مفهوم
التفسير والتأويل
والاستنباط والتدبر والمفسر
د . مساعد بن سليمان الطَّيَّار
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
المقدمة
الحمد لله مُتِمِّ النِّعمِ على عباده، يعيدُ فضلَه عليهم كما يبديه لهم، وينشر لهم رحمته، ويُيسِّر لهم عبادته. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله الطاهرين، وعلى صحبِه الكرام، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فلقد كنتُ أحجمُ عن تحريرِ بعضِ المصطلحاتِ خوفَ الوقوعِ في مشكلةِ تفلسفٍ لا معنى لها، وكنت قد تتبعت بعض المصطلحات، فرأيت فيها خللاً من جهة التعريفِ، أو خللاً من جهة النتائج، كمصطلح التَّفسيرِ، ومصطلح التفسير الموضوعي، ومصطلح الإعجاز العلمي(1)
__________
(1) لقد كتبت في هذا الموضوع رسالة أرجو أن ييسِّر الله أمرها، وقد كنت أتحاشى الكتابة في هذا الموضوع لما فيه من كثرة المطروح، وبعد أن قرأت في بعض هذه الكتب التي تتحدث عن الإعجاز العلمي، ظهر لي أنَّ الأمر يحتاج إلى إيضاح لهذا الموضوع، وضبطٍ لما يُفسَّر به القرآن من هذه القضايا التي أنتجها البحث التجريبي المعاصر، وظهر لي أنَّ في تسميته بهذا الاسم خللاً، وأنَّه يصدق عليه أن يكون ((دلائل صدق القرآن))، وليس الإعجاز، كما أنَّ التفسيرات غيره ليست علميَّة، مع ملاحظة أنَّ هذه التسمية فيها آثار التغريب الذي يجعل العلوم الدنيوية توسم بالعلم، وغيرها من العلوم الأدبية والاجتماعية والشرعية على وجه الخصوص لا توسم بذلك، والموضوع ذو شجون، وإنما أشرت إليه هنا لأخلص إلى سؤالين طُرحا عليَّ بشأن مسألتين متعلقتين بما يُسمَّى الإعجاز:
السؤال الأول: فيما ظهر لبعض الناس من توافق عددي بين ما حصل من الحدث العظيم الذي عاقب الله به الكفار في (2001:9:11)، مع آية في سورة التوبة، فقد ظهر لذلك القارىء أنَّ الآية العاشرة بعد المائة (110) تشير إلى أحد البرجين الذي تتكون طوابقه من هذا العدد، وأنَّ عدد السورة في ترتيب المصحف هي التاسعة تشير إلى الشهر الميلادي، وأنَّ الجزء الذي فيه هذه الآية هو الحادي عشر تشير إلى اليوم الذي وقع فيه هذا الحدث، فزعم أنَّ هذا من إعجاز القرآن، لأنه - بزعمه - أشار إلى هذا الحدث المستقبلي!.
ولا أدري لِمَ لَمْ ينظر إلى العدِّ بالحساب القمري، ولا ذكر البرج الثاني الذي لا يتوافق مع العدد الذي ظهر له؟!.
وهذا بلا شكٍّ موافقة غير مقصودة، والآية نازلة في مسجد الضرار، وليس هنا علاقة بينها وبين ما حدث لا من قريب ولا من بعيد، ومن قال: إنَّ هذا البرج من مباني الضرار، فأين موقع الآخر من الآيةِ، وإذا كان يعدُّ هذين البرجين من مباني الضرار، قياسًا على مسجد الضرار، فإنه يدخل في الآية كل مباني الكفار التي يعملون بها ضد العالم، وضدَّ المسلمين بالذات.
ثمَّ ما الحاجة الداعية إلى هذا الربط الغريب العجيب، ومن ذا الذي يجزم بأن هذا مرادٌ لله، إنَّ هذا مما يدخل في الرأي المذموم، لأنه قول على الله بغيرِ علمٍ، ما أكثر ما يقع من أصحاب ما يسمَّى بالإعجاز العلمي، أو التفسير العلمي.
وهل يعتمد صاحب هذا القول على أنَّ هذا الترتيب جاء بالتوقيف، أم يرى أنَّه على ما جاء من مصادقة الترتيب هذه.
فإن كان جاء مصادفةً، فما أكثر المصادفات التي يمكن أن تظهر لكَ، فقد تظهر لك مصادفات متعلقة بالأرقام وأنت تقرأ كتاب تاريخ، أو غيره، فهل هذه المصادفات من قبيل الإعجاز؟!.
وإن كان يزعم أنَّ هذا مرادٌ، وأنه ليس من قبيل المصادفة، فقوله منقوضٌ بأمورٍ:
الأول: أنَّ ترتيب الأجزاء من عمل المتأخرين، وليس فيه توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عمل اجتهاديٌّ.
الثاني: أنَّ في ترتيب السور قولين: قيل: إنه اجتهادي، وقيل: إنه توقيفي، ولعل من ظهر له هذا التوافق العجيب لا يعلم بهذا، وإن عَلِمَ فهل حرَّر مسألة التوقيف والاجتهاد في ترتيب السور ليجعل ما توصل إليه من هذا التوافق صحيحاً.
الثالث: هل يعلم قائل هذا القول علماً يُسمَّى ((علم عدِّ الآي))؟ وهل يعلم أنه مختلفٌ في عدد آي هذه السورة على قولين:
الجمهور على أنها مائة وثلاثون آية، وفي العدِّ الكوفي الذي عليه عدُّ المصحف الذي بين يديك عدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية. وعلى قول الجمهور ينتقضُ عدد الآية، لأنه يكون عددها على قولهم آية 111، فهل دَرَى بهذا، وحرَّر هذه المسألة؟.
وكأني بك أيها القارىء الكريم تقول: قد أطلت في هذا، وهو مما لا يحتاج إلى إطالة في بطلانه، فأقول لك متعذرًا: إنَّ عصرك عصرٌ يسود فيه من يأتي بالغرائب، ويبرز فيه من يحسن جلبها، فأحببت أن أردَّ من يتعرَّضُ لكتاب الله بما لا يقبله عقل العقلاءِ، ولكي يُعلمَ أنَّ العلم له بابٌ من أراده من غير بابه خرج بما لا تقبله العقول، وجاء بما لا ينطلي إلا على قلوب الأغرار، ولو كانوا يُعدُّون عند الناس من الكبار.
وإني أخبرك بأنك لست بحاجة لإثبات عظمة القرآن وصدقه إلى هذا السبيل، وهو ما يسمى بالإعجاز، إذ أنه ليس هو السبيل الوحيد لإثبات عظمة هذا القرآن، بل هو أحد هذه السُّبل، واعلم أن العلم وحده قد لا يكفي ما لم يكن له قوة تحميه، وإنَّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فافهم عني ما قلت، والله الموفق إلى سواء السبيل.
السؤال الثاني: قال السائل سمعت في شريط الإعجاز العلمي للدكتور زغلول النجار حديثه عن ما يتعلق بقوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) [الحديد: 25]، وكان مما قاله في هذا ما نصُّه: ((كنت أُلقي هذه المحاضرة في جامعة ملبورن في إستراليا من أربع سنوات، فوقف لي أستاذ كيمياء في الجامعة، وقال لي: يا سيدي، هل حاولت أن تقارن بين رقم سورة الحديد في القرآن الكريم والوزن الذري للحديد، ورقم الآية في السورة والعدد الذري للحديد؟.
قلت له: لا، موضوع الأرقام موضوع حرج للغاية، إذا لم يدخله الإنسان بحذر شديد يدمِّر نفسه.
قال: أرجوك، حينما تعود إلى بلدك أن تتحقق من هذه القضية...
أتيت بالمصحف الشريف، وبالجدول الدوري للعناصر وكتاب في الكيمياء غير العضوية، فأذهلني أن رقم سورة الحديد سبع وخمسون، والحديد له ثلاث نظائر (54، 56، 57) ورقم الآية في السورة (25)، والعدد الذري للحديد (26)، فقلت: إن هذا القرب الشديد لا بدَّ أن له تفسيراً، فألهمني ربي آية قرآنية مبهرة، يقول فيها الحق تبارك وتعالى مخاطباً هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم... ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) [الحجر: 87] ، فالقرآن بنصه يفصل الفاتحة عن بقية القرآن الكريم، ويعتبر الفاتحة مقدمة للقرآن، فقلت: إذا فصلنا الفاتحة عن بقية سور القرآن الكريم يصبح رقم سورة الحديد (56)، ولو بقيت (57)، ففيه نظير للحديد (57)، لكن أكثر النظائر انتشارًا للحديد (56).
الآية رقمها (25)، والعدد الذري للحديد (26)، ووجدت القرآن الكريم يصف الفاتحة بأنها سبع من المثاني، وآياتها ستٌّ، فالبسملة آية من الفاتحة وآية من كل سورة قرآنية ذكرت فيها البسملة ما عدا سورة التوبة، فإذا أضفنا البسملة في مطلع سورة الحديد يصبح رقم الآية (26)، ويعجب الإنسان إلى هذه اللفتة المبهرة، من الذي علَّم المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك قبل ألف وأربعمائة سنة، لم يكن أحد يعلم شيئًا عن الأوزان الذرية، ولا لأعدادها الذرية، ولكن هذه معجزة هذا الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الومضات القرآنية المبهرة تبقى دائمًا شهادة صدق على أن القرآن كلام الله، وأنَّ هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم كان موصولاً بالوحي)) (محاضرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، للدكتور زغلول النجار، تسجيلات أحد).
ولا أرى أنه يخفى على العامِّي قبل المتعلِّم ذلك التَّكلف الذي قام به الدكتور الفاضل لإثبات قضية لا شأن لها في ذاتها، فضلاً عن أن تكون معجزة من معجزات القرآن، ولا يخفى على طالب العلم ما وقع له في تفسير الآية، ولا أدري هل يعرف الدكتور الفاضل التفسير النبوي لهذه الآية؟! فالوارد عنه صلى الله عليه وسلم يجعل السبع المثاني والقرآن العظيم وصفين للفاتحة، والعطف هنا من باب عطف الصفات لا عطف الذوات، فقد روى البخاري وغيره جملة من الأحاديث في هذا المعنى، ومنها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أم القرآن: هي السبع المثاني والقرآن العظيم)). رواه البخاري برقم (4704)، وقال ابن كثير معلقًا على هذه الروايات: ((فهذا نصٌّ في أنَّ الفاتحة السبعُ المثاني والقرآن العظيم)). تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (547:1)، وما دام ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فإن غيره من الأقوال تسقط، ويكون تفسير الآية ما قاله صلى الله عليه وسلم.
كما لا يخفى ما وقع منه في جزمه بأن البسملة آية من كل سورة، بلا تحقيق في هذه المسائل، ولا رجوع إلى أهل العلم الذين يُعرفُ كلامهم فيها، بل اختار ما يناسب ما يريد أن يذهب إليه، وهو معرض عن ما لا يناسبه، بل تحقيق علميٍّ، كما عوَّده البحث في العلوم التجريبية، وهل يصحُّ هذا الاختيار بلا تحقيق؟!
وكذلك لا يسعفه علم عدِّ الآي فعدد آيات السورة في العدِّ الكوفي والبصري (29)، وفي عدِّ الباقين (28)، وبهذا تكون الآية (24) بدلاً من أن تكون (25)، ولو جعل البسملة آية على هذا القول، لصارت الآية (25)، ولا نتقض ما بناه أيضًا.
وكل هذا التكلف في محاولة ربط مثل هذه القضايا بالقرآن إنما يصدر ممن يأتي إلى القرآن بمقررات سابقة ويريد أن يطوِّع القرآن لمقرراته، ضاربًا بكل ما خالفها عُرض الحائط، ولو كان ما خالف قولَه هو العلم الصحيح، وفي هذه المحاضرة في الإعجاز العلمي أخطاء أخرى ليس هذا محلُّ عرضِها.
(ينظر في ما ذُكر من عدِّ الآي: كتاب البيان في عدِّ أي القرآن، للداني، تحقيق: الدكتور غانم قدوري الحمد).(1/1)
وغيرها.
ورأيت أنَّ بعضها بحاجة إلى تحرير، لأنها لم تُحرَّر، كمصطلح المفسر، وكالفرق بين مصطلح علومِ القرآنِ ومصطلح أصول التَّفسيرِ، إلى غير ذلك من المصطلحات المنثورةِ في علومِ القرآنِ(1).
وكنت أخشى أن لا يكون البحث فيها مجديًا ولا مفيدًا، وأن يكون الأمرُ من بابِ تسويدِ الورقِ بلا ثمرةٍ علميَّةٍ. ولكنِّي رأيتُ أنَّ بعضها يُبنى عليه مسائلُ علميَّة، وأنَّ تحرير هذه المصطلحات يفيدُ في أمورٍ، منها:
بيان المصطلحِ بذاتِه.
عدم دخول ما ليس منه فيه.
التفريق بين ما يُظنُّ أنه من المترادفات في المصطلحات.
وقد كان من أكبر ما دعاني إلى خوضِ ذلك الغمارِ عدمُ وضوحِ بعض المصطلحاتِ، أو تداخلُ بعضها ببعضٍ، أو بناءُ نتائجَ علمية على تعريفاتٍ غير صحيحةٍ لبعضِ هذه المصطلحات(2).
وقد رأيت أن أقدِّم لهذا الكتاب بتطبيق على مصطلح وقع فيه خلل، وهو مصطلح ((التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي))، ليتبيَّن به أهمية البحث في هذه المصطلحات، وأسأل الله أن يوفِّقني فيما أقول، إنه هو المستعان، وعليه الاتكال.
تطبيق على مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي
__________
(1) لم أكتب في هذا الكتاب سوى مصطلحات خمسة، وهي التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، وذكرت في المقدمة تطبيقاً على أثر الخطأ في المصطلح من خلال مصطلح التفسير بالمأثور وما يقابله من التفسير بالرأي، وما عداها فإني سأنشره لاحقًا إن يسَّر الله.
(2) بعد كتابة هذه المقدمة اطلعت على مقالة مفيدة في المصطلحات، لمحمد الثاني بن عمر بن موسى بعنوان (التقليد والإيضاح لقولهم: لا مشاحة في الاصلاح)، تنظر في مجلة الحكمة (محرم 1422. عدد 22، ص: 281-317).
وانظر دراسةً تطبيقية لأثر المصطلحات في بعض العلوم الشرعية في كتاب (المنهج المقترح لفهم المصطلح) للشريف حاتم بن عارف العوني.(1/2)
إنَّ مصطلح التفسير بالمأثور معروف عند العلماء السابقين، لكنَّ تعريفه بأنه: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بأقوال التابعين = مصطلحٌ معاصر.
وقد جُعِلَ مصطلح التفسير بالمأثور هذا مقابلاً للتفسير بالرأي، أي أنَّ ما لم يكن من التفسير بهذه الأنواع الأربعة، فهو من التفسير بالرأي.
ومما بُنِيَ على هذين المصطلحين من نتائج: تقسيم كتب التفسير على هذين المصطلحين.
وهناك غير ذلك مما ذكره من كتب في هذا المصطلح سيأتي ذكر بعضها أثناء الحديث عنه.
مناقشة هذا المصطلح:
أولاً: في تحديد التفسير بالمأثور في هذه الأنواع الأربعة:
إنَّ من جعل التفسيرَ بالمأثور يشمل هذه الأنواع الأربعة، لم يبين سبب تحديد المأثورِ بها. وهذا التحديد اجتهادٌ، وهو قابل للأخذ والردِّ، كما هو الحال في غيره من المصطلحات العمليَّةِ غير الشرعيَّةِ.
وأقدم من رأيته نص على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني (ت: 1367)، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يأتي: ((هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة تبيانًا لمراد الله من كتابه)) (1).
ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1397)، فذكر هذه الأنواع الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور)، فقال: ((يشمل التفسير المأثور: ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نُقلَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نُقلَ عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نُقِلَ عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم)) (2).
__________
(1) مناهل العرفان (12:2)، ويلاحظ هنا أنه لم يُدخل تفسير التابعين.
(2) التفسير والمفسرون، للذهبي (152:1).(1/3)
ثمَّ تتابع بعض المعاصرين على هذا المصطلحِ بتقسيماته الأربعة. لذا فإنَّ كثرة وجوده في كتب علوم القرآن المعاصرة، أو غيرها من كتب مناهج المفسرين، أو مقدمات بعض المحققين لبعض التفاسير(1) = لا يعني صحَّته على الإطلاق، بل هؤلاء نقلوه عن كتاب ((التفسير والمفسرون)) بلا تحرير ولا تأمُّلٍ فيه، إلا القليل منهم.
إن المعروف من لفظة مأثور: ما أُثرَ عن السابقين، وتحديد زمنٍ معيَّنٍ إنما هو اصطلاحٌ. وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يكون تفسير القرآن بالقرآن مأثورًا، وأنت ترى الله يَمُنُّ عليك بتفسير آيةٍ بآيةٍ، فعن من أثرته؟!
عن من أَثَرَ ابن كثيرٍ (ت: 1393) في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، عمَّن أَثَرَ تفسيراتِه القرآنيةِ للقرآنِ؟!
وإذا كان ذلك واضحًا لك، فكيف يكون اجتهاد المتأخرين والمعاصرين وأهل البدع الذين يحملون بعض الآي على بعضٍ ويفسِّرونها بها، كيف يدخل كلُّ هذا في المأثورِ عن الصحابة والتابعين؟!
__________
(1) من أمثلة الكتب التي سارت على هذا التقسيم: التبيان في علوم القرآن – للصابوني (ص: 63)، أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي د مساعد بن مسلم آل جعفر (ص: 72)، مدرسة التفسير في الأندلس لمصطفى إبراهيم المشني (ص: 127)، مكي بن أبي طالب ومنهجه في التفسير لأحمد حسن فرحات (ص: 231)، مقدمة تحقيق تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم، حققه الشيخ علي محمد معوض وزملاه (45:1).(1/4)
ولا شكَّ أن حمل معنى آية على آية هو من اجتهاد المفسِّر، سواءً أكان المفسر من الصحابة، أم كان من التابعين، أم كان ممن جاء بعدهم، والاجتهاد عرضة للخطأ، ويوزن بميزانٍ علميٍّ معروفٍ، ولا يقبل إلاَّ إذا حَفَّتْ به شرائطُ القبولِ، كأيِّ اجتهادٍ علميٍّ آخر(1).
ومن هنا يجب أن تُفَرِّقَ بين كون القرآن مصدرًا من مصادر التفسير، أو أنه أحسن طرق التفسير، وبين كون التفسير به يُعدُّ من التفسير بالمأثور، والفرق بين هذين واضحٌ.
أين يقع تفسير أتباع التَّابعين في هذين المصطلحين، وما علَّةُ جعلِه مأثورًا أو غير مأثورٍ عند هؤلاء؟.
__________
(1) ليس الحديث هنا عن قبول التفسير بالقرآن وعدم قبوله، لكن ما يُنبَّه عليه هنا أنَّ بعض تفسير القرآن بالقرآن ما يمكن أن يدخل فيما أُجمع عليه، لأنه لا يكاد يختلف فيه اثنان، وهذا إنما قُبِلَ من هذه الجهة فحسب، لا لكونه تفسير قرآن بقرآنٍ فقط، ولا شكَّ أنَّ ما كان تفسيرًا بالقرآن – إن صحَّ – فإنه أولى ما يُرجع إليه، كأن يكون تفسيرًا واردًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون كمثل قوله تعالى: ( وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) [الطارق: 1- 3]، فمن ذا الذي يمكنه أن لا يفسِّر الطارقَ بأنه النجم الثاقب. وهذا النوع أعلى التفاسير وأبلغُها، لكن هناك كثيرٌ من تفسيرات للقرآن بآي من القرآن عليها ملاحظات، وفيها أخطاء، فلا يمكن أن يُحْكَمَ لها بالصحَّة لأنها تفسير قرآن بقرآن.(1/5)
لقد عَلَّلَ محمد حسين الذهبي (ت: 1397) لسبب إدخال تفسير التَّابعين في المأثور، فقال: ((وإنما أدرجنا في التفسير بالمأثور ما رُوي عن التابعين – وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرَّأي؟(1) – لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور – كتفسير ابن جرير وغيره – لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة، بل ضمَّنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير)) (2).
وإذا تأمَّلت هذه العِلَّة التي ذكرها، وجدتها أنها تندرج على مفسِّري أتباع التابعين، كابن جُريج (ت: 150)، وسفيان الثوري (ت: 161) وابن زيد (ت: 182) وغيرهم ممن ترى تفسيراتهم منثورةً في كتب التفسير التي تُعنى بنقل أقوال مفسري السلف – كتفسير الطبري (ت: 310) وابن أبي حاتم (ت: 327) وغيرهما – بل قد لا يوجدُ في مقطع من مقاطع الآية إلا تفسيرُهم، فَلِمَ لمْ يعُدَّها من التفسيرِ بالمأثورِ؟!.
إن بيان أصل الخلطِ في هذا المصطلحِ يدلُّ على عدمِ تحريره وصحَّته، فقد كان أصل النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) في حديثه عن أحسن طرق التفسير، وهي تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين(3).
__________
(1) يظهر أنَّه نقله من الزرقاني، فقد قال في مناهل العرفان (13:2): ((وأمَّا ما ينقل عن التابعين ففيه خلافٌ بين العلماءِ: منهم من اعتبره من المأثورِ، لأنهم تلقَّوه من الصحابة غالبًا، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي)).
(2) التفسير والمفسرون (152:1).
(3) ينظر: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص: 93- 102).(1/6)
ومما يبيِّنُ أنهم اعتمدوا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ (ت: 728) وغيَّروا المصطلحَ من ((طرق التفسير)) إلى ((التفسير بالمأثور)) أنهم حكوا الخلاف في كونِ تفسير التابعين يُعَدُّ من التفسيرِ بالمأثورِ أو لا يُعدُّ، قال الزرقانيُّ (ت: 1367): ((وأمَّا ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور، لأنهم تلقوه من الصحابة غالبًا، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي)) (1).
وقال محمد حسين الذهبي (ت: 1397): ((وإنما أدرجنا في التفسير المأثور، ما رُوي عن التابعين – وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرَّأي؟ - لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور – كتفسير ابن جرير وغيره – لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير)) (2).
والأصلُ الذي نقلا منه – وهو رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) – جاء فيه ما يأتي: ((وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم. وهذا صحيح. أمَّا إذا اجتمعوا على الشَّيء فلا يُرتابُ في كونه حُجَّةً، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن والسُّنَّةِ، أو عموم لغة العربِ، أو أقوال الصحابةِ في ذلك)) (3).
وإذا وازنت بين هذه النُّقول تبيَّن لك أنَّهم تركوا مصطلحَ ((طرق التفسير)) إلى مصطلحٍ أحدثوه بدلاً عنه، وهو مصطلح ((التفسير بالمأثور))، ونزَّلوا ما ذكرَه شيخ الإسلام (ت: 728) في حديثه عن ((طرق التفسيرِ)) على هذا المصطلحِ الذي اصطلحوا عليه.
ثانيًا: علاقة المأثور بالرأي:
__________
(1) مناهل العرفان، للزرقاني (13:2).
(2) التفسير والمفسرون (152:1).
(3) مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص: 105).(1/7)
يُفهم ممن جعل التفسير بالرأي قسيمًا للتفسير بالمأثور، أنَّ التفسير بالرأي ما عدا الأربعة المذكورة في التفسير بالمأثور، وهذا فيه عدم تحرير، وقد ظهر من ذلك نتائج، منها: أنَّ التفسير المأثور أصح من التفسير بالرأي، وأنه يجب الاعتمادُ عليه.
وهذا الكلام من حيث الجملة صحيحٌ، إلا أنه لم يقع فيه تحديد مصطلح الرأي، ومعرفة مستندات الرأي لكلِّ جيلٍ من العلماءِ، وإذا تبينت هذه الأمور بانت العلاقة بينهما، وإليك بيانُ ذلك باختصار.
إنَّ تسمية هذه الأربعة بأنها مأثور جعل بعض الباحثين الذين اعتمدوا هذه المصطلح يغفل عن وقوع الاجتهاد في التفسير عند السلف، فإذا كان لهم اجتهاد، فهل هو تفسير بالرأي، أو يُعدُّ بالنسبة لهم مأثورًا؟.
فإذا كان المفسِّر المجتهد من الصحابة، فهل يُعدُّ تفسيرُه مأثورًا بالنسبة لغيره من الصحابة؟.
وإذا كان المفسر المجتهد من التابعين، فهل يُعدُّ تفسيرُه بالنسبة للصحابة مأثورًا؟.
لا شكَّ أنَّ الجواب: لا، لا يُعدُّ مأثورًا.
لكنَّ تفسير الصحابةِ بالنسبة للتابعين وأتباعهم مأثورٌ.
وتفسير التابعين بالنسبة لأتباع التابعين مأثورٌ.
والمراد بالمأثور هنا مطلق المعنى اللغوي أو الاصطلاحي عند علماء مصطلح الحديث. ولا يعني وصفه بأنه مأثور مطلق القبول، وتقديمه على غيره، لأنَّ في الأمر تفصيل ليس هذا محلُّه ولا يُمكن الخروجُ من هذه إلا إن قال من اصطلح على هذا المصطلح: أنا أريد بالرأي: الرأي المذمومَ، وهذا ما لم يشر إليه من درج على هذين المصطلحين.
ولبيان المسألة أكثر، أقول: بعد أن تشكَّل تفسيرُ السلفِ، وتحدَّد في طبقاتِه الثلاثِ (الصحابة والتابعين وأتباع التابعين) كما هو ظاهرٌ من نقولِ المعتنين بكتابة علم التفسير من علماء أهل السُّنة، الذين اعتمدوا النقل أو الترجيح بين الأقوال، صار التفسير المأثور عن السلف مصدرًا يجب الرجوع إليه، والاعتماد عليه، وهذا ظاهر لا مشكلة فيه.(1/8)
لكن هل يعني وصفه بأنه مأثور أنه لم يقع فيه تفسير بالرأي؟.
إنَّ التفسيرَ بالرأي كان منذ عهد الصحابةِ الكرام، وكان لهم مستندهم في الرأي، من القرآن والسنة واللغة وأسباب النُّزول وشيءٍ من مرويات بني إسرائيل، وأحوال من نزل فيهم القرآن... إلخ.
وجاء التابعون، وكان جملةُ كبيرةُ من تفسيرهم بالرأي، وكان لهم اختيارُ في التفسيرِ قد يخالفُ اختيارَ أفراد الصحابة، وكانت مستندات الرأي عندهم ما كان عند الصحابةِ، وزاد في مصادرهم تفسيرُ الصحابةِ، لأ،هم جاءوا بعدهم.
ثمَّ جاء أتباع التابعين، وكان الحالُ كما كان في عهد التابعين، وعليهم وقف النقلُ في التفسير، كما هو ظاهر من كتب التفسير التي نقلت أقوال السلف.
وكان تفسيرُ كل طبقة بالنسبة لمن جاء بعدهم مأثورًا، لكنه لا يحملُ صفة القبولِ المطلقِ لأنه مأثورٌ فقط، لأنَّ فيه جملة من الاختلاف التي تحتاج إلى ترجيح القول الأولى = بل له أسباب أخرى مع كونه مأثورًا.
إذا تبين ما سبق، فإنَّ التفسيرَ المأثورَ عن السلف على قسمين:
القسم الأول: المنقول المحض الذي لا يمكن أن يرد فيه اجتهاد، ويشمل تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم وأسباب النُّزول وقصص الآي والغيبيات.
والقسم الثاني: ما كان لهم فيه اجتهاد، ويظهر فيما يرد عليه الاحتمال من التفسير.
وما دام في تفسيرهم رأي، فما نوع الرأي الذي عندهم، وما نوع الرأي الذي جاء بعدهم؟.
أما الرأي الوارد عنهم، فهو من قبيل الرأي المحمود، لأنهم لم يكونوا يقولون في القرآن بغير علم، كما لم يكن عندهم هوى مذهبي يجعلهم يحرفون معاني الآيات إلى ما يعتقدونه، فلما سِلموا من هذين السببين اللذين هما من أكبر أسباب الوقوع في التحريف في التفسير، وكانوا يفسرون كلام الله على علمٍ، كان رأيهم محمودًا في التفسير.(1/9)
ووجود قول ضعيف في تفسيرهم لا يعني أنه من الرأي المذموم، وما ورد من تفسيرات غريبة عن بعضهم، أعني بعض تفسيرات مجاهد (ت: 104) لمسخ بني إسرائيل قردة وخنازير، والميزان، والنظر إلى وجه الله = إنما هي أفراد في تفاسيرهم، وهي نادرة لا تكاد تذكر.
وأما الرأي الذي جاء بعد تفسير السلف فهو على قسمين:
القسم الأول:
الرأي المحمود، وهو المبني على علم، وهو نوعان:
النوع الأول: الاختيار من أقوالهم بالترجيح بينها إذا دعا إلى ذلك داعٍ، بشرط أن يكون المرجِّح ذا علم، ولا يختار من أقوالهم حسب هواه وميوله. ولا بدَّ أن يكون المرجِّح على علم بأنواع ما يقع من الاختلاف عنهم، وهو قسمان:
الأول: أن يكون الخلاف راجعًا إلى معنى واحدٍ، ويكون الخلاف بينهم خلاف عبارة، ويدخل الرأي هنا في توجيه أقوالهم إلى كونها على قول واحد وأنه لا يوجد خلاف حقيقي ولا خلاف معتبر فيه بين هذه الأقوال.
الثاني: أن يكون الخلاف بينهم راجعًا إلى أكثر من معنى، فتصحيح أقوالهم على أنها من اختلاف التنوع، أو اختيار أحد هذه المعاني من المفسرين الذين جاءوا بعدهم إنما يكون برأي واجتهادٍ، كما فعل الطبري (ت: 310).
النوع الثاني: الإتيان بمعنى جديد صحيح لا يُبْطِلُ تفسير السلف، ولا يُقْصَر معنى الآية عليه.
لا شكَّ في أن المعاني تنتهي، ولكن هذا لا يعني أن تفسير القرآن قد توقَّف على جيل أتباع التابعين، وأنه لا يجوز لغيرهم أن يفسِّر القرآن.
نعم لا يعني هذا، ولكن لا بدَّ من ضوابط في هذا، وهو ما يشير إليه عنوان الفقرة من أن يكون المعنى صحيحًا واردًا في اللغة، وأن يكون غير مناقض [أي: مُبطل] لقول السلف، وأن لا يعتقد المفسر بطلان قولهم وصحة قوله فقط. فإذا حصلت هذه الضوابط = صحَّ – والله أعلم – التفسير الجديد، وصار من التفسير بالرأي المحمود المعتمد على علمٍ، والله أعلم.
القسم الثاني:(1/10)
الرأيُ المذموم، وله عدة صور، ويغلب عليه أن يكون تفسيرًا عن جهل أو عن هوى، وعلى هذا أغلب تفاسير المبتدعة من المعتزلة والرافضة والصوفية وغيرهم.
وبعد هذا يتبين ما يأتي:
أنَّ جعل التفسير بالمأثور مقابلاً للتفسير بالرأي لا يصح.
أنَّ تسمية الوارد عن السلف بأنه مأثور لا إشكال فيه، لكن لا يقابله غيره على أنه تفسير بالرأي، لأنَّ في هذا نسيان للرأي الواردِ عن السلفِ.
أنَّ الحكم على التفسير المأثور بالقبول، يصحُّ من حيث الجملة، لكنه لا يتلاءم مع الاختلاف المحقق الوارد عنهم، وفي هذه الحال لا بدَّ من معرفة القول الأولى أو القول الصحيح في الآية، وهذا يحتاج إلى رأي جديد، فهل تقف عند الاختلاف بزعم قبول المأثور، أم ترجِّح ما تراه صوابًا، فتكون ممن قال برأيه؟.
إنَّ ما ورد عن الصحابة أو التابعين أو أتباعهم، فإنه مأثورٌ، ولكنه لا يُقبلُ لأجل هذه العلةِ فقط، بل هو درجات في القبول، كأن يكون إجماعًا منهم، أو قول جمهورهم، أو غيرها من الأسباب.(1/11)
هذا، ولقد تتبَّعتُ مصطلحَ ((مأثور)) و((المأثور))، فلم أظفر على هذا التَّقسيمِ الرُّباعيِّ الذي ذكرهُ هؤلاءِ، بل يطلقُه العلماءُ على ما أثرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن السلف، أو الصحابة، أو عن التابعين(1)، وأحسبُ أنَّ هذه القضيَّة ليست بحاجةٍ إلى نقلٍ لتدعيمِها، لكثرةِ ما تردُ في كتب اللغة، ومصطلح الحديث، وغيرها، فتجد المأثور في اللغةِ: ما نقله الخلف عن السلفِ، وقد يكون اصطلاحًا عند بعضهم على ما أُثِرَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابهِ أو عن التَّابعينَ، وهو في كلِّ هذه الاصطلاحاتِ لم يخرج عن المعنى العامِّ للَّفظةِ.
وقد يُسمَّى المأثورُ عنهم بالتفسيرِ المنقولِ، ويقسمونَ التفسيرَ إلى نقليٍّ واجتهاديٍّ، ولكن لا يعنون أنَّ ما نُقِلَ عنهم لا يقعُ فيه اجتهادٌ، بل مرادهم اجتهادُ المفسِّر في أيِّ عصرٍ كان(2).
__________
(1) على هذا المنهج سار السيوطي في كتابه: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، وهذا هو المنهجُ الغالبُ على كلِّ من كتبَ في التفسير ونقلَ مرويَّات السلفِ الكرامِ، وليس فيها تخصيصٌ للقرآنِ بالقرآنِ بالذكرِ، بل تجده ضمن تفسير من فسَّر به، سواءٌ أكان من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، أم كان من تفسير من جاء بعده من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
(2) ينظر على سبيل المثال: النكت والعيون للماوردي، تحقيق: السيد بن عبدالمقصود (21:1)، ومقدمة ابن خلدون، ط: دار القلم (ص: 439، 440).
ومما يذكرُ هنا أنَّ بعضَ من رامَ التَّفريقَ بين التَّفسيرِ والتَّأويلِ، يجعلُ التَّفسيرَ للمنقولِ منه، والتَّأويلَ لما وقع من طريق الاستنباطِ، كالبغويِّ في تفسيره معالم التَّنْزِيل (35:1)، وليس هذا الفرقُ بصحيحٍ، كما سيأتي في بيانِ هذين المصطلحين.(1/12)
أو يُسمَّى المنقولُ عنهم بالرِّوايةِ، والمأخوذُ من طريقِ الاجتهادِ بالدِّراية(1)، ولكن يجب أن تنتبه إلى أنَّ لهم في تفسيرِهم درايةٌ، ثمَّ صار لمن بعدهم روايةً.
وأيًّا ما اصطلحتَ على المنقولِ عن السَّلفِ، فإنه يجبُ أن تتنبَّه إلى ورودِ الاجتهادِ عنهم، وأنَّهم صاروا بعد ذلك مصدرًا لمن جاء بعدهم، يعتمدُ عليهم، ويتخيَّرُ من أقوالِهم، أو يضيفُ ما صحَّ من المعنى ولم يناقض أقوالَهم.
ويمكنُ تلخيصُ هذا الموضوع فيما يأتي:
__________
(1) سار على هذه التسميةِ الشَّوكانيُّ، وقد سمَّى تفسيره: فتح القدير الجامع بين فَنَّي الرِّوايةِ والدِّرايةِ، وقصد بالرِّوايةِ ما نُقِلَ عن السَّلفِ، وقد اعتمد في أغلب ما ذكره عنهم على كتاب الدُّرِّ المنثورِ للسيوطيِّ (فتح القدير 13:1). لكنه في منهجِه في ترتيب كتابِه وقع في أمرٍ غريبٍ جدًّا، حيثُ جعلَ التفسيرَ المنقولَ عن السَّلفِ بعد ما يذكرُه من التفسير بالدِّرايةِ، ولم يخلط بينها ويمزجها، مع أنَّه في بعضِ المواضِع يذكر معنىً من المعاني، ويشيرُ إلى أنه سيردُ في المنقولِ عن السلفِ، ولم أجد من سبقه إلى هذه الطريقِ، ولا من لحقه بها، ولقد كان المهيعُ المسلوكُ هو مزجُ تفسيرِ السلفِ بغيرِه مما يذكره المتأخّرونَ. ولقد لاحظتُ أنَّ عملهُ هذا أضعفَ جانب المنقولِ عنده، فقلَّ من يعتني به من دارسيه، بل كانوا إذا وصلوا إلى قوله: ((وأخرج)) انتقلوا إلى ما بعدها من الآيات، وهذا من القصورِ الذي سبَّبه هذا التقسيمُ من الشوكانيِّ.
كما أنَّ هذا التَّأخيرَ للمنقولِ عن السلفِ، وعدمَ مزجه في التفسيرِ يُظهرُ عدمَ الاعتدادِ به، وأنَّه يمكنُ أن يُغنيَ عنه تفسيرُ المتأخرين، وهذا قصور في النَّظر والتَّحقيق.(1/13)
إنَّ القرآن مصدرٌ مهمٌّ من مصادرِ التَّفسيرِ، ولا يُقبلُ التَّفسيرُ به لمجرَّدِ كونِه تفسيرَ قرآنٍ بقرآنٍ، بل لاعتبارٍ آخر، كأن يكونَ من تفسيرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو مما لا يمكنُ الاختلافُ في كونه مفسَّرًا بقرآنٍ، أو مما يكونُ مجمعًا عليه، أو بالنَّظرِ إلى عُلُوِّ مرتبةِ مفسِّرِه، أو غيرها من القرائنِ التي تدلُّ على صحَّةِ التفسيرِ به.
وإذا كان التفسيرُ بالقرآن ممن هو دون النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهو من اجتهادِ المفسِّرِ به، لذا قد يختلفُ مفسر وغيرُه في حمل آيةٍ على آيةٍ، وإنما كان ذلك بسبب الاجتهاد.
إنَّ إطلاق المأثور على المرويِّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسَّلفِ من الصحابة والتَّابعين وأتباعهم إطلاقٌ صحيحٌ.
إنَّ الصَّحيح المرويَّ من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم المباشرِ حجَّةٌ في تفسيرِ الآيةِ بلا خلافٍ.
إنَّ هذا المأثورَ عنهم حجة من حيث الجملة، وهو – لمن جاء بعدهم – من أهمِّ مصادر التفسير التي يجبُ الرجوع إليها.
إنَّ جملةً من التفسيرِ المرويِّ عن السلفِ معتمدُه النَّقل، وهو كسائر المنقولاتِ من حيثُ اعتماد الصحيحِ منها، ويدخل في ذلك أسباب النُّزول وقصص الآي، وغيرها من المغيَّباتِ التي تفتقرُ إلى النَّقلِ.
وهذه المنقولات تردُ عن الصحابةِ وعن التابعين وأتباعهم ويختلفُ قبولها بين هذه الطبقاتِ، فالمرويُّ عن صحابيِّ ليس كالمرويِّ عن تابعيِّ، ولا عن تابع تابعيِّ.
والمرويُّ عن جماعةٍ منهم، ليس كالمرويِّ عن فردٍ منهم، وهكذا غيرها من القرائن التي تحفُّ بقبولِ الأخبارِ.
إنَّ جملةً من تفسير السَّلفِ تفسيرٌ بالرأي المحمودِ، ولهم في ذلك معتمدَاتٌ، كالقرآنِ واللغةِ، والعلمِ بأحوال من نزل فيهم الخطابُ، والعلمُ بأحوالِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وغيرها.(1/14)
إنَّ التَّعاملَ مع تفسيرِهم يختلفُ من مثالٍ إلى غيرِه، فقد يكونُ في موطنٍ لا يصحُّ أن يُتعدَّى ما قالوا، وفي بعضِ المواطنِ قد يجتهد المفسِّرُ ويختارُ من أقوالِهم ما يراه الأصوبَ، وقد يجوزُ له في موطن غيره أن يزيدَ على ما قالوا من المعاني الصحيحةِ التي تحتملها الآيةُ ولا تبطل ما قالوا.
ثالثًا: ما ترتب على مصطلح التفسير بالمأثور:
لقد ترتَّبت نتائج على مصطلح التفسير بالمأثور فيها خلل علمي، وسأذكر بعض هذه النتائج.
الأولى: الحكم على التفسير بالمأثور بأنه يجب الأخذ به.
قال مناع القطان: ((التفسير بالمأثور هو الذي يجب الأخذ به، لأنه طريق المعرفة الصحيحة، وهو آمن سبيل للحفظ من الزلل والزيغ في كتاب الله)) (1).
وهذا كلام ينقصه التحرير، من جانبين:
الأول: أن أغلب تفسير القرآن بالقرآن من قبيل الاجتهاد، وهو يدخل في التفسير بالرأي، وقبوله إنما يكون من جهة أخرى لا من جهة كونه مأثورًا فقط، كما سبق بيانه.
الثاني: كيف يجب الأخذ بالتفسير الذي يقع فيه الاختلاف بين السلف؟.
هل يقبل الاختلاف على إطلاقه، أم في الأمر تفصيل؟ أما قبول الاختلاف على إطلاقه، فلا يُتصوَّر القول به.
وأما إذا رجع الأمر إلى اختيار القول الأولى أو الصحيح، فقد دخلت في التفسير بالرأي والاجتهاد، لأنك ترى أن هذا القول أولى من غيره.
وبهذا تكون قد خرجت عن التفسير بالمأثور على هذا الاصطلاح المذكور.
الثانية: افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي.
جاء في كلام بعض من كتب في التفسير بالمأثور فرضيات عقلية لا تثبت أمام العمل التفسيري، ولم يُعملْ بها من قبل، ولا أُخِذَ بها من بعد.
وسأذكر لك ما يدلَّ على ما قلت لك، وهو من كلام من أَصَّلَ هذا التقسيم وانتشر من بعده.
__________
(1) مباحث في علوم القرآن (ص: 350)، وينظر: لمحات في علوم القرآن، لمحمد الصباغ (ص: 180- 181).(1/15)
عقد عبدالعظيم الزرقاني (ت: 1367) في كتابه مناهل العرفان مبحثًا بعنوان (التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور وما يتبع في الترجيح بينهما)، وقال فيه: ((ينبغي أن يعلم أن التفسير بالرأي المذموم ليس مرادًا هنا لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوي على معارضة المأثور.
ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه: التنافي بينهما، بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي، كأن كلا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه.
وأما إذا لم يكن هناك تناف، فلا تعارض، وإن تغايرا، كتفسيرهم الصراط المستقيم بالقرآن أو بالسنة أو بطريق العبودية أو طاعة الله ورسوله، فهذه المعاني غير متنافية وإن تغايرت...
إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي، لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي، أي مستند إلى دليل قطعي: من عقل أو نقل، فإن كان قطعيًا، فلا تعارض بين قطعيين، بل يؤول المأثور، ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله، جمعًا بين الدليلين.
وإن لم يكن تأويله، حُمِلَ اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد، تقديمًا للأرجح على المرجوح.
أما إذا كان الرأي ظنيًا، بأن خلا من الدليل القاطع، واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط، فإن المأثور القطعي يقدم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن. هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعيًا، أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته، لكونه ليس نصًا، أو في متنه، لكونه خبر آحاد، ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال: إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه، وحنيئذٍ فالمعوَّل عليه المأثور فقط، ولا يقبل الرأي.(1/16)
وإن كان للرأي فيه مجال، فإن أمكن الجمع فبها ونعمت، وإن لم يكن قدِّمَ المأثور عن النبي أو عن الصحابة، لأنهم شاهدوا الوحي، وبعيد عليهم أن يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة.
أما المأثور عن التابعين، فإذا كان منقولاً عن أهل الكتاب، قدم التفسير بالرأي عليه. وأما إذا لم ينقل عنهم، رجعنا به إلى السمع، فما أيده السمع، حُمِلَ النظم الكريم عليه، فإن لم يترجح أحدهما يسمع ولا بغيره من المرجحات، فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد، بل نُنَزل اللفظ الكريم منْزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه)) (1).
إنك في هذا النَّصِّ أمام فَرَضيات مبنية على أن التفسير بالمأثور ليس فيه رأي، وأنه يمكن أن يناقضه التفسير بالرأي، ويظهر لي أن ههنا معركة دائرة بين أشياء متوهَّمة، لذا لم يذكر الزرقاني (ت: 1367) أمثلة لهذه الفرضيات التي استنتجها، وقد جاء بمصطلحات لا تستخدم إلا عند المتكلمين ممن كتب في علم الكلام أو في علم الأصول، وذهب يعمل بطريقة السبر والتقسيم في المحتملات التي يمكن أن ترد في التعارض المزعوم بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي.
ولعلك تلحظ فيه روح أحد علماء الكلام الذين يقدمون العقل على النقل في قوله: ((إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي، لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي، أي: مستند إلى دليل قطعي من عقل أو نقل، فإن كان قطعيًا فلا تعارض بين قطعيين بل يؤول المأثور ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله جمعًا بين الدليلين)).
__________
(1) مناهل العرفان (2: 63- 65). ووازن هذا المنهج التفكيري بما طرحه الرازي في أساس التقديس (ص: 210)، وقد ردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المنهج الذي يزعم تعارض العقل مع النقل في مؤلفه العظيم درء تعارض العقل والنقل.(1/17)
وبهذا صار حظُّ التفسير بالمأثور أن يكون عرضةً للعقول تؤولِّه على ما تراه مناسبًا لها، وليس مقدَّمًا عليها.
وأعيد فأقول: إن هذا الكلام لو خرج ممن لم يقرأ في التفسير، ولا كتب في علوم القرآن لما كان مستغربًا، لكن أن يكون في كتاب من أهم كتب علوم القرآن المعاصرة، فهذا ما يُعجبُ منه!.
وإني أظنُّ أنَّ قارئًا لو أراد أن يطبق هذه الفرضيات التي ذكرها لظهر له زيفُها وبُعْدُها عن التحقيق، مع ما تتَّسمُ به – من أول وهلة – من النظر والتحرير والتقسيم والتحبير، لكنها في الواقع بعيدة كل البعد عن طريقة التفسير ومهيعه المعروف عند العلماء(1).
الثالثة: تقسيم كتب التفسير بين المأثور الرأي.
كان من أكبر نتائج مصطلحي المأثور والرأي أن قُسِّمت كتب التفسير بين هذين النوعين، وليس هناك حجة واضحة في هذا التوزيع، ولا تكاد تجد حدًّا فاصلاً في عَدِّ تفسير من التفاسير بأنه من المأثور أو من الرأي، ومن ذلك تقسيم محمد حسين الذهبي (ت: 1397)، فقد جعل كتب التفسير المأثور ما يأتي:
جامع البيان، لابن جرير الطبري (ت: 310)، وبحر العلوم، لأبي الليث السمرقندي (ت: 375)، والكشف والبيان عن تفسير القرآن، لأبي إسحاق الثعلبي (ت: 427)، ومعالم التنْزيل، لأبي محمد الحسين البغوي (ت: 516)، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي (ت: 542)، والجواهر الحسان في تفسير القرآن، لعبدالرحمن الثعالبي (ت: 876)، والدر المنثور في التفسير المأثور، للسيوطي (ت: 911) (2).
وجعل من كتب التفسير بالرأي المحمود:
__________
(1) في كلامه رحمه الله – وكذا عند الذهبي في كتاب التفسير والمفسرون – مغالطات فيما يتعلق بالتفسير المأثور عن السلف، أرجو أن ييسر الله لي الحديث عنها في مكان آخر، وهو الموفق.
(2) التفسير والمفسرون (1: 204).(1/18)
مفاتح الغيب، للفخر الرازي (ت: 606)، وأنوار التنْزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (ت: 685)، ومدارك التنْزيل وحقائق التأويل، للنسفي (ت: 701)، ولباب التأويل في معاني التنْزيل، للخازن (ت: 741)، والبحر المحيط، لأبي حيان (ت: 745)، وغرائب التنْزيل ورغائب التأويل، للنيسابوري (ت: 728)، وتفسير الجلالين، والسراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الخبير، للشربيني (ت: 977)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود (ت: 982)، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي (ت: 1270) (1).
ثم ذكر التفسير بالرأي المذموم، وذكر ضمنه بعض كتبه، ككتاب تنْزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبدالجبار (ت: 415)، وأمالي الشريف المرتضى (ت: 436) والكشاف، للزمخشري (ت: 538).
وإليك بعض الملحوظات على توزيعاتهم:
يعدون تفسير الطبري (ت: 310) من كتب التفسير بالمأثور، ويغفلون عن ذكر تعرضه لتوجيه الأقوال والترجيح بينها، وإذا كانت هذه طريقته، فلم لا يكون من التفسير بالرأي، وما الحدُّ الفاصل في جعله من كتب التفسير بالمأثور لا من كتب التفسير بالرأي؟!.
فالتفسير ينسب إليه، وفيه آراؤه في التفسير، وفيه مصادره التي من أعظمها التفسير المأثور عن السلف، ومنها اللغة، ولو سلك من يكتب عن تفسيره الأسلوب الذي انتهجه هؤلاء في عدِّهم لتفسيره أنه من التفسير بالمأثور بسبب أسانيده ورواياته لتفسير السلف، لو عدَّه من كتب التفسير اللغوي بسبب كثرة اعتماده عليها، لما أبعد في ذلك.
لكن النظر هنا إلى تحريراته في التفسير، لا إلى مصادره، وإذا كان النظر من هذه الزاوية – وهي الصحيحة لا غير – فهو من أعظم كتب التفسير بالرأي المحمود.
__________
(1) التفسير والمفسرون (1: 289).(1/19)
يعدُّون تفسير الخازن المسمى (لباب التأويل في معاني التَّنْزيل) من التفسير بالرأي(1)، مع أن مؤلفه نصَّ في المقدمة على أنه ليس له في هذا التفسير سوى النقل، قال: ((...ولما كان هذا الكتاب كما وصفت [يعني كتاب معالم التنْزيل للبغوي] أحببت أن أنتخب من غُرَرِ فؤائدِه، ودُرَرِ فوائده، وزواهرِ نصوصِه، وجواهر فُصوصِه = مختصرًا جامعًا لمعاني التفسير، ولباب التنْزيل والتعبير، حاويًا لخلاصة منقوله، متضمنًا لنكته وأصوله، مع فوائد نقلتها، وفرائد لخصتها من كتب التفاسير المصنفة في سائر علومه المؤلفة، ولم أجعل لنفسي تصرفًا سوى النقل والانتخاب، وحذفت منه الإسناد، لأنه أقرب إلى تحصيل المراد...)) (2).
يظهر من هذا النص أن الخازن (ت: 741) قد اختصر تفسير البغوي (ت: 516)، وأنه قد انتخب من غيره من التفاسير، وأنه ليس له فيها سوى النقل والانتخاب. وتراهم قد عدَّوا تفسير البغوي (ت: 516) من كتب التفسير بالمأثور(3)، فلِمَ لم يجعلوا المختصر الخازنيَّ من كتب التفسير بالمأثورِ تبعًا لأصله البغويِّ؟!
تصحيح المسار في مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي
__________
(1) ذكر عبدالعظيم الزرقاني في مناهل العرفان أهم كتب التفسير بالرأي (2: 65)، وذكر منها تفسير الخازن (2: 66، 69)، وكذا القطان في مباحث في علوم القرآن (ص: 366).
(2) تفسير الخازن، بهامشه تفسير البغوي (1: 3).
(3) ينظر مثلاً: مناهل العرفان (2: 30)، ومباحث في علوم القرآن للقطان (ص: 360).(1/20)
ليكن قد خرج من ذهنك المقابلة المفتعلة بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، فإذا كان، فإني سأرشدك إلى نظرٍ آخر يبين لك ما يقع فيه الرأي وما لا يقع فيه بناءً على ما ورد في كتب التفسير من المصادر التي اعتمدوها من تفسير للقرآن بالقرآن، وتفسير له بالسنة أو بتفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم، أو تفسير بسبب نزول، أو تفسير لصحابي، أو لتابعي أو لتابع تابعي، أو لمن جاء بعدهم إلى أن تقوم الساعة، فما حركة التفسير التي نشأت ولا زالت حتى هذا اليوم؟.
أولاً: التفسير الذي لا يدخله الرأي:
يشمل التفسير الذي لا يدخله رأي نوعين:
الأول: ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا من التفسير، لأنه لو احتمل أكثر من معنى لكان اختيار أحد المعاني دون غيرها يعتمد على الرأي والاجتهاد.
الثاني: جملة من التفسير المنقول الذي ليس للمفسر فيه إلاَّ النقل، كائنًا من كان هذا المفسر، ويشمل هذا القسم:
التفسير النبوي الصريح.
أسباب النُّزول.
الأخبار الغيبية الواردة في الآيات من قصص وأوصاف للأشياء، وأسماء للمبهمات وغيرها.
والمقام هنا مقام وصفٍ لا مقام ترجيح، فلو ورد سبب نزول صريح ضعيف، فإنَّ الحكم عليه من حيث الوصف أنه مما لا يمكن أخذه إلا من طريق الرواية، لكن لا يلزم كونه كذلك أن يكون تفسيرًا للآية، وهكذا غيره من المنقولات، لأنه يشترط فيها الصحة.
ثانيًا: التفسير الذي يدخله الرأي:
يشمل هذا القسم كل التفسيرات التي فيها أكثر من احتمال في المراد من الآية، لأن الاحتمال عرضة للاختلاف والاجتهاد في معرفة أيها المراد.
وهذا يشترك فيه كل المفسرين من عهد الصحابة إلى يوم الدين، ولهم مصادر معروفة، وهي: التفسير المنقول الذي سبق ذكره، والقرآن، والسنة، واللغة، وهم يجتهدون على حسب ما عندهم من العلم.(1/21)
والتابعون يزيد عندهم مصدر، وهو تفسير الصحابة، وكذا أتباع التابعين يزيد عندهم مصدر، وهو تفسير التابعين، وكذا من جاء بعدهم يكون تفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم مصدرًا لهم.
وبعد هذا، فإن كل ما يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن السلف من تفسير القرآن، فإنه يصحُّ أن يُطلق عليه ((تفسير مأثور)) (1)، وهذا يعني كيفية الوصول إليه، فأنت لا تدرك هذه المنقولات عنهم بعقلك، بل لا بدَّ من أن تأخذها عن طريق الأثر، لذا تذهب إلى من اعتنى بالمنقول عنهم، كعبدالرزاق (ت: 211)، والطبري (ت: 310)، وابن أبي حاتم (ت: 327)، وغيرهم، ثمَّ تقرأ ما رَوَوه عن السلف، وتعتبر ما جاء عنهم – من حيث الجملة – من أهم مصادر التفسير.
والحديث هنا – كما قلت لك – وصف للتفسير باعتبار مصادره، وليس حديثًا عما يقبل وما لا يقبل من التفسير، فهذا له مجال آخر من الحديث.
وبعد هذا الحديث المفصل عن مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي سأشرع في بيان المصطلحات التي عُقِدَ الكتاب من أجلها، وهذا أوانه، وبالله التوفيق.
مفهوم التفسير
__________
(1) يحسن أن تلاحظ الفرق بين جملة ((تفسير مأثور))، وجملة ((تفسير بالمأثور))، فالأولى تدل على وصف التفسير بأنه مأخوذ عن طريق الأثر، والثاني تعني أن المفسر فسَّر بما ورده عن السلف، ويحتمل تفسيره أمرين: الأول: أن لا يكون له رأي مطلقًا بل هو مقلِّدٌ لهذا التفسير، لأنه ورد عن السلف.
الثاني: أن يكون له رأي، وتراه يختار من المنقول عن السلف، ويرجح بين أقوالهم، ولا تكاد تراه يخرج عنها، فهذا مفسر يعتمد على المأثور ويستفيد منه، وليس جامدًا عليه بلا اختيار ولا رأي، وعلى هذا سار إمام المفسرين ابن جرير الطبري.(1/22)
تدور مادَّةُ ((فَسَرَ)) في لُغةِ العربِ على معنى البيانِ والكشفِ والوضوحِ(1)، ومما وردَ في ذلكَ: فَسَرْتُ الذِّراعَ: إذا كشفتُها. وفسَّرتُ الحديثَ: إذا بيَّنتُه.
وقد زعم قومٌ أنَّ ((فَسَرَ)) مقلوبٌ من ((سَفَرَ)) (2)، وهذا القولُ ليسَ بسديدٍ، لأنَّ الأصلَ أن يكون للفظةِ ترتيبُها، ودعوى القلبِ خلافُ الأصلِ.
كما أنه يكونُ لها المعنى الخاصُّبها الذي تستقلُّ به. واشتراكُها مع غيرِها في معنى أصل المادَّةِ لا يعني أنَّها مشتقَّةٌ منها، ولو ادُّعي العكسُ لما كان هناك ما يبيِّنُ صحَّةَ إحدى الدَّعويينِ.
قال الآلوسيُّ (ت: 1270): ((والقول بأنه مقلوب السَّفر، مما لا يسفر له وجه)) (3).
والصَّحيحُ أنَّه كما بين المادَّتين تقاربٌ في اللَّفظِ، فكذلك بينهما تقاربٌ في المعنى، كما قاله الرَّاغبُ الأصفهانيُّ (ت: بعد 400) (4).
هذا، وقد اختلفتْ عباراتُ العلماءِ في البيان عن معنى التَّفسيرِ في الاصطلاحِ، وجاءوا بعباراتٍ شَتَّى، وقد اجتهدتُ في معرفةِ الصحيحِ منها في بيانِ مصطلحِ التَّفسيرِ، ورأيتُ أنَّ المرادَ بالتَّفسيرِ بيان المعنى الَّذي أرادَه اللهُ بكلامِه، فانطلقتُ من المعنى اللُّغويِّ للَّفظةِ، وهو البيانُ أو الكشفُ أو الشَّرحُ أو الإيضاحُ، وجعلتُه أصلاً أعتمده في تحديدِ المرادِ بالتَّفسيرِ.
__________
(1) ينظر في ذلك: مقاييس اللُّغةِ، لابن فارس (4: 504). وينظر مادة ((فسر)) في معاجم اللغة.
(2) ينظر على سبيل المثال: مقدمتان في علوم القرآن (ص: 173)، والبرهان في علوم القرآن (2: 147)، والتيسير في قواعد علم التفسير (ص: 132).
(3) روح المعاني (1: 4).
(4) ينظر: مقدمة جامع التَّفاسير، للراغب، تحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات (ص: 47).(1/23)
وظهرَ لي بعدَ ذلك أن تكونَ أيُّ معلومةٍ فيها بيانٌ للمعنى، فإنها من التَّفسيرِ، وإن كان ليس لها أثرٌ في بيانِ المعنى فإنَّها خارجةٌ عن مفهومِ التَّفسيرِ، وإنما ذُكرت في كتبه، إمَّا لقربها من علمِ التَّفسيرِ بكونها من علومِ القرآنِ، وإمَّا لتفنُّنِ المفسِّر بذكرِ العلمِ الذي برز فيه، فجعل تفسيره للقرآن ميدانًا لتطبيقاتِ علمِه، وإمَّا لوجودِ علاقةٍ أخرى بينها وبين ما يذكره المفسِّرُ، وإمَّا أن لا يكون لها علاقةٌ البتَّةَ، وإنما ذكرَها المفسِّرُ بسببِ المنهجِ الذي نهجَه في تفسيرِه.
وهذا البيان قد يكون بآية، وقد يكون بتفسير نبوي، وقد يكون بسنة عامة، وقد يكون بسبب نزول، وقد يكون باللغة، وقد يكون بذكر قصة الآية، وقد يكون بغيرها من المصادر التي هي من أنواع البيان عن معنى آي القرآن.
وهذا يعني أن المعلومات التي يذكرها المفسرون، وهي خارجة عن حدِّ البيان للآيات = ليس من صلب التفسير، وذِكْرُهم لها في تفاسيرهم ليس حجةً في إدخالها، لهذا قد يذكر بعضهم اعتراضات على بعض المفسرين، أو يذكر تنبيهًا في عدم دخول بعض المعلومات في التفسير، ومن ذلك:
قال ابن عطية الأندلسي (ت: 542) في تفسير قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء ) [الطلاق: 1]: ((وطلاق النساء حَلُّ عصمتهنَّ. وصور ذلك وتنويعه مما لا يختصُّ بالتفسير)) (1).
قال أبو حيان الأندلسي (ت: 745) في تفسير قوله تعالى: ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) [البقرة: 23]: ((وقد تعرَّض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورًا، وليس ذلك من علم التفسير، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير)) (2).
__________
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (14: 489).
(2) البحر المحيط (1: 169).(1/24)
قال الشوكاني (ت: 1250) في أول سورة الإسراء: ((واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين – كابن كثير والسيوطي وغيرهما – في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كُتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كُتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز وذكر أسباب النُّزول وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة)) (1).
قال الطاهر بن عاشور (ت: 1393) في تفسير قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم ) [المجادلة: 2]: ((ولم يشر القرآن إلى اسم الظَّهْرِ، ولا إلى اسم الأمِّ = إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذٍ، بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد من هذه الكلمات الثلاث تجردًا واضحًا.
والصور عديدة، وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى، وليس من مهيع التفسير)) (2).
ولا شكَّ أنَّ أقوال هؤلاء تشير إلى ما ذكرته من وجود حدٍّ للتفسير، ووجود معلومات زائدةٍ عن هذا الحدِّ يذكرها المفسرون.
نظرة في المعلومات الواردة في كتب التفسير
لقد تأمَّلتُ المعلومات الواردة في كتبِ التَّفسيرِ، فوجدت منها ما ينطبق عليه حدُّ البيان، ومنها ما لا ينطبقُ عليه حدُّ البيانِ، أي أنَّ عدمَ وجودِها لا يؤثِّرُ في فهم المعنى وبيانِه.
وقد قمتُ بترتيبِ هذه المعلوماتِ الواردة في كتب التفسير على الشَّكلِ الآتي:
تفسيرُ القرآنِ، أي: بيانه بيانًا مباشرًا.
__________
(1) فتح القدير (3: 208). وكتابه – رحمه الله – لم يسلم من هذه الفَضْلَةِ التي لا تدعو إليها حاجة.
(2) التحرير والتنوير (28: 12).(1/25)
ومن الأمثلةِ تفسيرُ لفظِ: ((البروجِ)) في قوله تعالى: ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ) [البروج: 1]، فقد فسِّر لفظ البروج بأنه النُّجومُ، فيكونُ المعنى: يقسمُ ربُّنا تعالى بالسماءِ صاحبةِ النُّجومِ.
فإنْ قلتَ: ما الموقفُ من الوجوهِ التَّفسيريَّةِ، هل تُعَدُّ من التَّفسيرِ؟.
فالجوابُ: نعم.
واحتمالُ الآيةِ لأكثرَ من وجهٍ لا يعني خروجَ هذه الأوجه عن التَّفسيرِ، بل هي منه، لأنَّ في كلِّ منها بيانًا، وإن اختلفتْ في تحديده.
مثالُ ذلك، اختلافهم في معنى ((انكدرت)) من قوله تعالى: ( وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ) [التكوير: 2]، فقد ورد فيها معنيان:
الأول: تناثرت، فجعلهُ من الانكدار، أي: الانصباب، ويشهدُ له قوله تعالى: ( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ) [الانفطار: 2].
الثاني: تغيَّرت، فجعله من الكُدرةِ، وهي التَّغيُّرُ بعد الصَّفاء، ويشهد له قوله تعالى: ( فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ) [المرسلات: 8].
وفي كلا المعنيينِ بيانٌ، فلو قلتَ بالقولِ الأولِ، لكان المعنى: ((وإذا النُّجومُ تناثرت وسقطت)). وإذا قلتَ بالقول الثاني، كان المعنى: ((وإذا النُّجومُ تغيَّرت وذهب ضوؤها)).
وهذا يعني أنَّك في هذه الخلافاتِ التَّفسيريَّةِ لا ترى: هل وقع الخلافُ في المعنى المرادِ أم لا؟.
وإنَّما الذي يَعْنِيكَ فيها: هل هذه الأوجهُ التَّفسيريَّةُ المختلفةُ ينطبقُ عليها حدُّ البيانِ أم لا؟.
معلوماتٌ تفيدُ في تقويةِ بيانِ المعنى، وبهذا تكونُ أقربَ إلى علمِ التَّفسيرِ من غيرها، والفرق بينها وبين سابِقها: أنَّ المعنى يكونُ قد اتَّضحَ وبانَ، وهذه المعلوماتُ تزيدُه وضوحًا وتقوِّيه، بحيثُ لو جهلها المفسِّرُ، فإنَّها لا تؤثِّر على فَهمِ المعنى المرادِ.(1/26)
ومن أمثلتِه، ما لو قال من فسَّرَ البروجَ بالنُّجومِ: أنَّ مادَّةَ: ((بَرَجَ)) في اللُّغةِ تدلُّ على الظهورِ والبروزِ، كقولهم: تبرَّجت المرأةُ: إذا أظهرتْ زينتها ومحاسنَها، ومنه كانتِ النُّجومُ بروجًا، لظهورِها وبروزِها للعيان، فيكون إطلاقُ البروجِ على النُّجومِ من هذا البابِ.
لو كُنتَ تفتقِد هذه المعلومةَ بعدَ معرفتِك أنَّ البروجَ هي النُّجومُ، لما أثَّرَ ذلك عليكَ في البيان عن المعنى المرادِ بالبروجِ. لكنَّ ورودَ هذه المعلومةِ يقوِّي عندك هذا التَّفسيرَ، ويبيِّنُ لك أصلَه الذي صدرَ عنه، والله أعلمُ.
استنباطاتٌ عامَّةٌ، في الآدابِ، والفقه، وغيرِها.
ومن أمثلةِ هذه الاستنباطاتِ ما ذكرَه السُّيوطيُّ (ت: 911)، قال: ((قوله تعالى: ( وَامْرَأَتُهُ ) [المسد: 4]، استدلَّ به الشَّافعيُّ على صحَّة أنكحةِ الكفَّارِ)) (1).
والآيةُ لم تأتِ لأجلِ هذا الحُكمِ الذي استنبطَه الإمامُ الشَّافعيُّ (ت: 204).
والمرادُ بهذه الاستنباطات هنا ما كانَ وراءَ الأحكامِ الصَّريحةِ في الآيةِ، لأنَّ بيانَ الحُكمِ الَّذي تدلُّ عليه الآيةُ صراحةً = تفسيرٌ.
هذ، وسيأتي لاحقًا مزيدُ بسطٍ لموضوع الاستنباطات.
لطائفُ ومُلَحٌ تفسيريَّة(2).
ومن أمثلتِها، ما ذُكرَ من دلالةِ لفظ ((بعث)) في قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ ) [الجمعة: 2]، أنَّه يفيدُ أنَّ هؤلاءِ كانوا موتى باعتقاداتِهم، فبعثَ الله لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم ليحييهم.
وهذه اللَّطائفُ يختلفُ في استملاحِها النَّاسُ، وليس لها ضابطٌ يُتَّفق عليه في استحسانها، لتعلُّقِها – غالبًا – بالأذواقِ، وأذواقُ المتذوِّقينَ تختلف.
__________
(1) الإكليل في استنباط التَّنزيلِ، للسيوطي (ص: 230).
(2) ذكر ابن عطيَّة المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 82) موقع هذه المُلَحِ من العلمِ، فقال: ((وهذا من ملحِ التَّفسيرِ، وليسَ من متينِ العلمِ)).(1/27)
معلوماتٌ علميَّةٌ تتعلَّق بعلومِ القرآنِ.
لتعلُّقِ مسائلِ علومِ القرآنِ والتَّفسيرِ بالقرآنِ = يختلطُ الأمرُ على بعضِ النَّاس، فيعدُّ بعضَ مسائلِ علومِ القرآنِ من التَّفسيرِ، وهي ليست كذلك، والضَّابطُ في ذلكَ أنَّ أيَّ معلومةٍ من علومِ القرآنِ لها أثرٌ في فهمِ الآيةِ، فإنها تُعَدُّ من التَّفسيرِ، أمَّا إذا لم يكنْ لها أثرٌ في الفَهمِ، ولا يقومُ عليها بيانُ المعنى، فإنَّها من علومِ القرآنِ لا التَّفسيرِ.
ومن الأمثلةِ على ذلك، ما ذكره ابن عطيَّةَ (ت: 542) في أوَّل تفسيرِ سورة البقرةِ، قال: ((هذه السُّورةُ مدنيَّةٌ، نزلت في مُدَدٍ شتَّى، وفيها آخرُ آيةٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [البقرة: 281].
ويقال لسورةِ البقرةِ: ((فسطاطُ القرآن))، لعِظَمِها وبهائها، وما تضمَّنته من الأحكامِ والمواعظِ.
وتعلَّمَها عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلومِ في ثمانية أعوامٍ.
وفيها خمسمائةِ حكمٍ، وخمسة عشر مثلاً...)) (1).
ثمَّ ذكر أحاديث في فضلها، ثمَّ قال: ((وعدد آي سورةِ البقرةِ مائتانِ وخمسٌ وثمانون آية، وقيل: وستٌ وثمانون، وقيل: وسبعٌ وثمانون)) (2).
وإذا فرزتَ هذه المعلوماتِ، وجدتَ أنَّها من علومِ القرآنِ، وأنَّ جلَّها مما لا يفيدُ في بيانِ المعنى، سوى ما ذكرَ من مدنيَّتِها، فإنَّه قدْ يُحتاجُ إلى ذلكَ في بعضِ المواطنِ، كادِّعاءِ نسخِ آيةٍ من آياتِها بآيةٍ مكيَّةٍ، أو غيرِ ذلكَ مما له أثرٌ في البيانِ.
__________
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 136).
(2) المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 138).(1/28)
ملعوماتٌ علميَّةٌ عامَّةٌ من شتَّى المعارفِ الإسلاميَّةِ وغيرِها، والغالبُ عليهَا أنَّها لا صلةَ لها بعلمِ التَّفسيرِ، وإنما يكونُ المفسِّرُ ممن برزَ في علمٍ من هذه العلومِ، فيحشو تفسيرَه به، فالفقيهُ يوردُ مسائل علمِ الفقهِ، والنَّحويُّ يوردُ مسائلَ علمِ النَّحوِ، والمتكلِّمُ يوردُ مسائلَ علم الكلامِ، وهكذا غيرُها من فروعِ العلومِ، خصوصًا العلوم الإسلاميَّة.
ويدخلُ في هذا القسمِ كثيرٌ من التَّفاسيرِ التي اعتمدت مناهجَ مخالفةً، كالتَّفاسيرِ الصُّوفيَّةِ، والباطنيَّةِ، والفلسفيَّةِ، وغيرِها.
والأمثلةُ في هذا النَّوعِ تطولُ، وفي هذا من الوضوحِ ما ليس في سابقِه، فمثلاً: لأجل أن ابن كثير (ت: 774) محدثٌ، فإنه يورد الحديث بعد الحديث من الأحاديث الكثيرة المتعلقة بالآية، وقد علَّق عليه الشَّوكانيُّ (ت: 1250) في هذا الباب، فقال: ((واعلمُ أنَّه قد أطالَ كثيرٌ من المفسرين – كابن كثير والسُّيوطيِّ وغيرهما – في هذا الموضعِ بذكرِ الأحاديثِ الواردةِ في الإسراء على اختلافِ ألفاظِها.
وليس في ذلك كثيرُ فائدةٍ، فهي معروفةٌ في موضعِها من كتبِ الحديثِ، وهكذا أطالوا بذكرِ فضائلِ المسجدِ الحرامِ والمسجدِ الأقصى، وهو مبحثٌ آخر، والمقصودُ في كتبِ التَّفسيرِ ما يتعلَّقُ بتفسيرِ ألفاظِ الكتابِ العزيزِ، وذكرِ أسبابِ النُّزولِ، وبيان ما يؤخذُ منه من المسائلِ الشَّرعيَّةِ، وما عدا ذلك فهو فَضْلَةٌ لا تدعو إليه حاجةٌ)) (1).
وهذه الاستطراداتُ العلميَّةُ إنمنا يكونُ محلُّها كتبَ العلمِ الذي تنتمي إليه، فالاستطراد في المسائل الفقهية محله كتب الفقه، والاستطراد في المسائل النحوية محله كتب النحو، وهكذا.
__________
(1) فتح القدير (3: 208).(1/29)
وبعد استعراضِ المعلوماتِ التي في كتبِ التَّفسيرِ، أعودُ فأقولُ: إنَّ التَّفسيرَ إنَّما هو شرحٌ وبيانٌ للقرآن الكريمِ، فما كان فيه بيانٌ، فهو تفسيرٌ، وما كان خارجًا عن حدِّ البيانِ، فإنَّه ليس من التَّفسيرِ، وإن وُجِدَ في كتبِ المفسِّرين.
وبهذا الضَّابطِ يمكنُ تحديدُ المعلوماتِ التي هي من التَّفسيرِ، وليس بلازمٍ هنا أن يُذكرَ كلُّ ما هو من التَّفسيرِ، لأنَّ المرادَ ذكرُ الحدِّ الضابطِ، وليس ذكرَ منثوراتِ هذا البيانِ.
وبهذا فتخصيصُ العامِّ بيانٌ، وتقييدُ المطلقِ بيانٌ، وبيانُ المجملِ بيانٌ، وتفسيرُ اللفظِ الغريبِ بيانٌ، وذكرُ سببِ النُّزولِ بيانٌ، وكلُّ ما له أثرٌ في فهم المعنى بيانٌ، وهو التَّفسيرُ.
تعريفاتُ العلماء للتَّفسيرِ
للعلماء في تعريف التَّفسيرِ تعبيراتٌ كثيرةٌ، يطولُ المقامُ بسردها(1)، ولقد اطَّلعتُ على جملةٍ من التَّعريفاتِ، منها:
تعريفُ ابن جُزَيٍّ (ت: 741)، قالَ: ((معنى التَّفسيرِ: شرحُ القرآنِ، وبيانُ معناه، والإفصاحُ بما يقتضيه بنصِّه أو إشارَتِه أو نجواه)) (2).
__________
(1) ينظر في تعريف التفسير: التسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جُزَي (1: 6)، البحر المحيط، لأبي حيان(1: 26)، والبرهان في علوم القرآن، للزَّركشي (1: 13)، (2: 149، 150)، وتفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1: 59)، والتيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (ص: 124- 125)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4: 167- 169)، ومفتاح السعادة، لطاش كبري زاده (2: 530- 532)، وقد نقله من الإتقان. وأبجد العلوم، للقنوجي (2: 172- 177)، والتحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (1: 11)، ومناهل العرفان، للزرقاني (2: 3)، أصول في التفسير، لابن عثيمين (ص: 25).
(2) التهسيل لعلوم التَّنْزيل، لابن جُزَي (1: 6).(1/30)
وعرَّفَهُ أبو حيان (ت: 745)، فقال: ((التفسيرُ: علمٌ يُبحثُ فيه عن كيفيةِ النطقِ بألفاظِ القرآنِ، ومدلولاتِها، وأحكامِها الإفراديَّةِ والتركيبيَّةِ، ومعانيها التي تُحمَلُ عليها حالَ التركيبِ، وتتماتُ ذلك.
فقولنا: ((علم)): هو جنسٌ يشملُ سائرَ العلومِ.
وقولنا: ((يُبحثُ فيه عن كيفيَّةِ النُّطقِ بألفاظِ القرآنِ)): هذا علمُ القراءاتِ.
وقولنا: ((ومدلولاتها)) أي: مدلولاتِ تلك الألفاظِ، وهذا علمُ اللُّغةِ الذي يُحْتاجُ إليه في هذا العلمِ.
وقولنا: ((وأحكامها الإفرادية والتَّركيبية)): هذا يشمل علمَ التَّصريفِ وعلمَ الإعرابِ وعلمَ البيانِ وعلمَ البديعِ.
((ومعانيها التي تحمل عليها حال التَّركيب)): شملَ بقوله: ((التي تحمل عليها)): ما دلالته عليه بالحقيقةِ، وما دلالتُه عليه بالمجازِ، فإنَّ التَّركيبَ قد يقتضي بظاهره شيئًا، ويصدُّ عن الحملِ على الظَّاهرِ صادٌّ، فيحتاج لأجل ذلك أن يُحملَ على غيرِ الظَّاهرِ، وهو المجازُ.
وقولنا: ((وتتمات ذلك)): هو معرفةُ النَّسخِ، وسببُ النُّزول، وقصةٌ توضِّحُ ما انبهَم في القرآنِ، ونحو ذلك(1).
وعرَّفه الزَّرْكَشِيُّ (ت: 794) في موضعينِ من كتابِه البرهانِ في علومِ القرآن، فقالَ في الموضعِ الأوَّلِ: ((علمٌ يُعرفُ به فَهْمُ كتابِ اللهِ المنَزَّلِ على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبيانُ معانيه، واستخراجُ أحكامِه وحِكَمِهِ)) (2).
وعرَّفه في الموضعِ الثاني، فقال: ((هو عِلْمُ نُزولِ الآيةِ وسورتِها وأقاصيصِها والإشاراتِ النَّازلةِ فيها، ثُمَّ ترتيبُ مكِّيِّها ومدنيِّها، ومحكمِها ومتشابِهها، وناسخِها ومنسوخِها، وخاصِّها وعامِّها، ومطلقِها ومقيدِها، ومجملِها ومفسرِها.
__________
(1) البحر المحيط، لأبي حيان (1: 26)، وقد نقل عنه – باختصار – الكفويُّ في الكليات، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري (ص: 260).
(2) البرهان في علوم القرآن، للرزكشي (1: 13).(1/31)
وزادَ فيه قومٌ، فقالوا: علمُ حلالِها وحرامِها، ووعدِها ووعيدها، وأمرِها ونهيِها، وعِبَرِها وأمثالِها)) (1).
وقال ابنُ عَرَفَة المالكي (ت: 803): ((...هو العلمُ بمدلولِ القرآنِ وخاصِّيَةِ كيفيةِ دلالتِه، وأسبابِ النُّزولِ، والنَّاسخِ والمنسوخِ.
فقولنا: خاصيةِ كيفيَّةِ دلالته: هي إعجازُه، ومعانيه البيانيَّةُ، وما فيه من علمِ البديعِ الذي يذكره الزَّمخْشَرِيُّ، ومن نحا نحوه)) (2).
وقال الكَافِيجِيُّ (ت: 879) : ((وأمَّا التَّفسيرُ في العُرْفِ، فهو كشفُ معاني القرآنِ، وبيانُ المرادِ.
والمرادُ من معاني القرآنِ أعمُّ، سواءً كانت معاني لغوية أو شرعيَّةً، وسواءً كانت بالوضعِ أو بمعونةِ المقامِ وسَوْقِ الكلامِ وبقرائنِ الأحوالِ، نحو: السَّماء والأرض والجنَّة والنَّار، وغير ذلك. ونحو: الأحكام الخمسة. ونحو: خواصِّ التَّركيب اللازمة له بوجه من الوجوه)) (3).
تحليل هذه التَّعريفاتِ:
أوَّلاً: أنَّ بعضَ هذه التَّعريفاتِ قد نصَّ على مهمَّةِ المفسِّرِ، وضابطِ التَّفسيرِ، وهي الشَّرحُ والبيانُ والإيضاحُ.
ثانيًا: أنَّ بعضها قد أدخل جملةً من علومِ القرآنِ في تعريفِ التَّفسيرِ، وأنَّها قد جاءت في بعضِها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، وسبب ذلك: كثرةُ هذه العلومِ، كتعريف أبي حيَّان (ت: 745) والزركشيِّ (ت: 794).
ويظهرُ أنَّ أصحابَ هذه التَّعريفاتِ لم يُميِّزوا بين التَّفسيرِ وعلوم القرآن، فأدخلوا في مصطلحِ التَّفسيرِ ما ليس منه.
__________
(1) البرهان في علوم القرآن، للرزكشي (2: 148).
(2) تفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1: 59).
(3) التيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (124- 125).(1/32)
ثالثًا: أنَّ بعضَهم قد توسَّعَ في تعريفِه، وجعلَ بعضَ العلومِ التي ليست من علمِ التَّفسيرِ، ولا من مُهِمَّةِ المفسرِ، جعلَها من صلبِ تعريفِ التَّفسيرِ، كابن عرفة (ت: 803) الذي جعل علم الإعجازِ من علمِ التَّفسيرِ، والكافيجيِّ (ت: 879) الذي أدخل في تعريفه علم أصول الفقه.
وهذا ليسَ بصحيحٍ، ويظهرُ أنَّ سببَ ذلك، أنهم لم يُحدِّدوا مهمةَ المفسِّرِ، حتَّى أنَّ بعضَ من تحدَّث عن العلوم التي تلزمُ المفسِّرَ ذكرَ جملةَ العلومِ الإسلاميَّةِ التي لو كانت في مفسِّرٍ لكان مجتهدًا مطلقًا في الشَّريعةِ.
وهذه العلوم، وإن كان المفسِّرُ بحاجةِ شيءٍ منها، إلاَّ أنَّ من ذكرَها لم يذكر المقدارَ الذي يحتاجُه المفسِّرُ من كلِّ علمٍ منها.
كما يظهر أنَّ التخصص الذي يغلب على المفسر يجعله لا يرى أحدًا أحقَّ بالتفسير حتى يكتمل في العلم الذي برز هو فيه، لذا ترى الزمخشري (ت: 538) لا يرى المفسر مفسرًا حتى يكون له نصيب من علم المعاني وعلم البيان (أي: علم البلاغة).
قال الزمخشري: (ت: 538): ((ثُمَّ إن أملأَ العلوم بما يغمرُ القرائحَ، وأنهضَها بما يبهرُ الألبابَ القوارحَ من غرائبِ نكتٍ يلطفُ مسلكُها، ومستودعاتِ أسرارٍ يدقُّ سِلْكها = علمُ التفسير الذي لا يتمُّ لتعاطيه وإجالةِ النظر فيه كلُّ ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن.(1/33)
فالفقيهُ وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلمُ وإن بزَّ أهلَ الدنيا في صناعةِ الكلام، وحافظُ القصصِ والأخبارِ وإن كان من ابن القِرِّيَّة أحفظ، والواعظُ وإن كان من الحسنِ البصري أوعظ، والنحويُّ وإن كان أنحى من سيبويه، واللغويُّ وإن علك اللغاتِ بقوة لحييه = لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجلٌ قد برعَ في علمين مختصين بالقرآنِ، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهَّلَ في ارتيادِهما آونةً، وتعبَ في التنقيرِ عنهما أزمنةً، وبعثته على تتبُّعِ مظانِّهما هِمَّةٌ في معرفةِ لطائفِ حجةِ اللهِ، وحرصٌ على استيضاحِ معجزةِ رسول الله، بعد أن يكونَ آخذًا من سائرِ العلومِ بحظٍ، جامعًا بين أمرين: تحقيقٍ وحفظٍ...)) (1).
وإذا تأمَّلت هذا العلم الذي نصَّ عليه الزمخشري (ت: 538) – أي: علم البلاغة – وجدت أنه إنَّما يحتاجُه من كانَ عملُه زائدًا عن مهمَّةِ التَّفسيرِ، كمن يريدُ بيان إعجازِ القرآنِ الكريمِ ببلاغتِهِ، فإنَّه لا شكَّ بحاجةٍ إلى التَّبحُّرِ في علم البلاغةِ ليُبيِّنَ البلاغةَ القرآنيَّةَ، ولكن هذا ليس من مهمةِ المفسِّر، والله أعلمُ.
ولو جُرِّدَ التَّفسيرُ من كثيرٍ من هذه المعلوماتِ، لتقاربتْ مناهجُ المفسِّرين، ولكان جلُّ الخلافِ بينهم في وجوهِ التَّفسيرِ، وترجيحِ أقوالِ المتقدِّمينَ.
ولا شكَّ أنَّ هذا لو كانَ، لما كان هناكَ معلوماتٌ كثيرةٌ ومفيدةٌ مما يُرَى الآن في التَّفاسيرِ، ولذا فإنَّ هذه المرحلة المهمَّة – وهي بيانُ القرآنِ – يحسنُ أن تُبرز ويُعتَنَى بها، ثمَّ يمكن أن يؤتَى بعد ذلك بالمعلوماتِ التي ليست من صلبِ التَّفسير.
__________
(1) الكشاف (1: 15- 17).(1/34)
ولو أخذتَ مجموعةَ آياتٍ، وقرأتها في عددٍ من التَّفاسيرِ، فإنك ستجدُ اتِّفاقَها في المعلومات المتعلِّقةِ بالبيانِ، وإن اختلفت في طريقةِ عرضِها لها، وفي تحديدِ الوجه المرادِ بالآيةِ، وطريقتها في التَّرجيحِ.
ثمَّ ستجدُ أنَّ كلَّ تفسيرٍ يتميَّزُ بمعلوماتٍ لا تَجدُها عند الآخرِ، وهذه المعلومات لا حصرَ لها، فقد تكونُ في علم اللُّغةِ، أو علمِ النَّحوِ، أو علم الصَّرفِ، أو علمِ البلاغةِ، أو علمِ الفقهِ، أو علم الحديثِ، أو علومٍ أخرى.
كما ستجدُ تميُّزًا في ذكرِ بعضِ فوائدِ الآي والاستنباطِ منها، فقد يذكر بعضهم فوائدَ مستنبطةً لا يشيرُ إليها غيرُه، كقول ابن كثيرٍ (ت: 774) في تفسير قوله تعالى: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) [عبس: 16]، قال: ((وقوله: ( كِرَامٍ بَرَرَة ٍ ) [عبس: 16]، أي: خُلُقُهم كريمٌ حَسَنٌ شريفٌ، وأخلاقهم وأفعالُهم بارَّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ [يعني: الملائكة]. ومن ها هنا ينبغي لحامل القرآنِ أن يكونَ في أفعالِه وأقوالِه على السَّدادِ والرَّشادِ)) (1).
ولمَّا كان المقصدُ من التَّعريفِ تحريرُ المرادِ بالعلمِ، كانَ ما ذكرتُ لكَ من نقدِ بعضِ التَّعريفاتِ، أمَّا ما سلكه بعضُ العلماءِ من منهجٍ في كتابةِ تفاسيرِهم، فهذا لا يوجَّهُ إليه النَّقدُ من هذه الجِهةِ، لأنه أرادَ أن يكونَ في تفسيرِه مثلُ هذه المعلوماتِ الفقهيَّةِ أو النَّحويَّةِ أو الأصوليَّةِ أو غيرِها، لكن إن جُعلتْ هذه المعلوماتُ التي هي خارجةٌ عن حدِّ البيانِ من صلبِ التَّفسيرِ، فها هنا يكونُ النِّقاشُ وتحريرُ المرادِ بمصطلحِ التَّفسيرِ.
والمصطلحُ الذي ذكرتُه بضابطِه – وهو بيانُ القرآنِ – أقربُ إلى منهجِ تفسير السَّلفِ، إذ لا تجدُ عندهم في تفاسيرِهم تلك الاستطراداتُ التي عند المتأخِّرينَ.
__________
(1) تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (8: 321).(1/35)
وقد كان الطبري (ت: 310) يحرص على بيان المعنى – الذي هو التفسير -، وقد يذكره بعد جملة الآيات التي يفسرها، وقد يذكره في ترجيحاته.
زيادات المتأخرين في كتب التفسير:
قد تأمَّلتُ ما يكونُ من الزِّياداتِ التي زادها المتأخِّرونَ على تفاسيرِ السَّلفِ، فظهر لي الآتي:
تقويةُ ما وردَ عن السَّلفِ من اختياراتٍ تفسيريَّةٍ، وزيادةُ الاحتجاجِ لها، سواءٌ اختارَ إحدَى هذه التَّفسيراتِ أم لم يختر.
ذكر معلوماتٍ قرآنيةٍ لا علاقةَ لها بتفسيرِ الآيةِ مباشرةً، وإن كانت تتعلَّقُ بالآيةِ من وجهٍ آخرَ، وهو كونها من علومِ القرآنِ.
التوسُّعِ في العلمِ الذي برزَ فيه المؤلِّفُ، والاستطرادُ في ذكر تفاصيل مسائله، حتَّى يكادُ أن يخرجَ بتفسيرِه من كونِه كتابًا في التَّفسيرِ إلى كونِه كتابًا في ذلك العلمِ الذي برع فيه.
ويظهر على بعض هذه العلوم أنها مما زاده المتأخرون في التفسير على ما ورد عن السلف، كعلم الإعراب والتفصيلات الواردة فيه، والتوسع في المسائل اللغوية والتصريفية والاشتقاقية، والتفصيل في وجوه الأداء في القراءة، وبيان مواطن البلاغة القرآنية للدلالة على إعجازه، والتفصيل في الأحكام الفقهية التي لم يرد النصُّ عليها في القرآن، وغيرها من العلوم التي حدثت وضُبِطت مسائلها بعد جيل السلف.
ذكرُ أوجهٍ تفسيريَّةٍ جديدةٍ عمَّا هو واردٌ عن السَّلفِ.
ذكر جملةٍ من الاستنباطات الفقهيَّةِ والأدبيَّةِ، والاستدلال للمسائل العقدية، وغيرها.
ويمكنُ أن تظهرَ لك هذه النِّقاطُ بتأمُّلِ سورةٍ من السُّورِ، وعرضها – على سبيل المثال – على تفسير الطَّبريِّ (ت: 310)، وتفسيرِ القرطبيِّ (ت: 671)، وتفسير أبي حيَّان (ت: 745)، وتفسير الطاهر بن عاشور (ت: 1393)، وسيظهرُ لك هذا جليًّا بإذن اللهِ.
تطبيق على سورة الكوثر(1/36)
قوله تعالى: ( ِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) [الكوثر: 1- 3].
أولاً- التفسيرُ:
يخبر ربنا تبارك وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك النهر العظيم في الجنة الذي اسمه الكوثر، وهو جزء من الخير الكثير الذي أعطاه إيَّاه.
ثم أمره الله بأن يؤدي شكر هذه النعمة بأن تكون الصلاة والذبح له سبحانه لا كما يفعل المشركون الذين يذبحون للأصنام.
ثم أخبره أنَّ مبغضه هو المنقطع عن كل خير، بخلافك أنت فيما أعطاك الله من الخير.
وجوه التفسير في السورة:
ليُعلم أن المراد هنا ذكرُ وجوه التفسير الذي وردت في هذه الكتب، وليس المراد تصحيح هذه الوجوه أو تضعيفها، لأن المقام مقام بيان كونها تفسيرًا فحسب، وإليك ألفاظ الآية وما ورد فيها من وجوه.
الكوثر:
الوجه الأول: الكوثر: الشيء الكثيرُ، ويكون المعنى: إن وهبناك شيئًا كثيرًا، وهذا يشملُ كلَّ خيرٍ أعطاه الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم من خير الدُّنيا والآخرةِ، من النبوة، والقرآن، وكثرةِ الأتبَاعِ، والشفاعة، والحوضِ، وغيرها.
الوجه الثاني: الكوثرُ: النهر الذي أُعطيَه في الجَنَّةِ، ويكونُ المعنى: إنَّا وهبناك نهر الكوثرِ الذي في الجَنَّةِ.
وفي الكوثرِ غيرُ هذه الأقوالِ، قال أبو حيَّان معلِّقًا عليها: وينبغي حمل هذه الأقوال على التَّمثيلِ)) (1).
الصلاة والنَّحرُ:
الوجه الأول: الصلاة والنَّحرُ على عمومِهما، فيشملُ كلَّ صلاةٍ وكلَّ نحرٍ، ويكونُ المعنى اجعل صلاتك كلَّها، وذبائحكَ كلها لله ربِّكَ ... .
الوجه الثاني: صلِّ يوم النَّحرِ صلاة العيدِ لأجلِ ربَّك، واذبح أضحيتك بعدها.
الوجه الثالث: اجعل صلاتك لله ربِّك، واجعل يديك على صدركَ، قريبًا من نحركَ.
الوجه الرابع: اجعل صلاتك لله ربِّك، وارفع يديك عند الافتتاح للصلاة إلى نحرك.
__________
(1) البحر المحيط (10: 555).(1/37)
الوجه الخامس: اجعل صلاتك لله ربِّك، واستقبل القبلة بنحركَ.
الشانىء الأبتر:
لم يقع خلافٌ في معنى الشانىء الأبتر، وأنَّ معناه: إنَّ مبغضك هو المقطوع، أي: عن الخير.
وما وردَ من تحديدِ بعضِ الأعيانِ الذين نزل فيهم الخطابُ لا يعني أنَّ هذه التحديدات أقوالٌ أخرى، بل هي أمثلةٌ لمن يتَّصف بأنه مبغضٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ هذا المبغض هو الذليلُ المقطوع عن كلَّ خيرٍ.
ثانيًا- المعلومات التي تأتي بعد التَّفسيرِ:
بعد هذه المعلومات التي سبقت في التَّفسيرِ ووجوههِ، فإنَّ الغالبَ عليها أنَّها تكونُ خارجةً عن حدِّ البيانِ، ومن هذه المعلومات:
حكايةُ مناسبةِ السُّورةِ لما قبلها، قال أبو حيان (ت: 745): ((ولما ذكر فيما قبلها [أي: سورة الماعون] وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرِّياءِ ومنع الزَّكاةِ، قَابَلَ في هذه السورةِ البخل بـ ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) [الكوثر: 1]، والسَّهوَ في الصلاة بقوله: ( فَصَلِّ )، والرِّياء بقوله: ( لِرَبِّكَ )، ومنع الزَّكاةِ بقولِه: ( وَانْحَرْ )، أراد: تصدَّق بلحم الأضاحي، فقابل أربعًا بأربعٍ)) (1).
وهذا الذي ذكره أبو حيَّان (ت: 745) من مُلحِ التَّفسيرِ، وغالبُ علم المناسباتِ من باب المُلحِ واللَّطائِفِ، لأنَّ معرفتها لا تؤثِّرُ بالتَّفسيرِ، وفقدها لا ينقص من معرفته.
ذكر الظَّاهرُ بن عاشور (ت: 1393) ما يتعلَّق بتسميةِ السورة، وأورد الآثارَ في ذلك(2).
وتسمية السورة والاختلافُ فيها لا أثر له في تفسيرِ الآيات، بل هو من علومِ القرآنِ.
__________
(1) البحر المحيط (10: 556).
(2) مما يتميَّزُ به تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور أنه يذكر في مقدمة كلِّ سورةٍ الآثار الواردة في تسمية السورةِ، وسبب تسميتها بهذه الأسماء الواردة، وهو من المباحث النادرة في كتب علوم القرآنِ. بله كتب التَّفسيرِ.(1/38)
ذكر الطاهرُ بن عاشور (ت: 1393) عدد آياتها(1)، وأنَّها أقصر سور القرآن. وكلُّ هذا لا أثر له في التَّفسيرِ، وهو من علوم القرآنِ.
ذكر الطاهرُ بن عاشور (ت: 1393) أغراض السُّورةِ، وهي جملةُ الموضوعات التي طرحتها السُّورة(2). وهذا من علوم القرآنِ، لأنَّه لا أثر له في بيانِ الآيات.
حكايةُ قراءة من قرأ ((أعطيناك))، قرأها: ((أنطيناك))، وهما بمعنًى، وقد ذكروا شاهدًا لغويًّا لهذه القراءةِ(3)، وهذا لا أثر له في التفسيرِ، وهو من علمِ القراءةِ المحضِ.
وذكروا معنى الكوثر في اللغةِ وشواهده، وأنَّه بناءُ مبالغةٍ من الكثرةِ. وفي هذا تقويةٌ لتفسيرِ معنى الكوثر بالشَّيء الكثيرِ، وبيانٌ لوجه كونِ غيرِه من الأشياء يطلق عليها مسمَّى الكوثرِ، لأنَّ فيها أصلَ معنى هذا اللَّفظِ، فبيان المعنى قد تمَّ بعد معرفةِ مدلولِ اللَّفظِ، وما يُذكرُ بعد ذلك من المعاني فهي من باب تقويةِ التَّفسيرِ وتأييده.
ذكر الطاهرُ بن عاشور (ت: 1393) بعض النِّكات البلاغية، فقال: ((افتتاح الكلامِ بحرفِ التَّأكيدِ للاهتمام بالخبرِ. والإشعار بأنه شيء عظيمٌ، يستتبعُ الإشعار بتنويه شأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم في ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) [القدر: 1]. والكلام مسوق مساق البشارةِ وإنشاءِ العطاءِ لا مساق الإخبار بعطاءٍ سابقٍ.
وضميرُ العظمةِ مشعرٌ بالامتنانِ بعطاءٍ عظيمٍ)) (4).
__________
(1) كذا ذكر القرطبي أيضًا في الجامع لأحكام القرآن (20: 216).
(2) هذا المبحث، وهو أغراض السورةِ مما يتميَّز به تفسير الطاهر بن عاشور، فهو يقدِّم لكلِّ سورةٍ أغراضها التي تشتمل عليها.
(3) ينظر مثلاً: المحرر الوجيز، ط: قطر (15: 582)، والجامع لأحكام القرآن (20: 216)، والبحر المحيط (10: 555- 556).
(4) التحرير والتَّنوير (30: 572).(1/39)
وهذا كلُّه خارجٌ عن حدِّ التَّفسيرِ، لأنَّه لا أثر له في بيانِ المعاني، وإن كان من العلوم المتعلِّقةِ بالآيةِ مباشرةً.
وذكر مناسبةَ ذكر الصلاة والشكر إلى قوله: ( الأَبْتَرُ )، والعدولَ عن الضمير إلى الاسم الظَّاهرِ في قوله: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ )، وفائدة إضافة اسم الرَّبِّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلُّ هذا من علومِ الآيةِ التي تتعلَّقُ ببلاغتها، وجهلُها لا يؤثِّرُ في فهم المعنى العَامِّ الذي هو التَّفسيرُ.
وقس على ذلك غيرها من الفوائد التي ذكرها الطَّاهر بن عاشور (ت: 1393) مما هو خارجٌ عن حدِّ بيانِ المعنى المرادِ بالآيةِ.
أشار القرطبيُّ (ت: 671) إلى عدَّة مسائل فقهيَّة، وفصَّل في بعضِها، وهذه المسائلُ تتعلَّقُ بأحكامِ الأضحية، - ووضع اليمين على الشمال في الصلاةِ، والموضع الذي توضع عليه اليَدُ في الصلاةِ، وأحوالُ رفع اليَدَين، فقال: ((الثانية: قد مضى القول في سورة الصافات في الأضحية وفضلها ووقت ذبحها فلا معنى لإعادة ذلك، وذكرنا أيضًا في سورة الحج جملة من أحكامها.
قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر أن الشافعي قال: إن من ضحَّى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: ((أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعل فقد أصاب نسكنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء))، وأصحابه ينكرونه وحبذا الموافقة.
الثالثة: وأما ما روي عن علي عليه السلام ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )، قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدارقطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: لا توضع فريضة ولا نافلة لأن ذلك من باب الاعتماد، ولا يجوز في الفرض ولا يستحب في النقل.(1/40)
الثاني: لا يفعلها في الفريضة ويفعلها في النافلة استعانة، لأنه موضع ترخُّصٍ.
الثالث: يفعلها في الفريضة والنافلة، وهو الصحيح، لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره.
قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكى ذلك عن الشافعي، واستحبَّ ذلك أصحاب الرَّأي، ورأت جماعة إرسال اليد، وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعى، قلت: وهو مروي أيضاً عن مالك.
قال ابن عبدالبَرِّ: إرسال اليدين ووضع اليمنى على الشمال كل ذلك من سنَّة الصلاة.
الرابعة: واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد، فروي عن علي بن أبي طالب: أنه وضعهما على صدره. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السُّرَّةِ، وقال: لا بأس إن كانت تحت السُّرَّةِ، وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز، وبه قال سفيان الثُّوريُّ وإسحاق.
الخامسة: وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود فاختلف في ذلك. فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد، لم يروه عن حميد مرفوعًا إلا عبدالوهاب الثقفي. والصواب: من فعل أنس.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يُكَبِّرُ، وكان يفعل ذلك حين يُكَبِّرُ للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود.
قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول، وبه أقول، لأنه الثَّابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/41)
وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك، هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
قلت: وهو المشهور من مذهب مالك لحديث ابن مسعود، خرَّجه الدارقطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل قال: حدثنا محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: ((صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنه، فلم يرفعوا أيديهم إلا أولاً عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة)).
قال إسحاق: به نأخذ في الصلاة كلها.
قال الدارقطني: تفرد به محمد بن جابر، وكان ضعيفًا عن حمَّاد عن إبراهيم. وغيرُ حمَّاد يرويه عن إبراهيم مرسلاً، عن عبدالله من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب.
وقد روى يزيد بن أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء: ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة)).
قال الدارقطني: وإنما لُقِّنَ يزيد في آخر عمره: ((ثم لم يعد)) فَتَلَقَّنَهُ. وكان قد اختلط.
وفي (مختصر ما ليس في المختصر) عن مالك: لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة.
قال ابن القاسم: ولم أر مالكًا يرفع يديه عند الإحرام. قال: وأَحَبُّ إليَّ تركُ رفع اليدين عند الإحرام)) (1).
وكُلُّ هذا محلُّه كتبُ الفقهِ، لا كتب التَّفسيرِ، وهو من التَّوسُّعِ بسببِ بروع القرطبيِّ (ت: 671) في علمِ الفقه، ولأجلِ أَنَّه قصد إبرازَ ما يتعلَّقُ بالآيةِ من أحكامٍ فقهيَّةٍ من أيِّ وجه كان هذا التَّعَلقُ، ولا يلزم من هذا أن يكونَ كلُّ ما ذكره من مسائل الفقه هو من التَّفسيرِ، والله أعلمُ.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (20: 220- 222).(1/42)
وبعد هذا التَّطبيقِ، أرجو أن أكون قد وُفِّقتُ لتحديد مفهوم التَّفسيرِ، وإن اختلفتَ معي في مثالٍ من الأمثلةِ التي أخرجْتها من صلبِ التَّفسيرِ، فأرجو أن تكون موافقًا لي في مفهومِ التَّفسيرِ.
تنبيهان:
الأول: لا يعني حديثي هنا عن تحرير مصطلح التَّفسيرِ أنَّ المفسِّرَ يجبُ أن يقفَ على التَّفسيرِ، دونَ الشُّروع فيما يتعلَّقُ بالآية من علومٍ أخرى، وإنما مرادي هنا تحرير المصطلحِ فقط، فليُفهم هذا.
الثاني: أنه لا يُعترضُ على المفسرين الذين أدخلوا ما ليس من التفسير في تفاسيرهم، لأنَّه كان من منهجهم في كتبهم هذه أن يذكروا هذه المعلومات، لكن يُعترضُ عليهم إن جعلوا أنَّ التفسير لا يتمُّ إلا بها.
فائدة معرفة مفهوم التفسير :
الفائدة الأولى: معرفة أوَّل ما يجب أن يعرفه من قرأ في التفسير، وهو بيان المعنى الجملي، لأنَّه إذا صحَّ له المعنى صار أصلاً صحيحًا يعتمد عليه في الاستنباط وغيره.
الفائدة الثانية: معرفة علاقة المعلومات التي يذكرها المفسرون في كتبهم بمفهوم التفسير، وبهذا يستخلص الأصل الذي سبق ذكره في الفائدة الأولى.
الفائدة الثالثة: معرفة العلوم التي يجب على المفسر معرفتها، ومعرفة العلوم التي يحتاجها من أراد الزيادة على التفسير.
وقد كتب في موضوع العلوم التي يحتاجها المفسر بعض العلماءِ، لكنهم توسعوا في طلب هذه العلوم، وجعلوا فيها جملةَ العلومِ الشرعيةِ وعلومِ الآلة وغيرها مما يزيد عن حاجة المفسر، وهي إنما يحتاجها من أراد الزيادة عن التفسير، والدخول في التدبر والاستنباط.
ومن أول من بيَّن هذه العلوم الراغب الأصفهاني (ت: بعد: 400)، فقد ذكرها تحت عنوان: ((بيان الآلات التي يحتاج إليها المفسر))، وقد جعلها عشرة علوم، وهي علم اللغة، والاشتقاق والنحو، والقراءات، والسير، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة(1).
__________
(1) مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات (ص: 94- 96).(1/43)
وزاد من جاء بعده بعض العلوم، كعلوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وجعلها ثلاثة علوم مستقلة(1).
وإذا كانت مهمة المفسِّر بيان معاني القرآن، فإنَّه عند تأمُّل هذه العلوم، وفحصها سيظهر ما يأتي:
أنَّ بعضها لا يلزم المفسِّرَ معرفتها، كعلم البلاغة وعلم أصول الفقه.
وأنَّ بعضها يكفيه منها مبادىء العلم دون الدخول في تفصيلته، كعلم النحو.
وأنَّ بعضها يحتاج منه جزءًا معيَّنًا، كمعرفة دلالة الألفاظ من علم اللغة.
ولا شكَّ أنَّ من حصَّل هذه العلوم كان أوسع بحثًا وتقريرًا في تفسيرِه، لكنه فيما يكون خارجَ حدِّ البيان عن معاني القرآن، والله أعلم.
مفهوم التأويل
تدورُ كلمةُ ((أَوَلَ)) في اللُّغةِ على معنى الرُّجوعِ(2).
وهذا يعني تأويلَ الكلامِ هو الرُّجوعُ به إلى مرادِ المتكلِّمِ، وهو على قسمين:
__________
(1) ينظر: التيسير في قواعد علم التفسير، للكافيجي، تحقيق: ناصر المطرودي (ص: 144- 147)، وقد ذكر المحقق ممن حصرها في الخمسة عشر علمًا شمسَ الدين الأصفهاني في مقدمات تفسيره، وقد ذكرها كذلك السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم (4: 185- 188).
(2) جعل الراغبُ (ت: بعد 400) في مفردات ألفاظِ القرآنِ (ص: 99) التَّأويل من الأوْلِ، أي: الرُّجوع إلى الأصلِ، وجعل ابن فارس (ت: 395) في مقاييس اللُّغةِ (1: 158) مادَّة ((أول)) ترجعُ إلى أصلين: ابتداءُ الأمرِ، وانتهاؤه)). ويظهرُ أنَّهما يشتركانِ في معنى الرُّجوعِ الذي نصَّ عليه الرَّاغبُ (ت: بعد 400)، ولو جُعِلَ أصلاً واحدًا لكانَ أَوْلَى. فالأوَّل من الأشياءِ يرجعُ إليه ما بعدَه مما تأخَّرَ عنه. وآل الرَّجل: عشييرتُه التي يرجعُ إليها، وآلَ جسمُ الرَّجلِ: إذا نَحُفَ، كأنه يرجع إلى هذه الحالةِ، والإيالةُ: السياسةُ، لأنها مرجعُ الرَّعيَّةِ، والموئل: للموضع الذي يُرجَعُ إليه، وكذا غيرها مما في هذه المادَّةِ فإنه يرجع إلى هذا الأصل.(1/44)
الأولُ: بيانُ مرادِ المتكلِّمِ، وهذا هو التَّفسيرُ.
الثَّاني: الموجودُ الذي يؤول إليه الكلامُ، أي ظهورُ المُتكلِّمِ به إلى الواقعِ المحسوسِ.
فإن كانَ خبرًا، كان تأويلُه وقوعُ المُخبَرِ به، كمن يقولُ: جاء محمَّدٌ، فتأويلُ هذا الكلامِ مجيءُ محمَّدٍ بنفسِه.
وإذا كانَ طلبًا (أي: أمرًا أو نهيًا)، كان تأويلُه أن يفعلَ هذا الطلبُ.
وهذان المعنيان هما الواردان في القرآن والسنة وتفسير السلف واللغة.
ما الفرق بين معنيي التأويل؟
الفرقُ بين معنيي التَّأويل السَّابقين: أنَّ تفسيرَ الكلامِ ليس هو نفس ما يوجدُ في الخارجِ، بل هو بيانه وشرحُه وكشفُ معناه. فالتَّفسيرُ من جنسِ الكلامِ، يفسِّرُ الكلامَ بكلامٍ يوضِّحُهُ.
وأمَّا التَّأويلُ الذي هو فعلُ المأمورِ به، وتركُ المنهيِّ عنه، وكذا وقوعُ المخبرِ به، فليس هو من جنسِ الكلامِ(1).
ومثال ذلك:
قال الطبري (ت: 310) حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة ( جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ ) [ص: 11]، قال: ((وعده الله وهو بمكة يومئذٍ أنه سيهزم جندًا من المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر)) (2).
وقال حدثنا ابن عبدالأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة: أن عمر قال: ((لما نزلت ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ) [القمر: 45]، جعلت أقول: أيُّ جمعٍ يهزمُ. فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر)) (3).
آثار في إطلاقِ التَّأويلِ على التَّفسيرِ:
كثُرَ في كلامِ العلماءِ إطلاقُ التَّأويلِ على التَّفسيرِ من لدن عهد الصَّحابةِ، ومن الآثارِ الواردةِ في ذلك:
__________
(1) ينظر: تفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية، تحقيق: عبدالعلي عبدالحميد حامد (ص: 167- 168).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (23: 130).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (7: 108).(1/45)
قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ابن عباس (ت: 68): ((اللهمَّ فقِّهُ في الدِّينِ، وعلِّمْهُ التَّأويلَ))، أي: تفسيرَ القرآنِ الكريمِ.
قال الطَّبريُّ (ت: 310): ((وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: ((وعلِّمهُ التَّأويل))، فإنَّه عَنَى بالتَّأويل: ما يؤولُ إليه معنى ما أنزل الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم من التَّنْزيلِ، وآي الفرقان، وهو مصدر من قول القائل: أوَّلتُ هذا القول تأويلاً، وأصله من آل الأمر إلى كذا، إذا حملها على وجْهٍ جعل مَرجعها إليها تأويلاً.
ومن قولهم: أوَّل فلانٌ له كذا على كذا، قولُ أعشى بني قيس بن ثعلبة، لعلقمة بن عُلاثَة العامريِّ:
وأوِّلِ الحُكْمَ على وَجْهِهِ ليسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائرِ
يعني بقوله: وأوِّلِ الحُكمَ على وجهِه: وجِّهْهُ إلى وَجْهِهِ الذي هو وجه الصَّوابِ)) (1).
وفي تفسير قوله تعالى: ( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة: 195]، قال أبو عِمران التُّجِيبيِّ(2): ((كنا بمدينة الرُّومِ(3)، فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الرُّومِ، فخرجَ إليهم من المسلمين مثلُهم أو أكثرُ، وعلى أهلِ مصرَ عقبةُ بن عامرٍ، وعلى الجماعةِ فضالةُ بن عبيدٍ، فحمل رجلٌ من المسلمينَ على صفِّ الرُّومٍ حتَّى دخلَ فيهم، فصاح النَّاس، وقالوا: سبحانَ اللهِ يُلقي بيدِه إلى التَّهلُكةِ.
__________
(1) تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق: محمود شاكر، مسند ابن عباس، السفر الأول (ص: 183).
(2) أسلم بن يزيد، أبو عمران التُّجيبي المصري، مولى عمير بن تميم بن جدِّ التُّجِيبي المصري، تابعيُّ ثقةٌ. تهذيب الكمال، للمزي (1: 210).
(3) يعني: القُسْطَنْطِينِيَّةَ.(1/46)
فقامَ أبو أيوبَ، فقال: أيُّها النَّاس، إنَّكم تتأوَّلون هذه الآية هذا التَّأويلَ، وإنما أنزلت هذه الآيةُ فينا معشرَ الأنصارِ لما أعزَّ اللهُ الإسلامَ، وكَثُرَ ناصروه، فقال بعضنا لبعضٍ سرًّا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أموالنا قد ضاعت، وإنَّ الله قد أعزَّ الإسلامَ، وكَثُرَ ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها.
فأنزل اللهُ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم يردُّ علينا ما قلنا ( وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة: 195]، فكانت التَّهلُكةُ الإقامةَ على الأموالِ وإصلاحِها، وترْكَنا الغَزْوَ)) (1).
ومنه قول الشَّافعيِّ (ت: 204) في أكثر من موطن من كتاب الأمِّ: ((وذلك _والله أعلمُ_ بيِّنٌ في التَّنْزيل، مُستغنًى به عن التَّأويل...)) (2).
وفي قوله: ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) [البقرة: 130]، قال الأخفشُ (ت: 215): ((فزعم أهلُ التّأويلِ أنَّه في معنى: سفَّهَ نفسَه)) (3).
وقال ابن الأعرابيِّ (ت: 231): ((التَّفسيرُ والتَّأويلُ والمعنى واحدٌ)) (4).
وأسندَ النَّحَّاسُ (ت: 338) إلى أحمد بن حنبل (ت: 242)، قال: ((بمصر كتابُ التَّأويلِ عن معاويةَ بنِ صالحٍ، لو جاء رجلٌ إلى مصرَ، فكتبهُ، ثمَّ انصرفَ به، ما كانت رحلتُه عندي ذهبت باطلاً)) (5).
__________
(1) سنن التَّرمذي (5: 212، رقم الحديث: 2972).
(2) كتاب الأمِّ (7: 319)، وينظر: (2: 28)، (4: 242).
(3) معاني القرآن، للأخفش، تحقيق: هدى قراعة (1: 157).
(4) تهذيب اللغةِ (12: 407).
(5) الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: الدكتور سليمان اللاحم (1: 462)، وهذا الكتاب هو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.(1/47)
وعنْ شَمِرِ بن حَمْدُويَه (ت: 255) (1) أنه قال: ((ورُوِيَ لنا عنِ ابنِ المُظَفَّرِ(2)-ولم أسمعْه لغيرِهِ- ذَكَرَ أَنَّه يقال: أدركَ الشيءُ: إذا فَنِيَ(3). وإن صحَّ، فهو في التأويل(4): فَنِيَ عِلمُهم في معرفةِ الآخرةِ)) (5).
وأشهرُ من أطلقَه على التَّفسيرِ، محمدُ بن جريرٍ الطَّبريُّ (ت: 310) في كتابِه جامع البيانِ عن تأويلِ آي القرآنِ، وقد كان يطلق مصطلح ((أهل التَّأويل))، ويصدِّرُ تفسيرَه للآي بقوله: ((القول في تأويلِ قوله تعالى)).
وجاء التَّأويلُ في تسمياتِ كثيرٍ من كتبِ التَّفسيرِ مرادًا به التَّفسيرَ، كتفسيرِ ابن جرير الطبريِّ (ت: 310),
ونصوص العلماء في إطلاقِ التَّأويلِ مرادًا به التَّفسيرُ كثيرةٌ جدًّا، لا تكادُ تنحصرُ، وما ذكرته، فإنه على سبيلِ المثالِ، واللهُ الموفِّقُ.
آثار في إطلاقِ التَّأويلِ على ما تؤول إليه حقيقة الشيء:
التَّأويلُ بمعنى: ما تؤولُ إليه حقيقةُ الكلامِ، هو الغالبُ على معنى لفظِ التَّأويل في موارِده في القرآنِ، وقد ورد في تأويلِ الرُّؤى ثمانُ مواضع من سورةِ يوسف(6).
__________
(1) شَمِرُ بنُ حَمدويه، أبو عمرو الهرويُّ اللُّغويُّ، لقيَ ابن الأعرابي وغيره، وروى الدواوين، كتب في اللغة كتابه الجيم، وهو كتاب أودعه فوائد جمَّةً، ولكنه ضاع ولم يبق منه إلاَّ اليسير، توفي سنة (255). ينظر: تهذيب اللغة (1: 12)، إنباه الرواة (2: 77- 78).
(2) هو الليث.
(3) في كتاب العين (5: 328): ((الإدراكُ فناءُ الشيء، أدركَ هذا الشيءُ: فَنِيَ)).
(4) يريد تفسير قوله تعالى: ( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ ) [النمل: 66]، وهي في قراءة ابن كثير وأبي عمرو: ( ادَّارَكَ ). انظر: إعراب القراءات السبع (2: 161).
(5) تهذيب اللغة (10: 114).
(6) ينظر الآيات (6، 21، 36، 37، 44، 45، 100، 101) من سورة يوسف.(1/48)
ووردَ في سورةِ الكهفِ موضعانِ في قصَّةِ الخَضِرِ وموسى عليهما السَّلامُ، وهما قوله تعالى: ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [الكهف: 78]، وقوله تعالى( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [الكهف: 82]، والمعنى: سأنبئكُ بحقيقةِ ما رأيت من الأمورِ العجيبةِ التي لم تصبرْ عليها.
ووردَ قوله تعالى: ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) [الأعراف: 53]، وقوله تعالى: ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) [يونس: 39]، وهو بمعنى الحقائق التي أخبرَ بها من الثوابِ والعقابِ.
ووردَ التَّأويل في موضعينِ بمعنى العاقبةِ في قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء: 59]، وقوله تعالى: ( وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [الإسراء: 35].
وأمَّا موضع سورة آل عمران، فسيأتي الحديث عنه لاحقًا.
هذا، ومما وردَ في الآثارِ من معنى التَّأويل: ما تؤول إليه حقيقةُ الكلامِ، ما يأتي:
أوردَ البخاري (ت: 256) تحت تفسيرِ قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) [النصر: 3]، عن عائشة قالت: ((كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي، يتأوَّلُ القرآن)) (1).
تعني بقولها: يتأوَّل القرآن: يعملُ ويطبِّقُ ما أُمِرَ به من التَّسبيحِ والتَّحميدِ.
__________
(1) ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8: 605).(1/49)
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأوَّل هذه الآية: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) [البقرة: 115] (1).
وفي موطأ مالك (ت: 197) عن كعب الأحبار: ((أنَّ رجلاً نزعَ نعليه، فقال: لِمَ خلعتَ نعليك، لعلَّكَ تأوَّلت هذه الآية: ( إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) [طه: 12]، قال: ثمَّ قال كعبٌ للرجلِ: أتدري ما كانت نعلا موسى، قال مالك: لا أدري ما أجابه الرَّجل، قال كعبٌ: كانتا من جلدِ حمارٍ ميِّتٍ)) (2).
ورُوي عن الثَّوري: أنه بلغه أنَّ أمَّ ولدِ الرَّبيعِ بن خُثَيم قالت: كان إذ جاءه السَّائل، يقول لي: يا فلانة، أعطي السَّائل سُكَّرًا، فإن الرَّبيعَ يُحِبُّ السُّكَّرَ.
قال سفيان: يتأوَّل قوله عزَّ وجل: ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) [آل عمران: 92](3).
عن قتادةَ، عن أبي مارن الأردي، قال: ((انطلقتُ على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوسٌ، فقرأ أحدهم هذه الآية: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ) [المائدة: 105]، فقال أكثرُهم: لم يجيء تأويلُ هذه الآيةِ اليوم)) (4).
وكذا فسَّر مكحولٌ (ت: 113) هذه الآية، قال: ((إنَّ تأويلَ هذه الآيةِ لم يجيء بعدُ)) (5).
__________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2: 530).
(2) الموطَّأ، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي (2: 916).
(3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (4: 133).
(4) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (11: 140)، وانظر بعده آثارٌ فيها لفظُ التَّأويلِ بهذا المعنى.
(5) تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (4: 1227).(1/50)
وعن أبي العالية (ت: 93) في قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) [المائدة: 105]، قال: ((كانوا عند ابن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين ما يكونُ بين النَّاسِ، حتَّى قامَ كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحِبه، فقال رجلٌ من جُلساءِ عبداللهِ: ألا أقومُ فآمرُهما بالمعروفِ وأنهاهما عن المنكرِ؟.
فقال رجلٌ آخرُ إلى جنبهِ: عليك بنفسك، فإنَّ الله يقولُ: ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) [المائدة: 105].
قال: فَسَمِعَهُمَا ابنُ مسعودٍ، فقال: مَهْ، لمَّا يجيء تأويلُ هذه بعدُ. إنَّ القرآنَ أُنزِلَ حيثُ أنْزِلَ، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهُنَّ قبل أن ينْزلن، ومنه آيٌ وقع تأويلُهَنَّ على عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنه آيٌ وقع تأويلُهُنَّ بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بيسيرٍ، ومنه آيٌ يقع تأويلُهنَّ بعد اليوم، ومنه آيٌ يقع تأويلُهُنَّ عند السَّاعةِ على ما ذُكرَ من السَّاعةِ، ومنه آيٌ يقع تأويلُهُنَّ يوم الحسابِ على ما ذُكرَ من الحسابِ والجنَّةِ والنَّارِ.
فما دامت قلوبكم واحدةٌ، وأهواؤكم واحدةٌ، لمْ تُلبسُوا شِيَعًا، ولمْ يُذَقْ بعضُكم بأسَ بعضٍ، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوبُ والأهواءُ، وأُلبِستم شِيَعًا، وذاقَ بعضُكم بأس بعضٍ، فامرؤٌ ونفسُه، فعند ذلك جاء تأويلُ هذه الآيةِ)) (1).
المصطلحُ المتأخِّرُ في مفهومِ التَّأويل:
__________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (11: 143- 144)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (4: 1227).(1/51)
لقد كان المعنيانِ السَّابقانِ في مفهومِ التَّأويلِ هما اللَّذان سارَ عليهما متقدِّمو الأمُّةِ من الفقهاءِ والمفسِّرينَ واللُّغويِّين(1)، ولم يرد عنهم غيرُ هذين المعنيين، حتى ظهر اصطلاحٌ ثالثٌ حادثٌ على اللُّغةِ ومصطلحِ القرآنِ، وقد صارَ المراد بالتَّأويلِ مشكلاً بسببِ بروز هذا المصطلحِ الحادثِ.
والتَّأويلُ بالاصطلاحِ الحادثِ: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِه إلى معنى مرجوحٍ لقرينةٍ تدلُّ عليه.
وممن ورد عنه ذلك، ابن حزم (ت: 456)، قال: ((التأويل: نقل اللفظ عَمَّا اقتضاه ظاهره وعَمَّا وُضِعَ له في اللُّغة = إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صحَّ ببرهان، وكان ناقله واجب الطاعة = فهو حق. وإن كان نقله بخلاف ذلك، أطُّرِحَ ولم يلتفت إليه، وحُكِمَ لذلك النَّقل بأنه باطل)) (2).
وأبو الوليد الباجي (ت: 474)، قال: ((التَّأويلُ: صرف الكلامِ عن ظاهره إلى وجه يحتملُه)) (3).
__________
(1) لقد دخل هذا الاصطلاح الحادث في بعض كتب اللغة المتأخرة، وستجده في مادة (أول) في كتاب لسان العرب نقلاً عن ابن الأثير، وفي كتاب تاجِ العروس نقلاً عن صاحب جمع الجوامع وابن الكمال وابن الجوزي، وهذا النقول ليست من تحرير مدلول اللفظ في اللغة، بل هي ذكر لما استقر عليه مصطلح الأصوليين لمعنى التأويل، لذا لا يُغترُّ بذكرهم له في كتب اللغة، والله الموفق.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (1: 43).
(3) الحدود، للباجي (ص: 48).(1/52)
وقال ابن الزاغوني (ت: 527) (1): ((نقل الكلام عن وضعه وأصله السابق إلى الفهم من ظاهره في تعاريف اللغة والشرع أو العادة = إلى ما يحتاج في فهمه والعلم بالمراد به إلى قرينة تدل عليه لعائق منع من استمراره على مقتضى لفظه، وهو مأخوذ من المآل، ومن ذلك ما وقع الخطاب فيه على سبيل المجاز، ولم يكن يراد به الأصل في الحقيقة، ومنه قوله تعالى: ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) [البقرة: 93]، أراد: حُبَّ العجل، لأنه لو أراد حمل الكلام على حقيقته لكان العجل يكون في بطونهم لا في قلوبهم، لأن الأعيان إنما تنتقل إلى البطن لا إلى القلب...)) (2).
وقال ابن الجوزي (ت: 597): ((التأويل: العدولُ عن ظاهر اللفظِ إلى معنى لا يقتضيه، لدليل عليه)) (3).
مثال لأثر هذا المصطلح في حملِ كلام الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم عليه:
إنَّ من العجيبِ أن يُجعَلَ هذا المصطلحُ المتأخِّرُ أصلاً يُعتمدُ في تفسير القرآن وشرح السنة، ولقد حصلًَ بسببِه انحرافٌ كبيرٌ في ذلك.
ومن أمثلة ذلك ما وقع من شرح حديثِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عمِّه عبدِاللهِ بن العبَّاسِ: ((اللهمَّ فقِّهُ في الدِّينِ، وعلِّمْهُ التَّأويلَ)).
قال ابن الجوزي (ت: 597): ((قوله: وعَلِّمْهُ التَّأويلَ: فيه قولان:
أحدهما: أنه التفسير.
والثاني: أن التَّأويل: نقل الظَّاهر عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو من آل الشيء إلى كذا أي صار إليه)) (4).
__________
(1) أبو الحسن علي بن عبدالله بن الزاغوني، نسبة إلى قرية زاغينا من قرى بغداد.
(2) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص: 217).
(3) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص: 216).
(4) غريب الحديث، لابن الجوزي (1: 37).(1/53)
وقال ابن الأثير (ت: 606): ((وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)): هو من آل الشيء يؤول إلى كذا، أي: رجع وصار إليه.
والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك يتأول القرآن)): تعني أنه مأخوذ من قوله تعالى: (( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ) [النصر: 3](1).
ومنه حديث الزهري، قال: ((قلت لعروة: ما بال عائشة تُتِمُّ في السَّفر – يعني: الصلاة – قال: تأوَّلت كما تأوَّل عثمان، أراد بتأويل عثمان: ما روي عنه أنه أتَمَّ الصَّلاة بمكة في الحج، وذلك أنه نوى الإقامة بها)) (2).
فكيف يُحمل كلامُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مصطلحٍ حدث بعده بمدة طويلة؟!.
إنَّ مما تقع فيه الغفلةُ أنْ تُحكَّمَ مصطلحات متأخرةٌ في الظهورِ على ألفاظِ الشرعِ، أو كلام السابقين، فيقع بذلك التحريف أو التخطئةُ للعلماء، وهذا مبحث مهم من مباحث العلم تحتاج إلى تجليةٍ ليس هذا محلُّها، ولعل في هذا المثال غُنْيَةً وبيانًا عن هذه الفكرةِ، والله الموفق.
تنبيه:
من الملاحظ أن صاحب لسان العرب نقل كلام ابن الأثير، لأن كتاب ابن الأثير أحد مصادر ابن منظور، فلا يُحتجُّ بهذا أنه وارد في معاجم اللغة، وكذا الحال في تاج العروس، فقد نقله ونقل أقوال غيره، وهذا مما دخل في هذه المعاجم اللغوية، وليس له أصل في لغة العربِ(3).
سبب ظهور هذا المصطلح الحادث:
__________
(1) أين نقل اللفظ عن وضعه الأصلي هنا؟! إنَّ المسألة ظاهرة، وهي أنَّه يطبِّق ما أُمرَ به من التسبيح والاستغفار.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر (1: 80- 81).
(3) ينظر نقلهما في مادة (أول) من كتابيهما.(1/54)
كان سببُ ظهورِه –فيما يبدو- نشوءَ القولِ بالمجازِ الذي يقابلُه مصطلحُ الحقيقةِ عند من اعتمدَه.
فحقيقةُ اللَّفظِ: ما وُضِعَ له أصلاً، فالحمارُ: اسمٌ للدَّابَّةِ المعروفةِ، إذ لا ينصرفُ الذِّهنُ إلى غيرِه عند إطلاقِ هذا اللَّفظِ.
ومجازُ اللَّفظِ: ما أُريدَ به غير المعنى الموضوعِ له في أصلِ اللُّغةِ، كإطلاقِ الحمارِ على الرَّجلِ البليدِ.
والتَّأويلُ بالاصطلاحِ الحادثِ: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهرِه إلى معنى مرجوحٍ لقرينةٍ تدلُّ عليه.
ومن ثَمَّ، فإنَّ كلَّ استعمالٍ للمجازِ تأويلٌ، لأنه يتركُ ما يدلُّ عليه ظاهرُ اللَّفظ إلى ما يسمِّيهِ مجازًا.
قال ابن حزم (ت: 456): ((...فقد بان بما ذكرنا: أنَّ نقل الأمر عن الوجوب، والفَور إلى النَّدب والتراخي = هو باب واحد مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر، وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز، ومنه قوله تعالى: (( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) [الدخان: 49]، ومثل هذا كثير)) (1).
والمجازُ هو آلةُ المُؤوِّلِ التي يستخدِمها لصرفِ اللَّفظِ عن ظاهرِه إلى باطنٍ لا يدلُّ عليه اللَّفظُ في سياقِه.
وهنا تعلمُ أنَّ مصطلحَ التَّأويلِ الحادِثِ ومصطلحَ المجازِ لا يكادانِ ينفكَّانِ.
هل هناك فرق بين التفسير والتأويل؟
كان من آثار هذا المصطلح الحادث أن طلب بعض العلماءِ فروقًا بين التفسير والتأويل، وليس المقصود هنا استقصاء هذه الفروق التي ذكروها، ولكن سأذكر بعضها ليتبين مدى تأثير المصطلح الحادث على الفرق بين هذين المصطلحين.
قال الشريف الجرجاني (ت: 816) (2) في شرح مقدمة الكشاف: ((التفسير: علم يُبحث فيه عن أحوالِ كلامِ اللهِ المجيدِ من حيثُ دلالتُه على مراده، وينقسم:
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام (3: 386).
(2) هو علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، صاحب كتاب التعريفات.(1/55)
إلى تفسير، وهو ما لا يدرك إلاَّ بالنقل، كأسباب النُّزول والقصص، فهو ما يتعلق بالرواية.
وإلى تأويل، وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، وهو ما يتعلق بالدراية.
فالقول في الأول بلا نقل خطأٌ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي، وإنْ أصابَ فيهما.
وأما استنباطُ المعاني على قوانين اللغةِ، فمِمَّا يُعَدُّ فَضْلاً وكمالاً)) (1).
قال صديق حسن خان (ت: 1307): ((واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيد وطائفة: هما بمعنى وقد أنكر ذلك قوم(2).
وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية.
وقال غيره: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والتأويل: توجيهُ لفظ متوجهٍ إلى معانن مختلفة إلى واحد منهما بما ظهر من الأدلة.
وقال الماتريدي: التفسير: القطعُ على أن المرادَ من اللفظ هذا، والشهادةُ على الله سبحانه وتعالى أنه عنَى باللَّفظِ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة.
وقال أبو طالب الثعلبي: التفسير: بيانُ وضعِ اللفظِ إمَّا حقيقةً أو مجازًا، والتأويلُ: تفسيرُ باطنِ اللَّفظِ، مأخوذ من الأَولِ، وهو الرجوعُ لعاقبةِ الأمرِ، فالتأويلُ: إخبارٌ عن حقيقةِ المرادِ، والتفسيرُ إخبارٌ عن دليلِ المرادِ، مثاله: قوله سبحانه وتعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) [الفجر: 14]، وتفسيره: أنه من الرَّصْدِ، مفعالٌ منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) الكشاف مع حاشية الجرجاني وابن المنير (1: 15).
(2) هذا الإنكار باطل، لأنه قد ثبت عن العلماء المتقدمين من مفسري السلف واللغويين، وهم الحجة في إثبات مثل هذا، فكيف ينكره هؤلاء القومِ؟!.
ومن أين سيأخذون معاني الألفاظِ إن لم يأخذوها من هولاء؟!.(1/56)
وقال الأصبهاني: التفسير: كشفُ معاني القرآنِ، وبيانُ المرادِ أعمُّ من أن يكونَ بحسبِ اللفظِ أو بحسبِ المعنى، والتأويل أكثره باعتبار المعنى، والتفسير: إما أن يُستعملَ في غريب الألفاظ أو في وجيزٍ يتبيَّنُ بشرحِه، وإمَّا في كلامٍ متضمِّنٍ لقصةٍ لا يمكنُ تصويرُه إلا بمعرفتها، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عامًا، ومرة خاصًا، نحْو: الكفرِ المستعملِ تارةً في الجحودِ المطلق، وتارة في جحودِ الباري خاصةً، وإما في لفظ مشتركٍ بين معانٍ مختلفةٍ.
وقيل: يتعلق التفسير بالرواية، والتأويل بالدراية.
وقال أبو نصر القشيري: التفسير: مقصور على السماع والاتباع. والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل.
وقال قوم: ما وقع مبيَّنًا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يسمى تفسيرًا، وليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد، بل يُحمل على المعنى الذي ورد، فلا يَتعدَّاه. والتأويل: ما استنبطه العلماءُ العالمون بمعنى الخطابِ، الماهرون في آلات العلوم.
وقال قوم – منهم البغوي والكواشي -: هو صرف الآيةِ إلى معنى موافقٍ لما قبلها وبعدها، تحتملُه الآية، غيرِ مخالف للكتابِ والسنةِ، من طريقِ الاستنباطِ. انتهى.
ولعله هو الصواب. هذا خلاصة ما ذكره أبو الخير في مقدمة علم التفسير)) (1).
__________
(1) أبجد العلوم للفتوجي (2: 141- 142).(1/57)
وقال الآلوسي (ت: 1270): ((وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف، فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم، إذ قد تعارف من غير نكير(1) أن التأويل: إشارةٌ قدسيةٌ، ومعارفُ سبحانيةٌ تنكشف من سُجُفِ العباراتِ للسالكين، وتنهلُّ من سُحُبِ الغيبِ على قلوب العارفين، والتفسيرُ غيرُ ذلك(2).
وإن كان المراد الفرق بينهما: يحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال.
أو بوجه ما، فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعًا، وفي كل إرجاع كشفًا فافهم)) (3).
وهذه النقول تدلُّ على وجود إشكال عند هؤلاء العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل، والذي يظهر عليها كلها أنه تخصيصاتٌ لا دليل عليها، وتفريقات لا يستقيم لها وجه، فكلُّ واحدٍ منهم يرى ما لا يراه الآخر، وتراهم لم يثبتوا على قولٍ سوى وجود الفرق، ثمَّ اختلفوا في بيانه.
وتحقيق الأمر في ذلك كما يأتي:
بعد أن تبيَّنَ أنَّ التفسيرَ يتعلَّقُ ببيانِ المعنى، وأنَّ التَّأويلَ له مفهومانِ صحيحانِ: أحدُهما يوافقُ معنى التَّفسيرِ، والآخر يرادُ به ما تؤول [أي: ترجع] إليه حقيقةُ الشيء، أي: كيف تكونُ، فإنَّ ملاك القولِ في ذلكَ أن يُقالَ:
إنَّ لهذه الفروق احتمالين:
الاحتمال الأول: أن ترجع الفروق إلى أحد هذه المعاني الصحيحة المذكورة في مصطلحِ التَّأويلِ.
__________
(1) هذا من غرائب الآلوسي عفا الله عنه – فمن أين له أنه قد تعورف على هذا من غير نكير ؟!.
(2) كأنه يجعل التأويل الإشارات التي يفسر بها المتصوفة كلام الله سبحانه، وهذا غير سديد، وليس عليه دليلٌ أنه هو التأويل لا من نقل ولا عقل.
(3) روح المعاني (1: 5).(1/58)
فإن رجعتْ إلى أحدِ هذه المعاني المذكورةِ، فإنها تُقبَلُ، ولكن لا تكونُ هي حدُّ الفرقِ، بل هي جزءٌ من الفَرْقِ لا غير، وهذا يعني أنه قد يكونُ غيرُها صحيحًا، لأنها تذكرُ فرقًا آخرَ صحيحًا، وهو مندرجٌ في المعاني المذكورة في المرادِ بالتَّفسيرِ والتَّأويل.
ولأضرب لك مثالاً بأحد ما ذُكر من الفروقِ، قال أبو منصور الماتريدي (ت: 330): ((التفسير: القطعُ على أن المرادَ من اللفظ هذا، والشهادةُ على الله سبحانه وتعالى أنه عنَى باللَّفظِ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة)).
إذا فسَّرتَ قوله تعالى: ( وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) [البروج: 2] بأنه يوم القيامة، لإجماع المفسرين على ذلك، وقطعت بهذا المعنى، أليس هذا تفسيرًا، أليس هذا تأويلاً بمعنى التفسيرِ.
فإذا قلتَ: معنى قوله: ( وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) [البروج: 2]، أي اليوم الذي وعد الله عباده بأن يبعثهم فيه، وهو يوم القيامة.
أو قلت: تفسير قوله تعالى...
أو قلت: تأويل قوله تعالى...
فالتعبير عن بيان كلام الله بهذه العبارات – كما ترى – مؤدَّاهُ واحدٌ – ويُفهم منه معنى واحدٌ.
وإذا جئت إلى قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ) [التكوير: 15]، ورأيت أنَّ للمفسرين أقوالاً:
الأول: أنَّ المراد بالخنس: النجوم والكواكب.
والثاني: أنَّ المراد بها بقر الوحش والظباء.
فهذه محتملاتٌ في التفسير، واخترت أنَّ المراد بالخنسِ النجومُ والكواكبُ، وعللَّت لذلك الاختيار بأمرين:
موافقة السياق، حيث ذُكرَ في لحاقِها آيات كونية، والنجوم والكواكب آيات كونية، فالنجوم والكواكب أنسبُ لهذا المعنى اللحاقي من أن تكون بقر الوحش والظباءِ.(1/59)
وأنَّها أظهر وأشهر للخلق من بقر الوحش والظباء، فلا أحد يخفى عليه معرفة النجومِ، وإن خفي عليه معنى الخنوس والجريان والكنوس فيها، أمَّا بقر الوحش والظباء فإنَّ بعض الناس قد لا يعرفُها وكثير منهم لا يعرف أمر خنوسها وجريانها وكنوسها.
فإذا اخترت هذا المحتمل فأنت مؤوِّلٌ عند الماتريدي (ت: 330).
لكن هل تسمية هذا الأسلوب – وهو ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة – تأويلاً = صحيحٌ؟.
ألست قد فسَّرتَ وبيَّنتَ المعنى المراد، فأنت – إذًا – باختيارك هذا المعنى دون غيره لو قلت: تأويل هذه الآية كذا، أو تفسير هذه الآية كذا، لكان الأمر واحدًا ولا فرق.
وبهذا يظهر أنك سواءً قطعت أو لم تقطع، فأنت مؤوِّلٌ، أي: مفسرٌ، ولا معنى لتخصيص التأويل بأنه ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، والله أعلم.
الاحتمال الثاني: أن لا يرجع شيءٌ من هذه الفروق إلى هذه المعاني الصحيحةِ، ومن ثمَّ، فإنَّه قولٌ غيرُ مقبولٍ، لأنَّه مخالفٌ لمصطلح القرآنِ، ومصطلح السَّلفِ واللُّغةِ. ولأنه لا دليلَ عليه من نقل ولا عقل.
وبهذا يكونُ ما وردَ في بيانِ مصطلحِ التَّفسيرِ والتَّأويلِ الواردِ عن السَّلفِ وأهلِ اللُّغةِ أصلاً يقاسُ عليه ما يذكرُه المتأخِّرُون من فروقٍ.
مسألة: هل في مصطلح التأويل الحادث حظٌّ من الصِّحة في تطبيقه على بعض الأمثلة؟
إنَّه إذا عُلِمَ أنَّ المتكلِّمَ أراد المعنى الذي يقال: إنَّه خلافُ الظَّاهرِ، فإنَّه إمَّا أن يكونَ من بيانِ كلامِ المتكلِّمِ، فيكونُ من باب التَّفسيرِ، وإمَّا أن يكونَ هو الحقيقةُ التي يؤولُ إليها الكلامُ، فإذا كان ذلك كذلك كان تأويلاً صحيحًا مندرجًا تحت هذين النَّوعينِ، وإن سُمِّيَ بهذا الإسمِ، لأنَّ العبرةَ بصحَّةِ المعنى المذكورِ.(1/60)
وإذا ظهرَ أنَّ المفسِّرَ أخرجَ الكلامَ عن مرادِ اللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان ذلك تحريفًا، وإن سُمِّيَ تأويلاً، لأنَّ النَّظرَ هنا إلى خطأ المعنى المذكورِ، فيكونُ من التَّفسيرِ الباطلِ.
قال شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة (ت: 728) : ((وأمَّا التَّأويلُ، بمعنى: صرف اللَّفظِ عن مفهومِه إلى غير مفهومِه، فهذا لم يكن هو المرادُ بلفظِ التَّأويلِ في كلامِ السَّلفِ، اللَّهمَّ إلا أنه إذا عُلِمَ أنَّ المتكلِّمَ أرادَ المعنى الذي يقال أنَّه خلافُ الظَّاهرِ، جعلوه من التَّأويلِ الذي هو التَّفسيرُ، لكونه تفسيرًا للكلامِ وبيانًا لمرادِ المتكلِّمِ به، أو جعلوه من النَّوعِ الآخرِ الذي هو الحقيقةُ الثَّابتةُ في نفسِ الأمرِ التي استأثرَ اللهُ بِعِلْمِهَا، لكونِه مندرجًا في ذلك، لا لكونِه مخالفًا للظَّاهرِ.
وكان السَّلفُ ينكرونَ التَّأويلاتِ التي تُخْرِجُ الكلامَ عن مرادِ الله ورسولِه التي هي نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعِه، فكانوا ينكرونَ التَّأويلَ الباطل الذي هو التَّفسيرُ الباطلُ، كما نُنْكِرُ قولَ من فسَّرَ كلامَ المتكلِّمِ بخلافِ مرادِهِ(1).
ولأضرب لك مثالاً يتضح به هذا المقال:
في المراد بالشاهد في قوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأحقاف: 10]، قولان عن السلف:
الأول: أنَّ الشاهد عبدالله بن سلام، وهو الوارد عن سعد بن أبي وقاص (ت: 55) وعبدالله بن سلام (ت: 43)، وابن عباس (ت: 68)، ويوسف بن عبدالله بن سلام، ومجاهد (ت: 104)، والضحاك (ت: 105)، وقتادة (ت: 117)، وابن زيد (ت: 182).
__________
(1) الصَّفديَّة (1: 291).(1/61)
الثاني: أنَّ الشاهد موسى عليه السلام، وهذا قول مسروق بن الأجدع (نحو: 63) والشَّعبي (ت: 103)، واحتجَّا بأنَّ السورة مكيَّة، وشأن عبدالله بن سلام (ت: 43) كان بالمدينة، وإنما هي مُحَاجَّةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه.
وإذا تأمَّلت هذا الخلاف وجدتَ أنَّ قول مسروقٍ (ت: نحو: 63) والشعبي (ت: 103) أنسب للسياق، وهو الأولى لأنه يجعل الآية مكيةً في سورة مكيةٍ، ولا يُخرَجُ عن هذا إلا بدليل، وهذا يجعلك تميل إلى هذا القول. لكن يصرفك عنه أنَّ قول الجمهورِ على خلافِه، وفيهم ثلاثة من الصحابة، وهو أعلم بتأويل معاني القرآن، وفيمَ نزل، فتختار هذا القولَ لهذه العلَّةِ، وهذا ما فعله ابن جرير الطبري (ت: 310) عند هذا الاختلاف، فقال:
((والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنْزيل، لأن قوله: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) في سياق توبيخ الله – تعالى ذكره – مشركي قريش، واحتجاجًا عليهم لنبيِّه، وهذه الآية نظيرةُ سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلَّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى.
غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله بأن ذلك عنى به عبدالله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهد عبدالله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني: على مثل القرآن وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمدًا مكتوب في التوراة أنه نبي تجده اليهود مكتوبًا عندهم في التوراة كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي)) (1).
__________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (26: 12).(1/62)
فإذا رجَّحت هذا وسمَّيته تأويلاً، لأنَّك صرفت المعنى عن ظاهر السياق لأجل قرينة أخرى، فإنَّك لم تخرج به عن المعنى الصحيح للآيةِ، وتسمية ذلك تأويلاً لا تُخرجُ هذا المثال عن أن يكون تفسيرًا.
مثال آخر:
في تفسير قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [القيامة: 22- 23]، ورد تفسير المعتزلة الذين ينكرون رؤية الباري على خلاف المعنى الظاهر المتبادر الذي فيه إثبات النظر إلى وجه الباري تعالى، ومن ذلك تفسير الأخفش المعتزلي (ت: 215) قال: ((يعني – والله أعلم – بالنظرِ إلى اللهِ: إلى ما يأتيهم منْ نِعَمِهِ ورزقِهِ، وقد تقولُ: واللهِ ما أنظرُ إلا إلى اللهِ وإليك، أي: أنتظرُ ما عندَ اللهِ، وما عندك)) (1).
وقال: ((وقولُه: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [القيامة: 22- 23]، يقول: تَنْظُرُ في رزقِها وما يأتيها من اللهِ، كما يقولُ الرجلُ: ما أنظرُ إلا إليك.
ولو كان نَظَرَ البصرِ كما يقول بعضُ النَّاسِ، كانَ في الآية التي بعدها بيانُ ذلكَ، ألا ترى أنَّه قال: ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ )[القيامة: 24- 25]، ولم يقلْ: ووجوهٌ لا تنظرُ ولا تَرَى.
وقولُه ( تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) [القيامة: 25] يدلُّ الظَّنُّ ها هنا على أنَّ النظرَ ثَمَّ: الثقةُ باللهِ وحُسْنُ اليقينِ، ولا يدلُّ على ما قالوا. وكيفَ يكونُ ذلك، والله يقولُ: ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) [الأنعام: 103])) (2).
__________
(1) معاني القرآن (2: 558)، وينظر (1: 223، 330، 336).
(2) معاني القرآن (1: 330).(1/63)
وهذا المثال من التأويل المذموم الذي هو باسم الانحراف أولى، فتراه صرف اللفظ عن معناه الظاهر، إلى معنى آخر، لأجل أنه يعتقد أنَّ الله لا يُرى يوم القيامةِ، وهذا الاعتقاد باطلٌ، لذا فإنَّ التأويل الذي ذكره الأخفش (ت: 215) سيكون باطلاً، وهذا التأويل المنحرف مما لا يوافق عليه، لأنَّ فيه سلبًا لمعاني القرآن، وإخراجًا لها عن ظاهرها بلا حجَّةٍ.
وقد ردَّ الأزهريُّ (ت: 370) ما فسَّرَ به الأخفشُ (ت: 215)، فقال: ((ومنْ قالَ: إنَّ معنى قولِه: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [القيامة: 23]، بمعنى: مُنْتَظِرَة، فقد أخطأ، لأنَّ العربَ لا تقولُ: نَظَرْتُ إلى الشيءِ، بمعنى: انْتَظَرْتُهُ، إنما تقولُ: نَظَرْتُ فلانًا، أي: انْتَظَرْتُهُ، ومنه قولُ الحطيئةِ(1):
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أَبْنَاءَ صَادِرَةٍ لِلْوِرْدِ طَالَ بِهَا حَوزِي وَتَنْسَاسِي
فإذا قلتَ: نَظَرتُ إليه، لمْ يكنْ إلاَّ بالعينِ. وإذا قلتَ: نَظَرْتُ في الأمرِ، احتملَ أنْ يكونَ تَفَكُّرًا وَتَدَبُّرًا بالقلبِ)) (2).
هل للتأويل بالمصطلح الحادث حدٌّ يقف عنده؟
التَّأويل بالمصطلح الحادث لا حدَّ له، لأنَّ معتمدَه العقلُ، والعقولُ تختلفُ في مذاهبِها، وطريقتِها في فهم نصوصِ الشَّرعِ، فما لم يكن سائغًا تأويلُه عند قومٍ، هو عند غيرِهم صالحُ لأن يؤوَّلَ، لأنه جارٍ على القواعدِ العقليةِ التي سارَ عليها ذلك المؤوِّلُ الذي رفضَ التَّأويلَ في هذا الموضعِ، ولا تكادُ تجدُ ضابطًا يبيِّنُ سببَ الرَّفضِ، سوى احتمالاتٍ لا تقومُ على علمٍ، ومن أمثلةِ ذلك:
تحدَّث ابن عطيَّةَ (ت: 542) عن الميزان في قوله تعالى: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الأعراف: 8]، وذكر مذهبين في المرادِ بالميزانِ:
الأوَّلُ أنه مجازٌ استعيرَ به اللَّفظُ للعدلِ.
__________
(1) البيت في ديوانه (ص: 46).
(2) تهذيب اللغة (14: 371).(1/64)
والثاني: أنه ميزانٌ حقيقيُّ له كفتانِ، كما هو معروفٌ من موازين الناسِ، وأنه توزنُ به الأعمالُ.
ثمَّ رجَّحَ القول الثاني، فقال: ((وهذا القولُ أصحُّ من الأوَّلِ من ثلاثِ جهاتٍ:
أوَّلُها: أنَّ ظواهرَ كتاب الله عز وجل تقتضيه، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام ينطق به، ومن ذلك قوله لبعضِ الصَّحابةِ – وقد قال له: يا رسول الله، أين أجدك في يومِ القيامةِ؟ - فقال: اطلبني عند الحوضِ، فإن لم تجدني، فعند الميزانِ.
ولو لم يكن الميزانُ مرئيًّا محسوسًا لما أحاله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الطلبِ عنده.
وجهةٌ أخرى: أنَّ النَّظَرَ في الميزانِ والوزنِ والثِّقَلِ والخِفَّةِ المقترناتِ بالحسابِ لا يفسدُ شيءٌ منه، ولا تختلُّ صِحَّتُهُ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فَلِمَ نخرجُ من حقيقةِ الأمرِ إلى مجازِه دون علَّةٍ؟.
وجهةٌ ثالثةٌ: وهي أنَّ القولَ في الميزانِ هو من عقائدِ الشَّرعِ الذي لم يُعرفْ إلاَّ سَمْعًا، وإن فتحنا فيه باب المجازِ غَمَرَتْنَا أقوالُ الملحدة والزَّنادقةِ في أنَّ الميزانَ والسِّراطَ والجنَّة والنَّار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظٌ يرادُ بها غيرُ الظَّاهرِ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يُجرى في هذه الألفاظِ إلى حملها على حقائقها...)) (1).
وهذا الذي حَذِرَ منه ابن عطيَّةَ (ت: 542) قد وقعَ، وقد اعتمدَ بعضُ الفلاسفةِ الذينَ عاشوا في ظلِّ الإسلامِ على مبدئه في التَّأويلِ، وليسَ له أن يقولَ: هذه الأمورُ إنما تُعلمُ من جهةِ السَّمعِ فقط، لأنَّ من يؤوِّلُ نصوص المعادِ يمكنُ أن يقولَ: للعقلِ فيها مدخلٌ. وبهذا تضطربُ الأمورُ ولا يسلمُ في الشَّريعةِ بابٌ، لأنَّه يمكنُ أن يُحملَ على المجازِ العقليِّ.
__________
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (5: 432- 433).(1/65)
وقد اعتمدَ على مبدأ التَّأويلِ الفاسدِ فيلسوفٌ من الفلاسفةِ الذين عاشوا في ظلِّ الإسلامِ، وهو الفيلسوفُ ابن رُشدٍ الحفيد، فقد ذكرَ في كتابه ((فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)) أنَّ الشَّريعةَ على ثلاثةِ أقسامٍ:
ظاهرٌ لا يجوزُ تأويله...
وظاهرٌ يجبُ على أهلِ البرهانِ تأويلُه، وحملهم إياه على ظاهره كفرٌ، وتأويل غير أهل البرهانِ له، وإخراجه عن ظاهره كفرٌ في حقِّهم أو بدعة، ومن هذا الصِّنفِ آيةُ الاستواء وحديث النُّزول...
والصِّنف الثَّالث من الشَّرع متردِدٌ بين هذين الصنفينِ، يقع فيه شكٌ، فيلحقُه قومٌ ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوزُ تأويله، ويلحقه آخرونَ بالباطنِ الذي لا يجوزُ حمله على الظاهرِ(1).
ثمَّ قال: ((فإن قيل: فإذا تبين أن الشَّرع في هذا على ثلاث مراتب، فمن أي المراتبِ الثلاثِ هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله؟.
فنقول: إنَّ هذه المسألة الأمر فيها بيِّنٌ أنها من الصِّنفِ المختلَفِ فيه، وذلك أنَّا نرى قومًا ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: إنَّ الواجبَ حملُها على ظاهرِها، إذ كان ليس هناك برهان يؤدي إلى استحالة الظَّاهر فيها، وهذه طريقة الأشعريَّة.
وقوم آخرون ممن يتعاطون البرهان(2) يتأوَّلونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا، وفي هذا الصِّنف أبو حامد(3) معدودٌ هو وكثيرٌ من المتصوِّفة)) (4).
__________
(1) ينظر: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لابن رشد (ص: 27- 28).
(2) يقصدُ بالبرهان: الطرق الفلسفيَّةِ التي يعتمدُها.
(3) هو الغزالي.
(4) فصل المقال (ص: 28).(1/66)
وهنا ترى أنَّ الفيلسوفَ وغيرُه على نصوصِ الوحي، وأدخلوا كثيرًا من نصوصِه في باب التَّأويلِ الفاسدِ، اعتمادًا على هذا المصطلحِ الحادثِ، ولم يقدرْ من سلكَ سبيلَ التَّأويلِ أن يتصدَّى لهم، بل كانَ مُنتقصًا عندهم إذا أرادَ ردَّهم عنه، لأنَّ الفيلسوفَ يرى أنَّه سلكَ سبيلاً هم سلكوها، وليست حكرًا عليهم، بل هي مُشَاعٌ لجميعِ العقولِ، وانظر مصداقَ ذلك في كتاب الفيلسوفِ ابن رشدٍ الآنفِ الذِّكرِ، فقد استطالَ على الأشاعرةِ، واستخدم مبدأ التأويل الذي يستخدمونه(1).
وإذا أردت أن تعرفَ أنَّه لا حدَّ لأوجه التَّأويلِ التي يذكرُها المؤوِّلونَ، فانظرْ في كتابِ ((مجازات القرآنِ)) للشَّريفِ الرَّضيِّ الرَّافضيِّ المعتزليِّ، فإنَّك ستجدُ في الكتابِ تطبيقاتِ متأوِّلٍ يستخدمُ المجازَ مطيَّةً له في تحريفِ النُّصوصِ.
تفسير آية التأويل من سورة آل عمران:
إن من أشهر ما وقعَ فيه الانحرافُ بسببِ مفهوم التَّأويلِ هذا، تفسيرُ آيةِ آل عمران، وهي قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) [آل عمران: 7].
وقد تتبَّعت كلامَ شيخِ الإسلامِ ابن تيميَّةَ (ت: 728) في هذه الآيةِ، وتخلَّصَ عندي منه ما يأتي:
__________
(1) ينظر في هذا الموضوع: موقف ابن تيمية من الأشاعرةِ، للدكتور: عبدالرحمن بن صالح المحمود (2: 896- 923)، فقد تكلَّم عنه تحت عنوان: (تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين).(1/67)
أنَّ الآيةَ نزلت بسببِ النَّصارى الذين احتجُّوا بألفاظٍ توهم الجمعَ، مثل ((نحن))، ((إنَّا))، واستدلُّوا بها على صحَّةِ التَّثليثِ الذي يدينون به، وأنهم داخلون في من يتبعون ما تشابه منه.
قال شيخ الإسلام (ت: 728): ((والمقصودُ هنا بيانُ بطلانِ احتجاجِ النَّصارى، وأنَّه ليس لهم في ظاهرِ القرآنِ ولا باطِنِه حجَّةٌ، كما ليس لهم حجَّةٌ في سائرِ كتبِ الله، وإنَّما تمسَّكوا بآياتٍ متشابهاتٍ، وتركوا المُحْكَمَ كما أخبر الله عنهم بقوله: ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ) [آل عمران: 7].
والآية نزلت في النَّصَارى، فهم مُرَادُونَ من الآية قطعًا)) (1).
أنَّ لفظَ التَّأويل في الآيةِ يحتملُ وجهينِ صحيحين، كلاهما حقٌّ، وهما واردانِ عن السَّلفِ.
الأوَّل: أنَّ التَّأويلَ بمعنى التَّفسيرِ، وبهذا يكونُ الراسخونَ يعلمونَ تأويلَ القرآنِ، أي: تفسيره، ويكونُ الوقفُ على هذا القولِ على قوله تعالى: ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ )(2)
__________
(1) دقائق التفسير (1: 329).
(2) إذا عَلِمْتَ صحَّةَ هذا الوجه التَّفسيريَّ، ظهرَ لك خطأُ جعلِ الوقف على لفظِ الجلالةِ من الوقف اللازم، الذي عرَّفه واضعُه ((السِّجاونديُّ)) بقوله: ((فاللازم من الوقوف: ما لو وُصِلَ طرفاه غيَّرَ المرام وشنَّعَ معنى الكلام)). علل الوقوف (1: 62)، وعلى هذا سارت جلُّ المصاحف التي اعتمدت وقوفه، سوى مصحف المدينة النَّبويَّةِ الذي جعل علامة الوقف الأولى (قلى)، وفيها ترجيحٌ للمعنى الثاني على الأوَّل، لكن ليس فيها ردٌّ للمعنى الأوَّلِ كما يُفهَمُ من الوقف اللازم.
والصَّوابُ أن يكونَ على قوله تعالى: ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) وقف معانقة، بحيثُ إذا وقف على الأول، لم يُوقف على الثاني، ويكونُ لكل وقفٍ معنى يغايرُ الآخرَ، وهذا الوقف يشتملُ على القولين الواردين عن السلف بلا ترجيحٍ بينها.(1/68)
، وتكون الواو عاطفةً.
الثَّاني: أنَّ التَّأويلَ بمعنى ما تؤول إليه حقيقةُ الأشياءِ مما استأثرَ اللهُ بعلمِه، من كيفيَّاتٍ ووقت وقوعٍ، مما أخبر عنه اللهُ في كتابِه من أخبار القيامة وأشراطِها، أو غيرِها من المغيَّبات.
ويكونُ الوقفُ على هذا القولِ على لفظ الجلالةِ من قوله: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ )، وتكونُ الواو مستأنفةً، أي أنَّ جملةَ: ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) جملةٌ مستأنفةٌ(1).
قال شيخ الإسلامِ (ت: 728): ((وأما لفظ التَّأويل في التنْزيل فمعناه الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله ولهذا كان السلف يقولون: الاستواء معلوم والكيف مجهول فيثبتون العلم بالاستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقهه ويقولون: الكيف مجهول وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو)) (2).
أنه قد وقع من بعض المتأخِّرينَ حملُ التَّأويل على الاصطلاحِ الحادثِ، وهو صرف اللَّفظِ عن الاحتمالِ الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ لدليلٍ يقترنُ بذلك، وتسميةُ هذا وحده تأويلاً هو من اصطلاحِ طائفةٍ من المتأخِّرين من الفقهاء والمتكلِّمين وغيرِهم.
وقد نشأ عن ذلك أن يعتقدوا أنَّ لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالفُ مدلولَها المفهوم منها، وانقسموا إلى فريقين:
__________
(1) ينظر في هذين الوجهين وما يترتَّبُ عليهما من الوقف والإعراب: دقائق التَّفسير (1: 329- 330)، ودرء تعارض العقل والنقل (1: 205- 206)، والصفدية (1: 291)، وتفسير سورة الإخلاص (ص: 186- 194).
(2) درء تعارض العقل والنقل (5: 382).(1/69)
الأول: من أجازَ تأويلها، بل أوجبه في بعضِ الأحيانِ، لاعتقادِه أنَّ ظاهرَها يفيدُ معنى لا يصحُّ.
الثاني: من قال إنَّ ذلك المعنى المراد لا يعلمه إلا الله، لا يعملمُه الْمَلَكُ الَّذِي نزلَ بالقرآنِ، ولا يعلمُه محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ولا غيرُه من الأنبياء، ولا يعلمُه الصَّحابةُ الَّذِين نزلَ القرآنُ بلسانِهم.
قال شيخ الإسلام (ت: 728): ((... وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى: ( تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) [آل عمران: 7]، حيث ظنُّوا أنَّ المرادَ بالتَّأويلِ صَرْفُ النُّصوصِ عن مقتضاها.
وطائفةٌ تقولُ: إنَّ الرَّاسخين في العلمِ يعلمون هذا التأويل، وهؤلاء يجوِّزُون مثل هذه التَّأويلات التي هي تأويلاتُ الجهميَّةِ النُّفاةِ. ومنهم من يوجُبها تارةً، ويجوِّزُها تارةً. وقد يحرِّمُونها على بعض النَّاسِ، أو في بعض الأحوالِ لعارضٍ، حتَّى أنَّ الملاحدةَ من المتفلسفةِ والمتصوِّفةِ وأمثالِهم قد يحرِّمون التَّأويلاتِ، لا لأجل الإيمانِ والتَّصديقِ بمضمونِها، بل لعلمِهم بأنَّه ليس لها قانونٌ مستقيمٌ، وفي إظهارها إفساد الخلقِ، فيرون الإمساكَ عن ذلك مصلحةً، وإن كان حقًّا في نفسِه، وهؤلاء قد يقولون: الرُّسلُ خاطبوا الخلقَ بما لا يدلُّ على الحقِّ لأن مصلحةَ الخلقِ لا تَتِمُّ إلا بذلك، بل لا تَتِمُّ إلا بأنْ تَخَيَّلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجودًا في الخارجِ لنوعٍ من المصلحةِ، كما يُخَيَّلُ للنَّائمِ والصبِيِّ والقليلِ العقلِ ما لا وجودَ له، لنوعٍ من المناسبةِ لما له في ذلك من المصلحةِ.(1/70)
وطائفةٌ يقولون: هذا التَّأويلُ لا يعلمه إلا اللهُ، ثمَّ من هؤلاء من يقول تُجْرَى على ظواهرِها، ويتكلَّمُ في إبطالِ التَّأويلاتِ بكل طريقٍ. ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالفُ ظاهرَها لم يُحْمَلْ على ظاهرِه، وما حُمِلَ على ظاهرِه لم يكن له تأويلٌ بخالف ذلك، فضلاً عن أنْ يُقَال: يعلمه الله أو غيره. بل مثل هذا التَّأويلِ يقال فيه كما قال تعالى: ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ) [يونس: 18]، فإنَّ ما كان منتفيًا لا وجودَ له، لا يعلمُه اللهُ إلا منتفيًا لا وجود له، لا يعلمه ثابتًا موجودًا.
وسببُ هذا الاضطرابِ أنَّ لفظَ التَّأويلِ في عرفِ هؤلاءِ المتنازعين ليس معناه معنى التَّأويلِ في التَّنْزيلِ، بل ولا في عرفِ المتقدِّمين من مفسري القرآنِ، فإن أولئك كان لفظ التَّأويلِ عندهم بمعنىا التَّفسيرِ، ومثل هذا التَّأويلِ يعلمُه من يعلمُ تفسيرَ القرآنِ.
ولهذا لما كان مجاهدٌ إمامَ أهلِ التَّفسيرِ، وكان قد سألَ ابنَ عباسٍ رضي الله عنه عن تفسيرِ القرآنِ كلِّه وفسَّرَه له = كان يقولُ: إن الرَّاسخينَ في العلمِ يعلمون التَّأويلَ، أي التَّفسيرَ المذكورَ، وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقولُ إنَّ الرَّاسخين في العلم يعلمون التَّأويل، ومرادهم به التَّفسير. وهم يثبتون الصفات، لا يقولون بتأويل الجهميَّة النُّفاة، التي هي صرفُ النُّصوصِ عن مقتضاها ومدلولِها ومعناها...
وأمَّا التَّأويلُ، بمعنى: صرف اللَّفظِ عن الاحتمالِ الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ، كتأويلِ من تأوَّلَ استوى بمعنى: استولى ونحوه، فهذا عند السَّلفِ والأئمَّةِ باطلٌ لا حقيقة له، بل هو من باب تحريفِ الكَكِمِ عن مواضعِه والإلحادِ في أسماءِ اللهِ وآياتِه)) (1).
علاقةُ المتشابِه بالتَّأويلِ من خلال آيةِ آل عمران:
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل (5: 280- 382).(1/71)
وبعد هذا التَّلخيصِ، أذكرُ مسألةً متعلِّقةً بموضوع الآيةِ والتَّأويلِ، وهي مسألةُ ((المتشابه)) الذي نصَّت عليه الآيةُ، في قوله تعالى: ( مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) [آل عمران: 7]. وسأذكرُ الأمرَ ملخَّصًا حسب حاجةِ هذا البحثِ، فأقولُ:
أوَّلاً- إذا كانَ التَّأويلُ بمعنى التَّفسيرِ:
إذا كانَ التَّأويلُ بمعنى التَّفسيرِ، فإنَّ المتشابِه يتعلَّقُ بأمرٍ يمكنُ أنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ، وهو المعنى، فإذا خفيَ على بعضِهم شيءٌ من معناه، فهو بالنِّسبةِ لهم متشابِهٌ، ويكونُ من بابِ المتشابِه النِّسبيِّ الذي يعلمُه قومٌ دون قومٍ.
وهذا ما وقع في سبب نزولِ الآيةِ مما حُكِيَ عن وفدِ نصارى نجران، من استدلالهم على كونِ عيسى ابنًا لله – تعالى الله عمَّا يقولون – بما ورد من وصفِه في القرآنِ بأنَّه كلمة الله، وروح منه، واحتجاجهم على التَّثليثِ بخطاب الله عباده بصيغة الجمع ((إنَّا))، و((نحن)) وغيرها.
ولهذا جاء غالبُ تفسيرِ السَّلفِ لمعنى المتشابه في هذه الآية أمثلةً لشيءٍ يقعُ فيه جهلُ بعض النَّاسِ، ولا يدركونَه، كالمنسوخ من الآي، أو ما احتمل أكثرَ من وجهٍ في التَّفسيرِ، أو ما كانت قصَّتُه واحدةً واختلفَ التَّعبيرُ عنها، كما في عصا موسى التي وُصِفَتْ في حدثٍ واحدٍ بأنها حية وفي آية أخرى بأنها ثعبانٌ(1).
__________
(1) ينظر تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6: 174- 179)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب (2: 593- 594).(1/72)
ويدخلُ في المتشابه النِّسبيِّ كلُّ من أخطأ التَّأويلَ الصَّحيحَ ولم يعرفْهُ، فإنَّه بالنِّسبةِ له من المتشابهِ بغضِّ النَّظرِ عن قصدهِ، وذلك كما وقع للسَّائلِ الذي سأل ابن عباس عن آياتٍ رأى أنها يخالفُ بعضُها بعضًا، فعن سعيد بن جبير (ت: 94) قال: ((قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: إنِّي أجدُ في القرآنِ أشياءَ تَخْتَلِفُ عليَّ، قال: ( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ ) [الأنبياء: 101]، ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ) [الصافات: 27]، ( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ) [النساء: 42]، ( وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية.
وقالَ: ( أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ) إلى قولهِ: ( دَحَاهَا ) [النازعات: 27- 30]، فذكرَ خَلْقَ السَّماءِ قبلَ خَلْقِ الأرضِ، ثُمَّ قَالَ: ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) إلى قوله: ( طَائِعِينَ ) [فصلت: 9-11]، فذكر في هذه خَلْقَ الأرضِ قبل السَّماءِ.
وقال: (ِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )، ( عَزِيزًا حَكِيمًا )، ( سَمِيعًا بَصِيرًا )، فكأنه كانَ ثُمَّ مَضَى.
فقال: ( فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ ) [الأنبياء: 101] في النَّفْخَةِ الأولى، ثُمَّ يُنفخُ في الصُّورِ، فصعق من في السَّماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنسابَ بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون. ثُمَّ في النَّفخةِ الآخرةِ أقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون.
وأمَّا قوله: ( مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) [الأنعام: 23]، ( وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا ) [النساء: 42]، فإن الله يغفرُ لأهل الإخلاصِ ذنوبَهم، فقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فخُتِمَ على أفواهِهم، فَتَنْطِقُ أيديهم، فعند ذلك عرف أنَّ الله لا يُكْتَمُ حديثًا، وعنده ( يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) الآية [النساء: 42].(1/73)
وخلقَ الأرضَ في يومينِ، ثم خلقَ السَّماءََ، ثُمَّ استوى إلى السَّماءِ فسواهُنَّ في يومين آخَرَين، ثُمَّ دَحَا الأرضَ، ودَحْوُهَا: أنْ أخرجَ منها الماءَ والمرعَى، وخَلَقَ الجبالَ والجِمَالَ والآكَامَ وما بينهما في يومين آخَرَينِ، فذلك قولُه: ( دَحَاهَا ) [النازعات: 30]، وقولُه: ( خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) [فصلت: 9] فَجُعِلَتِ الأرضُ وما فيها مِنْ شَيْءٍ في أربعةِ أيَّامٍ، وخُلِقَتِ السَّماواتُ في يومينِ.
( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) سَمَّى نفسَه بذلك، وذلك قولُه، أي: لم يَزَلْ كذلك.
فإنَّ اللهَ لم يُرِدْ شيئًا إلا أصابَ به الذي أرادَ، فلا يختلفْ عليك القرآنُ، فإن كلاً مِنْ عندِ اللهِ(1).
فهذا سائلُ اشتبه عليه شيءٌ من القرآنِ، فرجع به إلى الراسخين في العلمِ، إلى حبرِ الأمَّةِ وترجمانِ القرآنِ، فأخبرَه بمعنى ما كانَ متشابهًا عنده، وكلُّه كما ترى داخلٌ في المعلومِ، وليس فيما استأثرَ اللهُ بعلمِه.
وليس الوقوعُ في المتشابه النِّسبيِّ مشكلاً، إذ لا يسلمُ أحدٌ منه، لأنه قد يخفى عليه كثيرٌ من المعاني، فما كان خافيًا عليه، كان بالنِّسبةِ له متشابِهًا.
لكن إن عمدَ إلى الآياتِ، وحرفَ مدلولها، أو عمد إلى قضيَّةٍ كليَّةٍ، كالقدرِ وغيرِه، وأخذَ بجزءٍ من آياتِها التي توافقُ معتقدَه، وحرَّف الآيات الأخرى أو أهملَها = قَصْدَ الزَّيغِ والتَّحريفِ والفتنةِ، كانَ مذمومًا بنصِّ الآيةِ، وينطبقُ هذا على عمومِ أهلِ البِدَعِ، كالخوارجِ والسَّبئيَّةِ، وغيرهم.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8: 418).(1/74)
فالخوارجُ استدلُّوا ببعضِ آياتٍ على أنَّ الحكمَ لله، وجَهِلُوا وتناسوا الآياتِ الأخرى التي تثبت جواز حُكْمِ الخلقِ في بعض القضايا، فقالوا في مناظرةِ ابن عباس (ت: 68) لهم: ((أنه حَكَّمَ الرِّجالَ في دين الله(1)، وقد قال الله عز وجل: ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) [الأنعام: 57، يوسف: 40- 67])).
فردَّ عليهم ابن عبَّاسٍ (ت: 68)، وقال: ((أرأيتم إن قرأتُ عليكم من كتابِ اللهِ المُحْكَمِ وحدَّثُتُكم من سنَّةِ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم ما لا تنكرون، أترجعون؟.
قالوا: نعم.
قال: قلت: أمَّا قولُكم: إنه حَكَّمَ الرِّجالَ في دين الله، فإنه يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء ) إلى قوله": ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) [المائدة: 95]، وقال في المرأة وزوجها: ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ) [النساء: 35]، أنشدكم اللهَ: أفَحُكْمُ الرِّجالِ في حقنِ دمائهم وأنفسِهم وصلاحِ ذاتِ بينهم أحقُّ، أم في أرنبٍ ثمنُها رُبْعُ دِرْهَمٍ؟!.
فقالوا: اللَّهمَّ في حَقْنِ دمائهم وصلاحِ ذاتِ بينهم.
قال: أخرجتُ من هذه. قالوا: اللَّهمَّ نعم...)) (2).
فانظرْ، كيف ضَلُّوا بأخذِهم جزءًا من الآياتِ، وتركهم غيرَها مما يبيِّنُ فسادَ ما اعتقدوه؟! وانظر كيف ردَّهم الراسخُ في العلمِ: حبرُ الأمَّةِ ابن عبَّاسٍ (ت: 68)؟! فللَّهِ دَرُّه من راسخٍ في العلمِ.
والسَّبئيَّةُ حرَّفوا شيئًا من القرآنِ، وجعلوه يدلُّ على معتقداتِهم، وكذا سارَ على طريقتِهم في التَّجريفِ من جاء بعدهم من غلاةِ الرَّافضةِ ومن الباطنيَّة.
__________
(1) يعنون أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه.
(2) نصُّ المناظرةِ كاملاً في حلية الأولياء (1: 318- 319).(1/75)
وقد ذكر الطبريُّ (ت: 310) في تاريخه شيئًا من تحريفات عبدالله بن سبأ، ومنها قوله: ((العجبُ ممن يزعمُ أنَّ عيسى يرجعُ، ويُكَذِّبُ بأنَّ محمدًا يرجعُ، وقد قال الله عز وجل: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) [القصص: 85] فمحمَّدٌ أحقُّ بالرجوعِ من عيسى، قال: فقُبِلَ ذلك عنه، ووضَعَ لهم الرَّجعة(1)، فتكلَّموا فيها)) (2).
ولم يثبتِ البتَّةَ رجوعُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الدُّنيا بعدَ مماتِه، ولكنَّ ابن سبأ اعتمدَ على هذا الإجمال الوارد في قوله: ( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ )، وجعلَه في عقيدةٍ جديدةٍ بثَّها في أصحابِه الجُهَّالِ، فقبلُوها.
والواردُ عن الرَّاسخينَ في علمِ التَّفسيرِ، الذين هم أعلمُ بالتَّأويلِ: لرادُّك إلى الموتِ، أو إلى الجنَّةِ، أو إلى بلدكَ مكَّةَ(3)، وليس فيها مثلُ هذه العقيدةِ الفاسدة.
وقد أشارَ قتادة (ت: 117) إلى هذين الصِّنفين من أهل البِدَعِ، وجعلَهم مقصودينَ بهذه الآيةِ، فقال: ((إن لم يكونوا الحرورويَّة والسبئيَّة فلا أدري من هم، ولعمري لقد كان في أهلِ بدرٍ والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله بيعة الرِّضوان من المهاجرين والأنصارِ = خبرٌ لمن استخبرَ، وعبرةٌ لمن استعبرَ، لمن كان يعقل أو يبصر.
__________
(1) يعني أصحابه الذين شايعوه من مصر.
(2) تاريخ الطبري (2: 647).
(3) ينظر في أقوال السلف في تفسير هذه الآية: تفسير الطبري، ط: الحلبي (20: 123- 126).(1/76)
إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله يومئذٍ كثير بالمدينة والشام والعراق وأزواجه يومئذٍ أحياء، والله إنْ خرج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قطُّ، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالؤهم فيه، بل كانوا يحدِّثون بعيب رسول الله إياهم، ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادوهم بألسنتهم، وتشتدُّ – والله – عليهم أيديهم إذا لقوهم، ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدَىً لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله، وجدت فيه اختلافًا كثيرًا، فقد ألاصُوا(1) هذا الأمر منذ زمان طويل، فهل أفلحوا فيه يومًا، أو أنجحوا؟!
يا سبحان الله! كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم؟ لو كانوا على هدى قد أظهره الله وأفلحه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه.
فهم كما رأيتهم، كلما خرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثَتهم، وأهرق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم، وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهراقَ اللهُ دماءهم.
ذاكم – والله – دينُ سوءٍ فاجتنبوه، والله إنَّ اليهوديَّة لبدعة، وإنَّ النَّصرانيَّة لبدعةٌ، وإنَّ الحروريَّة لبدعةٌ، وإنَّ السَّبئيَّةَ لبدعة، ما نزل بهن كتاب، ولا سنهن نبي)) (2).
وهذا يعني أنَّ أهلَ البدعِ وقعوا في المتشابه، فأخذوا بجزءٍ من الكتابِ وحرَّفوا ما لا يوافقُ رأيهم، فالجبريُّ يثبتُ الآياتِ التي يرى فيها إثباتَ الجبرِ، ويؤوِّل غيرها من الآياتِ التي تدلُّ على خلافِ مذهبِه.
والقدريُّ يثبتُ الآياتِ التي يرى فيها إثباتَ القدر، ويؤوِّل غيرها من الآياتِ التي تدلُّ على خلافِ مذهبِه.
__________
(1) أي: نظروا فيه وأداروه بينهم وأرادوه من زمان طويل.
(2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (6: 187- 189).(1/77)
والمعتزليُّ يثبتُ معانيَ آياتٍ يرى أنها تدلُّ على مذهبِه، ويؤوِّلُ غيرها مما لا يوافقُ مذهبَه، فتراه يفسِّر قوله تعالى: ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) [الأنعام: 103] على أنَّها تثبتُ عدم وقوعِ رؤيةِ الباري، فيعتمدها في نقي رؤيةِ الله في الآخرةِ. وإذا جاء إلى قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [القيامة: 22- 23]، وجدته يؤوِّلها ويحرفُ معناها إلى:
تنتظرُ ثوابَ ربِّها. مخالفًا بذلك التَّفسيرَ الصَّحيحَ الدَّالَّ على رؤيةِ الله سبحانه وتعالى.
وهكذا غيرهم من أهل البدع والأهواءِ، تراهم يجعلون القرآن عضين، فيأخذون ببعضه ويتركون بعضه الآخر.
وكلُّ هذه المؤوَّلاتِ يعلمُها الرَّاسخونَ في العلمِ، ويبيِّنون فسادَ أقوالِ هؤلاء الذين أخطأوا التَّأويل، وانحرفوا عن جادَّةِ الصوابِ.
ثانيًا- إذا كان التَّأويلُ بمعنى: ما تؤول إليه حقيقةُ الشيءِ:
إذا كان التَّأويلُ بمعنى: ما تؤول إليه حقيقةُ الشَّيءِ، فإنَّ المتشابه يتعلَّقُ بأمرٍ لا يمكنُ أنْ يَعْلَمَهُ النَّاسُ، وهو ما تؤولُ إليه حقائقُ الأشياءِ التي ذكرها اللهُ في القرآنِ أو ذكرَها رسولُه صلى الله عليه وسلم، وهذا يتعلَّقُ بالغيبيَّاتِ، وهذا النَّوعُ هو المتشابِه الكُلِّيُّ، الذي يستوي الناس جميعًا في عدمِ إدراكِه، ويتعلَّقُ بأمرينِ: وقتِ الوقوعِ، وكيفيَّةِ ما يقعُ من المغيَّباتِ، كوقت خروجِ الدَّابَّةِ، ونزولِ عيسى عليه السلام، ووقت قيام الساعة، وكيفيَّات كثيرٍ من الغيبيَّاتِ التي لم يُطلِعِ اللهُ عبادَهُ عليها، ككيفيَّاتِ صفاتِه العُلَى، وكيفيَّةِ الدابَّةِ التي تخرجُ في آخرِ الزَّمانِ، وغيرِها من الكيفيَّاتِ. أمَّا إذا كان الخبرُ الصَّحيحُ واردًا في كيفيَّةٍ من كيفيَّاتِ هذه المغيَّباتِ، فإنّها خارجةٌ من هذا القسمِ، وداخلةٌ في قسم المعلومِ.(1/78)
وتطلُّبُ هذا القسمِ زيغٌ، لأنَّه مما استأثرَ اللهُ بعلمِه، ولم يُرِدْ أنْ يُطلِعَ عبادَه عليه، فمن تعرَّضَ إلى تأويلِه، فقد افترى على اللهِ، وقال عليه بغيرِ علمٍ، ويدخلُ في ذلك من يطلب الآجالَ والمُدَدَ من الحروفِ المقطَّعةِ في أوائلِ السُّورِ، ويزعم أنَّ سرَّ المغيِّباتِ مندرجٌ تحتها، وأنَّه يمكنُ معرفةُ شيءٍ من الغيبِ عن طريقِ تفكيكها وتفسيرِها، أو من يطلبُ المغيَّباتِ بواسطة الأعدادِ المذكورةِ في القرآنِ، ويزعم أنَّه يؤخذُ منها علمًا غيبيًّا، كبعض من كتبَ في ما يُسمى بالإعجاز العدديِّ في القرآن الكريمِ(1).
كما يدخل فيه أيضًا من يطلب الحِكَمِ الخفيَّةَ التي لم يطلعِ الله عباده عليها، وذلك شامل لعموم ما جاءت به الشريعة، كمن يجتهد في معرفة سبب تحريم بعض المحرمات أو معرفةِ سببِ جَعْلِ الصلوات بهذا العدد، وجعل صلاة المغرب ثلاثًا والعصر أربعًا، وهكذا.
وليس المراد هنا أن بعض الحِكَمِ لا تظهر للعبادِ، لكن المراد أنَّ تطلُّبَها والحرص عليها وتوقُّف الإيمان ببعض الأحكام عليها مما يكون من باب المتشابه الذي يتبعه الزائغون ولا يحصلون وراءه على شيء يفيدهم في العمل.
والقاعدة الكبرى في باب الحكم إن لم تظهر لك أن تقول فيها: الحِكمة من فعل ذلك الأمر الشرعيِّ أمرُ الآمرِ به، وهو الله سبحانه، وبذا كان جواب الفقيهة أم المؤمنين عائشة لما سئلت: لم تقضي المرأة الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة. فقالت: كنا نؤمر بذلك.
__________
(1) بعضُ ما يصحُّ مما يُذكرُ فيما يسمى بالإعجاز العدديِّ هو من مُلَحِالتَّفسيرِ وليس من متينِ العلم، والبحثُ في هذا الموضوع موضعٌ كبيرٌ للزللِ، لذا يجيءُ أصحابُه بغرائبَ تقطعُ بأنَّها غيرُ مرادةٍ أبدًا، لأنَّه لا يُتوصَّلُ إليها إلا بطرقٍ حسابيَّةٍ غير ميسَّرةٍ، والقرآن ميسَّرٌ أمرُه للذكرِ.(1/79)
وهذا يعني أنه ما دام الله قد أمر أو نهى، فإنه يُعمل بهذا الحكم، لأنَّ الواجب على المسلم التسليم لشرع الله، والعمل به، لا البحث عن حِكْمَةِ تشريعِه أو التأخر في تطبيقه، أو الاعتراض عليه، فإنَّ هذا ينافي الاستسلام لله.
ولما كان هذا القسمُ [أي: المتشابه الكلي] مما لا يُدركُه البشرُ، فإنه خارجٌ عن حدِّ التفسيرِ، وليس منه على الإطلاق، وهذا الذي يقف عنده العلماءُ الرَّاسخونَ، ويقولون آمنَّا به كلٌّ من عند ربِّنا، لأنَّه لا يتأتَّى لهم إلا التَّسليمُ لخبرِ اللهِ وتصديقُه.
وإذا تبيَّنَ هذا، عُلِمَ أنَّ اللهَ لم يخاطبْ عبادَه في كتابِه بما لا يعلمون معناه، أمَّا ما يتعلَّقُ بحقائق بعض المغيَّباتِ من وقت وقوعِها أو كيفيَّتِها، فإنَّها موجودةٌ في القرآنِ، ولكنَّها خارجةٌ عن المعنى، فلا يجوزُ بحثُها.
مثالُ ذلك قوله تعالى: ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) [النمل: 82].
فمعنى الدَّابَّةِ معروفٌ، وهي الحيوانُ الذي يدبُّ على الأرضِ، وهذا هو التَّفسيرُ.
لكن متى تخرجُ؟ وكيف تخرجُ؟ وما أوصافُها؟ كلُّ هذا من الغيبِ الذي استأثرَ الله بعِلمِه، فهو من المتشابِه الكُليِّ الذي يؤكَلُ عِلمَه إلى الله.
وقس على هذا صفاتِ اللهِ سبحانه، فقد أخبر عن نفسه، وهو بها أعلمُ، فقال: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) [طه: 5].
فمعنى الاستواء: العلوُّ والارتفاعُ، وهذا هو التَّفسيرُ. لكن كيف استوى؟
هذا من الغيبِ الذي استأثر الله بعلمه، فهو من المتشابِه الكليِّ الذي لا يعلمُه إلاَّ اللهُ، ولذا لا تجدُ لعلماء الصَّحابةِ والتَّابعينَ ومن سارَ على نهجهم تفسيرًا للكيفِ، وإنما تفسيرُهم للمعنى، ومن أشهرِ ما وردَ في هذه الصِّفةِ الإلهيَّةِ، قول مالك بن أنس (ت: 197) لما سئل: كيف استوى؟.(1/80)
فقال: ((استواؤه معقولٌ، وكيفيَّتُه مجهولةٌ، وسُؤالُك عن هذا بدعةٌ، وأراك رجلَ سوءٍ)) (1).
القول في الأحرف المقطعة:
وقبل أن أختم الحديث عن هذا الموضوع، أشيرُ إلى ما قد يسأل عنه القارىء، وهو هل الأحرف المقطعة من المتشابه؟.
الجواب: فيه تفصيل، فإن كان المراد أنها من المتشابه النسبي الذي قد يخفى على قوم، فنعم.
وإن كان المراد أنها من المتشابه الكلي، فلا، ومن أدخلها في المتشابه الكلي، فقد أخطأ، لأن السلف قد تعرَّضوا للقول فيها، ولو كانت من المتشابه الكلي لما قالوا فيها شيئًا، وهذا من أدلِّ الدليل على خروجها عن أن تكون من المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله.
ويورد بعض أعلام المتكلِّمين هنا سؤالاً:
هل يجوز ان يخاطبنا الله بما لا نعلم معناه؟.
أو هل في القرآن ما لا نعلم تأويله؟(2).
وبعضهم يبنون على هذا أنَّ الأحرف المقطعة، وغيرها من المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله، لذا يقولون في تفسيرها: الله أعلم بمراده بها.
__________
(1) رواه ابن عبدالبرِّ بسنده، التمهيد، تحقيق: عبدالله بن الصِّدِّيق (7: 183). والمحقق يخالف عقيدة ابن عبدالبرِّ السلفية، فليحذر من تعليقاته. وقد رواه آخرون غيرُ ابن عبدالبرِّ، منهم أبو القاسم اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة (3: 398)، وقد وردت الرواية عنده كالآتي: ((الكيفُ غيرُ معقولٍ، والاستواءُ منه غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ، فإنِّي أخافُ أن تكونَ ضالاًّ، وأمَرَ به فأُخرج)).
(2) ينظر على سبيل المثال: مقدمة جامع التفاسير للراغب الصفهاني، تحقيق: أحمد حسن فرحات (ص: 86).(1/81)
وتركيب السؤال غلط، لأنه لا يوجد في القرآن ما لا يُعلمُ معناه، حتى يخفى على الجميع، وما يوجد فيه مما لا يصل إليه علم البشر هو خارج عن المعنى وداخل في أمر آخر، وهو أمر الغيبيات التي سبق الإشارة إليها من وقت وقوعها وكيفياتها، وكذا بعض الحِكِمِ التي أخفاها الله على عباده، فكل هذه لا علاقة لها بفهم المعنى، بل هي خارجة عنه.
وإذا تأملت الأحرف المقطعة وما قال العلماء فيها، وجدتهم فريقين:
الفريق الأول: من قال: إن الله استأثر بعلمها، وفحوى قولهم أن لها معنى، لكن لا يعلمه إلاَّ الله.
الفريق الثاني: من تعرَّض للحديث عنها، وذكر فيها كلامًا، وهم على قسمين:
قسم يظهر من كلامهم أن لها معنى، ولها تفسير يعلمُ معناه.
وقسم يجعلها حروفًا لا معنى لها، لأن الحرف في لغة العرب لا معنى له.
والصحيح في ذلك – والله أعلم – ما لخَّصه العلاَّمةُ أبو عبدالله محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى (ت: 1421)، فقد قال في جواب له عنها: ((هذه الحروف ليس لها معنى، ولها مغزى)).
وهذا الجواب مبني على أنَّ الحرف في لغة العرب لا معنى له، والقرآن نزل بلغتهم، كما قال تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [يوسف: 2]، والعرب لم تجعل للحرف المفرد معنى، فحرف الصاد بمفرده لا معنى له، وكذا حرف الدال، وحرف القاف، لكن إذا جمعتها إلى بعضها تركَّب منها كلمة لها مدلول، وهي ((صدق))، وهكذا غيرها من الأحرف التي هي مباني الكلام.
ولما كان الحرف لا معنى له في لغتهم، فإنه لا يُتطلَّب لهذه الأحرف معنى محدَّدًا تدلُّ عليه.
وإذا تأمَّلت جمهور تفسير السلف، وجدته راجعًا إلى هذا التحرير الذي ذكرته لك، وقد أشار إلى ذلك بعض المحققين.(1/82)
قال الراغب الأصفهاني (ت: بعد 400): ((...وقال: ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) [البقرة: 1- 2] تنبيهًا على أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام)) (1).
وقال: ((إن المفهوم من هذه الحروف، الأظهر بلا واسطة، ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة، كالفراء وقطرب – وهو قول ابن عباس وكثير من التابعين على ما نبينه من بعد – وهو أن هذه الحروف لما كانت عنصر الكلام ومادته التي يتركب منها، بيَّن تعالى أنَّ هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم، تنبيهًا على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم – مع تظاهركم – عن معارضته)) (2).
وقال: ((وما روي عن ابن عباس أن هذه الحروف اختصار من كلمات، فمعنى: ((ألم)): أنا الله أعلم، ومعنى ((ألمر)): أنا الله أعلم وأرى، فإشارة منه إلى ما تقدم. وبيان ذلك ما ذكره بعض المفسرين أنَّ قصده بهذا التفسير ليس أن هذه الحروف مختصة بهذه المعاني دون غيرها، وإنما أشار بذلك إلى ما فيه الألف واللام والميم من الكلمات تنبيهًا أن هذه الحروف منبع هذه الأسماء، ولو قال: إنَّ اللام يدل على اللعن، والميم على المكر، لكان يُحمل، ولكن تحرَّى في المثال اللفظ الأحسن، كأنه قال: هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب.
ومثل هذا في ذكر نُبَذٍ تنبيهًا على نوعه، قول ابن عباس في قوله تعالى: ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) [التكاثر: 8] أنه الماء الحار في الشتاء، ولم يُرِدْ به أن النعيم ليس إلا هذا، بل أشار إلى بعض ما هو نعيم تنبيهًا على سائره، فكذلك أشار بهذه الحروف إلى ما يتركب منها، وعلى ذلك ما رواه السُّدِّيُّ عنه أن ذلك حروف إذا رُكِّبت يحصل منها اسم الله.
__________
(1) مقدمة جامع التفاسير (ص: 105).
(2) مقدمة جامع التفاسير (ص: 142).(1/83)
وكذلك ما روي عنه أنه قال: هي أقسام = غير مخالف لهذا القول، وذلك أن الأقسام الواردة في فواتح السور إنما هي بنعم، وأجوبتها تنبيه عليها، - فيكون قوله: ( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) [البقرة: 1- 2] جملة في تقدير مقسم به. وقوله: ( لاَ رَيْبَ فِيهِ ) [البقرة: 2] جوابها، ويكون إقسامه بها تنبيهًا على عِظَمِ موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها.
فإن قيل: لو كان قسمًا، لكان فيه حرف القسم.
قيل: إن حرف القسم يُحتاج إليه إذا كان المقسم به مجرورًا. فأما إذا كان مرفوعًا نحو: ((ويمُ الله))، أو منصوبًا نحو: ((يمينَ الله))، فليس بمحتاج إلى ذلك.
وما قاله زيد بن أسلم والحسن ومجاهد وابن جريج أنها أسماء للسور، فليس بمناف للأول، فكل سورة سُمِّيت بلفظ متلو منها، فله في السورة معنى معلوم. وعلى هذا القصائد والخطب المسماة بلفظ منها ما يفيد معنى فيها.
وكذلك ما قاله أبو عبيدة، وروي أيضًا عن مجاهد وحكاه قطرب والأخفش: أن هذه الفواتح دلائل على انتهاء السورة التي قبلها، وافتتاح ما بعدها، فإن ذلك يقتضي من حيث إنها لم تقع إلاَّ(1) في أوائل السور = يقتضي ما قالوه، ولا يوجب ذلك أن لا معنى سواه...)) (2).
ومن هذا يتبين أن هذه الأحرف تخرج عن المتشابه الكلي، كما لا تدخل في السؤال الذي يطرحه بعض العلماء، وهو هل في القرآن ما لا يعلم معناه؟ لأنها أحرف لا تحتوي على معنى بذاتها فيطلب منها، أما إذا تركب منها الكلام، فلا يمكن أن يكون في القرآن كلام لا يعرف معناه، والله الموفق.
__________
(1) ليس في الأصل ((إلاَّ))، وقد زدتها لأن المقام يقتضيها.
(2) مقدمة جامع التفاسير (ص: 147- 148).(1/84)
وبقي في هذه الأحرف مسألة، وهي المغزى من هذه الأحرف، وهو على التحقيق: ما ذكر ابن كثير (ت: 774)، قال: ((وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مُرَكَّبٌ من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.
وقد حَكَىَ هذا المذهب الرازيُّ في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرَّره الزمخشريُّ في كشافه، ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية.
قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن.
قال: وجاء منها على حرف واحد، كقوله: (ص) (ن) (ق)، وحرفين مثل: ( حم )، وثلاثة مثل: ( الم )، وأربعة مثل: ( المر ) و( المص )، وخمسة مثل: ( كهعيص ) و( حمعسق )، لأن أساليب كلامهم على هذا: من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.
قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف، فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) [البقرة: 1- 2].
( الم * اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) [آل عمران: 1- 2].
( المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) [الأعراف: 1- 2].
( الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) [إبراهيم: 1].
( الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [السجدة: 1- 2].(1/85)
( حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) [فصلت: 1- 2].
( حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[الشورى: 1- 3].
وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم)) (1).
وبهذا ينتهي الحديث عن الأحرف المقطعة، وبالله التوفيق.
مفهوم الاستنباط
بعد أن بَانَ حدُّ التفسيرِ، وعلمتَ أنَّ كثيرًا مما في كتب التفسيرِ قد يكون خارجًا عن حدِّ البيانِ، ككثيرٍ من اللطائفِ والمُلَحِ العلميةِ، والنِّكاتِ البلاغيةِ، والاستنباطاتِ العلميةِ من فقه وآدابٍ وتربوياتٍ وهداياتٍ قرآنيةٍ وغيرِها، فاعلمْ أنَّ من أهمِّ ما هو خارجٌ عن البيانِ، ومن أنفعِه للناس بعد التفسير = علمُ الاستنباطِ من القرآنِ الذي لا حدَّ له، وقد يفتح الله على عبادِه في عصرٍ ما لم يفتحْهُ على من قبلَهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
معنى الاستنباط:
تدورُ مادَّةُ ((نَبَطَ)) على أصلٍ واحدٍ، وهو استخراجُ شيءٍ(2)، والألف والسين والتاء في استنبط تدلُّ على تطلُّبِ الشيءِ لأجلِ حصولِه، وكأنَّ فيها معنى التَّكلُّفِ في أعمالِ العقلِ الذي يحتاجُه المستبطُ حال الاستنباط، والله أعلمُ.
قال الطَّبريُّ (ت: 310): ((وكلُّ مستخرجٍ شيئًا كان مستترًا عن العيون أو عن معارف القلوبِ، فهو له مستنبطٌ، يقال: استنبطتُ الرَّكِيَّة: إذا استخرجت ماءها)) (3).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط: 3(1: 38). وقد نصر هذا القول الشنقيطي في أضواء البيان واستدل بالاستقراء الذي أشار إليه ابن كثير، ينظر: أضواء البيان (3: 5- 7).
(2) ينظر: مقاييس اللُّغة (5: 381)، والعباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمد حسين آل ياسين (حرف الطاء: 208).
(3) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8: 571).(1/86)
وقال الصَّغانيُّ: ((وكلُّ شيءٍ أظهرته بعد خفائه: فقد انبطتَه واستنبطتَه. وقوله تعالى: ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [النساء: 83]، أي: يستخرجونه.
ويقال: استنبط الفقيه: إذا استخرج الفِقهَ الباطنَ بفَهْمِه واجتهادِه)) (1).
مِمَّ يكونُ الاستنباط؟:
ينقسم القرآن إلى قسمين:
نص ظاهر لا يخفى، ولا يحتاج إلى تفسير، وهذا يستنبط منه مباشرة.
ونص يحتاج إلى تفسيرٍ، وهذا يكون الاستنباط منه بعد بيانه وتفسيرِه.
تحليل عملية الاستنباط، وذكر أنواعه المندرجة تحته:
الاستنباطُ ربط كلامٍ له معنى بمدلول الآيةِ، بأي نوع من أنواع الربطِ، كأن يكون بدلالة إشارةٍ أو دلالة مفهومٍ، أو غيرها.
وكلُّ كلامٍ رُبِطَ بمعنى الآيةِ فإنه من هذا الباب، لأنَّ الذي يقول به يرى أنَّ الآيةَ دلَّت عليه بأي نوع من أنواع الدِّلالة.
وقد يكون استنباطَ حكمٍ فقهيٍّ، أو يكونُ استنباطَ أدبٍ تشريعيٍّ عامٍّ، أو يكونُ استنباطَ أدبٍ أخلاقيٍّ في معاملةِ الناسِ، أو يكونُ استنباطَ فوائدَ تربويةٍ تتعلق بتزكيةِ النفوسِ، أو يكون استنباطَ فائدةٍ علميةٍ.
ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
__________
(1) العباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمد حسين آل ياسين (حرف الطاء: 207).(1/87)
ما يُستنبط من قوله تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [البقرة: 187]، قال الجصَّاص (ت: 370): ((وفيها الدلالةُ على أنَّ الجَنَابَةَ لا تُنَافِي صحَّةَ الصومِ لما فيه من إباحةِ الجماعِ من أوَّلِ الليل إلى آخره مع العلم بأنَّ المجامعَ في آخر الليل – إذا صادف فراغُه من الجماع طلوعَ الفجر – يصبح جُنُبًا، ثم حُكِمَ – مع ذلك – بصحَّةِ صومه بقوله: ( ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ )))(1).
__________
(1) أحكام القرآن، للجصاص (1: 288).(1/88)
ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) في معرض حديثه عن الإسرائيليات، قال: ((....ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف: 22]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعَّفَ القولين الأوَّلَين وسكت عن الثالث، فدل على صحَّته، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أنَّ الاطلاع على عدَّتِهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: ( قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم )، فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاء ظَاهِرًا )، أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها ويبطل الباطل، وتُذكر فائدةُ الخلاف وثمرته لئلا يطول النِّزاع، والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيُشتغل به عن الأهم.
فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا، فإن صحَّح غير الصحيح عامدًا فقد تعمَّد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ.(1/89)
كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيَّع الزمان وتكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابس تَوبَيْ زُورٍ، والله الموفق للصواب)) (1).
ومنها ما ذكر السيوطي (ت: 911) من جملة الاستنباطات والفوائد في قصة موسى مع الخضر عليه السلام، قال: ((فيها: أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرقيق والخادم في السفر.
واستحباب الرحلة في طلب العلم.
واستزادة العالم من العلم.
واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل.
ونسبة النسيان مجازًا وتأدبًا عن نسبتها إلى الله تعالى.
وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه، ولو كان دونه في المرتبة.
واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه ما لا يحتمله طبعُه.
وتقديم المشيئة في الأمر.
واشتراط المتبوع على التابع.
وأنه يلزم الوفاء بالشرط.
وأن النسيان غيرُ مأخوذ به.
وأنَّ الثلاث اعتبارًا في التكرار ونحوه.
وأنه لا بأس بطلب الغريب للطعام والضيافة.
وأن صنع الجميل لا يُتركُ ولو مع اللئام.
وجواز أخذ الأجرة على الأعمال.
وأنَّ المسكين لا يخرج عن مسكنته بكونه له سفينة أو آلة تَكَسُّبٍ أو شيء لا يكفيه.
وأنَّ الغصب حرام.
وأنَّه يجوز إتلاف مال الغير وتعييبه لوقاية باقية، كمال المودِع واليتيم.
وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب الأخف.
وأنَّ الولدَ يُحفَظُ بصلاح أبيه...)) (2).
وهذه الاستنباطات قد تكون قريبة المأخذ تتضح بلا إعمال ذهنٍ، وقد يَدِقُّ مسلَكُها ويخفى، فتحتاجُ إلى تفهُّمٍ وإعمالِ ذهنٍ، وقد يكون فيها تكلُّفٌ، وقد تكون ضعيفةً غير مقبولة.
حكم الاستنباط:
__________
(1) مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور (ص: 100- 102).
(2) الإكليل في استنباط التنْزيل (ص: 147).(1/90)
هذه الاستنباطاتُ – ويلحقُ بها الفوائد التَّفسيريَّة وغيرها مما يُرْبطُ بنصِّ الآيةِ – من القولِ بالرَّأي، فإن كان الاستنباط عن علمٍ، فهو من الرأي المحمود الذي دلَّت النصوص على جوازه.
وإن كان الاستنباط عن جهل، أو دخل فيه الهوى فحصل فيه تحريفٌ، فإنَّه من الرَّأي المذمومِ، وهذا النوع من الرَّأي حرامٌ، وهو داخل تحت قولِه تعالى: ( وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) [الأعراف: 33]، وغيرها من النُّصوصِ الواردةِ في ذمِّ الرَّأي الذي لا دليلَ عليه، والله أعلمُ.
القانون الكليِّ لصحة الاستنباط من عدمه:
أنت في صياغة هذا القانون أمام ثلاثةِ أمور: نصٌّ مفسَّرٌ، إمَّا تفسيرًا صحيحًأ، وإمَّا تفسيرًا خطأً، ونصٌّ ظاهرٌ، ومعلومة مرتبطة بأحدهما.
وربطُ أيِّ معلومةٍ من المعلوماتِ، والزَّعمُ أنَّ القرآنَ دلَّ عليها لا يخلو من أحوالٍ:
الحالُ الأولى: أن تكون المعلومةُ بذاتها فاسدةً باطلةً، تخالفُ ما جاءت به الشريعةُ، وحكم هذه المعلومة واضحٌ، فهي باطلةٌ بذاتِها، وربطُها بآياتِ القرآنِ خطاٌ بلا إشكالٍ.
وقد يكون ربطها بنصٍّ ظاهرٍ، أو بتفسير صحيحٍ، أو بتفسيرٍ غيرِ صحيحٍ.
الحال الثانيةُ: أن تكونَ المعلومةُ بذاتِها صحيحةً، ولا تخالفُ الشريعةَ، بل هي مما دلَّت عليه الشريعة، وهذه على قسمين:
الأول: أن يكونَ ربطُها بالآيةِ صحيحًا، أي أن الآية دلت عليها دلالة واضحةً لا يخالِفُ فيها مخالفٌ.
وقد يكون الربطُ هنا بنصٍّ ظاهرٍ، أو بتفسيرٍ صحيحٍ.
الثاني: أن تكون المعلومةُ صحيحةً بذاتِها، لكنَّ ربطها بالآيةِ خطأٌ، لأنَّ الآية لا تدلُّ عليها بحالٍ.
فالمعلومةُ لو حُكيت بدون ربطها بالآيةِ لكانت صحيحةً لا يخَالَفُ في صحتها، لكن الذي يخالَفُ فيه هو كون الآيةِ دلَّت عليها.
وقد يكون الربطُّ هنا بنصًّ ظاهرٍ، أو بتفسيرٍ صحيحٍ.
أمثلة للاستنباطات من النص الظاهر، ومن النصِّ الذي يحتاج إلى تفسير:(1/91)
يمكنُ تقسيمُ الاستنباط من الآياتِ إلى أقسامٍ:
أوَّلاً- الاستنباط من النص الظَّاهرِ الذي لا يحتاج إلى تفسير:
وهو على قسمين:
أنْ يكونَ الاستنباطُ صحيحًا، ومثاله: ما ذكر السيوطي (ت: 911) في قوله تعالى: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )، قال: ((واستدل به الشافعي على صحة أنكحة الكفار)) (1).
أنْ لا يكون الاستنباطُ صحيحًا، ومثاله: استنباطُ بعض الصُّوفيَّة جوازَ الرَّقصِ من قوله تعالى: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) [ص: 42]، وهذا الاستنباطُ غيرُ صحيحٍ، والمعنى المدلول عليه خطأ بذاته، وهو الرَّقصُ، إذ الرَّقصُ لا يجوز أصلاً.
قال القرطبي (ت: 671): ((استدل بعض جهال المتزهدة وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب: ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) [ص: 42] على جواز الرَّقص.
قال أبو الفرج الجوزي: وهذا احتجاج بارد، لأنه لو كان أُمِرَ بضربِ الرِّجلِ فَرَحًا كان لهم فيه شبهة، وإنما أُمِرَ بضرب الرِّجلِ ليَنْبُعَ الماءُ.
قال ابن عقيل: أين الدلالة في مبتلى أُمِرَ – عند كشف البلاء – بأن يضرب برجله الأرض، لينبع الماء إعجازًا = من الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريكُ رِجلٍ قد أَنْحَلَها تَحَكُّمُ الهوامِّ دلالةً على جواز الرقص في الإسلام = جاز أن يُجعلَ قوله سبحانه لموسى: ( اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ) [البقرة: 60] دلالة على ضرب الجماد بالقضبان، نعوذ بالله من التَّلاعب بالشرع(2)...))(3).
وقال الماورديُّ (ت: 450): ((ذهب بعض من يتفقه من المفسِّرين إلى أنَّ من وصَّى بجزءٍ من مالِه لرجلٍ، أنها وصيَّةٌ بالعُشُرِ، لأنَّ إبراهيمَ وضعَ أجزاءَ الطَّيْرِ على عَشرَةِ جبالٍ)) (4).
__________
(1) الإكليل في استنباط التَّنْزيل (ص: 230).
(2) نقله المؤلف من كتاب ابن الجوزي: تلبيس إبليس (ص: 317).
(3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (15: 215).
(4) النَّكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السيد بن عبدالرحيم بن عبدالمقصود (1: 236).(1/92)
ثانيًا- الاستنباطُ من نص غير ظاهر يحتاج إلى تفسير:
وهذا النوع يكون الاستنباط منه بعد بيان المعنى، أي: التفسير، وهو على أقسام:
أن يكونَ التفسيرُ صحيحًا، والاستنباطُ صحيحًا، وهذا كثيرٌ جِدًّا.
ومثاله: ما استنبطه ابن عطيَّةَ الأندلسيُّ (ت: 542) من قوله تعالى: ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [ص: 29]، قال: ((وظاهرُ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ التَّدبُّرَ من أسبابِ إنزالِ القرآنِ، فالتَّرتيلُ إذًا أفضلُ لهذا، إذ التَّدبُّرُ لا يكونُ إلاَّ مع التَّرتيلَِ)) (1).
أن يكونَ التفسير صحيحًا، والاستنباط غير صحيح.
ومثاله: ما استنبطَه ابنُ عطيَّةَ الأندلسيُّ (ت: 542) من قولِه تعالى: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) [الشورى: 49، 50]:، فبعد تفسيرِه للآيةِ تفسيرًا صحيحًا، قال: ((وهذه الآيةُ تَقْضِي بفسادِ وجودِ الخُنْثَى المُشْكِلِ)) (2).
والآية لا تدلُّ على ما قالَه، ولم تنفِ وجوده، وإنَّمَا تُرِكَ ذكرُ الخُنثى المُشكلِ لندرَته وقلَّتِهِ أمامَ هذه الأقسامِ المذكورةِ، واللهُ أعلمُ.
وقال ابن العربي (ت: 543) – وهو معاصرٌ لابن عطيَّةَ -:
((...أنكرَه قومٌ منْ رءوسِ العوامِ، فقالوا: إنَّه لا خُنْثَى، فإنَّ اللهَ تعالى قسَّمَ الخلقَ إلى ذكرٍ وأنثى.
قلنا: هذا جَهْلٌ باللُّغةِ، وغباوةٌ عنْ مَقْطَعِ الفَصَاحَةِ، وقُصُورٌ عن مَعْرِفَةِ سَعَةِ القُدْرَةِ.
أمَّا قدرةُ اللهِ سبحانَهُ، فإنَّه واسعٌ عليمٌ.
__________
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (12: 453).
(2) المحرر الوجيز، ط: قطر (13: 191).(1/93)
وأمَّا ظاهرُ القرآنِ، فلا ينفي وجودَ الخُنْثَى، لأنَّ الله تعالى قال: ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ) [الشورى: 49]، فهذا عمومُ مدحٍ، فلا يجوزُ تخصيصُه، لأنَّ القدرةَ تقتضيه.
وأمَّا قولُه: ( يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) [الشورى: 49، 50]، فهذا إخبارٌ عن الغالبِ في الموجوداتِ، وسكت عن ذكر النَّادرِ، لدخوله تحت عمومِ الكلامِ الأوَّلِ. والوجودُ يشهدُ له، والعيانُ يُكَذِّبُ منكرَه)) (1).
أن يكون التَّفسيرُ غيرَ صحيحٍ، ويكونَ الاستنباطُ غيرَ صحيحٍ كذلك.
ومثاله: تفسير قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ) [الأعراف: 143]، قالت المعتزلة: إنَّ لن تفيد التأبيد، والمعنى: لن تراني أبدًا، فيشمل نفيَ الرؤيةِ في الدنيا والآخرة.
قال أبو الفضلِ الطَّبرسيُّ الرافضيُّ المعتزليُّ (ت: 548): ((( قَالَ لَن تَرَانِي ): هذا جوابٌ من اللهِ، ومعناه: لا تراني أبدًا، لأنَّ ((لن)) ينفي على وجه التَّابيدِ، كما قال: ( وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ) [البقرة: 95]، وقال: ( لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) [الحج: 73] (2)
__________
(1) أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي (4: 1674- 1675).
(2) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي (9: 16).
وقال الزمخشريُّ في تفسير هذه الآيةِ ((فإن قلتَ: ما معنى ((لن))؟ قلتُ: تأكيدُ النفي الَّذي تعطيه ((لا))، وذلك أنَّ ((لا)) تنفي المستقبلَ، تقول: لا أفعلُ غدًا، فإذا أكَّدت نفيها قلت: لن أفعل غدًا. والمعنى: أنَّ فِعلهُ ينافي حالي، كقوله: ( لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ )، فقوله: ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَار ) نفيٌ للرؤيةِ فيما يُستقبَلُ، و( لَن تَرَانِي ) تأكيدٌ وبيانٌ، لأنَّ النفيَ منافٍ لصفاتِه)). الكشاف (2: 113).(1/94)
.
وتفسيرُ ((لن)) في هذا الموضعِ على أنَّه للتَّأبيدِ غيرُ صحيح، وما بُنِي عليه من عدمِ جوازِ رؤيةِ الباري في الآخرةِ غيرُ صحيحٍ.
وذكر القاسميُّ (ت: 1332) عن معاصرٍ له: أنَّ تفسير قوله: (وَالتِّينِ) [التين: 1]: يعني به شجرةَ ((بوذا)) مؤسس الدِّيانة البوذيَّة.
وبنى على هذا التَّفسيرِ فائدةً، وهي: أنَّ التَّرتيبَ في ذكرِها في الآيةِ باعتبارِ درجةِ صحَّتِها بالنِّسبةِ لأصولِها الأولى، فبدأ بالبوذيَّة لأنها أقلُّ درجةً في الصحَّةِ وأشدُّ الأديانِ تحريفًا عن أصلِها، ثُمَّ بالنَّصرانيَّةِ، وهي أقلُّ من البوذيَّةِ تحريفًا، ثُمَّ باليهوديَّةِ، وهي أصحُّ من النَّصرانيَّةِ، ثُمَّ بالإسلامِ، وهو أصحُّها جميعًا وأبعدُها عن التَّحريفِ والتَّبديلِ. وقد ذكر فوائد واستنباطات أخرى مبنية على هذا التَّفسيرِ الفاسدِ.
وتفسيرُ هذا المفسِّرِ لهذه الآياتِ غيرُ صحيحٍ، وما بناه من الفوائد على ذلك غير صحيح أيضًا.
قد تكون الفائدة المستنبطة في ذاتها صحيحة، لكن حملها على معنى الآية غير صحيح.
ومثال ذلك ما فسَّر به بعضُهم قولَه تعالى: ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً ) [البقرة: 249]، قال: ((هذه الآية مثل ضربَه الله للدُّنيا، فشبَّهها الله بالنهرِ، والشَّاربَ منه بالمائلِ إليها المستكثرِ منها، والتَّاركَ لشرِبِهِ بالمنحرفِ عنها والزاهدِ فيها، والمغترفَ بيدهِ بالآخذِ منها قدرَ الحاجةِ، وأحوالُ الثَّلاثةِ عندَ اللهِ مختلفةٌ)) (1).
__________
(1) تفسير القرطبي (3: 251).(1/95)
قال القُرْطُبِيُّ (ت: 671): ((ما أحسن هذا الكلام لولا ما فيه من التَّحريف في التَّأويلِ، والخروجِ عن الظَّاهرِ، ولكن معناه صحيحٌ في غير هذا)) (1).
ثالثًا- الاستنباطُ من ربطِ آيتينِ ببعضهما:
قد تردُ بعضُ الآياتِ مبيِّنةً لحكم ما، وتردُ آيةٌ آخرى مبيِّنةً لحكمٍ آخر، فيكونُ بجمعِ الآيتينِ بيانٌ لحكمٍ جديد لا يدلُّ عليه أحدُ الآيتين على انفرادِها.
ومن الفوائدِ المستنبطةِ من الجمعِ بين آيتين: أنَّ أقلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ ستَّةُ أشهرٍ، وذلك لقوله تعالى: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) [لقمان: 14]، وقولِه: ( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) [الأحقاف: 15] (ت: 911): قال السيوطي: ((أخرج ابنُ أبي حاتم عن معمر بن عبدالله الجُهَنيِّ، قال: تزوَّجَ رجلٌ منَّا امرأةً، فولدتْ لتمامِ ستَّةِ أشهرٍ، فانطلقَ إلى عثمان، فأمرَ برجْمِها.
فقال عَلِيٌّ: أمَا سمعتَ اللهَ يقولُ: ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) [الأحقاف: 15]، وقال: ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) [لقمان: 14]، فكم تَجِدُ بَقِيَ إلاَّ ستَّةُ أشهرٍ.
فقالَ عثمانُ: والله ما تفطَّنْتُ لهذا)) (2).
رابعًا- الاستنباطُ بإعمالِ مفهومِ المخالفةِ:
وذلك أن يأتيَ النَّصُّ بخبرٍ أو حكمٍ، فما كانَ فيه من معنى الخبر أو الحكم المنصوص عليه مباشرةً، فهو من التَّفسيرِ، وما يُفهَمُ عنه من معانِ أحكامٍ أخرى، فهو من الاستنباطِ.
__________
(1) تفسير القرطبي (1: 251).
(2) الإكليل في استنباط التَّنْزيل (ص: 194). وينظر: تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (7: 280)، وقد ذكر ابن كثيرٍ مثله عن ابن عباسٍ (6: 336)، (7: 280).(1/96)
ومن الفوائدِ المستنبطةِ بإعمالِ مفهومِ المخالفةِ، استنباط الشَّافِعِيُّ (ت: 204) وقوع الرؤية من قوله تعالى: ( كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) [المطففين: 15]، قال: ((فَلَمَّا أن حَجَبَوا هؤلاء في السُّخْطِ، كان في هذا دَليلٌ على أنَّهم يرونه في الرِّضا)) (1).
ولا تخلو بعض الاستنباطاتِ من البعدِ والغرابةِ في الاستنباطِ، وكم من اجتهادٍ في الاستنباطِ لم يُوفَّقْ؟.
وقد مرَّ لذلك أمثلةٌ، ومما وردَ كذلك:
قال ابن عطية (ت: 542) في قوله تعالى: ( وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ ) [الزخرف: 33]: ((قال المهدوي: ودلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ السَّقفَ لربِّ البيتِ الأسفلِ، إذ هو منسوبٌ إلى البيوتِ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تَفَقُّهٌ واهنٌ)) (2).
مسألةٌ في التَّفسيرِ الإرشادي(3) وفوائدِ الآياتِ:
التَّفسيرُ الإرشاديُّ يُمَثِّلُ جانبًا مشكلاً في علمِ التَّفسيرِ، وهو في حقيقتهِ خارجٌ عن حدِّ التَّفسيرِ، لأنَّه يأتي بعدَ بيانِ الآيةِ أو بعد معرفةِ ظاهرِها.
وتعودُ كثيرٌ من التَّفاسيرِ الإرشاديَّةِ وتفاسيرِ الوُّعاظِ وما يذكرُه بعض المعاصرينَ من فوائِد الآياتِ = إلى الاستنباطِ، ومن ثّمَّ، فإنَّ حُكْمَها حُكْمُ ما سبقَ من الاستنباطات، وإنَّما أفردتها هنا لحاجتها لبيانٍ خاصٍّ، فأقولُ:
هذه الفوائدُ والإرشاداتُ على قسمين:
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد سعد الحمدان (3: 506)، وينظر منه: (3: 467- 469).
(2) المحرر الوجيز، ط: قطر (13: 219- 220).
(3) هذه النسبة التي صارت مصطلحًا مما يحتاج إلى تحرير، وقد ذكرتها هنا لشهرتها، لكن حقيقتها أنها من باب الاستنباط.(1/97)
القسمُ الأوَّلُ: أن تكونَ هذه الفوائد والإرشادات صحيحة بذاتِها، لا تخالفُ أمرًا من أمورِ الشَّريعةِ، وهي على قسمين من حيثُ ربطها بالآيةِ:
أوَّلاً: أن يكونَ الرَّبطُ صحيحًا، أي: أن يكونَ بين الفائدة المذكورةِ والآية ارتباطٌ بوجهٍ ما.
ثانيًا: أن يكونَ الرَّبطُ بالآيةِ غيرُ صحيحٍ، فالكلامُ باستقلاله صحيحٌ، ولكن ربطه بالآيةِ خطأٌ، لأنَّ الآيةَ لا تدلُّ عليه.
القسمُ الثَّاني: أن تكونَ هذه الفوائد والإشارات غيرَ صحيحةً بذاتِها، لأنَّها تحملُ خطأً ما، وفي هذه الحالُ فإنَّ ربطَها بالآيِ خطأٌ قطعًا.
وبعد هذا الملخَّصِ في علاقةِ الإشاراتِ والفوائدِ بالنَّصِّ، أذكر لك ملخَّصًا لكلامِ ثلاثةٍ من الأئمَّةِ الأعلامِ في التَّفسيرِ الإشاريِّ لأهميَّةِ ما أوردُوه، ولِتَجِدَهُ مجموعًا بين يديك.
أولاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728):
أنَّ التفسيرَ المعتمدَ على الإشاراتِ المنسوبَ إلى بعضِ الأعلامِ، كجعفر الصَّادق (ت: 148) وغيره، بعضها كلامٌ حسنٌ، وبعضُها باطلٌ مردودٌ، وبعضُها مكذوبٌ مفترى على قائله.
هذه الإشاراتُ هي من بابِ الاعتبارِ والقياسِ، وإلحاقِ ما ليس بمنصوصٍ بالمنصوصِ، مثلُ الاعتبارِ والقياسِ الذي يستعمله الفقهاء في الأحكامِ.
إذا كانت هذه الإشارات من جنس القياسِ الصَّحيحِ، كانت حسنة مقبولةً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب)). فإذا قيس على تطهير القلب عن الأخلاق الخبيثة كان هذا من جنس إشارات الصوفيةى وقياس الفقهاء.
وإذا كانت من جنس القياسِ الضَّعيفِ، كان لها حكمُه، كما ذكر من أنَّ موسى أُمِرَ مع خلعه للنَّعلين(1) بخلع الدنيا والآخرة.
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: ( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) [طه: 12].(1/98)
وإذا كانت تحريفًا للكلامِ على غيرِ تأويلِه، كانت باطلاً، وهي من جنس كلام القرامطةِ والباطنيَّةِ والجهميَّةِ، كقول من قال: إنَّ ما ينْزلُ على قلوب أهل المعرفة من جنس خطاب تكليم موسى وتكليمه بهذا باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها(1).
ثانيًا: ما ذكره ابن القيم (ت: 751) والشاطبي: (ت: 790):
لقد ذكر هذان العلمان ضوابط في قبول هذه الإشارات، وهذا نصُّ قولَيهما:
قال ابنُ القيِّمِ (ت: 751): ((وتفسير النَّاسِ يدورُ على ثلاثةِ أصولٍ:
تفسيرٌ على اللَّفظِ، وهو الذي ينحو إليه المتأخِّرون.
وتفسيرٌ على المعنى، وهو الذي يذكره السَّلفُ.
وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياسِ، وهو الذي ينحو إليه كثيرٌ منَ الصُّوفيَّةِ وغيرهم.
وهذا لا بأسَ به بأربعةِ شرائط:
أن لا يناقضَ معنى الآية.
وأن يكون معنًى صحيحًا في نفسِهِ.
وأن يكون في اللَّفظِ إشعارٌ به.
وأن يكون بينه وبين معنى الآيةِ ارتباطٌ وتلازمٌ، فإذا اجتمعت هذه الأمورُ الأربعةُ كان استنباطًا حسنًا)) (2).
وقال الشَّاطبيُّ (ت: 791): ((... وكَونُ الباطنِ هو المرادُ من الخطابِ قد ظَهَرَ أيضًا مما تقدَّم في المسألةِ قبلَها، ولكن يُشترطُ فيه شرطان:
أحدهما: أن يَصِحَّ على مقتضى الظَّاهرِ المقرَّرِ في لسان العربِ، ويجري على المقاصدِ العربيَّةِ.
والثاني: أن يكونَ له شاهدٌ – نصًّا أو ظاهرًا – في محلٍّ آخر يشهدُ لصحَّتِه من غير معارضٍ)) (3).
__________
(1) ينظر في هذه النقاط الثلاث: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: دقائق التفسير (2: 471)، وبغية المرتاد (1: 215- 216)، (1: 313- 314)، ومجموع الفتاوى (2: 28).
(2) التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، تصحيح: طه يوسف شاهين (ص: 51).
(3) الموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبدالحميد (3: 268).(1/99)
وقدْ ذكرَ في كلامٍ لاحقٍ ما يصلحُ أن يُضافَ إلى ضوابطِ قبول التَّفسير الإشاريِّ، وهو قوله: ((...ولكن له وجه جارٍ على الصِّحَّةِ، وذلك أنَّه لم يقل إنَّ هذا هو تفسير الآيةِ...)) (1).
هذا، وإذا لم يكن الكلامُ الَّذي ينبِّه إليه المفسِّرُ باطلاً في ذاتِه، بل كان صحيحًا في ذاته، فإنَّ عدمَ قبولِه يقعُ من جهةٍ أخرى، وهي عدم صحَّة دلالةِ الآيةِ عليه.
واليوم، يقعُ في هذا بعض الوعَّاظِ، ومتطلبو فوائدِ الآياتِ، والذين يكتبونَ في بعض المجلاَّتِ الإسلاميةِ، تحت عنوان: ((آية العدد)) أو ((إشراقة آية)) أو ((في ظلال آيةٍ)) أو غيرها من العناوين.
وإنَّك لتجدُ بعضهم يتكلَّفُ في استنباط الفوائد، ويربطها بالآيةِ، ويجعل الآية تدلُّ عليها، أو يتكلَّفُ بإدخالِ بعضِ ما يراه في الواقعِ تحت حُكْمِ الآيةِ، أو قد يجعلُ الآيةَ مدخلاً لموضوعٍ من الموضوعاتِ التي يريدُ الحديث عنها، فتراه يريد الحديثَ عن الحسدِ مثلاً، ويذكر آيةً من الآياتِ التي ذكرت الحسدَ، ثمَّ ينطلقُ يتحدَّثُ عن الحسدِ بتفصيلٍ لا علاقةَ له بالآيةِ التي ذكرَها في أوَّل موضوعِه.
وكلُّ هؤلاء المتكلفين ما لا يُحسنون عليهم أن يتَّقُوا الله، وأن يعلموا أنهم قد يدخلون فيمن يقول على الله بغير علم، فيكونون من أصحاب الرأي المذموم.
وإذا بَانَ لك هذا، عِلِمْتَ أنَّ ما يُعابُ على من كتبَ في ما يُسمَّى بالتفسيرِ الإشاري من تكلُّفهم ربطَ أقوالِ المتصوِّفةِ بتفسيرِ الآيةِ وأنها على سبيلِ الإشارةِ، فإنه يعابُ على بعض الوُّعاظ والدعاةِ الذين يسلكون هذا المنهج، وإن اختلفت المحاملُ عندَ الفريقينِ، والله أعلم.
مفهوم التدبر
تدلُّ مادة ((دَبَرَ)) على آخرِ الشَّيءِ، ومنه دُبُرُ الشيء، أي آخره، كأدبار الصلوات.
__________
(1) الموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبدالحميد (3: 286)، وقد أشار ابن تيميَّة إلى هذا الذي ذكره الشَّاطبيُّ، ينظر: بغية المرتاد (ص: 313).(1/100)
والتَّدبُّرُ: النَّظرُ في أدبارِ الشَّيء، والتفكير في عاقبتِه.
وقد استُعملَ في كلِّ تأمُّلٍ يقعُ من الإنسانِ في حقيقةِ الشَّيءِ أو أجزائه أو سوابقِه أو لواحقه أو أعقابه(1).
وجاءَ على صيغةِ التَّفعُّلِ، ليدلَّ على تكلُّفِ الفعلِ، وحصولِه بعد جُهْدٍ، والتَّدبُّرُ: حصول النَّظرِ في الأمرِ المُتَدَبَّرِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
وقد جاءَ الأمرُ بتدبُّرِ القرآنِ في أربعةِ مواضعَ من القرآنِ، والعجيبُ أنَّ آيتينِ نزلتْ في سياقِ المنافقينَ، وهما قوله تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) [النساء: 82]، وقوله تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [محمد: 24].
وجاءت آيتانِ في سياقِ الكفَّارِ، وهما قوله تعالى: ( أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ ) [المؤمنون: 68]، وقوله تعالى: ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [ص: 29].
وتحتملُ آيةُ سورةِ ((ص)) أن يكون المؤمنونَ داخلونَ في الأمرِ بالتَّدبُّرِ، ويشهدُ له قراءةُ من قرأ: ( لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) بالتاء(2)، بمعنى: لتتدبَّره أنت يا محمد وأتباعُك(3).
__________
(1) ينظر: روح المعاني (5: 92).
(2) هي قراءة أبي جعفر المدني من العشرة، وقد نُسِبَتْ إلى عاصم، ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (23: 153)، والمحرر الوجيز، ط: قطر (12: 452- 453)، والنَّشر في القراءات العشر (2: 361).
(3) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (23: 153).(1/101)
وليس نزولُ الآيةِ في سياق غيرِ المؤمنينَ يعني أنَّ المؤمنينَ لا يُطلبُ منهم التَّدبُّرُ، بل هم مأمورونَ به، وداخلونَ في الخطاب من باب أولى، لأنَّهم أهلُ الانتفاعِ بتدبُّرِ القرآنِ. وإنّما المرادُ هنا بيانُ من نزلت بشأنه الآياتُ، دون بيان صحَّةِ دخولِ المؤمنينَ في الخطابِ، والله أعلمُ.
والآياتُ الآمرةُ بالتَّدبُّرِ منها ما جاءَ على شيءٍ مخصوصٍ، كقوله تعالى: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) [النساء: 82].
ومنها ما جاءَ مطلقًا بالتَّدبُّرِ العامِّ، كقوله تعالى: ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [ص: 29].
والأصلُ أنَّ مرحلةَ التَّدبُّرِ تأتي بعدَ الفَهْمِ، إذ لا يُمكنُ أن يُطلبَ منك تدبُّرُ كلامٍ لا تعقِلُه، وهذا يعني أنَّه لا يوجدُ في القرآنِ ما لا يُفهَمُ معناهُ مطلقًا، وأنَّ التَّدبُّرَ يكونُ فيما يتعلَّقُ بالتَّفسيرِ، أي أنَّه يتعلَّقُ بالمعنى المعلومِ.
قال الطبري (ت: 310): ((وفي حَثِّ الله عز وجل عباده على الاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ والبينات – بقوله جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [ص: 29]، وقوله: ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [الزمر: 27- 28]، وما أشبه ذلك من آي القرآن، التي أمر الله عباده وحثَّهم فيها على الاعتبار بأمثال آي القرآن، والاتعاظ بمواعظه – ما يدل على أن عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آية.(1/102)
لأنه مُحَالٌ أن يُقال لمن لا يفهم ما يقال ولا يعقل تأويلَه: اعتبر بما لا فَهْمَ لك به ولا معرفةَ من القِيلِ والبيان والكلام إلا على معنى الأمر بأن يفهمه ويفقهه، ثم يتدبره ويعتبر به. فأما قبل ذلك، فمستحيل أمره بتدبره وهو بمعناه جاهل. كما محال أن يقال لبعض أصناف الأمم الذين لا يعقلون كلام العرب ولا يفهمونه، لو أنشد قصيدة شعر من أشعار بعض العرب ذات أمثال ومواعظ وحكم: اعتبر بما فيها من الأمثال، واذكر بما فيها من المواعظ إلا بمعنى الأمر لها بفهم كلام العرب ومعرفته، ثم الاعتبار بما نبهها عليه ما فيها من الحكم. فأما وهي جاهلة بمعاني ما فيها من الكلام والمنطق، فمحال أمرها بما دلت عليه معاني ما حوته من الأمثال والعبر. بل سواءٌ أَمْرُها بذلك وأَمْرُ بعض البهائم به، إلا بعد العلم بمعاني المنطق والبيان الذي فيها.
فكذلك ما في آي كتاب الله من العِبَرِ والحِكَمِ والأمثال والمواعظ، لا يجوز أن يقال: اعتبرْ بها إلا لمن كان بمعاني بيانه عالمًا، وبكلام العرب عارفًا وإلا بمعنى الأمر لمن كان بذلك منه جاهلاً أن يعلم معاني كلام العرب، ثم يتدبره بعد، ويتعظ بحكمه وصنوف عبره.
فإذا كان ذلك كذلك وكان الله – جل ثناؤه – قد أمر عبادَه بتدبُّرِه وحثَّهم على الاعتبار بأمثاله = كان معلومًا أنه لم يأمر بذلك من كان بما يَدُلُّهم عليه آيُهُ جاهلاً. وإذ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون، صَحَّ أنهم بتأويل ما لم يحجب عنهم علمه من آيه الذي استأثر اللله بعلمه منه دون خلقه، الذي قد قدمنا صفته آنفًا = عارفون. وإذ صَحَّ ذلك، فسد قول من أنكر تفسير المفسرين من كتاب الله وتنْزيله ما لم يحجب عن خلقه تأويله)) (1).
ولربطِ هذا المبحثِ بسابق مباحث هذا الكتاب يمكن تقسيمُ مستويات التَّدبُّرِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
القسمُ الأوَّلُ – التدبر والتفسير:
__________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (1: 36- 37).(1/103)
سبق الإشارةُ إلى أنَّ التدبُّر يكون بعد فهم المعنى، لكن يحسن هنا أنْ أنبِّه إلى أنه قد لا يُفهم المعنى المراد، فتحتاج إلى البحث عنه. وتطلُّب المعنى يحتاجُ نَظَرًا وفِكْرًا، وهذا نوع من التدبر يكون سابقًا للفهم، والله أعلم.
وقد يكون عدم فهم الآية وقع من جهة جهل لغة أو سبب نزول، أو غيرها من الجهات وهذا يعني أنَّ التَّدبُّرَ يتعلَّقُ بالمعنى، وفي الغالب يكونُ هذا في فهم المتشابهِ النِّسبيِّ الذي قد يخفى على بعض الناس.
وقد يكون التًَّدبُّر باختيار أحد الأقوال المذكورة في الآية، والاختيار يحتاج إلى فِكْرٍ ونَظَرٍ يدلُّ على القول الصحيح المحتمل للآية.
وأمثلةِ هذا القسمِ كثيرةٌ، فمنها ما يقعُ من بحثِ آيةٍ مشكلةٍ، ومنها نقاشاتُ المفسِّرينَ التي يظهرُ فيها ترجيحُهم لوجهٍ من وجوهِ التَّفسيرِ، وغيرَها مما يحتاجُ إلى اختيارٍ من أجلِ البيانِ، وهذا ما لا تخلو منه كتب التفسير، ومن أمثلته:
قال الطبري (ت: 310): ((القول في تأويل قوله تعالى: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: 28].
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم بما: حدثني موسى بن هارون... عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) [البقرة: 28]، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة.
... عن أبي الأحوض، عن عبدالله في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] قال: هي كالتي في البقرة: ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) [البقرة: 28].(1/104)
... عن حصين، عن أبي مالك في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا، ثم أمتَّنا، ثم أحييتنا.
... عن حصين، عن أبي مالك في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] قال: كانوا أمواتًا، فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم.
... عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: 28]، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم، ثم يميتكم الموتة الحق، ثم يحييكم، وقوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] مثلُها.
... عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: هو قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11].
... عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية في قول الله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) [البقرة: 28]، يقول: حين لم يكونوا شيئًا، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رجعوا إليه بعد الحياة.
... عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة. ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة، فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: 28].(1/105)
وقال آخرون بما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن أبي صالح: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: 28]، قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم.
وقال آخرون بما: حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) الآية [البقرة: 28]. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان.
وقال بعضهم بما: حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) حتى بلغ ( أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [الأعراف: 172- 173] قال: فكسبهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى فخلق منه حواء – ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم – قال: وذلك قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء ) [النساء: 1]، قال: وبثَّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا، وقرأ: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ ) [الزمر: 6]، قال: خلقًل بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله:(1/106)
( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) [غافر: 11]، وقرأ قول الله: ( وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) [الأحزاب: 7]، قال: يومئذٍ. قال: وقرأ قول الله: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) [المائدة: 7].
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل.
فأما وجه تأويل من تأول قوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ) [البقرة: 28]، أي: لم تكونوا شيئًا، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميت، وهذا أمر ميت، يراد بوصفه بالموت: خمولُ ذِكْرِهِ ودُرُوسُ أثرِه من الناس.
وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمرٌ حَيٌّ وذِكْرٌ حَيٌّ، يراد بوصفه بذلك: أنه نَابِهٌ متعالم في الناس، كما قال أبو نخيلة السعدي:
فأحييت لي ذكري وما كنت خاملاً ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
يريد بقوله: فأحييت لي ذكري، أي: رفعته وشَهَرْتَهُ في الناس حتى نَبُهَ فصار مذكورًا حيًّا بعد أن كان خاملاً ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) [البقرة: 28]: لم تكونوا شيئًا، أي: كنتم خُمُولاً لا ذِكْرَ لكم، وذلك كان موتكم، فأحياكم فجعلكم بشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دُرُوسِ ذِكْرِكم، وتعفِّي آثارِكم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها، وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم.(1/107)
وأما وجه تأويل من تأول ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله: ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) [البقرة: 28] إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم، وذلك معنى بعيد، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتاب واسترجاع، وقوله جل ذكره: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) [البقرة: 28] توبيخُ مستعتبٍ عبادَه، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
وأما وجه تأويل قول قتادة-: ذلك أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم – فإنه عنى بذلك: أنهم كانوا نُطَفًا لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها، وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها، وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود.
وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك، وأن الإماتة الأولى عنده إعادة الله – جل ثناؤه – عبادَه في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب، والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث، وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل، إذا تدبره المتدبر، وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا: ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11]، وزعم ابن زيدٍ في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات.(1/108)
والأمر عندنا، وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين، أعني قوله: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) الآية [البقرة: 28]، وقوله: ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غافر: 11] في شيء، لأن أحدًا لم يَدَّعِ أنَّ الله أمات من ذرأ يومئذٍ غير الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزًا أن يوجَّه تأويل الآية إلى ما وَجَّهه إليه ابن زيدٍ.
وقال بعضهم: الموتة الأولى: مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها، ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها، فيجعلها بشرًا سويًا بعد تاراتٍ تأتي عليها، ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور، فيرد في جسده روحه، فيعود حيًّا سويًا لبعث القيامة، فذلك موتتان وحياتان.
وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موت ذي الرُّوحِ مفارقة الرُّوحِ إياه، فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح، فارقته الحياة فصار ميتًا، كالعضو من أعضائه، مثل: اليد من يديه، والرِّجل من رِجليه، لو قطعت وأُبِينَتْ، والمقطوع ذلك منه حي، كان الذي بان من جسده ميتًا لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح.
قالوا: فكذلك نطفته حيَّة بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتة، نظير ما وصفنا من حلكم اليد والرجل وسائر أعضائه، وهذا قول ووجه من التأويل، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم.(1/109)
وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ) [البقرة: 28]، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله: (ِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً ) [البقرة: 28]: أموات الذِّكْرِ، خمولاً في أصلاب آبائكم، نطفًا لا تُعرَفون ولا تُذكِرون، فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًا حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك، كما قال: ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: 28]، لأن الله – جل ثناؤه – يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال – جل ذكره -: ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) [المعارج: 43]، وقال: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) [يس: 51].
والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه، بما قد أوضحناه قبل)) (1).
وهذا المثال – مع طوله – يبيِّن صورة التَّدبُّر الذي يكون من أجل فهم المعنى المراد.
القسم الثَّاني: التَّدبُّر والاستنباط:
__________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1: 418- 424).(1/110)
عند تأمُّلِ عملية الاستنباط يظهر أنَّ فيها إعمال فكر ونظر، وقد يكون التدبر الذي ينتج عنه استنباط من آية ظاهرة المعنى لا تحتاجُ إلى تفسيرٍ، وقد يكون من آية ظهر معناها الصحيحُ، فيكون التدبُّر في هذه الحال بعد معرفةِ التفسير، فيتدبَّرُ المتدبر ما يحتويه معنى الآيةِ من وجوه الاستنباطاتِ والفوائد، وهو تدبُّرٌ لاستخراج الحِكَمِ والأحكامِ والآدابِ وغيرِها مما يستنبطُه المستنبطُ، وهذا يعني أنَّ الاستنباطات نتيجةٌ للتَّدبُّرِ.
ومن أمثلةِ هذا القسم من التَّدبُّرِ، ما ذكره ابن القيِّمِ (ت: 751) في كتابه ((زاد المهاجر)) من تفسير قصَّةِ إبراهيم عليه السلام في سورة الذَّارياتِ، قال: ((فصل في: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) [النساء: 82، محمد: 24].
فإن قلتَ: إنَّك قد أشرْتَ إلى مقامٍ عظيمٍ، فا فتحْ لي بابَه واكشفْ لي حجابَه، وكيف تَدَبُّرُ القرآنِ وتَفَهُّمُهُ والإشرافُ على عجائبه وكنوزه؟! وهذه تفاسيرُ الأئمَّةِ بأيدينا، فهل في البيانِ غيرُ ما ذكروه؟.
قلتُ: سأضرب لك أمثالاً تَحْتَذِي عليها، وتجعلها إمَامًا لك في هذا المقصدِ.
قال الله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) [الذاريات: 24- 30].(1/111)
فعهدي بكَ إذا قرأتَ هذه الآية، وتطلَّعتَ إلى معناها، وتدبَّرتها، فإنَّما تَطْلُعُ منها على أنَّ الملائكةَ أتَوا إبراهيمَ في صورةِ الأضيافِ يأكلونَ ويشربون، وبشَّرُوه بغلامٍ عليمٍ، وإنَّما امرأتُه عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة:
أن اللهَ قال ذلك، ولم يتجاوزْ تَدَبُّرُكَ غير ذلك.
فاسمعِ الآنَ بعضَ ما في هذه الآيات من أنواعِ الأسرارِ، وكم قد تضمَّنت من الثَّنَاءِ على إبراهيم؟.
وكيف جمعتِ الضِّيافةَ وحقوقَها؟ وما تضمَّنتْ منَ الرَّدِّ على أهلِ الباطلِ من الفلاسفةِ والمعطِّلةِ.
وكيف تضمَّنتْ علمًا عظيمًا من أعلام النُّبوَّةِ؟.
وكيف تضمَّنتْ جميعَ صفاتِ الكمالِ التي رَدَّهَا إلى العلمِ والحكمةِ؟
وكيف أشارت إلى دليلِ إمكانِ المعاد بألطفِ إشارة وأوضحِها، ثُمَّ أفصحتْ وقوعَه؟.
وكيف تضمَّنتْ الإخبار عن عدلِ الرَّبِّ وانتقامِه من الأممِ المكذِّبةِ، وتضمَّنتْ ذِكْرَ الإسلامِ والإيمانِ والفرقِ بينهما، وتضمنتْ بقاءَ آياتِ الرَّبِّ الدَّالَّةِ على توحيدِه وصدقِ رُسُلِهِ وعلى اليوم الآخرِ، وتضمَّنتْ أنَّه لا ينتفعُ بهذا كلِه إلاَّ من في قلبِه خوفٌ من عذابِ الآخرةِ، وهم المؤمنون بها، وأمَّا من لا يخافُ الآخرةِ ولا يؤمنُ بها، فلا ينتفعُ بتلك الآياتِ؟ فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملةِ)) (1).
ثُمَّ بدأ يسردُ فوائدَ واستنباطاتٍ من هذه الآيات، ولولا طولُها، لذكرتُها.
القسم الثَّالث:- التدبر والتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء:
أغلب ما تؤول إليه حقيقة الشيء يرتبط بما استأثر الله بعلمه، وهو ما يسمى بالمتشابِه الكليِّ، وهذا لا يمكن وقوع التدبر فيه، لأنَّه لا يعلمُه إلاَّ اللهُ، كما سبقَ بيانُه، ومن هنا فالتَّدبُّرُ لا يدخلُ في الغيبيَّاتِ التي استأثرَ اللهُ بعلمها، كزمنِ وقوعِ ما أخبرَ اللهُ بوقوعِه أو كيفيَّاتِ هذه المغيِّباتِ.
__________
(1) زاد المهاجر إلى ربِّه، لابن القيِّم (ص: 63- 68).(1/112)
وبما أنَّ هذا القسم لا يمكنُ أن يقعَ فيه تدبُّرٌ، فإنه ليسَ له مثالٌ يُحكى، واللهُ أعلمُ.
وخلاصة الأمر أنَّ التدبر يقع في المعلوم، وهو معرفة التفسير والاستنباط من القرآن، أما ما لا يدركه العقل من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها فالواجب الإيمان بها دون الدخول في اجتهادات لبيانها، وهي مما لا يحصل بيانه من جهة العقل، ومتى وقع طلبها من جهته حصل الانحراف والزيغ في شرع الله.
المعاني المقاربةِ للتَّدبرِ:
ويقربُ من معنى التَّدبُّرِ التَّفكُّرُ والتَّذكُّرُ والنَّظرُ والتَّأملُّ والاعتبارُ والاستبصارُ، وقد وردت هذه المعاني في القرآن في مواطن.
قال ابن القيِّمِ (ت: 751): ((... وهذا يسمَّى تفكُّرًا وتذكُّرًا ونظرًا وتأمُّلاً واعتبارًا وتدبُّرًا واستبصارًا، وهذه معانٍ متقاربةٌ تجتمع في شيءٍ وتتفرقُ في آخر.
ويسمَّى تفكُّرًا، لأنه استعمالُ الفكرةِ في ذلك، وإحضارُه عنده.
ويسمَّى تذكُّرًا، لأنَّه إحضارٌ للعلمِ الذي يجب مراعاته بعد ذهولِه وغيبتِه عنه، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) [الأعراف: 201].
ويسمَّى نظرًا، لأنَّه التفاتٌ بالقلبِ إلى المنظورِ فيه.
ويسمَّى تأمُّلاً، لأنه مراجعةٌ للنَّظرِ كرَّةً بعد كرَّةٍ، حتى يتجلَّى له وينكشف لقلبِه.
ويُسَمَّى اعتبارًا، وهو افتعالٌ من العبورِ، لأنَّه يَعْبُرُ منه إلى غيرِه، فَيَعْبُرُ من ذلك الذي قد فَكَّرَ فيه إلى معرفةٍ ثالثةٍ، وهي المقصود من الاعتبار، ولهذا يُسَمَّى عِِبْرَةً، وهي على بناءِ الحالاتِ كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ والقِتْلَةِ إيذانًا بأنَّ هذا العلمَ والمعرفةَ قد صار حالاً لصاحبِه يَعْبُرُ منه إلى المقصودِ به، وقال الله تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ) [النازعات: 26].(1/113)
وقال: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ ) [آل عمران: 13].
ويُسمَّى تدبُّرًا، لأنَّه نظرَ في أدبارِ الأمورِ، وهي أواخرُها وعواقبها، ومنه تدبُّرُ القول...)) (1).
الفرقُ بين التَّدبُّرِ والتَّأثُّرِ من سماعِ القرآن:
يخلطُ بعضُ النَّاسِ بين التَّدبُّرِ والتَّأثُّرِ من سماع القرآن، فيجعلونَ القشعريرةَ التي تصيب الإنسان والخشوعَ الذي يلحقُه بسبب تأثيرِ القرآنِ عليه هو التَّدبُّرُ، وليسَ الأمرُ كذلك.
فالتَّدبُّرُ عمليَّةٌ عقليَّةٌ تحدثُ في الذِّهنِ، والتَّأثُّرُ انفعالٌ في الجوارحِ والقلبِ، وقد يكونُ بسبب التَّدبُّرِ، وقد يكونُ بسببِ روعةِ القرآنِ ونظمه، وقد يكونُ بسبب حالِ الشَّخصِ في تلكَ اللَّحظةِ، واللهُ أعلمُ.
مفهوم المفسِّرِ
لم يحظ مصطلح المُفَسِّرِ من علماء القرآن والتفسير بتعريفٍ(2) كما عرَّفوا مصطلح التفسير، ويعتبر كتاب السيوطي (ت: 911) طبقات المفسرين أول كتاب يجمع تراجمهم في كتاب مستقلٍّ، وقد قسم المفسرين إلى أنواع:
النوع الأول: المفسرون من السلف: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين.
النوع الثاني: المفسرون من المحدِّثين، وهم الذين صنفوا التفاسير مسندة مُوردًا فيها أقوال الصحابة والتابعين بالإسناد.
__________
(1) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1: 182).
(2) انظر: قواعد الترجيح عند المفسرين، للشيخ حسين الحربي (1: 33)، فقد قال في تعريف المفسر: ((من له أهلية تامةٌ يعرف بها مراد الله تعالى بكلامه المتعبد بتلاوته، قدر الطاقة البشرية، وراض نفسه على مناهج المفسرين، مع معرفته جُملاً كثيرة من تفسير كتاب الله، ومارس التفسير عمليًا بتعليم أو تأليف)).(1/114)
النوع الثالث: بقية المفسرين من علماء السنة، الذين ضموا إلى التفسيرِ التأويلَ(1) والكلامَ على معاني القرآن وأحكامه وإعرابه وغير ذلك.
النوع الرابع: من صنف تفسيرًا من المبتدعة، كالمعتزلة والشيعة وأضرابهم(2).
ثمَّ قال: ((والذي يستحق أن يسمى من هؤلاء، القسم الأول، ثم الثاني، على أنَّ الأكثرَ في هذا القسم نَقَلَةٌ، وأما الثالث فمؤولة، ولهذا يسمون كتبهم – غالبًا – بالتأويل، ولم أستوف أهل القسم الرابع، وإنما ذكرت منهم المشاهير، كالزمخشري والرُّماني والجبَّائي وأشباههم)) (3).
وهذا يعني أنك لو اعتمدت ما يذكره هو ومن كتب بعده في طبقات المفسرين = لقلت:
المفسر: من كان له مشاركة في علم التفسير، أو كتب فيه.
ويظهر أنَّ هذا سيكون من باب التسامح في المصطلح، دون التحرير له، وهذا ما يشير إليه كلام السيوطي عن الطبقة الثانية، حيث جعل أكثرهم نقلة للتفسير، ومع ذلك ذكرهم في طبقات المفسرين.
ولا شكَّ أن من كتب في طبقات المفسرين لم يكن قصدُه تعريفَ المفسر، بل كان قصدُه إيرادَ من له كتابةٌ في التفسير، دون تحليلٍ لنوع هذه الكتابة، من حيث كونها نقل أو اجتهاد من المفسر.
ولا تكاد تَجِدُ ضابطًا في إيراد فلان من العلماء في عِداد المفسرين، ولذا ترى من أصحاب التراجم إدخالاً لبعض الصحابة في المفسرين، وإن كان الوارد عنهم فيه قليلٌ، كزيد بن ثابت (ت: 45) وعبدالله بن الزبير (ت: 73).
__________
(1) هذا على المصطلح الحادث، وقد سمَّاهم أصحاب هذا القسم = مؤولة كما سيأتي، وقد عرفت مما سبق أن هذا المصطلح غير صحيح، وما سيبنى عليه فإنه سيكون غير صحيح أيضًا، ومنه هذه التسمية المطلقة لمن جاء بعد السلف.
(2) ينظر: طبقات المفسرين (ص: 9- 10).
(3) طبقات المفسرين (ص: 10).(1/115)
وقد يكون في ذلك تساهل في عَدِّهِمْ من المفسِّرين، وإذا نظرت إلى بعضهم وجدت أنه قد برز في بعض العلوم، فزيد بن ثابت (ت: 45) كان مقرئًا، وهو الذي قام بكتابة المصحف، وكان فرضيًّا، فقد يكون بسبب بروزه في هذين العلمين – خصوصًا لعلم القراءة المتعلِّق بالقرآن – تُسُمِّحَ في إطلاق لقب المفسر عليه، والله أعلم.
والبروزُ العلميُّ العامُّ لا يلزمُ منه البروز في علمٍ معيَّنٍ من العلومِ، بل لقد كانَ علمُ الفقه وعلمُ القراءةِ أشهرَ العلومِ التي كانَ الصحابة يعلِّمونها للتَّابعينَ، ولذا لا يُستبعدُ أنَّ من كتبَ في طبقاتِ المفسِّرين قد تأثَّر بكتاباتِ من سبقَه في طبقاتِ الفقهاءِ، وأدخلَ بعضهم في علمِ التَّفسيرِ، وإنْ لم يكن من المعتنينَ به.
ولا يعني إخراجُ فلان من العلماء المتقدِّمين أو المتأخِّرينَ من عِدادِ المفسِّرينَ نقصًا في حقِّه، أو حطًّا من منْزلتِه العلميَّةِ، لا يعني ذلك هذا أبدًا، وعدمُ ورودِ هذه المزيَّةِ الخاصَّةِ لا يعني انتفاء المزيَّةِ العامَّةِ، وكونه من العلماءِ.
ولو سبرت المفسرين المذكورين في كتب طبقات المفسرين، واطَّلعت على ما دوَّنوه من منجزاتهم في التفسير = لظهر لك أنَّهم لا يخرجون عن أربعة أنواع:
الأول- طبقة المجتهدين الأُوَلِ:
وهم مفسروا السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، الذي دونت أقوالهم في كتب التفسير المسندة. وقد كان لهؤلاء اجتهاد واضح في التفسير، وكانوا أصحاب آراءٍ فيه، فمن المفسرين من جيل الصحابة: ابن مسعود (ت: 35) وابن عباس (ت: 68).(1/116)
ومن المفسرين من جيل التابعين: أبو العالية (ت: 93)، وسعيد بن جبير (ت: 94)، والشعبي (ت: 103)، ومجاهد بن جبر (ت: 104)، والضحاك بن مزاحم (ت: 105)، وعكرمة (ت: 105)، والحسن البصري (ت: 110)، وعطاء بن أبي رباح (114)، وقتادة (ت: 117)، ومحمد بن كعب القرظي (ت: 118)، والسدي (ت: 128)، وزيد بن أسلم (ت: 136)، وأبو مالك غزوان الغفاري (ت: ؟).
ومن المفسرين في جيل أتباع التابعين: الكلبي (ت: 146)، ومقاتل بن حيان (ت: 150)، ومقاتل بن سليمان (ت: 150)، وابن جريج (ت: 150)، وسفيان الثوري (ت: 161)، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182)، ويحيى بن سلام البصري (ت: 200).
وقد ظهر في عهد أتباع التابعين جمع من اللُّغويين كان لهم رأي واجتهاد في تفسير القرآن، وإن كان يغلب عليه الجانب اللغوي، كقطرب (ت: 206)، والفراء (ت: 207)، وأبي عبيدة (ت: 210)، وغيرهم. وكلُّ أولئك كان لهم رأي واجتهاد في التفسير، ولم يكونوا مجرد نقلة له.
كما شاركَ بعضُ المعتزلةِ في علمِ التَّفسيرِ، كأبي بكرٍ عبدالرحمن بن كيسان الأصمِّ (ت: 201) (1)، ويوسفَ بن عبدالله الشَّحَّامِ (ت: 233) (2)، وغيرهم(3)
__________
(1) عبدالرحمن بن كيسان، أبو بكر الأصم، شيخ المعتزلة، كان = ديِّنًا وقورًا، صبورًا على الفقرِ، منقبضًا عن الدولة، وكان فيه ميلٌ عن أمير المؤمنين علي، مات سنة (201). المنية والأمل (ص: 52)، وسير أعلام النبلاء (9: 402).
(2) يوسف بن عبدالله بن إسحاق الشَّحَّام، من أصحاب أبي الهذيل، وأخذ عنه أبو علي الجبائي، انتهت إليه رئاسة المعتزلة في البصرة في وقته، اشتغل ناظرًا في دواوين الواثق، توفي سنة (233). المنية والأمل (ص: 61)، وسير أعلام النبلاء (19: 552).
(3) ورد ذكر كتاب في التفسير لعمرو بن فايد، وكتاب لموسى الأسواري، وهما معتزليان من طبقة الأصمِّ، انظر: المنية والأمل (ص: 54)، ولهما ذكرٌ في كتاب البيان والتبيين، للجاحظ (1: 368، 369).
وقد ذُكرَ لأبي الفضل جعفر بن حرب كتابٌ في متشابه القرآن، انظر: سير أعلام النبلاء (10: 550)، وكتاب في التفسير للقاسم بن الخليل الدمشقي، انظر: سير أعلام النبلاء (10: 556)، وكلهم من المعتزلة.(1/117)
، وقد كان بعضُ اللُّغويِّين منهم، كقطرب (ت: 206)، والأخفش (ت: 215).
ولا شكَّ أنَّ معتقداتهم العقليَّة كان لها أثرٌ على تفسيرِهم، ولم يصلْ من كتبِهم التَّفسيريَّةِ في هذه الفترةِ سوى معاني القرآنِ للأخفشِ (ت: 215)، ونزعةُ الاعتزالِ واضحةٌ فيه.
الثاني- نَقَلَةُ التفسير:
وهم جملة من المحدِّثين وغيرِهم ممن لم يكن لهم إلاَّ النقل لتفسير من سبقهم، ولم يكن لهم فيه أيَّ رأي واجتهاد، ومنهم: عبدالرزاق الصنعاني (ت: 211)، حيث تجده في كتاب التفسير يسنده في أغلبه إلى قتادة (ت: 117) من طريق شيخه معمر بن راشد الصنعاني (ت: 154)، ولا تجد له أي نقد أو نقاشٍ لما يرويه، بل يكتفي بالإسناد إلى المفسرين، ويمكنُ أن يُطلقَ عليهم وعلى أمثالِهم ((مشاركون في التَّفسيرِ)).
ومع ذلك تجد أنَّ الذين كتبوا في طبقات المفسِّرين يَعُدُّون عبدالرزاق الصَّنعانيِّ (ت: 211) من المفسرين، وهذا فيه تَسَمُّحٌ وتجوُّزٌ، وقد فعلوا هذا مع غيره فعدُّوهم في طبقاتِ المفسِّرين، كعبد بن حميد (ت: 249)، وابن المنذر (ت: 319)، وعبدالرَّحمن بن أبي حاتم (ت: 327)، وغيرهم من نَقَلَةِ التفسير الذين لم يتصدوا لترجيح الروايات ونقدها.
الثالث- المفسر الناقد:(1/118)
وهو الذي يجمع مرويات المفسرين ويرجح بينها، وإمامُ هذه الطريقة ابنُ جرير الطبري (ت: 310) (1)، حيث كان يذكر ما وصله من المرويات التفسيرية عن السلف، ثمَّ يرجح بينها بقواعد الترجيح التي تعتبر من أهم ميزات كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
والمفسر الناقد صاحب رأي، لأنه يستعرض الأقوال المذكورة في الآية، ثمَّ يختار منها ما يراه راجحًا، فاختياره قولاً من الأقوال دون غيره رأيٌ وانجتهادٌ منه، ولذا فهو من الذين لهم رأي في التفسير.
الرابع- المفسر المتخيِّر قولاً واحدًا:
وهو أن يعمد المفسر إلى أقوال التفسير فيختار منها قولاً دون غيره، ولا يتعرَّض لنقد ما سواه، فهو في تخيره يوافق المفسر الناقد، غير أنَّ المفسر الناقد يتميز عنه بنقده الغالب لما لا يختار، وعمل المفسر المتخير شبيه بعمل بعض الفقهاء لكتب مذهبهم، حيث كتب بعضهم كتابًا على قول في المذهب، وأغلب المختصرات التفسيرية، كتفسير الجلالين، من هذا النوع، ويظهر أنَّ أول من قام بهذه الطريقة علي بن أحمد الواحدي (ت: 468) الذي كتب ثلاث كتب في التفسير:
الأول: البسيط، وحشد فيه الأقوال، وتعرض فيه للترجيح.
الثاني: الوسيط، وهو أقلُّ عرضًا للأقوال والترجيح من البسيط.
__________
(1) يقول الفاضل بن الطاهر بن عاشور في كتابه: التفسير ورجاله = (ص: 28)، وهو يتحدث عن يحيى بن سلام البصري: ((... وهو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير النقدي، أو الأثري النظري التي سار عليها ابن جرير واشتهر بها، ذلك هو تفسير يحيى بن سلام التميمي البصري الأفريقي، المتوفى سنة 200... فبعد أني يورد الأخبار المروية مفتتحًا إسنادها بقوله: ((حدثنا))، يأتي بحكمه الاختياري مفتتحًا بقوله: ((قال يحيى))، ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوي، والتخريج الإعرابي..)).(1/119)
الثالث: الوجيز، وجعله على قولٍ واحدٍ، قال في مقدمته: ((وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا تعجيلاً لمنفعتهم، وتحصيلاً للمثوبة في إفادتهم بما تمنوه طويلاً، فلم يغنِ عنهم أحد فتيلاً، وتاركٌ ما سوى قولٍ واحدٍ مُعْتَمَدٍ لابن عباس رحمة الله عليه، أو من هو في مثل درجته)) (1).
وبعد هذا العرض لأنواع المشاركين في علم التفسير، اجتهدت في بيان من يمكن أن ينطبق عليه هذا المصطلح منهم، فظهر لي أن يكون تعريف المفسِّر:
من كان له رأي في التفسير، وكان متصديًا له.
فمن انطبق عليه أحدهما خرج بذلك عن أن يكون مفسِّرًا بالمعنى المصطلح عليه للتفسير، وهو بيان معاني القرآن.
فإن كان بعض المشاركينَ في التَّفسيرِ لا رأي لهم، كناقلي التَّفسير الذين لا رأي لهم فيه، بل كان همُّ أحدهم أن يجمع المرويات التي بَلَغَتْهُ عن السلف = فإنهم لا يدخلون في عداد من يبين كلام الله.
وإن كان ممن يُقرأُ عليه كتاب من كتبِ التَّفسيرِ، وليس له عليه أيُّ تعليقٍ تفسيريِّ = فإنَّه لا عمل له في التَّفسيرِ، وليس من المفسِّرين ما دام هذا سبيله.
وإن كان له آراء، لكنها قليلة = فإنه لا يدخل في هذا المصطلح، والله أعلم.
وأخيرًا...
بعد هذا العرض لهذه المصطلحات، أرجو أن لا يكون فيها شيء من التمحُّل والتكلُّف، وإنما حرصت على بيانها لأنها تدعو إلى الانضباط في المعلومات، وتجعل المرء يميِّز بين المتشابه منها، فلا تتداخل عليه المعلومات، ويعرف بها كثيرًا من الزيادات التي لا تدخل في المصطلح، ويبين له متى دخلت، وكيف دخلت، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ثبت المراجع والمصادر
أبجد العلوم، لصديق خان القنوجي.
أحكام القرآن، لابن العربي، تحقيق: علي محمد البجاوي.
الإكليل في استنباط التَّنْزيل، للسيوطي.
__________
(1) تفسير الوجيز، للواحدي، بهامش التفسير المنير لمعالم التنزيل المسمى: مراح لبيد (ص: 2).(1/120)
البحر المحيط، لأبي حيان، تحقيق: عرفات العشا حسونة.
بغية المرتاد، لابن تيمية، تحقيق: الدكتور موسى الدويش.
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم، تصحيح: طه يوسف شاهين.
التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور.
التسهيل لعلوم التنْزيل، لابن جزي الكلبي.
تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد الطيب.
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة.
تفسير الوجيز، للواحدي، بهامش التفسير المنير لمعالم التنْزيل المسمى: مراح لبيد.
تفسير سورة الإخلاص، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: الدكتور عبدالعلي عبدالحميد حامد، نشر الدار السلفية، بومبي/الهند، ط1، 1406.
التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي.
التفسير ورجاله، للفاضل بن الطاهر بن عاشور.
تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق: محمود شاكر، مسند ابن عباس، السفر الأول.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، تحقيق: محمود شاكر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري، ط: الحلبي.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط: دار الكتب المصرية.
درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم.
دقائق التفسير، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد السيد الجليند.
روح المعاني، للآلوسي.
زاد المهاجر إلى ربِّه، لابن القيِّم.
سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط: دار الرسالة.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد سعد الحمدان.
طبقات المفسرين، للسيوطي.
العباب الزاخر واللباب الفاخر، للصغاني، تحقيق: محمد حسين آل ياسين.
غريب الحديث لابن الجوزري.
الكشاف، للزمخشري.
لباب التأويل في معاني التنْزيل، للخازن.
لمحات في علوم القرآن، لمحمد لطفي الصباغ.
مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان.
مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن قاسم.
المحرر الوجيز، لابن عطية، ط: قطر.
مفتاح دار السعادة، لابن القيم.(1/121)
مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان داوودي.
مقاييس اللغة، لابن فارس، تحقيق: عبدالسلام هارون.
مقدمة جامع التفاسير، للراغب الأصفهاني، تحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات.
مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: الدكتور عدنان زرزور.
مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبدالعظيم الزرقاني.
الموافقات، للشاطبي، تحقيق: محيي الدين عبدالحميد.
الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: الدكتور سليمان اللاحم.
نزهة العين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لابن الجوزي، تحقيق: حاتم الضامن.
النَّشر في القراءات العشر، لابن الجزري.
النِّكت والعيون، للماوردي، تحقيق: السَّيد بن عبدالرحيم بن عبدالمقصود.
وغيرها من المراجع المذكورة في حواشي الكتاب.(1/122)
مصادر التفسير
(1)
تفسير القرآن بالقرآن
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
يراد : بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله ، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين وتابعيهم ، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل: »المراجع الأولية«؛ لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر ، ولكن الحديث هنا ليس عنها.
وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على تسميتها بـ(طرق التفسير) ، ذكر منها أربعة ، وهي: القرآن ، والسنة ، وأقوال الصحابة ، وأقوال التابعين في التفسير(1).
وجعلها بدر الدين الزركشي (ت: 794هـ) مآخذ التفسير ، وذكر أمهاتها ، وهي أربع: النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الأخذ بقول الصحابة ، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع(2). وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعاً ـ إن شاء الله تعالى ـ .
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه ، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن(3) ، وقال آخر: إنه من أبلغ التفاسير(4)، وإنما يُرْجَع إلى القرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ إجمال في آية تبيّنه آية أخرى ، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى ، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى : بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح ، والمفَسّر حينما يُجْري عملية التفسير ، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه.
فتفسير المفسر لمعنى »عُطّلت« في قوله (تعالى): ((وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ)) [التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت ، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.(1/123)
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان معنى اللفظة في الآية.
ومن هنا ، فهل كل ما قيل فيه: (تفسير القرآن بالقرآن) يعني أن البيان عن شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرتها ، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: لما نزلت ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82].
قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون ، ((لم يلبسوا إيمانهم بظلم)): بشرك ، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13]«(5).
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي (ت: 1393هـ): (ومن أنواع البيان المذكورة أن يكون الله خلق شيئاً لحِكَمٍ متعددة ، فيذكر بعضها في موضع ، فإننا نُبيّن البقية المذكورة في المواضع الأُخر).
ومثاله: قوله تعالى: ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا)) [الأنعام: 97].
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدنيا ، ورجم الشياطين أيضاً ، كما بينّه (تعالى) بقوله: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ)) [الملك: 5] وقوله: ((إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ)) [الصافات: 6 ، 7](6).
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: (ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ ، ومن طينٍ في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصالٍ ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه)(7).
نقد الأمثلة:(1/124)
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي:
ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى ، أي: إن القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد ، وهو حكمة خلق النجوم ، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان ، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف ، لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من مصدر آخر خارج عن الآيات؟
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين ، ولا بالحمأ المسنون...إلخ ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيها ، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى تزيل هذا الإشكال ، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات وترتيبها في الوجود ، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم عليه السلام ، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل ، حيث كان آدم تراباً ، ثم طيناً ، ثم... إلخ.
وبهذا يظهر جليّاً أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى ، وإن كان في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه تفسير قرآن بقرآن ، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى ، فإنه ليس تعبيراً مطابقاً لهذا المصطلح ، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:(1/125)
ظهر مما سبق أن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) قد استُعمل بتوسع في تطبيقاته ، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين ، خاصة من نصّ على هذا المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير (ت: 774هـ) ، والأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) ، والشنقيطي (ت: 1393هـ).
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [الشعراء: 3] حيث قال: »أي قاتلها لعدم إيمان قومك.
»تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) [الحجر: 88] وفي الكهف: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف: 6]. وفي فاطر: ((فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)) [فاطر: 8]. ونحوه: ((إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ)) [النحل: 37]. ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة ، ومحبته لإسلامهم ، وشدة حرصه على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ«(8).
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن ، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن اعتبار كتب (متشابه القرآن)(9) ، وكتب (الوجوه والنظائر) من كتب تفسير القرآن بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب (متشابه القرآن) توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر ، وقد يقع الخلاف بينهما في حرف أو كلمة ، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب (الوجوه والنظائر) تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات ، وتذكر وجه الفرق فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:(1/126)
إن مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري (ت: 310هـ) بسنده في تفسير قوله تعالى: ((وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ)) [الطور: 6] قال: »الموقَد ، وقرأ قول الله تعالى: ((وَإذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ)) [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ«(10).
أما كتب التفسير ، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1) الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في كتابه (تفسير القرآن العظيم).
(2) الأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) في كتابه: (مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن).
(3) الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت1393هـ) في كتابه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)(11).
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) ، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان ، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ تعبيراً دقيقاً عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى ، وهو بهذا مصطلح مفتوح ، يشمل أمثلة كثيرة.
وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير ، وأنها قد سارت عليه ، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولاً: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخل في هذا المصطلح ما يلي:
1- الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عاماً في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82]. وقد خصّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشرك ، واستدل له بقوله تعالى: ((إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13].(1/127)
ـ وفي قوله تعالى: ((وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)) [الإسراء: 24].عموم يشمل كل أبٍ: مسلم وكافر ، وهو مخصوص بقوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى)) [التوبة: 113].فخرج بهذا الاستغفار للأبوين الكافرين ، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان(12).
2- الآية المبيّنة لآية مجملة:
ـ أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقرة: 3] ، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منها ، وذلك كقوله: ((وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ)) [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منها ، على أصحّ التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور...(13).
ـ وفي قوله تعالى: ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) [المائدة: 1] ، إجمال في المتلو ، وقد بيّنه قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)) [المائدة: 3].
3- الآية المقيدة لآية مطلقة:
ـ أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض ، كما في قوله تعالى: ((وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ)) [الشورى: 5] ، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) [ غافر: 7].(1/128)
ـ وفي قوله تعالى: ((إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)) [آل عمران: 90] ، إطلاق في عدم قبول التوبة ، وهو مقيّد في قول بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت ، ودليل التقييد قوله تعالى: ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)) [النساء: 14].
4- تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ »سِجّيل« في قوله تعالى: ((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ)) [هود: 82] ، والممطر عليهم هم قوم لوط (عليه الصلاة والسلام) ، وقد وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين ، في قوله تعالى: ((قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ)) [الذاريات: 32 ، 33](15).
5- تفسير معنى آية بآية أخرى:
التسوية في قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ)) [النساء: 42] ، يراد بها: أن يكونوا كالتراب ، والمعنى: يودّون لو جُعِلوا والأرض سواءً ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: ((وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً)) [النبأ: 40](16).
ثانياً: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخل في هذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسير ، وإن لم يكن في الآية ما يشكل فتُبَيّنُهُ الآية الأخرى ، ومن أمثلته ما يلي:
1- الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:(1/129)
سبق مثال في ذلك ، وهو: مراحل خلق آدم(17) ، ومن أمثلته عصا موسى (عليه الصلاة والسلام)؛ حيث وصفها مرة بأنها ((حَيَّةٌ تَسْعَى)) [طه: 20] ، ومرة بأنها ((تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ)) [النمل: 10] ، ومرة بأنها ((ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ)) [الأعراف: 107] ، فاختلف الوصف والحدث واحد ، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله (سبحانه) جعل عصا موسى كالحية في سعيها ، وكالثعبان في عِظَمها ، وكالجان (وهو: صغار الحيّات) في خِفّتِها(18).
2- تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثها ، بل قد يزاد فيها أو ينقص في الموضع الآخر ، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة ، ومثال ذلك:
قوله (تعالى): ((إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ)) [طه: 40] ، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية ، وهي:
1- أنها مرسلة من قبل أمها.
2- أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3- أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله (تعالى): ((وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)) [القصص: 11 ، 12](19).
3- جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله (تعالى): ((قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ)) [الأنعام: 33].(1/130)
قال: »صرح (تعالى) في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما يقوله الكفار في تكذيبه ، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخرى كقوله: ((فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات)) [ فاطر: 8] ، وقوله: ((فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)) [المائدة: 68] ، وقوله: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً)) [الكهف: 6] ، وقوله: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [الشعراء: 3].
والباخع: المهلك نفسه...إلخ(21).
4- جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر »وصفاً« وُصف به شيء ، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي وصفت به ، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن ورودها ، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني »والبقعة مباركة (لما)(21) وصفها الله لما أفاض (تعالى) (فيه)(22) من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة ، حيث قال: ((وَنَجَّيْنَاهُ)) أي: إبراهيم ((وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: ((إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)) [ال عمران: 96].
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: ((شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ)) [النور: 35](23).(1/131)
* ومن أمثلة الثاني قوله: »وسمّى الله كتابه هدى في آيات: ((ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)) [البقرة: 2] ، ((إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)) [الإسراء: 9] ، ((قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)) [ فصلت: 44] ، وفي لقمان: ((هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ)) [لقمان: 3] ، وفي النحل: ((تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل: 89] ، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين ، وفي يونس: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)) [يونس: 57](24).
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسير إما أن يكون طريقه النقل ، وإما أن يكون طريقه الاستدلال ،
والأول: يطلق عليه (التفسير المأثور) ،
والثاني: يطلق عليه (التفسير بالرأي).
ومن هنا فإن تصنيف (تفسير القرآن بالقرآن) ، في أحدهما يكون بالنظر إلى القائل به أولاً ، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به ، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ ـ اجتهاداً منه ـ إلى الربط بين آية وآية ، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط ، وعليه فإنه لا يلزم قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من التابعين وغيرهم ، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:(1/132)
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً ، فإنه يكون أبلغ التفاسير ، ولذا: فإن ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبلغ من وروده عن غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن ، بل لأن المفسّر به هو النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مفاتح الغيب(26) خمسٌ ، ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34](26).
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر ، والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً ، بحيث يجب قبوله ممن هو دون النبي -صلى الله عليه وسلم- ، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع التي يجب الأخذ بها في التفسير(27).
هذا.. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيراً:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي ، لا يعني صعوبة الوصول إليه في كل حالٍ ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ـ ولا يكاد يختلف في تفسيرها اثنان ، مثل تفسير »الطارق« في قوله (تعالى): ((وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ)) [الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله (تعالى): ((النَّجْمُ الثَّاقِبُ)) [الطارق: 3] ، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن ، والله أعلم.
الهوامش :
(1) مقدمة في أصول التفسير ، (ت: د. عدنان زرزور) ، ص93 وما بعدها.
(2) انظر: البرهان في علوم القرآن ، جـ2 ، ص156-164.(1/133)
(3) شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في (أصول التفسير) ، (ت: عدنان زرزور) ، ص93.
(4) ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن) ، (ت: طه شاهين) ، ص116.
(5) رواه الإمام البخاري ، انظر: فتح الباري (ط: الريان) ، جـ6 ، ص448 ، ح3360.
(6) أضواء البيان ، جـ1 ، ص87.
(7) التفسير والمفسرون ، جـ1 ، ص42.
(8) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن ، للأمير الصنعاني ، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني (رسالة ماجستير ، على الآلة الكاتبة) ص71،72 ، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
(9) تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين:
الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها ، وهذه الكتب تخص القراء.
الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة ، وهذا المقصود هنا ، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره.
(10) تفسير الطبري ، جـ27 ، ص19 ، وانظر له في الجزء نفسه ص22 ، 37 ، 38 ، 61 ، 69 ، 74 ، 76 ، 92 ، 113 ، 120 ، وفي الجزء نفسه عن علي ص18 ، وابن عباس ، ص55 ، 72 ، وعكرمة ، ص72.
(11) يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة ، وهي كالتالي:
1- جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك.
2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي ، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير ، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
(12) انظر: تفسير الطبري ، جـ15 ، ص6768 ، والتحرير والتنوير ، جـ15 ، ص72.
(13) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص107،108.
أضواء البيان جـ1 ص 343.
(14) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص343.
(15) انظر: أضواء البيان ، جـ1 ، ص86.
(16) انظر: تفسير الطبري ، جـ5 ، ص93 ، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي ، جـ1 ، ص246.
(17) انظر: ص4 من المجلة نفسها.(1/134)
(18) انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل ، للرازي ص327 ، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني ، ص282،283 ، وتيجان البيان في مشكلات القرآن ، للخطيب العمري ، ص173.
(19) انظر: أضواء البيان ، جـ4 ، ص408.
(20) أضواء البيان، جـ2، ص189، وانظر:مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71،72.
(21) كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق ، حيث قال المحقق: والصواب (كما).
(22) الصواب (فيها) انظر: حاشية 7 ، ص194 ، من التحقيق.
(23) مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن ، ص194.
(24) المصدر السابق ، ص188،189.
(25) وردت في قوله (تعالى): ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)) [الأنعام: 59].
(26) رواه البخاري ، انظر: فتح الباري ، جـ8 ، ص141.
(27) سبق أن طرحتها في مجلة البيان ، ع76 ، ص15.(1/135)
مصادر التفسير
(2)
التفسير بالسنة
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
ثلاث مسائل متممة للحديث عن التفسير بالسنة:
المسألة الأولى: التفسير بالسنة عند المحدّثين:
يورد المحدثون التفسير النبوي والتفسير بالسنة في كتبهم تحت كتاب يعنونونه بـ (كتاب التفسير).
وممن كتب في هذا الباب: الإمام البخاري في صحيحه، والنسائي في سننه الكبرى، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه(1).
وما أريد إبرازه هنا أمران:
الأول: أن استعمالهم للتفسير بالسنة كثير.
الثاني: أن ربطهم معنى الحديث بالآية وذكر ذلك تحت آية من الآيات التي يعنونون بها الأبواب هو اجتهاد خاص بهم، مما يعني أنهم شاركوا في هذا الجانب من التفسير.
وقد كان هؤلاء المحدّثون يحرصون على إيراد مايصلح من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- تفسيراً لآية، ولو من طرف خفي.
بل كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يوردون مايتعلق بالآية من الأحاديث لأي سبب كان؛ كذكر بعض لفظ الآية في الحديث أو ذكر قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتلك الآية في زمن مخصوص، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يدل على مدى حرصهم واهتمامهم بربط الآية بما يتعلق بها من الحديث النبوي، وإن لم يكن جائياً في مساق التفسير، وقد أشار إلى هذا بعض شراح صحيح الإمام البخاري، ومنهم:
1- أبو مسعود الكنهكوهي (ت: 1323)، قال: ثم الذي ينبغي التنبه له: أن التفسير عند هؤلاء الكرام أعمّ من أن يكون شرح كلمة، أو بيان مايُقرأ بعد تمام سورة، ولا أقّل من أن يكون لفظ القرآن وارداً في الحديث.
وكون الأمور المتقدمة من التفسير ظاهر(2)، وإنما الخفاء في هذا الأخير والنكتة فيه: أن لفظ الحديث يفسر لفظ القرآن بحيث يُعلم منه أن المراد في الموضعين واحد، وكثيرا مايُكشف معنى اللفظ بوقوعه في قصة وكلام لايتضح مراده لو وقع هذا اللفظ في غير تلك القصة؛ فإذا لاحظ الرجل الآية والرواية معا كانت له مُكنة على تحصيل المعنى(3)).(1/136)
2- وقال (صاحب الفيض): (ثم اعلم أن تفسير المصنف (أي: البخاري) ليس على شاكلة تفسير المتأخرين في كشف المغلقات، وتقرير المسائل، بل قصد فيه إخراج حديث مناسب متعلق به ولو بوجه)(4).
وبهذا يتلخص أن المحدّثين يوردون من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يصلح أن يكون تفسيرا، كما يوردون ما يتعلق بالآية ـ من كلامه أوفعله ـ لأدنى سبب.
ومن أمثلة الأول (ما يصلح من كلامه تفسيرا):
1- ترجم البخاري في باب: ذكر إدريس (عليه السلام) بقوله (تعالى): ((ورفعناه مكانْا عليا)) [مريم: 57] ثم روى تحت هذا الباب حديث المعراج، وفيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجد في السموات إدريس وموسى وعيسى....)
2- وذكر النسائي تحت قوله (تعالى): ((فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) [ النساء: 140] حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ويلٌ للذي يحدث القوم فيكذب، فيضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)(6).
3- وذكر الترمذي في تفسير قوله (تعالى): ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ)) [السجدة: 17] حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: (إن موسى ـ عليه السلام ـ سأل ربه، فقال: أي رب، أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أدخل الجنة.
فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزلوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، قال: فيقال له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟
فيقول: نعم، أي ربّ، قد رضيت. فيقال له: فإن لك هذا، ومثله، فيقول رضيت أَيْ ربّ.
فيقال له: فإن لك هذا، وعشرة أمثاله. فيقول: رضيت أي ربّ، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك)(7).
ومن أمثلة الثاني (مايكون لأدنى سبب ):(1/137)
1- ماذكره البخاري تحت باب ((وهوألد الخصام)) [البقرة: 204]، من حديث عائشة (رضي الله عنها)، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أبغضُ الرجال إلى الله الألد الخَصِم)(8).
2- وتحت تفسير قوله (تعالى): ((قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ)) [المائدة: 111] أورد النسائي أثر ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما إلى قوله: ((قولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْنَا)) [البقرة: 136] إلى آخر الآية، وفي الأخرى ((قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ)) [المائدة:111](9).
المسألة الثانية: نظرة وصفية لأمثلة التفسير النبوي:
من خلال إلقاء نظرة سريعة على الوارد من التفسير النبوي يمكن فهرسة الأمثلة تحت عناوين كالتالي:
1- بيان معنى لفظة:
إن المتأمل في ما نقله الصحابة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاحظ أنهم لم يوردوا عنه تفسيراً للألفاظ، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن ذلك بسبب معرفتهم المعاني اللغوية؛ لأنهم عرب يفهمون معاني الخطاب، ولو ورد لهم استشكال في فهم ألفاظه أو مدلولاته اللغوية لسألوا عنها، ومما يدل على ذلك حديث ابن مسعود في نزول آية: ((الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] فهم فهموا الظلم بمعناه العام في لغتهم (أي أنهم استشكلوا مدلول لفظة: الظلم) فشق عليهم هذا الخطاب حتى بينه لهم رسول الله.
إذن .. لم يكن الصحابة بحاجة إلى بيان المفردات اللغوية، ولذا لم يرد في التفسير النبوي إلا نادراً، ومنه ماجاء عن أبي سعيد الخدري من تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للفظة (وسطاً) من قوله (تعالى):-((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة: 143] قال (والوسط العدل) (10).
2- بيان حكم فقهي في الآية:(1/138)
قد يرد الحكم في آية مطلقا فيذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مزيد بيان له، وذلك إما بتحديد مقدار الحكم الفقهي، أو تخصيص اللفظ العام أو غير ذلك.
ومن تحديد المقدار: مارواه البخاري في تفسير قوله (تعالى): ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أََوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاًسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أََوْ نُسُكٍ)) [البقرة: 196] عن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ماكنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاه؟
قلت: لا
قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك) فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة(11).
فأنت ترى أن البيان القرآني لم يحدد المقدار في الفدية، فلما فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسرها بالمقدار، وأنت تعلم أن هذا أحد أنواع بيان السنة للقرآن.
ومن تخصيص العام في الحكم الفقهي، مارواه مسلم عن أنس قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله (عز وجل) ((َيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)) [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)(12).
فلو أُخذ بظاهر العموم في قوله (فاعتزلوا) لفهم أن اعتزال المرأة عام: في مؤاكلتها ومشاربتها ومخالطتها ومجامعتها، فكان هذا البيان النبوي مخصصا لذلك العموم القرآني.
3- بيان المشكل:
إنما يعرف المشكل بسؤال الصحابة عنه؛ لأن السؤال لايقع إلا بعد استشكال ـ في الغالب ـ ومن أمثلة ماسأل عنه الصحابة: حياة الشهداء.(1/139)
قال مسروق: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ((َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) [آل عمران: 169] فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فأخبرنا أن أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل..) الحديث (13).
وعن المغيرة بن شعبة (رضى الله عنه) قال: لما قدمتُ نجران سألوني: إنكم تقرؤون: ((ياأخت هارون)) [مريم: 28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.
فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألته عن ذلك فقال: إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم) (14).
4- ذكر مصداق كلامه من القرآن:
ورد في تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة يذكر فيها مصداق كلامه من القرآن، وتأتي عبارات: (ثم قرأ) (اقرؤا إن شئتم) (مصداق ذلك من كتاب الله)، ومن ذلك مارواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه غضبان، وقال عبد الله: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصداق ذلك من كتاب الله جل ذكره: ((إنَّ الَذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ..)) [آل عمران: 77](15).
5- بيان مبهم:
القاعدة الغالبة أن ما أبهمه القرآن فلا فائدة عملية تنال من ذكره، ومع ذلك فإنه ورد سؤال الصحابة عن ذلك، إلا أنه نادر، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟.
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، فقلت: يارسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟(1/140)
قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا؛ لمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره)(16).
أخيراً..
هذه بعض الأمثلة للتفسير النبوي، والموضوع يحتاج إلى جمع وتأمل لتحديد نوع المثال، مما يفيد في معرفة ماكان يحتاجه الصحابة من البيان النبوي للقرآن، ولعل أقرب ما يذكر هنا هو ندرة ماورد عنه صلى الله عليه وسلم من بيان معنى غريب القرآن؛ مما يترتب عليه أن فهم عربية القرآن كان موكولًا للصحابة (رضي الله عنهم)، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يستفاد من التفسير النبوي في أصول التفسير:
إن النظر في التفسير النبوي، واستنطاق الأمثلة التفسيرية فيه يفيد في جوانب عدة، ومما يفيده هنا أن طريقة التفسير النبوي أصل معتمد في التفسير، فإذا ورد عنه تعميم للفظ، أو تفسير بمثاٍل، أو غير ذلك، حُكِم بصحة هذه الأساليب التفسيرية في التفسير، وأنها في المجال الذي يمكن الاقتداء به ولاقياس عليه.
كما أنه يفيد في بيان صحة بعض الأساليب التي اعتمدها المفسرون من السلف.
ثم إن هذا يفيد في تصحيح بعض مرويات السلف التي جاءت مخالفة للعبارة النبوية في التفسير، ذلك أن تحرير هذه الأساليب في التفسير النبوي يبين مدى احتمال النص لغير عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيما أظن ـ حسب علمي ـ أن (فِقهَ النصّ التفسيري) من التفسير النبوي لم يلق عناية من هذا الجانب، ولذا قمت بهذه المحاولة الاجتهادية لبيان هذه الفكرة من خلال أمثلة توضح ذلك.
إن مثل هذه الدراسة السريعة لا تكفي في تأصيل قضية كهذه، ولكنه جهد المقل، وبذرة ألقيها لتجد طريقها إلى النماء ـ إن شاء الله ـ وإليك أخي القارئ عرض الأمثلة:
* المثال الأول:(1/141)
عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه) قال: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ وهو على المنبر ـ يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ)) [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)(17).
وجاء عن جمع من السلف ما يلي:
1- لقوة: الرمي من القوة (مكحول).
2- لقوة: الرمي والسيوف والسلاح (ابن عباس)
3- مرهم بإعداد الخيل (عبّاد بن عبد الله ابن الزبير)
4- لقوة: ذكور الخيل (عكرمة ومجاهد) .
5- لقوة: الفرس إلى السهم ومادونه (سعيد بن المسيب) (18).
لقد فسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- القوة بالرمي، فهل يُطّرح ماورد عن السلف من عبارات مخالفة لما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم-، ويقال: مادام النص قد ثبت طاح ما دونه.
أم يقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يشير إلى القوة التي هي أنكى أنواع القوة، وأشدها تأثيراً في الحرب؟.
الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد هذا، وقد أشار إلى ذلك الإمام الطبري فقال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، ومايتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين من السلاح والرمي، وغير ذلك، ورباط الخيل.
ولا وجه لأن يقال: عنى بالقوة معنى من معاني القوة، وقد عمّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن ذلك مراداً به الخصوص؛ بقوله: (ألا إن القوة الرمي). قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر مايدل على أنه مراد به الرمي خاصة دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر: (ألا إن القوة الرمي) ولم يقل: دون غيرها.
ومن القوة ـ أيضا: السيف والرمح والحربة، وكل ماكان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي، أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله)(19).(1/142)
وبهذا يمكن القول أنه لما لم يكن في تفسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- مايدل على التخصيص، دل ذلك على أن مراده التمثيل، ولما مثل للقوة ذكر أعلى القوة وأشدها.
وإذا كان ذلك كذلك فإن روايات السلف لاتكون معارضة للتفسير النبوي، ولذا يصح قبولها والتفسير بها؛ لأنها تدخل في عموم القوة.
ونتيجة القول: أن التفسير بالمثال أسلوب صحيح في التفسير؛ لأنه وارد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا الحديث، والله أعلم
* المثال الثاني:
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: مفاتح الغيب خمس: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [لقمان: 34](.2).
في هذا المثال تجد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسر (مفاتح الغيب) في قوله تعالى: ((َوَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ...)) [الأنعام: 59] بآية لقمان: ((إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...)) [لقمان: 34].
ويمكن القول: إن تفسير القرآن بالقرآن مسلك صحيح من مسالك التفسير بناء على هذا المثال.
ولعلك تقول: إن هذا المسلك واضح ومعروف مشهور.
فأقول لك: إن المراد هنا تأصيله بوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ في وروده عنه ماينبه إلى استعمال هذا المسلك.
ومما يدل على ذلك أن الصحابة لما استشكلوا قوله (تعالى): ((الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام: 82] قال لهم: إنه ليس بذاك ألا تسمعُ إلى قول لقمان لابنه: ((إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13](21).(1/143)
فكأنه -صلى الله عليه وسلم- يرشدهم إلى هذا المسلك بقوله: (ألا تسمع)، وكان يمكن إجابتهم وحل إشكالهم بدون الإشارة إلى الآية والله أعلم.
وأخيراً..
إذا كان يمكن استنباط بعض الأساليب التفسيرية في التفسير النبوي والقياس عليها، فإن هناك مالايقاس عليه، ومنه:
أولاً: أن يكون التفسير في بيان حكم شرعي:
عن أنس بن مالك قال: (كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله عز وجل ((ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ))[البقرة: 222].
فقال رسول الله : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)(22).
إن قول الله (تعالى): ((فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ)) لفظ عام، ويمكن أن يفهم منه اعتزال النساء في المؤاكلة والمنام والبيوت، فذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على تخصيص الاعتزال بالمجامعة دون غيرها من المعاشرة.
ثانيا: أن يكون التفسير لبيان أمر غيبي:
عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذا الآية ((َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) [ال عمران: 169]. فقال:
أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسر ح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل)(23).
إن صفة حياة هؤلاء الشهداء لايمكن إدراكها إلا عن سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذا سأل الصحابة عن هذه الحياة الخاصة بالشهداء.
إنه في مثل هذين المثالين لايمكن استنباط (أسلوب تفسيري (لأن المجال في هذا ليس مفتوحا بحيث يمكن الاستنباط منه، بل هو محدد لبيان حكم شرعي أو أمر غيبي، ولذا يقف المفسر عند النص ولايمكنه تجاوزه، ليستفيد منه في نص آخر يقيسه عليه.
الهوامش:(1/144)
(1) كان ابن كثير من أكثر المفسرين تأثرا بهذا المنهج الذي عند المحدثين.
(2) ماذكره من قوله: (بيان مايقرأ بعد تمام سورة) ظاهر أنه ليس من التفسير، فتأمل.
(3) لامع الدراري: 9/4ـ5.
(4) انظر: لامع الدراري: 9/4 (حاشية رقم[1]).
(5) انظر: فتح الباري 6/431.
(6) السنن الكبرى 6/ 329
(7) سنن الترمذي 5/347.
(8) انظر: فتح الباري 8/36 ومثله النسائي في السنن الكبرى 1/301
(9) السنن الكبرى للنسائي 6/339.
(10) رواه البخاري (فتح الباري 8/21).
(11) رواه البخاري (فتح الباري 8/34).
(12) رواه مسلم ح/رقم 302.
(13) أخرجه مسلم ح/ 1887.
(14) رواه مسلم ح/2135.
(15) رواه البخاري.
(16) رواه مسلم ح/1398.
(17) رواه الإمام مسلم ح/1917.
(18) انظر: الدر المنثور: 4/83 ومابعدها.
(19) تفسير الطبري (ط: شاكر (14/37. وما ذكر الطبري من وهاء السند؛ لأنه رواه من طريق ابن لهيعة (14/3) ولذا ضعفه ـ فيما يظهر ـ ولم يكن عنده له إسناد آخر، والحديث ـ كما علمت ـ رواه مسلم وغيره، فلا شك في صحته.
(20) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/141 (ومن الطريف في تفسير القرآن بالقرآن عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر آيتين من سورة الأنعام بآيتين من سورة لقمان ).
(21) رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/372).
(22) رواه مسلم برقم 302.
(23) رواه مسلم برقم 1887.(1/145)
مصادر التفسير
(3)
تفسير الصحابة للقرآن
الحلقة الأولى –
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
الصحابة (رضوان الله عليهم) خِيَرَةُ الله (سبحانه) لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، جعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، وهم أرقّّ الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأبعدهم عن التكلف، حفظ الله بهم الدين، ونشره بهم في العالمين، وكانوا في علمه بين مُكْثرٍ ومُقلّ.
قال مسروق: (لقد جالست أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدتهم كالإخاذ (الغدير)، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله ابن مسعود من ذلك الإخاذ) (1).
ولِما كان لهم من الصحبة والقرب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة أحواله، فإن لأقوالهم تقدّماً على غيرها عند أهل العلم، فتجدهم يعتمدون عليها في بيان الدين، ويتخيّرُونَ من أقوالهم إذا اختلفوا، غير خارجين عنها إلى غيرها (2).
هذا، وقد تميّزت أقوالهم بالعمق من غير تكلّف، ومن نظر في تفسيراتهم ووازنها بأقوال المتأخرين عَرَفَ صدق هذا القول.
ولقد كان من أبرز مَنْ أظهر هذه الفكرة، وبيّن ما للصحابة من مزيّة في عباراتهم التفسيرية الإمامُ ابن القيم في كتبه، ومن ذلك قوله: (... فعاد الصواب إلى قول الصحابة، وهم أعلم الأمّة بكتاب الله ومُراده) (3).
أهمية تفسير الصحابة:
وقد ذكر العلماء أسباباً تدلّ على أهمية الرجوع إلى تفسيرهم، وهذه الأسباب كالتالي:
1- أنهم شهدوا التنزيل، وعرفوا أحواله:
لقد كان لمشاهدتهم التنزيل، ومعرفة أحواله أكبر الأثر في علوّ تفسيرهم وصحته، إذ الشاهد يدرك من الفهم ما لا يدركه الغائب.(1/146)
وفي حجيّةِ بيان الصحابة للقرآن، فيما لو اختلفوا، قال الشاطبي: (وأما الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنّة، فهم أقْعَدُ في فَهْمِ القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
فمتى جاء عنهم تقييدُ بعض المطلَقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم ينقل عن أحدهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية) (4).
ومعرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن؛ لأن الجهل بأسباب النزول مُوقِعٌ في الشّبَه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مَورِدَ الإجمال حتى يقع الاختلاف.
وإنما يقع ذلك؛ لأن معرفة أسباب النزول بمنزلة مقتضيات الأحوال التي يُفْهَمُ بها الخطاب، وإذا فات نقل بعض القرائن الدّالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيءٍ منه.
ومعرفة أسباب النزول رافعة لكل مشكلٍ في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى مقتضى الحال (5).
إن ممّا يدلّ على ما سبق من الكلام: ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (أُتيَ برجلٍ من المهاجرين الأولين ـ وقد شرب الخمر ـ فأمر به عمر أن يُجلد، فقال: لِمَ تجلدني؟! بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أيّ كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟.
قال: فإن الله (تعالى) يقول في كتابه: ((لَيْسَ عَلَى الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا..)) [المائدة: 93]، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا؛ شهدت مع رسول الله: بدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد.
فقال عمر: ألا تَرُودّن عليه؟(1/147)
فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذراً للماضين، وحجّة على الباقين، عذراً للماضين؛ لأنهم لَقُوا الله قبل أن حرّم الله عليهم الخمر، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول: ((.. إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ..)) [المائدة: 90] [المائدة: 90]. حتى بلغ الآية الأخرى)(6).
فانظر كيف خفي على هذا البدريّ (رضي الله عنه) حكم هذه الآية لمّا لم يكن يعلم سبب نزولها؟ وكيف لم تكن مشكَلة عند من علم سبب نزولها؟ فنزلها منزلتها، وبيّن معناها.
2- أنهم عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن:
يقول الشاطبي ـ في بيان أهمية معرفة الأحوال في التفسير ـ: (ومن ذلك: معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمّ سبب خاص، لا بدّ لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشّبه والإشكالات التي يتعذّر الخروج منها إلا بهذه المعرفة) (7).
أ -ومن الأمثلة التي تدلّ على أهمية معرفة أحوالهم في التفسير: ما رواه البخاري في تفسير قوله (تعالى): ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..)) [البقرة: 198] عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: (كانت عُكاظٌ ومجنّةٌ وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثّموا أن يَتّجِروا في المواسم، فنزلت ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..)) في مواسم الحج)(8).
أ- ومثله ما رواه البخاري عن عائشة (رضي الله عنهما) قالت: (كانت قريش ومن دَانَ دينها يقفون المزدلفة، وكانوا يسمّون الحُمْسُ، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات، ثُمّ يقفَ بها، ثُمّ يُفِيِضَ منها، فذلك قوله (تعالى): ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ..)) [البقرة: 199] (9).(1/148)
أ- ومثله ما رواه البخاري عن ابن المنكدر، قال: (سمعت جابراً (رضي الله عنه) قال: كانت اليهود تقول: (إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..)))(10).
3- أنهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن:
لما كان القرآن نزل بلغتهم، فإنهم أعرف به من غيرهم، وهم في مرتبة الفصاحة العربية، فلم تتغيّر ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا في الفصاحة، ولذا فَهُم أعرف من غيرهم في فهم الكتاب والسنة، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صحّ اعتماده من هذه الجهة (11).
كما أن ما نقل عنهم من كلام أو تفسير فإنه حجّة في اللغة، وفيه بيان لصحّة الإطلاق في لغة العرب، قال ابن حجر: (استشكل ابن التين قوله (12): (ناساً من الجن) من حيث إن الناس ضدّ الجنّ.
وأجيب بأنه على قول من قال: إنه من نَاسَ: إذا تحرك، أو ذُكر للتقابل، حيث قال: (ناس من الناس)، (وناساً من الجن) ويا ليت شعري، على من يعترض؟!) (13).
4- حسن فهمهم:
إن من نَظَرَ في أقوال الصحابة في التفسير متدبراً لهذه الأقوال، ومتفهماً لمراميها، وعلاقتها بتفسير الآية، فإنه سيتبيّن له ما آتاهم الله من حسن البيان عن معاني القرآن، من غير تكلّفٍ في البيان، ولا تعمّق في تجنيس الكلام، بل تراهم يُلْقون الألفاظ بداهة على المعنى، فتصيب منه المراد.
وكان مما عزّز لهم حسن الفهم: ما سبق ذكره من الأسباب التي دعت إلى الرجوع إلى تفسيرهم من: مشاهدة التنزيل، ومعرفة أحوال من نزل فيهم القرآن، وكونهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن، مع ما لهم من معرفة بأحوال صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم-، مما كان يعينهم على فهم المراد وحسن الاستنباط، قال ابن القيم: (قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين حديث مسند)(14).(1/149)
وقال في موضع آخر من كتابه: (هو عندنا في حكم المرفوع) (15).
وهذا وإن كان فيه نظرٌ، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله (عز وجل) من كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول -صلى الله عليه وسلم- علماً وعملاً، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يُعدَلُ عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل)(16).
إن هذه المزيّة تُوجِبُ على دارسِ التفسير أن يرجع إلى أقوالهم، وأن يَفْهَم تفسيراتِهم، ليَعْتَمِد عليها في التفسير، ويبنيَ عليها مسائل الآيات وفوائدها.
غير إن كثيراً ممن يَدْرُسُ التفسير أو يُدَرّسُه لا يهتم بإيراد أقوال الصحابة(17)، وكثيراً ما تراه يكتفي بأن ينسب التفسير إلى المتأخرين من المفسرين كالزجاج والزمخشري وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وابن كثير... وغيرهم.
إن في هذا المسلك ما يقطعُ على طالب العلم شرف الوصول إلى علوم هؤلاء الصحابة وأفهامهم، بل قد يجعله ينظر إلى أقوالهم نظر المقلّلِ من شأنها، ويرى أن تفسيراتهم سطحيّة، لا عمق فيها، ولا تقرير!!.
وهذا خطأ مَحْضٌ، ومجانبة الصواب، وإنما كان سبيل أهل العلم الراسخين فيه أنهم (يتكثّرون بموافقة الصحابة)، وانظر كم الفرق بين أن يُقال: هذا قول ابن عباس في الآية، أو يقال: هذا قول الزجاج أو ابن عطية أوغيرهم في الآية.
فانظر إلى ما ستميل إليه نفسك؟، وأي قول سيطمئن له قلبك؟.
5- سلامة قصدهم:
لم يقع بين الصحابة خلافٌ يُؤَثّر في علمهم، بحيث يوجّه آراءهم العلمية إلى ما يعتقدونه، وإن كان مخالفاً للحق، بل كان شأن الخلاف بينهم إظهار الحق، لا الانتصار للنفس أو المذهب الذي ذُهِبَ إليه.(1/150)
لقد ظهر ـ خلاف أمرهم في الخلاف ـ فيمن بعدهم من أصحاب العقائد الباطلة؛ كالخوارج، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، فظهر في أقوالهم مجانبةُ الحق، وكثر الخلاف بسبب كثرة الآراء الباطلة، مما جعل القرآنَ عُرضةً للتحريف والتأويل، إذ كلّ يصرفه إلى مذهب، وهذا مما سلم منه جيل الصحابة، فلم يتلوّث بمثل هذه الخلافات.
ولهذا جاء تفسيرهم بعيداً عن إشكالات التأويل، وصرف اللفظ القرآني إلى ما يناسب المذهب، أو غيرها من الانحرافات في التفسير.
الهوامش :
1- المدخل إلى السنن الكبرى، ص 16.
2- انظر: المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ص109 ـ 110.
3- انظر: بدائع التفسير، جـ2 ص216، وجـ3 ص313، 402، 404، وشفاء العليل، ص54.
4- انظر: الموافقات بتحقيق محيي الدين عبد الحميد، جـ3 ص 218 ـ 219.
5- الموافقات، جـ3 ص 225 (بتصرف).
6- الدرر المنثور، جـ3 ص 161، وانظر: المستدرك.
7- الموافقات، جـ3 ص 229، وقد أحال في هذه المسألة على النوع الثاني من المقاصد (جـ2ص44)، والموافقات، جـ3 ص 227.
8- انظر: فتح الباري، جـ8 ص34.
9- انظر: فتح الباري، جـ8 ص 35.
10- انظر: فتح الباري، جـ8 ص 37.
11- انظر: الموافقات، جـ3 ص 218.
12- يعني ابن مسعود (رضي الله عنه).
13- فتح الباري، جـ8 ص249.
14- المستدرك، جـ2 ص258.
15- المستدرك.
16- بدائع التفسير، جـ3 ص404.
17- وأيضاً التابعين وأتباعهم ممن لهم عناية بالتفسير.(1/151)
مصادر التفسير
(4)
تفسير الصحابة للقرآن
الحلقة الثانية –
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
مصادر الصحابة في التفسير:
للتفسير مرجعان:
الأول: ما يَرْجِعُ إلى النقل.
والثاني: ما يرجع إلى الاستدلال(1).
ويمكن توزيع مصادر الصحابة على هذين المرجعين؛ لأن تفاسير الصحابة: منها ما يرجع إلى النقل، ومنها ما اعتمدوا فيه على استنباطهم، وهم فيه مجتهدون.
تفصيل مصادر الصحابة:
أولاً: ما يرجع إلى النقل، ويندرج تحته قسمان:
الأول: ما يرجع إلى المشاهدة، وتحته ما يلي:
1- أسباب النزول.
2- أحوال من نزل فيهم القرآن.
وهذان بينهما تلازم في حالة ما إذا كان سبب النزول متعلقاً بحال من أحوال من نزل فيهم القرآن.
الثاني: ما يرجع إلى السماع، ويندرج تحته ما يلي:
1- ما يروونه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من التفسير النبوي الصريح.
2- ما يرويه بعضهم عن بعض.
3- ما يروونه من الغيبيّاتِ.
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال) ، ويندرج تحته ما يلي:
1- تفسير القرآن بالقرآن.
2- تفسير القرآن بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس نصّاً في التفسير.
3- التفسير اللغوي(المحتملات اللغوية).
4- المحتملات المرادة في الخطاب القرآني، أو ما يرجع إلى احتمال النص القرآني أكثر من معنى.
تفصيل هذه المصادر:
أولاً: ما يَرْجِعُ إلى النّقْلِ:
الأول: ما يتعلق بالمشاهدة:
ويعتبر هذا مما تميّز به الصحابة (رضي الله عنهم)؛ لأن المشاهدة لا يمكن أن تتأتّى لغيرهم؛ ولذا: فإن الأصل أن ما ورد من هذا الباب فإن مَحَلّهُ القبول بلا خلاف.
ويدخل فيما يتعلق بالمشاهدة ما يلي:
1- أسباب النزول:
لقد سبق الحديث عن أن مشاهدتهم لأسباب النزول كانت من أهم أسباب رجوع من جاء بعدهم إلى تفسيرهم، والاعتماد عليه في فهم الآية.(1/152)
والمراد بسبب النزول: ما كان صريحاً في السببية، ويظهر ذلك من خلال النصّ المروي في السبب؛ كأن يقول الصحابي: كان كذا وكذا فنزلت الآية، أو يقع سؤال فينزل جوابه، أو غيرها مما يمكن معرفته من خلال النص بقرائن تدل على السببية الصريحة.
2- معرفة أحوال من نزل فيهم القرآن:
إن معرفة هذه الأحوال تفيد في درايتهم بقصة الآية، الذي هو أشبه بسبب النزول، بحيث لو فقدت هذه المعرفة لوقع الخطأ في فهم المراد بالآية، كما وقع لعروة بن الزبير (رضي الله عنه) في فهم قوله (تعالى): ((إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..)) [البقرة: 158].
قال عروة: (قلت لعائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ وأنا يومئذ حديث السّن ـ أرأيتِ قول الله (تبارك وتعالى): ((إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..)) [ البقرة: 158] فما أرى على أحدٍ شيئاً ألا يطّوف بهما.
فقالت عائشة: كَلاّ، لو كانت كما تقول كانت: (فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما)، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يُهِلّون لمناة ـ وكانت مناة حَذْوَ قُدَيدٍ ـ وكانوا يتحرّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأنزل الله: ((إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أََوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أََن يَطَّوَّفَ بِهِمَا..)) [البقرة: 158]) (2).
ويلحظ من هذا المثال: أن سبب النزول قد يكون من أجل حالٍ من أحوال من نزل فيهم الخطاب من العرب أو اليهود، وبهذا يكون المثال صالحاً للتمثيل به في الأمرين.(1/153)
ومما نزل بسبب حال من أحوال اليهود، ما روى جابر (رضي الله عنه) قال: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: ((نساؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ..)) [البقرة:223](3).
تنبيه:
للصحابة فيما يتعلق بالمشاهدة حالتان:
الأولى: أن يكون الصحابي ممن حضر سبب النزول، أو عايش الأحوال التي نزل بشأنها القرآن، وهذا هو الذي ينطبق عليه الحديث هنا.
الثانية: أن يكون سمعه من صحابي آخر، وبهذا فإنه يدخل في القسم الذي بعده.
الثاني: ما يتعلق بالسماع:
يشمل هذا القسم كل الروايات التي يرويها الصحابي عن غيره، ويدخل في هذا القسم ما يلي:
1- الرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
والمراد به: ما يروونه من التفسير النبوي الصريح، وقد يقع تفسيره جواباً لأسئلتهم، أو أن يفسّر لهم ابتداءً.
* ومن الأول: ما رواه مسلم في تفسير قوله (تعالى): ((.. لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ..)) [التوبة: 108] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟.
قال: قال أبي: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيّ المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفّاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لِمسجد المدينة.
قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره) (4).
* ومن الثاني: ما رواه البخاري عن أبي ذرّ، قال: (كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر، أتدري أين تغيب الشمس؟.
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله (تعالى):
((وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ)))(5).
2- ما يرويه الصحابي عن الصحابي:(1/154)
قد تكون الرواية عن الصحابي مجردة من السؤال، بحيث يورد الصحابي تفسير الصحابي إيراداً من غير سؤال، أو تكون عن سؤالٍ؛ ومنه: ما رواه البخاري عن ابن عباس في قوله (تعالى):
((.. وَإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) [التحريم:4].
قال ابن عباس: أردت أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمكثت سنة، فلم أجد له موضعاً، حتى خرجت معه حاجّاً، فلما كنّا بظهران ذهب عمر لحاجته، فقال: أدركني بالوضوء، فأدركته بالإداوة، فجعلت أسكب عليه، ورأيت موضعاً، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان اللتان تظاهرتا؟
قال ابن عباس: فما أتممت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة) (6).
ويدخل في باب الرواية: ما كان من أسباب النزول، أو أحوال من نزل فيهم القرآن، إذا كان الصحابي لم يحضر السبب أو الحال، فإن طريقه في ذلك: الرواية، وروايته مقبولة في ذلك، وإن لم ينسبها إلى من رواها له من الصحابة، وذلك لأن الصحابة عدول باتفاق الأمة.
ويمكن التمثيل لهذا بما يرويه صغار الصحابة أو من تأخر إسلامهم من أحداثٍ لم يحضروها أو يعاصروها.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه أبو هريرة وابن عباس في تفسير قوله (تعالى): ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)) [الشعراء: 214] من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صعد الصفا، ونادى بطون قريش.. إلى آخر الحديث(7).
وذلك أن أبا هريرة أسلم في المدينة، وابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، والحدث الذي يرويانه في تفسير الآية كان بمكة، وكان في أوائل سنيّ البعثة.
3- ما يروونه من المغيّبات:
تشمل الأمور الغيبية ما مضى، وما سيكون، والأخبار الماضية إما أن يكون مصدرها الرسول، وهذا هو المراد، وإما أن يكون مصدرها أهل الكتاب، وهذا يدخل في البحث السابق.(1/155)
أما الأخبار المستقبلية، فالغالب أنها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد يرد منها ما هو عن أهل الكتاب.
وها هنا مسألة تحتاج إلى بحث، وهي: كيف نُميّزُ ما روي عن أهل الكتاب مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟.
الجواب: (................)*.
هذا.. وما يُروى عن أهل الكتاب، فقد اصطلح العلماء على تسميته بـ (الإسرائيليات). وهي عند الصحابة على قسمين من حيث التحمّل في الرواية:
الأول: السماع منهم، وهذا يأخذونه عن بعض مسلمة أهل الكتاب: كابن سلام من الصحابة، وكعب الأحبار وأبي الجلد من التابعين.
ويظهر من استقراء المرويات الإسرائيلية أن الصحابة لا يسندون مروياتهم ـ في الغالب ـ مما يجعل الباحث لا يجزم بالأخذ المباشر عن مُسِلمةِ بني إسرائيل، بل قد يكون مما اطّلعوا عليه وقرؤوه، والله أعلم.
ومن أمثلة الرواية عن عبد الله بن سلام: ما رواه ابن مُجلّز، قال: (جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله عن الهدهد، لم تفقّده سليمان من بين الطير؟.
فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نزل منزلة في مسيرٍ له، فلم يَدْرِ ما بُعْدُ الماء، فقال: من يعلم بُعْدَ الماء؟، قالوا: الهدهد، فذلك حين تفقّده) (8).
الثاني: ما يكون من طريق الوجادة، وهو ما يقرؤونه من كتب أهل الكتاب، كما حصل لعبد الله بن عمرو بن العاص من إصابته زاملتين فيها كتبٌ من كتب أهل الكتاب (9).
اسْتِطْرَادٌ:
مما يحسن توجيه النظر إليه في هذا المبحث، أن بعض المعاصرين قد شنّ غارة على وجود مرويات بني إسرائيل في تفسير الصحابة، وعدّ ذلك من عيوب تفسيرهم.
والذي يجب التنبّه له أن الحديث عن الإسرائيليات يَطَال سلف الأمة من المفسرين: صحابةً، وتابعين، ولقد كان هؤلاء أعلم الناس بالتفسير، وأعظم الذائدين عن الدين كل تحريف وبطلان.
لقد تجوّز سلف هذه الأمة في رواية الإسرائيليات، أفلم يكونوا يعرفون حكم روايتها ومنزلتها في التفسير؟.(1/156)
ألم يكونوا يميّزون هذه الإسرائيليات التي استطاع المتأخرون تمييزها؟!، وإذا كان ذلك كذلك؟ فما الضرر من روايتها؟.
ألا يكفي المفسر بأن يحكم على الخبر بأنه إسرائيلي، مما يجعله يتوقف في قبول الخبر؟.
إن بحث(الإسرائيليات) يحتاج إلى إعادة نظر فيما يتعلق بمنهج سلف الأمة في روايتهم لها، ومن أهم ما يجب بحثه في ذلك ما يلي:
1- جَمْعُ مروياتهم فيها، وجَعْلُ مرويات كل مفسرٍ على حِدَةٍ.
2- محاولة معرفة طريق تحمّل المفسر لها، وكيفية أدائه لها، فهل كان يكتفي بعرضها ثقةً منه بتلاميذه الناقلين عنه؟.
أو هل كان ينقدها، ويبين لتلاميذه ما فيها؟.
3- ما مدى اعتماد المفسر عليها؟.
وهل كان يذكرها على سبيل الرواية لما عنده في تفسير هذه الآية، من غير نظر إلى صحة وضعف المروي؟.
أوْ هل كان يرويها على سبيل الاستئناس بها في التفسير؟.
أو هل يعتمد عليها، ويبني فهم الآية على ما يرويه منها؟.
تلك المسائل وغيرها لا يتأتّى إلا بعد جمع المرويات، واستنطاقها لإبراز جوابات هذه الأسئلة وغيرها مما يمكن أن يَثُورَ مع البحث.
ثم بعد هذا يمكن استنباط منهج السلف وموقفهم من الإسرائيليات في التفسير. والله أعلم.
الهوامش :
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (العلم: إما نقلٌ مُصَدّقٌ، وإما استدلال محقّقٌ) (مقدمة في أصول التفسير، ص55).
2- رواه البخاري (فتح الباري، جـ8 ص24 ـ 25).
3- رواه البخاري (فتح الباري، جـ8 ص37).
4- رواه مسلم في صحيحه (رقم 1398).
5- انظر: البخاري (فتح الباري، جـ8 ص402).
6- رواه البخاري (فتح الباري، جـ8 ص527).
7- انظر روايتهما في: صحيح البخاري(فتح الباري، جـ8 ص 360).
* جواب هذا السؤال يحتاج بحثاً خاصّاً، والمراد هنا الإشارة إلى هذا الإشكال فقط.
8 ـ تفسير الطبري، جـ19 ص 143. وانظر: سؤال ابن عباس لأبي الجلد في تفسير الطبري: جـ1 ص 151، 13، 123.
9 ـ رواه البخاري(فتح الباري، جـ1 ص167).(1/157)
مصادر التفسير
(5)
تفسير الصحابة للقرآن
-الحلقة الثالثة-
كتبة
مساعد بن سليمان الطيار
ثانياً: ما يتعلق بالفهم والاجتهاد (الاستدلال):
يكون معتمد المفسّر في هذا القسم العقل، ولا خلاف في أن الصحابة قد اجتهدوا في بيان القرآن، وقد نبّه ابن الأثير إلى ذلك في شرحه لحديث: (من قال في كتاب الله (عز وجل) برأيه...)(1)، حيث قال: (وباطل أن يكون المراد به : أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة (رضي الله عنهم) قد فسّروا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوهٍ، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي، وإن النبي دعا لابن عباس، فقال: (اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل)(2)، فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك؟)(3).
ويشتمل هذا القسم على أربعة أنواع، هي :
1- تفسير القرآن بالقرآن :
قد سبق الحديث عن أن تفسير القرآن بالقرآن مرجعه إلى الرأي، وذلك أن ربط الصحابي بين آية وأخرى كان معتمداً على العقل، ولو كان عنده سندٌ إلى رسول الله لذكره، مثل ما مرّ ذكره في تفسير قوله (تعالى): ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] حيث أُسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن الأمثلة الواردة عنهم في تفسير القرآن بالقرآن ما يلي:
عن عمر بن الخطاب في تفسير قوله (تعالى): ((وَإذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)) [التكوير: 7] قال: تزويجها: أن يؤلف كل قوم إلى شبههم، وقال: ((احْشُرُوا الَذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ)) [الصافات:22](4).
و مما يحسن بحثه في هذا الموضوع: كيفية استفادة الصحابة من القرآن في تفسيرهم.
2- تفسير القرآن بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم مما لم ينص فيها على التفسير :
سبق الحديث عن هذا القسم، وأن معتمد المفسر هاهنا العقل، وذلك لأن الصحابي يجتهد في ربط الحديث بمعنى الآية.(1/158)
ومن أمثلته: ما رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي قال: (فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح) يقول أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم: ((وَقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)))(5).
فنلاحظ أن أبا هريرة نزّل الحديث على معنى الآية، فجعل اجتماع الملائكة هو الشهود الذي يحصل في صلاة الفجر.
3- التفسير اللغوي (المحتملات اللغوية) :
نزل القرآن بلغة الصحابة (رضي الله عنهم)، ولذا: فهم أئمة التفسير اللغوي، وإذا روي عن أحدهم تفسير لغوي، فإن محلّه القبول.
وبالنظر إلى الألفاظ اللغوية المفسّرة تجد أنها على قسمين:
الأول: ألاّ يحتمل اللفظ إلا معنى واحداً، وهذا ما لا يقع فيه خلاف، وهو أشبه بأن يجعل من القسم الذي طريقه السماع لا الاجتهاد، لعدم الحاجة لإعمال الرأي في مثل هذا.
الثاني: ما يحتمل أكثر من معنى، والسياق محتمل لها جميعها، ففي مثل هذا يكون التّميّزُ وإعمال الرأي اعتماداً على المعنى اللغوي، ومن أمثلة ذلك: ما ذكره الطبري في تفسير قوله (تعالى): ((خِتَامُهُ مِسْكٌ)) [المطففين: 26] أن فيه ثلاثة أقوال، اثنين منها عن صحابيين:
القول الأول: بمعنى خِلْطُهُ، وهذا قول ابن مسعود، قال: (أما إنه ليس بالخاتم الذي يختم، أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول: طيب كذا وكذا خلطه مسك).
القول الثاني: بمعنى: آخر شرابهم، وهذا قول ابن عباس، قال: (طيّب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها حتى تختم بالمسك)(6).
4- ما يرجع إلى احتمال النص القرآني أكثر من معنى :
قد تحتمل الآية أكثر من معنى، فيذكر صحابي أحد هذه المعاني، ثم يذكر الآخر معنًى غيره من المعاني المحتملة لهذا الخطاب القرآني، وقد يعتمد في اختياره على ما سبق من الأقسام الثلاثة فيما يتعلق بالاجتهاد.(1/159)
ومن أمثلة ذلك: تفسيرهم قوله (تعالى): ((لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ)) [الانشقاق: 19]، ورد في قوله ((لَتَرْكَبُنَّ)) قراءات، منها: فتح التاء والباء، وقد اختلف في: من وجّه إليه الخطاب؟، على قولين:
الأول: أن الخطاب موجّه للرسول، واختلف في معنى ((طَبَقاً عَن طَبَقٍ)) على هذا القول على معنيين:
1- لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، وهذا مروي عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي.
2- لتركبن يا محمد سماءً بعد سماءٍ، وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية علقمة.
الثاني: أن الخطاب موجّه للسماء، والمعنى: أنها تتغيّر ضروباً من التغيّر: تتشقق بالغمام مرّة، وتَحْمَر أخرى، فتصير وردة كالدهان، وتكون أخرى كالمهل، وهذا مروي عن ابن مسعود من رواية مرة الهمذاني و إبراهيم النخعي(7).
في هذا المثال تجد لابن مسعود قولين في تحديد من وجّه له الخطاب، وفي الأول يوافقه ابن عباس في هذه الجزئية، ثم يخالفه في معنى الركوب طبقاً عن طبق.
وما كان ذلك الاختلاف إلا لاحتمال هذا النص هذه المعاني المذكورة، فأبدى كل واحد منهما أحد هذه المحتملات.
مسألة : في اجتهاد الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم :
تُظهر بعض النصوص أن الصحابة كان لهم اجتهادات في فهم الخطاب القرآني وتفسيره في عصر الرسول، وكان لاجتهادهم حالتان:
الحالة الأولى: أن يُقِرّ الرسول اجتهادهم، ومن ذلك: الأثر المروي عن عمرو بن العاص، قال: بعثني رسول الله عام (ذات السلاسل)، فاحتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال: (ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] فتيممت، ثم صليت، فضحك، ولم يقل شيئاً)(8).(1/160)
ومنه: ما رواه الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: (تلا رسول الله يوماً ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) [محمد: 24]، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله (عز وجل) يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر (رضي الله عنه) حتى وُلّيَ فاستعان به)(9).
الحالة الثانية : أن يُصَحّح الرسول فهمهم للآية :
ومثاله: تفسيرهم الظلم، في قوله (تعالى): ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82]، فقد فهم الصحابة أن الظلم عام يشمل جميع أنواعه، وذلك بقولهم: (وأينا لم يظلم نفسه)، فأخبرهم الرسول بالمراد بالظلم في الآية، وأنه الشرك(10).
ومنه حديث عدي بن حاتم، في قوله (تعالى): ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأََسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ)) [البقرة: 187] حيث عمد (رضي الله عنه) إلى عقالين: أبيض وأسود، ثم جعلهما تحت وسادة، ثم جعل ينظر إليهما في بعض الليل، فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بفعله، فأرشده الرسول إلى أن المراد بهما سواد الليل وبياض النهار(11).
ففي هذين المثالين تلاحظ أن الصحابة فهموا الآية على معنى محتمل، لكنه غير المراد، فأرشدهم الرسول إلى المعنى المراد بالآية، ولم ينههم عن تفهّمِ القرآن إلا بالرجوع إليه.
حكم تفسير الصحابي :
لا يصلح إطلاق الحكم على تفسير الصحابي جملة من حيث الاحتجاج به أو عدمه، بل لابدّ من التفصيل في تفسير الصحابي.
لقد سبق ذكر أن الصحابة يجتهدون في التفسير، وهذا الاجتهاد عرضة للخطأ، لأن الواحد منهم غير معصوم حتى يقبل منه كل قوله.
ثم إن هذا الاجتهاد مدعاة لوقوع الاختلاف في التفسير، وبهذا لا يكون قول أحدهم حجة؛ لأن الصحابة إذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم حجة على بعضٍ.
ويمكن تنزيل الحكم مقسّماً على مصادرهم: النقلية والاستدلالية.(1/161)
أولاً : المصادر النقلية :
يشمل الحكم على المصادر النقلية ما يلي:
أسباب النزول، وأحوال من نزل فيهم القرآن، والأمور الغيبية.
ويمكن القول بأن هذه الأمور الثلاثة لها حكم الرفع؛ لأن الصحابي ليس له في هذه الأمور إلا النقل، وإن نُسب إليه التفسير، فإنما هو على سبيل التوسع في إطلاق التفسير له، ولأنه هو الناقل له.
ويحترز في هذا الحكم مما يكون من قبيل الاجتهاد في (أسباب النزول)، إذ قد تُطلق عبارة النزول ويراد بها أن المذكور في النزول داخل في حكم الآية، وكثيراً ما تصدّر بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا وكذا.
ولذا: قد يرد عنهم أقوال كثيرة في سبب النزول، وهي غير صريحة في السببية، وإنما تكون داخلة في حكم الآية، وهذا إنما قاله من قاله اجتهاداً منه.
ويلحق بهذا: أحوال من نزل فيهم الخطاب، إذ قد يقع الاجتهاد في حمل معنى الآية على حالٍ من الأحوال.
وقد يرد في الآية سببان صحيحان صريحان، فتحمل الآية عليهما، ومن ذلك ما يلي:
ما ورد في سبب نزول قوله (تعالى): ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)) [البقرة: 223]
روى أبو داود عن ابن عباس، قال: (إن ابن عمر (والله يغفر له) أوهم؛ إنما كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم.
وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً، ويتلذذون منهن مقبلات مدبرات ومستلقيات.(1/162)
فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنّا نُؤتى على حرفٍ، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، حتى شَرِيَ (انتشر) أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله (عز وجلّ): ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)) [البقرة: 223] أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك: موضع الولد).(12)
ـ وروى البخاري عن جابر في نزول هذه الآية ما يلي: (كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ((نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَاًتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)))(13).
ففي هذين السببن ترى ما يلي:
1- أنها تحكي حالاً من أحوال من نزل فيهم القرآن، وقد سبق أن السبب قد يكون في ذكر حالٍ من أحوال العرب.
2- أن ابن عباس ذكر السبب في قضية طريقة الجماع في خبر الرجل القرشي والأنصارية.
3- أن جابر ذكر السبب في نتيجة إحدى طرق الجماع.
وقد أنزل الله هذه الآية لإبطال هذين الحالين اللذين كان يعمل بهما اليهود والأنصار.
هذا، وقد أخبر الحاكم أن سبب النزول له حكم الرفع؛ فقد قال بعد حديث جابر السابق: (هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا، فإنه حديث مسند).(14)
* كما يحترز في المغيبات من أن تكون من مرويات بني إسرائيل، فإذا سلمت من ذلك فإن لها حكم المرفوع؛ لأن الأمور الغيبية لا يمكن القول فيها بالاجتهاد.
ومن أمثلته: ما روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) في تفسير (الكرسي) بأنه (موضع قدمي الرحمن).
فهذا المثال يتعلق بصفات الله (عز وجل) ولا سبيل للوصول إليها إلا بالنقل، ولا مجال للاستنباط فيها.
فإن قيل: إن ابن عباس قد اشتهر عنه الأخذ من مرويات بني إسرائيل، وعليه: فإن هذا التفسير يحتمل أن يكون مما تلقّاه عنهم؟.(1/163)
فالجواب: أنه لا يُظنّ بابن عباس أنه يرجع إليهم في معرفة صفات الله، وهم من أهل التعطيل لها، فمثل هذه المسائل المتعلقة بالله لا تؤخذ إلا من المعصوم في خبره، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم إن ابن عباس لم ينفرد بهذا التفسير، بل قد صحّ عن أبي موسى(15) مثل قول ابن عباس، وهذا مما يُعزّز قول ابن عباس، ويدل على تلقيه من الرسول، والله أعلم.
أما ما يثبت من هذه المغيبات أنه من الإسرائيليات فإنه ينظر إليه:
إن كان موافقاً لما في الكتاب والسنة قُبِلَ، وإن كان مخالفاً لهما رُدّ وترك، وإن لم تظهر فيه موافقة ولا مخالفة فالحكم فيه: التوقف، والله أعلم.
ثانياً : المصادر الاستدلالية (الاجتهاد) :
سبق تقسيم هذه المصادر إلى أربعة أقسام، وسيكون الحديث هنا عامّاً عنها.
والتفسير إما أن يكون بياناً عن لفظٍ، وإما أن يكون بياناً عن معنىً.
فإذا لم يحتمل اللفظ أو المعنى المراد إلا تفسيراً واحداً لا غير، فإن هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، وحكم هذا التفسير: القبول؛ لعدم احتمال غيره.
أما إذا وقع الاحتمال في الآية، فإن هذا مجال الاجتهاد والرأي، وإذا كانت الآية محتملة لأكثر من قول، فإن هذا الاجتهاد يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون مما توافق عليه اجتهاد الصحابة (أو كان في حكمه؛ كالإجماع السكوتي) فإن هذا حجة يجب قبوله عنهم.
الثاني: أن يقع بينهم خلاف مُحقّق، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بحجيّة هذه الأقوال، ولا بأحدها على الآخر؛ لأن قول أحدهم لا يكون حجة على الآخر، فلا يقال: معنى الآية كذا لأنه قول ابن عباس، مع وجود مخالفٍ له من الصحابة.
وإنما يكون عمل من بعدهم في مثل هذه الحالة الترجيح بدليل صالح للترجيح، ومحلّ هذا البحث موضع آخر، وهو قواعد الترجيح؛ لأن المراد هنا بيان ما يكون حجة وما لا يكون من أقوال الصحابة.. والله أعلم
الهوامش :
1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ح/790. البيان(1/164)
2) أخرجه أحمد، جـ1ص266، وصحح إسناده أحمد شاكر، ح/2397، ح/2881. البيان
3) جامع الأصول، جـ2ص4.
4) انظر : الدر المنثور، جـ 8 ص430.
5) انظر : فتح الباري، جـ 8 ص251.
6) انظر أقوالهم في تفسير الطبري، جـ30 ص106، 107..
7)انظر مروياتهم في تفسير الطبري، جـ30 ص122،124.
8) أخرجه أحمد وأبو داود.
9) تفسير الطبري، جـ 26 ص58.
10) انظر رواية ذلك في صحيح البخاري (فتح الباري، جـ 1 ص110، جـ 6 ص448).
11) انظر روايته في صحيح البخاري (فتح الباري، جـ 8 ص231)..
12) انظر : عون المعبود، جـ 6 ص204،205.
13) انظر : فتح الباري، جـ 8 ص37.
14) معرفة علوم الحديث، ص20.
15) أشار إلى روايتهما ابن حجر في الفتح (جـ 8ص47)، وقد صحح إسناد أبي موسى.(1/165)
التفسير بالمأثور
نقد للمصطلح وتأصيل
كتبة
مساعد سليمان الطيّار
إن المصطلحات العلمية يلزم أن تكون دقيقة في ذاتها ونتائجها، وإلا وقع فيها وفي نتائجها الخلل والقصور، ومن هذه المصطلحات التي حدث فيها الخلل مصطلح (التفسير بالمأثور)، وفي هذا المصطلح أمران: أنواعه ، وحكمه.
أما أنواعه، فقد حدّها من ذكر هذا المصطلح من المعاصرين بأربعة، هي: (تفسير القرآن بالقرآن ، وبالسنة ، وبأقوال الصحابة ، وبأقوال التابعين).(1)
وغالباً ما يحكي هؤلاء الخلاف في جعل تفسير التابعي من قبيل المأثور.(2)
وأما حكمه ، فبعض من درج على هذا المصطلح ينتهي إلى وجوب الأخذ به.(3)
وأقدم من رأيته نص على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخ محمد بن عبدالعظيم الزرقاني ، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يلي: (هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة تبايناً لمراد الله من كتابه) ثم قال: (وأما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور لأنهم تلقوه من الصحابة غالباً ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي).(4)
ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1977 م) فذكر هذه الأنواع الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور) ، وقد علل لدخول تفسير التابعي في المأثور بقوله: (وإنما أدرجنا في التفسير المأثور ما روي عن التابعين وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي؟ لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور كتفسير ابن جرير وغيره لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما روي عن الصحابة ، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير)(5).
منشأ الخطأ في هذا المصطلح:
إنه فيما يظهر قد وقع نقل بالمعنى عمن سبق أن كتب في هذا الموضوع وبدلاً من أن يؤخذ عنه مصطلحه استبدل به هذا المصطلح الذي لم يتواءم مع هذه الأنواع ، ولا مع حكمها كما سيأتي.(1/166)
والمصدر الذي يظهر أن هذه الأنواع نُقلت منه هو رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية المسماة (مقدمة في أصول التفسير).
وقد وردت هذه الأنواع الأربعة تحت موضوع (أحسن طرق التفسير)(6) فهي عند شيخ الإسلام (طرق) وليست (مأثوراً).
ولو تأملت النقلين السابقين ، فإنك ستجد أنهما يحكيان الخلاف في كون تفسير التابعي مأثوراً أم لا.
وستجد هذا موجوداً في رسالة شيخ الإسلام ، ولكن البحث فيه ليس عن كونه مأثوراً أم لا ، بل عن كونه حجة أم لا؟
وبين الأمرين فرق واضحٌ ، إذ لم يرد عن العلماء هل هو مأثور أم لا؟ لأن هذا المصطلح نشأ متأخراً ، بل الوارد هل هو حجة أم لا؟
وإن كان هذا التأصيل صحيحاً ، فإن اصطلاح شيخ الإسلام أدق من اصطلاح المعاصرين ، وأصح حكماً.
فهذه التقسيمات الأربعة لا إشكال في كونها طرقاً، كما لا إشكال في أنها أحسن طرق التفسير ، فمن أراد أن يفسر فعليه الرجوع إلى هذه الطرق.
نقد مصطلح (التفسير المأثور):
مصطلح المعاصرين عليه نقد حيث يتوجه النقد إلى أمرين وإليك بيانه:
1- ما يتعلق بصحة دخول هذه الأنواع في مسمى (المأثور).
2- ما يتعلق بالنتيجة المترتبة عليه ، وهي (الحكم).
أما الأول: فإنه يظهر أن هذا المصطلح غير دقيق في إدخال هذه الأنواع الأربعة فيه ، فهو لا ينطبق عليها جميعاً، بل ويخرج ما هو منها، فهذا المصطلح غير جامع ولا مانع لسببين:
أ- أن المأثور هو ما أثر عمن سلف ، ويطلق في الاصطلاح على ما أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم.
فهل ينطبق هذا على تفسير القرآن بالقرآن؟
إن تفسير القرآن بالقرآن لا نقل فيه حتى يكون طريقه الأثر ، بل هو داخل ضمن تفسير من فسر به.
* فإن كان المفسر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو من التفسير النبوي.
* وإن كان المفسر به الصحابي ، فله حكم تفسير الصحابي.
* وإن كان المفسر به التابعي ، فله حكم تفسير التابعي.(1/167)
وهكذا كل من فسر آية بآية فإن هذا التفسير ينسب إليه.
ب- أن المأثور في التفسير يشمل ما أُثر عن تابعي التابعين كذلك ومن دوّن التفسير المأثور فإنه ينقل أقوالهم ، كالطبري (310) وابن أبي حاتم (ت: 327) ، وغيرهما.
بل قد ينقلون أقوال من دونهم في الطبقة، كمالك بن أنس ، وغيره. ولو اطلعت على أوسع كتاب جمع التفسير المأثور، وهو (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) لرأيت من ذلك شيئاً كثيراً.
ولو قُبلت العلة التي ذكرها الشيخ محمد حسين الذهبي في إدخاله تفسير التابعين في المأثور ، لصح تنزيلها على المأثور عن تابعي التابعين ومن دونهم.
وقد نشأ الخطأ في تصور ونقل الخلاف في تفسير التابعي ، وهل يندرج تحت التفسير بالمأثور ، أم لا يصح أن يوصف بأنه تفسير مأثور؟ ونزّل كلام العلماء خطأ في حكم تفسير التابعي على قضية كونه تفسيراً مأثوراً أم غير مأثور ، ولم يكن حديث العلماء على كونه مأثوراً أم غير مأثور ، إذ لم يكن ذلك المصطلح معروفاً ولا شائعاً في وقتهم.
وأما الثاني وهو ما يتعلق بالحكم فإن بعض من درج على هذا المصطلح نصّ على وجوب اتباعه والأخذ به(7) ، وهو مستوحى من كلام آخرين(8).
ومما يلحظ على هذا الحكم أنهم يحكون الخلاف في تفسير التابعي من حيث الاحتجاج ، بل قد حكى بعضهم الخلاف في تفسير الصحابي(9).
ثم يحكمون في نهاية الأمر بوجوب اتباعه والأخذ به،فكيف يتفق هذا مع حكاية الخلاف الوارد عن الأئمة دون استناد يرجح وجوب الأخذ بق ول التابعي ، فهم يمرون على هذا الخلاف مروراً عاماً بلا تحقيق.
ثم إن كان ما ورد عن الصحابة والتابعين مأثوراً يجب الأخذ به على اصطلاحهم فما العمل فيما ورد عنهم من خلاف محقق في التفسير؟ وكيف يقال: يجب الأخذ به؟(1/168)
ومن نتائج عدم دقة هذا المصطلح نشأ خطأ آخر ، وهو جعل التفسير بالرأي مقابلاً للتفسير بالمأثور وهو الأنواع الأربعة السابقة حتى صار في هذه المسألة خلط وتخبط،وبنيت على هذا التقسيم معلومات غير صحيحة ، ومنها:
1- أن بعضهم يقررون في تفسير الصحابة والتابعين أنهم اجتهدوا وقالوا فيه برأيهم ، ثم يجعلون ما قالوه بهذا الرأي من قبيل المأثور ناسين ما مرروه من قول بأنهم قالوا بالرأي ، فيجعل قولهم مأثوراً وقول من بعدهم رأياً ، فكيف هذا؟ وإذا كان الصحابة قالوا في التفسير برأيهم فلا معنى لتفضيلهم على غيرهم ممن بعدهم في هذه المسألة ، وهذا لا يعني مساواة من بعدهم بهم.
2- كما تجد أن كتب التفسير تُقسّم إلى كتب التفسير بالمأثور وكتب التفسير بالرأي، وعلى سبيال المثال يجعلون تفسير ابن جرير من قبيل التفسير بالمأثور ، ولو أردت تطبيق مصطلح التفسير بالمأثور ، فإنك ستجد اختيارات ابن جرير وترجماته ، فهل هذه من قبيل الرأي أم من قبيل المأثور؟ فإن كان الأول فكيف يحكم عليه بأنه مأثور؟! وإن كان الثاني فإنه غير منطبق لوجود اجتهادات ابن جرير ، وفرق بين أن نقول: فيه تفسير بالمأثور ، أو نقول هو تفسير بالمأثور.
3- وقد فهم بعض العلماء أن من فسر بالأثر فإنه لا اجتهاد ولا رأي له بل هو مجرد ناقل، لا عمل له غير النقل ، ويظهر أن هذا مبني على ما سبق من أن التفسير بالمأثور الذي يشمل الأربعة السابقة يقابله التفسير بالرأي.(1/169)
ومن ذلك ما قاله الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: (أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور ، فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ، ولم يوضحوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر...). ثم قال: (وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين لكنه لا يلبث في كل آية أن يتخطى ذلك إلى اختياره منها،وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب ، وحسبه بذلك تجاوزاً لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور ، وذلك طريق ليس بنهج ، وقد سبقه إليه بقي بن مخلد ، ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه ، مثل ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله درّ الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور،مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين ، والزجاج والرماني ممن بعدهم ، ثم من سلكوا طريقهم، مثل الزمخشري وابن عطية).(10)
وها هنا وقفات ناقدة لهذا الكلام:
الأولى: لم يصرح الطاهر بن عاشور بأولئك الذين »جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب ألا يعدو ما هو مأثور« وفي ظني أن هذا لم يُقَل به ولكنه تأوّلٌ لكلام من يرى وجوب الأخذ بما أثر عن السلف.
الثانية: لم يورد الشيخ دليلاً من كلام الطبري يدلّ على التزامه بما روي عن الصحابة والتابعين فقط ، ولم يرد عن الطبري أنه يقتصر عليهم ولا يتعدى ذلك إلى الترجيح.
الثالثة: أنه جعل منهج الطبري كمنهج ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، وشتان بين منهج الطبري الناقد المعتمد على روايات السلف ومنهج هؤلاء الذين اعتمدوا النقل فقط دون التعقيب والتعليق ، وهذا المنهج الذي سلكوه لا يُعاب عليهم ؛ لأنهم لم يشترطوا التعليق على الآيات والتعقيب على المرويات ، بل كانوا يوردون ما وصلهم من تفاسير السلف ، وهم بهذا لا يُعدون مفسرين ، بل هم ناقلو تفسير.(1/170)
ومن هنا ترى أن الشيخ بن عاشور يرى أن من التزم بالمأثور فإنه لا يكون له رأي كالطبري. وأنّ من لم يلتزم بالمأثور فلله دره! كما قال.
وقد سبق أن ذكرت لك أن الصحابة والتابعين ومن بعدهم اعتمدوا التفسير بالرأي وقالوا به ، وإن من الأخطاء التي وقعت مقابلة أقوالهم التي هي من قبيل الرأي بأقوال أبي عبيدة والفراء وغيرهم ، بل الأعجب من ذلك أن تفاسيرهم اللغوية تجعل من المأثور وتُقابل بتفاسير أبي عبيدة والفراء والزجاج اللغوية ، وتجعل هذه لغوية.
كل هذه النتائج حصلت لعدم دقة مصطلح التفسير بالمأثور.
ما هو التفسير بالمأثور:
بعد هذا العرض ، وتجلية مصطلح التفسير بالمأثور المعتمد في كتب بعض المعاصرين يتجه سؤال ، وهو: هل يوجد تفسير يسمى مأثوراً؟
والجواب عن هذا (نعم) ، ولكن لا يرتبط بحكم من حيث وجوب الاتباع وعدمه ، بل له حكم غير هذا.
فالمأثور هو ما أثر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته وعن التابعين وعن تابعيهم ممن عُرفوا بالتفسير ، وكانت لهم آراء مستقلة مبنية على اجتهادهم.
وعلى هذا درج من ألف في التفسير المأثور؛ كبقي بن مخلد ، وابن أبي حاتم والحاكم ، وغيرهم.
وقد حاول السيوطي جمع المأثور في كتابه (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وذكر الروايات الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعيهم وتابعي تابعيهم ومن بعدهم.
وهذا لا يبنى عليه حكم من حيث القبول والرد ، ولكن يقال: إن هذه الطرق هي أحسن طرق التفسير ، وإن من شروط المفسر معرفة هذه الطرق.
أما ما يجب اتباعه والأخذ به في التفسير فيمكن تقسيمه إلى أربعة أنواع:
الأول: ما صح من تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الثاني: ما صح مما روي عن الصحابة مما له حكم المرفوع كأسباب النزول والغيبيات.
الثالث: ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون ؛ لأن إجماعهم حجة يجب الأخذ به.(1/171)
الرابع: ما ورد عن الصحابة خصوصاً أو عن التابعين ممن هم في عصر الاحتجاج اللغوي من تفسير لغوي ، فإن كان مجمعاً عليه فلا إشكال في قبوله ، وحجيته ، وإن ورد عن واحد منهم ولم يعرف له مخالف فهو مقبول كما قال الزركشي: (ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان ، فلا شك في اعتمادهم).(11).
وإن اختلفوا في معنى لفظة لاحتمالها أكثر من معنى ، فهذا يعمد فيه إلى المرجحات.
أما ما رووه عن التابعي فهو أقل في الرتبة مما رووه عن الصحابي ، ومع ذلك فإنه يعتمد ويقدم على غيره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هوامش:
(1)انظر على سبيل المثال: مناهل العرفان للزرقاني 2/1213 ، التفسير والمفسرون للذهبي 1/154 مباحث في علوم القرآن لمناع القطان.
(2)انظر مثلاً: مناهل العرفان 2/13 ، التفسير والمفسرون 1/154 لمناع القطان 347.
(3)انظر مثلاً: مباحث في علوم القرآن ، 350 ، وهذا ما يتوحى من عبارة الزرقاني.
(4)مناهل العرفان 2/1213.
(5)التفسير والمفسرون 1/15.
(6)مقدمة في أصول التفسير ، تحقيق: عدنان زرزور ، ص 93.
(7)انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان ، 350.
(8)كالزرقاني ، والذهبي ، والصباغ (لمحات في علوم القرآن ، 177 وما بعدها).
(9)لمحات في علوم القرآن ، 180.
(10)التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ، 1/32 ، 33.
(11)البرهان في علوم القرآن ، 2/172.
· تفسير الطاهر بن عاشور المعروف (بالتحرير والتنوير) بالرغم من شموله واستقصائه لما يفسره من آيات، إلا أن منهجه العقدي أشعري يؤول آيات الصفات. وللمزيد انظر الكتاب القيم (المفسرون والتأويل) للشيخ محمد المغراوي المغربي، من مطبوعات دار طيبة بالرياض.(1/172)
التفسير بالرأي
مفهومه.. حكمه.. أنواعه
(1/2)
مساعد الطيار
مفهوم الرأي:
الرأي: مصدر رأى رأياً. مهموز، ويُجمع على آراء وأرءاءٍ.
والرأي: التفكّرُ في مبادئ الأمور،ونظر عواقبها،وعلم ما تؤول إليه من الخطأ والصواب(1).
والتفسير بالرأي: أن يُعْمِلَ المفسر عقله في فَهْمِ القرآن، والاستنباط منه، مستخدماً آلات الاجتهاد. ويَرِدُ للرأي مصطلحاتٌ مرادفةٌ في التفسير، وهي: التفسير العقلي، والتفسير الاجتهادي. ومصدر الرأيِ: العقلُ، ولذا جُعِلَ التفسيرُ العقليُ مرادفاً للتفسير بالرأي.
والقول بالرأي: اجتهادٌ من القائل به، ولذا جُعِلَ التفسيرُ بالاجتهادِ مرادفاً للتفسير بالرأي.
ونتيجة الرأي: استنباط حكم أو فائدةٍ، ولذا فإن استنباطات المفسرين من قَبِيلِ القول بالرأي.
أَنْوَاعُ الرّأي، وموقف السلف منها: يحمل مصطلح (الرأي) حساسية خاصة، تجعل بعضهم يقف منه موقف المتردِّد؛ ذلك أنه ورد عن السلف، آثارٌ في ذمِّه.
بَيْدَ أنّ المستقرئ ما ورد عنهم في هذا الباب (أي: الرأي) يجد إعمالاً منهم للرأي، فما موقف السلف في ذلك؟
لنعرض بعض أقوالهم في ذلك، ثمّ نتبيّن موقفهم منه.
أقوالٌ في ذمِّ الرأي:
1- ورد عن فاروق الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: (اتقوا الرأي في دينكم)(2).
وقال: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن. أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا برأيهم، فضلّوا وأضلوا)(3).
2- وورد عن الحسن البصري (ت: 110) قوله: (اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم)(4).
أقوالٌ في إعمالِ الرأي:
ورد عن عمر بن الخطاب والحسن البصري - اللذين نقلت قولاً لهما بذمِّ الرأي ما يدلّ على إجازتهما إعمال الرأي، وهذه الأقوال:(1/173)
1- أما ما ورد عن عمر فقوله لشريح - لما بعثه على قضاء الكوفة: (انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله، فاتبع فيه سنة رسول الله لله، وما لم يتبيّن لك فيه سنة، فاجتهد رأيك)(5).
2- أمّا ما ورد عن الحسن، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أريت ما يفتى به الناس، أشيءٌ سمعته أم برأيك؟
فقال الحسن: ما كل ما يفتى به الناس سمعناه، ولكنّ رَاًيَنا لهم خيرٌ من رأيهم لأنفسهم)(6).
هذان عَلَمان من أعلام السلف ورد عنهما قولان مختلفان في الظاهر، غير أنك إذا تدبّرت قولهم، تبيّن لك أن الرأي عندهم نوعان:
* رأي مذموم، وهو الذي وقع عليه نهيهم.
* ورأي محمود، وهو الذي عليه عملهم.
وإذا لم تَقُلْ بهذا أوقعت التناقض في أقوالهم، كما قال ابن عبد البَرِّ (ت: 463هـ) - لما ذكر من حُفِظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً: (ومن أهل البصرة: الحسن وابن سيرين، وقد جاء - عنهما وعن الشعبي - ذمّ القياس، ومعناه عندنا قياسٌ على غيرِ أصلٍ؛ لئلا يتناقض ما جاء عنهم)(7). والقياس: نوع من الرأي؛ كما سيأتي.
العلوم التي يدخلها الرأي:
يدخل الرأي في كثير من العلوم الدينية، غير أنه يبرز في ثلاثة علوم، وهي: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التفسير.
أما علم التوحيد، فيدخله الرأي المذموم، ويسمى الرأي فيه: (هوىً وبدعة). ولذا تجد في كثير من كتب السلف مصطلح: (أهل الأهواء والبدع)، وهم الذين قالوا برأيهم في ذات الله - سبحانه.
وأما علم الفقه، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى الرأي فيه: (قياساً)، كما يسمى رأياً، ولذا تجد بعض عباراتٍ للسلف تنهى عن القياس أو الرأي في فروع الأحكام، والمراد به القياس والرأي المذموم.
وأما علم التفسير، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى فيه: (رأياً)، ولم يرد له مرادفٌ عند السلف، وإنما ورد مؤخراً مصطلح: (التفسير العقلي).(1/174)
وبهذا يظهر أن ما ورد من نهي السلف عن الرأي فإنه يلحق أهل الأهواء والبدع، وأهل القياس الفاسد، والرأي المذموم؛ إذ ليس كلّ قياسٍ أو رأيٍ فاسداً أو مذموماً.
حُكْمُ القَوْلِ بالرّأي:
سيكون الحديث في حكم الرأي المتعلق بالعلوم الشرعية عموماً - وإن كان يغلب عليه الرأي والقياس في الأحكام - وقد سبق أن الرأي نوعان: رأي مذموم، ورأي محمود.
أولاً: الرّاًيُ المَذْمُومُ:
ورد النهي عن هذا النوع في كتاب الله - تعالى - وسنة نبيِّه لله، كما ورد نهي السلف عنه.
وحَدّ الرأي المذموم: أن يكون قولاً بغير علمٍ وهو نوعان: علم فاسد ينشأ عنه الهوى، أو علم غير تام وينشأ عنه الجهل، ويكون منشؤه الجهل أو الهوى.
وهذا الحدّ مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله لله.
أمّا من كتاب الله فما يلي:
1- قوله - تعالى: ((قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف: 33].
2- وقوله - تعالى: ((وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 168، 169].
3- وقوله - تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)) [الإسراء: 36].
في هذه الآيات نهي وتشنيع على القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي الآية الثالثة جعله منهياً عنه. وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله بغير علم.
وأما في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم :(1/175)
فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله - عز وجل - لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف القياس)(8).
وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:
1- ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن البصري - رحمه الله - من نهيهما عن الرأي.
2- عن مسروق (ت: 63هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله يضلّ)(9).
3- وقال الزهري (ت: 124هـ): (إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها)(10).
وممن نُقِل عنه ذم الرأي أو القياس ابن مسعود (ت: 33هـ) من الصحابة، وابن سيرين (ت: 110هـ) من تابعي الكوفة، وعامر الشعبي (ت: 104هـ) من تابعي الكوفة، وغيرهم(11).
صور الرأي المذموم:
ذكر العلماء صوراً للرأي المذموم، ويطغى على هذه الصّوَر الجانب الفقهي؛ لكثرة حاجة الناس له، حيث يتعلّق بحياتهم ومعاملاتهم. ومن هذه الصور ما يلي:
1- القياس على غير أصل(12).
2- قياس الفروع على الفروع(13).
3- الاشتغال بالمعضلات(14).
4- الحكم على ما لم يقع من النّوازل(15).
5- ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، والإكثار منه(16).
6- من عارض النصّ بالرأي، وتكلف لردِّ النص بالتأويل(17).
7- ضُروب البدع العقدية المخالفة للسنن(18).
هذه بعض الصور التي ذكرها العلماء في الرأي المذموم، وسيأتي صور أخرى تخصّ التفسير.
ثانياً: الرأي المحمود:
هذا النوع من الرأي هو الذي عَمِلَ به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء الأمّة، وحدّه أن يكون مستنداً إلى علمٍ(19)، وما كان كذلك فإنه خارج عن معنى الذمِّ الذي ذكره السلف في الرأي.
ومن أدلة جواز إعمال الرأي المحمود ما يلي:(1/176)
1- مفهوم الآيات السابقة والحديث المذكور في أدلة النهي عن الرأي المذموم؛ لأنها كلها تدل على أن القول بغير علم لا يجوز، ويفهم من ذلك أن القول بعلم يجوز.
2- فعل السلف وأقوالهم، ومنها:
أ - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثرَ الناس على عبد الله (يعني: ابن مسعود) يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان نقضي ولسنا هناك، فمن ابتلي بقضاءٍ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله - ولم يَقُلْهُ نبيّه - فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر لم يقض به الصالحون - وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيّه - فليجتهد رأيه، ولا يقول: أخاف وأرى، فإن الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبَيْنَ ذلك أمورٌ مشتبهات، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم)(20).
قال ابن عبد البر (ت: 463هـ) معلقاً على هذا القول: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصولٍ يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يَجُز له أن يُحيلَ على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلٍ ولا هو في معنى أصلٍ. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبّره)(21).
ب - وعن الشعبي (ت: 104هـ) قال: لما بعث عمرُ شريحاً على قضاء الكوفة قال له: انظر ما تبيّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله فاتّبع فيه سنة رسول الله -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك)(22).
ج - وعن مسروق (ت: 63هـ) قال: سألت أُبَيّ بن كعب عن شيءٍ؛ فقال: أكان هذا؟
قلت: لا.
قال: فأجمّنا (أي: اتركنا أو أرحنا) حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا لك رأينا)(23).
الرّأيُ فِي التّفْسِير:(1/177)
اعلم أن ما سبق كان مقدمة للدخول في الموضوع الأساس، وهو التفسير بالرأي، وكان لا بدّ لهذا البحث من هذا المدخل، وإن كان الموضوع متشابكاً يصعب تفكيك بعضه عن بعض، ولذا سأحرص على عدم تكرار ما سبق، وسأكتفي بالإحالة عليه، إن احتاج الأمر إلى ذلك.
وسأطرح في هذا ثلاثة موضوعات:
الأول: موقف السلف من القول في التفسير.
الثاني: أنواع الرأي في التفسير.
الثالث: التفسير بين المأثور والرأي.
وسيتخلّل هذه الموضوعات مسائل عِدّة؛ كشروط القول بالرأي، وأدلة جواز الرأي في التفسير، وصور الرأي المذموم.... إلخ، وإليك الآن تفصيل هذه الموضوعات:
أولاً: موقف السلف من القول في التفسير:
التفسير: بيان لمراد الله - سبحانه - بكلامه، ولما كان كذلك، فإن المتصدي للتفسير عرضة لأن يقول: معنى قول الله كذا.
ثم قد يكون الأمر بخلاف ما قال. ولذا قال مسروق بن الأجدع (ت: 63هـ): (اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله - عز وجل).
وقد اتخذ هذا العلم طابعاً خاصاً من حيث توقِّي بعض السلف وتحرجهم من القول في التفسير، حتى كان بعضهم إذا سئل عن الحلال والحرام أفتى، فإذا سئل عن آية من كتاب الله سكت كأن لم يسمع.
ومن هنا يمكن القول: إن السلف - من حيث التصدي للتفسير - فريقان: فريق تكلّم في التفسير واجتهد فيه رأيه، وفريق تورّع فقلّ أو نَدُرَ عنه القول في التفسير.
وممن تكلم في التفسير ونُقِلَ رأيه فيه عمر بن الخطاب (ت: 23هـ) وعلي بن أبي طالب (ت:40هـ) وابن مسعود (ت: 33هـ) وابن عباس (ت: 67هـ) وغيرهم من الصحابة.(1/178)
ومن التابعين وأتباعهم: مجاهد بن جبر (ت: 103هـ) وسعيد بن جبير (ت: 95هـ) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: 107هـ) والحسن البصري (ت: 110هـ) وقتادة (ت: 117هـ) وأبو العالية (ت: 93هـ) وزيد بن أسلم (ت: 136هـ) وإبراهيم النخعي (ت: 96هـ) ومحمد ابن كعب القرظي (ت: 117هـ) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: 182هـ) وعبد الملك بن جريج (ت: 150هـ) ومقاتل بن سليمان (ت: 150هـ) ومقاتل بن حيان (ت: 150هـ) وإسماعيل السدي (ت: 127هـ) والضحاك بن مزاحم (ت: 105هـ) ويحيى بن سلام (ت: 200هـ)، وغيرهم.
وأما من تورّع في التفسير فجمعٌ من التابعين (24) من أهل المدينة والكوفة.
أما أهل المدينة، فقال عنهم عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع(25).
وقال يزيد بن أبي يزيد: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام - وكان أعلم الناس - فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع)(26).
وقال هشام بن عروة بن الزبير: (ما سمعت أبي يتأوّل آية من كتاب الله قطّ)(27).
وأمّا أهل الكوفة فقد أسند إبراهيم النخعي إليهم قَولَه: (كان أصحابنا - يعني: علماء الكوفة - يتّقون التفسير ويهابونه)(28).
هذا.. ولقد سلك مسلك الحذر وبالغ فيه إمام اللغة الأصمعي (ت: 215هـ)، حيث نقل عنه أنه كان يتوقّى تبيين معنى لفظة وردت في القرآن(29).
فما ورد عن هؤلاء الكرام من التوقي في التفسير إنما كان تورّعاً منهم، وخشية ألاّ يصيبوا في القول.
ثانياً: أنواع الرأي في التفسير:
الرأي في التفسير نوعان: محمود، ومذموم.
النوع الأول: الرأي المحمود.
إنما يحمد الرأي إذا كان مستنداً إلى علم يقي صاحبه الوقوع في الخطأ. ويمكن استنباط أدلةٍ تدلّ على جواز القول بالرأي المحمود.
ومن هذه الأدلّة ما يلي:
1- الآيات الآمرة بالتدبّر:(1/179)
وردت عدّة آيات تحثّ على التدبّر؛ كقوله - تعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) [محمد: 24]، وقوله: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [ص: 29]. وغيرها من الآيات.
وفي حثِّ الله على التدبر ما يدلّ على أن علينا معرفة تأويل ما لم يُحجب عنا تأويله؛ لأنه محالٌ أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له: اعتبر بما لا فهم لك به(30).
والتدبّر: التفكّر والتأمّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلامٍ قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبِّر تدبّراً انكشف له معانٍ لم تكن له بادئ النظر(31).
والتدبّر: عملية عقلية يجريها المتدبر من أجل فهم معاني الخطاب القرآني ومراداته، ولا شك أن ما يظهر له من الفهم إنما هو اجتهاده الذي بلغه، ورأيه الذي وصل إليه.
2- إقرارُ الرسول - اجتهادَ الصحابة في التفسير: لا يبعد أن يقال: إن تفسير القرآن بالرأي نشأ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك وقائع يمكن استنباط هذه المسألة منها، ومن هذه الوقائع ما يلي:
أ - قال عمرو بن العاص: - بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام ذات السّلاسِلِ، فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثمّ صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟
قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أَهْلَكَ، وذكرتُ قول الله: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29] فتيمّمْتُ، ثم صليت، فضحك - ولم يقل شيئاً)(32).(1/180)
في هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا الاجتهاد والرأي.
ب - وفي حديث ابن مسعود، لما نزلت آية: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) [الأنعام: 82] قلنا يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه، فقال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13])(33)، ترى أن الصحابة فهموا الآية على العموم، وما كان ذلك إلا رأياً واجتهاداً منهم في الفهم، فلما استشكلوا ذلك سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرشدهم إلى المعنى المراد، ولم ينههم عن تفهّم القرآن والقول فيه بما فهموه. كما يدل على أنهم إذا لم يستشكلوا شيئاً لم يحتاجوا إلى سؤال الرسول. والله أعلم.
3- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل) وفي إحدى روايات البخاري: (اللهم علمه الكتاب)(34).
والتأويل: التفسير، ولو كان المراد المسموع من التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيره(35)، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن(36)، وهذا الفهم إنما هو رأيٌ لصاحبه.
4- عمل الصحابة: مما يدل على أن الصحابة قالوا بالرأي وعملوا به ما ورد عنهم من اختلافٍ في تفسير القرآن؛ إذ لو كان التفسير مسموعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وقع بينهم هذا الاختلاف.
ومما ورد عنهم نصاً في ذلك قولُ صدِّيق الأمة أبي بكر - رضي الله عنه - لما سئل عن الكلالة، قال: (أقول فيها برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان)(37).(1/181)
وكذا ما ورد عن علي - رضي الله عنه - لما سئل: هل عندكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ سوى القرآن؟ قال: (لا، والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إلا أن يُعطِي الله عبداً فهماً في كتابه)(38).
والفهم إما هو رأي يتولّد للمرء عند تفهّم القرآن؛ ولذا يختلف في معنى الآية فهم فلان عن غيره.
الهوامش :
(1) الغيث المسجم في شرح لامية العجم للصفدي، 1/63.
(2) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، 190، وانظر، ص 192، الأثر رقم 217.
(3) المدخل إلى السنن الكبرى، 191، وانظر قولاً لمسروق في جامع بيان العلم، 2/168، وقولاً للزهري، 2/169.
(4) المدخل إلى السنن الكبرى، 196.
(5) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، 2/71، وانظر، ص 74.
(6) جامع بيان العلم، 2/75.
(7) جامع بيان العلم، 2/77، وانظر كلام ابن بطال في هذا الموضوع في فتح الباري، 13/301.
(8) انظر الحديث في فتح الباري، (13/295).
(9) جامع بيان العلم، 2/168.
(10) جامع بيان العلم 2/169.
(11) انظر: جامع بيان العلم، 2/77، وفتح الباري، 13/310.
(12) جامع بيان العلم، 2/70، 71، 77.
(13، 14، 15) جامع بيان العلم، 2/170.
(16) الاعتصام للشاطبي، 1/104.
(17) فتح الباري، 13/303.
(18) جامع بيان العلم، 2/169.
(19) العلم يقابل الجهل المذكور في حدِّ الرأي المذموم، أما الهوى، فيقابله الورع؛ لأنّ الوَرَعَ يقي صاحبه من مخالفة الحقِّ.
(20) جامع بيان العلم، 2/70 ـ 71.
(21، 22) جامع بيان العلم، 2/71.
(23) جامع بيان العلم، 2/72، وانظر غيرها من الآثار، ص 69 ـ 79.
(24) لم أجد نقلاً عن أحد من الصحابة يدل على أن مذهبه كهذا المذهب الذي برز عند التابعين.
(25) تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/85.
(26) تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/86.
(27، 28) فضائل القرآن لأبي عبيد، 229.(1/182)
(29) انظر في ذلك: الكامل للمبرد (تحقيق: الدالي) 2/928، 4135، تهذيب اللغة 1/14، إعجاز القرآن للخطابي (تحقيق: عبد الله الصديق) 42.
(30) انظر: تفسير الطبري (ط شاكر)، 1/82 ـ 83.
(31) التحرير والتنوير، 23/252.
(32) مسند الإمام أحمد، 4/203، 204، وأبو داود برقم 335، وانظر تفسير ابن كثير، 2/480، والدر المنثور، 2/497.
(33) أخرجه البخاري في أكثر من موضع، كتاب الإيمان ح/32، أحاديث الأنبياء/3360، 3428.
(34) انظر: فتح الباري، 1/204، وانظر شرح ابن حجر، 1/204 ـ 205.
(35) انظر: تفسير القرطبي، 1/33، وجامع الأصول، 2/4.
(36) انظر: فتح الباري، 1/205.
(37) انظر قوله في تفسير الطبري، (ط شاكر)، 8/53، 54.
(38) رواه البخاري، (فتح الباري، 1/246) وغيرها من المواضع التي ذكرها لهذا الحديث.(1/183)
التفسير بالرأي
مفهومه.. حكمه.. أنواعه
(2/2)
مساعد الطيار
شروط الرأي المحمود في التفسير:
متى يكون الرأي محموداً؟
سبق في بيان حدِّ الرأي المحمود أنه ما كان قولاً مستنداً إلى علمٍ؛ فإن كان كذلك فهو رأيٌ جائز، وما خرج عن ذلك فهو مذموم.
ولكن.. هل لهذا العلم حدّ يُعْرَفُ به، بحيث يمكن تمييزه والتعويل عليه في الحكم على أيِّ رأيٍ في التفسير؟
لقد اجتهد بعض المتأخرين في بيان جملة العلوم التي يحتاجها من يفسر برأيه حتى يخرج عن كونه رأياً مذموماً.
فالراغب الأصفهاني (ت: القرن الخامس) جعلها عشرة علوم، وهي: علم اللغة، والاشتقاق، والنحو، والقراءات، والسّيَر، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة(1).
وجعلها شمس الدين الأصفهاني (ت: 749) خمسة عشر علماً، وهي: علم اللغة، والاشتقاق، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءات، وأسباب النزول، والآثار والأخبار، والسنن، وأصول الفقه، والفقه والأخلاق، والنظر والكلام، والموهبة(2).
وقد ذكر الأصفهانيان أن من تكاملت فيه هذه العلوم خرج عن كونه مفسراً للقرآن برأيه (أي: المذموم).
وقد نبّه الراغب على أن (من نقص عن بعض ما ليس بواجبٍ معرفته في تفسير القرآن، وأحسّ من نفسه في ذلك بنقصه، واستعان بأربابه، واقتبس منهم، واستضاء بأقوالهم، لم يكن - إن شاء الله - من المفسرين برأيهم)(3). (أي: المذموم).
وفيما يظهر - والله أعلم - أن في ذكر هذه العلوم تكثّّراً لا دليل عليه، مع ما على بعضها من ملاحظة؛ كعلم الكلام.
إن تكامل هذه العلوم أشبه بأن يكون شرطاً في المجتهد المطلق لا في المفسر؛ إذ متى يبلغ مفسر تكامل هذه العلوم فيه؟(1/184)
ولو طُبق هذا الرأي في العلوم المذكورة لخرج كثير من المفسرين من زمرة العالمين بالتفسير، ولذا تحرّز الراغب بذكر حال من نقص علمه ببعض هذه العلوم، وبهذا يكون ما ذكره بياناً لكمال الأدوات التي يحسن بالمفسر أن يتقنها، وإن لم يحصل له ذلك فإنه يعمد إلى النقل فيما لا يتفق له.
ويظهر أن أغلب المفسرين على هذا السبيل، ولذا ترى الواحد منهم يُبرِز في تفسيره العلم الذي له به عناية؛ فإن كان فقيهاً - كالقرطبي، برز عنده تفسير آيات الأحكام.
وإن كان نحوياً - كأبي حيان - برز عنده علم النحو في تفسيره للقرآن.
وإن كان بلاغياً أديباً - كالزمخشري - برز عنده علم البلاغة في تفسيره للقرآن،... وهكذا.
هذا.. ويمكن القول بأن النظر في هذا الموضوع يلزم منه معرفة ما يمكن إعمال الرأي فيه، مما لا يمكن، ثم تحديد مفهوم التفسير لمعرفة العلوم التي يحتاجها المفسر برأيه.
أما التفسير فنوعان: ما جهته النقل، وما جهته الاستدلال.
والأول: لا مجال للرأي فيه، والثاني: هو مجال الرأي.
ومن التفسير الذي جهته النقل: أسباب النزول، وقصص الآي، والمغيبات، ويدخل فيه كلّ ما لا يتطرّق إليه الاحتمال؛ كأن يكون للفظ معنى واحدٌ في لغة العرب.
وأما التفسير من جهة الاستدلال : فكل ما تطرّق إليه الاحتمال؛ لأن توجيه الخطاب إلى أحد المحتملات دون غيره إنما هو برأيٍ من المفسر، وبهذا برز الاختلاف في التفسير.
وأما مفهوم التفسير؛ فهو بيان المراد من كلام الله ـ سبحانه ـ وما يمكن أن يحصل به البيان فهو تفسيرٌ.
وبهذا يظهر أن كثيراً من العلوم التي ذكرها الأصفهانيان لا يلزمان في التفسير إلا بقدر ما يحصل به البيان، وما عدا ذلك فهو توسّع في التفسير، بل قد يكون في بعض الأحيان به خروجٌ عن معنى التفسير، كما حصل للرازي (ت: 604) في تفسيره، ولابن عرفه (ت: 803) في إملاءاته في التفسير.(1/185)
ثم اعلم أن هذه التوسعات إنما حصلت بعد جيل الصحابة والتابعين - في الغالب - وإنما كان ذلك بظهور أقسام العلوم - من نحوٍ وفقه وتوحيد وغيرها - وتَشَكّلها؛ مما كان له أكبر الأثر في توسيع دائرة التفسير، حتى صار كل عالمٍ بفنٍّ - إذا شارك في كتابة علم التفسير - يصبغ تفسيره بفنِّه الذي برّز فيه.
ويمكن تقسيم العلوم التي يحتاجها من فسر برأيه إلى نظرين:
الأول: نظرٌ في علوم الآية:
ويكون ذلك بالنظر إلى ما في الآية من علوم؛ كالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، ومفردات اللغة، وأساليبها، وهكذا.
وإنما يقال ذلك؛ لأنه ليس في كل آية ما يلزم منها بحث هذه العلوم؛ إذ قد توجد في آية، وتتخلّف عن آيات.
* وإذا أمعنت النظر وجدت أن علم اللغة هو من أهم العلوم التي يجب على المفسر معرفتها، ذلك أنه لا تخلو آية من مبحثٍ لغوي.
ومن الآثار التي وردت عن السلف في بيان أهمية اللغة، ما يلي:
1- عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ذكره ـ)(4).
2- وروي عن مجاهد (ت: 104) أنه قال: (لا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب)(5).
3- وعن يحيى بن سليمان قال: سمعت مالك بن أنس (ت: 179) يقول: (لا أوتى برجلٍ يفسر كتاب الله غير عالم بلغات العرب إلا جعلته نكالاً)(6).
ولو قرأت في تفسير السلف لوجدت أثر اللغة في التفسير عندهم، ومن أوضح ذلك استشهادهم بأشعار العرب:
ومن أمثلة أهمية معرفة اللغة لمن فسر برأيه ما يلي:
أ - في تفسير قوله - تعالى: ((وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ)) [التوبة: 47] قال الأزهري (ت: 37): (قول الليث: الوضع: سيرٌ دونٌ. ليس بصحيح.
والوضع: هو العَدْوُ. واعتبر الليث اللفظ ولم يعرف كلام العرب فيه)(7).(1/186)
ب - قال الأزهري (ت: 370): (... عن أبي حاتم (ت: 255) في قوله: ((فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)) [الأنبياء: 87] أي: لن نضيِّق عليه.
قال - أي: أبو حاتم : ولم يدر الأخفش ما معنى ((نَقْدِرَ))، وذهب إلى موضع القُدرة، إلى معنى: فظنّ أن يفوتنا، ولم يعلم كلام العرب حتى قال: إن بعض المفسرين قال: أراد الاستفهام: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟ ولو علم أن معنى نقدر: نضيِّق، لم يَخْبِط هذا الخبط، ولم يكن عالماً بكلام العرب، وكان عالماً بقياس النحو)(8).
* ومن العلوم التي يلزم معرفتها الناسخ والمنسوخ وما شابهه من المباحث؛ كالمطلق والمقيد، والخاص والعام، ومعرفتها لازمة للمفسر بلا شك، ومن الآثار التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: (انتهى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رجل يقصّ(9)، فقال: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكتَ وأهلكتَ)(10).
وقد استدل مَنْ كتب في علم الناسخ والمنسوخ في القرآن بهذا الأثر لبيان أهمية هذا العلم. وإذا كان علي ـ رضي الله عنه ـ قد اعترض على القاصِّ؛ فالمفسر من باب أوْلى ينبغي أن ينبّه إلى ذلك، لما في جهل هذا العلم من أثر في عدم فهم التفسير.
* ومن العلوم سبب النزول وقصص الآي؛ ذلك أن معرفة سبب النزول وقصص الآي يفيد في معرفة تفسير الآية.
ومن الأمثلة التي تدل على أهمية معرفة هذا الجانب، وأن عدم معرفته يوقع في الخطأ، ما وقع لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت: 210) في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ((وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)) [الأنفال:11] حيث قال: (مجازه: يفرغ عليهم الصبر، وينزِّلُه عليهم، فيثبتون لعدوهم)(11).
وسبب النزول يدلّ على خطأ أبي عبيدة في تفسيره هذا، فلما لم يعرف السبب نحى في تفسيره هذا المنحى اللغوي الذي لا تدلّ عليه الآية بسببها.(1/187)
والتثبيت المذكور في الآية حقيقي، وهو أن أقدام المسلمين لا تسوخ في الرمل لما نزل عليه المطر، وبهذا جاء التفسير عن الصحابة الذين شاهدوا النزول، وعن التابعين الذين نقلوا عنهم(12).
* ومنها معرفة السنة النبوية، ويكون ذلك بالرجوع إلى صريح التفسير عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يكون بالرجوع إلى أقواله وأفعاله التي لها أكبر الأثر في فهم القرآن.
ومما يمكن التمثيل به من استعانة المفسر بالسنة النبوية، ما رواه الطبري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي: إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدركه ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر...)(13).
ثم إن عدم معرفة السنة التي تفسر القرآن قد تجعل المفسر يجنح إلى مصدر آخر؛ فيفسر به لعدم ورود هذا التفسير النبوي إليه.
ومما يمكن أن يُمثّل به هنا ما روي عن السلف في تفسير قوله - تعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)) [القلم: 42] فقد فسّر جمع من السلف الساق بالمعنى اللغوي، أي: عن أمر شديد(14)، ومنهم: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة(15).
وقد ورد في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسُمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحداً)(16).
وهذا الحديث يفسِّرُ الساق الذي جاء في الآية نكرةً لم يُضَفْ، ويبيِّن أن المراد بالساق ساق ربنا ـ عزّ وجلّ ـ.
ولو لم يَرِدْ هذا الحديثُ لاعتُمِدَ قول ابن عباس وتلاميذه في تفسير الساق، والله أعلم.
وبعد.. فهذه بعض العلوم التي إن جهل المفسر بها فإنه يقع في التأويل الخطأ، ولا يحالفه الصواب في معنى الآية(17).
الثاني: نَظَرٌ في طبقة المفسر:(1/188)
المفسرون الذين يجب الرجوع إلى أقوالهم، والأخذ بها، وعدم الخروج عنها هم الصحابة والتابعون وأتباعهم. فما جاء عنهم فإنه لازم لمن بعدهم ـ من حيث الجملة ـ ولا يجوز مخالفتهم.
وكان عدم الاعتماد على تفسيرهم من أهم أسباب بروز الرأي المذموم، كما يشير إليه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) بقوله: (وأما النوع الثاني من سببي الخلاف ـ وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل ـ فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حَدَثَتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يُذكر فيها كلام هؤلاء صرفاً لا يكاد يوجد فيها شيءٌ من هاتين الجهتين)(18).
ولما كان لهؤلاء السلف من تقدّمٍ في العلم شهد لهم به كل من جاء بعدهم من العلماء؛ فإن الاعتماد على أقوالهم مدعاة للخروج عن الرأي المذموم، ولذا جعل ابن جرير من شروط المفسر أن لا يكون تأويله وتفسيره خارجاً عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة(19). ويجب التنبه إلى أن كل من رجع إلى أقوالهم وتخيّر منها، فإنه قائل بالرأي؛ لأن تخيره معتمد على عقله كما فصل ابن جرير الطبري في تفسيره.
النوع الثاني: الرأي المذموم وصوره في التفسير:
الرأي المذموم في التفسير هو القول في القرآن بغير علم، سواءً أكان عن جهلٍ أو قصورٍ في العلم أم كان عن هوى يدفع صاحبه إلى مخالفة الحق، وقد سبق بيان ذلك مع أدلة النهي عنه.
ومن صور الرأي المذموم ما يلي:
1- تفسير ما لا يعلمه إلا الله:
وهو أحد أوجه التفسير التي أوردها ابن عباس، ويشتمل على أمرين:
أحدهما: تكييف المغيبات التي استأثر الله بعلمها؛ كتكييف صفاته ـ سبحانه ـ، أو غيرها من المغيبات.
ثانيها: تحديد زمن المغيبات التي ورد ذِكْرُ خروجها؛ كزمن خروج الدابة، أو نزول عيسى، أو غير ذلك.
فهذه الأشياء لا سبيل للبشر إلى معرفتها؛ فمن زعم أنه قادرٌ على ذلك فقد أعظم الفرية على الله.
2- من ناقض التفسير المنقول أو أعرض عنه:(1/189)
يشمل التفسير المنقول: كل ما نُقل عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو أصحابه أو التابعين وأتباعهم، فمن أقدم على التفسير دون الرجوع إلى التفسير المنقول فإنه سيقع في الرأي المذموم؛ لأن جُزءاً من التفسير لا يمكن معرفته إلا عن طريق النقل عنهم؛ كأسباب النزول، وقصص الآي، وناسخها... وغيرها.
3- من فسر بمجرد اللغة دون النظر في المصادر الأخرى:
إن التسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وغيرها؛ مُوقِعٌ في الخطأ، فمن لم يُحكّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من قال برأيه المذموم(20).
واعتماد اللغة فقط دون غيرها من المصادر، هو أحد أسباب الخطأ الذي يقع في التفسير، كما حكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية(21).
4- أن يكون له رأي فيتأول القرآن على وفق رأيه(22):
ويكثر هذا عند أهل الأهواء والبدع، حيث أنهم يعتقدون الرأي، ثم يبحثون عن دليله، وقد يحرّفون الكلم عن مواضعه ليوافق آراءهم، ولو لم يكن لهؤلاء هذا الاعتقاد والرأي لما فسر القرآن بهذه التفسيرات المنحرفة.
ويقع خطأ أولئك على أقسام:
الأول: الخطأ في الدليل والمدلول: وذلك أن المفسر يستدل لرأيه بدليل، ويكون رأيه الذي استدل له باطلٌ فيستلزم بطلان دلالة الدليل على المستدل له.
ومثال ذلك أن المعتزلة اعتقدوا أن الله ـ سبحانه ـ لا يُرى في الآخرة، وهذا باطل، ثم استدلوا لهذا بقوله ـ تعالى ـ: ((لَن تَرَانِي)) [الأعراف: 143] فجعلوا ((لَن)) لتأبيد النفي، وهذا غير صحيح في هذا الموضع.
ومثاله ـ كذلك ـ استدلال بعض المتصوفة على جواز الرقص ـ وهو حرام ـ بقوله ـ تعالى:
((ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)) [ص: 42](23).
فالرّقص حرام، والآية لا تدل عليه لا من قريب ولا من بعيد.
الثاني: الخطأ في الاستدلال لا في المدلول: وفي هذا يكون المدلول بذاته صحيحاً، ولكن حَمْل الآية عليه لا يصح.(1/190)
ومثاله ما فسر به بعضهم قوله ـ تعالى ـ: ((إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) [البقرة: 249].
حيث قال: (هذه الآية مَثَلٌ ضربه الله للدنيا، فشبهها الله بالنهر، والشارب منه بالمائل إليها المستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة)(24).
فهذا الكلام ـ من حيث هو في ذاته مجرداً عن الآية ـ كلام صحيح، ولكنّ جَعْلَهُ تفسيراً للآية خطأٌ ظاهرٌ، ولذا قال القرطبي (ت: 671) معلقاً على هذا القول: (ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريف في التأويل، والخروج عن الظاهر، ولكن معناه صحيح من غير هذا)(25).
وبعد.. فهذه بعض صور التفسير بالرأي المذموم. والله أعلم.
التفسير بين الأثر والرأي:
لقد ظهر ـ من خلال الأمثلة الدالة على جواز الرأي ـ أن الرأي قد برز في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان قليلاً، ثم اتسع وانتشر أكثر في عهد الصحابة ومَنْ بعدهم.
كما ظهر أن مِن الصحابة والتابعين وأتباعهم مَنْ فسروا القرآن برأيهم، فهل نُسمِّي ما ورد عنهم تفسيراً بالمأثور، وما ورد عن غيرهم تفسيراً بالرأي؟
إن تقسيم التفسير على هذا النحو فيه قصورٌ ظاهرٌ(26)، وذلك لأمرين:
الأول: أن أغلب من قسّم هذا التقسيم جعل حكم المأثور وجوب الأخذ به على إطلاقه، مع أن بعضهم يحكي خلاف العلماء في قبول أقوال التابعين، كما ينسى حكم ما اختلفوا فيه: كيف يجب الأخذ به مع وجود الاختلاف بينهم؟
الثاني: أن في ذلك تناسياً للجهد التفسيري الذي قام به السلف، وتجاهلاً لرأيهم في التفسير الذي يُعَدّون أول من بذره وأنتجه.
إن هؤلاء السلف قالوا في القرآن بآرائهم، كما قال المتأخرون بآرائهم، ولكن شتان بين الرأيين؛ فرأي السلف هو المقدّم بلا إشكال.(1/191)
إن المقابلة بين التفسير بالمأثور (على أنه تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين) والتفسير بالرأي (على أنه ما عدا ذلك) خطأ محضٌ لا دليل عليه من قول السلف أو من العقل.
إن تسمية تفسير السلف تفسيراً بالمأثور باعتبار أن طريق الوصول إليه هو الأثر تسميةٌ لا غبار عليها، وهو بهذا لا يقابل التفسير بالرأي، بل التفسير بالرأي ممتزج فيه؛ لأن من تفسيرهم ما هو نقلٌ لا يصح تركه أو إنكاره؛ كأسباب النزول، ومنه ما هو استدلال وقولٌ بالرأي، وكلا هذين عنهما؛ إنما طريقنا إليه هو الأثر.
كتب التفسير بين الرأي والأثر:
بناءً على ما وقع من مقابلة التفسير المأثور بالتفسير بالرأي، وقع تقسيم التفاسير إلى تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي، وقد نشأ بسبب ذلك قصورٌ آخر، وذلك في أمرين:
الأول: أنه قَلّ أن تترك التفاسير المعتبرة أقوال السلف، بل تحرص على حكايتها، ومع ذلك تجد أن بعض هذه التفاسير حُكِمَ عليه بأنه من التفسير بالمأثور والآخر من التفسير بالرأي(27).
والصواب أن يقال: إن المفسر الفلاني مكثر من الرواية عن السلف مكثر من الاعتماد على أقوالهم، والآخر مقلّ من الرواية عنهم أو الاعتماد عليهم.
الثاني: أن من حُكِمَ على تفسيره بأنه من التفسير بالمأثور قد حِيفَ عليه وتُنُوسي جهده الخاص في الموازنة والترجيح بين الأقوال التي يذكرها عن السلف، وأشهر مثالٍ لذلك إمام المفسرين ابن جرير الطبري، حيث يعدّه من يقابل بين التفاسير بالمأثور والتفسير بالرأي من المفسرين بالأثر، وهذا فيه حكم قاصرٌ على تفسير الإمام ابن جرير، وتعامٍ أو تجاهلٌ لأقواله الترجيحية المنثورة في كتابه.
هل التفسير منسوب إليه أم إلى من يذكرهم من المفسرين؟!
فإذا كان تفسيره هو؛ فأين أقواله وترجيحاته في التفسير؟!
أليست رأياً له؟
أليست تملأ ثنايا كتابه الكبير؟!
بل أليست من أعظم ما يميّز تفسيره بعد نقولاته عن السلف؟!(1/192)
إن تفسير ابن جرير من أكبر كتب التفسير بالرأي، غير أنه رأي محمود؛ لاعتماده على تفسير السلف وعدم خروجه عن أقوالهم، مع اعتماده على المصادر الأخرى في التفسير.
كما أن تفسيره من أكبر مصادر التفسير المأثور عن السلف، وفَرْقٌ بين أن نقول: فيه تفسير مأثور، أو أن نقول: هو تفسير بالمأثور؛ لأن هذه العبارة تدل على أنه لا يذكر غير المأثور عن السلف، وتفسير ابن جرير بخلاف ذلك؛ إذ هو مع ذكر أقوالهم يرجِّح ويعلِّل لترجيحه، ويعتمد على مصادر التفسير في الترجيح.
ولكي يَبِين لك الفرق في هذه المسألة: وازن بين تفسيره وتفسير عَصْرِيّهِ ابنِ أبي حاتم (ت: 327) الذي لا يزيد على ذكر أقوال السلف، وإن اختلفت أقوالهم فلا يرجح ولا يعلق عليها، أليس بين العالمين فرق؟
وأخيراً.. هذه بعض قضايا في التفسير بالرأي، والموضوع يحتاج إلى بحث أعمق وأطول، والله الموفق.
الهوامش:
(1) انظر: مقدمة جامع التفاسير، 93-97.
(2) انظر: حاشية 7، ص 148، من كتاب التيسير في قواعد علم التفسير للكافيجي، وقد استفاد شمس الدين من الراغب؛ كما يظهر بالموازنة بين قوليهما، وقد نقل عن شمس الدين كلّ من: الكافيجي في التيسير 145-148، والسيوطي في الإتقان، 4/185.
(3) انظر: مقدمة جامع التفاسير للراغب (تحقيق: أحمد فرحات) 96، وعنه نقل الكافيجي في التيسير، 148.
(4) تفسير الطبري (ط: شاكر)، 1/75.
(5) انظر: البرهان للزركشي، 1/92. (6) ذم الكلام للهروي (تحقيق: سميح دغيم)، وشعب الإيمان للبيهقي، 5/232.
(7) تهذيب اللغة، 3/73. (8) تهذيب اللغة للأزهري، 9/20.
(9) القُصّاص: قوم جلسوا للوعظ والتذكير، وهم يذكرون آياتٍ وأحاديث يستشهدون بها في أحاديثهم مع الناس.
(10) الناسخ والمنسوخ للنحاس (تحقيق: اللاحم) 1/410، ومما ينبغي التنبّه له أن النسخ عند السلف أوسع من اصطلاح الأصوليين؛ حيث يشمل كل إزالة تكون في الآية.(1/193)
(11) مجاز القرآن 1/242. (12) انظر: تفسير الطبري، (ط: الحلبي)، 9/195 ـ 197.
(13) تفسير الطبري (ط: الحلبي) 27/65 ـ 66. عند تفسير قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ)) [النجم: 32].
(14) انظر: الطبري (ط: الحلبي) 29/38، حيث ترجم عن من قال بهذا القول بهذه الترجمة.
(15) انظر: تفسير الطبري (ط: الحلبي) 29/38 وما بعدها.
(16) رواه البخاري تحت تفسير قوله تعالى: ((يوم يكشف عن ساق)) ـ (فتح الباري 8/531).
(17) هذا الموضوع يحتاج إلى بسطٍ أكبر، وما ذكرته فهو إشارة لا تُغني عن البحث فيه.
(18) مقدمة في أصول التفسير (تحقيق: عدنان زرزور) 79.
(19) انظر: تفسير الطبري (ط: شاكر) 1/93.
(20) انظر: تفسير القرطبي 1/34. (بتصرف).
(21) انظر: مقدمة في أصول التفسير، (تحقيق: عدنان زرزور)، ص 81.
(22) انظر: تفسير القرطبي 1/33، ومقدمة في أصول التفسير، ص 81 وما بعدها.
(23) انظر: تفسير القرطبي، 15/215.
(24) تفسير القرطبي، 3/251.
(25) تفسير القرطبي، 3/251.
(26) قد فصلت القول في مصطلح التفسير بالمأثور، انظر مجلة البيان عدد 76.
(27) انظر على سبيل المثال محمد حسين الذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) وتقسيمه التفاسير بين المأثور والرأي من غير أن يورد ضابطاً يمكن التعويل عليه في هذا التقسيم، وقد قلّده آخرون في هذا من غير استدراك ولا تعقيب.
Cd مجلة البيان(1/194)
تفسير
جزء عم
د . مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
المقدمة :
... الحمد لله الرحمن ، علم بالقلم ، علم البيان ، علم الإنسان ما لم يعلم ، أنزل خير كتبه عربياً ، على النبي الأمي العربي خير أنبيائه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين .
... أما بعد ، فإن علم التفسير من أشرف العلوم ؛ لأنه يتعلق ببيان كلام رب السموات والأرض ، الذي هو أشرف كلام ، وأعلاه وأجله ، وقد أردت أن أنخرط في سلك من ألف في هذا العلم ، وأحوز شرف بيان كلام الرب ، وأسأل الله سبحانه أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يكون من الخير المقدم بين يدي يوم ألقاه ، وأن يكون شافعاً لي يوم العرض الأكبر .
... وسيكون مجال هذا التأليف في الجزء الأخير من أجزاء القرآن ؛ لكثرة تزداده بين المسلمين في الصلوات وغيرها .
... ولم أدخل فيه العلوم التي يتطرق إليها المفسرون ، ويتوسعون بذكرها ، كعلم النحو ، وعلم البلاغة ، وعلم الفقه ، وغيرها . كما لم أدخل فيه الفوائد والاستنباطات التي هي خارجة عن حد التفسير ، وبها تتمايز كتب التفسير في المنهج ، وتطول أو تقصر بسببها .
... وسلكتُ في بيان هذا الجزء وتفسيره طريق المتن والحاشية .
... أما المتن ، فجعلته في صلب التفسير ، وجعلته – قدر المستطاع – واضح المعنى ، سهل العبارة ، مع الحرص على بيان مفردات القرآن اللغوية في ثناياه .
... وأما الحاشية ، فجعلتها للاختلاف الوارد في التفسير عن السلف ، ولتوجيه أقوالهم ، وبيان سبب الاختلاف ، وذكر الراجح من الأقوال ، كل ذلك قدر الإمكان ، والله المستعان.
... ولا تخلو الحاشية من بعض الفوائد الأخرى ، لكنها لما لم تكن هي المقصد في هذا التأليف، فإنها جاءت قليلة ، وليس لها نظام ، وإنما هي مما يطرأ خلال البحث ، أو يجر إليه .(1/195)
وقد اعتمدت في الوارد عن السلف في التفسير ، على تفسير الإمام ابن جرير الطبري (ت : 310) ، وإن نقلت عن غيره أفصحت عن ذلك ، وإن كان موطن التفسير في الآية من السورة المفسرة ، لم أذكر الجزء ولا الصفحة ؛ لسهولة الرجوع إليها ، وإن كان في غير موطن الآية ذكرتهما .
كما حرصت على نقل ترجيحاته وتعليقاته على أقوال المفسرين ، لما فيها من الفوائد في قواعد الترجيح وضوابطها ، وبيان المفردات اللغوية وشواهدها ، وغير ذلك مما لا يخفى على من قرأ ترجيحاته وتعليقاته التفسيرية .
ورجعت إلى بعض التفاسير ، ولم أكثر ، لعدم حاجة المنهج الذي سلكته في هذا التفسير، فرجعت إلى دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية (ت : 728) ، وتفسير ابن القيم (ت:751) في كتابه التباين في أقسام القرآن ، وغيرها من كتبه ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت:774) ، والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور (ت:1393) .
وقبل أن أشرع في التفسير ، سأذكر بعض ما يسمر في هذا البحث من المسائل المتعلقة بالتفسير وأصوله ، والله المستعان .
المسألة الأولى : مفهوم التفسير :
التفسير في اللغة : الإيضاح والكشف والبيان ، ومنه : فسر عن ذراعه : إذا كشفها.
أما في الاصطلاح ، فله عدة تعاريف عند العلماء ، وكثير منها يدخل فيه بعض علوم القرآن على سبيل الوصف لهذا العلم ، لا بيان الحد المطابق الذي قد يتعذر في تعريف بعض العلوم ، فيكون التعريف بالوصف أوضح لها .
وبعيداً عن هذه التعاريف والنظر في اختلافها ، أذهب بك إلى محاولة لوضع ضابط لما يخص هذا العلم من المعلومات التي تجدها في كتب التفسير ، ويكون ما وراء هذا الضابط من متممات التفسير وعلومه ، لا من صلبه وأصله .(1/196)
إذا انطلقت من التعريف اللغوي الذي هو البيان ، وعرف التفسير بأنه : بيان القرآن الكريم وإيضاح معانيه ، فإن الضابط فيما يدخل في صلب التفسير هو البيان ؛ أي : ما كان فيه بيان عن المعنى المراد بالآية ، فهو من صلب التفسير ، وما كان خارجاً عن حد البيان ، بحيث يفهم المعنى من دونه ، فهو من متممات التفسير وعلومه ، لا من صلبه واصله ، إذ المقصود من التفسير فهم معاني القرآن ، فإذا حصل هذا الفهم وصح ، صحت الفوائد المستنبطة عليه غالباً ، وإذا كان الفهم غير صحيح ، كانت الفوائد المستنبطة والمترتبة عليه غير صحيحة .
وهذه العلوم التي ترد في كتب التفسير ، وهي خارجه عن حد البيان ، لا يعني أنها غير مفيدة ، بل الفائدة موجودة فيها قطعاً ، وإنما النظر هنا إلى كونها ينطبق عليها مصطلح البيان، أو لا ينطبق .
فمن الأمثلة التي ينطبق عليها ضابط البيان ، تفسير قوله تعالى : {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} [النبأ : 14] ، فإن لا يمكن أن تفهم المعنى على تمامه إذا لم تعلم معنى {المعصرات} ومعنى {ثجاجا} ، فإذا علمت أن {المعصرات} هي السحاب ، وأن {ماء ثجاجا} هو الماء المنصب بكثرة وغزارة ، أتضح لك المعنى العام للآية ، وصار بيانها : وأنزلنا من السحاب ماء منصباً بكثرة وغزارة ، وهو المطر .
ومن الأمثلة التي لا ينطبق عليها ضابط البيان ، تفسير قوله تعالى : {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص : 4] ، قال الطاهر بن عاشور : "وتقديم خبر (كان) على أسمها ؛ للرعاية على الفاصلة ، وللاهتمام بذكر الكفؤ عقب الفعل المنفي ، ليكون أسبق إلى السمع"(1) .
... ذكر الطاهر بن عاشرو فائدتين من تقديم خبر كان ، وهاتان الفائدتان من علوم التفسير، لا من صلبه ؛ لأنك لو لم تعلمهما ، فإنه لا يخفى عليك المعنى المراد بالآية ، وهو التفسير ، وإن كان في ذكرهما فائدة .
__________
(1) ... التحرير والتوير : 30 : 620 .(1/197)
... وقس على هذا كثيراً من مسائل النحو ، والفقه ، والبلاغة ، وغيرها مما يتفنن بذكره من ألف في التفسير ، فإنه إنما زادت المؤلفات وتنوعت بسبب الاهتمام بعلوم التفسير ، لا بصلبه ، ولو اعتنى المفسرون بصلبه فقط ، لتقاربت مناهجهم ، وإنما تمايزت بسبب إدخالهم هذه العلوم التي قد تبعد طالب التفسير عنه ، بل قد تزهده بصلبه ، وهو لا يدري أنه هو المراد الأول ، والمطلب الأمثل لدارس التفسير ، وأن هذه الفوائد إنما تبنى على صحة التفسير ، فإذا كان الفهم خطأ ، كانت الفوائد المترتبة عليه أخطاء كذلك ، فلا تغفل عن هذا المعنى ، وتأمله ، وقلبه في فكرك لتتبين صحته من خطئه ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
المسألة الثانية : أنواع الاختلاف وأسبابه :
... التفسير : إما أن يكون مجمعاً عليه ، وإما أن يكون مختلفاً فيه . وإما أن يكون متعلقاً بتفسير الألفاظ ، وإما أن يكون متعلقاً بالمعاني .
... والاختلاف الوارد في التفسير : إما أن يرجع إلى معنى ، وإما أن يرجع إلى أكثر من معنى ، وهذا ما سأذكر تفصيله .
... أولاً : الاختلاف الذي يرجع إلى معنى واحد :
... يرد في هذا القسم ثلاثة أنواع من الاختلاف ، وهي :
... النوع الأول : أن يذكر من الأسم العام أمثلة له ، فتكون كلها عائدة إلى معنى واحد ، وهو المعنى العام ، ومن أمثلته : تفسير قوله تعالى : {علمت نفس ما قدمت وأخرت} [الإنفطار : 5] ، وقوله تعالى : {وشاهد ومشهود} [البروج : 3] ، وقوله تعالى : {النجم الثاقب} [الطارق: 3] ، وقوله تعالى : {والذي قدر فهدى} [الأعلى : 3] ، وقوله تعالى : {فإذا فرغت فأنصب} [الشرح : 7] ، وغيرها .
... النوع الثاني : أن يفسر اللفظ بألفاظ متقاربة ، وكلها تعود إلى معنى واحد ، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى : {واليل وما وسق} [الانشقاق : 17] ، وقوله تعالى : {والقمر إذا أنسق} [الانشقاق : 18] ، وغيرها .(1/198)
... النوع الثالث : أن يحتمل المفسر أكثر من وصف ، فيذكر كل مفسر وصفاً من هذه الأوصاف ، كلها تعود إلى معنى واحد ، مثل تفسير قوله تعالى : {عن النبإ العظيم} [النبأ :2] ، وتفسر قوله تعالى : {وكأساً دهاقا} [النبأ : 34] ، وقوله تعالى : {والتين والزيتون} [التين :1] وغيرها .
... وهذا الأنواع كلها تدخل في اختلاف التنوع ؛ لأن الآية يمكن أن يتحمل على جميع المعاني الصحيحة الواردة فيها بلا تعارض ولا تناقص وإن قدم أحدها في الترجيح ، فعلى سبيل اختيار القول الأولى ، دون اطراحِ غيرها من الأقوال ، والله أعلم .
... ثانياً : الاختلاف الذي يرجع إلى أكثر من معنى :
... وهذا الاختلاف نوعان ، وذلك بحسب احتمال الآية له .
... النوع الأول : أن تحتمل الآية الأقوال الواردة فيها ويدخل بذلك في اختلاف التنوع ، ومن أمثلته : تفسير قوله تعالى : {لتركبن طبقاً عن طبق} [الانشقاق : 19] ، وقوله تعالى : {ثم السبيل يسرم} [عبس : 20] ، وغيرها .
... ويكثر في هذا النوع ما يرد من أوصاف تحتمل أكثر من موصوف ، فيحملها المفسر على أحد هذه الموصوفات ، ويحملها غيره على موصوف آخر ، ومن أمثلته : تفسير قوله تعالى : {يوم يقوم الروح} [النبأ : 38] ، وقوله تعالى : {والنازعات} [النازعات : 1] ، وما بعدها من الأوصاف ، وقوله تعالى : {فلا أقسم بالخنس} [التكوير : 15] ، وغيرها .
... النوع الثاني : أن لا تحتمل الآية الأقوال الواردة فيها ، وذلك بسبب التضاد ، وهو أنك إذا حملت الآية على قول انتفى الآخر ؛ كاختلافهم في تفسير (القرء) من قوله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة : 228] ، وهذا النوع قليل في التفسير الوارد عند السلف .(1/199)
... ويلاحظ أن بعض التضاد يمكن أن تحتمله الآية لسبب خاص بها ، ومن ذلك تفسير قوله تعالى : {والليل إذا عسعس} [التكوير : 17] ، حيث فسر بـ "أقبل" ، و "أدبر" ، وهما معنيان متضادان ، لكن لما كان محل الإقبال – وهو أول الليل – والإدبار – وهو آخر الليل – مختلفاً ، جاز حمل الآية على المعنيين معاً ؛ ليكون الإقسام بأول الليل وآخره .
ومنه تفسير قوله تعالى : {وإذا البحار سجرت} [التكوير : 6] ، فقد ورد في تفسيرها : امتلأت، ويبست ، وهما من معاني التسجير في اللغة ، ولكنها ضدان ، فإذا حملتهما على اختلاف الزمن الحاصل فيه هذا الفعل ، وجعلت الفعل دالاً على هذين الحالين ، صح حمل الآية عليهما معاً ، لهذا السبب ، والله أعلم .
... أما أسباب الاختلاف في التفسير فكثيرة ، ويلاحظ أن أنواع الاختلاف السابقة في حقيقتها أسباب اختلاف ، كما يلاحظ أن أسباب الاختلاف كأنواعه ، منها ما هو اختلاف محقق، ومنها ما الاختلاف فيه أشبه بالصوري ؛ لائتلاف الأقوال في النهاية على قول واحد ، ولذا سأذكر بعضها في الأسباب ، ومنها :
... 1- الاشتراك اللغوي ، وهو أن يكون للفظ أكثر من معنى في لغة العرب ، ومنه تفسير قوله تعالى : {وأنزلنا من المعصرت} [النبأ : 14] ، وقوله تعالى {ولا يذوقون فيها رداً} [النبأ : 24] ، وقوله تعالى : {يسقون من رحيق مختوم} [المطففين : 25] ، وغيرها .
... 2- التواطؤ : وهو أن يشترك الأفراد في المسمى اشتراكاً متساوياً ، فنسبة أحدهم إلى المسمى كنسبة الآخر ، ويشمل التواطؤ الأوصاف التي تحتمل أكثر من وصف ؛ كالنازعات ، والخنس ، والغاشية ، والفجر ، والعاديات ، وغيرها .(1/200)
... كما يشمل الضمير الذي يحتمل رجوعه إلى أكثر من مرجع ؛ كما في تفسير قوله تعالى {ياأيها الإنسن إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه} [الانشقاق : 6] فقيل : ملاق ربك ، وقيل : ملاق عملك ، وقوله تعالى : {وإنه على ذلك لشهيد} [العاديات : 7] ، قيل : إن الإنسان...، وقيل : إن ربه ...، وغيرها من الأمثلة .
... 3- التفسير بالمثال ، والاختلاف فيه يعود إلى قول واحد ، وإنما ورد الاختلاف بينهم بسبب أنهم عمدوا إلى ذكر أمثلة للمعنى العام ؛ كتفسيرهم قول الله تعالى : {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى : 11] ، وقوله تعالى : {ثم لتسئلن يؤمئذ عن النعيم } [التكاثر : 8] ، والله أعلم .
... 4- أن يكون تفسير المفسر على اللفظ ، ويكون تفسير غيره على المعنى أو القياس، وهذه هي الأصول التي يعود إليها التفسير :
... أما التفسير على اللفظ ، فهو تفسير اللفظ بما ورد في لغة العرب .
... وأما التفسير على المعنى ، فهو ما كان خارجاً عن المعنى المطابق للفظ في لغة العرب ، مبيناً للمعنى المراد من اللفظ في الآية ، ولم يكن من باب القياس ؛ كتفسير قتادة لقوله تعالى : {أو إطعم في يوم ذي مسغبة} [البلد : 14] ، قال : يوم يشتهى الطعام ، والمسبغة : المجاعة ، فعبر عنها بهذا التعبير ، وهو أعم من يوم المجاعة ؛ لأن الطعام يشتهى في كل وقت ، لكنه في يوم المجاعة أكثر .
... وكذا تفسيره لقوله تعالى : {والنهار إذا جلها} [الشمس : 3] ، قال : إذا غشيها ، والتجلية : الإظهار والإيضاح ، فإذا جلاها النهار ، فقد غشيها ، فيكون تعبيراً عن لازم اللفظ، لا عن معناه في اللغة ، والله أعلم .(1/201)
... وأما التفسير على القياس ، فهو حمل الآية على ما يشابهها في المعنى ، أو تدل عليه بدلالة الإشارة ، كتفسير سورة النصر بأنها قرب أجل الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس : "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكان بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر : إنه من حيث علمتم ، فدعا ذات يوم ، فأدخلني معهم ، فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم .
... قال : ما تقولون في قوله تعالى : {إذا جاء نصر الله والفتح} [النصر : 1] ؟ فقال بعضهم : أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً .
... فقال لي : أكذاك يا ابن عباس ؟ قلت : لا ، قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له ، قال : إذا جاء نصر الله والفتح ، وذلك علامة أجللك ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً .
... فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول " .
... وأسباب الاختلاف غير هذه كثيرة، وإنما أشرت هنا إلى بعضها ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : طبقات السف في التفسير :
... فسر السلف القرآن باجتهادهم ، وكان ممن خاض فيه : الصحابة والتابعون وأتباع التابعين . وهؤلاء هم الذين نقلت أقوالهم الكتب التي تحرص على التفسير المأثور عنهم .
وقل أن تجد بعد هذه الطبقات من اشتهر برأيه في التفسير ، بل صار الحال على نقل أقوالهم ، ولا يعرف من كان له اجتهاد بارز فيمن تأخر عنهم كاجتهاد ابن جرير الطبري (ت:310) ، فقد كان يتخير من أقوالهم ، وينقد بعضها بأسلوب علمي متين ، ويسير في ذلك على قواعد واضحة ، حتى برزت فيه شخصية المفسر المرجح ، أو المفسد الناقد ؟
وقد برز في جيل الصحابة حبر الأمة وترجمان القرآن : عبد الله بن العباس بن عبد المطلب (ت :65) ، وكان بحق رائد التفسير ، وأستاذه الذي لا يجاريه فيه أحد .(1/202)
وبرز بعده تلاميذه ؛ كسعيد بن جُبير (ت : 94) ومجاهد بن جبر (ت:104) ، وعكرمة (ت : 105) ، وعطاء بن أبي رباح (ت : 114) ، وغيرهم .
وبرز فيه من أهل البصرة : أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي (ت : 93) الذي أخذ عن أهل المدينة وعن ابن عباس، فكانت مشاربه العلمية مختلفة ، والحسن البصري (ت : 110)، وتلميذه قتادة بن دعامة السدوسي (ت : 117) .
وبرز في المدينة : محمد بن كعب القرظي ( ت : 118) ، وزيد بن أسلم (ت : 136) .
وبرز في الكوفة : أبو صال باذام ، مولى أم هائ ، وإبراهيم النخعي (ت : 96) ، وعامر الشعبي (ت : 103) ، وأبي مالك غزوان الغفاري .
وبرز في الكوفة : أبو صالح باذام ، مولى أم هانئ ، وإبراهيم النخعي (ت: 96) ، وعامر الشعبي (ت : 103) ، وأبي مالك غزوان الغفاري .
وفي جيل أتباع التابعين ، برز في مكة : عبد الملك بن جريج (ت : 150) ، وسفيان الثوري (ت : 161) الذي كان منشأ حياته في الكوفة ، ثم سكن مكة والمدينة ، وسفيان بن عيينة (ت : 195) الكوفي الذي استوطن مكة .
وبرز في المدينة عبد الرحمن بن زيد بن اسلم (ت : 182) .
وبز في الكوفة : إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (ت : 128) ، ومحمد بن السائب الكلبي (ت : 146) .
وبرز في بغداد : مقاتل بن سليمان البلخي (ت : 150) .
وبرز في خراسان : الربيع بن أنس البكري ، البصري ثم الخراساني (ت : 139) ، والضحاك بن مزاحم البلخي (ت : 105) ، ومقاتل بن حيان البلخي (ت:150) .
وفي الشام : عطاء بن أبي مسلم ميسرة الخرساني (ت : 135) .
والموضوع في المفسرين وتراجمهم يطول ، وهذه الإشارة لا تغن ، وإنما ذكرتهم لتعرف طبقاتهم ووفاتهم إذا مر بك تفسير من تفاسيرهم ، وليس هؤلاء كل المفسرين في هذه الطبقات ، وإنما هم أمثلة تيسرت لي أثناء هذه الكتابة ، فقيدتهم ؟
وأسأل الله تعالى أن يوفقني للكتابة في هذا الموضع ، إنه مجيب الدعاء ؟
المسألة الرابعة : تفسير السلف للمفردات :(1/203)
طبقات السلف في التفسير ثلاثة ، وهي : طبقة الصحابة ، طبقة التابعين ، وطبقة أتباع التابعين ؟
وهذه الطبقات هي التي نقل عنها التفسير ، وغالب من كتب بعدهم ينقل أقوالهم ، حتى جاء ابن جرير فظهر في منهجه التفسيري المفسر الناقد ، أو المرجح ، فأخذ هذه الأقوال ووازن بينها ، وبين الراجح منها على غيره بقواعد كان ينتهجها ويسير عليها .
والمقصود أن السلف في طبقاتهم الثلاث تكلموا في التفسير أو نقله ممن تقدمهم ، ويرد عنهم – كثيراً – تفسيرات لألفاظ القرآن ، فما الموقف منها من حيث اللغة ؟ .
أما الصحابة فلا خلاف في حجيتهم في اللغة ، وأن الوارد عنهم كالوارد من غيرهم من شعراء الجاهلية وغيرهم من العرب ، ويلحق بهم التابعون الذين عاصروا زمن الاحتجاج ، ولا يخرج أحدهم من الاحتجاج بقوله إلا بعلة ظاهرة .
أما أتباع التابعين ، فقد كان في أول عصر تدوين اللغة ، ولذا ، فإن لم تحتج بما ورد عنهم من تفسيرات لغوية في ثبوت معاني الألفاظ في اللغة ، فالأقرب أن يكونوا من نقلة اللغة .
وإذا نظرت في تدوين معاني مفردات اللغة وجدت أنه بدأ في النصف الثاني من القرن الثاني على يد جمع من علماء اللغة ، وكانت كتاباتهم أشبه بالرسائل الصغيرة تكون في الموضوع والموضوعين ، أو في أشياء شتى ؟ في كتابه العين ، ثم تبعه غيره من علماء اللغة ؛ كالتلميذة النضر بن شميل (ت : 204) الذي ألف كتاب الجيم ، وأبي عمرو شمر بن حمدويه (ت : 255) الذي ألف كتاب الجيم ، وأبي طالب المفضل بن سلمة (ت : 321) الذي ألف كتابه الجمهرة في اللغة، وغيرهم .
وهذه المؤلفات اللغوية وغيرها مما ألفه علماء اللغة فيها ، صارت المرجع لأي دارس يبحث عن معاني مفردات كلام العرب ، فهل يعني أن هذه المؤلفات اللغوية شملت كل معاني مفردات ألفاظ العرب ؟(1/204)
قال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت : 224) : "... الجدف : لم أسمعه إلا في هذا الحديث، وما جاء إلا وله أصل ، ولكن ذهب من كان يعرفه ويتكلم به ، كما ذهب من كلامهم شيء كثيرا"(1) .
وقال الأزهري (ت : 370) : "وروي عن إبراهيم أن المسيح : الصديق . قال أبو بكر(2) : : واللغويون لا يعرفون هذا ، قال : ولعل هذا قد كان مستعملاً في بعض الأزمان فدرس فيما درس من الكلام .
قال : وقال الكسائي : قد درس من كلام العرب شيء كثير"(3) .
وقد ورد هذا المعنى عن غير واحد من اللغويين ، فإن كان ذلك كذلك ، فاعلم أنه قد ورد عن السلف تفسير لبعض المفردات قد لا تجدها في معاجم اللغة ، فما الموقف منها ؟
لأذكر لك مثال يجري عليه التطبيق ، وهو تفسير قوله تعالى : {وإذا الوحوش حشرت} [التكوير : 5] ، فقد ورد عن أبي بن كعب تفسير حشرت : اختلطت ، وإذا رعت إلى المعاجم(4) لا تجد هذا المعنى ، بل تجد أن الحشر : جمع مع سوق ، كما تجد حكاية تفسير ابن عباس لهذه الآية ، وهو أن الحشر : الموت ، فما الموقف من تفسير أبي بن كعب ؟
الموقف الأول : أن تجعل هذا المعنى الذي ذكره الصحابي ابي بن كعب معنى لغوياً لهذه اللفظة ، فيكون أحد معانيها التي لم يطلع عليها اللغويون ، وكادت أن تندرس مع ما اندرس من كلام الرعب ، فلم ينقلوها ، ويكون معنى الحشر في لغة العرب : الجمع ، والموت ، والخلط .
الموقف الثاني : إن ترد هذا المعنى ولا تقبله ، وتقول : إنه غير معروف من كلام العرب؛ لأنك لما بحثت في كتب اللغة لم تجد هذا المعنى ، ولا وجدت شاهداً يدل عليه من لغتها .
__________
(1) ... تهذيب اللغة : 10 : 671 .
(2) ... هو ابن الأنباري .
(3) ... تهذيب اللغة : 4 : 347 .
(4) ... انظر مثلاً : مقاييس اللغة ، ولسان العرب ، وتاج العروس ، مادة (حشر) ؟(1/205)
وإذا ذهبت هذا المذهب ، فلاحظ أنك وقعت في عدم الاعتداد بقول الصحابي العربي الذي هو أدرى بلغته وبتفسير كلام ربه منك ، وأنك حملته على ما نقله من جاء بعده ممن جهل هذا المعنى فلم ينقله ، ولم تجعل تفسير الصحابي أصلاً تعتمده ، وتجعله هو بذاته شاهداً عربياً كغيره من شواهد العربية عند اللغويين .
وأنت بهذا الفعل كأنك ممن يحمل المتقدمين على مصطلحات من جاء بعدهم فتلزمهم بها، وهذا العمل معروف بطلانه وما فيه من الخطأ ؛ أعني : كأنك تريده على ما علمه من جاء بعده دون ما علمه هو ، وليس هذا المعنى الذي عرفته – وهو الجمع – مما قد خفى عليه ، بل هو مشهور معروف في كلامه ؟
الموقف الثالث ك إن تتوسط بين الموقفين السابقين ، فتجتهد في توجيه المعنى الذي ذكره إلى المعنى المشهور ، فتقول : إن أبي بن كعب فسر حشرت باختلطت من باب التفسير بلازم اللفظ ، بمطابقه ، ذلك أن كل جمع بين أشياء يلزم منه الاختلاط ، فيكون عبر عن المعنى اللازم دون البيان عن معنى الكلمة المباشر في لغة العرب ؟ وتكون بهذا قبلت قوله ، وجعلته مندرجاً تحت المعنى المشهور من اللفظ ، والله أعلم .
وهذا الموقف الأخير لا يتأتى في كل مثال وارد عن السلف في معاني المفردات التي لا تجدها في كتب اللغة ، فكن على علم بذلك .
ومما أختم به هذه المسألة : أن تفرق بين ترجيح قول من أقوالهم ، وبين الاعتراض عليه لغة ، والأمر في هذا أنك لو رجحت معنى الجمع في تفسير الحشر ، فإن هذا لا يعني أنك ترد الدلالات اللغوية الأخرى الواردة عن السلف ، أما إذا أنكرت أن يكون الخلط من معاني الحشر في اللغة ، فقد وقعت في رد ما ورد عنهم ، فتأمل الفرق بين الأمرين ، والله الموفق .
وأخيراً ن هذا جهدي ، فما كان فيه من خطأ وزلل فمني وحدي ، وما كان فيه من صواب فبفضل الله ومنته .(1/206)
وفي ختام هذه المقدمة اسأل الله القبول ، والثبات على دينه حتى الممات ، واسأله أن يسير لي خدمة كتابه ، إنه على كل شيء قدير ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه : مساعد بن سليمان الطيار
المملكة العربية السعودية / الرياض
ص.ب : 43058 / الرياض : 11561
ناسوخ (فاكس) : 4923616
سورة النبأ
آياتها : 40
سورة النبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
عم يتساءلون * عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مخلفون * كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون * ألم نجعل الأرض مهدا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعل الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا * إن يوم الفضل كان ميقاتا * يوم ينفخ في الصور فتأتون فواجا * وفتحت السماء فكانت أبوابا * وسيرت الجبال فكان سرابا * إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مئابا * لبثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا * جزاء وفاقا * إنهم كانوا لا يرجون حسابا * وكذبوا بآياتنا كذابا * وكل شيء أحصيناه كتبا * فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا * إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأساً دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا * رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا * ذلك اليوم الحق فمن شاء أتخذ إلى ربه مئاباً * إنا أنذرنكم عذابا قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً } .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
... 1- قوله تعالى : {عم يتساءلون } أي : عن أي شيء يسال كفار مكة بعضهم بعضاً .(1/207)
... 2- قوله تعالى : {عن النبأ العظيم} ؛ أي : يتساءلون عن الخبر العظيم الذي استطار أمره بينهم ، وهو القرآن ، ويحتمل أن يكون البعث(1) .
... 3- قوله تعالى : {الذي هم فيه مختلفون } ؛ أي : صاروا فيه فرقاً في حقيقة هذا النبأ وصحته(2) .
... 4- 5- قوله تعالى : {كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون } ؛ أي : ليس الأمر(3) كما يزعم هؤلاء المختلفون في النبأ ، وسيعلمون عاقبة اختلافهم فيه(4) ، وهذا وعيد للمختلفين في النبأ ، وكرر الوعيد لتأكيده .
... 6- عدد الله في هذه الآيات نعمة الكونية على الناس ، والتي لو تفكر فيها هؤلاء الكفار، لما وقع منهم اختلاف في النبأ العظيم الذي جاءهم من عند الله ، فقال تعالى : {ألم نجعل الأرض مهدا} ، وهو استفهام على سبيل التقرير ، معناه : أن الله جعل هذه الأرض البسيطة مهيئة للناس كالمهاد الذي يمتهدونه ويفترشونه .
__________
(1) ... يشهد لمن قال : القرآن ، وهو مجاهد ، أن الاختلاف وقع فيه بين كفار مكة ، فوصفوه بأنه شعر ، وكهانة ، وكذب ، وغيرها ، وهو أعلم من القول الثاني ؛ لأن البعث جزء من أخبار القرآن الذي وقع فيه الاختلاف .
(2) ... يلاحظ أن الله سبحانه وتعالى لم ينص على النبأ بعينه ، وإنما اكتفى بذكر وصفه : بأنهم اختلفوا فيه، وهذا سبب في وقع الخلاف ، ولك أن تقول : إن سبب الاختلاف التواطؤ ، أو ذكر وصف لموصوف محذوف ، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى قولين ، والله أعلم .
(3) ... كذا فسر الطبري لفظ "كلا" ، وهو من أفضل التعبيرات عن معناها ، وهي هنا بمعنى الرد ويعبر عنه بعض العلماء بالردع والزجر ، وهي تكون كذلك إذا وقع قبلها باطل أو خطأ من كلام أو فعل ، والله أعلم .
(4) ... عبر بعض المفسرين عن ذلك أنهم سيعلمون حقيقة النبأ ، وذلك القول أعلم ، لأنهم إذا علموا عاقبتهم فيه ، فإنهم سيكونون قد علموا حقيقته لزوماً ، والله أعلم .(1/208)
... 7- قوله تعالى : {والجبال أوتادا} ؛ أي : وجعلنا الجبال الراسيات كالوتد الذي تشد به أطناب الخيمة ، فتمسك الأرض كي لا تميد بأهلها كما تمسك الأوتاد الخيمة فلا تسقط .
8- قوله تعالى : {وخلقناكم أزواجاً} ؛ أي : أنشأناكم وقدرناكم وجعلناكم أيها الناس من ذكر وأنثى .
9- قوله تعالى : {وجعلنا نومكم سباتا} ؛ أي : جعلنا نومكن راحة ودعة لكم ، تهدأون به وتسكنون(1) .
10- قوله تعالى : {وجعلنا الليل لباسا} ؛ أي : جعلناه يغشاكم بظلامه ، فيكون لكم كاللباس الذي سيتركم(2) ، فتستريحون فيه بعد عناء التقلب في النهار .
11- قوله تعالى : {وجعلنا النهار معاشا} ؛ أي : جعلنا لكم النهار المبصر وقتاً للتعيش ؛ أي : طلب المعاش الذي تقوم به حياتكم .
12- قوله تعالى : {وبنينا فوقكم سبعا شدادا } ، أي : رفعنا فوقكم بناء : سبع سماوات محكمة قوية البنيان ، ليس فيهافطور ، ولا خلل في الخلق .
13- قوله تعالى : {وجعلنا سراجا وهاجا} ؛ أي : جعلنا في السماء الشمس كالسراج المتقد المضيء .
__________
(1) ... يذكر بعض المتأخرين ممن يحرص على تكثير الاحتمالات اللغوية في معاني الآي أقوالاً خمسة في معنى السبات ، وهو تكثر لا داعي له ؛ لأن أشهر المعاني في مادة سبت : الراحة ، قال ابن فارس في مقاييس اللغة ( 3: 124) : السين والباء والتاء أصل واحد يدل على راحة وسكون . أما تفسيره : بالموت ، أو النوم ، أو التمدد ، أو القطع ، فإنها وإن كانت صحيحة لغة ، فإنها مما تنبو عنها فصاحة القرآن في هذا الموضع ، كما أن سياق الآية الوارد في مجال الامتنان يردها ، والله أعلم .
(2) ... قال قتادة : لباساً : سكناً ، وهذا تفسير بالمعنى ، وكأنه اعتبر قوله تعالى : {وجعل الليل سكنا} [الأنعام : 96] ، وقوله تعالى : {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} [يونس : 67] ، وهو يؤول إلى معنى اللباس بالنظر إلى التغطية والستر فيهما ، والله أعلم .(1/209)
14- قوله تعالى : {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا} ؛ أي : أنزلنا من السحاب(1) مطراً غزيراً .
15- قوله تعالى : {لنخرج به حبا ونباتا} أي : أنزلنا المطر من السحاب لأجل أن نخرج الحب ، وهو شامل الجميع الحبوب ؛ كالقمح والشعير والأرز ، وغيرهما ، ونخرج النبات ، وهو ما عدا الحبوب مما ينبت في الأرض ؛ كالنخيل والرمان والأعناب ، وغيرها .
16- قوله تعالى {وجنات ألفافا}(2)
__________
(1) ... ورد هذا عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وعن أبي العالية ، والضحاك ، والربيع بن أنس، وسفيان . وفسرها مجاهد وعكرمة وقتادة ومقاتل وابن زيد بأنها الرياح ، وعليه فقوله : "من" يكون بمعنى الباء ؛ أي : أنزلنا بالرياح ، والصواب أنها السحاب ، وعليه تبقى "من" على بابها ، وهو أولى ؛ لأنه إذا تعرض ظاهر الآية احتمال التأويل ، قدم الظاهر . ... ... ... ... =
(2) ... ويبقى أنه يستفاد من تفسير هؤلاء صحة إطلاق المعصرات على الرياح من حيث اللغة ، لوروده عنهم ، وإن لم تحتمله الآية .
... وقد ورد عن الحسن وقتادة تفسير غريب ، وهو أن المعصرات : السماء ، وهذا إن حمل على التفسير على المعنى ، كان له وجه ، ويكون تفسيرهما على إرادة الجهة التي تأتي منها المعصرات ، لا أنه تفسير مطابق لمعنى المعصرات ؛ كما جاء في قوله تعالى : {وأنزلنا من السماء ما طهورا} [الفرقان : 48] ، والله أعلم .
... ويكون الاختلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى . وسبب الاختلاف هنا المعصرات وصف لموصوف محذوف ، وهو محتمل لأحد المعنيين المذكورين ، ويترجح أحدهما بدلالة ظاهر الآية .
( ) ... في هذه الآيات (6-16) أدلة على البعث ، أنظر في تفصيلها : تتمة أضواء البيان ، لمحمد عطية سالم.(1/210)
؛ أي : ونخرج بالمطر البساتين(1) التي التفت أغصان أشجارها بعضها على بعض(2) .
17- قوله تعالى : {إن يوم الفصل كان ميقاتا} ؛ أي : إن يوم القيامة كان موعدا مؤقتا للجمع بين هذه الخلائق ، ليفصل الله فيه بينها(3) .
18- قوله تعالى : {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا} ؛ أي : يوم الفصل هو يوم ينفخ إسرافيل عليه اسلام النفخة الثانية في البوق ، فتجيئون إليه الناس زمراً زمر ، وجماعات جماعات(4).
19- قوله تعالى : {وفاتحت السماء فكانت أبواباً} ؛ أي : صار في السماء فروج على هيئة الأبواب ، حتى أن الناظر إليها يراها أبواباً مفتحة(5)
__________
(1) ... سميت البساتين جنات ، لأنها تجن من بداخلها ؛ أي : تستره ، وهذا هو أصل معنى هذه المادة في لغة العرب .
(2) ... عبر بهذا ابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد ، وقتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة ومعمر بن راشد، وابن زيد ، وسفيان . وجاء عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : مجتمعة ، وهو تفسير بالمعنى ؛ لأن من لازم التفافها أن تكون مجتمعة .
(3) ... أكد الخبر بـ "إن" لأنه مما كان يخالف فيه المشركون ، وقد وقعت هذه الآية بعد قوله تعالى : {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات الفافا} [النبأ : 14-16] ، للمشابهة التي بين خروج النبات وخروج الناس من قبورهم يوم البعث .
(4) ... جاء الفعل " ينفخ " مبنياً للمفعول اهتماماً بالحديث ، وهو النفخ في الصور ، وطوي ذكر قيامهم من قبورهم ، وسيرهم إلى أرض المحشر تنبيها على سرعة هذا الحدث ، وأن الفاصل بين البعث والإتيان يسير جداً ، والله أعلم .
(5) ... بنى الفعل " فتحت " للمعفول للاهتمام بالحديث ، وقرئ بتشديد التاء ، وفيه مبالغة : إما لكثرة الفتح ، وإما لشدته . وجاء الفعل ماضياً ، والحدث لم يقع بعد ، لتأكد وقوعه وتحققه ، وفي هذا الحدث فساد لنظام هذا الجرم العظيم ، وهو إيذان بنهاية هذا العالم الفاني .
... وقد ورد هذا المعنى في غير ما آية ؛ كقوله تعالى : {ويوم تشقق السماء بالغمم ونزل الملائكة تنزيلاً} [الفرقان : 25] ، وقوله : {فإن أنشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن : 37] ، وقوله : {وانشقت السماء فهي يومئذ واهبة} [الحافة : 16] ، وقوله : {وإذا المساء فرجت} [المرسلات:9] وقوله : {إذا السماء انفطرت} [الانفطار : 1] ، وقوله : {إذا السماء انشقت} [الانشقاق : 1] .(1/211)
.
20- قوله تعالى : {وسيرت الجبال فكانت سراب} ؛ أي : يجعل الله هذه الجبال الأوتاد للأرض تسير ، حتى تصل إلى مرحلة الهباء الذي يتطاير ، فيحسبه الرائي جبلاً ، وإذا هو كالسراب الذي يراه الرائي على أنه ماء ، وهو ليس كذلك(1) .
21- قوله تعالى : {إن جهنم كانت مرصادا} ؛ أي : إن نار جهنم كانت ذات ارتقاب، ترقب من يجتازها وترصدهم(2) .
22- قوله تعالى : {للطاغين مئابا } ؛ أي : إن جهنم للذين تجاوزوا الحد في العصيان حتى بلغوا الكفر ، مرجع ومصير يصيرون إليه وستقرون فيه .
__________
(1) ... بُنى الفعل للمفعول للاهتمم بالحدث ، وقد ذكر الله في هذه الآية حالين للجبال في هذا اليوم ، وهما التسيير ، وتحولهما إلى هيئة السراب ، وهي مرحلة الهباء والعهن الذي ذكره الله بقوله : {وبست الجبال بسا * فكانت هباء منبثا} [الواقعة : 5-6] ، وقوله : {وتكون البجال كالعهن المنفوش} [القارعة : 5] ، وقوله : {وكانت الجبال كتيبا مهيلا} [المزمل : 14] ، وبين هذين الحالين أحوال تمر بها في هذا اليوم ، كداك ، والنسف ، والرجف ، ذكرها الله في مواضع من القرآن .
(2) ... لما كان المقام مقام وعيد وتهديد للمختلفين في النبأ قدم ذكر جهنم ، التي هي اسم من أسماء دار العذاب الأخروي ، والمرصاد : مكان الرصد والترقب ، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الصراط الذي وضع على متن جهنم ، فيمر الناس عليه ، فتختطف النار بكلاليبها وخطاطيفها أهلها الذين حكم الله عليهم بدخولها ، وقد أشار السلف في تفسير هذه الآية إلى المرور على النار ؛ كالحسن ، وقتادة ، وسفيان الثوري .(1/212)
23- قوله تعالى : {لابثين فيها أحقابا} أي : إن هؤلاء الطاغين ماكثون ومقيمون في النار أزماناً طويلة تلو أزمان لا انقطاع لها(1)
__________
(1) ... ورد عن بعض السلف – كالحسن وقتادة والربيع بن أنس – تحديد مدة الحقب ، ومع ذلك نبهوا على أن هذه الأحقاب تتوالى على الكافرين فلا تنتهي ، وهذا يرفع ما يورده بعض من استدل على فناء النار بهذه الآية ، وذلك أنه كان للحب مدة محددة ، لكن الله أطلق هذه الأحقاب فلم يقيدها بعدد ، فصدق عليهم أنهم يمكثون في النار أحقاباً لا حصر لها ، كما لو قيل : لابثين فيها سنين ، فهذا لا يمنع الخلود ، فهم يصدق عليهم أنهم يلبثون سنين ، لكن لا حصر لها .
... وفيه توجيه آخر ذكره الطبري ، فقال : وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك : لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب ، وهو أنهم : {لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا} [النبأ : 24-25] ، فإذا انقضت تلك الأحقاب ، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك ؛ كما قال جل ثناؤه في كتابه : {هذا وإن للطاغين لشر مئاب * جهنم يصلونها فبأس الهماد * هذا فليذوقوه حميم وعشاق * وءاخر من شكله أزواج} [ص : 55- 58] ، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية .
... وقد ذكر الإمام الطبري عن مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ : 30] ، ثم قال : "ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله : {لابثين فيها أحقابا} [النبأ : 23] ، ثم قال : " ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله : {لابثين فيها أحقابا} [النبأ : 23] خبر ، والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ في الأمر والنهي " .
... ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف – وهو مطلق الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها ، وهو أعم من المصطلح الذي ذكره الطبري – لما كان في الأمر إشكال ، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبين أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب ، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره .
... ويظهر من هذا المثال وغيره أ، الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثال هذا المثال ، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر ، وهي أن تعرف مصطلح كل قوم ، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم ، فتقع في الخطأ ، وأعظم ما يكون الخطأ إذ حملت ألفاظ القرآن والسنة على المصطلحات حادثة مبتدعة ، فتقع بذلك الطوام ، وتحرف نصوص الكتاب والسنة . انظر في ذلك : الصواعق المرسلة ، لابن القيم ، تحقيق : الدخيل الله (1 : 189 – 192).(1/213)
.
24- قوله تعالى : {لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا} ؛ أي : لا يحسون ولا يطعمون فيها هواء يبرد حر السعير عنهم(1) ، ولا يشربون شيئاً يروى عطشهم الذي نتج عن هذا الحر .
25- قوله تعالى : {إلا حميما وغساقا} ؛ أي : لا يذوقون البرد والشراب ، لكن يذوقون الماء الذي بلغ النهاية في حرارته ، وصديد أهل النار المنتن الذي بلغ النهاية في برودته(2)
__________
(1) ... ذكر في معنى البرد قول آخر ، وهو أن يكون البرد النوم ، وقال عنه الطبري : "وقد زعم بعض أهل العلم بالكلام العرب – يعني : أبا عبيدة معمر بن المثنى – أن البرد في هذا الموضع النوم ، وأن معنى الكلام : لا يذوقون فيها نوماً ولا شراباً ، واستشهد لقيله ذلك بقول الكندي :
... بردت مراشفها على فصدني ... ... عنها وعن قبلاتها البرد
يعني بالبرد : النعاس .
والنوم ، وإن كان يبرد غليل العطش ، فقيل له من أجل ذلك : البرد ، فليس هو بأسمه المعروف ، وتأويل كلام الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره" .
وقد نسب هذا القول لابن عباس (تفسير البغوي) ، ومجاهد والسدي (تفسير الماوردي) ، وهو قول يحتمله السياق ، غير أنه مترجح للسبب الذي ذكره الطبري ، وإذا كان كذلك ، فإن سبب الاختلاف : الاشتراك اللغوي ، ويكون من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى .
(2) ... اختلفت عبارة السلف في تفسير الغساق ، فقال بعضهم : الغساق : هو ما سال من صديد أهل النار، ورد ذلك عن عطية العوفي ، وعكرمة ، وأبي رزين ، وإبراهيم النخعي ، وابن زيد . وعن عبد الله بن بريدة أن المنتن بلاطخارية [أي بلغة أهل طخارستان} . قال بعضهم : الغساق ، الزمهرير ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وعن مجاهد من طريق ليث ، وعن أبي العالية، والربيع ابن نس .
... ومادة (غسق) فيها هذا المعنيان ، أما الغسق بمعنى البرد ، فمنه غسق الليل ، سمى بذلك لبرودته . وأما الغسق بمعنى الصديد المنتن الذي يسيل من أهل النار ، فمن قولهم غسق الجرح : إذا سال فيحه . وعلى هذا ، فالتفسيران صحيحان ، وجائز اجتماعهما في معنى الغساق ، ويكون من عذاب النار الذي يعذب الله به الكفار . وهذا هو ترجيح الإمام الطبري .
... وعلى هذا فسبب الاختلاف : الاشتراك اللغوي ، وهو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى .(1/214)
.
26- قوله تعالى : {جزاء وفاقا} ؛ أي ك ثواباً موافقاً لأعمالهم(1) .
27- قوله تعالى : {إنهم كانوا لا يرجون حسابا} ؛ أي : إن هؤلاء الطاغين كانوا في الدنيا لا يخافون(2) أن يجازيهم أحد على سوء أعمالهم ، فوقعت منهم هذه الأعمال التي جوزوا عليها جزاء وفاقا .
28- قوله تعالى : {وكذبوا بآياتنا كذابا} ؛ أي : كذبوا تكذيباً شديداً ، ولم يصدقوا بالقرآن وغيره من الآيات .
29- قوله تعالى : {وكل شيء أحصيناه كتابا} ؛ أي : ضبطنا وعددنا عليهم كل شيء عملوه ، فكتبناه وحفظناه عليهم(3) .
__________
(1) ... كذا ورد عن السلف : ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والربيع من طريق أبي جعفر ، وابن زيد الذي جعل نظيرها قوله تعالى: {ثم كان عاقبة الذين اسئوا السواى } [الروم : 10] .
(2) ... عبر مجاهد وقتادة عن جملة " لا يرجون" بأنهم لا يخافون ، وقد ورد عن أهل اللغة كذلك (تهذيب اللغة: 11 : 182) ، ويرد الإشكال في تفسير الرجاء الذي هو ترقب حصول أمر محبوب للنفس ، بالخوف الذي هو ضد له . وتحرير ذلك : أن الرجاء بمعنى الخوف لا يأتي إلا منفيا ؛ أي : لا يرجون (انظر : معاني القرآن للفراء : 1 : 286) ، وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف ؛ لأن الرجاء أمل قد يخاف ألم يتم (انظر : معاني القرآن ، للزجاج : 2 : 100) .
(3) ... يظهر من السياق أن الحديث عن كتاب الأعمال الذي تسجله الملائكة على العباد ؛ لأن المقام –فيما يظهر- مقام محاسبة ، وهم سيحاسبون على ما كتب عليهم ، لا على عموم قدر الله سبحانه ، ذلك أن بعض المفسرين جعل المحصى هنا كل قدر الله الذي في اللوح المحفوظ ، والله أعلم .(1/215)
30- قوله تعالى : {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} ؛ أي : ذوقوا أيها الكفار الطاغون من عذاب هذه الأحقاب ، فلن نزيدكم إلا عذاباً من جنس عذاب النار(1) ؛ كما قال تعالى : {هذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج} ، والعياذ بالله ، وهذه الآية من أشد ما نزل في عذاب الكفار(2) .
31- قوله تعالى : {إن للمتقين مفازا} : عقب بذكر المتقين على عادة القرآن في ذكر الفريقين وأحوالهم ومآلهم . والمعنى : إن للذين اتقوا الله بطاعته وتجنب معصيته مكان فوز ، وهو الجنة(3) .
32- قوله تعالى : {حدائق وأعنابا} ؛ أي : إن مكان الفوز هو هذه البساتين المسورة : إما بجدار ، وإما بأشجار ، وخص العنب لفضله عندهم .
33- قوله تعالى : {وكواعب أترابا} ؛ أي : ومن المفاز : الجواري المستويات الأسنان، اللواتي قد استدارت نهودهن وتفلكت .
34- قوله تعالى : {وكأسا دهاقا} ؛ أي : ومن المفاز : إناء الخمر ، أو غيره ، المملوء عن آخره ، الذي يشربونه صافياً متتابعاً بلا انقطاع(4)
__________
(1) ... هذه الآية مرتبطة بقوله : {جزاء وفاقا} [النبأ : 26] ، وما قبلها من قوله : {إن جهنم كانت مرصادا} [النبأ : 21] ، وتكون الجمل التي بينهما معترضة ، والله أعلم . انظر : التحرير والنوير .
(2) ... أسند الطبري ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه : {فذوقوا فلن تزيدكم إلا عذابا} [النبأ : 30] قال : فهم في مزيد من العذاب أبداً .
(3) ... عبر ابن عباس عن المفاز بأنه المتنزه ، وعبر عنه مجاهد وقتادة أنهم فازوا بأن نجوا من النار، وعند التأمل تجد أن نتيجة هذه الأقوال ومؤداها واحد ، والله أعلم .
(4) ... عبر جمهور السف عن معنى الدهاق بالامتلاء ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق مسلم بن نسطاس وأبي صالح وعلي بن أبي طلحة ، وعن الحسن من طريق أبي رجاء ويونس ، وعن مجاهد من طريق منصور ، وعن قتادة من طريق معمر وسعيد ، وعن ابن زيد .
... وورد تفسيرها بالمتتابعة عن أبي هريرة ، وعن ابن عباس من طريق عمرو بن دينار ، وعن سعيد بن جبير . وورد تفسيرها بالصافية عن عكرمة .
... ويظهر أن التفسير الأول هو التفسير اللغوي الأشهر في معنى اللفظ ، أما الثاني ، فقد أشار الطبري إلى وجود أصله في اللغة ، بقوله : "وقوله : {وكأسا دهاقا} [النبأ : 34] يقول : وكأساً ملأى متتابعة على شاربيها بكثرة امتلائها ، وأصله من الدهق ، وهو متابعة الضغط على الإنسان بشدة وعنف، وكذلك الكأس الدهاق : متتابعة على شاربيها بكثرة وامتلاء" . (انظر في هذا المعنى : تاج العروس : مادة : دهق) .
... وأما التفسير الأخير فلا تعطيه اللفظة ولا يخصها ، بل هو تفسير مبني على ما عرف من صفاء شراب الجنة وعدم وجود الغش فيه ، وهل يجوز أن تكون لغة من لغات العرب علمها عكرمة ، ففسر بها؟! الله أعلم .
... وعلى هذا يكون الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى ، ويكون سبب الاختلاف في القولين الأولين : الاشتراك اللغوي .(1/216)
.
35- قوله تعالى : {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} ؛ أي : لا يسمعون في الجنة التي هي المفاز(1) أي كلام باطل ، ولا يكذب بعضهم بعضا(2) .
36- قوله تعالى : {جزاء من ربكم عطاء حسابا} ؛ أي : أثابهم الرب(3) بهذا المفاز وما فيه من النعيم المذكور مقابل أعمالهم الصالحة في الدنيا ، ثم إنه تفضل عليهم بالعطاء الذي فيه الكفاية لهم(4) ، وهو عطاء من غير مقابل ، وهو زيادة في الجنة يزيدها الرب لمن شاء من عباده .
37- قوله تعالى : {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا} ؛ أي : هذا الرب الذي جازاهم وأعطاهم هو رب السموات والأرش وما بينهما ، وهو الرحمن الذي بيده جلائل النعم ، وفي هذا تنبيه على أنه أعطاهم ما أعطاهم بربوبيته وملكه ورحمته لهم .
وقوله : {لا يملكون منه خطابا} ؛ أي : هؤلاء الخلق المذكورون في قوله : {السموات والأرض وما بينهما} لا يستطيعون مخاطبة الله في يوم القيامة إلا بإذنه ، كما سيرد في الآية بعدها.
__________
(1) ... ذكر بعض المفسرين أن الضمير في {فيها} يعود إلى قوله : {وكأسا} ؛ أي : خمراً ، ويجعل "في" بمعنى "الباء" ؛ أي : بسببها ، ويكون المعنى : لا يسمعون بسبب شرب خمر الجنة لغواً ولا كذاباً ، والأولى أن يعود الضمير إلى الجنة المشار إليها بالمفاز ، وعليه فلا تحتاج إلى هذا التأويل .
(2) ... هذا فيه دلالة على طيب أكلهم وشربهم فلا يحدث بسببه ما يصدر منه لغو ولا كذب كما هو الحال في الدنيا في شرب الخمر وغيره من المسكرات .
(3) ... في إيثار اسم الربوبية هنا ما يشعر بأن النعم من آثار ربوبية الله لعباده ، والله أعلم .
(4) ... عل بعض المفسرين لفظ "حساباً" صفة للجزاء ، ومن ثم يكون الحساب بمعنى المعدود ؛ أي : جزاء معدوداً على قدر أعمالهم .(1/217)
38- قوله تعالى : {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} ؛ أي : لا يملك الخلق من الله مخاطبته في هذا اليوم الذي يقوم فيه هذا الخلق العظيم -لروح(1) والملائكة – صفا ، تعظيماً لله كما لا يستطيعون مكالمته إلا من قبل الله منه أن يتكلم،
وتكلم بالحق ، وعمل به في الدنيا . وأعظم الحق قول لا إله إلا الله ، والعمل بها(2)
__________
(1) ... وقع خلاف بين السلف في تحديد الروح على أقوال :
... الأول : أنه ملك من أعظم المائكة ، ورد ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، مع زيادة في تفصيل خلقه عند ابن مسعود .
... الثاني : أنه جبريل ، ورد ذلك عن الشعبي والضحاك من طريق سفيان وثابت . ... ... =
(2) ... الثالث : خلق من خلق الله في صورة آدم ، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومسلم وسليمان ، وأبي صالح من طريق إسماعيل ابن أبي خالد ، والأعمش .
... الرابع : أنهم بنوا آدم ، ورد ذلك عن الحسن وقتادة من طريق معمر وسعيد .
... الخامس : أنه أرواح بني آدم ، عن ابن عباس من طريق العوفي .
... السادس : أنه القرآن ، عن زيد بن أسلم من طريق ابنه عبد الرحمن ، واستشهد لذلك بقوله تعالى : {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى : 52] .
... وقال الطبري – معلقاً على هذه الأقوال - : "والروح خلق من خلقه ، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت ، والله أعلم أي ذلك هو ، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له ، ولا حجة تدل عليه ، وغير ضائل الجهل به " .
... والروح فيما يظهر من هذه الأقوال أمر غيبي ، والمرجع فيه إلى الأثر عن المعصوم في خبره، ولم يرد إسناد شيء من هذه الأقوال إليه ، ويظهر على بعضها أنها اجتهاد من قائله نظر فيه : إما القرآن؛ كالقول بأنه جبريل ؛ لوروده صراحة في غير هذا الموضع بهذا الوصف ؛ كقوله تعالى : {نزل به الروح الأمين} [الشعراء : 193] ، والقول بأنه القرآن لوروده في قوله تعالى : {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [الشورى : 52] ، وإما لدلالة عقل وإطلاق لغوي ؛ كمن قال : هم بنو آدم، أو أرواحهم ، في مقابل ذكر الملائكة .
... أما القول الأول الذي ورد عن ابن عباس وابن مسعود فمما لا يمكن أن يعلم إلا من طريق الوحي، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن الصحابي إذا فسر شيئاً غيبياً ، فإن الأصل قبول قوله ، ما لم يرد ما يدل على أنه لم يتلقه من الرسول صلى الله عليه وسلم والله أعلم .
... والملاحظ أن ابن جرير لم يعمل بهذا في هذا الموضع ، كما أنه رحمه الله تعالى لا يميز –في الغالب- بين طبقات السلف الثلاث (الصحابة والتابعين وأتباعهم) في التعامل معهم وترجيح أقوالهم ؛ أي : لا يقدم قول الصحابي دائماً ، بل قد يختار عليه قول التابعي ، أو تابع التابعي ، وهذا المنهج يحتاج إلى دراسة .
( ) ... قال مجاهد في تفسير {صوابا} : "قال حقا في الدنيا وعمل به" . وفسر الصواب بلا إله إلا الله ، كل من ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وأبي صالح مولى أم هانئ ، وعكرمة من طريق الحكم بن ابان .(1/218)
.
39- قوله تعالى : {ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا} ؛ أي : ذلك اليوم الذي يقوم فيه الروح والملائكة ، هو اليوم الكائن الثابت الذي لا شك فيه ، فمن أراد منكم أيها العباد النجاة في ذلك اليوم ، فليتخذ من الأعمال الحسنة ما يكون لا سبيلاً ومرجعاً يرجع به إلى الله سبحانه(1) .
40- قول تعالى : {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} ؛ أي : إنا حذرناكم أيها لعباد(2) عذاباً قد دنا منكم وقرب ، وذلك كائن يوم ينظر المرء منكم إلى أعماله التي قدم بها إلى الله ، ويوم يتمنى الذي لم يؤمن بربه وكفر به أن لو جعل تراباً ، كما يصير للبهائم في ذلك اليوم(3) ، والله أعلم .
سورة النازعات
آياتها : 46 .
سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... ورد عن قتادة عن طريق معمر : {مئابا} سبيلاً . وهذا تفسير بالمعنى ؛ لا، المآب : المرجع ، والسبيل : الطريق إلى ذهاب المآب ، فلا وصول إلى هذا المرجع إلا بسلوك السبيل ، وهو الأعمال الصالحة، ففسر قتادة بلازم اللفظ ، لا بمطابقه ، والله أعلم .
(2) ... قال الحسن البصري في {المرء} : المرء المؤمن . وكأنه لما ذكر الكافر بعده ، جعل ذلك مقابلا له ، ولو فسر المرء بعمومه فشمل الكافر والمؤمن ، لكان صواباً ، والله أعلم .
(3) ... وردت آثار في ذلك عن عبد الله بن عمرو ، وأبي هريرة ، وأبي الزناد ، وقد أورد الطبري في ذلك حديثاً ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أسنده أبو هريرة ، والله أعلم .(1/219)
والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصرها خاشعة * يقولون أءنا لمردودون في لحافرة * أءذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة * فإنما هي زجر وحده * فإذاهم بالساهرة * هل أتاك حديث موسى * إذا ناداه ربه بالواد المقدس طوى * أذهب إلى فرعون إنه طغى * فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى * فأراءه الآية الكرى* فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحسر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الأخره والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى * ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحها * والأرض بعد ذلك دحها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم * فإذا جاءت الطامة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى * فأما من طغى * وءاثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنه الجنة هي المأوى * يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها * إنما أنت منذر من يخشاها * كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحها *
سورة النازعات
1- قوله تعالى : {والنازعات غرقا} : يقسم ربنا الملائكة التي تجذب أرواح الكفار من أجسادهم عند الموت جذباً شديداً ، كما يشد الرامي بالقوس السهم إلى آخر مداه(1)
__________
(1) ... وقع خلاف في تفسير النازعات بين مفسري السلف على أقول :
الملائكة التي تجذب روح الكافر من أقاصي بدنه ، عن ابن مسعود من طريق مسروق ، وابن عباس نم طريق العوفي وأبي صالح ، وعن مسروق ، وسعيد بن جبير .
الموت ينزع النفوس ، وهو قول مجاهد من طرق ابن أبي نجيح .
النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، وهو قول الحسن من طريق أبي العوام ، وقتادة من طريق معمر.
القسي تنزع بالسهم ، وهو قول عطاء .
النفس حين تنزع ، وهو قول السدي من طريق سفيان .
وإذا تأملت هذه الأقوال ، فإنك ستجدها جاءت على دلالة أسم فاعل ؛ أي أنها نازعة ، عدا قول السدي الذي حمل اسم الفاعل على المفعول ، وفيه نظر ؟
كما أنها جعلت فعل النازعات من قبيل المتعدي ؛ كقوله تعالى : {تنزع الناس} ، سوى قول من قال هي النجوم ، فالفعل عنده لازم لا يحتاج إلى مفعول .
وجاء اسم الفاعل ، ولم يذكر مفعوله لأن النزع هو المقصود في المقام ، كما جاء جمعاً لتأويله بالجماعات النازعات .
وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى ، وسبب هذا الخلاف أن هذه وصاف لم يذكر موصوفها ، وهي صالحة لأن تحمل على كل ما قيل فيها – كما قال ابن جرير – وعليه فهي من قبيل المتواطئ ، غير أن الراجح من أقوال المفسرين ، أن النازعات وما بعدها من الأوصاف هي الملائكة ، وعلة ذلك أن المفسرين أجمعوا على أن المدبرات هي الملائكة ، ودلت الفاء في قوله تعالى {فالمدبرات أمرا } على أنها متفرعة عن جملة : {فالسابقات سبقا} [النازعات :4] ، وهذه الجملة متفرعة عن جملة : {والسابحات سبحا} [النازعات : 3] ، وعليه فهذه الأوصاف الثلاثة في الملائكة ، وكون الوصفين الأولين فيهما أيضاًَ أولى ؛ لاتحاد هذه الأوصاف في موصوف واحد . وتفريق الأوصاف على أجناس مختلفة ، مع هذا التأويل غير متمكن ، ولا دليل عليه ، والله أعلم . (انظر : التبيان في أقسام القرآن : 85) .(1/220)
.
2- قوله تعالى : {والناشطات نشطا} : ويقسم بالملائكة أن تسل روح المؤمن من جسه بخفة وسهولة(1) .
3- قوله تعالى {والسابحات سبحا} : ويقسم بالملائكة التي تجوب آفاق السماء ، وتنزل إلى الأرض بأمر الله(2)
__________
(1) ... اختلف السلف في النشاط على أقوال :
الملائكة ، وهو قول ابن عباس من رواية العوفي ، وهو الراجح كما سبق في النازعات . ... =
(2) لموت : وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح . وقد أدخل ابن جرير ابن عباس والسدي في من قال بهذا القول ، ولا يصح دخولها فيه ؛ لأن عبارتهما مجملة ، وقد صرح السدي بالسند نفسه في تفسير "النازعات" أنها النفس ، والأولى أن يحمل هنا عليها ، فيكون قوله في الناشطات كقوله في النازعات . أما ابن عباس فقد ورد بالسند نفسه في تفسير النازعات ، وجعله تحت قول من قال هي الملائكة ، مع أن عبارته مجملة كذلك ، حيث قال : النازعات : حين تنزع نفسه ، والناشطات : حين تنشط نفسه ، وهذا مشكل ، والله أعلم .
أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، وهو قول قتادة من طريق معمر .
أنها الأوهاق ، وهي الحبل يرمي في أنشوطة ، فتؤخذ به الدابة أو الإنسان ، وهو قول عطاء.
( ) ... السبح يطلق على العوم في الماء والمرور في السماء ؛ كما قال تعالى : {كل في فلك يسبحون} [الأبنياء : 33] وقد اختلف السلف في المراد بالسابحات على أقوال :
الملائكة ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح . وقد ذكر ابن كثير أنه قول ابن مسعود ، وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح .
أنها الموت يسبح في جسد الإنسان ، وهو قول مجاهد أيضاً ، وقد اختلف عليه ، ويظهر أن هذا القول هو اختياره ؛ لأنه مر بالأسانيد نفسها في تفسير النازعات والناشطات وأنها الموت، وكون هذا أشبه بما قبله عنده أظهر من كونه قال بغيره ما دام قد ورد عنه والله أعلم . وقد علق أبو جعفر الطبري على هاتين الروايتين بقوله : "هكذا وجدته في كتابي" ، وهذا يدل على استكشاله في الرواية التي عنده عن مجاهد ، والله أعلم .
أنها النجوم تسبح في فلكها ، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد .
أنها السفن تسبح في الماء ، وهو قول عطاء .(1/221)
.
4- قوله تعالى : {فالسابقات سبقا} : عطف السابقات على السابحات بالفاء ، ومعنى ذلك : أن السابقات من جنس السابحات ، وهي الملائكة التي يسبق بعضها بعضاً في تدبير أمر الله تعالى(1) .
5- قوله تعالى : {فالمدبرات امرا} : أجمع المفسرون على أنها الملائكة التي تنفذ ما أمر الله به من قضائه(2) ؛ كالملائكة الموكلون بأعمال العباد ، والموكلون بالنار ، والموكلون بالجنة ، وغرهم .
وجواب هذا الأقسام محذوف(3). ولما كان موضوع السورة في البعث ، جاز تقدير الجواب ـ "لتبعثن" ، ويكون المعنى والنازعات لتبعثن ، وهكذا .
__________
(1) ... وقع في السابقات اختلاف بين السلف على أقوال :
الملائكة : وهو قول مجاهد ، قال ابن كثير : "وروى عن علي ومسروق ومجاهد وابي صالح ولحسن البصري" .
الموت ، وهو قول مجاهد . (انظر التعليق السابق في السابحات على قولي مجاهد) .
الخيل ، وهو قول عطاء .
النجوم ، وهو قول قتادة من رواية معمر وسعيد .
(2) ... الغرب أن قول قتادة في هذه الآية أنها الملائكة ، مع أن قوله في ما سبق من الأوصاف أنها النجوم ، ولم يذكر ابن جرير غير قول قتادة ، فلم يرد عنده فيها خلاف في هذه الآية ، كما وقع في سابقاتها، وقد حكى الإجماع السمعاني في تفسيره ، وابن القيم في التبيان في القرآن : 86 . وقال ابن عطية : "وأما المدبرات فلا أحفظ فيها خلافاً" ، وقال ابن كثير : "... هي الملائكة ... ولم يختلفوا في هذا".
(3) ... انظر : (تفسير الطبري ، ط :الحلبي : 30 : 32 ، والتباين في أقسام القرآن : 87) .(1/222)
6-7- قوله تعالى : {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة} ؛ أي لتبعثن يوم تهتز وتضطرب الأرض بسبب النفخة الأولى التي تتبعها النفخة الثانية (1).
8- قوله تعالى : {قلوب يومئذ واجفة} ؛ أي : قولب خلق من خلقه يوم تقع هذه الأحداث ، خائفة(2) .
9- قوله تعالى : {أبصارهم خشعة} ؛ أي : أبصار أصحابها ذليلة مما قد نزل بها من الخوف والرعب(3) .
__________
(1) ... عبر جمهور السلف عن الراجفة بأنها النفخة الأولى ، والرادفة : النفخة الثانية ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وعن الحسن منطريق أبي رجاء ، وعن قتادة من طريق سعيد ، وعن الضحاك من طريق عبيد المكتب .
... وعبر مجاهد وابن زيد عن الراجفة بأنها الأرض ترجف ، وهذا غير مخالف للأول ، لأنها ترجف بسبب النفخة ، كما في القول الأول ، وجعل مجاهد وقت الرادفة مقروناً بانشقاق السماء ، فقال : "هو قوله : {وإذ السماء انشقت } [الانشقاق : 1] فدكتا دكة واحدة " ؛ أي : الرادفة هي دك الأرض بالجبال . وهذا خلاف لما عليه أهل القول الأول ، وهم الجمهور ، إلا أن يقال إن هذا يكون بعد النفخة الثانية فيلتئم قوله مع قولهم ، والله أعلم .
... أما ابن زيد فعبر عن الرادفة بالساعة ، وهذا غير مخالف ، لأن الساعة لا تقوم إلا بالنفخة الثانية ، والله أعلم .
(2) ... هذا من عبارة الطبري في تفسير هذه الآية ، وكذا ورد تفسير "واجفة" عن السلف : ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد . وأفاد التنكير في "قلوب" : التكثير؛ أي : قلوب كثيرة خائفة في هذا اليوم .
(3) ... الضمير في ظاهر الكلام يعود إلى القلوب ، والمراد أصحاب القلوب ، فعبر عنهم بجزء منهم ، وهي القلوب ، التي هي محل الخوف والإذعان ، ثم يظهر بعد ذلك على الأبصار ، والله أعلم .(1/223)
10- قوله تعالى : {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة} ؛ أي : يقول أصحاب هذا القلوب الذين أنكروا البعث في الدنيا : أنرجعُ إلى الحياة بعد أن نموت وندفن تحت التراب؟(1) .
__________
(1) ... هذه الجملة مستأنفة للحديث عن أصحاب هذه القلوب الواجفة في الحياة الدنيا والاستفهام جاء على سبيل التعجب من حصول البعث الذي ينكره هؤلاء ، وجاء الفعل "يقولون" مضارعاً ؛ لإفادة تجدد هذا الحديث ، وحصوله منهم مرة بعد مرة .
... والحافرة عند العرب : رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه ، يقولون : رجع فلان إلى حافرته ؛ أي : إلى طريقه الذي جاء منه ؛ كأنه يتبع حفر قدميه في الأرض في حال رجوعه ، ومنه قول الشاعر :
... أحافرة على صلع وشيب ... ... معاذ الله من سفه وطيش
وقد ورد خلاف بين السلف في تفسير الحافرة على أقوال :
الحياة بعد الموت ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة وعطية العوفي ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، ومحمد بن قيس أو محمد بن كعب القرظي ، والسدي من طريق سفيان الثوري.
الأرض ،وهو قول مجاهد من طريق عبد الله بن أبي نجيح ، وقال : "الأرض ، نبعث خلقاً جديداً". وقوله في ما يظهر لا يخالف القول الأول إلا في العبارة ، والنتيجة واحدة في القولين ؛ لأن العود للحياة سيكون على الأرض ، وهذان القولان يناسبان المعنى اللغوي للحافرة ؛ لأنها يدلان على أن الإنسان يعود إلى ما كان عليه قبل موته ، والله أعلم .
النار ، وهو قول ابن زيد ، وقد جعل الحافرة اسماً للنار ، وهو مخالف لقول الجمهور ، ولو لم ينص على أنها من أسماء النار لاحتمل أن يكون تفسيره مقبولاً على أنه أراد التنبيه على المآل الذي يصير إليه الكافر ، فيكون تفسيره على المعنى ، لا على مطابق اللفظ ، وسياق الآيات بعدها يضعف أن يكون المراد بالحافرة النار ؛ لقوله : {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} [النازعات : 13-14] على ما سيرد في تفسيرها ، والله أعلم .(1/224)
11- قوله تعالى : {أءذا كنا عظاما نخرة} ؛ أي : كيف نرجع إلى حالنا الأول ، وقد تحللت أجسامنا وصرنا عظاماً بالية فارغة(1) .
12- قوله تعالى : {قالوا تلك إذا كره خاسرة} ؛ أي : إن الرجعة إلى الحياة بعد الممات رجعة لا خير فيها ، بل فيها غبن لهم (2) .
13- قوله تعالى : {فإنما هي زجرة وحدة} ؛ أي : إن الأمر لا يحتاج إلى كبير عناء ، بل هي صيحة واحدة لا ثانية لها ينفخها إسرافيل في الصور ، فيقومون من قبورهم أحياء(3) .
14- قوله تعالى : {فإذا هم بالساهرة} ؛ أي : بعد أن يسمعوا الصيحة فإنهم سرعان ما سيكونون على الأرض(4)
__________
(1) ... عبر ابن عباس من طريق العوفي عن ذلك بالفانية البالية ، وعبر قتادة من طريق سعيد بالبالية ، وعبر مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمرفوتة ، أي : المحطمة المدقوقة . وهذا من اختلاف التنوع الذي يكون التعبير فيه عن المعنى بألفاظ متقاربة . ... ... ... ... ... ... ... =
(2) ... وقد ورد في لفظ "نخرة" قراءتان : الأولى بلا ألف ، والثانية بألف على وزن فاعل ، ومعناهما واحد، وقيل باختلافهما في المعنى . فالنخرة : البالية ، والناخرة ، المجوفة التي تنخر الريح في جوفها إذا مرت بها ، وتفسير السلف يدل على أن معناهما واحد ، إذ لم يرد عنهم التفريق بين لمعنيين ، والله أعلم .
( ) ... كذا قال قتادة من طريق سعيد ، وابن زيد .
(3) ... كذا جاء عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وابن زيد .
(4) ... ورد خلاف بين السلف في تفسير الساهرة على أقوال :
الأرض ، وهو قول ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي ، وعكرمة من طريق حصين وعمارة بن أبي حفصة ، والحسن من طريق أبي رجاء ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وسعيد بن جبر من طريق عكرمة وأبي الهيثم ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد .
اسم مكان معروف من الأرض ،وهو بالشام ، ورد ذلك عن عثمان بن أبي العاتكة وسفيان الثوري ، هذا القول يمكن أن يحتمل على أنهم أرادوا تعيين أرض المحشر ، وأنها جزء من الأرض، لا أن الساهرة علم مخصص بهذا المكان دون الأرض .
وقال وهب بن منبه : هو جبل إلى جنب بيت المقدس ، وهذا إن كان أراد أن هذا الجبل بعينه هو الساهرة ، فإنه غير صحيح ، وهو مخالف لما عليه جمهور السلف ، وإن كان إنما ذكر جزءاً من أرض المحشر التي يحشر الناس إليها ، فيمكن أن يحتمل قوله على هذا التوجيه ، والله أعلم .
وقال قتادة : في الساهرة : في جهنم . وهذا مخالف لما ورد عن الجمهور ، ولا يظهر موافقته لقولهم من أي وجه . والله أعلم .
والقول الأول ، وهو قول جمهور السلف ، هو القول الراجح ، وهو المعروف من لغة العرب ، قال أمية بن أبي الصلت :
وفيها لحم ساهرة وبحر ... ... وما فاهوا به أبد مقيم
وإنما سميت الأرض بهذا الاسم ؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم ، فسميت بذلك للملابسة ، والله أعلم . انظر : معاني القرآن للفراء ، وتفسير الطبري(1/225)
.
15-16- قوله تعالى : {هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} : استفهام للتشويق لخبر موسى بن عمران ، والمعنى : هل جاءك خبر موسى حن كلمه الله نداء في وادي طوى المطهر(1) .
__________
(1) ... اختلفت عبارة السلف في تفسير طوى على الأقوال :
... الأول : أنه اسم الوادي ، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، ومجاهد من طريق أبن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ، وابن زيد ، وهذا هو أظهر الأقوال ، والله أعلم .
... الثاني : أنه أمر لموسى بأن يطأ بقدميه ، عن ابن عباس من طريق عكرمة ، ومجاهد من طرق ابن جريج، وعكرمة من طريق يزيد .
... الثالث : بمعنى الذي طويته ، عن ابن عباس من طريق العوفي . ويكون المعنى : بالوادي المقدس الذي طواه موسى مشياً بقدميه ، ويكون "طوى" مصدراً خرج من غيره لفظه .
... الرابع : أن طوى بمعنى مرتين ، عن الحسن من طريق ابن جريج ، ومجاهد من طريق ابن جريج . ويكون – على قولهم – مصدراً من غير لفظه ، وهو الشيء الذي يثنى ؛ أي : يكرر مرة بعد مرة ، وقد يكون مفعولاً مطلقاً للمقدس ، ويكون المعنى : بالوادي المقدس مرتين ، أو يكون لناداه ، فيكون المعنى : ناداه مرتين في الوادي المقدس .
... وهذه التفاسير مبنية على قراءة طوى ، فقرئت بالتنوين طوى ، وبتركه . (انظر : تفسير الطبري ، ط: الحلبي : 16 : 146 – 147) .(1/226)
17- قوله تعالى : {أذهب إلى فرعون إنه طغى} ؛ أي : ناداه أن أذهب إلى فرعون مصر، إنه قد تجاوز الحد في العدوان والتكبر(1) .
18- قوله تعالى : {فقل هل لك إلى أن تزكى} ؛ أي : اعرض عليه أن يتطهر من الكفر والتجبر ، فيسلم لله(2) .
__________
(1) ... فرعون لقب ملك مصر في عهد الفراعنة ، وقد كان في عصر إبراهيم ويوسف يلقب بالملك ، كما ورد في سورة يوسف وفي قصة إبراهيم في السنة ، وهذا يعني أن مصر مرت بمرحلتين في الحكم ، وهي مرحلة الملوك ، وهم من يطلق عليهم في التاريخ المصري "الهكسوس" ، ومرحلة الفراعنة ، ومنهم فرعون موسى الذي تربى موسى في بيته . وهل فرعون الولادة هو فرعون الخروج ، أم لا ؟ في ذلك خلاف بين المؤرخين الذين درسوا هذه الفترة ، ونص القرآن يعطي أنه فرعون واحد ؛ كقوله تعالى : {قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين } [الشعراء : 18] والله أعلم بما كان ، وليس في ذلك كبير أهمية ، غير أن النفس تتطلع لما غاب عنها بشيء من الاهتمام .
(2) ... عبر عكرمة عن التزكي بأن يقول : لا إله إلا الله ، وهذا أول ما يدخل به المتزكي الإسلام ، وقال ابن زيد : أن تسلم ، قال : "والتزكي في القرآن كله : الإسلام ، وقرأ قول الله : {وذلك جزاء من تزكى} ، قال : من أسلم ، وقرأ : {وما يدريك لعله يزكى} [عبس : 3] ، قال يسلم ، وقرأ : {وما عليك ألا يزكى} [عبس :7] أن لا يسلم " . وفي هذا فائدتان :
... الأولى : أن السف يرد عنهم مثل هذه الكليات التفسيرية ، وهي تحتاج إلى جمع ، ثم استقراء مواقعها في القرآن ، للنظر في تطابق هذه الكلية على جميع الآيات ، فتكون بعد ذلك مصطلحاً قرآنياً في اللفظة.
... الثانية : أن ابن زيد يُكثر من ذكر النظائر القرآنية ، وهو مما يدخل بتفسير القرآن بالقرآن ، وهذه المسألة صالحة للدراسة لمعرفة طريقة ابن زيد في هذا الأسلوب التفسيري .(1/227)
19- قوله تعالى : {وأهديك إلى ربك فتخشى} ؛ أي : أدلك وأرشد إلى الطريق الموصول لمن ملكك بربوبيته ، وهو الاستسلام لله ، فيخضع قلبك ويلين ويطيع ، بعد أن كان قاسياً بعيداً عن الخير(1) .
__________
(1) ... علق ابن القيم في كتابه (التباين في أقسام القرآن : 88) على ما في هاتين الآيتين من لين الخطاب، أنقله بطوله لما فيه من الفائدة : قال : "ثم أمره أن يخاطبه بألين خطاب ، فيقول : {فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى } [النازعات : 18 –19] ، ففي هذا من لطف الخطاب ولينه وجوه :
... أحدها : إخراج الكلام مخرج العرض ، ولم يخرجه مخرج الأمر والإلزام ، هو ألطف ، ونظيره قول إبراهيم لضيفه المكرمين : {ألا تأكلون} [الذاريات : 27] ولم يقل : كلوا .
... الثاني : قوله ك {إلى أ، تزكى} ، والتزكي : النماء والطهارة والبركة والزيادة ، فعرض عليه أمراً يقبله كل عاقل ولا يرده إلا كل أحمق جاهل .
... الثالث : قوله : {تزكى} ولم يقل : أزكيك ، فأضاف التزكية إلى نفسه ، وعلى هذا يخاطب الملوك .
... الرابع : قوله : {وأهديك} ؛ أي : أكون دليل لك ، وهادياً بن يديك . فنسب الهداية إليه ، والتزكى إلى المخاطب ؛ أي : أكون دليلاً لك وهادياً ، فتزكى أنت ، كما تقول للرجل : هل لك أن أدلك على كنز تأخذ منه ما شئت ؟ وهذا أحسن من قوله : أعطيتك .
... الخامس : قوله : {إلى ربك} ، فإن في هذا ما يوجب قبول ما دل عليه ، وهو أن يدعوه ويوصله إلى ربه : فاطره وخالقه الذي أوجده ، ورباه بنعمه : جنيناً ، وصغيراً ، وكبيراً ، وآتاه الملك . وهو نوع من خطاب الاستعطاف والإلزام : كما تقول لمن خرج عن طاعة سيده : ألا تطيع سيدك ومولاك ومالكك . وتقول للولد : ألا تطيع أباك الذي رباك . ... ... ... ... ... =(1/228)
20- قوله تعالى : {فأراه الآية الكبرى} ؛ أي : فأظهر موسى عليه السلام لفرعون العصا واليد علامة واضحة على نبوته وصدقه فيما جاء به(1) .
... 21- قوله تعالى : {فكذب وعصى} ؛ أي : كانت نتيجة هذه المقابلة وعرض الآية لم يصدقها فرعون ، وخالف من أمره به موسى عليه السلام من الطاعة .
... 22- قوله تعالى : {ثم أدبر يسعى} ؛ أي : ثم أعرض عن الإيمان بما جاء به موسى عليه السلام ومضى في عمل الفساد .
... 23- 24- قوله تعالى : {فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى} ؛ أي : من سعيه بالفساد أنه جمع قومه وأتباعه ، ونادى فيهم قائلاً : أنا ربكم الأعلى ، وفي هذه رد لما جاء به موسى عليه السلام من دعوته لربه ، فزعم أنه رب لقومه .
... 25- قوله تعالى : {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} ؛ أي : فناله الله بعقوبة الدنيا بالغرق، والآخرة بالنار ، على ما فعله في أول أمره وآخره(2)
__________
(1) ... السادس : قوله : {فتخشى} ؛ إذا اهتديت إليه وعرفته خشيته ؛ لأن من عرف الله خاف ، ومن لم يعرف لم يخفه ، فخشية الله مقرونة بمعرفته ، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية .
... السابع : أن في قوله : {هل لك} فائدة لطيفة ، وهي أن المعنى : هل لك في ذلك حاجة أو إرب؟ ومعلوم أ، كل عاقل يبادر إلى قبول ذلك ؛ لأن الداعي إنما يدعو إلى حاجته ومصلحته ؛ لا إلى حاجة الداعي ، فكأنه يقول : الحاجة لك ، وأنت المتزكي ، وأنا الدليل لك ، والمرشد لك إلى أعظم مصالحك .
( ) ... فسر السلف الآية بأنها العصا واليد ، وفي هذا إشارة إلى أن لفظ الآية في الآية يراد به جنسها ، لا أنها آية واحدة .
(2) ... وقع خلاف بين السلف في الآخرة والأولى ، وسببه أنه وصف لموصوف محذوف ، فقال كل منهم ما يناسب هذا الموصوف على سبيل التواطؤ ، وكل الأقوال محتملة ، وأقوالهم كالآتي :
... الأول : آخر كلامه وأوله ، وهو قوله : {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص : 38] ، وقوله {أنا ربكم الأعلى} [النازعات : 24] وهذا قول ابن عباس من طريق أبي الضحى والعوفي ، ومجاهد من طريق عبد الكريم الجزري وابن أبي نجيح ، والشعبي من طريق إسماعيل الأسدي وزكريا ، والضحاك من طريق عبيد .
... الثاني : الآخرة والدنيا ، عن الحسن من طريق عوف وقتادة ، وعن قتادة من طريق سعيد .
... الثالث : الأولى : تكذيبه وعصيانه ، والآخرة : قوله : أنا ربكم الأعلى ، عن أبي رزين من طريق إسماعيل بن سميع . ... ... ... ... ... ... ... ... ... =(1/229)
.
... 26- قوله تعالى : {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } ؛ أي : إن في ما حدث لفرعون موعظة لمن يتعظ ويخاف عقاب الله(1) .
... 27- قوله تعالى : {ءانتم أشد خلقاً أم السماء بناها } يقول تعالى للمكذبين بالبعث القائلين : {أءذا كنا عظاما نخرة} : أأنتم أيها الناس أصعب في الإيجاد ، أم إيجاد السماء وابتداعها أصعب ؟ ولا شك أن خلق السماء أصعب ، وفي هذه دلالة على وقوع البعث الذي أنكروه .
... ثم بين كيفية خلقه للسماء بجمل متعاقبة ، فقال : {بناها} ؛ أي : شيدها .
... 28- قوله تعالى ك {رفع سمكها فسوها} بين كيف بناؤها بقوله : {رفع سمكها} ؛ أي جعل ارتفاعها ارتفاعاً عالياً في البناء ، معتدلة الأرجاء ، لا فطور فيها ، ولا تفاوت .
... 29- قوله تعالى : {وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} ؛ أي : جعل ليل السماء مظلماً ، وأظهر ضحاها بنور الشمس(2) .
... 30- قوله تعالى : {والأرض بد ذلك دحاها} ؛ أي : بسط الأرض(3)
__________
(1) ... رابع : أول عمله وآخر عمله ، وهو قول مجاهد من طريق منصور ، والكلبي من طريق معمر .
( ) ... جاء قصة موسى مع فرعون بين إنكار المنكرين للبعث وبين أدلته التي تبدأ بقوله تعالى : {ءانتم أشد خلقا} ، وفيها إشارة إلى تهديد هؤلاء المنكرين بأن الله قد عذب من هو أشد منهم قوة ، وأنهم لا يعجزونه إن لم يؤمنوا بما جاء به نبيه أن يقع بهم ما وقع بفرعون ، والله أعلم .
(2) ... لما كان طلوع الشمس وغروبها ينتج عنهما ظلمة الليل وضوء الضحى ، والشمس في السماء ، أضاف ظلمة الليل وضوء الضحى إليه . هذا من قول الطبري في تفسيره .
(3) ... ورد التفسير بذلك عن : قتادة من طريق سعيد ، والسدي من طريق أبي حمزة ، وسفيان من طريق عبد الرحمن .
... وعبر ابن زيد عن ذلك بقوله : "{دحاها} حرثها وشقها ، وقال : {أخرج منها ماءها ومرعاها} [النازعات : 31] ، وقرأ : {ثم شققنا الأرض شقا} حتى بلغ : {وفاكهة وأبا} [عبس : 29-31]، وقال : حين شقها أثبت هذا منه ، وقرأ : {والأرض ذات الصدع} [الطارق : 12] " . فجعل الدح مفسراً بما بعدها ، وكذا ورد عن ابن عباس . وهذا من تمام الدحو لا من تفسيره على لفظه ، والله أعلم .(1/230)
بعد خلق السماء وإغطاش ليلها وإخراج ضحاها(1) .
... 31- قوله تعالى : {أخرج منها ماءها ومرعاها} ؛ أي : أظهر من الأرض ماءها وكلأها من النبات(2)
__________
(1) ... أشكل على بعض العلماء هذا النظم في سياق خل السماء والأرض ، ذلك أن الله ذكر في أكثر من موضع خل الأرض قبل خلق السماء ؛ مثل قوله تعالى : {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم =
(2) ... استوى إلى السماء} ، وقال : { قل انبئكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ويجعلون له أندادا بذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعا و كرها قالتا أتينا طائعين * فقضهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا وذلك تقدير العزيز العليم } [فصلت : 9-12] .
... والجواب الصحيح في ذلك ما ذهب إليه حبر الأمة ابن عباس ، وفحواه : أن الله خلق الأرض في يومين غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فخلقها ، ثم دحا الأرض ، فالخلق غير الدحو الذي تتحدث عنه آية النازعات . انظر : (تفسير الطبري ، وفتح الباري ، سورة فصلت من كتاب التفسير) ، وانظر : (تأويل مشكل القرآن : 67 ، وتهذيب اللغة : 2 : 243) . وقد جعل مجاهد والسدي المعنى: والأرض مع ذلك دحاها ، وهذا يبين أن الإشكال قد ورد عليهما ، فخلصا منه بهذا التأويل ، وهو ضعيف ؛ لأن دلالة الآية واضحة على قول ابن عباس ، ولا تحتاج إلى تأويل "بعد" بمعنى "مع" ، وبقاء اللفظ على معناه ، مع صحة تأويل الآية ، أولى من جعله بمعنى لفظ آخر يُحمل عليه تأويل الآية.
... وقد ذكر بعض اللغويين أن "بعد" بمعنى "قبل" ، وهذا لتخريج الإشكال الوارد على الآية ، ويقال فيه ما قيل في القول الذي قبله .
( ) ... هذا الإخراج من توابع دحو الأرض ، والآية تثبت أن الماء الذي في الأرض أصله من الأرض ؛ لقوله : {منها} ، والمرعى في القرآن : مكان الكلأ والعشب الذي تأكله البهائم ، وقد ناسب ذكره هنا، لقوله بعد ذلك : {متاعاً لكم ولأنعمكم} وهو في النهاية يرجع إليهم ؛ لأن الأنعام من متاعهم ، غير أن في ذكر الأنعام هنا إشارة إلى أن الأنعام تشاركهم في التمتع في الأرض ، وأن عليهم زيادة في ذلك، وهو الاعتبار والأتعاظ بما أنعز الله عليهم به ، لكيلا يكونوا كالأنعام أو أضل سبيلاً ؛ كما قال تعالى : {كلوا وارعوا أنعمكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه : 54] ، والله أعلم .(1/231)
.
... 32- قوله تعالى : {والجبال أرساها} ؛ أي : ثبت الجبال في الأرض ، فهي مثبتة للأرض، والأرض مثبتة لها(1) .
... 33- قوله تعالى : {متاعا لكم ولأنعامكم} ؛ أي : ما ذكره من خلق السماء ودحو الأرض وإرساء الجبال منفعة لكم ، تنتفعون به أنتم وأنعامكم مدة من الزمان ، ثم ينتهي هذا الانتفاع .
... 34- قوله تعالى : {فإذا جاءت الطامة الكبرى} ؛ أي : إذا جاءت الساعة(2) التي تطم (أي : تغمرها بعظيم هولها ، حتى لا يوجد أكبر منها عرفوا سوء عاقبتهم وتكذيبهم بالبعث(3).
... 35- قوله تعالى : {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} : أي : إذا جاءت الطامة ، كان من الإنسان المؤمن والكافر تذكر ما عمله في حياته من خير وشر(4) .
__________
(1) ... تثبت هذه الآية الجبال مرساه ، كما ورد في الآيات الأخرى أنها مرسية للارض ، وهذا يعني أن الجبال تثبت الأرض ، كما أن الجبال ثابتة – أي : مرساة – في الأرض ، فلو قلعت من مكانها لما استقرت الأرض . والله أعلم .
(2) ... قال ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة – في الطامة -: من أسماء القيامة ، عظمه الله ، وحذره عباده.
(3) ... هذا جواب إذا ، وهو مضمر ، وذكر الطبري عن القاسم بن الوليد الكوفي القاضي (ت: 141) في قوله {فغذا جاءت الطامة الكبرى } ، قال : "سيق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار" ، وتفسيره هذا يشعر بأنه جواب إذا ، ويؤخذ منه أن الجواب يقدر بما يناسب السياق ، والله أعلم .
... وذكر في وجواب إذا قول آخر ، وهو مبني على قوله : {فأما من طغى} [النازعات : 37] وما بعدها، والتقدير : إذا جاءت الطامة الكبرى ، كانت أحوال الطاغين كذا ، وأحوال المتقين كذا ، والله أعلم .
(4) ... غلب استخدم لفظ السعي في القرآن على ما يعلمه الإنسان من خير و شر .(1/232)
... 36- قوله تعالى : {وبرزت الجحيم لمن يرى} ؛ أي : جيء بجهنم فأظهرت ، ليراها من يبصر في هذا اليوم ، كما ورد في حديث ابن مسعود : يؤتي بجهنم يومئذ ، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها(1) .
... 37- قوله تعالى : {فأما من طغى} : تفصيل في حال الفريقين من أهل السعي من الناس؛ فبدأ بالذي تجاوز الحد في أعماله ، وهو المكذوب بالبعث ؛ لأن السورة في النعي عليه ، وإثبات ما أنكره .
... 38- قوله تعالى : {وءاثر الحياة الدنيا} ؛ أي : قدم الحياة الدنيا بما فيها من الملذات الزائلة عن نعيم الآخرة .
... 39- قوله تعالى : {فإن الجحيم هي المأوى} ؛ أي : مآل هذا المكذب بالبعث ومسكنه النار التي قد تجحمت من شدة الإيقاد .
40- قوله تعالى : {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} ، هذا الفريق الثاني، وهو من امتلأ قلبه بالخوف من قيام أمام ربه ، وكف نفسه عن ما ترغبه من المعاصي(2) .
41- قوله تعالى : {فإن الجنة هي المأوى} هذا جواب أما ، والمعنى : أن الجنة هي مرجع ومستقر من خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى .
42- قوله تعالى : {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} ؛ أي : يسألك المكذبون بالبعث متى تقع الساعة ؟
43- قوله تعالى : {فيم أنت من ذكراها} ؛ في أي شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن وقت وقوعها ؟ ؛ أي ليس هذا من شأنك ، بل شأنك الإعداد لها ، كما قال صلى الله عليه وسلم للسائل عنها : ماذا أعدت بها .
__________
(1) ... رواه مسلم ، وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى : {وبرزت الجحيم للغاوين} [الشعراء : 91] ، وقوله : {وجائ يومئذ بجهنم} [الفجر : 23] ، ويلاحظ في هذه الأفعال أنها جاءت على صيغة المفعول دلالة على الاهتمام بالحدث دون فاعله ، كما يلاحظ أن الآية ذكرت مجيء النار دون الجنة؛ لأن المقام مع المكذبين بالبعث ، فناسب ذلك ذكرها تهديداً ، والله أعلم .
(2) ... غلب اسهم الهوى على ما هو مذموم .(1/233)
44- قوله تعالى : {إلى ربك منتهاها } ؛ أي : إلى ربك مرجع علم وقوعها ، وعلم ما فيها .
45- قوله تعالى : {وإنما أن منذر من يخشاها} : هذا بيان لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي تخويف الناس وتحذيرهم من الساعة وأهولها ، وخص الخائفين ، منها بالذكر لأنهم المنتفعون بها .
46- قوله تعالى : {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} ؛ أي : كأن هؤلاء المكذبين بالبعث يوم يعاينون الساعة بأبصارهم ، ولم يمكثوا في هذه الدنيا إلا زمناً يسيراً ، لا يتجاوز قدره آخر النهار ، أو أوله ، والله أعلم .
سورة عبس
آياتها : 42
سورة عبس
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك إلا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة * قتل الإنسان ما أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * كلا لما يقض ما أمره * فلينظر فيها حبا * وعنبا وقصبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم * فإذا جاءت الصاخة * يقوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحباته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها برة * ترهقها فترة * أولئك هم الكفرة الفجرة } .
سورة عبس
... نزلت سورة عبس بشأن عبد الله بن أم مكتوم ، قالت عائشة : أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : أرشدني ، وعنده من عظماء المشركين . قال : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : أترى بما أقوله بأساً ؟ فيقول : لا ، ففي هذا أنزلت : {عبس وتولى} .(1/234)
... 1-2- قوله تعالى : {عبس وتولى * إن جاءه الأعمى} ؛ أي : قطب وجهه وكلح ؛ لأجل أن جاءه الأعمى يسترشد عن الدين ، وأعرض وانشغل عنه بالغني الكافر رجاء أن يسلم(1) .
... 3- قوله تعالى : {وما يدريك لعله يزكى} ؛ أي : وما يعلمك ، لعل هذا الأعمى الذي عبست في وجهه يتطهر من ذنوبه بموعظتك ، فيسلم؟(2) ..
... 4- قوله تعالى : {أو يذكر فتنفعه الذكرى} ؛ أي : فإن لم يقع منه تزك ، حصل الاتعاظ بالموعظة ، فتنفعه ولو بعد حين؟(3) .
... 5-6- قوله تعالى : {أما من استغنى * فأنت له تصدى} ؛ أما من عد نفسه غنياً عنك ، وعن الإيمان بك(4) ، فأنت تتعرض له .
__________
(1) ... جاء الخطاب على صيغة الغيبة تلطفاً في عتاب النبي صلى الله عليه وسلم . وجاء ذكر عبد الله بن أم مكتوم بوصفه إشعاراً بعذره في عدم معرفته بانشغال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وترقيقاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لأجل علته ، وهي العمى ، حيث يحتاج من الرعاية ما لا يحتاجها غيره، والله أعلم .
(2) ... عبر ابن زيد عن معنى "يزكى" فقال : يسلم ، وهذا فيه إشارة إلى أن ابن أم مكتوم لم يسلم بعد، وقد سبق بيان كلية تفسيرية لهذا اللفظ عند ابن زيد ، وهي أن التزكي في القرآن بمعنى الإسلام .
(3) ... في ذكر التزكي وبعده التذكر ، وهو حصول أثر التذكير احتمالان :
... الأول : أن يكون الأمر من قبيل التخلية والتحلية ، فالتزكي : تطهير ، وهذا جانب التخلية ، وحصول التذكر في القلب تحلية .
... الثاني : أن يكون التزكي : كمال حصول الموعظة في القلب ، والتذكر : ما يحصل فيه القلب من يسيرها ، ويكون المعنى : إن لم يقع منه كمال تزك ، وقع منه يسير ينفعه في المستقبل ، والله أعلم .
(4) ... يذكر بعض المفسرين أن معنى استغنى : استغنى بماله ، ولا يمنع أن يكون هذا الكافر غنياً بماله ، غير أن المناسب لسبب النزول أن يكون استغنى عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .(1/235)
... 7- قوله تعالى {وما عليك ألا يزكى} ؛ أي : أي شيء سيلحقك إذا لم يسلم هذا الكافر؟(1) .
... 8-10- قوله تعالى : {وأما من جاء يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى} ؛ أي : أما هذا الأعمى الذي أتى حيث الخطي إليك بنفسه ، وقد وفر في قلبه الخوف من الله ، فأنت تنشغل عنه بهذا الكافر المظنون إسلامه .
... 11- قوله تعالى : {كلا إنها تذكرة} ؛ أي : ما الأمر كما فعلت يا محمد عليه الصلاة والسلام – من أن تعبس في وجه من جاء يسعى . إن هذه الآيات موعظة وتذكرة لمن أراد أن يتذكر .
... 12- قوله تعالى : {فمن شاء ذكره} ؛ أي : فمن أراد من عباد الله – صادقاً في إرادته- أن يتعظ بالقرآن وآياته حصل له الاتعاظ(2) .
... 13- قوله تعالى : {في صحف مكرمة} ؛ أي : هذا القرآن مكتوب في صحف الملائكة ، وهي صحف شريفة رفيعة القدر(3)
__________
(1) ... يذكر بعض المفسرين في "ما" احتمالاً آخر ، وهو أن تكون نافية ، ويكون المعنى ، لا شيء عليك إذا لم يسلم هذا الكافر ، والأول أنسب لسياق العتاب ، والله أعلم .
... وفي كلا الاحتمالين إشارة لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أن عليه البلاغ ، أما الهداية فمن الله ، كما قال تعالى : {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة : 272] ، وقال : {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور : 54] .
(2) ... أعاد بعض المفسرين الضمير في "ذكره" إلى الله ، والمعنى : فمن شاء من العباد ذكر الله . غير أن سياق الآيات يدل على الأول ؛ لأن الحديث عن القرآن قبل هذه الآية وبعدها ، والله أعلم .
(3) ... وقع خلاف في المراد بالصحف ، وهو مبني على الاختلاف في المراد بالسفرة ، على قولين :
... الأول : أن السفرة الملائكة ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وابن زيد ، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد والضحاك .
... الثاني : أن السفرة القراء ، قاله قتادة من طريق سعيد ، وذكر ابن كثير عن وهب بن منبه ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
... والقول الأول أرجح ؛ لدلالة قوله صلى الله عليه وسلم : "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة..." فوصفهم بما ورد في هذه الآيات ، وحمله عليه أولى ، ثم إن وصف المؤمنين في القرآن جاء على صيغة "الأبرار" ، لا البررة ، مما يشعر أن المعني بهذا الوصف الملائكة .(1/236)
.
... 14- قوله تعالى : {مرفوعة مطهرة} ؛ أي : هي في مكان عال وقدر رفيع ؛ لأنها بأيدي الملائكة ، ولذا فإن الدنس لا يقربها .
... 15- قوله تعالى : {بأيدي سفرة} ؛ أي : هذه الصحف التي كتب بها القرآن بأيدي رسل الله من الملائكة الذين يؤدون عنه وحيه إلى عباده(1) .
... 16- قوله تعالى : {كرام برره} ؛ أي ك هؤلاء السفرة من الملائكة في مرتبة شريفة عند الله ، حيث خصهم بوحيه(2) ، وهم كثيرو الخير ، كثيرو الطاعة : {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}(3) [التحريم : 6] .
__________
(1) ... عبر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وقتادة من طريق معمر ، عن السفرة بأنهم الكتبة، كما عبر قتادة من طريق سعيد بأنهم القراء ، وتأويل السفرة بالرسل يشمل هذه المعاني ، قال الإمام الطبري: "وأولى الأقوال في ذل بالصواب قول من قال : هم الملائكة الذين يسفرون بين الله ورسله بالوحي ... وإذا وجه التأويل إلى ما قلنا ، احتمل الوجه الذي قاله القائلون : هم الكتبة ، والذي قاله القائلون : هم القراء ؛ لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب ، وتسفر بين الله وبين رسله " .
(2) ... الكريم : هو الشريف في جنسه ، وقد وصف الله الملائكة بهذا الوصف في قوله تعالى : {كراما كاتبين} [الانفطار : 11] .
(3) ... قال ابن كثير : "ومن هنا ينبغي لحامل القرآن أ، يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد" .(1/237)
... 17- قوله تعالى : {قتل الإنسان ما أكفره} : هذا دعاء على الإنسان الكافر(1) بالقتل(2) ، لشدة كفره بالله(3) ، ومن لازم ذلك لعنه وطرده من رحمة الله .
... 18- قوله تعالى : {من أي شيء خلقه} : استفهام على سبيل التقرير ، والمعنى : ما أصل خلق هذا الإنسان حتى يستغني عن الإيمان بربه ويكفر ؟ .
... 19- قوله تعالى : {من نطفة خلقه فقدره} : بين الله في هذا أصل الإنسان ، وأن منشأه من ماء قليل هو أصل هذا التناسل البشري ، وأنه قدره بعد ذلك أطواراً في الخلق ، حتى صار جنيناً في بطن أمه .
... 20- قوله تعالى : {ثم السبيل يسره} ؛ أي : ثم بعد هذه الأطوار التي عاشها في بطن أمه، سهل الله له الخروج من هذا البطن(4)
__________
(1) ... قال مجاهد من طريق الأعمش : "ما كان في القرآن (قتل الإنسان) أو فعل بالإنسان، فإنما عنى به الكافر" . وقال الطاهر بن عاشور (30 : 326) "الغالب في إطلاق لفظ الإنسان ، في القرآن النازل بمكة ؛ كقوله : {إن الإنسان ليطغى} [العلق : 6] ، {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} [القيامة : 3] ..." .
(2) ... عبر المفسرون عن معنى "قتل" : لعن ، وهو تفسير بالمعنى ؛ لأن من دعاء عليه الله بالقتل ، فقد طرده من رحمته ، وهو معنى اللعن. (انظر : تفسير ابن عطية لقوله : {قتل أصحاب الأخدود} [البروج :4] ويحسن الوقف في هذه الجملة على "الإنسان" ، والاستئناف بما بعدها ، لبيان المعنى فيهما .
(3) ... هذا التفسير على أن "ما" تعجبية ، وقد جعلها بعض المفسرين استفهامية، ويكون تقدير الكلام : أي شيء جعله يكفر . ، والتعجب – فيما يظهر – أبلغ في هذا المقام ، وهو أنسب في بيان شدة كفر هذا الكافر ، والله أعلم .
... ويكون الخلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى ، وسببه : الاشتراك اللغوي ، والله أعلم .
(4) ... السبيل في اللغة : الطريق ، وقد اختلف السلف في المراد بهذا السبيل في الآية ، على قولين :
... الأول : السبيل : طريق خروجه من بطن أمه ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وأبي صالح من طريق إسماعيل ، والسدي من طريق سفيان ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وهذا القول يناسب السياق .
... الثاني :السبيل : طريق الحق والباطل ، بيناه وأعلمناه ، وهو قول مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، وجعل الآية نظير قوله تعالى : {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا} [الإنسان :3] ، وقول الحسن من طريق قتادة ، وعبر عنه ابن زيد ، بقوله : "والسبيل : سبيل الإسلام" ، وهذا القول محمول على نظير له في القرآن .
... ورجح الطبري القول الأول بدلالة السباق ، فقال : "وأولى التأويلين عندي بالصواب قول من قال : ثم الطريق ، وهو خروجه من بطن أمه ، يسره . وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ؛ لأنه أشبههما بظاهر الآية ، وذلك أن الخبر قبلها وبعدها عن صفته خلقه ، وتدبيره جسمه ، وتصريفه إياه في الأحوال ، فالأولى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وما بعده" .
... ويكون هذا الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى ، وسببه التواطؤ في لفظ السبيل ، والله أعلم .(1/238)
.
... 21- قوله تعالى : {ثم أماته فأقبره} ؛ أي : حكم الله عليه بالموت بعد أن عاش في هذه الحياة ، وأمر بدفنه في باطن الأرض (1).
... 22- قوله تعالى : {ثم إذا شاء أنشره} ؛ أي : بعد أن يموت هذا الإنسان ، فإن الله سيبعثه إذا أراد ذلك ، وهو كائن يوم ينفخ في الصور(2) .
__________
(1) ... يسمى المباشر للدفن قابر ، والآمر به مقبر ؛ فتقول : أقبره الله ، وقبره فلان ، كما قال الأعشى :
... ولو أسند ميت إلى صدرها ... ... لعاش ولم ينقل إلى قابر
... أي : إلى دافن يدفنه في قبره .
(2) ... يلاحظ في الآيات السابقة تكرر العطف بـ "الفاء" ، و "ثم" ، أما الأولى : فللدلالة على تعاقب الحدثين ، وسرعة وجود الآخر بعد الأول . وأما الثاني : فللدلالة على تراخ وبعد بين الحدثين، وسرعة وجود الآخر بعد الأول . وأما الثاني : فللدلالة على تراخ وبعد بين الحدثين ؛ فقوله تعالى : {من نطفة خلقه فقدره} ، إشارة إلى أن الأطوار المقدرة تعقب حال النطفة ، ثم قال :{ثم السبيل يسره} ، وهذا إشارة إلى طول الزمان الذي يقر فيه الجنين في البطن بعد التقدير ، ثم قال : {ثم أماته فأقبره} ، وهذا يدل على تراخ بين خروجه من بطن أمه إلى موته ، وهي فترة الحياة التي يعيشها ، أما الفترة التي بين موته ودفنه فإنه يسيرة ، ولذا جاء التعقيب بالفاء ، ولما كان الزمن بين الموت والبعث طويلاً ، جاء التعقيب بحرف العطف "ثم" ، والله أعلم .(1/239)
... 23- قوله تعالى : {كلا لما يقض ما أمره} ؛ أي : ليس الأمر على ما يظنه من اشتد كفره من انه أدى حق الله ، بل إنه لم يؤد أوامر الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم(1).
... 24- قوله تعالى : {فلينظر الإنسان إلى طعامه} ؛ أي : فيعتبر هذا الكافر(2) مستعيناً بما وهبه الله من النظر بعينيه إلى الأحوال التي يمر بها طعامه ، حتى يصل إليه ، فإنه لو اعتبر لترك كفره(3) .
... 25- قوله تعالى : {أنا صببنا الماء صبا} : هذا البدء بذكر أحوال الطعام ، والمعنى : فلينظر إلى إلقائنا المطر من السماء إلى الأرض بغزارة وقوة(4) .
... 26- قول تعالى : {ثم شققنا الأرض شقا} ؛ أي : لما أنزلنا هذا المطر على الأرض واستقر بها مدة ، أنبت النبات ، ففتق هذا النبات الأرض وخرج منها .
__________
(1) ... قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه" . وهو بهذا يجعل الضمير في "يقض" عاماً للكافر والمؤمن ، ويكون المؤمن على قوله هذا داخلاً في معنى هذه الآية ، وهذا القول صحيح في التفسير ؛ لأن الآية – وإن كانت نازلة في الكافر – تصدق على المؤمن قياساً ، والله أعلم.
(2) ... الخطاب هنا للكافر ، وهو إن كان نازلاً فيه أولاً ، فإنه لا يعني أنه مختص به ، بل يدخل معه غيره؛ لأن الاعتبار مطلوب منه ومن المؤمن ، والله أعلم .
(3) ... قال مجاهد : "قوله : "فلينظر الإنسان إلى طعامه} : آية لهم " .
(4) ... فرئ : "إنا" على الاستئناف ؛ أي أنه استأنف الخبر مبيناً الأحوال التي يمر بها الطعام ، ,والقراءة الأخرى "أنا على البدل ، وهو بدل اشتمال ، وهذا يعني أن الأحوال المذكورة التي يمر بها الطعام ، هي محل النظر والاعتبار ، والله أعلم .(1/240)
... 27-29- قوله تعالى : {فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا} ؛ أي : فأنبتنا في هذه الأرض المتشققة : الحبوب ، وكروم العنب ، والعلف(1) ، والزيتون ، ,النخيل ، وكلها كانت معروفة لهم يستفيدون من شجرها وثمرها .
... 30- قوله تعالى : {وحدائق غلبا} ؛ أي : وبساتين قد أحيط عليها بسور من شجر أو حجر أو غيره ، وهذا البساتين شجرها عظيم الجذع ، ملتف بعضها على بعض لطولها(2)
__________
(1) ... وردت عبارة السلف عن القضب كالآتي : عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : الفصفصة، وعن قتادة من طريق سعيد : الفصافص ، وعن الضحاك من طريق عبيد : الرطبة ، وعن الحسن من طريق يونس : العلف .
... وقال ابن جرير : يعني بالقضب : الرطبة ، وأهل مكة يسمون القت : القضب .
... وهذا يعني أن القضب له أكثر من مسمى ، فعبر عنه كل واحد منهم بأحد أسمائه ، وهي : العلف ، والرطبة ، والقت ، وهو البرسيم كذلك .
... وأن حمل تفسير السلف على المثال لا التعيين في هذا الوضع ، فإن القضب يطلق على ما يقضب من النبات ؛ أي ك يقطع ثم ينمو ، ويشمل ذلك أصنافاً كثيرة تشبه العلف في هذا الوصف ؛ كالجبرجير والكراث والنعناع ، وغيرها ، والله أعلم .
(2) ... قال أبو جعفر الطبري : وقوله : {غلبا} ؛ يعني : غلاظاً ، ويعني بقوله : {غلبا} : أشجاراً في بساتين غلاظ ... وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل ، على اختلاف منهم في البيان عنه " . ثم ذكر الرواية عن السلف كالآتي :
ما التف واجتمع ، عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب .
الطيبة ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
نبت الشجر كله ، عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب ، ومن طريق عكرمة : الشجر يستظل به في الجنة .
الطوال ، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة .
النخل الكرام ، عن قتادة من طريق سعيد ومعمر .
العظام ، عن ابن زيد : عظام ، النخل العظيمة الجذع ، وعن عكرمة : عظام الأوساط .
وإذا تأملت هذه الأقوال وجدتها تأتلف ولا تختلف كما قال ابن جرير ، فالغالب : العظيمة الجذع، وهو تعبير عكرمة ، ومثل له ابن زيد بالنخل ، وإذا كانت عظيمة الجذع ، فإنها ستلتف وتجتمع كما قال ابن عباس ، وهي نبت الشجر كله ، وهو الشجر الطويل كما قال ابن عباس ، فنبه على أن =(1/241)
.
... 31- قوله تعالى : {وفاكهة وأبا} ؛ أي : وأنبتنا بهذا الماء المنصب : فاكهة من ثمار هذه الأشجار يتفكه الناس بأكلها ، وعشباً تأكله أنعامهم في المرعى(1)
__________
(1) ... الشجر يصلح أن يكون بهذه الصفة ، والعادة جرت على طيب شجر هذه الحدائق ، وهو تفسير مجاهد ، والله أعلم .
( ) ... جعل السلف الفاكهة للناس ، فقال الحسن من طريق مبارك :الفاكهة : ما يأكل ابن آدم ، وقال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : ما أكل الناس ، وقال قتادة من طريق سعيد : أما الفاكهة فلكم ، وقال ابن زيد : الفاكهة لنا .
... أما الأب ، فالجمهور على أنه الكلأ والعشب الذي للحيوان ، وقد عبر السلف عن ذلك بقولهم : الأب: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس ، أو الكلأ والمرعى كله ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب ، وعن سعيد بن جبير ، وعن العوفي ، وعن مجاهد من طريق الأعمش أو غيره وسفيان وابن أبي نجيح ، والحسن من طريق مبارك ومعمر ويونس ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد .
... وعبر أبو رزين ، فقال : الأب : النبات . وهذا أعلم من الأقوال التي ذكرت .
... وورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، أنه الثمار الرطبة ، وهو غريب .
... ونسب للضحاك أنه التبن (الدر المنثور) ، ويجوز أن يعود إلى معنى النبات أو العشب على أنه يبيسهما، فيكون فسر بمآل الأب لا عينه ، والله أعلم .
... وأصل الأب في اللغة دال على العود ؛ أي : أنه شيء الذي يذهب ثم يعود ؛ كقولهم : "أب إلى وطنه" ؛ أي : عاد إليه ، وهذا المعنى متحقق فيما قاله المفسرون في معنى الأب من أنه : النبات، أو العشب ، أو الثمار الرطبة ، أو التبن ؛ لأنها تجيء بعد ذهاب ، غير أو الأول أولى ؛ لأنه قول الجمهور، وللإشارة إليه بقوله : {ولانعامكم} على ما فسره أصحاب هذا القول ، والله أعلم .
... أما ما ورد عن صديق الأمة رضي الله عنه من أنه سئل عن الأب ، فقال : "أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم " ، فهو منقطع الإسناد .
... وما صح عن عمر أنه قرأ هذه الآية ، فقال : " قد عرفنا الفاكهة ، فما الأب ؟ قال : لعمرك يا ابن الخطاب ، إن هذا لهو التكلف" ، وله روايات أخرى . فإن فيه أن عمر لم يعرف معنى الأب ، ولعلها ليست من لغة قريش ، فجهلها . وفيه أنه جعل طلب معرفة ذلك من التكلف ، وفي هذا إشكال ، وهو هل تطلب مثل هذا يدخل في التكلف ؟! الله أعلم .(1/242)
.
... 32- قوله تعالى : {متاعاً لكم ولإنعامكم } ؛ أي جعلنا هذا الطعام منفعة لكم ، تنتفعون به أنتم وأنعامكم مدة من الزمان ، ثم ينتهي هذا الانتفاع .
... 33- قوله تعالى : {فإذا جاءت الصاخة} ؛ أي : تنتفعون بهذا المتاع الذي سرعان ما ينتهي ، وذلك بمجيء تلك الصيحة العظيمة التي تصك الآذان بشدة صوتها(1) .
... 34-36- قوله تعالى : {يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه} ؛ أي : إذا جاءت تلك الصيحة وقع هروب الإنسان من هؤلاء القرابة ، وهم الأخوة والأبوان والزوجة والأبناء .
... 37- قولهم تعالى : {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} ؛ أي : يهرب هؤلاء من بعضهم لأن كل منهم حاله التي تشغله من غيره(2) .
... 38- 39- قوله تعالى : {وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة} ؛ أي : في ذلك اليوم ينقسم الناس إلى فريقين : فريق قد أضاء وجهه واستنار، فهو منبسط منشرح بسبب ما سيلاقيه من النعيم .
... 40-42- قوله تعالى : {ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها فترة * أولئك هم الكفرة الفجرة} ؛ أي : وفريق قد تغبرت وجوههم ، وعلاها السود والظلمة بسبب ما هي صائرة إليه من العذاب ، وهي وجوه الذين ستروا فطرهم بالكفر ، وشقوا ربقة الإيمان بأعمال الفجور، فجمعوا بين فساد الاعتقاد والعمل ، والله أعلم .
سورة التكوير
آياتها : 29
سورة التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أن الصاخة من أسماء يوم القيامة .
(2) ... استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية لبيان انشغال كل واحد بنفسه في هذا اليوم ، فقد ورد في الحديث أنه قال : "يحشر الناس حفاة عراة غرلاً ، فقالت عائشة : أيبصر بعضنا بعضاً ؟! فقال : يا عائشة : {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} " .(1/243)
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم أنكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجرت * وإذا النفوس زوجت * وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت * وإذا الصحف نشرت * وإذا السماء كشطت * وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس ما أحضرت * فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد راءه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم * فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر العالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء رب العالمين .
سورة التكوير
... قال صلى الله عليه وسلم : من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين ، فليقرأ : {إذا الشمس كورت} ، و {إذا السماء انفطرت} ، و {إذا السماء انشقت} .
... وقد ورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن الآيات لست الأولى تكون في آخر الزمان والناس ينظرون إليها ، ولست الأخيرة تكون في يوم القيامة .
... 1- قوله تعالى : {إذا الشمس كورت} ؛ أي : إذا جمع جرم الشمس ، وذهب ضوؤها، فألقيت في النار(1)
__________
(1) ... عبر السلف عن التكوير بالعبارات الآتية :
ذهبت ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، والضحاك من طريق عبيد ، وقال مجاهد من طريق أبي يحيى: اضمحلت وذهبت ، وقال سعيد بن جبير من طريق جعفر : غورت .
ذهب ضوؤها ، وهو قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية ، وقتادة من طريق شعبة ، وقال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : أظلمت .
رُمي بها ، وهو قول الربيع بن خثيم ، وأبي صالح من طريق إسماعيل ، وفي رواية أخرى ن طريق إسماعيل: نكست .
وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين : ذهابها بذاتها ، يلحقه ذهاب ضوئها ، ورميها ، وعلى هذه التفاسير يكون التكوير محتملاً لهذين الأمرين ، ويربط بينهما أنهما من الأحوال التي تمر بها الشمس في ذلك اليوم ، فجاءت هذه اللفظة الواحدة دالة على هذه المعاني ، والله أعلم .
قال ابن جرير الطبري : "الصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال : "كورت" كما قال الله جل ثناؤه ، والتكوير في كلام العرب : جمع بعض الشيء إلى بعض ، وذلك كتكوير العمامة ، وهو لفها على الرأس ، وكتكوير الكارة ، وهي جمع الثياب بعضها إلى بعض ولفها ، وكذلك قوله : {إذا الشمس كورت} إنما معناه : جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفت ، فرمي بها ، وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوؤها ، فعلى التأويل الذي تأولناه وبيناه لكلا القولين اللذين ذكرت عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كورت ورمي بها ذهب ضوؤها" .
وعلى هذا الترجيح من الطبري يزيد معنى اللف والمع ، ولم أجده لأحد من السلف قبل الطبري ، وهو مستنبط من المعنى اللغوي للتكوير ، كما أن من قال : رمي بها ، فإنه مأخوذ من معنى لغوي آخر في مادة التكوير ، تقول : كورت الرجل ؛ أي : طرحته في الأرض ، وقد ورد في الحديث : "الشمس والقمر ثوران مكوران في النار" . وهذا يشهد لهذا المعنى التفسيري ، ويزيد عليه بيان مآل الشمس . أما من فسرها بذهبت واضمحلت فإن ذلك لازم لفها كما ذكرى الطبري ، وإذا ذهبت ذهب ضوؤها ، والله أعلم .(1/244)
.
... 2- قوله تعالى : {وإذا النجوم انكدرت} ؛ أي : وإذا نجوم السماء وقعت وانتثرت ، فتغيرت وطمس ضوؤها(1) .
... 3- قوله تعالى : {وإذا الجبال سيرت} ؛ أي : وإذا هذه الجبال العظيمة قد أمر الله بتحريكها من مكانها ، فسارت(2)
__________
(1) ... ورد في تفسير الأنكدار قولان :
... الأول : تناثرت ، وهو قول الربيع بن خثيم ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وأبي صالح من طريق إسماعيل ، وقتادة من طريق سعيد ، وعبارته : "تساقطت وتهافتت} ، وابن زيد ، وعبارته : "رمي بها من السماء إلى الأرض" .
... والثاني : تغيرت ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة .
... وهذان القولان ليس بينهما تضاد ، بل الثاني من لوازم الأول ، والمعنى أنها إذا تساقطت ؛ كما قال تعالى : {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار : 2] ، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها ؛ كما قال تعالى {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار : 2] ، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها ؛ كما قال تعالى : {فإذا النجوم طمست] [المرسلات :8] . وهذان القولان مرجعهما اللغة ، فالأول جعل اللفظ من الانكدار ، أي الانصباب ؛ كما قال العجاج :
... ... تقضى البازي إذا البازى كسر ... أبصر غربان فضاء فانكدر
... والمعنى الثاني مأخوذ من الكدرة ، وهي التغير ، تقول : كدرت الماء فانكدر ؛ أي : تغير بما يكدر صفاءه ، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنيين غيرمتضادين ، ويجوز أن يرادا في الآية ، ويكون سبب الاختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنيين غير متضادين ، ويجوز أن يرادا في الآية ، ويكون سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في لفظ : انكدرت ، والله أعلم .
(2) ... عبر مجاهد عن معنى التسيير بقوله : "ذهبت" ، وهذا من لوازم تسيير الجبال ؛ لأنها إذا سارت فقد ذهبت ، والله أعلم .
... وهذه الآية كقوله تعالى : {وسيرت الجبال فكانت سرايا} ، وجاء الفعل على صيغة المفعول للاهتمام بالحديث ، وللدلالة على أن هذا الفعل يكون مبدؤه بفعل فاعل فيها ، ثم إنها تنفل لهذا الحدث فتسير؛ كما قال تعالى : {وتسير الجبال سيرا} ، ويظهر أن هذه أول حال من الأحوال التي تمر بها الجبال في ذلك اليوم ، والله أعلم .(1/245)
.
... 4- قوله تعالى : {وإذا العشار عطلت} ؛ أي : وإذا النوق الحوامل التي بلغت الشهر العاشر من حملها ، التي هي أنفس أموالهم ، قد أهملها أهلها وتركوها من هول الموقف(1) .
... 5- قوله تعالى : {وإذا الوحوش حشرت} ؛ أي : وإذا الحيوانات البرية التي لم تأنس بالإنسان جمعت معه وزال ما بينهما من الاستيحاش بسبب هول الموقف(2)
__________
(1) ... كذا قال السلف : أبي بن كعب من طريق أبي العالية ، والربيع بن خثيم ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى ، والحسن من طريق عوف ، وقتادة من طريق معمر ، والضحاك من طريق عبيد المكتب .
(2) ... اختلف السلف في تفسير عبارة الحشر هنا :
فجعله ابن عباس من طريق عكرمة : الموت ، وقال الربيع بن خثيم : أتى عليها أمر الله .
وقال أبي بن كعب من طريق أبي العالية : اختلطت .
وفسر قتادة من طريق سعيد بالجمع ، قال : "هذه الخلائق موافية يوم القيامة ، فيقضي الله فيها ما يشاء" . وهذا تفسير معنى ، ولم ينص فيه على مدلول اللفظ مطابقة ، لكن يفهم من قوله أن الحشر الجمع ، والله أعلم .
وقد رجح الإمام ابن جرير قول قتادة وأردفه بقول ابن عباس فقال : "وأولى الأقوال ف ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى حشرت : جمعت ، فأميتت ؛ لأن المعروف في كلام العرب من معنى الحشر : الجمع ؛ ومنه قول الله : {والطير محسورة} [ص : 19] ؛ يعني مجموعة ، وقوله : {فحشر فنادى} [النازعات : 23] ، وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب الظاهر من تأويله ، لا على الأنكر المجهول " .
ولعلك تلاحظ أنه استشهد لمعنى الجمع ، ولم يستشهد لمعنى الموت الذي ذكره في أول كلامه ! وتفسير ابن عباس يظهر منه أن هذه الدلالة اللغوية للحشر مختصة بحشر الحيوانات في آخر الزمان، حيث قال : "حشر البهائم : موتها ، وحشر كل شيء : الموت ، غير الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة" . وإن لم تحمله على ذلك ، فإنك ستلاحظ أنه أفاد زيادة على معنى الجمع ؛ أي : نتيجة هذا الجمع ولازمه ، وهو مآل هذه الحيوانات بعد هذا الحشر ، والله أعلم .
أما تفسير أبي بن كعب ، فإن لم تحمله على أنه معنى لغوي آخر للحشر ، فإنه من لوازم الحشر؛ أي: أن جمع هذه الحيوانات جعلها تختلط ببعضها دون خوف أو غيره مما كان من حالها قبل ذلك ، والله أعلم .(1/246)
.
... 6- قوله تعالى : {وإذا البحار سجرت} ؛ أي : وإذا هذه البحار امتلأت بالماء ، ففاضت به ، ثم أوقدت ، فذهب ما فيها من الماء(1) .
... 7- قوله تعالى(2)
__________
(1) ... قرئ حرف "سجرت" بتخفيف الجيم وتشديدها ، وفي التشديد مبالغة في السجر ، وكلا القراءتين جاءت على صيغة المفعول للاهتمام بالحدث .
... وقد اختلف السلف في تفسير التسجير في هذه الآية على أقوال :
... الأول : أشعلت وأوقدت ، وهذا قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية ، وابن عباس من طريق شيخ من بجيلة ، وابن زيد ، وشمر بن عطية ، وسفيان الثوري من طريق ابن مهران ، ومن طريق سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : "قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين =
(2) ... جهنم ؟ فقال : في البحر ، فقال : ما أراه إلا صادقاً {والبحر المسجور} [الطور :6] ، {وإذا البحار سجرت} [التكوير : 6] مخففة " .
... الثاني : فاضت ، وهو قول الربيع بن خثيم ، وقال الكلبي : ملئت ، وجعلها نظير قوله تعالى:{والبحر المسجور} [الطور : 6] .
... الثالث : فجرت ، وهو قول الضحاك من طريق عبيد ، وكأنه جعلها نظير قوله تعالى : {وإذا البحار فجرت} [الانفطار : 3] .
... الرابع : ذهب ماؤها ، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد ، وقال الحسن من طريق أبي رجاء وسليمان بن المعتمر : يبست .
... قال أبو جعفر الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ملئت حتى فاضت ، فانجرت وسالت ، كما وصفها الله به في الموضع الآخر ، فقال :{وإذا البحار فجرت} [الانفطار : 3] ، والعرب تقول للركي المملوء : ماء سجور ، ومنه قول لبيد :
... ... فتوسطا عرض السري وصدعا ... مسجورة متجاوراً قلامها
... ويعني بالمسجور : المملوء ماء " .
... والسجر في لغة العرب يطلق على معان ثلاثة مما ذكر في التفسير، وهي : امتلاء ، والإيقاد ، واليبس، ومن ثم فإن الآية تحتمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها السلف ويمكن الجمع بينها على أن هذه من المراحل التي تمر بها البحار في ذلك الزمان ، فعبر بلفظ يدل على هذه المراحل جميعها ، والله أعلم .
... وإذا صرح ذلك ، فإن الأمر يكون بأن تنفجر البحار ويفيض بعضها على بعض ، حتى تصير بحراً واحداً ممتلئاً ، ثم توقد بالنار – التي ورد في بعض الآثار أنها تحت البحر – ثم تيبس ويذهب ماؤها، والله أعلم .
... ويظهر أن سبب الاختلاف هنا : الاشتراك اللغوي في لفظ "سجرت" ، وهو من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قول ، كما يلاحظ أن بين قولي الامتلاء واليبس تضاداً ، ولكن جاز حمل الآية عليهما لاختلاف الحال والوقت الذي يكون فيه هذان المعنيان ، والله أعلم .
( ) ... هذه الآية وما بعدها تكون بعد البعث كما ذكر أبي بن كعب ، وهذا ظاهر من أمر هذه الآيات الست القادمة ، والله أعلم .(1/247)
: {وإذا النفوس زوجت} ؛ أي : إذا الأشخاص الذين يعملون أعمالاً متشابهة ، يقرن بينهم ، فيقرن الكافر مع الكافر ، والمؤمن مع المؤمن ، واليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني ، وهكذا(1) .
... 8-9- قوله تعالى :{وإذا الموءدة سئلت * بأي ذنب قتلت} ؛ أي : وإذا سأل الله البنت المدفونة وهي على قيد الحياة : ما الجريمة التي فعلتيها حتى يدفنك أهلك ، فيقتلونك بهذا الدفن(2)؟ ، وهذا فيه تبكيت لقاتلها ، وتهويل للموقف الذي يسأل فيه المجني عليه ، فما ظنك بما يلاقيه الجاني لهذا الجناية البشعة ؟ .
__________
(1) ... اختلف السلف في تفسير الآية على قولين :
... الأول : الحق كل إنسان بشكله ، وقرن بين الضرباء والأمثال، وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : هما الرجلان يعملان العمل ، فيدخلان به الجنة ، وقال : {احسروا الذين ظلموا =
(2) ... وازوجهم} [الصفات : 22] قال : ضرباءهم . وقال ابن عباس من طريق العوفي : ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة ، وهو قول الحسن من طريق عوف ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ، والربيع بن خثيم .
... الثاني : ردت الأرواح إلى الأجساد ، فجعلت لها زوجاً ، وهو قول عكرمة من طريق أبي عمرو، والشعبي من طريق داود .
... والقول الأول هو الراجح ، قال الطبري : "وأولى التأويلين في ذلك بالصحة ، الذي تأوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلة التي اعتل بها ، وذلك قوله تعالى ذكره : {وكنتم أزواجا ثلاثة} [الواقعة : 7] ، وقوله : {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [الصافات : 22] ، وذلك ولاشك – الأمثال والأشكال في الخير والشر ، وكذلك قوله : {وإذا النفوس زوجت} [التكوير : 7] بالقرناء والأمثال في الخير والشر " .
( ) ... لا يخفى عليك أيها القارئ ما تقوم به الحضارة المعاصرة من الوأد ، وذلك ما يسمى بالإجهاض .(1/248)
... 10- قوله تعالى : {وإذا الصحف نشرت} ؛ أي : وإذا ما كتبت به أعمال العباد من الصحف قد فتحت ، ليقرأ كل كتاب أعماله ؛ كقوله تعالى : {أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} [الإسراء : 14] .
... 11- قوله تعالى : {وذا السماء كشطت} ؛ أي : وإذا نزعت السماء كما ينزع الجلد من الذبيحة(1) .
... 12- قوله تعالى : {وإذا الجحيم سعرت} ؛ أي : وإذا نار الجحيم أوقدت ، فزاد حرها.
... 13- قوله تعالى : {وإذا الجنة أزلفت} ؛ أي : وإذا الجنة التي أعدت للمتقين ، قربت وأدنيت(2) .
__________
(1) ... قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : جذبت ، وهذا من لوازم الكشط ؛ لأنه لا يكون كشط إلا بجذب، والله أعلم .
... وهذه أحد الأحوال التي تمر بها السماء في يوم القيامة، ومن أحوالها ما ذكره الله في قوله : {يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب} [الأنبياء : 104]، وقوله : {فكانت ورده كالدهان} [الرحمن : 3]، وقوله : {إذا السماء أنشقت} [الانشقاق : 1] ، وغيرها .
(2) ... قال الربيع بن خثيم – في قوله تعالى : {وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت} - : "إلى هذين ما جرى الحديث : فريق إلى الجنة ، وفريق إلى النار" . وشرح الطبري قوله هذا فقال : "يعني الربيع بقوله : "إلى هذين ما جرى الحديث" : أن ابتداء الخبر {وإذا الشمس كورت} إلى قوله : {وإذا الجحيم سعرت} إنما عددت الأمور الكائنة التي نهايتها أحد هذين الأمرين ، وذلك المصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار" .(1/249)
... 14- قوله تعالى : {علمت نفس ما أحضرت} ؛ أي : إذا وقعت هذه الأحداث ، فإن كل نفس مؤمنة وكافرة تعلم علماً يقيناً بالذي جاءت به من الأعمال لهذا اليوم ؛ كما قال تعالى : {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء نود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}(1) [آل عمران : 30] .
... 15- 16- قوله تعالى : {فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس} : لما ذكر الآيات التي تكون في آخر هذا العالم وفي يوم القيامة ، أتبعه بالقسم على القرن(2) ، فالقسم ربنا(3)
__________
(1) ... روى عن عمر بن الخطاب قوله : "إلى هذا جرى الحديث" . وجملة : {عملت نفس ما أحضرت} جواب "إذا" في المواطن السابقة كلها ، والتقدير : إذا الشمس كورت ، علمت نفس ما أحضرت، وإذا النجوم انكدرت ، علمت نفس ما احضرت ، وهكذا .
... ولاشك أن العلم بما علمت يتفاوت في هذه الأزمان التي تقع فيها هذه الأحداث ، غير أنها لما كانت مترابطة إذا حدث الحدث الأول تبعته الأحداث الأخرى كما تنفرط خرزات السبحة من خيطها، جاز الجواب عنها بهذا الجواب الشامل ، وإن كان وقوع ذلك الجواب وقوعاً عينياً يكون بعد كشف الصحف وقراءتها ، والله أعلم . (انظر : التحرير والتنوير) .
(2) ... جاءت الفاء لتربط بين المقطعين ، والأول يتحدث عن البعث ومبادئه ، وتقدير الربط بينهما : أنهم لو كانوا آمنوا بالقرآن الذي جاء القسم عليه ، لصدقوا بما هو من أعظم أخباره ، وهو البعث ، والله أعلم .
(3) ... وقع خلاف في هذا التركيب "لا أقسم " على أقوال ، منها :
أنه نفي للقسم ، والمعنى أن هذا القضية من الظهور بحيث لا تحتاج إلى قسم عليها .
أن المنفي محذوف يقدر بما يناسب السياق ، ويكون المعنى : لا ليس الأمر كما زعمتم في القرآن، أقسم بالخنس ... إنه لقول رسول كريم . ... ... ... ... ... =(1/250)
بالنجوم التي تكون مختفية قبل ظهورها بالليل ، الجارية في فلكها ، والداخلة وقت غروبها في النهار إذا طلع ، كما تدخل بقر الوحش والظباء في كناسها ؛ أي : بيتها(1)
__________
(1) ... 3- أن "لا" جاءت لتأكيد القسم ، ويدل عليه قوله تعالى : {فلا أقسم بمواقع النجوم} [الواقعة : 75] ، ثم قال بعده : {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة : 76] ، فأثبت أنه أقسم ، وأنهم لو كانوا يعلمون ، لعلموا أنه قسم عظيم ، وهذا أقرب الاقوال للصواب ، والله أعلم .
( ) ... اختلف السلف في المراد بهذه الأوصاف الثلاثة على قولين :
... الأول : أنها النجوم أو الكواكب ، وهو قول علي بن أبي طالب من طريق خالد بن عرعرة ، ورجل من مراد ، والحسن من طريق جرير بن حازم ومعمر ، وبكر بن عبد الله ، ومجاهد من طريق الأعمش، وقتادة من طريق سعيد ، وابن زيد .
... الثانية : أنها بقر الوحش ، وهو قول ابن مسعود من طريق أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل ، وجابر بن زيد ، وعبد الله بن وهب ، ومجاهد من طريق الصلت بن راشد ، وإبراهيم النخعي من طريق الأعمش، ومغيرة .
... وقال بعضهم : الظباء ، وهم : ابن عباس من طريق العوفي ، وسعيد بن جبر من طريق جعفر ، ومجاهد من طريق أبن أبي نجيح ، والضحاك من طريق عبيد . ومعناه قريب من الذي قبله ؛ لأنهما من الوحش، ولا تفاقهما في الوصف المذكور .
... قال ابن جرير : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله – تعالى ذكره – اقسم بأشياء تخنس أحياناً ؛ أي : تغيب ، وتجري أحياناً ، وتكنس أخرى ، وكنوسها : أن تأوي في مكانسها، والمكانس عند العرب : هي المواضع التي تأوى إليها بقر الوحش والظباء ... وغير منكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء ، فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر ، ولا البقر دون الظباء ، فالصواب أن يعم بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحياناً ، والجري أخرى ، والكنوس بآنات على ما وصف جل ثناؤه من صفتها".
... وسبب الخلاف أن هذا الوصف صالح لأكثر من موصوف ، فذكر هؤلاء ما يرونه أنسب من غيره من الموصوفات ، وهذه الموصوفات تتواطأ على هذا الوصف ، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قول ، ويمكن حمل الآية عليهما كما قال ابن جرير ، غير أ، في سياق الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين ، وهو أن المراد : النجوم والكواكب ، وذلك أن السياق بعدها يذكر آيات كونية، وهي الليل والصبح ، والنجوم ألصق بذلك من بقر الوحش والظباء ، ثم إن الغالب على أقسام القرآن : أن يكون القسم بما هو ظاهر للناس ، أو له آثار ظاهرة ، والنجوم والكواكب أظهر لكل الناس من بقر الوحش والظباء ، وبهذا يترجح القول بأنها النجوم والكواكب ، والله أعلم .(1/251)
.
... 17- قوله تعالى {والليل إذا عسعس} ؛ أي : وأقسم بالليل إذا أقبل أو أدبر(1) .
... 18- قوله تعالى : {والصبح إذا تنفس} ؛ أي : وأقسم بالصبح إذا بزغ ضوؤه ، وانتشرت نسماته الباردة .
... 19- قوله تعالى : {إنه لقول رسول كريم} هذا جواب القسم ، والمعنى : إن القرآن تبليغ جبريل أشرف الملائكة(2) .
__________
(1) ... اختلف السلف في المراد بـ "عسعس" في هذا الموضع ، على قولين :
... الأول : أدبر ، وهو قول بن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وعلي بن أبي طالب من طريق أبي ظبيان وأبي عبد الرحمن السلمي ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد .
... والثاني : أقبل ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، والحسن من طريق معمر ، وعطية العوفي من طريق الفضيل .
... وسبب الاختلاف في هذه اللفظة الاشتراك اللغوي ، وهو من قبيل المشترك المتضاد ، ويجوز في هذا المثال حمله على معنييه ، لاختلاف الزمن المحمول عليه اللفظ ، وهو أول الليل وأخره ، وبهذا يكون من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى ، وفي إيثار هذا اللفظ الدال على الحالين معاً ما يظهر بلاغة القرآن وإيجازه في الألفاظ مع اتساع المعاني ، دون تعارض بينهما ؛ أي : أنه إذا قيل بأحدهما لزم منه انتفاء الآخر ؛ كما في لفظ القرء من قوله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة : 228] فإنك لا يمكن أن تقول بالقولين معاً ؛ لأن المطلوب من المرأة أن تتريث ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض ، والله أعلم .
(2) ... نسب إليه القول هنا لأنه المبلغ عن ربه ، ولذا عبر عنه بلفظ "رسول" للتنبيه على مهمته ، وهي تبليغ كلام الله للنبي صلى الله عليه وسلم .(1/252)
... 20- قوله تعالى : {ذي قوة عند ذي العرش(1) مكين} ؛ أي : جبريل صاحب قوة عظيمة ، وهو ذو مكانة ومنزلة عند الله سبحانه ، ولذا خصه بوحيه ، فهو أمين السماء .
... 21- قوله تعالى : {مطاع ثم أمين} ؛ أي : جبريل المؤتمن على الوحي ، الذي لا يخون، يطيعه أهل السموات .
... 22- قوله تعالى : {وما صاحبكم بمجنون} ؛ أي : وما محمد الذي لازمكم أكثر من أربعين عاماً ، فلا تخفى عليكم دقائق أحواله ، ما هو بمخبول ولا بممسوس من الجن كما تزعمون.
... 23- قوله تعالى : {ولقد رءاه بالأفق المبين} ؛ أي ك أقسم أن محمداً رأى جبريل على صورته الملكية في أفق السماء الواضح ، مكان طلوع الشمس أو غروبها ، ولم يكن ذلك رئياً من الجن كما تزعمون .
... 24- قوله تعالى : {وما هو على الغيب بضنين} ؛ أي : ليس محمد صلى الله عليه وسلم ببخيل عليكم(2) فيما بلغه من الوحي ، فيكتمه عنكم ، أو يأخذ عليه أجراً كما يأخذه الكاهن الذي يأتيه من الجن(3) .
__________
(1) ... العرش من المخلوقات العلوية الغيبية التي أطلعنا الله على بعض أوصافها ، ومنها : أنه سرير ذو قوائم، وهو أعلى المخلوقات ، وأوسعها ، وأن الملائكة تحمله ، وعليه استوى الرحمن ؛ كما قال تعالى : {الرحمن على العرش استوى} [طه : 5] .
(2) ... ورد تفسير هذه القراءة عن زر بن حبيش من طريق عاصم ، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ، وابن زيد ، وسفيان الثوري من طريق مهرن.
(3) ... قرئ : "بظنين" ؛ أي : متهم ، والمعنى : ما محمد صلى الله عليه وسلم بكاذب فيما يبلغكم من الوحي، وقد ورد تفسير هذه القراءة عن ابن عباس من طريق الضحاك والعوفي ، وزر بن حبيش من طريق عاصم ، وسعيد بن جبير من طريق أبي المعلى ، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة ، والضحاك من طريق عبيد .(1/253)
... 25- قوله تعالى : {وما هو بقول شيطان رجيم} ؛ أي : ليس القرآن من كلام الشيطان الملعون المطرود ، ولكنه كلام الله ووحيه .
... 26- قوله تعالى : {فأين تذهبون} ؛ أي : ما هو المسلك الذي ستسلكونه بعد هذا البيان والإيضاح عن صدق القرآن ؟
... 27- قوله تعالى : {إن هو لا ذكر للعالمين} ؛ أي : ما هذا القرآن الذي ذكرت لكم أحواله إلا موعظة لكم أيها المكلفون من الإنس والجن .
... 28- قول تعالى : {لمن شاء منكم أن يستقيم} ؛ أي : هذا القرآن موعظة لمن صدق في توجهه إلى الله ، وأراد أن يكون مسلماً لله ، مستقيماً على دينه ، وفي هذا دلالة على أن العبد قد يحجب نفسه عن الهداية ؛ كما قال تعالى : {وقد خاب من دساتها} [الشمس : 10] .
... 29- قوله تعالى : {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} ؛ أي : ولا تقع منكم إرادة كائنة ما كانت ، إلا بعد أن يأذن الله بوقوعها ؛ لأنه رب جميع العوالم ، فلا يقع في ملكه إلا ما يشاء(1) .
سورة الانفطار
آياتها : 19
سورة الانفطار
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... هاتان الآيتان ورد فيهما إثبات مشيئة العبد ومشيئة الرب ، والمراد أن مشيئة العبد ليست نافذة على كل حال ، بل هي مقيدة بإذن الرب لها بالنفاذ ، وفي هذا رد على الجبرية الذين يرون أنه لا فعل لهم البتة ، بل كل فعل يفعلونه هم مجبولون عليه ليس لهم فيه اختيار ، وهذا مخالف للواقع ؛ لأنك ترى من نفسك اختياراً وتصرفاً ، ولكن وقوع هذا الاختيار بمشيئة الله تعالى .
... كما أن في الآية الثانية رداً على الذين يزعمون أن لعبد قادر على خلق فعله ، وهم المعتزلة ؛ لأن الله أثبت أن فعل العبد لا يقع إلا بعد مشيئة الله ، ولو كان ما قولوه صحيحاً لما لزم ورود مشيئة الله هنا، والله أعلم .(1/254)
إذا السماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا الحبار فجرت * وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت * يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك * كلا بل تكذبون بالدين * وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون * إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغائبين * وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله .
سورة الانفطار
... 1- قوله تعالى : وإذا السماء انفطرت} ؛ أي : إذا انشقت السماء ، كما قال تعالى:{إذا السماء انشقت} [الانشقاق : 1] ، وغيرها .
... 2- قوله تعالى : {وإذا الكواكب انتثرت} ؛ أي وإذا كواكب السماء ، وهي نجومها، تساقطت وتفرقت(1) .
... 3- قوله تعالى : {وإذا البحار فجرت} ؛ أي : وإذا هذه البحار العظيمة قد فتح بعضها على بعض فصارت بحراً واحداً ممتلئا(2)
__________
(1) ... جاء فعل "انفطرت" و "انتثرت" ماضيان مبنيان للفاعل ، والحدث في المستقبل ، للدلالة على تحقق الوقوع ، كما جاءا على صيغة المطاوعة ؛ أي : فطرته فانفطر ، ونثرته فانتثر ، وفيه دلالة على إيجاد هذا الحدث فيهما ومطاوعتهما وإجابتهما لهذا المطلوب منهما ، فكأنه بقوة صيغة المفعول ؛ أي : الذي فعل به بغير أردته فاستجاب لذلك ، والله أعلم .
(2) ... فسر السلف لتفجير بهذا المذكور ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وقتادة من طريق سعيد ، والحسن من طريق معمر ، والكلبي من طريق معمر .
... والتفجير : فتح بعضها على بعض ، وزاد الحسن في تفسيره : "فذهب ماؤها" ، وهي تحتمل أنه ذهب من مكانه إلى غيره ، وهذا واضح ، ويحتمل أنه أراد ذهب الماء بالكلية ، وهذا المعنى لا تعطيه اللفظة من مدلولها ، ولو كان مراده هذا فإنه يمكن أن يقبل على باب التوسع في التفسير ؛ لأن هذه الحالة التي ذكرها ستصير للبحار ، على ما مر في تفسير التسجير ، فيقبل هنا من باب التجوز، وتفسير الكلبي بأنها "ملئت" تفسير باللازم ؛ أي : من لازم فتح بعضها على بعض أن تمتلئ . والله أعلم .
... ومما ينبغي الإشارة إليه هنا : أن الكلبي هنا يفسر وليس راوياً ، فلا يقال : لا يقبل تفسيره، لأنه كذاب ، وفعليك أن تفرق بين رأيه إذ هو محتمل مقبول من التفسير ، وبين روايته التي فيها التضعيف وعدم القبول .(1/255)
.
... 4- قوله تعالى : {وإذا القبور بعثرت} ؛ أي : وإذا القبور التي دفن بها الموتى أثيرت وقلبت، فجعل أعلاها أسفلها ، فخرج ما بها(1) .
... 5- قوله تعالى : {علمت نفس ما قدمت وأخرت} ؛ أي : علمت كل نفس الذي عملته من أعمال الخير والشر ، والذي لم تعلمه منهما(2)
__________
(1) ... قال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : بحثت .
... وقد ذكر بعض المفسرين المتأخرين أن هذه اللفظة يجوز أن تكون من باب النحت ؛ أي : أن أصلها من كلمتين ، فنحت منهما هذه اللفظة ، كالبسملة المنحوتة من "بسم الله" ، وقالوا أصلها من : بعث وأثار ، وقال آخرون أصلها ك بعث ، وضمت إليها الراء (انظر : التحرير والتنوير) ، وهذه الأقوال لا داعي لها ما دام للفظة معنى معروف في لغة العرب ، وليس لها مستند لغوي سوى التخمين والاشتباه . ... ... ... ... ... ... ... ... ... =
(2) ... يلاحظ أن الفعلين : "فجرت" و "بعثرت" جاءا ماضيين كسابقيهما ، غير أنهما اختلف عنهما بمجيئهما على صيغة المفعول اهتماماً بالحدث ذاته دون فاعله ، والله أعلم .
( ) ... هذا جواب إلا في الآيات الأربع السابقة ، والقول في هذا الجواب كالقول في قوله تعالى : {علمت نفس ما احضرت } في سورة التكوير .
... وقد اتفق السلف في تفسير المقدم والمؤخر على أنه العمل ، واختلفت عباراتهم فيه على أقوال :
... الأول : علمت ما قدمت من عمل صالح ، وما أخرت من سنة يعمل بها بعد موتها ، وهو قول محمد بن كعب القرظي .
... الثاني : ما قدمت من الفرائض ، وما أخرت من الفرائض فضيعتها ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وعكرمة من طريق سعيد بن مسروق ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وابن زيد .
... الثالث : ما قدمت من خير أو شر ، وما أخرت من خير أو شر ، وهو قول إبراهيم التيمي من طريق العوام .
... ورجح الطبري القول الأول ، فقال : "وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه ؛ لأن كل ما عمل العبد من خير أو شر ، فهو مما قدمه ، وأن ما ضيع من حق الله عليه وفرط فيه فلم يعمله ، فهو ما قد قدم من شر ، وليس ذلك مما أخر من العمل : لأن العمل هو ما عمله ، فأما ما لم يعمله ، فإنما هو سيئة قدمها، فلذلك قلنا : ما أخر هو ما سنه من سنة حسنة وسيئة مما إذا عمل به العامل ، كان له مثل أجر العامل بها أو وزره" .
... ولو حُمل المعنى على العموم ، لكان وجهاً أوفق ، ويكون المؤخر بمعنى المتروك مما لم يعمل به ، وتكون السنة التي يعمل بها بعده داخلة فيما قدم ، وهذا يعني أن هذه التفاسير السلفية أمثلة العمل مقدم وآخر مؤخر ، وأعمها قول إبراهيم التيمي ، وليس بين هذا الأقوال على هذا السبيل تعارض، بل هي راجعة إلى معنى واحد وهو العموم ، والله أعلم .(1/256)
.
... 6- قوله تعالى : {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } ؛ أي : يا أيها الإنسان الكافر(1)، أي شيء سول لك وجعلك تخالف أمر ربك الذي أوجدك وربك بنعمه ، ولم يعاجلك بعقوبته بكرمه ؟ ، سول لك جهلك ، أو شيطانك(2) ؟!
... 7- قوله تعالى : {الذي خلقك فسواك فعدلك} ؛ أي : ربك الكريم : الذي أوجدك من العدم ، فجعل خلقك سوياً قويماً لا خلل فيه ، وجعله متناسباً في الخلق يدان ورجلان وعينان .. إلخ ، وكل في مكانه المناسب له .
... 8- قوله تعالى : {في أي صورة ما شاء ركبك} ؛ أي : جمع خلقك في شكل خاص بك، مائل في الشبه إلى أم أو أب و عم أو خال أو عيرهم(3) .
... 9- قوله تعالى : {كلا بل تكذبون بادين} هذا خطاب للكفار ، والمعنى : ليس الأمر كما تظنون يا من اغتررتم بجهلكم فكفرتم بربكم ، ولكن أنتم تكذبون بيوم الجزاء والحساب، ولا تصدقون به ، فتعملون له(4) .
__________
(1) ... لفظ الإنسان في القرآن المكي يطلق على الكافر في الغلاب ، والخطاب في مثل هذا يشمل من اتصف به من المسلمين قياساً ، وإن كان أصل نزوله في الكافر ، والله أعلم .
(2) ... ورد عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس والربيع بن خثيم : غره جهله (تفسير ابن كثير) ، وعن قتادة: شيء ما غر ابن آدم : هذا العدو المسلط .
(3) ... هذا قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقد جعله عكرمة من طريق أبي رجاء ، وأبو صالح من طريق إسماعيل على معنى آخر ، وهو : إن شاء في صورة كلب ، وإن شاء في صورة حمار ، وكأنه على قولهم بيان للطف الله بالعبد أن خلقه مستقيماً معتدلاً متناسب الأعضاء ، وأبعده عن هذه الصور التي هو قادر على أن يخلقه مثلها .
(4) ... في مجيء الفعل "تكذبون" مضارعاً ، إشعار بتجدد تكذيبهم وتكرر وقوعه منهم .(1/257)
... 10- قوله تعالى : {وإن عليكم لحافظين} ؛ أي : وإن عيكم حفظه من الملائكة يرقبون أعمالكم ويسجلونها عليكم(1) .
... 11- 12- قوله تعالى : {كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون} ؛ أي : هؤلاء الحفظة من الملائكة شرفاء أمناء يحفظون بالتدوين والكتابة أعمالكم كلها التي يسر الله لهم أن يطلعوا عليها، فلا يزيدون فيها ، ولا ينقصون .
... 13- قوله تعالى : {إن الإبرار لفي نعيم } ؛ أي : إن الذين اتصفوا بكثرة الطاعات يحيط بهم التنعم الدائم الذي لا يزول ، وهو نعيم الجنة .
... 14- قوله تعالى : {وإن الفجار لفي جحيم} ؛ أي : وإن الذين شقوا ستر الدين بالكفر، وفجروا في أعمالهم ، وكفروا بالبعث ، يحيط بهم عذاب النار ، ويخلدون فيها بسبب كفرهم .
... 15- قوله تعالى : {يصلونها يوم الدين} ؛ أي : يدخلونها فتحرقهم بحرها وتشويهم في ذلك اليوم العظيم : يوم الجزاء والحساب .
... 16- قوله تعالى {وما هم عنها بغائبين} ؛ أي : هم خالدون فيها أبد الآباد(2) ؛ كما قال تعالى : {وما هم بخرجين من النار} [البقرة : 167] .
__________
(1) ... أكدت هذه الجملة بثلاث مؤكدات : إن ، واللام ، والجملة الاسمية . وقد الجار والمجرور "عليكم" الذي يعود إليهم – للاهتمام به ؛ لأنهم الذين من أجلهم سبق الكلام . وفي حرف "على" ما يفيد التسلط والمراقبة من الحفظة .
(2) ... جاءت الجملة الاسمية منفية للدلالة على ثبوت هذا النفي واستمراره ؛ أي : هم لا يغيبون أبداً عن النار، بل يلازمونها ملازمة دائمة . والباء في "بغائبين" فيها تأكيد لهذا النفي ، وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمصير الذي يصيرون إليه ، وهو النار .(1/258)
... 17-18- قوله تعالى : {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} ؛ أي : أي شيء تعلم عن يوم الجزاء والحساب ، ذلك اليوم العظيم(1) ؟ ، وكرر الاستفهام لتهويل أمر هذا اليوم وتعظيمه(2) .
... 19- قوله تعالى : {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله} . هذا بيان لذلك اليوم ؛ أي : ذلك اليوم هو يوم لا يستطيع أن ينفع أحد من البشر غيره ، فبطل كل ملك وأمر، وصار الأمر والإذن كله لله وحده(3) ، كما قال تعالى : {لمن الملك اليوم لله الواحد القاهر}(4) [غافر : 16] .
سورة المطففين
آياتها : 39
سورة المطففين
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... روى على بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : يوم الدين من أسماء يوم القيامة ، عظمة الله وحذره عباده .
(2) ... روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، قال : "قوله : {وما أدراك ما يوم الدين} تعظيماً ليوم القيامة، يوم تدان فيه الناس بعمالهم" .
(3) ... روى معمر عن قتادة ، قال : ليس ثم أحد يومئذ يقضي شيئاً ، ولا يصنع شيئاً ، إلا رب العالمين" . وعن سعيد بن أبي عروبة عنه ، قال : "والأمر – والله – اليوم لله ، ولكن يومئذ لا ينازعه أحدا" .
(4) ... هذه الآية من التفسيرات القرآنية الصريحة التي وقعت جواباً لسؤال سابق لها . وهذا النوع من تفسير القرآن بالقرآن حجة بلا إشكال ، والله أعلم .(1/259)
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين * كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه آياتنا قال أسطير الأولين * كلا بل ران على قبولهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون * كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوهم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختمه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون * إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون .
سورة المطففين
... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله : {ويل للمطففين} ، فحسنوا كيلهم .
... 1- قوله تعالى : {ويل للمطففين} : يتوعد الله سبحانه بالهلال والخسارة ، الذين يبخسون حق الناس بأخذ القليل منه : إما بنقص كيل الناس ووزنهم وإما بزيادتهم كيل أنفسهم ووزنه على حساب الناس .(1/260)
... 2-3- قوله تعالى : {الذين إذا اكتلوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} : هذا بيان للتطفيف الذي يكون من هؤلاء المطففين ، وذلك أنهم إذا أخذوا كيلهم أو وزنهم من الناس أخذوه تاما غير ناقص ، وذا أعطوا الناس كيلهم أو وزنهم نقصوا منه الشيء القليل ، ظلماً منهم ولؤماً(1) .
... 4-5- قوله تعالى : {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم} ؛ أي : ألا يقع في حس هؤلاء المطففين أنهم سيبعثون يوم القيامة الذي عظم بما يقع فيه من الأهوال ، ويحاسبون على تطفيفهم ؟
__________
(1) ... في الآية قول آخر ذكره الطبري عن عيسى بن عمر النخوي ، وهو أن تكون "هم" من قوله : كالوهم ووزنوهم من ضمير الكائلين والوازنين ، لا من ضمير الناس المكيل لهم ، ويكون الوقف صالحاً على "كالو" و "زنوا" ، ويكون المعنى : "إذا كالوا للناس هم يخسرون" قال الطبري : ".. ومن وجه الكلام إلى هذا المعنى ، جعل الوقف على "هم" ، وجعل "هم" في موضع نصب .
... وكان عيسى بن عمر – فيما ذكر عنه – يجعلهما حرفين ، ويقف على "كالوا" ، وعلى "زنوا" ، ثم يبتدئ : "هم يخسرون" . فمن وجه الكلام إلى هذا المعنى ، جعل "هم" في موضع رفع، وجعل "كالوا" و "وزنوا" مكتفيين بأنفسهما .
... والصواب في ذلك عندي ، الوقف على "هم" ؛ لأن "كالوا" و "وزنوا" لو كان مكتفين ، وكانت "هم" كلاماً مستأنفاً ، كانت كتابة "كالوا" و "وزنوا" بألف فاصلة بينها وبين "هم" مع كل واحد منهما ، وإذا كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك ، إذا لم يكن متصلاً به شيء من كنيات المفعول، فكتابتهم ذلك في هذا الموضع بغير ألف أوضح الدليل على أن قوله : "هم" إنما هو أسماء المفعول بهم، فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا وبينا" .
... وهذا الترجيح من الطبري اعتمد فيه رسم المصحف ، وهو أحد المرجحات في الاختلاف ، والله أعلم.(1/261)
... 6- قوله تعالى : {يوم يقوم الناس لرب العالمين} : هذا بيان لليوم العظيم ، وهو يوم قيام الناس أمام ربهم للحساب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : يوم يقوم الناس لرب العالمين، "حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنية" .
... 7-9- قوله تعالى : {كلا إن كتب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم} : رد على المطفيين بأن الأمر ليس كما يعتقدون من عدم البعث ، ثم أخبر عن كتاب الذين فجروا في أعمالهم أنه في سفال وخسار في الأرض السفلى(1)
__________
(1) ... أصل مادة سجين من "سجن" ، وهي تدل على التضييق والحبس ، ومنها السجن ، وقد اختلفت عبارة السلف في "سجين" على أقوال :
الأرض السابعة السفلى ، وورد ذلك عن : عبد الله بن عمرو من طريق قتادة بلاغاً ، وابن عباس من طريق الوفي ، ومغيث بن سمي من طريق مجاهد ، وقتادة من طريق معمر وأبي هلال ، ومجاهد من طريق ابن نجيح ، والضحاك من طريق عبيد ، وحكاه ابن زيد ، وبه أجاب كعب الأحبار عن سؤال ابن عباس له .
حد إبليس ، ورد ذلك عن : سعيد بن جبير ، وقد ورد عن مغيث بن سمي وكعب الأحبار أ، حد إبليس في الأرض السفلى .
صخرة في الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. ويشهد لكون سجين الأرض السفلى ما ورد في بعض طرق حديث البراء بن عازب في صعود روح الكافر إلى السماء ، ثم أمر الله بأن لا تدخل السماء ، قال صلى الله عليه وسلم فيقول الله: اكتبوا في أسفل الأرض في سجين في الأرض السفلى .
وقد ورد في تفسير سجين حديث ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يصح عنه : "الفلق جب في جهنم مغطي ، وأما سجين فمفتوح" ، قال عنه ابن كثير أنه حديث غريب منكر لا يصح .(1/262)
، ولتهويل أمر هذا الكتاب استفهم على طريقة القرآن في الاستفهام عن سجين ، وبين أن كتابهم قد فرغ منه ، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه(1) ، ولا يزول رقمه كما لا يزال الخيط الذي على الثوب ، والله أعلم .
... 10-11- قوله تعالى : {ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين} ؛ أي : يوم يقوم الناس لرب العالمين فالهلاك والثبور لمن كذب بيوم الجزاء والحساب .
... 12- قوله تعالى : {وما يكذب به إلا كل معتد أثيم} ؛ أي : ما يقع التكذيب بيوم الدين إلا من كل من هو متجاوز لما أحل الله ، مرتكب لما حرم الله .
... 13- قوله تعالى : {إذا تتلى عليه آياتنا قال أسطير الأولين} ؛ أي : من صفة هذا المعتدي الأثيم أنه إذا قرأت عليه آيات القرآن قال عنها : إنها شبه الأقاصيص المكذوبة والمخترعة على السابقين من الأمم .
__________
(1) ... قال ابن كثير : وقوله : {كتاب مرقوم} : ليس تفسيراً لقوله : {وما أدراك ما سجين} ، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين ؛ أي : مرقوم : مكتوب مفروغ منه لا يزداد فيه أحد ولا ينقص منه أحد ، قاله محمد بن كعب القرظي .(1/263)
... 14- قوله تعالى : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ؛ أي : ليس الأمر كما يقول هذا المكذب في القرآن ، ويعتقد في ابعث ، ولكن غلب على قلبه وغطاه ما كسبه من الذنوب ، فجعلته لا يبصر الحق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ، صقل منها ، فإن عاد ، عادات ، حتى تعظم في قلبه ، فذلك الران الذي يقول الله : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}(1) ".
__________
(1) ... هكذا ورد تفسير السلف لهذه الآية، وقد ذكر عن مجاهد صفة غشيان الرين ، قال الأعمش : "وأنا مجاهد بيده ، قال : كانوا يرون القلب في مثل هذا ؛ يعني : الكف ، فإذا أذنب العبد ذنباًَ ضم منه ، وقال بإصبعه الخنصر هكذا ، فإذا أذنب ، ضم إصبعاً أخرى ، حتى ضم أصابعه كلها، ثم يطبع عليه بطابع ، قال مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك الرين " .
... وقد ورد التفسير عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، والحسن من طريق خليد وأبي رجاء وسفيان الثوري ، ومجاهد من طريق منصور والأعمش وابن أبي نجيح ، وعطاء من طريق طلحة، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد . وقد وردت عنهم في تفسير الرين ألفاظ متقاربة، وهي: تغشى القلب ، غمرته خطاياه ، يُطبع على قلبه ، غلب على قلوبهم .(1/264)
15-17- قوله تعالى {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} : هذا تكرار للرد على أولئك المكذبين ، وبيان أنهم ممنوعون من رؤية الله سبحانه(1) ، ثم إنهم سيدخلون النار التي تشويهم بحرها ، ثم تقول لهم ملائكة العذاب: هذا العذاب الذي كنتم لا تصدقون به .
18-20- قوله تعالى :{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم} ؛ أي : ليس الأمر كما تقولون من تكذيبكم بالجزاء والعذاب ، ثم أخبر عن كتاب الذين أطاعوا ربهم فأكثروا ، وعبدوه فأحسنوا ، أخبر أن كتابهم عال قدرة في السماء السابعة(2)
__________
(1) ... استدل علماء السلف بهذه الآية على وقوع روية ا لمؤمنين ربهم يوم القيامة ، فقالوا : لما حجب هؤلاء في حال السخط ، دل على أن قوماً يرونه في حال الرضا ، ويشهد لهذا أن الله أثبت للأبرار الذين هم مقابل هؤلاء القوم ، أثبت لهم الرؤية بقوله : {على الإراءك ينظرون} ، كما سيأتي ، فكون هذه الآية نظيراً لتلك أولى ، والله أعلم . ... ... ... ... ... ... ... =
(2) ... وقد أورد ابن جرير عن الحسن البصري في تفسير هذه الآية قوله : يكشف الحجاب ، فينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ، وهذه الرواية من طريق عمرو بن عبيد المعتزلي ، وكأن الإمام يرمي إلى مخالفة المعتزلة لما رواه عمرو بن عبيد أحمد شيوخهم في إثبات الرؤية عن الحسن الذي يدعون –زوراً- أنه من المعتزلة ، والله أعلم .
... وقد أورد الطبري قولاً آخر وترجم له بقوله : "فقال بعضهم : معنى ذلك : إنهم محجوبون عن كرامته" ، وأورد تحت هذه الترجمة قول قتادة من طريق خليد ، قال : "هو لا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" . وقول ابن أبي مليكة : "المنان ، والمختال ، والذي يقتطع أموال الناس بيمينه بالباطل" .
... وهذا القول أعم من نفي رؤيتهم لربهم ، والرؤية أعلى كرمات الرب لعباده ، وعلى هذا فإنه لا تنافي بين القولين من هذا الوجه ، ولذا قال ابن جرير الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون ، ويُحتمل أن يكون المراد به الحجاب عن كرامته ، وأن يكون المراد به الحجاب عن ذلك كله ، ولا دلالة في الآية تدل على أنه مراد بذلك الحجاب معنى دون معنى ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حجته . فالصواب أن يقال : هم محجوبون عن رؤيته ، وعن كرامته ، إذ كان الخبر عاماً ، ولا دلالة على خصوصه" .
... وما ذكرته سابقاً يرجح المعنى الأول على الثاني ، والله أعلم .
... وهذا الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع ؛ لصحة القولين ، واحتمال الآية لهما معاً ، وسبب الخلاف: أن في الآية حذفاً ، وقد اختلفوا في تقديره ، فقدره بعضهم : محجوبون عن كرامته ، وقدره آخرون : محجوبون عن رؤيته . والله أعلم .
( ) ... اختلف السلف في المراد بعليين ، على أقوال :
... الأول : السماء السابعة ، وهو قول كعب الأحبار ، وقتادة من طريق عبيد الله العتكي ، وزيد بن أسلم من طريق ابنه أسامة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
... الثاني : قائمة العرش اليمنى ، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعد .
... الثالث : الجنة ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة .
... الرابع : عند سدرة المنتهى ، وهو قول الضحاك من طريق الاجلح .
... الخامس : في السماء عند الله ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، والضحاك من طريق عبيد. =(1/265)
، ولتعظيم أمر هذا الكتاب استفهم عن موضع كتابهم على طريق القرآن في الاستفهام ، فقال : وما أعلمك ما عليون ؟ ، ثم بين أن كتابهم قد فرغ منه ، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ، ولا يزول رقمه كما لا يزول الخيط الذي على الثوب ، والله أعلم .
21- قوله تعالى : {يشهده المقربون} ؛ أي : يحضر كتاب هؤلاء الأبرار مقربو كل سماء(1).
__________
(1) ... ويجمع هذه الأقوال أن هذا الكتاب في السماء السابعة ، لأن المذكورات المحددة 0سدرة المنتهى وغيرها- في السماء السابعة ، وليس هناك خبر قاطع بهذه التحديدات .
... قال الطبري : "... فبين أن قوله : {لفي عليين} معناه : في علو وارتفاع ، في سماء فوق سماء ، وعلو فوق علو . وجائز أن يكون ذلك إلى السماء السابعة ، وإلى سدرة المنتهى ، وإلى قائمة العرش اليمنى، ولا خبر يقطع العذر بأنه معني به بعض دون بعض .
... والصواب أن يقال في ذلك كما قال الله جل ثناؤه : إن كتاب أعمال الأبرار لفي ارتفاع إلى حد قدم علم الله جل وعز منتهاه ، ولا علم عندنا بغايته ، غير أن ذلك لا يقصر عن السماء السابعة ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك " .
... ويشهد لذا أنه قد ورد في بعض طرق حديث البراء بن عازب : "اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة" ، والله أعلم .
( ) ... يمكن أن يكون تفسير هذا ما ورد في حديث البراء بن غارب في صعود روح العبد المؤمن ، قال : "ثم يشيعه مقربو كل سماء" ، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، والله أعلم .(1/266)
22- 24- قوله تعالى : {إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوهم نضرة النعيم} ؛ إن الذين بروا باتقاء الله وأداء فراضه لفي تنعم دائم لا يزول ، وذلك في الجنة ، التي يجلسون على سررها المزينة في الغرف(1) ، ينظرون – وهم عليها – إلى ما آتاهم الله من النعيم ، وأعلى هذا النعيم رؤية الباري جل وعز(2) . وإذا رأيتهم ، فإنك ترى أثر التنعم على وجوههم بما يظهر عليها من الحسن والبهاء .
25- 26- قوله تعالى : {يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} ؛ أي : يسقيهم خدمهم من خمر الجنة(3) الذي قد خلط بالمسك ، وجعل في نهايته(4)
__________
(1) ... الأرائك هي السرر في الحجال ، والحجلة : المكان المزين والمهيأ .
(2) ... يلاحظ أن مفعول ينظرون محذوف ، والتقدير العام أنهم ينظرون إلى ما نعم الله عليهم من نعيم الجنة، وأعلى هذا النعيم رؤية الله سبحانه ، ويكون في هذا مقابلة لعذاب الكفار بحجبهم عن رؤية الرب الوارد في قوله تعالى : {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} ، والله أعلم .
(3) ... فسر السلف الرحيق بخمر الجنة، ورد ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق مسروق ، وبن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والحسن من طريق أبي رجاء ، وابن زيد ، وذكر له شاهداً من شعر حسان .
(4) ... اختلف عبارة السلف في تفسير " مختوم وختامه" على ثلاثة أقوال :
... الأول : ممزوج مخلوط ، ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق علقمة ومسروق ، وعلقمة من طريق يزيد بن معاوية .
... الثاني : أن آخر شرابهم من الخمر يجعل فيه مسك ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والضحاك من طريق عبيد ، وإبراهيم النخعي والحسن من طريق أبي حمزة .
... الثالث : مطين بمسك ؛ أي : غطاؤه من مسك ، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وابن زيد .
... وقد رجح ابن جرر أن المعنى : عاقبته ونهايته مسك ، فقال : "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال : معنى ذلك آخره وعاقبته مسك ؛ أي : هي طيبة الريح ، إن ريحها في آخر شربهم يختم لها بريح المسك .
... وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة ؛ لأنه لا وجه للختم في كلام العرب إلا الطبع والفراغ ؛ كقولهم : ختم فلان القرآن : إذا أتى على آخره ، فإذا كان لا وجه للطبع على شراب أهل الجنة يفهم إذا كان شرابهم جارياً الماء في الأنهار ، ولم يكن معتقاً في الدنان ، فيطين عليها وتختم، تعين أن الصحيح من ذلك الوجه الآخر ، وهو العاقبة والمشروب آخراً ، وهو الذي يختم به الشراب.
... وأما الختم بمعنى : المزج ، فلا نعلمه مسموعاً من كلام العرب " .
... وهذا الترجيح مبني على أمرين :
... الأول : أن خمر الجنة نهر كنهر الماء فلا يتصور فيه أن يكون له غطاء من المسك ، وهذا صحيح، إلا إن ورد في الأحاديث ما يدل على وجود خمر في الدنان . وبهذا التعليل رد قول مجاهد وابن زيد .
... الثاني : أنه لم يعلم من كلام العرب : ختامه : خلطه ومزجه ، ورد بهذا على القول الذي رواه عن ابن مسعود وعلقمة ، وهذا فيه نظر ؛ لأن هؤلاء الذين فسروا من العرب ، وكلامهم في اللغة حجة، فلم لم يقبل تفسيرهم ؟! ولو وازنت هذا الموضع بما ورد عنه في تفسيره للفظ الدلوك في قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء : 78] ، لتبين لكأنه قد خالف ما قعده هناك حيث جعل كلام ابن مسعود حجة في اللغة ، ولم يبين هنا سبباً في رده هذا القول غير ما قاله ، وهو غير صحيح ، إذ عدم=(1/267)
، فهم يشمونه من أول شربهم إلى آخره وفي طلب هذا التنعم يجب أن يتبارى ويتسابق في الحصول عليه الذين يريدون النعيم الأبدي(1) .
27-28- قوله تعالى : {ومزاجه من تنسيم * عينا يشرب بها المقربون} ؛ أي : وهذا الرحيق المختوم بالمسك يخلط به ماء من عين تسنيم ، التي نزل عليها ماؤها من أعلى الجنة ، فيشربه(2) المقربون صرفاً غير مخلوط ، ويشربه سائر المؤمنين مخلوطاً بغيره(3)
__________
(1) ... علمه بهذا لا يعني عدم وجوده ، مع أنه رواه عمن ذكر ، والله أعلم . وهذا الاختلاف كما رأت سببه الاشتراك اللغوي في لفظ الختم ، وهو من قبل اختلاف التنوع ، ولو قيل في الترجيح : إن القول بأنه عاقبته ونهايته مسك ؛ لأن هذا المعنى هو الأشهر في إطلاق اللفظة ، لكان وجهاً في الترجيح ، والله أعلم .
( ) ... يظهر – والله أعلم – أن جملة : {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} معترضة بين قوله : {ختامه مسك}، وقوله : {ومزاجه من تنسيم} . وفي إيثار مادة التنافس ما يشعر بنفاسة هذا الشيء الذيجعل المتسابقن إليه (انظر : التحرير والتنوير)
(2) ... عدي الفعل "يشرب" بالباء ، وهو يتعدى بدونها ، وإنما ذكرت الباء ، إشارة لتضمين فعل آخر، ويمكن تقديره بـ"يروى" أو "يتلذذ" بها المقربون ، وهذا مذهب أهل البصرة من النحويين . والكوفيون يرون ا، الباء بمعنى "من" في مثل هذا الموضع على التعاقب بين حروف الجر ، والأول أمتن في اللغة ، وأعمق في البلاغة ، والله أعلم .
(3) ... ورد ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق مسروق ، ومسروق من طريق مالك بن الحارث وعبد الله بن مرة ، ومالك بن الحارث من طريق منصور ، وابن عباس من طريق سعيد بن جبير ، وأبي صالح من طريق إسماعيل ، وقتادة من طريق سعد .
... وورد عن ابن عباس من طريق العوفي : عيناً من ماء الجنة تمزج به الخمر . وعن الحسن من طريق أبي رجاء : خفايا أخفاها الله لأهل الجنة . وعن ابن زيد : بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش ، وهي مزاج هذا الخمر ؟ وعن الضحاك من طريق عبيد : شراب اسمه تسنيم ، وهو من أشرف الشراب. وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : يعلو شراب أهلا لجنة (تفسير مجاهد وعبارته أوضح مما في الطبري) . وعن الكلبي من طريق معمر : تسنيم : ينصب عليهم من فوقهم ، وهو شراب المقربين.
... ويتلخص من ذلك أن تسنيم : عين ، وماؤها يأتيهم من علو ، وهو أعلى شراب أهل الجنة ، وأنه يشربه المقربون صرفاً ، ويخلط لغيرهم من أهل الجنة ، والله أعلم .
... أما تحديد أنه من تحت العرش فهو قول من تابع التابعي ، ويتوقف في قبول خبرة هذا : لأنه أمر غيبي.
... أما الأوصاف الأخرى فقد وردت عن صحابيين وجمع من التابعين ، وكونه أعلى الجنة مأخوذ من مدلول لفظ تسنيم ؛ لأن مادة "سنم" تدل على الارتفاع ، والله أعلم .
... فائدة : الأصل أن يحمل الإعراب على الوارد عن السلف في التفسير ، وقد كان هذا منهج الإمام =(1/268)
.
29- قوله تعالى : {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} ؛ أي : إن الكفار الذين اكتسبوا المآثم ، كانوا في الدنيا يهزأون بالمؤمنين ويضحكون منهم(1) .
30- قوله تعالى :{وإذا مروا بهم يتغامزون} ؛ أي : وإذا مر الكفار بالمؤمنين، أشاروا إليهم : إما باليد ، وإما بالعين ، سخرية واستهزاء(2) .
31- قوله تعالى : {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين}؛ أي : وإذا عاد هؤلاء الكفار إلى بيوتهم بعد أعمالهم هذه التي عملوها للمؤمنين ، عادوا وهم متلذذون بما فعلوا .
34- قوله تعالى : {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يحضكون} ؛ أي : فاليوم الذي هو يوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار لما يرونهم فيه من الخزي ، وهذا مقابل ضحك الكفار عليهم في الدنيا .
__________
(1) ... الطبري ، ومن ذلك هذا الموضع ، فبعد أن ذكر أقوال المعربين من نحويي البصرة والكوفة للفظ "عيناً"، قال : "والصواب من القول في ذلك عندنا : أن التسنيم اسم معرفة ، والعين نكرة ، فنصب لذلك إذا كانت صفة له .
... وإنما قلنا : ذلك هو الصواب ، لما قد قدمنا من الرواية عن أهل التأويل : أن التنسيم هو العين ، فكان معلوماً بذلك أن العين إذا كانت منصوبة ، وهي نظرة ، أن التسنيم معرفة" .
( ) ... جاء فعل الضحك مضارعاً ، للدلالة على تكرر هذا الحدث منهم ، وهذا الفعل حكاية عنهم في الدنيا بدلالة قوله : "كانوا" التي تدل على الماضي ، ودلالة قوله : "فاليوم الذين آمنوا ..." .
(2) ... جاء الفعل "يتغامزون" مضارعاً ، للدلالة على تكرر الحدث أو لاستحضاره في ذهن السامع .(1/269)
35- قوله تعالى : {على الأرائك ينظرون} ؛ أي : هؤلاء المؤمنون جالسون على سرر في مكان مزين لهم ينظرون إلى الكفار وهم يعذبون ، فيسرون بذلك ، ويضحكون من أعداء الله الذي كانوا يضحكون منهم في الدنيا(1) .
36- قوله تعالى :{هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} ؛ أي : هل جوزي الكفار بهذا العذاب الذي رآه المؤمنون بما فعلوا ؟ ولا شك أنهم قد جوزوا بسوء عملهم ، والله أعلم .
سورة الإنشقاق
آياتها : 25
سورة الانشقاق
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت* وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت * يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه * فأما من أوتى كتابه بيمنه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً * وينقل إلى أهله مسروراً * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعوا ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا * فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر ذا اتسق * لتركبن يسجدون * بل الذين كفروا يكذبون * والله أعلم بما يوعون * فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير منون .
سورة الانشقاق
__________
(1) ... ورد التفسير بذلك عن ابن عباس من طريق العوفي والضحاك ، وكعب الأحبار من طريق قتداة ، وسفيان الثوري من طريق مهران ، وفي رواياتهم تفاصيل عن كيفية نظر المؤمنين لعذاب الكفار .(1/270)
... 1-2- قوله تعالى : {إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت} ؛ أي : إذا السماء تصدعت وتقطعت ، وسمعت وأطاعت أمر بها في تصدعها(1) ، وحق لها أن تطيع ، فهي أهل لهذه الطاعة(2) .
__________
(1) ... كذا ورد التفسير عن السلف : ابن عباس من طريق العوفي ، وسعيد بن جبير من طريق جعفر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والضحاك من طريق عبيد .
(2) ... ورد عن ابن عباس من طريق العوفي : حُقت لطاعة ربها ، وعن سعيد بن جبير من طريق جعفر : وحق لها .(1/271)
... 3-5- قوله تعالى : {وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت} ؛ أي : وإذا الأرض بسطت يوم القيامة(1) ، فزيد في سعتها(2) ، وأخرجت ما في بطنها من الموتى وغيرهم(3) ، وسمعت وأطاعت أمر ربها في مدها وإخراج ما في بطنها ، وحق لها أن تطيع، فهي لا تعصي أمره(4) .
__________
(1) ... بين مجاهد في تفسيره من طريق ابن أبي نجيح أن هذا كائن يوم القيامة .
(2) ... أورد الطبري عن علي بن الحسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض ، حتى لا يكون لبشر إلا موضع قدميه ، فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها ، فأقول : يا رب ، إن هذا أخبرن أنك أرسلته إلي ، فيقول : صدق ، ثم أشفع فأقول : يا رب ، عبدك عبدوك في أطراف الأرض ، قال : وهو المقام المحمود" . وهذا حديث مرسل، وقد ورد في بعض طرقه : حدثني بعض أهل العلم ، فإن كن هذا المحدث صحابياً ، فالحديث صحيح، ورجاله ثقات ، والله أعلم .
(3) ... قال قتادة من طريق سعيد : ألفت أثقالها وما فيها ، وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : أخرجت ما فيها من الموتى . ويظهر أن هذا مثال لما تخرجه من بطنها ، ولذا ورد عن ابن عباس : ألقت سواري الذهب . (الدر المنثور ، عن ابن المنذر) ، والنص عام ، وليس ما يدل على التخصيص ، ولذا يحمل ما ورد عنهم أنه تفسير بالمثال ، وتفسير قتادة على العموم ، والله أعلم .
(4) ... جواب قوله تعالى : {إذا السماء انشقت} محذوف ، ترك استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه ، وتقديره: رأى الإنسان ما قدم من خير أو شر ، وقد بين ذلك قوله تعالى : {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فلاقيه} . (انظر تفسير الطبري) .(1/272)
... 6- قوله تعالى : {يأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} ؛ أي : إنك تعمل عملاً تلقى الله به ، خيراً كان أم شراً(1) .
... 7-9- قوله تعالى : {فأما من أوتى كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً * وينقلب إلى أهله مسروراً} : هذا تفصيل لأهل الكدح ، فمن أعطي صحيفة أعماله بيده اليمنى، فإن الله يعرض عليه ذنوبه ولا يدقق عليه ، فلا يحاسبه بها ، بل يسهل أمره ، ويتجاوز عنه(2) ، ثم ينصرف بعد هذا الحساب اليسير إلى أهله في الجنة(3) ، وهو فرح بما أعطي .
__________
(1) ... أورد بعض المفسرين في الضمير في "فملاقيه" احتمالين في عودة إلى الظاهر قبله ، فقيل : ملاق ربك، وقيل : ملاق عملك ، وهما متلازمان ؛ لأنه سيلاقي ربه بعمله ، كما فسر ابن عباس من طريق العوفي، وهذا من اختلاف التنوع الذي تحتمله الآية ، وهو يرجع أكثر من معنى ، غير أنهما متلازمان، والله أعلم .
(2) ... روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال صلى الله عليه وسلم : "من نوقض الحساب عذب" ، قالت : فقلت : أليس قال الله : {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} ؟ ، قال: "ليس ذاك بالحساب ، ولكن ذلك العرض ، من نوقش الحساب يوم القيامة فقد عذاب" .
... وهذا تفسير نبوي صريح لمعنى هذه الآية .
(3) ... قال قتادة من طريق سعيد : إلى أهل أعدهم الله له في الجنة .(1/273)
... 10-12- قوله تعالى : {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعوا ثبورا * ويصلي سعيراً} : هذا الفريق الثاني من أهل الكدح ، وهم من يُعطي صحيفة أعماله السيئة بيده الشمال من وراء ظهره(1) ، فأولئك ينادون بالهلاك على أنفسهم(2) ، ويدخلون نار جهنم التي أوقدت مرة بعد مرة ، فتشويهم وتحرقهم بحرها(3) .
__________
(1) ... قال الإمام الطبري : "وما من أعطى كتابه منكم أيها الناس يومئذ وراء ظهره ، وذلك بأن جعل يديه اليمنى إلى عنقه ، وجعل الشمال من يديه وراء ظهره ، فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره ، ولذلك وصفهم – جل ثناؤه – أحياناً أنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم ، وأحياناً أنهم يؤتونها من وراء ظهورهم".
(2) ... قال الضحاك من طريق عبيد المكتب : "يدعو بالهلاك" .
(3) ... فيقوله : {يصلى} قراءتان ، الأولى : بتخفيف اللام ، والثانية بتشديدها ، وفائدة التشديد كما قال الطبري : "أن الله يصليهم تصلية بعد تصلية ، وإنضاجة بعد إنضاجة ..." ، وهذا يعني أن صيغة "فعل" تدل على تكرر الحدث وتكثيره . أما قراءة التخفيف ، فتدل على أنهم يدخلونها ويردونها فقط، دون معنى التكرار ، والله أعلم .(1/274)
... 13-15- قوله تعالى : {إنه كان في أهله مسروراً * إنه ظن أن لن يحور بلى إن ربه كان به بصيراً} ؛ أي : إن هذا الذي أوتي كتابه وراء ظهره كان في أهله في الدنيا(1) فرحاً لما هو فيه من المعاصي ، وكان يعتقد أنه لن يرجع إلى الحياة بعد الممات(2) ، ولذا كان يركب المعاصي ولا يبالي ، ولكنه مخطئ في هذا الاعتقاد ، بل سيرجع ويحاسب على أعماله التي كان الله مطلعاً عليها .
... 16-18- قوله تعالى : {فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق} : يقسم الرب سبحانه بحمرة الأفق التي تظهر عند غروب الشمس(3)
__________
(1) ... قال قتادة من طريق سعيد : "أي في الدنيا" .
(2) ... كذا ورد عن السلف : ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : "يبعث" ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح :"ألا يرجع إلينا" ، وقتادة من طريق سعيد : "أن لا معا ولا رجعة" ، ومن طريق معمر : "أن لن ينقلب، يقول : لن يبعث" ، وكذا قال ابن زيد ، وقال سفيان الثوري من طريق مهران : "يرجع". وهذه الأقوال متفقة ، وإنما بينها اختلاف عبارة ، والله أعلم .
(3) ... نسب ابن جرير إلى بعض أهل العراق هذا القول ، ولم يذكرهم ، وقد ورد تفسيره بذلك عن ابن عمر (الدر المنثور) ، ومكحول (تفسير عبد الزراق) ، ونسبه ابن كثير في تفسيره إلى علي وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وشداد بن أوس وابن عمر ومحم بن علي بن الحسين ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وابن أبي ذنب وعبد العزيز بن سلمة بن الماجشون ، ونقل هذا المعنى عن الخليل والجوهري من علماء اللغة .
... ويلاحظ أن هذا اللفظ مما يتعلق به حكم شرعي ، فقد ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" . وهذا القول هو الصواب ، وهو اختيار ابن جرير وابن كثير وغيرهم من المفسرين ، والله أعلم .
... وقد قال مجاهد في تفسير الشفق : "النهار كله" ، ورد ذلك عنه من طريق ابن أبي نجيح ومنصور ، وقال في رواية العوام بن حوشب : "إن الشفق من الشمس" ، ويظهر أنه إنما حمله على هذا، قرنه بقوله تعالى : {والليل وما وسق} (تفسير ابن كثير) ، وقال عنه ابن القيم : "وهذا ضعيف جداً.." . (التبيان في أقسام القرآن : 69 .
... وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه من الأضداد ، فيقال للحمرة : شفق ، وللبياض شفق ، ولم ينسبه إلى أحد ، وقد ورد عن أبي هريرة وعمر بن عبد العزيز تفسير الشفق بالبياض (تفسير عبد الرزاق) ، والله أعلم .(1/275)
، ويقسم بالليل وما جمع فيه
من الخلق وحواهم(1) ، ويقسم بالقمر إذا تمت استدارته ، واجتمع فصار بدراً (2)
__________
(1) ... قال ابن جرير : "والليل وما جمع مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير أو يدب نهاراً .. وينخو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل" . ثم ذكر الرواية عن مفسري السلف : عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ومجاهد وابن أبي مليكة ، والحسن من طريق أبي رجاء ، ومجاهد من طريق ابن باي نجيح ومنصور ،وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وسعيد بن جبير من طريق أبي الهيثم ، وعكرمة من طريق سماك ، وابن زيد .
... والرواية عن مجاهد من طريق منصور ، جاءت مرة : "وما أظلم عليه ، وما دخل فيه " ، ومرة : "وما لف" ، ومرة : "وما لف عليه" ، ومرة : "وما دخل فيه" ، وما أظلم عليه فقد جمعه ، وبهذا لا تكون خارجة عن معنى الجمع ، ولذا لم يجعله ابن جرير قولاً آخر في معنى وسق ، والله أعلم .
... وقد ترجم ابن جرير لقول آخر ، فقال : وقال آخرون : معنى ذلك : "وما ساق ، ثم ذكر الرواية عن ابن عباس من طريق عطية العوفي ، قال : وما ساق الليل من شيء جمعه : النجوم" . قال عطية العوفي : "ويقال : والليل وما جمع" ، وعن عكرمة من طريق حسين ، قال: "وما ساق من ظلمة ، فإذا كان الليل ، ذهب كل شيء إلى مأواه" ، وعن الضحاك من طريق عبيد ، قال : "ما ساق معه من ظلمه إذا أقبل" .
... وإذا تأملت هذه الأقوال ، وجدتها لا تخرج عن معنى الجمع ، ومن ثم فهي لا تخالف القول الأول، بل هي تفاسير على المعنى ، فيها زيادة بسط لأمثلة ما يجمعه الليل ، أو طريقة هذا الجمع ، والله أعلم .
(2) ... كذا ورد عن السلف في تفسير "أتسق" ، ويلاحظ أن مادة "وسق" واحدة ، أما عبارات السلف فهي:
إذا استوى ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة العوفي ، وزاد العوفي لفظة "اجتمع" وعن عكرمة من طريق سماك ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وسعيد بن جبير من طريق أبي الهيثم ، وقتادة من طريق سعيد ، وتفسير الضحاك من طريق عبيد ، مثل تفسير ابن عباس من طريق العوفي ، وابن زيد .
إذا اجتمع وامتلأ ، عن الحسن من طريق حفص .
لثلاث عشرة – أي : صار مستديراً – عن سعيد بن جبير من طريق جعفر بن أبي المغيرة، وماهد من طريق منصور .
إذا استدار ، عن قتادة في طريق معمر .
وهذه الأقوال من قبيل اختلاف التنوع عن المعنى الواحد بعبارات مختلفة ، وذلك لتقريب المعنى إلى ذهن السامع ، ولذا ورد عن الواحد منهم عبارتان في التفسير ، والله أعلم .(1/276)
.
... 19- قوله تعالى : {لتركبن طبقاً عن طبق} : هذا جواب القسم ، والمعنى : إنكم أيها الناس ستمرون بأحوال تركبونها حالاً بعد حال ، من ابتداء أمركم بكونكم نطفاً في الأرحام إلى خروجكم من بطون أمهاتكم ، إلى معاينتكم أحوال الدنيا ونكدها ، إلى وصولكم لأحوال الآخرة وهولها ، حتى يدخل كل فريق منزله : الجنة أو النار(1)
__________
(1) ... ورد في هذه الآية قراءتان متواترتان :
... الأولى : بضم الباء من "تركبن" ، وتأويلها ما سبق ذكره .
... والثانية : بفتح الباء من "تركبن" ، وقد اختلف السلف في المخاطب بهذا الخطاب ، كما اختلفوا في الطبق المركوب على أقوال :
... الأول : لتركبن يا محمد حالاً بعد حال ، وأمراً بد أمر من الشدائد ، من قول العرب : "وقع فلان في بنات طبق" ، إذا وقع في أمر شديد ، وهذا قول ابن عباس من طريق مجاهد ، وقد ذكر ابن جرير تحت هذا القول أقوال بعض السلف ، ولكنهم لم يصرحوا بأن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم عكرمة والحسن ومرة وسعيد بن جبير ، ومجاهد وقتادة والضحاك ؟
... وقد جعل الطبري هذا القول عائداَ إلى معنى ما ذكرته في المتن ، فقال : "فالصواب من التأويل ، قول من قال : لتركبن يا محمد حالاً بعد حال ، وامراً بعد أمر من الشدائد ، والمراد بذلك – وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجهاص – جميع الناس أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً .
... وإنما قلنا : عنى بذلك ما ذكرنا ، أن الكلام قبل قوله :{لتركبن طبقاً عن طبق} جرى بخطاب الجميع، وكذلك بعده ، فكان أشبه أن يكون ذلك نظير ما قبله وما بعده" .
... الثاني : لتركبن يا محمد سماءً بعد سماء ، وهذا قول ابن مسعود من طريق علقمة ، والحسن وأبي العالية من طريق قتادة ، ومسروق من طريق أبي الضحى ، والشعبي من طريق إسماعيل ، وقد ورد وصف السموات بالطبق في قوله تعالى : {سبع سموات طباقا} [الملك : 3، نوح : 15] ، وهذا القول فيه إشارة إلى عروج النبي صلى الله عليه وسلم للسماء .
... الثالث : لتركبن السماء حالاً بعد حال من ضروب التغير التي تلحقها ، من كونها تنشقق ، وتحمر فتكون وردة كالدهان ، وتكون كالمهل ، وغيره . وهذا قول ابن مسعود من طريق مرة الهمذاني وإبراهيم النخعي .
... وعلى هذه القراءة يكون الاختلاف راجعاً إلى أكثر من معنى ، وسبب هذا الاختلاف أنه ذكر في الآية الوصف ، وهو "طبقاً عن طبق" ، وهو محتمل لأكثر من موصوف ، فحمله كل مفسر على ما يصلح له، ولذا ورد عن بعضهم فيه قولان .
... وقد ورد تأويلات أخرى عن السلف ذكرها ابن كثير ، وهي داخلة تحت هذا السبب ، ولا يهولنك هذا الاختلاف ، إذا الأمر فيه سهل ، فلا تستصعبه ، قال الطاهر بن عاشور : "وجملة "لتركبن طبقا عن طبق} نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما ينسج عليه الكلام الذي يرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع ، البديع النسج ، والوافر المعنى، ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها " .(1/277)
.
... 20- قوله تعالى : {فما لهم لا يؤمنون} ؛ أي : لم لا يصدق هؤلاء المشركون بالله، ويقرون بالبعث ، مع ما قد عاينوا من حجج الله بحقيقة توحيده ؟
... 21- قوله تعالى : {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } ؛ أي : ولم إذا تلي عليهم كتاب الله لا يخضعون فيسجدون لله تعالى تعظيماً واحتراماً ؟ .
... 22- قوله تعالى : {بل الذين كفروا يكذبون * والله أعلم بما يوعون} ؛ أي : ولكن الذين كفروا من سجيتهم تكذيب ما جاء عن الله تعالى : الذي هو عالم بما تحويه صدورهم وتخفيه من التكذيب بكتاب الله ورسوله ، وغيره .
... 24-25- قوله تعالى : {بشرهم بعذاب أليم * إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} ؛ أي : فأخبرهم بما سيلقونه بسبب تكذيبهم من العذاب المؤلم ، لكن من تاب منهم فآمن وعمل من الأعمال الصالحات بأداء فرائض الله واجتناب نواهيه ، فإن لهم ثواباً من الله لا ينقص لا يُقطع ، بل هو دائم . والله أعلم .
سورة البروج
آياتها : 22
سورة البروج
بسم الله الرحمن الرحيم
ولسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد * إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير * إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدىء ويعيد . وهو الغور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد * هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الذين كفروا في تكذيب * والله من وراءهم محيط * بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ .
سورة البروج(1/278)
1- قوله تعالى : {والسماء ذات البروج} : يقسم ربنا بالسماء صحابة النجوم ومنازلها(1)
__________
(1) ... تدل مادة برج في اللغة على البروز ولظهور ، ومنه سمي القصر والقلعة برجاً ؛ لظهورهما وبروزهما فوق الأرض يراهما المشاهد دون عناء ، وبها سميت منازل الشمس والقمر بروجاً ، ومنه تبرج المرأة، وهو إظهار محاسنها . وقد وقع اختلاف بين السلف في معنى البروج عنا على أقوال :
... الأول : قصور في السماء ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وحكاه الضحاك من طريق عبيد المكتب ، وقد أورد الطبري في قوله تعالى : {تبارك الذي جعل في السماء بروجا} قول عطية العوفي من طريق إدريس ، ويحيى بن رافع من طريق إسماعيل ، وإبراهيم من طريق منصور ، وأبي صالح من طريق إسماعيل ، وهذا القول مبناه : تسمية القصور والبروج : والله أعلم .
... الثاني : النجوم ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وابن أبي نجيح من طريق سفيان الثوري، وقتادة من طريق سعيد ، وذكر الطبري في آية الفرقان قول أبي صالح من طريق إسماعيل ، وقتادة من طريق معمر ، ونسبه ابن كثير إلى ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي .
... ويظهر أن من فسرها بالقصور ، اعتمد المعنى الأشهر من اللفظ ، ولذا قال ابن جرير الطبري في ترجيح معنى البروج في قوله تعالى : {تبارك الذي جعل في السماء بروجا} [الفرقان : 61] : "وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : هي قصور في السماء ؛ لأن ذلك في كلام العرب {ولو كنتم في بروج مسيدة} [النساء : 78] ، وقول الأخطل :
... كأنها برج رومي يشيدة ... ... ـان بجص وآجر وأحجار
... يعني بالبرج : القصر " .
... وتفسيرها بمطلق القصر يمكن أن يدخل فيه تفسيرها بمنازل الشمس والقمر ؛ لأنهما كالصر بالنسبة لغيرهما ، أما من جعل هذه القصور لحرس السماء ؛ كما ورد عن عطية العوفي وأبي صالح، فإنه يحتاج إلى ما يعضده من خبر الصادق ؛ لأن مثل ذلك التحديد لا يمكن أن يعرف إلا من جهة الخبر ، والله أعلم .
وأما تفسيرها بالنجوم : فإن أصل المادة التي تدل على الظهور تحتمل دخول النجوم فيها ؛ لأنها ظاهرة بارزة للعيان ، وهذا التفسير أقرب الأقوال ؛ لأنه أظهر للناس بخلاف غيره ، وقاعدة القسم : ن يكون المقسم به مما يعلمه عامة الناس ، أو يرون أثره ، والله أعلم .(1/279)
.
2- قوله تعالى : {واليوم الموعود} : ويقسم ربنا باليوم الذي وعد به عباده للفصل بينهم، وهو يوم القيامة .
3- قوله تعالى : {وشاهد ومشهود} : ويقسم ربنا بكل راء مشاهد ومرئي مشاهد، وكل شاهد على أحد ومشهود عليه ؛ كيوم الجمعة شاهد لمن حضره ، وهو مشهود بمن حضره، وكذا يوم عرفة ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته ، وأمته مشهودة عليها ، وكذا غيرها من الأقوال(1) .
وجواب القسم محذوف ، تقديره : "لتبعثن" بدلالة قوله تعالى : {واليوم الموعود}، وهو اليوم الذي يكذب به الكفار .
__________
(1) ... ورد في تفسير هذه الآية اختلاف كثير ، وإذا تأملته وجدته من اختلاف التنوع ، وأنه من قبيل الاسم العام الذي يذكر المفسرون له أمثلة تدل عليه ، قال ابن القيم : "ثم اقسم سبحانه بالشاهد والمشهود مطلقين غير معينين ، وأعم المعاني فيه أنه المدرك والمدرك ، والعالم والمعلوم ، والرائي والمرئي ، وهذا أليق المعاني به ، ما عداه من الأقوال ذكرت على وجه التمثيل ، لا على وجه التخصيص " (التبيان في أقسام القرآن : 57) .(1/280)
4-5- قوله تعالى : {قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود} : أصحاب الأخدود(1) هم الذين أمروا بحفر الشقوق الكبيرة في الأرض ، وملئها بالنار ، وإلقاء المؤمنين بها، والمعنى : ليحصل القتل لهؤلاء الكافرين الذين عذبوا المؤمنين بإلقائهم في النار التي تشعل بالحطب وغيره مما توقد به النار .
6- قوله تعالى : {إذ هم عليها قعود} ؛ أي : إذ هؤلاء الكفار قعود حول النار، وهم متمكنون منها ، يلقون فيها من شاءوا من المؤمنين .
7- قوله تعالى : {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} ؛ أي : وهؤلاء الكفار يشهدون على أنفسهم بما فعلوه بالمؤمنين ، بعد أن حضروا تعذيبهم .
8-9- قوله تعالى : {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد* الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد} ؛ أي : ما أنكر هؤلاء الكفار على المؤمنين إلا إيمانهم بالله القوي الذي لا يقهر ، والمحمود الذي يكثر منه فعل ما يحمده عليه خلقه . والذي له كل ما في السموات والأرض ملكاً وحكماً ، وهو مطلع على كل شيء لا تخفى عليه منهم خافية، وهو مطلع على فعله هؤلاء الكفار بأوليائه .
__________
(1) ... ورد خلاف بين السلف في تحديد أصحاب الأخدود ومكانهم ، وقد ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أصحاب الأخدود الذين في اليمن ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشر في هذه القصة التي يذكرها للصابة إلى هذه الآيات ، ولذا يقال ، إن كل ما ذكر من أصحاب الأخاديد فإنه داخل في حكم هذه الآية ، وبالأخص القوم الذين ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قصتهم ، وهذا يكون من التفسير بالسنة ؛ لأن المفسر استفادة من هذه القصة المطابقة لخبر الآية ففسر بها ، والله أعلم .(1/281)
10- قوله تعالى : {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} ؛ أي : إن الذين عذبوا المؤمنين بالنار(1) – من الكفار أو غيرهم ممن اتصف بعداء أولياء الله(2)
__________
(1) ... ورد التفسير بذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد م طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن أبزى من طريق جعفر .
(2) ... يقول ابن القيم : "وهذا شأن أعداء الله دائماً ينقمون على أولياء الله ما ينبغي أن يحبوا ويكرموا لأجله؛ كما قال تعالى {وقل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون} [المائدة : 59] ، وكذلك اللوطية نقموا من عبا الله تنزيههم عن مثل فعلهم ، فقالوا : {أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} [الأعراف : 82] ، وكذلك أهل الإشراك ينقمون من الموحدين تجريدهم التوحيد ، وإخلاص الدعوة والعبودية لله وحده، وكذلك أهل البدع ينقمون من أهل السنة تجريد متابعتها ، وترك ما خالفها ، وكذلك المعطلة ينقمون من أهل الإثبات إثبات لله صفات كماله ونعوت جلاله .
... وكذلك الرافضة ينقمون على أهل السنة محبتهم للصحابة جميعهم ، وترضيهم عنهم ، وولايتهم إياهم ، وتقديم من قدمه رسول لله صلى الله عليه وسلم منهم ، وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها. وكذلك أهل الرأي المحدث ينقمون على أهل الحديث وحزب الرسول أخذهم بحديثه وتركهم ما خالفه ، وكل هؤلاء لهم نصيب وبهم شبه من أصحاب الأخدود ، وبينهم وبينهم نسب قريب أو بعيد" . "التبيان في أقسام القرآن : 59) .(1/282)
– إذا لم يتوبوا إلى الله من فعلهم فيصيروا بهذه التوابة من أولياء(1) ، فإن الله سيعذبهم بنار جهنم التي تبطق عليهم بظلماتها ، وبنار الحريق التي تحرقهم(2) .
11- قوله تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} ؛ أي : إن الذين أقروا بتوحيد الله من الذين عذبوا بالنار وغيرهم من المؤمنين، وعملوا بطاعة الله : بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، لهم بساتين تجري على أرضها البن والعسل والماء ، وذلك النعيم هو الظفر الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة .
12- قوله تعالى : {إن بطش ربك لشديد} ؛ أي : إن أخذ ربك ما محمد وانتقامه قوي، كما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : "إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ : {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} .
13-14- قوله تعالى : {إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود} ؛ أي : إن الله ذا البطش الشديد يبدئ العذاب على الكافرين في الدنيا ، ويعيده عليهم في الآخرة(3)
__________
(1) ... قال الحسن البصري : "انظروا إلى هذا الكرم والجود ، يقتلون أولياءه ويفتنونهم ، وهو يدعوهم إلى المغفرة ..." انظر : (التبيان في أقسام القرآن : 59) .
(2) ... حمل بعض المفسرين ؛ كالربيع بن أنس ، هذه الآية على قصة أصحاب الأخدود ، وقالوا بأن النار التي أوقدوها التهمتهم بعد ما ألقوا فيها المؤمنين ، وأن هذا هو المراد بعذاب الحريق ، والله أعلم بما كان، ولكن هذا لا يعني أن نار الحريق في الدنيا ، فالنار دركات ، ويجوز أن تكون هاتان المذكورتان منها .
(3) ... ورد في هذا تأويلان عن السلف :
... الأول : يبدئ الخلق ويعيده ، وهو قول الضحاك من طريق عبيد ، وقول ابن زيد .
... والثاني : يبدئ العذاب في الدنيا ويعيده يوم القيامة ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، ورجحه ابن جرير ، فقال : "وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب وأشبههما بظاهر ما دل عليه التنزيل، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أنه يبدئ العذاب لأهل الكفر به ويعيد ، كما قال جل ثناؤه {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} في الدنيا ، فأبدأ لهم ذلك في الدنيا ، وهو يعيده لهم في الآخرة .
... وإنما قلت : هذا أولى التأويلين بالصواب ؛ لأن الله اتبع ذلك قوله : {إن بطش ربك لشديد} ، فكان للبيان عن معنى شدة بطشه الذي قد ذكره قبله ، أشبه به بالبيان علما لم يجر له ذكر ، ومما يؤيد ما قلنا من ذلك وضوحاً وصحة ، قوله : {وهو الغفور الودود} ، فبين ذلك عن أن الذي قبله من ذكر خبره عن عذابه وشدة عقابه" .(1/283)
، وإنه الذي ستر الذنب فلا يعاقب به ، ويحب أولياءه ويحبونه(1) .
15- قوله تعالى : {ذو العرش المجيد} ؛ أي : الله الكريم(2) الذي له صفات الكمال هو صاحب العرش الذي وسع السموات والأرض(3) .
16- قوله تعالى : {فعال لما يريد} ؛ أي : من كمال هذا الرب المجيد أنه يفعل ما يشاء، متى شاء ، وكيف شاء ، ولا يرده أحد عن شيء ولا يحده ، فمتى شاء ضحك ، ومتى شاء سخط، ومتى شاء أحيا ، ومتى شاء أمات ، وهكذا غيرها من أفعاله .
__________
(1) ... فسر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة بأنه الحبيب ، وسره ابن زيد بأنه الرحيم ، والرحمة من لازم المحبة .
... قال ابن القيم : "... الودد : المتودد إلى عباده بنعمه ، الذي يود من تاب إليه وأقبل عليه . وهو الودود أيضاً ؛ أي : المحبوب ، قال البخاري في صحيحه : "الودود : الحبيب" .
... والتحقيق أن اللفظ يدل على الأمرين ، على كونه واداً لأوليائه ، ومودوداً لهم ، فأحدهما بالوضع ، والآخر باللزوم . فهو الحبيب المحب لأوليائه يحبهم ويحبونه ، وقال شعيب : {إني ربي رحيم ودود} [هود : 9] ، وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور ؛ فإن الرجل قد يغر لمن أساء إليه ولا يحبه ، وكذلك قد يرحم من لا يحب ، والرب تعالى يعفر لعبده إذا تاب إليه ، ويرحمه ويحبه مع ذلك؛ فإنه يحب التوابين ، وإذا تاب إليه عبده أحبه ، ولو كان منه ما كان" . (التبيان في أقسام القرآن : 59-60) .
(2) ... فسر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : المجيد بالكريم .
(3) ... سبق تفسير العرش ، وقد ورد في المجيد قراءتان : الأولى برفع المجيد ، وتكون من صفة الله سبحانه، والثانية بخفض المجيد ، وتكون من صفة العرش ؛ أي : العرش المجيد الذي صار شريفاً ورفيعاً بعلوه على المخلوقات ، وكونه هو الذي اختص باستواء الرحمن عليه من بين المخلوقات ، والله أعلم .(1/284)
17-18- قوله تعالى : {هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود} : هذا مثال لأم وقع عليها بطش الله ، والمعنى : قد أتاك فيما أنزل عليك خبر الجموع الكافرة المتجندة لحرب أولياء الله ، وهم فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه السلام ، وقوم ثمود الذين كذبوا صالحاً عليه السلام ، وهم قد كفروا برسلهم عن علم ، فكان كفرهم كفر جحود .
19-20- قوله تعالى : {بل الذين كفروا في تكذيب * والله من وراءهم محيط} ؛ أي : لكن الذين كفروا من قومك ينسبونك إلى الكذب ولا يصدقونك فيما تخبر به من الوحي، والله المطلع عليهم متمكن منهم ، فهم لا يفلتون منه ، ولا يعجزونه ، ولا مكان لهم يؤويهم من عذابه.
21-22- قوله تعالى : {بل هو قرءان مجيد * في لوح محفوظ} ؛ أي : لكن هذا الوحي الذي يكذبون به كلام متلو باللسان ، وهو كلام كريم شريف(1) ؛ لأنه كلام رب العالمين، وهو محفوظ مصون في اللوح المحفوظ ، محفوظ من كل ما يشينه وينقصه(2) ، فلا تصل إليه يد التخريب(3) ، والله أعلم .
سورة الطارق
آياتها : 17
سورة الطارق
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... ورد عن قتادة من طريق سعيد ، وسعيد بن جبير من طريق جعفر : "مجيد : كريم" .
(2) ... قال مجاهد من طريق منصور : "في لوح : أم الكتاب" ، وقال قتادة من طريق سعيد : "محفوظ عند الله" ، ورد عن أنس بن مالك أن اللوح المحفوظ المذكور هنا محفوظ في جبهة إسرافيل ، والله أعلم بصحة ذلك .
(3) ... ورد في "محفوظ" قراءتان : الأولى بالرفع ، وتكون صفة للقرآن ، والثانية بالخفض ، وتكون صفة للوح ، ومؤدي القراءتين : أن القرآن محفوظ في اللوح المحفوظ ، والله أعلم .(1/285)
والسماء والطارق * وما إدراك ما الطارق * النجم الثاقب * إن كل نفس لما عليها حافظ * فلينظرا لإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب * إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر * فما له من قوة ولا ناصر * والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع * إنه لقول فصل * وما هو بالهزل * إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا .
سورة الطارق
... 1-3- قوله تعالى : {والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب}: يقسم ربنا بالسماء وما يأتي ويطرق فيها ليلاً ، ثم استفهم مشوقاً لهذا الطارق فقال : وما أعلمك ما الطارق ، ثم أجاب عنه بأنه النجوم المتقدة المضيئة في السماء.
... 4- قوله تعالى : {إن كل نفس لما عليها حافظ} : هذا جواب القسم ، والمعنى : لا توجد نفس من نفوس بني آدم إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظون عليهم أعمالهم ، ثم يحاسبون عليها بعد البعث .
... 5-6- قوله تعالى : {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق} ؛ أي : فلينظر الكار الذي ينكر البعث ، فلينظر مادة خلقه ، وهي المني النصب ، فالذي خلقه من هذه النطفة الحقيرة قادر على إعادته .(1/286)
... 7- قوله تعالى : {يخرج من بين الصلب والترائب} ؛ أي : يخرج هذا الماء المنصب من موضع العمود الفقري وأضلاع الصدر التي تضع المرأة القلادة عليها(1) .
... 8-9- قوله تعالى : {إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرائر} ؛ أي : إن الله يستطيع أن يرد الإنسان بعد موته ، فيحييه ، وذلك كائن يوم تخبر ضمائر الناس وما يخفونه ، فتظهر هذه المخفيات أمامهم(2) .
... 10- قوله تعالى : {فما له من قوة ولا ناصر} ؛ أي : في هذا اليوم ليس لهذا الإنسان الكافر من قوة في ذاته يدفع بها عن نفسه ، ولا أحد من الخلق معين له من عذاب الله .
__________
(1) ... هذا القول في الترائب هو قول جمهور المفسرين ، وعليه إجماع أهل اللغة ، وممن قال به من السلف : ابن عباس من طريق العوفي وعلي بن أبي طلحة ، وعكرمة من طريق أبي رجاء وعبد الله بن نعمان الحداني ، وسعيد بن جبير من طريق عطاء ، ومجاهد من طريق ثوير وابن أبي نجيح ، وسفيان الثوري من طريق مهران ، وابن زيد . ويظهر أن مرادهم في تفسير الترائب تحديد مكانها بموضع القلادة، لا أنها أضلاع ألمرأة ، لأن الماء المدفون ، أو ذا الدفق ، يخرج من الرجل لا من المرأة ، ونظم هذه الآية نظير نظم قوله تعالى : {نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا} [النحل : 66] والله أعلم.
... وورد عن ابن عباس من طريق العوفي : الترائب : أطراف الرجل واليدان والرجلان والعينان .وعن الضحاك من طريق أبي روق : اليدان والرجلان ، وعنه من طريق عبيد المكتب : عيناه ويداه ورجلاه.
(2) ... ورد في تفسير الضمير في قوله : "رجعه" قولان :
... الأول : أنه يعود على الإنسان ، وفيه تأويلان : الأول : إنه على رجع الإنسان بعد مماته لقادر ، وهو قول قتادة من طريق سعيد . الثاني : إنه على رد الإنسان ماء لقادر ، وهو قول الضحاك من طريق =(1/287)
... 11-14- قوله تعالى : {والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع * إنه لقول فصل * وما هو بالهزل} : يقسم ربنا بالسماء التي يرجع منها المطر مرة بعد مرة(1)
__________
(1) ... عبيد ومقاتل بن حيان .
... الثاني : أنه يعود على لماء ، وفيه تأويلات : الأول : إنه على رد الماء في الصلب لقادر ، وهو قول عكرمة من طريق أبي رجاء . الثاني : إنه على رجعه في الإحليل لقادر ، وهو قول مجاهد من طريق ليث وعبد الله بن أبي بكر وابن أبي نجيح . الثالث : إنه على رد الماء وحبسه فلا يخرج لقادر، وهو قول ابن زيد .
... والقول الأول هو الراجح ، قال الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : إن الله على رد الإنسان المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حياً ، كهيئته قبل مماته ، لقادر. وإنما قلت : هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب ؛ لقوله : {يوم تبلى السرائر} ، فكان في إتباعه قوله: {إنه على رجعه لقادر} نبأ من أنباء القيامة دلالة على أن السابق قبلها أيضاً منه ، ومنه : {يوم تبلى السرائر} يقول تعالى ذكره : إنه على إحيائه بعد مماته لقادر يوم تبلى السرائر ، فاليوم من صفة الرجع ، لأن المعنى : إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر" .
... وقال ابن القيم : "والقول الأول هو الصواب لوجوه : أحدها : أنه المعهود من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبتدأ على المعاد ... الثالث : أنه لم يأت لهذا المعنى [أي : رد الماء إلى الصلب أو الإحليل} في القرآن نظير في موضع واحد ، ولا أنكره أحد حتى يقيم سبحانه الدليل عليه ... الخامس: أن الضمير في "رجعه" هو الضمير في قوله : {فما له من قوة ولا ناصر} ، وهذا للإنسان قطعاً ، لا للماء ..." . (التبيان في أقسام القرآن : 66) .
( ) ... فسر السلف الرجع بالمطر ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي ، والحسن من طريق أبي رجاء ، وعكرمة من طريق أبي رجاء ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والضحاك من طريق عبيد . وانفرد ابن زيد بتفسير الرجع بقوله : "شمسها وقمرها ونجومها يأتين من ها هنا" .(1/288)
، وبالأرض التي تتشقق فيخرج منها النبات(1) ، أن هذا القرآن الذي أنزله على عباده قول جد ، وهو فرقان
يفرق الله به بين الحق والباطل(2) ، وليس لعباً ولا لهواً من القول .
... 15-16- قوله تعالى : {إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا} ؛ أي : إن هؤلاء المكذبين بالبعث والقرآن يدبرون الحيل ويمكرون ، والله يكيدهم كما هم يكيدون ، ولذا ينقلب عليهم كيدهم خسراناً وهلاكاً ، فمن ذا الذي يستطيع حرب الله والكيد له ؟! .
... 17- قوله تعالى : {فمهل الكافرين أمهلم رويدا} ؛ أي : اتركهم ، ولا تتعجل عليهم، واصبر عليهم قليلاً قليلاً ، فإنهم سيلاقون ما أوعدهم الله جزاء لكيدهم ، والله أعلم .
سورة الأعلى
آياتها : 19
سورة الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى * سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى * ونيسرك لليسرى* فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى * ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يمون فيها ولا يحيى * قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى .
سورة الأعلى
كان صلى الله عليه وسلم يقرأها في صلاة العيد ، وفي صلاة الشفع قبل الوتر ، وفي صلاة الجمعة .
__________
(1) ... كذا فسر السلف ذلك ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي ، والحسن وعكرمة من طريق أبي رجاء ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، وقرأ : {ثم شققا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا} إلى آخر الآيات . [عبس : 29-32] .
(2) ... قال ابن جرير : "يقول : لقول يفصل بين الحق والباطل بيانه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عنه ، فقال بعضهم : لقول حق ، وقال بعضهم : لقول حكم".(1/289)
1- قوله تعالى : {سبح اسم ربك الأعلى} ؛ أي : نزه ربك الذي علا على خلقه في السماء(1) ، نزهه ناطقاً باسمه ومتكلماً به عند ذكر إياه ، وتعظيمك له ،وصلاتك له (2).
__________
(1) ... جاء وصف الأعلى على صيغة اسم التفضيل المطلق الذي لا مقابل له ، للدلالة على كماله في هذا الوصف ، وأنه لا أحد أعلى منه ، وعلوه يشمل علو الذات على خلقه . فهو مستو على العرش الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها ، وعلو القهر ، فهو القاهر فوق عباده ، وعلو القدر بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى ، والله أعلم .
(2) ... ورد في تأويل هذه الجملة إشكال ، وهو : هل المراد تسبيح الاسم أو تسبيح الرب ؟
... والصواب ، والله أعلم ، أن المراد تسبيح الرب ، ويدل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لم نزلت قال : اجعلوها في سجودكم . ونحن مأمورن بأن نقول : سبحان ربي الأعلى ، وقد ورد هذا التفسير عن علي بن أبي طالب من طريق عبد خير ، وابن عباس من طريق أبي إسحاق الهمذاني وزياد بن عبد الله . وهذا يستلزم تنزيه اسمه تعالى من أن يسمى به غيره ، كما سمى المشركون أصنامهم بأسماء الله ؛ كاللاتي والعزى .
... قال ابن القيم : "... فصار معنى الآيتين : سبح ربك بقلبك ولسانك ، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحم الاسم تنبيهاً على هذا المعنى ، حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ؛ لأن ذكر القلب متعلقة المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه ، والذكر باللسان متعلقة اللفظ مع مدلوله؛ لأن اللفظ لا يراد لنفسه ، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى . وعبر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية – قدس الله روحه – عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة ، فقال : المعنى : سبح ناطقاً باسم ربك متكلماً به ، وكذا سبح ربك ذاكراً اسمه . وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدرها ، فالحمد لله المنان بفضله ، ونسأله تمام نعمته" . (بدائع الفوائد 1 : 19) .(1/290)
2- قوله تعالى : {الذي خلق فسوى} ؛ أي : سبحه لأنه خلق الخلق ، وجعل كل مخلوق مناسباً لما خلقه له ، فهو يقوم بالأعمال التي تناسبه .
3- قوله تعالى : {والذي قدر فهدى} ؛ أي : والذي قدر لكل مخلوق مقاديره ، وهداه لإتيان هذه الأقدار ؛ كتقدير الإنسان للشقوة والسعادة ، والبهائم للمراتع ، وغيرها من أنواع
التقدير(1) .
4-5- قوله تعالى : {والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى} ؛ أي : والذي أخرج المرعى نباتاً أخضر ، فصيره بعد ذلك هشيماً يابساً متغيراً مائلاً إلى السواد من شدة اليبس(2) .
__________
(1) ... قال ابن جرير : "والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عم بقوله : "فهدى" الخير عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشر ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به الحجة دال على خصوصه" . وعلى هذا فما ورد في تفسير السلف فهو على سبيل المثال لتقدير وهداية ، والله أعلم .
(2) ... قال الطبري : "وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ؛ أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك، ويعتل لقوله ذلك بقول ذي الرمة :
... حواء أشراطية وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم
... وهذا القول – وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات قد تسميه العرب أسود- غير صواب عندي ، بخلاف أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير، إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره ، فأما وله في موضعه وجه صحيح ، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير" .(1/291)
6-7- قوله تعالى : {سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى} : هذا وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجعله قارئاً للقرآن حافظاً له ، فلا يقع منه نسيان له(1) ، إلا ما نسخ الله تلاوته ، ثم أخبره قائلاً : إن الله يعلم ما يقع منك من عمل أظهرته، وعمل كتمته فلم تظهره فهو يعلم جميع أحوالك سرها وعلانيتها .
8- قوله تعالى : {ونيسرك لليسرى} : وهذا وعد آخر لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يسهل على عمل الخير الموصل للجنة .
__________
(1) ... حكي عن بعض المفسرين أن "لا" في قوله : {فلا تنسى} لا النهاية ، وهذا مخالف لرسم المصحف الذي جاء فيه رسم "تنسى" بالألف المقصورة ، ولو كان كما قال : لحذفت هذه الألف لأجل جزم الفعل المضارع ، والله أعلم .
... ونقل الطبري عن بعض أهل العربية ، وهو الفراء ، فقال : "لم يشأ الله تنسى شيئاً ، وهو كقوله :{خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إل ما شاء ربك} [هود : 107] ، ولا يشاء . قال : وأنت قائل في الكلام : لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت ، وإلا أن أشاء أن أمنعك ، والنية أن لا تمنعه ، ولا تشاء شيئاً . قال : وعلى هذا مجاري الإيمان ، يستثنى فيها ، ونية الحالف اللمام" .
... وهذا القول فيه إخراج للاستثناء عن معناه دون ما يدعو إليه من المعنى ، والمعنى المفسر على بقاء الاستثناء واضح ومطابق للواقع ، وهذا مما يدل على خطأ هذا القول ، والأصل بقاء اللفظ على ما يدل عليه ، ولا يخرج عنه إلا بدليل ، والله أعلم .(1/292)
9- قوله تعالى : {فذكر إن نفعت الذكرى} : هذا بيان لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي تذكر الناس كافة ، فمن آمن كانت هذه الذكرى نافعة له ، وهو المعني بقوله : {سيذكر من يخشى} ، وإن لم يتذكر كانت حجة عليه ، وهو المعني بقوله تعالى : {ويتجنبها الأشقى}(1) .
10- قوله تعالى : {يذكر من يخشى} : هذا بيان للفريقين اللذين يسمعان الذكرى ، فالفريق الأول هو الذي حصلت آثار التذكير في قلبه ، فوقع منه التذكر ، وهو الذي يخاف الله على علم وتعظيم ومحبة له .
11-13- قوله تعالى : {ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيى} : وهذا الفريق الثاني الذي يسمع الذكرى ، ولكنه يتباعد عنها ، فلا يقع في قلبه تذكر ، فهو شديد الشقوة ، فلا يسعد بسبب تلك الشقوة التي حصلت له بسبب كفره بالله.
__________
(1) ... مقصود الآية أنها حجة على الكافر وتذكرة للمؤمن ، كما قال الحسن البصري ، وهذا يدل على أن التذكير واجب في كل حال ، وأنها نافعة في كل حال ، ولا يصح أن يكون لهذا الشرط مقابل؛ أي: وإن لم تنفع فلا تذكر ، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة ؛ لأنه لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى .
... الدعوة عامة ، وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى أو عدمه أمر استأثر الله بعلمه ، فأبو جهل مدعو للإيمان ، والله يعلم أنه لا يؤمن ، لكن الله لم يخص بالدعوة من يرجى إيمانه دون غيرهم، والواقع يكشف المقدور .
... وعلى هذا فقوله : {فذكر إن نفعت الذكرى} أمر بتذكير كل أحد ، فإن انتفع كانت تذكرة تامة نافعة ، وإلا حصل أصل التذكير الذي تقوم به الحجة والله أعلم . (انظر : دقائق التفسر :5: 75-84) .
... ومجيء "إن المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط، أو ندرة وقوعه ، فيه تنبيه على أن في القوم المذكرين من لا تنفعه الذكرى ، ويفسر هذا ما جاء بعدها من قوله : {سيذكر من يخشى * ويتجنبها الأشقى}.(1/293)
وهذا الأشقى سيدخل النار الكبرى التي هي شديدة العذاب والألم ، فتشويه بحرها، ثم هو لا يموت فيستريح من عذابها ، ولا يحيى حياة كريمة لا إهانة فيها ، ومعنى ذلك أنه لا يزول عنه الإحساس ، بل هو باق فيه ، فيذوق به العذاب ، والعياذ بالله .
14-15- قوله تعالى : {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى} أي : حصل الظفر والفوز والنجاح لمن جعل نفسه زاكية بترك السيئات ، وحلاها بالعمل الصالح ، وذكر ربه بقلبه ولسانه ، فأقام الصلاة لله(1) .
16-17- قوله تعالى : {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} ؛ أي : ولكنكم أيها الأشقون تختارون زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة الذي هو أدوم وأعلى من نعيم الدنيا كما وكيفاً ومكاناً وزماناً وهيئة .
__________
(1) ... ورد في تفسير التزكي خلاف بين السلف :
... الأول : من كان عمله زاكياً ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : "من تزكى من الشرك" ، وهو قول الحسن من طريق هشام ، وقتادة من طريق معمر ، وعكرمة من طريق الحكم.
... الثاني : قد أفلح من أدى زكاة ماله ، وهو قول أبي الأحوص ، وقتادة من طريق سعيد .
... الثالث : من أدى زكاة الفطر ، وهو قول أبي العالية من طريق أبي خلدة .
... والظاهر من الخطاب العموم ، وما ذكر من تفسيرات غيره فإنها أمثلة لأعمال تزكى المسلم، ويظهر من روايات من فسر التزكي بزكاة المال ، أو زكاة الفطر ، أنه استشهد بهذه الآيات ، لا أنه أراد أنها هي المعنية ون غيرها ؛ لأن السورة مكية ، وزكاة الفطر إنما كان في المدينة ، وكذا يحمل على ما بعدها من الذكر والصلاة إنها على العموم ، قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك أن يقال: وذكر الله فوحده ، ودعا إليه ، ورغب ؛ لأن كل ذلك في ذكر الله ، ولم يخصص الله تعالى من ذكره نوعاً من دون نوع " .(1/294)
18-19- قوله تعالى : {إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى} ؛ أي: إن هذه الموعظة التي في قوله تعالى : {قد أفلح من تزكى} وما بعدها (1) موجودة في ما أنزله الله من الكتب على نبييه إبراهيم وموسى ، والله أعلم .
سورة الغاشية
آياتها : 26
سورة الغاشية
بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية * تسقى من عين ءانية * ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع * وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية * فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة * أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر * إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم .
سورة الغاشية
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأها في صورة العيد والجمعة .
__________
(1) ... ذكر الطبري أقوالاً في مرجع اسم الإشارة "هذا ، ثم قال : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال : إن قوله : {قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى} لفي الصحف الأولى ، صف إبراهيم خليل الرحمن ، وصحف موسى بن عمران ,
... وإنما قلت : ذلك أولى بالصحة من غيره ، لأن هذا إشارة إلى حاضر ، فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها ، أولى من أن يكون إشارة إلى غيره . وأما الصحف : فإنها جمع صحيفة ، وإنما عني بها : كتب إبراهيم وموسى " .(1/295)
1- قوله تعالى : {هل أتاك حديث الغاشية} : يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هل أتاك خبر يوم القيامة التي تخشى الناس بأهوالها وتعظيمهم(1) ؟.
2- قوله تعالى : {وجوه يومئذ خاشعة} ؛ أي : يوم الغاشية تكون وجوه حاضرة له ذليلة في النار(2) ، وهي وجوه الكفار .
__________
(1) ... ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : "الغاشية : من أسماء يوم القيامة ، عظمه الله ، وحذره عباده" . ومن طريق العوفي قال : "الساعة" ، وكذا ورد عن قتادة من طريق سعيد .
... وذكر الطبري ترجمة أخرى ، فقال : "وقال آخرون : بل الغاشية : النار تغشى وجوه الكفرة" ، وأورد الرواية عن سعيد بن جبير ، قال : "غاشية النار" . ويلاحظ أن قول سعيد يحتمل أن يراد به الذين يغشون النار ، وهم الكفار ، والله أعلم .
... ثم رجح الإمام ابن جرير فقال : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {هل أتاك حديث الغاشية} ، لم يخبرنا أنه عنى غاشية القيامة ، ولا أنه عنى غاشية النار، وكلتاهما غاشية ، هذه تغشى الناس بالبلاء والأهوال والكروب ، وهذه تغشى الكفار باللفح في الوجوه ، والشواظ والنحاس ، فلا قول أصح من أن يقال كما قال جل ثناؤه ، ويعم الخير بذلك كما عمه " .
... ويلاحظ هنا أن ابن جرير لم يعتمد قول ابن عباس ويقدمه على أنه قول صحابي ، ويترك ما خالفه من قول التابعي ، وهذا منهج يحتاج إلى بحث ودراسة ، والله أعلم .
... وعلى هذا يكون سبب الاختلاف أن الغاشية وصف لمحذوف ، فذكر كل واحد منهم ما يحتمله من الموصفات ، وهذه الموصوفات جاءت على سبيل التواطىء بينهما في في وصف الغاشية ، والله أعلم .
(2) ... فسرها قتادة من طريق سعيد : "ذليلة" ، وزاد من طريق معمر : "خاشعة في النار" فبين مكان خشوعها.(1/296)
3- قوله تعالى : {عاملة ناصبة} ؛ أي ك هذه الوجوه الكافرة عاملة في النار ، تعمل من الأعمال ما به مشقة وتعب ، ومن ذلك جر السلاسل والأغلال وغيرها من أنواع العذاب التي تعملها في النار(1) .
4- قوله تعالى : {تصلى نار حامية} ؛ أي : ترد هذه الوجوه ناراً قد اشتد حرها ، فتشويها بحرها .
5- قوله تعالى : {تسقى من عين ءانية} ؛ أي : تسقى ملائكة العذاب هذه الوجوه الكافرة من ماء عين قد بلغت حرارتها أشد ما يكون من الحرارة(2)
__________
(1) ... سياق الآيات يدل على أن هذا العمل يكون في النار ، ولا يصح أن يقال : إن الآخرة ليس فيها عمل ؛ لأن هذه المسألة لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ، وإنما هي استنباط عقلي ، وهو غير صحيح. وبهذا جاء التفسير عن السلف ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، والحسن من طريق أبي رجاء ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد . ... ... ... ... =
(2) ... وقد حمل بعض المفسرين الآية على الدنيا ن وقال أبنها في الرهبان الذي يتعبون أنفسهم في عبادة الله ، وهم على الباطل ، فيتعبون في الدنيا ويعذبون في الآخرة ، وذكروا في ذلك أثراً عن عمر رضي الله عنه في أنه رأى راهباً فبكى ، وقال : ذكرت قول الله : {عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية} ، والأثر فيه انقطاع ، ولو صح ، فإنه يكون تفسيراً قياسياً ، لا أن المراد بالآية هذا الراهب وجنسه فقط، بل هي في جميع الكفار ، والله أعلم .
... وقد أورد البخاري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنهم النصارى ، وفي رواية غير البخاري ، اليهود ، وهو محمول على ما ذكرت ، أو أنه أشار إلى قوم من الذين يعملون وينصبون في الآخرة في النار ، فيكون تفسيراً بالمثال ، والله أعلم .
... وقد ذكر ابن تيمية هذين القولين ، وقال : "... والقول الثاني : أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع ؛ أي : تذل وتعمل وتنصب . قلت : هذا هو الحق لوجوه" . ثم ذكر هذه الوجوه ، ومنها : "أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه ؛ أي : وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية ، وعلى الأول لا يتعلق إلا بقوله : "تصلى" ، ويكون قوله : "خاشعة" صفة للوجوه ، قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى متأخرة ، والتقدير : وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى ناراً حامية، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل ، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه ، لا تغيير ترتيبة .
... ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة ، أما من اللبس فلا يجوز ؛ لأنه يلتبس على المخاطب ، ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم والتأخير ، بل القرينة تدل على خلاف ذلك ، فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب خلاف البيان ، أمر المخاطب بفهمه تكليف لما يطاق..." . (انظر الوجوه الأخرى في دقائق التفسير : 5/123 – 124) .
( ) ... كذا فسر السلف : ابن عباس من طريق العوفي ، والحسن من طريق أبي رجاء ومعمر ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد .
... وفسرها ابن زيد ، فقال : آنية : حاضرة ، وقد ورد عن مجاهد من الطريق السابق تفسيره : "قد بلغت إناها ، وحان شربها" ، وعلى هذا فتفتسيرها بحاضرة تفسير بلازم المعنى ؛ لأنها إنما بلغت إناها لكي يشربها هؤلاء الكفار ، والله أعلم .(1/297)
.
6- قوله تعالى : {ليس لهم طعام إلا من ضريع} ؛ أي : ليس لهذه الوجوه الكافرة في النار طعام يأكلون إلا نباتاً من الشوك ، وهو الشبرق اليابس(1) .
7- قوله تعالى : {لا يسمن ولا يغني من جوع} ؛ أي : هذا الشبرق اليابس الذي يأكلونه في النار لا يسمن آكليه ، ولا يسد رمق جوعهم .
8- قوله تعالى : {وجوه يومئذ ناعمة} ؛ أي : ووجوه في يوم الغاشية قد ظهر عليها الحسن والبهاء الذي يكون من أثر النعيم ، وهذه وجوه المؤمنين .
9- قوله تعالى : {لسعيها راضية} ؛ أي : لعلها الذي عملته في الدنيا حامدة غير ساخطة، وذلك لما وجدت من الثواب عليه .
__________
(1) ... هذا قول مجاهد من طريق ليث وابن نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وشريك بن عبد الله . وقد نسبه ابن كثير إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي الجواز وقتادة .
... وورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : "شجر من النار" .
... وورد عن ابن زيد : "الضريع : الشوك من النار ، قال : وأما في الدنيا ، فإن الضريع : الشوك اليابس الذي ليس له ورق ، تدعوه العرب الضريع ، وهو في الآخرة شوك من نار" . وهذا لا يخالف ما ورد من أنه الشبرق اليابس ، فإنه يكون من شجر النار ، ويكون ناراً كما قال ابن زيد ، والله أعلم .
... وورد في تفسير سعيد بن جبير من طريق جعفر بأن الضريع الحجارة . ولم أجد من فسره بهذا التفسير، كما لم أجده في كتب اللغة ، فهل هي لغة علمها سعيد وجهلها غيره ، أم ماذا ؟!(1/298)
10-11- قوله تعالى : {في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية} ؛ أي : هذه الوجوه المؤمنة في بساتين مرتفعة ، لا تسمع في هذه الجنة العالية كلمة باطل(1) ؛ لأن الجنة طيبة ، طيب ما فيها ، وهي دار سلام وأمن دائم .
12-16- قوله تعالى : {فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوبة} ؛ أي : في هذه الجنة العالية من جنس عين الماء ، تجري على أرضها من غير أخدود ، وفيها السرر مرتفعة وعالية يجلسون عليها ويضطجعون ، لينظروا ما حولهم من النعيم ، وفيها أواني الشرب معدة عندهم إذا أرادوا أن يشربوا من العين و غيرها، وفيها الوسائد التي قد رص بعضها بجوار بعض(2) ، وفيها البسط الكثيرة الوفيرة المنتشرة بين يدي المؤمن .
__________
(1) ... قال الطبري : "وقوله : {لا تسمع فيها لغية} يقول : لا تسمع هذه الوجوه ؛ المعنى لأهلها ، فيها : في الجنة الغالية لاغية ، يعني باللاغية : كلمة لغو ، واللغو : الباطل ، فقيل للكلمة التي هي لغو : لاغية ، كما قيل لصاحب الدرع : دارع ، ولصاحب الفرس : فارس ، ولقائل الشعر : شاعر . وكما قال الحطيئة :
... أغررتني وزعمت أنـ ... ـك لابن بالصيف تامر
يعني : صاحب لبن ، وصاحب تمر .
وزعم بعض الكوفيين [هو الفراء] أن معنى ذلك : لا تسمع فيها حالفة على الكذب ، ولذلك قيل : لاغية . ولهذا الذي قال مذهب ووجه ، لولا أن أهل التأويل من الصحابة والتابعين على خلافه ، وغير جائز لأحد خلافهم فيما كانوا عليه مجتمعين". ثم ذكر الرواية عن ابن عباس من طريق العوفي =
(2) ... قال : "لا تسمع أذى ولا باطل" ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "شتماً" ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر : "لا تسمع فيها باطلاً ولا شتماً" .
( ) ... عبر السلف عن النمارق بالمرافق ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وبالمجالس من طريق العوفي ، وبالوسائد عن قادة من طريق سعيد .(1/299)
17- قوله تعالى : {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} : لما ذكر أهل الشقاء في أول السورة ومآلهم ، ذكر هنا سبب ذلك الشقاء ، وهو إعراضهم عن دلائل التوحيد ، فقال : {فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} ؛ أي : هؤلاء المنكرون لقدرة الله ، أفلا ينظرون نظر اعتبار وتفكر إلى الإبل التي هو مركوبهم الأول ، ينظرون كيف خلقها الله بما فيها من العظمة والكبر؟ ، وكيف ذللها مع هذا العظم في خلقها ؟ .
18-20- قوله تعالى : {وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} ؛ أي : وينظرون معتبرين إلى هذه السماء العظيمة التي تغطيهم كيف رفعها الله من غير عمد يرونها ؟
وإلى هذه الجبال العظيمة التي يتخذونها مأوى لهم ، كيف أقامها الله شامخة عالية ؟
وإلى الأرض ، كيف بسطها الله لهم ومهدها لسكنهم وتقلبهم فيها ؟ .
21- قوله تعالى : {فذكر إنما أنت مذكر} : هذا بيان لمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التذكير ، وأن عليه ألا ييأس مما يجده من إعراض هؤلاء المنكرين لقدر الله تعالى توحيده .
22- قوله تعالى : {لست عليهم بمصيطر} ؛ أي لست مسلطاً عليهم تحملهم على ما تريد، وتكرههم على الإيمان .
23-24- قوله تعالى : {إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر} ؛ أي : لكن من أعراض عن التذكر وتركه ، وكفر بالله فلم يؤمن ، فإن الله يعذبه في جنهم ، وهو العذاب الأكبر منه .
25-26- قوله تعالى : {إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم} أي : أن رجوعهم إلى الله ، وإن مجازاتهم على أعمالهم على الله ، فهو يجازيهم بها ، والله أعلم .
سورة الفجر
آياتها : 30
سورة الفجر
بسم الله الرحمن الرحيم(1/300)
والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * واليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذي حجر * ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد * فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقد عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلاً لما * وتحبون المال حبا جما * كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا * وجاىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول ياليتني قدمت لحياتي * فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد* يأيتها النفس المطمئنة * أرجعي إلى ربك راضية مرضية * فأدخلي في عبادي * وادخلي جنتي .
سورة الفجر
... 1- قوله تعالى : {والفجر} : يقسم ربنا بالفجر الذي هو أول النهار(1) .
__________
(1) ... ورد خلاف بين السلف في هذا القسم على أقوال :
... الأول : فجر الصبح ، وهو قول عكرمة من طريق عاصم الأحول ، وذكره ابن كثير عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي .
... الثاني : النهار ، ورد عن ابن عباس من طريق أبي نصر .
... الثالث : صلاة الفجر ، ورد ذلك عن عباس من طريق العوفي .
... والمشهور من اللفظ أنه يطلق على أول النهار ، وقد يكون ذكر صلاة الفجر مراداً به ذكر أفضل عمل يتضمنه الفجر ، لا تفسير معنى الفجر ، والله أعلم . وأما الرواية عن ابن عباس من طريق أبي نصر فهي غريبة ، ويحتمل أنه قابل القسم بالليل بالقسم بالنهار على سبيل التوسع في إطلاق اللفظ لا على التفسير بالمطابق ، والله أعلم .(1/301)
... 2- قوله تعالى : {وليال عشر} : ويقسم ربنا بليال عدتها عشر ، وهي ليالي عشر من ذي الحجة(1) .
... 3- قوله تعالى {والشفع والوتر} : ويقسم ربنا بما هو شفع ، وما هو وتر ؛ كالعاشر من ذي الحجة : يوم النحر ، والتاسع من ذي الحجة : يوم عرفة (2).
__________
(1) ... ورد تفسيرها بهذا عن ابن عباس طريق زرارة بن أبي أوفى والعوفي وأبي نصر ، وابن الزبير من طريق محمد بن المرتفع ، ومسروق من طريق أبي إسحاق ، وعكرمة من طريق عاصم الأحول ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد .
... قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك عندنا : أنها عشر ذي الحجة ؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه ، وأن عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثني قال : ثنى زيد بن حباب ، قال أخبرني عياش بن عقبة ، قال : ثنى جبير بن نعيم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : {والفجر * وليال عشر } ، قال : عشر الأضحى " .
(2) ... وقع خلاف في المراد بالشفع والوتر عند السلف على أقوال ، منها :
... الأول : النفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة ، وهو قول ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى وعكرمة ، وعكرمة من طريق عبيد الله وعاصم الأحول وسعيد الثوري وقتادة ، والضحاك من طريق أبي سنان وعبيد .
... الثاني : الشفع : الخلق ، والوتر ، الله ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وابن جريج وأبي يحيى وجابر ، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد .
... الثالث : الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر , وهو قول عمران بن حصين من طريق قتادة ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر . ... ... ... ... =(1/302)
... 4- قوله تعالى : {والليل إذا يسر} : ويقسم ربنا بالليل إذا ذهب وسار(1) .
... 5- قوله تعالى : {هل في ذلك قسم لذي حجر} : يقول تعالى : هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لصاحب عقل(2) ؟ ، والمعنى : إن هذه الأقسام فيها مكتفي لمن له عقل يتدبر ويتفكر ، فيعل عن ربه وأوامره ونواهيه .
وجواب القسم محذوف ، وتقديره لتجازن بأعمالكم .
__________
(1) ... وقيل غير ذلك ، قال الطبري : "والصواب من القول أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر ، ولم يخصص نوعاً من الشفع ولا من الوتر دون نوع بخبر ولا عقل ، وكل شفع ووتر فهو مما أقسم به مما قال أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا ، لعموم قسمه بذلك " .
( ) ... كذا ورد عن عبد الله بن الزبير من طريق محمد بن المرتفع ن وابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد من طريق أبي يحيى ، وأبي العالية من طريق الربيع بن أنس ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وابن زيد، وقال عكرمة : "ليلة جمع" ؛ يعني : ليلة مزدلفة ، وهذا يحمل على التمثيل بليلة شريفة، وإلا فالخبر عام في كل ليلة ، وليس فيه ما يدل على التخصيص ، ولذا حملها الجمهور على العموم ، والله أعلم .
(2) ... كذا فسر السلف ذلك : ابن عباس من طريق أبي ظبيان والعوفي وعلي بن أبي طلحة وأبي نصير، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى وهلال بن خباب ، والحسن من طريق أبي رجاء ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد .(1/303)
6- 8- قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلد} : ألم تنظر يا محمد صلى الله عليه وسلم بعين قبلك إلى ما فعل الله بقبيلة عاد إرم(1) ذات البيوت التي يقوم بناؤها على الأعمدة ؛ كالخيام أو غيرها(2)
__________
(1) ... ورد ذلك عن قتادة من طريق معمر ، قال : "قبيلة من عاد ، كان يقال لهم إرم : جد عاد" ، وكذا ورد عن ابن إسحاق. وقد ورد عن بعض السلف تفسير إرم بأنها مدينتهم ، فعن محمد بن كعب القرظي : الإسكندرية ، وعن المقبري : دمشق ، وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح تفسير إرم بالقديمة ، وعنه من طريق أبي يحيى : أمة ، وفسرها ابن عباس من طريق العوفي ، والضحاك من طريق عبيد بالهالك .
... قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن إرم إما بلدة كانت عاد تسكنها ، فلذلك ردت على عاد للاتباع لها ، ولم يجر [يعني : ينون} من أجل ذلك ، وأما اسم قبيلة ، فلم يجر أيضا كما لا تجرى أسماء القبائل ، كتميم وبكر ، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة ، وأما اسم عاد فلم يجر ، إذ كان اسماً أعجمياً .
... فأما ما ذكر عن مجاهد أنه قال : القديمة ، فقول لا معنى له ، لأن ذلك لو كان معناه ، لكان مخفوضاً بالتنوين ، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعت ولا صفة . ... ... ... ... =
(2) ... وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي : إنها اسم قبيلة من عاد ، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها وترك إجرائها ، كما يقال : ألم تر ما فعل ربك بتميم نهشل ؟ فيترك إجراء نهشل ، وهي قبيلة ، فترك إجراؤها لذلك ، وهي في موضع خفض بالرد على تميم ، ولو كانت إرم اسم بلد أو اسم جد لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها ، كما يقال : هذا عمرو زبيد ، وحاتم طيء ، وأعش همدان، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى ، كما قال قتادة ، والله أعلم ، فلذلك أجمعت القراء فيهاعلى ترك الإضافة وترك الإجراء " .
( ) ... ورد عن مجاهد من طرق ابن أبي نجيح : "أهل عمود لا يقيمون" ، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، وقال ابن زيد : "عاد قوم هود بنوها وعملوها حين كانوا بالأحقاف" .
... وقال الضحاك من طريق عبيد : "يعني : الشدة والقوة" .
... قال ابن جرير الطبري : "وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل ، قول من قال : عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة ؛ لأن المعروف في كلام العرب من العماد : ما عمل به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء ، ولا يعلم بناء كان لهم بالعباد بخبر صحيح ، بل وجه أهل التأويل قوله : {ذات العماد} إلى أنه عني به طول أجسامهم ، وبعضهم إلى أنه عني به عماد خيامهم، فأما عماد البنيان ، فلا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهة إليه ، وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب من معانيه ما وجد إلى ذلك سبيل دون الأنكر" .(1/304)
؟ ، وفي هذا إشارة إلى ارتفاع بنائهم وقوته ، مما يدل على قوتهم ، ولذا قال : التي لم يخلف في بلاد الله التي حولهم مثلهم في القوة والشدة ؛ كما قال الله فيهم : {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة} [الأعراف : 69] ، وقال : {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} [الشعراء : 130] .
9- قوله تعالى : {وثمود والذين جابوا الصخر بالواد} ؛ أي : وكيف فعل بثمود قوم النبي صالح عليه السلام الذين شقوا الجبال(1) التي في واديهم فنحتوا منهم البيوت ؟ ؛ كما قال الله عنهم : {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً ءامنين} [الحجر : 28] .
10- قوله تعالى : {وفرعون ذي الأوتاد} ؛ أي : وألم ترك كيف فعل ربك بفرعون مصر صاحب الأوتاد ؟ ، وهي أخشاب أو حديد يثبتها في الأرض ، كان يعذب بها الناس ، أو هي الملاعب التي صنعت له منها(2)
__________
(1) ... ورد عن السلف اختلاف عبارة في تفسير هذه اللفظة ، فعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : "خرقوها" ، ومن طريق العوفي : "ينحتون من الجبال" ، وكذا ورد عن قتادة من طريق سعيد ، وورد عنه من طريق معمر : "نقبوا الصخر" ، وعن الضحاك من طريق عبيد : "قدوا الصخر" ، وهذه العبارات ترجع إلى معنى واحد ، فهي عبارات متقاربة المعنى لبيان معنى الجوب ، وورد عن ابن زيد تفسيره : ضربوا البيوت والمساكن في الصخر في الجبال ، حتى جعلوها مساكن" ، وهذا ليس تفسيراً مطابقاً لمعنى الجوب ، وإنما هو تفسير على المعنى ، والله أعلم .
(2) ... اختلف السلف في تفسير الأوتاد على أقوال :
... الأول : الجنود ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي .
... الثاني : الحبال التي كان يوتد بها الناس فيعذبهم ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وأب يرافع، وسعيد بن جبير من طريق محمود ، وعنه عن طريق رجل مجهول : "منارات يعذبهم عليها" .
... الثالث : مظال وملاعب يلعب تحتها ، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد .
... قال الطبري : " وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : عني بذلك : الأوتاد التي توتد من خشب كانت أو حديد ؛ لأن ذلك المعروف من معاني الأوتاد ، ووصف بذلك لأنه : إما أن يكون كان يعذب الناس بها ، كما قال أبو رافع وسعيد بن جبير ، وإما أن يكون كان يلعب بها " .
... ويظهر أن مرجع الخلاف الاحتمال اللغوي في لفظ الأوتاد ، فهو يطلق على هذه المذكورة ، غير أن أشهر إطلاقاتها ما رجحه الطبري ، والله أعلم .(1/305)
.
11-14- قوله تعالى : {الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد} ؛ أي : عاد وثمود وفرعون الذين تجاوزوا ما أباح الله، وكفروا به في البلاد التي كانوا يسكنونها . فأكثروا في هذه البلاد المعمورة المعاصي وركوب ما حرم الله . فأنزل الله عليهم عذابه ونقمته . والله يرقب أعمال هؤلاء الكافرين الذين أنزل بهم عقوبته ، وهو بالمرصاد لكل الكافرين فلا يفلت منهم أحد .
15-16- قوله تعالى : {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن* وأما إذا ما ابتلاه فقد عليه رزقه فيقول ربي أهنن} : لما ذكر الله أنه واقع العذاب بهذه الأمم الكافرة التي كانت في منعة وقوة ، نبه على اعتقاد خاطئ عند الناس ، وهو أن التوسعة على العبد في الرزق دليل على تكريم الله له ، وأن التضييق عليه في الرزق دليل على غضب الله عليه ، وهذا المفهوم مما يقع فيه الإنسان الكافر(1) الذي إذا امتحنه ربه المنعم عليه ، فأنعم عليه بالمال، ووسع عليه ، فرح وجعل هذا دليلاً على رضا الله عنه ، ومحبته له ، وأما ما امتحنه فضيق عليه في الإنعام ، وجعله فقيراً ، فإنه يجعل ذلك دليلاً على إذلال الله له ، وعدم محبته له .
__________
(1) ... هذا بالنظر إلى أن لفظ الإنسان في القرآن المكي للكافر ، ولكن يدخل معه من ضعف إيمانه من المسلمين ، واعتقد هذا المعتقد ، وكذا كل وصف تصف به الكافر ، فإن من تشبه من المسلمين فإنه يدخل في خطابه، قال ابن عطية: "ومن حيث كان هذا غالباً على الكفار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس ، إذا يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع" . والله أعلم .(1/306)
17-20- قوله تعالى {كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما} ؛ أي : ليس الأمر كما يعتقد هذا الكافر في دليل إكرام الله وإهانته(1) ، ولكنكم لا تنفعون من مات عنه أبوه وهو دون سن البلوغ ، فتنعمون عليه بإعطائه مما أعطاكم الله ، ولا يحث بعضكم بعضاً على إعطاء الطعام لمن أصابته الفاقة والمسكنة ، وأنتم تأخذون ما يرثه مع ما ترثونه أخذاً بالباطل، فتأكلونه جميعاً(2)
__________
(1) ... قال قتادة : "ما أسرع ما كفر ابن آدم ، يقول الله جعل ثناؤه : كلا أنا لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا ، ولا أهين من أهنت بقلتها ، ولكن إنما أكرم من أكرمت بطاعتي ، وأهلين من أهنت بمعصيتي". وقد ذكر الطبري قولاً آخر ، ثم قال : "وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرنا عن قتادة لدلالة قوله : {بل لا تكرمون اليتيم} والآيات التي بعدها على أنه إنما أهان من أهان بأنه لا يكرم اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، وفي إبانته عن السبب الذي من أجله أهان من أهان الدلالة الواضحة على سبب تكريمه من أكرم ، وفي تنبيه ذلك عقيب قوله : {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } بيان واضح عن الذي أنكر من قوله ما وصفنا " .
(2) ... التراث : الميراث ، قاله الحسن من طريق أشعث ، وقتادة من طريق سعيد . وفي معنى الأكل اللم عبارات عن السلف : فعن ابن عباس من طريق العوفي ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طريق عبيد : "تأكلون أكلاً شديداً} .
... وعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة : "يقول : سفا" .
... وعن الحسن من طريق يونس : "نصيبه ونصيب صاحبه" .
... وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "اللم ، السف ، لف كل شيء" .
... وقال ابن زيد : "الأكل اللم : الذي يأكل كل شيء يجده ولا يسأل ، فأكل الذي له والذي لصاحبه، كانوا لا يرثون النساء ، ولا يرثون الصغار ، وقرأ : {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان} ؛ [النساء : 127] أي : لا تورثونهن أيضاً {أكلا لما} : يأكل ميراثه وكل شيء ، لا يسأل عنه ، ولا يدري أحلال أم حرام ؟ " .
... وهذا تفسير جامع لمعنى هذه الآية ، وعبر بكر المزني عن ذلك بأحضر من هذا فقال : "اللم : الاعتداء في الميراث ، يأكل ميراثه وميراث غيره" . والله أعلم .(1/307)
، وتحرصون على جمع المال وتحبونه حباً كثيراً شديداً .
21-23- قوله تعالى {كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا* وجاىء يومئذ بجنهم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} : ليس الأمر كما تتعاملون به في هذه الأعمال المذكورة ، ثم أخبر عن أسفهم على هذه الأعمال القبيحة إذا دكت الأرض دكا دكا وما بعدها من الأهوال ، فإنه يتذكرون حين لا ينفعهم التذكر ، فقال : {إذا دكت الأرض دكا دكا} ؛ أي : حطمت الأرض وضب بعضها ببعض ، وجاء الرب سبحانه مجيئاً يليق بجلاله وعظمته ، وملائكته في هذا الحال يقفون صفوفاً تعظيماً له ، وجاءت ملائكة العذاب يوم أن دكت الأرض وجاء الرب ، جاءوا بجهنم يجرونها لها سبعون ألف زمام ، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، فعند ذلك يتعظ الإنسان ويتنبه إلى ما كان عليه من الضلال ، ولكن لا ينفعه هذا التذكر والاتعاظ ؛ فكيف تنفعه الذكرى وهي ليست في وقتها ؟ .
24- قوله تعالى : {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} ؛ أي : لما عاين هذا الإنسان المفرط هذه الأمور ، يقول متمنياً : يا ليتني قدمت عملا صالحاً لحياتي الآخرة الباقية التي لا موت بعدها.
25-26- قوله تعالى : {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد} ؛ أي : ففي هذا اليوم لا أحد يعذب في الدنيا كعذاب الله للكافر ، ولا أحد يقيد بالرباط في الدنيا كتقييد الله للكافر(1) ، وهذا لشدة عذابهم .
__________
(1) ... قال الحسن من طريق معمر : "قد علم الله أن في الدنيا عذاباً ووثاقاً ، فقال : فيومئذ لا يعذب عذابه أحد في الدنيا ، ولا يوثق وثاقه أحد في الدنيا" .
... وقد قرئ بفتح الذال والثاء من "يعذب" و "يوثق" ، والمعنى : فيومئذ لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الكافر ، ولا يوثق أحد في الدنيا كوثاق الكافر . والله أعلم .(1/308)
27- 30- قوله تعالى : {يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية * فأدخلي في عبادي * وادخلي جنتي} ؛ أي : تنادى هذه النفوس التي هدأت وسكنت إلى وعد الله لها(1) : ............................................................................... ارجعي إلى خالقك(2)
__________
(1) ... ورد عن السلف تعابير عن معنى النفس المطئنة ، ومنها : قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: "المصدقة" ، وعن قتادة من طريق سعيد : "هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله ، وعنه وعن الحسن من طريق معمر : "المطمئنة إلى ما قال الله ، والمصدقة بما قال" ، وعن مجاهد من طريق منصور : "النفس التي أيقنت أن الله ربها ، وضربت جأشاً لأمره وطاعته" ، وعنه من طريق ابن أبي نجيح : "المختبة والمطمئنة إلى الله" . وهذه أوصاف تصدق على النفس المطمئنة . ... ... =
(2) ... وقد ورد عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، وزيد بن أسلم من طريق ابنه أسامة : أنها قال للؤمن عند خروج روحه ، ويشهد لهذا ما ورد في حديث البراء بن عازب في خروج روح المؤمن أنه يقال له : أخرجي راضية مرضياً عنك . والله أعلم .
( ) ... ورد عن ابن عباس من طريق العوفي ، والضحاك من طريق عبيد ، وعكرمة من طريق سليمان بن المعتمر : أن الرب هنا صاحب النفس ، والمعنى : ارجعي إلى جسد صاحبك . قال ابن كثير : "واختاره ابن جرير ، وهو غريب ، والظاهر الأول ؛ لقوله : {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} [الانعام:62] ، {وأن مردنا إلى الله} [غافر : 43] ؛ أي : إلى حكمه والوقوف بين يديه " .(1/309)
راضية بما قسم الله لك ، مرضيا عنك من الله ، فادخلي في عبادي الصالحين(1) ؛ كقوله تعالى : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} [العنكبوت : 9] وادخلي في جنتي التي وعدتك بها في الآخرة ، والله أعلم .
سورة البلد
آياتها : 20
سورة البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان في كبد * أيحسب أن لن يقدر عليه أحد * يقول أهلكت مالا لبدا * أيحسب أن لم يره أحد * ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا أقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * و إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذات مقربة * أو مسكيناً ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصلوا بالصبر وتواصلوا بالمرحمة * أولاءك أصحاب الميمنة * والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة * عليهم نار مؤصدة .
سورة البلد
... 1- قوله تعالى : {لا أقسم بهذا البلد} : يقسم ربنا بمكة(2) .
__________
(1) ... ورد ذلك عن قتادة من طريق سعيد ، وفسرها محمد بن مزاحم : "في طاعتي" ، وهذا تفسير غريب، وورد عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "في عبدي" ، قال الكلبي : "الروح ترجع إلى الجسد" . قال الطبري : " والصواب من القراء في ذلك : {فادخلي في عادي} بمعنى: فادخلي في عبادي الصالحين ؛ لإجماع الحجة من القراءة عليه " .
(2) ... سبق تفسير تركيب هذا القسم " لا أقسم" عند قوله تعالى : {فلا أقسم بالخنس} من سورة التكوير.(1/310)
2- قوله تعالى : {وأنت حل بهذا البلد} ؛ أي : وأنت بمكة حلال لك أن تصنع فيها ما تشاء مما هو حرام في غي هذا الوقت الذي أحل لك ، فلا إثم عليك ولا حرج(1) .
3- قوله تعالى : {ووالد وما ولد} : ويقسم ربنا بكل والد وولده(2)
__________
(1) ... كذا ورد عن السلف في تفسير هذه الآية مع اختلافهم في التعبير عن هذا المعنى ، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد ، وعطاء من طريق عبد الملك ، والضحاك من طريق عبيد . وزاد ابن كثير ذكر الرواية عن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطية ، وأبي صالح ، والسدي ، والحسن البصري . ولم يذكر ابن جرير عنهم غير هذا المعنى ، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم : "وإنما احلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" .
... وبهذا تكون هذه الآية من دلائل النبوة وبشارات الله لنبيه لصلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه؛ لأن هذه السورة مكية ، ولم يتحقق هذا الخبر إلا بعد مهاجرة وغزوه مكة .
... وقد ورد في تفسير "حل" معنيان آخران :
... الأول : وأنت حال – أي : مقيم – في مكة ، وهذا فيه تشريف لمكة حال كون الرسول صلى الله عليه وسلم مقيماً فيها وساكناً .
... الثاني وأنت حلال الدم في مكة ، حيث كان المشركون يريدون قتله ، والقول الأول عليه السلف، وهو المقدم لأجل ذلك ، والله أعلم .
(2) ... ورد في تفسير هذه الآية معنيان :
... الأول :أن القسم بكل من يلد ، وبكل عاقر لا يلد ، وهذا قول ابن عباس من طريق عكرمة ، وعكرمة من طريق النضر بن عربي .
... الثاني : يقسم بالوالد يلد ، وبولده ، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوي ، وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والضحاك من طريق عبيد ، وسفيان الثوري من طريق مهران ، كلهم فسر أنه آدم وولده ، كأنه لما ذكر المسكن أشار إلى الساكن .
... وورد عن أب عمران الجوني أنه إبراهيم وولده ؛ كأنه أشار إلى باني البيت وذريته ، وهذان التفسيران جاءا على سبيل المثال لوالد وولده ، ولذا قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا : إن الله أقسم بكل والد وولده ؛ لأن الله عم كل والد وما ولد . ... ... ... =(1/311)
.
4- قوله تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في كبد} : هذا جواب القسم ، والمعنى : أن الله أوجد الإنسان وأخرجه وهو يكابد أحوال الدنيا ومشقاتها ومصاعبها ، فهو يخرج من تعب فيها إلى تعب ، كما قال تعالى : {لتركبن طبقا على طبق} [الانشقاق : 19] على أحد التفسيرات فيها(1)
__________
(1) ... وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل ، ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه ، فهو على عمومه كما عمه " .
... ولم يضعف الطبري قول من فسر" ولم يلد" بالعاقر ، ويظهر أن سبب هذا الخلاف : أن هذا التركيب مشترك بين النفي والإثبات ؛ أي أن "ما" يحتمل أن تكون نافية ، فيكون المعنى على العاقر، ويحتمل أن تكون مثبتة ، فيكون المعنى على المولود ، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، والله أعلم .
( ) ... ورد في تفسر الكبد أقوال :
... الأول : لقد خلقنا الإنسان في شدة ونصب وعناء ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، والحسن من طريق منصور بن زاذان ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وسعيد أخو الحسن البصري ، وعكرمة من طريق النضر، وسعيد بن جبر من طريق عطاء ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح.
... الثاني : خلقناه منصباً معتدل القامة ، وهذا قول ابن عباس من طريق العوفي ، وعكرمة من طريق عمارة، وإبراهيم النخعي من طريق منصور ، وعبد الله بن شداد وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، والضحاك من طريق عبيد .
... الثالث : الكبد : السماء ، والمعنى ، لقد خلقنا آدم في السماء ، وهو قول ابن زيد .
... قال الطبي : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك أنه خلق يكابد الأمور ويعالجها، فقوله : {في كبد} معناه : في شدة ، وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ؛ لأن ذلك المعروف في كلام العرب من معاني : في شدة ، وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ؛ لأن ذلك المعروف في كلام العرب من معاني الكبد ، ومنه قول لبيد بن ربيعة :
... عين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد "
... ويظهر أن سبب هذا الاختلاف أن لفظ "كبد" مشترك لغوي بين هذه المعاني ، فذكر كل واحد منهم أحد هذه المعاني التي يراها مناسبة لتفسير الكبد في الآية ، مع ملاحظة أن ما ورد عن ابن زيد لم يرد في كتب اللغة ، والوارد إضافة الكبد إلى السماء ؛ فيقال : كبد السماء ، أي : وسطها ، أما تفسير الكبد بالسماء، فهل يحكي لغة في الكبد ؟!
... وما رجحه ابن جرير الطبري هو المعنى المشهور من اللفظة ، وهو المناسب لمعنى الآية ، ويكون الكبد بالنسبة للإنسان على نوعين : ... ... ... ... ... ... ... =(1/312)
.
5- قوله تعالى : {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} ؛ أي : أيظن هذا الإنسان الكافر المخلوق في كبد أنه لا أحد يقهره ويغلبه ؟!
6- قوله تعالى : {يقول أهلكت مالا لبدا} ؛ أي : يقول هذا الكافر المغتر بقوته : أنفقت مالاً متراكماً بعضه على بعض من كثرته ، وهو إنما أهلكه في الباطل ، فيفتخر بذلك .
7- قوله تعالى : {أيحسب أن لم يره أحد} ؛ أي : أيظن هذا الكافر أن الله لم يطلع عليه، وهو ينفق ماله في الباطل ؟!
8-10- قوله تعالى : {ألم نجعل له عينين * ولسان وشفتين * وهديناه النجدين} : يقول الله : ألم نجعل لهذا الإنسان عينين يبصر بهما ، ولساناً وشفتين ينطق بهما ويعبر عما يريد ، وأرشدناه وبينا له طريق الخير والشر ؟ ، كما قال تعالى : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلته سمعياً بصيراً} [الإنسان : 2] (1)
__________
(1) ... الأول : كبد عام يشترك فيه كل الناس ، وهو مكابدة أمور الدنيا ، وهو ما أشار إليه السلف .
... الثاني : كبد خاص بالكافر ، وذلك بسبب كفره وإعراضه عن الله ، وكثرة ما يعبده من الآلهة ، قال الطاهر بن عاشور ، وهو معنى قوي متجه في الآية ، يدل عليه قول الله : {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا} [طه : 124] والله أعلم .
( ) ... كذا فسر جمهور السلف هذه الآية ، ورد ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق زر وأبي وائل، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وعكرمة من طريق سماك ، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، وقرأ : {وهديناه النجدين} ، ورواه الحسن وقتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .
... وورد تفسير آخر ، وهو هديناه إلى الثديين : سبيلي اللبن الذي يتغذى به ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عيسى بن عقال عن أبيه ، والضحاك من طريق جويبر ، وقال الربيع بن خثيم : "أما إنهما ليسا بالثديين" ، فرد هذا القول ، مع أن له وجه في النظر ؛ لأنه يناسب المنة بجعل العينين واللسان والشفتين للإنسان ، ويكون المعنى : أنه هداه لرضاعة لبن أمه ، وهو لا يدرك ، ولا شك أن من هداه لهذا الامر الذي به حياته ، فإنه سيبين له طريق ا لخير والشر كما قاله الآخرون .
... وقولهم في تفسير النجدين أولى كما قال الطبري : "وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال : عنى بذلك طريق الخير والشر ، وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير هذين القولين اللذين ذكرنا ، والثديان ، وإن كانا سبيلي اللبن ، فإن الله تعالى ذكره إذ عدد على العبد نعمة بقوله : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلته سمعياً بصيراً} [الإنسان : 2] ، إنما عدد عليه هدايته إياه إلى سبيل الخير من نعمه ، فكذلك قوله : {وهديناه النجدين} .(1/313)
.
11-12- قوله تعالى : {فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة} ؛ أي : أفلا دخل في هذا الطريق الصعب ؟ ، وما أعلمك عن هذا الطريق ؟ ، إنه القيام بهذه الأعمال الصالحة المذكورة بعد هذه الآية ، وهذه الجملة متصلة بقوله تعالى : {وهديناه النجدين} ، والمعنى : هديناه إلى الطريقين ، فلم يسلك طريق الخير بالدخول في هذه الأعمال الصالحة الشاقة على النفس من فك الرقبة ، وما بعدها .
13-16- قوله تعالى : {فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة} : هذا بيان للعقبة التي تقتحم ، وهي هذه الأعمال الصالحة الشاقة على النفس(1)، وهي : عتق المسلم من الرق ، وتقديم الطعام للقريب الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ ، وللمحتاج الذي لصق بالأرض من شدة الفاقة(2) ، تقديمه في اليوم شديد المجاعة(3)
__________
(1) ... ورد في هذه الآية قراءتان :
... الأولى : بإضافة الفك إلى الرقبة ، كما هي في المتن .
... والثانية : "فك رقبة" على الفعل ، وتكون بدلاً من جملة : {فلا اقتحم العقبة } . انظر توجيههما في تفسير الطبري ، والتحرير والتنوير .
(2) ... ورد عن ابن عمر من طريق عطية ، والحسن من طريق أبي رجاء وقتادة من طريق معمر أن العقبة في جهنم ، وقال بعضهم : "جبل في جهنم" ، ويكون على هذا : لم يقتحم هذا الجبل الذي في النار ؛ لأنه لم يقدم هذه الأعمال الصالحة المذكورة ، التي من عملها جاز هذه العقبة ، والله أعلم .
(3) ... وردت عدة عبارات عن السلف في تفسير المتربة ، وكلها محتملة ، وهي :
الذي لصق بالتراب من شدة الفقر ، وهو قول ابن عباس من طريق مجاهد وسعيد بن جبير، ومجاهد من طريق الحصين وابن أبي نجيح ، وعكرمة من طريق جعفر بن برقان ومعمر .
شديد الحاجة ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وعكرمة من طرق حصين، وابن زيد .
ذو العيال الذي لا شيء معه ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وسعيد بن جبير من طريق جعفر بن أبي المغيرة ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طريق عبيد .
قال الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال : عنى ب ، أو مسكيناً قد لصق بالتراب من الفقر والحاجة ؛ لأن ذلك هو الظاهر من معانيه ، وأن قوله (متربة) إنما هي مفعلة من ترب الرجل : إذا أصابه التراب" . وهذا الترجيح ينتظم فيه كل الأقوال المذكورة ، وما ليس منها=(1/314)
لهؤلاء المحتاجين .
17-18- قوله تعالى : {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحة * أولاءك أصحاب الميمنة} : أي : ثم كان هذا المقتحم قبل أن يقتحم العقبة من المؤمنين الذين آمنوا بالله ، وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الطاعات وأقدار الله ، والصبر عن المعاصي ، وأوصى بعضهم بعضاً بالتراحم فيما بينهم (1) ، فمن تحققت فيه هذه الأوصاف فهم أصحاب اليمين : أهل الجنة .
19-20- قوله تعالى : {والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة * عليهم نار موصده} ؛ أي : والذين كفروا بأدلتنا من الكتب والرسل هم أصحاب الشؤم وأهل الشمال، وهم أهل النار التي هي مطبقة عليهم يوم القيامة(2) .
سورة الشمس
آياتها : 15
سورة الشمس
بسم الله الرحمن الرحيم
والشمس وضحها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها * وقد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها * كذبت ثمود بطغواها * إذا أنبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها .
سورة الشمس
__________
(1) ... مطابقاً للمعنى الذي اختاره ، فإنه مقارب له في المعنى ، ومن ثم فإن هذا الاختلاف يرجع إلى معنى واحد . والله أعلم .
( ) ... ورد عن ابن عباس من طريق عكرمة ، قال : "مزحمة الناس" .
(2) ... عبر السلف عن معنى مؤصدة : "مطبقة" ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وقتادة من طريق سعيد ، وقال الضحاك من طريق عبيد : "مغلقة عليهم" ، وهذا اختلاف في اللفظ ، والمعنى واحد ، فهو من باب التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة ، والله أعلم .(1/315)
... 1- قوله تعالى : {والشمس وضحاها} : يقسم ربنا بالشمس وبضوئها الذي يكون أول النهار(1) .
... 2- قوله تعالى : {والقمر إذا تلاها} : ويقسم ربنا بالقمر إذا تبع الشمس بخروجه(2).
... 3- قوله تعالى : {والنهار إذا جلاها} : ويقسم ربنا بالنهار إذا أظهر الشمس وضوءها(3)
__________
(1) ... ورد عن قتادة من طريق سعيد تفسير "ضحاها" بأنه النهار ، وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : بضوئها . قال ابن جرير : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : أقسم جل ثناؤه بالشمس ونهارها، لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار" . فجعل ابن جرير الطبري معنى الضحى في اللغة النهار كله، وكذا فسره في قول تعالى : {والضحى} [الضحى : 1] ، ,كذا فسر الفراء في معاني القرآن ، والمعروف من الضحى في اللغة أنه أول النهار ، ومنه صلاة الضحى ، وهي تكون بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى قبيل الزوال ، وهذا – فيما يظهر – هو المقسم به ؛ لأن القسم بالنهار سيجيء بعدها بآية ، ومن ثم يكون تفسير قتادة وغيره بأنه النهار أعم من تفسير اللفظ في عرف اللغة ، أو يكون معنى آخر للضحى ، ومن ثم يكون الخلاف بسبب الاشتراك اللغوي في هذه اللفظة ، والله أعلم .
(2) ... فسر السف معنى تلاها بتبعها ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد من طريق قيس بن سعد وابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وذكر أن ذلك يكون صبيحة للهال ، وابن زيد ، وذكر أنه يتلوها في النصف الأول نم الشهر ، وهو يكون أمامه في النصف الآخر .
(3) ... فسر قتادة من طريق سعيد : "إذا غشيها" ، وهذا تفسير على المعنى ؛ لأن معنى التجلية : الإظهار والإبراز ، فإذا ظهر النهار وبرز ضوؤه ، فكأنه غشيها ، والله أعلم .
... وقد ذكر الطبري عن الفراء وجهاً آخر في التفسير فقال : "وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك بمعنى: والنهار إذا جلا الظلمة ، ويجعل الهاء والألف من جلاها كناية عن الظلمة، ويقول : إنما جاز الكتابة عنها ، ولم يجر لها ذكر قبل ، لأن معناها معروف ، كما يعرف قول من قال : أصبحت باردة ، وأمست باردة ، وهبت شمالاً ، فكنى من مؤنثات لم يجر لها ذكر إذ كن معروفاً معناهن .
... والصواب عندنا في ذلك ما قاله أهل العلم الذين حكينا قولهم ؛ لأنهم أعلم بذلك ، وإن كان للذي قاله ، من ذكرنا قوله من أهل العربية ، وجه " .
... يلاحظ في هذا المثال أن الطبري لم يذكر في معنى الآية غير قول قتادة ، فاعتمد فهمه في الآية ، وهو كذلك يفعل في اعتماد قول الواحد من مفسري السلف إن لم يجد غير قوله ، ولم يقبل ذلك اللغوي – وهو الفراء (انظر : معاني القرآن : 3/266) – لأنه مخالف في المعنى لما ذكره عن قتادة الذي وصفه بأنه أعلم بذلك من الفراء ، وهذه قاعدته رحمه الله في أقوال اللغويين في تخالف ما ورد عن السلف، =(1/316)
.
... 4- قوله تعالى : {والليل إذا يغشها} : ويقسم ربنا بالليل إذا يغطي الشمس حتى تغيب، فتظلم الآفاق(1) .
__________
(1) ... فإنه يريدها ولا يقبلها ، وقد أشار قاعدته هذه في أول تفسيره (1/41) فقال في بيان وجوه تأويل القرآن :
... "والثالث منها : ما كان عمله عند أهل اللسان ، الذي نزل به القرن ، وذلك تأويل عربيته وإعرابه، ولا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم ، فإذا كان ذلك كذلك ، فأحق المفسرين بإصابة الحق في تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته ، من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ، إما من وجه النقل المستفيض ، أو من وجه الدلالة المنصوبة على صحته ، وأوضحهم برهاناً فيما ترجم وبين من ذلك مما كان مدركاً علمه من جهة اللسان ، إما بالشواهد من أشعارهم السائرة ، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة ، كائناً من كان ذلك المتأول والمفسر ، بعد أن لا يكون خارجاً تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك عن قوال السلف من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة " .
( ) ... أورد الطبري الرواية عن قتادة من طريق سعيد ، قال : "إذا غشاها الليل " .(1/317)
... 5- قوله تعالى : {والسماء وما بناها} : ويقسم ربنا بالسماء وبمن بناها ، أو وببنائها(1).
... 6- قوله تعالى : {والأرض وما طحاها} : ويقسم ربنا بالأرض وبمن بسطها أو ببسطها(2).
... 7- قوله تعالى : {ونفس وما سواها} : ويقسم ربنا بنفس الإنسان التي خلقها ، وبمن خلقها سوية ، معتدلة غر متفاوتة ، أو بتسويتها .
__________
(1) ... ورد عن قتادة من طريق سعيد : "وبناؤها : خلقها" ، وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : قال: "الله بنى السماء" ، وعلى هذا فإن "ما" يُحتمل أن تكون مصدرية ، وعليه تفسير قتادة ، أو تكون موصولة ، وعليه تفسير مجاهد ، قال الطبري : "وقيل : {وما بناها} هو جل ثناؤه بانيها ، فوضع "ما" موضع "من" ، كما قال : {ووالد وما ولد} [البلد : 2] فوضع "ما" موضع "من" ، ومعناها : ومن ولد ؛ لأنه قسم أقسم بآدم وولده (أي : على من قال بهذا ، وإلا فالإمام اختار العموم في هذه الآية) [النساء : 3] ، وإنما هو : فانكحوا من طاب لكم . وجائز توجيه ذلك إلى معنى المصدر ؛ كأنه قال : والسماء وبنائها ، ووالد وولادته" . والكلام في "ما" في الآيات اللاحقة نظير الكلام عليها هنا ، والله أعلم .
(2) ... طحاها : بسطها ، هذا هو المشهور ، وقد ورد عن مجاهد وابن زيد ، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبي صالح وابن زيد ، ثم قال : "وهذا أشهر الأقوال ، وعليه أكثر المفسرين ، وهو المعروف عند أهل اللغة ، قال الجوهري : "طحوته ، مثل : دحوته ؛ أي : بسطته" .
... وقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: "ما خلق فيها"،ومن طريق ابن أبي طلحة:"قسمها" ، ورواية العوفي أعم من المعنى المعروف في اللغة ، وليست أدري مراده في رواية ابن أبي طلحة . والله أعلم .(1/318)
... 8- قوله تعالى : {فألهمها فجورها وتقواها} ؛ أي : خلق النفس مستوية ، فألقى فيها علماً من غير تعليم ، ألقى فيها ما ينبغي لها أن تأتي من خير وتدع من شر(1) .
... 9-10- قوله تعالى : {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} : هذا جواب الأقسام الماضية(2) ، والمعنى : قد نال الظفر والفوز من طهر نفسه من المعاصي ، وأصلحها بالأعمال الصالحة(3)
__________
(1) ... الإلهام يطلق إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير ، فهو علم يحصل من غير دليل ، قال الراغب : الإلهام : إيقاع الشيء في الروع ، ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى الملأ الأعلى اهـ .
... ولذلك ، فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن ، فهو مما أحياه القرآن ؛ لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية ، وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة قبل الإسلام ، لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب . (انظر : التحرير والتنوير ، بتصرف) .
... وقد عبر السلف عن معاني الإلهام بمعان متقاربة ، وهي : بين ، وأعلم ، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد ، وسفيان الثوري من طريق مهران .
... وفسر ابن زيد ذلك بقوله : "جعل فيها فجورها وتقواها" ، هذا تفسير معنى ؛ لأنه لما كان أعلمها، فقد جعله فيها .
... وفسر الفجور والتقوى بالخير والشر ، أو المعصية والطاعة ، وهما سواء ، والله أعلم .
(2) ... قال قتادة من طريق سعيد : "وقد وقع القسم هاهنا (قد أفلح من زكاها} " .
(3) ... ورد ذلك التفسير عن : مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة من طريق خصيف ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، ويشهد لهذا التفسير أن طريقة القرآن تعليق الفلاح على فعل العبد واختياره ، وهذا نظير قوله تعالى : {قد أفلح من تزكى} [الأعلى : 14] .
... وورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وعن ابن زيد : "قد أفلح من زكى الله نفسه" ، ويشهد لهذا التفسير ما روى عن النبي صلى الله علهي وسلم ، قال : "اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها" . وسبب الاختلاف مفسر الضمير ، فهو يحتمل أن يعود على العبد ، وعلى الرب سبحانه ، وهو من قبيل المتواطئ ، والخلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرع إلى أكثر من قول ، وبين هذين القولين تلازم من جهة ، وذلك أن من زكى الله ، ومن زكاه الله، فقد زكت نفسه ، ,الله أعلم .(1/319)
، وقد حسر وفاته الفوز من دس نفسه فأخفاها وأخملها بفعل المعاصي ،
وترك الطاعات(1) .
... 11- قوله تعالى : {كذبت ثمود بطغواها} هذا مثال لقوم خابوا بتدسيتهم أنفسهم ، وهو ثمود قوم صالح عليه السلام ، الذين بان لهم الحق وظهور كظهور الشمس المقسم بها في أول السورة ، والمعنى : كذبت ثمود نبيه صالحاً عليه السلام بسبب تجاوزها الحد فيما أحل الله ، وارتكابها ما حرم الله(2) .
... 12- قوله تعالى : {إذا انبعث أشقاها} ؛ أي : الوقت الذي ظهر فيه شدة طغيان ثمود هو وقت انتداب أشقى ثمود لقتل الناقة ، وأشقاها هو قدار بن سالف(3) .
... 13- قوله تعالى : {فقال لهم رسول الله ناقة اله وسقياها} ؛ أي : فقال لهم نبيهم صالح عليه السلام : احذروا ناقة الله ، اخذروا سقيا الناقة الذي اتفقت معكم على أن يكون لها يوم تشرب فيه من الماء ، ولكم شرب يوم آخر ، احذروا أن تعدوا عليهما(4) .
__________
(1) ... ورد في مفسر الضمير الخلاف السابق في قوله تعالى : {قد أفلح من زكاها} .
(2) ... ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد وابن زي ، واختاره ابن كثير .
... وورد عن ابن عباس من طريق عطاء الخرساني ، قال : "اسم العذاب الذي جاءه الطغوى ، فقال : كذبت ثمود بعذابها" ، ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى : {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} [الحاق :5]، وبه فسر الطبري ، وورد عن محمد بن كعب القرظي من طريق محمد بن رفاعي القرظي ، قال : "بأجمعها" . ولا أدري ما وجه هذا التفسير ! والله أعلم .
(3) ... قال صلى الله عليه وسلم : "انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه ، مثل أبي ذمعة" . أخرجه البخاري في تفسير سورة الشمس من كتاب التفسير في صحيحه .
(4) ... قال قتادة من طريق سعيد في تفسير سقياها : "قسم الله الذي قسم لها من هذا الماء" .(1/320)
... 14-15- قوله تعالى : {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها} ؛ أي : فكذبت ثمود صالحاً عليه السلام في أمر الناقة ، ولم يصدقوه ، ولم يأخذوا بتحذيره ، فقتل أشقاها الناقة ، ورضوا بذلك فكانوا مشاركين له في القتل(1) ، فأطبق الله عليهم عذابه ، وهو الصيحة والرجفة التي أهلكوا بها ، وذلك بسبب ما فعلوه من تكذيب صالح عليه السلام وعقر الناقة ، فجعل هذه الدمدمة نازلة عليهم على السواء ، فلم يفلت منهم أحد(2)
__________
(1) ... قال الطبري : "وقوله : {فكذبوه فعقروها} يقول : فكذبوا صالحاً في خبره الذي أخبرهم به من أن الله الذي جعل شرب الناقة يوماً ، ولهم شرب يوم معلوم ، وأن الله يحل بهم نقمته إن هم عقروها، كما وصفهم – جل ثناؤه – فقال : {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة : 4] .
... وقد يحتمل أن يكون التكذيب بالعقر ، وإذا كان ذلك كذلك ، جاز تقديم التكذيب قبل العقر، والعقر قبل التكذيب ، وذلك أن كل فعل وقع عن سبب حسن ابتداؤه قبل السبب وبعده ؛ كقول القائل : أعطيت فأحسنت ، وأحسنت فأعطيت ، لأن الإعطاء هو الإحسان ، ومن الإحسان الإعطاء، وكذلك لو كان العقر هو سبب التكذيب ، جاز تقديم أي ذلك شاء المتكلم ... وقد كان=
(2) ... القوم قبل قتلها مسلمين لها بشرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر ، قيل : وجاء في الخبر أنهم بعد تسليمهم ذلك ، أجمعوا على منعها الشرب ، ورضوا بقلتها ، وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها ، وعقرها من عقرها ، ولذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم ، فقال جل ثناؤه ، {فكذبوه فعقروها} " .
( ) ... قال قتادة من طريق سعيد : "ذكر لنا أن أحيمر ثمود أبي أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها ، دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها".(1/321)
. ولا يخاف الله عاقبة تعذيبه لهؤلاء من أن يسأله أحد عن فعله ، فهو الفعال لما يريد ن لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون(1) ، والله أعلم .
سورة الليل
آياتها : 21
سورة الليل
بسم الله الرحمن الرحيم
والليل إذا يغشى * وانهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى * فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى * إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى * فأنذرتكم نار تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى.
سورة الليل
... 1-2- قوله تعالى : {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى} : يقسم ربنا بالليل إذا غطى النهار بظلامه ، وبالنهار إذا هو أضاء فأنار الأرض ، وظهر للأبصار .
__________
(1) ... ورد في التفسير عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، والحسن من طريق عمر بن مرثد وعمر بن منبه وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وبكر بن عبد الله المزني.
... وورد عن الضحاك من طريق أبي روق ، والسدي من طريق سفيان : "لم يخف الذي عقرها عقباها ؛ أي : عقبى فعلته ، وهذا الاختلاف يرجع إلى معنيين صحيحين محتملين ، وسببه الاختلاف في مفسر الضمير ، واحتماله للمرجعين على سبيل التواطؤ ، وإن كان الأول أولى لأنه قول الأكثر ، ولقراءة عامة قراء الحجاز والشام : {ولا يخاف عقباها} ،والفاء تدل على تفريع ما بعدها عن ما قبلها ، وما قبلها حكاية عن فعل الله بهم ، فتكون هذه الجملة متفرعة عنها في حكاية انتفاء خوف الله منهم ، مع ما لهم من القوة ، وفي هذا تهديد للأقوام الآخرين بقوة الله وأنه الفعال لما يريد ، والله أعلم .(1/322)
... 3- قوله تعالى : {وما خلق الذكر والأنثى} : ويقسم ربنا بمن خلق الذكر والأنثى ، أو يخلق الذكر والأنثى(1) .
... 4- قوله تعالى : {إن سعيكم لشتى} : هذا جواب الأقسام الماضية(2) ، والمعنى : إن عملكم الذي تعملونه لمختلف ، فمنكم من يعمل بالطاعة ، ومنكم من يعمل بالمعصية .
... 5-7- قوله تعالى : {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} : هذا تفصيل لأهل السعي وسعيهم ، والصنف الأول : من أنفق من ماله في سبيل الله ، وتجنب محارم الله فلم يواقعها(3) ، وصدق بموعد الله من الخلف عن المنفق ماله في سبيل الله(4)
__________
(1) ... قال الطبري : "وقله : {وما خلق الذكر والأنثى} يحتمل الوجهين الذين وصف في قوله : {والسماء وما بناها * والأرض وما طاحها} [الشمس : 5-6] وهو أن يجعل "ما" بمعنى "من" ، فيكون ذلك قسماً من الله جعل ثناؤه بخالق الذكر والأنثى ، وهو ذلك الخالق ، وأن تجعل "ما" مع ما بعدها بمعنى المصدر ، ويكون قسماً بخلقه الذكر والأنثى } .
... وقد ص عن ابي الدراء وابن مسعود أنهما كانا يقرءان : {والذكر والإنثى} ، وهذه القراءة لا يقرأ بها، لمخالفتها رسم المصحف الذي ثبت فيه لفظ : "وما خلق" ، وإنما هي منسوخة : قرأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم نسخت فيما نسخ في العرضة الأخيرة ؛ لأنها لو كانت غير ذلك ، لثبت رسمها في أحد مصاحف عثمان ، كما ورد إثبات بعض الألفاظ في مصحف ، وحذفها من مصحف غيره ، والله أعلم .
(2) ... قال قتادة من طريق سعيد : "وقع القسم هاهنا" .
(3) ... ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طريق عبيد .
(4) ... ورد عن السلف في تفسير الحسنى أقوال :
صدق بمخلف من الله ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأبى صالح وشهر بن حوشب، وعكرمة من طريق قيس بن مسلم ونضر بن عربي ، ومجاهد من طريق أبي هاشم المكي.
وورد عن قتادة من طريق معمر وسعيد : "صدق المؤمن بموعود الله الحسن" . ويحتمل أن يكون =(1/323)
، وبالجنة التي هي الموعد الأكبر للمنفق ، فإن الله ييسر له العمل بما يرضاه الله ، ليصل به إلى الجنة .
... 8-11- قوله تعالى : {وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى* وما يغني عنه ماله إذا تردى} : هذا الصنف الثاني من أهل السعي ، وهم من لم ينفق ماله في سبيل الله ، بل قبضه وبخل به ، واستغنى بنفسه وماله عن ربه وعبادته(1)
__________
(1) ... مراد قتادة من طريق معمر وسعيد : "صدق المؤمن بموعد الله الحسن" . ويحتمل أن يكون مراد قتادة بالموعود : الخلف من الله ، فيكون كهذا القول ، والله أعلم .
صدق بلا إله إلا الله ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وأبي عبد الرحمن من طريق أبي حصين ، والضحاك من طريق عبيد .
وصدق بالجنة ، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن نجيح .
قال الطبري : وأشبه هذه الأقوال بما دل عليه ظاهر التنزيل وأولاها بالصواب عندي ، قول من قال : عنى به التصديق بالخلف من الله على نفقته . وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن الله ذكر قبله منفقاً طالباً بنفقته الخلف منها ، فكان أولى المعاني به أن يكون الذي عقيبه الخبر عن تصديقه بوعد الله إياه بالخلف ، إذا كانت نفقته على الوجه الذي يرضاه ، مع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك ورد" ، ثم ذكر الخبر ، وهو : عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان – يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين - : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً" ، فأنزل الله في ذلك القرآن : فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * إلى قوله : {العسرى}" .
والحسنى وصف لموصوف ، وهي الخصلة الحسنى ، وما ذكره السلف محتمل في التفسير، وبين أقوالهم تلازم واضح ، فمن صدق بلا إله إلا الله ، فهو مصدق بالجنة ، ومصدق بالخلف من الله ، وكذا العكس ، والله أعلم . غير أن السياق فيما يظهر مرتبط بالإنفاق ، ولذا ورد أن هذه الآيات نزلت في إنفاق أبي بكر الصديق وكذا جاء بعد ذكر من بخل بماله قوله تعالى : {وما يغني عنه ماله إذا تردى} وما بعدها من الآيات في الإنفاق ، والله أعلم .
( ) ... قال قتادة من طريق سعيد : "وأما من بخل بحق الله عليه ، واستغنى بنفسه عن ربه " ، وورد عن ابن عباس من طريق العوفي : "من أغناه الله ، فبخل بالزكاة" ، وهذا يعني أن الآية يدخل فيها مانع الزكاة من المسلمين ، والله أعلم .(1/324)
،ولم يصدق بموعد الله من الخلف من الله ، ولا بالجنة(1) ، فهذا يسهل الله له عمل الشر والوقوع فيه ، جزاء له على استغنائه عن ربه ، وعدم إنفاق ماله في الخير ، وتكذيبه بالحسنى(2) ، فمن كان من هذا الصنف ، فإن الذي بخل به ، ولم ينفقه في سبيل الله ، لن يفيده إذا سقط وهوى في جنهم(3) .
__________
(1) ... ورد عن السلف الخلاف السابق في : {وصدق بالحسنى} .
(2) ... ورد في هذا الآيات حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال علي بن أبي طالب : "كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس، فجعل ينكث بمخصرته ، ثم قال : ما منكم من أحد ، وما من نفس منفوسة ، إلا كتب مكانها في الجنة والنار ، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة ، قال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ؟ قال : أما أهل السعادة ، فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة ، فييسرون لعمل أهل الشقاء ، ثم قرأ : {فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى} الآية " (رواه البخاري في تفسير سورة الليل من صحيحه) .
(3) ... ورد ذلك عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، وقتادة من طريق معمر وور عن مجاهد من طريق ليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح : "إذا مات" .
... قال الطبري : "وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : إذا تردى في فلان ، قلما يقال : تردى" . وهذا يعني أن تفسير أيب صالح وقتادة على المشهور من عنى اللفظ ، أما تفسير مجاهد فهو على معنى قليل من اللفظ ، وهو معنى صحيح ، ولكن قدم الأول لأنه المعنى الأشهر ، والله أعلم .(1/325)
... 12-13- قوله تعالى : {إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى} ؛ أي : أن على الله ابيان : بيان الحق من الباطل ، والطاعة من المعصية(1) ، وإن الحياة الدنيا والحياة الآخرة وما فيهما ملك لله ، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ، ومن ذلك أنه وفق من أحب لطاعته وخذل من أبغض بمعصيته(2) .
14-16- قوله تعالى : {فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلى الأشقى * الذي كذب وتولى} ؛ أي : فحذرتكم أيها الناس النار التي تتوهج وتلتهب من شدة إيقادها ، تلك النار التي لا يدخلها ويشوى فيها إلا الذي شقي في حياته فكذب بما جاء عنه ربه ، وأعرض عنه فلم يؤمن به .
__________
(1) ... قال قتادة من طريق سعيد : "على الله البيان : بيان حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته" .
(2) ... قال الطبري : "وقوله : {وإن لنا للآخرة والأولى} يقول : وإن لنا ملك ما في الدنيا والآخرة ، نعطي منها من أردنا من خلقنا ، ونحرمه من شئنا .
... وإنما عنى بذلك – جل ثناؤه – أنه يوفق لطاعته من أحب من خلقه ، فيكرمه بها في الدنيا ، ويهيء له الكرامة والثواب في الآخرة ، ويخذل من يشاء خذلانه من خلقه عن طاعته ، فيهينه بمعصيته في الدنيا، ويخزيه بعقوبته عليها في الآخرة " .(1/326)
17-21- قول تعالى : {وسيجانبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى} ؛ أي : وسيبعد عن هذه النار الذي بلغ الكمال في التقوى ، الذي من صفته أنه يُعطى ماله في الدنيا المحتاجين ، وينفقه في سبيل الله لأجل أن يتطهر بإعطائه هذا المال من الذنوب ، وما أعطى هؤلاء المحتاجين لأن بينه وبينهم منفعة أعطاه إياهم من أجلها ، ولكن أعطاه إياهم لأجل أن يرضى عنه ربه العالي على خلقه ، ولسوف يرضى هذا المعطي بما سيخلفه الله عليه في الآخرة من الثواب(1) .
سورة الضحى
آياتها : 11
سورة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فأوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث .
سورة الضحى
__________
(1) ... قيل : نزلت هذه الآيات في أبي بكر ، ورد ذلك عن عبد الله من طريق ابن عامر ، وقتادة من طريق سعيد ، قال ابن كثير : "وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك ، ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها ، فإن لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى : {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى} ، ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذا الأوصاف ، وسائر الأوصاف الحميدة ... " .(1/327)
... ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : دميت أصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتكى، فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً ، فجاءت امرأة – وهي أم جميل بنت حرب ، زوج أبي لهب - ، فقالت : يا محمد ، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ، فأنزل الله : {والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى} ، وحكي غير هذا السبب ، وكلها في تأخر نزول الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ، وادعاء المشركين أن ربه قد تركه وقلاه .
... 1-2- قوله تعالى : {والضحى * والليل إذا سجى} : يقسم ربنا بأول ساعات النهار، وهو الضحى(1) ، وبالليل إذا أقبل بظلامه وسكن(2)
__________
(1) ... سبق ذكر الخلاف في الضحى عند أول سورة الشمس .
(2) ... اختلف السلف في تفسير سجى على أقوال :
... الأول : إذا استوى وسكن ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ، والضحاك من طري عبيد ، وابن زيد .
... الثاني : إذا أقبل ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، والحسن من طريق معمر .
... والثالث : إذا ذهب ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة .
... قال الطبري : "وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك ، قول من قال : معناه : والليل إذا سكن بأهله ، وثبت بظلامه ؛ كما يقال : بحر ساج : إذا كان سكاناً ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
... فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج ما يواري الدعامصا
وقول الراجز :
... ... ... يا حبذا القمراء والليل الساج
... ... ... وطرق مثل ملاء النساج "
والقولان الأول والثاني يرجعان إلى دلالتين في "سجى" الأولى : السكون ، والثانية التغطية ، ومنه تسجية الميت أي تغطيته ، وعلى تفسير الحسن ، قال "إذا لبس الناس ، إذا جاء" ، ومن ثم يكون الخلاف راجعاً إلى أكثر من معنى بسبب الاشتراك اللغوي في هذه اللفظ .
أما تفسير ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، فلم أجده مذكوراً في كتب اللغة ، وواضح أنه تفسير لغوي ، وإذا فسر به صار اللفظ من الأضداد ؛ لأن أقبل بظلامه وذهب ضدان ، ويبقى أن سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في معنى اللفظ ، والله أعلم .(1/328)
.
... 3- قوله تعالى : {ما ودعك ربك وما قلى} : هذا جواب القسم ، والمعنى : ما تركك ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم وما أبغضك .
... 4- قوله تعالى : {وللآخرة خير لك من الأولى} : يقسم ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن الدار الآخرة بما أعده الله له فيها خير له من الدنيا وما فيها ، وهذه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها تأكيد عدم ترك الله وبغضه له ، فلا يحزن مما يقع له .
... 5- قوله تعالى : {ولسوف يعطيك ربك فترضى} : ويقسم له مؤكداً بأنه سيعطيه وينعم عليه كل ما يرجوه من خير له ولأمته حتى يرضى بهذا العطاء(1) .
__________
(1) ... الوارد عن السلف في التفسير تخصيصه بإعطاء الآخرة ، وكأنهم ربطوا الآية بما قبلها، وهي أن خير الآخرة له أفضل من الدنيا ، ولأنه سيعطي من خيرها حتى يرضى ، ولو حمل على عموم الإعطاء فهو محتمل ، ويكون تفسير السلف مثالاً لنوع من أشرف أنواع الإعطاء الإلهي لنبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم .
... وقد ورد التفسير عن ابن عباس من طريق ابنه علي ، قال : "أعطاه الله في الجنة ألف قصر ، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم" ، قال ابن كثير : "وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف" .
... وورد عنه من طريق السدي : "من رضا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار" ، وفيه انقطاع بين السدي وابن عباس . وورد عن قتادة من طريق سعيد أن هذا الإعطاء يكون يوم القيامة ، والله أعلم .(1/329)
... 6-8- قوله تعالى : {ألم يجدك يتيما فأوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى} : يمتن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم معدداً عليه شيئاً من نعمه ، وهي أنه كان يتيماً قد فقد أباه في الصغر ، فجعل له مكاناً يرجع إليه ويسكن فيه ، وكان ذلك برعاية جده وعمه له. ووجدك ضالاً عن معرفة الدين ، فهداك إليه ؛ كما قال تعالى : {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان} [الشورى : 52]ُ . ووجدك فقيراً فأعناك .
... 9-11- قوله تعالى : {فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث} : يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : فإذا علمت نعمتي عليك في هذا فاشكرها بأن لا تغلب من فقد أباه ، وهو دون سن البلوغ ، ولا تذله بأي نوع من أنواع الإذلال ، فتظلمه بذلك . وأن لا تزجر الذي يسأل عن دينه ، أو يسألك النفقة من الفقراء . وأن تخبر الناس على سبيل الشكر لله بما أنعم عليك من نعمه ؛ كنعمة القرآن ، أو النبوة ، أو غيرها ، والله أعلم .
سورة الشرح
آياتها : 8
سورة الشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فأرغب .
سورة الشرح
... 1- قوله تعالى : {ألم نشرح لك صدرك} : يقول الله ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم لقد وسعت لك صدرك ، فجعلته منبسطاً راضياً ، وجعلته محلا لوحيي ، ومتحملاً لأعباء حمله وتبليغه للناس ، ومتحملاً أخلاقهم ، وغير ذلك مما يدل على سعة الصدر وعدم ضيقه(1) .
__________
(1) ... في هذا الشرح المعنوي إشارة إلى الشرح الحسي ، وهو شق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراج ما في قلبه من النكتة السوداء ، وملء قلبه إيماناً وحكمة . وقد كان هذا ممهداً لذلك الشرح الذي ذكر الله في الآية ، والله أعلم .(1/330)
... 2-4- قوله تعالى : {ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك} : ويمتن عليه بأنه قد حط عنه الإثم(1)
__________
(1) ... أشار السلف إلى ذلك ، فقال : مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "ذنبك" ، قال قتادة من طريق سعيد ومعمر : "كانت على النبي صلى الله عليه وسلم ذنوب قد أثقلته ، فغفرها الله له " ، وكذا قال ابن زيد .
... وهذه مسألة تتعلق بالعصمة ، وللناس فيها كلام كثير ، وأغلب الكلام فيها عقلي لا يعتمد على النصوص ، وهذا النص صريح في وقوع الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من الذنوب التي قد غفرها الله له ، ولكن لم يبين الله نوع هذه الذنوب ، ولذا فلا تتعد ما أجمله الله في هذا النص ، وقل به تسلم .
... ولا تفترض مصطلحاً للعصمة من عقلك تحمل عليه أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فتدخل بذلك في التأويلات السمجة التي لا دليل عليها من الكتاب ولا السنة ؛ كما وقع من بعضهم في تأويل قوله تعالى : {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح : 2] ، قال : "ما تقدم : ذنب أبيك آدم، وما تأخر : ذنوب أمتك" ، وانظر الشبه بين هذا القول وبين قول النصارى في الخطيئة ، فالله يقول: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ، وهذا يقول هو ذنب غيره ! والله المستعان .
... وأعلم أن في الرسول جانبين : جانب بشري ، وجانب نبوي . أما الجانب البشري فهو فيه كالبشر: يحب ويكره ، ويرضى ويغضب ، ويأكل ويشرب ، ويقوم وينام ... إلخ ، مع ما ميزه الله به في هذا الجانب في بعض الأشياء ؛ كسلامة الصدر ، والقوة والنكاح ، وعدم نوم القلب ، وغيرها من الخصوصيات التي تتعلق بالجانب البشري .
... ومن هذا الجانب قد يقع من النبي بعض الأخطاء التي يعاتبه الله عليه ، ولك أن تنظر في جملة المعاتبات الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ كعتابه بشأن أسري بدر ، وعتابه بشأن زواجه من زينب ، وعتابه في بعد الله بن أم مكتوم ، وغيرها ، وقد نص الله على هذا الجانب في الرسل جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم ، ومن الآيات في ذلك : { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} [الإسراء : 93]، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضهم يكون=(1/331)
الذي أتبعه وصار ثقيلاً عليه كأنه يحمله على ظهره . وأنه قد جعل له الثناء الحسن ، فصار لا يذكر إلا بخير ، ومن أعظم ذلك أنه قرن ذكره بذكر الله ؛ كما في الشهادتين(1) .
__________
(1) لحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له من النار" (رواه البخاري) .
... وتكمن العصمة في هذا الجانب في أن الله ينبه نبيه صلى الله عليه وسلم على ما وقع منه من خطأ ، وهذا ما يأتي لأحد من البشر غيره ، فتأمله فإنه من جوانب العصمة المغفلة .
... وأما الجانب النبوي ، وهو جانب التبليغ ، فإنه لم يرد البتة أن النبي صلى الله عليه وسلم خالف فيه أمر الله ؛ كأن يقول الله له : قل لعبادي يفعلوا كذا ، فلا يقول لهم ، أو يقول لهم خلاف هذا الأمر، وهذا لو وقع فإنه مخالف النبوة ، ولذا لما سحر النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤثر هذا السحر في الجانب النبوي ، بل أثر في الجانب البشري ، ومن ثم فجانب التبليغ في النبي معصوم ، ويدل على هذا الجانب قوله تعالى : {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} ، والله أعلم .
( ) ... كذا فسر السلف الرفع في الذكر بأنه في الشهادة ، قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، "لا أذكر إلا ذكرت معني : أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله " . وقال قتادة من طريق سعيد : "رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ، ولا متشهد ، ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن محمد رسول الله " .(1/332)
... 5-6- قوله تعالى :{فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} ؛ أي : فإذا علمت هذا(1) ، فاعلم أنه يعقب الشدة فرج ومخرج ، ثم أكد هذا بتكرار الجملة ؛ للدلالة على أن اليسر يلحق العسر ويغلبه(2) .
... 7-8- قوله تعالى : {فإذا فرغت فأنصب * وإلى ربك فأرغب} ؛ أي : لما تقرر ما وهب الله لك ، فإن عليك إذا فرغت من عمل أن تنصب في عمل آخر من أعمال الخير(3)
__________
(1) ... هذا تفسير للفاء في قوله : {فإن} ، وتسمى فاء الفصيحة ، وهي تدل على كلام محذوف يقدر حسب السياق وهي تربط بين الجملة السابقة واللاحقة . (انظر : التحرير والتنوير) .
(2) ... ورد في حديث من مرسل الحسن وقتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم : "لن يغلب عسر يسرين" ، وقد شرح بعض العلماء ذلك ، على أن العسر في الآيتين معرف ، واليسر منكر ، فالتعريف دليل التوحيد والانفراد ، والتنكير دليل التعدد ، والله أعلم . (انظر : تفسير ابن كثير) .
(3) ... ذكر السلف أمثلة لما يفرغ منه وينصب فيه من الأعمال ، ومنها :
إذا فرغت من صلاتك ، فانصب إلى ربك في الدعاء ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، والضحاك من طريق عبيد ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر . ... ... ... ... ... ... ... ... =
= ... 2- إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك ، ورد ذلك عن الحسن من طريق قتادة ، وابن زيد .
3- إذا فرغت من أمر دنياك ، فانصب في عبادة ربك ، ورد ذلك عن مجاهد من طريق منصور .
قال ابن جرير : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه أن يجعل فراغه من كل ما كان به مشتغلاً من أمر دنياه وآخرته ، مما أدى له الشغل به ، وأمره بالشغل به إلى النصب في عبادته ، والاشتغال فيما قربه إليه ، ومسألته حاجاته ، ولم يخصص بذلك حالاً من أحوال فراغه دون حال ، فسواء كل أحوال فراغه : من صلاته كان فراغه ، أو جهاد ، أو أمر دنيا كان به مشتغلاً لعموم الشرط في ذلك من غير خصوص حال فراغ دون حال أخرى " .
وهذا يعني أن لفظ الفراغ والنصب عام ، وما ذكر من التفسير أمثلة لهذا العام ، ولذا ورد عن مجاهد في التفسير قولان مختلفان ، وكلاهما من قبيل الأمثلة لهذا العموم ، والله أعلم .(1/333)
، وهذا المعنى كالمعنى في قوله تعالى : {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر : 99] . وأن تكون أي رغبة لك – وهي طلب حصول ما هو محبوب – مطلوبة من الله لا من غيره ، والله أعلم .
سورة التين
آياتها : 8
سورة التين
بسم الله الرحمن الرحيم
والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون * فما يكذبك بعد بالدين * أليس الله بأحكم الحاكمين .
سورة التين
... 1-3- قوله تعالى : {والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين} : يقسم ربنا بشجرتي التين والزيتون ، وفيه إشارة إلى مكان نباتهما ، وهو الشام موطن كثير من أنبياء بني إسرائيل(1)
__________
(1) ... اختلفت عبارات المفسرين في تفسير التين والزيتون على أقوال :
التين الذي يؤكل ، والزيتون الذي يعصر ، وهو قول الحسن من طريق عوف وقتادة ، وعكرمة من طريق الحكم ويزيد وأبي رجاء ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وخصيف ، وإبراهيم النخعي من طريق حماد ، والكلبي من طريق معمر .
التين : مسجد دمشق ، والزيتون : بيت المقدس ، وهو قول كعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد .
التين : مسجد نوح ، والزيتون : مسجد بيت المقدس ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي .
قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال : التين : هو الذي يؤكل ، والزيتون هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت ؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب ، ولا يعرف جبل يسمى تيناً ولا جبل يسمى زيتوناً ، إلا أن يقول القائل : أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهباً ، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوز خلافه ؛ لأن دمشق بها منابت التين ، وبيت المقدس منابت الزيتون " .
وهذا الذي قاله السلف في تفسيرهم حق ، ويدل عليه ظاهر التنزيل ؛ لأن الله سبحانه عطف على هاتين أسماء أماكن ، وهذا يشير إلى أن المراد بالقسم هاتان الشجرتان وأماكن نباتهما ، ولهذا كانت كل الأقوال المذكورة في التين والزيتون لا تخرج عن الشام التي هي موطن كثير من النبوات، خصوصاً نبوات بني إسرائيل ، ولذا قال بعض العلماء : "هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً في أولى العزم أصحاب الشرائع الكبار .
فالأول : محالة التين والزيتون ، وفي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم .
والثاني : طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران .
والثالث : مكة ، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً ، وهو الذي أرسل الله فيه محمداً صلى الله عليه وسلم .
قالوا : وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء – يعني : الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - ، وأشرق من ساعير – يعني : جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى-، واستعلن من جبال فاران – يعني : جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً - ، فذكرهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان . ولهذا أقسم بالأشراف ، ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما " . (تفسير ابن كثير ، وانظر : التحرير والتنوير) .(1/334)
؛ كعيسى ابن مريم ويقسم بجل سيناء الذي كلم .........................
موسى(1)
__________
(1) ... ورد عن جميع السلف تفسيره بجبل موسى الذي في سيناء ، ورد ذلك عن الحسن من طريق عوف، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله ، وابن عباس من طريق العوفي ، وذكره بعضهم باسم مسجد موسى ، ورد ذلك عن قتادة من طريق هشام ، وابن زيد .
... وفسر بعضهم معنى الطور ، فقال : الطور : الجبل ، ورد ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وورد عن عكرمة من طريق النضر ، والكلبي ، من طريق معمر ، تقييده بالجبل الذي ينبت .
... وفسر عكرمة من طريق عمارة وأبي رجاء "سنين" بالحسن ، قال : "وهي لغة الحبشة ، يقولون للشيء الحسن : سينا سينا" . وفسره مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمبارك ، وقال قتادة من طريق معمر : "جبل بالشام مبارك حسن" .
... قال الطبري : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : طور سنين : جبل معروف ؛ لأن الطور هو الجبل ذو النبات ، فإضافته إلى سينين تعريف له ، ولو كان نعتاً للطور ، كما قال من قال : معناه : الحسن أو مبارك ، لكان الطور منوناً ، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك " .
... وهذا الذي قاله الطبري صواب ، غير أنه أن تحتمل بعض هذه الأقوال ، فمن فسر بالجبل أراد ، - والله أعلم – بيان معنى الطور في اللغة . كما أن قول قتادة : "جبل بالشام مبارك حسن" يمكن أن لا يكون تفسيراً لفظياً لسينين ، ولكنه أراد أن هذا الجبل الذي في سيناء مبارك بما حفه من نزول الرسالة على موسى ، وهو حسن لما فيه من أما تفسير عكرمة على أن اللفظ بلغة الحبشة ، فبعيد ؛ لاختلاف اللفظتين ، وليس هذا تعريبها ، لو كانت مما وقع للعرب من لغة الحبشة ، ولا هي من العربية ، لو قيل باتفاق اللغتين في هذه اللفظ ، ويدلك على ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في نطق اللفظة الحبشية التي تل على معنى الحسن ، حيث قال : سنا ، وسنه ، وسناه . (انظر : صحيح البخاري : كتاب اللباس : 22 ، ومناقب الأنصار : 27 ، والجهاد : 188) كل هذا ورد عنه ، وهي لفظة حبشية بمعنى حسن . فأين هذه اللفظة من لفظة سينين ، والله أعلم .(1/335)
، ومنها ومنه أرساله إلى فرعون . ويقسم بمكة التي جعلها آمنة ، وأمن من فيها(1) .
... 4-5- قوله تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين} : هذا جواب القسم(2) ، والمعنى : لقد خلقنا الإنسان في أعدل خلق وأحسن صورة(3) . ولكنه أن لم يشكر هذه النعمة ، فأفسد فطرته ، ودس نفسه ، فإن الله سيرده إلى النار التي تغير هذا التقويم الحسن الذي خلقه الله عليه(4)
__________
(1) ... ورد تفسير البلد الأمين بمكة عن ابن عباس من طريق العوفي ، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله ، والحسن من طريق عوف ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وعكرمة من طريق الحكم وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ، وابن زيد ، وإبراهيم النخعي من طريق حماد .
(2) ... ورد عن قتادة من طريق سعيد ، قال : "وقع القسم هاهنا : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}" .
(3) ... كذا فسر جمهور السلف ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق ابي رزين، وإبراهيم النخعي من طريق=
(4) ... حماد ، وأبي العالية من طريق الربيع ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة نم طريق سعيد ومعمر، والكلبي من طريق معمر .
... وورد عن ابن عباس من طريق العوفي : "شبابه أول ما نشأ" ، ومن طريق عكرمة : "خلق كل شيء منكبا على وجهه إلا الإنسان" ، وعن عكرمة من طريق الحكم : "الشاب القوي الجلد" ، ويمكن أن تكون هذه أمثلة لأعدل الخلق ، فتكون داخلة في قول الجمهور ، وعلى العموم ، فإن تفسير السلف متجه إلى أن أحسن تقويم هو الصورة الجسدية في خلق الإنسان .
( ) ... اختلف تفسير السلف لأسفل سافلين على أقوال :
رددناه إلى أرذل العمر، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأب رزين والعوفي ، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم ، وإبراهيم النخعي من طريق حماد ، وقتادة من طريق معمر وسعيد .
في شر صورة ، في صورة خنزير ، ورد ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس .
واختار ابن جرير أن أسفل سافلين : أرذل العمر ، واحتج لذلك .
وسيأتي عند الاستثناء في قوله تعالى : {إلا الذين آمنوا ...} تتمة نقاش لهذا الاختلاف .(1/336)
.
... 6- قوله تعالى : {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} ؛ أي : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، الذين شكروا الله على هذا التقويم الحسن بعبادته ، فإنهم لا يردون إلى أسفل سافلين : النار(1)
__________
(1) ... اختلف السلف في تفسير هذه الجملة بناء على اختلافهم في سابقتها ، ولهم في ذلك أقوال :
أن الذين آمنوا إذا هرموا يكتب لهم ما كانوا يعملونه في حال الصحة وهذا تفسير ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي ، وإبراهيم النخعي من طريق حماد ، وقتادة من طريق معمر .
وفسر بعضهم : أنهم لا يؤاخذون بما عملوا في حال الهرم ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين ، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم .
ورد عن مجاهد والحسن : إلا الذين آمنوا لا يردون إلى النار .
وقد ناقش ابن القيم هذه الأقوال ، واختار أن أسفل سافلين : النار ، وأطال في هذا ، أنا أنقله لك بطوله لفائدته ، والله الموفق .
قال ابن القيم " ثم لما كان الناس في الإجابة لهذه الدعوة فريقين : منهم من أجاب ، ومنهم من أبى ، وذكر حال الفريقين ، فذكر حال الأكثرين ، وهم المردودون إلى أسفل سافلين ، والصحيح أنه النار، قال مجاهد والحسن وأبو العالية . ... ... ... ... ... ... =
= ... قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي النار ، بعضها أسفل من بعض .
... وقال طائفة ، منهم قادة ، وعكرمة ، والكلبي ، وإبراهيم : أنه أرذل العمر ، وهو مروي عن ابن عباس.
... والصواب القول الأول ؛ لوجوه :
... أحدها : أن أرذل العمر لا يسمى أسفل السافلين ، لا في لغة ، ولا عرف . وإنما أسفل سافلين هو سجين ، الذي هو مكان الفجار ، كما أن علين مكان الأبرار .
... الثاني : أن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليل جداً ، فأكثرهم يموت ولا يرد إلى أرذل العمر .
... الثالث : أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رد من طال عمره منهم إلى أرذل العمر . فليس ذلك مختصاً بالكفار ، حتى يستثني منه المؤمنين .
... الرابع : أن الله سبحانه لما أدرك ذلك لم يخصه بالكفار ، بل جعله الجنس بني آدم ، فقال : {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} [الحج : 5] ، فجعلهم قسمين : قسماً متوفى قبل الكبر ، وقسماً مردوداً إلى أرذل العمر ، ولم يسمه أسفل سافلين .
... الخامس : أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين . وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان ، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين ، وجزاء المؤمنين أجراً غير ممنون .
... السادس : أن قول من فسر بأرذل العمر يستلزم خلو الآية عن جزاء الكفار وعاقبته أمرهم ، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس ، فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود الأهم ، وأخبر عن أمر يعرف بالحس والمشاهدة ، وف ذلك هضم لمعنى الآية ، وتقصير بها عن المعنى اللائق بها .
... السابع : أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في بدئه ومعاده ، فمبدؤه : خلقه في أحسن تقويم ، ومعاده . رده إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير منون . وهذا مواقف لطريقة القرءان وعادته في ذكر مبدأ العبد ومعاده ، فما لأرذل العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه ؟
... الثامن : أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس ، وإخراج الكلام عن ظاهره ، والتكليف البعيد له .
... فإنهم إن قالوا : إن الذي يرد إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين ، كابروا الحس .
... وإن قالوا : من النوعين من يرد إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكليف لصحة الاستثناء ، فمنهم من قدر ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذا ردوا إلى أرذل العمر ، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة .
... فهذا ، وإن كان حقاً ، فإن الاستثناء إنما وقع من الرد لا من الأجر والعمل .
ولما علم أرباب هذا القول ما فيه من التكلف ، حض بعضهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرءان لا يرد إلى أرذل العمر . ... ... ... ... ... ... ... =(1/337)
، بل هم أجر غير منقوص ، ...............................
...........................................................................................
ولا محسوب ، ولا منقطع(1)
__________
(1) ... وهذا ضعيف من وجهين :
... أحدهما: أن الاستثناء عام في المؤمنين : قارئهم وأميهم .
... وأنه لا دليل على ما أدعوه ، وهذا لا يعلم بالحسن ، ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه ، والله أعلم .
... التاسع : أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم ، وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان ، وعبادته وحده لا شريك له ، فينقله حينئذ من هذه الدار إلى أعلى عليين ، فإذا لم يؤمن به ، وأشرك به ، وعصى رسله ، نقله منها إلى أسفل سافلين ، وبدله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم ، صورة من أقبح الصور في أسفل سافلين . فتلك نعمته عليه ، وهذا عدله فيه، وعقوبته على كفرانه نعمته .
... العاشر : أن نظير هذه الآية قوله تعالى : {فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} ، فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين ، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك ، والأجر الممنون هناك هو المذكور هنا ، والله أعلم" . التباين في أقسام القرآن (ص : 31-33) .
... وقد ذكر الطاهر بن عاشور في الآية فهماً جديداً استنبطه ، وهو فهم قوي تدل عليه النصوص ، وملخصة : أن أحسن تقويم هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وأن الرد إلى أسفل سافلين للكفار، وذلك ببعده عن فطرته وكفره بالله ، إلا الذين آمنوا فاستقاموا على ما فطروا عليه ، واستدل لفهمه هذا بحديث : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة ..." وهو فهم سديد ، يتناسب مع المراد من سياق الأقسام الواردة في النبوات ، فتأمله واعتبره ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
( ) ... ورد اختلاف بين السلف في تفسير "ممنون" على أقوال :
غير منقوص ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة .
غير محسوب ، وهو قول مجاهد من طريق ابن جريج وابن أبي نجيح ، وإبراهيم النخعي من طريق حماد .
غير مقطوع .
قال الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : فلهم أجر غير منقوص ، كما كان له أيام صحته وشبابه ، وهو عندي من قولهم : حبل منين : إذا كان ضعيفاً ، ومنه قول الشاعر :
... اعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سر
... يعني : أنه ليس فيه نقص ، ولا خطأ" .
... وسبب هذا الاختلاف الاشتراك اللغوي في لفظ "ممنون" ، وهو محتمل لما قيل من هذه التفاسير، ويكون الاختلاف فيه راجعاً إلى أكثر من معنى ، والله أعلم .(1/338)
.
7- قوله تعالى : {فما يكذبك بعد بالدين} ؛ أي : فأي شيء يجعلك أيها الإنسان بعد هذا البيان لا تصدق بيوم ا لحساب(1)
__________
(1) ... أورد الطبري في تفسير "الدين" قولين :
... الأول : الحساب ، وذلك عن عكرمة من طريق النضر بن عربي .
... والثاني : حكم الله ، عن ابن عباس من طريق العوفي ، ثم قال : "وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال : الدين في هذا الموضع : الجزاء والحساب ، وذلك أن أحد معاني الدين في كلام العرب: الجزاء والحساب ، ومنه قولهم : "كما تدين تدان" ، ولا أعرف في معاني الدين الحكم في كلامهم ، إلا أن يكون مراداً بذلك : فما يكذبك بعد بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه ، فيكون ذلك".
... يحتمل أن ابن عباس فسر الدين هنا بالشريعة ، وهي حكم الله ، ومنه قوله تعالى : {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} [يوسف : 76] ؛ أي : في حكمه ، والطبري قد فسره بهذا المعنى في هذه الآية ، وهو ما أشار إليه في توجيه ما روي عن ابن عباس ، ويكون المعنى على قول بن عباس : فمن يكذبك بعد هذا البيان بحكم الله الذي أنزله عليك ، وهذا معنى محتمل ، وإن كان الأول أنسب منه للسياق، وعليه فهو أرجح ، بهذا يكون الخلاف بسبب الاشتراك اللغوي في لفظ "الدين" ، ويكون الخلاف فيه راجعاً لمعنيين محتملين .
... ويحتمل أن ابن عباس أراد بالحكم القضاء ، وكأنه اعتبر في هذا التفسير الآية بعدها ، ويكون المعنى: فمن يكذبك يا محمد بعد هذا البيان في حكم الله وقضائه ، وهو أحكم الحاكمين ، والله أعلم .
... ومما يلاحظ في ترجيح الطبري أمران :
... الأول : أنه رجح قول التابعي تلميذ ابن عباس على قول شيخه الصحابي ابن عباس ، وهذا يشعر بأن الطبري يجعل مفسري السلف في التفسير في طبقة واحدة عند الترجيح ، ولا يقدم قول فلان لأنه من الصحابة ، وهذا المنهج هو الغالب عليه ، وإن كان في بعض المواطن يقدم قول الصحابة وينبه على ترجيحه لقولهم ؛ لأنهم الصحابة العالمين بالتنزيل ، وهذا منهج يحتاج إلى استقراء ودراسة .
... الثاني : أن الطبري قال : ولا أعرف من معاني الدين في كلامهم ... ، ألا يكفي ورود تفسير هذه اللفظة عن حبر الأمة ابن عباس ، وهو عربي يحتج بعربيته ؟!(1/339)
، وقد وضحت دلائل صدقة ؟ أو من يكذبك يا محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذا البيان بيوم الحساب(1) ؟ .
8- قوله تعالى : {أليس الله بأحكم الحاكمين} ؛ أي : أليس الله العالم بعباده بأحكم من فصل بين عباده وقضى بينهم ، فلا يظلمهم ، ولا يجور عليهم(2) ؟ ، والله أعلم .
سورة العلق
آياتها : 19
سورة العلق
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... هذا مقتضى تفسير مجاهد والكلبي ، حيث جعلا الخطاب للإنسان . ومن جعل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم فالمعنى : فمن الذي يكذبك بعد هذا البيان بالدين . وقد اختاره الطبري ، فقال : "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى "ما" معنى "من" ، ووجه تأويل الكلام إلى : فمن يكذبك يا حمد بعد بالذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين ؛ يعني : بطاعة الله ، ومجازاته العباد على أعمالهم " . ... ... ... ... ... ... ... ... =
(2) ... وهما قولان محتملان ، والأول يبقى "ما" على معناها بل تأويل ، والثاني معنى معروف في "ما" وقد سبق مثله في سورة الشمس وغيرها .
... ولذا يمكن أن يقال سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في دلالة "ما" على معنى الاستفهام ، ومعنى الموصولية ، ومن ثم يكون الاختلاف راجعاً إلى معنيين محتملين ، والله أعلم .
( ) ... ورد في مرسل قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : "بل ، وأنا على ذلك الشاهدين" .
... وورد كذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير أنه يقول : "سبحانك اللهم ، وبلى " . وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر ، قال : "كان قتادة إذا تلا : {أليس الله بأحكم لحاكمين} ، قال : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ، أحسبه كان يرفع ذلك ، وإذا قرأ : {أليس ذلك بقدر على أن يخشى الموتى} [القيامة : 40] ؟ قال : بل ، وإذا تلا : {فبأي حديث بعده يؤمنون} [المرسلات : 50] قال : آمنت باله ، وبما أنزل " .(1/340)
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * أقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى * إن راءه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرءيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى * أرءيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرءيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع نادية * سندع الزبانية * كلا لا تعطه واسجد واقترب .
سورة العلق
آياتها الخمس الأولى أول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في غار حراء .
1-5- قوله تعالى : {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقم * علم الإنسان ما لم يعلم} : يأمر بنا تبارك وتعالى نبيه الأمي صلى الله عليه وسلم أن يتلو ما أنزله عليه ، وهي هذه الآيات ، فيقول له : اقرأ مستعيناً ومستفتحاً باسم ربك الذي خلق كل شيء .
ثم بين أصل خلق الإنسان فقال : خلق الإنسان من الدم المتجمد العالق بالرحم ، ثم كرر الأمر بالقراءة اهتماماً بها ، فقال : اقرأ وربك المتصف بكمال الكرم ، ومن كرمه أن علم الإنسان الكتابة بالقلم ، فحفظ به علومه ، ومن كرمه أنه علم الإنسان علوما كان يجهلها.
6-8- قوله تعالى : {كلا إن الإنسان ليطغى * إن راءه استغنى * إن إلى ربك الرجعى}؛ أي : ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان ، أن ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لا يعلم ، ثم يكفر ويطغى(1) .
إن الإنسان الكفار ليتجاوز الحد ، ويعصي ربه ؛ لأجل أنه رأى في نفسه الغنى بما أنعم الله عليه ، فاستغنى عن ربه ، ولما كان منه ذلك ، هدده الله بأن مرده ومصيره إليه ، فليس له عن ربه مفر ولا ملجأ .
__________
(1) ... كذا فسر الطبري ، لفظ "كلا" في هذا الموضع .(1/341)
9-10- قوله تعالى : {أرءيت الذي ينهى *عبداً إلى إذا صلى} : نزلت هذه الآيات في أبي جهل لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المسجد الحرام وحلف ليطأن رقبته، وهو يصلي(1) ، فقال تعالى : أعلمت أيها المخاطب عن خبر الذي ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المسجد الحرام ، ألم يعلم بأن الله يراه ، فيخاف سطوته وعقابه ؟.
11-12- قوله تعالى : {أرءيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى} ؛ أي ك أريت أيها المخاطب إن كان محمداً على الاستقامة والسداد في أمر صلاته ؟ ، أو كان أمراً باتقاء الله ، والخوف منه ؟ ، أيصح أن ينهى عن ذلك ؟! .
والواقع أن هذا الكافر ينهاه ، وهذا تعجيب من حاله ، إذ كيف ينهى من كان بهذه الصفة من الهدى والأمر بالتقوى ؟!.
13- 14- قوله تعالى : {أرءيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى} ؛ أي : أرأيت أيها المخاطب إن كان هذا الناهي مكذباً بالله ، ومعرضاً عنه ؟ ، أيعمل هذه الأعمال ، ولم يوقن بأن الله مطلع عليه ، بصير به ، ويعلم جميع أحواله ؟! .
15-16- قوله تعالى : {كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة} ؛ أي : ليس الأمر كما قال وفعل هذا الناهي ، فإنه لا يقدر على إنفاذ ما أراد ، ثم يقسم ربنا على أن هذا العبد الناهي إن لم يترك أعماله هذه وينتهي عنها ليأخذنه مجذوباً من مقدمة رأسه ، وهذه الناصية – والمراد بها صحابها – يصدر عنها الخطأ والذنب ، والكذب في القول .
__________
(1) ... وردت الرواية بذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح : أن النهاي أبو جهل ، وورد قوله : "لأطأن عنقه" عن قتادة من طريق سعيد ومعمر .(1/342)
17-18- قوله تعالى : {فليدع نادية * سندع الزبانية} : لما نهى أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو جهل : "علام يتهددني محمد، وأنا أكثر أهل الودي نادياً}(1) ، فقال الله : فليدع أبو جهل أهل مجلسه الذين ينتصر بهم ، فإنه إن فعل ، فإننا سندعو لهم ملائكة العذاب ، الذي يدفعونهم إلى العذاب دفعا شديداً .
19- قوله تعالى : {كلا لا تطعه واسجد واقترب} ؛ أي : ليس الأمر كما يظن أبو جهل فيما قال من اعتزازه بكثرة ناصريه ، فلا تسمع له ولا تخف منه في نهيه إياك عن الصلاة، بل استجد لله ، وتقرب إليه بكثيرة الصلاة له(2) ، والله أعلم .
سورة القدر
آياتها : 5
سورة القدر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر .
سورة القدر
__________
(1) ... وردت الرواية بذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والوليد بن العيزار ، وعن أبي هريرة من طريق أبي حازم .
(2) ... هذه الآية فيها إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم : "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد..." .(1/343)
... 1-3- قوله تعالى : {إنا أنزلناه في لليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} : يخبر ربنا أنه أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا(1) في ليلة عظيمة مباركة من ليالي شهر رمضان ، وهي ليلة القدر التي تقدر فيها مقادير السنة القادمة(2) .
ثم استفهم على طريق التفخيم والتعظيم لهذه الليلة ، فقال : وما أشعرك وأعلمك ما ليلة القدر هذه ؟ ، ثم أخبر عن فضلها وعظمها بأنها تعدل عمل ألف شهر لمن قامها إيماناً واحتسابا(3).
__________
(1) ... صح تفسير هذا الإنزال عن ابن عباس ، وانظر الرواية عنه من طريق عكرمة وحكيم بن جبير وسعيد بن جبير ، قال في رواية سعيد بن جبير : "أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، فكان بمواقع النجوم ، فكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض ، ثم قرأ : {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} [الفرقان : 32] ".
(2) ... ورد ذلك عن سعيد بن جبير من طريق محمد بن سوقة ، والحسن من طريق ربيع بن كلثوم ، وسماها مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : ليلة الحكم .
(3) ... ورد في هذا حديث باطل ، فيه أن ملك بني أمية ألف شهر ، قال الطبري : "وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال : عمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر، وأما الأقوال الأخر فدعاوى معان باطلة ، لا دلالة عليها من خبر ، ولا قعل ، ولا هي موجودة في التنزيل". وانظر كذلك تفسير ابن كثير فإنه نقد هذا الأثر .(1/344)
4-5- قوله تعالى {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر} : هذا من بيان فضل تلك الليلة ، وهو أن أهل السماء من الملائكة ، ومعهم الروح، وهو جبريل على المشهور ، ينزل منهم من إذن الله له بالنزول إلى الأرض في هذه الليلة، ومعهم ما أمر الله به من قضائه في هذه السنة : من رزق ، وأجل ، وولادة ، وغيرها ، وهذه الليلة هي خير كلها ، فهي سالمة من الشر كله من أولها إلى طلوع الصبح(1) . والله أعلم .
سورة البينة
آياتها : 8
سورة البينة
بسم الله الرحمن الرحيم
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين ا لقيمة * إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه .
سورة البينة
__________
(1) ... ورد التفسير بذلك عن قتادة من طريق معمر وسعيد ، ومجاهد من طريق جابر ، وابن زي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .(1/345)
1-3- قوله تعالى : {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة* رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة} : يقول الله تعالى : لم يكن هذان الصنفان من الذين كفروا ، وهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ومشركو العرب منفصلين عن كفرهم وتاركيه(1) حتى تأتيهم العلامة الواضحة من الله ، وهي إرسال الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ عن ظهر قلب ما في الصحف المطهرة من المكتوب المستقيم فيها الذي لا خطأ فيه ، وهو القرآن .
... وهذا حكاية لحالهم في ذلك الزمان ؛ لأنهم كانوا ينتظرون بعث نبي آخر الزمان ، ولكنهم لما بعث افترقوا فيه ، كما سيأتي في قوله تعالى : {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} .
__________
(1) ... قال ذلك مجاهد من طريق ابن أبي نجيح وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وابن زيد . ولكنهم لم يبينوا أن ذلك الخبر كان حكاية لحال أولئك القوم ، ولا بد من تقدير ذلك وإلا كان في الخبر تختلف ؛ لأنهم لم ينفكوا جميعهم عن الكفر ، بل بقي عليه كثير منهم بعد مجيء البينة . (انظر : التحرير والتنور).
... وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية تأويلات آخر ، وهو أن الله لا يخليهم ولا يتركهم سدى ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً ، وهذا كقوله تعالى : {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} [القيامة : 36] . (انظر : دقائق التفسير : 6/293) .
... واعلم أن هذه الآية من أصعب الآيات في التفسير ، والله المستعان .(1/346)
... 4- قوله تعالى : {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} ؛ أي : لم يتفرق أهل الكتاب(1) في أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن جاءهم وبعث إليهم ، وهم قد عرفوه ، كما قال تعالى : {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة : 89] ، فكروا به جحوداً، وآمن به بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يبعث غير متفرقين يه ، فهم يعرفون صفته .
... 5- قوله تعالى : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} ؛ أي : وما أمر الله اليهود والنصارى في القرآن إلا بما هو في كتبهم : من عبادة الله وحده والميل عن الشرك ، وإقامة الصلاة ، وإخراج زكاة أموالهم ، وذلك المأمور به هو الدين المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ، وذلك مما يدل على صدق هذا الرسول المرسل إليهم .
... 6- قوله تعالى :{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} ؛ أي : إن هذين الفريقين من الذين كفروا فيجحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سيدخلون نار جهنم ويمكثون فيها أبد الآباد ، لا يخرجون منها ، ولا يموتون فيها ، ثم وصفهم بأنهم شر من برأه الله وخلقه .
__________
(1) ... لم يذكر المشركين لأنهم كانوا في هذه المسألة تبع لأهل الكتاب ، فلم يكن عندهم من خبر شيء ، وكانوا يتلقفون ذلك منهم ، ومن ذلك ما كان يتهدد به يهود المدينة الأنصار ، فيقولون : "إذا خرج نبي آخر الزمان ، قتلناكم قتل عاد " . والله أعلم .(1/347)
... 7-8- قوله تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه} ؛ لما ذكر الصنف الثاني ، وهم الذين آمنوا بالبينة وعملوا الأعمال الصالحات التي تقربهم إلى الله ، وهؤلاء هم خير من براه الله وخلقه ، وسيكون ثوابهم من تلك البساتين التي هي محل إقامة لا تحول عنها ، وهي التي تسمى جنات عدن ، والتي تجرى أنهارها على سطح أرضها بدون أخاديد تحدها ، وهؤلاء هم الذين رضى الله عنهم بما أطاعوه في الدنيا، ورضوا عنه بما أعطاهم من النعيم الذي لا يحصل إلا لمن خاف ربه في الدنيا وأحبه وعظمه، والله أعلم .
سورة الزلزلة
آياتها : 8
سورة الزلزلة
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره .
سورة الزلزلة
... 1-5- قوله تعالى : {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها} : يقول الله تعالى : إذا حركت الأرض حركة شديدة ، واضطربت لقيام الساعة ، وأخرجت الأرض ما في بطنها من الموتى(1) ، صاروا فوقها ، وقال الناس : ما للأرض ؟ لماذا اضطربت وارتجت . .
__________
(1) ... كذا ورد عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، ويشبه أن يكون هذا مثالاً لما تخرجه الأرض ، فإنه قد ورد أنها تخرج كنوزها ، وقد سبق مثل هذا في تفسير قوله تعالى: {وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق : 4] .(1/348)
... في هذا اليوم تتكلم الأرض وتخبر(1) عن الذي عمل عليه من خير وشر(2) ؛ ؛ لأن الله أعلمها وأمرها بهذا التحديث .
... 6-8- قوله تعالى : {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثال ذرة شراً يره} ؛ أي : يوم تحصل هذه الزلزلة وما بعدها من الأهوال، يرجع الناس من موقف الحساب متفرقين ، لينظروا إلى أعمالهم وما جازاهم الله به ، بالمحسن يرى ما أعده الله من النعيم ، والمسيء يرى ما أعده الله له من العذاب ، ولذا قال مرغباًَ ومرهبا : فمن يعمل في الدنيا أي عمل خير ، ولو كان في الصغر وزن ذرة ، فإنه سيلقي حسن جزائه ، وكذا من عمل في الدنيا عمل شر ، ولو كان في الصغر وزن ذرة ، فإنه سيلقى سوء عقابه ، والله أعلم(3)
__________
(1) ... هذا التحدي على الحقيقة، وقد ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق سعيد بن جبير .
(2) ... ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وسفيان الثوري من طريق مهران ، وابن زيد، وقد ورد في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو هريرة : "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {يومئذ تحدث أخبارها} قال : أتدرون ما أخبراها؟ قالوا : الله ورسول أعلم . قال : فإن من أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ؛ أن تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، فهذه أخبارها" . رواه أحمد والنسائي والترمذي .
(3) ... كذا ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وورد تفسير آخر عن محمد بن كعب القرظي من طريق عمرو بن قتادة : "أن الكافر الذي يعمل الخير في الدنيا يرى ثوابه في الدنيا ، والمسلم الذي يعمل الشر في الدنيا يرى عقابه في الدنيا" . ... ... ... ... ... ... =
= ... وهذا لا يخالف التفسير الأول ؛ إلا أن كان المراد تخصيص هذه الآية بهذا النوع من العقاب ، وإن لم يكن ، فإنه أشار إلى المجازاة التي تكون على الأعمال في الدنيا . والمعروف أن مجازاة الدنيا إذا لم تكف، فإن الله يكمل لها الحساب في الآخرة ، ويشهد لهذا ما روى أنس قال : "كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} ، فرفع أبو بكر يده ، وقال : يا رسول الله ، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر ؟ فقال : يا أبا بكر ، ما رأيت في الدنيا مما تكره ، فبمثاقيل ذر الشر ، ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توافاه يوم القيامة" . والله أعلم .(1/349)
.
سورة العاديات
آياتها : 11
سورة العاديات
بسم الله الرحمن الرحيم
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمتغيرات صبحا * فأثرن به نفعا * فوسطن به جمعا * إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير .
سورة العاديات
... 1-5- قوله تعالى : {والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا* فأثرن به نفعا *فوسطن به جمعا} : يقسم ربنا بالخيل التي تجرى وهي تحمحم ؛ أي : يصدر عنها صوت يتردد في الحنجرة من شدة الجري(1)
__________
(1) ... اختلف السلف في المراد بهذا القسم ، والملاحظ أن ما بعده معطوف عليه ، فيكون من جنسه .
... والقول الأول : أنها الخيل ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ومجاهد وعطاء ، وعكرمة من طريق أبي رجاء ، وعطاء بن أبي رباح من طرق ابن جريج وواصل ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وسالم من طريق سعيد بن أبي عروية ، والضحاك من طريق عبيد . وإن كانت السورة مكية ، ففيها الإشارة إلى الجهاز .
... القول الثاني : أنه الإبل ، ويكون التأويل : والإبل التي تضبح بصوتها ، وقيل هي إبل الحجاج ، فتوري الشرر بشدة جريها على الحصى ، فتدفع مسرعة في سيرها إلى مزدلفة ، فتثير الغبار ، فتتوسط مزدلفة ، وهي جمع . وقد فسرها بأنها الإبل : ابن مسعود من طريق إبراهيم النخعي ومجاهد ، وعلي بن أبي طالب من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وإبراهيم النخعي من طريق منصور ، وعبيد بن عمير من طريق عمرو بن دينار .
... وقد أنكر بعضهم أن تكون الإبل ؛ لأن الضبح إنما يكون من الخيل ، وهذا فيه نظر ؛ لأن ثبوت هذا التفسير عن هؤلاء السلف يدل على صحة هذا الإطلاق في اللغة ؛ لأنهم من أهلها ، وهم أعلم بها من المنكرين من المتأخرين عليهم ، وأما محاولة تخريج قولهم على أن مرادهم تفسير الضبح بالضبع، وهو مد العنق في السير ، على أسلوب القلب بين في تفسيرهم ، ومن ثم فإن الصواب أن يحكى هذا لغة ، والله أعلم .(1/350)
، ويتوقد شرر النار من شدة احتكاك أقدامها بالحصى(1)
وهي تجري ، فتغير وتدخل أرض العدو في أول النهار(2)
__________
(1) ... اختلف السلف في تفسير الموريات ، على أقوال :
... الأول : الخيل توري النار بحوافرها ، ورد ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء ، والكلبي من طريق معمر ، وعطاء من طريق واصل ، والضحاك من طريق عبيد .
... وورد عن قتادة من طريق معمر وسعيد تفسير الإيراء من الخيل بأنهن يهيجن الحرب بينهم وبين عدوهم.
... الثاني : المقاتلون الذين يرون النار بعد انصرافهم من الحرب ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير .
... الرابع : الألسنة ، ورد ذلك عن عكرمة من طريق سماك بن حرب .
... الخامس : الإبل تنسف بمناسفها الحصى ، ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق إبراهيم النخعي ، وهو مقتضى تفسير علي . ... ... ... ... ... ... ... ... =
(2) ... قال الطبري : "وأولى الأقوال ف ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله تعالى ذكر أقسم بالموريات، التي تروي النيران قدحاً ، فالخيل تروي بحوافرها والناس يرونها بالزند ، واللسان – مثلاً – يوري بالمنطق، والرجال يورون بالمكر – مثلاً - ، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين أهلها إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فكل ما أورت النار قدحاً ، فداخلة فيما أقسم به ، لعموم ذلك بالظاهر" .
... وهذا الحمل على العموم فيه نظر ، لوجود الدلالة على أن المراد بالموريات عين المراد بالعاديات؛ للعطف بالفاء يدل على تفريع ما بعدها عن الذي قبلها ، وتسببه عنه ، وإذا كان ذلك كذلك ، فإن الصحيح أن هذه الأوصاف في الخيل ، وإن كانت المذكورات يشملها وصف الموريات – كما ذكر الطبري – فإنه ألصق بالخيل من الإبل وغيرها ، ذلك أن الضبح في الخيل أشهر ، وإيراء النار بحوافرها أوضح ، والله أعلم .
... ويلاحظ أن هذه الأقوال – غير القول بأنها الخيل أو الإبل – كأنها أخرجت اللفظ عن سياقه ، إذ يوجد في تفسير السلف من هذه الشاكلة أمثلة ، ويظهر أنها تدخل في باب التفسير على القياس، أو حمل اللفظ على عمومه دون النظر إلى سياق الوارد فيه !
... قال ابن القيم عن هذه الأقوال : "وهذه الأقوال ، إن أريد أ، اللفظ دل عليها ، وأنها هي المراد فغلط، وإن أريد أنها أخذت من باب الإشارة والقياس ، فأمرها قريب .
... وتفسير الناس يدور على ثلاث أصول : تفسير على اللفظ ، وهو الذي ينحو إليه المتأخرون ، وتفسير على المعنى وهو الذي يذكره السلف ، وتفسير على الإشارة والقياس ، وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم ، وهذا لا بأس به بأربعة شرائط :
ألا يناقض معنى الآية .
وأن يكون معنى صحيحاً في نفسه .
وأن يكون في الفظ إشعار به .
وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم .فإذا اجتمعت هذه اأمور الأربعة كان استنباطاً حسناً " . (التبيان في أقسام القرآن : 51 ، ونقله بطولة للفائدة" .
( ) ... ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير ، وعكرمة من طريق أبي رجاء ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وفي عبارته من طريق سعيد ما يشعر بأنه أراد القوم المغيرون ، قال : أغار القوم بعد ما أصبحوا على عدوهم .
... وورد عن ابن مسعود من طريق إبراهيم أنها الإبل حين تدفع من مزدلفة إلى منى ، وهو مقتضى قول علي بن أبي طالب .(1/351)
، فتصعد الغبار من شدة
الجري(1)، فتصير هذه الخيل في وسط جمع العدو(2) .
__________
(1) ... ورد هذا المعنى عن القائلين بأنها الخيل ، قال ابن زيد : أثارت التراب بحوافرها . وهو قول عكرمة من طريق أبي رجاء ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وكذا ورد عن القائلين بأنها الإبل ، قال علي بن أبي طالب : الأرض حين تطؤها بأخفاها وحوافرها ، وكذا قال ابن مسعود من طريق إبراهيم.
(2) ... كذا قال من فسرا بالخيل ، ورد ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء وسماك ، وابن عباس من طريق العوفي ، وعطاء من طريق واصل ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد .
... وورد عن عبد الله بن مسعود من طريق إبراهيم النخعي أنها الإبل حين تتوسط مزدلفة ، وهو مقتضى قول علي بن أبي طالب .(1/352)
... 6-8- قوله تعالى : {إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد} : هذا جواب القسم ، والمعنى : إن الإنسان لكفور لنعمة ربه ، لا يشكرها ، ويمنعها غيره، فلا يعطيه(1) ، وإن الإنسان يشهد على نفسه بكفرانه نعمة الله عليه(2) , وإن هذا الإنسان الكنود محب للمال حباً شديداً ، فهو يبخل به ، وذلك من كفرانه نعمة ربه .
__________
(1) ... ورد عن السلف أنه الكفور ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي ، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح ، والربيع من طريق أبي جعفر ، والحسن من طريق معمر ، وقتادة من طريق سعيد ، وسماك بن حرب من طريق شعبة ، وابن زيد ، وزاد الحسن من طريق سفيان الثوري في وصفه فقال : هو الكفور الذي يعد المصائب ، وينسى نعم ربه ، ورواه أيضاً من طريق سفيان عن هشام عنه .
(2) ... ورد هذا التفسير عن قتادة من طريق سعيد ، وسفيان من طريق مهران ، وفي رواية أخرى عن قتادة من طريق سعيد ، قال : "في بعض القراءات : إن الله على ذلك لشهيد" ، وهذا تسير للضمير في "إنه" على القراءة المعروفة ، وقد ورد عن محمد بن كعب القرظي أن الضمير للإنسان ، والمعنى : "وإن هذا الكفور شهيد على نفسه بكفره ؛ أي بلسان حاله" ، قاله ابن كثير .
... وهذا القول أليق باتساق الضمائر ، وعودها على الظاهر في أول الكلام من غير حاجة إلى التقديم والتأخير ؛ أي : إن الإنسان ، وإنه ، وإنه . ولهذا جعل قتادة الكلام على التقديم والتأخير ، فقال : "هذا في مقاديم الكلام ، قال : يقول الله : إن الله لشهيد أن الإنسان لحب الخير لشديد" .
... والاختلاف هنا من قبيل اختلاف التنوع ، وهو يرجع إلى أكثر من معنى ، وسببه الاختلاف في مفسر الضمير ، والله أعلم .(1/353)
... 9-11- قوله تعالى : {إفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور * إن ربهم بهم يومئذ لخبير} ؛ أي : أفلا يدري هذا الإنسان الكنود عن عقابه إذا أثير ما في القبور، فأخرج منها الموتى ، وجمع وأبرز ما في صدور الناس من خير وشر . ، فإن علم ذلك ، فليعلم أن ربه الذي ساده وصرف أمره بربوبيته له عالم ببواطن أعمالهم ، وما أسروه في صدورهم وما أعلنوه، لا يخفى عليه شيء ، وهو مجازيهم عليها ، والله أعلم .
سورة القارعة
آياتها : 11
سورة القارعة
بسم الله الرحمن الرحيم
القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هية * نار حامية .
سورة القارعة
... 1-3- قوله تعالى : {القارعة * وما أدراك ما القارعة} ؛ أي : الساعة التي تقرع قلوب الناس بهولها(1) ، ثم هول أمرها مستفهماً عنها بقوله : {ما القارعة} ؛ أي : أي شيء هذه القارعة ؟ ، ثم زاد في تهويل أمرها ، فقال : وما أعلمك ما هذه القارعة ؟ .
... 4-5- قوله تعالى : {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعنهن المفوش} ؛ أي : القارعة تحصل يوم يكون الناس في انتشارهم وتفرقهم ، وذهابهم ومجيئهم كأنهم تلك الحشرات الطائرة المتفرقة على وجه الأرض . وتحصل يوم تكون الجبال الرواسي ، إذا دكت، كالصوف الذي مزق فتفرقت أجزاؤه(2) .
__________
(1) ... فسر القارعة بالساعة ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وقتادة من طريق سعيد .
(2) ... ورد تفسر العهن بالصوف عن قتادة من طريق معمر وسعيد .(1/354)
... 6-7- قوله تعالي : {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية} : هذا تفصيل لما يكون عليه الناس الذي انتشروا كالفراش المبثوث ، وهم فريقان : الأول : من إذا وزنت أعماله رجحت في الميزان ، فهم في حياة هنيئة ، قد حل بهم الرضى مما حصل لهم من الجزاء في الجنة.
... 8-11- قوله تعالى : {وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هية * نار حامية} : هذا الفريق الثاني ، وهم من إذا وزنت أعمالهم ، لم ترجح في الميزان ، فمرجعة إلى الهاوية التي يهوي بها على رأسه ، وهي النار التي قد اشتد إيقادها فحميت(1) .
سورة التكاثر
آياتها : 8
سورة التكاثر
بسم الله الرحمن الرحيم
ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .
سورة التكاثر
__________
(1) ... قال قتادة من طريق معمر : "مصيره إلى النار ، وهو الهاوية ، وهي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قال : هوت أمه " . وقال ابن زيد : "الهاوية : النار ، هي أمه ومأواه التي يرجع إليها، ويأوي إليها ، وقرأ : {ومأواهم النار} [النور : 57] " .
... وقال ابن عباس من طريق العوفي : "وإنما جعل النار أمة ؛ لأنها صارت مأواه ، كما تؤوى المرأة ابنها، فجعلها إذ لم يكن له مأوى غيرها منزلة أمه " .(1/355)
... 1-2- قوله تعالى : {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر} ؛ أي : شغلكم أيها الناس ما أنعم الله عليكم من كثرة المال والأولاد وغيرهم عن طاعته سبحانه(1) ، حتى جاءكم الموت صرتم من أهل المقابر(2) .
... 3-4- قوله تعالى : {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون} ؛ أي : ما هكذا ينبغي أن تفعلوا في أن يلهيكم التكاثر عن طاعة الله ، وسوف تعلمون عاقبة تشاغلكم بالتكاثر، وكرر الجملة للتأكيد ، ولزيادة التهديد .
... 5- قوله تعالى : {كلا لو تعلمون علم اليقين} : أعيد الزجر تأكيداً لإبطال ما هم عليه من التشاغل ،وقال : لو أنكم تعلمون علماً يقيناً أن الله سيبعثكم(3) ، لما شغلكم هذا التكاثر .
__________
(1) ... ورد عن عبد الله بن الشخير عن أبيه ، قال : "انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : {ألهاكم التكاثر} يقول ابن آدم : مالي مالي . وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ؟" .
(2) ... ورد في تفسير هذه الآية أن قبلتين افتخرتا وتكاثرتا بما عندهما من العدد ، حتى ذهبوا إلى المقابر وتفاخروا بالأموات ، وهذا الأثر غير صحيح ، ولو صح لجاز أن يدخل في معنى الآية : (انظر في نقده: تفسير ابن كثير) .
... وقد ورد عن علي رضي الله عنه : "ما زلنا نشك في عذاب القبر ، حتى نزلت : {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر} " .
... وفي التعبير بالزيارة دلالة على البعث ، كما روى ميمون بن مهران ، قال : "قرا عمر بن عبد العزيز هذه الآيات ، فلبث هنيهة ، فقال : يا ميمون ، ما أرى المقابر إلا زيارة ، وما لزائر بد أن يرجع إلى منزله " . (انظر : تفسير ابن كثير) .
(3) ... قال قتادة من طريق سعيد : "كنا نحدث أن علم اليقين : أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت " .(1/356)
... 6-7- قوله تعالى : {لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين} : يقسم ربنا بأن عباده سيشاهدون النار بأعينهم ، ثم أكد هذا الخبر بأنه واقع لا محالة ، وأنهم سيكونون متيقنين برؤية النار ، يقيناً لا شك فيه(1) .
... 8- قوله تعالى : {ثم لتسألون يومئذ عن النعيم} ؛ أي : ثم ليسألنكم الله يوم ترون النار على كل نعمه التي أنعمها عليكم ؛ كالأمن والصحة ، والسمع ، والبصر ، والعافية ، وما يطعمه الإنسان ويشربه ... إلخ(2) .
سورة العصر
آياتها : 3
سورة العصر
بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .
سورة العصر
__________
(1) ... ورد عن ابن عباس من طريق العوفي أن هذه الآية في أهل الشرك .
(2) ... فسر السلف النعيم بأمثلة له ، فورد عن ابن مسعود من طريق الشعبي ، ومجاهد من طريق ليث، والشعبي من طريق عبد العزيز بن عبد الله : النعيم : الأمن والصحة .
... وعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، والحسن م طريق عمر بن شاكر : النعيم : السمع والبصر وصحة البدن .
... وقد ورد في هذه الآية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لما خرجوا من الجوع إلى حائط الأنصاري الذي ذبح لهم الشاة ، فلما أكلوا وشربوا ، قال : "لتسألن عن هذا يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا" ، فهذا من النعيم .
... وعلى هذا ، فالخلاف في النعيم يرجع إلى معنى واحد ، وهو كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم ، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع ، بل علم بالخبر في ذلك عن الجميع ، فهو سائلهم ، كما قال ، عن جميع النعيم ، لا عن بعض دون بعض " .(1/357)
... 1- قوله تعالى : {والعصر} يقسم ربنا بالدهر ؛ أي : الزمان الذي تقع فيه حركات بني آدم ، وعلى عابة تلك الأفعال وجزائها(1) .
__________
(1) ... ورد في تفسير العصر أقوال ، وتفسره بالدهر هو أعلم الأقوال وأشملها ، وهو قول الحسن من طريق معمر، وورد أنه وقت العشي ، وهو آخر ساعات النهار ، وقد ورد التفسير بذلك عن ابن عباس من طريق العوفي .
... قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن ربنا أقسم بالعصر ، والعصر : اسم للدهر، وهو العشي ، والليل والنهار ، ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى ، فكل ما لزمه هذا الاسم ، فداخل فيما أقسم الله به جل ثناؤه " .
... ومن هنا فإن سبب الاختلاف هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر ، فهو يطلق على عدة معان ، وبهذا يرجع الخلاف إلى أكثر من معنى ، وكل هذه الأقوال محتمل كما قال الطبري ، غير أن القول بأنه الدهر يظهر فيه شموله للأوقات كلها ، والله أعلم .(1/358)
... 2-3- قوله {إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} : هذا جواب القسم ، والمعنى : إن الأصل في الناس أنهم في نقص وهلكة، ويخرج من هذه الصفة من اتصف بصفات أربع : معرفة الحق ، وهو قوله : {إلا الذين آمنوا} ، والعمل به ، وهو قوله : {وعملوا الصالحات} ، وتعليمه لمن لا يحسن ، وهو قوله : {وتواصوا بالحق}(1) ، والصبر عليه ، وهو قوله : {وتواصوا بالصبر} من حبس النفس على أداء الفرائض(2) ، وعلى المصائب من قدره ، وحبسها عن المعاصي ، فيوصي بعضهم بعضاً يرفق ولين بهذه الأمور ، والله أعلم .
سورة الهمزة
آياتها : 9
سورة الهمزة
بسم الله الرحمن الرحيم
ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * أنها عليها مؤصدة * في عمد ممددة .
سورة الهمزة
__________
(1) ... فسر الحسن الحق بأنه كتاب الله ، وهذا تفسير صحيح ؛ لأن القرآن حق ، فهما كالشيء الواحد، فعبر الحسن عن المسمى بأحد معانيه التي يحتملها ، ولو قيل : وتواصوا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو وتواصوا على طاعة الله ، لصح ذلك ، والله أعلم .
(2) ... كذا ورد عن قتادة من طريق سعيد ، والحسن من طري عبد الرحمن بن سنان ومعمر ، وهو تفسير بجزء مما يقع عليه الصبر إن أريد بها جملة الفرائض ، وإن أريد مطلق الطاعة ، فالتفسير يشمل جميع أنواع الصبر ؛ لأنها كلها تدخل في طاعة الله ، والله أعلم .(1/359)
... 1-3- قوله تعالى : {ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده} : يتوعد ربنا كل من كان خلقه أنه يغتاب الناس ويطعن فيهم(1) ، الذي من صفته أنه حريص على جمع المال والإكثار من عده وحسابه ، ولشدة ولعه بن ، يظن أن ماله سيبقيه في هذه الدنيا .
__________
(1) ... اختلف السلف في تفسير هذين الوصفين ، فورد أن الهمزة : المغتاب ، واللمزة : الطعان ، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ، وورد عن مجاهد من الطريق نفسها عكس ذلك التأويل ، وهو كذلك قول ابن عباس من طريق سعيد بن جبير .
... وورد أن الهمزة : الذي يهمزه في وجهه ، واللمزة : الذي يهمزه من خلفه ، ورد ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس .
... وورد أن الهمزة : باليد ، واللمزة : باللسان ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
... وقال ابن زيد : "الهمزة : الذي يهمز الناس ويضربهم بيده ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم".
... والهمزة : هو عيب الناس بالإشارة ، سواء أكانت باليد ، أم بغيرها ، وسواء أكان بحضرة المهموز، أم بغيبته ، واللمز : الطعن على الناس ؛ كقوله تعالى : {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} [التوبة : 79] ؛ أي : يعيبون عليهم صدقتهم ، والله أعلم .
... وقد حُكي أنها نزلت في شخص من الكفار ، فقيل : نزلت في جميل بن عامر الجمحي ، وقيل : في الأخنس بن شريق ، وهذا إن كان هو السبب المباشر ، فإن الآية تعم من كان بهذا الوصف نظراً لعموم اللفظ ، وإن كان المراد أنهم يدخلون في حكم الآية ، فذكرهم على سبيل المثال لهامز لامز، لا أنهما سبب النزول مباشرة ، قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عم بالقول كل همزة لمزة ، كل من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها ، سبيله سبيله ، كائناً من كان من الناس" . والله أعلم .(1/360)
... 4-9- قوله تعالى : {كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * أنها عليهم مؤصدة * في عمد ممدة} ؛ أي : ما ذلك كما يظن هذا الهامز اللامز ، ليس ماله بمخلده ، ثم أخبر تعالى أنه سيعاقبه على أعماله التي عملها ، فذكر أنه سيقذفه ويلقيه في الحطمة التي تحطمه وتدقه وتكسره ، ثم استفهم عنها على سبيل التهويل ، فقال : وما أعلمك ما هذه التي تحطم ما فيه ؟ .
... ثم بين أن هذه الحطمة هي النار التي تشتعل وتلتهب من شدة الإيقاد ، هذه النار التي يبلغ حرها قلوبهم ، وتحرق كل قلب بحسب ذنبه ، وهذه النار مطبقة(1) على الكفار لا يستطيعون الخروج منها ، وهم يعذبون فيها في أعمدة طويلة في النار(2) ، والله أعلم .
سورة الفيل
آياتها : 5
سورة الفيل
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
سورة الفيل
__________
(1) ... فسرها السلف بمطبقة ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي مالك غزوان الغفاري والعوفي، وعطية العوفي من طريق فضيل بن مرزوق ، والحسن من طريق بي رجاء ، والضحاك من طريق مضرس بن عبد الله ، وقتادة من طريق سعيد ، وابن زيد .
(2) ... ورد التفسير عن ابن عباس من طريق العوفي ، قال : "أدخلهم ي عمد ، فمدت عليهم النار، فهي من نار ممددة لهم" .
... وقال قتادة من طريق سعي : "عمود يعذبون به في النار" .
... قال الطبري : "وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ، قول من قال : معناه ، أنهم يعذبون بعمد في النار، والله أعلم كيف تعذيبه إياهم بها ، ولم يأت خبر تقوم به الحجة بصفة تعذيبهم بها ، ولا وضع لنا دليل فندرك به صفة ذلك ، وفلا قول فيه – غير الذي قلنا – يصح عندنا" .(1/361)
... تحكي هذه السورة قصة أبرهة الحبشي الذي جاء لهدم الكعبة في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وتذكر ما حصل لهم من العقاب .
... 1-2- قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل} ؛ أي : لم تعلم بما صنعه الله بأبرهة وقومه الذين غزو مكة بجيش فيه أفيال ، وأرادوا أن يهدموا الكعبة ؟ ، لقد جعل الله سعيهم وتدبيرهم في صرف الناس عن الكعبة ومحاولة هدمها عملا ضائعاً لا فائدة فيه .
... 3-5- قوله {وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجرة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول} ؛ أي : وألم تعلم بما عاقبهم به من بعث طيور من السماء جاءت جماعات كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضاً(1)
__________
(1) ... ورد تفسير الأبابيل عن السلف بعدة عبارات ، منها :
الفرق ، ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق زر ، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
المتتابعة ، ورد ذلك عن ابن عباس نم طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، والضحاك من طريق عبيد .
الكثيرة ، ورد ذلك عن الحسن من طريق الفضل ، وقتادة من طريق معمر .
المجتمعة ، ورد ذلك عن أبي سلمة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
وهذه التفاسير كلها صحيحة ، وإن كان بعضها تفسيراً على المعنى ، وهو مأخوذ من الوصف الذي جاءت عليه هذه الطيور ، فهي جاءت مجتمعة ، ومتفرقة ، وكثيرة ، ويتبع بعضها بعضاً ، وكل هذا حق، وما ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح أشمل هذه الأقوال ، حيث قال : "هي شتى متتابعة مجتمعة " . والله أعلم .
والأقوال ، حيث قال : "هي شتى متتابعة مجتمعة" . والله أعلم .(1/362)
، تحمل حصى صغيرة من طين(1) ، تلقيه على أصحاب الفيل ، ، فتقضي عليهم ، حتى صاروا كبقايا الزرع المأكول الذي تحول بعد الخضرة والنصرة ، إلى أن صار ملقى على الأرض يداس بالأقدام(2) ؟ .
سورة قريش
آياتها : 4
سورة قريش
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... ورد تفسير سجيل بالطين في كتاب الله تعالى ، فقد ورد في عذاب قوم لوط قوله تعالى : {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} [هود : 82] ، وقال عنه في موضع آخر : {لنرسل عليهم حجارة من طين} [الذاريات : 33] .، فدل على أن سجيل هو الطين ، وكذا ورد عن السلف في التفسير ، ورد عن ابن عباس من طريق عكرمة ، وعكرمة من طريق أبي حفصة ، وقتادة من طريق معمر .
... وورد عن ابن عباس من طريق عكرمة ، وعكرمة عن طريق شرقي أنهما قالا : "سجيل : سننك وكل"؛ أي هو مجموع من كلمتين ، وهي كلمة فارسية ، ولا يبعد أن تكون هذه اللفظة مما اتفقت =
(2) ... عليه اللاغات ، فإن لم يكن فإنه مما تقارضتها ، وكون الفرس ينطقون بها لا يلزم أن تكون من أصل لغتهم ثم انتقلت إلى العربية ، إذ ما المانع أن يكون العكس ؟ .
... وإن قيل : إن الوزن يدل على خروج بعض هذه الألفاظ عن العربية بالجواب : إن هذه اللفظة موافقة لأوزان العربية ، والله أعلم .
... وقد ذكروا أوصاف هذه الطيور ، ومقدار الحجارة ، وكيفية وقوعها على أصحاب الفيل ، وما أثرته فيهم .
( ) ... ورد خلاف في تفسير العصف على أقوال :
ورق الحنطة ، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
التبن ، عن قتادة من طريق معمر .
كزرع مأكول ، عن الضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد ، وقال : "ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار روثاً" .
قشر البر الذي يكون فوق الجنة ، عن ابن عباس من طريق العوفي .
ويظهر من أصل مادة عصف :أن العصف هو ما يعصف ، أي : يحطم من الزرع ، وهذا الوصف يشمل جميع ما قاله السلف ، فتكون أقوالهم أشبه بالأمثلة لشيء من النبات المعصوف ، والله أعلم.(1/363)
لإيلاف قريش * إلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البت * الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف .
سورة قريش
... 1-2- قوله تعالى : {لإيلاف قريش * إلالفهم رحلة الشتاء والصيف} ؛ أي : لتعبد قريش رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، لأجل نعمته عليهم بإيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن ، والصيف إلى الشام(1) ، أي : ما ألفوه واعتادوه من اجتماعهم(2) في رحلتهم للشام واليمن من أجل التجارة ، وقدم ذكر الإيلاف للاهتمام به(3)
__________
(1) ... هذا المشهور في رحلة الشتاء والصيف ، وقد ورد قول غريب عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير ، قال ك طكانوا يشتون بمكة ، ويصيفون بالطائف" .
(2) ... الإيلاف : إما أن يكون من الإلف ، وهو الاعتياد على الشيء ، وإما أن يكون من الإتئلاف ، وهو الاجتماع .
(3) ... اختلفوا في هذه اللام التي في قوله تعالى : {لإيلاف} على أقوال :
... الأول : أنها متعلقة بقوله : {فليعبدوا} ، أي : ليعبدوا الله ، لأجل نعمته عليهم بالإيلاف . ويشير إلى هذا الارتباط ما رواه عكرمة عن ابن عباس ، قال : "أمروا أن يألفوا عبادة رب هذا البيت ، كإلفهم رحلة الشتاء والصيف" ، والله أعلم .
... الثاني : أنها متعلقة بسورة الفيل ، والمعنى : جعلت أصحاب الفيل كعصف مأكول ، لإلفة قريش، فلا أفرق إلفهم وجماعتهم ، التي جاء أصحاب الفيل لتفريق جماعتهم وهدم كعبتهم التي يجتمع إليها الناس، وهذا قول ابن زيد ، وقد نسبه الطبري لابن عباس ومجاهد وفسروا : "لإيلاف" : نعمتي على قريش ، ولم يظهر لي من نصوصهم أنهم يرون تعلق اللام بالسورة التي قبلها والله أعلم .
... والثالث : أنها متعلقة بفعل التعجب المحذوف ، والتقدير : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، وهو اختيار الطبري ، واستدل له بفعل العرب ، فقال : "والعرب إذا جاءت بهذه اللام ، فأدخلوها في الكلام للتعجب اكتفوا بها دليلاً على التعجب من إظهار الفعل الذي يجلبها ، كما قال الشاعر :
... أغراك أن قالوا لقرة شاعراً ... ... فيا لأباه من عريف وشاعر
فاكتفى باللام دليلا على التعجب من إظهار الفعل ، وإنما الكلام : أغرك أن قالوا : أعجبوا القرة شاعراً فكذلك قوله : {لإيلف} " .
أما القول بارتباطها بسورة الفيل ففيه نظر من جهة انفصال كل سورة عن أختها ، قال الطبري : "وأما القول الذي قاله من حكينا قوله أنه من صلة {فجعلهم كعصف مأكول} ، فإن ذلك لو كان كذلك ، لوجب أن يكون "لإيلاف" بعض "ألم تر" ، وأن لا تكون السورة منفصلة من "ألم تر" .
وفي إجماع جميع المسلمين على أنهما سورتان تامتان ، كل واحدة منهما منفصلة عن الأخرى ، ما يبين فساد القول الذي قاله من قال ذلك . ولو كان قوله ك {لإيلاف قريش} ؛ من صلة : {فجعلهم كعصف مأكول} ، ولم تكن {ألم تر} تأمة حتى توصل بقوله : {لإيلاف قريش} ، لأن الكلام لا يتم إلا بانقضاء الخبر الذي ذكر " .(1/364)
.
... 3-4- قوله تعالى : {فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} ؛ أي : ليعبدوا رب المسجد الحرام الذي سد جوعهم بالإطعام ، وأمنهم من الخوف ، فلا يعتدي عليهم أحد ، ولا يقع عليهم من المرض ما يذهب بهم ، ولا غيرها من الخوفات(1) ، والمعنى إن لم يعبدوه على نعمه ، فليعبدوه على هذه النعمة ، التي هي إيلافهم ، وذكر البيت لأنهم إنما أمنوا بسبب جوارهم له . والله أعلم .
سورة الماعون
آياتها : 7
سورة الماعون
بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) ... ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ربط هذه الآية بدعوة إبراهيم عليه السلام ، حيث قال : {رب أجعل هذا البلد آمنا} [إبراهيم : 35] ، وقال : {وأرزق أهله من الثمرات} [البقرة: 126] ، وفسرها ابن زيد بقوله تعالى : {أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء} [القصص : 57] .
... وقد ورد تفسير الخوف على أن معناه :آمنهم من العدو والغارات والحروب التي كانت العرب تخاف منها . ورد عن مجاهد من طري ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد .
... وقد ورد في تفسيره أنه الجذام ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير ، وسفيان الثوري من طريق مهران ، والضحاك بن مزاحم ، وفي سنده غرابة ؛ لأنه سند ابن أبي نجيح عن مجاهد ، ويظهر أن الناسخ لتفسير ابن جرير وقع في سبق عين ، والله أعلم .
... وهذا التفسير – فيما يبدو – مثال لما كانوا يخافونه ، لا أنه هو المعنى دون غيره مما يشمله الخوف، قال الطبري : "والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه آمنهم من خوف، والعدو مخوف منه ، والجذام مخوف منه ، ولم يخصص الله الخبر عن أنه آمنهم من العدو دون الجذام، ولا من الجذام دون العدو ، بل عم الخبر بذلك ، فالصواب أن يعم كما عم جل ثناؤه ، فيقال : آمنهم من المعنيين كليهما" .(1/365)
أرءيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون * ويمنعون الماعون .
سورة الماعون
... 1-3- قوله تعالى : {أرءيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين} ؛ أي : أرأيت الذي لا يصدق بالجزاء من الثواب والعقاب(1) ؟ ، الذي من صفته أنه يدفع ويظلم الطفل الذي مات أبوه وهو دون سن البلوغ ، فلا يعطيه حقه(2) ، ولا يحث نفسه ولا غيره على إطعام المحتاج الذي قد بلغ من المسكنة مبلغاً عظيماً(3) .
__________
(1) ... ورد عن ابن عباس من طريق العوفي تفسير "الدين" ، فقال : الذي يكذب بحكم الله عز وجل، وقد سبق التعليق على هذا التفسير عند قوله تعالى : {فما يكذبك بعد بالدين} من صورة التين . وورد عن ابن جريج تفسيره بالحساب .
(2) ... وردت عبارات عن السلف فيما بيان معنى دعم اليتيم .
... الأولى : تفسير لفظي لمعنى "يدع" ، وهو : يدفع اليتيم ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق أبن أبي نجيح ، وسفيان الثوري من طريق مهران .
... والثانية : بيان للمعنى ، وهو : يظلمه ويقهره ، ورد ذلك عن قتادة من طريق سعيد ومعمر ، والضحاك من طريق عبيد ، وهذا اختلاف تنوع ؛ لأن التفسير فيهما يؤول إلى معنى واحد ، فالأولون عبروا عن المعنى اللغوي ، والآخرون عبروا عن المعنى المراد به في السياق ، والله علم .
(3) ... ويلاحظ ورود هذه الأوصاف في المجتمع الكافر ، وقد وردت في ثلاث سور من هذا الجزء، وهي سورة الفجر ، وسورة البلد ، وهذه السورة ، كما ورد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق باليتيم وعدم رد السائل المسكين في سورة الضحى .(1/366)
... 4-7 قوله تعالى : {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * والذين هم يراءون* ويمنعون الماعون} : يتوعد ربنا المصلين الذين يلهون عن الصلاة فيؤخرونها عن وقتها ، أو يتركونها أحياناً فلا يصلونها(1) ، أولئك المصلين الذين يقومون بأعمالهم ليراهم الناس ، وهم المنافقون(2)
__________
(1) ... اختلف السلف في هذا الوصف على أقوال :
... الأول : الذين يؤخرونها عن وقتها ، فلا يصلون إلا بعده ،وهو قول سعيد بن أبي وقاص من طريق ابنه مصعب ، وابن عباس من طريق أب جمرة الضبعي نصر بن عمران ، وابن أبزى من طريق جعفر، ومسروق من طريق أبي الضحى مسلم بن صبيح .
... الثاني : يتركونها فلا يصلونها ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر ، وابن زيد .
... قال الطبري : "وأولى القوال في ذلك عندي بالصواب بقوله : {ساهون} : لاهون يتغافلون عنها، وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحياناً ، وتضييع وقتها أخرى ، وإذا كان ذلك كذلك ، =
(2) ... صح بذلك قول من قال : عنى بذلك ترك وقتها ، وقول من قال : عنى به تركها ، لماذا ذكرت من أن في السهو عنها المعاني التي ذكرت " .
... ومن ثم ، فالخلاف يرجع إلى أكثر من معنى ، وهما معنيان ، وكلاهما محتمل ؛ أن الذي إن صلاها ، لا يصليها إلا رياء ، فهو من المنافقين كما ورد عن جمع السلف ، وهذا الصنف أقرب أن يكون هو المعني بالآية ؛ للأوصاف السابقة واللاحقة ، ويكون المتهاون بوقتها الساهي عنها لتركه إياها في الوقت داخلاً في حُكم المنافقين ، فأشبه المنافقين في تهاونه بالصلاة، والله أعلم .
( ) ... ورد ذلك عن علي من طريق مجاهد ، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد .(1/367)
، الذين لا يعطون الناس ولا يعيونهم بشيء : لا بزكاة ولا بغيرها من المنافع التي ينتفع بها ؛ كالقدر ، والفأس ، والدلو ، وغيرها(1)
__________
(1) ... اصل الماعون في كل شيء منفعته ، ويكون المعنى : يمنعون الناس منافع ما عندهم ، وهذا هو العموم في معنى اللفظ : والوارد عن السلف في تفسيرهم أمثلة لهذا العموم ، ومنها :
... الأول : الماعون : الزكاة ، وهي منفعة مال الواجبة ، وبه قال علي بن أبي طالب من طريق مجاهد وأبي صالح ، وابن عمر من طريق مجاهد وأبي المغيرة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وسعيد بن جبير من طريق حسان بن مخارق ، وقتادة من طريق سعيد والحسن من طريق سعيد ومحمد بن عقبة ومبارك، والضحاك من طريق عبيد وسلمة ، وابن زيد ، ومحمد بن الحنفية .
... الثاني : الماعون : عارية المتاع من الدلو والقدر ونحو ذلك ، ورد ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق أبي العبيدين وسعد بن عياض والحارث بن سويد ومالك بن الحارث وإبراهيم النخعي وأبي وائل، وابن عباس من طريق سعي بن جبير ومجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي ، وسعيد بن جبير من طريق حبيب بن أبي ثابت ، وأبي مالك غزوان الغفاري من طريق حصين ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح .
... وورد عن محمد بن كعب من طريق محمد بن رفاعة : الماعون المعروف ، وهو يدخل في الذي قبله إلا إن أراد التخصيص .
... كما ورد عن سعي بن المسيب والزهري : أن الماعون بلسان قريش المال ، وهذا يمكن أن يدخل في القول الأول ، غير أن مرادهم أن هذه الدلالة اللغوية كانت عند قريش دون غيرهم من العرب ز
... قال الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب – إذ كان الماعون هو ما وصفنا قبل ، وكان الله قد أخبر عن هؤلاء القوم ، وأنهم يمنعونه الناس ، خبراً عاماً من غير أن يخص من ذلك شيئاً – أن يقال : إن الله وصفهم بأنهم يمنعون الناس ما يتعاورونه بينهم ، ويمنعون أهل الحاجة والمسكنة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق ؛ لأن كل ذلك من المنافع التي ينتفع بها الناس بعضهم من بعض".(1/368)
.
سورة الكوثر
آياتها : 3
سورة الكوثر
بسم الله الرحمن الرحيم
إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وأنحر * إن شانئك هو الأبتر .
سورة الكوثر
... 1-3- قوله تعالى : {إنا أعطيناك الكوثر * فصلي لربك وأنحر * إن شانئك هو الأبتر}.
... يخبر ربنا تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن هبته له ذلك النهر العظيم في الجنة، الذي أسمه الكوثر ، وهو جزء نم الخير الذي أعطاه إياه(1)
__________
(1) ... الكوثر على وزن فوعل ، مبالغة في الكثرة ، وقد حمل بعض السلف اللفظ على عمومه ، ومله بعضهم على النهر الذي وعده الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الجنة ، والحمل على العموم لا يعارض حمله على نهر الكوثر ؛ لأن نهر الكوثر يكون مثالاً وجزءاً للخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإليك القول في تفسير الكوثر :
... الأول : نهر في الجنة ، وهو قول ابن عمر من طريق محارب بن دثار ، وعائشة من طريق أبي عبيدة وابن أبي نجيح ، وابن عباس من طريق العوفي ، ومجاهد من طريق ابنه عبد الوهاب ، وأبي العالية من طريق الربيع . وهذا هو الذي وردت فيه الأحاديث ، وله أوصاف مذكورة فيها ، وهو أول ما يدخل في تفسير الآية بلا شكل ، والله أعلم .
... الثاني : الكوثر ، الشيء الكثير ، وهو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ورد ذلك عن سعيد بن جبير من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب وهلال ، وعكرمة من طريق عمارة بن أبي حفصة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، ونسبه ابن كثير إلى ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن البصري .
... وقد ورد في روايتهم ما يشعر بمعرفتهم لكون الكوثر النهر ، ولكنهم حملوا على العموم ، فعن أبي بشر قال : "قلت لسعيد : إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه" . وال عكرمة : "الخير الكثير ، والقرآن والحكمة " ، وقال مجاهد : "الخير كله" ، وقال "خير الدنيا والآخرة" .
... ومن ثم يكون سبب الاختلاف : أن أصحاب القول الأول حملوا اللفظ على مصطلحه الشرعي، وأصحاب القول الثاني حملوه على معناه اللغوي ، وإن صح تفسيره بالمعنى اللغوي ، فإن الاختلاف يرجع إلى معنى واحد ، وهو معنى العموم الذي تكون الأقوال الأخرى (نهر في الجنة ، القرآن ، الحكمة) أمثلة له ، والله أعلم .(1/369)
. ثم أمره الله بأن يؤدي شكر هذه النعمة بأن تكون الصلاة والذبح له سبحانه ، لا كما يفعل المشركون الذين يذبحون للأصنام(1) .
ثم أخبره أن مبغضه هو المنقطع عن كل خير ، بخلاف أنت فيما أعطاك الله من الخير(2)
__________
(1) ... اختلف السلف في المراد بقوله تعالى : {وأنحر} على أقوال :
... الأول : أذبح لله ، ورد ذلك عن أنس بن مالك من طريق جابر ، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وعكرمة من طريق جابر وثابت بن أبي صفية ، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر ، وعطاء بن أبي رباح من طريق فطر بن خليفة، والحسن من طريق نجيح ، ومحمد بن كعب القرظي من طريق =
(2) ... أبي صخر ، وسعيد بن جبير من طرق أبي معاوية البجلي ، وابن زيد ، وبينهم في المراد بما نزلت فيه الآية اختلاف ، فقيل : في ذبح يوم النحر ، وقيل : في عموم الذبح ، وقيل : في ذبح الهدي يوم الحديبية ، وهذا الاختلاف لا يخرج معنى النحر عن الذبح ، والأولى العموم ، وأن تكون الأقوال الأخرى داخلة فيه على سبيل الأمثلة لهذا العموم ؛ لأنه مأمور أن تكون ذبيحته لله في كل حال ، كما قال تعالى : {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} [الأنعام : 162] .
... الثاني : ضع يدك اليمين على الشمال ، ثم ضعها على صدرك في الصلاة ، وهو قول علي بن أبي طالب من طريق عقبة بن ظبيان (ويقال : ظهير ، انظر : الجرح والتعديل) عن أبيه ، (قال عنه ابن كثير : ولا يصح) ، وعن أبي القموص زيد بن علي من طريق عوف .
... الثالث : أرفع يدك إلى نحرك عند الدخول في الصلاة ، ورد ذلك عن أبي جعفر الباقر من طريق جابر.
... وقد ذكر الطبري قولاً لبعض أهل العربية ، وهو الفراء ، أن المعنى : "استقبل القبلة بنحرك" ، واستدل الفراء بما سمعه من بعض العرب ، يقول : "منازلهم متناحرة" ؛ أي : هذا بنحر هذا ؛ أي : قبالته ، وببيت من الشعر ذكره
... والقل هو الصحيح ؛ لأنه المشهور من معنى اللفظ ، ومنه يوم النحر ، ونحر البدن ، وغيرها ، قال الطبري : "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : فاجعل صلاتك كلها لربك خالصاً د ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك أجعله له دون الأوثان ، شكراً له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له ، وخصك به من إعطائه إياك الكوثر .
... وإنما قلت : ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ؛ لأن الله جل ثناؤه أبخر نبيه صلى الله عليه وسلم بما أكرمه به من عطيته وكرامته وإنعامه عليه بالكوثر ، ثم أتبع ذلك قوله : {فصل لربك وأنحر} ، فكان معلوماً بذلك أنه خصه بالصلاة له والنحر على الشكر له على ما أعلمه من النعمة التي أنعمها عليه بإعطائه إياه الكوثر ، فلم يكن لخصوص بعض الصلاة بذلك دون بعض ، وبعض النحر دون بعض وجه ، إذا كان حثا على الشكر على النعم .
... فتأويل الكلام إذن : إنا أعطينك يا محمد الكوثر ، إنعاماً منا عليك به ، وتكرمة منا لك ، فأخلص لربك العبادة ، وأفرد له صلاتك ونسكك ، خلافاَ لما يفعله من كفر به ، وعبد غيره ، ونحر للأوثان".
... وقال ابن كثير عن الأقوال الأخرى : "كل هذه الأقوال ريبة ، والصحيح القول الأول ، أن المراد بالنحر ذب النسائك ..." .
( ) ... اختلف السلف في من نزلت هذه الآيات على أقوال :
... الأول : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وسعيد بن جبير من طريق هلال بن خباب ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد . ... ... ... ... ... ... ... ... =
= ... الثاني : نزلت في عقبة بن أبي معيط ، ورد ذلك عن شمر بن عطية .
... الثالث : نزلت في جماعة من قريش ، وورد ذلك عن عكرمة .
... قال الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أبخر أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقل الأذل المنقطع عقبه ، فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه " .
... ومراد الإمام هنا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويكون السبب المذكور مثالاً لذلك العموم في اللفظ ، وهذا هو الصواب ، وهو حمل هذه النزولات المذكورة على التمثيل ، وإبقاء اللفظ على عمومه ، فيدخل فيه كل من أبغض النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، والله أعلم .(1/370)
.
سورة الكافرون
آياتها : 6
سورة الكافرون
بسم الله الرحمن الرحيم
قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنت عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين .
سورة الكافرون
... حكي في سبب نزولها أن قريشاً طلبت من الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد أصنامهم سنة ، وهم يعبدون إلهه سنة ، فأنزل الله هذه السورة براءة من الكافرين وعبادتهم .
... وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه السورة في الركعة الثانية من الشفع ، وفي الركعة الأولى من سنة الطواف وسنة الفجر ، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ربع القرآن .
... 1-6- قوله : {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين} .
... يأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يوجه الخطاب لكل الكافرين ، ماداموا على الكفر(1) ، ويخبرهم أنه لا يعبد معبوداتهم لا في حاضره ولا في مستقبله ، وهو قوله : {لا أعبد}، ولا في ماضيه(2)
__________
(1) ... انظر : دقائق التفسير 6 : 327 . فقد نص على أن الخطاب موجه للكفار ما داموا على الكفر، وإن أسلموا بعد ذلك خرجوا عن هذا الخطاب ، وهذا يزيل إشكالاً وقع لبعض المفسرين المتأخرين من أن هذا العموم مخروم بإيمان من آمن منهم بعد هذا الخطاب ؛ كأبي سفيان ، وغيره ، والله أعلم .
(2) ... وقع خلاف بين العلماء في سبب تكرار هاتين الجملتين ، واختلاف صيغتهما ، وهو كلام يطول ذكره، فاختصرت منه ما اختاره شيخ الإسلام (انظر : دقائق التفسير 6 : 315 وما بعدها) .
... وقد سبق الحديث على "ما" التي تكررت في الآيات الأربع عند قوله تعالى : {والسماء وما بناها} [الشمس : 5] ، وغيرها .(1/371)
، وهو قوله : {ولا أنا عابد} ، كما أنهم هم لا يعبدون إلهه أبداً ما داموا على الكفر ، وهو قوله عنهم في الموضعين : {ولا أنتم عابدون ما أعبد}(1) .
... ثم ختم الآيات بتأكيد المفاصلة والبراءة من ملتهم وشرعهم ، فقال : لكم ما تعتقدونه من الملة الكافرة ، ولي ما اعتقده من توحيد الله سبحانه ، فلا يمكن أن نلتقي أبداً ،(2) والله أعلم .
سورة النصر
آياتها : 3
سورة النصر
بسم الله الرحمن الرحيم
إذ جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره أنه كان توابا .
سورة النصر
... 1-3- قوله تعالى : {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره أنه كان تواباً } .
__________
(1) ... يلاحظ أن قوله تعالى : {ولا أنتم عابدون ما أعبد} جاء في الموضعين جملة اسمية للدلالة على ثبوتهم في هذا الكفر ، وأن نفس نفوسهم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم لا يعبدون الله ما داموا على الكفر . (انظر : دقائق التفسير : 6/328) .
(2) ... أطال ابن القيم في تفسير هذه الآيات ، انظر : بدائع الفوائد (1 : 133 – 247) .(1/372)
... أي : إذا جاءك يا محمد نصر الله لك على قومك من قريش ، وجاء فتح مكة(1) ، ورأيت قبائل العرب تدخل في الإسلام جماعات تلو جماعات ، فأعلم أنه قد دنا أجلك(2) ، فأكثر من طلب المغفرة من ربك ، ومن ذكره بأوصاف الكمال التي تدل على حمدك إياه ، إنه سبحانه يرجع لعبده المطيع بالتوبة ، فيتوب عليه . وكان صلى الله عليه وسلم كثير الاستغفار والحمد بعد نزول هذه السورة (3)، والله أعلم .
سورة المَسَد
آياتها : 5
سورة المسد
بسم الله الرحمن الرحيم
تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد .
سورة المسد
... أخرج البخاري عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ، فصعد الجبل فنادى : "يا صباحاه" . فاجتمعت قريش ، فقال : "أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ، أكنتم مصدقي " ؟ قالوا : نعم . قال : "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ؟ تبا لك ، فأنزل الله : {تبت يدا أبي لهب وتب} إلى آخرها .
... 1-5- قوله تعالى : {تبت يد أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى ناراً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد} .
__________
(1) ... ورد عن مجاهد وغيره أن الفتح فتح مكة .
(2) ... كذا فسر عمر بن الخطاب وحبر الأمة ابن عباس هذه السورة ، وهو فهم صحيح يوافق ما عليه هذه الشريعة من ختم كثير من الأعمال بالاستغفار ، كالصلاة ، وغيرها ، وكأن في هذا إشارة إلى انتهاء مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة .
(3) ... أخبرت بذلك زوجه عائشة رضي الله عنها أنه كان يكثر أن يقول : "سبحانك اللهم وبحمدك" ، يتأول القرآن . أخرجه البخاري في تفسير هذه السورة من صحيحه .(1/373)
... هذا دعاء بالهلاك والخسران على عم الرسول صلى الله عليه وسلم المكني بأبي لهب ، وقد حصل له هذا ، ذلك جزاء قوله للنبي صلى الله عليه وسلم "تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا(1)؟".
... ثم خبر الله أن مال أب لهب وولده لا ينفعونه ولا يردون عنه عذاب الله(2) ، وأنه سيدخل ناراً تتوقد تشويه بحرها ، وأنه ستدخل معه زوجه أم جميل التي كانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل الخطب الذي فيه الشوك فتلقيه في طريقه(3) ، وقد جعل الله في عنقها حبلاً مجدولاً ومفتولاً من ليف أو غيره ، يكون عليها كالقلادة التي توضع على العنق(4)
__________
(1) ... هذه الجملة : {تبت يدا أبي لهب} دعاء على أبي لهب ، وإسناد لتباب لليدين ، كإسناد العمل لهما في مثل قوله تعالى : {ذلك بما قدمت يداك} ، والمراد : خسر أبو لهب بسبب عمله الذي عمله مع النبي صلى الله عليه وسلم .
... وجملة : {وتب} جملة خبرية ؛ أي : وقد حصل له التباب .
(2) ... تفسير قوله تعالى: {وما كسب} : وما ولد ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي الطفيل ورجل من بني مخزوم ، ومجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح . ونسبه ابن كثير إلى عائشة وعطاء والحسن وابن سرين .
(3) ... اختلف السلف في تفسير "حمالة الخطب" : على أقوال :
... الأول : أنها تحمل الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، ويزيد بن زيد الهمداني ، وعطية الجدلي العوفي ، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد .
... الثاني : أنها كانت تمشي بالنميمة ، وهو قول عكرمة من طريق محمد ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وسفيان الثوري من طريق مهران . ... ... =
(4) ... وحكى الطبري : أنها كانت تحطب (أي : تجمع الحطب) ، فعيرت بذلك ، ولم ينسبه ، وهو مخالف لحال أم جميل : غناها وشرفها ، والله أعلم .
... قال الطبري : "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال : كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك " .
... وفسر السلف الحطب بالشوك ؛ لأنها كانت تحمل أغصان الشوك ، وهي الحطب ، فتلقيها في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم لتأذيه بها ، والله أعلم .
... وقد فسر ابن كثير الآية على أنه في الآخرة فقال : " ... وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم ، ولهذا قال : {وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد} ؛ يعني تحمل الحطب فتلقيه على زوجها ، ليزداد على ما هو فيه ، وهي مهيأة لذلك مستعدة له" . وهذا الفهم لم يرد عن السلف ، بل حملوا حملها الحطب على أنه وصف لها في الدنيا ، وليس هنا ما يدعو إلى هذا الفهم الذي فهمه ابن كثير ، والله أعلم .
( ) ... ورد في تفسير المسد أقوال عن السلف :
... الأول : حبال من الشجر تكون بمكة ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد . ويظهر أن المراد بهذه الحبال الليف .
... الثاني : المسد سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً ، وهو قول عروة من طريق يزيد وسفيان الثوري، وقال : "حبل في عنقها من النار ، طوله سبعون ذراعاً " .
... وهذا التحديد يحتاج إلى قول المعصوم في خبره ، وليس في هذه الآثار ما يدل على نقله عنه ، وكون المسد يكون من الحديد صحيح ، أما هذا التحديد فيتوقف فيه ، والله أعلم .
... الثالث : الحديد الذي يكون في البكرة ، ورد عن مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح ، من طريق الأعمش ، لكن لم يذكر البكرة ، وعكرمة من طريق محمد .
... الرابع : قلادة من ودع في عنقها ، ورد ذلك عن قتادة ، ويحتمل أنه أراد أنه من صفتها في الدنيا؛ لأنه قال : "قلادة من ودع" ، ولم يحدد زمن لبسها . والله أعلم .
... قال الطبري : "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : هو حبل جمع من أنواع مختلفة ، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا ، ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز :
... ... ... ومسد أمر من أيانق
... ... ... صهب عتاق ذات مخ زاهق
... فجعل إمراره من شتى ، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب ، أمر من أشياء شتى : من ليف وحديد ولحاء ، وجعل في عنقها طوقاً كالقلادة من ودع ؛ ومنه قول الأعشى : ... ... =
... ... تمسى فيصرف بآبها من دونها ... ... غلقاً صريف محالة الأمساد
... يعني بالامساد : جمع مسد ، وهي الحبال " .
... والمسد في اللغة يطلق على معان ؛ منها :
المسد : الفتل والجدل ، وممسود ؛ أي : مجدول من ليف و غيره ، ومنه قول من قال : حبل من شجر بمكة ، أو من ليف ، وكذا من قل : سلسلة ؛ لأنها تكون مجدولة في الغالب ، والله أعلم .
المسد : المحور من الحديد ، أو البكرة التي يلتف عليها حبل الدلو ، وهو تفسير مجاهد وعكرمة، وعليه يحمل قول قتادة ؛ كأنه شبه القلادة في جيدها بالبكرة التي تكون من حديد الذي يكون عليه حبل الدلو ، ويوضح ذلك ما نسبه ابن كثير لمجاهد ، قال : "أي : طوق حديد ، ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسداً .
كما يحتمل أن يكون قول قتادة قولاً مستقلا ، ويكون معنى آخر من معاني المسد ، ومن ثم يكون الاختلاف عائداً إلى أكثر من معنى بسبب الاشتراك اللغوي ، وهما معنيان متحملان ، والله أعلم.(1/374)
، جزاء ما كانت تصنع في الدنيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .
سورة الإخلاص
آياتها : 4
سورة الإخلاص
بسم الله الرحمن الرحيم
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد .
سورة الإخلاص
... ذكر أن الكفار قالوا : يا محمد انسب لنا ربك ، فنزلت هذه السورة(1) .
... ومن فضل هذه السورة : أنها تعدل ثلث القرآن ، وأنها تقرأ في صلاة الوتر ، وسنة الفجر، وسنة الطواف ، وفي أذكار الصباح والمساء ، وأذكار دبر الصلوات .
... 1- قوله تعالى : {قل هو الله أحد} ؛ أي : قل يا محمد : ربي هو الله لاذ له العبادة ، لا تنبغي إلا له ، ولا تصلح لغيره ، المتصف بالأحدية دون سواه ، لا مثيل له ، ولا ند ، ولا صحابة ولا ولد(2) .
... 2- قوله تعالى : {الله الصمد} ؛ أي : الله الموصوف بالأحدية ، هو السيد الذي قد انتهى في سؤوده ، والغنى الذي قد كمل في غناه فلا يحتاج ما يحتاجه خلقه من الصاحبة والولد، ولا من المأكل والمشرب ، ولا من غيرها ، فهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله هذه صفته ، لا تنبغي إلا له(3)
__________
(1) ... ورد ذلك عن أبي بن كعب من طريق أبي العالية ، وعكرمة من طريق يزيد ، وأبي عالية من طريق الربيع بن أنس ، وجابر من طريق الشعبي ، وورد عن سعيد بن جبير وقتادة أن السائل هم اليهود، والله أعلم .
(2) ... لا يطلق لفظ "أحد" منكراً وعلى الإثبات إلا على الله سبحانه ، أما إذا دخله نفي أو استفهام أو شرط أطلق على غيره ؛ كقوله تعالى : {ولم يكن له كفواً أحد} [الصمد : 4] ، وقوله : {هل تحس منهم من أحد} [مريم : 98] ، وقوله {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة : 6] ، وهو أخص من اسمه "الواحد" الذي يرد في الإثبات وغيره ، ويرد منكراً ومعرفاً.
(3) ... اختلف عبارة السلف في تفسير الصمد على الأقوال :
... الأولى : الذي لا جوف له ، ورد ذلك عن بريدة الأسلمي من طريق ابنه عبد الله ، وابن عباس من طريق عطية العوفي من غير طريقه لمشهور ، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح ، والحسن من طريق الربيع بن مسلم ، وسعيد بن جبير من طريق إبراهيم بن ميسرة ، والشعبي من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، والضحاك من طريق سلمة بن نبيط وعبيد المكتب ، وسعيد بن المسيب من طريق المستقيم بن عبد الملك ، وعكرمة من طريق معمر .
... الثاني : الذي لا يخرج منه شيء ، ورد ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء محمد بن يوسف .
... الثالث : الذي لم يلد ولم يولد ، ورد ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس .
... الرابع : السيد الذي قد انتهى في سؤدده ، ورد ذلك عن أبي وائل شقيق من طريق الأعمش ، وابن عباس من طريق علي بن أب طلحة .
... والخامس : الباقي الذي لا يفني ، ورد ذلك عن الحسن وقتادة من طريق سعيد ، وقتادة من طريق معمر : الدائم .
... وهذا الاختلاف من اختلاف التنوع الذي يكون في العبارة لا المعنى ؛ لأن هذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد ، وهو غنى الله عن ما يحتاجه خلقه ، لكمال سؤدده .
... ولا يهولنك إنكار بعض الخلف لبعض هذه المعاني الواردة عن السلف ، وزعمهم ان هذه الأقوال لا تساعد عليها اللغة ، وهذا قول من لم يفهم تفسير السلف ، ولا استفاد منه من ثبوت معاني ألفاظ اللفغة من تفسيراتهم ، والله أعلم .(1/375)
.
... 3-4- قوله تعالى : {لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحدا} ؛ أي : هذا المعبود بحق ليس ممن يولد فيفني ، ولا هو بمحدث لم يكن فكان ، بل هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء . ولم يكن له مثيل يكافئه في أسمائه وصفاته وأفعاله .
سورة الفلق
آياتها : 5
سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ بربك الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد .
سورة الفلق
... سبب نزول هذه السورة والتي بعدها : سحر لبيد بين الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومما ينبغي أن يعلم أن هذا السحر لم يكن له أثر على الجانب النبوي (تبليغ الوحي) ، بل كان فيما يتعلق ببشريته صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يرى أنه فعل الشيء ، ولم يكن قد فعله .
... وهاتان السورتان – الفلق والناس – تشتركان في أسم واحد ، وهو المعوذتان ، ولهما فضائل ؛ منها : معوذتان من السحر والعين ، وأنهما تقرءان في أذكار دبر الصلوات ، وفي أثكار الصباح والمساء ، وعند النوم .
... 1- قوله تعالى : {قل أعوذ برب الفلق} : يرشد الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستجير به : بربوبيته للصباح ، والمعنى : استجير برب الصبح(1)
__________
(1) ... ورد تفسير الفلق بالصبح عن ابن عباس من طريق العوفي ، وجابر بن عبد الله ، والحسن من طريق عوف ، وسعيد بن جبير من طريق سالم الأفطس ، ومحمد بن كعب القرظي من طريق أبي صخر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد ، وقرأ : {فالق الإصباح وجعل الليل ساكنا} [الأنعام : 96] ، وزاد ابن كثير نسبته إلى زيد بن أسلم من رواية مالك عنه ، والبخاري في صحيحه .
... ووردت أقوال أخرى ، وهي :
... الفلق : جب في جنهم ، ورد عن ابن عباس من رواية مجهول عنه ، ونسبه العوام بن عبد الجبار الجولاني لبعض الصحابة ، وهو قول السدي من طريق سفيان ، وكعب الأحبار ، وروي في ذلك حديث مرفوع أن الفلق جب في جهنم ، قال ابن كثير : "قد ورد في ذلك حديث مرفوع منكر" ، ثم ذكره ، ثم قال : "إسناده غريب ، ولا يصح رفعه " .
... الفلق : اسم من أسماء جهنم ، ورد ذلك عن أبي عبد الرحمن الحبلي .
... الفلق : الخلق ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، ونسبه ابن كثير إلى الضحاك.
... والقول الأول هو الصحيح ؛ لا،ه قول الجمهور ، وهو المشهور في اللغة في إطلاق الفلق ، كما قاله الطبري .(1/376)
.
... 2-5- قوله تعالى : {من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد} ؛ أي : أستجير برب الصبح من شر كل خلقه الذين خلقهم، من جن وإنس وهوام ودواب وغيرها ، ثم خص بعض ما خلقه لزيادة ما فيها من شر ، فطلب منه أن يستجير به من شر الليل إذا ظهر قمره ، فدخل في الظلام(1)
__________
(1) ... ورد تفسير الغاسق بالليل عن ابن عباس من طريق العوفي وعلي بن أبي طلحة ، والحسن من طريق عوف ومعمر بن أبي عروبة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق سعيد .
... وقد ورد غير ذلك ، وهي :
... الغاسق ، كوكب ، ورد عن أبي هريرة ، وقال ابن زيد : "كانت العرب تقول : الغاسق : سقوط الثريا ، وكانت الاسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها" .
... وروي في ذلك حديث : "النجم : الغاسق" ، قال ابن كثير : "وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم " .
... وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث آخر ، وهو ما روته عائشة ، قالت : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، فأراني القمر حين طلع ، وقال : "استعيذي من شر هذا الغاسق إذا وقب" ؛ أي : دخل .
... وهذا التفسير لا ينافي تفسير جمهور السلف في أنه الليل ، قال ابن القيم : "هذا التفسير حق – يعني : تفسيره في الحديث بالقمر - ، ولا يناقض التفسير الأول ، بل يوافقه ، ويشهد لصحته ، فإن الله تعالى قال : {وجعلنا الليل والنهار آياتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء : 12] ، فالقمر آية الليل ، وسلطانه فيه ، فهو أيضاً غاسق إذا وقب ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب ، وهذا خبر صدق ، وهو أصدق الخبر ، ولم ينفق عن الليل اسم الغاسق إذا وقب ، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي شمول الاسم لغيره . (انظر : بدائع التفسير : 5 : 398 ، وله تتمة مهمة) .(1/377)
، ويستجير به من شر السواحر اللاتي يفنخن بلا ريق على ما يعقدنه من خيوط وغيرها عند إرادة السحر(1) ، ويستجير به من الذي يتمنى زوال نعمة الله عن غيره ، الذي قد تمكن هذا الإحساس النفسي الخبيث فيه ، يستجير به من شر عينه ونفسه(2) ، والله أعلم .
سورة الناس
آياتها : 5
سورة الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس .
سورة الناس
__________
(1) ... يشمل هذا الاستعاذة من السحرة ذكوراً وإناثاً ، كما قاله الحسن من طريق عوف ، وقيل : خص إناث السحرة بالذكر ؛ لأن سحرهن أقوى وأنفذ ، وقيل : أراد الأنفس السواحر ، والمقصود الاستعاذة من السحر عموماً ، وبه فسر السلف ، فقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي : ما خالط السحر من الرقي ، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر ، والحسن من طريق قتادة ، ومجاهد وعكرمة من طريق جابر ، وطاووس بن كيسان من طريق ابنه .
(2) ... ورد ذلك عن قتادة وعطاء الخراساني وطاووس كلهم من طريق معمر ، وذكر ابن زيد اليهود في معنى الآية ، وهم مثال لمن ظهر فيهم الحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نبوته ، والخبر عام في كل حاسد كما قال الطبري : "وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شر كل حاسد إذا حسد ، فعانه ، [أي : أصابه بعين] ، أو سحره، أو بغاه بسوء .
... وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال ؛ لأن الله عز وجل لم يخصص من قوله : {ومن شر حاسد إذا حسد} حاسداً دون حاسد ، بل عم أمره إياه بالاستعاذة من شر كل حاسد ، فذلك على عمومه " .(1/378)
... 1-3- قوله تعالى : {قل أعوذ برب الناس * مالك الناس * إله الناس } ؛ أي : قل يا محمد : استجير برب الناس ، فخصهم بالذكر لأنهم المستعيذون ، والرب : الذي يسوسهم ويرعاهم ويدبر أمورهم ، وهو ملكهم الذي يتصرف فيهم بالأمر والنهي ، فهم تحت قدرته ، وهو إلههم المستحق للعبادة دون سواه .
... 4-6- قوله تعالى : {من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس} ؛ أي : أستجير به سبحانه من شر الشيطان الذي يلقي في قلب العبد ، إذا غفل عن الذكر ، يلقي صوته الخفي ، الذي لا يحس به .
... ويتأخر عن القلب فلا يوسوس فيه إذا ذكر العبد ربه(1) . وهذا الشيطان يوسوس في محل القلوب ، وهي صدور الناس : جنهم وإنسهم ، أو هذا الموسوس من الجبن والناس يوسوس في صدور الناس ، كما قال تعالى : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام : 112] (2)
__________
(1) ... قال ابن عباس من طريق سعيد بن جبير : "ما من مولد إلا على قبله الوسواس ، فإذا عقل ، فذكر الله ، خنس ، وإذا غفل ، وسوس ، قال : فذلك الوسواس الخناس" . وقد ورد هذا المعنى عن مجاهد من طريق عثمان بن الأسود وابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، وابن زيد .
(2) ... في هذه الآية احتمالان :
... الأول : أن يكون الموسوس من الجنة والناس ، وهم يوسوسون في صدور الناس .
... الثاني : أن يكون الموسوس من الشياطين ، وهم يوسون في صدور الجنة والناس ، وهو اختيار الطبري، (وانظر في هذين الاحتمالين : تفسير ابن كثير) .
... ويكون فيه جواز إطلاق لفظ الناس على الجن ، وقد ورد هذا الإطلاق عن ابن مسعود ، قال : "كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن ..." (رواه البخاري في الباب السابع من تفسير سورة الإسراء)، وقد حكى الطبري ذلك عن بعض العرب ، وبهذا تزول الغرابة التي يدعيها بعضهم في إطلاق لفظ الناس على الجن ، والله أعلم .(1/379)
، والله أعلم .(1/380)