بغية أهل الإيمان
في أحكام وتفسير سجدات القرآن.
أبو يوسف محمد زايد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ...(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ) (الكهف : 1 ) وأمره فيه بالسجود في آيات بينات معدودات ،قال : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ( العلق : 91 ) ، كما أمر المومنين ، قال : : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج : 77 ) ... والصلاة والسلام على الهادي إلى صراط العزيز الحميد ، محمد النبي الأمين ، خاتم المرسلين الذي حث على السجود وبين فضله ، قال : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ//أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة / وقال : عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً..//مسلم =... عن ثوبان / وقال : مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَمَحَا عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً فَاسْتَكْثِرُوا مِنْ السُّجُودِ // ابن ماجه =... عن عبادة بن الصامت / وقال : ما من حال يكون عليها العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدا معفرا وجهه في التراب // الطبراني = ...عن حذيفة/
- اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
أما بعد ، فهذا كتاب حول سجدات القرآن الكريم ، سميته " بغية أهل الإيمان في أحكام وتفسير سجدات القرآن " ويشمل قسمين ، بينهما فصل :
1- القسم الأول :
1 ـ دليل مشروعية سجدة التلاوة
2 ـ حكم هذا السجود
3 ـ شروط سجدة التلاوة
4 ـ أسباب سجود التلاوة(1/1)
5 ـ صفة سجود التلاوة أو تعريفها وركنها
6 ـ مفسدات سجود التلاوة
7 ـ المواضع التي تطلب فيها سجدة التلاوة
8 ـ سجدة التلاوة في خمسة عشر موضعاً ( تخريج الآيات ) ،
9 ـ العزائم ...
10 – هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة ؟
11 – أحكام فرعية ...
*** من مراجع هذا القسم :
- الفقه على المذاهب الأربعة ، لعبد الرحمن الجزيري ...
- الفقه الإسلامي وأدلته ، لوهبة الزحيلي ...
** الفصل : وقفة مع شيخ الإسلام ابن تيمية ...
2 – القسم الثاني : تفسير الآيات ... ( مع نخبة من المفسرين : ابن كثير ، القرطبي ، الألوسي ، ابن عاشور ، السعدي ...وغيرهم ....)
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الأول
1 - دليل مشروعية سجدة التلاوة
لقد ذم الله تعالى تارك السجود ، قال سبحانه : (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) (الانشقاق : 21 )...وثبت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في شأن سجود التلاوة ، منها :
*** ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: " كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ القرآن فيقرأ السورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعاً لمكان جبهته "
( رواه البخاري في كتاب الجمعة ، باب من لم يجد موضعا للسجود مع الإمام من الزحام .
(ورواه مسلم في كتاب الصلاة ، باب سجود التلاوة .
( وللبخاري في كتاب الجمعة ، باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة ... / عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السجدة ونحن عنده فيسجد ونسجد معه فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعا يسجد عليه ...
(وروى أبو داود والحاكم والبيهقي في الكبرى عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه ...// ضعف الألباني حديث أبي داود في إرواء الغليل /
((1/2)
وفي لفظ لأحمد : عن ابن عمر قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن فإذا مر بسجود القرآن سجد وسجدنا معه ...
*** كما ثبت عن النبي الأمين صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله، أمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار "
(رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة ... وأخرجه أحمد وابن ماجه ، والبيهقي في الشعب والكبرى ، وابن حبان ،وابن خزيمة ... من رواية أبي هريرة ؛ ولفظ مسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي رواية أبي كريب : يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار .
*** وقد أجمعت الأمة على أن سجدة التلاوة مشروعة عند قراءة مواضع مخصوصة من القرآن الكريم ... // سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى /
2 - حكم هذا السجود
*** أما حكم هذا السجود، فهو السنية للتالي والمستمع ، بالشروط الآتية ، باتفاق ثلاثة من الأئمة ( مالك ، وأحمد والشافعي )، وخالف أبو حنيفة ...(1/3)
? فعند الحنفية : حكم سجدة التلاوة الوجوب ، وتارة يكون هذا الوجوب موسعاً وتارة يكون مضيقاً... فيكون موسعاً إن حصل موجبه خارج الصلاة ، فلا يأثم بتأخير السجود إلى آخر حياته وإن مات ولم يسجد، ولكن يكره تأخيره تنزيهاً، ويكون الوجوب مضيقاً إن حصل موجب للسجود في الصلاة بأن تلا آية السجدة وهو يصلي، فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يؤديه فوراً... وقدر الفور بأن لا يكون بين السجدة وبين تلاوة آيتها زمن يسع أكثر من قراءة ثلاث آيات، فإن مضى بينهما زمن يسع ذلك يطول الفور... ثم إن آية السجدة إما أن تكون وسط السورة أو آخرها، فإن كانت وسطها فالأفضل للمصلي أن يسجد لها عقب قراءتها وقبل إتمام السورة ثم يقوم فيختم السورة ويركع ، فإن لم يسجد وركع قبل انقطاع الفور السابق ونوى بالركوع السجدة أيضاً فإنه يجزئه كما يجزئ السجود للصلاة قبل انقطاع الفور المذكور ولو لم ينْوِ به السجدة أيضاً، فإذا انقطع الفور فلا تسقط عنه لا بالركوع ولا بسجود الصلاة وعليه قضاؤها بسجدة خاصة ما دام في صلاته ، فإذا خرج من الصلاة فلا يقضيها لفوات وقتها، إلا إذا كان خروجه بالسلام، ولم يأت بمناف للصلاة بعده فإنه يقضيها عقب السلام ؛ أما إن كانت الآية آخر السورة فالأفضل أن يركع وينوي السجدة ضمن الركوع، فإذا سجد لها ولم يركع وعاد إلى القيام فيندب أن يتلو آيات من السورة التي تليها ثم يركع ويتم للصلاة ....(1/4)
? ودليل الجمهور على سنية سجدة التلاوة : 1- ما روى زيد بن ثابت ، قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها ... // رواه الجماعة إلا ابن ماجه / وفي لفظ للدارقطني ، وابن خزيمة : عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال : عرضت النجم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يسجد منا أحد ...2 - ولأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك ، روى البخاري في كتاب الجمعة ، باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود ؛ قال :حدثنا إبراهيم بن موسى قال : أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي قال أبو بكر : وكان ربيعة من خيار الناس ، عما حضر ربيعة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله عنه ... وزاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء / وفي موطأ مالك : أن عمر بن الخطاب قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجد الناس معه ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء فلم يسجد ومنعهم أن يسجدوا /
3 - شروط سجدة التلاوة
*** وأما شروطها فمنها أن يكون السامع قاصداً للسماع ، فإن لم يقصد فلا تجب عليه عند المالكية ، والحنابلة...أما الحنفية فقالوا: لا يشترط القصد، بل يطلب من السامع السجود ولو لم يقصد السماع ...
*** ومن شروطها :(1/5)
? عند الحنفية : يشترط لها ما يشترط للصلاة إلا التحريمة ونية تعين الوقت، فإنهما لا يشترطان لها، ولا يؤتى بالتحريمة فيها كما سيأتي في صفتها، ويشترط لوجوبها كذلك ما يشترط لوجوب الصلاة من الإسلام ، والبلوغ، والعقل ، والطهارة من الحيض والنفاس... فلا تجب على كافر ، ولا على صبي ، أومجنون ، أوحائض أو نفساء... لا فرق بين أن يكون أحد هؤلاء قارئاً أو سامعاً...أما من سمع من أحدهم فإنه يجب عليه السجود إن كان أهلاً للوجوب أداء أو قضاء، فيجب على السكران والجنب لأنهما أهل للوجوب قضاء، إلا إذا كان القارئ مجنوناً فإنها لا تجب على من سمع منه، ومثله الصبي الذي لا يميز، لأن صحة التلاوة يشترط لها التمييز، وكذا إذا سمع آية السجدة من غير آدمي كأن يسمعها من الببغاء أو من آلة حاكية (كالفونوغراف)، فإن هذا السماع لا يوجب السجود لعدم صحة التلاوة بفقد التمييز.
? عند الحنابلة : يشترط لها بالنسبة للقارئ والمستمع ما يشترط لصحة الصلاة من طهارة الحدث ، واجتناب النجاسة ، واستقبال القبلة ، والنية ،وغير ذلك مما تقدم... ويزاد في المستمع شرطان = الأول: أن يصلح القارئ للإمامة له ولو في صلاة النفل، فلو سمعها من امرأة لا يسن له السجود، وأولى إذا سمعها من غير آدمي كالآلة الحاكية والببغاء، نعم إذا سمعها من أميّ أو زمن لا يصلحان لإمامته فإنه يسن أن يسجد للاستماع منهما؛ الثاني: أن يسجد القارئ، فإن لم يسجد فلا يسن للمستمع، ولا يصح السجود أمام القارئ أو عن يساره إذا كان يمينه خالياً، ويكره أن يقرأ الإمام آية سجدة في صلاة سرية، ولا يلزم المأموم متابعته لو سجد لذلك، بخلاف الجهرية فإنه يلزم متابعته فيها.(1/6)
? عند المالكية : يشترط لها في القارئ والمستمع شروط صحة الصلاة من طهارة حدث وخبث ، واستقبال قبلة، وستر عورة ، وغير ذلك مما تقدم... ويسجدها القارى، ولو كان غير صالح للإمامة ؛ كالفاسق والمرأة ، ولو قصد بقراءته إسماع الناس حسن صوته، وكذلك يسجدها في الصلاة إذا قرأ آيتها فيها، ولو كانت صلاة فرض، إلا أنه يكره تعمد قراءة آيتها في الفريضة...(1/7)
هذا إذا كان المصلي إماماً أو منفرداً، أما المأموم فإنه يسجد تبعاً لإمامه، فلو لم يسجد فلا تبطل صلاته ، لأنها ليست جزءاً من الصلاة، وإذا قرأها هو دون إمامه فلا يسجد، فإذا سجد بطلت صلاته لمخالفة فعله فعل الإمام ؛ ويستثنى من الصلاة صلاة الجنازة فلا يسجد فيها، كما أنه إذا قرأ آية السجدة في خطبة جمعة أو غيرها لا يسجد، ولا تبطل صلاة الجنازة ولا الخطبة لو سجد، ويزاد في المستمع شروط ثلاثة: أولاً: أن يكون القارئ صالحاً للإمامة في الفريضة، بأن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً مسلماً متوضئاً، فلو كان القارئ مجنوناً أو كافراً أو غير متوضئ فلا يسجد هو ولا المستمع، كما لا يسجد السامع الذي لم يقصد الاستماع، وإن كان القارئ امرأة أو صبياً سجد القارئ دون المستمع؛ ثانياً: أن لا يقصد القارئ إسماع الناس حسن صوته، فإن كان ذلك فلا يسجد المستمع؛ ثالثاً: أن يكون قصد السامع من السماع أن يتعلم من القارئ القراءة أو أحكامها من إظهار وإدغام ومد وقصر وغير ذلك، أو الروايات، كرواية ورش أو غيره، أو يعلم القارئ ذلك، ومتى استكملت شروط السامع فإنه يسجدها، ولو ترك القارئ السجود إلا في الصلاة فيتركها تبعاً للإمام، وإذا كان القارئ غير متوضئ ترك آية السجود ويلاحظها بقلبه محافظة على نظام التلاوة، وكذا إذا كان الوقت ينهي فيه عن سجود التلاوة، وإذا كرر المعلم أو المتعلم آية السجدة فيسن السجود لكل منهما عند قراءتها أول مرة فقط، وإذا جاوز القارئ محل السجود بيسير كآية أو آيتين طلب منه السجود ولا يعيد قراءة محله مرة أخرى ، وإن جاوزه بكثير أعاد آية السجدة وسجد، ولو كان في صلاة فرض، ولكن لا يسجد في الفرض إلا إذا لم ينحن للركوع؛ أما في النفل فإنه يأتي بآية السجدة في الركعة الثانية، ويسجد إن لم يركع، فإن ركع في الثانية فاتت السجدة.(1/8)
? عند الشافعية : يشترط لسجود التلاوة شروط: أولاً: أن تكون القراءة مشروعة، فلو كانت محرمة، كقراءة الجنب، أو مكروهة، كقراءة المصلي في حال الركوع مثلاً، فلا يسن السجود للقارئ ولا للسامع ، ثانياً: أن تكون مقصودة، فلو صدرت من ساه ونحوه، كالطير ،و (الفونوغراف) ، فلا يشرع السجود ؛ ثالثاً: أن يكون المقروء كل آية السجدة ، فلو قرأ بعضها فلا سجود ؛ رابعاً: أن لا تكون قراءة آية السجدة بدلاً من قراءة الفاتحة لعجزه عنها، وغلا فلا سجود ، خامساً: أن لا يطول الفصل بين قراءة الآية والسجود، وأن لا يعرض عنها، فإن طال وأعرض عنها فلا سجود، والطول أن يزيد على مقدار صلاة ركعتين بقراءة متوسطة بين الطول والقصر؛ سادساً: أن تكون قراءة الآية من شخص واحد، فلو قرأ واحد بعض الآية، وكملها شخص آخر فلا سجود؛ سابعاً: يشترط لها ما يشترط للصلاة من طهارة واستقبال وغير ذلك، وهذه الشروط في جملتها عامة للمصلي وغيره، ويزاد في المصلي شرطان آخران: أولاً: أن لا يقصد بقراءة الآية السجود، فإن قصد ذلك وسجد بطلت صلاته إن سجد عامداً عالماً، ويستثنى من ذلك قراءة سورة "السجدة" في صبح يوم الجمعة، فإنها سنة، ويسن السجود حينئذ، فإن قرأ في صبح يوم الجمعة غير هذه السورة وسجد بطلت صلاته بالسجود إن كان عامداً عالماً، كما تبطل صبح يوم الخميس مثلاً لو قرأ فيها السورة المذكورة وسجد، ويجب على المأموم أن يسجد تبعاً لإمامه حيث كان سجوده مشروعاً، فإن ترك متابعة الإمام عمداً مع العلم بطلت صلاته، ثانياً: أن يكون هو القارئ؛ فإن كان القارئ غيره وسجد فلا يسجد، فإن سجد بطلت صلاته إذا كان عالماً عامداً، ولا يسجدها مصلي الجنازة بخلاف الخطيب، فيسن له السجود، ويحرم على القوم السجود لما فيه من الإعراض عن الخطبة .//
+ فائدة : سنية قراءة سورة "السجدة" في صبح يوم الجمعة=(1/9)
روى الشيخان ، واللفظ للبخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر ( الم تنزيل ) السجدة و ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر ) ...
4 - أسباب سجود التلاوة
*** أسباب سجود التلاوة حسب المذاهب :
? عند الحنفية : أسباب سجود التلاوة ثلاثة أمور : الأول: التلاوة ؛ فتجب على التالي، ولو لم يسمع نفسه، كأن كان أصم ، لا فرق بين أن يكون خارج الصلاة أو فيها، إماماً كان أو منفرداً، أما المأموم فلا تجب عليه بتلاوته، لأنه ممنوع من القراءة خلف إمامه فلا تعتبر تلاوته موجباً لها، وإذا تلا الخطيب يوم الجمعة أو العيدين آية سجدة وجبت عليه وعلى من سمعه، فينزل من فوق المنبر ثم يسجد ويسجد الناس معه، ولكن يكره له أن يأتي بآية السجدة وهو على المنبر؛ أما الإتيان بها وهو في الصلاة، فإنه لا يكره إذا أدى السجدة ضمن الركوع أو السجود؛ بخلاف ما إذا أتى بها وحدها، فإنه يكره لما فيه من التهويش على المصلين ، الثاني: سماع آية سجدة من غيره، والسامع إما أن يكون في الصلاة أو لا، وكذا المسموع منه، فإن كان السامع في الصلاة، وكان منفرداً أو إماماً، فإنه يجب في الصلاة أو لا، وكذا المسموع منه، فإن كان السامع في الصلاة، وكان منفرداً أو إماماً، فإنه يجب عليه فعلها خارج الصلاة، إلا إذا سمعها من مأموم على الصحيح، فإنه لا تجب عليه السجدة، أما إذا كان السامع مأموماً، فإن سمعها من غير إمامه فحكمه كذلك، وإن سمعها من إمامه، فإن كان مدركاً للصلاة وجبت عليه متابعته في سجوده، وإن كان مسبوقاً فإن أدرك الإمام قبل سجوده للتلاوة تابعه أيضاً، وإن أدركه بعد سجود التلاوة في الركعة التي تلا فيها الآية لم يسجد أصلاً، وإن أدركه في الركعة التي بعدها سجد بعد الصلاة ؛ الثالث: الاقتداء، فلو تلاها الإمام وجبت على المقتدي وإن لم يسمعها.(1/10)
? عند الحنابلة : لها سببان: التلاوة، والاستماع بالشروط المتقدمة، وبشرط أن لا يطول الفصل عرفاً بينها وبين سببها، فإن كان القارئ أو السامع محدثاً ولا يقدر على استعمال الماء تيمم وسجد، أما إذا كان قادراً على استعمال الماء فإن السجود يسقط عنه، لأنه لو توضأ يطول الفصل هذا، ولا يسجد المقتدي للتلاوة إلا متابعة لإمامه...
?عند المالكية : سببها التلاوة والسماع بشرط أن يقصده ، كما تقدم بيانه في شروطها.
? عند الشافعية : سببها التلاوة والسماع بالشروط المتقدمة .
5 - صفة سجود التلاوة ، أو تعريفها وركنها
* في صفة سجود التلاوة أو تعريفها وركنها تفصيل في المذاهب
? عند الحنفية : صفة سجود التلاوة أو تعريفه هو أن يسجد الإنسان سجدة واحدة بين تكبيرتين: إحداهما: عند وضع بجهته على الأرض للسجود، وثانيتهما: عند رفع جبهته، ولا يقرأ التشهد ولا يسلم، والتكبيرتان المذكورتان مسنونتان، فلو وضع جبهته على الأرض دون تكبير صحت السجدة مع الكراهة، فلسجود السهو ركن واحد عندهم، وهو وضع الجبهة على الأرض، أو ما يقوم مقامه من الركوع أو السجود، أو من الإيماء للمريض: أو للمسافر الذي يصلي على الدابة في السفر، لأن سجدة التلاوة تؤدي عند الحنفية ضمن الركوع أو السجود أو الإيماء، ويقول في سجوده : سبحان ربي الأعلى، ثلاثاً، أو يقول ما يشاء مما ورد، نحو اللّهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ، ويستحب لمن تلاها جالساً أن يقف ويخر لها ساجداً، ومن كرر آية سجدة في مجلس واحد سجد كذلك سجوداً واحداً، فإن اختلف المجلس فإنه يكرر السجود.//(1/11)
+ فائدة : روى الترمذي ، والبيهقي ، والحاكم ، وابن حبان ، والطبراني ، وابن خزيمة واللفظ له = عن ابن عباس ، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « يا رسول الله ، إني رأيت في هذه الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة ، فرأيت كأني قرأت سجدة فسجدت ، فرأيت الشجرة كأنها تسجد بسجودي ، فسمعتها وهي ساجدة ، وهي تقول : اللهم اكتب لي عندك بها أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وضع عني بها وزرا ، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود قال ابن عباس : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة ، ثم سجد ، فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن كلام الشجرة »
+ فائدة : في سجود القرآن وما يقرأ فيه : حدثنا أبو بكر قال نا هشيم قال أخبرنا خالد عن أبي العالية عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته )... / رواه ابن أبي شيبة ،وأحمد،والحاكم ، والترمذي ،والنسائي،والطبراني،والدلرقطني... وأبو داود ، ولفظه : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ ، يَقُولُ فِي السَّجْدَةِ مِرَارًا : ( سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ ) ...
? عند الحنابلة : تعريف سجدة التلاوة هو أن يسجد بدون تكبيرة إحرام، بل بتكبيرتين: إحداهما عند وضع جبهته على الأرض، والثانية. عند رفعها، ولا يتشهد، إلا أنه يندب له الجلوس إذا لم يكن في الصلاة ليسلم جالساً على أنهم قالوا: إن التكبيرتين ليستا من أركان السجدة بل هما واجبتان ؛ فأركان السجدة عندهم ثلاثة : السجود، والرفع منه ، والتسليمة الأولى ، أما التسليمة الثانية فليست بركن ولا واجب، ويندب أن يدعو في سجوده بالدعاء المتقدم ذكره عند الحنفية.(1/12)
? عند المالكية : تعريف سجود التلاوة هو أن يسجد سجدة واحدة بلا تكبيرة إحرام وبلا سلام "بل يكبر للهوي وللرفع استناناً. وإذا كان قائماً يهوي لها من قيام، سواء كان في صلاة أو غيرها، ولا يطلب منه الجلوس، بل يسجد كما يسجد القائم من ركوع الصلاة المعتادة، لا فرق بين أن يكون في صلاة أو غيرها، وإذا كان راكباً على دابة أو غيرها نزل وسجد على الأرض، إلا إذا كان مسافراً أو كان مقيماً وتوفرت فيه شروط صلاة النفل على الدابة المتقدم ذكرها، ويسجد عليها بالإيماء ... هذا، ويندب أن يدعو في سجوده بالدعاء المتقدم ذكره عند الحنفية.
?عند الشافعية : سجدة التلاوة ، إما أن يفعلها المتلبس بالصلاة أو غيره ، فتعريفها بالنسبة لغير المصلي هو أن ينوي بلسانه ، ثم يكبر تكبيرة الإحرام ، ثم يسجد سجدة واحدة كسجدات الصلاة ، ثم يجلس بعد السجدة ثم يسلم ، وبهذا تعلم أن أركان سجدة التلاوة لمن لم يكن في الصلاة خمسة، أما إذا كان في الصلاة وقرأ آية فيها سجدة فإنه يسجد، وتتحقق السجدة بأمرين؛ أحدهما: النية ولا بد أن تكون بالقلب، بحيث لو تلفظ بها بطلت صلاته، ثانيتهما: أن يسجد سجدة واحدة كسجدات الصلاة ؛ وإذا كان مأموماً فلا تطلب منه النية بل تكفيه نية إمامه، ويشترط لغير المصلي أن يقارن بين النية وتكبيرة الإحرام ، ويسن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، ويسن التكبير للهوّي للسجود والرفع منه ، والدعاء فيه ، والتسليمة الثانية ، ويسن أن يدعو بالدعاء المتقدم ذكره عند الحنفية.
هذا، ويقوم مقام سجود التلاوة ما يقوم مقام تحية المسجد، فمن لم يرد فعل سجدة التلاوة قرأ: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، أربع مرات، فإن ذلك يجزئه عن سجدة التلاوة، ولو كان متطهراً.
6 – مفسدات سجود التلاوة ...
((1/13)
يبطل سجدة التلاوة كل ما يبطل الصلاة من الحدث ، والعمل الكثير ، والكلام ، والقهقهة ، وعليه إعادتها إلا عند الحنفية ( لا وضوء عليه في القهقهة ) ... ولا يفسدها محاذاة الرجل المرأة فيها ولو نوى إمامتها لانعدام الشركة إذ هي مبنية على ولا تحريمة لهذه السجدة عنهم .... وبناء عليه ، يشترط بالإتفاق الطف عن مفسدات الصلاة كالأكل ، ودخول وقت السجود بأن يكون قد قرأ الآية أو سمعها ...
7 - المواضع التي تطلب فيها سجدة التلاوة ...
( عدد السجدات عند المالكية إحدى عشرة ( 11) منها عشر ( 10) بالإجماع ...وهي : ( الأعراف 206 )+
(الرعد 15 )+(النحل 50 )+(الإسراء 109 )+(مريم 58 )+(الحج 18 )+(الفرقان 60 )+( النمل 26 )+ (السجدة 15 )+ (فصلت 37 ) .... + (صـ 24 ) .
( واتفق الحنفية مع المالكية على سجدة (صـ 24 ) ،وعددها عندهم- أي الحنفية – أربع عشرة (14)، بزيادة ثلاث أخر ، وهي : ( النجم 62 )+ ( الإنشقاق 21 )+ ( العلق 19 ) ... أما السجدة الثانية في سورة الحج فإنها للأمر بالصلاة بدليل اقترانها بالركوع ، والأحاديث الواردة بتفضيل سورة الحج بسجدتين فيها راويان ضعيفان ...
(وقال الشافعية والحنابلة : السجدات أربع عشرة (14) ،منها سجدتان في سورة الحج : (الحج 18 )+(الحج 77)...أما سجدة (صـ 24 ) فهي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة ، وتحرم في الصلاة على الأصح وتبطلها ، لما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( ص ) ليس من عزائم السجود ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها // كتاب الجمعة ، باب سجدة ( صـ ) + كتاب أحاديث الأنبياء ، باب { واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ... } / وأخرجه الترمذي ،وأبو داود، وأحمد .... /
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم : سجدها داود توبة ونسجدها شكرا // رواه النسائي، والطبراني ، وابن خزيمة، والدارقطني ، والبيهقي في الشعب ، من حديث ابن عباس.(1/14)
ويؤيد هذا الرأي حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان // رواه أبو داود = وقال الألباني : ضعيف = / وأخرجه ابن ماجه ، والبيهقي في الكبرى ، والدارقطني .../
- فدل على أن السجدات خمس عشرة ، منها سجدتان في سورة الحج ، وسجدة في سورة (صـ ) ...
( وحجة المالكية على نفي سجدات المفصل ( النجم + افنشقاق + العلق ) حديث ابن عباس :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة . // رواه أبو داود = قال الألباني : ضعيف =
(واستدل الجمهور ( غير المالكية ) على إثبات سجدات المفصل بحديث أبي هريرة :سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ((إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)) و ( اقرأ باسم ربك ) // رواه الجماعة إلا البخاري / علما بأن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة ...
+ فائدة : قال ابن خزيمة – في صحيحه : ( بتصرف يسير )(1/15)
- باب ذكر الدليل على ضد قول من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل بعد هجرته إلى المدينة = ...عن نعيم بن عبد الله المجمر ، أنه قال : صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد ، فقرأ : ((إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ) فسجد فيها ، وقال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها » .... وأبو هريرة إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم بعد الهجرة بسنين ، قال في خبر عراك بن مالك ، عن أبي هريرة : قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر قد استخلف على المدينة سباع بن عرفطة ؛ وقال قيس بن أبي حازم : سمعت أبا هريرة يقول : صحبت النبي ثلاث سنوات ، وقد أعلم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ( إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)) و ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) ، وقد أعلمت ، في غير موضع من كتبنا ، أن المخبر والشاهد الذي يجب قبول شهادته وخبره من يخبر بكون الشيء ، ويشهد على رؤية الشيء وسماعه ، لا من ينفي كون الشيء وينكره ؛ ومن قال : لم يفعل فلان كذا ليس بمخبر ولا شاهد ، وإنما الشاهد من يشهد ويقول : رأيت فلانا يفعل كذا ، وسمعته يقول كذا ، وهذا لا يخفى على من يفهم العلم والفقه ... . وتوهم بعض من لم يتبحر العلم أن خبر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة حجة من زعم أن لا سجود في المفصل ، وهذا من الجنس الذي أعلمت أن الشاهد من يشهد برؤية الشيء أو سماعه لا من ينكره ويدفعه ، وأبو هريرة قد أعلم أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد سجد في( (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ)) ، و((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) بعد تحوله إلى المدينة إذ كانت صحبته إياه إنما كان بعد تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لا قبل....
8 - تُطلب سجدة التلاوة في خمسة عشر موضعاً ، وهي :(1/16)
1 *( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ( الأعراف 206 )
2 *( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (الرعد 15 )
3 *( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل :49 - 50 )
4 *( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) (الإسراء 109 )
5 *( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) (مريم 58 )
6 *( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) (الحج 18 )
7 *( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج 77)
8 * ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورا ً) (الفرقان 60 )(1/17)
9 * ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 25 ) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل 25 - 26 )
10 *(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة 15 )
11 * ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) (صـ 24 )
+ قال المالكية :إن السجود عند قوله تعالى: ( وأناب ) وقال الحنفية: الأولى أن يسجد عند قوله تعالى: ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) (صـ 25 ) .
12 * ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (فصلت 37 )
+ قال الحنفية : إن السجود في آية سورة فصلت عند قوله تعالى: ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) (فصلت 38 ))
13 *( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ( النجم 59- 62 )(1/18)
14 *( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ( الإنشقاق 20 - 21 )...
15 * ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ( العلق 19 )
9- العزائم ....
(قال ابن حجر في فتح الباري :
بَاب سَجْدَةِ (ص ) - قَوْله : بَاب سَجْدَة ( ص ) ... أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث اِبْن عَبَّاس : ( ( ص) ، لَيْسَ مِنْ عَزَائِم السُّجُود ) يَعْنِي السُّجُود فِي ( ص ) ...( وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا ) ... وَالْمُرَاد بِالْعَزَائِمِ مَا وَرَدَتْ الْعَزِيمَة عَلَى فِعْله كَصِيغَةِ الْأَمْر مَثَلًا بِنَاء عَلَى أَنَّ بَعْض الْمَنْدُوبَات آكَد مِنْ بَعْض عِنْد مَنْ لَا يَقُول بِالْوُجُوبِ ، وَقَدْ رَوَى اِبْن الْمُنْذِر وَغَيْره عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب بِإِسْنَادٍ حَسَن : أَنَّ الْعَزَائِم حم ،وَالنَّجْم ، وَاقْرَأْ ، و الم تَنْزِيل . وَكَذَا ثَبَتَ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الثَّلَاثَة الْأُخَر ، وَقِيلَ : الْأَعْرَاف ، وَسُبْحَان ، وحم ، والم ... أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة . //(1/19)
وقَوْله : ( وَقَدْ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُد فِيهَا ) ...وَقَعَ فِي تَفْسِير ( ص ) عِنْد الْمُصَنِّف مِنْ طَرِيق مُجَاهِد قَالَ " سَأَلْت اِبْن عَبَّاس مِنْ أَيْنَ سَجَدْت فِي ( ص ) ؟ " وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْه " مِنْ أَيْنَ أَخَذْت سَجْدَة ص " ثُمَّ اِتَّفَقَا فَقَالَ (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام : 84 - 90 ) ... فَفِي هَذَا أَنَّهُ اِسْتَنْبَطَ مَشْرُوعِيَّة السُّجُود فِيهَا مِنْ الْآيَة ، وَفِي الْأَوَّل أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون اِسْتَفَادَهُ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ .(1/20)
وَقَدْ وَقَعَ فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء مِنْ طَرِيق مُجَاهِد فِي آخِره " فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : نَبِيّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ " فَاسْتُنْبِطَ وَجْه سُجُود النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا مِنْ الْآيَة ، وَسَبَب ذَلِكَ كَوْن السَّجْدَة الَّتِي فِي ( ص ) إِنَّمَا وَرَدَتْ بِلَفْظِ الرُّكُوع فَلَوْلَا التَّوْقِيف مَا ظَهَرَ أَنَّ فِيهَا سَجْدَة . وَفِي النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس مَرْفُوعًا " سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَة ، وَنَحْنُ نَسْجُدهَا شُكْرًا " فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيّ بِقَوْلِهِ " شُكْرًا " عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْجُد فِيهَا فِي الصَّلَاة لِأَنَّ سُجُود الشَّاكِر لَا يُشْرَع دَاخِل الصَّلَاة . وَلِأَبِي دَاوُدَ وَابْن خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد " أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر ( ص ) ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَة نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاس مَعَهُ ، ثُمَّ قَرَأَهَا فِي يَوْم آخَر فَتَهَيَّأَ النَّاس لِلسُّجُودِ فَقَالَ : " إِنَّمَا هِيَ تَوْبَة نَبِيّ ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَهَيَّأْتُمْ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ " فَهَذَا السِّيَاق يُشْعِر بِأَنَّ السُّجُود فِيهَا لَمْ يُؤَكَّد كَمَا أُكِّدَ فِي غَيْرهَا ، وَاسْتَدَلَّ بَعْض الْحَنَفِيَّة مِنْ مَشْرُوعِيَّة السُّجُود عِنْد قَوْله : ( وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) (صـ : 24 ) بِأَنَّ الرُّكُوع عِنْدهَا يَنُوب عَنْ السُّجُود ، فَإِنْ شَاءَ الْمُصَلِّي رَكَعَ بِهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ ، ثُمَّ طَرَدَهُ فِي جَمِيع سَجَدَات التِّلَاوَة ، وَبِهِ قَالَ اِبْن مَسْعُود .(1/21)
*** قلت : حديث علي رواه عبد الرزاق في مصنفه ، ... عن زر بن حبيش عن علي قال : العزائم أربع : الم تنزيل ، وحم السجدة ، والنجم ، و ( اقرأ باسم ربك الاعلى الذي خلق ) ...// وأخرجه ابن أبي شيبة ... عن ابن عباس عن علي... وروى في مصنفه :
- عن عبيد بن عمير أنه قال : عزائم السجود : الم تنزيل، وحم تنزيل ...
- وعن سعيد بن جبير قال : عزائم السجود : آلم تنزيل ، والنجم ، و (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
- وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يسجد في الاعراف، وبني إسرائيل ،والنجم و (اقرأ باسم ربك الذي خلق) و (إذا السماء انشقت).
- وعن أبي تميمة الهجيمي أن أشياخا من بني هجيم بعثوا راكبا لهم إلى المدينة وإلى مكة يسأل لهم عن سجود القرآن فرجع إليهم فأخبرهم أنهم أجمعوا على عشر سجدات....
-و عن ابن سيرين قال ذكروا سجود القرآن عند عائشة فقالت: هو فريضة أديتها ، أو تطوع تطوعته ... ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفع الله بها درجته وحط عنه خطيئته ...
10 – هل تتكرر السجدة بتكرر التلاوة ؟
- تتكرر السجدة بتكرر التلاوة عند الجمهور ، ولا تتكرر عند الحنفية إن كانت التلاوة لآية في مجلس واحد .
** قال الحنفية :
- من كرر تلاوة آية سجدة في مجلس واحد ، أجزأته سجدة واحدة...وفعلها بعد الأولى أوْلى ، وقيل : التأخير أحوط ، أي أنه يشترط اتحاد الآية والمجلس ...
- أما إن كرر آية السجدة في عدة أماكن ، أي اختلف المجلس ، فيجب تكرار السجود ... فإن قرأ عدة آيات فيها سجدات مختلفة ، فيجب لكل آية سجدة سواء اتحد المجلس أم اختلف ...(1/22)
- ويتبدل المجلس بالإنتقال منهبثلاث خطوات في الصحراء والطريق ، وبالإنتقال من غصن شجرة إلى غصن ، وبسباحة في نهر أو حوض كبير في الأصح ، ولا يتبدل بزوايا البيت الصغير، والمسجد وإن كان كبيرا ، ولا بسير سفينة أو سيارة ، ولا بركعة أو ركعتين ، وشربة وأكل لقمتين ، ومشي خطوتين ، ولا باتكاء وقعود وقبام وركوب ونزول في محل تلاوته، ولا بسير دابته مصليا...
- ويتكرر الوجوب على السامع بتبديل مجلسه ،وإن اتحد مجلس القاريء ،فلو كررخا راكب يصلي ، وغلامه يمشي ، تكرر على الغلام لا الراكب...ولا تتكرر على السامعفي عكسه وهو تبدل مجلس القاريء دون السامع ...
- ومن تلا آية سجدة فلم يسجد لهاحتى دخل في الصلاة، فتلاها ،وسجد لها ،أجزأته السجدة عن التلاوتين ....
- وإن تلاها في غير الصلاة فسجد لها ثم دخل في الصلاة فتلاها سجد لها ، ولم تجزه السجدة الأولى...
- وإذا تلا آية سجدة في الصلاة ثم أعادهابعد سلامه يسجد سجدة أخرى...
- ولا تقضى السجدة التي تتلى في الصلاة خارجها لأن لها مزية فلا تتأدى بناقص، وعليه التوبة ...
** وقال المالكية :
- إذا كرر المعلم أو المتعلم آية السجدة فيسن السجود لكل منهما عند قراءتها أول مرة فقط دفعا للمشقة
- ويسجد إن تجاوز آية السجدة يسيرا كآية أو آيتين ، فإن كان التجاوز كثيرا أعاد آية السجدة وسجد ولو كلن في صلاة فرض ، ولكن لا يسجد في الفرض إذا لم ينحن للركوع ...
** وقال الشافعية :
- لو كرر آية في مجلسين، أو في مجلس في الأصح ،سجد لكل من المرتين عقبها ، والركعة كمجلس واحد ، والركعتان كمجلسين ، فإن لم يسجد وطال الفصل عرفا ولو بعذر ، لم يسجد أداء لأنه من توابع القراءة .
** وقال الحنابلة :
- إذا كرر تلاوة الآية أو استماعها يسن له تكرار السجود بمقدار ذلك ، لتعدد السبب .
11 – أحكام فرعية
** قال الحنفية :(1/23)
- يكره تحريما ترك آية سجدة ، وقراءة باقي السورة ، لأن فيه قطع نظم القرآن وتغيير تأليفه الإلهي ، واتباع النظم والتأليف مأمور به ...
- ولا يكره عكسه وهو قراءة آية السجدة من بين السور، ولكن يندب ضم آية أو آيتين إليها قبلها أو بعدها ،لدفع وهْم التفضيل ، إذ الكل من حيث إنه كلام الله في رتبة واحدة ، وإن كان لبعضها زيادة فضيلة باشتماله على صفاته تعالى ....
- يستحسن إخفاء آية السجدة عن سامع غير متهيء للسجود ، والراجح وجوب السجود على متشاغل بعمل وقد سمع آية السجدة ، زجرا له عن تشاغله عن كلام الله ....
- ويكره للإمام أن يقرأ آية سجدة في صلاة سرية لئلا يشتبه على المقتدين ، وفي نحو جمعة وعيد ، إلا أن تكون بحيث تؤدى بركوع الصلاة أو سجودها ، ولو تلا على المنبر آية سجدة سجد الإمام فوق المنبر مع الكراهة أو تحته وسجد السامعون ...
- لو سمع شخص آية السجدة من قوم ، من كل واحد منهم حرفا ، لم يسجد لأنه لم يسمعها من تال ،لأن اتحاد التالي شرط ....
- يندب القيام ثم السجود لآية السجدة ،ويندب ألا يرفع السامع رأسه من السجود قبل رفع رأس التالي لآية السجدة ، ولا يؤمر التالي بالتقدم ، ولا السامعون بالإصطفاف ، وإنما يسجدون كيف كانوا ...
- قيل : من قرأ آي السجدة كلها في مجلس ، وسجد لكل منها ، كفاه الله ما أهمه ، وظاهره أنه يقرؤها ولاء ثم يسجد ، ويحتمل أن يسجد لكل آية ، وهو غير مكروه ...
** وقال المالكية :
- يكره الإقتصار على تلاوة الآية للسجود ، كما قال الحنفية ، كأن يقرأ : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة : 15 ) ، وعلى القول بالكراهة : لو قرأها لا يسجد ....(1/24)
- يكره لمصل تعمد السجدة ،بأن يقرأ ما فيه آيتها ، بفريضة ولو بصبح جمعة على المشهور، لا في نفل ، فلا يكره ؛ فإن قرأها بفرض عمدا أو سهوا سجد لها ، ولو بوقت نهي ، أما إن قرأها في خطبة جمعة أو غيرها فلا يسجد لها ، لاختلاف نظمها ....
- يندب لإمام الصلاة السرية كالظهر الجهر بآية السجدة ، ليسمع المأمومون فيتبعونه في سجوده ؛ فإن لم يجهر بها ، بل قرأها سرا وسجد ، اتبعه المقتدون لأن الأصل عدم السهو ، فإن لم يتبعوه صحت صلاتهم ، لأن اتباعه واجب غير شرط ، لأن السجدة ليست من من الأفعال المقتدى به فيها أصالة ،وترك الواجب الذي ليس بشرط لا يوجب البطلان ....
- من تجاوز السجدة في القراءة بآية أو آيتين ، يسجد ، بلا إعادة القراءة لمحل السجدة ، وإن تجاوز بكثير يعيدها ،أي يعيد القراءة لآية السجدة ، سواء في الصلاة ولو بفرض أم في غيرها ، ويسجد لها ما لم ينحن بقضد الركوع في نفل أو فرض ،فإن ركع بالانحناء فات تداركها ،ويندب إعادة القراءة بالنفل لا في الفرض في الركعة الثانية، إذا لم تكن قراءتها في الثانية ، والظاهر إعادتها قبل الفاتحة لتقدم سببها ....
- يندب لساجد السجدة في الصلاة قراءة شيء من القرآن قبل الركوع ولو من سورة أخرى ، ليقع ركوعه غقب قراءة ...
- ولو قصد أداء السجدة بعد قراءة محلها ، وانخفض بنيتها فركع ساهيا صح ركوعه عند الإمام مالك بناء على أن الحركة للركن لا تشترط ، ثم يسجد للسهو لهذه الزيادة بعد السلام إن اطمأن بركوعه ، فإن لم يطمئن سجدها ، ولا سجود سهو عليه ...
** وقال الحنابلة :
- لا يسجد المرء سجدة التلاوة في الأوقات المنهي عنها التي لا يجوز فيها التطوع بالصلاة ، خلافا للشافعية ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس ...وهذا مروي عن ابن عمر ، وعن أبي بكر وعمر وعثمان .(1/25)
- إن قرأ السجدة في الصلاة في آخر السورة ، فإن شاء ركع ، وإن شاء سجد ، ثم قام فركع ، قال ابن مسعود : إن شئت ركعت ، وإن شئت سجدت ...
- إن كان القاريء على الراحلة في السفر ، جاز أن يوميء بالسجود حيث كان اتجاهه، كصلاة النافلة ... وهذا متفق عليه بين المذاهب ، لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة فسجد ، فسجد الناسكلهم ، منهم الراكب ، والساجد في الأرض ،، حتى إن الساجد ليسجد على يده ...
- يكره اختصار السجود ، وهو أن ينتزع الآيات التي فيها السجود فيقرؤها ويسجد فيها ،لأنه ليس بمروي عن السلف فعله ،بل كراهته ؛وقد تقدم جوازه عند الحنفية ...
- يكره للإمام السجدة في صلاة سرية ،وإن قرأ لم يسجد ، لأن فيها إبهاما على المأموم ... وهذا متفق مع رأي الحنفية، ولم يكرهه الشافعي ، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الظهر، ثم قام فركع ،فرأى أصحابه أنه قرأ سورة السجدة ،وذكر المالكية أن الإمام يجهر بالسجدة حينئذ كما أسلفنا...
فصل
ـ قَال شيخ الإِسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى ـ
سجود القرآن نوعان : خبر عن أهل السجود ، ومدح لهم ... أو أمر به ، وذم على تركه .
1 - سجدة الأعراف : ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ( الأعراف 206 ) ، وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر .// ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف : 204 -205 )
2 - وفي الرعد : ( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) )( الرعد 15 ) ،(1/26)
3 - وفي النحل : ( أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل : 48ـ 50 ) ،
4 - وفي سبحان : ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) ( الإسراء : 107ـ 109 )، وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد .
5 - وكذلك في مريم : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ( مريم : 58 )، فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن، وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلي عليهم القرآن يسجدون .
وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة في قوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف : 120 ) وقوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ) (طه : 70 )... وكقوله : ( وَادْخُلُواْ الْباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ ) ( البقرة 58 ) ، وإن كان المراد به الركوع . .. فالسجود هو خضوع له وذل له ؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع . كما قال الشاعر :
ترى الأُكُم فيها سجداً للحوافر ...
قال جماعة من أهل اللغة : السجود التواضع والخضوع وأنشدوا :
ساجد المنخر ما يرفعه خاشع الطرف أصم المسمع(1/27)
قيل لسهل بن عبد الله : أيسجد القلب ؟ قال : نعم ، سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً .
6 - وفي سورة الحج : الأولى خبر : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) (الحج : 18) ،
7 - وفي سورة الحج ، الثانية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج : 77 ) أمر مقرون بالركوع ؛ ولهذا صار فيها نزاع ... .
8 - وسجدة الفرقان : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) (الفرقان : 60 ) ، خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد، ليس هو مدحاً .
9 - وكذلك سجدة النمل : ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل : 24 ـ 26 ) ، خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله، ولم يسجد للَّه . ومن قرأ ( ألا يا اسجدوا ) ، كانت أمرا ً . // قال ابن كثير : وقرأ بعض القراء: "ألا يا اسجدوا لله" جعلها "ألا" الاستفتاحية، و"يا" للنداء، وحذف المنادى، تقديره عنده: "ألا يا قوم، اسجدوا لله "./(1/28)
10 - وفي ( ألم تنزيل ) ، السجدة : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة : 15 ) ، وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفي الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها .
11 - وفي ( ص ) : خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعاً ... ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) (صـ 24 )
12 - و ( حم تنزيل) أمر صريح : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) ( فصلت : 37،38 ) ،
13 - والنجم ، أمر صريح : ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ( النجم : 62 ) ،
14 - والانشقاق ، أمر صريح عند سماع القرآن : ( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ( الانشقاق : 20،21 ) ،
15 -و العلق ، أمر مطلق : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ( العلق : 91 ) .
* فالستة الأوّل إلى الأولى من الحج ، خبر ومدح . ...والتسْع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد، إلا ( ص ) ..(1/29)
- فنقول : قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة . قيل : يجب . وقيل : لا يجب . وقيل : يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة ، وهو رواية عن أحمد ، والذي يتبين لي أنه واجب : فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب؛ لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال : إنه محمول على الصلاة، كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة : 15) ، فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجداً إذا ذكِّر بها، وإذا كان سامعاً لها، فقد ذُكّر بها . ...
- وكذلك سورة الانشقاق : ( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ( الانشقاق : 20،21 ) ، وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) ( المدثر : 49 ) ، وقوله : ( وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ) ( الحديد : 8 )، وقوله :(فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) [ النساء : 78 ] ،...
- وكذلك سورة النجم ، قوله : ( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ( النجم : 59 ـ 62 ) ، أمرٌ بالغ عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود ، لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة، فمن ظن هذا أو هذا، فقد غلط، بل هو متناول لهما جميعاً، كما بينه الرسول صلى الله عيله وسلم ...(1/30)
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه . فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة، سواء تليت مع سائر القرآن ، أو وحدها، ليس هو سجوداً عند تلاوة مطلق القرآن، فهو سجود عند جنس القرآن . وعند خصوص الأمر بالسجود، فالأمر يتناوله . وهو ـ أيضاً ـ متناول لسجود القرآن ـ أيضاً ـ وهو أبلغ؛فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ قال : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة : 15 ) ، فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجداً، وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر . .. ومعلوم أن قوله : ( بِآيَاتِنَا ) ليس يعني بها آيات السجود فقط، بل جميع القرآن . فلابد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجداً، وهذا حال المصلي، فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام، والإمام يذكر بقراءة نفسه، فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجداً، وهو سجودهم في الصلاة، وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود، والسجود مثني كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران : خرور من قيام ـ وهو السجدة الأولى . وخرور من قعود، وهو السجدة الثانية . وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل، والطمأنينة فيها، كما مضت به السنة ؛ فإن الخرور ساجداً لا يكون إلا من قعود أو قيام . وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف، أو كان إلى القعود أقرب، لم يكن هذا خروراً .(1/31)
ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض، كيف ما كان . وليس كذلك، بل هو مأمور به كما قال : ( إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا ) ( السجدة : 15 ) ، ولم يقل : سجدوا . فالخرور مأمور به، كما ذكره في هذه الآية، ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة . يدل على ذلك قوله تعالى : ( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) ( الإسراء : 107ـ 109 ) ، فمدح هؤلاء، وأثني عليهم بخرورهم للأذقان، أي على الأذقان سجداً . والثاني بخرورهم للأذقان : أي عليها يبكون . ..فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة، يحبها الله . وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض، كما تلصق الجبهة، والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع، والسجود منتهاه . فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه، لكنه يخر على ذقنه، والذقن آخر حد الوجه، وهو أسفل شيء منه، وأقربه إلى الأرض . فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعاً للَّه . ومن حينئذ، قد شرع في السجود . فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود، فالخرور على الذقن أول السجود، وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود، وقد روي عن ابن عباس : ( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ ) أي : للوجوه .... قال الزجاج : الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه، والذقن مجتمع اللحيين، وهو غضروف أعضاء الوجه . فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن .(1/32)
وقال ابن الأنباري : أول ما يلقي الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال : ( لِلأَذْقَانِ ) ، ويجوز أن يكون المعني يخرون للوجوه، فاكتفي بالذقن من الوجه . كما يكتفي بالبعض من الكل . وبالنوع من الجنس .
قلت : والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن ، فليس الذقن من أعضاء السجود، بل أعضاء السجود سبعة . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء : الجبهة - وأشار بيده إلى الأنف –واليدين ، والركبتين ، والقدمين ) ، ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته ، والجمع بينهما متعذر، أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ، يمنع إلصاقهما معاً بالأرض في حال واحدة، فالساجد يخر على ذقنه، ويسجد على جبهته . فهذا خرور السجود . ثم قال : ( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ) ( الإسراء : 109 ) ، فهذا خرور البكاء، قد يكون معه سجود، وقد لا يكون . ..فالأول كقوله : ( إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ( مريم : 58 ) ، فهذا خرور وسجود وبكاء ....والثاني : كقوله : ( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ) ، فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره ، وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة ـ أيضاً ـ لما فيه من الخرور للَّه، والبكاء له . وكلاهما عبادة للَّه، فإن بكاء الباكي للَّه، كالذي يبكي من خشية الله، من أفضل العبادات.. .(1/33)
وقد روي : ( عينان لا تمسهما النار : عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله ) // رواه البيهقي ، وأبو نعيم =وقال الألباني : ضعيف / ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين ) ...فذكر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة، إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها، وقد صنف مصنف في نعتهم سماه : " اللمعة في أوصاف السبعة " . فالإمام العادل كمل ما يجب من الإمارة، والشاب الناشئ في عبادة الله كمل ما يجب من عبادة الله، والذي قلبه معلق بالمساجد كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس ؛ لقوله : ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ ) ( التوبة : 18 ) ، والعفيف كمل الخوف من الله ، والمتصدق كمل الصدقة ، والباكي كمل الإخلاص .(1/34)
- وأما قوله عن داود ـ عليه السلام : ( وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ) ( ص : 24 ) ، لا ريب أنه سجد . كما ثبت بالسنة، وإجماع المسلمين أنه سجد لله ، والله ـ سبحانه ـ مدحه بكونه خر راكعاً، وهذا أول السجود، وهو خروره . فذكر ـ سبحانه ـ أول فعله وهو خروره راكعاً، ليبين أن هذا عبادة مقصودة، وإن كان هذا الخرور كان ليسجد . كما أثني على النبيين بأنهم كانوا : ( إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ( مريم : 58 ) ، ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ) أنهم : ( إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ) ، ( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ) ( الإسراء : 107ـ 109 ) ، وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر . فإن المتكبر يكره أن يخر، ويحب ألا يزال منتصباً مرتفعاً، إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع، وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب، وغير العرب . فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله، لئلا يخر وينحني.. . فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس، وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله . وهو قد خلق رفيعا منتصبا، فإذا خفضه، لاسيما بالسجود، كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا للَّه، فمن سجد لغيره، فهو مشرك، ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته، وكلاهما كافر من أهل النار .(1/35)
قال تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) ( غافر : 60 )، وقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) ( فصلت : 37 ) ، وقال في قصة بلقيس : ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل : 24،26 ) . والشمس أعظم ما يري في عالم الشهادة وأعمه نفعا، وتأثيراً . فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب، والأشجار، وغير ذلك .... وقوله : ( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) ، دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق، وإن عظم قدره، بل لمن خلقه . وهذا لمن يقصد عبادته وحده .(1/36)
كما قال : ( إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) ، لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات ، قال تعالى : ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) ( فصلت : 38 ) ، فإنه قد علم ـ سبحانه ـ أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال : الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم ، بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة، بخلاف الآدميين، فوصفهم هنا بالتسبيح له، ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ( الأعراف : 206 ) . وهم يُصَفُّون له صفوفاً كما قالوا : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) ( الصافات : 165،166 ) ... وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ألا تَصُفون كما تَصْف الملائكة عند ربها ؟ قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يسدون الأول فالأول، ويتراصون في الصف .(1/37)
*** فآياته ـ سبحانه ـ توجب شيئين : أحدهما : فهمها وتدبرها، ليعلم ما تضمنته . ..والثاني : عبادته، والخضوع له إذا سمعت، فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا، فلو سمعها السامع ولم يفهمها، كان مذموما . ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموماً، بل لابد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها . كما أنه لابد لكل أحد من استماعها، فالمعرض عن استماعها كافر، والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر . والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر . وهو ـ سبحانه ـ يذم الكفار بهذا، وهذا ، كقوله : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) ( المدثر : 49،51 )،... وقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصلت : 26 ) ،... وقوله : ( كِتَابٌ فصلتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ) ( فصلت : 3،4 )، ونظائره كثيرة . ..وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها : ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ) ( الأنفال : 23 )، فذمهم على أنهم لا يفهمون، ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم . وقال تعالى : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ ) ( الأنفال : 21،23 ) ، وقال : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عليها صُمًّا وَعُمْيَانًا ) ( الفرقان : 73 ) ... .(1/38)
- قال ابن قتيبة : لم يتغافلوا عنها، فكأنهم صم لم يسمعوها عمي لم يروها .... وقال غيره من أهل اللغة : لم يبقوا على حالهم الأولى، كأنهم لم يسمعوا، ولم يروا، وإن لم يكونوا خروا حقيقة . ... تقول العرب : شتمت فلانا فقام يبكي، وقعد يندب، وأقبل يتعذر، وظل يفتخر، وإن لم يكن قام، ولا قعد ....(1/39)
- قلت : في ذكره ـ سبحانه ـ لفظ الخرور دون غيره، حكمة . فإنهم لو خروا وكانوا صما وعمياناً، لم يكن ذلك ممدوحا، بل معيبا . فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور ؟ فلابد من شيئين : من الخرور، والسجود . ولابد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدي والبيان، وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة، في القيام، ثم الركوع، والسجود ... فأول ما أنزل الله من القرآن : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ( العلق : 1 ) ، فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، فقال : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ( العلق : 19 ) ، فقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ( السجدة : 15 ) ، يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح، وأنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجداً، ويسبح بحمد ربه، فليس بمؤمن، وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود، وهي جمهور آيات القرآن، ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية، وأما آيات السجدة، فبضع عشرة آية ...وقوله : ( ذُكِّرُوا بِهَا )، يتناول جميع الآيات، فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود، وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود . وعلى هذا، تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة ـ تدل على وجوب جنس التسبيح ـ فمن لم يسبح في السجود، فقد عصي الله ورسوله، وإذا أتي بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه . ... وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال . قيل : لا يجب ذكر بحال، وقيل : يجب ويتعين قوله : سبحان ربي الأعلى ، لا يجزئ غيره . وقيل : يجب جنس التسبيح، وإن كان هذا النوع أفضل من غيره؛ لأنه أمر به أن يجعل في السجود... . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنواع أخر .(1/40)
وقوله : ( اجعلوها في سجودكم ) ، فيه كلام ليس هذا موضعه، إذ قد يقال المسبح لربه ، بأي اسم سبحه ، فقد سبح اسم ربه الأعلى . كما أنه بأي اسم دعاه فقد دعا ربه الذي له الأسماء الحسني . كما قال : ( قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي ) ( الإسراء : 110 ) ، وقال : ( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف : 180 ) . ..فإذا كان يدعي بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم دعاه، فقد دعا الذي له الأسماء الحسني، وهو يسبح بجميع أسمائه الحسني، وبأي اسم سبح فقد سبح الذي له الأسماء الحسني، ولكن قد يكون بعض الأسماء أفضل من بعض . وبسط هذا له موضع آخر . ...(1/41)
- والمقصود هنا أن الأمر بالسجود تابع لقراءة القرآن كله، كما في الآية . وفي قوله تعالى : ( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ( الانشقاق 20،21 ) ، فهذا يتناول جميع القرآن، وأنه من قرئ عليه القرآن فهو مأمور بالسجود، والمصلي قد قرئ عليه القرآن، وذلك سبب للأمر بالسجود، فلهذا يسمع القرآن ويسجد الإمام والمنفرد يسمع قراءة نفسه وهو يقرأ على نفسه القرآن .... وقد يقال : لا يصلون، لكن قوله : ( خَرُّوا سُجَّدًا ) ( السجدة : 15 ) ، صريح في السجود المعروف؛ لاقترانه بلفظ الخرور . وأما هذه الآية ففيها نزاع، قال أبو الفرج : ( وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ، فيه قولان : أحدهما : لا يصلون، قاله عطاء، وابن السائب . ..والثاني : لا يخضعون له، ولا يستكينون له، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى .... قال : واحتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك ؛ وإنما المعني لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه ؟ قلت : القول الأول هو الذي يذكره كثير من المفسرين، لا يذكرون غيره ـ كالثعلبي، والبغوي ـ وحكوه عن مقاتل، والكلبي وهو المنقول عن مفسري السلف، وعليه عامة العلماء . ..وأما القول الثاني : فما علمت أحداً نقله عن أحد من السلف . والذين قالوه إنما قالوه لما رأوا أنه لا يجب على كل من سمع شيئاً من القرآن أن يسجد، فأرادوا أن يفسروا الآية بمعني يجب في كل حال . فقالوا : يخضعون، ويستكينون . فإن هذا يؤمر به كل من قرئ عليه القرآن ...ولفظ السجود يراد به مطلق الخضوع، والاستكانة ...(1/42)
لكن يقال لهم : الخضوع مأمور به، وخضوع الإنسان وخشوعه، لا يتم إلا بالسجود المعروف، وهو فرض في الجملة على كل أحد، وهو المراد من السجود المضاف إلى بني آدم ، حيث ذكر في القرآن ، إذ هو خضوع الآدمي للرب،والرب لا يرضي من الناس بدون هذا الخضوع؛ إذ هو غاية خضوع العبد، ولكل مخلوق خضوع بحسبه، هو سجوده ... وأما إن يكون سجود الإنسان لا يراد به إلا خضوع ليس فيه سجود الوجه، فهذا لا يعرف، بل يقال : هم مأمورون : إذا قرئ عليهم القرآن بالسجود، وإن لم يكن السجود التام عقب استماع القرآن، فإنه لابد أن يكون بين صلاتين، فإذا قاموا إلى الصلاة، فقد أتوا بالسجود الواجب عليهم، وهم لما قرئ عليهم حصل لهم نوع من الخضوع والخشوع باعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال . فإذا اعتقدوا وجوب الصلاة وعزموا على الامتثال، فهذا مبدأ السجود المأمور به، ثم إذا صلوا، فهذا تمامه . كما قال في المشركين : ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ) ( التوبة : 5 ) ، فهم إذا تابوا والتزموا الصلاة كف عن قتالهم . فهذا مبدأ إقامتها، ثم إذا فعلوها فقد أتموا إقامتها . وأما إذا التزموها بالكلام ولم يفعلوا فإنهم يقاتلون ... ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سجد بها في الصلاة . ففي الصحيحين عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة . فقرأ : ( إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ) فسجد فقلت : ما هذه ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم، ولا أزال أسجد بها حتى ألقاه، وهذا الحديث قد اتفق العلماء على صحته ...(1/43)
- وأما سجوده فيها، فرواه مسلم دون البخاري . والسجود فيها قول جمهور العلماء كأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ... وهو قول ابن وهب، وغيره من أصحاب مالك ، فكيف يقال : إن لفظ السجود فيها لم يرد به إلا مطلق الخضوع والاستكانة، وأما السجود المعروف فلم يدل عليه اللفظ ؟ ولو كان هذا صحيحاً، لم يكن السجود الخاص مشروعا إذا تليت، لاسيما في الصلاة، وبهذا يظهر جواب من أجاب من احتج بها على وجوب سجود التلاوة، بأن المراد الخضوع .
- فإن قيل : فإذا فسر السجود بالصلاة، كما قاله الأكثرون، لم يجب سجود التلاوة . قيل : الصلاة مرادة من جنس قراءة القرآن ،كما تقدم.. . وهذه الآية توجب على من قرئ عليه القرآن أن يسجد، فإن قرئ عليه خارج الصلاة، فعليه أن يسجد قريباً، إذا حضر وقت الصلاة،فإنه ما من ساعة يقرأ عليه فيها القرآن،إلا هو وقت صلاة مفروضة،فعليه أن يصليها؛ إذ بينه وبين وقت الصلاة المفروضة أقل من نصف يوم، فإذا لم يصل، فهو ممن إذا قرئ عليه القرآن لا يسجد فإن قرئ عليه القرآن في الصلاة فعليه أن يسجد سجدة يخر فيها من قيام، وسجدة يخر فيها من قعود، وكل منهما بعد ركوع ، كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم .
- وأما السجود عند تلاوة هذه الآية، فهو السجود الخاص، وهو سجود التلاوة ، وهذا سجود مبادر إليه عند سماع هذه الآية، فإنها أمرته أن يسجد إذا قرئ عليه القرآن، فمن تمام المبادرة أن يسجد عند سماعها سجود التلاوة . ثم يسجد عند تلاوة غيرها كما تقدم، فإن هذه الآية تأمر بالسجود إذا قرئ عليه هي أو غيرها، فهي الآمرة بالسجود عند قراءة القرآن، دون سائر الآيات التي لا يسجد عندها، فكان لها حض من الأمر بالسجود مع عموم كونها من القرآن، فتخص بالسجود لها، ويسجد في الصلاة إذا قرئت كما يسجد إذا قرئ غيرها .(1/44)
وبهذا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه سجد بها في الصلاة ، وفعله إذا خرج امتثالا لأمر، أو تفسيراً لمجمل كان حكمه حكمه، فدل ذلك على وجوب السجود الذي سجده عند قراءة هذه السورة، لا سيما وهو في الصلاة . والصلاة مفروضة، وإتمامها مفروض، فلا تقطع إلا بعمل هو أفضل من إتمامها، فعلم أن سجود التلاوة فيها أفضل من إتمامها بلا سجود، ولو زاد في الصلاة فعلا من جنسها عمداً بطلت صلاته . وهنا سجود التلاوة مشروع فيها .
- وعن أحمد في وجوب هذا السجود في الصلاة روايتان، والأظهر الوجوب، كما قدمناه لوجوه متعددة : منها : أن نفس الأئمة يؤمرون أن يصلوا كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو هكذا صلى . والله أعلم .
- وقوله : ( لَا يَسْجُدُونَ ) (الانشقاق : 21) ، ولم يقل لا يصلون، يدل على أن السجود مقصود لنفسه، وأنه يتناول السجود في الصلاة وخارج الصلاة، فيتناول ـ أيضاً ـ الخضوع والخشوع، كما مثل ... فالقرآن موجب لمسمي السجود الشامل لجميع أنواعه، فما من سجود إلا والقرآن موجب له، ومن لم يسجد إذا قرئ عليه مطلقاً فهو كافر، ولكن لا يجب كل سجود في كل وقت، بل هو بحسب ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الآية دلت على تكرار السجود عند تكرار قراءة القرآن عليه، وهذا واجب إذا قرئ عليه القرآن في الصلاة وخارج الصلاة، كما تقدم . والله أعلم .
- وأما الأمر المطلق بالسجود، فلا ريب أنه يتناول الصلوات الخمس . فإنها فرض بالاتفاق، ويتناول سجود القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن السجود في هذه المواضع . فلا بد أن يكون ما تلي سبباً له، وإلا كان أجنبيا . والمذكور إنما هو الأمر، فدل على أن هذا السجود من السجود المأمور به، وإلا فكيف يخرج السجود المقرون بالأمر عن الأمر، وهذا كسجود الملائكة لآدم لما أمروا .(1/45)
- وهكذا جاء في الحديث الصحيح : ( إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي . يقول : يا ويله . أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ! ) . رواه مسلم . والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا ترغيباً في هذا السجود، فدل على أن هذا السجود مأمور به، كما كان السجود لآدم؛ لأن كلاهما أمر، وقد سن السجود عقبه، فمن سجد كان متشبهاً بالملائكة، ومن أبي، تشبه بابليس، بل هذا سجود للَّه، فهو أعظم من السجود لآدم ... وهذا الحديث كاف في الدلالة على الوجوب، وكذلك الآيات التي فيها الأمر المقيد، والأمر المطلق ـ أيضاً .
- وأيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ : ( والنجم )، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس . كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس ....// رواه البخاري في كتاب الجمعة ، باب سجود المسلمين مع المشركين + كتاب تفسير القرآن ، باب ( فاسجدوا لله واعبدوا ) / وفي الصحيح عن ابن مسعود : أنهم سجدوا إلا رجلا من المشركين أخذ كفا من حصا، وقال : يكفيني هذا . قال : فلقد رأيته بعد قتل كافرا .// رواه الشيخان ، البخاري في كتاب الجمعة ، باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها + باب سجدة النجم + كتاب المغازي ، باب قتل أبي جهل ؛ ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب سجود التلاوة / وهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بهذا السجود، وأن تاركه كان مذموماً، وليس هو سجود الصلاة، بل كان خضوعا للَّه، وفيهم كفار، وفيهم من لم يكن متوضيا، لكن سجود الخضوع إذا تلي كلامه...(1/46)
- كما أثنى على من إذا سمعه سجد، فقال : ( إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) ( مريم : 58 ) ، وقال : ( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) ( الإسراء : 107ـ 109 ) ، وهذا وإن قيل : إنه متناول سجود الصلاة، فإنهم إذا سمعوا القرآن ركعوا وسجدوا، فلا ريب أنه متناول سجود القرآن بطريق الأولى؛ لأن هناك السجود بعض الصلاة، وهنا ذكر سجوداً مجرداً على الأذقان، فما بقي يمكن حمله على الركوع؛ لأن الركوع لا يكون على الأذقان .
- وقوله : ( لِلأَذْقَانِ ) أي : على الأذقان . كما قال : ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) ( الصافات : 103 ) أي : على الجبين . وقوله : ( لِلأَذْقَانِ ) يدل على تمام السجود، وأنهم سجدوا على الأنف مع الجبهة حتى التصقت الأذقان بالأرض، ليسوا كمن سجد على الجبهة فقط، والساجد على الأنف قد لا يلصق الذقن بالأرض، إلا إذا زاد انخفاضه .
وأما احتجاج من لم يوجبه بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد لما قرأ عليه زيد ( النجم ]) ، وبقول عمر : لما قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة فنزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى جاء السجدة . قال : يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وفي لفظ : فلما كان في الجمعة الثانية تشرفوا ـ فقال : إنا نمر بالسجدة ولم تكتب علينا، ولكن قد تشوفتم، ثم نزل فسجد.. .(1/47)
فيقال : تلك قضية معينة ، ولعله لما لم يسجد زيد لم يسجد هو، كما قال ابن مسعود : أنت إمامنا، فإن سجدت سجدنا ... وقال عثمان : إنما السجدة على من جلس إليها، واستمع ... . وهذا يدل على أنها تجب على المستمع، ولا تجب على السامع، وكذلك حديث ابن مسعود يدل على أنها لا تجب إذا لم يسجد القارئ .
- وقد يقال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم عذر عند من يقول : إن السجود فيها مشروع ... فمن الناس من يقول : يمكن أنه لم يكن على طهارة ، ولكن قد يرجح جواز السجود على غير طهارة .
- وقد قيل : إن السجود في ( النجم ) وحدها منسوخ، بخلاف ( اقرأ )و ( الانشقاق ) ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيهما، وسجد معه أبو هريرة، وهو أسلم بعد خيبر . وهذا يبطل قول من يقول لم يسجد في المفصل بعد الهجرة، وأما سورة النجم ، بل حديث زيد صريح في أنه لم يسجد فيها، قال هؤلاء : فيكون النسخ فيها خاصة، لا في غيرها، لما كان الشيطان قد ألقاه حين ظن من ظن أنه وافقهم، ترك السجود فيها بالكلية سداً لهذه الذريعة . وهي في الصلاة تأتي في آخر القيام، وسجدة الصلاة تغني عنها، فهذا القول أقرب من غيره ... والله أعلم .
- وأما حديث عمر : فلو كان صريحاً لكان قوله وإقرار من حضر، وليسوا كل المسلمين . وقول عثمان وغيره يدل على الوجوب . ثم يقال : قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب علينا السجود في هذه الحال، وهو إذا قرأها الإمام على المنبر . يبين ذلك أن السجود في هذه الحال ليس كالسجود المطلق؛ لأنه يقطع فيه الإمام الخطبة، ويعمل عملا كثيراً . والسنة في الخطبة الموالاة، فلما تعارض هذا وهذا صار السجود غير واجب؛ لأن القارئ يشتغل بعبادة أفضل منه، وهو خطبة الناس وإن سجد جاز .(1/48)
- ولهذا يقول مالك وغيره : إن هذا السجود لا يستحب، قال : وليس العمل عندنا على أن يسجد الإمام إذا قرأ على المنبر، كما أنه لم يستحب السجود في الصلاة لا السر ولا الجهر . وأحمد في إحدي الروايتين، وأبو حنيفة وغيرهما يقولون : لا يستحب في صلاة السر، مع أن أبا حنيفة يوجب السجود، وأحمد في إحدي الروايتين يوجبه في الصلاة، ثم لم يستحبوه في هذه الحال، بل اتصال الصلاة عندهم أفضل، فكذلك قد يكون مراد عمر أنه لم يكتب في مثل هذه الحال، كما يقول من يقول، لا يستحب -أيضاً- في هذه الحال .
وهذا كما أن الدعاء بعرفة لما كانت سنته الاتصال لم يقطع بصلاة العصر، بل صليت قبله، فكذلك الخاطب يوم الجمعة مقصوده خطابهم وأمرهم ونهيهم، ثم الصلاة عقب ذلك، فلا يجب أن يشتغلوا عن هذا المقصود، مع أن عقبه يحصل السجود .
- وهذا يدل على أن سجود التلاوة يسقط لما هو أفضل منه . ألا ترى أن الإنسان لو قرأ لنفسه يوم الجمعة، قد يقال : إنه لم يستحب له أن يسجد دون الناس، كما لا يشرع للمأموم أن يسجد لسهوه ؟ لأن متابعة الإمام أولى من السجود، وهو مع البعد . وإن قلنا يستحب له أن يقرأ، فهو كما يستحب للمأموم أن يقرأ خلف إمامه . ولو قرأ بالسجدة، لم يسجد بها دون الإمام . وما أعلم في هذا نزاعا . فهنا محافظته على متابعة الإمام في الفعل الظاهر أفضل من سجود التلاوة، ومن سجود السهو، بل هو منهي عن ذلك، ويوم الجمعة إنما سجد الناس لما سجد عمر، ولو لم يسجد لم يسجدوا حينئذ . فإذا كان حديث عمر قد يراد به أنه لم يكتب علينا في هذه الحال، لم يبق فيه حجة، ولو كان مرفوعاً .
وأيضاً، فسجود القرآن هو من شعائر الإسلام الظاهرة ، إذا قرئ القرآن في الجامع سجد الناس كلهم للَّه رب العالمين، وفي ترك ذلك إخلال بذلك .........
تفسير
1 *( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ( الأعراف 206 )
((1/49)
قال ابن كثير :مدح الله تعالى الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) ، وإنما ذكرهم بهذا ليتشبه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم؛ ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله، عز وجل، كما جاء في الحديث: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ يتمون الصفوف الأوَل، ويتَراصُّون في الصف" ...وهذه أول سجدة في القرآن، مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع . وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة ، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن ...// قلت : حديث " الا تصفون " أخرجه مسلم في صحيحه من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه... // وحديث ابن ماجه عن أبي الدرداء قال : سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء : الأعراف، والرعد، والنحل ،وبني إسرائيل ،ومريم، والحج، وسجدة الفرقان، وسليمان سورة النحل، والسجدة ،وفي ص، وسجدة الحواميم ... / ضعفه الألباني .
((1/50)
وقال القرطبي : قوله تعالى: ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) فيه ثمان مسائل = الأولى: قوله تعالى: (إن الذين عند ربك) يعني الملائكة بإجماع... وقال: " عند ربك " والله تعالى بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته، وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده، عن الزجاج...وقال غيره لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله...وقيل: لأنهم رسل الله، كما يقال: عند الخليفة جيش كثير...وقيل: هذا على جهة التشريف لهم، وأنهم بالمكان المكرم، فهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة..." ويسبحونه " أي ويعظمونه وينزهونه عن كل سوء..." وله يسجدون " قيل: يصلون...وقيل: يذلون، خلاف أهل المعاصي...الثانية: والجمهور من العلماء في أن هذا موضع سجود للقارئ...وقد اختلفوا في عدد سجود القرآن ، فأقصى ما قيل: خمس عشرة...أولها خاتمة الأعراف، وآخرها خاتمة العلق...وهو قول ابن حبيب وابن وهب - في رواية - وإسحاق...ومن العلماء من زاد سجدة الحجر ... قوله تعالى: " وكن من الساجدين " على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى...فعلى هذا تكون ست عشرة...وقيل: أربع عشرة ، قاله ابن وهب في الرواية الأخرى عنه...فأسقط ثانية الحج...وهو قول أصحاب الرأي والصحيح سقوطها، لأن الحديث لم يصح بثبوتها...ورواه ابن ماجة وأبو داود في سننهما عن عبد الله بن منين من بني عبد كلال عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان...وعبد الله بن منين لا يحتج به، قاله أبو محمد عبد الحق...ذكر أبو داود أيضا من حديث عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله، أفي سورة الحج سجدتان ؟.(1/51)
قال: " نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ".في إسناده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف جدا.وأثبتهما الشافعي وأسقط سجدة ( ص )....وقيل: إحدى عشرة سجدة، وأسقط آخرة الحج وثلاث المفصل...وهو مشهور مذهب مالك...وروي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم...وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شئ : الأعراف ، والرعد ، والنحل ، وبنى إسرائيل، ومريم ، والحج سجده ، والفرقان ،وسليمان سورة النمل ، والسجدة ،و ( ص ) وسجدة الحواميم...وقيل: عشر، وأسقط آخرة الحج و (ص) وثلاث المفصل، ذكر عن ابن عباس...وقيل: إنها أربع : سجدة آلم تنزيل ، وحم تنزيل ، والنجم ، والعلق...وسبب الخلاف اختلاف النقل في الأحاديث والعمل، واختلافهم في الأمر المجرد بالسجود في القرآن، هل المراد به سجود التلاوة أو سجود الفرض في الصلاة ؟ الثالثة - واختلفوا في وجوب سجود التلاوة، فقال مالك والشافعي: ليس بواجب...وقال أبو حنيفة: هو واجب...وتعلق بأن مطلق الأمر بالسجود على الوجوب، وبقوله عليه السلام: " إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله "...وفي رواية أبي كريب " يا ويلي "،... وبقوله عليه السلام إخبارا عن إبليس لعنه الله: " أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار " أخرجه مسلم...ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليه...وعول علماؤنا على حديث عمر الثابت - خرجه البخاري - أنه قرأ آية سجدة على المنبر، فنزل فسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود، فقال: " أيها الناس على رسلكم ! إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ". وذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، من الأنصار والمهاجرين .فلم ينكر عليه أحد فثبت الإجماع به في ذلك.وأما قول: " أمر ابن آدم بالسجود " فإخبار عن السجود الواجب.(1/52)
ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الاستحباب ! والله أعلم...الرابعة - ولا خلاف في أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة حدث ونجس ونية واستقبال قبلة ووقت...إلا ما ذكر البخاري عن ابن عمر أنه كان يسجد على غير طهارة...وذكره ابن المنذر عن الشعبي... وعلى قول الجمهور هل يحتاج إلى تحريم ورفع يدين عنده وتكبير وتسليم ؟ اختلفوا في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه يكبر ويرفع للتكبير لها.وقد روي في الأثر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبر، وكذلك إذا رفع كبر.ومشهور مذهب مالك أنه يكبر لها في الخفض والرفع في الصلاة.واختلف عنه في التكبير لها في غير الصلاة، وبالتكبير لذلك قال عامة الفقهاء، ولا سلام لها عند الجمهور.وذهب جماعة من السلف وإسحاق إلى أنه يسلم منها.وعلى هذا المذهب يتحقق أن التكبير في أولها للإحرام.وعلى قول من لا يسلم يكون للسجود فحسب.والأول أولى، لقوله عليه السلام: " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " وهذه عبادة لها تكبير، فكان لها تحليل كصلاة الجنازة بل أولى، لأنها فعل وصلاة الجنازة قول .وهذا اختيار ابن العربي...الخامسة - وأما وقته فقيل: يسجد في سائر الأوقات مطلقا، لأنها صلاة لسبب...وهو قول الشافعي وجماعة...وقيل: ما لم يسفر الصبح، أو ما لم تصفر الشمس بعد العصر...وقيل: لا يسجد بعد الصبح ولا بعد العصر...وقيل: يسجد بعد الصبح ولا يسجد بعد العصر....وهذه الثلاثة الأقوال في مذهبنا.... وسبب الخلاف معارضة ما يقتضيه سبب قراءة السجدة من السجود المرتب عليها لعموم النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح...واختلافهم في المعنى الذي لأجله نهي عن الصلاة في هذين الوقتين، والله أعلم...السادسة - فإذا سجد يقول في سجوده : اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا....(1/53)
رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن ماجة....السابعة - فإن قرأها في صلاة، فإن كان في نافلة سجد إن كان منفردا أو في جماعة وأمِن التخليط فيها ؛ وإن كان في جماعة لا يأمَن ذلك فيها فالمنصوص جوازه...وقيل: لا يسجد... وأما في الفريضة فالمشهور عن مالك النهي عنه فيها، سواء كانت صلاة سر أو جهر، جماعة أو فرادى...وهو معلل بكونها زيادة في أعداد سجود الفريضة... وقيل: معلل بخوف التخليط على الجماعة، وهذا أشبه...وعلى هذا لا يمنع منه الفرادى ولا الجماعة التي يأمن فيها التخليط...الثامنة - روى البخاري عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة ، فقرأ " إذا السماء انشقت " فسجد، فقلت: ما هذه ؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.انفرد بإخراجه...وفيه: " وقيل لعمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها ؟ قال: أرأيت لو قعد لها ! كأنه لا يوجبه عليه...وقال سلمان : ما لهذا غدونا .وقال عثمان : إنما السجدة على من استمعها...وقال الزهري: لا يسجد إلا أن يكون طاهرا، فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة، فإن كنت راكبا فلا عليك، حيث كان وجهك.وكان السائب لا يسجد لسجود القاص... والله أعلم .
( وقال السعدي : قوله تعالى :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) .(1/54)
الذكر للّه تعالى يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بهما، وهو أكمل أنواع الذكر وأحواله، فأمر اللّه عبده ورسوله محمدا أصلا وغيره تبعا، بذكر ربه في نفسه، أي: مخلصا خاليا...( تَضَرُّعًا ) أي: متضرعا بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، ( وَخِيفَةً ) في قلبك بأن تكون خائفا من اللّه، وَجِلَ القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به...( وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) أي: كن متوسطا... كقوله تعالى : ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء : 110 )....وقوله : ( بِالْغُدُوِّ ) أول النهار ( وَالآصَالِ ) آخره ، وهذان الوقتان لذكر الله فيهما مزية وفضيلة على غيرهما...( وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ) الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم، فإنهم حرموا خير الدنيا والآخرة ، وأعرضوا عمَّن كل السعادة والفوز في ذكره وعبوديته، وأقبلوا على مَن كل الشقاوة والخيبة في الاشتغال به، وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيها حق رعايتها، وهي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار، خصوصا طَرَفَيِ النهار، مخلصا خاشعا متضرعا، متذللا ساكنا، وتواطأ عليه قلبه ولسانه، بأدب ووقار، وإقبال على الدعاء والذكر، وإحضار له بقلبه وعدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه .(1/55)
ثم ذكر تعالى أن له عبادا مستديمين لعبادته ، ملازمين لخدمته وهم الملائكة، فلتعلموا أن اللّه لا يريد أن يتكثر بعبادتكم من قلة، ولا ليتعزز بها من ذلة، وإنما يريد نفع أنفسكم، وأن تربحوا عليه أضعاف أضعاف ما عملتم ، فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) من الملائكة المقربين، وحملة العرش والكروبيين... ( لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ) بل يذعنون لها وينقادون لأوامر ربهم ،( وَيُسَبِّحُونَهُ ) الليل والنهار لا يفترون..( وَلَهُ ) وحده لا شريك له ( يَسْجُدُونَ ) فليقتد العباد بهؤلاء الملائكة الكرام، وليداوموا على عبادة الملك العلام....
2 *( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (الرعد 15 )
(قال ابن كثير : يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء. ولهذا يسجُد له كلّ شيء طوعا من المؤمنين، وكرها من المشركين، ( وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ ) أي: البُكر (1) والآصال، وهو جمع أصيل وهو آخر النهار، كما قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) ( النحل: 48) .
(وقال القرطبي : قوله تعالى: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها) قال الحسن وقتادة وغيرهما: المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجر كرها بالسيف. وعن قتادة أيضا: يسجد الكافر كارها حين لا ينفعه الإيمان.
وقال الزجاج: سجود الكافر كرها ما فيه من الخضوع وأثر الصنعة... وقال ابن زيد: " طوعا " من دخل في الإسلام رغبة ، و " كرها " من دخل فيه رهبة بالسيف...وقيل: " طوعا " من طالت مدة إسلامه فألف السجود، و " كرها " من يكره نفسه لله تعالى، فالآية في المؤمنين، وعلى هذا يكون معنى " والأرض " وبعض من في الأرض.(1/56)
قال القشيري: وفي الآية مسلكان: أحدهما - أنها عامة والمراد بها التخصيص، فالمؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين، فالآية محمولة على هؤلاء،ذكره الفراء...وقيل على هذا القول:الآية في المؤمنين ، منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه، لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا، إلى أن يألفوا الحق ويمرنوا عليه...والمسلك الثاني - وهو الصحيح - إجراء الآية على التعميم، وعلى هذا طريقان : أحدهما - أن المؤمن يسجد طوعا، وأما الكافر فمأمور: السجود مؤاخذ به...والثاني - وهو الحق - أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، وكل مخلوق من المؤمن والكافر يسجد من حيث إنه مخلوق، يسجد دلالة وحاجة إلى الصانع، وهذا كقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " ( الإسراء: 44 ) وهو تسبيح دلالة لا تسبيح عبادة... (وظلالهم بالغدو والآصال) أي ظلال الخلق ساجدة لله تعالى بالغدو والآصال، لأنها تبين في هذين الوقتين، وتميل من ناحية إلى ناحية، وذلك تصريف الله إياها على ما يشاء، وهو كقوله تعالى: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " ( النحل: 48 ) قاله ابن عباس وغيره...وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد كرها وهو كاره...وقال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت...قال القشيري: في هذا نظر، لأن الجبل عين، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظلال فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها، والسجود بمعنى الميل، فسجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب، يقال: سجدت النخلة أي مالت...و " الأصال " جمع أصُل، والأصُل جمع أصيل، وهو ما بين العصر إلى الغروب، ثم أصائل جمع الجمع، قال أبو ذؤيب الهذلي: لعمري لأنت البيت أكرم أهله * وأقعد في أفيائه بالأصائل...(1/57)
و " ظلالهم " يجوز أن يكون معطوفا على " من " ويجوز أن يكون ارتفع بالابتداء والخبر محذوف، التقدير: وظلالهم سجد بالغدو والآصال و " بالغدو " يجوز أن يكون مصدرا، ويجوز أن يكون جمع غداة، يقوى كونه جمعا مقابلة الجمع الذي هو الآصال به...
(وقال السعدي :قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) .أي: جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض كلها خاضعة لربها، تسجد له ( طَوْعًا وَكَرْهًا ) فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع اختيارا كالمؤمنين، والكره لمن يستكبر عن عبادة ربه، وحاله وفطرته تكذبه في ذلك، ( وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) أي: ويسجد له ظلال المخلوقات أول النهار وآخره وسجود كل شيء بحسب حاله كما قال تعالى: ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ...
( وقال ابن عاشور : هذه الآية موضع سجود من سجود القرآن ، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء . ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعاً بإيقاعه السجود . وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى .
3 *( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل :49 - 50 )
((1/58)
قال ابن كثير : يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جمادها وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا، فإنه ساجد بظله لله تعالى...قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل. وكذا قال قتادة، والضحاك، وغيرهم...وقوله: ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) أي: صاغرون... وقال مجاهد أيضًا: سجود كل شيء فيه. وذكر الجبال قال: سجودها فيها...وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته...ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم...ثم قال: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ) كما قال: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (الرعد : 15) ، وقوله: ( وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي: تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته ، ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ) أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، ( وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) أي: مثابرين على طاعته تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره...
((1/59)
وقال الألوسي : قوله تعالى : ( أَوَ لَمْ * يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء ) أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت ( يَتَفَيَّأُ ظلاله ) قيل : أي يتمثل صوره ومظاهره ( عَنِ اليمين ) جهة الخير ( والشمآئل ) (النحل : 48 ) جهات الشرور ، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحَّد اليمين ، ولما كانت جهة الشمال اشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم : « والشر ليس إليك » ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال ... وقيل في وجه الإفراد والجمع : إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفىء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ، ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفىء عنه من الشر لا يكون إلا متعدداً ، فلذا جمع الشمال ؛ ولا كذلك ما تفىء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين ...فليتأمل ( ولله يسجد ) أي ينقاد ( ما في السموات وما في الأرض من دابة ) أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود ( والملائكة وهم لا يستكبرون ) أي لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره ، ( يخافون ربهم من فوقهم ) لأنه القاهر المؤثر فيهم (ويفعلون ما يؤمرون ) طوعاً وانقياداً ، والله تعالى الهادي سواء السبيل .
((1/60)
وقال السعدي : تفسير السعدي – قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ... يقول تعالى: ( َوَلَمْ يَرَوْا )أي: الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله، ( إلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ )أي: إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها، (عَن الْيَمِينِ ) وعن ( الشَّمَائِلِ)...( سُجَّدًا لِلَّهِ ) أي: كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلاله، ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) أي: ذليلون تحت التسخير والتدبير والقهر، ما منهم أحد إلا وناصيته بيد الله وتدبيره عنده.
((1/61)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ) من الحيوانات الناطقة والصامتة، ( وَالْمَلائِكَةُ ) الكرام خصهم بعد العموم لفضلهم وشرفهم وكثرة عبادتهم ، ولهذا قال:( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي: عن عبادته على كثرتهم وعظمة أخلاقهم وقوتهم ، كما قال تعالى : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ )... ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ) لما مدحهم بكثرة الطاعة والخضوع لله، مدحهم بالخوف من الله الذي هو فوقهم بالذات والقهر، وكمال الأوصاف، فهم أذلاء تحت قهره... (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) أي: مهما أمرهم الله تعالى امتثلوا لأمره، طوعا واختيارا، وسجود المخلوقات لله تعالى قسمان: سجود اضطرار ودلالة على ما له من صفات الكمال، وهذا عام لكل مخلوق من مؤمن وكافر وبر وفاجر وحيوان ناطق وغيره، وسجود اختيار يختص بأوليائه وعباده المؤمنين من الملائكة وغيرهم من المخلوقات .
4 *( وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) (الإسراء 109 )
(قال ابن كثير : قوله تعالى :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)...(1/62)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم : ( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) أي : سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه ، أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله؛ ولهذا قال : ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) أي: من صالح أهل الكتاب الذين يُمَسَّكون بكتابهم ويقيمونه، ولم يبدلوه ولا حرفوه، ( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) هذا القرآن، ( يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) جمع ذَقْن، وهو أسفل الوجه ( سُجَّدًا ) أي: لله عز وجل، شكرًا على ما أنعم به عليهم، من جعله إياهم أهلا إن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب؛ ولهذا يقولون : ( سُبْحَانَ رَبِّنَا ) أي: تعظيمًا وتوقيرًا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قالوا: ( سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا )..وقوله: ( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ ) أي: خضوعًا لله عز وجل وإيمانًا وتصديقًا بكتابه ورسوله، ويزيدهم الله خشوعًا، أي: إيمانًا وتسليمًا ، كما قال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) [ محمد 17 ].
وقوله :( وَيَخِرُّونَ ) عطف صفة على صفة لا عطف سجود على سجود، كما قال الشاعر:
إلَى المَلك القَرْم وابن الهُمام وَلَيْث الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ
((1/63)
وقال القرطبي : قوله تعالى: (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) يعنى القرآن...وهذا من الله عز وجل على وجه التبكيت لهم والتهديد لا على وجه التخيير...(إن الذين أوتوا العلم من قبله) أي من قبل نزول القرآن وخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، في قول ابن جريج وغيره...قال ابن جريج: معنى (إذا يتلى عليهم) كتابهم...وقيل القرآن...(يخرون للاذقان سجدا) قيل: هم قوم من ولد إسماعيل تمسكوا بدينهم إلى أن بعث الله تعالى النبي عليه السلام، منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل...وعلى هذا ليس يريد أوتوا الكتاب بل يريد أوتوا علم الدين...وقال الحسن: الذين أوتوا العلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم...وقال مجاهد: إنهم ناس من اليهود، وهو أظهر لقوله " من قبله "...." إذا يتلى عليهم " يعنى القرآن في قول مجاهد...كانوا إذا سمعوا ما أنزل الله تعالى من القرآن سجدوا وقالوا: " سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا "...وقيل: كانوا إذا تلوا كتابهم وما أنزل عليه من القرآن خشعوا وسجدوا وسبحوا، وقالوا: هذا هو المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة، وجنحوا إلى الاسلام، فنزلت الآية فيهم...وقالت فرقة: المراد بالذين أوتوا العلم من قبله ، محمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير في " قبله " عائد على القرآن حسب الضمير في قوله " قل آمنوا به "...وقيل: الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم، واستأنف ذكر القرآن في قوله: " إذا يتلى عليهم "...وقوله تعالى: ( ويقولون سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) دليل على جواز التسبيح في السجود...وفى صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لى "...(1/64)
وقوله تعالى:( ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (ويخرون للاذقان يبكون) هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم...وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجرى إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل...وفى مسند الدارمي أبى محمد عن التيمى قال: من أوتى من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتى علما، لان الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية...ذكره الطبري أيضا...والاذقان جمع ذقن، وهو مجتمع اللحيين...وقال الحسن: الاذقان عبارة عن اللحى...أي يضعونها على الارض في حال السجود، وهو غاية التواضع...واللام بمعنى على، تقول: سقط لفيه أي على فيه...وقال ابن عباس: " يخرون للاذقان سجدا " أي للوجوه...وإنما خص الاذقان بالذكر لان الذقن أقرب شئ فمن وجه الانسان...قال ابن جويز منداد: ولا يجوز السجود على الذقن...لان الذقن هاهنا عبارة عن الوجه، وقد يعبر بالشئ عما جاوره وببعضه عن جميعه...فيقال: خر لوجهه ساجدا وإن كان لم يسجد على خده ولا عينه...ألا ترى إلى قوله: خر صريعا على وجهه ويديه...الثانية - قوله تعالى: (يبكون) دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها...ذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة عن ثابت البنانى عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وفى كتاب أبى داود: وفى صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء...الثالثة - واختلف الفقهاء في الانين، فقال مالك: الانين لا يقطع الصلاة للمريض، وأكرهه للصحيح، وبه قال الثوري...وروى ابن الحكم عن مالك: التنحنح والانين والنفخ لا يقطع الصلاة...وقال ابن القاسم: يقطع...وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة.(1/65)
وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع...وروى عن أبى يوسف أن صلاته في ذلك كله تامة، لانه لا يخلو مريض ولا ضعيف من أنين...الرابعة - قوله تعالى: (ويزيدهم خشوعا) تقدم القول في الخشوع في " البقرة " // قال عند تفسير قوله تعالى : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة : 45 ) ...قال : والخشوع : هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع.... وقال قتادة: الخشوع في القلب، وهو الخوف وغض البصر في الصلاة... قال الزجاج : الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الاقواء هذا هو الاصل ...قال النابغة :
رماد ككحل العين لايا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
ومكانٌ خاشع : لا يهتدى له ...وخشعت الاصوات أي سكنت...وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا...وخشع ببصره إذا غضه...والخشعة: قطعة من الارض رخوة وفي الحديث: (كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد ) ...وبلدة خاشعة : مغبرة لا منزل بها ...قال سفيان الثوري سألت الاعمش عن الخشوع فقال: يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال: أعيمش ! تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس ! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنئ في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض أفترض عليك ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا ! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب...وقال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك...(1/66)
وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون "( المؤمنون: 1 - 2 )... فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نقاق ،قال سهل بن عبد الله : لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " (2) (الزمر: 23 ).
قلت: هذا هو الخشوع المحمود لان الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والاجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الانسان...روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه...وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا... وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الخاشعون هم المؤمنون حقا....// وقال عند تفسير قوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) ( المومنون 1-2 ) والخشوع محله القلب، فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه، إذ هو ملكها...
وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شئ وأن يحدث نفسه بشئ من الدنيا...وقال عطاء: هو ألا يعبث بشئ من جسده في الصلاة...وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ... وقال أبو ذر ،ال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى ؛ الترمذي...وقال الشاعر:
ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع لان بها الاراب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة وكان كعبد باب مولاه يقرع(1/67)
وصار لرب العرش حين صلاته نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وروى أبوعمران الجونى قال: قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: أتقرءون سورة المؤمنين ؟ قيل نعم...قالت: اقرءوا، فقرئ عليها : " قد أفلح المؤمنون" - حتى بلغ – "يحافظون ".
وروى النسائي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوى عنقه خلف ظهره...وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أصلى قريبا منه - يعنى من النبي صلى الله عليه وسلم - وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلى وإذا التفت نحوه أعرض عنى...الحديث، ولم يأمره بإعادة... واختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين.(1/68)
والصحيح الاول، ومحله القلب، وهو أول عمل يرفع من الناس، قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبى الدرداء، وقال: هذا حديث حسن غريب...وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الاشجعى من طريق صحيحة... قال أبو عيسى: ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث،ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان...قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصى قاضى الاندلس، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به...واختلف فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبد الرحمن بن مهدى أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج به مسلم في صحيحه...// حديث " أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعا "... رواه الترمذي والطبراني عن أبي الدرداء ، وصححه الألباني ... وأخرجه السيوطي في جامعه من رواية شداد بن أوس: " أول ما يرفع من الناس الخشوع "./ وفب رواية لأحمد ، والترمذي ،وابن حبان ، والحاكم – وهذا لفظه : ...عن جبير بن نفير ، أنه قال : قال عوف بن مالك الأشجعي : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوما ، فقال : « هذا أوان يرفع العلم » فقال له رجل من الأنصار يقال له ابن لبيد : يا رسول الله كيف يرفع العلم وقد أثبت في الكتاب ووعته القلوب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة » ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله ، قال : فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك ، فقال : صدق عوف ألا أخبرك بأول ذلك يرفع ؟ قلت : بلى ، قال : الخشوع حتى لا ترى خاشعا.... « هذا صحيح وقد احتج الشيخان بجميع رواته ، والشاهد لذلك فيه شداد بن أوس فقد سمع جبير بن نفير الحديث منهما جميعا » ، ومن ثالث من الصحابة وهو أبو الدرداء../ وفي حديث آخرفي المستدرك :...(1/69)
عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : « أول ما تفقدون من دينكم الخشوع ، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ...( الحديث ).
( وقال السعدي : ( قُلْ ) لمن كذب به وأعرض عنه: ( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئًا، وإنما ضرر ذلك عليكم، فإن لله عبادًا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: ( إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا ) أي: يتأثرون به غاية التأثر، ويخضعون له...( وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا ) عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون. ( إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا ) بالبعث والجزاء بالأعمال ( لَمَفْعُولا ) لا خلف فيه ولا شك...( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ) أي: على وجوههم ( يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ )القرآن ( خُشُوعًا )..وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره، ممن أمن في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك.
5 *( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) (مريم 58 )
((1/70)
قال القرطبي :... فيه أربع مسائل: الاولى - قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم) يريد إدريس وحده...(وممن حملنا مع نوح) يريد إبراهيم وحده ..(ومن ذرية إبراهيم) يريد إسمعيل وإسحق ويعقوب... (و) من ذرية ( إسرائيل) موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى... فكان لادريس ونوح شرف القرب من آدم، ولابراهيم شرف القرب من نوج ، ولإسمعيل وإسحق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم...(وممن هدينا) أي إلى الاسلام: (واجتبينا) بالايمان...(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن)...وقرأ شبل بن عباد المكي " يتلى " بالتذكير لان التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل...(خروا سجدا وبكيا) وصفهم بالخشوع لله والبكاء...يقال بكى يبكي بكاء وبكى وبكيا، إلا أن الخليل قال: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت كما قال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
" وسجدا " نصب على الحال " وبكيا " عطف عليه... الثانية - في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب..قال الحسن: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) الصلاة ... وقال الاصم: المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها...والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون عند تلاوته، قال الكيا: وفي هذه الآية دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الانبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه...الثالثة - احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ.
قال الكيا: وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى...وضم السجود إلى البكاء، وأبان به عن طريقة الانبياء عليهم الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة.(1/71)
الرابعة - قال العلماء: ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها، فإن قرأ سورة السجدة " ألم تنزيل " قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك...وإن قرأ سجدة " سبحان " قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك...وإن قرأ هذه قال: اللهم أجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك....
( وقال الألوسي : وقوله تعالى : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ) استئناف مساق لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه ...
((1/72)
وقال السعدي : قوله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ... لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين، وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم قال: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) أي: أنعم الله عليهم نعمةً لا تلحق، ومنةً لا تسبق، من النبوة والرسالة، وهم الذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراطهم (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ )...، وأن من أطاع الله، كان ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء : 69 )... وأن بعضهم ( مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ) أي: من ذريته ( وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ ) فهذه خير بيوت العالم، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم،. وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد...( خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) أي: خضعوا لآيات الله، وخشعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود لربهم، ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا...وفي إضافة الآيات إلى اسمه ( الرحمن ) دلالة على أن آياته ، من رحمته بعباده وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق، وبصرهم من العمى، وأنقذهم من الضلالة، وعلمهم من الجهالة.(1/73)
6 *( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) (الحج 18 )
((1/74)
قال ابن كثير : ... يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) ( النحل: 48 ) . وقال هاهنا : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ ) أي: من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات، من الإنس والجن والدواب والطير، ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) ( الإسراء: 44 ) ... وقوله: ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ) : إنما ذكر هذه على التنصيص؛ لأنها قد عُبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة ، قال :( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) ( فصلت: 37 )...وفي الصحيحين عن أبي ذر، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدري أين تذهب هذه الشمس؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت" ... وفي المسند وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، في حديث الكسوف: " إن الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع له" ...وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا يقع لله ساجدًا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه...وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما عن اليمين والشمائل...(1/75)
وعن ابن عباس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، إني رأيتني الليلة وأنا نائم، كأني أصلي خلف شجرة، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي، فسمعتُها وهي تقول: اللهم، اكتب لي بها عندك أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة./ رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبّان في صحيحه... وقوله: ( وَالدَّوَابُّ ) أي: الحيوانات كلها...وقد جاء في الحديث عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر فرب مركوبة خير وأكثر ذكرًا لله من راكبها... وقوله: ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) أي: يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك، ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) أي: ممن امتنع وأبى واستكبر... ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ).. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: قيل لعلي: إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة. فقال له علي: يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت ؟ قال: بل كما شاء... قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء... قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء... قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال: بل حيث يشاء... قال: والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف...وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابنُ آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله. أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ، فلي النار"/ رواه مسلم ...(1/76)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا مَشْرَح بن هاعان أبو مُصعب المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: قلت يا رسول الله، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال: " نعم ، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما "./ ورواه أبو داود والترمذي، من حديث عبد الله بن لهيعة، به . وقال الترمذي: "ليس بقوي " وفي هذا نظر؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع، وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه...وقد قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح، أنبأنا ابن وَهْب، أخبرني معاوية بن صالح، عن عامر بن جَشِب ، عن خالد بن مَعْدان؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين"...ثم قال أبو داود: وقد أسندَ هذا، يعني: من غير هذا الوجه، ولا يصح... وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا ابن أبي داود، حدثنا يزيد بن عبد الله، حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، حدثنا حفص بن عنان، حدثني نافع، حدثني أبو الجهم: أن عمر سجد سجدتين في الحج، وهو بالجابية، وقال: إن هذه فضلت بسجدتين ... وروى أبو داود وابن ماجه، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ، عن عبد الله بن مُنَين، عن عمرو بن العاص؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المُفَصّل، وفي سورة الحج سجدتان ...فهذه شواهد يَشُدّ بعضها بعضا.
(وقال القرطبي : قوله تعالى: (ومن يهن الله فما له من مكرم) أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه...وقال ابن عباس: إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار...(إن الله يفعل ما يشاء) يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لاحد عليه...وحكى الاخفش والكسائي والفراء: " ومن يهن الله فما له من مكرم " أي إكرام...
((1/77)
وقال ابن عاشور : قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ )(18) ...جملة مستأنفة لابتداء استدلال على انفراد الله تعالى بالإلهية . وهي مرتبطة بمعنى قوله : ( يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ *يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) ( الحج 12 - 13 ) ارتباط الدليل بالمطلوب فإنّ دلائل أحوال المخلوقات كلها عاقِلها وجمادها شاهدة بتفرد الله بالإلهية . وفي تلك الدلالة شهادة على بطلان دعوة من يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه .وما وقع بين هاتين الجملتين استطرادٌ واعتراضٌ ...والرؤية : علمية . والخطاب لغير معين ...والاستفهام إنكاريّ . أنكر على المخاطبين عدم علمهم بدلالة أحوال المخلوقات على تفرد الله بالإلهية . ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام تقريرياً ، لأنّ حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك متقرّر من سورة الرعد وسورة النحل ... وقد استعمل السجود في حقيقته ومجازه ، وهو حسن وإن أباه الزمخشري ، ... ، لأن السجود المثبت لكثير من الناس هو السجود الحقيقي ، ولولا إرادة ذلك لما احترس بإثباته لكثير من الناس لا لجميعهم .(1/78)
ووجه هذا التفكيك أن سجود الموجودات غير الإنسانية ليس إلا دلالة تلك الموجودات على أنها مسخرة بخلق الله ، فاستعير السجود لحالة التسخير والانطياع . وأما دلالة حال الإنسان على عبوديته لله تعالى فلما خالطها إعراض كثير من الناس عن السجود لله تعالى ، وتلبّسهم بالسجود للأصنام كما هو حال المشركين غطّى سجودهم الحقيقي على السجود المجازي الدال على عبوديتهم لله لأن المشاهدة أقوى من دلالة الحال فلم يثبت لهم السجود الذي أثبت لبقيّة الموجودات وإن كان حاصلاً في حالهم كحال المخلوقات الأخرى... وجملة ( وكثير حق عليه العذاب ) معترضة بالواو ...وجملة ( حق عليه العذاب ) مكنّى بها عن ترك السجود لله ، أي حق عليهم العذاب لأنهم لم يسجدوا لله ، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار . فالذين أشركوا بالله وأعرضوا عن إفراده بالعبادة قد حق عليهم العذاب بما قضى الله به وأنذرهم به ...وجملة ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) اعتراض ثان بالواو ...والمعنى : أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة ... وجملة ( إن الله يفعل ما يشاء ) في محل العلة للجملتين المعترضتين لأن وجود حرف التوكيد في أول الجملة مع عدم المنكر يمحّض حرفَ التوكيد إلى إفادة الاهتمام فنشأ من ذلك معنى السببية والتعليل، فتغني( أنّ ) غناء حرف التعليل أو السببية. وهذا موضع سجود من سجود القرآن باتفاق الفقهاء ....
((1/79)
وقال السعدي : جميع من في السماوات والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، الذي يشمل الحيوانات كلها، وكثير من الناس، وهم المؤمنون، ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) أي: وجب وكتب، لكفره وعدم إيمانه، فلم يوفقه للإيمان، لأن الله أهانه، ( وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) ولا راد لما أراد، ولا معارض لمشيئته، فإذا كانت المخلوقات كلها ساجدة لربها، خاضعة لعظمته، مستكينة لعزته، عانية لسلطانه، دل على أنه وحده، الرب المعبود، والملك المحمود، وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه، فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا.
7 *( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج 77)
(قال ابن كثير : اختلف الأئمة، رحمهم الله، في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجودُ فيها أم لا؟ على قولين. وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فُضلت سورة الحج بسجدتين ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما".// رواه الحاكم ، والبيهقي في معرفة السنن عن عقبة بن عامر ... وأخرج النسائي في السنن الكبرى ، والبيهقي ، وعبد الرزاق ، عن ابن عباس، طرفه : فُضلت سورة الحج بسجدتين ... ...
( وقال القرطبي : وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم، لانه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة...قوله تعالى: (واعبدوا ربكم) أي امتثلوا أمره...(وافعلوا الخير) ندب فيما عدا الواجبات التى صح وجوبها من غير هذا الموضع...( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ...
((1/80)
وقال السعدي : أمر تعالى، عباده المؤمنين بالصلاة، وخص منها الركوع والسجود، لفضلهما وركنيتهما، وعبادته التي هي قرة العيون، وسلوة القلب المحزون، وأن ربوبيته وإحسانه على العباد، يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة، ويأمرهم بفعل الخير عموما...وعلق تعالى الفلاح على هذه الأمور فقال: ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وفق لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة والنجاح والفلاح.
(وقال ابن عاشور : والفلاح : الظفَر بالمطلوب من عمل العامل ...ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه .
8* ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورا ) (الفرقان 60 )
((1/81)
قال ابن كثير : قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ) أي: لا نعرف الرحمن... وكانوا ينكرون أن يُسَمّى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) ( الإسراء : 110) أي: هو الله وهو الرحمن. وقال في هذه الآية : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ) أي: لا نعرفه ولا نُقر به ... ( أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) أي: لمجرد قولك ؟ ( وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ، أما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم، ويُفْرِدُونه بالإلهية ، ويسجدون له... وقد اتفق العلماء -رحمهم الله -على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجودُ عندها لقارئها ومستمعها .
(وقال القرطبي : قوله :(وزادهم نفورا) أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين...وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية: إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا...
(وقال ابن عاشور : والنفور : الفرار من الشيء . وأطلق هنا على لازمه وهو البعد . وإسناد زيادة النفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من السجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعداً من الإيمان ، وهذا كقوله في سورة نوح :( فلم يَزدْهم دُعائي إلا فراراً ) ...
((1/82)
وقال السعدي : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ ) أي: وحده الذي أنعم عليكم بسائر النعم ودفع عنكم جميع النقم. ( قَالُوا ) جحدا وكفرا ( وَمَا الرَّحْمَنُ ) ؟ بزعمهم الفاسد أنهم لا يعرفون الرحمن، وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول أن قالوا: ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله وهو يدعو معه إلها آخر يقول: " يا رحمن " ونحو ذلك كما قال تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (الإسراء : 110 )... فأسماؤه تعالى كثيرة لكثرة أوصافه وتعدد كماله، فكل واحد منها دل على صفة كمال...( أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) أي: لمجرد أمرك إيانا. وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول واستكبارهم عن طاعته، ( وَزَادَهُمْ ) دعوتهم إلى السجود للرحمن ( نُفُورًا ) هربا من الحق إلى الباطل وزيادة كفر وشقاء...
9* ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل 25 - 26 )
((1/83)
قال ابن كثير :قوله : ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) أي: عن طريق الحق، ( فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) ... وقوله: ( أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ ) ، معناه ...وقوله :( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ ) أي: لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من شيء من الكواكب وغيرها، كما قال تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (فصلت: 37)...وقرأ بعض القراء: "ألا يا اسجدوا لله " جعلها " ألا " الاستفتاحية، و" يا " للنداء، وحذف المنادى، تقديره عنده : "ألا يا قوم، اسجدوا لله"....وقوله: ( الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ) : قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغير واحد...وقال سعيد بن المسيب: الخَبْء: الماء. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: خبء السموات والأرض: ما جعل فيها من الأرزاق: المطر من السماء، والنبات من الأرض...وهذا مناسب من كلام الهدهد، الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره، من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض ودواخلها...وقوله: ( وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) أي: يعلم ما يخفيه العباد، وما يعلنونه من الأقوال والأفعال. وهذا كقوله تعالى: ( سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) ( الرعد: 10) ...(1/84)
وقوله: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) أي: هو المدعو الله، وهو الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه...
(وقال السعدي : قوله : ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) أي: هم مشركون يعبدون الشمس... ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) فرأوا ما عليه هو الحق ، ( فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) لأن الذي يرى أن الذي عليه حق لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته...ثم قال: ( أَلا ) أي: هلا ( يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي: يعلم الخفي الخبيء في أقطار السماوات وأنحاء الأرض، من صغار المخلوقات وبذور النباتات وخفايا الصدور، ويخرج خبء الأرض والسماء بإنزال المطر وإنبات النباتات، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ليجازيهم بأعمالهم... ( وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ )....
( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) أي: لا تنبغي العبادة والإنابة والذل والحب إلا له لأنه المألوه لما له من الصفات الكاملة والنعم الموجبة لذلك. ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسماوات، فهذا الملك عظيم السلطان كبير الشأن هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له ويركع...
10 *(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة 15 )
((1/85)
قال ابن كثير : يقول تعالى: ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ) أي: إنما يصدق بها ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا ) أي: استمعوا لها وأطاعوها قولا وفعلا ( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) أي عن اتباعها والانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ... وقد قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (غافر:60)
(وقال القرطبي : قوله تعالى: ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي أنهم لإلفهم الكفر لا يؤمنون بك ، إنما يؤمن بك وبالقرآن المتدبرون له والمتعظون به ، وهم الذين إذا قرئ عليهم القرآن " خروا سجدا " قال ابن عباس: ركعا...وقال المهدوي: وهذا على مذهب من يرى الركوع عند قراءة السجدة ، واستدل بقوله تبارك وتعالى: " وخر راكعا وأناب " ( ص: 24 )...وقيل: المراد به السجود، وعليه أكثر العلماء، أي خروا سجدا لله تعالى على وجوههم تعظيما لآياته وخوفا من سطوته وعذابه...(وسبحوا بحمد ربهم) أي خلطوا التسبيح بالحمد، أي نزهوه وحمدوه، فقالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده ، سبحان ربي الاعلى وبحمده ، أي تنزيها لله تعالى عن قول المشركين... وقال سفيان: " وسبحوا بحمد ربهم " أي صلوا حمدا لربهم...(وهم لا يستكبرون) عن عبادته، قاله يحيى بن سلام ...
وقال النقاش: " لا يستكبرون " كما استكبر أهل مكة عن السجود...
(وقال الألوسي : إشارة إلى حال كاملي الإيمان وعلو شأن السجود والتسبيح والتحميد والتواضع لعظمته عز وجل...
((1/86)
وقال السعدي : قوله تعالى :( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا.../ وقال :قوله : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ) أي إيمانًا حقيقيًا، من يوجد منه شواهد الإيمان، وهم: ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا ) بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن، وأتتهم النصائح على أيدي رسل اللّه، ودُعُوا إلى التذكر، سمعوها فقبلوها، وانقادوا، و ( خَرُّوا سُجَّدًا ) أي: خاضعين لها، خضوع ذكر للّه، وفرح بمعرفته..( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) لا بقلوبهم، ولا بأبدانهم، فيمتنعون من الانقياد لها، بل متواضعون لها، قد تلقوها بالقبول، والتسليم، وقابلوها بالانشراح والتسليم، وتوصلوا بها إلى مرضاة الرب الرحيم، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم.
11 * ( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ) (صـ 24 )
+ قال المالكية :إن السجود عند قوله تعالى: ( وأناب ) وقال الحنفية: الأولى أن يسجد عند قوله تعالى: ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) (صـ 25 ) .
((1/87)
قال ابن كثير: وقوله :( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي اختبرناه...وقوله : ( وَخَرَّ رَاكِعًا ) أي: ساجدا ( وَأَنَابَ ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا، ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ )أي: ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة "ص" هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين ، الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال:... عن ابن عباس أنه قال في السجود في "ص" : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها...ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به ، وقال الترمذي: حسن صحيح...وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية: ... عن ابن عباس، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال : "سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكرا "...تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات ... / وقال : وقال البخاري عند تفسيرها أيضا: ... عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة " ص" فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت ؟ فقال : أو ما تقرأ: ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (الأنعام:84) ...( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) ( الأنعام:90)... فكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ...(1/88)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني- أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص" فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال: فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد.... تفرد به الإمام أحمد...
وقال أبو داود: ... عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر " ص" فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن الناس للسجود، فقال: " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تَشَزّنْتُم ". فنزل وسجد وسجدوا... تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح ...وقوله: ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) أي: وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح: "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا" /رواه مسلم/
وقال الإمام أحمد: ... عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر". ...وقال ابن أبي حاتم: عن مالك بن دينار في قوله: ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) قال: يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا. فيقول: وكيف وقد سلبته؟ فيقول: إني أرده عليك اليوم. قال: فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان ...
((1/89)
وقال السعدي : لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا بذلك مقصودا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، وغفر له، وقيض له هذه القضية، فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) فإنه نبأ عجيب ( إِذْ تَسَوَّرُوا ) على داود ( الْمِحْرَابَ ) أي: محل عبادته من غير إذن ولا استئذان، ولم يدخلوا عليه مع باب، فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف، فقالوا له: نحن ( خَصْمَانِ ) فلا تخف ( بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) بالظلم ( فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ) أي: بالعدل، ولا تمل مع أحدنا ( وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ )...والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف، وإذا كان ذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي اللّه داود من وعظهما له، ولم يؤنبهما... فقال أحدهما: ( إِنَّ هَذَا أَخِي ) نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره. ( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه...( وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) فطمع فيها (فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ) أي: دعها لي، وخلها في كفالتي. ( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي: غلبني في القول، فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد...(1/90)
فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما، أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقول القائل: " لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر " ؟ ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم ، فقال: ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) لأن الظلم من صفة النفوس... ( إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، يمنعهم من الظلم... ( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) كما قال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )... ( وَظَنَّ دَاوُدُ ) حين حكم بينهما ( أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه ( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) لما صدر منه، ( وَخَرَّ رَاكِعًا ) أي: ساجدا ( وَأَنَابَ ) للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة... ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) الذي صدر منه، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات، فقال: ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ) أي: منزلة عالية، وقربة منا، ( وَحُسْنَ مَآبٍ )أي: مرجع...
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
12 * ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (فصلت 37 )
((1/91)
قال ابن كثير : يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر، ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) أي: أنه خلق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يقران، والشمس ونورها وإشراقها، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه، واختلاف سيره في سمائه، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار، والجمع والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق، وأوقات العبادات والمعاملات...ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده، تحت قهره وتسخيره، فقال: ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) أي: ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به؛ ولهذا قال: ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ) أي: عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره، ( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) يعني: الملائكة، ( يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) ، كقوله ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) (الأنعام: 89 )...وقال الحافظ أبو يعلى: ...عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الليل ولا النهار، ولا الشمس ولا القمر، ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم، وعذابا لقوم " / قال الهيثمي في المجمع : "إسناده ضعيف"./ ...
((1/92)
وقال القرطبي : قوله تعالى " ومن آياته " ، أي علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته " الليل والنهار والشمس والقمر " ... ثم نهى عن السجود لهما، لانهما وان كانا خلقين فليس ذلك لفضيلة لهما في انفسهما فيستحقان بها العبادة مع الله ، لان خالقهما هو الله ، لو شاء لأعدمهما أو طمس نورهما... " واسجدوا لله الذى خلقهن " وصورهن وسخرهن، فالكناية ترجع إلى الشمس والقمر والليل والنهار...وقيل: للشمس والقمر خاصة، لأن الاثنين جمع ...وقيل: الضمير عائد على معنى الآيات... وإنما أنث على جمع التكثير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر والمؤنث لأنه فيما لا يعقل... " إن كنتم إياه تعبدون " ..." فان استكبروا " يعنى الكفار عن السجود لله " فالذين عند ربك " من الملائكة " يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسامون " أي لا يملون عبادته...قال زهير
سمئت تكاليف الحياة ومن يعش وثمانين حولا لا أبا لك يسام
- مسألة - هذه الآية آية سجدة بلا خلاف، واختلفوا في موضع السجود منها... فقال مالك: موضعه " إن كنتم إياه تعبدون "، لأنه متصل بالأمر...وكان علي وابن مسعود وغيرهم يسجدون عند قوله: " تعبدون "...وقال ابن وهب والشافعي: موضعه " وهم لا يسأمون " لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال...وبه قال أبو حنيفة...وكان ابن عباس يسجد عند قوله: " يسأمون "...وقال ابن عمر: اسجدوا بالآخرة منهما...وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي وأبي صالح ويحيى بن وثاب وطلحة وزبيد الياميين والحسن وابن سيرين.
وكان أبو وائل وقتادة وبكر بن عبد الله يسجدون عند قوله: " يسأمون "...قال ابن العربي: والأمر قريب.(1/93)
- مسألة: ذكر ابن خويز منداد: أن هذه الآية تضمنت صلاة كسوف القمر والشمس، وذلك أن العرب كانت تقول: إن الشمس والقمر لا يكسفان إلا لموت عظيم، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف...قلت: صلاة الكسوف ثابتة في الصحاح البخاري ومسلم وغيرهما...واختلفوا في كيفيتها اختلافا كثيرا، لاختلاف الآثار، وحسبك ما في صحيح مسلم من ذلك ، وهو العمدة في الباب...والله الموفق للصواب.// صحيح مسلم ـ كتاب الكسوف ؛ باب صلاة الكسوف //
( وقال السعدي : قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )(1/94)
- ذكر تعالى أن ( مِنْ آيَاتِهِ ) الدالة على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته، وسعة سلطانه، ورحمته بعباده، وأنه الله وحده لا شريك له... ( اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ) هذا بمنفعة ضيائه، وتصرف العباد فيه، وهذا بمنفعه ظلَمه، وسكون الخلق فيه.( وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) اللذان لا تستقيم معايش العباد، ولا أبدانهم، ولا أبدان حيواناتهم، إلا بهما، وبهما من المصالح ما لا يحصى عدده...( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ ) فإنهما مدبران مسخران مخلوقان. ( وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خلقهن ) أي: اعبدوه وحده، لأنه الخالق العظيم، ودعوا عبادة ما سواه، من المخلوقات، وإن كبر، جرمه وكثرت مصالحه، فإن ذلك ليس منه، وإنما هو من خالقه، تبارك وتعالى.( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين له...( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ) عن عبادة الله تعالى، ولم ينقادوا لها، فإنهم لن يضروا الله شيئًا، والله غني عنهم، وله عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولهذا قال: ( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ) يعني: الملائكة المقربين ( يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) أي: لا يملون من عبادته، لقوتهم، وشدة الداعي القوي منهم إلى ذلك...
13 *( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ( النجم 59- 62 )
(قال ابن كثير :قوله تعالى : ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا )(1/95)
- ( هَذَا نَذِيرٌ ) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم ( مِنَ النُّذُرِ الأولَى ) أي: من جنسهم، أرسل كما أرسلوا، كما قال تعالى: ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل ) (الأحقاف: 9)...( أَزِفَتِ الآزِفَة ) أي: اقتربت القريبة، وهي القيامة، ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) أي: لا يدفعها إذًا من دون الله أحد، ولا يطلع على علمها سواه...ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم : ( تَعْجَبُونَ ) من أن يكون صحيحا ، ( وَتَضْحَكُونَ ) منه استهزاء وسخرية، ( وَلا تَبْكُونَ ) أي: كما يفعل الموقنون به، كما أخبر عنهم: ( وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (الإسراء: 109)... وقوله: ( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الغناء، هي يمانية، اسْمِد لنا: غَنّ لنا. وكذا قال عكرمة...وفي رواية عن ابن عباس: ( سَامِدُونَ ) : معرضون. وكذا قال مجاهد، وعكرمة... وقال الحسن: غافلون ... وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وفي رواية عن ابن عباس: تستكبرون. وبه يقول السدي... ثم قال تعالى آمرا لعباده بالسجود له ، والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ، والتوحيد والإخلاص: ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) أي: فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا... قال البخاري: ... عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. / انفرد به دون مسلم .... وقال الإمام أحمد : ... عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة، عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم، فسجد وسَجَد من عنده، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب ،فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها إلا سجد معه ...وقد رواه النسائي في الصلاة ، عن عبد الملك بن عبد الحميد، عن أحمد بن حنبل، به ...//
((1/96)
وقال القرطبي : قوله تعالى: ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا )
- قوله تعالى: (هذا نذير من النذر الاولى) قال ابن جريج ومحمد بن كعب: يريد أن محمدا صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الانبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلا حل بكم ما حل بمكذبي الرسل السالفة...وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أنذرت به الكتب الاولى...وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الامم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الامة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر، والنذر في قول العرب بمعنى الانذار كالنكر بمعنى الانكار، أي هذا إنذار لكم... وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الامم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى...(1/97)
وقال السدي أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى*وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى *وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى *وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى * ) ...كل هذه في صحف إبراهيم وموسى....
- قوله تعالى: (أزفت الازفة) أي قربت الساعة ودنت القيامة...وسماها آزفة لقرب قيامها عنده، كما قال:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً ) (المعارج : 6 – 7 )... وقيل: سماها آزفة لدنوها من الناس وقربها منهم ليستعدوا لها، لان كل ما هو آت قريب... قال:
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
وفي الصحاح: أزف الترحل يأزف أزفا أي دنا وأفد، ومنه قوله تعالى: (أزفت الآزفة) يعني القيامة، وأزف الرجل أي عجل فهو آزف على فاعل، والمتآزف القصير وهو المتداني...قال أبو زيد: قلت لاعرابي ما المحبنطئ ؟ قال: المتكأكئ.(1/98)
قلت : ما المتكأكئ ؟ قال: المتآزف...قلت: ما المتآزف ؟ قال: أنت أحمق وتركني ومر....( ليس لها من دون الله كاشفة) أي ليس لهامن دون الله من يؤخرها أو يقدمها...وقيل: كاشفة أي أنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله، فالكاشفة اسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاء في العاقبة والعافية والداهية والباقية، كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء...وقيل: أي لا أحد يرد ذلك، أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى...وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردها كشفا، فالكاشفة على هذا نعت مؤنث محذوف، أي نفس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة... وقيل: إن (كاشفة ) بمعنى كاشف ،والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.
- قوله تعالى: (أفمن هذا الحديث) يعني القرآن ...وهذا استفهام توبيخ (تعجبون ) تكذيبا به (وتضحكون) استهزاء (ولا تبكون) انزجارا وخوفا من الوعيد...وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما روى بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسما...وقال أبو هريرة: لما نزلت (أفمن هذا الحديث تعجبون) قال أهل الصفة: ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يلج النار من بكى من خشية الله ، ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله ؛ ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم )...وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا ؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم.(1/99)
- قوله تعالى: (وأنتم سامدون) أي لاهون معرضون....عن ابن عباس، رواه الوالبي والعوفي عنه...وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حمير، يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا...
وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون...وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد، قال : سوامد الليل خفاف الازواد ، أي يقول: ليس في بطونها علف...وقال ابن الاعرابي: سمدت سمودا علوت.
وسمدت الابل في سيرها جدت...والسمود اللهو، والسامد اللاهي، يقال للقينه: أسمدينا، أي ألهينا بالغناء...وتسميد الارض أن يجعل فيها السماد وهو سراجين ورماد...وتسميد الرأس استئصال شعره، لغة في التسبيد...واسمأد الرجل بالهمز اسمئدادا أي ورم غضبا...وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى (سامدون) أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة...وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الامام، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج الناس ينتظرونه قياما فقال: (مالي أراكم سامدين) حكاه الماوردي...وذكره المهدوي عن علي، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياما ، ينتظرونه ، فقال: (مالكم سامدون) قاله المهدوي....والمعروف في اللغة: سمد يسمد سمودا إذا لها وأعرض...وقال المبرد: سامدون خامدون، قال الشاعر:
أتى الحدثان نسوة آل حرب بمقدور سمدن له سمودا
وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ( أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون) لم ير ضاحكا إلا مبتسما حتى مات صلى الله عليه وسلم....ذكره النحاس.
- قوله تعالى: (فاسجدوا لله واعبدوا) قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن...وهو قول ابن مسعود... وبه قال أبو حنيفة والشافعي/.../ وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ابن عمر، كان لا يراها من عزائم السجود.(1/100)
وبه قال مالك ...وروى أبي بن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل...والاول أصح ...
(وقال السعدي : قوله تعالى : ( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى * أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا *)
-( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى )أي: هذا الرسول القرشي الهاشمي محمد بن عبد الله، ليس ببدع من الرسل، بل قد تقدمه من الرسل السابقين، ودعوا إلى ما دعا إليه، فلأي شيء تنكر رسالته ؟ وبأي حجة تبطل دعوته ؟ أليست أخلاقه أعلى أخلاق الرسل الكرام ؟ أليست دعوته إلى كل خير والنهي عن كل شر؟ ألم يأت بالقرآن الكريم الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : 42 ) ؟ ألم يهلك الله من كذب من قبله من الرسل الكرام ؟ فما الذي يمنع العذاب عن المكذبين لمحمد سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين؟(1/101)
- ( أَزِفَتِ الآزِفَةُ ) أي: قربت القيامة، ودنا وقتها، وبانت علاماتها. ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) أي: إذا أتت القيامة وجاءهم العذاب الموعود به.... وتوعد المنكرين لرسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم، فقال: ( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) ؟ أي: أفمن هذا الحديث الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه تتعجبون ؟ وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة الخارقة للأمور والحقائق المعروفة ؟ هذا من جهلهم وضلالهم وعنادهم، وإلا فهو الحديث الذي إذا حدث صدق، وإذا قال قولا فهو القول الفصل الذي ليس بالهزل، وهو القرآن العظيم، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، الذي يزيد ذوي الأحلام رأيا وعقلا وتسديدا وثباتا، وإيمانا ويقينا والذي ينبغي العجب من عقل من تعجب منه، وسفهه وضلاله.
- ( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ) أي: تستعملون الضحك والاستهزاء به، مع أن الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب، وتبكي له العيون،سماعا لأمره ونهيه، وإصغاء لوعده ووعيده، والتفاتا لأخباره الحسنة الصادقة
( وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ) أي: غافلون عنه، لاهون عن تدبره ، وهذا من قلة عقولكم وأديانكم فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) الأمر بالسجود لله خصوصا، ليدل ذلك على فضله ، وأنه سر العبادة ولبها، فإن لبها الخشوع لله والخضوع له، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد، فإنه يخضع قلبه وبدنه، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام... ثم أمر بالعبادة عموما، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة...(1/102)
14 *( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) ( الإنشقاق 20 - 21 )...
( قال ابن كثير : وقوله: ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) أي: فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا قرأت عليهم آيات الرحمن وكلامه-وهو هذا القرآن-لا يسجدون إعظاما وإكرامًا واحتراما؟.
(وقال القرطبي : قوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) أي لا يصلون...وفي الصحيح: إن أبا هريرة قرأ " إذا السماء انشقت " فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها...وقد قال مالك : إنها ليست من عزائم السجود، لان المعنى : لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته....قال ابن العربي: والصحيح أنها منه، وهي رواية المدنيين عنه، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة...
((1/103)
وقال الألوسي : قوله تعالى :{ وَإِذا قُرِىء عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ } عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها ، أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن ؟ والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة ، أو المراد به الصلاة ، وفي قرن ذلك بالايمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى، أو هو على ظاهره ، فالمراد بما قبله قريء القرآن المخصوص، أو وفيه آية سجدة ...وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية // أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ( إِذَا السماء انشقت ) و ( اقرأ باسم رَبّكَ ) ... وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ ( إِذَا السماء انشقت ) فسجد؛ فقلت له فقال : سجدت فيها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام... وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال : ليس في المفصل سجدة // والمفصل من سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل من الفتح ، وقيل وهو قول الأكثر من الحجرات ...وهي سنة عند الشافعي الشافعي، وواجبة عند أبي حنيفة ...قال الإمام روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم ( واسجد واقترب ) (العلق : 19 ) فسجد هو ومن معه من المؤمنين ، وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر ، فنزلت هذه الآية ... واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين : الأول إن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى ( اتبعوه ) ، والثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد ، وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب. انتهى ... وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت . //
((1/104)
وقال البقاعي : ( وإذا قرىء ) أي من أي قارىء كان ( عليهم القرآن ) أي الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ، الفارق بين كل ملتبس من الحرام والحلال وغير ذلك ...( لا يسجدون ) أي لا يخضعون بالقلب ويتذللون للحق بالسجود اللغوي فيسجدون بالقالب السجود الشرعي لتلاوته لأنه ملك الكلام ، قد أبان عن معارف لا تحصر ، مع الشهادة لنفسه بإعجازه أنه من عند الله ، ليس لهم في ذلك عذر إلا الجهل أو العجز ، ولا جهل مع القرآن ولا عجز مع القوة والاختيار ... ولما كان هذا استفهاماً إنكارياً معناه النفي ، فكان التقدير : إنهم لا يؤمنون ولا عذر لهم في ذلك أصلاً ، أضرب عنه بقوله : ( بل ) ووضع الظاهر موضع المضمر تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على التكذيب فقال : ( الذين كفروا ) أي ستروا مرائي عقولهم الدالة على الحق ( يكذبون ) أي بالقرآن وبما دل عليه من حقائق العرفان المعلية إلى أوج الإيمان بالواحد الديان ، ( والله ) أي والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ( أعلم ) أي منهم أنفسهم ( بما يوعون ) أي يضعون في أوعية صدورهم من الكفر والعداوة بسبب الشهوات الشاغلة لهم وهي حب الرئاسة وادعاء الألوهية الشاغلة لهم عن التدبر لهذا القرآن وعن شواهد الموجودات ...ولما كان هذا موجباً لشديد الإنذار ، وضع موضعه تهكماً بهم وإعلاماً بأن الغضب قد بلغ منتهاه قوله : ( فبشرهم ) أي أخبرهم يا أفضل الخلق وأكملهم وأعدلهم خبراً يغير إبشارهم ( بعذاب أليم ) أي شديد الألم لشدة إيلامه ، إن كان لهم يوماً من الأيام بشارة فهي هذه ...ولما أخبر عنهم بهذا الهوان ، وكان قد عبر عنهم بأدنى الأسنان إشارة إلى أن منهم من يقبل الإيمان ، استثنى منهم فقال : ( إلا الذين آمنوا ) أي أقروا بالإيمان( وعملوا ) دلالة على صدق إيمانهم ( الصالحات ) ...(1/105)
وبما أن من حوسب عذب ، وأن الناجي إنما يكون حسابه عرضاً ، علم أنه ليس للأعمال دخل في الحقيقة في الأجر ، وإنما المدار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم على التغمد بالرحمة حتى في تسمية النعيم أجراً ، وأسقط الفاء المؤذنة بالسبب تنبيهاً على ذلك بخلاف ما في سورة التين لما يأتي من اقتضاء سياقها للفاء ، فقال : ( لهم أجر ) أي عظيم وثواب جزيل يعلمه الله تعالى وهو التجاوز عن صغائرهم وسترها( غير ممنون ) أي غيرمقطوع أو منقوص أو يمتن عليهم به في الدنيا والآخرة ، يؤتون ذلك في يوم الدين ، يوم تنشق السماء وتمد الأرض ويثوب الكفار ما كانوا يفعلون ، فقد رجع آخرها على أولها ، واعتلق مفصلها حق الاعتلاق بموصلها ...
15 * ( كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ( العلق 19 )
((1/106)
قال ابن كثير : قال تعالى: ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى ) نزلت في أبي جهل، لعنه الله، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال: ( أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ) أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله ، أو ( أَمَرَ بِالتَّقْوَى ) بقوله ، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته ؛ ولهذا قال: ( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) أي: أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء... ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا: ( كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ) أي: لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد ( لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ) أي: لنَسمَنَّها سوادا يوم القيامة... ثم قال: ( نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ) يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعَالها... ( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ) أي: قومه وعشيرته، أي: ليدعهم يستنصر بهم، ( سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) وهم ملائكة العذاب ، حتى يعلم من يغلبُ: أحزبُنا أو حزبه...
- قال البخاري: ... عن ابن عباس، قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه . فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "لئن فعله لأخذته الملائكة ...وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق، به ...وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زكريا بن عَدِيّ، عن عبيد الله بن عمرو، به...(1/107)
وروى أحمد، والترمذي ، وابن جرير -وهذا لفظه- من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا؟ -وَتَوعَّده-فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره ، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا ! فأنزل الله:( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ )قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته ؛ وقال الترمذي: حسن صحيح... وقال الإمام أحمد أيضًا =...عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه... قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يُبَاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا" ... وقال ابن جرير أيضا =...عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله، عز وجل: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) حتى بلغ هذه الآية: ( لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى فقيل: ما يمنعك ؟ قال: قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه ...وقال ابن جرير=... عن أبي هُرَيرة قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم...، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفِّرن وجهه في التراب...(1/108)
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلي ليطأ على رقبته ، قال: فما فَجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خَنْدقا من نار وهَولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" . قال: وأنزل الله -لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا-: ( كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى ) إلى آخر السورة...وقد رواه أحمد بن حنبل، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، من حديث معتمر بن سليمان، به
- وقوله: ( كَلا لا تُطِعْهُ ) يعني: يا محمد، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس، ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) كما ثبت في الصحيح -عند مسلم =... عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" ...
( وقال القرطبي : قوله تعالى:( كلا لا تطعه واسجد واقترب) ، (كلا) أي ليس الامر على ما يظنه أبو جهل.
(لا تطعه) أي فيما دعاك إليه من ترك الصلاة ...(واسجد) أي صل لله (واقترب) أي تقرب إلى الله جل ثناؤه بالطاعة والعبادة...وقيل: المعنى: إذا سجدت فاقترب من الله بالدعاء...روى عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه، وأحبه إليه، جبهته في الارض ساجدا لله ....
- قال علماؤنا: وإنما كان ذلك لانها نهاية العبودية والذلة، ولله غاية العزة، وله العزة التي لا مقدار لها، فكلما بعدت من صفته، قربت من جنته، ودنوت من جواره في داره...وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قَمِنٌ أن يستجاب لكم .
ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا منا إليك فعزها في ذلها(1/109)
وقال زيد بن أسلم: اسجد أنت يا محمد مصليا، واقترب أنت يا أبا جهل من النار.
وقوله تعالى: " واسجد " هذا من السجود... يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة ...قال ابن العربي: والظاهر أنه سجود الصلاة ، لقوله تعالى: " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى - إلى قوله - كلا لا تطعه واسجد واقترب "، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الائمة عن أبي هريرة أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في " إذا السماء انشقت " وفي " اقرأ باسم ربك الذي خلق " سجدتين ، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة...وقد روى ابن وهب، عن حماد ابن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: عزائم السجود أربع: ( ألم )، و ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم )، و ( والنجم ) ، و ( اقرأ باسم ربك ) ... وقال ابن العربي: وهذا إن صح يلزم عليه السجود الثاني من سورة " الحج "، وإن كان مقترنا بالركوع، لانه يكون معناه اركعوا في موضع الركوع، واسجدوا في موضع السجود ...وقد قال ابن نافع ومطرف: وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من " اقرأ باسم ربك " وابن وهب يراها من العزائم...
(وقال السعدي :... أمره الله – نبيه - أن لا يصغى إلى هذا الناهي- أبي جهل - ولا ينقاد لنهيه فقال: ( كَلا لا تُطِعْهُ ) أي: فإنه لا يأمر إلا بما فيه خسارة الدارين ،( وَاسْجُدْ )لربك ( وَاقْتَرِبْ ) منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات، فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه...
((1/110)
وقال ابن عاشور : قوله :( كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد )... هذا فذلكة للكلام المتقدم من قوله : ( أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى ) ، أي لا تترك صلاتك في المسجد الحرام ولا تخش منه ...وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل ، والمعنى : لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يَضرك ...وأكد قوله : ( لا تطعه ) بجملة ( واسجد ) اهتماماً بالصلاة ...وعطف عليه ( واقترب ) للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلّي مقترباً من الله تعالى ...والاقتراب : افتعال من القرب ، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب ، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة ...
تم
والحمد لله رب العالمين
وكان الفراغ منه يوم 20 ذي القعدة 1427
أبو يوسف محمد زايد(1/111)