى أريك الفرق بين الناس :
تسمعون بالفرزدق أبو فراس شاعر أموي كان من أهل الفسق جاء ذات يوم على كلمة زبور ، جاء ذات يوم عند مسجد يقال له مسجد بني زريق في الكوفة هذا المسجد يجلس عنده شعراء ينشدون شعر , فذكر رجل ينشد شعراً ذكر شعر للبيد بن ربيعه ، لبيد له معلقه :
عفت الديار محلها فمقامها
بمنٍ تأبد غولها فرجامها
*فيها بيت يقول:
وجل السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها
يتكلم عن السيل عندما يأتي يمسح الوادي كأنه يعيد كتابتها من جديد , هذا الشاعر واقف يتكلم والفرزدق عابر فقال :
وجل السيول عن الطلول كأنها
زبر تجد متونها أقلامها(7/18)
سجد هذا الفرزدق , فلما سجد ورفع رأسه قالوا : ما هذا يا أبا فراس ؟ قال : أنتم تعرفون جَيِّد القرآن فتسجدون وأنا أعرف جيد الشعر فأسجد له . الآن هذا يبين لك أن عقلية الناس تختلف من شخص إلى شخص . الفرزدق لا ينقصه ذكاء وإلا ما يقول هذا الشعر لكن لا يوجد قلب يتعلق بماذا ؟ يتعلق بالآخرة . الناس كلها ترى منظر واحد لكن كيف ترى هذا المنظر ؟ كلما كان قلبك أخروياً ربطته بالآخرة . سليمان بن عبد الملك خرج ومعه عمر بن عبد العزيز وهما واضع يده بيد بعض أمير المؤمنون سليمان ومعه عمر ماشين في الطائف , والطائف معروف البرق والرعد فيها , جاء رعد وبرق انتفض سليمان ـ والذي يعرف جبال الهدا والشفا يعرف هذا ـ فلما رأى البرق والرعد قال عمر : " يا أمير المؤمنين هذا صوت رحمته فكيف إذاً بصوت عذابه ؟ " هذا الذي أنت خائف منه صوت رحمه يأتي منه مطر فكيف إذاً بصوت عذابه . فربطها رحمه الله بالآخرة مباشرة وإلا المنظر يبقى واحد لكن الناس الذي يرونه تلقي المنظر، تلقي الكلام ، تلقي الخطاب ، يختلف من زيد إلى عمرو لأن الناس يتفاوتون في إدراك الأشياء بحسب قلوبهم .
قال الله جل وعلا : (( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً )) ثم قال سبحانه : (( وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) . الله هنا يقول لنبيه هؤلاء رسل قصصناهم عليك . ممن قصه الله جل وعلا صالح ، وشعيب ، وهود ،وهم غير مذكورين في هذه الآية (( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ )) طبعا لا نعرفهم لأن الله لم يقصصهم على نبيه (( وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) إفراد موسى عليه السلام هنا بالذكر تشريف له صلوات الله وسلامه عليه .
موسى أعظم أنبياء بني إسرائيل .(7/19)
وهو كليم الله وصفيه قال الله عنه : (( قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي )) الأعراف 144 .
فيه شيء في اللغة يسمى مفعول مطلق يأتي على ثلاثة أنواع :
إما يأتي مبيناً للعدد تقول مثلا : " ضربت فلان ستاً " أي ست ضربات .
وإما مبيناً للنوع تقول : " أكرمت زيداً إكراماً كثيراً " أي كثير الإكرام .
وإما أن يأتي مؤكداً يؤكد حدوث الفعل كما في هذه الآية : (( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) هذا تأكيد أن الله كلم موسى أما كيف كلمه لا ندري . لكن كلمه بلا شك . لأنه فيه فرق حادت عن الصواب وقالت إن الله لم يكلم موسى .
متى كلم الله موسى ؟
كلم الله موسى في بدء النبوة عندما خرج من أرض مدين وأظنه مر علينا هذا كلمه الله عند جبل الطور وكان لا يدري أنه نبي ولا يدري أنه رسول فكلمه ربه .
الحالة الثانية : كلمه الله جل وعلا عندما وعده تبارك وتعالى قال تعالى : (( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ{142} وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي )) الأعراف .
هذه (( لَن تَرَانِي )) نذكر منها فوائد مهمة إن صح الخطاب :(7/20)
هذه " لن " للنفي وقد مرت معنا ، ظهرت فرقه يقال لها المعتزلة سأخصص الحديث عنها الآن . تقول إن الله جل وعلا لا يُرى في الآخرة ومن حججهم هذه الآية يقولون إن الله قال لموسى (( لَن تَرَانِي )) بمعنى لن تراني أبداً , فقالوا يستحيل أن يُرى الله في الآخرة . ونحن معشر أهل السنة نؤمن أن الله جل وعلا يُرى في الآخرة لدلالة الكتاب ودلالة السنة قال الله جل وعلا : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23})) القيامة , وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) في حديث الصحيحين وفي غيرهما .
نأتي لقضية المعتزلة وهذا من باب الفوائد .
المعتزلة فرقة ظهرت في أواخر القرن الأموي وازدهر قولها وسلطانها في عصر بني العباس أيام المأمون والمعتصم أخو المأمون .
تقوم أركان المعتزلة على خمسة بنود :
أولاً : التوحيد . الثاني : الوعد والوعيد . الثالث : العدل . الرابع : المنزلة بين المنزلتين . الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . طبعاً حسب فهمهم هم .
لماذا سموا المعتزلة ؟
قالوا من أسباب تسميتهم أن الحسن البصري رحمه الله وهذا مر معنا كثيرا كان يدرس في الحلقة وجاءه رجل سأله يا أبا سعيد ما تقول في مرتكب الكبيرة ؟ كان في أيامها فيه جدال صراع بين الناس هل مرتكب الكبيرة يكفر أولا يكفر؟
كان الخوارج يقولون : إن مرتكب الكبيرة يكفر كفراً أكبر مخرج من الملة فيستبيحون قتله . وأهل السنة يقولون إن مرتكب الكبيرة فاسق لكن الكبيرة لا تخرجه من الملة وبالتالي لا يستبيحون قتله .
فجاء رجل يسأل الحسن البصري رحمه الله وكان من أعلام الناس , فبينما الحسن يريد أن يجيب ظهر رجل في الحلقة اسمه واصل بن عطاء من أعظم من أسس مذهب الاعتزال فقام وقال هو في منزلة بين المنزلتين .(7/21)
سنرد عليهم عقلاً هم جاؤوا بها عقلاً سنرد عليهم عقلاً , فقال : هو في منزلة بين المنزلتين ، ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ قام وجلس تحت سارية ثانية يشرح : ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ ـ طبعاً إي إنسان يقوم يشرح الآن حتى لو إي واحد الآن زعل علي في الدرس وجلس هناك يتكلم لا بد واحد أو اثنين يروحوا وراه يشوفوا ماذا يقول ـ لما ذهبوا ناس معاه قال الحسن رحمه الله : " اعتزلنا واصل " فسموا بالمعتزلة .
قرر واصل مذهب الاعتزال . واصل هذا من أفصح خلق الله رغم أنه كان فيه لظغه ما يعرف ينطق حرف الراء ما تجيء على لسانه هذا شيء ليس في يده من الله , يجلس يتكلم بالساعات ولا أحد يعرف أن فيه لظغه في الراء لا يأتي ولا بكلمة فيها راء , هذا إنسان يعرف في اللغة أشياء لا تعقل يتكلم بالساعات يقول الحمد لله القديم بلا ابتداء الباقي بلا انتهاء يذكر يعظ بالله ويصف ويشرح ويتكلم ويخرج وأنت لا تدري أنه ما يأتي بالراء لأنه ما قال ولا كلمة بالراء لقوة بلاغته , ومع ذلك أضله عقله ، لأنه حكم على الناس بأن الفاسق ترد شهادته وأنه منزلة بين المنزلتين .
من أعظم ضلاله أنه قال وبئس ما قال : " إن علياً رضي الله عنه والحسن والحسين وعمار حاربوا عائشة وطلحة والزبير " . ورد هو كل النصوص التي جاءت في فضل هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم , وقال : " بالعقل واحد فيهم فاسق وواحد ظالم وواحد مظلوم ". قال : " وأنا ما أدري من الظالم ومن المظلوم إذاً لا أدري من الفاسق ؟ فقال : " لو شهد عندي عليٌ والحسن والحسين وعائشة وطلحة والزبير وعمار لما قبلت شهادتهم ولا في حتى في بقل ولا بصل لأنهم فساق ترد شهادتهم " . هل يقول هذا عاقل ؟ وهو يزعم أن مذهبه قام على العقل .
الآن سنبين بالعقل أن مذهبه باطل .(7/22)
قالوا له : اشرح ما معنى منزلة بين المنزلتين ؟ قال : بسيطة أنا ما أقول مثل الخوارج إنهم كفار يقتلون في الدنيا ولا أقول مثل ما تقولوا أنتم أهل السنة أنهم مؤمنين مسلمين أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم , قال : " في الدنيا تجري عليهم أحكام أهل الإسلام فهم مسلمون وفي الآخرة كفار مخلدون في النار تجري عليهم أحكام أهل الكفر لأنهم لم يتوبوا ـ وهذا معنى الوعد والوعيد عندهم يقول الله ملزم على أن يعذبهم لأن الله عدل ما يترك واحد ما يعذبه وهو قد عصاه ـ هذا معنى منزلة بين منزلتين معناها : تجري عليه في الدنيا أحكام أهل الإسلام ما يقول مثل الخوارج نقتله وفي الآخرة قال مستحيل كافر مباشرة إلى جهنم ويخلد فيها ولا يدخل الجنة أبدا " . الآن بالعقل بلاش يا آية و بلاش يا حديث , عندما نجري عليه أحكام الدنيا وهذا سيموت طب الميت المسلم كيف تجري عليه أحكام الدنيا يغسل ويكفن ويصلي عليه هذه أحكام الدنيا على المسلم , صلينا عليه وهو مرتكب الكبيرة على مذهب واصل ماذا نقول في الدعاء اللهم اغفر له وارحمه وعافه ونحن عارفين إنه كافر داخل النار ما صار دعاء , فصار هو يدعوا على المسلمين دعاء يعلم أنه باطل وأنه عبث وهذا أكبر دلالة على أن المذهب كله باطل . هذه جابت دليل أن الزمخشري أحد أئمة الاعتزال يقول : " إن الله لن يرى في الآخرة " وله تفسير اسمه تفسير " الكشاف " يباع موجود في المكتبات هذا التفسير آية في البيان الرجل كان فصيحاً لكنه ضيعه بما فيه من مذهب الاعتزال والدعوة إليهم , هذا المذهب قلنا كان في عصر بني أميه ثم انتشر في عهد بني العباس تبناه المأمون ومات ثم كتب لأخيه المعتصم أن يتبنى المذهب فتبناه المعتصم وبسببه أوذي وعذب الإمام أحمد رحمه الله حتى جاء الواثق أو المتوكل أحدهما اختلط علي فألغى مذهب الإعتزال وتبرأ منه وأعاد مذهب أهل السنة بعد أربعة عشر عاماً من انتصار المذهب ثم بعد ذلك ظهر المذهب كرة(7/23)
أخرى في دولة بني بويه دوله شيعية عام 334 هـ وجعلوا القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة جعلوه قاضي القضاة في ذلك العصر , هذا إجمالاً على مذهب الإعتزال .
قال الله سبحانه : (( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً )) ثم قال الله : (( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) أي هؤلاء الرسل يبشرون الناس بالجنة وينذرونهم من النار وهذه الغاية الأساسية لمن ؟ للأنبياء والرسل . لماذا ؟ (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )) إذا موضع الشاهد أن الله لا يعذب من لم تقم الحجة عليه لأن الله جل وعلا قال : (( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) .
هذا مجمل ما أردنا بيانه ونسأل الله أن يبارك فيما قلناه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(7/24)
تأملا ت في سورة
المائدة
للشيخ صالح المغامسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذا بعون الله وتوفيقه لقاؤنا حول تفسير سورة المائدة وبه نختم إن شاء الله تعالى هذه السورة، وقد بينا غير مرة أن من منهجنا في التفسير أننا ننتقي ونختار آيات من السورة التي نعنى بتفسيرها وما كان من الآيات معنيا كثيرا بالفقهيات نحاول أن نبتعد عنه لأن هذا له موطن آخر.
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (111) سورة المائدة، إلى آخر السورة.
فنقول مستعينين بالله تبارك وتعالى:
هذه الآيات تتكلم عن نبي الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في خلقه أنه ما بعث رسولا إلا وفي الغالب يؤيده بأنصار وأصحاب يعضدونه كما قال الله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (62) سورة الأنفال ، كما يجعل فريقا آخر يقاوم ذلك النبي ويعاديه قال الله جل وعلا :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (31) سورة الفرقان.
وفي هذه الآيات يخبر الله جل وعلا أنه قذف وألهم في قلوب الحواريين الذين هم أنصار عيسى ابن مريم قذف الله جل وعلا في قلوبهم محبة عيسى والإيمان بالله جل وعلا من قبل ونصرة ذلك النبي الكريم صلوات الله عليه وعلى نبينا.(8/1)
فقال الله جل وعلا : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} :
و((أوحى)) في القرآن تأتي على ثلاثة أضرب: تأتي بمعنى الإرسال: وهو الذي يختص بالنبيين وكنا قد تكلمنا عن هذا سلفا وقسمناه إلى عدة أقسام فالوحي الذي يكون به الإنسان نبيا هذا يسمى إرسال.
ويأتي على عدة هيئات بيناها في درس سابق قلنا منها: يأتي بأن يكلم الله جل وعلا العبد من وراء حجاب أو يرسل جبرائيل بذاته أو أن يكون شيئا يقذف في قلب ذلك النبي. وهذا النوع هو الذي يميز به النبيون عن غيرهم.
والنوع الثاني: وحي بمعنى الإلهام قال الله جل وعلا {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقال الله تبارك وتعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} فوحي الله جل وعلا إلى النحل ووحي الله تبارك وتعالى إلى أم موسى لا يجعل من النحل ولا من أم موسى أنبياء ولكن المقصود الإلهام الذي وضعه الله جل وعلا في النحل ووضعه الله جل وعلا عند أم موسى. وهذا الثاني هو الذي قصده الله بقوله {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} أي ألهمتهم الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الوحي بمعنى الأمر قال الله جل وعلا : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} هذه {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} أي بأن الله أمرها فأصبح ينجلي عن هذا أن الوحي في القرآن على ثلاثة أضرب:
وحي بمعنى الإرسال. ووحي بمعنى الإلهام.ووحي بمعنى الأمر. وقول الله جل وعلا { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} هو من النوع الثاني أي إذ ألهمت الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي.(8/2)
قال الله جل وعلا : {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ} أي الحواريون {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
اختلف في المخاطب بـ اشهد هل هو الله أو عيسى؟ وقواعد القرآن لا تنافي الاثنين أي أشهدوا الله وأشهدوا عيسى على أنهم مسلمون {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} .
ثم قال الله جل وعلا بعد أن ذكر أن الحواريين كانوا أنصارا لعيسى ابن مريم أي خلصاء وأصحاب وأصفياء ويعضدونه ويؤمنون بالله قال الله جل وعلا: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (112) سورة المائدة.
أولاً المبحث الأول:
هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى المشهورة التي بين أيدينا {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا} والقراءة الثانية {هل تستطيع ربَّك} بالتاء بدلا من الياء وبنصب رب بدلا من رفعها, قلنا القراءة التي نقرؤها اليوم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} على أن يستطيع فعل ورب فاعل، والقراءة الثانية {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } سنبين الأمرين نبدأ بالثانية لأنها مبهمة: إذا قلنا بقراءة الكسائي ومن وافقه من القراء على أن الآية {هل تستطيع ربك} يصبح معنى الآية مع تقدير المحذوف: هل تستطيع خطاب لعيسى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء! وهذه القراءة قلنا قرأ بها الكسائي وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تختارها. يصير يصبح معنى الآية هل تستطيع - الخطاب لعيسى- أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء. وعلى القراءة الأولى وهي قراءتنا في المصحف الذي بين أيدينا يصبح معنى الآية {هل يستطيع ربك} الاستطاعة المعروفة لكن بالطبع ليس المقصود إظهار عجز الله كما سيأتي.(8/3)
{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} عندما يتكلم الإنسان مفسر أو غيره عن أمر لا بد أن يستصحب واقع الحال هؤلاء الذين يتكلمون ويسألون عيسى هم أنصاره وحواريوه وأصفياؤه فلا يعقل أبدا أن الحواريين يشكون في قدرة ؟ في قدرة الله، لو كانوا يشكون في قدرة الله لما أصبحوا أصلا مؤمنين فضلا على أن يكونوا حواريين لعيسى ابن مريم. لكن المقصود أنهم أرادوا أمرا زيادة في اليقين كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما نص القرآن بذلك {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (260) سورة البقرة. فالذي يظهر خروجا من خلافات المفسرين أن سؤال الحواريين هنا من نوع سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} ما المائدة؟
المائدة الطعام الموجود في مكانه المعد للأكل وهو لا يخلو من أن يكون على أحد حالين:
إن كان على خوان، خوان الذي يسمى اليوم طاولة الطعام الذي له قوائم هذا في اللغة يسمى خوان بضم الخاء ويسمى خوان بكسر الخاء، هذا ما يسمى في عصرنا بطاولة الطعام إذا كان عليه طعام يسمى مائدة ولا يسمى مائدة إن لم يكن عليها طعام، تسمى خوان.
وإن كان على ما يسمى اليوم السفرة وهي كلمة فصحى إذا وضع على السفرة يسمى مائدة، ما دام موجود طعام يسمى مائدة، فإن كانت السفرة خالية من الطعام لا تسمى مائدة. وإن كان الخوان - الذي له قوائم الطاولة - ليس عليها طعام لا تسمى مائدة.(8/4)
المقصود أن الحواريين طلبوا ماذا؟ طلبوا طعاما، طلبوا طعاماً إذا عرجنا الحديث النبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه كما عند البخاري من حديث أنس: ( لم يأكل على خوان قط ) أي ما يسميه اليوم الناس طاولة طعام نقل أنس رضي الله عنه وهو خادم نبينا صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأكل على خوان أي على ما يسمى طاولة طعام قط ولا يعني هذا التحريم قطعا لأن الفعل المجرد لا يدل على حكم ولكنه عليه الصلاة والسلام كان نبيا عبدا ولم يكن نبيا ملكا وكان الأكل على الخوان من دأب الملوك، فكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل حتى يكون أقرب إلى العبودية ولذلك قيل لقتادة راوي الحديث، الحديث رواه البخاري عن أنس لكن الذي روى الحديث عن أنس قتادة بن دعامة السدوسي المشهور قتادة قيل له وهو يحدث قال: حدثني أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث فيه ثلاثة أشياء الذي يهمنا منها: (وما أكل على خوان قط)، فقيل لقتادة: " على أي شيء كانوا يأكلون؟ "قال : "على السفرة " . والسفرة في السابق كان لها معاليق فتجمع بعضها على بعض وتعلق فيوضع فيها الطعام أحيانا لأن طعامهم كان غالبا ليس ما يحفظ في الثلاجات اليوم وإنما غالب الطعام تمر أو شيء يحفظ فكان يوضع بعضه في السفرة فتعلق فإذا وضعت بين أيدي الناس مدت فإذا مدت أسفرت عما فيها فلما كان الطعام يسفر عما فيه سميت سفرة. وقيل إن السفرة اسم للطعام لكن الأول أقرب فيما نعلم. هذا الطلب الذي تقدم به الحواريون إلى عيسى.
قال لهم عيسى عليه السلام : {اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} كأنه عليه السلام استعظم الطلب فلما استعظم الطلب أدلى الحواريون بحجتهم في بيان سبب أنهم طلبوا هذه المائدة، {قَالُواْ} أي الحواريون {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ}، ذكروا كم تعليل؟ أربعة،(8/5)
الآن قبل أن نعرج على التعليلات التي ذكرها الحواريون نقول : إن الحوار والأخذ والعطاء أمر محمود لا يوجد أحد منزه عن الخطأ إلا الأنبياء بما عصمهم الله جل وعلا به، كون الإنسان يناقش ويأخذ ويعطي ويقبل أن يعترض عليه ويعترض على غيره ويقدم أدلة هذا أمر محمود فهذا نبي يطلب منه أنصاره مائدة يقول : {اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يردون عليه يخبرون السبب {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا.. } إلى آخر الآية، ففيه أخذ وعطاء ذلك الرجل المعصوم الذي يجلس على كرسي وينبغي ألا يقول إلا الحق لا يوجد ، لا يوجد ولا تبحث عنه، فإن العصمة خصها الله جل وعلا بأنبيائه ورسله وقلنا مرارا المشهور من أقوال العلماء قال مالك رحمه الله : " ما منا إلا وراد ومردود عليه " وقال الشافعي رحمه الله تعالى: " ما أعلم أحدا حفظ السنة كلها "، وقال غيره أشكل من هذا، فلا يوجد أحد تحارب وتعادي وتوالي وتخاصم من أجله، أن مجرد فلان قال ينبغي أن يكون حق لا، لا يوجد هذا الرجل إلا قول نبينا صلى الله عليه وسلم، أما غيره مهما بلغ يعرض قوله على الكتاب والسنة فيقبل ما هو حق ويعتذر له عما أخطى فيه.
فواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم
تعتذر له لكن لست ملزما بقوله، والناس منذ أن كانوا يأخذون ويعطون ويقبلون، ومن دلالة علو كعب العالم أنه يناقش ويأخذ ويعطي لكن المهم أن يكون المراد من المناقشة والأخذ والحوار والوصول إلى الحق ليس قضية المجادلة وإظهار علو الصوت ونبذ الأقران والتعالي على الناس، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (83) سورة القصص.
(قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(8/6)
{قَالُواْ} أي الحواريون {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} نأكل منها إما لحاجتهم من الفقر الذي كانوا عليه وإما وهو الأظهر أنها لكونها منزلة من السماء بإذن من الله وفضل منه تكون مباركة طيبة فيحسن بلا شك الأكل منها .
{نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} :
{تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ينتقلون ينتقلون إلى مرحلة تسمى عين اليقين . لأن الإنسان إذا حدثه أحد من الصادقين بشيء فهذا يقين لكنه إذا رأى الشيء بعينه انتقل من اليقين إلى عين اليقين،ومن أظهر الأدلة موسى عليه السلام فإن الله جل وعلا أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل من بعده فلما أخبره الله جل وعلا اشتاط غضبا ورجع والله تبارك وتعالى أخبر موسى أن قومه اتخذوا العجل من بعده فلما رجع إلى قومه رآهم بعينه يعبدون العجل كان هذا أعظم في عينه أوقع أثرا في نفسه ليس الخبر كالمعاينة فألقى الألواح، لأن الشيء الذي تراه بعينك مهما بلغ ليس كما يقال لك.
نقول هم أرادوا أن يصلوا إلى مرحلة عين اليقين في أنهم يروا المائدة تنزل فيكون إيمانهم أرفع.
وقد قال العلماء من الفوائد:
أن الإنسان يجدد إيمانه يبحث عن وسائل تزيد من إيمانه ما بين الفينة والفينة وما بين الحين والآخر.
أما ماذا يزيد إيمانه؟ فهذا باب واسع.
{وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} والخطاب لعيسى {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} نخبر من بعدنا أن هناك مائدة نزلت فيصبح في فوائد دنيوية وفوائد دينية، فوائد دينية أننا نخبر الناس ونشهد على صدقك وفوائد دنيوية أننا نأكل ونطعم ونسد جوعنا.
{وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} عيسى اقتنع بقولهم قيل: جاء في بعض الآثار أنه أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فصاموا فدعا ربه.(8/7)
قال الله جل وعلا بعدها: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (114) سورة المائدة.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أي النبي {اللَّهُمَّ} نحويا أصلها يا الله، نحويا أصل هذا النداء يا الله كلمة {اللَّهُمَّ} أصلها يا الله وإنما العرب تحذف أحيانا حرف النداء فلما حذفت حرف النداء في يا الله عوضت بدلا منه بالميم. - أعيد – أصل اللهم : يا الله ثم حذفوا حرف النداء الذي هو الياء ثم أضافوا ميما بدلا من الياء المحذوفة فأصبحت اللهم، ولا يقال (يا اللهم) بالميم والياء، فلا يجمع ما بين البدل والمبدل منه، لا يجمع ما بين البدل والمبدل منه إلا عند الضرورة الشعرية كما نقل سيبويه وغيره رحمهم الله عن الراجز أنه قال:
إني إذا ما خطب ألما * أقول يا اللهم يا اللهم
هذا شاهد نحوي المقصود به الجمع بين البدل والمبدل منه، لكن لا يقاس عليه لكن الأصل كما قلنا أن الياء حذفت وأبدلت عنها الميم.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا} وأصلها يا ربنا وحذف حرف النداء فأصبحت رب منادى ولأنه مضاف نصب مباشرة فلذلك جاءت الفتحة على الباء. {رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء} الآن الذي يدعو عيسى ثم نعت تلك المائدة ذكر بعض أوصافها وتعليلات لذلك الطلب {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه مصلحتين:
المصلحة الدنيوية : {وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} و {تَكُونُ لَنَا عِيداً} .(8/8)
المصلحة الدينية : أنه قال {وَآيَةً مِّنكَ} أي علامة وأمارة على أنك قبلت دعاءنا فيكون ذلك سبب في أن يدخل الناس في الدين بعد ذلك أفواجا.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا}.
العيد الشيء الذي يعود ويتكرر لكن لا ينبغي أن يكون ثمة عيد إلا بإذن شرعي، أما أن يتخذ الإنسان من أي مناسبة دينية أو غير دينية عيدا فهذا أمر إذا ربطها بالدين لا يجوز شرعا أما إذا جعلها من باب العادات هذا باب واسع لا يحسن تفصيله الآن، لكن نقول الأشياء الشرعية لا تثبت إلا بشيء شرعي فمثلا : الله جل وعلا على مر العصور يجعل من بعض عبادات أنبيائه ورسله سننا يجتمع الناس عليه فمثلا كلنا الآن في الطواف والسعي نمر على الصفا والمروة لنحيي سنة هاجر لكن هذا الإحياء لم يكن من أنفسنا إنما كان بإذن من مَن؟ كان بإذن من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نطوف بالبيت كما طاف به إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبل ونرمي الجمار كما رماها إبراهيم من قبل فنحيي ملة إبراهيم لكن هذا أمر لم نجتهد به نحن من أنفسنا وإنما شرعه الله تبارك وتعالى لنا والدين لا يكون باجتهاد شخصي أبدا قال الله جل وعلا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (21) سورة الشورى .
{ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
قال الله بعدها: {قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} (115) سورة المائدة.
أولا ً: اختلف العلماء هل أنزل الله جل وعلا المائدة أو لم ينزلها؟(8/9)
الله جل وعلا قال {إِنِّي مُنَزِّلُهَا} وليس في القرآن أن الله أنزلها فجمهور العلماء من المفسرين على أنها أُنزلت، وقالوا: " إن هذا وعد من الله لنبيه والله لا يخلف الميعاد "، وهو الذي نختاره.
ذهب مجاهد رحمه الله تعالى المفسر المعروف تلميذ ابن عباس رضي الله عنه إلى أن الله لم ينزلها لأنه مجرد مثل ضربه الله في كتابه، وهذا أبعد الأقوال عن الصواب في ظننا.
القول الثالث قاله الحسن البصري رحمه الله تعالى وتبعه عليه بعض المفسرين وهو: أن الله لما قال لهم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} خافوا وطلبوا الإعفاء من نزولها واستغفروا الله ولم تنزل المائدة. هذا قول الحسن البصري رحمه الله . الذين قالوا بهذا الرأي من أدلتهم أن هذه المائدة لم تذكر في الإنجيل الذي بين أيدينا والنصارى لا يعرفون قصتها إلا من القرآن،من أدلة من قال أنها لم تنزل أنهم قالوا إنها غير مذكورة في الإنجيل الموجود وأن النصارى لم يفهموها إلا من المؤمنين . رد جمهور العلماء على هذا القول بأن كونها لم تذكر في الإنجيل هذا من الشيء الذي نسوه الذي قال الله جل وعلا عنهم {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} فهذا من الشيء الذي أنساهم الله جل وعلا إياه. الذي نختاره والله أعلم من هذه الأقوال أن الله جل وعلا أنزلها وهو كما قلنا مذهب جماهير العلماء.(8/10)
{قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} هنا نتوقف، الآية يا أُخي إذا كان ظاهرة وأقيمت الحجة ينقطع العذر فإذا انقطع العذر أصبح الله لا يقبل عنده إما إيمان وإما كفر أو ينزل عذاب، وقف عند هذه وارجع للسيرة، دعك الآن من كتب التفسير، ارجع لسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد من طريقين بإسناد كلاهما جيد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا – الصفا الجبل المعروف - طلبت منه قريش أن يجعل لهم الصفا ذهبا قالوا : " إن جعلت الصفا ذهبا آمنا بك! " فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أن يجعل الله الصفا ذهبا حتى يؤمنوا فبعث الله إليه جبرائيل عليه السلام أو ملكا غيره أخبره أنه لو جعل الله الصفا ذهبا ولم يؤمنوا فإن الله سيهلكهم عن بكرة أبيهم، طبعا إذا هلكوا عن بكرة أبيهم لن يكون منهم ماذا؟ مؤمنين لأنهم انتهوا لكن إذا بقوا ولم يهلكهم الله فيه أمل أنهم هم يؤمنوا أو فيه أمل أن يأتي من ظهورهم من؟ من يؤمن، إما أنهم هم يؤمنون كما حدث أو أن يأتي من ظهورهم مؤمنين فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوا على حالهم حتى يؤمن منهم من يؤمن أو أن يخرج الله من ظهورهم من يؤمن بالله ومن يعبد الله لا يشرك به شيئا. ولذلك قال الله في سورة الإسراء {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (59) سورة الإسراء. والله إذا أراد أن يرحم أمة أمات نبيها قبل إهلاكها. فيكون النبي فرطا سابق لأمته وإذا أراد الله أن يهلك أمة أبقى نبيها حيا وأهلكها ونبيها ينظر ليكون أقر لعينه وأهلك لمن عصاه كما هو دأب(8/11)
الله في سنن الأنبياء الذين قبلنا فقوم صالح قوم نوح قوم لوط كلهم أهلكوا وأنبياءهم ينظرون إليهم قال الله جل وعلا عن صالح {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل : 53] بعد أن أخبر أنه أهلك قومه وكذلك قال الله عن شعيب وكذلك الله قال عن عاد وغيرهم من الأمم وهذا أظنه ظاهر. {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}.
وقد قلنا في درس سابق أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن أعظم الناس عذاباً ثلاثة:
أتباع آل فرعون قال الله جل وعلا :{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (46) سورة غافر، والذين كفروا بالمائدة بعد نزولها من قوم عيسى قال الله جل وعلا :{فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} والثالث المنافقون الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (145) سورة النساء ، ويظهر لي أن هؤلاء المنافقين هم أشد خلق الله جل وعلا عذابا. بهذا انتهت مسألة المائدة.
ثم قال الله جل وعلا بعدها:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(116) سورة المائدة. إلى آخر السورة.(8/12)
هذا الموقف موقف في الآخرة أما موقف المائدة كان أين؟ كان في الدنيا، أما هذا موقف في الآخرة وإن قال بعض العلماء أنه موقف دنيوي لكنه بعيد كونه جاء بصيغة الماضي لا ينفي أنه سيكون يوم القيامة. {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} نحن نعلم أن الله يعلم أن عيسى ابن مريم لم يقل هذا للناس والله ما أراد بهذا السؤال توبيخ عيسى وإنما أراد الله تقريع النصارى وتوبيخهم في يوم العرض الأكبر على ما اتهموا به نبيهم كذبا أنه دعاهم إلى عبادة نفسه وإلى عبادة أمه وقالوا بالأقانيم الثلاثة وزعموا أن المسيح ابن الله فأراد الله جل وعلا أن يبطل كيدهم ويظهر كذبهم على ملأ من الأشهاد بنطق عيسى نفسه فيقول الله جل وعلا يوم يحشر العباد، يوم الحشر يوم عظيم وقد مر بكم في حديث الشفاعة أن الأنبياء يقولون جميعا: (إن الله غضب غضبا لم يغضب قلبه ولا بعده مثله) فيتدافعون الشفاعة أولو العزم من الرسل حتى تصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فالموقف موقف جليل وخطب عظيم ودعاء النبيين يومئذ (اللهم سلم سلم).
في هذا الموقف في هذا الشأن يسأل الله جل وعلا عيسى {أأنت} كم همزة؟ همزتان، الهمزة الأولى للاستفهام والهمزة الثانية من أصل الكلمة، {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ} بدهيا كان المفروض عيسى يقول لا أو يقول لم أقله، لكن عيسى في هذه الآيات كما سيأتي ضرب أروع الأمثلة في الأدب مع الرب جل وعلا بدأ جوابه بقوله {سُبْحَانَكَ}.
وقد قال بعض العلماء إن عيسى عليه السلام قدم الجواب بكلمة سبحانك لسببين:
قدم الجواب بكلمة (سُبْحَانَكَ) لسببين :
الأول منهما: تنزيه الله عما أضيف إليه .
والأمر الثاني: الخضوع لعزة الله والخوف من سطوته.(8/13)
من أجل ذلك قال هذا النبي الكريم {سُبْحَانَكَ} ثم قال بدأ يدخل في الجواب قال : {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في أشياء يا أخي تملكها وفي أشياء أنت لا تملكها من أعظم ما لا نملكه أننا عبيد، وبما أننا عبيد لا نملك أن نتكلم كما يتكلم الرب سبحانه وتعالى ولا نطالب بحق الألوهية لأننا لسنا آلهة فلا إله إلا الله وكل أحد سوى الله مربوب وعبد والله جل وعلا وحده هو الإله وهو الرب لا رب غيره ولا إله سواه. فهذا الحق أنه يعبد أحد من دون الله لا يستحقه إلا الله فلا يمكن أن يأتي أحد لا يملك هذا الحق فيطلبه لنفسه، فعيسى يقول أنا مربوب وعبد ولا أملك أن أطلب من الناس أن يعبدوني من دونك لأنه هذا ليس في حق فيه فمقام الألوهية غير مقام العبودية .
{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ثم لم يقل أنا لم أقله، قال تأدبا مع ربه: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}، وهذا الجواب لا يكون إلا مع من؟ إلا مع الله، لا تستطيع أن تجيب أحدا من الناس بهذا الجواب، مستحيل هذا الجواب لا يمكن أن يكون إلا مع الله . مع الناس تقول لم أقله أو تقول قلته، ذهبت إلى مكان كذا أو لم تذهب؟ تقول لمن سألك ذهبت أو لم أذهب، لكن ما يعقل أن تقول له إن كنت ذهبت فأنت تعلم أني ذهبت! من أين يعلم أنك ذهبت؟ هذا جواب لا يقال إلا لمن؟ إلا لله.(8/14)
{إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وهذه واضحة لا تحتاج إلى بيان {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} فما من غيب إلا والله جل وعلا يعلمه كما قال لقمان لابنه :{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (16) سورة لقمان.
{إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(8/15)
ثم أخذ يبرئ ساحته أمام النصارى قال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ}هذه ما نافية{إِلاَّ}هذا استثناء{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}فأنا عبد أنفذ أوامرك وأؤدي ما أوكلته إلي ولا أستطيع أن أخرج عن أمرك مثقال ذرة{مَا قُلْتُ لَهُمْ إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}هذه {أَنِ} حرف تفسير لا محل له من الإعراب فأصبحت جملة{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} مفسرة لقوله :{إلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} يعني ما الذي أمرتني به؟{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . وقد مر علينا هذا في سورة البقرة ومنه قول الله جل وعلا : {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ}أي أمر؟{أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ}(66) سورة الحجر، فهذه{أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ}مفسرة لقول الله جل وعلا : {ذَلِكَ الأَمْرَ} . كذلك هذه قول الله تبارك وتعالى{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}مفسرة لقول الله تبارك وتعالى{إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . فعيسى عليه السلام قبل أن يقرر أن الله رب لهم قرر أن الله رب له هو {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وهذا هو التوحيد الذي بعث الله جل وعلا به الرسل من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والذي لا يقبل الله من أحد صرفا ولا عدلا إلا بتحقيقه.(8/16)
{أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}{وَكُنتُ} يتكلم عن نفسه { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} قوله {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أنه عبد متى ما وضع أو رفع لا يعلم شيئا ولا يوجد عاقل يدعي أنه يفهم كل شيء أو يعلم كل شيء، النبي عليه الصلاة والسلام كما قلنا هذا مرارا كان يعيش في المدينة حوله فيه المدينة فيه مهاجرين فيه أنصار فيه يهود فيه منافقين فالله يقول لنبيه:{ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}(101) سورة التوبة .
قال العلماء إذا جاز على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: أن يكون له جيران يسكنون مدينته ولا يعلم أنهم يكيدون له وأنهم منافقون فمن باب أولى أن يخفى ذلك على من دونه وكل الناس دونه صلوات الله وسلامه عليه.
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}وأنا بينهم أعيش أقول لهم اعبدوا الله هذا يوافق وهذا لم يوافق أنا شهيدهم هذا وافق وهذا لم يوافق هذا قبل وهذا لم يقبل هذا رضي بك ربا وهذا لم يرض.
{مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
هذه ((تَوَفَّيْتَنِي)) فيها نوع من الإشكال:(8/17)
لأن عيسى عليه السلام قطعا ليس بميت وإنما رفع إلى السماء قال الله جل وعلا {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} وهذا نص فدائما عندما تريد أن تفسر أو حتى في أي شيء في حياتك امسك أصلك إذا جاء شيء يعارض الأصل رد العارض وخليك على من؟ على الأصل إلا بعارض يفوق؟ يفوق الأصل،وأنت ماشي في حياتك في أمر دين أو أمر دنيا امسك الأصل لا تترك الأصل لأي عارض أو لأي شبهة وإنما تثبت في الأصل رد العارض وابق على الأصل حتى لو لم تفهم العارض مو لازم، لكن خليك متمسك بالأصل فالله جل وعلا تكلم عن عيسى في سورة النساء وقال إن اليهود زعمت أنها قتلته، وقال جل وعلا :{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ثم قال :{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا*بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ} (157-158) سورة النساء ، هذا الله يقول في كتابه أنه رفع عيسى فلما تأتي آية أنه توفى والله يقول رفع ما يجتمع وفاة مع رفع، نبقي على الأصل الذي هو الرفع ونقول إن الوفاة هنا بمعنى الرفع ، يعني {تَوَفَّيْتَنِي} يعني استوفيت بقائي معهم ثم رفعتني، حتى نبقي على ماذا؟ نبقي على الأصل، وهذا من أخذ بهذه القاعدة يسلم في أمر دينه وأمر دنياه لأنه ليس كل شبهة تستطيع أنت أن تردها لكن حتى لو وجدت شبهة لا تستطيع أن تردها ابق على الأصل حتى يمن الله عليك بعالم تسأله عن هذه الشبهة، فيردها أما كل أصل تمسكه كل شبهة تأتيك تأخذ بها الشبه لا تنتهي ستصل إلى ما لا نهاية تتخبط بك الطرق كما هو حاصل بعض ممن ينتسب إلى العلم، كيف يتخبط ميمنة وميسرة لأنه لا يوجد أصل أصلا يقبض عليه ويمسك به، لكن يمسك الإنسان على الأصل ثم يمضي. فالأصل مثلا في المؤمن من قال لا إله إلا الله أنه مؤمن فإخراجه من الملة يحتاج إلى أصل أعظم من هذا ولا يوجد حتى هو يفرح بالكفر إذا قال(8/18)
أنا كافر راضي أنا كافر هذا يهدم الأصل لكن إذا فعل أفعال يعتقد أنها كفر في خلاف أنها كفر لم يرض بها ليس لك ولا لغيرك أن يكفره بمثل هذه الشبهات، ستصل إلى ما لا نهاية، وهذا الذي وقع فيه من وقع ظهر في أيام الصحابة لما كُفِّر علي وكُفّر عثمان وكُفِّر غيرهما من أضل ضل بهذا الطريق، فلا يمسك أصل كلما جاءته شبهة يطبقها على الناس إلى ما لا نهاية الذين خاصموا علياً مروا على شجرة شجرة ليهودي فيها بلح جاءوا جوعا جاء بيخرجوا البلح قالوا هذه شجرة يهودي ما يجوز هذا ذمي مستأمن واليهودي عالم بس عناد ما يسلم، سكت عنهم وينظر فيهم بعد قليل جاء عبد الله بن خباب بن الأرت مسلم حاط المصحف في جيبه قالوا : " ماذا تقول في عثمان وعلي؟ " قال : " صحابة أخطئوا في أشياء وأصابوا في أشياء وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مردهم إلى الله "، قالوا : " إن هذا الذي في صدرك يعني القرآن يأمرنا بقتلك! لأنك ما قلت الحق! وعلي حكم الرجال في دين الله والله يقول {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} أصبح علي كافر وأنت ما ترى أن علي كافر يعني أنت ايش ؟ أنت كافر لأن من لم ير كفر الكافر فهو كافر "، كأنه يبني طوب!! وأخرجوه من ناقته ومعه زوجته وابنه ثم جاءوا إلى نهر دجلة هذا الذي في العراق وذبحوه على النهر وسال دمه على النهر!!! واليهودي ينظر! قال : " والله ما رأيت أجهل منكم؟! " ألحين أنتم – بالعامية خلنا نقول- ممتنعين عن التمر تقولوا حرام وذمة وهي كلها حبتين بلح تقولوا حرام وما يجوز وتأتون لرجل من أتباع دينكم يقول لا إله إلا الله وتذبحونه كما يذبح الشاة تقولون هذا يجوز؟! هذا يهودي فهمها. فالعاقل في كل شؤون حياته يمسك أصل ويتمسك به وليس سهلا أن تهدم الأصل لأن هذا الباب لو دخلت فيه ما تنتهي .(8/19)
أنا أتكلم في مسجدي هذا تأخرت يوم عن الصلاة صلى شخص بدلا مني فدخل رجل طيب يعني كان في واحد ساجد اللي ساجد هذا ساجد مو على أطراف الأصابع على الأمشاط معروف أن السنة على الأمشاط يعني عامي من العوام إلى الآن هذا العامي ما يدري عن القصة وهذا الرجل يعني ليس من الحي عارض، فقال أخذني بيدي وقال شوف شوف كيف يصلي! ما طبق السجود والسجود على الأعضاء السبعة وهذا ما سجد على الأعضاء السبعة! شوف هذه الفتوى المركبة: إذن السجود غير صحيح! والسجود ركن من أركان الصلاة إذن صلاته غير – والله في المسجد- أن صلاته غير صحيحة، إذن ما كأنه صلى، إذن الرسول يقول (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) صار كافر وقعد يقول سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى اللهم اغفر لي! كله من ترك ماذا؟ من ترك الأصل فعقلك لا تعطيه لغيرك احفظ لسانك عن أعراض المسلمين عالم حاكم أمير وزير صغير كبير، في النقاش العلمي ناقش على كيفك، قل ما تشاء العلم حق مشاع ما في أحد بيده العلم كله، لكن بالذات الإخراج من الملة والإدخال في الملة هذا ليس لأحد الله يقول: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} احنا أطلنا بس نرجو الله الفائدة .
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي...} قلنا إن الوفاة هنا بمعنى الرفع حتى يصير الأمر تقعيدي، الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أضرب.
لفظ الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أضرب:(8/20)
الوفاة بمعنى الموت وانقضاء الأجل، ومنه قول الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (42) سورة الزمر، أي حين انقضاء أجلها. ومنه قول الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (42) سورة الزمر.
والوفاة بمعنى النوم قال الله جل وعلا : {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (60) سورة الأنعام. الوفاة بمعنى النوم قال الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (60) سورة الأنعام.
والوفاة بمعنى الرفع وهي الآية التي بين أيدينا {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي رفعتني {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ولا ريب أن الله على كل شيء شهيد.
ثم قال الله جل وعلا على لسان عيسى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة.
وهذه من أعظم آيات القرآن في المعاني، ومعناها كثير لكن نحوم حولها وفق التالي:
أولا معناها:(8/21)
الله جل وعلا أرحم بعباده من أنفسهم، أرحم بخلقه من أنفسهم فلما يحق العذاب على أحد فمعنى قطعا أنهم مستحق تماما للعذاب لو لم يكن عبدا متمردا مستحقا للعذاب لما عذبه الله لأن الله أرحم بنا من أنفسنا وأرحم بالعبد من الوالدة بولدها، أرحم بالعبد من الوالدة بولدها فقوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يعني لو ما كانوا يستحقون أنت ما عذبتهم والأصل أنهم عبادك، مملوكون لك تفعل وتحكم فيهم ما تشاء {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل عيسى هنا وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، وهذا مرده إلى أننا كما بينا قبل قليل أن الموقف موقف عظمة وخطب جليل ولا يريد عيسى أن يظهر بمظهر من يملي على ربه ما يفعل ولذلك قال بما يناسب واقع الحال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بمعنى أنك لو غفرت غفرت وأنت قادر على أن تعذب لكن لحكمة لم تعذبهم و إلا فليس عفو الله عمن يعفو عنه لضعف أو عجز كما يفعل بعض أهل الدنيا، تجيء مثلا لمدير ضعيف شخصية ويتأخر المدرس هو خوفا منه المدرس هذا له قرابات له شفاعات يقول سامحناك المرة هذه لن نكتب فيك، فهذا عفو لكنه ناجم عن ضعف، لكن عفو الله جل وعلا عمن يعفو عنه ناتج عن عزة وقدرة و إلا فإن الله قادر على أن يعذبهم ولذلك قال عيسى {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، هذه الآية ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة لا يردد إلا هذه الآية، وثبت عند مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله جل وعلا على لسان إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ(8/22)
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (36) سورة إبراهيم، وقول الله في هذه الآية على لسان عيسى{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ثم بكى صلى الله عليه وسلم فلما بكى جاءه جبرائيل بعد أن بعثه الله سل محمدا علام يبكي؟ والله أعلم بسببه فجاءه جبرائيل سأله فقال: (إني أخشى على أمتي) فبعث الله جل وعلا جبرائيل ليقول له: (إن الله لن يسوءك في أمتك) ولهذا قال العلماء : " إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة " ، أخذوها من هذا الحديث.
أن الله جل وعلا وعد نبيه أنه لن يسوءه في أمته والله جل وعلا لا يخلف الميعاد والنبي صلى الله عليه وسلم يسوءه ألا ترحم أمته والله وعده ألا يسوءه فهذا على وجه الإجمال أن هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة مرحومة.
ينتهي الموقف بقول الله تبارك وتعالى: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} صدقوا في النيات صدقوا في الأقوال صدقوا في الأعمال فكان صدقهم هذا ينفعهم بين يدي ربهم ولذلك الجزاء من جنس العمل و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (60) سورة الرحمن، فلما صدقوا مع الله قال الله جل وعلا : {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (55) سورة القمر، الجزاء من جنس العمل، قال الله جل وعلا : {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (119) سورة المائدة، هذه أتم نعمة ولا توجد نعمة بعد رؤية وجه الله أعظم من رضوان الله وهي آخر ما يعطاه أهل الجنة. بلغنا الله وإياكم رضوانه.(8/23)
ثم ختم الله جل وعلا السورة كلها بقوله: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (120) سورة المائدة. وقلنا مرارا إن تقديم الخبر نوع من أنواع الحصر والمعنى أن الله جل وعلا المالك وحده لما في السماوات وما في الأرض وما بينهن وما فيهن وهو تبارك وتعالى على كل شيء قادر يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.
هذا ما تيسر إيراده من سورة المائدة فلله الحمد على توفيقه وإحسانه نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما قلنا. هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.(8/24)
تأملا ت في سورة
الأنعام
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الأول ))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن من المقدمات المهمة في تفسير سورة الأنعام أن هذه السورة سورة مكية وأن أكثر أهل العلم يقول : " إنها نزلت جملة واحدة " كما روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنه نزل معها سبعون ألف ملك يشيعها .
وقلنا إن هذه السورة أصل في حجة إثبات الحجة على المشركين وأنها اعتمدت على أسلوبين هما:
أسلوب التقرير وأسلوب التلقين، وبينا هذا في موطنه واليوم بإذن الله تعالى نتخذ وقفات مع آيات من هذه السورة المباركة سائلين الله فيها التوفيق والسداد:
قال الله عز وجل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (50) سورة الأنعام.(9/1)
قلنا مرارا إن التفسير الحقيقي: ليس بيانا للمفردات والمعاني فهذا أمر متيسر لكن التفسير الحقيقي أن تفهم المراد من كتاب الله في سياقه العام وأن تفقه الآية من السورة والسورة من القرآن، زمانا ومكانا ومناسبة حتى تتضح لك ما المقصود من كلام الرب تبارك وتعالى، النبي عليه الصلاة والسلام لما بعث عانده الكفار من قريش فتارة يطالبونه بحجج منها أنه يقسم الأرزاق بينهم وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وتارة يسألونه عن أمور غيبية لا يعلمها إلا الله وتارة يعيبون عليه أنه يمشي في الأسواق ويأكل الطعام والشراب وأن هذا ليس من شأن الرسل، وتارة وهو الشق الثاني من الحجج تارة يقولون له إنك بدينك هذا إنما تريد أن تدعي الألوهية! هذان الضربان هما اللذان يجمعان نقمة كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.(9/2)
هذه الآية التي أنزلها الله من باب أسلوب التلقين رد على مزاعم أولئك الكفار، (قُل) أي يا محمد (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ) أي يا كفار قريش (عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) النبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه أن يبين للناس أنما غاية المراد من دعوته أنه بشر يبلغ رسالة ربه ولا يملك قدرة على التغيير جبرية ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) [الغاشية : 22] ويخبرهم أن خزائن الله لا يملكها ولا يدعي أصلا أنه يملكها لماذا؟ لأن ملك خزائن الله أمر من خصائص الرب وحده جل وعلا وهذا مقام الألوهية والنبي صلى الله عليه وسلم ليس له من مقام الألوهية شيء، فلا يمكن له أن يقسم الأرزاق ولا الرحمة ولا الخيرات ولا العطاءات بين الناس لأن هذا من خصائص الرب والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع يوما أنه إله، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) كما يخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بأمر ربه كفار قريش أنه لا يعلم الغيب . والغيب قلنا مرارا ضده الشهادة فيخبر صلوات الله وسلامه عليه أن ربه يأمره أن يبلغ الناس أنه لا يعلم الغيب فإذا بان ضعف الرسول في علم الغيب بالضد يظهر ماذا؟ كمال الله في العلم، وهذا الأمر هو المقصود من السورة كلها، أن يظهر الله للناس ضعفهم وعجزهم حتى يظهر لهم من باب أولى كمال خالقهم وعظمته جل وعلا وأنه منزه من كل عيب ونقص. ولذلك قال الله لما ذكر خلق السماوات والأرض قال (وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) [قـ : 38] أي لم يمسه جل وعلا إعياء لأن ذاته غير ذات المخلوقين فصفاته بالأمر اللازم غير صفات المخلوقين، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) وهذا الأمر الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم وقع حالا ومعنى , عليه وعلى الملائكة وعلى الأنبياء والرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(9/3)
الملائكة بين يدي ربها: لما علم الله آدم الأسماء قال جل ذكره :{أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (31-32) سورة البقرة.
وخليل الله إبراهيم: وهو أبو الأنبياء وثاني الرسل من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يأتيه الملائكة في صورة ضيوف فيذهب عَجِلا إلى بيته فيأخذ العجل ويذبحه ويشويه ويقدمه كل هذا وهو لا يعلم أن الضيوف ملائكة لا يأكلون الطعام، فلو كان يعلم لما فعل هذا كله وتعنى لهم، لكن حتى يبين الله لك وأنت تقرأ كتابه ضعف المخلوقين أيا كانوا وعظمة الرب جل جلاله وحده.
ونبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام: كان ابنه يوسف في أرض مصر عزيزا على كرسي الوزارة يأمر وينهى ويأتيه الناس من كل مكان ويعقوب في أرض كنعان في بادية الشام والعراق قد ابيضت عيناه من الحزن على فقد ولده! وهو نبي يوحى إليه ومع ذلك كان عليه السلام يجهل أن ابنه في مقام عزيز ومكان رفيع ولو كان يعلم لما دمعت عيناه ولا اغتبط فرحا ولكنه شيء من الغيب الذي أخفاه الله جل وعلا عن هذا النبي الكريم.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم: كان في المدينة وحوله من يكيد له الكيد ويحيق به الدوائر ربه يقول له { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (101) سورة التوبة .
وسليمان: يعطى الملك والريح ومعه الجن والشياطين تأتمر بأمره وتذعن لخبره وتنفذ ما يطلب وتفعل ما يأمرها به ومع ذلك رغم هؤلاء الجند كلهم من يبصرهم ومن لا يبصربهم الناس يخفى عليه أن بلقيس كانت تعبد الشمس ثم يأتي طائر عجمي لا ينطق ليقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (22) سورة النمل .(9/4)
هذا ما جرى على أنبياء الله ورسله وأخذنا منهم بعض الأمثلة. وما يقال عنا من باب أولى وأكثر وهذا يدل على أن علم الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده وسيأتي الحديث عن مفاتيحه بعد قليل.
(وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) تستنكرون علي أن أمشي في الأسواق! وأن آكل الطعام والشراب وهذا لا يكون إلا للملائكة وأنا أي محمد لم أقل يوما من الدهر إني ملك، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) إذن من أنت؟ (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) فهو صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء يأمره بكذا بالنذارة والبشارة فيفعل ما أمره الله جل وعلا به قال الله تعالى عنه : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) ثم بعد بيان هذا كله أنني أنا رسول وأدعو إلى رب بيده خزائن كل شيء ويعلم الغيب والشهادة يستحق العبادة فالأمر واضح جلي بين، قال بعدها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ) [الأنعام : 50] وهذا استفهام إنكاري لأن (هَلْ) أداة استفهام بمعنى لا يستوي الأعمى والبصير، والمقصود بالأعمى والبصير هنا الضال والمهتدي العالم والجاهل الموحد والمشرك كلها يمكن أن تدخل في تفسير قول الله جل وعلا : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) وقول الله جل وعلا : (أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) دلالة على أن العقول مخاطبة بشرع الله تبارك وتعالى.
لكن خذ قاعدة:
عندما تجادل إنسانا في قضايا العقل هل له دخل في الشريعة أو ليس له دخل؟ هذه مسألة تتكرر كثيرا بين طلبة العلم لكن فصل الخطاب فيها :
أن تعلم أن العقل مكتشف للدليل وليس منشئ له، فالدليل يضعه الله في كتابه أو على لسان رسوله وإنما أصحاب العقول يكتشفون تلك الأدلة ويتوصلون إليها بعد أن وضعها الله لهم في كتابه أو على لسان رسوله أو كانت آية من الآيات العامة المنثورة في الخلق.
هذه الآية الأولى التي نريد أن نقف عندها.(9/5)
الآية الثانية : آيات مسترسلات ست آيات بعضها بعد بعض، قال الله تعالى:
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ*وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ*وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ*قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ*قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (59-65) سورة الأنعام.
نبدأ بالأولى:
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) هذا أسلوب حصر مر معنا كثيرا وقلنا إن من أساليب الحصر في اللغة تقديم ما حقه التأخير وأصل الآية (مفاتح الغيب عنده)، فقدم الله الخبر على المبتدأ ليصبح المقام مقام حصر، فيصبح المعنى وعنده مفاتح الغيب أي ليست لأحد غيره مفاتح الغيب .
لكن لو قال: ( ومفاتح الغيب عنده ) يحتمل المعنى :(9/6)
مفاتح الغيب عنده وعند غيره لكنه قال (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) جعل الأمر محصورا لأنه قدم الخبر على المبتدأ وقلنا تقديم ما حقه التأخير أسلوب من أساليب الحصر في بلاغة العرب .
(وَعِندَهُ) أي عند الله ((مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)) مفاتح جمع مفتاح وهي عند النحويين اسم ممنوع من الصرف لأنه على وزن مفاعل.
لكن الذي يعنينا هنا أن مفاتح الغيب - والقرآن يفسر بعضه بعضا- خمسة:
وقد مرت معنا في خطب ودروس عدة لذلك سنعيدها إجمالا لا على وجه التفصيل، يقول الله جل وعلا : (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) النفي مع الاستثناء كذلك أسلوب من أساليب الحصر (لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) ثم لم يذكر الله في هذه الآية ما هي مفاتح الغيب لكن السنة فسرت القرآن قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله) ثم تلا : {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان. خاتمة سورة لقمان.
نقول إن مفاتح الغيب أمر لا يعلمه إلا الله لا يعطى لأحد . أما الغيب الباقي يمكن أن يُطلع الله جل وعلا عليه بعض عباده قال الله جل وعلا :{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ..} [(27) سورة الجن] ، فقد يُطلع الله بعض عباده على بعض غيبه لكن مفاتح الغيب أمر اختص الله جل وعلا به وحده لا يطلع عليه أحدا كائنا من كان إلا وقت المراد من الغيب نفسه.
فقلنا بناء على آية لقمان أصبح أعظم الغيبيات :(9/7)
علم الساعة : وهي أعظم الغيبيات بدلالة القرآن والسنة فجبرائيل سيد الملائكة يسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ( أخبرني عن الساعة؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي علمي وعلمك فيها سواء والله يقول: (لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ) بل إن إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور لتقوم الساعة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه قد أحنى جبهته وأصغى أذنه والتقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ) فإذا الذي سينفخ إسرافيل لا يعلم متى ينفخ من باب أولى ألا يعلم الناس، فالساعة يا أخي أعظم الغيبيات.
(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)
إنزال المطر: تحديد وقته لا يعلمه إلا الله أما ما تراه من إرهاصات هذه مقدمات تصيب وتخطئ عوارض غالب الظن أنه يقع غالب الظن أنه لا يقع لكن لا يجزم بهذا أحد وقد نقل القرطبي رحمه الله عن بعض علماء المسلمين أن من جزم بنزول الغيب قال غدا مطر يكفر لأنه خالف صريح القرآن .
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) قلنا مرارا إن (مَا) هنا موصولة تدل على العموم أي يعلم ما في الأرحام إن كان ما في الرحم سقطا سينزل أو سيتم خلقه يعلم الله جل وعلا إن كان شقيا أو سعيدا يعلم الرب تبارك وتعالى إن كان سيعمر أو لا يعمر أمور شتى تتعلق به إن كان ذكرا أو أنثى إن كان كاملا أو خديجا، غير ذلك مما يتعلق به لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) ونقول إنه فرق ما بين جدول العمل وبين ما تحصل عليه من العمل فإن المعلم يعلم جدول حصصه قبل العام وكذلك كثير من الناس ممن لهم أمور مرتبة وجداول وأعمال، لكن هل يحصل هذا العمل؟ هو الذي يسمى في اللغة كسبا وهذا لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى فقد يحول الله بين المرء وبين ما يريد قبل أن يقع الأمر بلحظات.(9/8)
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ) وفي المسند : ( أن من أراد الله أن يقبض روحه في أرض جعل له حاجة إليها ). ومن جهل المكان من باب أولى أن يجهل الزمان والمقصود من هذا كله إجمالا لأنه قد مر معنا كثيرا أن مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الرب تبارك وتعالى.
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) . هذه يا أخي من أعظم آيات الربوبية في القرآن .
يخبر الله جل وعلا فيها عن سعة علمه وعظيم إحاطته بخلقه وأن ما تراه العيون وما لا تراه مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وورق الأشجار على كثرته واتساعه وعظيم عدده لا يعلمه إلا الرب تبارك وتعالى وهي على اتساعها أينما كانت وأينما غابت عن عيوننا الغيب والمجهول غياهب البحار ومفاوز البر كل ذلك ما يقع فيه وما يكون في ليل أو في نهار في أي زمان أو في أي مكان الله جل وعلا مطلع عليه قد علمه وكتبه وأراده وشاءه قال الله تعالى : (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ) ثم تسقط ثم تتناقلها الرياح ميمنة وميسرة شمالا وجنوبا ثم تذوب ثم تهوي كل ذلك يعلمه الله جل وعلا لا يخفى عليه من خلقه خافية أينما كانت {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (16) سورة لقمان.(9/9)
والإنسان ستره الظلام أو كان في الضوء فالله جل وعلا مطلع عليه علم الناس ما فعل أو لم يفعل الله جل وعلا مطلع عليه أسر في نفسه أم أعلن الله جل وعلا يعلم ذلك كله فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية ولا تخفى عليه من خلقه خافية.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ولا حبة) أي ولا حبة تسقط (فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) وقوله جل وعلا : (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) أسلوب قرآني يسمى عطف عام على خاص لأن كل ما سلف لا يخلو من كونه إما رطب وإما يابس إما حي وإما ميت وهذا معنى رطب أو يابس. (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ولا حبة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) كل ذلك (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ فإن الله أول ما خلق القلم قال : اكتب , فقال ما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة .
فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، جفت الأقلام وطويت الصحف وأنت تسعى وراء رزق سيأتي إليك أو تطلب شيئا لن يأتيك أبدا، فالعاقل من أحسن صلته مع ربه جل وعلا ز
وأهل العلم والفضل يقولون: " من خسر مع الله جل وعلا ماذا ربح؟ ومن ربح مع الله تبارك وتعالى ماذا خسر؟ " فمن ربح مع الله لم يخسر شيئا ومن خسر مع الله لم يربح شيئا ولو أوتيت له الدنيا بحذافيرها. (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) .(9/10)
ثم قال جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} نسب الله جل وعلا هنا الوفاة إلى ذاته العلية رغم أنه نسبها كما سيأتي إلى الملائكة في آيات أخر لكن يقال إن نسبة الأمر إلى الله نسبة حقيقة ونسبة الأمر إلى غير الله نسبة تكليف أي كلف الله أحدا أن يقوم بها كما كلف الملائكة، وقول الرب : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) المقصود به المنام وليس المقصود به الوفاة الحقيقية .
وقد قلنا في تأملاتنا في سورة المائدة أن الوفاة في القرآن تأتي على ثلاثة معاني:
تأتي بمعنى الموت وقلنا منها قول الله تعالى (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا).
وتأتي بمعنى النوم مثل هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) وقول الله تعالى في سورة الزمر (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الله) .
وتأتي بمعنى الرفع وقلنا إن الله قال لعيسى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) .
والمقصود من هذا كله أن الوفاة هنا بمعنى النوم والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ قال: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فسمى النوم موتة صغرى.
وصفوة القول أن يقال:
إن للروح علاقة مع الجسد تختلف من حال إلى حال علاقة قبل أن يوجد الجسد، يوم كانت أرواحنا في ظهر أبينا آدم، وعلاقة بعد أن نفخ فينا الروح يوم كنا أجنة في بطون أمهاتنا وعلاقة شبه كمال وهي علاقة الروح بالجسد في حال اليقظة وعلاقة أقل من هذا وهي علاقة الروح بالجسد في حال النوم وعلاقة لا نعلم كنهها وهي علاقة الروح بالجسد في حياة البرزخ فإن الإنسان ينعم ويعذب في حياة البرزخ وعلاقة وهي علاقة الكمال والتمام تكون بعد البعث والنشور لأنه لا موت بعدها.
نجم عن هذا ست علاقات:(9/11)
قلنا علاقة في عالم الأرواح وعلاقة في عالم الأجنة وعلاقة في عالم اليقظة وعلاقة في عالم النوم وعلاقة في عالم البرزخ والسادسة علاقة بعد البعث والنشور، هذه العلاقة علاقة الروح مع البدن حال النوم.
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) ثم تعود الروح ولم تكن قد أخذت بالكلية أما الكيفية فمسألة لا يعلمها إلا الله. (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) جرت سنة الله في خلقه أن النهار للمعاش فلما كان الإنسان في النهار يعمل ويكد من أجل عيشه يكد بماذا؟ يكد بجوارحه ولذلك قال الله جل وعلا : (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) فلما كان يكد الإنسان بالجارحة أخذ الله منها الفعل فجعله ملتبسا بالمعاش بالنهار فقال (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) أي ما كسبتم فعبر عن الآلة عما تسبب به الآلة فالذي يتسبب بالرزق الجارحة فعبر عنها الله لأنها تؤدي نفس الغرض.
(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) يبعثكم أي يوقظكم من منامكم (فِيهِ) أي في النهار لماذا؟ (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) وهذا باعتبار الأفراد لا باعتبار الجماعات بمعنى أن كل فرد له أجل مسمى كتبه الله جل وعلا عليه ( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأنعام : 60] وهذه مرت معنا كثيرا.(9/12)
ثم قال جل ذكره: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بما أنه قاهر وقلنا إن السورة حجة في إثبات توحيد الربوبية والألوهية بما أنه جل وعلا قاهر مالك لجميع الخلق فإنه يفعل في خلقه ما يشاء. فكما أنه تبارك وتعالى خلقهم ورزقهم وجعل لهم طريقا موصلا إليه وقال : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) [الانشقاق : 19] أي أن الخلق أطوار منذ أن كانوا في ظهر أبيهم ثم في بطون أمهاتهم حتى وصلوا ثم أصبحوا ينامون بالليل ثم يبعثون بالنهار وانظر تسلسل الآيات بقي المرد إلى الله فقال الله جل وعلا {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فلما كان قاهرا مالكا ملكا حقيقيا متصرفا قال : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )[الأنعام : 61] .
هذه ( إِذَا ) في اللغة تأتي على ثلاث معاني:
تأتي قبل التلبس بالفعل تقول إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ أي قبل أن تقوم إلى الصلاة ماذا تفعل؟ تتوضأ، إذا وقفت بين يدي الله فكبر هذا حال التلبس بالفعل، إذا صليت فاقرأ القرآن أي بعد دخولك في الصلاة بعد التلبس بالفعل .
هنا (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي حتى إذا قرب الموت وجاءت علاماته ودنت ساعته وحان الأجل ما الذي يحصل؟ قال الله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) الرسل هنا هم من؟ الملائكة.
وينبغي أن تعلم أن قرب الله من خلقه من عباده على طريقين:
قرب بذاته وقرب بملائكته فالقرب بالملائكة هذا واحد منها وقد فسره الله جل وعلا في سورة الواقعة قال سبحانه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} (85) سورة الواقعة، وليس قرب الله بذاته إنما قرب الله بماذا ؟بملائكته. (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) الأصل أن الموكل بقبض الأرواح ملك لكن هذا الملك له أعوان.(9/13)
ومفهوم الآية لا يخلو من أحد أمرين وبهما قال العلماء:
إما أن تكون الملائكة هي التي تخرج الروح حتى إذا دنت من الحلقوم تركتها لملك الموت فهو الذي يقبضها والله يقول : {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (11) سورة السجدة .
الجمع بين هذه الآية وبين آية السجدة :
الله يقول في هذه الآية آية الأنعام : (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) وقال في السجدة : (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ) نقول : قال بعض العلماء : إن الملائكة تقبض الروح تستلها من الجسم كله استلالا يختلف من روح المؤمن إلى روح الكافر وليس هذا موضع بيانه فإذا دنت الروح من الحلقوم قام ملك الموت بالنزع الكلي أو الآخر هذا قول.
وقول آخر : أن ملك الموت هو الذي ينزع الروح وقد جعل الله له العالم كالمأدبة بين يدي من يريد أن يأكل يأخذ منها كيفما يشاء فإذا كثر عليه في يوم قبض الأرواح مجرد أن يناديها تأتي وكل ذلك بأمر الله وسواء صح هذا أو لم يصح العقل لا يرده والشرع لا ينافيه، والمقصود هذا رأي.
الرأي الثاني : أن يكون ملك الموت هو الذي يقبض الروح وحده، وليس لأحد غيره من الملائكة يعينه في قبض الروح ثم إذا قبضها لا تلبث في يده حتى يعطيها ملائكة آخرين فإن كانت روحا مؤمنة أعطاها لملائكة الرحمة - جعل الله جل وعلا أرواحنا وأرواحكم كذلك . وإن كانت روحا كافرة أعطاها ملائكة العذاب وهذا الرأي الثاني هو الذي تميل النفس إليه والله أعلم.
(حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )[الأنعام : 61] .أي لا يضيعون في قبض الأرواح وإنما لا يتقدمون قبل الأجل ولا يتأخرون بعد الأجل فحيثما أمرهم الله زمانا ومكانا يكونوا عليهم السلام.(9/14)
(ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) و( ثُمَّ ) حرف عطف لكنه يفيد التراخي ، التعقيب والتراخي فيه فترة زمنية ما بين قبض الروح وأن ترجع إلى الله ليحكم بينهم هي التي تسمى حياة البرزخ (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) .
(ثُمَّ رُدُّواْ) أي الخلق (إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) بكسر القاف لأنها صفة للفظ الجلالة.
(ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) تبقى مسألة لغوية هنا: الله هنا يتكلم عن جميع الأرواح مؤمنها و كافرها فكل الأرواح مردها إلى الله وقال الله في نعت ذاته العلية هنا (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) مع أنه قال في سورة محمد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (11) سورة محمد.
فكيف يستقيم الجمع بين أن الله يقول في كتابه ((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)) ثم يقول في آية عامة (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ)؟
و الجواب عن هذا أن يقال: إن كلمة مولى لفظ مشترك لعدة معان يأتي بمعنى المُعتِق ويأتي بمعنى المعتَق فيقال للسيد الذي أعتق: مولى، ويقال للعبد للذي أُعتق: مولى، هذا أحد معانيها .(9/15)
ويقال مولى بمعنى مالك الملك وهو المراد بالآية هنا فقول الله جل وعلا : (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ) أي مالكهم وأما قول الله في سورة محمد {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم وقول الله {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم، و إلا الكفار والمؤمنون مُلك لمن؟ ملك لله، فمعنى مولى في سورة محمد ناصر ومعنى مولى في سورة الأنعام مالك الملك، والله مالك ملك أهل الكفر وأهل الإيمان أما أن الله ناصر لأهل الإيمان بلا شك وليس الله بنصير لأهل الكفر. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من كنت مولاه فعلي مولاه) أي من كنت ناصره وحاميه فعلي ناصره وحاميه، هذا معنى مولى في هذا الحديث الشريف. قلنا يتحرر من هذا أن معنى مولى لفظ مشترك لعدة معان وهي في سورة الأنعام بمعنى مالك الملك ولا شك أن الله كما بينا مالك للعباد كلهم.
( ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام : 62] وقول الله (أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ) فيه إشارة خفية إلى أنه ليس لأحد أمر لازم على الله، وإنما الله يحكم بما شاء يدخل من يشاء برحمته ويعذب من يشاء بعدله.
(أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) الله جل وعلا ليس ذاته كذات المخلوقين فلا يقاس ما في أذهاننا من الحساب على ما نعلمه من محاسبة المخلوقين بعضهم لبعض فالله جل وعلا كما أن خلقه خلقهم تبارك وتعالى خلقا واحدا قادر على أن يخلقهم جملة وقادر على أن يميتهم جملة وقادر على أن يبعثهم جملة كذلك قادر سبحانه وتعالى على أن يحاسبهم جملة فهو جل وعلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.(9/16)
ثم قال الله جل وعلا : {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.
ما زال السياق في أن القضية سورة مكية والمقصود منها في المقام الأول إثبات توحيد الألوهية لكن إثبات توحيد الألوهية لا يقوم إلا إذا ثبت توحيد الربوبية.
وقلنا إن هذا أسلوبان: أسلوب تقرير وأسلوب تلقين.(9/17)
بيان ذلك أن الله جل وعلا يخاطب هؤلاء أهل الإشراك الذين يشركون مع الله يخاطبهم بأرض الواقع ويقول لهم جل وعلا: إنكم تسافرون في البر وتسافرون في البحر ويصيبكم من المشاق والكوارث والمصائب ما يجعلكم وأنتم مشركون في حال الرخاء يجعلكم توحدون الله ولا تسألون معه غيره، كما قال الله جل وعلا في عدة سور أنهم يلجؤون إلى ربهم وحده دون سواه: {دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (22) سورة يونس، والله تبارك وتعالى يبتلي عباده كائنا من كان ويدلل جل وعلا في خلقه المنثور وكتابه المسطور في الأرض على أنه الرب الأوحد والمالك الذي لا يقدر على النفع ولا على الضر إلا هو لا يكشف بلوى ولا يدفع ضرا إلا هو ولا يعطي عطاء ولا يمنح رحمة إلا هو (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وليس المقصود عين الظلمة وإنما المقصود ما في البر والبحر من مشاق ومن مفاوز ومن أمور تصيب الرجل والمرأة والجماعة والفرد على السواء فإذا أصابهم الأمر وتيقنوا بالهلاك وعظم عليهم الأمر واشتد عليهم الكرب علموا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فلجؤوا إلى الله جل وعلا مخلصين يتضرعون بالدعاء سرا وإعلانا فردا وجماعات خفية وتضرعا فإذا نجاهم الله واستجاب دعاءهم ونقلهم من حال الخوف إلى حال الأمن ومن حال الضراء إلى حال السراء نسوا ـ عياذا بالله- كل ذلك الأمر ولجئوا من جديد إلى شركهم قال الله جل وعلا : {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} (12) سورة يونس، وهذا أمر يتحقق في القريب والبعيد في الزمن الماضي وفي الزمن الحاضر وفي الزمن المستقبل كم من تاجر خاف على تجارته وأيقن بغرقها أو بتسلط غيره عليها أو أيقن بالخسران فزع إلى الله في(9/18)
ظلمات الليل يسأل الله ويدعوه فلما نجا الله له تجارته وأنعم عليه ورزقه أخذ تلك الأموال التي اكتسبها فأنفقها في غير طاعة الله وربما سافر بها سفر معصية، وهذا مرحلة أدنى، لكن المرحلة الأعظم التي عناها الله في هذه السورة أن أولئك أهل الإشراك يرون الموت عيانا فيفزعون إلى الله بقلوبهم وجوارحهم وألسنتهم ويصرون على الدعاء ويلحون ثم إن الله لعظمته وحلمه وكمال رحمته ينعم عليهم وينجيهم حتى إذا شعروا بالأمان والرخاء لجأوا إلى أصنامهم وأوثانهم وما غلوا فيه يعبدونه ويسألونه من دون الله وحتى تعلم أنه لا شيء أعظم من أن تشرك مع الله جل وعلا غيره وأن يكون قلبك الذي فطره الله وخلقه وسواه وجبله على التوحيد وعلى إخلاص العبادة له أن يعطى بعد ذلك كله لغير الله وأن يلهج لسانك بأي فرد ملكا أو أميرا أو سلطانا أو عالما أو داعية أو والدا أو ولدا أو زوجة أو ابنا أو محبا تحبه تجعله مقدما على حبك لله جل وعلا ومن أراد ما عند الله من النعيم وخاف ما عند الله من الجحيم لم يقدم على ذات الله أحدا كائنا من كان لا والدا ولا ولدا ولا أما ولا زوجة ولا أحدا كائنا من كان لا يتعلق قلبه لا بممثل ولا بلاعب ولا بمعلم ولا بطالب ولا بسائر أحد وإنما يجعل فؤاده وقلبه للرب تبارك وتعالى . هذا هو التوحيد الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الله من أجله الكتب وأقام النبي صلى الله عليه وسلم من أجله الجهاد، أما غير ذلك فكلما نقص حظ الله منك نقص حظك من الله، كلما ابتعدت عن الله في توحيده وذكره وإجلاله ومحبته كنت من رحمة الله جل وعلا أبعد وإلى عذابه أدنى، قال الله جل وعلا : (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا) أي من هذا الكرب المخصوص الذي تسألونه بل إن الله لا يكتفي بأن ينجيكم من كرب مخصوص تدعونه بعينه قال الله : (وَمِن كُلِّ كَرْبٍ) أي ومن كل كرب عام علمته أو لم تعلمه وقد ينجيك الله من كرب لم تدعه أن ينجيك منه لا تعلم أن ذلك الكرب في(9/19)
طريقك لكن الله جل وعلا يزيله عن طريقك من غير أن تعلم .
ثم يقول الله جل وعلا بعد ذلك وبالا وعارا عليهم : (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) أي مع تلك النجاة وتلك الرحمة وذلك الحلم من الرب تعودون كما كنتم تشركون مع الله جل وعلا غيره.
والمقصود من هذا كله:
أنه لا يعقل أن نفسر سورة الأنعام وقد جعلها الله جملة في أغلب آياتها خصيصة للتوحيد ودعوة إلى الإيمان به ونبذا للشرك ودفعا للإشراك ثم لا يخرج الإنسان منها بثمرة تجعله يسير في سائر أيامه حتى يلقى الله وليس في قلبه أحد يحبه ويوالي ويبغض ويعادي عليه إلا الرب تبارك وتعالى. - جعل الله قلوبنا وقلوبكم على تلك الفطرة السليمة -.
ثم نقول قال الله بعدها : {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ..} (65) سورة الأنعام.
مناسبة الآية لما قبلها : أن الله كما بين أنه قادر على أن ينجي من المهالك قادر على أن يلقيكم فيها .(9/20)
(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) مثل الرجم (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) مثل الخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هذه الآية لا تحتاج إلى كلفة في الشرح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري وغيره لما نزلت هذه الآية جاء بها جبرائيل فجبرائيل وهو يتلوها على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) فهذا النبي استعاذ بوجه من؟ بوجه الله، فلما استعاذ النبي بوجه ربه أعاذه الله، تفهم من هذا أن هذه الأمة لا يمكن أن تهلك بعذاب عام من السماء، قال جبرائيل: (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) ومن هذا تعلم أن هذه الأمة كأمة مجتمعة لا يمكن أن تهلك بخسف من الأرض، ثم قال جبرائيل يتلو كلام الله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) هنا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهه، ليمضي قدر الله قال صلى الله عليه وسلم : (هذه أهون) وفي رواية ( أيسر) وفي رواية أخرى (هاتان أهون وأيسر) , ولم يستعذ بالله ليمضي قدر الله، وهذا أمر مشاهد واضح جلي أن الأمة ذاق بعضها بأس بعض، فمنذ أن قتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا والأمة يذيق بعضها بأس بعض، ونتكلم بوضوح آخر ما حصل في قامعة الدولة الإرهابيين الذين ماتوا من الطائفة هذه مسلمين ومن الطائفة هذه مسلمين، هذا ما يقوله الله جل وعلا : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) صحيح أنهم خارجون عن طاعة ولي الأمر وأن ما فعلوا خطأ محض وأن ما فعلوه أمر لا يجوز شرعا لكن هذا لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، والذين ماتوا ممن كانوا تحت طاعة ولي الأمر مسلمين، فهذا معنى قول الله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ).(9/21)
(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) الشيع الفرق والأحزاب (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) الأمة منذ مقتل عثمان في أكثر أزمنتها وهي متفرقة أهواء وفرقا وشيعا ويذيق بعضها بأس بعض.
وأعلم أن هذه الأمة فنبينا صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض وقال: (إن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) أي ملك فارس وملك الروم، (وإنه زويت لي الأرض وسيبلغ ملكي ما زوي لي منها). ثم دعا صلى الله عليه وسلم ربه ألا يهلك أمته غرقا فاستجاب الله جل وعلا له، فمن خوف الأمة أنها ستموت كلها غرقا لا تخوف لأن هذا أمر سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه وأعطاه الله إياه ثم سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها، سأله ألا يسلط عليها عدوا يستبيح بيضتها بيضتها: يعني مركزها مقامها أصلها جرثومتها هذا كله يطلق على البيضة العصبة الرئيسة، فاستجاب الله جل وعلا كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وسأله ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه الله جل وعلا ذلك، وأخبره (أنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد).
تفهم من هذا أمور وهذه مزية العلم:(9/22)
لما حصل غزو العراق من قبل أمريكا خاف الناس وبعضهم أرجف بقول أن تسلط أمريكا على دولة الحرمين وتهلك مكة والمدينة ولا شك أن الذين خافوا قوم غيورون يريدون الخير للأمة، لكن من كان لديه بضاعة قوية من العلم كان يعلم أن هذا لا يمكن أن يقع لا يمكن أن يقع قدرا ولا شرعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ربه وعد أنه لا يسلط عدوا من خارج الأمة على أمة الإسلام يستبيح بيضتها وكل من كان منصفا علم أن بيضة الإسلام اليوم هي دولة الحرمين ومكة والمدينة بالذات، الدولة الحامية لها، هذه بيضة الإسلام اليوم لا يمكن أن تمكن لا لأمريكا ولا لغيرها أن يسلط تسلط عسكري على أرض الحرمين يستبيح بها بيضتها وتهلك فيها بالكلية هذا أمر لا يمكن أن يقع لا على يد أمريكا ولا على يد غيرها؛ لأن هذا أمر سأله نبينا صلى الله عليه وسلم ربه فأعطاه الله إياه، لكن الله منع نبيه صلى الله عليه وسلم لأمره وقضائه وحكمته لما سأله ألا يسلط بعضهم على بعض هذه قال الله جل وعلا فيها (إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) وهذا أمر مشاهد فإن الأمة تفرقت فرقا وأحزابا وشيعا منذ القدم منذ مقتل عثمان وحرب علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما بعد ذلك والأمة يذيق بعضها بأس بعض للأسف، والمفر من هذا كله أن يعتصم الإنسان بكلمة المسلمين وأن يلزم طاعة ولي الأمر وأن يعلم أن يد الله جل وعلا مع الجماعة وأنه من خرج عن الإيمان قيد شبر مات ميتة جاهلية وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر وأمر بأمور عدة تقوى بها شوكة الإسلام والتفاف الناس بعضهم إلى بعض كلما كانوا متحدين متفقين على إمام واحد كان ذلك أغيض للعدو وأعظم لإقامة شرائع الله وحدوده والكمال عزيز والنقص موجود لكن لا يسدد مثل ذلك إلا بالتناصح والتشاور والسمع والطاعة في غير معصية الله تبارك وتعالى.
المقصود من هذا:(9/23)
بيان أن الله سبحانه وتعالى بين وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرا من الأمور التي يسترشد بها العاقل ويستنير بها المؤمن ويتقي بها البصير ويعرف الجميع الطريق الموصل إلى الله وهذه مزية أهل العلم على غيرهم في أنهم يعلمون من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت الله جل وعلا به فؤادهم ويهديهم إلى صراط مستقيم.
لذلك الله قال بعد هذا كله : {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ولا ريب أن الله فصل الآيات وأبان لعباده طرائق الحق والطريق المستقيم وأوضح ما يقرب منه وما يدل عليه وما يرشد في أمر الدين وأمر الدنيا لكن الناس يتفاوتون في مقدار العلم وحتى أهل العلم يتفاوتون في مقدار الأخذ بالعلم والسمع والطاعة لله والعمل بما يعملون فكم من إنسان حافظ للقرآن متدبر له لكنه لا يعمل به ويعلم معانيه ومواطن نزوله وناسخه ومنسوخه لكنه لا يعمل به شيء ومنهم من أضله الله على علم يقرأ ويأخذ لكنه لا يستفيد منه في واقع الحياة شيئا، وهذه رحمة من الله وفضل يؤتيه الله من يشاء ومن أخلص لله النية وصدق مع الله بلغه الله مناله وأعطاه مراده .
سائلين الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق . وصلى الله على محمد وعلى آله.(9/24)
تأملا ت في سورة
الأنعام
للشيخ صالح المغامسي
(( الجزء الثاني ))
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنا وذكرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الآيات التي سنقف عندها اليوم قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75) سورة الأنعام، إلى ما بعدها من آيات ثم ننتقل إلى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ..} (93) سورة الأنعام.
ثم نقول مستعينين بالله عز وجل:
إنه لما كانت السورة تتكلم عن العقيدة تتكلم عن عقيدة التوحيد التي بها بعث الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب ذكر الله جل وعلا في هذه السورة إمام الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام .(10/1)
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء وشيخ الحنفاء ونسب الله جل وعلا الملة إليه في كتابه قال الله تبارك وتعالى : (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) . وهذا النبي الكريم مر معنا كثيرا الثناء والمدح عليه من الله جل وعلا، وهو أهل لكل مدح فهو أرفع الأنبياء قدرا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ومع اتفاق المسلمين على أن إبراهيم بعد نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع العباد قدرا إلا أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل مكة عام الفتح أمر أن يخرج ما في الكعبة من صور حتى يستطيع دخولها فكان مما أخرج صورة فيها صورة إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام جعلها المشركون له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (قاتلهم الله) يقصد كفار قريش (قاتلهم الله والله لقد علموا ما استقسم شيخنا بها قط) . موضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى إبراهيم شيخه، ولم يسم النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنبياء بأنه شيخه إلا إبراهيم.
وهذه يجب أن تحفظ وتحرر فهي من فرائد العلم الذي يستبينه طالب العلم لنفسه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى هذا النبي الصالح سماه شيخه مع الاتفاق على أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم. وفي ليلة المعراج لما عرج به صلى الله عليه وسلم قابله إخوانه من النبيين فلما مر على إبراهيم قال إبراهيم لنبينا : (السلام عليك أيها النبي الصالح والابن الصالح) لأن الله جل وعلا جعل كل نبي بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال العلماء ما أنزل كتاب بعد إبراهيم من السماء على نبي من الأنبياء وإلا ذلك النبي من ذرية إبراهيم وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى.(10/2)
المقصود: هذا جملة ما يمكن أن يقال عن إمام الحنفاء أبينا إبراهيم عليه السلام، الله جل وعلا هنا يخبر أن إبراهيم كان يدعو الناس جميعا من أهل عصره الذين بعث فيهم وفي مقدمتهم أبوه وهو هنا يدعو أباه قال الله جل وعلا : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) أهل التاريخ يقولون إن اسم أبي إبراهيم تارح وليس آزر وحجتهم في هذا اتفاق كثير من النسابة على أن والد إبراهيم اسمه تارح وعلى أنه هذا المذكور في التوراة .
لكنه في مثل يقول: " إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل "، وقلنا ونحن نؤصل في الدروس السابقة أن الإنسان يستمسك بأصل ثم إذا جاءت شبهات وعوارض على هذا الأصل يبقي على الأصل ويترك العوارض , فلو أجمعوا أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم اسمه تارح هذا مردود لأن الآية لا تحتمل أكثر من النص الصريح الله يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} فالله أسماه آزر فلا معدل عما سماه الله جل وعلا به .
قالوا هذا عمه ، قالوا هذا لقب لأبيه، قالوا عدة أمور يخرجون بها المقصود فنبقى على المقصود الذي هو أصل لأنه لا يوجد ما يعارضه ويقاومه.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}
( اتخذ ) فعل يتعدى إلى مفعولين:
مفعوله الأول هنا أصنام ومفعوله الثاني آلهة، (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).
ويمكن أن تقول معنى الآية : تتخذ آلهة أصناما وكلا المعنى صحيح، لكن القرآن نزل : (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ).(10/3)
فهذا إبراهيم عليه السلام يعيب على أبيه أن يعبد الأصنام ويترك عبادة الله الواحد القهار { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وهذا الخطاب الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه جاء مبينا في سور عدة في آيات أخر بين الله جل وعلا فيها الأسلوب الدعوي الذي كان يخاطب به إبراهيم أباه، ( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ) كما جاء في سورة مريم، كلها دلالة على أن الإنسان يجب أن يعلم وهذا ما تبينه الآيات التي تليها أننا نحن المسلمون ندعو إلى شيء واحد هو توحيد الله ودين الإسلام فلا يختلف ما ندعو إليه لكن ما الذي يختلف؟ طرائق الدعوة، فالإنسان يدعو ويتغير أسلوبه بحسب حال المدعو، أما ما تدعو إليه هذا شيء ثابت لا يتغير نحن ندعو إلى الله إلى ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه دعوة الأنبياء و نحن مجرد متبعون، والأنبياء تنوعت طرائق الدعوة وتتنوع طرائق الدعوة من لديهم. فخطاب إبراهيم لأبيه ليس كخطابه لقومه كما سيأتي.
ثم قال الله جل وعلا :
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75) سورة الأنعام.
فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض، وملكوت هذه التاء زائدة للمبالغة.
التاء في ( مَلَكُوتَ ) زائدة للمبالغة والمعنى :
أن هناك ملك وهناك ملكوت فالملك ما تشاهده بعينك والملكوت ما وراء ما تشاهده بعينيك .
فالله جل وعلا منَّ على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض قد يكون رؤيا بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم، والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله.
والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين:
قوم ينظرون نظر إبصار وقوم ينظرون نظر اعتبار.(10/4)
بالطبع نظر الاعتبار خير من نظر الإبصار لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، ثم ليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود.
حتى الذين ينظرون نظر اعتبار ينقسمون إلى قسمين:
مهتدون وغير مهتدين، فمثلا يوجد من النصارى من القسيسين والذين يتأملون في السماوات يتأملون في الأرض يتأملون في الناس ويكتبون ويدونون من ينظرون نظر اعتبار لكنهم لم يحصلوا على المقصود فهؤلاء وإن نظروا نظر اعتبار إلا إنه لم يحصلوا على المقصود.
فالهداية من الله، ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، و إلا الهداية يا أخي من الله، فمن رام شيئا يطلبه من ربه . الله جل وعلا رب كل شيء كما سيأتي .
الله جل وعلا يقول : {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (185) سورة الأعراف، هنا يقول الله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين .
هذه (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) تبقى أصل و إلا فرع؟ الأصل، لأن الله قالها نصا : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) سيأتي الحديث عنها الآن.(10/5)
ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ*فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (76-78) سورة الأنعام.
قبل أن نشرع في التفسير نقول:
لا يمكن أبدا أن يصدق قول من قال من المفسرين أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة وأن هذا قاله في طفولته، هذا أمر لا يمكن أن يعقل لماذا؟ لأن الله سمى إبراهيم في كتابه أنه إمام للحنفاء وقال عنه أنه من الموقنين وأن القرآن والسنة تواترت على أن هذا العبد الصالح من أعظم من أيقن بالله، فكيف ينسب له الشرك في مرحلة من مراحل عمره لا يعقل! لكن القضية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه .
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) كان كوكب الزهرة لم يقصد أن يقول أنه ربه يقينا يستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم عليه السلام.
وقلنا من القواعد:(10/6)
تأخذ أصلا ثم ما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل فالتفنيد يكون بأننا نقول إن إبراهيم عليه السلام قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة إلى قومه , وقد قلنا إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام يعبدون الكواكب يعبدون المشتري والشمس والقمر وفريق يعبدون الأصنام تعامل مع كل فريق بطريقة معينة أهل الأصنام ذهب إلى الأصنام وهدمها، أما أهل الكواكب ليس له سبيل على الكواكب حتى يهدمها فتعامل معهم بعقلياتهم قال الله جل وعلا : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) جن بمعنى غشاه ولذلك سميت الجنة جنة وسمي الطفل في بطن أمه جنينا وسميت الجن جن لأنها لا ترى بالأعين، كل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة جنَّ .
هنا الله يقول: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) والكواكب لا ترى في النهار فلما رأى كوكبا قال لمن حوله بأسلوب يبين له أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق : (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) وبالطبع إبراهيم رأى الكواكب مائة مرة قبل هذا اليوم كل يوم يرى الكواكب تأفل ويرى القمر يأفل ويرى الشمس تأفل لكن هو الآن يتعامل مع ناس هذه عقلياتهم .
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)، يقال إنه الزهرة الذي يعنينا أنه كوكب، (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ) يعني يقول لهم لا يصلح أن يكون رب يسير ويؤمر ويحرك من مكان إلى مكان .(10/7)
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا) طبعا في اليوم التالي (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) هم ينظرون كيف ردة فعل إبراهيم هو يريد أن يشعرهم أنه واحد منهم يبحث عن الحق حتى يشعروا أنه غير متسلط عليهم (قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) ما قال لا أحب الآفلين لأن هذه مرت جاب شيء جديد قال (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) حتى يبين لهم أنه متعطش أعظم العطش والظمأ إلى الهداية.
(لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) جاء اليوم الثالث مع الصبح ظهرت الشمس {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ) حتى يهيئهم للجواب (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ولم يقل ابرؤوا مما تشركون قال (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ).
ولم يقل ابرؤوا مما تشركون والسبب:
أن الإنسان لا يقبل الناس منه شيء في الغالب حتى يطبقه على نفسه فالناس يأخذون علم من يرونه يأخذ بالعلم على نفسه وإن كان هذا ليس فيه حجة للناس، لكن الناس إنما يتبعون في الغالب من يرون أنه يطبق ما يدعوهم إليه كما قال شعيب عليه السلام : {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (88) سورة هود، وقال غيره ذلك متكرر في القرآن، فالمقصود انه قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) فالآن برئ مما يشرك به قومه وهم الأصنام .
أصبح الناس ينتظرون منه , إذن أنت تبرأت مما نشرك ستعبد من؟(10/8)
قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (79) سورة الأنعام، {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} لم يقل عليه السلام وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاج بها وإنما شمل كل المخلوقات أدرجها لأن الله رب المخلوقات جميعا قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فهو عليه السلام كما قلنا إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وإليه تنسب الملة.
تنسب إليه الملة وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور:
أولها: أنه جعل ماله للضيفان.
الثاني: أنه جعل بدنه للنيران.
الثالث: أنه جعل ولده للقربان.
الرابع: أنه جعل قلبه للرحمن.
والثلاثة الأولى مندرجة في الأخير.
نقول ثم قال: (وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مع هذا كله لم يقتنع قومه. قال الله جل وعلا: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} أخذوا يحاجونه فيما يقول {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} فرد عليهم {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ} أي كيف يعقل أن أقبل أقوالكم الباطلة وآراءكم الفاسدة والله جل وعلا قد من علي بالهداية . وأصلا العاقل لا يترك الحق من أجل الباطل ولا يترك الشيء البين الواضح من أجل الشيء المختلط الفاسد هذا لا يفعله صغار العقلاء فما بالك بشيخ الأنبياء عليه السلام؟
قال الله جل وعلا : {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (80) سورة الأنعام، وهذه (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) لوحدها تدل على بلاغة القرآن .
يا بني لما تقول لإنسان: تذكر، معناه أن الشيء هذا يعرفه من قبل ، لكن تعلم غير تذكر.(10/9)
تذكر غير تعلم , تعلم شيء جديد لكن تذكر شيء لك علاقة به من قبل .
فالعقائد توحيد الله جل وعلا شيء مفطور في النفوس فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ) يعني مجرد لو رجعتم إلى أنفسكم قليلا تذكرتم الشيء الذي فطره الله في قلوبكم لعرفتم أنه لا رب غيره ولا إله سواه . هذا يدل على أن عقيدة التوحيد أمر مفطور في النفوس يعرفه كل أحد إذا من الله جل وعلا عليه بالهداية. (أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)
ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}. مجمل الآية معناها يقول :
أنا إبراهيم اتبعت وعبدت من بيده الضر والنفع وأنتم تعبدون من ليس بيده لا ضر ولا نفع .
فمن الذي مفروض يخاف؟ هم لما عبد الله قالوا نخاف عليك من آلهتنا نخاف عليك من أصنامنا نخاف عليك من الشمس نخاف عليك من القمر نخشى عليك من النجوم فالله يعلمه أن يقول لهم كما قال إبراهيم لهم : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) يعني كيف أخاف أنا من الذين أشركتم من أصنامكم وأنتم لا تخافون من الله! مع أن المفروض الذي يخشى منه من؟ الله لأن بيده الضر والنفع أما أصنامكم هذه لا تضر ولا تنفع ولا تقدم ولا تؤخر وكل من عبد من غير الله لا يقدم ولا يؤخر ولا يضر ولا ينفع، هذه الأمور كلها بيد الله.(10/10)
(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ) استفهام استنكاري (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)؟ ثم جاء الجواب: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة كما روى البخاري وغيره، فقالوا يا نبي الله وأينا لم يظلم نفسه قط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ليس بالأمر الذي تعنون) أو (تذهبون إليه إنما الأمر كما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم) فيصبح معنى قول الله جل وعلا (يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) معناها ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
(وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) وقد جرت - كما بينا سلفا- سنة الله في خلقه أن هناك أمنين وهناك خوفين:
من خاف الله في الدنيا أمن يوم القيامة، ومن لم يخف الله في الدنيا خاف يوم القيامة، فلا يجمع الله على عبد خوفين ولا يعطي عبدا أمنين، إنما الأمن الموجود في الدنيا السكينة والرضا بالله لكن لا يعني ذلك عدم الخوف من الله، الله جل وعلا قال لما ذكر الساعة قال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (18) سورة الشورى، أي خائفون من الساعة فالخوف لا بد منه في الحياة الدنيا. (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) .(10/11)
ثم قال جل ذكره: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83) سورة الأنعام، (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) أي هذه الحجج التي أعطيناها إبراهيم ليرد بها على قومه فضل من الله على هذا العبد الصالح (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) فلما كانت من الله كانت فضلا منه قال الله بعدها : ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء) وإبراهيم من أعظم من رفعهم الله جل وعلا درجات. (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) . ثم قال جل وعلا : (وَوَهَبْنَا لَهُ) فبعد أن من الله عليه بالعطاء من النبوة والرسالة من الله عليه بالذرية قال الله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ*وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (86) سورة الأنعام.
الآن نترك الوعظ نرجع قليلا للناحية العلمية :
نحن قلنا في دروس كثيرة أن الأنبياء المذكورين في القرآن خمسة وعشرون نبيا هذه الآية آية الأنعام تسمى آية ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ) ذكر الله فيها كما تلوناها ثمانية عشر نبيا بقي سبعة هم :
في تلك حجتنا منهم ثمانية * من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا* ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
هؤلاء السبعة الذين ذكروا في القرآن في غير هذه الآيات، ذكر الله ذي الكفل وذكر آدم وذكر محمد صلى الله عليه وسلم وذكر شعيبا وهودا وإدريس وصالحا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
.
نبدأ نفصل فيما لم نشرحه عنهم :(10/12)
قلنا إن الله جل وعلا قال: (وَوَهَبْنَا لَهُ) لإبراهيم (إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ) ولما ذكرنا يعقوب في درس النافلة قلنا إن النافلة الزيادة على الأصل وقلنا إنها تختلف كل شيء زاد عن الأصل يسمى نافلة فقلنا قيام الليل يسمى نافلة لأنها زيادة على الصلوات المكتوبة.
قال الله جل وعلا – نتعلم القرآن من القرآن- قال الله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} (79) سورة الإسراء, فصلاة الليل أو أي نافلة يسمونها العامة سنة زيادة على الأصل تسمى نافلة.
الناس عندما يغزون ماذا يريدون ؟ يريدون النصر، عندما يحصل النصر ما الزائد؟ الغنائم فلذلك قال الله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} (1) سورة الأنفال، سماها زيادة الأنفال الغنائم الزيادة على مقصود الحرب، قال الله : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً..) , (وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) ، فذكر الله جل وعلا أنه رزقه بعد إسماعيل إسحاق ثم زيادة على الأبناء أبناء الأبناء فسمى يعقوب نافلة لأنه زيادة على الأصل وهو الولد.
نعود هنا للآية: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ) من قبل إبراهيم وهذا يسمى إضافة منقطعة وقبل وبعد إذا أضيفت تجر وإذا لم تضف تبنى على الضم {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ} (58) سورة النور. فمن قبل لما أضيفت إلى صلاة كسرت لكن قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (4) سورة الروم، حذف المضاف إليه تضم، هنا نفس الشيء قال الله : (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) أي من قبل هداية إبراهيم زمنيا وإن كان إبراهيم أفضل من نوح.
(وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) ونوح يسمى شيخ الأنبياء؟ لأنه أطولهم عمرا وإبراهيم يسمى أبو الأنبياء؟ لأن كل الأنبياء بعده من سلالته وذريته. (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) إلى آخر الآيات.(10/13)
هذه (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) موضع إشكال لماذا؟
لأنه لا يدرى أن تعود على نوح أو تعود على إبراهيم، وأنا قلت سأترك الوعظ الآن.
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) إذا قلنا إنها تعود إلى نوح يؤيدها أمران:
الأول: أن قواعد اللغة تقول أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور،وأقرب مذكورهو نوح.
والأمر الثاني: قال الله جل وعلا : (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) في الآية الثالثة هي : (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)، قالوا إن لوط بالاتفاق ليس من ذرية إبراهيم، ابن أخيه، لوط ابن هاران وهاران أخو إبراهيم، فمن حيث النسب الصريح لوط ليس ابنا لإبراهيم إنما ابن أخيه . فقالوا : هذان دليلان على أن المقصود نوح.
يبقى الجواب عليها ـ طبعا لا يوجد مرجح- : الذين قالوا إن (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) عائدة إلى إبراهيم قالوا: إن الآيات أصلا في مقام الثناء على إبراهيم، وهذا واضح إن الله يتكلم عن إبراهيم (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) جملة اعتراضية هذه الأمر الأول.
الأمر الثاني: قالوا إن الله سمى في القرآن العم أبا، في سورة البقرة {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} (133) سورة البقرة، هؤلاء أبناء يعقوب يقولون لأبيهم : (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) فإبراهيم أبو يعقوب جده وإسحاق أبو يعقوب مباشرة لكن إسماعيل ليس أبا ليعقوب إنما عم له، فقالوا هذا من الأدلة على أن الله سمى في كتابه العم أبا .
طبعا ما الراجح؟ :(10/14)
لا يوجد راجح، لأنه لا يوجد مُرجح، لا يكون القول راجح حتى يكون في شيء مرجح ولا يوجد مرجح هذان قولان كلاهما متكافئان، فنقول تحتمل الآية الأمرين والله أعلم بمراد الله منها، تأدبا مع كتاب الله.
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى) كلهم مروا معنا وقدم الله داود وسليمان لأن الله أعطاهم الملك والنبوة .
(وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ) وكلهم مروا معنا (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى) ويحيى ابن لزكريا وأيهم مات قبل الآخر؟ مات يحيى مقتولا عليه السلام في حياة أبيه زكريا، وقلنا إن زكريا رزق الولد وهذا معروف بعد انقطاع، رزق يحيى، وقلنا: إن الله لماذا سمى يحيى يحيى؟ طبعا لم يكن أحد يسمى يحيى قبل هذا الاسم الله قال: (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً)[مريم : 7] قلنا: أسماه يحيى لأن يحيى عليه السلام مات شهيدا، فناسب الاسم المسمى فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) ما القرابة بين يحيى وعيسى؟ ابني خالة، وقد ورد حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه : ( ما من عبد من ولد آدم إلا وعصى الله إلا يحيى بن زكريا ) لم يعصي الله طرفة عين قال صلى الله عيه وسلم : ( ما من أحد من ولد آدم إلا وقد عصى الله طرفة عين ليس يحيى بن زكريا) أي إلا يحيى بن زكريا، ويظهر من نصوص التواريخ أنه مات صغيرا عليه السلام. لكن كما قلنا قد يوجد مفضول ما هو أفضل من الفاضل.(10/15)
( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) إلياس ذكره لله ست مرات تقريبا في القرآن وبعثه الله جل وعلا إلى أهل بعلبك شرقي دمشق في لبنان حاليا، وقد قال الله جل وعلا في كتابه: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ*أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} (123-125) سورة الصافات. (وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ) ثم قال: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) .
وقلنا إن الخلاف في لوط وأن لوطا بالاتفاق ليس ابنا لإبراهيم ولكنه ابن لهاران وهاران أخ لإبراهيم،
فإبراهيم عم له لكن قلنا إن الله سمى العم أبا في كتابه والاحتجاج بالقرآن ليس بعده احتجاج.
يفهم من السياق الذي سلف أن مراتب التفضيل أربعة:
طبعا نتكلم عن المؤمنين:النبوة والصديقية والشهادة والصلاح .
قال الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69) سورة النساء.
ثم قال جل وعلا: (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) أي فضلناهم بالنبوة.(وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (87) سورة الأنعام.
عندما قال (آبَائِهِمْ) يعني الأصول، ثم قال (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ذكر الآباء في الأول لأنهم أصول ثم قال: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} ماقال من إخوانهم لأن الأبناء فروع، ما دام ذكر الأصول سيذكر الفروع ثم قال (وَإِخْوَانِهِمْ) والإخوان لا هم أصول وليسوا فروع يسمون حواشي،(10/16)
فترتيب القرآن ترتيب منطقي ذكر الله أولا الأصول ثم ذكر الفروع ثم ذكر الحواشي، فالله يريد أن يقول أن نعمة الله على إبراهيم ليست فقط محصورة في هؤلاء الصالحين في أنفسهم وإنما في أصولهم وفروعهم وحواشيهم.
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} من الذي اجتباهم؟ الله، ومن الذي هداهم؟ الله (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) لأجل ذلك قال بعدها:
{ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (88) سورة الأنعام .
كل من يلتمس شيء لن يلتمس شيئا أعظم من الهداية . والهداية إنما تطلب من الله وسيأتي قصة تبين لك هذا بعد قليل، لا يطلب شيء في الدنيا أعظم من الهداية، في الدنيا لاشيء أعظم من الهداية والهداية إنما تطلب من الله، ولذلك قال الله : (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ) نسبه وأضافه إلى نفسه (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ) على الفرض وإلا لا يعقل أنهم سيشركون (لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) نستفيد منها إجمالا أن الشرك يحبط كل عمل (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
إلى هنا ننتهي في هذا المقطع .
بقي المقطع الأخير الذي نريد أن نقف عليه في التفسير:(10/17)
قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93) سورة الأنعام.
يا بني لأنك طالب علم اخترنا هذه الآيات حتى تعيها:
لا شيء أعظم من أن يفتري الإنسان على الله الكذب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أعظم جرما ولا أشد شناعة ممن يفتري الكذب على الله وليس بمعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الملة ويفتري على الله الكذب، يعني حاشاكم بإذن الله .
لكن المقصود بالنسبة لنا : عدم الجرأة في العلم والقول على الله بلا علم {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (116) سورة النحل، هذا الذي يعنينا لكن الآية في الأصل المخاطب بها كفار قريش، وكانوا يكذبون على الله ويفترون على الله الكذب وينسبون إلى الله جل وعلا ما لم يقله الله ولم ينزله على أحد، فأخبرهم الرب جل وعلا أن هذا ظلم شنيع وتحد عظيم وأنه لا أحد أعظم فرية من ذلك، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) يدخل في هذا مسيلمة ويدخل فيها الأسود العنسي .
إلا أنه تبقى قصة :(10/18)
من الذين أسلموا قديما صحابي اسمه عبد الله بن سعد ابن أبي السرح وهذا الرجل أرضعته أم عثمان رضي الله عنه فهو أخو عثمان من الرضاعة، هذا لما أسلم كان يحسن الكتابة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم كاتبا للوحي فلما أنزل الله سورة المؤمنون على الحكاية وفيها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (13) سورة المؤمنون، الرسول يتلوها وهذا يكتب حتى وصل إلى قول الله جل وعلا : {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فكتبها قبل أن يمليه الرسول قال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (هكذا أنزلت علي) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.(10/19)
دخله في تلك الحقبة زلة غر بنفسه فترك كتابة الوحي وقال: " إن كان محمد صادقا فيما يقول فأنا يوحى إلي كما يوحى إليه وإن كان محمد كاذبا فيما يقول فأنا أقول كما يقول" . وترك الإسلام والتحق بكفار قريش ولذلك قال الله (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) لكن الله يعلم أزلا أنه سيتوب فلم يسمه باسمه الصريح في القرآن فلما ذهب إلى مكة حصل فتح مكة في العام الثامن ودخلها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر عن رجال فأمر بقتل عبد الله بن خطل ورجل آخر وعبد الله بن سعد وعكرمة ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة، فأما عبد الله بن خطل تعلق بأستار الكعبة فلم تنجه وقتل، ورجل آخر يقال له ابن يسار قتل في السوق، وعكرمة وعبد الله بن سعد هذان فرا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى أخيه من الرضاعة الذي هو عبد الله وطلب منه أن يدخل به ليأمن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عثمان رضي الله عنه وأرضاه بأخيه عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله كاره لتوبته لأنه قال ما قال، فطلب عثمان الأمان لعبد الله فسكت صلى الله عليه وسلم طويلا قبل أن يعطيه الأمان رجاء أن يقوم أحد فيقتله، فلم يقم أحد لم يفطن الصحابة لهذا ليمضي قدر الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم (نعم) فأعطى عثمان الأمان، فلما خرج قال عليه الصلاة والسلام ( لقد أطلت الصمت رجاء أن يقوم أحدكم فيقتله ) فقال رجل من الأنصار هلا أومأت لي يا رسول الله! قال ( إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين ) صلوات الله وسلامه عليه.(10/20)
حتى نرجع قليلا قبل قليل أنا قلت (ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) حتى تعلم أن القلوب كلها بيد الله يفعل بها ما يشاء، هذا الذي حصل من هذا أسلم وحسن إسلامه فلما كانت ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه أصبح أميرا للمؤمنين جعل عبد الله بن سعد هذا واليا على مصر، وهو الذي قاد معركة ذات الصواري وهي أول معركة حربية في الإسلام، وكان كثير من فتح بلدان إفريقيا على يديه، ثم لما رجع جاءت الفتنة بين علي ومعاوية فاعتزلها ولم يبايع لا لعلي ولا لمعاوية، وسكن في الرملة المدينة المعروفة في فلسطين، ثم مكث فيها ما شاء الله إلى قبل انتهاء ولاية علي ثم إنه ذات يوم قال: " اللهم اقبضني إليك في صلاة الصبح "، فصلى بالناس صلاة الصبح قرأ في الأولى الفاتحة والعاديات ضبحا، وقرأ في الثانية لم يضبطهم عنه الرواة ثم سلم التسليمة الأولى ومات قبل أن يسلم التسليمة الثانية.
هذا كله يدل على أن القلوب يا أخي بيد الله وقد يكون الإنسان متلبسا بالمعصية وقد يكون الإنسان يحب أن يهتدي، وأنا أرى في الدرس اليوم شباب مباركين أسأل الله أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.
هذا كله عندما يأتي الإنسان إلى بيت من بيوت الله أنت لو رحت إلى قصر واستطعت تدخل إلى القصر يستحي الأمير أن يردك ومعك شيء، وهو بشر، فكيف وقد دخلنا أجمعين بيت أرحم الراحمين! فأنت في صلاتك هنا في دعائك في استغفارك ليكن قلبك متعلقا بالله تطلب من الله الهداية تطلب من الله غنى النفس ، تطلب من الله الرحمة تطلب من الله التوفيق تطلب الله أن يرزقك حسن الخاتمة تطلب من الله أن يقيك عذاب القبر أن يقيك عذاب النار تطلب من الله أعظم المطالب دخول الجنة.
والمقصود كلما آمن الإنسان أن الهداية والرحمة والفضل والإحسان بيد الله وطلبها بقلبه قبل أن يطلبها بلسانه أعطاه الله جل وعلا إياها لكن لا تستعجل وكن صادقا مع ربك يصدقك الله تبارك وتعالى. هذا السياق الأول من الآية.(10/21)
ثم قال الله جل وعلا : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) هذا تصوير لكيفية نزع روح أهل الإشراك وقد مر معنا كثيرا والمقصود أن قبض الأرواح موكل به ملائكة وأن النفس إما أن تكون مؤمنة وإما أن تكون كافرة ولأن الكفر والإيمان لا يستويان فطبيعة الحال لا يستوي قبض روح المؤمن وقبض روح الكافر والله يصور هنا قبض أرواح الكفار.
والغمرة في اللغة : لجج الماء التي تغطي صاحبها . والإنسان يضربه الموج وغمرات الماء تنقله من مكان إلى مكان يصيبه الخوف الشديد والرعب فالله جل وعلا يقول إن هؤلاء الكفار تتخبط روحهم في أجسادهم قبل أن تخرج والملائكة تضربهم وتقول لهم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) أي جدوا لأنفسكم خلاصا ومنجى ومخرجا إن استطعتم ولا يجدون لا هم ولا من يحيطون بهم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) وليس المقصود أنه ليس بعده عذاب لكن هذا أول مراحل العذاب (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) عذاب الذلة عذاب الصغار ثم ذكر السبب (عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) .
والاستكبار عن آيات الله أعظم طرائق الموصلة إلى الضلالة كما أن انسياق القلب وانقياده إلى الرب تبارك وتعالى واللين فيه أعظم ما يجعله سببا في أن ينال الإنسان به رحمة الله تبارك وتعالى.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ورحمتك التي وسعت كل شيء أن تهدينا أجمعين سواء السبيل وأن تختم لنا بخير وأن تجعل الجنة دارنا وقرارنا إنك سميع مجيب.
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(10/22)